الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تصدير
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يليق بجلاله، ويُوافي جزيل فضله وإفضاله، وتحيّاته الطيبات على رسوله وخليله محمد الأمين، خاتم النبيين وسيد المرسلين صلوات الله عليه وسلامه، والتحية لأهل بيته الطاهرين الطيبين، ورضي الله عن صحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
فيحْفل تراثنا الإسلامي والعربي بكنوز فكرية مؤسسة على القيم التي ترسخت بعد مبعث النبي الهاشمي صلى الله عليه وسلم، منها ما يتصل بعلوم الشرع وفقه الكتاب العزيز وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ينصرف إلى العلوم البحتة والتطبيقية، وعلوم الأدب واللغة واللسان، والتأريخ للأمم والشعوب والبلدان.
والكتاب، الذي بين أيدينا، الذي يُسعدني أن أتقدم به للعلماء المهتمين والباحثين في تراثنا الإسلامي، هو كتابٌ جامعٌ لجملة من العلوم والمعارف والفنون؛ وهو وإن كان موضوعه الأساسي الترجمة للأعلام والنَّابهين في شتَّى حقول المعرفة والآداب وأرباب الحُكم والسياسة ومن يجري مجراهم ممن اتصلت علاقتهم بإقليم حلب، إما بالسُّكني أو العبور منها، فإنه يشتمل على معارف متنوعة تتوزع بين علوم الدين ورواية الأحاديث وعلوم الأدب، منثوره ومنظومه، ومسالك البُلدان، خاصة ما يقع في شمال بلاد الشام، والتأريخ لحقبة ممتدة من تاريخنا الإسلامي.
وفائدة الكتاب وأهميته بين أقرانه جليّة واضحة، يُدركها المشتغلون بالتاريخ جملة، لأصالة مادته وتفرده بكثير من المعلومات والأخبار التي لم ترد عند غيره، ومنهجه في نقد الروايات والنصوص وترجيح الصواب.
وينتمي كمال الدين بن العديم، مؤلف هذا الكتاب، إلى طبقة رفيعة من مؤرخي وكُتَّاب ذلك العصر، وهو أحد ثلاثة رفاق ساهموا - من غير قصد - في تهريب النُّصوص التُّراثيَّة وحمايتها من الضياع والتخريب إبان الأحداث التي تعرضت لها المنطقة بغزو التتار في منتصف القرن السابع الهجري، فقد ضمَّن ابن العديم وياقوت الحمويّ والوزير جمال الدين القفطيّ مُؤلّفاتهم وأعمالهم الأدبية ومدوناتهم - خاصّة في حقل التراجم - نصوصا طويلة ومقطوعات عديدة من كتب ضاعت وطوتها عوادي الدهر؛ فأعادت الاعتبار إليها، وعرَّفت بمحتوياتها ومضامينها.
وقد وجدَت مؤسّسة الفُرقان للتُّراث الإسلاميّ، ضمن دورها في نشر التراث وفهرسته ولَمّ شتاته، في هذا الكتاب ما يستوجب تبنّى تحقيقه ونشره كأحد المصادر التُّراثيّة المهمّة، وتقريب مادته وتيسيرها للدارسين والباحثين، فعهدت بهذا العمل إلى باحث كان قد درس المنطقة التي يتناولها هذا الكتاب، وكان موضوع أطروحته للدكتوراه يتصل بُجْند قنّسرين خلال القرون الثلاثة الأولى من عمر الدولة الإسلامية، وهو الجُنْد الضَّام لمدينة حلب وما يقع في حيزها.
واعتمدت هذه النشرة على أصول المؤلف الخطية المتبقية من هذا الكتاب، وهي النسخة التي لازمت المؤلف في آخر أيام حياته غِبَّ إقامته بالقاهرة، ويرد في دراسة المحقق الإشارة إلى أنها لا تمثل إلا نحو ثلث الكتاب، إضافة إلى نسخ متأخرة أعانت في الترجيح وفك المستغلق وتعمير السّقط.
وأخيرًا، يطيبُ لي أن أتقدَّم بأجزل عبارات الشكر والثناء، وأخْلص كلمات التنويه والتقدير إلى المحقق الشاب الدكتور المهدي الرّواضية، الذي قام بتحقيق هذا السّفر الكبير، سائلا المولى عز وجل أن يجزيه خير الجزاء، ومتمنيا له مزيدا من التَّألّق والنّجاح في المستقبل.
وختاما، نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون هذا العمل، وهو جهد المُقلّ، عونًا للباحثين وخالصا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا التوفيق في المقاصد كلها إلى طاعته ومرضاته، وأن يهدينا إلى سواء السبيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحمد زكي يماني
رئيس
مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمة
منذ أن اتصلت معرفتي بابن العديم وكتابه الكبير في التاريخ، والأمل ملازمٌ لي في خدمته وتقريب مادَّته، وتوفير نَشْرتِه للباحثين، وكنت كلما قرأت فيه، أو راجعت ترجمة من تراجمه، أجد ما يدفعني إلى العمل على إخراجه، فأمضيت في ذلك نحو خمس سنين، امتدت فيها الصحبة بابن العديم، وازدادت الصلة والإعجاب بعمله، حتى يسر الله إتمامه - بقدر المَكِنةِ والاستطاعة - على هذه الهيئة التي أرجو لها حُسْنَ التلقي والقبول.
وتاريخ ابن العديم يؤرخ لحقبة طويلة من تاريخنا الإسلامي، تمتد إلى سبعة قرون، اتَّكأ في مادتها على مصادر فريدة يأتي الكلام عليها في موضعه، وقد يوهم عنوان الكتاب - كما يَشي بذلك - أنه تأريخ مقتصر على مدينة حلب، وكما هو حاصلٌ في الجزء الأول الذي خصصه لمدينة حلب وجوارها، إلا أن إفاداته في بقية أجزاء الكتاب تتجاوز ذلك لتشمل العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، قديمه وحديثه (زمن المؤلف)، مما تحاول هذه التَّقْدمَةُ التمهيدية إبرازه في الصفحات القليلة القادمة، وهي محاولة أَسَّستُها على نصوص المؤلف وإفاداته نفسه؛ استشهدت بها للتدليل على قيمته، ولتتبع حياته، وبيان منهجه في تأليف الكتاب، وجعلتها في مبحثين: تناولت في الأول منهما التعريف بالمؤلف، وأسرته، واستعراض مسيرته العلمية والعملية وتَعْداد مؤلفاته. وخصصت المبحث الثاني للكلام على كتابه "بُغْيَة الطَّلَب"، وبيان أهميته، وعرض أصوله الخطية، ومنهج عملي في إخراجه.
أسرة بني العديم:
يعود الفضل في التعريف بابن العديم، وأسرته، وأولية قدومهم إلى حلب في مطلع القرن الثالث الهجري، إلى الكتاب الذي ألفه ابن العديم نفسه بطلب من صديقه ياقوت الحموي، وهو كتاب "الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة"، وحفظ لنا ياقوت عدة نصوص منه في ثنايا ترجمته لكمال الدين بن العديم، وعنه نقلت أغلب المصادر اللاحقة له
(1)
، وعليه المعول في هذه الدراسة، إضافة إلى بعض الإشارات العارضة التي أوردها ابن العديم عن حياته أو أسفاره في ثنايا كتابه بغية الطلب
(2)
، أُثْبتُها بنَصِّها لتَشْريك القارئ في الاستنتاج منها.
(1)
ترجمة ابن العديم عند: ياقوت: معجم الأدباء 5: 2068 - 2091، ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 232 - 238، أبو شامة: الذيل على الروضتين 331، ابن سعيد الأندلسي: المقتطف من أزاهر الطرف 98، 199 - 200، المغرب في حلى المغرب (قسم مصر) 1: 147، 282 - 284، 289 - 297، 346 - 348، الحسيني: صلة التكملة لوفيات النقلة 1: 468 - 470، اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 350، 510 - 512، 2: 177 - 179، الدمياطي: معجم شيوخه (مخطوط محفوظ بدار الكتب الوطنية، تونس) 2: 116 - 118، ابن الفوطي: مجمع الآداب 4: 210 - 211، أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 3: 215 - 216 ووهم في اسم أبيه فقيده: "عمر بن عبد العزيز"، الذهبي: العبر في خبر من غبر 3: 300، تاريخ الإسلام 14: 937 - 939، ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات 3: 126 - 129، النويري: نهاية الأرب 30: 77، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 421 - 426، ابن حبيب: درة الأسلاك في دولة الأتراك (مخطوط آيا صوفيا)، ورقة 15 ب - 16 أ، ابن كثير: البداية والنهاية 13: 236، القرشي: الجواهر المُضية 2: 634 - 636، الزركشي: عقود الجمان (مخطوط) ورقة 237 ب - 238 ب، بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 339، تاريخ ابن الوردي 2: 308، المقريزي: المقفي الكبير 8: 724 - 726، المقريزي: السلوك 1/ 2: 272، 279 - 298، 476، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 208 - 10، ابن قطلوبغا: تاج التراجم 166، السيوطي: حسن المحاضرة 1: 466، ابن العماد: شذرات الذهب 7: 525 - 526، حاجي: خليفة: كشف الظنون 1: 249، البغدادي: هدية العارفين 1: 787، الطباخ: إعلام النبلاء 2: 254 - 256، 4: 430 - 461، کحالة معجم المؤلفين 7: 275 - 276، الزركلي: الأعلام 5:40، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6) 439 - 443، وله ترجمة طويلة في كتاب: أبو العلاء المعري "دفاع المؤرخ ابن العديم عنه" 65 - 154.
وانظر أيضًا: دراسة سامي الدهان بعنوان: حياة ابن العديم وآثاره (دمشق، 1950 م).
Fuat Sezgin، Geschichte des arabischen Schrifttums، Vol 1، Pp 56، 437 - 444 B. Lewis، Er: Ibn Al - Adim، vol III، Pp 695 - 696:
(2)
يجدر التنبيه هنا أن ابن العديم قليلًا ما يتحدث عن نفسه أو يشير إلى مساهمته في بعض الأحداث في تراجم من جمعته بهم الصلة والعلاقة، من الملوك والأمراء والعلماء وغيرهم.
وسِيَاقةُ نَسَبه من كتاب الأخبار المستفادة، ومن غيره، على النحو الآتي:
عمر بن أحمد بن أبي الفضل هبة الله بن أبي غانم محمد بن هبة الله بن أبي الحسن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل بن كعب بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مُضَر بن نِزار بن معدّ بن عدنان، الصاحب كمال الدين أبو القاسم العقيلي الحلبي، المعروف بابن العديم.
كان أجداده؛ عَقِبُ بني أبي جرادة، يسكنون البصرة في محلة بني عقيل حتى مطلع القرن الثالث الهجري، عندما ارتحل عن البصرة من بينهم موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر أبي جرادة، وقدم إلى حلب بعد المائتين للهجرة، وكان ارتحاله لأحد سببين: أنه قدم في تجارة إلى الشام فاستوطن حلب، أو بسبب طاعون وقع في البصرة ارتحل على إثره جماعة من بني عقيل فيهم جده موسي فسكن حلب، وكان لموسى ثلاثة أولاد: محمد، وهارون، وعبد الله، فأما محمد فأعقب عبد الله، ولا يعرف إن كان لعبد الله عقب أم لا، وأما ما تناسل من الأسرة فكان من عقب هارون جد كمال الدين بن العديم، وعبد الله، وهم أعمامه
(1)
.
وترجم ابن العديم في كتابه الأخبار المستفادة لمن تناسل من عقب هارون وعبد الله، وجميعهم من الأعيان والعلماء الذين حفلت بذكرهم كتب التراجم، ونوهت بفضلهم في العلم والأدب والجاه، يجمعهم قول ابن الشعار:"وبيت أبي جرادة كله أدباء، فضلاء، شعراء، رؤساء، فقهاء، نُبَهاء، مُحَدِّثون، مُقَدَّمون، عُبَّاد، زُهَّاد، قضاة، يتوارثون الفضل كابرا عن كابر، وتاليا عن غابر"
(2)
.
(1)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2069 - 2070.
(2)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 233.
وهذا مُشَجَّرُ نسبهم منذ أولهم حتى أولاد كمال الدين بن العديم وبعض أحفاده مجمعًا من المصادر:
أبو جرادة (عامر بن ربيعة)
|
وابن العديم من بيت جاه وثروة ومال
(1)
، يلتمس هذا من كلام ابن العديم في بعض المواضع من كتابه؛ ففي كلامه على مَعَرَّة مَصْريْن يقول (الجزء الأول):
"ويقال إنها هي التي تُعْرفُ بذات القصور، وكان أكابر حلب وأعيانها يرغبون في اقتناء الأملاك بها، واتخاذ الدور والمنازل فيها، وكان فيها لسلفنا أملاك وافرة، خرج عنا بعضها، وبقي البعض".
وكانت لهم قُرَىً وضِياعٌ أخرى في العديد من مناطق حلب، يقول (الجزء الأول):
"وبناحية الجَزْر من أعمال حلب، بالقرب من مَعَرَّة مَصْرِيْن، قرية يقال لها يَحْمُول، ولنا فيها ملكٌ نتوارثه عن أجدادنا من حدود الثلاثمائة للهجرة".
وذكر في الجزء الأول أيضا:
"ومن بني بُحْتُر فرقةٌ بأُوْرِم الكبرى من قرى حلب، وكان بأُوْرِمَ مزرعة يقال لها البُحْتُرِيَّة منسوبة إليهم، وقد دَثَرتْ وانضافت إلى أُوْرِم. رأيت كتابا من كتب أجدادنا وقد اشتري حصة في هذه البُحْتُرِيَّة من بعضهم".
ويذكر ابن العديم في موضع آخر أن سند الملكية الذي وجده في أوراق أسرته، والمتضمن حصة في قرية أُوْرِم، يعود إلى جده زهير بن هارون، وأنه أوقف حصته من القرية المذكورة على الجهاد في سبيل الله، يقول (الجزء الأول):
"ووقفت على كتاب وقف، كتبه جدُّ جدّ جَدِّي زهير بن هارون بن أبي جرادة، بحصة من ملكه بأُوْرِم الكبرى من ضياع حلب، على أن تستغل ويشترى من مَغُلّها فَرَسٌ تكون مقيمة بثغر طرسوس بدار السبيل المعروفة بزهير بن الحارث، وتقام لها
(1)
معجم الأدباء 5: 2090.
العُلُوْفَة وأجرة من يخدمها، ويقام عليها فارس يكون مقيما بالدار المذكورة، يجاهد عليها عن زهير بن هارون، وما فَضُلَ من المَغُلّ يعد لنائبة إن لحقت هذه الفرس".
فمصدر تَوفُّرِ بني العديم على هذه الأملاك يعود إلى زمن جده الأول الذي تنحدر الأسرة منه، وهو زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر أبي جرادة العقيلي الحلبي (ت نحو: 340 هـ)، قال ابن العديم (الجزء التاسع):
"وأكثر الأملاك التي كانت لسلفنا بحلب: أُوْرَم الكبرى، ويَحْمُول، وأقْذَار، ولُؤْلُؤة، والسِّبْن، هو الذي اشتراها".
وانتقلت هذه الضياع والقرى بالتوارث حتى وصلت إلى يد والد الكمال، ثم إلى ابنه كمال الدين، ومن هذه القرى قرية تعرف بأقْذَار، كانت في ملك والده أبي الحسن أحمد، حسبما ذكر ابن العديم في كتابه (الجزء الثامن)، وحدد موضعها، وعرَّفَ بها بقوله (الجزء الرابع):
وهي قرية أيضا من قرى حلب، من ناحيتها القبلية، من أعمال السهول والنهريات والقبلية، وأكثر هذه القرية جارٍ في ملكي، والآن تسمى أقْذَار، وتسمى التي في وادي بُطْنَان أقذَارَان".
وقد نزل بهذه القرية وبات بها الأديب الكاتب يحيى بن خالد بن محمد القَيْسَرانيّ، فكتب منها إلى ابن العديم قصيدة يتشوَّقَهُ ويثني عليه
(1)
.
وإضافة لما انتقل إلى ابن العديم بالمُوارثة من الأملاك، فقد تحصل، لاتصاله وقربه من الملوك والأمراء، على إقطاعات، وهو يشير في الجزء الأول من كتابه إلى قرية الهوتة، وأنها أقطعت له، وبقيت في يده حتى وقع استيلاء التتار
(1)
ابن الشعار: قلائد الجمان 7: 233 - 234.
على حلب
(1)
، وهي قرية لا تزال إلى الآن تحمل الاسم نفسه بمنطقة جبل سِمْعان.
وأورد ياقوت أبياتا غزلية لابن العديم يذكر فيها الفقر والعوز، والحاجة إلى طلب الرزق، وعَقَّبَ عليها ياقوت بالقول
(2)
: "لا يظن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وَقِيرٌ، فإن الأمر بعكس ذلك، لأنه - والله يَحُوطُه - رب ضياع واسعة، وأملاك جَمَّةٍ، ونِعْمةٍ كثيرة، وعبيد كثيرة، وإماء، وخيل ودواب، وملابس فاخرة وثياب، ومن ذلك أنه بعد موت أبيه، اشتري دارا كانت لأجداده قديما بثلاثين ألف درهم، ولكن نفسه واسعة، وهمته عالية، والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين، والشهوة لها على قدر الطالبين".
حياته ونشأته:
ولد كمال الدين عمر بمدينة حلب
(3)
، واختلف في سنة مولده بين من يقول سنة 586 هـ
(4)
، وقائل - وهم الأكثر - في العشر الأول من ذي الحجة سنة 588 هـ
(5)
، وهي السنة التي قيدها ابن العديم لمولده في الترجمة التي صنعها بنفسه
(1)
ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 296.
(2)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2090.
(3)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 511، معجم شيوخ الدمياطي 2: ورقة 118، القرشي: الجواهر المُضية 2: 635، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209، الزرکشي: عقود الجمان ورقة 237 ب.
(4)
وهذا التاريخ ارتضاه ابن السابق الحموي (ت 877 هـ)، متملك كتاب بغية الطلب، فقيده في ترجمته للمؤلف على طرة غلاف الجزء الأول، (انظر نص ترجمة ابن السابق الحموي، وصورتها فيما يلى)، والصفدي: الوافي بالوفيات 22: 422، ابن كثير: البداية والنهاية 13: 236، بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 339، الزركشي: عقود الجمان ورقة 237 ب، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209، وفيه: في العشر الأول من سنة 586 هـ، إسماعيل البغدادي: هدية العارفين 1: 787، وأرخ الذهبي وابن العماد مولده في سنة بضع وثمانين وخمسمائة. العبر 3: 300، شذرات الذهب 7:525.
(5)
معجم الأدباء 5: 2083، ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 234، اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 511، 2: 177، الدمياطي: معجم الشيوخ 2: ورقة 118، ابن الفوطي: مجمع الآداب 4: 211، الذهبي: تاريخ الإسلام 12: 866، النويري: نهاية الأرب 30: 77، القرشي: الجواهر المُضية 2: 635، ابن قطلوبغا: تاج التراجم 166، السيوطي: حسن المحاضرة 1: 466، الزركلي: الأعلام 5: 40.
لياقوت، وسأله الشريف عزُّ الدين الحُسَيْنيّ عن مولده فقال بمثله
(1)
، بينما أورد الذهبي القولين وأضاف لهما قولا آخر:"ولد سنة ثمان أو ست أو ثلاث وثمانين وخمسمائة"
(2)
، وشَذَّ المَقْريزيُّ عن الجميع فأرَّخَ مولده في سنة 589 هـ
(3)
.
وفي سن السابعة من عمره، ألحقه والده بالمكتب ليتلقى تعليمه الأوَّليَّ مع أقرانه
(4)
، فختم القرآن حفظا وعمره تسع سنين، وقرأه بالعشر عندما بلغ السنة العاشرة من عمره
(5)
، وذكر ابن العديم في ترجمة شيخه أبي اليمن الكندي - الآتية في الجزء التاسع من هذا الكتاب - شيئا من أوَّليَّاتِ تعليمه، يقول:
"وكان سألني - أي الكِنْدِيُّ - وأنا أقرأ عليه: كم كان عمرك حين ختمت القرآن؟ فقلت له: تسع سنين، فتعجب من ذلك، وقال: كذلك أنا ختمته ولي تسع سنين! وأخرج إلى مفردات للشيخ أبي محمد وعليها خطه بقراءته عليها، وأراني خط الشيخ أبي محمد له، على بعضها أنه ختم القرآن عليه وهو ابن تسع، وجمعه بالعشر وهو ابن عشر، فذكرت له أني جمعته بالعشر ولي عشر سنين! ".
وكان لوالده الشيخ أحمد بن هبة الله - وهو قاض وخطيب - تأثير كبير في تعليمه الأوَّليِّ، وكان يأمل له أن يكون مدرسا لا قاضيا
(6)
، فتعلم على والده الذي كان يُرَغِّبُهُ في حفظ المتون الفقهية بما يرغب به أمثاله من الصغار كالدراهم وخلافه، فحفظ كتاب اللُّمَعِ في أصول الفقه لأبي إسحاق الشِّيرازيّ (ت 476 هـ)، وقرأه على شيخ حلب وقتها ضياء الدين الحسين بن هبة الله المعروف بابن دُهْن الحَصَى (ت 608 هـ)، وحفظ في مدة يسيرة مختصر الإمام القُدُوريّ (ت 428 هـ)
(7)
.
(1)
الحسيني: صلة التكملة 1: 469.
(2)
الذهبي: تاريخ الإسلام 14: 937.
(3)
المقريزي: المقفي الكبير 8: 725.
(4)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2083.
(5)
معجم الأدباء 5: 2084، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 423، المقريزي: المقفي الكبير 8: 725.
(6)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2084، وانظره أيضا في ترجمة والده أحمد من كتاب البغية (الجزء الثالث).
(7)
معجم الأدباء 5: 2085.
وتعلم أيضا في أوَّليَّاتِه على عمه أبي غانم محمد بن هبة الله، وسمع منه الحديث، وسمع على جماعة من أهل حلب والطارئين عليها والواردين إليها، فسمع من الشيخ الإمام افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي، كبير الحنفية، وعمر بن طَبَرزد، وأبي القاسم بن الحَرَسْتانيّ، وهبة الله بن طاوس، والشمس أحمد بن عبد الله العطار، وأبي عبد الله بن البناء، وثابت بن مُشَرَّف، وأبي منصور بن عساكر الفقيه، وبَهْرام الأتابكيّ، وأحمد بن أبي اليُسْر، وأبي محمد بن البُن، وابن صَصْرَي، وابن راجح، والشيخ العماد إبراهيم بن عبد الواحد، والشيخ فخر الدين بن تيمية، وعبد العزيز بن هِلَالة، ومحمد بن عمر العثماني، وأبي على الأوقي، وأبي محمد بن علوان، وخلق كثير بحلب، ودمشق، والقدس، والحجاز، والعراق
(1)
.
ورحل به والده إلى بيت المقدس مرتين: سنة 603 هـ، وسنة 608 هـ، فمر في طريقه على دمشق، والتقى فيها ببعض علماء ذلك الوقت، كالشيخ تاج الدين الكِنْدِيّ (ت 613 هـ) وغيره؛ كان التقاه بدمشق في النَّوبتَيْن
(2)
. وقال في ترجمته (الجزء التاسع):
"دخلت إليه داره بدمشق في سنة ثلاث وستمائة مع والدي، وقرأت عليه المقامات الحَرِيرِيَّة وغيرها من كتب الأدب، ولما شرعت في قراءة المقامات عليه أعجبته قراءتي، وسألني: أتحفظها؟ فقلت له: لا، فمال إلى واعتنى بأمري، وكان يأذن لي كلما جئت إليه. ولما عزمت على العود إلى حلب قال لي: اجعل في نفسك أن تعود إلينا، فأثَّر كلامه عندي، وآثرت الرِّحْلَةَ إليه، وكان والدي رحمه الله لا يسمح بمفارقتي، إلى أن سمح بأن يزور البيت المقدس فاستصحبني
(1)
الحسيني: صلة التكملة لوفيات النقلة 1: 469، الذهبي: تاريخ الإسلام 14: 937.
(2)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2083، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 422، المقريزي: المقفي الكبير 8: 725، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209، الزرکشي: عقود الجمان ورقة 237 ب.
معه، ووصلت معه إلى دمشق، ودخل إلى الشيخ رحمه الله، فقرأت عليه عدة من كتب الأدب والحديث في سنة ثمان وستمائة، ثم عدت من البيت المقدس، وكنت أتردد إليه وأسمع منه بقراءاتي وقراءة غيري في سنة تسع وستمائة".
وتفَقَّه على الشيخ محمد بن يوسف بن الخَضر الحلبي المعروف بقاضي العَسْكر (ت 614 هـ)
(1)
، وفي كتابه البُغْيَة ذِكْرٌ للكثير من مشايخه، وبيَانٌ لما أخذه عنهم، وخبر اجتماعه بهم.
وكان ابتداء طلبه للحديث وسماعه في سنة 604 هـ، حسبما يذكر في ترجمة حنبل بن عبد الله الرُّصَافيّ (الجزء السادس):
"دخلت دمشق زائرا البيت المُقَدَّسَ في سنة ثلاث وستمائة، وحنبل بها، فلم أسمع منه شيئا لأنني لم أكن طلبت الحديث حينئذ؛ لأن أول طلبي الحديث كان سنة أربع وستمائة".
التَّدْريس والقضاء والإفتاء والوزارة:
زاول ابن العديم التدريس في سن مبكرة من عمره، بعد أن توفرت فيه الأهليَّةُ والمَقْدرةُ على إلقاء الدروس، وربما نال تزكية من بعض شيوخه في ذلك، فبعد وفاة والده بقى مدةً، وصاقَبَ أن توفي شيخه ابن الأبْيَض
(2)
؛ مدرس مدرسة شاذْبَخْت، وهي من أجلِّ مدارس حلب، كان أنشأها الأمير جمال الدين شاذْبَخْت الهندي الأتابكيّ، وكان نائبا عن نور الدين بحلب، فبقى مَنْصبُ مُتَولِّيها شاغرًا، فوَلِيَ ابن العديم التدريس بها في ذي الحجة سنة 616 هـ، وعمره يومئذ
(1)
ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار 6: 125، القرشي: الجواهر المُضية 4: 452.
(2)
هو قاضي العسكر محمد بن يوسف بن الخضر الحنفي المعروف بابن الأبيض (ت 614 هـ)، انظر: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 272، ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار 6: 125.
ثمان وعشرون سنة
(1)
، وكانت حلب في ذلك الوقت من حواضر العلم والأدب، "وهي أعْمَرُ ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرَّوَاسخ، إلا أنه رؤي أهلا لذلك دون غيره، وتصدر وألقى الدرس بجنان قويّ، ولسان لوذعي، فأبهر العالم، وأعجب الناس"
(2)
. ولم يزل ابن العديم مدرسا بهذه المدرسة سنوات عديدة، ثم ناب عنه ابنه مَجْدُ الدين عبد الرحمن، ثم استقل بها أخوه جمال الدين محمد ولد الصاحب كمال الدين حتى كائنة التتار سنة 658 هـ
(3)
.
وفي أوائل سنة 634 هـ فُوِّض إليه تدريس المدرسة النورية المعروفة بمدرسة الحلاويِّين مضافا إلى مدرسة شاذْبَخْت
(4)
، وذلك بعد وفاة مُدَرِّسها الإمام تاج الدين أبي المعالي الفضل بن عبد المطلب بن الفضل الهاشمي (ت 633 هـ)، وبقي مواظبا على التدريس بها إلى أن توجه إلى دمشق في خدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستقل بها بعده ابنه مجد الدين عبد الرحمن
(5)
.
وأنشأ ابن العديم مدرسة في شرقي حلب، وهي المدرسة الكَماليَّةُ العديمية، وكان ابتداء عمارتها في سنة 637 هـ، وكَمُلَتْ في سنة 649 هـ، وبنى إلى جوارها تُرْبَةً وجَوْسَقًا (قصرا) وبستانا، ولم يدرس بها أحد لانقراض الدولة الناصرية
(6)
. وأشار ابن العديم إلى هذه المدرسة - عرضا - في ترجمة أبي الفتح بن محمد بن عمر الأَبِيْوَرْدِيّ الصُّوْفيّ الحلبي (ت 649 هـ)، قال (الجزء العاشر):
"ودفن بالتربة التي جددتها إلى جانب المدرسة التي أنشأتها ظاهر حلب، خارج باب العراق، رحمه الله".
(1)
ابن الفوطي: مجمع الألقاب 4: 211.
(2)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2086.
(3)
الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 272، سبط ابن العجمي: كنوز الذهب 1: 347.
(4)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 234، الأعلاق الخطيرة 1/ 1:270.
(5)
الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 227 - 228.
(6)
ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 285، سبط ابن العجمي: كنوز الذهب 1: 386.
وبالرغم من تولي خمسة من آباء ابن العديم القضاء بحلب على التتابع
(1)
، إضافة إلى من تولى القضاء من أبناء عمومته ومن المنتمين إلى أسرة بني الديم، على مثال أسرة بني أبي الشَّواربِ والذين بقى القضاء مترددا فيما بينهم في البصرة سنين طويلة، فلم يرد ذكر لتولي ابن العديم منصب القضاء أو قضاء القضاة
(2)
إلا ما ورد في ذيل مرآة الزمان لليُونِيْنيّ من "أن منشورا جاء من هولاكو في 26 ربيع الأول 658 هـ للقاضي كمال الدين عمر بن العديم بتفويض قضاء القضاة إليه بمدائن الشام والموصل ومَاردِين ومَيّافارِقِين والأكْراد وغير ذلك، وتفويض جميع الأوقاف إلى نظره، ووقف الجامع وغيره. وكان القاضي قبله صدر الدين أحمد بن سَنيّ الدولة من جمادى 643 هـ، وكان كمال الدين ينوب عنه في الحكم بدمشق"
(3)
.
وهذا وَهْمٌ وقع فيه ناسِخُ بعض أصول كتاب اليُونِيْنيّ وتسرب إلى المطبوعة؛ اشتبه عليه الاسم، وصوابه: كمال الدين عمر بن بُنْدَار التَّفْليسيّ (ت 672 هـ)، كما هو في بقية المصادر التي أرَّختْ لغزو التتار أو تلك التي ترجمت للقاضي التَّفْليسيّ
(4)
. وأشار ابن العديم نفسه إلى عدم توليه القضاء في ترجمة والده أحمد (الجزء الثالث)، يقول:
"وكان رحمه الله "أي والده" يقول لي: يا بني، والله ما أُوْثرُ لك أن تتولى القضاء، فإن عُرِضَ عليك لا تتوله؛ فإنني ما استرحت منذ وُليتُه حتى تركتُه، ولكني أُوْثر
(1)
معجم الأدباء 5: 2082، الذهبي: العبر 3: 300.
(2)
لقبه ابن الشعار في الأجزاء الأولى من كتابه قلائد الجمان بالقاضي ثم تجاوز عن ذلك في بقية الأجزاء، ولعل تنبّه إلى خطأ ذلك.
(3)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 350.
(4)
بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 250، الصفدي: تحفة ذوي الألباب 2: 164، الوافي بالوفيات 22: 442 - 443، المقريزي: السلوك 1/ 2: 424، اين تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 76.
لك أن تكون مدرسا، وأن تتولى مدرسة الحَلاوِيِّين، فقدر الله تعالى أن وفقني لما كان يؤثره لي بعد وفاته".
لقد أوقع هذا التحريف في اسم القاضي بعض المحدثين أمثال برنارد لويس
(1)
Lewis B.، وكارل بروكلمان
(2)
Carl Brockelmann، وفؤاد سزكين
(3)
وآخرين؛ منهم من تخصص في دراسة ابن العديم ونشر تراثه
(4)
، إلى اعتباره أحد من تولى القضاء!
وتولى ابن العديم الوزارة مرتين: الأولى للملك العزيز بن الملك الظاهر غازي، والثانية للناصر آخر ملوك بني أيوب
(5)
، وأقام بدمشق مدة في الدولة الناصرية المتأخرة أيام الملك الناصر يوسف بن أيوب
(6)
.
وتشير المصادر إلى أن ابن العديم "كان محدثا حافظا، مؤرخا صادقا فقيها حنفيا، مفتيا، منشئا بليغا، كاتبا مجودا، درَّسَ وأفتى، وصَنَّفَ، وتَرَسَّلَ عن الملوك"
(7)
، "وكان جليل المقدار، كثير العلوم، ولم يكن في رؤساء حلب مثله"
(8)
،
(1)
وذكر برنارد لويس دعوة هولاكو المزعومة ليوليه القضاء؛ B.Lewis، El 2: Ebn Al - Adim، vol III، Pp 695
(2)
بروکلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6)439.
(3)
Fuat Sezgin، Geschichte des arabischen Schrifttums، Vol 1، p 437.
(4)
سهيل زكار في مقدمة تحقيقه لزبدة الحلب 1: 19، وسليمي محجوب ودرية الخطيب في مقدمة تحقيقهما لكتاب الوصلة إلى الحبيب 1:11.
(5)
محمد كرد علي: تآليف ابن العديم، مجلة المجمع العلمي العربي، مج 16، ج 2 - 2، (1941 م)146.
(6)
ابن كثير: البداية والنهاية 13: 236.
(7)
الحسيني: صلة التكملة 1: 469، الذهبي: تاريخ الإسلام 14: 937، ابن شاكر: فوات الوفيات 3: 126، ونقله الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 422، ابن كثير: البداية والنهاية 13: 236، المقريزي: المقفي الكبير 8: 725، بدر الدين العيني: عقد الجمان قسم المماليك 1: 339.
(8)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 510.
ولُقِّبَ برَئيسِ الأصْحَابِ
(1)
، أو رَئيسِ الشَّام
(2)
. وكان جَيَّدَ المعرفةِ بالحَديث
(3)
، وأجْمَلَ ابنُ الشَّعَّار المَوصِليّ الفُنَونَ والمَعارفَ الَّتي تلقَّاها ابن العَدِيْم وأتْقَنَها بقَوْله:"فقد درَّسَ الفقْهَ فأحْسَنهُ، وعُنِيَ بفَنِّ الأدَبِ فأتْقَنهُ، ونَظَمَ القَريْضَ فجوَّدَهُ، وأنْشَأ النَّثْر فسَدَّدَه، وقَرأ حَدِيثَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وعَرفَ عِلَلَهُ ورِجَالَهُ وتأْويلَه وفُروعَهُ وأُصُولَهُ، والجَرْحَ والتَّعْديلَ، والعِلْمَ بالخِلَافِ والجَدَل وغيرَ ذلك من العُلُوم"
(4)
. وهذا الَّذي ذَكَرهُ ابنُ الشَّعَّارِ يَتَبيَّنه القَارئ لكتابهِ هذا منذ الصَّفحاتِ الأُولَى.
عَلَاقتُه بعُلَماء عَصْره:
ويَظْهرُ في تَضاعِيْفِ التَّراجم الَّتي تضمَّنها كتابُ ابنِ العَدِيْم اهْتمامٌ منه في لقاءَ العُلَماءِ والأدَباءِ والمَشايخ، سواءً في حَلَب أو في الحَواضِرِ الَّتي سافرَ إليها، أو بالمُكاتَبَةِ والمُراسَلة، وجَمَعَتْهُ بهؤلاءِ الأعْلَامِ مَجالسُ عِلْمٍ ومُحاضرةٍ ومُحادَثة، وضَّمَن كتابَه تفاصِيْلَ بعض هذه المَجالس.
ونَشَأتْ بينه وبينَ ياقُوت الحَمَويّ صَدَاقةٌ وصُحْبةٌ طَويلةٌ، وأَثنى كُلُّ منهما على الآخرِ في كُتُبهما، وكان ياقُوت قد أقامَ بحَلَب في آخر سِتِّ سَنواتٍ من حَياتِه بعد رَحْلةٍ طَويلةٍ من التَّقَلُّبِ في البِلَاد، فتَوطَّدَتْ بينهما صُحْبةٌ مُمتدَّةٌ، وكان ياقُوت يترَدَدُ إلى مَنْزلِهِ
(5)
.
(1)
المقتطف من أزاهر الطرف 98، 199، القرشي: الجواهر المُضية 3: 635، السيوطي: حسن المحاضرة 1: 466.
(2)
الزركشي: عقود الجمان ورقة 337 ب.
(3)
الحسيني: صلة التكملة 1: 469، ابن كثير البداية والنهاية 13: 336، المقريزي: المقفى الكبير 8: 735.
(4)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 233.
(5)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2089، 2091.
وجَمَعتْهُ كذلك عَلاقةٌ وَطِيدةٌ بالمُبارَكِ بن أحمد المَعْرُوف بابن الشَّعَّار المَوصِليّ (ت 654 هـ) - وكان ابنُ الشَّعَّارِ كَثيرَ التَّردُّدِ إلى حَلَب، وتُوفِّيَ بها - وزَارَهُ في مَنْزلِه بحَلَب في 18 ربيع الآخر سَنة 634 هـ، وسنة 635 هـ، وسنة 640 هـ
(1)
.
وفي عام 643 هـ، وأثْناءَ إقامَةِ ابن العَدِيْم في القَاهِرهِ رَسُولًا من المَلِك النَّاصِر صَلَاح الدِّين يُوسُف صاحِب الشَّام إلى السُّلْطانِ الصَّالحِ نَجْمِ الدِّين أيُّوب، تَعرَّفَ إلى ابن سَعِيد المَغْربيِّ، ونَشَأتْ بينهما الصَّدَاقةُ، وعَرف كُلٌّ منهما فَضْلَ الآخرِ، فعَرَضَ عليه ابن العَدِيْم مُرافَقتَهُ إلى حَلَب، ولقاءَ صاحِبها المَلِك النَّاصِر، فاسْتجابَ لدَعْوتِه
(2)
، وأقامَ بحَلَب من سَنة 644 هـ حتَّى رَحِيلِه عنها سَنَة 647 هـ مُتوجِّهًا إلى دِمَشْق، واسْتَفادَ من خِزَانَةِ كُتُبهِ الغَنِيَّةِ في بَعْضِ ما أَوْردَه في إكْمالِه لكتابِ المُغْرِب، وهو الكتابُ الَّذي تَعاوَرَ على تأْلِيفه في مُدَّةِ 115 سَنة ستَّةُ مُؤلِّفين كان آخرَهُم ابنُ سَعِيْد، وكَتَبَ ابنُ سَعِيد لخِزَانَة الصَّاحِبِ ابن العَدِيْم بين عامي 645 - 647 هـ نُسْخةً بخَطِّهِ من كتابِ المُغْرِب، وقَيَّدَ على غِلَافِ كُلِّ جُزءٍ من أجْزائِها: "نَسَخَهُ بخَطِّه برَسْم الخِزَانَة الجلَيلَة الصَّاحِبيَّة الكَماليَّة، عَمَّرَها اللهُ بدَوام مَالِكها، سَيِّدِ الأصْحابِ، رَئيس صُدُور الشَّام، عَلَم العُلَمَاء، الصَّاحِبِ الكَبير كَمال الدِّين بن أبي القَاسِم بن أبي جَرادَة
(1)
ابن الشعار: قلائد الجمان 3: 27، 4: 234، 269، 7:204.
(2)
ابن سعيد: المغرب في كل المغرب 2: 172 - 173، ووصف ابن سعيد في كتابه المقتطف من أزاهر الطرف إقامته بحلب لأول وصوله لها، قال:"ولما وصلت معه - أي ابن العديم - إلي حلب، أنزلنى فى دار ببستان ماء جار. وقال لى: أنت أندلسى، وقد عرفت أن دياركم لا تخلو من هذا، ورتَّب من المشاهدة والطعام الجارى فى كلّ يوم ما يكفي. قال لى: هذا يَكُفُّك عن أن تَشْرَه مع خدمة السلطان إلى طلب شئ حتى يكون هو المبتدئ، فصَدِّقْ ارْتِهاني فيك، فإنّي وصفتك له بالحسب والنزاهة. فلزمت ذلك. فكان فيه فوق ما أمّلته ولم يلزمني إلا الصبر". ابن سعيد: المقتطف 199 - 200، وانظر لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة 4: 155 - 156.
العُقَيِليّ، خلَّدَ اللهُ إحْسانه، وعَطَّرَ شُكْره زَمانه، مُكمل تَصْنيفه عليّ بن مُوسَى بن مُحمَّد بن عَبْد المَلِك بن سَعِيْد"
(1)
.
ويقولُ الإمامُ شَرَفُ الدِّين الدِّمْياطِي: "صَحِبتُه بضْعَةَ عَشرَ عامًا، مَقامًا وحَضَرًا، وانْتِقالًا وسَفَرًا، ورَافقتُه من بغداد إلى دمَشْقَ كَرَّتين، وأخَذْتُ عنه في البلَادِ والمنازِل من حَدِيثِه وعِلْمِه ونَثْرِه ونَظْمِه، وَأخَذَ عنِّي أيضًا بسُرَّ مَن رَأى وغيرها، وأَرْدَفني على بَغْلتِه
…
وكان بارًّا بي، مُحْسنًا، يُؤثُرني على أقْرَاني، ويُقدِّمني على أبناءِ [
…
]، وعَدَّلني تَعْديلًا ما عُدِّله أحدٌ من أمْثالي؛ ذلك أنَّ قاضيَ القُضَاةِ بدمَشْق الْتَمَسَني منه، فامْتَنعَ امْتناعًا شَدِيدًا، لسببٍ جَرَى من القاضي، فطَفَقَ الرَّسُولُ يتَضرَّعُ إليه ويَسْألُه حتَّى أَذِنَ"
(2)
.
وكانت له صِلَةٌ بالمُلُوك والأُمَراءِ ببلَادِ الشَّام والدِّيَارِ المِصْريَّة، وكان يَغْشَى مَجالسَهم في سِنٍّ مُبَكِّرةٍ، يَذكُرُ وهو يُتَرْجِم لنَفْسِه عن سِنيّ العِشْرينيَّات من عُمرِه:"وكان المَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِي بن صَلَاح الدِّين صَاحِبُ حَلَب كثيرَ الإكرام لي، وما حَضَرتُ مَجْلسَهُ قطّ فما أقْبَلَ على أحَد إقْبَالَهُ عليَّ مع صِغَرِ السِّنِّ"
(3)
، ورَوَى عن المَلِكِ الظَّاهِر غازي بن يُوسُف بن أَيُّوب (ت 613 هـ) بقراءتِه عليه بقَلْعةِ حَلَب، حَدِيثًا مُسْندًا، أَوْردَهُ في الجُزءِ الأوَّلِ من كتابِهِ عندَ الكَلامِ على فَضائلِ الشَّامِ وحَلَب، وعَاصَرَ ثلاثةَ مُلُوكٍ من بني أيُّوبَ ممَّن مَلَكُوا حَلَب: المَلِكَ الظَّاهِر غازي (ت 613 هـ)، ثُمَّ ابنهُ المَلك العَزِيز غِيَاث الدِّين مُحمَّد (ت 634 هـ)، وآخرَ مُلُوكِهم المَلِك النَّاصِر صَلَاح الدِّيَن يُوسُف (ت 658 هـ)، وكان له اتِّصالٌ أيضًا
(1)
المغرب لابن سعيد (قسم مصر) مقدمة التحقيق 1: م 58، 147. وكان الشاعر يحيى بن عبد العظيم الجزار يلازمه إذا قدم إلى مصر. ابن شاكر: فوات الوفيات 3: 127، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 424، الزركشي: عقود الجمان ورقة 338 أ، المقريزي: المقفى الكبير 8: 736.
(2)
معجم شيوخ الدمياطي 2: ورقة 117 ب - 118 أ، وأثبته الذهبي في تاريخه 14:938.
(3)
ياقوت: مجم الأدباء 5: 2085.
بمُلُوكِ دِمَشْقَ وحِمْصَ وحَمَاة وغيرِهم منِ مُلُوكِ الأطرافِ والنَّواحِي، وتَرَسَّلَ فيما بينهم، وعندما تولَّى المَلِكُ النَّاصِرُ المُلْكَ سَنَةَ 643 هـ أرْسَلهُ إلى أخيهِ المَلِكِ الصَّالح أحمد ابن المَلِك الظَّاهِر صاحِب عَيْنَتاب يَسْتَحلفُهُ لابْنه بعدَ نفسه
(1)
. وأشارَ ابنُ العَدِيْم لهذه الزِّيارةِ في كَلامهِ على ما وَرَدَ من الكتابةِ القَديْمةِ على الأحْجَارِ بحَلَب (الجزء الأوَّل):
"وحَضَرْتُ بقَلْعَة الرَّاوَنْدَان عندَ المَلِكِ الصَّالح أحمد ابن المَلِك الظَّاهِر غَازِي بن يُوسُف بن أيُّوب، فحَكَى أنَّ عندَه ببلد الرَّاوَنْدَان قَرْيَة، وأشارَ سيدِه نحو الغَرْب
…
".
ومَدَحَهُ الكثيرُ من الشُّعَراءِ والأُدَباءِ، وقِيْلَتْ فيه قَصائدُ مُفْردةٌ، فمَّن مَدحَهُ: أمينُ الدِّينِ ياقُوتُ العالِم
(2)
، وياقُوتُ بن عَبْد الله الحَمَويّ
(3)
، وعليُّ بن عُثمان الإرْبليّ
(4)
، وعَبْدُ الرَّحمن بن أحمد بن القَصْريّ
(5)
، وعليُّ بن مَحْمُود بن أبي الشُّكْر البَغْداديّ السَّرْخسِيّ
(6)
، والقَاسِمُ بن القَاسِمِ بن عُمَر الوَاسِطيّ
(7)
، ويَحْيَى بن خالِد بن مُحمَّد القَيْسَرانيّ
(8)
، وأبو زَكَريَّاء يَحْيَى بن غَانِم الخَزْرجيّ
(9)
، وإسْحاق بن عليّ الكاتِب الحَمَويّ
(10)
، وأبو الوَليد مُحمَّد بن سَعِيد بن مُحمَّد بن الجَنَّان الشَّاطِبيّ
(11)
، وعَلَمُ الدِّين يُوسُف بن عَبْد العَزِيز بن المُرَصِّص في قَصائدَ عَدِيدةٍ
(1)
ابن واصل: مفرج الكروب 5: 116، اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3: 135.
(2)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2087 - 2088.
(3)
معجم الأدباء 5: 3091.
(4)
ابن حبيب: درة الأسلاك في دولة الأزاك (آيا صوفيا)، ورقة 15 ب.
(5)
ابن الشعار: قلائد الجمان 3: 395 - 396.
(6)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 41.
(7)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 356.
(8)
ابن الشعار قلائد الجمان 7: 233 - 234، 236 - 238.
(9)
ابن الشعار: قلائد الجمان 8: 34.
(10)
ابن حبيب: درة الأسلاك (آيا صوفيا)، ورقة 15 ب.
(11)
ابن سعيد الغربي: المغرب في حلي المغرب 2: 383.
وطَويلَةٍ
(1)
، ويَحْيَى بن عَبْد العَظِيم الجَزَّار الَّذي مَدَحَهُ بَرائيَّة طَويلة، وانْتَخَبَ لهُ ومن مُخْتارِ شِعْرِه ممَّا انْتَقاهُ من ديوانِه وسَمَّاهُ تَقْطِيف الجَزَّار، وأهْدَاهُ لخِزانة كَمال الدِّين بن العَدِيْم
(2)
، والبَهاء زُهَيْر
(3)
، وابن سَعِيد المَغْربيّ في عدَّة قَصائد
(4)
.
رَحَلاتُهُ وأسْفارُهُ:
خُصَّ ابنُ العَدِيْم بمَزِيدِ التَّكْرمَةِ والحُظْوةِ من لَدُنِ الأُمَراءَ والمُلُوك في نَواحي الشَّام، وخَلَطُوه بمَجَالسِهم، وسَفَرَ فيما بينهم، "وصارَتْ له مَنْزلةٌ رَفِيعةٌ من الدَّوْلَةِ النَّاصِريَّةِ الصّلاحيَّة"
(5)
. ووجَدَ فيه صاحِبُ حَلَب وصَاحِبُ الشَّام المُؤهِّلات الكافيَة للسّفَارةِ عنهما متى اقْتَضَتِ الحاجةُ إلى ذلك، فتَرسَّل إلى الخلفاءِ والمُلُوكِ مرارًا عَديدة
(6)
، "اعْتمادًا على وُفُورِ عَقْلِه ورَزانَتِه"
(7)
؛ وكانتْ أُوْلَى سفاراتِه إلى سِنْجار في سَنَة 624 هـ عن المَلِكِ النَّاصِرِ دَاود بن عِيْسَى، حَسْبما ذَكَرَ ذلك في تَرْجَمتِه (الجزء السَّابِع)، أرْسَلَهُ إلى المَلك الأشرَفِ، ليَعْتَضدَ به على عَمِّه المَلِك الكَامِل مُحمَّد بن أبي بَكْر بن أَيُّوب. ثُمَّ أُنفِذَ بعدَ ذلك رَسُولًا إلى عاصمةِ الخِلافَة بَغْداد، والدِّيَار المِصْريَّة، وبلادِ الرُّوم، إضافةً إلى العَديدِ من السِّفَارات الدّاخليّةِ في بلادِ الشَّام والجَزيرة
(8)
.
(1)
المغرب لابن سعيد (قسم مصر) 1: 282 - 291.
(2)
المغرب لابن سعيد (قسم مصر) 1: 297، 346 - 347، فوات الرفيات 3: 127، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 424.
(3)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 196.
(4)
بشار عواد: العثور على أثر جديد لابن سعيد (ضمن كتاب بحوث ودراسات مهداة إلى إبراهيم شبوح؛ قيد الطبع).
(5)
ابن الشعار قلائد الجمان 4: 235.
(6)
ابن كثير: البداية والنهاية 13: 236.
(7)
ابن الشعار قلائد الجمان 4: 234.
(8)
ابن واصل: مفرج الكروب 5: 148، 288، المقريزي: السلوك 1/ 2: 279.
بَغْداد:
يَذكُر الزَّرْكَشِيُّ أنَّ المَلِكَ النَّاصِرَ يُوسُفَ بن مُحمَّد بن غَازِي، صاحِبَ حَلَب، أرْسَلَ ابنِ العَدِيْم إلى الخَلِيفة ببَغْدادَ مِرارًا
(1)
، ولَم يُفصِّلْ في مَضامين سِفاراتِه هذه ولا متى وَقَعت.
وأقْدَمُ ما يَردُ عن رَحَلاتِه إلى بَغْدَادَ، هي تلك الرِّحْلةُ الَّتي تَرَافَقَ فيها ابنُ العَدِيْم وابنُ سَعِيدٍ الأنْدَلسُيّ
(2)
، وكان وصُولُهم إلى بَغدادَ في شَهْر شَعْبان سَنَة 648 هـ
(3)
، ونَجِدُ أوْفَى التَّفاصِيل عن هذه السِّفارةِ في كتابِ النُّوَيْريّ، نَقَلهُ من تاريخ عليّ بن أنْجَبَ ابن السَّاعِيّ الَّذي كان حاضِرًا في حَفْل تَسْليم الرِّسَالة.
جاءَتْ هذه السِّفارةُ في أعْقابِ اسْتيلاءِ المَلِكِ النَّاصِر يوسُف ابن المَلِك العَزِيز مُحمَّد بنِ غازي على دِمَشْق سَنة 648 هـ، بعد مَقْتل اللَكِ تُورَانشاه، وكان الهَدَفُ من ورءِها تقديمَ وَاجِبِ الوَلاء والطَّاعة للخَلِيفةِ المُسْتَعصِم بالله، والْتِماسَ رِضَاه ومُبارَكتَهُ لصَاحِبِ دِمَشْق الجديد.
كان وصُولُ ابن العَدِيْم إلى بَغْدادَ في شَهْرِ شَعْبانَ من السَّنَةِ المَذْكُورةِ، وخرَجَ إلى لقائِهِ مَوْكبُ الدِّيوانِ العَزِيزيّ على جاري العادة، يتقدَّمُهم عَارضُ الجَيْش، وإلى جانِبَيه خادِمَانِ من خَدَمِ دِيوانِ الخلَافة، وحَضَرَ إلى بابِ النُّوبيّ لتَقْبيلِ العَتَبَة
(4)
، وأُخْرجَتْ له سَجَّادةٌ وبُسِطَت وأمَرُوه أنْ يُصَلِّي رَكْعتَيْن زيادةً قي إكْرامِه، وعُلوًّا لقَدْره وفَضِيلَته، ثُمَّ قيلَ له:"نحنُ نُعظِّم الرُّسُل لأجْلِ مُرْسِليها، ونحقُ نُعَظِّم مُرْسلك لأجْلك، فاحْتُرِم غاية الاحْتِرام"
(5)
.
(1)
الزركشي: عقود الجمان ورقة 237 ب.
(2)
بشار عواد: العثور على أثر جديد لابن سعيد (ضمن كتاب بحوث ودراسات مهداة إلى إبراهيم شبوح؛ قيد الطبع).
(3)
كان ابن سعيد الأندلسي قد أقام في حلب من سنة 644 - 647 هـ ثم توجه منها إلي دمشق، وارتحل منها إلى بغداد.
(4)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 510، النويري: نهاية الأرب 29: 370.
(5)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 510.
وفي اليَوْم الثَّالث من وصُولِه، حَضَرَ إلى دارِ الوَزير مُؤيَّد الدِّين بن العَلْقميّ، وقَرأ القُرَّاءُ، ثُمّ نَهَضَ ابنُ العَدِيْم وأدَّى الرَّسالةَ، وألْقَى في الدِّيِوانِ خُطْبةً بَليغَةً من إِنْشَائِه
(1)
، وكان معه من جُمْلَةِ الهَدايا مُصْحَفٌ كَريم بخَطِّ ابن الخاَزِن
(2)
، فلمَّا عرَضَهُ، كَتَبَ معه رُقْعَة فيها:[من الكامل]
وعليكُمُ نَزَلَ الكِتابُ وفيكُم
…
وإلى رُبُوعِكُمُ يَحنّ ويَرْجعُ"
(3)
وبعد أنْ أنْهَى ابنُ العَدِيْم إلْقاءَ خُطْبَتِه (الرِّسالة)، أذِنَ الوَزيُر ابن العَلْقَميّ بإدْخالِ الهَدَايا، تَعْبيرًا عن القَبُول والرِّضا، وعادَ ابنُ العَدِيْم إلى حيثُ يُقِيم ببَغْدادَ بعد أنْ زيْدَ في احْتِرامِه، وبُولغَ في إكْرامه
(4)
.
وذكَرَ ابنُ العَدِيْم في ثنايا بعضِ التَّراجم تَوَجُّهَهُ رَسُولًا عن الملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحمَّد إلى الخلَيفةِ المُسْتَعْصِمِ بالله، وأنَّه كانَ في شَوَّال وذي الحِجَّة من سَنَة 650 هـ مُقيمًا ببَغْدادَ، ولَم يُبَيِّن الهَدَف من هذه السِّفارةِ، ففي تَرْجَمَة أحْمد بن أبي الكَرَم بن هِبَة الله الفَقِيه الحَنَفيّ، يقولُ (الجزء الثَّالث):
"وتُوفِّيَ بالمَوْصِل في شَوَّال سَنَة خَمسين وسِتِّمائة، وبَلَغتني وَفاتُه وأنا ببَغْدَادَ في هذا التَّاريخ".
وفي تَرْجَمَة أَسْعَد بن إبْراهيم بن النُشَّابِيّ الإرْبليّ (الجزء الرَّابع):
(1)
أورد النويري في كتابه نهاية الأرب 29: 372 - 376 نصّ الخطبة التي نقلها ابن أنجب الساعي من خط ابن العديم.
(2)
عد ابن الفوطي: مجمع الألقاب 4: 211: بخطّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه. وابن الخازن المذكور هو: أبو الفوارس الحسين بن علي بن الخازن (ت 502 هـ)، صاحب الخط المشهور. وانظر تعداد الهدايا التي استصحبها الملك الناصر مع ابن العديم، وبضمنها ثلاثمائة مجلد بخطوط منسوبة، عند النويري: نهاية الأرب 29: 371.
(3)
ابن الفرطي: مجمع الألقاب 4: 211، والنويري: نهاية الأرب 29: 371.
(4)
النويري: نهاية الأرب 29: 376.
"وحَضَرتُ دارَ الوَزِير أبي طَالِب بن العَلقَميِّ في سَنَة خَمْسِين وسِتمائة، وكُنْتُ قد توجَّهتُ رَسُولًا عن المَلِكِ النَّاصِر صَلاح الدِّين يُوسُف بن مُحَمَّد، في أيَّامِ المُسْتَعْصِم بالله، إلى دارِ الخِلَافَةِ، فسَمِعتُه يُنْشدُ بين يَدي الوَزِير قَصِيدَةً في مَدْح المُسْتَعْصِم في الحادي عَشر من ذِي الِحجَّة
…
".
وفي تَرْجَمَة إسْمَاعِيْلَ بن حَامِد بن عبدِ الرَّحْمن القُوصِيّ، وفيها ما قد يُفْهِمُ أنَّ القاضي نَجْم الدِّين عَبْد الله بن مُحمَّد البَادرائيّ (ت 655 هـ)، هو مَن حَمَل جَواب الرِّسالةِ (الجزء الرَّابع):
"أنْشَدَنا أبو المَحَامِد القُوصِيّ بدِمَشْق، وهو أوَّلُ اجْتِمَاعي به، بحَضْرَة نَجْم الدِّين البَادَرَائِيّ رسُولِ بَغْدَاد، وكُنْتُ قَدِمتُها رَسُولًا، قال: أنْشدَنا أبو جَعْفَر بن حَوَاري المَعَرِّيّ
…
".
ونُقَدِّرُ أنَّ ابنَ العَدِيْم أمْضَى في سِفَارتِه هذه نحو أرْبَعة أشْهُرٍ، إذا كان ببَغْدادَ في شَوَّال من عام 650 هـ، ثُمَّ مرَّ بالمَوْصِلِ في مُحَرَّم سَنَة 651 هـ، حَسْبما ذَكَرَ في ترجَمَة أحمدَ بن مُحَمَّد بن أبي الوَفَاء الرَّبَعِيِّ، أبي الطَّيِّب المَعْرُوف بابنِ الحَلَاوِيّ المَوصِليّ (الجزء الثَّالث):
"ثمّ عادَ - أي ابن الحَلَاويّ - إلى المَوْصِل وأقامَ بها
…
واجْتَمَعْتُ به فيها، وأنْشدَني مَقَاطِيعَ من شِعْرِه، وكانَ حينئذٍ قد غَيَّر مَلْبُوسَهُ وتَزَيَّا بزيّ الأجْنَاد، وكان اجْتِمَاعي بهِ بالموصل بمَشْهَدِ البَرَمَةِ يَوْمَ التَّاسِعِ من مُحَرَّم سَنَة إحْدَى وخَمْسِين وستِّمائة".
وكانتْ سِفَارتُه الثَّالثةُ إلى بَغْدَادَ في سَنَةِ 654 هـ؛ أرْسَلهُ السُّلْطانُ المَلِكُ النَّاصِرُ يُوسُف صاحِبُ حَلَبَ ودِمَشْقَ (الدِّيَار الشَّاميَّة)، رَسُولًا إلي الخليفةِ المُسْتَعصِم بالله، وصُحْبَتهُ تقدمة جَليلة، وطَلَبَ ابنُ العَدِيْم خِلْعَةً من الخليفة للمَلِك
النَّاصِر، "فأعْطاهُ سِكِّينًا كَبيرة من اليَشَم، علامةً منه في أنَّ له خِلْعة في وَقْتٍ آخرَ، فأخَذَها كَمالُ الدِّين وعادَ إلى النَّاصِرِ بغير خِلْعة"
(1)
.
وكان بصُحْبةِ ابنِ العَدِيْم في سِفارتين من رَحَلاتِه إلى العِرَاقِ الشَّيخُ شَرَفُ الدِّين الدِّمْياطِيُّ (ت 705 هـ)، وقرأ عليه ببَغْداد وفي سامَّراءَ وهم قافِلُونَ من بَغْداد
(2)
.
وإضافةً إلى ما تقَدَّم، فقد أشارَ ابنُ العَدِيْم في الجزء الأوَّل من كتابِه (المُقَدِّمة) إلى بعضِ المَصادرِ الَّتي اعْتَمدَ عليها، ونَقَلَ عنها، ممَّا طالَعَهُ ببَغْدادَ في بعض هذه الأسْفار؛ مثاله قوله:
"وقَعَ إليَّ بَغْدَادَ كتابٌ من تأليفِ أحْمَد بن مُحمَّد بن إسْحَاق الزَّيَّات الهَمَذَانِيّ الفَقِيه، فنَقَلْتُ منه
…
".
"وقَعَ إليَّ بَغْدَاد من تَصْنيف أحمد بن مُحمَّد بن إسْحَاق الزَّيَّات، مُؤلِّف كِتاب البُدْان، قال فيه:
…
".
"ولوَلدِه - أي عُبيد الرأيِ - نَصْر المذكُور أبياتٌ يَرْثي والدَهُ، ويَذكرُ ما جَرَى من اخْتلافِ عَشِيْرته، أنْشَدَناها ببَغْدَادَ أبو الحَسَن المُبارَكُ بن أبي بَكْر مُحمَّد بن مَزْيَد الخَوَّاص عنهُ
…
".
مِصر:
سافرَ ابنُ العَدِيْم إلى مِصْرَ عدَّةَ مرَّاتٍ في مهمَّاتٍ ورَسائلَ سُلْطانيَّة، فقد توجَّه إليها في سَنةِ 637 هـ رَسُولًا من قِبَل والدةِ المَلِك العَزِيز والسُّلْطان المَلِك
(1)
بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 117، أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 3: 191، تاريخ ابن الوردي 2:279.
(2)
معجم شيوخ الدمياطي 2: ورقة 116 ب، وانظر المقريزي: السلوك 1/ 2: 298.
النَّاصِر صَلَاِح الدِّين يُوسُف بن مُحمَّد بن غازي، وأقامَ فيها نحو ستّةَ أشهُرٍ
(1)
، وعادَ في أوَائِل سَنة 638 هـ. وهو يَذكُرُ (الجزء الثاني) أنَّه كان في سَنَة 637 هـ رَسُولًا بمِصْر، فمرَّ في طَرِيقِه على بَيْتِ المقدِس، وزارَ مِحْرابَ دَاوُد، ووَصفهُ (الجزء السَّابِع):
"زُرْتُ بُرْجَ المِحْرَابِ الّذي من بناء دَاوُد، وكان بُرْجًا عَظيْمًا بحِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ هَائِلَةٍ، وكان ثلاثَ طَبَقَاتٍ، والمحرَابُ في الطَّبَقَةِ الوُسْطَى، وكان شَاهِقًا، وكان عَاليًا على المَسْجِدِ وعلى جميع أبْنيةِ البيتِ المُقَدَّس، وهَدَمَهُ المَلِكُ النَّاصِر دَاوُد ابن المَلِك المُعَظَّم في سَنَةِ سَبْعٍ وثَلاثين وسِتِّمائة، وحَفَرْتُ في البيت المُقَدَّس وَقْتَ هَدْمِه، وكُنْتُ مُتَوَجِّهًا إلى الدِّيَارِ المِصْريَّة في رِسَالَةٍ".
وزارَ ببَيْتِ المَقْدِسِ أيضًا قبَرَ شَيخِه أبي عليّ الحَسَن بن أحْمَد بن يُوسُف الأَوَقِيّ الصُّوْفيّ، قال (الجزء الخامس):
"وزرْتُ قَبْرَهُ بمقبَرَةٍ دُفِنَ فيها الشَّيْخُ رَبيعُ بن مَحْمُود المَارِدِيْنِيّ وغيرُه من الصَّالِحين حين تَوَجَّهْتُ إلى الدِّيَارِ المِصْرِيَّة رَسُولًا في سَنَة سَبع وثَلاثين وستِّمائة".
وقال في تَرْجَمَةِ القاضي أحمد بن الخلِيل بن سَعادَة بن جَعْفَر بن عِيسَى الشَّافِعيّ، أبي العبَّاس الخُوَيّيّ (الجزء الثاني):
"ومَرضَ مَرْضةً بُحمَّى السِّلّ، وتُوفِّي بدِمَشق في سَنَةِ سَبْعٍ وثَلاثين وستِّمائة، وكنتُ إذ ذاك رَسُولًا بمِصْر، فبلَغَتني وفاتُه وأنا بها".
وقال في تَرْجَمَةِ المَلِكِ الصَّالح إسْمَاعِيْل بن مُحَمَّد بن أَيُّوب بن شَاذِي، أبي الفِدَاءِ عِمَاد الدِّين ابن المَلِك العادِل (الجزء الرَّابع):
(1)
ذكر ابن العديم في تذكرته 361 إقامته بالقاهرة في شعبان سنة 637 هـ، وانظر: ابن الشعار: قلائد الجمان 7: 267، وابن واصل: مفرج الكروب 5: 253.
"وخَرَجَ العَادِلُ إلى بُلْبَيْسَ في عَسْكَرٍ كثيرٍ، وكُنْتُ إذ ذاك عندَهُ رَسُولًا بالقَاهِرَة، فقَبَضَ العَسْكَرُ على العادِلِ
(1)
، وتَسَلَّمَ الصَّالِحُ أيُّوب الدِّيَار المِصْرِيَّة".
وبَيَّنَ فِي كتابِه زُبْدَة الحَلْب بعضَ تَفاصِيلِ رِحْلتِه ومَضْمُونَ الرِّسالةِ الَّتي حَمَلَها إلى المَلِك العادِل سنة 637 هـ، يقول
(2)
:
"وكُنتُ إذ ذاكَ بالقَاهِرةِ، رَسُولًا إلى المَلِكِ العادِل، أُهَنئُه بكَسْرِ عَسْكره الإفْرنجَ على غرَّة، وأَطْلبُ أنْ يُسَيِّر عمَّاتِه بناتِ المَلِكِ العادِل، معي إلى أُختِهنَّ المَلِكه إلى حَلَب، فاسْتَحْضرَني المَلِكُ الصَّالِحُ أيُّوب، يومَ الثُّلاثاءِ حادي عَشر ذي الحِجَّة، وقال لي: تُقَبِّلُ الأرْضَ بين يَدي السّترِ العالي، وتُعرفُها أنَّني مَمْلُوكها، وإنَّها عندي في مَحَلِّ المَلِكِ الكَامِل، وأنا أعْرِضُ نَفْسي لخِدْمتها، وامْتِثالِ أمْرِها فيما تأمُر به، وحَمَّلَني مثلَ هذا القَولِ إلى السُّلْطانِ المَلِك النَّاصِر.
ونَزَلْتُ من مِصْر، فاجْتَمعتُ بالمَلِك الصَّالِح إسْماعِيْل ابن المَلِك العادِل، في رابع مُحَرَّم سَنَة ثَمان وثلاثين، وحَمَّلني رسالةً إلى المَلِكةِ الخاتُون، يَطْلبُ منها مُعاضَدَته، ومُساعَدتَهُ على المَلِكِ الصَّالِح صاحبِ مِصْر إنْ قَصَدَهُ، فلم تُجِبْهُ إلى ذلك في ذلك الوَقْت".
وسافرَ إلى مِصْر في سَنة 640 هـ حسْبَما ذكَرَ ذلك عَرَضًا في تَرْجَمَةِ الشَّيخ أحمد بن يُوسُف بن عليّ، أبي العبَّاس الشَّريف العَلَويّ الحَسَنيّ المُلَقَّب عِمَاد الدِّين المَوْصِلِيّ (648 هـ)، ولم يُفْصِح عن طَبِيعة الرَّحلة وهَدفها، ولَم يَذْكرْ في كتابِه زُبْدَة الحَلْب خَبَرَ رحْلتِه في أحْداثِ تلكَ السَّنَةِ، غير أنَّ مَنْطقةَ شَمال سُوريا والجَزِيرة كانتْ تُواجهُ زَحْفَ التَّتَارِ في ذلك الوَقْتِ، فلعلّ سِفارتَهُ كانت عن المَلِك النَّاصِر لغاياتٍ تتَّصل بهذا الشَّأن، قال (الجزء الثَّالث):
(1)
قُبض على الملك العادل في ليلة الجمعة 8 ذي القعدة 637 هـ. زبدة الحلب 3: 693.
(2)
زبدة الحلب 3: 693، ونقله عنه ابن واصل: مفرج الكروب 5: 367 - 369.
"ثُمَ خَرَجَ - أي عماد الدِّين المَوصِليّ - من حَلَب إلى مِصْر حينَ وصلَ التَّتَارُ إلى بلادِ الرُّوم سَنَة أرْبعين وسِتِّمائة، وكنتُ بمِصْر في هذه السَّنَة، وهو بها، وحَدَّثَ بها عن شَيْخنا أبي هاشِم المَذْكُور، وعُدتُ إلى حَلَب وهو بالدِّيَار المِصْرِيَّة".
وسافرَ إلى مِصْر في السَّنَة الَّتي تَليها، وتَحْديدًا في شهر رَبيع الأوَّل من سَنة 641 هـ، مرسَلًا في مَهمَّةٍ رَسْميَّةٍ لَم يُفْصِحْ عن ماهيَّتِها، ولعلَّها كسَابقَتها، ذكَرَ ذلك عَرَضًا في ثنايا تَرْجَمتين من كتابِه البُغْيَة، ولم يُشِرْ إلى سَفْرتِه هذه في مُخْتَصره الزُّبْدَة
(1)
، ففي تَرْجَمَة القَاضِي خَلِيل بن عليّ بن الحُسَين بن علي، أبي عليّ الحَمَويّ الحَنَفيّ، يقول (الجزء السَّابِع):
"تُوفِّي القَاضِي نَجْمُ الدِّين أبو عليّ خِليل قاضي العَسْكَرِ فجأةً يَوْم الثّلاثَاء بعد العَصْرِ سَلْخ صَفَر من سَنَةِ إحْدَى وأرْبَعين وسِتِّمائة، ودُفِنَ ضَحْوَةَ يَوْم الأرْبَعَاء، ووَصَلْتُ إلى عَذْرَاء لَيْلَة السَّبْت الرَّابِع من شَهْر ربيع الأوَّل مُتَوَجِّهًا إلى الدِّيَار المِصْرِيَّة في رِسَالَةٍ، فَخَرجَ إليَّ من دِمَشْق مَنْ أخْبَرَني بوَفَاتهِ على الوَجْه المَذْكُور".
وفي تَرْجَمَةِ رَاجِح بن أبي بَكْر بن إبْراهيم بن مُحَمَّد، أبي الوَفَاء العَبْدَرِيّ القُرَشِيّ المَيُّورْقِيّ (الجزء الثَّامن):
"
…
إلى أنْ كَسَرَ التَّتَارُ مَلِكَ الرُّوم غِيَاثَ الدِّين، فخَاف - أي الميُّورْقيّ - من التَّتَارِ، وخَرَجَ من صَلَبَ في سَنَةِ إحْدَى وأرْبَعين وستِّمائة، وتَوَجَّه إلى الدِّيَارِ المِصْرِيَّة، ورَافقتُهُ من دِمَشْق إلى مِصْر، وكُنْتُ إذ ذاكَ قد سُيِّرتُ رَسُولًا إلى مِصْر".
وسَيَّرهُ المَلكُ النَّاصِر إلى مِصْر في عام 643 هـ برسالةٍ إلى السُّلْطانِ نَجْمِ الدِّين أيُّوب صاحبِ مِصْر، وعند عَوْدتِه إلي حَلَب، اصْطَحبَ معه ابنَ سَعِيد الأنْدلسُيّ،
(1)
يقف كتابه زبدة الحلب عند أحداث سنة 641 هـ ولم يذكر من أحداث هذه السنة إلا اليسير.
وكان قد الْتَقاهُ في القَاهِرة في شَهْر ربيع الأوَّل سَنة 643 هـ
(1)
، وارْتَحلَ عن مِصْر قافلًا إلى الشَّام في سَنَة 644 هـ
(2)
.
وذكَرَ ابنُ العَدِيْم جانبًا من غَرَضِ سِفارتِه هذه، وذلك في ثنايا تَرْجَمَةِ المَلِك الصَّالِح إسْماعِيْل بن مُحمَّد بن أيُّوب، عند ذِكْر خَبَرِ اسْتيلاءِ ابنِ أخيه المَلِك نَجْم الدِّين أيُّوب على دِمَشْق، وأخْذِها من يَده، قال بعد ذِكْرِ أحْداثٍ وَقَعَتْ للمَلِكِ الصَّالِح إسْماعِيْل (الجزء الرَّابع):
"وخافَ إسْمَاعِيْلُ فاتَّفَقَ مع الفِرنْج. وسيَّرَ المَلِك المَنْصُور إبْراهيم بن شِيرْكُوه صاحب حِمْص مُقدَّمًا على عَسْكَره إلى غَرَّة ومعه الفِرِنْجُ، وبها عَسْكَرُ مِصْرَ، فالْتَقَى الجَيْشانِ، فانْهَزَمَ المَلِكُ المَنْصُورُ والفِرنْجُ، وتقدَّمَ العَسْكَرُ المِصْرِيُّ بعد ذلك إلى بَيْسَان، وتحالَفَ المَلِكُ الصَّالِحُ أيُّوب، والسُّلْطانُ المَلِكُ النَّاصِر يُوسُفُ ابن المَلِك العَزِيز صاحبُ حَلَب، ونَزَلَ العَسْكَرُ المِصْرِيُّ ومُقَدَّمُه الوَزِيرُ مُعِيْنُ الدِّين ابن الشَّيْخ ابن حَمُّوْيَه مُحَاصِرًا دِمَشْق، ووصَلَتْ إليه نَجْدَةُ حَلَب، وكنتُ أنا الرَّسُولَ إلى مِصْر في المُحَالَفة، ففَتَحَ العَسْكَرُ المِصْرِيُّ دِمَشْقَ، وسلَّمَها الصَالِحُ إسْمَاعِيْل إلى ابنِ الشَّيْخ ومَضَى إلى بعلَبَك
…
".
وسافرَ ابن العَديم إلى مِصْر في سَنَة 644 هـ، ولَم تكنْ سِفارتُه في هذه المرَّةِ بغَرضِ التَّحالُفِ ضَدَّ المَلِكِ الصَّالِح إسْماعِيْل، بل ليَشْفَعَ في إسْماعِيْلَ عندَ صاحبِ مِصْر، بعد أنْ طَرَحَ نفْسَهُ على المَلِكِ النَّاصِر يُوسُف، وإسْماعِيْلُ هو خالُ أبيه المَلِكِ العَزِيز، قال ابنُ العَدِيْم في تَرْجَمَة إسْماعِيْلَ أيضًا (الجزء الرَّابع):
"وهَرَبَ المَلِكُ الصَّالِحُ إسْمَاعِيْلُ، وقَدِمَ إلى حَلَبَ مُسْتَجيْرًا بالسُّلْطانِ المَلِكِ النَّاصِر ابن المَلِك العَزِيز، ومُلْقيًا نَفسهِ إليه فأنْزَله بدَارِ جَمَالِ الدَّوْلَةِ، وجَعَلَ عليه تَوكْيلًا طَلبًا
(1)
ابن الشعار: قلائد الجمان 7: 373.
(2)
المغرب لابن سعيد (قسم مصر) 1: 347.
لرضا المَلِكِ الصَّالِح أَيُّوب، وسَيَّرَني رَسُولًا إلى مِصْر أشْفَعُ إلى أَيُّوبَ بن إسْمَاعِيْلَ، فلم يُجبْ إلى ذلك، وفَسَدَ ما بين السُّلْطانِ المَلِك النَّاصِر وبينه بسَبَبِ ذلك. وماتَ المَلِكُ المَنْصُور إبْراهيمُ صَاحِبُ حِمْص بدِمَشْق، وتسلَّمَ نُوَّابُ أيُّوبَ بُصْرَى، وعَزَمَ أَيُّوب على تَجْهيز عَسْكَرٍ إلى الشَّرْقِ، فَمَنَعَهُ المَلِكُ النَّاصِرُ، وأزَالَ التَّوكيْلَ عن الصَّالح إسْماعِيْل، وسيَّرني إليه، واسْتَحْلفتُهُ يَوْمَ الاثْنَين ثامنَ عَشر ذي القَعْدَة، وخَلَعَ عليهِ، وأقْطَعَهُ إقْطاعًا حَسَنًا، وقدَّمَهُ على عَسْكَره".
ولعلَّ آخرَ سِفارة رَسْميَّة أدَّاها ابنُ العَدِيْم في حياته كانتْ سَنة 657 هـ، قبلَ وصُولِ طَلائِع المَغُولِ إلى الشَّام، إذ أرْسَلهُ المَلِكُ النَّاصرُ يُوسُف ابن المَلِك العَزَيز صاحب دِمشْق إلى الدِّيَار المِصْريَّةِ رَسُولًا يَسْتَنجدُ المِصْريِّين لقِتالِ التَّتَار، فإنَّهم قد اقْتَربَ قُدُومُهم إلى الشَّام، وأنَّهم قد اسْتَولوا على حَرَّان وبلَادِ الجَزيرة وغيرها
…
وكان قد وقَعَ اتِّفاقُ الأُمَراءِ الكِبَارِ وأعْيانِ العَساكِر في مِصْر على تَنْصِيب سَيْفِ الدِّين قُطز سُلطانًا ولَقَّبُوه بالمَلِك المُظَفَّر، وشَهِدَ ابنُ العَدِيْم مَجْلسَ سَلْطَنته، "فأعادَ قُطز الجَوابَ إلى الملَكِ النَّاصِر يُوسُف بأنَّهُ سيُنْجِدُه ولا يقعدُ عن نُصْرتِه، ورَجعَ ابنُ العَدِيْم إلى دِمَشْق بذلك"
(1)
.
وبعد أنْ اسْتَولَى التَّتَارُ على بلادِ الشَّام سَنَة 658 هـ، ارْتَحلَ ابنُ العَدِيْم إلى مِصْر
(2)
، حَسْبما يفهم من تَرْجَمتِه لأحمدَ بن عَبْد الوَاحِد بن مِرى، أبي العبَّاسِ الحَوْرَانيّ القَاضِي، المُلَقَّبُ بالتَّقيّ الشَّافِعيّ، وهي رِحْلةٌ يبدو أنَّها كانت فِرارًا من التَّتَار، مثلما فَرَّ صاحبُ الشَّام وصاحبُ حَمَاة وغيرهما، والتَّاريخُ الَّذي ذَكَرهُ يَقَعُ بعد مَعْركةِ عَيْن جالُوت (25 رَمَضَان من تلك السَّنَة)، وبعدَ مَقْتلِ السُّلْطانِ مُظَفَّر
(1)
بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 218 - 221، أبر الفداء: المختصر في أخبار البشر 3: 199، تاريخ ابن الوردي 2: 290، المقريزي: السلوك 1/ 2: 416 - 417.
(2)
ابن حبيب: درة الأسلاك في دولة الأتراك (آيا صوفيا)، ورقة 15 ب، وتاريخ ابن الوردي 2:308.
الدِّين قُطز وولايةِ بِيْبَرس البُنْدقدَاريّ بأُسْبوعٍ، يقُولُ ابنُ العَدِيْم في تَرْجَمَة التَّقي الشَّافِعيّ ولقائه ببِيْبَرس البُنْدقداريّ (الجزء الثّاني):
"وكنتُ إذ ذاكَ بمِصْر، فحَضَرَ - أي التَّقي الشَّافعيّ - إليَّ، وعَلَّقتُ عنه فَوَائِدَ وشَيئًا من شِعْرِه، وسَألتُه عن مَوْلدِه، فقال: عُمري الآن سَبْعة وسَبْعُون سَنةً، وكان سُؤالي إيَّاه في رَابع وعشرين من ذي القَعْدَة من سَنَة ثمانٍ وخَمْسِين وستِّمائة".
رِحْلتُه إلى الحَجِّ:
أدَّى ابنُ العَدِيْم فَريضَةَ الحجِّ مرَّةً واحدةً، حَسْبما كَرَّرَ ذِكْر ذلك عَرَضًا في ثَنايا كتابِه، وهي رِحْلته الرَّابعةُ خَارج حَلَب، أدَّاها سَنة 623 هـ، وزارَ المَدينةَ المُنوَّرة، وسَمِعَ بها من جَمال الدِّين الوَاسِطيّ، ولم يَردْ ذِكْرٌ لسَفْرتِه هذه عندَ أَحدٍ سوى ما ذكَره هو في كتاب البُغْيَة، ومرَّةً واحدة في كتابَيْهِ: التَّذْكرة
(1)
والزُّبْدَة
(2)
.
ففي تَرْجَمَةِ إسْمَاعِيْلَ بن مُحَمَّد بن يُوسُف المَغْرِبيّ، المَعْرُوف بالبرهَان (الجزء الرَّابع)، يقول ابن العَدِيْم:
"سَمعَ شَيْخنا عُمَر بن طَبَرْزَد وحَدَّثَ عنهُ، وسَمِعَ معنا بالبَيْتِ المُقَدَّس على شَيْخنا حَسَن بن أحْمَد الأوَقيّ، وبالمَدِينَةِ، على سَاكِنها السَّلامُ، على الجَمَالِ عَبْد المُنْعِم الوَاسِطِيّ، وحَجَّ معنا في سَنَة ثَلاثٍ وعشرين وستِّمائة".
وأيضًا في تَرْجَمَةِ إسْماعِيْلَ بن أبي البركاتِ الرَّبعيّ (الجزء الرَّابع):
"ثُمَّ اجْتَمَعْتُ به في الرِّحْلَةِ الرَّابِعةِ حين مَرَرتُ بدِمَشْقَ مُجْتَازًا إلى الحَجِّ في سَنَةِ ثَلاثٍ وعشرين وستمائة".
(1)
تذكرة ابن العديم 309.
(2)
زبدة الحلب 2: 661.
وتَرْجَمَة إسْمَاعِيْل بن سُلَمان بن أَيْدَاش بن عَبْد الجَبَّار الحَنَفِيّ، المَعْرُوفِ بابن السَّلَّار (الجزء الرَّابع):
"اجْتَمَعْتُ بهِ بدِمَشْقَ في دارِه، في وِلِيْمَةٍ دَعَاني إليها أخُوه أميرُ الحَاجِّ عليّ بن سُلَيمان بعد عَوْدي من الحَجِّ في سَنَةِ أرْبعٍ وعشْرين وسِتِّمائة".
وتَرْجَمَة الحُسَين بن هِبَةِ الله بن مَحْفُوظ، أبي القاسِم بن صَصْرَى الرَّبَعِيِّ التَّغْلِبيّ (الجزء السَّادِس):
"واجْتَمَعْتُ بهِ بدِمَشْقَ في سَنَتي تسْعٍ وسِتِّمائة وأرْبَعَ عَشرةَ وستِّمائة، وعندَ تَوجُّهي إلى الحَجِّ في سَنَةِ ثَلاثٍ وعشرين وسِتِّمائة، وسَمِعْتُ عليه أجْزاء من الحَدِيث".
وتَرْجَمَة القاضي الخَضِر بن عَبْد الوَاحِد بن عليّ بن الخَضِر، أبي القَاسِم بن أبي المُنَى الحَلَبِيّ (الجزء السَّابع):
"وكُنْتُ اجْتَمَعتُ به بمَكَّةَ في السَّنَةِ الَّتي حَجْجتُ فيها في سَنَةِ ثَلاثٍ وعشرين وسِتِّمائة مِرَارًا".
وتَرْجَمَة رَبيع بن مَحْمُود بن هِبَةِ الله، أبي الفَضْل المَارِدِيْنِيّ (الجزء الثَّامن):
"وكان حَجَّ في السَّنَةِ الّتي حَجَجْتُ فيها على طَريقِ تَبُوك في سَنَةِ ثَلاثٍ وعشرين وسِتِّمائة".
وفي تَرْجَمَةِ أبي حَفْصٍ الشَّافِعيّ الفَقِيه (الجزء العاشر):
"أنْشَدَنا الشَّيْخُ الأَمِينُ أمِيْن الدِّين سَالِم بن الحَسَن بن مَوْهُوب بن صصْرَى الدِّمَشقيّ بالصَّنَمَيْن، ونحنُ مُتَوَجِّهون إلى الحجِّ سَنَةَ ثَلاثٍ وعشرين وستِّمائة".
بلاد الرُّوم:
يَذْكُر الأديبُ والمُؤرِّخُ ابنُ الشَّعَّار أنَّ ابنَ العَدِيْم سافرَ إلى بلادِ الرُّوم عدَّةَ مَّرات
(1)
، وعندَ ابن وَاصِل أنَّ ابن العَدِيْم كان ضَمْنَ الوَفْدِ المُرْسَلِ في ذي القَعْدَة من عام 634 هـ إلى مَلِكِ الرُّوم غِيَاث الدِّين كَيْخُسْرُو بن كَيْقُبَاذ لتَقْريرِ التَّحالُفِ معه ضِدَّ المَلِكِ الكامِلِ صاحبِ الدِّيَار المِصْريَّة، إذ اتَّفقَ المَلِكُ النَّاصِرُ صاحِبُ حَلَب، والمَلِكُ الأشْرفُ صاحبُ دِمَشْقَ، والمَلِكُ أسَد الدِّين شِيْركُوه صاحبُ حِمْص، والمَلِكُ المُظَفَّر صاحبُ حَمَاة، على الحَدِّ من أطْماعِ المَلِكِ الكامِل، وكان ابنُ العَدِيْم هو المُرْسَلُ من طَرفِ المَلِكِ النَّاصِر
(2)
.
وابنُ العَدِيْم يُشِيرُ إلى سَفْرتِه إلى بلادِ الرُّوم دونَ أنْ يُحدِّدَ تاريخَها أو عَدَدَها، وكان من بينها سَفْرة في أوائل شهر شَوَّال سنة 635 هـ، وأقامَ فيها نحو شهرٍ، في مَهمَّةٍ تَكلَّلتْ بالنَّجاحِ، وأشارَ إلى رِحْلتِه - أو رَحَلاتِه - هذه في العديدِ من المَواضع في المُجلَّدِ الأوَّلِ من كتابِه، عندَ ذِكْرِه للمَواضع الَّتي مرَّ بها في طَريقِه إلى بلادِ الرُّوم، يقولُ:
"وبعَرْبَ سُوْس - وقيلَ: إنَّها آخرُ حُدُودِ الشَّام - في جَبَلِ بَانَجْلُوسْ من غَرْبيّ عَرْبَ سُوْس، الكَهْفُ الّذي كان فيهِ أصْحَابُ الكَهْفِ، ولَبثُوا فيه ثلاثمائة سِنينَ، وزُرْتُ المكانَ عند دُخُولي إلى بلادِ الرُّوم، وهو مكانٌ حَسَن كَثِيْرُ الزُّوَّارِ".
وأيضًا:
"وعَرْبَسُوس وهي مَدِينَة دَقْيَانُوس، ودخَلْتُ هذه المَدِينَةَ وقد اجتزتُ إلى زيارةِ أصْحَابِ الكَهْفِ، وهم في جَبَلٍ قَريبٍ منها
…
وَزُرْتُ هذا الموضِعَ فوَجَدْتُه على
(1)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 234.
(2)
ابن واصل: مفرج الكروب 5: 123 - 124.
الصِّفَةِ الَّتي أخْبَرَ اللهُ تعالَى في كتابهِ الكريم: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} ، وقد بُنِيَ على المَوْضعِ بناءٌ عَظيمٌ حَسَنٌ واسعٌ لِمَنْ يقصدهُ من الزُّوَّار، ووُقِفَ عليه وَقْفٌ، ورُتِّبَ لهم ضِيَافَةٌ، بناهُ صَاحبُ مَرْعَش".
ومرَّ بمَدِينةِ الحَدَث:
"شاهدْتُها، ونزلْتُ في أرْضِها عندَما تَوَجَّهْتُ إلى الرُّوم".
ومرَّ بكَيْسُوم:
"قُلتُ: وقد رَأيْتُها في طَريقي إلى الرُّوم، وبينها وبين الحَدَث سَبْعَةُ فَرَاسخِ".
وزار مَدِينةَ قَيْصَريَّة:
"وسَمِعْتُ الحَكِيمَ الصَّفِيَّ سُلَيمانَ بن يَعْقُوب بن سَعِيد البَغْدادِيّ بقيصَريَّة من بَلَدِ الرُّوم يقولُ لي
…
".
وأيضًا في كَلامِه على نهرِ جَيْحان؛ ومَنابعِه:
"وشاهَدْتُ مَخرجَهُ من بلَدِ الرُّوم من قَرْيَةٍ يُقالُ لها كِيْز مِيْت، قريبةٍ من مَدِينَةِ أبُلُسْتَين من شرقيّها وقِبليّها، وبينها وبين مَدِينَة أبُلُسْتَين مِقْدَارُ مِيْل، والماءُ يخرجُ من شَقِيْفِ حَجَرٍ إلى أرضٍ بين يدي الشَّقيف، وهي تنبعُ الماءَ جميعها، وعلى الشَّقِيفِ كَنِيْسَةٌ قَدِيْمَةٌ من بناءِ الرُّوم، وقد صُوِّر فيها الجَنَّة، والنَّهْرُ يخرجُ منها، ويأتي النَّهْرُ إلى مَدِينَةِ أبُلُسْتَين، فينقَسمُ قسْمَين، ويُحيطُ بالمَدِينَةِ، فإذا جاوَزها عادَ واجْتَمع، وتلقى إليهِ أنْهار متعَدِّدة منها نَهْرٌ يأتي من بَلْدَةٍ يُقالُ لها الرُّمَّان، شاهدتُها وشاهَدْتُ نَهْرَها، وهو نَهْرٌ كبيرٌ أيضًا".
وفي كلامِهِ على مَنابِع نهر سَيْحَان:
"ومَخرجُه أيضًا من بلادِ الرُّوم، وشاهدتُهُ في قَرْيَةٍ يُقالُ لها بالعَرَبيَّةِ رَأس العَيْن، ويُقالُ لها بالتُّركِيَّة يَانْغِرْ باشِي، ومَعْناهُ: رأسُ الماء".
كُلُّ هذه الإشارات الَّتي أوْرَدَها ابنُ العَدِيْم كانتْ في المجلَّدِ الأوَّل من كتابِه لاتِّصالِها بذِكْرِ المواضِعِ والأماكنِ الَّتي تطرَّقَ لها، ولَم يُشرْ لهذه الرَّحلةِ في بقيَّةِ الأجْزاءِ، ولَم يُعَيِّنْ تاريخَها أو الغَرَضَ منها، لكنه بيَّن في كتابِه المُخْتَصر "زُبْدَة الحلب" الهدفَ من إحْدَى هذه السِّفاراتِ، وهي الَّتي كانتْ في شَوَّال 635 هـ
(1)
:
"وسُيِّرتُ من حَلَب، في الرَّابع من شَوَّال، سَنَة خَمْسٍ وثلاثين وستِّمائة، إلى بلادِ الرُّوم، لعَقْدِ الوُصْلَةِ بين السُّلْطانِ المَلِكِ النَّاصِر، والسُّلْطانِ غِيَاث الدِّين كَيْخُسْرُو، على أُخْتِ السُّلْطانِ كَيْخُسْرُو، وهي ابْنةُ خالةِ الملَكِ العَزِيز، والدِ المَلِكِ النَّاصِر.
وسَمِعَ السُّلْطانُ كَيْخُسْرُو بوصُولي، وكانَ في عَزْم كَيْخُسْرُو التَّوجُّه إلى ناحيةِ قُونية، فتَعوَّقَ بسَبَبي، وسَيَّرَ بولقًا إلى أَقْجا دَرْبَند، قبلَ وصُولي أبلسْتان يَسْتحثُّني على الوصُولِ، يُعَرِّفُني تَعْويقهُ بسَبَبي، ثُمَّ سَيَّر بولقًا آخر، فوَصَل إلي تحتِ سَمَنْدُو يستَحثُّني على الوصُولِ. فأَسْرَعتُ السَّيْر، حتَّى وصَلْتُ إلى قَيْصريَّة، والسُّلْطانُ في الكَيْقُبَاذيَّة، فاسْتَدعاني إليه، ولم أنْزلْ بقَيْصريَّة، واجْتَمعتُ به عندَ وصُولي، يَوْمَ الثُّلاثاء، سَادِسَ عَشرَ شَوَّال، من سَنَةِ خَمْس وثلاثين وسِتِّمائة.
ووَقَعتِ الإجابةُ إلى عَقْدِ العَقْدِ. ووَكَّلَ السُّلْطانُ كَمالَ الدِّين كاميَار، على عَقْدِ العَقْدِ معي، على أُخْتِه مَلكة خَاتُون بنْتِ كَيْقُبَاذ. ودَخَلنا في تلك السَّاعة إلى قيَصَريَّة، وأحْضرَ قاضي البَلْدةِ، والشُّهُودَ، وعَقَدْتُ العَقْدَ مع كَاميَار، على خَمْسينَ ألف دِيْنار
(1)
زبدة الحلب 2: 687 - 688، وانظر عن مصاهرة البدل بينهما: ابن واصل: مفرج الكروب 5: 183 - 185، النويري: نهاية الأرب 37: 105، والمقريزي: السلوك 1/ 2: 272.
سُلْطانيَّة، مثل صدَاق كَيْخُسْرُو، الَّذي كُتِبَ عليه لأُخْتِ السُّلْطان المَلِك النَّاصِر.
وأظْهرَ في ذلكَ اليَوم من التَّجَمُّل، وآلاتِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ما لا يمُكن وَصْفُه، ونُثِرتِ الدَّنانيرُ الوَاصِلةُ صُحْبَتي، وكانتْ ألفَ دِيْنار.
ونُثِرَ في دارِ السُّلْطانِ من الذَّهبِ، والدَّراهِمِ، والثِّيابِ، والسُّكَّر، شيءٌ كثيرٌ. وضُرِبَتِ البَشائِرُ في دارِ السُّلْطانِ، وأظْهرَ من السُّرُور والفَرَحَ ما لا يُوْصَف. وسَيَّرتُ، في الحالِ، بعضَ أصْحابي إلى حَلَبَ، مُبَشِّرًا بذلك كُلِّه، فضُرِبَ البَشائرُ بحَلَب، وأُفِيْضَتِ الخِلَعُ على المُبَشِّر.
وعُدتُ إلى حَلَبَ، فدَخَلْتُها يَومَ الخَمِيس، تاسِع ذي القَعْدَة، والْتَقاني السُّلْطانُ المَلِكُ النَّاصِر، أعَزَّ اللهُ نَصْرَهُ، يَوْمَ وصُولي".
قُدُوم التَّتَار إلى الشَّام:
وَصَلَت جُمُوعُ التَّتَار إلى الشَّام في مَطْلعِ عام 658 هـ، وكان نُزُولهُم على حَلَب في الثَّاني من صَفَر من تلك السَّنَةِ، ووَقَع الاسْتيلاءُ عليها فِى التّاسِع منه
(1)
، فكُتِبَ الجلَاءُ على أهْلِها، وهَرَبَ كثيرٌ منهم وتفرَّقوا في النَّواحي، وبيع بعضُهم فِي جَزائِر الفِرِنج وبلادِ الأرْمَن، ولَم يَسْلَمْ ممَّن كانَ بحَلَبَ إلَّا مَن دَخَلَ البُيوتَ الَّتي كان مع أهْلِها فَرَاماناتٌ من هولَاكُو
(2)
، وكان ممَّن هَرَبَ عن حَلَب: صاحبُها المَلِكُ النَّاصِرُ الّذي رَحَل إلى غَزَّة والعَريْش
(3)
، وتوجَّه بعضُ مَن سَلمَ إلى مِصْر،
(1)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 350، بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المالك) 1: 229 - 230، تاريخ ابن الوردي 2: 292، النويري: نهاية الأرب 37: 387.
(2)
النويري: نهاية الأرب 27: 387، تاريخ ابن الوردي 2: 292 - 293.
(3)
العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 232، تاريخ ابن الوردي 2: 292، المقريزي: السلوك 1/ 2: 423.
مثل كَمال الدِّين بن العَديْم ووَلده مَجْد الدِّين
(1)
، وقُتِلَ من أُسْرةِ بني العَدِيْم بعضُ أعْيانِها منهم: مُحمَّد بن يَحْيَى بن مُحمَّد بن أبي جَرادَة، ابن العَدِيْم
(2)
.
وبعدَ أن تَصَدَّت العَساكِرُ المِصْريَّةُ بقيادة المَلِك المُظَفَّر قُطُز لجُموعِ التَّتَارِ، وهَزيمةِ هُولاكُو في مَعْركةِ عَيْن جالُوت (25 رَمَضان 658 هـ) وجَلاءِ المَغُولِ عن بلاِد الشَّام، عادَ ابنُ العَدِيْم إلى حَلَب ليَرَى ما حلَّ بها من التَّدْميِر والخَرَابِ، وَتشْريدِ أهْلِها، وقَتْل أعْيانِها، فقالَ في ذلك قَصِيْدَةً طويلةً، منها
(3)
:
وعن حَلَب ما شِئْتَ قُلْ من عَجائِب
…
أحَلّ بها يا صَاح إنْ كُنْت تَعْلَمُ
فيَا لكَ من يَوْمٍ شَدِيدٍ لغامُهُ
…
وقد أصْبَحتْ فيه المسَاجد تُهْدَمُ
وقد دُرِسَت تلك المُدارِسُ وارتَمَتْ
…
مَصاحفُها فوق الثّرى وهي تُهْضمُ
فلم يُطِقِ المقام بها، وكَرَّ رَاجِعًا نحو مِصْر، شَيْخًا نافَ على السَّبْعينِ من عُمرِه، وعاشَ بمِصْر الأشْهُرَ الأخيرةَ من حَياتِه.
وفي أبياتٍ أرْسَلها ابنْ العديْم إلى ابْنه عَبْد الرَّحمن، يَشْرَحُ فيها حالَهُ وقد أتْعَبهُ السَّفَرُ والتَّرْحالُ، لَم نَقفْ على مُناسَبةِ نَظْمها، ونُقَدِّرُ أنَّ تَوْقيتَها في أعْقابِ تَدْميرِ حَلَب، وبعدَ ارْتِحاله الأخير إلى مِصْر، اسْتِمدادًا من نَفَسِ الأبْياتِ، وشُعُوِر قائِلها بالضِّيْقِ والغُرْبةِ، يَقُولُ فيها
(4)
:
هذا كتَابي إلى مَنْ غابَ عن نَظَري
…
وشَخْصهُ في سَوَاد القَلْبِ والبَصَرِ
ولا يمنُّ بطَيْفٍ منه يَطْرقُني
…
عندَ المَنامِ ويأتِيْني على قَدَر
ولا كتابٌ له يَأتي فأسْمَعُ من
…
أنْبائه عنهُ فيه أطْيَبَ الخَبَرِ
(1)
الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 271، 273.
(2)
الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 277، 281.
(3)
أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 3: 215، بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 340
(4)
فوات الوفيات 3: 129 الزركشي: عقود الجمان 238 أ.
حتَّى الشّمالُ الَّتي تَسْري على حَلَب
…
ضَنَّت عليَّ فلم تخْطرْ ولَم تَسِر
أَخُصَّهُ بتَحيَّاتي وأُخبرُهُ
…
أنِّي سَئمتُ من التَّرْحالِ والسَّفَر
أَبِيْتُ أرْعَى نُجُومَ اللَّيل مُكْتئبًا
…
مُفكرًا في الَّذي ألْقى إلى السَّحَر
وليسَ لي أربٌ في غير رُؤْيَته
…
وذاكَ عنديَ أقْصَى السُّولِ والوَطَرِ
أُسْرَة بَني العَدِيْم، شِيْعةٌ أم من أهْلِ السُّنَّة:
لَم أشَأ أنْ أُضَمِّنَ هذه المُقَدِّمة ذكْر شيءٍ عن مَذْهب الأُسْرةِ، لشُيُوع ذلك في المَصَادر، وغَلَبَةِ الحَنَفيَّةِ عليهم، لولا ما وَجَدتُه في كتابِ أعْيَان الشِّيْعَةِ من إصْرَارٍ على نِسْبَتهِم إلى الشَّيْعةِ، وكتاب أعْيان الشّيْعة كتابٌ مَعْروفٌ في فَنّ التَّراجم، صنَّفه السَّيِّدُ مُحْسن الأمين، غيرَ أنَّهُ أدْخَلَ فيه الكثيرَ من أعْلَام أهْلِ السُّنَّة؛ حَشَرَهُم ونَسَبَهم إلى الشِّيْعةِ على خلَافِ شَرْط الكتاب، من هؤلاءِ أُسْرَةُ بَني العَدِيْم الَّذين تَرْجَم لهم ونَبَّه في كُلِّ موضِعٍ على أنَّهم شِيْعة
(1)
، وإذا ما غَفَلَ عن أحَدِهم ونَسَبهُ إلى أهْلِ السُّنَّة نَبَّه عليه مُحَقِّقُ الكتاب (حَسَن الأمين) في الهامش
(2)
.
اتَّكَأَ الأمينُ في تَعْميم التَّشَيُّعِ على أُسْرةِ بني العَدِيْم للرِّوَاية الَّتي أَوْردَها السَّمْعاني في تَرْجَمتِه لشَيْخِه الَّذي سَمِعَ عليه كتاب المُوطَّأ وغيره: عليّ بن عَبْد الله
(1)
أعيان الشيعة 2: 217، 3: 144، 200، 206، 438.
(2)
مثاله ما وقع في ترجمة كمال الدِّين بن العديم، فإن صاحب أعيان الشّيعة ذكَر أنَّ والد الكمال عُزِلَ عن منصب قاضي القضاة لا لشيء إلا لأنه "حنفيّ المذهب"، فعلق المحقق في الهامش:"هو شيعيّ لا حنفيّ، وبنو العديم بيت من الشِّيعة معروفُ، لذلك لنا أنْ نقول أنَّ عزله كان لتشيّعه (ح) ". انظر: أعيان الشيعة 8: 377.
وما قاله ابن العديم عن هذه الحادثة، في ترجمته لوالده في الجزء الثالث من كتاب البغية، وأيضًا ممَّا أثبته ياقوت في معجمه: أنَّ عمه - أخو والده الأصغر أبو المعالي عبد الصمد - كان قد صرف عن الخطابة، فعَلِمَ والده أنَّ الأمرَ يؤول إلى عزله هو أيضًا عن القضاء لأنَّ الدَّولة شافعيَّة، فاستبق هو بطلب التخلية من المنصب، "فاستأذن في الحج والإعفاء عن القضاء فصرف عن ذلك بعد مراجعات".
انظر: ياقوت: معجم الأدباء 5: 2082.
ابن مُحمَّد بن عَبْد الباقِي بن أبي جَرادَة، المُلقَّب بالأنْطاكِيّ لسُكْناه بمَحَلَّة باب أنْطاكِيَة من حَلَب (ت 551 هـ)، قال السَّمْعانيّ
(1)
: "وخَرَجْتُ يومًا من عنده، فرآني بعضُ الصَّالحين، فقال لي: أين كُنتَ؟ قلت: عندَ أبي الحَسَن بن أبي جَرادَة، وقرأتُ عليه شَيئًا من الحَديثِ، فأنْكَرَ عليَّ، وقال: ذاكَ يُقْرَأ عليه الحَدِيث!؟ قُلْتُ: لِمَ، وهل هو إلَّا مُتَشَيِّعٌ يَرَى رأيَ الحَلبيِّينَ؟ فقال: ليْتَ اقتصَرَ على هذا، بل يَقُولُ بالنُّجُومِ، ويَرَى رأيَ الأوَائِل منَ المُتَفَلسفين. وسَمعتُ بعض أهْلِ حلَب أيضًا بدمَشْقَ يَتَّهمهُ بمثل هذا".
وإنَّ صَحَّ ما رُمِيَ به عليّ بن عَبْد الله من التَّشيُّع، فهو ممَّن أخْرَجَه من التَّعميمِ الخصُوصُ؛ إذ لَم أَقفْ على مَن ذَكَرَ أو أشارَ إلى تَشيُّع أحدٍ من أُسْرِة بَني العَدِيْم، إلَّا ما وَرَدَ عن جَدِّهم الأعْلَى عامر بن رَبِيعَة المُكنَّى بأبي جَرادَة، وأنَّه كان صَاحبًا للإمام عليّ بن أبي طالب
(2)
.
وتَتَبَّعتُ تَراجمَ أجْدَادِ الكَمَال ابن العَدِيْم فلم أجِدْ مَن خَرَج منهم عن المَذْهَب أو انْتَقَلَ إلى غيره، فعَبْدُ الصَّمَد بن زُهَيْر بن هارُون (ت 402 هـ)"كان قيِّمًا بمَذْهب أبي حَنِيْفة"
(3)
، وجَدُّ جَدِّ والدِ كَمال الدِّين، واسْمُه: أحمد بن يَحْيَى بن زُهَيْر بن هارُون (ت نحو 529 هـ) كان حَنَفيًا، وصَنَّف كتابًا ذَكَرَ فيه الخِلَافَ بين أبي حنِيْفة وأصْحابِه وما تفرَّدَ به عنهم
(4)
.
ونَجِدُ ياقُوت بعد أنْ ساقَ تَسْميَة خَمْسةٍ من آباءِ ابن العَدِيْم يقُولُ: "كُلُّ هؤلاءِ من آبائه وَلِيَ قَضاءَ حَلَب وأعْماَلها؛ وهم حَنَفيُّون"
(5)
، ومِثْله قَوْل ابن الشَّعَّار المَوصِليّ: "وبَيْتُ أبي جَرادَة كُلُّه أُدَباء فُضَلاء
…
وهم على مَذْهَبِ أبي حَنِيْفَة رضي الله عنه"
(6)
.
(1)
المنتخب من معجم شيوخ السمعاني 2: 1239 ونقله عنه، ياقوت في معجم الأدباء 4:1792.
(2)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2068، القرشي: الجواهر المضية 2: 634.
(3)
القرشي: الجواهر المضية 2: 426 نقلًا عن ابن العديم من آجزاء بغية الطلب الضائعة.
(4)
القرشي: الجواهر المضية 1: 350 - 351 ونقله ابن قطلوبغا: تاج التراجم 58، وأعيان الشيعة 3:206.
(5)
معجم الأدباء 5: 2082.
(6)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 233.
وكذا القُرَشيّ الَّذي سَلَكهم جَميعًا في طَبَقات الحَنَفِيَّة، وقال في تَرْجَمته:"وأجْدَادُه وأوْلادُه وأهْلُ بَيْتهِم عُلَماءُ حَنَفِيَّة"
(1)
، ومثْلُه فعل تِلْوه الغَزّيّ (ت 1005 هـ) في كتابه الطَّبَقات السَّنِيَّة في تَرَاجم الحَنَفِيَّة، وعادةً ما يُشارُ إلى ابن العَدِيْم بالفَقيه الحَنَفيّ كما هو عند ابن الشَّعَّار
(2)
، وأبي شَامَة
(3)
، وشَرَف الدّين الدِّمياطيّ
(4)
، والقُرَشيّ
(5)
، وابن حَبيب الحَلَبيّ
(6)
، والمَقْريزيّ
(7)
، وابن الشِّحْنَة
(8)
، و"انْتَهَتْ إليه رئاسَة أصْحاب أبي حَنِيْفة"
(9)
، وأخيرًا ما قَيَّدَهُ ابنُ سَعِيدٍ بخَطّه على نُسْخة كتابِ المُغْرِب المُهْدَاةِ لخِزَانَة ابن العَدِيْم:"صَدْرُ الصُّدورِ الشَّاميَّةِ، رَئيسُ الأئمَّةِ الحَنَفِيَّة"
(10)
.
وليس أدلَّ ولا أوْضَح من كلام ابن العَدِيْم نَفْسه، في التَّرْجَمَة التي صَنَعها لياقُوت الحَمَويِّ، عن أحَد أفراد أُسْرته، وهو وَالدُ جَدِّه القَاضِي أبو غَانم مُحمَّد بن أبي الفَضْل هبة الله بن أحمد (ت 534 هـ)، وأنَّه "كان حَنَفيَّ المَذْهب، وكان يَؤمُّ بالنَّاس ثلاثينَ سَنَةً وهو مُتَكتِّفُ تحت ثيابه ويُسْبلُ أكْمامَه فارغةً خَوفًا من الوُلاةِ في أيامه لأنَّهم كانوا إسْماعِيْليَّة يَرَونَ رأيَ المصريين"
(11)
.
بل يَظْهر أنَّ لدَي ابن العديم مَيْلًا وتَعَصُّبًا لحَنَفيّته، يُسْتَحْلَبُ ذلك من إقْناعِهِ لأحد المالكيَّة في التَّحوُّلِ إلى مَذْهَب أبي حَنِيْفَة، حَسْبما ذَكَرَ ذلك اليُونِيْنيّ ونَقَلَهُ عنه الذَّهَبيّ وابن شاكر الكُتبيّ والصَّفَديّ في تَرْجَمَة مُحمَّد بن سَعِيْد بن مُحمَّد بن الجنَّان الشَّاطِبيّ (ت 675 هـ)، والَّذي تقدَّمَ ذِكْرُهُ في أصْحابِ ابن العَدِيْم
(1)
القرشي: الجواهر المُضية 2: 635.
(2)
قلائد الجمان 4: 41، 7: 233، 235، 246، 272.
(3)
الذيل على الروضتين 331.
(4)
معجم شيوخ الدمياطي 2: 117 ب.
(5)
الجواهر المُضية 2: 635.
(6)
درة الأسلاك ورقة 15 ب.
(7)
المقفي الكبير 8: 725، والسلوك، 1/ 2:476.
(8)
الدر المنتخب 7.
(9)
أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 3: 215 تاريخ ابن الوردي 2: 308.
(10)
المغرب لابن سعيد قسم مصر 1: 147.
(11)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2079.
ومُدَّاحه، قال اليُونِيْنيِّ ومَنْ نَقَل عنه:"صَحِبَ. أي ابن الجَنَّان - كَمالَ الدِّين بن العَدِيْم ووَلدَهُ، فاجْتَذَباهُ بإحْسانِهما، ونَقَلاهُ من مَذْهب مَالِكٍ إلى مَذْهب أبي حَنِيْفَة"
(1)
.
وتُوجَد إشارةٌ إلى مَذْهبِه في أبْيات كَتَبها له الحَسَنُ بن زَمَّام الحَدِيْثيّ المعَرِّيّ، أوْرَدَها ابنُ العَديم في ترجمته (الجزء الخامس)، يقُولُ ابنُ زمَّام:[من الخفيف]
أيُّها السَّيِّدُ الإمّام فُلَان الـ
…
ـدِّيْن يا ذَا الإنْعَاِم والإحْسَانِ
والّذي أيَّد الإلَهُ بهِ مَذْ
…
هَبَ فَخْرِ الأئَّمة النُّعْمانِ
وأخيرًا فيَردُ أنَّ ابن كَمال الدِّين وهو القاضي أبو المَجْد مَجْد الدِّين عَبْد الرَّحمن (ت 677 هـ) تولَّى الخطابة بجامِع القَاهرةِ الكبير (جامعِ الحاكم أو الجامع الأنْوَر)، وكان أوَّل حَنَفيٍّ وَلِي ذلك
(2)
، وانْتَهَتْ إليه رئاسةُ الحَنَفِيَّةِ في وَقْته
(3)
.
وإذا تقرَّرَ هذا؛ فإنَّ ابنَ العَدِيْم وأُسْرَتَهُ حَنَفِيَّةُ، ولا يُعْتدُّ بما أَوْرَدهُ صاحبُ كتابِ أعيانِ الشِّيْعةِ من نسْبَته إلى مَذْهبِ الشِّيعَة.
مُؤلَّفاتُه:
تَرَكَ ابنُ العَدِيْم تُراثًا غنيًّا من المُؤلَّفات، صَنَّفَ أغْلبَهُ في سنٍّ مُبَكِّرة؛ كانت سِنُّه نحو اثْنَتين وعشْرين سَنَة، فخَمْسَةُ من كُتُبِه التَّالية ذَكَرَها ياقُوت
(1)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3: 197 تاريخ الإسلام 15: 295، وفوات الوفيات 3: 263 والوافي بالوفيات 1: 175.
(2)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3: 307، الوافي بالوفيات 18: 202 المقفي الكبير 4: 90، السيوطي: حسن المحاضرة 1: 466.
(3)
المقريزي: المقفي الكبير 4: 89.
الحَمَويُّ، وهي: الدَّرَاري، وضَوْء الصَّبَاح، والأخْبار المُسْتَفادَة، وكتاب الخَطّ، وتاريْخ حَلَب، وكانت وَفاةُ ياقُوت سَنَة 626 هـ،، فيَكُونُ تأْليفُها قد وقَعَ قَبْلَ هذا التَّاريخ. وهذه جُمْلةُ ما عُرفَ من كُتُبه:
- كتابُ الدَّرَاري في ذِكْر الذَّرارِي: وهو كتابُ صَغيُر الحَجْم، رَتَّبه على ثلاثةَ عشرَ بابًا، جمع فيه ما يتعلَّقُ بالأبْناءِ من حكاياتٍ ونَوادرَ ومُلَحٍ، ومَدْحٍ وذَمٍّ، صَنَّفَهُ للمَلِكِ الظَّاهِر غازي وأهْدَاه إيَّاه في يَوْم وُلد ابْنه المَلِك العَزِيز سَنَة 610 هـ
(1)
، وكانت سنُّ ابن العَدِيْم وَقْتها اثْنتَين وعشرين سَنَة.
كتابُ ضَوْءِ الصَّبَاح في الحَثِّ على السَّمَاح: صَنَّفَهُ للمَلِك الأشْرَفِ مُظَفَّر الدّين مُوسَى ابن المَلِك العادِل
(2)
، وهو كتابٌ ضَائعٌ، لَم نَقِفْ على تَفْصِيل مُحْتواه ومَضْمونه إلَّا ما يُفْهمُ من عُنوانِه.
- الأخْبارُ المُسْتَفادَة في ذِكْرِ بَني أبي جَرَادة: ألَّفَهُ بناءً على طَلَبٍ من ياقُوت الحَمَويّ، قال ياقُوت: "أنا سَألتُه فَجَمَعَهُ لي، وكَتَبَهُ في نحو أُسْبوعٍ، وهو عَشرةُ
(1)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2086، ابن شاكر: فوات الوفيات 3: 127، ابن الفوطي: مجمع الألقاب 4: 211، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 423، الزركشي: عقود الجمان ورقة 238 أ، المقريزي: المقفي الكبير 8: 725، وهدية العارفين 1: 787، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6) 442، كحالة: معجم المؤلفين 7: 276، الزركلي: الأعلام 5: 40.
وتوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة نور عثمانية برقم 3790، وصورة عنها بمعهد المخطوطات العربية برقم في 944. انظر: فهرس المخطوطات المصورة بمعهد المخطوطات العربية، إعداد لطفى عبد البديع، 2:128.
وطبع الكتاب مرتين: مطبعة الجوائب بالأستانة 1398 هـ، وطبعة ثانية بتحقيق علاء عبد الوهاب محمد، اخترع المحقق لها عنوانًا ليس من وضع المؤلف:"كتاب تذكرة الآباء وتسلية الأبناء المسمى بالدراري في ذكر الذراري"، دار السلام، 1984 م.
(2)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2086، ابن شاكر: فوات الوفيات 3: 127، ابن الفوطي: مجمع الألقاب 4: 211، وفيه:"ضوء الصبح"، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 423، الزركشي: عقود الجمان ورقة 238 أ، وفيه:"ضوء المصباح"، المقريزي: المقفي الكبير 8: 725، حاجي خليفة: كشف الظنون 2: 1090، والبغدادي: هدية العارفين 1: 787 وسماه كلاهما (حاجي خليفة والبغدادي): "ضوء المصباح في
…
".
كَراريس"، تضمَّنَ التَّعريفَ بأُسْرتِه وأعْيانِها مُنذ أنْ كانوا يُقيْمُونَ بالبَصْرَة، ثُمَّ ارْتِحال مُوسَى، بن عِيْسَى بن عَبْد الله بن أبي جَرادَة إلى حَلَب في تِجارةٍ له وإيِطانِه إيَّاها
(1)
، وسمَّاهُ ابنُ الشَّعَّار المُوصِلّي:"الكَلِم المُسْتَفادَة في أخْبار بَني أبي جَرادَة"، ضَمَّنَهُ أخْبارَ أهْلِه ومَناقبهم، وما يُسْتَحسنُ من أشْعارِهم وفَضائِلهم
(2)
، وانْتَخَبَ ياقُوت من هذا الكتاب مَقاطِيعَ عدَّة عند تَرْجَمتِه لمُؤِلّفِه في مُعْجم الأُدَباءِ، وكانت نُسْخةُ من هذا الكتاب عندَ القُرَشيّ ونَقَلَ عنه نُصُوصًا أُخْرَى لم يُوْردْها ياقُوت، وسمَّاه: الأخْبار المُسْتَفادَة في مَناقِب بني جَرادَة
(3)
.
كتابٌ في الخَطِّ وعُلُومه، ووَصْفِ آدابِه، وأقْلَامه، وطُرُوسه، وما جاءَ فيه من الحَدِيثِ والحِكَم: هكذا ذَكَرهُ، ياقُوت، ولعلَّه عَرْضُ لمادَّتِه لا كَوْنه عُنْوانًا له، فإنَّهُ عَقَّبَ بعد ذلك بالقول:"وهو إلى وَقْتي هذا لَم يَتمّ"
(4)
.
- كتابُ الإنْصافِ والتَّحَرِّي، في دَفْعِ الظُّلْمِ والتَّجَرِّي عن أبي العَلَاء المَعَرِّيّ: أَشارَ إليه ابنُ العَدِيْم في كتابِه بُغْيَة الطَّلَب، وأحالَ عليه في أثْناءِ تَرْجَمَة أبي العَلَاء المَعَرِّيّ (الجزء الثَّاني)، قال: "وقد أفْرَدْتُ كِتَابًا جَامِعًا في ذِكْره، وشَرَحْتُ فيه أحْوَاله، وتبيَّنتُ وَجْه الصَّوَابِ في أَمْره، وَسَمْتُه بدَفْعِ الظُّلْم
(1)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2069، 2086، وانظر: ابن شاكر: فوات الوفيات 3: 127، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 423 الزرکشي: عقود الجمان ورقة 238 أ، المقريزي: المقفي الكبير 8: 726، وفيه:"في ذكر بني جرادة"، حاجي خليفة: كشف الظنون 1: 30 البغدادي: هدية العارفين 1: 787 وفيه: في ذكر بني جرادة، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6) 439، کحالة: معجم المؤلفين 7: 276، الزركلي: الأعلام 5: 40.
(2)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 233.
(3)
القرشي: الجواهر المضية 1: 225.
(4)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2086، ونقله عنه: ابن شاكر: فوات الوفيات 3: 127، وابن الفوطي: مجمع الألقاب 4: 211، والصفدي: الوافي بالوفيات 22: 423، الزرکشي: عقود الجمان ورقة 238 أ، والمقريزي: المقفي الكبير 8: 726، هدية العارفين 1: 787 وسماه کتاب الخط وآدابه ووصف طروسه وأقلامه، كحالة: معجم المؤلفين 7: 276.
والتَّجَرِّي عن أبي العَلَاء المَعَرِّيّ، فَمن أرادَ مَعْرفَة حَقِيْقَة حَالهِ فليَنْظُر في ذلك الكتاب؛ فإنَّ فيه غُنْيَة في بَيان أمْره، وتَحْقيق صِحَّة اعْتقاده، وعُلُوّ قَدْره إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى".
ومَوْضُوعه - كما يُشير عُنْوانه - الدِّفاع عن أبي العَلاء المَعَرِّيّ ضدَّ مَن حَمَلهم الحَسَدُ على الغَضِّ منه ورَمْيه بالإلْحاد ونِسْبته إلى المُعَطِّلة، "حتَّى حَكوا كُفْرهُ بالأسَانيد، وشَدَّدوا في ذلك غاية التَّشْديد، وكَفَّرهُ مَن جاءَ بعدَهُم بالتَّقليْد، فابْتَدَرْتُ دُونه مُناضِلًا، وانْتَصَبْتُ عنه مُجادلًا، وانْتَدَبْتُ لمُحاسِنه نَاقِلًا
…
"
(1)
، ورجَّح الدكتور سامي الدَّهَّان أنَّ زَمَنَ تأليفه في حُدود سَنَة 640 هـ، لتَقْييدِه وَفاة شَيْخه أحْمد بن شَاكِر المَعَرِّيّ في سَنَة 638 هـ
(2)
، والكتابُ مَطْبوعُ مُتَداول
(3)
.
- كتابُ التَّذْكِرَةِ، أو: تَذْكرة ابن العَدِيْم: وَصَلنا منه قِسْمٌ في نُسْخةٍ فَريدةٍ،
(1)
الإنصاف والتحري (ضمن كتاب إعلام النبلاء للطباخ) 4: 80 - 81.
(2)
الدهان: حياة ابن العديم 45، وانظر الإنصاف والتحري (ضمن إعلام النبلاء) 4:90.
(3)
ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات 3: 127 وسماه: "دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري"، ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار 15: 432 الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 423 وفيه: "دفع التَّجَرِّي على أبي العلاء المعري"، الزرکشي: عقود الجمان ورقة 238 أ، وفيه:"دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري"، تاريخ ابن الوردي 1: 542، وفيه:"العدل والتحري، في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري"، المقريزي: المقفي الكبير 8: 726 وفيه: "دفع التحري عن أبي العلاء المعري"، البغدادي: هدية العارفين 1: 787 وفيه: "رفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري"، محمد كرد علي: تأليف ابن العديم، مجلة المجمع العلمي العربي، مج 16، ج 2 - 2، (1941 م) 146، بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6) 442، کحالة: معجم المؤلفين 7: 276، الزركلي: الأعلام 5: 40، وانظر العرض الواسع لمادة الكتاب والتعريف به ضمن كتاب: أبو العلاء المعري "دفاع المؤرخ ابن العديم عنه".
وذكر الدهان أنه حقق الكتاب وأنه سيمثل للطبع قريبًا، ذكر ذلك في كتابه حياه ابن العديم (ص 46) الذي طبع سنة 1951 م، وكانت وفاة الدهان سنة 1971 م ولمَّا يطبع الكتاب بتحقيقه!. ونشر الكتاب "ضمن کتاب "تعريف القدماء بأبي العلاء"، (منشورات لجنة التأليف والنشر والترجمة، القاهرة)، وضمن كتاب إعلام النبلاء للطباخ 4: 79 - 146 ونشر مُستقلًا بتحقيق عبد العزيز حرفوش (دار الجولان 2007 م).
مُخْتلفةِ الخطُوط، بعضُها بخَطِّ المُؤلِّف، وهو يَشْتَملُ على حِكَم ومَواعِظَ وأخْبار وحِكَايات أدَبيَّة وتاريخيَّة، ومَقْطُوعاتٍ أدبيَّة؛ مَنْظومةٍ ومَنْثُورةٍ، وبعضُ مادَّتِه ممَّا أوْرَدَهُ في كتابِ بُغْيَةِ الطَّلَب. وكان أوَّلَ من أشارَ إلى هذا الكتابِ ونَّوه بقِيْمتِه مُحمَّد كُرد عليّ وحَبيب زيَّات
(1)
، وذكَرَهُ أيضًا الدكتور الدَّهَّان في أثْناءِ اسْتِعراضِه لمُؤلَّفات ابن العَدِيْم، "وأنَّه يَعْكفُ على تَحْقيقهِ وسيَطْبَعُ قَريبًا"، ولم يَنْشرْهُ الدَّهَّان! وطُبِعَ الكتاب مُؤخَّرًا باعتناءِ آخر غيره
(2)
.
- كتابُ الوُصْلَة إلى الحبَيبِ في وَصْف الطَّيِّبات والطِّيْب: يَشْتَملُ على مَوضُوعاتٍ تتعلَّق بالأغْذيَةِ والأطْعِمةِ والمآكِل والمَشَارب والأدْوِيَةِ والعلاجات وعَمَلها، وأنْواعِ الطِّيْبِ وكَيْفيَّة إعْدَادِه، والكتابُ مَطْبوعٌ مُتداولٌ، نُشِرَ في مُجلَّدين؛ خُصِّصَ الأوَّلُ منهما لدراسةِ تاريخ الأطْعِمةِ عندَ العَرَب، واشْتَملَ الثّاني على نَصِّ كتابِ الوُصْلَة
(3)
.
- کتابُ تَبْريِد حَرَارة الأكْبَاد، في الصَّبْر على فَقْد الأوْلَاد: وهو كتابٌ مَفْقُودٌ لَم يَصِلنا، وَرَدَ ذِكْرُه في العَديِد من المَصادر مَنْسُوبًا لابنِ العَدِيْم دونَ تَفْصِيلٍ لمُحَتواه
(4)
، ومُؤدَّى عُنْوانه أنَّهُ يَتناولُ التَّسْلِيةَ وإفْرَاغَ الصَّبْرِ والتَّعزيَةِ عندَ فَقْدِ أحدِ
(1)
محمد كرد علي: تآليف ابن العديم، مجلة المجمع العلمي العربي، مج 16، ج 2 - 2، (1941 م) 147 - 149، حبيب الزيات: دفائن الخزائن "تذكرة ابن العديم"، مجلة المشرق، ع 41، 1947 م، 488 - 500، بروکلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6) 442، الزركلي: الأعلام 5: 40.
(2)
حياة ابن العديم 46، "وطُبع الكتاب مصورًا عن مخطوطة دار الكتب المصرية برقم 2042 أدب، ضمن النشرات التي أصدرها سزكين (معهد تاريخ العلوم - فرانکفورت، 1992 م). وطبع أيضًا بتحقيق إبراهيم صالح، أبو ظبي: دار الكتب الوطنية، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2011 م.
(3)
ذکره حاجي خليفة بالعنوان نفسه ولم ينسبه لأحد، کشف الظنون 2: 2014، البغدادي: هدية العارفين 1: 787، بروکلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6) 442، الزركلي: الأعلام 5: 40، وفيه:"وصف الطيب؛ رسالة"! ولعله كتاب آخر غيره.
وطبع الكتاب في معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب سنة 1986 م بتحقيق سليمى محجوب ودرية الخطيب.
(4)
فوات الوفيات 3: 127 الزركشي: عقود الجمان ورقة 238 أ، کشف الظنون 1: 337، هدية العارفين 1:787.
الأبْناء، ولعلَّه اسْتَلْهَم مادَّتَهُ ممَّا وَقَعَ لأبيهِ في فَقْدِ ابْنه الوَحيدِ، وكان قَبْلَ ابْنِه عُمَر، وعُمَر تِلْوُهُ، رُزِقَهُ بعد أنَّ تقدَّمَتْ سِنُّه، عَقِب مَواليدَ كُلّهنَّ إناث، فُتوفِّي الطِّفلُ وعُمْره خَمْسُ سنين، وبَلَغَ اليأسُ والاكْتِئابُ من أبيه مَبْلَغه، بحيثُ هَمَّ باسْتِخراجِ شِلْو الطِّفل من القَبْر، وحاولَ ذلك، فاعْتَرضَتْهُ حَجَرةٌ على القَبِر ثَنَتْ عَزْمَهُ.
- بُغْيَةُ الطَّلَبِ في تاريخ حَلَب: وهو الكتابُ الَّذي تَنْشرُه، ويأتي التَّعريفُ به مُسْتقلًّا فيما بَعْدُ.
- زُبْدَةُ الحَلْبِ من تاريخ حَلَب: وهو مُنْتَزَعُ ومُخْتَصرُ من كتابهِ السَّابقِ بُغْيَةِ الطَّلَب، مُرتَّبُ على السِّنين، ويُشارُ له في بعض المصادر بالتَّاريخ الصَّغير
(1)
، تَمْييزًا له عن البُغْيَةِ، وسمَّاه ابنُ الشَّعَّار المَوصِليّ:"زُبْدَة الحَلْب في ذِكْرِ وُلاةِ حَلَب، اقْتَصَرَ فيه على المُلُوكِ الَّذين مَلَكُوها"
(2)
، فهو من نَمَطِ التَّاريخ السِّياسيّ لحَلَب
(3)
.
- الإشْعَارُ بما للمُلُوك من النَّوادر والأَشْعار: ذَكَرهُ الصَّفَديُّ والمُقْريزيُّ ضمن مُؤلَّفاتِ ابن العَدِيْم
(4)
، ومثل ذلك ما ذَكَره ابنُ السَّابق الحَمَويّ في تَرْجَمته له الآتي نَصُّها، ونَقَلَ ابنُ شَاكِر الكُتْبيِّ عن هذا الكتاب في مَوْضعين؛ نَسَبهُ في النَّقْل الأوَّل للقَاشِيّ،
(5)
، ولعلَّه أحمد بن عليّ بن بَابَه القَاشِيّ (ت 510 هـ) صاحب كتابِ رَأسِ مالِ النَّديم، والصَّفدَيّ ذَكَره ضمنَ مُؤلَّفات ابن العَدِيْم، ثُمَّ نَقَلَ عنه في كتابِه الوافي بالوَفياتِ ثلاثةَ نُصُوصٍ دُونَ أنْ يَنْسبه إليه: "قال صَاحِبُ كتاب الإشْعَار بما للمُلُوك من النَّوَادِر والأشْعَار
…
"
(6)
.
(1)
مثل ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 134، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7: 89، وانظر: البغدادي: هدية العارفين 1: 787 وفيه: زبدة الحلب المنتخب من بغية الطلب، کشف الظنون 1: 249، بروکلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6) 441، الزركلي: الأعلام 5: 40.
وطبع الكتاب مرتين، الأولى بتحقيق الدكتور سامي الدهان ونشره المعهد الفرنسي في دمشق سنة 1951 م في ثلاثة مجلدات، وطبعة أخرى تقع في مجلدين بتحقيق سهيل زکار، بيروت: دار الكتاب، 1997 م.
(2)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 233.
(3)
روزنثال: علم التأريخ 214.
(4)
الوافي بالوفيات 22:423، المقريزي: المقفى الكبير 8: 726.
(5)
فوات الوفيات 1: 319، 4:257.
(6)
الوافي بالوفيات 1: 195، 11: 375، 15:18.
- مُرَادُ المُرَادِ، ومَوادّ المَوَادّ: ذَكَرهُ الشَّيخُ مُحمَّد العُرْضِيّ (من أهْل القَرْن الحادي عشر الهِجْريّ) في مَجمُوعتِه المَخْطُوطَةِ حَسْبما نَقَلَ عنه الطَّبَّاخُ
(1)
، ولم نَقِفْ على ذِكْرٍ للكتابِ فيما عَدَاهُ.
- أرْبَعةٌ وخَمْسُون بَيْتًا في مَدْح السَّيِّدةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: ذَكَره بروكلمان، ونُسْختُه مَحفوظةُ في مَكْتبة برلين برقَم 7760/ 2
(2)
.
- مَرْثيَةٌ يَنْدُبُ فيها سُقُوط حَلَب: ذَكَرها بروكلمان وعدَّها عَمَلًا مُسْتَقلًّا
(3)
، وهي قَصِيْدَةٌ مِيْميَّةٌ طَويلةٌ، حَفِظتْ لنا بعضُ المَصَادرِ أبياتًا منها.
- بُلُوغ الآمَال ممَّا حَوَى الكَمَال: يَشْتَملُ على مَجْمُوعةٍ من القَصَائِد والمُخَمَّسَاتِ في أغْراضٍ مُتَنوِّعةٍ مُرَتَّبة على حُروفِ الهِجَاء، وتُوجدُ نُسْخةُ منه بمَكْتبةِ البَلَديَّةِ في الإسْكَندريَّة برقم 3611 جـ (الأدَب)، وهذه النَّسْخَةُ تقَعُ في مُجلَّدٍ واحدٍ، وَقَعَ الفَراغُ من نُسْخِها سَنَة 973 هـ
(4)
.
- مِنْهاجُ في الأُصُولِ والفُرُوعِ على مَذْهَبِ أبي حَنِيْفة: انْفَرَدَ البَغْداديُّ بذِكْره ضمن مُؤلَّفاتِ ابن العَدِيْم
(5)
.
المُنْتَقَى من تاريخ نَيْسابُور للحَاكِم: كَتَبَهُ ابنُ العَدِيم بخَطّهِ، ونَقَلَ عنه في هذا الكتاب سِبْطُ ابن العَجَميّ الحلبي (ت 884 هـ)
(6)
.
(1)
إعلام النبلاء 4: 459.
(2)
بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6)442.
(3)
بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6)442.
(4)
فهرس بعض المخطوطات العربية المودعة بمكتبة بلدية الإسكندرية، إعداد محمد البشير الشندي 1: 102 - 103 (القاهرة: المطبعة المصرية، 1954 م)، وانظر أيضًا: بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6) 442، قال:"مجموعة من القصائد والموشحات [كذا] "، وأن الموجود منها بالإسكندرية مختصر.
(5)
البغدادي: هدية العارفين 1: 787.
(6)
سبط ابن العجمي: كنوز الذهب 1: 100.
- كتابُ في الجهادِ: انْفَردَ ابنُ الشَّعَّار المَوصِليّ بذِكْره ضمنَ مُؤلَّفاتَ ابن العَدِيْم
(1)
.
- كتابُ سُوق الفاضل في تَرَاجِم الأفاضِل: نسَبَهُ الزّركليّ وكَحَّالة لابن العَدِيْم، وذَكَر الزّركليّ أنَّهُ اطَّلع على نُسْخةٍ منه تقَعُ في مُجلَّدين مَحْفوظة في مَكْتبةِ عارِف حكْمَت بالمَدِينة المُنَّورة
(2)
، وفي فَهْرس مَكْتبةِ عارف حكمَت أنَّ عَدَدَ صَفحاته خَمسون صَفْحة! ورَقَمُه في المَكْتَبَةِ المذكُورة (118 تاريخ)
(3)
.
- المُلْحَةُ في الرَّدِّ على ابن طَلْحَة: كتابُ رَدَّ فيه ابنُ العَدِيم على تأْليفٍ الكَمالِ ابن طَلْحة في خِتَانِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنَّهُ وُلد مَخْتُونًا"
(4)
.
- كتابُ في الرِّجالِ (الجَرْح والتَّعْدل): هذا الكتابُ ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ مَنْسُوبًا لابن العَدِيْم في باب: "المُتَكلِّمُون في الرِّجال"، ولم يُحدِّدْ أيّ بَني العَدِيْم ألَّفهُ وصَنَّفَهُ، ولعلَّ الأرجح. إن لَم يكُن كَمال الدِّين ابن العَدِيْم - فهو ابْنه مَجْد الدِّين عَبْد الرَّحمن الذَّي ذَكَرَ له السَّخَاوِيّ مُعْجمًا لشُيُوخِه
(5)
.
- دِيْوانُ شِعْره: ذَكَرَ الأُسْتاذُ سامي الدَّهّان نَقْلًا عن الشَّيخَ الطَّبَّاخِ في كتابِه إعْلَام النُّبَلاء أنَّ لابن العَدِيْم ديْوانَ شِعْرٍ مَخْطُوطٍ في الإسْكَندريَّة
(6)
، ولَم أجِدْ في فَهارسِ مَكْتبِة الإسْكَنْدريَّة ذِكْرًا له، ولم يَقِفْ عليه أيضًا الأُسْتاذُ الدَّهَّان مع شَدَّةِ
(1)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 223.
(2)
الأعلام 5: 40، ونقل الزركلي عن صَلَاح الدِّين المنجد أنه نَسَبَ الكتاب لمُؤِلّف آخر من أسرة بني العَدِيْم.
(3)
كحالة: المنتخب من مخطوطات المدينة المنورة: مكتبة عارف حكمت (مجمع اللغة العربية بدمشق)604.
(4)
ابن حَجَر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري 11: 89، لسان الميزان 5: 309، السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 165، ولعل ابن طلحة المذكور هو محمد بن طلحة بن محمد القرشي النصيبي الشافعي (ت 652 هـ) انظر ترجمته في الوافي بالوفيات 3: 176، ن حبيب: درة الأسلاك في دولة الأتراك (مخطوط آيا صوفيا)، ورقة 6 ب.
(5)
السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 351.
(6)
حياة ابن العديم 31، ولم أقف على ذكر ديوانه في كتاب الطباخ: إعلام النبلاء، وانظر عن شعره: محمد كمال: نظرات في شعر كمال الدين بن العديم، مجلة التراث العربي، دمشق، ع 89، س 23 (2003 م) ص 34 - 45.
تَطلُّبِه له، ولا يَبْعُدُ أنْ يكُونَ لابن العَدِيْم ديْوانُ شِعْر مَجْمُوع، فلَهُ الكثيرُ من القَصائِدِ الَّتي نَظَمَها في مُناسَباتٍ مُتَعدِّدة، وهي من الكَثْرةِ بحيثُ تُكوِّن دِيْوانًا، إذ أوْرَدَ له، ياقُوتُ ستَ مَقْطُوعاتٍ من بَوَاكِيِر شِعْره
(1)
، وأوْرَد له ابنْ الشَّعَّار المَوصِليّ ثَمانيةَ قَصائدَ في ثنايا التَّرْجَمَةِ له
(2)
، وأوْرَدَ له اليُونِيْنيُّ عدَّةَ مَنْظُوماتٍ
(3)
، وله قَصيْدَةٌ مِيْميَّةٌ طَويلةٌ قالَها بعد أنْ رَأى ما حَلَّ بحَلَبَ من الدَّمارِ والخَراب على يَدِ التَّتَار، وأوْرَدَ أبو الفِدَاء وبَدْر العَيْنيّ وابن الوَرديّ أبياتًا منها
(4)
، ومَقْطُوعاتٍ من شِعْره أوْرَدها ابنُ شَاكر الكُتْبيّ والصَّفَديّ في تَرْجَمتَيهما له
(5)
، وما أَنْشَدَهُ ابنُ العَديم من شِعْرِه لشَرَف الدَّين الدِّمْياطِيّ بَبْغَداد وفي طَرِيقِ عَوْدَتِهم بسَامرَّاءَ
(6)
، وأيضًا ما أوْرَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ
(7)
، والمَقْريزيّ
(8)
، وابنُ تَغْري بَرْدي
(9)
، وابن العِمَاد الحَنْبَليّ
(10)
.
وتَكْشِفُ الأبْياتُ والقَصائدُ الَّتي وَصَلتْنا من قِيْلِه على مَقْدرةٍ كَبيرةٍ في نَظْمِ الشِّعر، وامْتِلاكِ أدَوَاتِه، بنَفَسٍ سَامٍ، وأُسْلُوبٍ سلِسٍ، طَرَقَ فيها مَوْضُوعاتِ الفَخْرِ والغَزَلِ والرِّثاءِ والإخْوانيَّات.
وأخيرًا؛ فيَذْكُرُ القُرَشيُّ والسُّيوطِيُّ أنَّ ابنَ العَدِيْم ألَّفَ وصَنَّفَ في التَّاريخ والفِقْهِ والحَدِيثِ والأدَبِ
(11)
، ولَم يَردْ في مَوْضُوعاتِ مُؤلَّفاته وكُتُبه الّتي سَبَق
(1)
معجم الأدباء 5: 2088 - 2091.
(2)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 2234 - 238.
(3)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 511 - 512، 2:179.
(4)
المختصر في أخبار البشر 3: 215، بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 340 - 342، تاريخ ابن الوردي 2:308.
(5)
فوات الوفيات 3: 127، الصفدي: الوافي بالوفيات 22: 425 - 426.
(6)
معجم شيوخ الدمياطي 2: ورقة 117 أ.
(7)
الزرکشي: عقود الجمان ورقة 238 أ - 238 ب.
(8)
المقريزي: المقفي الكبير 8: 726.
(9)
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 210.
(10)
ابن العماد: شذرات الذهب 7: 526.
(11)
القرشي: الجواهر المُضية 2: 635، السيوطي: حسن المحاضرة 1: 416.
تعْدَادها ما يتَّصِلُ بالحَدِيثِ النَّبويِّ الشَّريف، ولعلَّ فيما ضَاعَ من كُتُبه ما له اتِّصالُ بهذا العِلْم.
أَوْلَادُهُ:
كان وَالدُ كَمال الدِّين قد خَطَبَ له فتاةً من بَناتِ أعْياِن أهْلِ حَلَب، فوَقَعَ بينهم ما أوْجَب الطَّلاقَ، ثُمَّ زَوَّجَهُ وَالدُهُ في حُدُودِ سَنَة 611 هـ بابْنَةِ الشَّيخِ بهاء الدِّين أبي القَاسِم عَبْد المَجِيْد بن الحَسَن بن عَبْد الله بن العَجَميّ، وهو شَيْخُ شَافِعيّ من بَيْت عِلْم وجاهٍ وثَرْوةٍ مَعْرُوفة في حَلَب
(1)
، واسْمُ ابْنةِ الشَّيخ بهاء الدّين ابن العَجَميّ هذه: ستُّ العَرَبِ، وهي عالَمِةٌ ومُحَدِّثةٌ، تَرْجَمَ لها الصَّفَديّ، وقال:"رَوَت عن الزَّكِيّ إبْرَاهيم الحَنَفيّ هي وبَناتُها. ولَهَا إجازَاتٌ من أبي الفُتُوح البَكْريّ وابن مُلَاعب وجَماعة. خرَّج لَهَا جُزءًا عنهم ابن الظَّاهِريّ وحدَّثتْ بِهِ، وتُوفِّيَتْ سَنَة 675 هـ"
(2)
. وأنْجَبَ ابنُ العَدِيْم منها أولادَهُ المَذْكُورين تاليًا، وكُنْيتُه في أغْلَب المصَادر أبو القَاسِم، ويَردُ أيضًا: أبو حَفْص، وليس بين أوَلاده مَنْ يُسَمَّي بهذين الاسْمين، وهم:
1.
أحْمَد بن عُمَر: وهو أكْبَرُ أوْلَاده، وسَمَّاهُ على اسْمِ أبيه، مَوْلدُه في جُمَادَى الأُوْلَى سَنَة 612 هـ، وأدْرَك آخرَ سَنَة من حَياةِ جَدِّهِ أحمد المُتوِفّي سَنَة 613 هـ
(3)
، وهو خَامِلُ الذِّكْرِ، والذَّين تَرْجَموا له أوْرَدُوا ما ذَكَرَه وَالدُه عن مَوْلدِه فَقَط، ويَرِدُ عندَ ابن شَدَّاد وسِبْط ابن العَجَميّ اسْم: أحمد بن الصّاحِب كَمال الدِّين بن العَدِيْم، وذَكَرا أنَّه ماتَ ببلَادِ الرُّوم وحُمِلَ إلى حَلَب فدُفِنَ بها سَنَة 638 هـ
(4)
، فلعلَّه هو.
(1)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2085.
(2)
الوافي بالوفيات 15: 119.
(3)
ياقوت: معجم الأدباء 5: 2085، القرشي: الجواهر المضية 1: 225، الغزي: الطبقات السنية 1: 481.
(4)
ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 281، سبط ابن العجمي: كنوز الذهب 1: 358، وذكر ابن العديم في تذكرته 173 أن مولد ابنه أحمد في سنة 613 هـ.
2.
عَبْد الرَّحمن بن عُمَر أبو المَجْد: وُلدَ بحَلَب في مُسْتَهلِّ سَنَة 614 هـ، ووَلِيَ قَضاءَ القُضَاةِ على مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةَ، وحَدَّثَ وأفتى، وهو أكْثَرُ أوْلادِ كَمال الدّين شُهْرةً، وكان أوَّلَ حَنَفّي خَطَبَ بجَامع الحاكِم، وتَولَّى قَضَاء الشَّامِ، وزَاولَ التَّدْريسَ بدِمَشْقَ، واسْتَمرَّ في إلْقَاءِ الدُّرُوسِ حتَّى وفاتِهِ سَنَة 677 هـ
(1)
.
3.
شُهْدَة، أُمُّ الفَضْل: وُلدَتْ سَنَة 619 هـ، وكانتْ كاتِبَةً مُحَدِّثةً فاضِلَةً عَاقِلةً، سَمِعَتْ من الشَّيخ إبْراهيم بن عليِّ الحَنَفيّ، وجَعْفَر بن الكاشَغْريّ، وعُمَر بن بَدْر المَوصِليّ، ورَوَت بمِصْرَ ودِمَشْقَ وحَلَبَ، تُوفِّيَت بحَلَبَ سَنَة 709 هـ
(2)
. ولعلَّ ابن العَدِيْم سمَّاها على اسْمِ الكاتبةِ المُحَدِّثةِ شُهْدَة بنت أحْمَد بن الفَرَج بن الإِبرِيّ البَغْداديَّة، والَّتي اتَّصَلَ إسْنادُها بالعَدِيدِ من الرِّواياتِ الَّتي أخَذَها ابن العَدِيْم من أبي عَبْد الله مُحَمَّد بن إبْرَاهيم بن مُسَلَّم الإرْيليّ.
4.
خَدِيْجَة؛ أُمُّ عُمَر: وُلدَتْ بعدَ سَنَة 620 هـ، وكانت امْرأةً صالِحَةً جَليِلة، سَمِعَتْ من الشَّيخ إبراهيم بن عليّ الحَنَفيّ، وهي زَوْجَةُ قاضي حَمَاة عِزّ الدّين ابن العَدِيْم، ووَالدةُ قاضِي حَلَب كَمال الدِّين عُمَر بن عَبْد العَزِيز الحَنَفيّ، تُوفِّيَت بحَمَاة سَنَة 708 هـ
(3)
.
5.
مُحمَّد بن عُمَر: ومَوْلدُه بحَلَب سَنَة 635 هـ، سَمعَ من أبيهِ، ومن أبي القاسم بن قُمَيْرة، وأبي القَاسم بن رَوَاحَة، وأبي الحَجَّاج يُوسُف بن خَلِيل وغيرهم، ودرَّس بحَلَب وهو ابنُ أرْبَعَ عَشرةَ سَنة، وقَدِمَ مِصْرَ وحدَّثَ بها، وتُوفِّي بحَمَاة
(1)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3: 306 - 309، الوافي بالوفيات 18: 202، القرشي: الجواهر المضية 2: 386، تاريخ ابن الوردي 2: 324، المقريزي: المقفي الكبير 4: 89 - 91، السيوطي: حسن المحاضر 1: 466 (أرخ مولده سنة 613 هـ)، وله معجم الشيوخ. السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 225.
(2)
الذهبي: العبر في خبر من غبر 4: 22، الصفدي: أعيان العصر 2: 529، الدرر الكامنة 2: 195 (وفيه: مولدها سنة 621 هـ)، شذرات الذهب 8:38.
(3)
العبر في خبر من غبر 4: 19، ابن العماد: شذرات الذهب 8: 31.
سَنَة 694 هـ وقيلَ في الَّتي تَلِيها، وكانتْ له اهْتِمامَاتُ عِلْميَّة مُتعدِّدةُ في العُلُومِ العَقْليَّة لا سيما الرِّياضيَّات
(1)
، وقد قيَّدَ اسْمهُ على طُرَّةِ كتابٍ في النُّجُومِ بخَطِّ أبي إسْحاق الصَّابِئ
(2)
، وصَنَّفَ كتابَ الرَّائِضِ في عِلْمِ الفَرَائِض
(3)
، وكانت بين يَديَه نُسْخةُ كتابِ بُغْيَة الطَّلَبِ بعدَ وَفاةِ والدِه، فاسْتَدْرَكَ عليها بخَطِّهِ في تَرْجَمَةِ أحمدَ بن عَبْد الدَّائم المَقْدسيّ (الجزء الثَّاني) إثبات تاريخ وفاته.
6.
زَيْنَب بنت عُمَر: رَوَتْ عن الرُّكن
(4)
الحَنَفيّ، وتُوقِّيَتْ في ربيع الأوَّل سنة 677 هـ
(5)
.
7.
زَيْنُ الحَرَمَيْن بنت عُمَر: وهي أُمُّ الإمام بهاء الدِّين يُوسُف بن العجمي. قال الذَّهَبيُّ: لها سَماعُ ولعلَّها حدَّثتْ، وكانت كاتِبةً خَيِّرةً، تُوفِّيَت سنَة 682 هـ
(6)
.
8.
مُؤْنِسَة بنت عُمَر: رَوَتْ عن الرُّكْن إبْراهيم الحَنَفيّ، كأخَواتِها، وتُوفِّيَتْ بدِمَشْقَ في رَابع رَبيع الآخر سَنة 690 هـ
(7)
.
9.
مَجْد الدِّين أبو مُحمَّد إسْماعِيْل بن عُمَر: انْفَرَدَ بذِكْره ابنُ الفُوْطِيّ، ولَم يَردْ لهُ ذِكْرُ عند غيره، وذَكَرَ أنَّهُ انْتَقَلَ من الشَّام إلى مِصْر، ورُتِّبَ خَطِيبًا بجامِعها، وتُوفِّي سَنَة 660 هـ
(8)
.
(1)
الذهبي: تاريخ الإسلام 15: 795، الوافي بالوفيات 4: 263 المقريزي: المقفي الكبير 6: 405 - 406، ابن قطلوبغا: تاج التراجم 228.
(2)
نسخة محفوظة بمكتبة كوبرلي باستانبول برقم 984، وصورة الورقة الأولى منها في: الفهرست للنديم، مقدمة المحقق 1/ 1:190.
(3)
ابن قطلوبغا: تاج التراجم 228.
(4)
كذا في تاريخ الذهبي حيثما يرد، ولعله: الزكي، المتقدم ذكره، وهو إبراهيم بن علي الحنفي.
(5)
الذهبي: تاريخ الإسلام 15: 337.
(6)
الذهبي: تاريخ الإسلام 15: 466 - 467.
(7)
الذهبي: تاريخ الإسلام 15: 174.
(8)
ابن الفوطي: مجمع الألقاب 4: 402 - 403، وانظر هامش المحقق رقم 2 وفيه وجه للشكّ في اسمه ووفاته، وترجيح أن يكون المراد عبد الرحمن.
وَفاتُهُ:
كان ابنُ العَدِيْم قد ارْتَحلَ إلى مِصْرَ للمرَّةِ الأخيرة في سَنَة 658 هـ، وتُوفي بظَاهِرِ مِصْرَ في العشْرين من جُمادَى الأُولَى 660 هـ، ودُفِنَ من يَوْمه بسَفْحِ المُقَطَّمِ بالقَاهِرة، وأرَّخَ الدِّمْياطِيُّ وَفاتَهُ بفُسْطاط مِصْر يوم التَّاسعَ عَشر من جُمادى الأُولَى وأنَّه دُفِنَ من يَومهِ بسَفْحِ المُقطَّم [بتُربَة] الأميرِ مُوسَى بن يَغْمُور
(1)
، والأوَّلُ هو الصَّحيحُ؛ فإنَّ الشَّريفَ عِزّ الدِّين الحُسَيْنيّ حَضَرَ الصَّلاة عليه ودَفنه، وقَيَّدَ تاريخَ وَفاتِه
(2)
.
وأرَّخَ ابنُ شَاكِر الكُتْبيّ وفاتَهُ خَطأً في سَنة 666 هـ
(3)
، واتِّفاقُ المَصادرِ جَمِيعُها على سَنة وَفاته، إضافةً إلى تَقْييد أبي شَامَة (ت 665 هـ) لوَفاته كافٍ لدَفْع هذا المَسْألة، إذ كانت وَفاةُ أبي شَامَة قَبْلَ التَّاريخ الَّذي أوْرَده ابنُ شَاكر، قال أبو شَامة في حَوادثِ سَنَة 660 هـ
(4)
: "وجِاءَنا الخَبَرُ من مِصْرَ بوفاةِ الصَّاحب كَمال الدِّين بن العَدِيم في العشْرين من جُمادَى الأولَى، وصُلِّي عليه بجامع دِمَشْق صَلاةَ الغائبِ".
* * *
هذه سِيْرةُ الرَّجُلِ، ومَلامحُ مُقْتضَبةٌ من حَياتِه العَمَليَّةِ والعلْميَّةِ الحافِلَة، تَجاوَزتُ فيها عن الإسْهابِ تَقيَّةَ الإطَالةِ، ويَحْسُنُ في ختامهِا إيْرادُ ما كَتَبهُ الجَمَالُ مُحمَّد بن مُحمَّد بن مُحمَّد بن السَّابق الحَمَويّ الحَنَفيّ (ت 877 هـ) على طُرَّة نُسْخَةِ الأصْلِ من هذا الكتاب "كتابُ بُغْيَة الطَّلب"، وهي تَرْجَمَةٌ مُخْتَصرةٌ مُجْمَلَة، تُحَوْصِلُ
(1)
الدمياطي: معجم الشيوخ 2: ورقة 118.
(2)
الحسيني: صلة التكملة 1: 469.
(3)
فوات الوفيات 3: 126، وتابعه على هذا الخطأ بعض المحدثين أمثال محمد كرد علي: تآليف ابن العديم، مجلة المجمع العلمي العربي، مج 16، ج 2 - 2، (1941 م)146.
(4)
أبو شامة: الذيل على الروضتين 331.
ما تقدَّمَ، أخَذَ جُلّها عن ابن شاكر الكُتْبيّ النَّاقِل عن ياقُوت الحَمَويّ، وأدْرَجتُ صُورتَها في نَماذجِ المصوَّراتِ آخر التَّمْهيد، قال ابنُ السَّابق الحَمَويّ:
"عُمَر بن أحمد بن أبي الفَضْل هِبَة الله بن أبي غَانِم مُحمَّد بن هِبَة الله ابن قاضي حَلَب أبي الحَسَن أحْمد بن يَحْيَى بن زُهَيْر بن هارُون بن مُوسَى، بن عِيْسَى بن عَبْد الله بن مُحمَّد بن أبي جَرادَة عامِر بن رَبِيعَة بن خُوَيلِد بن عَوْف بن عامِر بن عُقَيل، الصَّاحِب العلَّامَة، رَئيس الشَّام كَمال الدِّين أبو القاسم الهَوَازنيّ العُقَيليّ الحَلَبيّ، المَعْرُوف بابن العَدِيْم.
وُلد سَنةَ ستّ وثَمانينَ وخَمْسمائة، وتُوفِّي سَنَةَ ستِّين وسّتمائة، وسَمعَ من أبيه، ومن عَمِّهِ أبي غَانِم مُحمَّد، وابن طَبَرْزَد، والافْتِخار، والكِنْدِيّ، وابن الحَرَسْتانيّ، وسَمعَ جماعةً كثيرةً بدِمشْق، وحَلَب، والقُدْس، والحِجَاز، والعِرَاق.
وكان مُحدَّثًا حافِظًا، مُؤرِّخًا صَادِقًا، فَقِيْهًا حَنَفيًّا، مُفْتِيًا، مُنْشِئًا بَلِيغًا، كاتِبًا مُجوِّدًا، درَّس وأفْتَى، وصَنَّفَ، وتَرَسَّلْ عن المُلُوك، وكان رَأسًا في الخَطِّ المَنْسُوبِ لا سَّيما النَّسْخ والحَواشِي.
أطْنَبَ الحافِظُ شَرَفُ الدِّين الدِّمْياطيّ في وَصْفِه
(1)
، وقال: وَلِيَ قَضاءَ حَلَب خَمْسةُ من آبائِه مُتَتالية، وله الخَطُّ البَديْعُ، والحَظُّ
(2)
الرَّفيعُ، والتَّصانيفُ الرَّائقةُ، منها تاريخُ حَلَب؛ أدْرَكَتهُ المنَيَّةُ قبلَ إكْمالِ تَبييضِه. ورَوَى عنه الدّواداريّ وغيرُه، ودُفِنَ بسَفْحِ المُقَطَّمِ بالقَاهِرة.
قال ياقُوتُ: سَألتُه لِمَ سُمّيِتم ببَني العَدِيْم؟ فقال: سألتُ جَماعةً من أهْلي عن ذلك فلم يَعْرفوه، وقال: هو اسْم مُحْدَثُ لَم يكُنْ آبائي القُدَماءُ يُعْرَفونَ به، ولم يكُنْ في
(1)
في الجزء الثاني من معجم شيوخ الدمياطي الورقة 116 أ - 117 ب.
(2)
ابن السابق الحموي: الخط، والمثبت من معجم شيوخ الدمياطي وتاريخ الإسلام 14: 938، وفوات الوفيات 3: 126، والوافي بالوفيات 22:422.
نِسَاءِ أهْلي مَن يُعْرَفُ بهذا، ولا أحْسَبُ إلَّا أنَّ جَدَّ جدّي القاضي أبا الفَضْلِ هِبَةَ الله بن أحمد بن يَحْيَى بن زُهَيْر بن أبي جَرادَة - مع ثَرْوةٍ وَاسِعةٍ، ونِعْمةٍ شامِلَةٍ - كان يُكْثِرُ في شِعْره من ذِكْر العُدْم، وشَكْوى الزَّمانِ، فإنْ لَم يَكُن هذا سَيبهُ، فلا أدْري ما سبَبُهُ.
قال: خَتَمتُ القُرآنَ ولي تسعُ سِنين، وقَرأتُ بالعَشْر ولي عَشرُ سنين. ولم أكْتُبُ على أحدٍ مَشْهُور، إلَّا أنَّ تاجَ الدِّين مُحمَّد بن أحمد بن البِرْفطيّ البَغْداديّ
(1)
وَردَ إلينا إلى حَلَب، فكتَبَتُ عليه أيَّامًا قلائِلَ، لم يَحْصُلْ منه فيها طائِلٌ.
وله كتابُ الدَّراريّ في ذِكْر الذَّراريّ؛ جَمَعَهُ للمَلِك الظَّاهِر، وقدَّمَهُ إليه يَومَ وُلِدَ وَلَدهُ الَمِلكُ العَزِيز، وكتابُ ضَوْءِ الصَّبَاحِ في الحَثِّ على السَّمَاح؛ صَنَّفَهُ للمَلِكِ الأشْرَفِ، وكتابُ الأخْبار المُسَتفادَةِ في ذِكْر بني أبي جَرادَة، كتابٌ في الخطِّ وعُلُومِه ووَصْف آدابِه وطُرُوسِه وأقْلَامِه، وكتابُ دَفْعِ التَّجرِّي على أبي العلاء المعرِّيّ، وكتابُ الإشْعَارِ بما للمُلُوك من النَّوادِر والأشْعار.
ومَّمن كَتَبَ اليه يَسْترفدهُ سَعْدُ الدّيِن مَنُوجَهر المَوصِليّ، وأمينُ الدِيّن ياقُوت المعروُف بالعالِم، وهو صِهْرُ ياقُوت الكاتِب الذي يُضْربُ به المَثَل.
وكان في بعض سَفراتِه يَرْكَبُ في مِحَقَّةٍ تُشَدُّ له بين بَغْلَين، ويَجلْسُ فيها ويَكْتُب.
وقَدِمَ إلى مِصْر رَسُولًا، وإلى بَغْداد، وكان إذا قَدِمَ مِصْرَ يُلازمُهُ أبو الحُسَيْن الجزَّار، وله فيه مَدَائِحُ".
(1)
مُحمَّد بن أحمد بن مُحمَّد بن حمزة بن بريك البِرْفطيّ (ت 625 هـ)، نسبته إلى بِرْفطا من قرى نهر الملك، وهو مشهور بحسن الخط وجودة التحرير. ياقوت: معجم الأدباء 6: 2391 - 2393.
الكتاب أهميته ومنهجه ومادته
عُنْوانُ الكتاب:
والمُبْتَدأُ بعُنوانِ الكتاب الَّذي غَلَبَ عليه اسْمُ: تاريخ حَلَب، وهو العُنْوانُ الَّذي قُيّدَ على طُرَّةِ بعض الأجْزاء المتبقيَّة من الكتاب، بخَطٍّ مُغاير لخط النُّسْخَة، وفي زَمَن مُتأخّر على تأْليِفها فيما يَبْدو
(1)
، وهو ذاتُ العُنوان الَّذي ذَكَرَهُ المُؤِلّفُ في مُقَدّمِة مُختَصَره "زُبْدَة الحَلْب"، يقُول:"ورَسمتُهُ بزُبْدَة الحَلْب من تاريخ حَلَب لأنَّهُ مُنْتَزعٌ من تاريْخي الكَبير للشَّهْبَاء، المُرَتَّب على الحُرُوفِ والأسْماء"
(2)
.
أمَّا العُنوان الآخر المْسُجوع: "بُغْيَة الطَّلَب في تاريخ حَلَب" فلم يَردْ على غلَافِ أيّ من أجْزاءِ الكتاب، ولعلَّ المُؤِلّفَ ذكَرَهُ في مُقِدّمَتِه للكتابِ الَّتي ضاعَتْ مع ما ضاعَ من الأوْراقِ من أوَّل الجُزء وآخره، ووَرَد هذا العُنوانُ في مَوضِعَيْن من كتابِه هذا:
1.
في أواخِر الجُزء السَّابِع، عند انتْهاءِ أحَد الأجْزَاءِ بحَسَبِ تَجْزِئة المُؤِلّفِ، ونَصُّهُ:"آخِرُ الجُزء الثَّامن والتِّسْعِين والمائة من كتابُ بُغْيَةِ الطَّلَب في تَاريْخ حَلَب، ويَتْلُوه في أوَّلِ الجُزءِ التَّاسِع والتِّسْعِين والمائة تَمَامُ الحِكايَة".
(1)
جاء على غلاف الجزء الأول من نسخة الأصل: "كتابُ من تاريخ حلب لابن العَدِيْم وبخطه أحد عشر جزءًا" وضرب على كلمة: "من"، وضرب على عبارة:"بخطه أحد عشر جزءًا"، وعلى غلاف الجزء الثاني:"من تاريخ حلب"، وعلى غلاف الأجزاء الثالث والخامس والسادس والثَّامن:"من تاريخ حلب لابن أبي جرادة"، وعلى غلاف الجزء الرَّابع:"من تاريخ الصاحب"، وجاء الجزءان السابع والتَّاسع غفلًا من العنوان.
(2)
زبدة الحلب 1: 31، ومن الجدير بالذكر أن المرحوم کرد علي وهو يعرض لثلاثة من مؤلفات ابن العديم ذكر کتاب زبدة الحلب وعرف به، وكل الذي قاله ينصرف إلى كتاب البغية لا إلى مختصره الزبدة، انظر: مُحمَّد كرد علي: تآليف ابن العديم، مجلة المجمع العلمي العربي، مج 16، ج 2 - 2، (1941 م) 149 - 151.
2.
وفي الجزءَ العَاشِر عند الانْتِهاءَ من تَقْييد الكُنَى: "آخِرُ الكُنَى من كتاب بُغْيَةِ الطَّلَب في تَاريْخ حَلَب".
وفي سِيْرةِ ابن العَدِيْم الذَّاتيَّة، والَّتي كَتَبها لصَدِيقه ياقُوت الحَمَويّ "الأخْبار المُسْتَفادَة"، تَعْدادٌ لأسْماءَ مُؤلَّفاتِه، وذَكَرَ من بينها هذا الكتابَ، ويبدو أنَّ العَمَلَ وَقْتها على تأليفِه كان في بداياتِه الأُوْلَى، فالعُنوانُ الَّذي قيَدَه أقْرَبُ إلى عَرْضٍ للمُحْتَوى منه عُنوانًا للكتاب؛ سمَّاهُ:"كتاب تاريخ حَلَب في أخْبار مُلُوكها، وابْتداء عِمَارتها، ومَن كان بها من العُلمَاء، ومَن دَخَلَها من أهْل الحَدِيث والرِّوَايّة والدِّرَايَة والمُلُوك والأُمَراء والكُتَّاب"
(1)
.
وشاعَ بين المؤرِّخِين اسْتِخدامُ العُنْوانِ المُباشِر المُخْتَصِر "تاريخُ حَلَب"، مثْلما سمَّاهُ ابنُ الشَّعَّار
(2)
، وأبو شَامَة
(3)
، وابن خِلِّكان
(4)
، واليُوِنيْنيّ
(5)
، والدِّمْياطِيّ
(6)
، وابن شاكِر الكُتْبيّ
(7)
، والصَّفَديّ
(8)
، والحُسَيْنيّ
(9)
، والذَّهَبي في كتابيه العِبَر وتاريخ الإسْلَام
(10)
، وأبو الفِدَاء
(11)
، والقُرَشيّ
(12)
، وابن حَبيب الحَلَبيّ
(13)
، وابن الوَرديّ
(14)
، وابن كَثِير
(15)
،
(1)
معجم الأدباء 5: 2086.
(2)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 233، وفيه:"التاريخ الذي صنعه لحلب".
(3)
الذيل على الروضتين 331.
(4)
وفيات الأعيان 1: 358، 6: 41، 301، 422، 7:141.
(5)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 510، 2:178.
(6)
معجم شيوخ الدمياطي 2: ورقة 117 أ.
(7)
ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات 3: 127.
(8)
الصفدي: الوافي بالوفيات 1: 48 في تعداده للتواريخ المؤلفة في المشرق وبلاده، وأيضًا 22:422.
(9)
الحسيني: صلة التكملة 1: 469،
(10)
الذهبي: العبر 3: 300، تاريخ الإسلام 4: 808، 14:938.
(11)
أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 2: 192 - 193، 3:215.
(12)
القرشي: الجواهر المضية 1: 90، 208، 237، 304، 434، 462، 474، 2: 47، 66، 199، 292.
(13)
ابن حبيب: درة الأسلاك، ورقة 15 ب.
(14)
تاريخ ابن الوردي 2: 308.
(15)
ابن كثير: البداية والنهاية 13: 236. ابن حبيب: درة الأسلاك ورقة 6 ب.
وبَدْرُ الدِّين العَيْنيّ
(1)
، والزَّرْكَشِيّ
(2)
، والمَقْريزيّ
(3)
، وابنُ تَغْري بَرْدي
(4)
، والسُّيوطِيَّ
(5)
، والمقرِيّ
(6)
، وابن العِمَاد الحَنْبَليّ
(7)
، وذَكَرهُ ابنُ الأثير ونَقَلَ عنه مرَّةً واحدة وسمَّاه:"كتاب أخْبار حَلَب"
(8)
.
وأمَّا تَسْمِيَتُهُ باسْم: بُغيَة الطَّلَب في تاريخ حَلَب؛ فقد ذَكرَهُ بهذا العُنوانِ المُؤرِّخُ ابنُ شَدَّاد - وهو ممَّن عاصَرَ المُؤلِّف - في مَوْضعٍ واحدٍ من كتابه الأعْلَاقِ الخَطِيرة
(9)
، ويتكَرَّرُ ذِكْرُهُ في مَواضعَ أُخْرَى عندَه باسْم "تاريخ حَلَب" أو "تاريخ الكَمال بن العَدِيْم"
(10)
، وكثيرًا ما يَنْقُل ابنُ شّداد عن المُؤلِّف دون ذِكْر العُنْوان:"قال كمال الدِّين"، أو "ذكر كَمال الدِّين"، إضافةً إلى كَثْرَة ما أخَذَهُ ونَقَلهُ عنه دون ذِكْره للمَصْدر أصْلًا.
ووَرَد هذا العُنوانُ منذ القَرْن التَّاسِع الهِجْريّ وما بعدَهُ عند سِبْط ابن العَجَميّ
(11)
، وابن قَطْلُوبْغَا
(12)
، وابن الشِّحْنَة
(13)
، والسَّخَاوِيّ الَّذي ذَكَرَهُ بالعُنْوانَين معًا "تاريخ حَلَب"،، و"بُغْيَة الطَّلَب"
(14)
، ورَضِي الدِّين بن الحَنْبليّ الحَلَبيّ
(15)
، وحَاجِي خَلِيفَة
(16)
، وإسْمَاعِيْل البَغْدادِيّ
(17)
.
(1)
بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 340
(2)
الزركشي: عقود الجمان ورقة 337 ب.
(3)
المقريزي: المقفى الكبير 8: 726.
(4)
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209.
(5)
السيوطي: حسن المحاضرة 1: 466، وبغية الوعاة 1: 3، 304، 530، 573، 3:439.
(6)
المقري: نفح الطيب 3: 334.
(7)
ابن العماد: شذرات الذهب 7: 525 - 526.
(8)
ابن الأثير: التاريخ الباهر 126.
(9)
الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 26.
(10)
الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 54، 103، 108، 111، 131، 274، 305، 1/ 2: 11، 14، 33، 87، 106.
(11)
كنوز الذهب 1: 359.
(12)
ابن قطلوبغا: تاج التراجم 166.
(13)
ابن الشحنة: الدر المنتخب 7.
(14)
السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 227 - 228، 260.
(15)
در الحبب في تاريخ أعيان حلب 1: 10.
(16)
حاجي خليفة: كشف الظنون 1:249، 2:952.
(17)
هدية العارفين 1: 787، وانظر أيضًا روزنثال: علم التأريخ 233.
أهْمِّيَةُ الكتَاب:
يُعدُّ هذا الكتابُ من الأُصُول الكُبْرَى المُوَثِّقةِ للتَّاريخ الإسلاميّ، الحَامِلَة للثَّقافة والأدَب العَرَبيّ، وقد أثْنَى عليه كَثيرٌ من المُؤرِّخين، ونَوَّهُوا بقِيْمَتِه في التَّأرِيخ لبلاد الشَّام خلالَ القُرون السَّبْعةِ الأُولَى من عُمْر الدَّولَة الإسْلاميَّة، وأهَمَّيته في التَّأريخ لدَولة بنى أيُّوب الَّتي عَاصَر المُؤلِّف مُلُوكها وأُمَراءها، وما سَرَدهُ من سِيَرهم وأخْبارهم في الحَوادثِ لعَهْدِ كُلٍّ منهم، قال الحُسَيْنيّ في تَرْجَمَة ابن العَدِيْم
(1)
: "جَمعَ لحَلَب تاريخًا كَبيرًا أحْسَنَ فيه ما شَاء"، ونَقَلَ كَلامَهُ اليُوِنيْنيّ والذَّهَبي، وعَقَّبَ الذَّهَبي بعدَهُ بالقَوْل
(2)
: "قُلْتُ: مَنْ نَظَرَ في تاريخه عِلمَ جلالةَ الرَّجُل، وسَعةَ اطِّلاعه". وذَكَرهُ الدِّمْياطِيّ
(3)
: "تاريخ حَلَب الدَّالُ على [كَمَال] الفَضْل والمَطْلَب"، وقَوْل ابن حَبيب الحَلَبيّ:"وله تاريخٌ كَبيرٌ مُخْتَصٌّ بحَلَب، جَلَبَ إليه من الفَوائد والفَرائِد ما جَلَب"
(4)
، ووَصَفُه المُؤرِّخُ ابن كَثِير بأنَّهُ تاريخٌ مُفِيدٌ
(5)
، وزادَ ابنُ تَغْري بَرْدي بأنَّهُ تاريخٌ كبيرٌ في غايَة الحُسْن
(6)
.
وفي مَعْرِضِ تقديم ابن الشِّحْنَة (ت 890 هـ) لذَيْلِه على البُغْيَةِ، المُسَمَّى بالدرِّ المُنتَخَب، أشارَ إلى عَمَلِ ابن العَدِيْم، وأقَرَّ بفَضْلِه وقِيْمَته، غيرَ أنَّهُ الْتَمَسَ لنَفْسِه ما اسْتَوجَبَ التَّذْييل عليه: طُولُ الرِّوايات، وضَيَاعُ أجْزاءَ الكتاب، قال: "ولَم أَرَ لحَلَب تاريخًا مُخْتَصًّا بذِكْرها إلَّا ما جَمَعَهُ تاريخًا مُسْتَوعبًا لها الإمامُ كَمال الدّين أبو القاسِم عُمَر بن أحمد بن العَدِيْم الحَلَبيّ الحنفيّ، فأتْقَنَ وأجادَ وأطالَ، ولَم يُبَيّضْ منه إلَّا اليَسِيرَ، وأطالَ فيه من ذِكْرِ الرِّوايات والطُّرَف، فجاءَ مَعْنىً قليل في
(1)
الحسيني: صلة التكملة 1: 469.
(2)
الذهبي: تاريخ الإسلام 14: 938، وانظر: اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3: 178.
(3)
معجم شيوخ الدمياطي 3: ورقة 117 أ.
(4)
ابن حبيب: درة الأسلاك، ورقة 15 ب.
(5)
ابن كثير البداية والنهاية 13: 236.
(6)
بن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209.
لفظٍ كَثير، ولم يَسْبِقْهُ أحدٌ بتارِيخ لها على الخُصُوص
…
وتَفرَّقَت أجْزاؤه قَبْل الفِتْنَة التَّيْمُوريَّة، فلا تَجِدُ الآن منها إلَّا نَزْرًا، لَم أقِفْ منها إلَّا على جُزءٍ واحدٍ بخَطِّه فيه بعض حَرْف الميم"
(1)
.
ووَصفهُ السَّخَاوِيُّ (ت 902 هـ) بالتَّاريخ الحافِلِ
(2)
، لِمَا تَضَمَّنهُ من مادَّةٍ تاريخيَّةٍ وجُغْرافيَّةٍ عن بلادِ الشَّام عامَّةً والمنطقة الشَّماليَّةِ منه على وَجْهِ التَّحديد، وهي مادَّةٌ تفَرَّدَ المُؤلِّفُ عن أقْرَانه في كَثيرٍ من جَوانبها، ولِقيْمَةِ التَّراجم الَّتي ذَكَرَها، فكانتْ إفاداتُه - تَبعًا لذلك - مَصْدرًا للأَخْذِ والنَّقْلِ والاسْتِشْهادِ عندَ كَثيرٍ من اللَّاحِقيْن ممَّن أتَى بعدَهُ.
ويَصْعُبُ، في هذا الحَيِّز المُتاح اسْتِعراضُ كافَّةِ الجَوَانِبِ الَّتي تَميَّزَتْ بها نُصُوصُ ابنِ العَدِيْم، وهي جَوانبُ وَاسِعَةٌ ومُتَشعِّبَةٌ، غير أنَّ في ذِكْرِ البَعْض منها ما يَجْزِئُ عن الكُلِّ، ويُقدِّمُ صُوْرةً عن القيْمة الحَقِيقيَّةِ للكتاب.
فأُوْلَى هذه الجوانب: تتَّصِلُ بما قيَّدَهُ المُؤلِّفُ في الجُزءِ الأوَّل من كتابهِ، وهو الَّذي جَعَلهُ مُقَدِّمةً للعَمَل، وتضمَّنَ بَحْثًا في الجُغرافيَة الطَّبِيعيَّة والبَشَريَّةِ والتَّقْسِيماتِ الإداريَّةِ عن مَنْطِقَة شَمالِ سُوريا في القُرُون السَّبْعَة الأُوْلَى؛ مُنذ الفَتْح الإسْلاميّ وصُولًا إلى عَصْره، وشَكَّلَتْ مادَّتُه الأساسَ الَّذي ابْتَنى عليه بعضُ المُؤرِّخينَ اللَّاحِقينَ مُؤلَّفاتِهم، خاصَّةً ابنُ شَدَّاد في البابِ المتُعلِّقِ بحَلَب من كتابِه الأعْلَاق الخَطِيْرة؛ بمِصْرَاعَيهِ الأوَّل والثَّاني، وهو أيضًا القسْمُ - أعْنْي الكتابَ الأوَّل من البُغْيَة - الَّذي أثارَ اهْتِمامَ المُسْتَشرقين - خاصَّة الفَرَنسيِّيْن منهم - من أمْثالِ المُؤرِّخ م. كانار Marius Canard في دراسَتِه عن الحَمْدانيِّين، وجان
(1)
الدر المنتخب 7.
(2)
الإعلان بالتوبيخ 260.
سُوفاجيه، Jean Sauvaget، وكلود كاهن Claude Cahen، وغيرهم
(1)
.
وفَضْلًا عن تأْرِيٍخ الكتابِ لشَمال بلاد الشَّام حتَّى مُنْتَصَفِ القَرن السَّابِع الهِجْريّ، وكَوْنِه سِجلَّا لأحْدَاث المَنْطِقَةِ في تلك الحِقْبةِ المُمتدَّةِ، فتَبْرُزُ قيْمتُهُ أيضًا في احْتِفاظِه بنُصُوصٍ طَويلةٍ من كُتُبٍ مَفْقُودَةٍ كَثيرةٍ لَم تَصِلْنا، حَفظَها ابنُ العَدِيْم - وَحْدَهُ - ونَقَلَها إلينا، تَتَوزَّعُ مَوضُوعاتُها بين التَّاريخ، والأدَبِ: المَنَثُور والمنَظُوم، والأنْسَابِ والتَّراجِم، وغير ذلك، فعلى سَبيل المثالِ، لَم تكُنْ مَعْرفتُنا بأحْوالِ الثُّغُورِ - الجَزْريَّة منها والشَّاميَّة - المُتَاخِمَةِ لبلادِ الرُّوم، على هذا الوَجْهِ من الوُضُوح لولا ما اسْتَقْصاهُ عنها ودَوَنَهُ في كتابِه، ولولا احْتِفاظُهُ بنُصُوصٍ طَويلةٍ من "كتابِ سِيَر الثُّغُور" لأبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيّ (ت نحو 401 هـ)، وهو كتابٌ عَزيْزٌ في غايَةِ النُّدْرَةِ والفَرادَة، وَضَعهُ للوَزِيرِ أبي الفَضْل جَعْفَر بن الفَضْل بن الفُرَات المعْرُوف بابن حنْزَابَة (ت 391 هـ). ومُؤلِّفهُ ممَّن سَكَنَ الثُّغُورَ، وعايَنَ أحْوالَها إبَّانَ حِقْبَةِ الاعْتَداءاتِ الرُّوميَّةِ المُتَلاحِقَة على الثُّغُورِ في مُنْتَصَفِ القَرْن الرَّابع الهِجْريّ، وقدّمَ وَصْفًا دَقِيقًا لحيَاةِ المُرَابطينَ والسُّكَّان في أجَلّ مُدنِ الثُّغُور
(1)
بحسب فؤاد سزكين في مقدمة الجزء الأول من مصورة بغية الطلب دون رقم، وأيضًا: Geschichte des arabischen Schrifttums،Vol 1،p 443 بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، (القسم الثالث 5 - 6)440.
ومن الغريب أن كتابًا بهذه الأهمية ينل الاعتناء في الأوساط العلمية الغربية، بينما أغفلت الاستفادة منه بعض الدراسات العلمية العربية التي تناولت حلب في مختلف العهود، فدراسة رعد البرهاوي بعنوان: أجناد الشَّام "دورهم السياسي والعسكري في العصر الأموي" لم تستفد منه، وهي رسالة ماجستير منشورة، أعدت بجامعة الموصل ونُشرت بعمان (دار الكتاب الحديث، 2006 م)، وكذلك دراسة نعمان جبران وعنوانها: مملكة حماة في العهدين الأيوبي والمملوكي، رسالة ماجستير غير منشورة (الجامعة الأردنية، 1981 م)، وحماة كانت في اعتبارات ابن العديم من إقليم حلب، وأيضًا دراسة جورج طريف وعنوانها: حلب في العصر المملوكي الأول، رسالة ماجستير منشورة (عمان: وزارة الثقافة، 2008 م)، واقتصر فيها على الاطلاع على الجزء الأول من بغية الطلب، إلى غير ذلك من البحوث والدراسات العلمية المتخصصة التي تجاوزت عنه.
"طَرسُوسِ" والمُدنِ والحُصُون المجاوِرَة لها كأَذَنَة والمِصِّيْصَة؛ وهي المُدنُ الَّتي كانت مسْرَحًا لانْطِلَاقِ الحَمَلَات العَسْكريَّةِ تجاه الرُّوم، بل ورَسَم خِطَطَ المَدِينةِ وأَحْياءها وسِكَكها وجَامِعَها، وما قُرّرَ بها على سَبِيلِ الوَقْفِ، وتَرْجَمَ لعُلَمائها، إلى غير ذلك من الإفاداتِ الَّتي تضَمَّنها الكتابُ ممَّا نقَلَهُ ابنُ العَدِيْم. ونُدِيْنُ لابنِ العَدِيْم في مَعْرِفَتِنا بالكتابِ أصْلًا فضلًا عن مادَّته، فلم يَذكُرْه غيرُه، بل إنَّ الحَافِظَ ابنَ عَساكِر - وقد أفْرَدَ للطَّرَسُوسِيّ تَرْجَمَة في تاريخه
(1)
- لم يَذْكُر له كتابًا!. وبَلَغَتْ نُقُولُ ابنِ العَدِيْم من هذا الكتابِ أكْثَرَ من ثلاثينَ نَصًّا، من بينها خُطْبَةُ الكِتابِ، وجاءَتْ أكْثَرُ نُصُوصِه في الجُزءَ الأوَّل، إضافة إلى ما أوْرَدَهُ مُفَرَّقًا في بعضِ التَّراجم، خاصَّةً ما وَرَدَ في الجُزء العاشرِ الخاصِّ بالكُنَى.
وثَمَّةَ مثالٌ آخرَ يُدَلِّلُ على قِيْمةِ الكتابِ، ويتَّصِلُ بالجُزْءَ الأوَّلِ من عَمَل ابن العَدِيْم (المُقَدِّمة)، يَتَمثَّلُ في البابِ الَّذي خَصَّصَهُ المُؤلِّفُ لإحْصَاءَ ورَصْدِ الوجُودِ السُّكَّاني في حَلَب وجِوَارِها، وعُنْوانُه "بابُ في ذِكْر مَنْ نَزل من قَبائِل العَرَب بأعْمالِ مَدِينة حَلَب، ومَن كان قَبْلَهُم في سَالِف الحِقَب"، وكان مُسْتَنده الرَّئيسيّ في هذه البَحْث كتابٌ اسْمُه:"دِيْوان العَرَب، وجَوْهَرة الأدَب، وإيْضاخ النَّسَب"، لمُؤلِّفٍ خَامِل الذِّكر لَم يُترجِمْ له أحدٌ، اسْمُهُ مُحمَّد بن أحمَد بن عَبْد الله الأَسَدِيّ، من أهْلِ القَرْن الرَّابع الهِجْريّ ظنًّا، وهو كتابٌ مَفْقُودٌ لم يَصِلْنا منهُ سِوى القِطَع والنُّقُول العَدِيْدة الَّتي أوْرَدَها ابنُ العَدِيْم، ولولا هذا المَصْدَر لتَعَذَّرَ علينا مَعْرفةَ القَبائِل الَّتي كانتْ تَقْطُن في جُنْدِ قِنَّسْرين خلال القُرُون الأرْبَعةِ الأُوْلَى، خُصُوصًا بعدَ ضَياعَ القِسْم الخاصِّ بقَبائِل هذا الجُنْد من كتابِ البُلْدان لليَعْقُوبيّ. وأصْبَحَ بإمْكانِنا - بمَعُونَةِ كتابِ الأَسَدِيِّ - تَلَمُّسُ الوجُودِ القَبَليِّ في إقْليم حَلَب "جُنْد قِنَّسْرين"، ومَعْرفَةُ أماكِنِ سُكْنى القبَائِل،
(1)
تاريخ ابن عساكر 38: 418 - 420.
وتَمْييزُ أهْل الوَبَرَ عمَّن خَرَجَ عن البادِيَةِ فالْتَحَقَ بأهْل المَدَر، وما طَرأَ عليهم من هِجْراتٍ وارْتِحال.
وبمُناسَبةِ ذِكْر كتابِ البُلْدان لليَعْقُوبيّ، فقد وَصَلَنا عَمَلهُ البُلْدانيّ باسْتِثناءَ القسْمِ الخاصِّ بجُنْد قِنَّسْرين، الَّذي وقَعَ اسْتِلَاله من مَخْطُوطَةِ الكتاب، ولَم يَتَبقَّ منه إلّا بضْعةُ أسْطُرٍ، وهذا القِسْمُ الضَّائِع من الأهَمِّيَةِ بمكان لاخْتِصَاصِه بذِكْرِ القَبَائِل الَّتي تتَوَزَّعُ في المُدنِ والنَّواحِي، ولحُسْنِ الحَظِّ فقد نَقَلَ ابنُ العَدِيْم بَعْضًا من مادَّة اليَعْقُوبيّ هذه، فجاءَت النُّصُوصُ الَّتي حَفِظها ابنُ العَدِيْم لتُطْلِعُنا على ما كَتَبَهُ اليَعْقُوبيُّ حِيالَها، وبَقِيَتْ من كتاب اليَعْقُوبيّ بعضُ الإشارَاتِ عن مَواضعَ نَسَبَها اليَعْقُوبيّ إلى جُنْدِ حِمْص، وهي في اعْتِباراتِ ابنِ العَدِيْم من جُنْدِ قِنَّسْرين؛ مثل: مَعَرَّة النُّعْمان وفَامِيَة وكَفَرْطَاب وحَمَاة.
أمَّا فيما يتعلَّقُ بالتَّراجِم، والَّتي تَشْغَلُها بقيَّةُ أجْزاءَ الكتاب، فقد صَنَعَ ابنُ العَدِيْم تَراجِمَ مُتَميِّزةً لأعْلَامٍ من العَرَبِ والعَجَمِ على السَّواء، من أهْل العِلْم والأدَبِ والسِّيَاسَةِ وحتَّى عُقَلاءَ المجانِينِ، تَجْمعُهم حَلَبُ إمَّا بالسُّكْنَى والإيْطانِ أو بالمُرُورِ والعُبُور، وهي تَراجِم تَسْتَمدُّ قيْمَتَها ممَّا ضَمَّنَهُ المُؤلِّفُ في التَّعْريف بهم، وما سَاقَه في التَّضَاعيفِ من أشْعَارِهم ورِوَاياتِهم وأخْبَارِهم.
إنَّ تَميُّزَ ترَاجِمِ ابنِ العَدِيْم وفَرَادَتها تَكْشِفه - على سَبِيل التَّدْلِيل لا التَّخْصِيص - السِّيْرةُ الَّتي صَنَعها لأبي الطَّيِّب المُتَنَبِّي، فهو وإِنْ لَم يكُن الوَحِيدَ الَّذي تَعرَّضَ بإسْهابٍ للتَّعْريف به، إلَّا أنَّه ذَكَرَ في تَرْجَمتِه بعض ما لا يُوجَدُ عندَ غيره، وانْفَرَدَ عن أقْرانِهِ بالمَعْلُوماتِ الطَّريفَةِ الَّتي أَوْرَدَها، إذْ ليس هناك من أدِيْب ولا مُؤرِّخٍ اسْتقصى - على سَبيل المثال - مكان سُكْنى المُتَنَبِّي من مَدينةِ حَلَب، بينما حدَّد ابنُ العَديم مَوْضعَه (الجزء الثَّاني):
"وكان نُزُولُه بحَلَب في مَحلَّتِنا المَعْرُوفةِ بآدر بني كِسْرَى. قال لي وَالدِي: وكانت دارهُ دَارًا هي الآن خَانكَاه سَعْد الدِّين كُمُشْتكِيْن مُلَاصقَة لدَارِي".
ويَنْفردُ أيضًا بذِكْر قُدُوم المتُنبِّي إلى مِصْرَ مرَّتين، مرَّةً في سَنَة 335 هـ، وأُخْرى سَنَة 346 هـ، والمَشْهُورُ المَعْرُوفُ عند المُؤرِّخينَ أنَّه زَارها مرَّةً واحدةً (346 هـ) وأقام فيها برفْقةِ كافُور. فكانت تَرْجَمتُهُ للمُتَنَبِّي من أكْمَل التَّراجمِ وأوْعَبها، وهي تَرْجَمَةٌ طَويلةٌ تَقَعُ في نحو 60 ورقة من الأصْلِ المَخْطُوطِ، وقد نوَّه الأُسْتاذُ مَحْمُود شاكِر - يَرْحمه الله - بأهَمِّيةِ هذه التَّرْجَمةِ في دِراسَاتِه المُسْتَفيضَةِ عن المُتَنَبِّي، واسْتَعانَ بها كثيرًا، وأشارَ إلى تَفرُّدِ ابن العَدِيْم في كَثِيرٍ من اللُّمَع الَّتي أَماطَتِ اللِّثَام عمَّا لَاكَتْهُ الأَلْسُنُ حَوْلَ حَياةِ المُتَنَبِّي
(1)
.
ونَقِفُ في تَراجِمِ وابن العَدِيْم على أسْماءَ لأعْلَام مَغْمُورين، لَم يَرِدْ لهم ذِكْرٌ فيما عَدَاهُ، ولولا ما قيَّدَهُ عنهم لطَواهم النِّسْيانُ، وانْدَثَر ذِكْرُهم، وانْقَطَعَ خَبَرهم.
ويَشْتَملُ الكتابُ أيضًا على كَميَّة كَبيرةٍ من القَصائِدِ والأشْعارِ والمَقْطُوعات الشَّعْريَّةِ لكَثير من الشُّعَراءَ، وأَغْلَبُه ممَّا لم يَجْتَمعْ في دِيْوان، إضافَةً إلى حِكايات أدَبيَّةٍ ورِوَايات تاريخيَّة، اسْتَمدَّ ابنُ العَدِيْم بعضَها من مَصادرَ لم تَصِلْنا ولَمِ ترَدْ عندَ غيره. وعلى ما حَفِظَهُ ابنُ العَديم من قَصائدَ ومَنْظُوماتٍ، أُقِيْمت بعضُ دواوينِ الشِّعر أو اسْتُدْرِكَ عليها، وأُعِيْدَ - بفَضْله - الاعْتِبارُ لعَدَد كَبير من الشُّعَراءَ.
مَنْهَجُ ابنُ العَدِيْم في تَصْنِيف الكِتَاب وتَرْتِيبه:
تَقيَّلَ ابنُ العَدِيْم - في مَنْهِجِه وخِطَّتِه - سَنَنَ الخَطِيب البَغْدادِيّ في كتابِه "تأريخَ مَدِينَة السَّلام"، وسَلَكَ منْهجه، ولعلَّ ابنَ العَديم ضَمَّن خُطْبَة كتابَ البُغْيَة، الَّتي ضاعَتْ بضَياعَ الأوْراقِ الأُولَى من الجُزءَ الأوَّل، جانبًا من خِطَّتِه، وطَرِيقَته، والغايةِ من تَصْنِيفِه الكتاب.
(1)
محمود شاكر: المتنبي 605 - 656.
إنَّ وجُودَ الجُزءَ الأوَّل بين أيْدينا، إضافةً إلى أجْزاءَ مُتَفرِّقَةٍ من نصْفِه الأوَّل، وكَذا الجُزء قَبْلَ الجُزئين الأخِيرَيْن منه، تُتِيحُ لنا مَعْرِفَةَ مَنْهجِه في التَّأَلِيفِ وتَرْتيبِ مادَّة الكتابِ، وإنْ كانَ ابنُ الشَّعَّارِ المَوصِليّ قد قرَّر بأنَّهُ سَلكَهُ على غِرَارِ كتاب بَغْداد:"حَذا فيه حَذْوَ تاريخ الخَطِيْب أبي بَكْر بن ثابِت"،
(1)
، وألَّفَهُ على نَمطِه
(2)
، لَم يَشُذْ عنه حتَّى في مَداخِل الأبْوابِ والفُصُولِ الّتي تَسْبقُ مَجامِيع أسْماءَ التَّراجم، وإنْ خَالَفَهُ في التَّرْتيبِ في تَراجِم المحمَّدين الَّذين سَلَكهمِ الخَطِيبُ في أوَّلِ التَّراجمِ، عل عادَةِ بَعْض المُؤرِّخِين في تَقْديمهم على غَيْرهم، وتَقْديم العَبادِلَة على بَقيَّةِ العُبّاد تَبَرُّكًا بهم، بينما رَاعَى ابنُ العَدِيْم التَّرْتيبَ على حُرُوف المُعْجَم، فأَخَّرَ ذِكْرَهُم إلى مَوْضِعه.
وعَمَلُ ابن العَدِيْم أيضًا لا يبعُدُ عن طَرِيقَةِ ابن عَساكِر في كتابِه "تاريْخ مَدِينة دِمَشْق"، لكن اخْتِلَافَ مَشْرَبِ كُلٍّ منهما انْعَكَسَ جَليًّا على عَمَليهما، فابنُ عَساكِر - لتكوينه الحَدِيثي - حَشَدَ في كتابِه جُمْلَةً كثيرةً من الرِّواياتِ الَّتي تَعَدَّدَتْ فيها طُرُقُ النَّقْل والرِّوَايةِ وإنْ اتَفقَتْ في المَتْنِ والمَضْمُون، بينما كانَ ابنُ العَدِيْم أكْثَرَ انْتِقاءً وتَحْريرًا لنُقُولِهِ، وأحْرَصَ على جَوْهَرِ المادَّة، وإنْ لَم يُغْفِلْ مَصْدَرَ النَّقْل وسَنَدَ الرِّوايَة.
وفي الكتابِ الأوَّل الَّذي خَصَّصَهُ المُؤلِّفُ للكَلامِ على حَلَب وما يُجاورُها، وما فيها من أنْهارٍ وبُحيراتٍ ومَعالَمَ ومَشاهدَ، فإنَّهُ لَم يخْرُجْ عن مَنْهَجِ الحافظَيْن: الخَطِيبِ البَغْدادِيّ وابن عَساكِر، إذْ خَصَّصَ الخَطِيبُ الجُزءَ الأول من كتابِه للكلَام على مَدِينة بَغْداد وأوَّلِيَّةِ تَأسِيسها، وخِطَطِها، وفَضَائلِها، ومَحاسِن أهْلها، وذِكْر نَهْريها: دِجْلَة والفُرَات، وتَعْدَاد مَساجِدها، وجُسُورها، وما يتعلَّقُ بنَواحِي المَدِينة،
(1)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 233.
(2)
روزنثال: علم التأريخ 233.
ومَرافِقها المُختَلِفة
(1)
، وخَصَّصَ الحافِظُ ابن عَساكِر المجَلَّدَيْن الأوَّلَيْن من كتابِه للحَدِيث عن مَدينةِ دِمَشْق وفَضائلِها ومَعالمِها، وقد أثْنَى ابنُ العَدِيْم على عَمَله، واسْتَفادَ منه، وأحَالَ على ما أوْرَده ابنُ عَساكِر في فَضَائل الشَّام، يقول (الجزء الأوَّل):
"وقد ذَكرَ الحَافِظُ أبو القَاسِم الدِّمَشْقِيّ في تاريخ دِمَشْقَ من فَضْلِه ما كَفَى، وأوْردَ في ذلك من الأحاديثِ والآثار ما أشْبَعَ القَولَ فيه وشَفَى، فإنَّه أطالَ فيما ذَكَرَهُ وأطْنَب، وأكْثَرَ النَّقْلَ فيما أوْردَهُ وأسْهَب، ومَدَّ عِنَانَ قَلمِهِ فيما سَطرَهُ وأطْلَقَهُ، وأوْسَعِ المجالَ في كُلِّ حَديثٍ أسْنَدَه وبيَّن طُرُقه، فاكْتَفَيْنا بما نقلَهُ وأوْردَهُ، واسْتَغنينا بما رواه في فَضْل الشَّام وأسْنَدَه، إلَّا إنَّا لم نَرَ إخْلاءَ كتابِنا هذا عن إيْرادِ شيءٍ من فَضْله، ولا إسْتَحْسنَّا تَركَ التَّنبيهِ على ما وَرَد فيه وفي أهْلهِ، فاقْتصَرنا من ذلك على القليل، واكْتَفَيْنا بالإشَارةِ إلى وَجْهِ الدَّليل".
وعليه فقد جَعَلَ ابنُ العَدِيْم الكتابَ الأوَّلَ من تارِيْخهِ كالمُقَدِّمةِ لعَمَله، بل إنَّهُ يُشُيرُ إليه في ثَنايا التَّراجمِ باسْم "مُقَدِّمة الكتاب"، أو "دِيْباجَته"، وعلى هذه المُقَدِّمَة مَدارُ بَقِيَّة الأجْزاء فيمَن تَرْجَم لهم، ويقُولُ روزنثال:"إنَّ ابنَ العَدِيْم يَسْتَحقُّ الذِّكْرَ لا لأَنَّ لبعضِ تَراجِمهِ خَصائِصَ تاريخيَّة، بل لأنَّ المُقَدِّمةَ التَّأريخيَّةَ لأحْسَنِ على يَده فَصْلًا ضَخْمًا عن جُغْرافيَّةِ شَمالي سُوريا، وأنَّها بُحِثَتْ تَبَعًا لأحْسَنِ المَصادِر وقُدِّمَتْ فيها مَعلُوماتٌ ثقافيَّة غَنِيَّة"
(2)
.
واسْتنادًا إلى مُلاحَظةِ روزنثال هذه، فقد تَمَيَّزَ ابنُ العَدِيْم في هذه المُقَدِّمةِ عن سَلَفه الخَطِيب، البَغْدادِيّ وابن عَساكِر، إذ جَمَعَ مادَّةً جُغرافيَّةً وَاسِعة وقَيِّمة عن المَنْطقةِ الَّتي شَمِلَها إقْليمُ حَلَب، وهو المُعَبَّرُ عنه قَديمًا بجُنْدِ قِنَّسْرين
(1)
ينظر في ذلك الدراسة الضافية للأستاذ الدكتور بشار عواد معروف في مقدمة تحقيقه للكتاب 1: 75 وما بعدها.
(2)
روزنثال: علم التأريخ 233 - 234.
ثُمَّ مَمْلكةُ حَلَبَ فيما بَعد، ورَصَدَ أقْوالَ الجُغْرافيِّيْن، ومُدَوَّناتِهم وإفاداتِهم، وحَفِظَ لنا نُصُوصًا غائبِة - أو في حُكْم الضَّائِعةِ - وكانتْ عَيْنُه البَصِيْرةُ نقَّادَةً لتلك الأخْبار والنُّقول، فعلى سَبيل المثال أطْلَعَنا ابنُ العَدِيْم على نُصُوصٍ جُغْرافيَّة للمُهَلبيّ ممَّا ضَمَّنَهُ كتابهُ المَسَالِك والمَمالِك، المَعْروف اخْتِصارًا بالعَزِيزيّ، والَّتي لَم تَصِلْنا إلَّا من طَريقه وبَعْضُها من طَريقِ صَدِيقه ياقُوِت الحَمَويّ، أَثْبَتَها وتَتَبَّعَها بالنَّقْدِ والتَّصْويبِ والشَّرْحِ والتَّوْضِيح. وحَفِظَ لنا بعض نصُوصِ رِحْلَةِ أبي الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ (ت 286 هـ) الَّتي رَافِقَ فيها الخليْفةَ المُعْتَضدَ بالله في سَفَره عام 271 هـ لقتالِ خُمَاروَيْه، إضافةً إلى نُصُوصٍ أُخْرَى للسَّرْخَسِي من كتابِه المَسالِك والمَمَالِك، ورِسَالته في البحارِ؛ المفقُودِ أصْلُهُما، وكتابِ المسَالِك والممَالِك لمُحمَّد بن أحمد الجَيْهانِيّ، ومثلُها عَشَراتُ الكُتُبِ والرَّسائل والمجامِيع الَّتي تفرَّدَ المُصَنِّف بذِكْرها والنَّقْل عنها.
وعلى غِرار ما فَعَلَهُ أسْلافُه الحافِظَان: الخَطِيب البَغْدادِيّ وابن عَساكِر وغيرهما ممَّن اعْتَني بالتَّأْريخ البُلْدانيّ، فقد اقْتَصَرَ في كتابهِ على ما يتَّصِلُ بمَدِيْنةِ حَلَب وما يَتْبَعُ إليها من قُرَى ونَواحٍ دُونَ سِواها من حَواضِرَ وأقاليمِ الدَّوْلَة، وأشارَ إلى جانِبٍ من الخِطَّة الَّتي رَسَمها لنَفْسِه في عِدَّة مَواضعَ، فبعد أنْ عدَّدَ المواضِعَ الَّتي تَنْدَرج ضمنَ أعْمال حَلَب، قال (الجزء الأوَّل):
"فهذه المُدُنُ والثُّغُورُ الَّتي أوْرَدنا ذِكْرَها في هذا الفَصْل هي شَرْطُ كتابنا هذا، وقد بيَّنَا أنَّها من أعْمَال حَلَب، وإنْ وقعَ الاخْتلَافُ في بَعْضِها، فلا بُدَّ من ذِكْرِها في هذا الكتاب، وذِكْر ما وَرَد فيها، وذِكْر مَنْ دَخَلَها أو اجْتَازَ بها، أو كان من أهْلِها إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى".
وفي كَلامِه على الإقْليم الرَّابع بحَسَبِ تَقْسِيمات الجغرافيِّين، وهو الإقليمُ الَّذي تقَعُ حَلَب ضِمْنه، وعندَ نقله من جُغْرافيا بَطْلَمْيُوس، وما عدَّدَهُ من أسْماءِ المُدن
المشهُورةِ في الإقليم الرَّابع، انْتَخَبَ منها ما يتَّصِلُ بإقْليم حَلَب، قال (الجزء الأوَّل):
"قال - أي بَطْلميُوس -: وعَرْضُ هذه البُلْدانِ جميعها من ثلاثٍ وثلاثين دَرَجَةً إلى تسعٍ وثلاثين دَرَجَةً. وعَدَّ غيرَ هذه المواضع من المُدُن لم أكْتبها لأَنَّهُ لا يتَعَلَّقُ بذِكْرِها لي غَرضٌ، وانَّما غَرَضي منها ما ذَكَرتُه لأنَّهُ من أعْمَالِ حَلَب، حَرَسها اللهُ تعالى".
وفي كلامِهِ على ما يتعلَّقُ بحَلَبَ من المَلَاحِم (الجزء الأوَّل):
"وذَكَرَ ابنُ المُنادِي أشْياءَ من المَلَاحِم اخْتَصَرتُها أنا، وذكَرتُ ما يتَعلَّقُ بحَلَبَ وأعْمالِها".
ومثلُ ذلك في بابِ التَّراجم، فقد تَجاوَزَ عن التَّرْجَمَةِ لبعضِ أبْناءَ المنطقةِ ممَّن انْقَطَعتْ عَلاقَتُهم بها، ولا تَجْمَعُهم بها رَابِطةُ سُكْنى أو مُرُور؛ أمْثال أبي عليّ المُحَسِّن التَّنُوخِيّ (ت 384 هـ)، فقد انتقَلَ أبُوه إلى العِرَاقِ فوُلِد له المحسِّن بالبَصْرَة، وبَقِي في العِراق، وكانت وَفاتُهُ ببَغْداد، وصَرَّحَ ابنُ العَدِيْم بأنَّهُ تَجاوز عن التَّرْجَمَةِ له أثْناءَ الكَلام على التَّنُوخيِّين بحَلَب ونَواحِيها، قال (الجزء الأوَّل):
"وأوْلَد أبو القَاسِم ببَغْداد ولده المُحَسِّن بن عليّ التَنُوخِيّ مُؤلِّف نِشْوار المُحَاضَرة، وكِتاب الفَرَج بعدَ الشِّدَّة، وليسَ هو من شَرْطِ كتابِنا هذا".
وعلى هذا النَّهْج سَلَك كتابهُ، وعلى قاعدةٍ مُقرَّرةٍ سارَ في تأْليفه، فجاءَ رَسْمُه مُطابقًا لاسْمه "تاريخ [إقْليم] حَلَب"، مُخْتصًّا بهذه البُقْعَةِ من بلادِ الشَّام، تَعْرِيفًا بمُدنِها وقُراها ومَعالمِها الطَّبيعيَّة، وتأْريخًا لحَوادثِ وأيَّامها، وتَعْريفًا برِجالها وعُلمَائها: من أهْل البَلَد أو الطَّارئين عليها.
وابنُ العَدِيْم؛ وقد قدَّمَ تَراجِمَ مُتَميِّزة؛ اسْتَقْصَى فيها أخْبارَ المتَرْجَم لهم، وتَتَبَّعَ أحوالَهم بحَسَبِ ما سَمحتْ به مَصادرُ العَصْرِ، وما تَوفَّر لدَيه من رِوَاياتٍ
وأخْبار، فلَم يَكُنْ حصَّادًا للأخْبارِ، جَمَّاعًا لها من المَصادرِ؛ يَحْشُرها دون تَمْحيصٍ ولا تَثَبُّتٍ، بل عَمِلَ على الانْتِقاءَ، والتَّقْليل من التَّكْرار من خلالِ الإحَالةِ على أخْبارٍ تقدَّمَ ذِكْرُها عندَه واتَّصَلتْ بأكْثَرَ من عَلَم. وغَلَبَ عليه طابعُ المُؤرِّخ المُدَقِّق، فامْتَازَ بنَظْرتهِ النَّقديَّة الفاحِصَةِ الصَّارِمَة، فلم يَكُنْ نَاقِلًا للنُّصُوصِ والرِّواياتِ فقط؛ بل نَاقِدًا لها، ومُعلِّقًا على ما يُؤكِّدُ أو يَنْفي كَلامَ مَن تَقَدَّمَهُ، وهو أيضًا يُصحِّحُ ويَعْترضُ ويُؤيِّدُ، ويَعْضُد الأقوالَ أو يُضَعِّفُها، كُلُّ ذلك يَكْشِفُ عن نَفَسٍ تَأْريخيٍّ عَميق، وسَعَةٍ في الاطِّلَاعَ، وفي النَّماذِج التَّالية ما يُغْني عن الشَّرْح:
ففي تَرْجَمةِ المُتَنَبِّي (الجُزء الثاني) نَقَلَ ابنُ العَديم نصًّا من رسَالةِ ابن القَارِح (دَوْخَلَة)، يَذُمّ فيه المُتَنبِّي، مُسْتَنِدًا في ذلك إلى كتابٍ في التَّاريِخ اجْتَمعَ على تأْليفِه ابنُ أبي الأزْهَر والقُطْرُبُّلِيّ، ومَضْمُونُه:"أنَّ الوَزِيرَ عليّ بن عِيسَى جلسَ للنَّظَرِ في المَظَالِم، وأحْضَرَ مَجْلسَهُ المُتَنَبِّي وكان مَحْبُوسًا ليُخلي سَبيلَه، فناظرَهُ بحَضْرَةِ القُضَاةِ والفُقَهَاء، فقال: أنا أحْمَدُ النَّبِيَّ، ولي علامةٌ في بَطْنِي، خاتَمُ النُّبُوَّةِ، وكشَفَ عن بَطْنِه وأراهُم شَبِيهًا بالسَّلْعَةِ على بَطْنهِ، فأمرَ الوَزيرُ بصَفْعِه فصُفِعَ مائة صفْعَة، وضَرَبه وقَيَّده، وأمَرَ بحبسهِ في المُطْبَق". وبعد أنْ عادَ ابنُ العَدِيم إلى كتابِ التَّاريخ المُشَارِ إليه، وجَدَ القصَّةَ في حَوَادثِ سَنَة 302 هـ، فحقَّق المَسْألةَ بالقَول:
"فبانَ لي أنَّ أبا الحَسَن عليّ بن مَنْصُور الحَلَبِيّ [دَوْخَلَة]، رأى في تاريخ ابن أبي الأزْهَر والقُطْرُبُّلِيّ ذِكْرَ أحْمَدَ المُتَنَبِّي فظَنَّهُ أبا الطَّيِّب أحْمَد بن الحُسَين، فوقعَ في الغَلَطِ الفَاحِشِ لجَهْلهِ بالتَّاريخ، فإنَّ هذه الوَاقِعَةَ مَذْكُورَةٌ في هذا التَّاريخ في سَنَة اثْنَتَيْن وثَلاثِمائة، ولم يكُن المُتَنَبِّي وُلدَ بَعْدُ، فإنَّ مَولدَهُ على الصَّحيح في سَنَة ثَلاث وثَلاثِمائة، وقيل إنَّ مَولدَه سَنَةَ إحْدَى وثَلاثِمائة، فيكونُ له من العُمْر سَنَة واحدةٌ. وأبو مُحَمَّد عبد الله بن الحُسَين الكاتب القُطْرُبُّلِيّ، ومُحَمَّدُ بن أبي الأزْهَر ماتا جميعًا قبلَ أنْ يَتَرعرعَ المُتَنَبِّي ويُعْرَف.
وهذا المُتَنَبِّي الّذي أحْضرَهُ عليُّ بن عِيسَى هو رَجُلٌ من أهل أصْبَهَان تَنَبَّأ في أيَّامِ المُقْتَدِر، يقالُ له: أحْمَدُ بن عبد الرَّحيم الأصْبَهَانِيّ، ووَجَدْتُ ذِكْرَهُ هكذا مَنْسُوبًا في كتابِ عُبَيْد الله بن أحْمَد بن طَاهِر الّذي ذَيَّلَ به كتابَ أبيه في تاريخ بَغْدَاد".
وفي تَرْجَمَةِ أبي العَرَب البَادِيسِيّ المَغْرِبيّ، نَقَلَ كَلامَ الحافِظ ابن الدُّبَيْثِيِّ، وعَقَّبَ عليه بالقَوْل (الجزء الرَّابع):
"كذا قال ابنُ الدُّبيْثِيِّ: مَنْسُوبٌ إلى بَلْدَةٍ بالمَغْرب تُسَمَّى بَادِيْس! وهو وَهْمٌ فَاحِشٌ، وبَادِيْسُ اسْمُ رَجُلٍ يَنْتسب إليه جَمَاعَةٌ من المُلثَّمةِ، وفيهم مُلُوكٌ منهم: تَمِيْم بن بَادِيسْ، وهذا سَبْتِيٌّ، وبَادِيْس الَّتى هي المَدِينَةُ ليسَ هذا منها، واللهُ أعْلَمُ".
وفي تَرْجَمَةِ قسيم الدّوْلةِ آق سُنْقُر نَقَلَ من تاريخ عليّ بن مُرْشِد بن عليّ بن مُنْقِذ، وعلَّقَ على ما وقَعَ فيه من أخْطاءَ بالقول (الجزء الرَّابع):
هكذا نَقَلْتُ من خَطِّ ابن مُنْقِذ، وفيه أَوْهَامٌ! من جُمْلتِها أنَّهُ قال: فكَسَرَهُ تاجُ الدَّوْلَةِ بأرضِ تُبَّل. وليسَ كذلك، بل بأرْضِ سَبْعِين أو كَارِس من نُقْرَة بَني أَسَد.
وتُبَّل ليست من هذه الكُورَة، وبينهما مَسَافَةُ يومٍ.
ومن جُمْلَةِ أَوْهَامِه أنَّهُ قال: جلَسَ في قلعَةِ حَلَب، وضَرَبَ رَقَبةَ آقْ سُنْقُر فيها.
وليسَ الأمْرُ كذلك، بل ضَرَبَ رَقَبتَهُ عَقِيب الكَسْرة بسَبْعِين، أو كَارِس، ورُوْمِي ابن وَهْب حَكَى له صُوْرةَ قَتْله، لا أنَّهُ كان بحَلَب، والَّذي قَتَلهُ تاج الدَّوْلَة صَبْرًا بحَلَب هو بُزَان صاحِبُ الرُّهَا، وكان انْهزَمَ في هذه الوَقْعَةِ إلى حَلَب. فلمَّا دَخَلَها تاجُ الدَّوْلَة أحْضَرَه وقَتلَه، وقيلَ: بل أسَرَهُ وحَمَلَهُ إلى حَلَب فقتَلَهُ على ما نَذكُرُه في تَرجَمَتِهِ إنْ شَاء اللهُ تعالَى.
وقال: بَقي قَسِيمُ الدَّوْلَةِ في قَبْرِه من سَنَة خَمْسٍ وثَمانين إلى سَنَةِ ستٍّ وعشرين. وهذا طُغْيَانٌ من القَلَمِ، فإنَّ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ قُتِلَ سَنَة سَبْعٍ وثمانين، وقد ذَكَرهُ كذلك".
وقال في تَرْجَمَةِ حُجْر بن عَدِيّ الأدْبَر الكِنْدِيّ بعد أنْ نقَلَ رِوايَةً من تاريخ ابن عَساكِر وَقَعَ الخَطَأُ فيها (الجزء الخامس):
"قُلتُ: هكذا جاءَ في هذه الرِّوَايَةِ: فيهم الأشْعَثُ بن قَيْس، وهو وَهْمٌ فَاحِشٌ، فإنَّ هذه القِصَّةَ كانتْ في سَنَةِ إحْدَى وخَمْسِين أو في سَنةِ خَمْسِين، والأشْعَثُ ماتَ في سنةِ أرْبَعيْن قبْلَ هذه الوَاقِعَةِ بإحْدَى عَشْرة سنةً، وقد ذَكَرنا فيما نَقَلْنَاهُ عن ابنِ دِيْزِيْل أنَّ الّذي طَلَبَ منه مُعاوِيَةُ إحْضَارَ حُجْر إليه هو مُحَمَّد بن الأشْعَث. والعَجَبُ أنَّ الحافِظَ أبا القَاسِم ذَكَرَ هذه القِصَّةَ بهذا الإسْنَادِ ولم يُنبِّه على هذا الوَهْم".
وابنُ العَدِيْم صانعُ تَراجِم، إذ لم يَكْتَفْ برَصْدِ تراجم الحلَبيِّيْن أو أولئك الَّذين مرُّوا بحَلَب أو زَارُوها، ممَّا وَجَدَهُ مُترجَمًا في كُتُبِ الرِّجالِ والتَّراجم، بل قد نَجِده يُقِيمُ تَرْجَمَةً لأحَدِهم من تَضاعِيْفِ أسانيدِ الأحادِيث أو الأخْبار، ويَتَتبَّع أخْبارَه في مَظانِّ الكُتُب، مُنْفردًا بالتَّعريفِ به.
ورتَّب التَّراجِمَ على التَّرْتيبِ الألفْبائيّ في الأسْماءَ، وكذا في الآباءَ، ثُمَّ في الأجْدَادِ ودَواليك، ويُلحِقُ الاسْمَ - أحيانًا - بالتَّعْريفِ بنَسَب المُتَرْجَمٍ له أو نِسبتِه، ثُمَّ ذِكْرَ اخْتصاصه من العُلُوم كالفِقْه، أو الحَدِيث، أو الأدَبِ: كتابةً وشِعْرًا، إلى غير ذلك من ضُرُوبِ المَعْرفةِ وأبْوابِ العِلْم، ثُمَّ يُعَدِّدُ شُيُوخه وتَلاميذه، ويُثْبِتُ نُصُوصًا ممَّن تَرْجَمَ له، وأُخْرَى من مَرْويَّاته أو من نتاجِه الشِّعْريّ، وَيَعْرضُ جانبًا من حَياتِه وسِيْرَتِه، ويَخْتمُ التَّرْجَمَةَ بالتَّاريخ لوَفاتِه وإيْرادِ الأقْوالِ إذا ما تعدَّدَتْ واخْتَلَفت.
وتَتَبَّعَ - في تَراجِم المُلُوكِ والأُمَراءَ والقادَة ومَن يَجْري مَجْراهم - ظُرُوفَ عَصْرِهم ومُشَارَكتهم في الأحْدَاثِ الكائنة لعَهْدِهم، وما وقَعَ في أخْبارِهم وسِيَرِهم من وَقائعَ ومُجْرَيات.
ولَم يُعَيِّنْ لتَرَاجِمِهِ مَساحةً محُدَّدةً، فجاءَتْ مُتفاوِتَةً في الطُّولِ والقِصَر، أقلُّها صَدُّ الاكْتِفاء بالاسْم وتَعْريفٍ صغير كتَرْجَمةِ أحمدَ بن حَمْزَة بن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن خُزَيْمَة الهَرَويُّ، أبي إسْمَاعِيْل الحدَّادُ الصُّوْفيّ المَعْرُوف بعَمّوَيْه، والَّتي لم تَزِدْ عن ثلاث كَلَماتٍ:"شَيْخ الصُّوْفيَّةِ بهَرَاة"، وتَرَكَ له فَراغًا لاسْتكمالِ تَرْجمَتِه، وأكْثرُها يَمْتَدُّ لصَفحاتٍ كثيرةٍ تَزِيدُ على السِّتِّين والسَّبْعين، بحَسَبِ قِيْمة المتَرْجَمِ له ومَكانتِه وأثَرِه، وأيضًا بحَسَبِ ما يَقَعُ له من أخْبارِهِ وسِيْرتِه، كتَرْجَمةِ الحُسَين بن عليّ بن أبي طَالب، وأبي الطَّيِّب المُتَنبي، وأبي العَلاء المَرَّيِّ، وأبي العتَاهيَة، والحجَّاج بن يُوسف الثَّقفيّ.
ويلفتُ النَّظَرَ في كتابِه جنُوحُهُ إلى الإحَالةِ ليَسْلَم من التَّكْرار، بما يَجْعَلُ الكتابَ وِحْدةً واحدةً، يُحِيلُ على الأحاديث والرِّواياتِ والأخْبار والتَّراجم. ومن خِلَال إحَالاته الكَثيرة تبَيَّن لنا كَثْرةَ المَفْقُود من كتابه وقِيْمَته.
وتَرْجَم لبعضِ الأعْلام ممَّن وَقَعَ الاخْتِلَافُ في تَسْمِيتهِم على رَسْم كُلّ اسْمٍ من أسْمائِهم، فمثلًا تَرْجَم لأبي لَيْلى الأنْصَاريّ في حَرْف الدَّال على ما قيل في أنّ اسْمَهُ داوُد بن بلَال، وتَرْجَم له في اسْم يَسار (وهو في الضَّائعِ من الكتاب وأحَالَ عليه)، وتَرْجَم له أيضًا في الكُنَى.
وتَرْجَم لأحمدَ بن حَمْدُون المَعْرُوف بالقَنُوعِ المَعَرِّيّ، وهو أيضًا ممَّن وقَعَ الاخْتِلافُ في اسْمه؛ فقيل فيه: أحمد بن مُحَمَّد بن حمْدُون، وقيل فيه: أحْمَد بن مُحمَّد عِوَضَ حَمْدُون، فأفْرَدَ له تَرْجَمةً تحتَ اسْمِه الأوَّل (الجزء الثَّاني)، وتَرْجَمَ له أيضًا
باسْمِ أحمد بن مُحَمَّد بن حَمدُون (الجُزء الثَّالث)، وتَرْجمةً أُخْرَى قي الألْقَاب (الجُزء العاشِر) تحتَ لَقَبِ القَنُوع المَعَرِّيّ، وفي كُلِّ واحدةٍ من هذه التَّراجِم أوْرَدَ له أشْعارًا مُخْتلِفَةً. وقد نبَّه على ذلك عندَ تَرْجَمته الأُولَى له: "وَسَنَذْكُر في كُلّ حَرْف ما سُمِّي به، ونُوردُ من شِعْره في ذلك الحَرْف ما نُسِبَ إلى ذلك الاسْم، والّذي يترجَّح عندي أنَّ اسْمَهُ: مُحَمَّد بن حَمْدُون لأنَّ الأكْثَر عليهِ، واللهُ أعْلَمُ.
وتَرْجَم لشاعِرٍ اسْمهُ عبد الله بن مُحمَّد المُخْتَرز (أو المُحْتَرز)، ويُلَقَّبُ بالأحْوَصِ في أرْبَعةِ مَواضِعَ: في أسْماءَ العَبَادِلة؛ وهي تَرْجَمَةٌ ضائعةٌ، وتَرْجَم له أيضًا في الأسْماءَ باسْم الأحْوَص (الجُزء الثَّالث) وتَرْجَمَ له في الكُنَى والألْقاب في تَرْجَمتَيْن مُنْفردتَيْن الأحْوَص الذُّفافِيّ، والمُحْتَرز الذُّفَافيّ!.
ودَمَجَ ابنُ العَدِيْم أحيانًا التَّرْجَمَةَ لشَخْصَين وجَعلَهُما في تَرْجَمَةٍ واحدةٍ، وَقعَ هذا في الجُزء العاشِر الخاصِّ بالكُنَى والألْقاب؛ كتَرْجَمتِه في كُنَى العَبادِلَة لأبي عَبْد الله الشِّبْليّ، خَادِم المُتَنَبي، وأبي عَبْد الله الدَّنِف الشَّاعِر، جَمَعَهُما لاقْتِرَانهما في الكُنْيَةِ ولاتِّصالهما بالمُتَنَبِّي، فهُما - كما عَرَّفَ بهما ابنُ العَدِيْم - من طَبَقَةِ المُتَنَبِّي وأقْرَانهِ، "كانا عند أبي الطَّيِّب بحَلَب مع جَمَاعَةٍ من الشُّعَراء، فَجَمَعْتُ بينهما في هذه التَّرْجَمَةِ لتَضَمُّن الحِكايَة ذِكْرَهُما جَمِيعًا"، ومثل:"ابْنا مَالِك الأسْلَميَّان"، الَّذَيَنْ أعاد التَّرْجَمَةَ لهما أيضًا باسم "ابْنَا هاشِم الأسْلَميَّان" بحَسَب اخْتِلافِ الأقْوَال في اسْم أبيهما، و"الخالِديَّان المَوْصِليَّان" ابْنا هاشِم العَبْدِيّ.
وتَرْجَم أيضًا لجَماعاتٍ تَجْمَعهُم النِّسْبَةُ إلى القَبِيلةِ أو إلى الصَّنائِع؛ كتَرْجَمتِه في الجُزءَ العاشِر للشِّبامِيِّيْن ممَّن كانوا مع الإمام عليّ كَرَّم اللهُ وَجْهه في صِفِّين، وبني الصُّفْريّ؛ مَوَالِي صالِح بن عليّ بن عَبْد الله العبَّاسِيّ، سُمُّوا بذلك لاسْتِعمالهم آلات الصُّفْر، وهم الَّذين يُسَمِّيهم أهْلُ حَلَب الطَّشْتِيَّة.
أمَانَتُهُ:
ويتَّصِلُ بمَنْهجِه في التَّألِيفِ: أمانَةُ النَّقْل ودِقَّةُ التَّوْثيق، وهي تفُوقُ في دِقَّتها مناهِجَ التَّوْثيق الصَّارِمَةَ في زَماننِا، ولعلَّهُ مأخوذٌ بقُوَّة ما تَعاطاهُ من الفَتْوى والحَدِيث والفِقْه، إذ اتَّبعَ طَريقَ عَزْوٍ وتَوْثيقٍ لكُلِّ مَصادرِه، ولم يُغْفِلْ إسْنادَه (مَصْدره) حتَّى في رِواياتِه عن أخَصِّ أهْلِه: والدِه وعَمِّه أبي غَانِم، فلم يُوْردْ نقلًا دُونَ ذِكْر المَصْدَر، وكيفَ وَصَل إليه؛ حتَّى لو كانَ أخْذُه من على ظَهْر كتابٍ، ويَعْزو الأقْوالَ إلى أصْحابِها، ويُعَدِّد الأسَانيدَ وإنْ طالَتْ، ويَصِفُ النُّسَخَ الَّتي بين يَديه، ويَضَعُ الفُروقَ بينها إذا ما تعدَّدتْ عندَه النُّسَخ، وفي النَّماذجِ التَّاليةِ ما يُدلِّل على تَحَرِّيهِ وطَرْيقَةِ تَوْثِيقه، فيَقُول عن نُسْخةِ كتاب الحاَفِظِ للمُنَادِي المَقْرُوءة على مُؤلِّفها (الجُزء الأوَّل):
"وقَع إليّ كتابٌ ألَّفهُ أبو الحُسَيْن أحمدُ بن جَعْفَر بن مُحمَّد بن عُبيد الله المُنَادِي، سَمَّاهُ: الحَافِظَ لمَعارفِ حَرَكاتِ الشَّمْسِ والقَمر والنُّجُوم في آفاقِها، والأقالِيْم وأسْمَاءَ بُلْدانها في سِياقها، وهو مَسْموعٌ عليه، وأحْسَبُه بخطِّهِ، فقَرَأتُ فيه
…
".
وأيضًا اعْتِناؤه بوَصف النُّسَخ الَّتي يَعْتَمدُ عليها كُودُكولجيًّا وبَيَان حالتها وخَطِّ كاتبها، وما عليها من سَماعات وخُطُوط لمُؤلِّفيها أو خُطوط عُلَماء مُعْتَبرين، مثل (الجزء الأوَّل):
"وَقَعَ إليَّ مَجمُوعٌ بخَطِّ بعضِ الفُضَلَاء، يتضمَّن فِقَرًا وقَواعِدَ وأخْبارًا وفوائِدَ، في نُسْخةٍ عَتِيقة؛ يَغْلِبُ على ظَنِّي أنَّ كاتِبَ النُّسْخَةِ جَمعَ المَجمُوع، فقَرأتُ فيه
…
".
وفي تَرْجَمَةِ المُتَنَبِّي (الجزء الثَّالث):
"وقَرأتُ في جُذَاذَة طِرْس مَطْرُوح، في النُّسْخَة الّتي وَقَعَتْ إليَّ بسَمَاعَ جَدِّ جَدِّ أبي القَاضِي أبي الحَسَن أحْمَد بن يَحْيَى بن زُهَير بن أبي جَرَادَة، من شِعْر المُتَنَبِّي على مُحَمَّد بن عَبْد الله بن سَعْد النَّحْوِيّ الحَلَبِيّ، وفيها مَكتُوبٌ بغير خَطِّ النُّسْخَة
…
".
وفي تَرْجَمَة إسْحاقَ بن صَالِح بن عليّ الهاشِمي (الجُزء الثَّالث):
"وَقَعَ إليَّ مُدْرَجٌ بخَطِّ الشَّريف هَادِي بن إسْمَاعِيْل بن الحَسَن بن عليّ بن الحَسَن الحُسَيْنيّ، كَتَبَهُ ووضَعَهُ وذهَّبَهُ للسُّلْطَان مُحَمَّد بن مَلِكْشَاه، في النَّسَب .. ".
وأيضًا في الجزء الأوَّل:
"وقَرَأتُ في تاريخ سَعيد بن كَثِيْر بن عُفَيْر في سَنةِ سَبْعَ عشرةَ، في نسْخَةٍ قَدِيْمَةٍ صَحِيْحة، قال:
…
".
وفي تَرْجَمَة الحَسَن بن عليّ بن أحْمَد بن وَكِيع التِّنِّيْسِيّ (الجزء الخامس):
"ووَقَعَ إليَّ نُسْخَة من شِعْره صَحيْحة؛ ابْتَدأ في أوَّلِ الدِّيْوَان وقال: قال أبو مُحَمَّد الحَسَنُ بن عليّ بن أحْمَد بن وَكِيع، وخَتَمَهُ بقَوْله: آخر شِعْر أبي مُحَمَّد الحَسَن بن عليّ بن وَكِيع، ثُمَ إنَّهُ كَتَبَ بعدَهُ: نَقَلْتُهُ من نُسْخَةٍ كان في آخرِها مَكْتُوبًا: نَقَلْتُهُ من نُسْخَةٍ كان في آخرها بخَطِّ ابن وَكِيع يقُول:
…
".
وفي تَرْجَمَةِ الحَسَن بن أحْمَد بن عليّ بن المُعلِّم الحَلَبِيّ (الجزء الخامس):
"وقَرأتُ بخَطِّ أبي البَيَان نَبَأ بن مَحْفُوظ الأدِيْب الدِّمَشقيّ، وذَكَرَ أنَّهُ نَقَلَهُ من نُسْخَةٍ نُقِلَت من خَطِّ عَبْدِ الوَدُود بن عِيسَى النَّحْوِيِّ من شِعْر أبي مُحَمَّد الخفاجِيّ، وعليها بخَطِّ عَبْد الوَدُود النَّحْوِيّ عند ذِكْر أبْياتِ أبي مُحَمَّد عند قَوْله
…
".
وكَرَّرَهُ في الكُنَى في تَرْجَمَةِ أبي طَاهِر بن المُحَسِّن ابنِ الجَدي الكَاتِب الحَلَبِيِّ (الجزء العاشر):
"قَرأتُ بخَطِّ أبي البَيَانِ نَبَأ بن مَحْفُوظ الأدِيْب الدِّمَشقي، فيما نَقَلَهُ من شِعْرِ أبي محَمَّد الخفاجِيّ، من نُسْخَةٍ مَنْقُولةٍ من خَطِّ عَبْد الوَدُود بن عِيسَى النَّحْوِيّ، وعلى المَنْقُولِ منها خَطُّ عَبْد الوَدُود بالتَّصْحِيح
…
".
وفي تَرْجَمَةِ القاضي الحُسَين بن عَبْد الرَّحْمن بن مَرْوَان الأسْدِيِّ الصَّابُونِيّ الأنْطَاكِيّ (الجزء السَّادِس):
"قَرَأتُ في دِيْوانِ شِعْرِ العبَّاس بن الوَلِيد الخَيَّاط أبي الفَضْل المِصِّيْصيّ، من نُسْخَةٍ رَثَّةٍ، سَيَّرَها إليَّ القَاضِي أبو مُحَمَّد بن الخشَّاب، قال فيه: .. ".
وفي تَرْجَمَةِ عمادِ الدِّين زَنْكِي في مَوْدُود بن زَنْكِي بن آقْ سُنْقُر (الجزء الثَّامن):
"وقَرأتُ بخَطِّ أبي غَالِب عَبْد الوَاحِد بن الحُصَيْن، فيما كَتَبَهُ بخَطِّه، عن القَاضِي الفَاضِل عبد الرَّحيم بن عليّ، في دُسْتُورِهِ الّذي جَعَلَهُ تَاريْخًا للمَاجَرَايَاتِ في كُلِّ يَوْمٍ، بعضُه بخَطِّ الفَاضِل، وبعضُه بخَطِّ [ابن] الحُصَيْن، قال:
…
".
وفي تَرْجَمَةِ أبي العَلَاء سَعِيْد بن حَمْدَان بن حَمْدُون بن الحاَرِث التَّغْلبِيّ الحَمْدَانِيّ (الجزء التَّاسِع):
"وَقَعَ إليَّ نُسْخَةٌ من شِعْرِ أبي فِرَاس، بخَطِّ أبي المَجْد عَبْدِ الله بن مُحَمَّد بن أبي جَرَادَة، شرْح أبي عَبْد الله بن خَالَوَيْه، وعليها بخَطِّ ابنه أبي الحَسَن عليّ بن عَبْد الله: هذه النُّسْخَةُ قَابَلَ عليها وَالدِي، رحمه الله، من أرْبَع نُسخٍ، وصَحَّتْ بنِهايَةِ المُمْكن، وهي بخَطِّهِ، وقابلتُ أنا عليها من نُسْخَةٍ خَامِسةٍ كَثِيْرة الشَّرْح، وقد خَرَّجْتُ ما وَجَدْتُ
من الزِّيادَةِ بخَطِّي في حَوَاشِيها، وها أنا أذْكُرُ من الأبْيَاتِ والشَّرْحَ في هذه القَصِيدَة ما - تَضَمَّن ذِكْرَ أبي العَلَاء سَعيدٍ على صُوْرتِه، قال بعد هذين البَيْتَيْن، أعْني ابن خَالَوَيْه .. ".
وفي تَرْجَمَةِ زَيْد بن عَدِيّ بن حَاتِم الطَّائيّ (الجزء التَّاسِع):
"ويُرْوَى لزيدٍ شِعْرٌ قَرَأتُه في كِتاب صِفِّين، من نُسْخَةٍ قَدِيْمَةٍ لَم أظْفَرْ باسْم جَامِعها، قال في اليَوْم السَّادِس من صِفِّيْن:
…
".
ويَظْهرُ من خِلَالِ إفادَاتِ ابن العَدِيْم، ومنها الشَّواهِدُ المُباشِرَةُ المُتقدِّمة، مَعْرفتُهُ الوَاسِعةُ بالخَطِّ العَرَبيّ ومَدارسِه القَديمة، وتقدَّمَ - عند تَعْدادِ مُؤلَّفاته - ذِكْرُ كتابِه الَذي صَنَّفَهُ في الخَطِّ وعُلُومِهِ، ويأتي كذلكَ الكَلامُ على حُسْنِ خَطِّهِ وجَوْدَتِه، وقد وَظَّفَ هذه المَعْرفةَ في بَيانِ المَصادِر الَّتي اعْتَمدَ عليها، فهو يشُيرُ إلى مَصادِره الَّتي نَقَلَ عنها بخُطُوطِ أصْحابِها، ككتابِ الرَّبيعِ بِخَطِّ مُؤلِّفِهِ غَرْس النِّعْمَة مُحمَّد بن هِلَال بن المُحَسِّن، ورِحْلَة ابن جُبَيْر بخَطِّ الرَّحَّالةِ نفسِه، وكتاب القاضِي أبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيِّ، وخَطِّ صَدِيْقِه ياقُوت الحَمَويّ في كتابِهِ مُعْجَم البُلْدان، وكتابِ "المُؤَصَّلِ على الأصْل المُوَصَّل" ومُخْتَصَره: تاريْخ حَلَب الصَّغير؛ كلاهُما لأبي عَبْد الله مُحَمَّد بن عليّ العُظَيْميّ، وبَخطِّه، وتاريخ أبي الحُسَين عليّ بن المُهَذَّب التَّنُوخِيّ المَعَرِّيّ، بخَطِّ مُؤلِّفِه، وذَكَرَ ابنُ العَدِيْم كيف تَحصَّلَ على النُّسْخَةِ "حَمَلَهُ إليَّ بعضُ عَقِبه"، وكتابُ الجوهَرِ المَكْنون لمحمَّد بن أَسْعَد الجوَانِيّ النَّسَّابَة بخَطِّه، وكتابُ البِدَايَةِ والنِّهاية لأبي الحَسَن عليّ بن مُرْشِد بن عليّ بن مُقَلِّد بن نَصْر بن مُنْقِذ بخَطِّه، وهو كتابٌ في التَّاريخ نَقَلَ عنه ابن العَدِيْم تسعَ عَشرة مرَّة، ولم أقِفْ على ذِكْرٍ لهذا الكتابِ عند سِوَاه.
ويُشِيرُ إلى مَصادرَ أُخْرَى نَقَلَ عنها وكُتِبَتْ بخُطُوطِ نسَّاخ (ورَّاقين) مُعْتَبَرين، على دَرَجَةٍ من الوَثاقَة، فنُسْخَةُ كتاب فُتُوح البُلْدان للبَلاذِريّ الَّتي كانتْ بين يَدَيه،
وعليها كان مُعْتَمدُهُ في النَّقْل والاقْتِباسِ، كانت بخَطِّ بَنُوْسَة، وهو نَسَّاخٌ لم نَتأدَّ لمَعْرفَتهِ، سِوى من إشَارتَيْن لابن العَدِيْمِ يَذكرُه فيها بأنَّهُ ورَّاق بني مُقْلَة
(1)
، وكتابُ رِحْلَةِ أحْمد بن الطَّيِّب السَّرْخَسيّ الَّتي ورَدَتْ في سِيرَةِ المعتَضِدِ باللهِ تأليف سِنَان بن ثابت بن قُرَّة، كانتْ بِخَطِّ الحُسَيْن بن كَوْجَك العَبْسِيّ الحَلَبِي، وأوْرَدَ سِيْرةَ الكتابِ وكَيفيَّةِ نَسْخِهِ واسْتِخراجِه من خِزَانَةِ المعتَضدِ. ونُسْخَةُ كتابِ فُتُوح الشَّام للوَاقِديّ كانتْ بِخَطِّ أبي عَبْد الله بن مُقْلَة (ت 338 هـ)، وهو أخو الوَزيِر الخطَّاطِ المشهُور أبي عليّ مُحمَّد بن مُقْلَة، واسْمُه اِلحَسَن، وهذه النُّسْخةُ كانت من رِوَايةِ أحمدَ بن عَبْد العَزِيْز الجوهَرِيّ، عن أبي زيْدٍ عُمَر بن شَبَّة، عن هارُون بن عُمَر. وكتابُ التاريخ لحَمْدَان بن عَبْد الرَّحِيْم الأثارِبيّ؛ كان بخَطِّ الرَّئيس يَحْيَى بن المِرَاويّ الحَلَبيّ.
ومَدْلُولُ هذه الإشاراتِ أنَّهُ يمُيَّزُ بين نُسَخ الكُتُبِ المُعْتَبَرةِ والأُخْرَى المَلِيْئةِ بالتَّحْريفِ والتَّصْحيف، تمَامًا كما نُمَيِّزُ في وَقْتِنا بينَ نَشَراتِ الكُتُبِ بحَسَب المَطابِع ودُورِ النَّشْر الَّتي أخْرَجَتْها ومَدَى وَثاقتِها. وهو يُكَرِّرُ ذِكْرَ البَياناتِ البيْبلُوغرافيَّة في كُلِّ المَواضِع الَّتي يَرِد فيها النَّقْل.
وهو أيضًا لا يَكْتَفي بذِكْرِ خُطُوطِ النُّسَخ الَّتي اعْتَمدَ عليها، بل تَعدَّاها ليَذكُرَ المصادِرَ الَّتي اعْتَمدَ عليها وعن أي خَطٍّ نُقِلَت، ومن أيِّ فُسْخَةٍ تناسَلَتْ، يقولُ:
"نَقَلْتُ من خَطِّ عَبْدِ السَّلام البَصْرِيّ المعَرُوف بالوَاجْكَا: نَسَخْتُ من آخرِ كتابِ نَوَادر اليَزِيْدِيّ، كتابَ الشَّيْخِ أبي سَعِيد - يعني السِّيْرَافيّ - من خَطِّ أبي بَكْر بن السَّرَّاج: قال
…
".
(1)
ذكره في الجزء الأول ضمن الفصل الخامس من الكلام على صفين، وفي الجزء العاشر (الكنى والألقاب) في ترجمة أبي قتادة بن ربعي.
و"نَقَلْتُ من كتابِ الفِهْرِسْت لمُحَمَّد بن إسْحاق النَّدِيْم، من خَطِّ مُظَفَّر الفَارِقِيّ، وذكرَ أنَّهُ نَقَلهُ من خَطِّ مُحَمَّد بن إسْحاق النَّدِيْم
…
"
(1)
.
و"أهْدَى إليَّ الخَطِيب سَيْف الدِّين أبو مُحَمَّد عبد الغنِيّ بن مُحَمَّد الحَرَّانيّ، المَعْرُوف بابنِ تَيْمِية، جُزْءًا بخَطِّهِ فيه تاريخ لأبي المَحَاسِن بن سَلامَة بن خَلِيفَة الحرَانيّ، جعَلَهُ تَكْملةً لتاريخ حَرَّان الّذي ألَّفهُ حَمَّاد الحَرَّانيّ، وذَكَرَ لي أنَّهُ نَقَلَهُ من خَطِّ أبي المَحَاسِن المَذْكُور، فقَرَأتُ فيه
…
".
و"نَقَلْتُ من أخْبَارِ أبي العَتَاهِيَة للآمِدِيّ - وذَكَرَ كاتبُها أنَّهُ نَقَلَها من خَطِّ الآمِدِيّ - قال
…
".
و"قَرأتُ في كتابِ القُضَاةِ، تأليف الحافِظ أبي مُحَمَّد عَبْد الغَنِيّ بن سَعيد المِصْرِيّ، من نُسْخَةٍ مَنْقُولَةٍ من خَطِّه، قال
…
".
و"سَيَّرَ إليَّ قاضي مَعَرَّة النُّعْمَان، أبو المَعَالِي أحْمَدُ بن مُدْرِك بن سُلَيمان، جُزْءًا بخَطِّه، يضَمَّنُ أخْبَارَ بني سُليْمان، نقلَهُ من نُسْخةٍ عندَهُ، فقال في ذِكْرِ أبي العَلَاء
…
".
وآخرُ النَّماذِج لتَثبُّت المُؤلِّفِ وتَحَرِّيه، ما قَيَّدَهُ عندَ تَحْقيقهِ ومُعالَجتَهِ لمَسْألةِ ضَبْطِ تَسْميَّة أنْطاكية بين التَّشْديدِ والتَّخْفيف، قال بعدَ أنْ أَوْرَد مَقَالَةَ البَكْريّ فيها، واسْتِشهاده ببَيْتِ شِعْر لزُهَيْر شَدَّدَ فيه المُثنَّاة التَّحْتِيَّة (الجزء الأوَّل):
"وقد وجَدْتُ بخطِّ عليّ بن حُمْرَان في ديوانِ شِعْرِ زُهَيْر هذا البيتَ، وكتبَ بخطِّه: نَسَبَها إلى أَنْطاكِيَة، وكَتَبَ فَوْقَها: خف، وذَكَر أنَّه نقلَه من أصْلِ أبي الحُسَيْن عليّ بن
(1)
رجّح الدكتور أيمن فؤاد سيّد أنَّ هذه النسخة هي ذاتها المذكررة في كتاب "المنتخب مما في خزائن الكتب بحلب"، والذي وقع الفرغ من كتابته سنة 694 هـ. انظر الفهرست للنديم، مقدمة المحقق 1/ 1:74.
مُحَمَّد بن دِيْنار، وهي مُقَابلَةٌ بنُسخةِ أبي الفَتْح جُنْجُخ
(1)
، وذكرَ أنَّه قابَل بها كتابَ أبي عُمَر القُطْرُبُّلِيّ، وكتابًا بخطِّ أبي مُوسَى الحامِض، ونُسخةً بخطِّ أبي الحَسَن مُحمَّد بن مُحَمَّد التِّرْمِذيّ، مَنْقُولة من أصْلِ أبي بَكْر بن مُجَاهِد، وذَكرَ أبو الفَتْح أنَّه قابَلَ نُسْختَهُ بأصْل ابن الخيَّاطِ، وقابَلَ أيضًا بأصْل أبي سَعيدٍ بخَطِّهِ، قال ابنُ حُمْرَان: وقرأتُهُ على أبي أحمد عَبْد السَّلام البَصْرِي، وسَمِعْتُهُ يقْرأُ على أبي الحَسَن عليّ بن عِيسَى صاحب أبي عليٍّ".
والشَّواهِدُ في ذلك كَثيرةٌ؛ تَسْعصِي على العَدِّ، وتَخْرُجُ بنا عن الغايةِ والقَصْد.
إنَّ مَنْهَجَ ابنِ العَدِيْم التَّوثيِقيّ الصَّارِمِ هذا، هو نَمَطٌ فَريدٌ في التَّثبُّتِ والتَّحَرِّي، يَكشِفُ عن مَدى عِلْم الرَّجُل وموْثُوقيَّتِه، وهي مَدْرسةٌ في التَّأريخ تَسْتأهِلُ أنْ يُفْرَدَ لها بَحْثٌ مُسْتَقصىً.
ويَلْحَقُ بأمانَةِ النَّقلِ أيضًا حِرْصهُ على إيْرَادِ النُّصُوصِ على الهَيْئةِ الّتي وَجَدَها فيها، حتَّى وإنْ وقَع فيها التَّصْحيفُ والتَّحْريفُ، ويُنبِّهُ على ذلك بكَتْبِ عَلامَةٍ فَوقَ مَوْضِع الخَطأ، يرْسمها صادًا ممدُودةً "صـ"، أو بكَتْبِ كَلِمَة "كذا" عندما يَتَشكَّك في وقُوعِ الخَطأ، ويُنِّبِه أحْيانًا على وَجْهِ الصَّوابِ بعد انْتهاءَ النَّقْل أو بمُوازاتِه في الهَامِشِ. وقد الْتَزَمتُ في هذه النَّشْرةِ بالإشارَهِ إلى عَلَامتِه هذه في الهامِشِ حيثما وَردتْ، لأنَّها جزءٌ من مَنْهجِ الرَّجُل وثَقَافَته وفِكْره وتَنَبُّهاته.
ومن الأمْثِلةِ على إثْباتِ النُّصُوصِ كما وَجَدَها في أصُولها: نقلُهُ عن أبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيّ، الَّذىِ سَمَّى "باب الصَّفْصَاف"، وهو أحَدُ أبْواب مَديْنة طَرسُوس، في مَوْضِعين من كاَبهِ سِيَر الثُّغُور باسْم:"باب الصَّاف"، فنَقَلَهُ ابنُ العَدِيْم على هذا الرَّسْم، ثُمَّ علَّقَ فَوْقَهُ بكَلِمَة "كذا"، أي هكذا وَجَدَهُ. وأيضًا نقله عنه في مَوْضِعين
(1)
هو عبيد الله بن أحمد بن محمد (ت 358 هـ)، من الوراقين المشهورين بجودة الخط، وصحة الكتابة.
آخرين قَوْله: "إذا أقْلَبْنا حَوافر خُيولنا"، وفي مَوضعٍ آخر "أقْلبوا حَوافر خُيولهم"، فكَتَبَهُ كما وَجَدَه في المَوْضِعين، وعلَّق في الهامِشَيْن بما رآهُ وَجْهًا للصَّوَاب:"قَلَبنا" و"قَلَبُوا".
ومِثْلُه أيضًا في تَسْميَةِ مَعَرَّةِ مَصْريْن الَّتي وَرَدتْ في أُصُول كتابِ فُتُوح البُلْدان للبلَاذُريّ بإضافةِ ألف في وَسَطِها: معارَّة مَصْرين، فأثْبَتَها على الوَجْهِ الَّذي وَجَدَها فيه في كافَّةِ النُّقُولِ الَّتي أخَذَها عنه، وفي تَسْميَةِ عَزَاز وأعْزَاز، الَّتي ارْتَضاها هو بدُون أَلِف في أوَّلها حيثما يكُونُ القَولُ قَوْله، ويَكْتُبها بالألف إذا وَجَدَها في مَصْدره الَّذي يَنْقلُ عنه كتاريخ الأثاربيّ مثلًا، وتقييدِه لدَيْر طَيَايَا الَّذي يُقالُ فيه: دَيْر طَبَاثا؛ قال: "ونَقَلْتُه من خَطِّ بَنُوْسَة فيما نَقَلْتُهُ من كتابِ البَلاذُرِيّ كذلك بياءَيْن".
واقْتَرحَ ابنُ العَديم أحيانًا في هَامِش كتابِه تَصْويبات أو فُروقًا في الرِّواياتِ، وكَتَبَ فَوْقَها حَرْفَ (ح)، ولعلَّه:(خ) مُعْجمة، مَدْلُوله (نُسْخَة)، مثالُهُ فيما نَقَله عن ابنِ حَوْقَل في كَلامهِ على قِنَّسْرين وما فيها الرُّخْصِ والسَّعَةِ في الأسْعَارِ والخَيْراتِ، فكَتَبَ فَوْقَ كَلمةِ "الخَيْرات" رَمْزَ (ح)، وقيَّدَ بمُوازتِه في الهامِش:"والحيَوان، نُسْخة"، وأيضًا تَقْييده الحَرْفَ ذاته فَوقَ بعض الكَلماتِ من قَصِيدةٍ للصَّنَوْبَريّ في نَهْر قُوَيْق، وإذا لَم يكُنْ مَدْلُولها الفُروقُ بين النسَخ والرِّوايات فربَّما كانتْ عَلامَةً تَدُلُّ على أنَّهُ اسْتَصوبَ بَدِيلًا للَّفْظَةٍ وَجَدَة أجْوَد ممَّا في الأُصُول؛ أي أنَّ حَرْف (ح) عَلامةٌ على التَّحوبلِ لقارئٍ مُتَذوِّق!.
كما الْتَزَمَ ابن العَدِيْم بإثْباتِ حَرْفِ الحاء (ح) للدَّلَالةِ على التَّحْويلِ أو الانْتِقالِ إذا ما كان لذاتِ الحَديث أو الخَبَرِ المَرْويِّ سَنَدٌ آخرُ أو أكْثر، ممَّا هو مَعْرُوفٌ وشَائعٌ في الكُتُب الحَدِيثيَّة.
ولا تَقِفُ أمانةُ ابنِ العَديم في النَّقل عندَ هذا؛ بل إنَّهُ التزَمَ بضَبْط الأسْماءَ كما وَجَدَها في المَصَادرِ، فإذا ما وَجَدَ ضَبْطًا يُخالِفُ مَنْحاهُ أثْبَته، أو لفَظًا لاسْمٍ غير ما هو دَارجٌ ومُعْتَمدٌ كَتَبه على حَالهِ الَّتي وَجَدَهُ فيها في مَظانِّه، مثال ذلك إبقاؤه على ضَبْطِ: أنْطاكِية بتَشْدِيدِ المُثَنَّاةِ التَّحْتيَّةِ أو تَخْفِيفِها حَسْبما وَرَدتْ في المصَادِرِ الَّتي ينْقلُ عنها، خاصَّةً ما وَجَدَهُ في نُسْخَةِ فُتُوحَ البُلْدانِ من خَطِّ بَنُوسَة الكاتِب بالتَّشْديد فقيَّدَها على ذلك حيثما كان النَّقْلُ عنه، وبالتَّخْفيف فيما عَداه.
مَصَادرُهُ في تأْلِيف الكتَاب:
أمَّا مَوارِدُ ابن العَدِيم ومَصادرُه الَّتي اتَّكَأَ عليها في وَضْعِ كتابِه الكَبير في التَّاريخ، فهي من الكَثْرةِ ما يَضِيقُ المقامُ عن تَعْدادِها أو إجْمالِ مَوِضُوعاتِها، وقد اسْتَوْعَبَتْها - أو كادَتْ - دِراسَةٌ أُعدِّت لنَيْلِ رُتْبَةٍ عِلْميَّةٍ بجامِعَةِ دِمشْق
(1)
، وفيها مُلَاحَقَةٌ وتَتَبُّعُ للمَصادِرِ والأجْزاء الَّتي اطَّلَعَ عليها المُؤلِّفُ ونَقَلَ عنها، وبَحْثٌ في مَوارِده الشَّفَويَّةِ والكتابِيَّة الَّتي أخَذَ منها.
وتقدَّمَ الإلْمَاعُ إلى بَعْضِ مَصادِرِه فيما مَرَّ من هذا العَرْضِ السَّريع، وقد ارْتَأيتُ أنْ لا أُخْلِيَ التَّعْريفَ بالكتابِ من نَظْرةٍ عامَّةٍ على أبْرَزِ مَصادرِ ابن العَدِيْم وموضُوعاتها، بما يَكْشِفُ سَعَة إحاطَتِه بمَصَادِر عَمَلِه، وغِنَى خِزَانته وتَفَرُّدها.
ويُمكنُ التَّمْييزُ بين مَصادرِه الَّتي اتَّكَأ عليها في إعْداد المجلَّدةِ الأُوْلَى من كتابِه، وهي الَّتي جَعَلَها كالمُقَدِّمة للكتابِ، وتعرَّضَ فيها لجُغْرافيةِ الإقْليِم وذِكْرِ نَواحيه وخَواصِّه، وبينَ المصادرَ الَّتي اسْتَخدمهَا في الأجْزاءِ، التَّالية الَّتي تَرْجَمَ فيها لكُلِّ
(1)
موارد ابن العديم التاريخية ومنهجه في كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب، رسالة دكتوراه، إعداد مريم محمد خير الدرع، بإشراف الأستاذ الدكتور سهيل زكار، جامعة دمشق، كلية الآداب، 2004 م.
مَن اتَّصَلَتْ له عَلاقةٌ بإقْليمِ حَلَب خلالَ القُرُون السَّبْعةِ الأُوْلَى من عُمْر الدَّوْلَةِ الإسْلاميّة. وهي مَصادرُ تَتَوزَّعُ بين المُشاهَدَةِ والمَقْرُوءةِ (المَكْتُوبة) والمَسْمُوعةِ، تاريخيَّةٍ وجُغْرافيَّةٍ وأدَبيَّةٍ وغير ذلك ممَّا يتَّصِلُ بغَرَضِ الكتاب.
غير أنَّ ما يَسْتَوجبُ الإشارةَ إليه هُنا، أنَّ كثيرًا من هذه المَصادر لَم تَصِلْنا إلَّا بوَسَاطَةِ المُتَبقِّي من كتاب ابن العَدِيْم، ومنها نُصُوصٌ طَويلةٌ من كُتُبٍ مَفْقُودةٍ، تقدَّمَ الإلْماعُ إلى بَعْضِها، ونَذْكرُ تاليًا أبْرزَ المَصَادرِ على وَجْهِ الانْتِقاءِ والإجْمالِ لا الاسْتِقْصَاء والتَّفْصِيل:
فمنها في حَقْلِ الجُغرافيَة: "كتابُ رِحْلة المُعْتَضِدِ لقِتَالِ خُمَارويه" الَّتي قيَّدَها مُرافِقُه ابنُ الطَّيِّب السَّرْخَسيُّ، ونُصُوصٌ مُتَقَطِّعَةٌ من كتابِ المَسَالك "العَزِيزيّ" للمُهَلبيّ، و"رِحْلةُ الطَّبِيْب ابن بُطْلَان"، و"كتابُ نُزْهَةِ النُّفُوس، وأُنْسُ الجلَيس" للفَيلَسُوف ابن الزَّيَّات، ورُوزنَامج مُحَمَّد في أحمد بن الحَسَن الكاتِب المُتَضمِّن رِحْلته من بلادِ أَذْرَبِيْجان إلى الحَجِّ وعَوْدِه منهُ، وكتاب أبي عَبْد الله مُحَمَّد بن أحمد الجَيْهانِيّ في المسَالِك والممَالِك.
وكان من مَصادرِه في قِسْمِ التَّراجِم كتابُ تاريخ بَغْداد للخَطِيب البَغْداديّ، وكتابُ سَلَفهِ الحَافِظ ابنُ عَساكِر الآخذ فيه أيضًا عن الخَطِيبِ البَغْدادِيّ، وذُيُولُ كتابِ تاريخ بَغْداد: للسَّمْعانيّ ومُحِبّ الدِّين بن النَّجَّار، وكُتُبُ السِّيْرةِ، ومعاجمُ الشُّيُوخ، والمصَادرُ التَّاريخيَّة التَّقْليديَّة المُعْتَبرة كتاريخ الطَّبَريّ، وفُتُوح البُلْدان وأنْسَابِ الأشرَاف للبَلَاذُريّ، وتاريخ نَيْسابُور لأبي عَبْدِ الله الحاكِم، وهو كتابٌ كَبيرٌ مَفْقُودٌ، وَصَلَنا مُلَخَّصٌ له صَنَعَهُ أحمد بن مُحمّد المَعْرُوف بالخلَيْفة النَّيْسابُوريّ (كان حيًّا سَنَة 717 هـ)، لَم يتَضَمَّنْ من مادَّتِه إلَّا النَّزْرَ اليَسيرَ، ويُمْكَنُ القَولُ بمَزيدِ الاطْمئنان - بعدَ مُقارَنةِ نُقُولِ ابن العَديم من تاريخ الحاكِم - أنَّ التَّلْخِيصَ أقْرَبُ لفِهْرِست
التَّراجم منه تَلْخِيصًا
(1)
، وتاريخ أبي إسْحاق إبْراهيم بن حَبِيْب السَّقَطِيّ المُسَمَّى بلَوَامِع الأُمُور، وتاريخ المُسَبّحيّ، وتاريخ الأثَارِبيّ المَوسُوم بـ"كتاب المُفوَّف"، أو:"سِيْرَة الفِرِنْج"، وتاريخ العُظَيْميّ الكَبير المُسَمَّى "المُؤصَّل على الأصْل المُوَصَّل"، ولعلَّ ابنَ العَدِيْم هو الوَحِيدُ الَّذي قيَّدَهُ وسمَّاهُ لنا بهذا العُنْوان، والتَّذْكرة التَّاريخيَّة الَّتي جَمَعَها أبو غالِب هَمَّام بن الفَضْل بن جعفَر بن عليّ بن المُهذَّب ممَّا وَجدَهُ في التَّوَاريخِ المُتقدِّمةِ، ومُؤلَّفات أُسْرة بني مُنْقِذ التَّاريخيَّة والأدَبيَّة من كُتُب ورَسَائلَ ومَدَارج وتَعْليقاتٍ، إضافةً إلى تقييدات تاريخيَّة وَقَعَتْ له ولم يَقِفْ على اسْمِ مُؤلِّفيها أو جامِعيها.
وفي نُقُولِ ابن العَديم ما يُعِيدُ الاعْتِبارَ لبعضِ الكُتُبِ الَّتي نُسِبَتْ خطأً لغير أصْحابِها، فنَقَلُه عن تاريخ البَلْخيّ المَوسُوم بالبَدْءَ والتَّاريخ؛ والّذي نُشِرَ مَنْسُوبًا للمُطَهَّر بن طاهِر المَقْدِسيّ، ونَقَلَ عنه ابنُ العَديم نُصُوصًا في سَبْعةِ مَواضِعَ من الجُزءَ الأوَّل، يُؤكِّدُ أنَّه كتاب البَلْخيّ لا المَقْدسيّ.
واعْتَمد أيضًا كُتُبَ تَرَاجِمِ الشُّعَراءَ ودَواوينَ الشِّعر ومجَامِيْعِه، وبعضُها مُتَداولٌ والبَعْضُ الآخر مَفْقُود مثل كتابِ المُسْتَنِير للمَرْزُبانيّ، وكتابِ الرَّبيع لغَرْس النِّعْمَة، جَعَلَهُ مُؤلِّفُهُ على هَيْئةِ نِشْوارِ المُحاضَرةِ للتَّنُوخيّ. وكان من مَصادِرِه المُهِمّةِ في تَراجِمِ شُعَراءَ المَعَرَّة تلكَ المَجاميع الشِّعْريَّة الَّتي تحَصَّلَ عليها، ونَقَلَ عنها، مثل: مَرَاثِي المُهَذّب المَعَرِّيّين، ومَراثي أبي العَلَاء المَعَرِّيّ.
واعْتَمدَ أيضًا كُتُبَ رِجالِ الحَديث كثِقاتِ ابن حِبَّان، وضُعَفاءَ العُقَيْلِيّ، وضُعَفاءَ ابن شَاهِين، والحِلْيَةِ لأبي نُعَيْم الأصْبهانيّ، وكُتُب الطَّبَقاتِ: طَبَقات خَلِيْفَة وابن سَعْد، والفِهْرَست للنَّدِيْم.
(1)
تلخيص تاريخ نيسابور للحاكم مطبوع.
وكانتْ كُتُبُ الأنْسابِ من أبْرزِ مَصادرِه، مثلُ: كُتُبِ ابن الكَلْبِي والزُّبَيرِ بن بَكَّار وابن حَزَم، وكتابِ دِيْوان العَرَبِ وجَوْهرةِ الأدَب وإيْضَاح النَّسَب للنَّسَّابةِ الأَسَدِيّ، وكتاب نُزْهَة عُيُون المُشْتاقِيْن إلى وَصْف السَّادة الغُرّ المَيامِيْن لأبي الغَنائِم عَبْد الله بن الحَسَن الزَّيْديّ النَّسَّابَة (كان حيًّا سَنَة 400 هـ)، وكتاب الجَوْهَر المَكْنُون في الأنْسَاب، وكتاب نُزْهَةِ القَلْب المُعَنَّى في نَسَبِ بَني المُهَنَّا، كلاهُما لمحمَّد بن أسْعد الجَوَّانِيّ النَّسَّابة، وكتاب المَجْدِيّ في أنْسَابِ الطَّالِبيِّيْن، لأبي الحَسَن عليّ بن مُحَمَّد بن عليّ العَلَويّ العُمَرِيّ، المَعْرُوف بابنِ الصُّوْفيّ، وكتاب أدَب الخَوَاصّ، وكتاب الإيْناس في عِلْم الأنْساب كلاهُما للوَزير المَغْربيّ، وصَلنا كتَابُ الإيناس ووصَلَنا الجُزءُ الأوَّل من كتابِ أدَبِ الخَواصِّ، وأغْلَبُ نُقُولِ ابن العَديْم من أدَب الخوَاصِّ تقَعُ ضمْن الضَّائع من كتابِ الوَزير المغْربيّ، وأيضًا كتاب الإكْمالِ لابن مَاكُولا، والأنْساب للسَّمْعانيّ، وغيرها العَدِيد من كُتُب الأنْساب الَّتي اعْتَمدَها ابنُ العَديم في تأليفِ كتابهِ، وبعْضُها اليَومَ في حُكْمِ الضَّائِع.
ووظَّفَ ابنُ العَدِيْم الوَثِيقةَ المَكْتُوبةَ والأشْعارَ والأرَاجِيزَ وحتَّى النُّقُوشِ والسِّكَّةِ المَضْرُوبةِ في الكتابةِ التَّاريخيَّة، فاسْتفادَ من أُرْجُوزةِ الأعْلَام لأبي عَمْرو القاسم بن أبي داوُد الطَّرَسُوسِيّ، والَّتي انْفَرَدَ بذِكْرِها واسْتِخلَاصِ الإفاداتِ منها عن أوْضَاعَ الثُّغُور - خاصَّة طَرسُوس - وأحْوَالِ زُهَّادها وعُبَّادِها، ووَثَّق ما اطَّلَعَ عليه من كتاباتٍ في جامع أنْطاكِية، يقُولُ (الجُزء الأوَّل):
"والمَسْجِدُ الجامعُ الّذي كان بأَنْطاكِيَة للمُسْلِمينَ، هو إلى جانبِ القُسْيَان، ودَخَلْتُ أنْطاكِيَة في سَنَةِ ثلاثَ عَشرةَ أو أرْبع عشرةَ وستِّمائة، ودَخَلتُ بِيْعَةَ القُسْيَانِ، فوجدْتُ بجانبِها مِحْرَابَ المُسْلِمِيْنَ على حالِهِ، وفي سُقُوفِه آياتُ القُرْآنِ مَكتُوبةً في النَّقشِ، وهي على ما ذَكَرهُ ابنُ بُطْلان من الصُّورةِ، وبِيْعَةُ القُسْيَان مُزَخْرفةٌ بالرُّخَام والفُسَيفِساءَ".
ويَقُولُ في الجُزءَ الخامِس في تَرْجَمَةِ الحَسَن بن طَاهِر العَلويّ النَّسّابَة (ت 336):
"ولمَّا زُرْتُ الخَليلَ صلى الله عليه وسلم في سَنَة سَبْعٍ وثَلاثين وسِتَّمائة، مَضَيْتُ من زِيَارتِه إلى مَشْهَدِ اليَقِيْن فزُرْتُه، ورَأيْتُ في مَغَارةٍ عندَ بابِ المشْهَدِ قبرًا يَزُوره النَّاسُ، مَكْتُوب عنده على لَوْح من الرُّخَام نقشًا: هذا قَبْرُ فاطِمَة بنت الحَسَن بن طَاهِر بن يَحْيَى بن الحَسَن، وعلى لَوْح آخرَ من الرُّخَام لذلك القَبْر مَكْتُوبٌ نَقْشًا في الحَجَر [من البسيط]
أسكنتَ مَنْ كان في الأحْشَاء مَسْكنُه
…
بالرَّغم منِّي بين التُّرْبِ والحَجَرِ
يا قبر فاطِمَةٍ بنت ابن فاطِمَةٍ
…
بنْت الأئمَّة بنْتِ الأنْجُم الزُّهُرِ
يا قَبْرَ بنْت الزَّكِيّ الطَاهِر
…
الحَسَن بن طَاهِرٍ من نَماه أطْهَرُ البَشَرِ
يا قَبْر كَم فيك من دِيْن ومن وَرَع
…
ومن حَيَاءٍ ومن صوْن ومن خَفَرِ
وعلى اللَّوْحَ بخَطِّ النَّقَّاشِ الّذي نَقَشَ اللَّوْحَيْن: صَنَعَهُ مُحَمَّد بن أبي سَهْل النَّقَّاشُ بمِصْرَ، وصَاحِبةُ القَبْرِ هي بنْتُ الحَسَن بن طَاهِر هذا، واللهُ أعْلَمُ".
* * *
إنَّ النُّصُوصَ والقِطَعَ المُهِمَّةَ الَّتي انْفَرَدَ ابنُ العَدِيْم بحِفْظِها، والَّتي شَكَّلَتْ جُزءًا من مَصادرِهِ في تأليفِ الكتابِ، أثْبَتها بعدَ أنْ تَتَبَعَها بالنَّقْدِ والتَّصْويبِ والشَّرْح والتَّقْريبِ، هي على قَدْرٍ كَبيرٍ من الأهميَّة، وهي تُعِيْنُ في إعادةِ النَّظَرِ لبَعْض الدِّراساتِ الَّتي تَناولت حَرَكةَ التَّدْينِ التَّاريخيِّ والتَّأليف عُمُومًا حتَّى القَرْنِ السَّابِع الهِجْريّ، وتُسَاهِمُ في رَصْدِ الضَّائِعِ من هذا التُّراثِ، وقد جَمَعَ المَرْحُومُ الدكتور إحْسان عبَّاس بعضَ نُصُوصِ الكُتُبِ الضَّائِعةِ ممَّا وَجَدة عند
ابن العَدِيْم خاصَّةً، واقْتَصرَ فيها على جَمع مادَّةِ ثلاثينَ كتابًا فَقَط من تلكَ الَّتي نَقَل عنها ابنُ العَديم، فجاءَتْ في مُجلَّدٍ أسْماهُ "شَذراتٌ من كُتُب مَفْقُودة"
(1)
، كانَ مُعَوَّلُهُ فيه على كتابِ ابن العَدِيْم وبَعْضِ الكُتُب المُسَاعِدة.
زَمَنُ تأْليفِ الكتابِ:
هذا الكتابُ من الكُتُبِ الَّتي شَرَعَ ابنُ العَدِيْم في تألِيْفها في زَمَنٍ مُبَكّرٍ من حَياتِه، ابتدأَ في تَأليفهِ في أوَّلِ شَبابِه، وسِنهُ لَم تحاوز الثَّامنةَ والعشْرين، قبلَ أنْ تَصْرِفَهُ المَشَاغِلُ والأسْفارُ والتَّرَسُّلُ للملُوك عن التَأليفِ، فقدَ ذَكرَه ياقُوت ضمن مُؤلَّفاتِه في ترجَمتِه له، وتقدَّمَتِ الإشارةُ إلى أنَّ ياقُوتَ قيَّدَ تَرْجَمَةَ ابن العَدِيْم على صَفحاتِ كتابِه مُعْجَم الأُدَباء في حُدُودِ سَنَةِ 619 هـ، قال:"وله كتابُ تاريخ حَلَبَ في أخْبارِ مُلُوكِها، وابْتداءَ عِمارتها، ومَن كان بها من العُلَماءَ، ومَن دَخَلَها من أهْل الحَديث والرِّوايةِ والدِّرايةِ والمُلُوك والأُمَراء والكُتَّاب"
(2)
.
وتقدَّمتِ الإشارةُ أيضًا إلى أنَّ العَلَاقةَ جَمَعَتْ بين ياقُوتَ وابن العَدِيْم بحَلَبَ في السَّنَواتِ الأَخِيرة من حَياةِ ياقُوت (618 - 626 هـ)، فيكُونُ ابْتداءُ تأليفِهِ لهذا الكتابِ في تلك المُدَّةِ، أو قبلَها بيَسِير، ويَذْكُرُ الذَّهَبيُّ أنَّ ابنَ العَدِيم ذَكَرَ في تَاريخِه أنَّهُ دَخَلَ مع وَالدِهِ على المَلِكِ الظَّاهِر غازِي، "وأنَّه هو الَّذي حَسَّنَ له جَمع تاريخٍ لحلَب"
(3)
. وكانتْ وَفاةُ المَلِكِ الظَّاهِرِ في 20 جُمادَى الآخرة 613 هـ،
(1)
منشورات دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1988 م.
(2)
معجم الأدباء 5: 2086.
(3)
الذهبي: تاريخ الإسلام 14: 938، ولم نقف على إشارة ابن العديم التي ذكرها الذهبي في المتبقي من أجزاء البغية.
ووَفاهُ وَالدِه عَقِبَهُ بنحوِ شَهْرين (27 شَعْبان) من السَّنةِ نَفْسِها، وإشارةُ الذَّهَبيِّ هذه تُرْجِعُ فِكْرَةَ تأليفِ الكتاب - ورُبَّما الشُّرُوع به فِعْلًا - قَبْل سَنَة 613 هـ.
وبَقِيَ الكتابُ إلى ما قَبْل سَنَة وخَمْسَة أشْهُر من وَفاةِ مُؤلِّفه (وتَحْديدًا بعد ذي القَعْدَة سَنة 658 هـ) مَوْضِعًا للزِّيادةِ والإلْحاقِ والاسْتِدراك، ووَالى العَمَلَ فيه وإدْخالَ ما يتوَفَّرُ له من بيانات أو مَعْلوماتٍ أو تَرَاجمَ جَديدة وَقَعَتْ له فيما بعد، إذ تَتَوفَّرُ فيه تَراجم لأعْلَامٍ من أهْل حَلَب ومن الطَّارئينَ عليها، وذِكرُ أخْبارٍ وحَوَادثَ ووَفيات أعْلَامٍ وَقَعَت في أواخِرِ عِقْد الخَمْسينيَّات من القَرْن السَّابِع الهِجْريّ، فترْجَمتُهُ للقاضِي أحمد بن يَحْيَى المَعْرُوف بابن سَنيِّ الدَّوْلَةِ (الجزء الثَّالث) كانتْ بعد وَفاتِه في 10 جُمادى الآخرة سَنَة 658 هـ أي بعد سَيْطَرةِ هُولَاكُو على حَلَب، ألْحقها ابنُ العَدِيْم بهامشِ النُّسْخَةِ. بينما نَجِدهُ يُوردُ تَرْجَمَةً لأحمدَ بن عَبْد الوَاحِد بن مِرَى الحورَانيّ، ويَذْكُرُ فيها خَبَرًا وَقَعَ بعد هذا التَّاريخ بنحو خَمْسَة أشْهُر مُدْرَجًا في المَتْن (الجزء الثَّاني):
"ثمّ قَدِمَ الدِّيَارَ المِصْرِيَّةَ من المَدِيْنةِ، على سَاكنها الصَّلاةُ والسَّلام، في ذِي القَعْدَة من سَنَةِ ثَمانٍ وخَمْسِين وسِتّمائة رَسُولًا من صاحبها إلى قُطُز المُعِزِّيّ
…
وكنتُ إذ ذاك بمِصْر، فحضَرَ إليَّ وعلَّقتُ عنه فَوَائِدَ وشَيئًا من شِعْرِه، وسألْتُه عن مَوْلدِه، فقال: عُمري الآن سَبْعة وسَبْعُون سَنةً، وكان سُؤالي إيَّاهُ في رابع وعشْرين من ذي القَعْدَة من سَنَةِ ثَمانٍ وخَمْسِين وستّمائة".
نموذجُ إلحاقات وزياداتِ المُؤلِّف في مُنْتَصفِ سَنَة 658 هـ
[الجزء الثالث، الورقة 121 أ من نُسْخةِ الأصْل]
الضَّائِعُ من الكتابِ:
تُوفِّيَ ابنُ العَدِيْم وكتابُهُ لِم يَكْمُلْ على الصُّوْرةِ الَّتي أَمَّلَها مُؤلِّفُه، وضَاعَتْ أجْزاءٌ عَدِيْدةٌ من الكتابِ، وأصابَتِ الرُّطُوبةُ بعضَ المُتَبَقِّي منه؛ فأفْسَدَتْ مَواضِعَ غايةً في الأهَميَّةِ.
وتُنُوزِعَ فيه ما بينَ قائِلٍ إنَّ المُؤلِّفَ أنْجَزَهُ مُسَوَّدَةً، وقائِلٍ مُبيَّضَةً، وما بينَ عَدَمِ اكتِمالِ تأْلِيفِه أصْلًا، ووقَعَ كذلك الاخْتِلافُ في تَقْدِيِرِ أجْزاءِ الكتاب ما بين قَائِلٍ ثَلاثينَ مجلد، وقائلٍ: أرْبعين!
يَذْكُرُ الزَّرْكَشِيُّ أنَّ كتابَ ابن العَدِيْم لم يَكْتَملْ
(1)
، غيرَ أنَّ ما يُفْهمُ من الإشاراتِ المبُكِّرةِ عن الكتاب اكْتمالُ تأليفه باتّفاق جَميعها، وأنَّ المُؤلِّفَ شَرَعَ في تَبْييضِهِ، فبيَّض بَعْضَهُ وادْركتْهُ المَنِيَّةُ قبلَ أنْ يَفْرغَ منه
(2)
، ويَذْكُر ابنُ الشِّحْنَةِ أنَّ هذا "البَعْضَ" المُشَار إلى تَبْييضِه لا يُمَثِّلُ إلَّا اليَسِير من الكتاب
(3)
.
أمَّا عَدَدُ أجْزاءِ الكتاب، فقدَّرَها الذَّهَبيُّ في كتابِه العِبَر بنحو ثلاثينَ مُجلَّدًا
(4)
، وقدَّرَها ابنُ كَثِير وبَدْرُ الدِّين العَيْني والمَقْريزيّ في نحو أرْبَعينَ مُجلَّدًا
(5)
، وزادَ ابنُ الشِّحْنَةِ نَقْلًا عن بَعْضِهِم "أنَّ مُسَوَّدتَهُ كانتْ تَبْلغُ نحو أرْبعينَ جُزءًا كِبَارًا والمُبَيَّضَة تجيءُ كذلك"
(6)
.
(1)
الزركشي: عقود الجمان ورقة 237 ب.
(2)
أبو شامة: الذيل على الروضتين 331، الحسيني: صلة التكملة 1: 469، اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 510، 3: 178، معجم شيوخ الدمياطي 2: ورقة 117 أ، الوافي بالوفيات 22: 422، الذهبي: تاريخ الإسلام 14: 938، ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات 3: 127، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209.
(3)
الدر المنتخب 7.
(4)
الذهبي: العبر 3: 300، وتابعه على ذلك ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 7: 525 - 526.
(5)
ابن كثير: البداية والنهاية 13: 336، بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 340، المقريزي: المقفى الكبير 8: 726.
(6)
الدر المنتخب 7.
وعندَ المُفاضِلةِ بين التَّقْديرين، يَجْدرُ التَّوقُّفُ عندَ نصِّ كَلام الشَّريفِ عِزّ الدِّين الحُسَيْنيّ، وهو قَرِيب عَهْدٍ بالمُؤلِّفِ، وكان على صِلَةٍ به، يقُولُ:"جَمعَ لحَلَبَ تاريخًا كَبيرًا وماتَ وبَعْضُه مُسَوَّدَةٌ لم يُبيِّضْهُ، ولو يَكمُلُ كانَ أكْثَرَ من أرْبَعينَ مُجلَّدًا"
(1)
، ونَقَلَ كَلامَهُ هذا كُلٌّ من اليُونِيْنيّ والذَّهَبيّ (في تاريخ الإسْلام)
(2)
، فمُؤدَّى كَلام الحُسَيْنيّ أنَّ الكتابَ لو اكْتَملَ تَبْييضُه لجاءَ في مِثْلِ هذا التَّقْدير لا أنَّهُ كذلك في مُسَوَّدتهِ، ورُبَّما كان هذا مَنْبَعَ الخِلَافِ بنِ التَّقْدِيرَيْن.
وآخرُ الأقْوالِ في تَحْديِدِ عَدَدِ أجْزاءَ الكتاب، ما أوْرَدَهُ حاجي خَليفة في مَعْرَضِ تَعْريفِه بالكتاب، فبَعْدَ أنْ نَقَلَ كَلامَ الذَّهَبيّ (في العِبَر) وأنَّه مُكَوَّنٌ من ثلاثينَ مُجلَّدًا، قال
(3)
: "والبُغْيَةُ كتابٌ كَبيرٌ في عَشْرِ مُجلَّدات"!، ولعلَّه قدَّرَ المُتَبقِّي من أجْزاءَ الكتابِ ممَّا وَصَلَ لعَصْرِه تَمامًا كما فَعَلَ السُّيوطِيُّ
(4)
.
ويَصْعُبُ في ظلّ غيابِ التَّفْصيلاتِ تتبُّع رحلَةِ الكتاب، وما حلَّ به مُنذُ أنْ غادَرَ مُؤلِّفهُ حَلَبَ مُرْتحلًا إلى القَاهِرةِ، خاصَّةً مِع وجُودِ أوْلادِهِ على قيْد الحيَاةِ بعدَهُ، وهُم من أهْلِ العِلْم وممَّن ساروا على سَنَن وِالدِهِم في المناصِبِ الدَّيْنيَّة والتَّعليْميَّةِ، بما يَنْفي فِكْرةَ ضَياعِ قِسْمٍ من الكتابِ بعدَ وفاةِ مُؤلِّفه بقَرْنٍ من الزَّمان على أَقَلّ تَقْدير، ونَجِدُ أنَّ نُسْخَةَ الكتابِ كانتْ بين يَدي ابْنِهِ مُحَمَّد، وقَيَّد بخَطِّهِ في تَرْجَمَةِ أحمدَ بن عَبْد الدَّائم المَقْدسيّ (الجزء الثَّاني):
"تُوفِّي أحْمَدُ بن عَبْد الدَّائم بن أحْمَد بن نِعْمَة المَذْكُور في يَوْم الاثنين تاسع رَجَب سَنَة ثمانٍ وسِتِّين وسِتّمائة، بمَنْزِلةِ في سَفْح جَبَلِ قَاسِيُون، ودُفِنَ هناك عندَ
(1)
الحسيني: صة التكملة 1: 469.
(2)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3: 178، تاريخ الإسلام 14:938.
(3)
كشف الظنون 1: 249.
(4)
بُغْيَة الوعاة 1: 3، ذكره ضمن الكتب التي استعان بها في تأليف كتابه، قال:"تاريخ حلب للكمال بن العديم، عشر مجلدات".
مَشَايخهم، وكان قد كُفَّ بصَرُهُ، وذلك بعدَ وَفَاةِ والدي مُؤلِّف هذا التَّاريخ، رحمه الله".
وعلَّقَ في الهامشِ بمُوازاتِه:
"هذا المكانُ أخْلَاهُ وَالدي رحمه الله لكتابةِ وَفاةِ المَذْكُور، وتُوفِّي بعد والدىِ فألْحَقتُه هُنا، وكَتَبَ مُحَمَّد بن عُمَر بن أحمد بن أبي جَرادَة".
وفي الحاشيةِ المُقابِلَة كَتَبَ:
"وكَتَبَ هذين السَّطْرين الدَّقِيقَيْن مُحَمَّد بن عُمَر بن أحْمد بن أبي جَرادَة".
وكانتْ وَفاةُ مُحَمَّد هذا بحَمَاة في سَنَة 695 هـ.
وأوَّلُ الأمْرِ أنَّنا أمَامَ افْتراضَيْن: بقاءُ أجْزاءَ الكتابِ في خِزَانَةِ المُؤلِّف "الخِزَانَة الصَّاحِبيَّة" بحَلَب، أو أنَّ المُؤلِّفَ اصْطَحبَ معه مُسَوَّداتِه وأجْزاءَهُ في رِحْلتِه الأخيرةِ الَّتي حلَّ بها القَاهِرة في ذي القَعْدَة 658 هـ، فانْتَقَلتْ بعد وَفاتِه إلى بعضِ أوْلادِه ممَّن كانَ بالقَاهِرة أمْثَال مُحَمَّد وعَبْد الرَّحمن.
كانتْ لابن العَدِيْم خِزَانَةُ كُتُبٍ عامِرةٌ بنَفائِسِ الكُتُبِ والمجامِيعِ الأدَبيَّةِ والتَّاريخيَّةِ، وهي الخِزَانَةُ الَّتي خَدَمَتْ كتابَهُ "البُغْيَة"، ومَدَّتهُ بمَصادِر غايةً في الوَثاقَةِ؛ أغْلَبُها بخُطُوطِ أصْحابِها، واسْتَفادَ منها أيضًا ابنُ سَعِيد المَغْربيّ في تَتْميمِ كتابِ "المُغْرب" أثْناء إقامَتهِ بحَلَب، وتَحْديدًا بين سَنتي 645 - 647 هـ، وأشارَ إلى هذه الخِزَانَةِ في عدَّةِ مَواضِعَ من كتاب المُغْرب
(1)
، ولا نتَوفَّرُ أيَّةُ مَعْلُوماتٍ عن مَصِير الخِزَانَةِ ومحتَوياتِها بعد غَزْو التَّتَارِ لحَلَب وما وَقَعَ فيها من تَخْريبٍ وتَدْمِيْرِ وإحْرَاق، ويبدو أنَّ كُتُبَ هذه الخِزَانَةِ لم نَتعَرَّضْ للأذَى في تلكَ الهَجْمَةِ، بدَلِيلِ وصُولِ بعص مُقْتَنياتها إلينا، لكنها تَبَعْثَرتْ وتَناوشَتها الأيْدي فيما بعد وتَقْديرًا في
(1)
المغرب لابن سعيد (قسم مصر) 1: 297، 348.
مَطْلعِ القَرْن الثَّامن الهِجْريِّ، فإنَّ النُّسْخَةَ النَّفِيْسةَ من كتابِ المغرب والَّتي كَتَبها ابنُ سعِيد بخَطِّهِ وجَعَلَها برَسْمِ هذه الخِزَانَة، قد انْتَقلَتْ إلى ملكِ صَلَاح الدِّين خَليل بن أيْبَك الصَّفَديّ
(1)
، ثم أصْبَحَتْ ذاتُ النُّسْخَةِ في ملكِ أعْلَامٍ من مِصْرَ منذُ مَطْلعِ القَرْنِ التَّاسع الهِجْريّ كابنِ دُقْماق (ت 809 هـ) وأحْمَدَ بن عَبْد الله الأوْحَديّ (ت 811 هـ) والمقريزيّ (ت 845 هـ)
(2)
!.
إنَّ رِحْلَةَ ابن العَدِيْم الأخِيرة إلى مِصْر - وهي الَّتي قرَّرَ فيها مُغادَرةَ حَلَب بعد أنْ هَالَهُ ما فَعَلَهُ فيها التَّتَارُ من عَيْثٍ وتَخْريبٍ، ووثَّقتْهُ قَصِيدتُهُ الطَّويلة الَّتي تقدَّمَ الإلْمَاع لها - كانتْ رِحْلة بنِيَّةِ الإقامَةِ والاسْتِقرَارِ في مِصْر، ولعلَّ من الطَّبِيْعيّ أنْ يَصْطَحِبَ معه كتابَهُ الَّذي وَالى تَبْييضَهُ وتَنْقيحَهُ والاسْتِدراكَ عليه كُلَّما وَقَعتْ بين يَديهِ مَصادرُ جَدِيْدةٌ، وكُلَّما أفْسَحَتْ له الشَّواغِلُ.
وثَمَّةَ ما يَجْعلُني أَمِيلُ إلى الافْتِراضِ الثَّاني منهما، بدَالّةِ ما ألْحقهُ المُؤلِّفُ من زيَاداتٍ على الكتابِ بعدَ غَزْو التَّتَار لحَلَب، وما قيَّدَهُ بعد ارْتِحاله الأَخِير إلى مِصْرَ. ومع ذلك، فإنَّ كلا الافْتِراضَيْن يُؤشِّران إلى انْتقالِ أجْزاء الكتاب إلى مِصْر، إمَّا صُحْبَة المُؤلِّفِ أو فيما بعد؛ وتَحْديدًا بعدَ القَرْنِ الثَّامن الهِجْريّ، ونَجِدُ في تقييدِ ابن السَّابق الحَمَويّ (ت 877 هـ)، وهو الَّذي تَملَّكَ الأجْزاءَ الَّتي وَصَلتْنا من الكتابِ، إشارةً إلى سَنَدِه في رِوَايةِ الكتاب، كَتَبَهُ على طُرَّةِ الجُزءِ الأوَّل، ونَصُّه:
"يقُولُ كاتِبُ هذهِ الأحْرُفِ، فَقِيرُ عَفْو الله تعالَى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الحَمَويّ الحَنَفيّ، عامَلَهُ اللهُ بلُطْفِه الخَفِيّ: إنَّهُ يَرْوي تاريخَ حَلَب للصَّاحِبِ كَمال الدِّين عُمَر بن أحْمد المعَرُوف بابن أبي جَرادَة وبابن العَدِيْم، عن الشَّيخ تَقي الدِّين أحمد بن عليّ بن عَبْد القَادِر
(1)
المغرب لابن سعيد (قسم مصر) مقدمة التحقيق 1: م 59. وكان الصفديّ قد تولّى كتابة السر في صفد ومِصْر وحَلَب سنة 723 هـ وأخيرًا في دِمَشْق فتوفي بها سنة 764 هـ.
(2)
المغرب لابن سعيد (قسم مصر) مقدمة التحقيق 1: م 59.
المَقريزيّ (ت 845 هـ)، مُؤرِّخ الدِّيَار المِصْريَّة، عن ناصِر الدِّين مُحَمَّد الحراويّ الطَّبردار (ت 781 هـ)، عن الحافِظِ شَرف الدِّين عَبْد المُؤمن بن خَلَف الدِّمْياطِيّ (ت 705 هـ) عن مُصَنِّفِه الصَّاحِبِ كَمال الدِّين بن العَدِيْم تَغمَّدَهُم اللهُ تعالَى برَحْمته ورضْوانه".
وكانت مُسَوَّدَهُ المؤلِّفِ تحتَ نَظَرِ شَمْس الدِّين بن خِّكان، ونَقَلَ عنها بعض النُّصُوص ممَّا لم يَصِلْنا
(1)
.
كما اطَّلَعَ على أجْزَاءَ الكتاب، خاصَّةً الأجْزَاءَ الَّتي لَم تَصِلْنا، عَدَدٌ من عُلَماءِ الشَّام ومِصْر، واسْتَفادُوا منها بالنَّقْلِ والاقْتِباس، وبَعْضُهم أخَذَهُ بالتَّلْخيصِ دُونَ الإشارهَ إليه، وجَمِيعُهم ممَّن عاشَ بالقَاهِرة، فقد اسْتفادَ ابنُ فَضْل الله العُمَريِّ (ت 749 هـ) من بَعْضِ أجْزاء البُغْيَة الَّتي لم تَصلْنا، ونُقُوله عن ابن العَدِيْم تَدُلُّ على تَوفُّرِه على الأجْزاءِ الضَّامَّة لتَرَاجِم المحمَّدين ولمَن اسْمه عليّ ومَن اسْمه عَبْد الغَفُور
(2)
.
وكانتْ جميعُ أجْزاء البُغْيَة تحتَ نَظَر مُحْيي الدِّين عَبْد القادِر بن مُحَمَّد القُرَشيّ (ت 775 هـ)، ونَقَلَ عن جَمِيعِها في كتابِه الجَوَاهِر المُضِيَّة في طَبَقاتِ الحنفيَّة، وحَفظَ لنا العَديدَ من التَّراجمِ الَّتي ضاعَت، ممَّا أدْرَجناهُ ضمنَ المُلْتَقَطِ من الضَّائِع في آخرِ الكتاب.
(1)
وفيات الأعيان 6: 41، 301.
(2)
انظر مسالك الأبصار 6: 110 - 113، 117، 125.
ومثْلُه أيضًا ابن حَبيب الحَلَبيّ (ت 779 هـ)، فاسْتَفادَ منه، وجَمَّع منه كتابًا صَغِيرًا سمَّاهُ "حَضْرةُ النَّدِيم من تاريخ ابن العَدِيم"، وإفادَاتُ ابن حَبِيْب تُشِيرُ إلى اطّلاعهِ على أجْزاءَ الكتاب كَامِلًا، الَّذي وَصَفهُ بأنَّهُ كتابٌ كَبير، فنَقَلَ عنه من الأجْزاءَ الَّتي لم تَصِلْنا في تَرْجَمَةِ تاج المُلُوكِ بُوري بن أيّوب، وتَرْجَمَةِ أبي فِرَاس الحارِث بن حَمْدَان الحَمْدانيّ، ونَقَلَ عنه أيضًا ممَّا وَصَلنا في تَرْجَمَة أبي العَتاهِيَة
(1)
.
واطَّلعَ المَقْريزيُّ (ت 845 هـ) على الكتابِ، ونَقَلَ منه كثيرًا في مُؤلَّفاتِه، خاصَّةً في كتابِه المُقَفَّى الكَبِير، ولم يُشِرْ لمُؤلِّفِه إلَّا في القليل، ونَقَلَ عنه بعض التَّراجم الَّتي لم تَرِدْ سِوَى عندَ ابن العَدِيْم دونَ أنْ يَذْكرَ مَصْدَره، ويُمكنُ القولُ بمزِيْد الاطْمئنانِ أنّ التَّراجمَ الَّتي أورَدها المَقْريزيّ ولم يَذْكرها سِوى ابن العَديم مَصْدرُها كتابُ بُغْيَة الطَّلَب.
وعَدَّهُ السُّيوطِيُّ ضمنَ الكُتُب الَّتي اسْتَوعَبها بَحْثًا عن النُّحَاةِ وهو يُصَنِّفُ كتابَهُ بُغْيَةَ الوُعَاة في طَبَقاتِ النُّحاة، وكان الفَرَاغُ من تأْلِيفِه لهذا الكتاب سَنَة 871 هـ
(2)
، والظَّاهِرُ أنَّهُ لَم يَطَّلعْ إلَّا على ذاتِ الأجْزاءَ العَشرة الَّتي وَصَلتْنا، بدَلِيْل أنَّهُ لَم يأخُذْ عنه في الجُزء الثَّاني من طَبَقاتِ النُّحَاةِ الضَّام لترَاجِم حَرْفِ الشِّين حتَّى اليَاء، ولَم يَسْتَفِدْ منهُ في ترَاجِمِ المحمَّدين الَّذين قَدَّم السُّيوطِيُّ ذِكْرهم في أوَّلِ كتابِه، وكان السُّيوطِيِّ قد كَتَبَ بخَطِّهِ على طُرَّةِ الجزءِ الثَّاني والجُزء التَّاسِع من نُسْخَةِ الأصْل الَّتي بين أيْدينا، قيدُ مُطالَعَتهِ للكتَاب، ونَصُّ ما كَتَبَهُ على الجُزء التَّاسِع: "الحَمْدُ لله، طَالَعْتُه على طَبَقاتِ النُّحَاةِ بمَكَّة المُكَرَّمة سَنَة 869 هـ. كَتَبَهُ عَبْدُ الرَّحمن بن أبي بَكْر السُّيوطِيّ دَاعِيًا لمُعِيْره
…
". ومُعِيرُه هو نَجْم الدِّين عُمَر بن مُحمَّد بن مُحَمَّد بن فَهْد الهَاشِميّ المَكِّيّ (ت 885 هـ)
(3)
.
(1)
ابن حبيب: درة الأسلاك، ورقة 15 ب.
(2)
السيوطي: بُغْيَةِ الوعاة 2: 439.
(3)
يذكر السيوطيّ أنه كان في مكّة المشرّفة سنة 869 هـ، وأنه أطْلعَ الحافظ نجم الدين بن فهد على مسودَّة كتابه فاقترح عليه الاختصار. بُغْيَةِ الوعاة 1: 5 - 6.
وأخيرًا قَولُ ابن الشِّحْنَة (ت 890 هـ)، وهو أيضًا ممَّن أقامَ بالقَاهِرةِ مُتَولِّيًا لِكتابةِ السِّرّ في نوْبتَيْن:"أخْبَرِني الأميرُ النَّقيبُ بَدْر الدِّين الحُسَيْنيّ نَقيبُ السَّادَةِ الأشْرَافِ بالمَمْلكةِ الحلَبيَّة، رحمه الله، أنَّ مُسَوَّدَتهُ كانت تَبْلُغُ نحو أربَعين جُزءًا كبارًا، والمبُيَّضَةُ تَجيءُ كذلك، لكن اخْتَرمتهُ المَنِيَّةُ قَبْل إكمال الأُمْنيَّةِ، وتَفرَّقَتْ أجْزاؤه قَبْلَ الفِتْنَة التَّيْمُوريَّة، [أي قَبْل سَنة 805 هـ] فلا تَجِدُ الآن منها إلَّا نَزْرًا لَم أَقِفْ منها إلَّا على جُزءٍ واحدٍ بخَطِّه فيه بَعْضُ حَرْفِ الميم، وفيه تَرْجَمَهُ المَلِكِ العادِلِ نُور الدِّين مَحْمُود، وتَرْجَمَةُ جَدِّي الأمير حُسَام الدِّين مَحْمُود شِحْنَة حَلَب، وبعضُ تَرَاجِم غيرها، وهو عندي"
(1)
.
وأجْزاءُ الكتابِ كانتْ مُبَعْثَرةً في أوَاخِرِ القَرْن التَّاسع الهِجْريّ، ورُبَّما قبلَ ذلك، ففي الفِهْرستِ الَّتي وَضَعهُ السَّخَاوِيُّ (ت 902 هـ) للأجْزَاءِ الَّتي كانت بحَوْزَةِ صاحِبه مُحمَّد بن مُحمَّد بن السَّابق الحمويّ (ت 877 هـ)، وهي مَجْمُوعةٌ ليْسَت بالهَيِّنَةِ من أجْزَاء الكتاب، وأعْقَبَهُ بالقَوْل إنَّهُ رَأى مُجَلدًا آخرَ فيه بَعْضُ البُلْدان (يَقْصِدُ المُجَلَّد الأوَّل)، ولم يُعيِّنْ مَكانَ وجُودِه، ثُمَّ قال:"وكان عندَ مُحبِّ الدِّين بن الشِّحْنَة منه بخَطِّ المُؤلِّفِ بعضُ الأجْزاءِ ممَّا لَم أُطَالع"
(2)
. والسَّخَاوِيّ يُشِيرُ في مَوْضعٍ آخر من كتابهِ أنَّه اطَّلَعَ على كَثيرٍ من أجْزاءِ الكتاب
(3)
.
ولأهميَّةِ كَلام السَّخَاوِيّ فأوْرده بنصِّهِ، قال:
(1)
الدر المنتخب 7.
(2)
السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 229.
(3)
الإعلان بالتوبيخ 260.
"وعِدَّةُ مُجَلَّداتٍ من تاريخ حَلَبَ للكَمال أبي حَفْص عُمَر بن أحْمَد بن العَدِيْم، وسمَّاهُ: "بُغْيَة الطَّلَب"، كان عندَ صَاحِبِنا الجَمال ابن السَّابق الحَمَويّ بخَطِّ مُؤلِّفِه، ونَقَلَها منهُ صَاحِبُنا ابنُ فَهْد:
- أَوَّلُها: من أحمدَ بن جَعْفَر بن مُحمَّد بن عُبَيْد اللّه بن المُنَادِي إلى آخِر أحْمد بن عَبْد الوَارِث.
- وثانيهما، وليسَ تِلْوهُ، مع الَّذي يَلِيه: وأَوَّلُهما أحْمَد بن مُحمَّد بن مَتّويه، وآخِرها في أثْنَاء تَرْجَمَة أُمَيَّة بن عبْد الله بن عَمْرو بن عُثمان.
- ورَابِعُها: من الحَّجاج في هِشَام إلى آخر الحَسَن بن عليّ بن الحَسَن بن شَوَّاش.
- وخامِسُها والَّذي يليه: وهمُا من الحُسَيْن بن عَبْد اللّه الخادِم إلى أثْنَاء دَعْلَج بن أحْمَد بن دَعْلَج.
- وسَابعُها [و] الَّذي يَلِيه: وهُما من أثْنَاء رَاجِح بن إسْماعِيل الأسَدِيّ إلى سَعِيد بن سَلَّام.
- وتَاسِعها: من مُشْرِق بن عَبْد اللّه الحَلَبِيّ
(1)
إلى أثْنَاء الوَليد بن عَبْد العَزِيز بن أَبَان، ولكن ليسَ فيه حَرْف الهاء جَرْيًا على عادَة كَثِيرين في تَأْخِيره عن الوَاو. ووَقَفْت على المُسَوَّدَة الَّتي بخَطِّ المُؤلِّف من هذا الجُزء بخصُوصِه عند ابن فَهد، وعليها بخَطِّ المُؤلِّف تَلقِيبه بالرَّابعِ عَشر.
- وعاشِرُها: الكُنَى إلى آخر الأَنْسَاب.
ورَأيتُ مُجَلَّدًا آخرَ منهُ، فيه بعض البُلْدان.
وكان عندَ المحبِّ بن الشِّحْنَة منه بخَطِّ المُؤلِّفِ بعض الأجْزاءَ ممَّا لَم أُطَالِعهُ"
(2)
.
(1)
حفظ لنا القرشي جزءًا من ترجمة ابن العديم له في كتابه الجواهر المضية 3: 483 - 483، وانظره أيضًا في الملتقط من الضائع (الجزء الحادي عشر).
(2)
السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 337 - 339.
إنَّ الوَصْفَ الَّذي قَدَّمَهُ السَّخَاوِيُّ لنُسْخةِ ابن السَّابق الحَمَويّ مُطَابِقٌ بِيْبلُوغرَافيًّا لوَصْفِ الأجْزَاءِ الَّتي وصَلَتْنا من الكِتَابِ، لكنَّه قَيَّد الجُزئين الثَّالثَ والرَّابعَ (بحَسَب نَشْرَتنا هذه) في مُجلَّدٍ واحدٍ، وكَذا الجُزئين السَّادِس والسَّابِع، والجُزئين الثَّامن والتَّاسع، وزادَ على مُجْمُوعَتِه - ممَّا لَم يَصلْنا - جُزءًا يَتَضَمَّنُ تَرَاجِمَ أواخِرِ حَرْفِ الميم إلى أواخِر حَرْفِ الوَاو:"من مُشْرِق بن عَبْد الله إلى أثْناء الوَليْد بن عَبْد العَزِيز بن أبان"
(1)
.
ويَذْكرُ السَّخَاوِيُّ أنَّ المجمُوعَةَ الَّتي كانتْ في ملْكِ ابن السَّابق، قامَ بنَقْلِها ابنُ فَهْد (ت 885)، فهل مَدْلُولَه أنَّهُ نَقَلَها إلى مَكَّة، أم أنَّهُ انْتَسَخها؟! مِع وجُودِ تَقْييدِ ابن فَهْد على الجُزءِ الأوَّلِ بما يُفِيدُ انْتساخَهُ عن نُسْخَةِ ابن السَّابق سَنَة 869، وَأيضًا اطِّلَاع السُّيوطِيّ عِلى الجُزئين الثَّانِي والتَّاسِع من ذاتِ النُّسْخَةِ في مَكَّة المُكرَّمة سَنة 869 هـ، واسْتعارَته من ابن فَهْد.
ويُشيرُ السَّخَاوِيُّ أيضًا في نَصِّهِ المُتَقدِّم إلى تَوَفُّرِ أجْزاءٍ من المُسَوَّدَةِ والمبُيَّضَة معًا: رَأى الجُزءَ التَّاسِعَ (حَسَب فَهْرَسَته للأجْزاء) عندَ ابن السَّابق الحَمَويّ ويُقابِلُه من مُسَوَّدَةِ المُؤلِّفِ الَّتي كانتْ عندَ ابن فَهْد وعليها بخَطِّ المُؤلِّف: "الجُزء الرَّابِع عَشر"
(2)
.
وتاريخُ تَملُّكِ ابن السابق للكتَاب، والذي قيَّدَهُ على طُرَّة الأجْزاءِ هو:"يَوْم الأرْبِعاء تاسِع عَشر رَبيع الآخر سَنَة ستّ وخَمْسين وثَمانمائة" وأنَّهُ كانَ في القَاهِرةِ، ونَجِدُ نصَّ تَملُّكٍ آخرَ له، كَتَبَهُ على وَرَقةٍ فَارغةٍ من أوْرَاقِ الجُزءِ الثَّانِي [الورقة 140 أ]، فيه ما يُفِيدُ تَملُّكَهُ الكتَابُ بمَعرَّةِ النُّعْمان في سَنَة 836 هـ: "نَوْبَة فَقِير
(1)
السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 229.
(2)
مثل هذا الاختلاف في ترقيم الأجزاء ما يذكره اليونيني في ذيل الزمان 1: 199 من أنه اطلع على المجلد الثالث من تاريخ صلب لابن العديم ونقل منه أبياتًا أخذها ابنُ العديم في كتاب نُزهة الناظر لعبد القاهر بن علوي المعريّ، وورد هذا النقل وهذه الأبيات في الجزء الخامس بحسب ترتيب الأجزاء التي وصلتنا.
عَفْو اللّه تعالَى مُحمَّد بن مُحمَّد بن مُحمَّد بن السَّابق الحنفيّ عَفا اللّهُ عَنهم أجْمَعِين، بالمعَرَّة المَعْمُورة، في سَنَة ستٍّ وثلاثين وثَمانمائة، أحْسَن اللّهُ عاقِبَتها في خَيْر، آمين".
وإضافةً لمَا تقدَّمَ، فقد كانتْ هذه الأجْزاءُ الّتي وَصَلتْنا - باسْتثناءَ الجُزءَ السّادسِ - في ملْكِ مُحمَّد بن أحمد بن إيْنَال العَلَائيّ الحَنَفِيّ (ت 918 هـ)، وقَيَّدَ تَملُّكُهُ لها على طُرَّةِ أغْلِفَتها، وهو رَجُلٌ لَهُ اشْتِغالٌ بالعِلْمِ وصنَّفَ كتابًا اسْمه العِقْدُ المَخْصُوصُ بتَرصِيعِ الفُصُوص
(1)
.
إنَّ هذه الدَّلائِلَ تُؤشِّرُ إلى كَوْنِ أغْلَبِ أجْزاءَ الكتَاب كانتْ بمِصْرَ في مُنْتَصَفِ القَرْنِ التَّاسِع الهِجْريِّ، ثُمَّ في مكَّةَ في التَّاريخ الَّذي قَيَّدَهُ ابن فَهْد وذَكَره السُّيوطِيّ وهو سنة 869 هـ، ثُمَّ انتَقَلتِ المَجْمُوعَةُ في عَهْد الدَّولةِ العُثْمانيَّة إلى اسْطنبُول، وأُوْقِفَ الجُزءُ الخامِسُ منها، بحَسَبِ خَتْم الوَقْفِ المُثبَت على طُرَّتِه، على مَدْرَسةِ شَيْخ الإسْلام فَيْض اللّه أفَنْدِي الّتي أنْشَأها سَنَة 1113 هـ، أمَّا بقِيَّةُ الأجْزاءَ فأَوْقَفَها السُّلْطان مَحْمُود الأوَّل بن مُصْطَفى الثَّاني (ت 1168 هـ).
* * *
وبالعَوْدةِ إلى الضَّائِعِ من الكتَابِ، ولمَعْرفةِ الأجْزاءَ والأبْوَابِ الضَّائِعة منه، وتَقْديرِ كَمِيَّة هذا الضَّائِع، وحَصْرِ عَدَدِ التَّراجم الضَّائِعة منه، فقد سَعَيْنا إلى رَصْدِ إحَالَاتهِ العَدِيْدةِ والمُتكرِّرة، سَواءً ما يتَعلَّقُ منها بالإحالة على إفادَاتٍ تتَّصِلُ بالجُزءَ الأوَّلِ من الكتاب أو الإحالاتِ المُتَعلِّقة بمَن تَرْجَمَ لهم من الرِّجَالِ والنِّسَاء، وأكْثَرُ إحالاتهِ ممّا جاءَ في الجُزءَ العاشِر الَّذي أفْرَدَهُ للكُنَى والألْقَابِ، ذَكَرَ فيه مَن غَلَبَتِ الكُنْيَةُ أو اللَّقَبُ على اسْمهِ، وأصالَ على ترْجَمتِه في الأسْمَاء، وبَدَا أنَّ أكْثَرَ التَّراجمِ الضَّائِعةِ في تَرَاجِم العَبَادِلة والمُحمَّدين بحُكمْ كَثْرَة مَن تَسَمَّى
(1)
الضوء اللامع 6: 295، البغدادي: هدية العارفين 2: 226، كحالة مُعْجَمُ المؤلفين 8:293.
بهذه الأسْمَاء أَصْلًا، وقد حَرِصتُ على الإشَارةِ في الهامِشِ إلى مَكَانِ التَّرْجَمَة المُحالِ عليها أو ضَياعها.
أمَّا الجُزءُ الأوَّلُ من الكتابِ، فقد تعرَّضَ إلى بَعْضِ الإفْسَادِ بفِعْلِ الرُّطُوبَةِ وربَّما دَاخَلَهُ الماءُ؛ ففَسَدَ أوَّلهُ وآخرُهُ، ونُزِعَتْ منهُ أوْرَاقٌ عَديدةٌ، تتَضَمَّنَ بعضَ الأبْوابِ: فمن أبْوَابهِ الضَّائِعةِ: مُقَدِّمَةُ المُؤلِّفِ، الَّتي نَفْتَرضُ أنَّه ضَمَّنَها دَواعِي التَّأليف، ورُبَّما خِطَّة العَمَل الَّتي سَلَكَها في نَسْقِ أجْزَاء الكتاب، وتَعْدَاد إبْرَز مَصادِره الَّتي اعْتَمَدَ عليها.
وضَاعَ من أوَّلِ هذا الجُزْءَ بابٌ يَتَنَاولُ "أوَّلِيَّة بنِاء حَلَب في التَّاريخ القَديم"، أحالَ عليه المُؤلِّفُ في أثْناءَ كلامِهِ على ما وَرَدَ من الكِتابَةِ القَدِيمةِ على الأحْجَار بحَلَب:
"قد ذَكَرْنا في أوَّلِ كتابِنا هذا، ما حَكَاهُ أبو أُسامَةَ الخَطِيب بحَلَب، أنَّ أباهُ حدَّثَهُ أنَّهُ حَضَرَ مع أبي الصَّقْر القَبِيْصِيّ ومعهما رَجُلٌ يقرأُ باليُونانِيَّة، فنَسَخُوا كتابةً كانتْ على القَنْطَرَة الّتي على بابِ أَنْطَاكِيَة، قال: ونُسْخَتُها: بُنِيَتْ هذه المَدِينَة، بناها صَاحبُ المَوْصِل
…
".
وضاعَ بابٌ عُنْوانُه: "بابُ تَسْمِيَة حَلَب"، أحَالَ عليه في مَطْلع "باب في ذِكْرِ ما بحَلَب وأعْمَالها من المَزَارَاتِ، وقُبُور الأنْبِياء والأوْلِيَاء، والمَواطِن الشَّرِيْفَة، الَّتي بها مَظَّان إجَابة الدُّعَاء"، قال:
"وكان (إِبْرَاهِيم عليه السلام يُقِيمُ به ويَبُثُّ رِعَاءَهُ إلى نَهْرِ الفُرَاتِ والجَبَل الأَسْوَد، ويَحْبسُ بعضَ الرِّعَاءَ بما معَهُم عندَهُ، ويَأْمُرُ بحَلْب ما معَهُ، واتِّخاذِ الأطْعمةِ وتَفْرِقتِها على الضُّعَفَاءَ والمَسَاكِين، وقد ذكَرْنا ذلكَ مُسْتَقصىً في بابِ تَسْمِيَةِ حَلَب".
وأحَالَ عليه أيضًا في مَوْضِعٍ آخرَ من نَفْسِ البَاب:
"وخَارجُ المَدِينَة مِمَّا يَلي القِبْلَة مَقامُ إبْرَاهِيْم صلى الله عليه وسلم في الجَبَّانَةِ، وفي مِحْرَابِ المَسْجِد، حَجَرٌ قيل إنَّهُ كان يجلسُ عليه، وفي الرِّوَاقِ القِبْليّ الّذي يلي الصَّحْنَ صَخْرةٌ نابِتةٌ فيها نُقْرَةٌ قيل إنَّه كانَ يَحْلبُ فيها غَنَمُه، وقد ذَكَرْنا ذلك فيما تقدَّم".
وأحَالَ على هذا البابِ أيضًا - وهو بابُ تَسْمِيَةِ حَلَب - غِبَّ كَلامِهِ على القَبائِل القَاطِنَة بحَلَب ونَوَاحِيها، قال:
"ونَزَلَ بأعْمَالِ حَلَب بعضُ العَمَالِقَةِ، وقد ذكَرْنا فيما تقدَّمَ أنَّ حَلَبَ إنَّما سُمِّيتْ بحَلَب بن المهْرِ من ولدِ جَاب بن مكنَّف من العَمَالِقَة، وقيل فيهِ: حَلَب بن مهْر بن حيص بن عِمْلِيْق".
ومن الفُصُولِ الضَّائعة: بابٌ ذَكَرَ فيه بَعْضَ مُدُنِ الجَزِيرةِ كالرُّها وحَرَّان، ورُبَّما كانَ هذا البابُ الضَّائِعِ الَّذي أحَالَ عليه ابن العَدِيم هو ذاتُه "باب تَسْمِيَةِ حَلَب"، وأدْرَجَ ضِمْنَهُ فَصْلًا من كتابِ بَابَا الصَّابِئ الحَرَّانِيّ، وهو كتابٌ أرْسَلَهُ إليهِ ابنُ تَيميّة خَطِيبُ حَرَّان، ونَقَلَ منه بعضَ الفُصُولِ المُتَعلِّقةِ بالمَلَاحِمِ وأَمَارَاتِ السَّاعَة، يقول:
"وقد ذَكَرْنَا هذا الفَصْلَ فيما تقدَّم، وأنَّهُ انْهَدَمَ مَوضِعٌ في سُورِ حَرَّان في سَنَةِ اثْنتين وخَمسين وستّمِائة، فاحْتيجَ إلى أنْ نُقِلَ إليهِ من سُور الرُّهَا حِجَارَةٌ بُنِيَ بها ما انْهَدَمَ من سُورِ حَرَّان، أخْبَرَني بذلكَ خَطِيبُ حَرَّان، ونَقَلْتُ ما نَقَلْتُهُ من هذا الكتابِ على ما فيه من اللَّحنِ ورِكَّةِ الألْفاظ".
والدَّاعِي لافْتِرَاضِ أنْ تَكُونَ الإحالةُ على "باب تَسْمِيَةِ حَلَب" كَون الصَّابئ سَمَّى حَلَب في كتابه باسْمِها القَدِيم "مَابُوْغ"، فاقْتَضَى الاسْتِشْهَادُ بكَلَامِه في ذلك الباب.
وضاعَ من آخِر الجُزءَ الأوَّل الفَصْلُ الَّذي أفْرَدَهُ المُؤلِّفُ لرَصْدِ الأشْعَارِ الَّتي قِيْلَتْ في حَلَب، سمَّاه:"بابٌ في مَدْحِ حَلَب"، قال:
"ويدُلُّ على ذلك وَصْفُ الصَّنَوبَرْيَ حَلَبَ بكَثْرةِ السَّرْو كما في قَولِهِ في القَصِيدَة الهائِيَّة الَّتي يأتي ذِكْرُها في بابِ مَدْح حَلَب إنْ شَاءَ اللّهُ".
أمَّا بَقِيَّةُ الأجْزاءَ، وهي الضَّامَّةُ للتَّرَاجِم، فقد ضَاعَتْ منْها الأجْزاءُ الأُوْلَى المُشْتَملةُ على تَرَاجِمِ أوَّلِ الكتَاب ممَّن يَبْتَدئُ اسْمهُ بالأَلف باء: أَبان، إبْراهِيم .. ، وبعضُ أجْزاءَ تَرَاجِمِ الأحْمَدين، ثُمّ تَرَاجِمِ حرْفِ البَاء والتَّاء والثَّاء والجيم وأوَّلِ الحاءَ حتَّى تَرْجَمَةِ الحَجَّاجِ، ثمَّ ضاعَ الجُزءُ الّذي فيه تَتَمَّةُ تَرَاجِمِ الحَسَن بن عليّ حتَّى آخر الحَسَنيِّيْن، وضَاعَ الجُزءُ الَّذي يَلِيه وفيه تَرَاجِمِ أَواِئِلِ الحُسَيْنيِّيْن حتَّى أوَاخر الحُسَيْن بن عَبْد اللّه، وضاعَ من أوَّل الجُزءَ الثَّامن بقِيَّةُ تَرْجَمَةِ دَعلَج بن أحْمَد، الَّتي وَقَفَ الجُزءُ السَّابِعُ قَبْله في ثَنَاياها، إضافةً إلى ضَياعَ تَرَاجِمِ حرْفِ الذَّال، وفيها تَرْجَمَةُ ذي الكَلاع الَّتي أحَالَ عليها المُؤلِّفُ في كتَابِه، وأوَّلُ تَرَاجِمِ الرَّاءَ حتَّى بدايةِ تَرْجَمَةُ رَاجِح بن إسْماعِيْل، ثمّ تِلُوه ضَياع بَقِيَّة أجْزَاءَ الكتابِ سِوى الجُزْء الخاصِّ بالكُنَى، وأكْثَرُ الضَّائع في تَرَاجِمِ حَرْفِ العَيْن وفيه العَبَادِلةُ والعَبَابِيْدُ (عَبْد اللّه، عبد الرَّحمن
…
إلخ)، وحَرْف المِيْم وفيه المُحمَّدِين.
ومن أجْزاءَ الكتابِ الضَّائِعةِ، جُزءٌ يتَضَمَّنُ تَرَاجِمَ "مَن لا يُعْرَفُ اسْمُه"، أو "مَن جُهِلَت أسْمَاؤهم"، أو "جُزءُ المَجْهُولين الأسْمَاء والأَنْسَاب والألْقَاب"، وأحَالَ عليه في الجُزء الأوَّل في آخر "باب فَضْل أَنْطَاكِيَة"، وأيضًا في الجُزء الثَّامن في تَرْجَمَةِ رَافِع بن عُمَير بقَوْله:"وذَكَرَ تَمَامَ الحِكايَةِ وقد ذَكَرْناها في آخرِ الكتابِ في المَجْهُولةِ أسْمَاؤهم"، وأحَالَ عليه أيضًا في ثَلَاثةِ مَواضِعَ أُخْرَى من الجُزءَ العَاشِر (الكُنَى) بما يُؤَكِّد أنَّه تِلُوه في التَّرْتِيب.
ومن الضَّائعِ جُزءٌ في تَرَاجِمِ النِّسَاء، ففي تَرْجَمَة الحُسَيْن بن عليّ بن أبي طَالِب (الجُزء السَّادِس) أحَالَ على تَرْجَمَة زَوجَتِه الرَّباب بنت امْرئ القَيْس ابن عَدِيِّ الكَلْبِيّ: "وقد ذَكَرْنا في تَرْجَمَة الرَّبَاب، في آخر الكتاب، أنَّها كانتْ مع الحُسَين رضي الله عنه يَوْم الطَّفّ
…
".
وذكَرَ في الجُزءَ العَاشِر (الكُنَى) الفَقيْهَةَ العالِمَةَ فَاطِمَة السَّمَرْقنْديَّة، زَوْجة الإمام عَلاءَ الدِّين الكاسَانيّ، وأحَالَ على تَرْجَمتِها الَّتي سَتأتي في جُزء بعد الجُزءَ الخاصِّ بالكُنَى:"وَسَنَذْكُرها في حَرْف الفاء فيمن اسْمه فاطِمَة من النِّسَاءَ إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى"
(1)
.
وكذلك في الجزءَ العاشِرِ (الكُنَى) عند ذِكْر وَالدةِ الفَقِيْه أبي عليّ الخُرَاسَانيّ الوَزِير، واسْمُها فاطِمَة بنت مُحمَّد بن أحْمَد بن مُحَمَّد الشَّبيْه: "
…
فذَكَرَ حَدِيثَ فَتْح الرُّوم حَلَب في سَنَة إحْدَى وخَمْسِين وثَلاثِمائة، وأسْرها وخَلَاصها من الأسْرِ على ما نَذْكُره في تَرْجَمَتِها مع النِّسَاء".
وأفْرَدَ في آخِر الجُزءَ الخاصِّ بتَراجِم النِّسَاء بابًا في تَرَاجِم "مَنِ لا يُعْرف اسْمها من النِّسَاء"، أو "المَجْهُولات منْهنَّ"، ولا نَظُنه جُزءًا مُسْتقِلًّا لقِلّةِ عَدِدهنَّ، وأحَالَ عليه في تَرْجَمَة زَوْجة قُنْزَعِ الشَّاعِر (الجُزء العاشِر):"كانتْ له امْرَأةٌ شَاعرةٌ وقد ذَكَرْناها فيمَن لا يُعْرفُ اسْمُها من النِّسَاءَ". وأحَالَ عليه أيضًا في تَرْجَمَة أبي مَعْشَر (الجُزء العَاشِر): "خَرَجَ من حِمْص غَازِيًا إلى الثَّغْر، وحَكَى عن امْرَأةٍ خَرَجَتْ إلى الغَزَاة
…
وقد سُقْنا الحِكَايةَ عنه في المَجْهُولاتِ من النِّسَاءِ، فيما يأتي في آخرِ الكتابِ إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى".
* * *
ولم يُعْطِ المُؤلِّفُ أرْقامًا للأجْزَاء، بما يُمَكِّنُ من مَعْرفَة عَدَدِها، ورَصْد مِقْدَار المُتَوفِّرِ مخها، ولَدَينَا الجُزءُ الأوَّل، وثَمانيةُ أجْزَاءٍ من النِّصْفِ الأوَّلِ من الكتاب،
(1)
حفظ لنا القرشي جزءًا من تَرْجَمة ابن العديم للسمرقندية في كتابه الجواهر المضية 4: 122 - 124.
ثُمَّ لدَينا الجُزء الخاصّ بالكُنَى ويَعْقِبُه بحَسَب إحَالَاتِ المُؤلِّف جُزْءان؛ أَحَدُهما خاصٌ بالمجاهِيل من الرِّجال، والآخرُ يَشْتَمل على تَرَاجِمِ النِّسَاءِ والمجاهِيْل منهنَّ، ووَرَد في زَاوِيةِ وَرَقةٍ فارغةٍ من الجُزءِ التَّاسع (بحَسَب هذه النَّشْرة) نَصُّ تَرْقِيم بخَطِّ مُغايرٍ لخَطِّ النُّسْخَةِ وهو "المُجلَّد السَّادِس عَشر من التَّاريخ"، إضافةً إلى إشَارَةِ السَّخَاوِيِّ للجُزءِ الضّامّ لترْجَمَةِ مُشْرِق بن عَبْد اللّه حتَّى تَرْجَمَة الوَلِيد بن عَبْد العَزِيز وتأخِير المُؤلِّف لحَرْف الهاء، وبناءً على هذه المُعْطَيات، وما تَرَجَّحَ أوَّلًا من أنّ عَدَدَ الأجْزَاءِ هو ثلاثينَ جُزءًا، فيُمكنُ بناءُ الافْتِراضِ التَّالي لمَضامِينِ وأرْقامِ أجْزاءِ الكتاب؛ المَوجُود منها والضَّائِع:
رقم الجزء
…
المحتوى/ التَّراجم
…
(م) موجود/ ترقيم
…
رقم الجزء في هذه النشرة
.................................... (ض) ضائع السَّخاويّ
…
1
…
الكتاب الأوَّل (المُقَدِّمة)
…
م
…
1
3
…
أبان - إبْراهيم
…
ض
3
…
أحمد بن
…
- أحمد بن جَابِر
…
ض
4
…
أحمد بن جَعْفَر - أحمد بنَ عْبد الوَارِث
…
م
…
1
…
3
5
…
أحمد بن عبد
…
- أحمد بن مُحمَّد بن
…
ض
6
…
أحمد بن مُحَمَّد بن متّويه - إسْحاق بن مُحَمَّد
…
م
…
3
…
3
7
…
أسَد بن إبْرَاهِيم - أُمَيَّة بن عَبْد اللّه
…
م
…
3
…
4
8
…
تتَمَّة حَرْف الألف وتَرَاجِم الباء والتَّاء والثَّاء
…
ض
9
…
تَرَاجِم الجيم وأوَّل الحاء
…
ض
10
…
الحَجَّاج بن هِشَام - الحَسَن بن عليّ
…
م
…
4
…
5
11
…
تتَمَّة الحَسَن بن عليّ - الحَسَن بن يعْقُوب
…
ض
13
…
الحُسَيْن بن إبْراهيم - الحُسَيْن بن عَبْد اللّه
…
ض
13
…
الحُسَيْن بن عَبْد اللّه - خالد بن بَرْمَك
…
م
…
5
…
6
14
…
خالد بن الحارث - دَعْلَج
…
م
…
6
…
7
15
…
رَاجِح بن إسْمَاعِيْل - زَنْكِي بن مَوْدُود
…
م
…
7
…
8
رقم الجزء
…
المحتوى/ التَّراجم
…
(م) موجود/ ترقيم
…
رقم الجزء في هذه النشرة
.................................... (ض) ضائع السَّخاويّ
…
16
…
زَهْدَم بن الحارث - سَعيد بن سَلَّام
17
…
بَقيَّة حَرْف السِّين، الشِّين، الصَّاد، الضَّاد، الطَّاء، الظَّاء
…
ض
18
…
تَرَاجِمِ حَرْف العَين
…
ض
19
…
تَرَاجِمِ حَرْف العَيْن
…
ض
20
…
تَرَاجِمِ حَرف العَين
…
ض
21
…
تَرَاجِمِ حَرف الغَين، والفاء
…
ض
22
…
تَرَاجِمِ حَرْف القاف والكاف واللَّام
…
ض
23
…
تَرَاجِمِ حَرْف الميم
…
ض
24
…
تَرَاجِمِ حَرْف الميم
…
ض
25
…
تَرَاجِم حَرْف الميم
…
ض
26
…
مُشْرِق بن عَبْد اللّه - الوَلِيْد بن عَبْد العَزِيز
…
ض
…
9
27
…
تَتِمَّة مَن اسْمُه وَليد، حَرف الهاء، والياء
…
ض
28
…
الكُنى والألقاب
…
م
…
10
…
10
29
…
تَرَاجِمِ المَجْهُولين الأسْماء والأنْساب والألْقَاب
…
ض
30
…
تَرَاجِمِ النِسَاء، وتَراجِم المَجْهُولات من النِّسَاء
…
ض
لقد أفْقَدنا ضَياعُ ثُلُثي كتاب ابن العَدِيْم تقريبًا، حَسَب الافْتِراض السَّابق لعَدَد الأجْزاء، فُرْصَةَ الاطِّلاع على تَرَاجِمِ أَعْلام لَم تَرِدْ إلَّا عندَه، أشارَ إلى تَرْجَمةِ بَعْضُهُم وأحَالَ عليها، فضَياعُ تَرْجَمةِ الشَّاعِرِ المَعْرُوفِ بدَوْقَلَة بن العَبْد، أَحَدُ مَن تُنْسَبُ إليهم القَصِيْدَة المَعْرُوفة باليَتِيْمة، والَّذي ذَكَرهُ في الأَسْمَاء:"أحْمَد بن الحُسَين المَنْبِجِيّ"، وأحَالَ على تَرْجَمتِه في حَرْف الدَّال لغَلَبَةِ شُهرته بدَوْقَلَة، فضاعَتْ بضَياعِ
تَرَاجِمِ بَقِيَّة حَرْف الدَّال، بما فَوَّتَ علينا فُرصَةَ مَعْرفَتِه، مع انْعِدَام ذِكْره تَرْجَمَتِه عند غيره. وكذا ضَيَاعُ تَرْجَمَةُ نَصْر بن شَبث العُقَيْليّ، الثَّائِرِ علىِ الدَّوْلَة العبَّاسِيَّة، والَّذي أشْغَلَ الخِلَافَةَ وأَهَمَّها مُدَّةً طَويلةً اسْتْمَرَّتْ ثلاث عَشرة سنة ونصف بالتَّمام (رَجَب سَنَة 196 هـ حتَّى وَقْت القَبْض عليه في شَهْر ذي القَعْدَة سنة 209 هـ)، إلى تَرَاجِمَ آخرين الله أعْلَم بهم وبأهَمِّية ما كَتَبه عنهم.
أخيرًا: فإنَّ بَقاءَ ما نَجَزَ من الكتابِ حَبِيْسًا في يَدِ المُؤلِّفِ أو في خِزَانتِه، وعَدَمَ إطْلَاقِه للانْتِساخَ والتَّداولِ، فَوَّتْ علينا فُرْصَةَ تَوفُّر نُسَخٍ منه، ولا يُمكِنُ اعْتِبارُ كتابِ "زُبْدَة الحَلْب" صُورَة مُصَغَّرة لكتاب البُغْيَة، بالرَّغْم ممَّا قاله المُؤلِّفُ في مُقَدِّمةِ الأخير "أنَّه مُنْتَزعٌ من تاريخيِ الكَبِير للشَّهْباء"، لاخْتِلَافِ مَنْهجِ التَّألِيفِ بين الكتابيَن، أرادَ بكتابِه الزُبْدَة أنْ يَضعَ صُورةً عامَّةً عن أوْضَاعَ حَلَب وتاريخِها السِّياسيّ على مَدَى القُرونِ السَّبْعةِ الَّتي سَبَقته، بينما كانَ عَمَله في البُغْيَة مُنْصَرفًا للتَّعْريفِ بالرِّجال الَّذين اتَّصَلَتْ أيَّامهم وأعْمالُهم بحَلَب، فصَنَعَ تَرَاجِمِ مُرَكَّزة، تحْمِلُ في ثناياها مَعارِفَ وأخْبارًا مُتَنوِّعة، وأشْعارًا وأراجيزَ، ونَقَلَ لنا - من خِلَالِها - بَقايا كُتُبٍ ضَاعَتْ أُصُولُها، فالزُبْدَةُ مَسْحٌ أُفقيٌّ، والبُغْيَة عَوْضٌ وتَركيزٌ عموديُّ.
ذُيُول الكتاب:
نَظَرًا لأهمِّيةِ تاريخ ابن العَدِيْمِ فقد كانَ مَصْدَرًا للأَخْذ والنَّقلِ لدَى الكَثيرِ من المُؤرِّخِين اللَّاحِقين، وقَفَّاهُ بعْضُهم بمُذَيَّلاتٍ عليه، أوَ مُخْتَصَرَاتٍ، فانْتَقَى منه ابنُ حَبيب الحَلَبِيّ (ت 779 هـ) كتابًا سمَّاهُ:"حَضْرة النَّدِيم من تاريخ ابن العَدِيْم"
(1)
، وتقدَّمَتِ الإشارةُ إلى هذا المُخْتَصرَ فيما مرّ.
(1)
ابن حبيب: درة الأسلاك، ورقة 15 ب، الطباخ: إعلام النبلاء 1: 38، بروكلمان: تاريخ الأدب العربيّ، (القسم الثالث 5 - 6)442. وذكر بروكلمان أنه منتزع من زبدة الحلب، وليس كذلك.
وذيَّلَ عليه مُحمَّد بن عليّ بن عَشَائر الحَلَبيِّ (ت 789 هـ)
(1)
، وأثْبَتَ سِبْطُ ابن العَجَميّ بعضَ نقُولِ ابن عَشائرَ من كتابِ بغيَة الطَّلَب، وبعضُها من النُّصُوصِ الضَّائِعةِ من الكتاب فألْحَقناها ضمن المُلْتَقط في آخر الكتاب، ولعلَّ هذا المُذَيَّلَ هو ذاتُ الكتابِ الَّذي ذَكَرهُ حَاجِي خَليفة بعُنْوان:"تاج النَّسرين في تاريخ قِنَّسْرين" لمحمَّد بن عليِّ بن عشَائر الحَلَبيِّ
(2)
، وهو كتَابٌ مَفْقُود لَم يَصِلْنا.
ووضَعَ عليه ذَيْلًا القَاضِي علاء الدِّين عليّ بن مُحمَّد بن سَعْد الحَلَبيِّ الشَّافِعِيّ المَعْرُوف بابن خَطِيب النَّاصِريَّة (ت 843 هـ)، رَتَّبَ فيه الأعْيانَ على الحُرُوف، وسمَّاهُ: الدُّرُّ المُنتَخَب فِي تاريخ حَلَب
(3)
، وقيل هو ذَيْلٌ على زُبْدَة الحَلْب
(4)
، وغَضَّ منهُ ابن تَغْري بَردىِ ووصَفَ مُذَيَّله بأنَّه:"قَصِيرٌ إلى الرُّكْبة! وقَفْتُ عليه فلم أجِده جالَ حَوْل الحِمَى، ولا سَلَكَ فيه مَسْلكَ المُذَيَّل عليه من الشُّروطِ، إلَّا أنَّه أخَذَ عِلْمَ التَّاريخ بقُوَّة الفِقْه، على أنَّه كانَ من الفُضَلاءَ العُلَمَاءِ ولكنَّهُ ليسَ من خَيْل هذا الميدان"
(5)
.
ثُمَّ ذَيِّلَهُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أحْمَد بن إبْرَاهِيم بن مُحمَّد الحَلَبيِّ الشَّافِعِيّ، أبو ذَرّ سِبْط ابن العَجَميّ (ت 884 هـ) وسمّاه: كُنُوزُ الذّهَب في تاريخ حَلَب، ضَمَّنهُ ذِكْرَ الأعْيانِ والحَوادثِ معًا.
وذَيَّلَ عليه مُحبُّ الدّينَ مُحمَّد بن الشِّحْنَة (ت 890 هـ) في كتابٍ سمَّاه: الدُّرُّ المُنْتَخَب في تاريخ حَلَب، وهو مَطْبُوعٌ مُتَداولٌ.
(1)
السَّخَاوِيّ: الإعلان بالتوبيخ 260.
(2)
كشف الظنون 1: 270.
(3)
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209، السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 260، كشف الظنون 1: 249، كامل الغزي: نهر الذَّهب 1: 8، محمد راغب الطباخ: الدر المنتخب، مجلة المجمع العلمي العربيّ، مج 16، ج 2 - 2، (1941 م) 184 - 187، وإعلام النبلاء تاريخ حلب الشهباء 1: 40 - 41، بروكلمان: تاريخ الأدب العربيّ، (القسم الثالث 5 - 6)441.
(4)
ابن الحنبلي: در الحبب 1: 11 - 12.
(5)
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209.
ثُمَّ صنَّفَ الشَّيخُ مُحمَّد بن إبْرام بن يُوسُف الحَلَبيِّ (ت 971 هـ) تاريخًا مَوْسُومًا بدُرِّ الحَبَب في تَاريخ أعْيَانِ حَلَب ضَمَّنهُ تَرَاجِمَ أعْيَان حَلَب في المائة التَّاسِعة
(6)
، وأثْنَى في مُقَدِّمته على عَمَل ابن العَدِيم ونَوَّهُ بفَضْله
(7)
، وهو كتابٌ مَطْبُوعٌ.
خَطُّ ابن العَدِيْم:
الدَّاعَي للكَلام على خَطِّ ابن العَدِيمِ هو ارْتبَاطُهُ بكتابِ بُغْيَةِ الطَّلَب، ووقُوع الشَّكّ في كَوْنِه من خَطِّهِ، إذ لا تَخْلو تَرْجمَةُ لابن العَدِيْم في المَصَادر من الإشَارةِ إلى جَوْدةِ خَطِّهِ وحُسْنهِ حتَّى غَدَا مَضْربًا للمَثَل، وكانتْ له قُدْرَةٌ على تقلِيدِ خَطِّ عليّ بنِ هِلَال بن البَوَّاب الكتابِ المَشْهُور بحيث لا يُفرَّقُ بينهما، بِل إنَّه فاقَه وفَاقَ أبْناءَ زمانِه في البَراعَةِ وحُسْنِ الخَطّ، وبَلغَ الغايَةَ القُصْوَى في جوْدَتِه وإتْقانه
(8)
، وقيلَ إنَّه لَمْ يَكْتُبْ أحَدٌ بعد ابن البوَّاب كخَطِّه
(9)
، "وكَتَبَ مُصْحَفًا بخَطِّه ومجمُوعًا من خَطّ ابن البوَّاب وأهْداهمُا إلى السُّلْطانِ المَلِك الأشْرَف مُوسَى ابن المَلِك العادِل أَبي بَكْر بن أيُّوب"
(10)
، وباعَ النَّاسُ من خَطِّ ابن العَدِيْم شَيئًا كَثيرًا على أنَّه خَطّ ابن البوَّاب
(11)
.
وأطالَ ياقُوت الكَلامَ على خَطِّهِ، قال:"وأمَّا خَطُّهُ في التَّجْويدِ والتَّحْرير والضَّبْطِ والتَّقْييد فسَوَادُ مُقْلَة لأبي عَبْد اللّه ابن مُقْلَة، وبَدْرٌ ذو كمال عند عليّ بن هِلَال"
…
"فهو أكْتَبُ من كُلِّ مَن تَقَدَّمَهُ بعد ابنِ البوَّاب بلا شَكّ"
(12)
…
"وشاعَ
(6)
كشف الظنون 1: 349.
(7)
در الحبب 1: 9 - 10.
(8)
مُعْجَمُ الأدباء 5: 2082، ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 333، الحسيني: صلة التكملة 1: 469، اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1: 510، 3: 178، ابن كثير: البداية والنهاية 13: 336، بدر الدين العيني: عقد الجمان (قسم المماليك) 1: 340، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 209، واللافت أن أغلب أسرة بني العديم وآبائه وأعمامه يشار إليهم بجودة الخط والبراعة فيه.
(9)
ابن الفوطي: جمع الألقاب 4: 211.
(10)
ابن الشعار: قلائد الجمان 4: 334.
(11)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3: 178.
(12)
مُعْجَمُ الأدباء 5: 2083.
ذِكْرُه في البلَادِ، وعُرِفَ خَطُّهُ بين الحاضِر والبَادِ، فتَهادَاهُ المُلُوكُ، وجُعِلَ مع اللَّآلئ في السُّلُوكِ
…
فممَّا رَغِبَ في خَطِّهِ أنَّه اشْتَرى وِجْهَةً واحدةً بخَطِّ ابن البوَّاب بأرْبَعين دِرْهَمًا، ونَقَلَها إلى وَرقَةٍ عَتِيْقةٍ، فذَهَب بها وادّعى أَنَّها بخَطِّ ابن البوَّاب وباعَها بستِّينَ دِرْهمًا زِيَادةً على الَّذي بخَطِّ ابن البوَّاب بعشْرين دِرْهمًا، ونَسَخَ لي هذه الرُّقْعَةَ بخَطِّهِ، فدَفَع فيها كُتَّابُ الوَقْت - على أَنَّها بخَطِّه - دِيْنارًا مصْريًّا ولَم يَطِبْ قَلْبِي ببَيْعها، وكَتَبَ لي أيضًا جُزءًا فيه ثلاثَ عَشرِةَ قائمةً نَقَلَها من خَطِّ ابن البوَّاب، فأُعْطِيتُ فيها أرْبَعين دِرْهمًا ناصِريَّة قِيْمتُها أرْبَعةُ دنانِيْر ذَهَبًا فلم أفْعَلْ، وأنا أعْرِفُ أنَّ ابن البوَّاب لَم يكُن خَطّه في أيَّامِه بهذا النِّفَاق، ولا بلَغَ هذا المقْدَارَ من الثَّمَن".
ويُضِيفُ ياقُوتُ أنَّ خَطَّ ابن العَدِيْم كان مَطْلبًا للاسْتِهْداء، "فممَّن كَتَبَ إليهِ يَسْتَرفده شَيئًا من خَطِّهِ سَعْدُ الدّين مَنُوجَهر المَوصليّ، ولقد سَمِعتُهُ مِرَارًا يَزْعم أنَّهُ أكْتَب منِ ابن البوَّاب، ويَدَّعِي أنَّه لا يَقُوم أحدٌ في الكتابةِ ويُقِرُّ لهذا كَمال الدِّين بالكَمَال، فوجَّه إليهِ على لسَان القاضِي أبي عليّ القِيْلويّ، وهو المَشْهُورُ بصُحْبَةِ السُّلْطان الأشْرَف، يَسْأله سُؤالَهُ في شَيءٍ من خَطِّهِ ولو قَائمة أو وِجْهَة. وممَّن كَتَبَ إليهِ يَسْتَرفده خَطّه أمينُ الدِّين ياقُوت المعرُوف بالعالِم، وهو صْهرُ أمين الدِّين ياقُوت الكاتِب الَّذي يُضْربُ به المَثَلُ في جَوْدَةِ الخَطِّ وتخرَّجَ به أُلُوف، وتتلْمَذَ له مَن لا يُحْصَى"
(1)
.
وأجادَ ابنُ العَدِيْم من الخطُوطِ الخَطَّ المَنْسُوب
(2)
، وهو نَوْعٌ من خَطِّ المُحَقَّقِ، لا خَطًّا قائمًا بذَاتِه، ضُبِطَتْ فيه قِياسَاتُ الحُرُوفِ بالنُّقَاطِ المُرَبَّعةِ على نِسَبٍ هَنْدَسيَّةٍ مُعَيَّنة
(3)
، فيَجيءُ كُلُّ حَرْف بمَقاييسَ مُتَناسِقَةٍ، وأَبْعادٍ مَضْبوطة بإحْكام تُفضِي إلى جَمالِ الشَّكل والتَّوازن والانْسِجَام بين الحُرُوف والكَلِمَات والسُّطُور.
(1)
مُعْجَمُ الأدباء 5: 2086 - 3087.
(2)
الذهبي: تاريخ الإسلام 14: 937، ابن شاكر فوات الوفيات 3: 136، الصفدي: الوافي بالوفيات 33: 433، ابن حبيب: درة الأسلاك، ورقة 15 ب.
(3)
انظر عن تطور الكتابة المنسوبة: نصار منصور الخط المحقق ودوره في كتابة المصحف الشريف (ضمن كتاب بحوث ودراسات مهداة إلى محمد عدنان البخيت، الجامعة الأردنية، 2013 م)، 379 وما بعدها.
وأتْقَنَ ابنُ العَدِيْم أيضًا خَطّ النَّسْخ وخاصَّةً قلَم الحَواشِيّ، وقيلَ إنَّهُ هو الَّذي اخْتَرعه
(1)
، وقَلَم الحَواشِي هو "الخَفِيفُ من خَطِّ النَّسْخ"
(2)
، وعرَّضَ فَتحُ الدِّين عَبْد اللّه بن مُحمَّد بن القَيْسَرانيّ بهذا في شِعْره بقَوله:[من الوافر]
بوَجْهِ مُعَذِّبي آيَاتُ حُسْنٍ
…
فقُلْ ما شئْتَ فيه ولا تُحَاشِي
ونُسخةُ حُسْنهِ قُرِئت وصَحَّت
…
وها خَطُّ الكَمَال على الحَواشِي
(3)
ولا زَالَ مِحْرَابُ المَدْرَسةِ الحلويَّةِ بحَلَب إلى اليَوم شَاهِدًا على بَرَاعةِ ابن العَدِيْم في الخَطِّ، من خِلَالِ ما كَتَبَهُ على أطْرَافِ المِحْرَاب
(4)
.
هذا مُجمَلُ ما أوْرَدَتْهُ المَصادرُ عن خَطِّ ابن العَدِيْم، وفيها من الثَّنَاءِ عليه الشَّيءُ الكَثِيرُ، حتَّى نَصَّبُوه إلى جانِبِ كبار الخطَّاطِيْنَ كابن مُقْلَة وابن البوَّاب، ووَردَ في مَصادِر ترجَمته كذلك أَنَّه كَتَبَ أجْزَاءَ كتابهِ بُغْيَة الطلَب بخَطِّهِ الرَّائِق، والنُّسْخَةُ الَّتي وَصَلتنا منِ الكتابِ بخَطِّهِ كما يشيرُ أغلبُ الدَّلائل - بالرَّغْم من خُلوّ كامِلِ أجْزائها من حَرْدِ مَتنٍ - خاصةً بلاغات السَّمَاع والقِراءة على هَوامِشها:"بَلَغَ وَلداي عَبْد الرَّحمن ومُحمَّد من أوَّله قرَاءة وسَماعًا .. "
(5)
، غير أنَّ خَطَّ النُّسْخَةِ لا يُطابِقُ الأوْصَافَ المُسْبَغَةَ على خَطِّ مُؤلِّفها، فهي - كما يَظْهَرُ من النَّماذجِ الَّتي تأتي تِلو هذه الدِّراسة - مَكْتُوبة بخَطٍّ
(1)
ابن شاكر فوات الوفيات 3: 136، الصفدي: الوافي بالوفيات 33: 433، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 309.
(2)
النويري: نهاية الأرب 9: 333.
(3)
الذهبي: تاريخ الإسلام 14: 937، ابن حبيب الحَلَبيِّ: درة الأسلاك، ورقة 15 ب، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7: 309.
(4)
انظر نص ما كتبه على المحراب، وصورته، عند الطباخ: إعلام النبلاء 4: 461 - 463.
(5)
جاء على غلاف الجزء الخامس من كتاب بغية الطلب: "كتاب من تاريخ حلب لابن أبي جرادة، وهو الأستاذ البليغ الناظم الناثر الوزير الصاحب كمال الدين بن العديم كاتم السر رحمه اللّه تعالى وشكر صنيعه، وهو بخطه الصَّحيح المليح"، وذكر السخاوي في عصيله للنسخ التي كانت في ملك ابن السَّابق الحموي أنها بخط المؤلف. انظر: الإعلان بالتوبيخ 228.
عادي يَخْلو من مَسْحَةِ الجَمَالِ، وليسَ فيه آثارُ التأنُّقِ والتَّزْويقِ، ولا يشُير القَلَمُ الَّذي كُتِبَت به الأجْزاءُ إلى بَراعَة كاتِبه، بل إنَّ خَطَّ الصَّفَديّ وابن حَبِيْب الحَلَبيِّ وغيرهما، وخُطُوط النُّسَخ الخِزائنيَّة اَلَّتي كَتَبها نُسَّاخٌ عادِيُّون، أجْمَلُ منها بكَثِير، بالرَّغم من أنَّهُ خَطٌّ مُتَناسِقٌ على دَرَجةٍ من البَيان والوُضُوحَ في رسْم الحُرُوف.
وكُتِبَ على غِلَافِ الجُزءَ الخاَمِس من كتابهِ التَّذكرَة أيضًا أنَّهُ بخَطِّهِ، وهو مَكْتُوبٌ بخُطوطٍ مُخْتَلِفةٍ، أغلبها بخَطٍّ مُغايرٍ لخَطِّ نُسْخَةِ البُغْيَة، خَطٍّ رَدِيءٍ وفيه مَظْهَرُ الاسْتِعْجاَل، وكاَن الشَّيْخُ الزّركلي قد أوْرَدَ في تَرْجَمتِه لابنَ العَدِيْم صُورةً من هذا الكتاب، وتشَكَّك في نِسبَة الخَطِّ إليهِ
(1)
.
ويَظْهَرُ أنَّ الأجْزاءَ الَّتي بين أيْدينا من البُغيَة الإبْرَازِةُ الثَّانيةُ من الكتاب، اسْتَوْعَبَ فيها الزِّيادَاتِ والإضَافاتِ الَّتي قيَّدَها على مُسوَّدتِه الأُولَى، لكنَّه وَالَى الزِّيادة عليها، وتَنَزَّلَتْ - لكَثْرةِ الإضافاتِ ومَواضع البَياضِ - مَنْزَلةَ المُسَوَّدَةِ، ولعلَّها لَمْ تكُنْ في اعْتِبارِ مُؤلِّفها المُبيَضَةَ النِّهائيَّةَ، فكَتَبَها بخَطٍّ عادي ولَمْ يتَجَمَّلْ به، ويَعْضُدُ هذا بعضُ الدَّلائلِ التَّالية:
1 -
كَثْرةُ الإلْحاقاتِ والزِّيادات في الهامِش، ووجُودُ بعف الطَّيَّارات المفرَدِةِ في أَوْرَاقٍ مُلْحَقة، مَمَّا يتضمَّنُ تَرَاجِمَ جَدِيدة أو رِوَاياتٍ وأخْبار، خاصَّةً تلك الَّتي تَحَصَّلَتْ له من كابِ التَّكملَةِ للمُنْذريّ، والَّذي يبدو أنَّهُ اطَّلعَ عليه في وقْتٍ مُتأخِّر على تأليفِ الكتاب، فنَقَلَ عنه في مَواضعَ عَدِيْدَةٍ أدْرَجَها في هامِشِ الكتاب.
2 -
كَثْرةُ الإصْلَاحاتِ والتَّصْويبات والضَّرْبِ وبعض المُخْرَجَات.
3 -
تَصْحِيحُ مَواضعِ تَرْتيب التَّراجم والإشارةِ في الهامِش إلى وُجُوبِ نقلها إلى مَواضِعها تقدِيمًا وتأخِيرًا على تَرْتيبِ الحُروف ألفبائيًّا.
(1)
الزركلي: الأعلام 5: 40.
4 -
كَثرةُ مَواضع البيَاض والفَراغَاتِ الَّتي أَبْقاها المُؤلِّفُ لتَعْمِيرها فيما بعد باسْتِكمالِ بَيَاناتِ أو إدْرَاجٍ رِوَاياتٍ أو إثْباتِ تَواريخ الوَفاةِ أو إدْخَال بعض الأَحْداث، أوَ اسْتِكمال من غَفلَ عنه من أسْماءَ الأعْلَام عندما يتحصَّلُ ما يستَوفي النَّقْصَ، ولم يتهيأَ ذلك. وكَثِيرة، أغْلَبُها في الجُزءِ الثَّامن وتَصِلُ إلى ثَلاثِ صفحاتِ مُتَتاليةٍ أحْيانًا في التَّرْجَمَة الوَاحِدةِ، ولذا حَرِصْتُ على الإشارَةِ إلى مَوَاضعَ هذه التَّوقُّفاتِ في مَوْضِعِها من الكتاب.
5 -
تَكْرارُ بَعْض التَّراجمِ بذَات النَّصّ سهوًا، مثالُه تَرْجَمَةُ أبي عَبْد اللّه بن جِبَاءَة المَعَرِّيّ في الجزءَ العاشِر (الكُنَى).
6 -
عَدَمُ ترقِيم الأجزاءَ كما هي العادَةُ في المُؤلَّفاتِ الَّتي تَتَعدَّدُ فيها الأجْزَاءُ، وعَدمُ تَضْمينها حرْدَ مَتنٍ يتَضَمَّنُ تاريخَ الفَرَاغ من نَسخِها.
7 -
وآخرُ الأدِلَّةِ على أنَّها إبْرَازةٌ ثانية في حُكْمِ المُسَوَّدَةِ، إدْرَاجَهُ لبَعْضِ الأخبارِ أو الحكاياتِ في تَراجِم لا تتصلُ بها، وتَنبُّه المُؤلِّفِ للخَطَأ بعد كِتَابتها، فأشارَ إلى وقُوعَ السهوِ، ولو كانت مُبيَضَتَهُ الأخيرة لألْحقَها في مَواضِعِها الصَّحِيْحَة، مِثَالُه ما وقع في الجزءَ السَّابع في ترجَمتي: خَالِد بن يَزِيْد القَسْريّ، وترجمَةِ خسرُو فيرُوز المَلِكِ العَزِيز.
التَّعْرِيفُ بالنُّسَخ المَخْطُوطَة:
بعدَ طُوِلِ النَّظَرِ والتَّقْلِيْبِ في فَهارس المَخْطُوطاتِ بَحْثًا عن نُسَخِ الكتاب وأُصُولِه، ومُحاولة رَصْدِها، خَاضَةً مَخْطُوطاتِ كُتُبِ التَّراجم الَّتي جاءَتْ غُفْلًا من العُنْوانِ واسْمِ المُؤلِف، فقد أدَّانا البَحْثُ إلى أنَّ المُتَبقِّي من نُسَخه يَنْحَصرُ فيما يلي:
أولًا: نُسْخَة مُكَوَّنة من عَشرةِ مُجَلَّدات مُوزَّعة على ثلاث مَكْتبات تُرْكيَّة في إسْتانبُول.
ثَانيًا: نُسَخ من أجْزَاء مُتَفرّقَة.
ثالثًا: نُسَخ فُهْرِسَتْ خَطأً ونُسِبَتْ إلى الكتابِ، وليْسَت منه.
مَجْمُوعة تُرْكيا
تَتَألَّفُ هذه المَجْمُوعَة من عَشرةِ أجْزَاء تُمَثِّلُ كامِلَ ما وَصَلنا من أجْزَاءِ الكتاب، مُفَرَّقَة على ثلاثِ مَكْتباتٍ تُرْكيَّة؛ مَكْتَبَة السُّلَيمانيَّة، مَكْتَبَة ملَّة، مَكْتَبَة طُوبْقَابي سَرَايّ، وبيانُها كما يلي:
الجزءِ الأوَّل: مَخْطُوطَة آيا صُوفيا، مَكْتَبَة السُّلَيمانيَّة برَقَم 3036، وتَقَع في 260 ورَقةٍ، مَسْطرتها 17 سَطْرًا، كما بَقِيَّة أجْزَاء هذه المجمُوعَة، كُتِبَ على غِلافِها:"كتابُ تاريْخ حَلَب لابن العَدِيْم"، وأسْفَلُه سَنَدُ ابن السَّابق الحَمَويّ في رِوَايةِ الكِتابِ، وقد تَقدَّم إيرادُ نَصِّه، وعلى يَسَار العُنْوانِ قيد تَملُّك:"الحَمْدُ للّه، وبه أكْتَفِي من عَوادِي الدَّهْر، في نَوْبَة أقَلّ عَبِيْد اللّه تعالَى وأفْقَرِهم وأحْقَرهم مُحمَّد بن أحْمد بن إينال العَلَائيّ الحَنَفيّ. عامَلَهُ رَبُّهُ بخَفِيّ لُطْفِه الجِليّ والخَفِيّ".
|
وأسْفَلهُ قيد تَمَلُّك ابن السَّابق الحَمَويّ: "نَوْبَةُ فَقِير عَفْو اللّه تعالَى مُحمَّد بن مُحمَّد بن مُحمَّد بن السَّابق الحَنَفِيّ عَفا اللّهُ عَنْهم أجْمَعِين، بالقَاهِرة المحرُوسَة، [في يَوْم الأرْبِعاء تاسِع عَشر رَبيعِ الآخر] في سَنَة ستّ وخَمْسين وثَمانمائة، أحْسَنَ اللّهُ عاقِبَتها في خَيْر، آمين".
|
وفي وَسطِ الصَّفْحَةِ خَتْم وَقْف السُّلْطانِ محمُود الأوَّل ابن مُصْطَفى الثَّاني (ت 1168 هـ)، فيه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: الآية 43] وفي أسْفَل الخَتْم طُغْراء الوَقْف.
|
وأسْفَلُه تَقييد وَقْف الجُزْء: "قد وَقَفَ هذه النُّسْخَة الجلَيْلَة سُلْطانُنا الأعْظَم، والخاقَان المُعَظَّم، مَالِكُ البَرَّين والبَحْرَينِ، خَادِمُ الحَرَمَين الشَّرِيفَيْن، السُّلْطانُ ابن السُّلْطان، السُّلْطان الغازِي مَحمُود خَان، وقْفًا صَحِيْحًا شَرْعيًّا لمَن طَالَعَ وتَبَصَّرَ واعْتَبَرَ وتَذَكَّرَ، أجْزَلَ اللّهُ ثَوابَهُ وأوْفَر، حرَّرَهُ الفَقيرُ أحْمَد شَيْخ زَادَه، المُفَتِّش بأوْقَاف الحَرمَيْن الشَّريفين، غفرَ لهما".
وأسْفَله خَتْمٌ آخر قُطْرُ دَائرتِه صغيرٌ لَم أتَبَيَّنْ منه سِوَى اسْمِ: "أحْمَد".
|
وفي ناحِيَةِ اليَمين، أسْفَلَ الغلَافِ:"الحَمْدُ للّه على نِعَمه، أنْهاهُ مُطَالعةً ونَسْخًا داعِيًا لمَالِكه بطُول البَقاء، ودَوَام الارْتقاء مُحمَّد المدعو عُمَر بن مُحمَّد بن فَهْد الهَاشِميّ المَكِّيِّ سنة 869 هـ "
|
وقد تَفَكَّكَتْ نُسْخَةُ هذا الجُزءَ لسُوءَ التَّسْفِير، وأُعِيْدَ جَمْعُها على وَجْهٍ خَاطِئ، تَدَاخلَتْ فيه كَرَّاسَاتُ الكتابِ وأوْرَاقُه، وكان السَّبِيْلُ إلى إعادَةِ تَرْكِيبِ النُّسْخَة على الوَجْهِ الصَّحِيح بمُسَاعَدَةِ وَسِيلَتين:
الأُولَى: تقييد القِراءة والسَّمَاع الَّذي كَتَبَهُ المُؤلِّفُ في آخرِ كُلِّ كَرَّاسَةٍ من كَرَّاساتِ الجُزءِ مُؤرَّخًا - في الغالِبِ باليَوم والشَّهْر والسَّنَة - لقِراءة وسَماع وَلَدَيهِ مُحمَّد وعَبْد الرَّحمن، مُنْفَرديْن أو مُجْتَمعَيْن، ومعهما في بَعْض الأجْزاءَ ابنُ أُخْتهما مُحمَّد، وسَماع بَدْر الدِّين عَبْد الوَاحِد (ولعلَّه من أَحْفادِه) أيضًا على المُؤلِّف، وأوَّلُ تاريخٍ لسَماعَ ولديه كان في الأوَّلِ من ذي الحِجَّة 655 هـ، ويَسْبقه ثلاثُ قِرَاءاتٍ لَمْ يُعيِّنْ تاريخُها، وآخِرُها في الرَّابِع من مُحَرَّم 656 هـ، أي أَنَّهما قرآه عليه في مُدَّةِ شهرٍ ونصف تقريبًا، أمَّا قِرَاءةُ بَدْرِ الدِّين عَبْد الوَاحِد، ومعه أحْيانًا مُحمَّد بن خَالِد (؟) فكانت في شَعْبان 657 هـ.
والوَسِيلةُ الثَّانية: كانتْ بمُتابَعَة إحَالاتِ المُؤلِّفِ الكَثِيرة، الّتي أحَالَ فيها على كَلامٍ مُتَقدِّمٍ أو مُتأخِّرٍ ضِمنَ هذا الجُزء، وأكَّدَتْ هذه الطَّرِيقَةُ سَلامةَ إعادَةِ التَّرْتيب بناءً على تَقْييدَاتِ السَّمَاع
(1)
، فبحَسَب التَّرْتِيب الجَدِيد يُشيرُ المُؤلِّفُ [وَرَقَة 134 ب] إلى نَقْلِه عن المُهَلَّبِيّ صَاحِب كتاب المَسَالك والمَمالك، ويُحِيلُ عليه بالقَوْل:"فذَكَرَ حَلَبَ بما قَدَّمنا ذِكْرَهُ في صَدْر كتابنا هذا .. "، والإحَالةُ هُنا على صَفْحةٍ حَسَبَ التَّرْتِيب الجَدِيد، وكان تَرْقيمُها القَدِيم في صَفْحَة. وأيضا إحَالتُهُ في أولِ باب ذِكْر الفُرات على صَدْر الكتاب، قال:"وقد ذَكَرْنا فيما أوْرَدْناه في صَدْرِ كتابنا هذا عن كَعْب الأحْبَار قال: إنَّ اللّه تعالَى بارَكَ في الشَّام من الفُرَات إلى العَرِيش". وجاءَ حَدِيثُ كَعْبٍ في أوَّلِ الكتاب [وَرَقَة 10 ب].
(1)
شذَّت حالة واحدة من إحالاته عن هذه القاعدة، إذ أحال في صفحة 20 ب على كلام متقدم له يتعلق بمَدِينَة خربة في طرف جَبَل الأحص يُقالُ لها سورية، وهذا الكلام يأتي فيما بعد عند كلامه على جَبَل الأحص [صفحة 172 ب] إِلَّا أن يكون قد ذكر ذلك أيضًا في أول الكتاب ضمن الفصول المدخلية التي ضاعت بعض أوراقها، ثمّ أعاد ذكره ثانية عند كلامه على جَبَل الأحصّ.
ووُجِدَتْ في هذا الجُزءِ صَفْحَة مُنْفَردة، وَرَدتْ في غير مَوْضعِها [5 أ - 5 ب]، وهي تَحْتَوي على نَصٍّ مُنْقَطعٍ عمَّا قَبْله، فأعَدْناها إلى ما نَعْتَقدُ أنَّهُ ألْيَقُ بها [بعد الوَرَقَة 126 ب]، اسْتِنادًا إلى إفادَةِ المُؤلِّفِ فيها من أنَّه عَدَّدَ أسْمَاءَ ما يتَّصلُ بحَلَبَ من مُدنٍ وحُصُون، يَقُولُ في آخِر هذه الوَرَقَةِ:
"فهذه المُدنُ والثُّغُورُ الّتي أوْردنا ذِكْرَها في هذا الفَصْل شَرْطُ كتابِنا هذا، وقد بيَّنَا أنَّها من أعْمَالِ حَلَب، وإنْ وقعَ الاخْتلافُ في بَعْضِها، فلا بُدَّ من ذِكْرِها في هذا الكتاب، وذِكْر ما وَرَد فيها، وذِكْرَ مَنْ دَخَلَها أو اجْتَازَ بها، أو كانَ من أهْلِها إنْ شَاءَ اللّهُ تعالَى".
فَمَدْلُولُ عِبارَتِه أنَّهُ اسْتَوفَى الكَلامَ على المُدن الّتي تندَرجُ ضِمْنَ أَعْمَالِ حَلَب، وتَتَبَّعَها وتَنَاوَلَ الحُصُون الثَّغْريَّةِ في هذا الفَصْلِ الَّذي خاتِمتُه هذه العِبَارة.
وقد أفْسَدَتِ الرُّطُوبَةُ - بَعْضَ مَواجع من هذا الجُزء، ونالَتْ من القِسْم الأخِير الَّذي يَتَناوَلُ ذِكْرَ القَبائِلِ بحَلَب، ورُبَّما كانَ ذلك من أثرَ ماءٍ، ففَشَى حِبْرهُ، وطَبعَ صَفْحِي الوَرقَة بَعْضها ببعضٍ، فتَدَاخَلَتْ سُطُورُها وحُروفُها، وأصْبَحَ تفكِيكُها وقِرَاءتُها - بمَعُونة المَصادر - مُهَمّةً صَعْبَةً عَسِرَة لا تَسْتَبِين إلَّا بجُهْد. ولهذا فقد أوْليَنا القِسْمَ الأخير منه عنَايَةً خاصَّة، وأشْبَعْنا - قَدْرَ الطَّاقَةِ - مُلَاحَقةَ نُصُوصِه على كُتُبِ الأَنْسَابِ وغَيْرها ممَّا يتَّصِل بغَرِضِ هذا الباب، وهو الفَصْلُ الَّذي أقامَهُ ابنُ العَدِيْم على كتابِ "دِيْوان العَرَب وجوْهَرة الأدَب وإيْضَاح النَّسَب"، للنَّسَّابَةِ الأَسَدِيّ، وتقدَّمَ الكَلامُ على أنَّهُ من أجْزَاءَ الكتابِ المُهِمَّة، لقِيْمةِ المَعْلُوماتِ الَّتي تَضَمَّنها عن التَّرْكِيْبَةِ القَبَلِيَّة في هذه البُقْعَةِ الواسِعَة من أقاليم بلادِ الشَّام.
الجُزء الثاني: مَخْطُوطَة أحْمَد الثَّالث، مَكْتبَة طُوبْقَابي سَراي برقَم 2925/ 1. وتَقَع في 242 وَرَقَةٍ، كُتِبَ على غِلَافِها: "من تَاريخ حَلَب"، وعلى الغِلَاف قَيْد
تَمَلُّك مُحمَّد بن أحْمد بن إينال العَلَائيّ الحَنَفِيّ بنصّه المُتَقدّم على الجُزء الأوَّل، وفي أَسْفلِه قيِد مُطالَعةِ ابن فَهْد بالنَّصِّ المُتَقَدِم أيضًا، ثُمّ قيْدي مُطالعهَ، تَبَيَّنتُ منهما:
"الحَمْدُ للّه، طَالعَهُ مُحمَّد بن عُمر بن المِصِّيْصيّ الحَلَبيِّ [000] القاهِرَة، كانَ اللّهُ له، سَنَة 878 هـ".
"الحَمْدُ للّه، طَالعتُه على طَبَقَاتِ النُّحَاة واللُّغوِّيين، مُسْتَخيرًا من حَدَائقَه الأنيقَة، [000] من عبَارتهِ [000]، دَاعِيًا لمَالِكِه، [000] كَتَبَهُ عَبْد الرَّحمن بن أبي بَكْر السُّيوطِيّ [000] بمَكَّةَ شَرَّفَها اللّه تَعَالَى".
وعلى الوَرَقَةِ الثانيةِ خَتْم وَقْف السُّلْطان مَحْمُود الأوَّل.
وهذا الجُزء يشتملُ على تَرَاجِم: أحْمَد بن جَعْفَر بن مُحمَّد بن المُنَادِي حتَّى تَرْجَمَة أحْمد بن عَبْد الوَارِث بن خَلِيْفَة القَلْعِيّ.
ووَقعَ خَطأٌ في ترتِيب بَعْض صَفَحات الكتاب، وشَملَ الأوْرَاقَ من 70 أ حتَّى 75 ب، فالصَّفْحَةُ 70 أتَتّمَّتُها في الصَّفْحَةِ 72 ب، والصَّفْحَةُ 71 أ تَتمَّتُها في الصَّفْحَة 75 ب
…
إلخ. كما وقعَ تَقديمٌ لجُزءٍ من أجْزاءٍ هذا المُجَلَّد، وجُلِّد في غير مَوْضِعه، وهو القِسْمُ الَّذي يشغَلُ الصَّفحات 130 أ - 160 ب، ومَوْضِعُهُ الصَّحِيحُ بعدَ الوَرقة 180 ب.
الجُزء الثَّالث: مَخْطُوطَة أحْمد الثَّالث، مَكْتَبَة طُوبْقَابي سراىِ، برقَم 2925/ 2. وتقع النُّسْخَة في 391 ورقة، وعليها قيد تَمَلُّك ابن إيْنَال العَلَائيّ كالَّذي قَبْله، وقَيْد تَملُّك ابن السَّابِق الحَمَويِّ بنَفْس النَّصّ الَّذي قيَّدَهُ على الجُزء الأوَّل، وأسْفَله مُطَالَعَة ابن فَهْد بنَصِّها المُتَقدِّم.
وكُتِبَ في أعْلَى الصَّفْحَةِ التَّاليَة للغِلَاف: "كتابٌ من تاريخ حَلَب لابن جَرادَة"، وخَتْم وَقْف السُّلْطان مَحمُود الأوَّل.
ويَشتملُ هذا الجُزء على تَرَاجِم: أحْمَد بن مُحمَّد بن متُّويه المَرْورُوذيّ، ويَنْتَهي في أثناء ترجَمَةِ إسْحاق بن مَنْصُور الكَوْسَج.
الجُزء الرَّابع: مَخْطُوطَة أحْمَد الثَّالث، مَكْتَبَة طُوبْقَابي سَراي، برَقَم 2925/ 3. وتَقَعُ نُسْخَتُه في 304 وَرَقاتٍ، وأصابَتِ الرُّطُوبَةُ صَفْحةَ الغِلَافِ، وكُتِبَ في أعْلَاها بخَطٍّ حَدِيثٍ: "من تاريخ الصَّاحِب"، وعليها الكَثِيرُ من التَّملُّكات، نتَبيَّنُ منها: تَملُّك ابن إيْنَال العَلَائيّ بِنَصِّهِ المُتقدِّم، وتَملُّك ابن السَّابق الحَمَويّ، بنَصِّه أيضًا، ومُطالَعة ابن فَهْد المَكِّيِّ بنَا.
وكُتِبَ على الصَّفْحَة الثَّانية: "كتابٌ من تَاريخ حلب"، وخَتْم وَقْف السُّلْطان محمُود الأوَّل.
ويَبْتَدئ هذا الجُزءُ باسْتِكمالِ ترجَمَة إسْحاق بن مَنْصُور بن بَهْرَام الكَوْسَج، الَّتي وَقَفَ في الجُزء قبله في أثنائها، وقد ألْحَقَنا تتمَّةَ التَّرجَمَةِ بالجُزء الثَّالث الَّذي قبله، وأَلْحَقنا معه بَقِيَّة تَرَاجِم الإسْحاقِيِّين لغايَةٍ فَنيَّةٍ لا أكْثَر، وينتَهِي الجُزءُ في أثناء ترجَمَةِ أُمَيَّةَ بن عَبْد اللّه بن عمرو الأَمَويّ.
ووَقع في هذا الجُزْء خَطأٌ في ترتيبِ صفحتين من صَفحاتِه، فتَتَمَّةُ الصَّفْحَةِ 277 ب هو 278 أ، وتتمةُ الصَّفْحَةِ 378 ب هو في صَفحة 277 أ.
الجُزء الخَامِس: مَخْطُوطَة مَكْتَبَة ملَّة، مَجْمُوعَة فَيْض اللَّه، برَقَم 1404. وتَقَعُ في 297 وَرَقَة، كُتِبَ على غِلَافِها: "كتابٌ من تاريخ حَلَب لابن أبي جَرادَة، وهو الأُسْتَاذُ البَليغ النَّاظِمُ النَّاثرُ الوَزِير الصَّاحِبُ كمال الدِّين بن العَدِيْم، كاتِم السِّر، رَحِمهُ اللّهُ تعالَى وشَكَرَ صَنِيْعَهُ، وهو بخَطِّه الصَّحِيح المَلِيْح".
وعليه قيد تمَلُّك ابن إيْنال العَلَائيّ، ثمّ تمَلُّك ابن السَّابق الحَمَويّ، وختم وَقْف مَدْرسة فَيْض اللّه:"وَقْفُ شيخ الإسلام فيض اللّه أفندِي غفر اللّهُ له ولوالديه أنْ لا يَخْرُج من المَدْرَسَةِ الَّتي أنْشَأها بقُسْطَنْطِينيَّة سَنَة 1112 هـ".
|
وأسْفَلُهُ قيدُ مُطَالعَة ابن فَهْد المَكِّيّ، وفي أعْلَى الصَّفْح الأيْسَرِ من الوَرَقَةِ الثَّانية كلمَةُ:"وَقْف" مُعْتَرضة بطُول السَّطْر، تتكرَّرُ أيضًا في أعْلَى الصَّفْحَات: 78 أ، 200 أ، 298 ب.
ويَبْتَدئ هذا الجزءُ من ترجمةِ الحَجَّاج بن هشام، ويَنْتَهِي بترجمةِ الحسن بن عليّ بن الحَسَن بن عليّ بن عُمر بن عليّ بن الحَسَن البَطَلْيَوْسيِّ الأندَلُسِيّ، وكُتِبَ في آخِر الجُزءِ:"آخِرُ الجُزءَ الخمسِين والمائة من تاريْخ حَلَب، ويَتلُوه في الحَادِي والخمسِين: أخْبَرَنا أبو هَاشِم عَبْدُ المُطَّلب بن الفَضْل الهَاشمِيّ، الحمدُ للّهِ رَبِّ العالَميِن، وصلَّى اللّه على سَيِّدنا مُحمَّد النَّبِيِّ وعلى آله الطَّاهِرين وصحبه الأكْرَمين وسلَّم تَسْليمًا كَثيرًا، وهو حَسْبي".
الجزء السَّادِس: مَخْطُوطَة أحْمَد الثَّالث، مَكْتَبَة طُوبْقَابي سرايّ، برقَم 2925/ 4. وتَقعُ نُسْخَتُه في 330 وَرَقَة، كُتِبَ على غِلَافها: "من تاريخ حَلَب لابن أبي جَرادَة"، وأسْفَلُهُ خَتْم وَقْف السُّلْطان مَحمُود الأوَّل، وقيد تمَلُّك ابن السَّابق الحَمَويّ، ومُطَالَعَة ابن فَهْد المَكِّيّ.
ويَبْتَدئ الجزءُ بترجمةِ الحسين بن عبد اللّه الخادِم، وآخِره ويَنْتَهِي بتَرجَمَتِين من حَرْفِ الخاء: تَرْجَمَة خَاقَان المُفلحِيّ، وتَرْجَمَة خَالِد بن بَرْمَك. وقد ارْتأينا أنْ نلحِقَهُما بالجُزءَ السَّابِع بَعْدَهُ مع بَقِيَّة ترَاجِم حَرْف الخاء.
الجُزء السَّابِع: مَخْطُوطَة أحْمَد الثَّالث، مَكْتَبَة طُوبْقَابي سَرَايّ، برقَم 2925/ 5. وتقَعُ في 334 وَرَقَةٍ، وجاءَتْ طُرَّته غُفْلًا من أي عُنْوان، وفيها خَمْسُ مَقْطُوعاتٍ شِعْريَّة
(1)
، وعلى يَسَارِها قيد تَملُّك ابن السَّابق الحَمَويّ، وأسْفَله تَملُّك ابن إيْنَال العَلَائيّ، وفي أسْفَله: مُطَالَعة ابن فَهْد المَكِّيّ الهَاشِميّ. وفي أعْلَى الصَّفْحَةِ الَّتي تَليها خَتْم وَقْف السُّلْطان مَحْمُود الأوَّل.
ويبتَدئُ الجُزءُ بترجَمَةِ خَالِد بن الحَارِث بن أبي خالد قَيْس الأنْصَارِيّ، ويَنْتَهِي في أثناءَ ترجَمَةِ دَعْلَج بن أحْمَد السِّجسْتانِيّ.
الجزء الثَّامن: مَخْطُوطَة أحْمَد الثَّالث، مَكْتَبَة طُوبْقَابي سَرايّ، برقَم 2925/ 6. وتقعُ النُّسْخَةُ في 213 وَرَقَةٍ، كُتِبَ على غلَافِها: "من تاريخ حَلَب لابن أبي
(1)
نصه ما يلي: وقال بعضُ الشُّعراء:
ما لك من مَالك إلَّا الَّذي
…
قَدَّمت فابْذِل طَائِعًا مَالكًا
تقُول أعمال ولو فتَّشُوا
…
رَأيت أعْمَالك أعْمَى لَكَا
وقال بعض الشُّعراء:
إذا كُنْتَ جمَّاعًا لمالكِ مُمسِكًا
…
فأنْتَ عليه خَازنٌ وأمين
تُؤدِّيه مَذْمُومًا إلى غير حَامِد
…
فيأكُله عَفوًا وأنت دفِين
قال بعضُ الشُّعراء:
أراكَ تُؤمل حُسْنَ الثَّنَاء
…
ولم يرزق الله البخيلا
وكيفَ يسَود أخُو بطنةٍ
…
يمنّ كثيرًا ويعطي قليلًا
وقال بعض الشُّعراء:
إنَّ العُيونَ رَمَتْك مُذْ فاجَأتها
…
وعليك من شَهْرِ اللّباس لِبَاسُ
أمَّا الطَّعَامُ فكُل لنَفْسك ما تَشا
…
واجعل لباسك ما اشْتهاه النَّاس
قال بعض الشُّعراء:
لو أنَّ ما أنْتُم فيه يَدُوم لَكُمْ
…
ظننت ما أنا فيه دائمًا
لكنَّني عَالِم أنِّي وأنَّكُمُ
…
سنستجد خِلَاف الحالَتَين غَدَا
جَرادَة"، وعليه قَيْد تَملُّك ابن إيْنال العَلَائيّ، وابن السَّابق الحَمَوِيّ، ومُطالَعة ابن فَهْد المَكِّيِّ، وفيها وَسط الغِلَافِ خَتْم وَقْف السُّلْطان مَحْمُود الأوّل.
ويبتَدئُ هذا الجُزءُ من مُنْتَصَفِ تَرْجَمةِ رَاجِح بن إسْماعِيْل، شرَف الدِّين الحِلِّيّ، الَّتي تَظْهرُ فيها آثارُ الرُّطُوبَةِ الشَّديدةِ، فأذْهَبَتْ كَثِيرًا من كلماتِ ترجَمته. ويتَكَرَّرُ أثرُ الرُّطُوبَةِ وإفسادها لبعضِ الكَلِمات في ثَنايا الجُزءِ، وتَبْرزُ في آخر الجُزء أيضًا، ويَظْهرُ أنَّه نُزعَتْ من أوَّلِ هذا الجُزء أوْرَاق كَثيرة ممَّا أفْسَدته الرُّطُوبَة، وتتضمَّن بَقِيَّة تَرْجَمَة دَعْلَج الَّتي وَقَف في مُنْتَصَفها في الجُزء قَبْله، وتَرَاجِم حَرْف الذَّال ثُمَّ التَّراجم الأُوّلَى من حَرْف الرَّاء حتَّى مُنْتَصَف ترجَمته رَاجِح بن إسْمَاعِيْل الحِلّيّ، وينتهى الجُزءُ بترجَمةِ عمِاد الدِّين زَنْكِيّ بن مَوْدُود بن زنْكِيّ بن آقْ سُنْقُر.
الجزء التَّاسِع: مَخْطُوطَة أحْمَد الثَّالث، مَكْتَبَة طُوبْقَابي سَرَايّ، برَقَم 2925/ 7. وتَقَعُ نُسْخَتُه في 285 وَرقَة، وغِلافُها يحلو من العُنوانِ، وعليه العَديدُ من التَّملُّكات وقُيود الوَقْفِ والمُطَالَعة:
1 -
"طَالَعَهُ وجميع التَّاريخ [000] ابن المُهَنْدس الحَنَفِيّ، وكَتَب [000] ".
2 -
"ملك الفَقِير إلى رَحْمَة رَبِّه الغَفُور مُحمَّد بن أحْمَد بن مُحمَّد بن عُمَر بن أبي جَرادَة عَفا اللّه عَنْهُم".
3 -
"طالَع هذا الكتاب المُبَارك مُحمَّد بن [000] عليّ الكَفتيّ غَفَر اللّهُ له".
4 -
"نَظَرَ في هذا الكتاب مُحمَّد بن عَبْد الرَّحيم بن التَّارزيّ سَنَة ثَمان [000] ".
5 -
تَملُّك ابن السَّابق الحَمَويّ، ونَصُّه كالمُتَقدِّم.
6 -
تَملُّك ابن إيْنَال العَلَائيّ، ونَصُّه كالمُتَقدِّم.
7 -
"الحَمْدُ للّه، طَالعتُه على طَبَقات النُّحَاة بَمَكَّة المُكَرَّمة سَنَة 869 هـ، كَتَبَهُ عَبْد الرَّحمن بن أبي بَكْر السُّيوطِيّ دَاعِيًا لمُعِيْره".
8 -
خَتْم وَقْف السُّلْطان مَحْمُود الأوَّل.
9 -
قَيْد مُطالَعة ابن فَهْد المَكّيّ، ونَصُّه كالمُتَقدِّم.
ويَبْتَدئ هذا الجزءُ بتَرْجَمَةِ زَهْدَم بن الحارث، ويَنْتَهِي بتَرْجَمَةِ سعِيد بن سَلَّام المَغْربيِّ الصُّوفيّ.
الجُزء العاشِر: مَخْطُوطَة أحْمَد الثَّالث، مَكْتَبَة طُوبْقَال سَرَايّ، برقَم 2925/ 8. وتقَعُ النُّسْخَةُ في 353 وَرَقَةٍ، كُتِبَ على غِلَافِها: "من تاريخ الحلَب [كذا] لابن أبي جَرادَة"، وعليه تَملُّك ابن إيْنَال العَلَائيّ، وتمَلُّك ابن السَّابق الحَمَويّ، وقَيْد مُطالَعة ابن فَهْد المَكّيّ، وجَمِيعُ هذه القُيود بنَا الَّذي تَقَدَّمَ في بقيَّة الأجْزاء. وعلى الغِلَاف أيضًا ختْم وَقْف السُّلْطان مَحْمُود الأوَّل.
ويَشْتَمِلُ هذا الجُزءُ على تَرَاجِم المَعْرُوفينَ بالكُنَى والألْقَاب، وذِكْر المَعْرُوفين بالنِّسْبةِ إلى آبائهم ممَّن لَم يُعْرفْ له اسْمٌ ولا كُنْيَة، وتَرَاجِم جَماعة عُرفُوا بغَير آبائهم، وتَرَاجِم المَعْرُوفين بالألْقاب، وأخِيْرًا ذِكْر من عُرِفَ بالنِّسْبَةِ إلى القَبائِل أو البِلَاد أو الآباء أو إلى الصَّنائع.
* * *
وهذه الأجْزَاءُ العَشرةُ الَّتي وَرَدَ أَنَّها بخَطِّ ابن العَدِيْم، وعليها زِياداتهُ وإلْحَاقاته بخَطِّهِ أيضًا، وجَمِيعُها تَخْلُو من الرَّقَّاص، أو التَّعْقِيْبة الَّتي لو وُجِدَتْ لأعانَتْ على تَرْتيب الكتاب خاصّةً في الأجْزاء الَّتي وقع فيها خَطأٌ في تَرْتِيبِ أوْراقها، وقد أشَرتُ إلى كُلّ منها بـ: الأَصْل.
وتُوجدُ ثَمانية مُجلَّداتٍ من هذه النُّسْخَة مصوّرةً في مَعْهَدِ المَخْطُوطاتِ العَربيَّة برقَم ف 643 - ف 645
(1)
.
ثانيًا: أجْزاءٌ أُخْرَى مُتَفرِّقَة
وتَوَفَّرَتْ لدينا نُسَخٌ أُخرَى من بَعْضِ الأجْزاءِ، وقد يُظنُّ أنها قليلةُ الفَائِدة بوجُودِ أصْل المُؤلِّفِ الَّذي قَيَّده بخَطِّهِ، غير أنَّها ساهَمَتْ بشَكْل كَبير في تَعْويضِ النَّقْصِ الحاصِل فِي بعْض النُّصُوص الَّتي طالَتْها الرُّطُوبَةُ أو الطَّمْسَ، خاصَّةً ما وقع الجُزءِ الرَّابع من الكتاب، وعَوَّضَتهُ نُسْخةُ المكْتَبةِ الوَطنيَّة بباربس، وهذه النُّسَخُ هي:
- نُسْخَةٌ من الجُزءِ الأوَّل من الكتاب، مَحْفُوظةٌ في دَار الكُتُبِ المِصْريَّة برقَم 5423 تاريْخ، تَرْقِيْمها مُتَسَلْسِلٌ لكُلِّ صَفْحةٍ، وتَقَعُ في 582 صَفْحة، واسْمُ ناسِخها: محمُود بن عَبْد اللَّطِيف فخر الدِّين، النَّسَّاخُ بدَار الكُتُب المِصْريَّة، ووقعَ الفَراغُ من نَسْخِها في 2 شَعْبان 1353 هـ / 1934 م، وفي حَرْدِ مَتْنها آخر النُّسْخَة أنَّها منْسُوخةٌ عن صُورةٍ فُوتُغْرافيَّة مَحْفُوظةٍ في دار الكُتُبِ المِصْريَّةِ برقَم 1566 تاريخ، وهي صُورةٌ - على وَجْه التأكِيْد - لنُسْخَةِ آيا صُوفيا مَكْتَبَة السُّلَيمانيَّة بإسْتانبُول، وللأَسَفِ فهي نُسْخَةٌ سَقِيْمةٌ مَلِيْئةٌ بالتَّحْريفِ والنَّقصِ وسُوء القِرَاءة، ونَاسِخُها المَذْكُوِرُ يَفْتَقِدُ إلى أدْنَى المَعارِفِ في التَّعامِلِ مع المَخْطُوطاتِ ونَسْخها، فنَقَلَ كُلَّ ما وجَدهُ في النُّسْخَةِ أمَامَهُ، ونَسَخَ إلْحاقاتِ المُؤلِّف وزِيادَاتِه المَكْتُوبةِ في الهَامِش وأثبتها في غير مَواضِعها بالرَّغْمِ من وجُودٍ علَامَةِ المُخْرَج، وأدْخَلَ في مَتْنِها الفَوائدَ الَّتي كَتَبَها ابنُ السَّابق الحَمَويّ بخَطِّهِ ممَّا لا يَتَّصِلُ بالكِتاب، بل وأَدْخِلَ في مَتْنها سَمَاعاتِ المُؤلِّف على وَلدَيه مُحمَّد وعَبْد الرَّحمن، وتَرَكَ الكَثِيرَ من مَواضِع
(1)
انظر الوصف التفصيلي لكل جزء منها في فهرس المخطوطات المصورة بمعهد المخطوطات العربية 2: 47 - 49.
البَياضِ في المَواضِع الَّتي اسْتَعْصَتْ عليه القِرَاءة، وحَقُّ هذه النُّسْخَةِ أنْ تُطْرَحَ جُمْلَةً ولا تُذْكَرَ في المُقابَلَةِ لولا ما ذَكَرناهُ آنفًا عن نُسْخَةِ الأصْل الَّتي وقَعَ فيها الإفْسَادُ وطالَتها الرُّطُوبَةُ، ولهذا فقد تَابَعْتُ هذه النُّسْخَةَ الحَدِيْثة وقَابلتُها على الأصْل، زِيادةً في الاسْتِئناسِ، وأثْبَتُ في الهَامِش ما وَجَدتُه يُمْكن أنْ يَكُونَ وَجْهًا للقِرَاءةِ، وتَجاوَزْتُ عن إثْبَاتِ السَّقيم من الفُرُوق، وأشَرْتُ لها بالرَّمْز "ك".
- نُسْخَةٌ من الجُزء الرَّابع، تَقَعُ في 207 وَرَقاتٍ، كُتِبَتْ سَنَة 814 هـ بالقَاهِرة، ومَحْفُوظةٌ بالمَكْتَبَةِ الوَطَنيَّة بباريس (مَجْمُوعَة ديسْلَان) برقَم 2138، مسْطَرتُها 25 سَطْرًا، كُتِبَت بخَطٍّ نَسْخِيّ وَاضِح، وجاءَ في آخرِها حَرْدُ مَتْنٍ، نَصُّه:"تَمَّ الجُزء المُبَارك من نُسْخَة المُصَنِّف المُكْتَتَبَةِ بخَطِّهِ رحمه الله في رَاِبع عَشرَ رَمَضان المُعَظَّمِ قَدْره وشَأنُه عام أرْبَع عَشرةَ وثَمانمائة بالقَاهِرةِ المَحْرُوسَةِ، حَرسَها اللّهُ وحَماها، والحَمْدُ للّه وَحْدَهُ، وصَلَّى اللّه على سَيِّدنا مُحمَّد وآله وصحبه وسلّم، وحَسْبُنا اللّهُ ونِعْم الوَكِيْل".
وهذا الجُزءُ مُوافِقٌ لابْتِداءَ الجُزءِ الرَّابع من مَخْطُوطَةِ أحْمَد الثَّالث (مَكْتَبَة طُوبْقَابي سراي برقَم 2925/ 3) فهو يَبْتَدئ باسْتِكمالِ تَرْجَمةِ إِسْحاق بن مَنْصُور بن بَهْرَام الكَوْسَج، ويَنْتَهِي في أثْناءَ تَرْجَمَة أُمَيَّة بن عَبْد اللّه بن عَمْرو الأَمَويّ. وقد رَمزنا لهذه النُّسْخَة بالرَّمْز "ب".
ووَرَدَ على غِلَافِ هذه النُّسْخَة: "من تاريخ حَلَب"، وبخَطٍّ آخر أسْفَله:"بُغْيَة الطَّلَب في تاريخ حَلَب للشَّيْخِ القَويْم كَمال الدِّين بن العَدِيْم، عليه مَغْفِرةُ الغَفُورِ الرَّحِيم". وعليه تَملُّكان:
1 -
"مَلكَهُ أضْعَفُ العبادِ، رَاجِي عَفْو رَبِّه المُنْجِيّ، الحاجّ شَمْس الدِّين ابن الحاجّ أحْمد بن حَجِّي الحَلَبِيّ، غَفَر اللّهُ وإلى وَالديه، وذلك بمَدِيْنة قُسْطَنْطِينيَّة، لا زَالَتْ بالخَيْراتِ مَلِيَّة، في شَهْرِ شَوَّال المُبَارك سَنَة ألْف وخَمْسة وثَلاثين من الهِجْرَة النَّبَويَّة، على صاحِبها أفْضَلُ الصَّلَاة، وأتَمُّ السَّلَام".
2 -
"من كُتُبِ العَبْد الفَقِير إلى مَنِّ الوَدُودِ الرَّحِيم مَسْعُود بن إبْرَاهيم عَفَا عَنْهُما، بالشِّرَاء الشّرْعِي بحمد الله، إسْتانبُول سَنَة 1073 هـ"، ثمّ خَتْمه.
وتُوجَدُ عن هذه النُّسْخَةِ صُورةٌ مَحْفُوظةٌ في دَارِ الكُتُبِ المِصْريَّة برقَم 3113 تاريِخ تيمور، وصُورةٌ أُخْرَى بمَركزِ المَلِكِ فَيْصَل بالرياض، وصُورةٌ ثالثةٌ مَحفُوظَة في مَرْكزِ جُمْعَة الماجِد برقَم 446108.
- نُسْخَةٌ من الجُزء التَّاسِع، تَقَع في 191 وَرَقَةٍ، وخَطُّها نَسْخيّ، ومسْطَرتُها 35 سَطْرًا، مَحْفُوظَة بمَكْتَبَةِ الأوْقَافِ العامَّةِ بالمَوصِل (خِزَانَة الجلِيْليّ) برقَم 5/ 32، وتحصَّلْتُ على مُصَوَّرةِ هذه النُّسْخَةِ من مَرْكز جُمْعة الماجِد بدبيّ، ورقَمُ الحِفْظِ لدَيهم 239513، ورَمزْنا لها بالرَّمز "ق".
كُتِبَ على غِلَافِها: "تاريخُ ابن العَدِيْم، وَقْف مَدْرَسة الحَسَنيَّة (؟)، لا يُبَاعُ ولا يُشْتَرى ولا [000]، ولا يُسْتَبدَل، 1232 هـ.
ونَصٌّ لَم أتبَيَّن إلَّا آخِره: " [ .... ] أخَذْناهُ في قُسْطَنْطِينيَّة 1037 هـ".
وسَقَطَتْ من هذه النُّسْخَةِ عدَّةُ أوْرَاقٍ، فسَقَطَ منها ما يُقابِلُ من الأصل الوَرَقَةَ 150 - 161، وأيْضًا ما يُقابِلُ الوَرَقَةَ 190 - 316. وإضافَة للسَّقْط الوَقِع فيها، فقد أفْسَدَتِ الرُّطُوبَةُ الكَثِيرَ من أوْرَاقها.
- نُسْخَةٌ من الجُزءَ العاشِر الخاصّ بالكُنَى والألْقَاب، مَحْفُوظة في المَكْتَبَةِ البريطَانيَّة، برقَم 23354 Add، وتقَع في 171 ورَقَة، وخَطُّها نَسْخِي، ومَسْطَرتُها
35 سطرًا، وتوجَدُ عنها نُسْخَةٌ مُصَوَّرةٌ بمَركْز المَلِك فَيْصل بالرِّياض.
وهذه النُّسْخَةُ تَخلو من العُنوانِ، ووَرَدَ على غِلَافِها تَملُّكان:
1 -
"انْتَقَلَ إليَّ بالشِّراءَ الشَّرعِيّ الصَّحِيح المُعْتَبر المَرعِي من البَلَدِ المَحْرُوسَةِ حَلَب الشَّهْباء، صانَها اللّهُ عن الفَسَاد وجَمِيع بُلْدان المُسْلِين، آمين، وأنا الفَقِيرُ المُقِرُّ بالذَّنْبِ والتَّقْصِير، إبْراهيم بن سَالَم بن تَميم، عَفا اللّهُ عنه ووالدَيه وجَمِيع المُسْلعين آمين، آمين".
2 -
"في ملك الفَقِير إلى اللّه عَبْد الرَّحمن بن عبد اللّه بن خَيْرون [؟] ".
ولَم تتضَمَّنْ هذه النُّسْخَةُ تاريخَ نَسْخٍ ولا اسْمَ ناسِخِها، وطالَتِ الرُّطُوبةُ الكَثِيرَ من أوْرَاقهِا، وأفْسَدتْها، ووَقَعَ فيها بعضُ السّقْط، منه ما يُقابِلُ من الأصْل الوَرَقَةَ 2 إلى الوَرقَة 23، ومن 337 - 239، كما سَقَطَتْ منها بعضُ التَّراجم أو الإلْحاقات الَّتي أوْرَدَها المُصَنِّف بهامِشِ الأصْلِ، وأخْطَأ النَّاسِخُ في إدْخَالِ العَدِيدِ من الإضافاتِ الهامِشيَّةِ في غير مَوْضِعها، سواءً أكانت تَرَاجِمَ مُلْحَقَة في الهامِش أو مُخْرَجاتٍ وتَصْويبَات، كما أعادَ النَّاسِخُ تَكْرار بعض التَّراجم، فكرَّرَ نسخَ تَرَاجِم مَنْ كُنْيَته أبو عِيْسَى حتَّى تَرْجَمَةِ مَن كُنْيَته أبو الغَنائِم. ويَغْلِب على النَّاسخ الخَلْط والتَّصْحيف في كَثيرٍ مِنِ أسْماءَ الأعْلَام، خاصَّةً: الحَسَن والحُسَيْن، وسَعْد وسَعِيد، والمَعرِّيّ والمَغْربيَّ. ورَمزْنَا لهذه النُّسخةِ بالرَّمْز "م".
ثالثًا: نُسَخٌ نُسِبَت إلى الكِتاب خَطأً
تَوصَّلْتُ في أثْناءَ البَحْث عن نُسَخِ كتابِ البُغْيَةِ إلى نُسْخَتين فُهْرِستا خَطأً ونُسِبَتا إلى الكتابِ، وهُما:
- جُزء يقعُ في 368 وَرَقَةٍ، كُتِبَ سَنة 1353 هـ / 1934 م مَحْفُوظ بدَار
الكُتُب المِصْريَّة بالقَاهِرة برقَم 5433، وعنه صُورةٌ في مَركْز جُمْعَة الماجِد بدبي برقَم 446110. وقد تَبَيَّنَ بعد اسْتِحضارِ مُصَوَّرتِه بأنَّه عبَارةٌ عن الجُزءَ الثَّاني من كتاب "زُبْدَة الحَلْب من تاريخ حَلَب" لابن العَدِيم.
- قِطْعة صَغِيرة كُتِبَتْ سَنَة 1045 هـ، مَحْفُوظةٌ بجَامعةِ ليْدن هُولَندا برقَم:
(1)
1593. Or، نُسِبَتْ في فَهْرس المَكْتَبَةِ أَنَّها قِطْعَةٌ من كتاب البُغْيَة
(1)
، وتبيّنَ بعدَ الحصُولِ على صُورةٍ منها أَنَّها قِطْعةٌ من كتابِ "الدُّرُّ المُنْتَخَب في تاريخ مَملكة حَلَب" لابن الشِّحْنَة (ت 883 هـ).
وقد تحصّلتُ على جَميع مصوَّرات هذه النُّسَخ، بصُورةٍ وَرَقيّةٍ أو إلِكْترونيَّة، وتَحصَّلْتُ أيضًا على نَشْرةِ الأُسْتاذِ فؤاد سكين، Fuat Sezgien، المصوّرة عن مَجْمُوعة تُرْكيَّا المَخْطُوطَة.
نَشراتُ الكتابِ:
نالَ تُراثُ ابن العَدِيْم اهْتِمامًا بالغًا من المَرْحُوم الدُّكتور سَامي الدَّهَّان، وحَمَلَهُ إلى الأوْسَاطِ العِلميَّةِ مُعَرِّفًا به في كُلِّ مَحْفِل، وتَدُلُّ دِرَاسَتُه الَّتي أفْرَدَها للتَّعْريفِ بابن العَدِيم وبتُراثِه، وكذا مُقدِّمتُه لنَشْرة زُبْدَة الحلب، على تَتَّبُّعٍ دقِيقٍ لحيَاةِ ابن العَدِيْم، وصِلَةٍ وثيْقةٍ بتُرَاثه، فحقَقَ من مُؤلَّفاته كتابَ الزُبدَة، وأشارَ إلى أنّه حَقَّقَ كتاب بُغْيَة الطَّلَبِ وأَنَّه يَدْفَعهُ للطَّبْع في القَاهِرة مُصَدَّرًا بدرَاسَهٍ مُطَوَّلةٍ عنِ الكتابِ ومُؤلِّفه، أورَدَ هذا الكَلام في كتابِه "حَياة ابن العَدِيْم وآثاره" المَطْبُوع بدِمشْق عام 1951 م، ومَرَض في آخر عُمره وماتَ عام 1971 م ولم يُنْشَرِ الكتابُ!
ونشَرَ العَلَّامةُ الدّكتور فُؤاد سزكين مُصَوَّرةَ الأجْزاءَ العَشرة الَّتي احْتَفَظتْ بها مَكْتَباتُ تركيا؛ صَوَّرَها على هَيْئتها الَّتي وُجِدَتْ بها، ضمن مَشْرُوعِه الكَبيرِ في تَوفِيرِ النُّصُوصِ التُّراثيَّة المُهمَّةِ، وتَعْميمها كأصُول بين الباحِثين، فصَوَّرَ الجُزءَ الأوّلَ
(1)
Handlist Of Arabic Manuscripts in the library of the University of Leiden and
other collections in the Netherlands، Leiden، 1980. Vol VII، p 53
و 13*
منها ونَشَرَهُ في عام 1986 م، ووَالَى نَشْرَ بَقِيَّةِ الأجْزاءِ عام 1989 م.
ونَشْرة سزكِين هذه، قُصِدَ منها تَوْفِير أصْل للبَحْث، وليسَ تَحْقيقًا، ونشرُهُ فِي حدِّ ذاته هو معْرفة عالمٍ بأهميَّة ذلك النَّصِّ، قدَّمه إلى الباحِثين على صُورِته الّتي وجَدها في أُصُوله، فلم يَقم بتَرْتيبِ أوْرَاق الجُزء الأوَّل الَّتي تَدَاخلَت وأُدْرِجت في غَيْر مَوِاضِعها، وكذلك ما وقَعَ في تَرْتيَب أوْرَاق اِلجُزء الثَّانيّ، ممَّا تَقَدَّمَ الكَلامُ عليه عندَ وَصْفِ الأجْزاءِ التُّركيَّة من الكتاب. وقد نَبَّه سزكين في مُقَدِّمةِ الجُزْءِ الأوَّل إلى أنَّه لَم يَعْتَنِ بتَرْتيبها، وأنَّه أبْقَى تَرْتيَب الكتابِ كما في أصْلِه ليَقُوم مَن يَتولَّى تَحْقيقَهُ بإعادَةِ تَرْتِيبه على الوَجْهِ الصَّحِيح.
وممَّا يُؤْخَذُ على مُصَوَّرةِ سزكين - رَغمَ جَلَالتها - سُقُوطُ بعضِ الصَّفحاتِ منها، مثالهُ سُقُوطُ ورقَةٍ بصَفْحيها من الجُزء الأوَّل، والوَرَقَةُ الَّتي تَلي الصَّفْحَةَ رقَم 437 بحسَبِ أرْقام نَشْرتِه المُتَسَلْسِلة، كما وقع في نَشْرتِه إسْقاطٌ للعَدِيدِ من الهَوامِشِ والإلْحَاقات الَّتي وردتْ بهَامِشِ الأجْزاء، ورُبَّما سَقَطَتْ أثْناء عَمَليَّةِ تَنْظِيفِ أطْرَافها من آثار الرُّطُوبَة.
وآخِرُ ما يتَّصِلُ بهذه النَّشْرةِ أَنَّها عَينةُ المَنالِ، كان العَلَّامةُ سزكين قد طَبَعَ منها عَدَدًا مَحْدُودًا لا يتوفَّر إلَّا في بَعْضِ مَراكزِ البُحوث، وهي - مثْل بَقِيَّة مُصوَّراته المَنْشُورة - باهِضَةُ الأثْمانِ، مُرْتَفعةُ التّكاليف.
وصَدَرتْ نَشرْةٌ من هذا الكتابِ في عام 1989 م بتحقيقِ الدّكتور سُهَيْل زَكَّار، وليسَ من غايةِ هذه الدِّرَاسَةِ المَدْخليَّة تتبُّعُ ما في هذه النَّشْرَةِ، ويَكْفيها من الفَضْلِ أَنَّها وفَّرَتْ نَصَّ الكتابِ لطَلَبةِ العِلْم على مَدَى عِقْدين ونصف، والكَمالُ للّه وَحَده، وأعْمالُ النَّاسِ مُتَلاحِقَةٌ مُتَتابِعَة، يُكْمِلُ الخَلَفُ ما بَدأ السَّلَفُ، ولكُلٍّ جَزاءُ ما قَدَّم، وللدّكتور بشَّار عوَّاد مَعْرُوف رأيٌ في هذه النَّشْرة يُحَوصِل حالها،
قيَدَهُ عند ذِكْر الحُسَيْنيّ (صاحب صِلَة التَّكْملَة) لكتاب ابن العَدِيْم.
مَنْهجُ التَّحْقِيق:
اسْتَنَدتُ في عَمَلي لإخْراج هذا الكتاب على قَاعِدةِ التَّحْقيق المَعْرُوفَة: تَهْيئَةُ العَمَل وإخْراجه كما أَمِلَ صاحِبُه أنْ يكُونَ، من غير تَدَخُل في النَّصّ أو اجْتِهادٍ، ودُونَ زيادَةٍ أو نقصان، مع تَوَخِّي الحِيْطَةَ في إثْباتِ ما قَيَّدَهُ المُؤلِّفُ حَرْفًا أو رِسْمًا، إلَّا في الأخْطاءِ الظَّاهِرَةِ البَيِّنَة الَّتي لا تَحْتَملُ وجْهًا آخرَ ممَّا وَقَعَ سَهوًا أو وَهْمًا، والتَّنْبِيهُ على ذلك في الهَامِش.
وإذا تَقَرَّرَ هذا؛ فقد أبْقَيْتُ على ضَبْطِ المُؤلِّفِ لأسماءِ الأعْلَام والأماكِن الَّتي وَقَعَ الاخْتِلافُ فيها، بحَسَبِ ضَبْطهِ وتقييده، مثالُه ما وَقَعَ في ضَبْطِ أنْطَاكِيَةَ بين شدِد المُثَنَّاة التَّحْتِيَّةِ وتَخْفِيْفها، ونَبَّهتُ إلى ذلك في مَواضِعِه. وتقدَّمَتِ الإشَارَةُ إلى أمانَةِ المُؤلِّفِ في النَّقْلِ وإثْباتهِ النُّصُوص برَسْمها وحَرَكاتها وإنْ خَالَفَتْ ما قرَّرَهُ هو في مُسَمَّياتِها وضَبْطِها. كما سَعَيْتُ إلى ضَبْطِ النَّصّ بالشّكْلِ والحَرَكات وبنِسْبَةٍ مَعْقُولة تُوفِّرُ القِراءةَ السَّلِيْمَةَ لنَصٍّ خالٍ من التَّصْحِيف والتَّحْريف.
أمَّا الهَوَامِشُ فقد جَعَلْتُها في مَسْرَبَيْن: أفْرَدتُ الأوَّلَ مهما لفُرُوقِ النسَخِ إنْ وُجِدَتْ، وفُروقِ الرِّواياتِ بمُقابَلَها مع المَصادرِ المُخْتَلفة، وجَعَلتُ المَسْرَب الثَّاني - هو الأسْفَل - خاصًا بالتَّخْريجاتِ والشُّرُوحَ والتَّعلِيقاتِ والإحَالةِ على مَصادرَ ومَرَاجعَ إضَافيّةٍ تُقدِّمُ المَزِيدَ من الإيْضَاحَ والتَّوسُّع.
وأثْبَتُّ في الهامِش، عندَ طَالِعٍ كُلِّ تَرْجَمَةٍ، تاريخَ وَفاةِ المترجَمِ له مَتى تَوَفَّرتْ، وحتَّى لو وَرَدتْ في ثَنايا التَّرْجَمَةِ، وأحَلْتُ على مَصَادر التَّرْجمَة قَدر المُسْتَطاع حيثما توفَّرتْ لدي مَصادِرُ ذَكَرَت أو تَرْجَمَت للعَلَم المُتَرْجَم له، وتَجاوَزتُ
عمَّن لم أجِدْ ذِكْرًا في المصَادر دُونَ الإشارةِ إلى ذلك في الهَامِش.
وبَذَلْتُ الجُهْدَ - واللّهُ يَعْلَم - في مُلَاحَقَة مَصَادرِ المُؤلِّفِ الَّتى نَقَلَ عنها، وتَخْريج نُقُولهِ من مَظَانِّها المُتَاحَةِ: المَخْطُوط منها والمَطْبُوع، ومُعارَضَة نَقْلِه بالمُثْبَت فيها، وإثْباتِ الفُرُوقِ الجَوهَريَّة ما لَم يَكُنْ من أخْطَاء الطَّبْع الوَاضِحَة. وعَرَّفتُ بمَصَادِره الضَّائِعة أو الَّتي لَم تَصِلْنا وبمُؤلِّفيها باقْتِضابٍ لأوَّلِ ورُودِها في الكتاب، أمَّا المَخطُوطُ منها فرَجَعْتُ إلى ما تَمَكَّنتُ تَحْصيلَهُ، وقابَلْتُهُ على نُقُولِ ابن العَديم. وعَزَوتُ الشِّعْرَ إلى أصْحابِه إنْ وَجَدْتُه، وأصَلْتُ إليهِ في دَواوينِ الشُّعَراء والمَجَامِيع الأدَبِيَّة.
ولاتِّسَاعَ مادَّةِ الكتابِ، وتنَوُّعَ مَوْضُوعاتِهِ، فقد اتَّسَعَتْ قائمةُ المَصادِرِ وطَالَتْ، وهي المُدْرَجَةُ آخر الكتابِ، ورُبَّما غَفِلْتُ عن تَقْييد مَصادرَ قَلِيلة كُنْتُ قد اسْتَخدمتُها لأوَّلِ عَمَلي في الكتابِ، فألْتَمِسُ العُذْرَ ممَّن يَجِدُ شَيئًا منها لم تَسْتَوعبه القائمة، أمَّا المَصادِرُ الَّتي اسْتَخدمهُا لمَرَّةٍ واحدةٍ، فاكْتَفَيْتُ بإثْباتِ المَعْلُوماتِ البيْبلُوغْرَافيَّة خاصَّاتِها في ذاتِ الهامِشِ محْصُورًا بين قَوْسَين.
وخَرَّجْتُ - قَدْر الإمْكان والمَعْرِفة - ما أَوْرَدَهُ المُؤلِّفُ من أحَادِيثَ نَبويَّةٍ، وعَزَوْتُه إلى كُتُبِ الحَدِيثِ المُعْتَبَرةِ خاصَّةً كُتُبَ الصِّحاح، ورُبَّما اكْتَفَيْتُ - عند تعزُّر الوصُولِ إلى الحَدِيْثِ بإسْناده المَذْكُور - بالإحالةِ على كتاب المُسْنَد الجامع، وهو الكتابُ الَّذي صَنَعَهُ وخَرَّجَ أَحادِيثَهُ جَماعةٌ من العُلمَاءَ والمُحَدِّثين يَرْأسُهم العالِمُ المُحَدِّث الدّكتور بشّار عوَّاد مَعْرُوف.
ولمَّا كانَ الكتابُ مُخْتَصًّا بمَدِينَةِ حَلَب وجِوَارِها، ومُنْصَرفًا إليها، فقد التْزَمتُ بتَعْريِفِ المَواضِع والأماكِنِ الوَارِدة فيه كلِّها ضمنَ هذا النِّطَاقِ الجُغرافيّ، بالقَدْرِ الَّذي يُعْطِي صُورةً عن صالِ المَوضِع في القَدِيمِ والحَدِيثِ، وكان يُمْكنُ التَّجاوُزُ
عن تَعْريفِ المَشْهُورِ منها - كَمدينةِ حَلَب مَثَلًا - لكنَّني أَجْرَيتُ التَّعْريفَ بها جَمِيعها على قَدَمِ التَّسَاويّ، وعَدَّدتُ أَسْماءَ مَصادِرَ جُغْرافيَّة تَعَرَّضَتْ لذِكْرِ المَوضع، ليَصِيرَ الكتابُ الأوَّلُ خاصَّةً، بمادَّتِه، وبما أُحِيْلَ عليه من مَصادِرَ إضافيَّةٍ، مُعْجَمًا جُغْرافيًّا مُفِيدًا عن هذا الإقْلِيم.
وتَجنَبَّتُ قدرَ الإمْكانِ التَّعْلِيقَ ووَضْعِ الشُّرُوحَ في الهامِش إلَّا في الألْفاظِ والمُصْطَلحاتِ الَّتي تَحْتاجُ إلى بَيان، واسْتَنْدتُ في ذلك إلى مُعْجَمَيْن أسَاسيّين: لسَان العَرَب لابن مَنْظُوِر وتاج العَرُوس للزَّبِيديّ، الأوَّلُ منهما لمُعاصرته زَمَنَ المُؤلِّف، والثَّاني لأنَّهُ حَوى واسْتَوْعَبَ جَمِيعَ مَن تَقَدَّمه، ولأنَّه ممَّن اسْتَفادَ من كتابِ ابنِ العَدِيم وأخَذَ عنه.
وخَدَمْتُ النَّصَّ باللَّازِم من عَلاماتِ التَّرْقِيم، وما يلحَقُ بهذا من تَقِسِيمِ فِقَرِه على نَحو يُسَهِّل المُطالَعَةَ، ويُقَلِّلُ من النُّصُوصِ الطَّوبلَةِ المُتَتابِعَة، كما مَيّزْتُ العَناوينَ الرَّئيسِيَّةَ والفَرْعِيَّةَ بالحَرْفِ الغَلِيظِ الدَّاكِن.
وتَقَدَّمَتْ الإشَارةُ إلى إحَالَاتِ المُؤلِّفِ الكَثِيرة سواءً على فُصُولِ كتَابِه أو على تَرَاجِم منه، وقد حَرِصْتُ على الإشارةِ في الهَامِش إلى مَوْضِعِ النَّصِّ المُحالِ عليه، أو مَوْقِع التَّرْجَمَة إنْ كانت ضمن المُتَبقِيّ، أو الإشارةِ إلى أنَّها من المَفْقُودِ منه، رَصْدًا لكميَّةِ الضّائعِ منه، وتَنبِيهًا على أهَمِّيتِه، ومنه اسْتَخْلَصتُ الجَرْدَ الّذي أوْرَدتُه في آخِرِ الكتاب (الجُزء الحادي عشر)، والمُتَضمِّن للتَّراجِم الّتي أحَالَ عليها المُؤلِّفُ ممَّا ضاعَ من الكتاب.
وحَاوَلتُ اسْتِدْراكَ بعضِ نُصُوص الكتاب وأجْزاءٍ من التَّراجم الَّتي ضاعَتْ من الكتابِ بضَيَاع الأجْزاءِ الضَّامَّةِ لها، من خلالِ ما التقَطتُه من النُّقُول الَّتي نَقَلَها عنه اللَّاحِقُونَ ممَّن كانتْ بين أيْدِيهم أجْزاءُ الكتابِ كامِلَةً، أدْرَجْتُ أوَّلًا
ما يتَّصِلُ بالكتَابِ الأوَّلِ (المُقَدِّمة) في الفُصُولِ الَّتِي سَمَّاها المُؤلِّفُ وأحَالَ عليها، ثمّ رَتَبْتُ بَقِيَّةَ النُّصُوصِ على أسْماءَ المَتْرجَم لهم حسَبَ طَرِيْقَةِ المُؤلِّفِ ألفبائيًّا، ولَم أعْتَنِ - في هذا الجزء المَجْمُوعِ - بتَقْييدِ التَّخْريجاتِ والتَّعْلِيقاتِ أو الإشَارةِ إلى مَصَادر التَّرْجَمَة، واكْتَفَيتُ بالإحَالةَ على مَصْدرِنا في الأخْذِ، بما يُتيحُ للباحِث الرُّجُوعَ إلى الأَصل ومُراجَعة الفُرُوقِ والتَّعْليقات والتَّخْريجات فيه.
* * *
أمَّا وقد نَجَزَ العَمَلُ بهذه الهَيْئةِ والكَيْفِيَّة، فالحمدُ للّهِ أوَّلًا وآخِرًا أنْ وَفَّقَ وأعَانَ على إتْمامِه، ويَسَّرَ لهُ مَن سَاهَمَ في تَحْقِيْقِه ونشرِه، بالنُّصْح والتَّوْجيهِ والإفادَةِ والتَّصْوب، أو بتَوْفِير مَصادِره، وتَصْوير نُسَخِهِ.
فالشُّكْرُ أجْزَلهُ لمُؤسَّسَةِ الفُرْقانِ للتُّراث الإسْلامِيّ، مُمَثَّلةً بعُمْدَةِ مَجْلِسِها ومُؤسِّسِها، مَعالي الشَّيخ أحْمَد زَكي يمَانِيّ، الَّذَي قَدَّمَ للتُّرَاثِ الإسْلامِيّ المَخْطُوطِ خَدَماتٍ جَلِيلة مُقَدَّرة، فَهْرَسةً ونَشْرًا ودِرَاسةً وتَحْقِيْقًا، وتَدْريبًا لكَوادرَ مُخْتَصَّةٍ عَمِلت على الاعْتِنَاءَ به وحِمايتَه من الضَّيَاعَ والإفْسَاد، وكذا العُلَمَاء الأجِلَّاء، أعْضَاء مَجْلِس الخُبَراء في مُؤسَّسَةِ الفُرْقان: الأُسْتاذ العَلَّامَة إبْرَاهيم شَبُّوح، ومَعالي الأُسْتاذ الدُّكتُور أكْمَل الدِّين إحْسَان أُوْغلُو، والأُسْتاذ الدُّكتُور مُحمَّد عَدْنان البَخيْت، ومَعالي الأُسْتاذ الدُّكتُور عَبْد اللّه الغنيم، والأستاذ الدّكتور أحمد شَوقي بنبين، أَشْكُرُهُم جَمِيْعًا لتَبنِيّهم تَحْقيقَ هذا الأثَر الجلَيْل ونَشْره، وتَقْدِيرهم لقِيْمَتِه والتَّرحِيبِ بنَشْره، مُضِيْفينَ بذلك إلى جَلِيل أعْمَالِ المُؤسَّسَةِ أثَرًا جَدِيدًا فيه ما يَنْفَعُ النَّاسُ.
والشُّكْرُ - مُكَرَّرٌ - لأُسْتَاذي العَلَّامَةِ إبْرَاهيم شَبُّوح، فقد كانَ لتَصْحيحاتِه وآرَائه - وكان رَأيه (دَوْمًا) الصَّوَاب - ما أعانَنِي على تَجاوُز الكَثِيرِ من المَشَاكِل الَّتي اعْتَرضَتِ العَمَلَ، ولمُسَاعَدتِه في ضَبْطِ الكَثِيرِ من الأشْعار، وفَكِّ ما اسْتَغْلَقَ علَيَّ حَلُّهُ وقِرَاءتُه من
كَلِمات الكتاب، وبَقِيَتِ المُرَاسَلاتُ في غَرَضِ الكتاب تَتَردَّدُ بيني وبينَهُ في تُونسُ، أُجَمِّعُ له الأسْئِلَة والاسْتِفسَارات فيُجِيْبُ عليها - رَغم شَواغِله الكَثيرة - في الآن ذَاتِه، مع ما يَنْضافُ إلى ذلك من تَقْديمِ النُّصْح والتَّوْجِيهِ بكَرَمٍ وعَطاءٍ مَوْصُولَيْن.
والشُّكْرُ أيضًا للشَّيْخ المُحَقِّق، الأُسْتاذ الدّكتُور بشَّار عوَّاد مَعْرُوف، الَّذي تَكَرَّمَ علَيَّ بنُصْحِه، وهو ممَّن عانَى البَحْثَ في كتاب ابن العَديم في الكَثِير من بُحوثِه وتَحْقيقاته، ووَجَّهَني إلى تَخْرج بعضِ الأحَادِيثِ، وبالَغَ في الفَضْلِ بقِراءة مَواضع من هذه الكَلِمَة المَدْخَليَّة والتَّصْحِيح فيها.
ولا يَفُوتَنِي الاعْتِرافُ بالجَمِيلِ، المَقرُونُ بالشُّكْرِ والثَّنَاء الجَزِيل، لاثنين من أصْحاب الفَضْلِ عليَّ في هذا العَمَل: الأُسْتاذ الدُّكتُور عِصَام عُقْلَة رَئيس قِسْم التَّاريخ في الجامِعة الأُرْدنيَّة، والدّكتُور إحْسْان ذنُّون الثَّامِريّ، فقد تَكَرَّما بقِراءةِ فُصُولٍ منه، وفَتَحا لي خِزَانتيهما العَامِرتَيْن بما فيها من نَفائسٍ النَّشْرات والكُتُبِ، واسْتَحْضَرَ لي الدُّكتُور إحْسْان ذنُّون نُسْخَةَ ليدن، المَنْسُوبة خَطأً لابن العَدِيم، خِلال إقامَتِه بهُولنْدا (صَيْف 2012 م).
وإلى الأَسَاتذةِ في مَعْهَدِ المَخْطُوطاتِ العَرَبيَّة بالقَاهِرة، مُمثلًا بمُدِيرهِ العَام الأُسْتاذ الدُّكتُور فَيْصَل الحَفْيان، لِمَا لَقِيتُ من عَوْنِه ومُسَاعَدَتِه، ومَعُونَةِ الدّكتُور أحْمد عَبْد البَاسِط، والأُسْتاذُ مُراد تَدْغُوت من باحِثي المَعْهد، واسْتِجابَتِهم السَّرِيْعَةِ في تَصْويرِ ما طَلَبتُه من مُقْتَنياتِ المَعْهَد.
وإلى مَرْكْز المَلِكِ فيصَل للبُحُوث والدِّراسَات الإسْلَاميَّة بالرِّياض، وأَمِيْنهِ العام الأُسْتاذ الدّكتُور يَحْيَى بن جُنَيْد، صَاحِب العِلْم والخُلق السَّامِي، وبمَعِيَّتهِ الأُسْتاذ عَمَّار تَمالت، والأُسْتاذ خَالد يُوسُف النَّافِعِ، لقد تَكَرَّما علَيَّ بتَصْوير بعضِ المَصادِر المَخْطُوطَةِ الَّتي يَحْتَفِظُ المَركِزُ بمُصَوَّراتٍ عنها.
وإلى مَرْكْز جُمْعَة المَاجِد للثَّقافةِ والتُّراث، وخاصَّةً الأُسْتَاذ عِمَاد صبَّاح، مَسْؤول قِسْم المُعالجَةِ الفَنِيَّة بالمَرْكز، لاسْتجابَتِه السَّرِيعة وإمْدَادي بِكُلِّ المُصَوَّراتِ الَّتي طَلَبها من نَشْرَات الكتاب دُون مُقابِلِ، ولأخي سَعادَةِ السَّفِير الدّكتُور مُحمَّد عِيْسَى العدْوان، الَّذي تَكَرَّمَ بإحْضَارِها وتَدبَّر أمْرَ إيْصالِها إلى عَمَّان.
وإِلى الأُسْتاذ الدّكتُور المُحَقِّق مَرَوان العَطِيَّة، أَشْكُره بقَدْرِ ما أُدِينُ له من مَعُونة، وأَرْيحيِ تَعاون، وفَضْلِ ما سَمَحَ لي به من وَقْتهِ الثَّمين للتَّباحُثِ في شَأنِ الكتاب، ومُحاولةِ البَحْثِ عن نُسَخهِ، من ضلال اتِّصَالاتي الهَاتِفيَّةِ معه في الإمَارات العَرَبيَّة المُتَّحِدة وسوريا.
وإلى الأُسْتاذ أحْمد العَلَاونَة الّذي تَكَرَّم عليَّ ومَدَّني ببَعْضِ المَصادر من مَكْتَبِته ومَكْتَبة جَامِعةِ اليرمُوك، والدّكتوره عَبير الحُسَيْن، والدكّتور عَبْد الحكيم أنيس، وأخِي الدّكتُور زَيد الرَّواضية بجَامِعة اسْطَنبُول الَّذي تَولَّى تَصْويرَ النُّسَخ المَخطُوطَةِ من مَجْمُوعَة تُرْكيا.
وأخيرًا، فالشُّكْرُ أجْزَلهُ للأُسْتاذِ المُثَقَّف مُحمَّد دريْوش، المُشْرفِ على مَشْرُوعاتِ المُؤسَّسة ومنْشُوراتِها، والحَرِيص على تنفِيذ بَرامِجها، والَّذي تَولَّى مُتابَعَةَ سَيْر العَمَل مُنْذ التَّكْليف بإعْدَاده، وتقديم النُّصْح والإرْشادِ فيما يتَّصِلُ بصُورةِ إخْراجِه وفنِيَاته وخُطُوطه، وحِرْصِه الشَّدِيد على دَقائِقِ التَّفْصِيلَات والجُزْئيَّات.
فلجَمِيْع مَن تَقَدَّمَ، ولمَن غَفِلْت عن ذِكْرِهم، أُزْجي أجْزَلَ الشُّكْر وأوْفَرَهُ، كِفاءَ ما قَدَّمُوا، والحَمْدُ للّه رَبّ العَالَمِين.
المهدي الرواضية
عَمَّان في:
الحادي والعشرين من جمادى الأوّلى 1437 هـ
الأوَّل من آذار/ مارس 2016 م
غلاف الجزء الأول من نسخة الأصل وعليه قيود التملّك والمطالعة وقيد الوقف
غلاف الجزء الخامس من نسخة الأصل وعليه ختم وقف على مدرسة شيخ الإسلام فيض الله أفندي
غلاف الجزء التَّاسع من نسخة الأصل (أحْمَد الثَّالث)، وعليها أغلب التملكات وقيود المطالعة ومطالعة السُّيوطِيّ بخَطِّهِ
نموذج من إفساد الرطوبة الحاصل في الجزء الأوّل من نسخة الأصل
صورة غلاف نسخة "ك"
غلاف نسخة (ب)
غلاف نسخة (ق)
الورقة الأولى من نسخة (ق)
غلاف نسخة (م)
الورقة الأوّلى من نسخة (م)
نموذج مما قيَّده ابن السابق الحموي في الأوراق الأولى من الجزء الأوّل (نسخة الأصل) مما لا يتصل بغرض الكتاب
ترجمة ابن العديم بخط مُتَملِّك النسخة ابن السابق الحموي
الورقة الأُوَلى من القطعة المحفوظة بجامعة ليدن (هولندا) برقم: (1)1593. OR، المنسوبة خطأً لكتاب البُغْيَة، وهي من كتاب الدُّرّ المُنْتَخَب
بُغْيَةُ الطَّلَبِ فِي تَارِيْخِ حَلَب
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ تَوفِيقِي
بابٌ في ذَكْرِ فَضْل حَلَب
(1)
أَخْبَرَنَا القَاضي بَهاءُ الدِّين أبو المَحاسن يُوسفُ بن رَافعٍ بن تَمِيم، قال: أَخْبَرَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بنُ عليّ بن ياسر الجَيَّانِيّ بالمَوصل، ح.
وأَخْبَرَنَا المُؤيد بن مُحمَّد بن عليّ الطُّوسيّ، ومَنْصور بن عَبْد المُنعم بن عَبْدِ الله بن مُحمَّد الفَرَاويّ في كتابيهما إليَّ من نَيْسابُور؛ قالوا كُلّهم: أَخْبَرَنَا أبو عَبْدِ الله
(1)
سقط عنوان الباب من ك. وشهُرة مَدِينَة حلب تغني عن التَّعريف بها لولا المنهج الَّذي التزمناه في التَّعريف بالمدن والمواضع، وهي تقع على خطّ العرض 36.12 والطول 37.10، إلى الشمال الشَّرقيّ من مَدِينَة قِنَّسْريْن، وكانت قِنَّسْريْن مركز الجند، وحلب قصبتها أو: مدينتها العظميّ، تبعد عن قِنَّسْريْن نحو 15 كم، وعن معرّة النعمان 83 كم، وهي مَدِينَة كبيرة نوَّه الجغرافيون العرب بمكانتها وعظمها طيلة القرون السَّبعة الأوّلى، وكانت مأهولة بالسُّكان، تُضاهي في العظَم الموصل وبغداد، وهي اليوم ثاني المُدُن السُّورية من حيث عدد السكَّان، وكانت فيها قديمًا دار الإمارة، وأُحيطت المَدِينَة بسور من الحجارة، وتقع قلعتها في أعلى رأس جَبَل ليس لها طريق إِلَّا من جهة واحدة، ومسوَّرة بسور حصين من بناء الرُّوم، وكانت من المتانة والتحصين بحيث استعصى على جيش أبي عُبَيْدَة فتحها إِلَّا بعد حصار طويل وإعمال للحيلة، واعتبرت إحدى عجائب الدُّنيا الثلاث لعلوّها وارتفاعها. انظر عنها: ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة: الخراج 177، المسعودي: التنبيه 43، الإصطخري: مسالك 61، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 177، 178، 187، المقدسي: أحسن التقاسيم 154 - 156، 190، مجهول: حدود العالم 176، ناصر خسرو: سفر نامة 55، البكري: المسالك 1: 461، التطيلي: رحلة 280، الإدريسي: نُزهة المُشتاق 2: 648 - 649، ابن جبير: الرحلة 225 - 226 (وفيه وصف لقلعة حلب)، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان، 2: 282، 332 ابن بطوطة: الرحلة 1: 274، (وفيه وصف لقلعة حلب)، أبو الفداء: تقويم البلدان 267، الوطواط: مناهج الفكر 1: 362، ابن الشحنة: الدر المنتخب 39 - 48.، موستراس: المعجم الجغرافي 251، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 94 - 108، Halab، III، Pp 85 - 90 J. Sauvaget، EL 2:
مُحمَّد بن الفَضل الفَرَاوِيُّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن عَبْدُ الغَافِر بن مُحمَّد الفارِسيّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو أحْمَد مُحمَّد بن عِيسَى بن عَمرُويَه الجُلُوديّ (a)، قال: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيم بن مُحمَّد بن سُفيان، قال: أَخْبَرَنَا مُسْلم بن الحَجَّاج القشيريّ، قال: حَدَّثَنِي زُهَيْر بن حَرْبٍ، قال: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بن مَنْصُور، قال: حَدَّثَنَا سُلَيمان بن بِلالٍ، عن سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَة (b) أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال
(1)
: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَنْزِل الرُّوم بالأعْمَاق. أو بَدَابِق. فَيَخرُجُ إلَيهِم جَيْشٌ من المَدِينَة، من خَيارِ أَهْل الأَرْضِ يَوْمَئذٍ، فإذا تَصَافُّوا قالت الرُّومُ: خَلُّوا بيننا وبين الذين سَبَوا مِنَّا نُقَاتِلهُم، فيقول المُسْلِمُون: لا والله، لا نُخَلِّي بينَكُمْ وبين إخْوَانِنَا، يُقَاتِلُونَهُم فَيْنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ الله عَلَيِهم أبدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُم؛ أفَضلُ الشُّهداء عند الله، ويَفْتَتحُ الثُلُثُ لا يَنْثنُونَ (c) أبدًا، فَيفَتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّة، فَبَينَمَا هُم يُقْتَسِمُونَ الغَنَائِمَ قد عَلَّقُوا سُيُوفَهُم بِالزَّيْتُون إِذ صَاحَ فيهمُ الشّيطانُ: إنَّ المَسيح قد خَلَفَكُمْ في أَهْليكُمْ، فَيَخُرُجون وذلكَ باطِلٌ، فإذا جاءُوا الشَّام خَرجَ، فبينما هُم يُعِدُّون للقِتَال. يُسَوّون الصُّفُوف إذ أُقيمَتِ الصّلاةُ، فَيزِلُ عِيسَى بنُ مَرْيمَ، فأَمَّهُم (d)، فإذا رآهُ عَدُّو الله ذَابَ كَما يَذُوبُ المِلحُ في الماء، فَلَو تَرَكَهُ لأنْذَاب حتَّى يَهْلِكَ، ولَكن يَقْتُلُهُ اللهُ بِيدِهِ، فَيُريهِم دَمهُ في حَرْبَتِهِ.
(a) في ك: الخلودي.
(b) في ك: عن سهيل عن أبي هريرة.
(c) في صحيح مسلم: لا يُفْتَنُون.
(d) في ك: فيؤمهم، وفي رواية الحاكم: فأتهم، ولم ترد اللفظة في حديث ابن حبَّان.
_________
(1)
صحيح مسلم، کتاب الفتن وأشراط الساعة، 4: 2221 (رقم 2897)، المستدرك للحاكم 4: 483، صحيح ابن حبَّان بترتيب ابن بلبان 15: 234 (رقم 6813). وأعاد ابن العديم ذكر هذا الحديث في أثناء كلامه على ما بحلب من الملاحم وأمارات الساعة.
وَجْهُ الاسْتدلال بهذا الحَديثِ على فَضْل حَلَب قَوْله صلى الله عليه وسلم
(1)
: يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ، أَوْ بِدَابِقَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، من خِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ ذَكَره بِحَرف الفاءِ وأنَّها للتَّعقيبِ، والمَدِينَة المَذْكُورة التي يَخرج منها الجَيش (a) هي حَلَب؛ لأنَّها أقربُ المُدُن إلى دَابق، وفي تلك النَّاحيةِ، إنّما يْنطلِق اسم المَدِينَة على حَلَب - عند الإطْلاقِ - لا على يَثْرب كما في قوله تعالى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}
(2)
، وفي قوله تعالى:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ}
(3)
. حيث انصَرَف الإطلاق إلى المَدِينَة التي يُفهَم إرادتها عند الإطْلَاقِ، وقد أخبَرَ (b) صلى الله عليه وسلم أنَّهم من خِيار أهل الأرض، وما زالَت عَساكِر حَلَب في كُلِّ عَصْر مَوْصُوفَة بالمصَابرة والغَنَاءِ، والثَّبات عند المُقَاتَلَةِ واللِّقَاء.
ويُؤَيَّدُ ذلك ما يأتي في فَضْل أَنْطَاكِيَة، من قوله صلى الله عليه وسلم
(4)
: لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتِي يُقَاتلون على أبْواب بَيْت المَقْدِس وما حَولَها، وعلى أبْواب أَنْطَاكِيَة وما حَولَها، وعلى باب دِمَشْقَ وما حَولَها، ظاهرين على الحَقِّ لا يُبَالُون مَنْ خَذَلَهُم ولا مَنْ نَصَرهم. الحَدِيْث.
لأنَّ الطَّائِفَة. واللهُ أعْلَمُ. هي جَيْشُ حَلَب؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام قال: لا تزال طَائفة من أُمَّتِي، وأَنْطَاكِيَة اسْتَولَى عليها الرُّوم سنين عِدَّةَ، ثمّ فَتَحَها
(a) في ك: هذا الجيش.
(b) في ك: أَخْبَرَنَاه
_________
(1)
يأتي الحَدِيْث بتمامه فيما بعد، وانظره في صحيح مسلم، 4: 2221 (رقم 2897)، المستدرك للحاكم 4: 482، صحيح ابن حبَّان بترتيب ابن بلبان 15: 224 (رقم 6813).
(2)
سورة القصص، من الآية 20.
(3)
سورة الكهف، من الآية 82.
(4)
فضائل الشَّام للربعي 75، تاريخ ابن عساکر 1:257.
سُلَيمان بن قُطَلمِش
(1)
، ثمّ استولى عليها الفِرنْجُ إلى زَمَنِنا هذا، فلولا أن يكون المُراد بالطَّائفَة المَذكُورَة جَيْش حَلَب، وأنَّه يُقاتل حول أَنْطَاكِيَة لتطَرَّق الخُلْف إلى كَلامه صلى الله عليه وسلم، وما زَالت عَسَاكر حَلَب ظَاهِرَة على مَنْ يُجاورها بأَنْطَاكِيَة في قديم الزَّمان (a) وحديثه إِلَّا ما نَدر وُقوعُهُ.
بابٌ في بَيان أنَّ حَلَب من الأرْض المُقَدَّسَة
أَخْبَرَنَا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحمن بن مُحمَّد بن الحَسَن الشَّافِعيّ، قال: أَخْبَرَنَا عَمّي الحافظُ أبو القَاسمِ عليّ بن الحَسَن الشَّافِعيّ
(2)
، إن لم يَكُن سَمَاعًا فإجَازَةً، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن بركات بن عبد العزيز بن الحُسَين النَّجَّاد، قال: أَخْبَرَنَا أبو بكر أحْمَد بن عليّ بن ثَابت الخَطِيب
(3)
، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحْمَد بن مُحمَّد بن رِزْقُوَيَه (b)، قال: أَخْبَرَنَا أبو بكر أحْمَد بن سِندي بن الحَسَن الحَدَّاد، قال: حَدَّثَنَا الحَسَن بن عليّ القطان، (قال) (c): حَدَّثَنَا إسماعيل بن عِيسَى العطّار، قال: أَخْبَرَنَا أبو حُذَيْفَة إسْحَاق بن بِشْر القُرَشِيّ، قال: أَخْبَرَنَا خارجة - يعني ابن مُصْعَب السَّرْخَسيِّ - عن ثَور - هو ابن يَزِيد الكَلاعِيّ الحِمْصِيّ - عن خَالد بن مَعْدَان، عن
(a) في ك: الأزمان.
(b) في ك: زرقوية، بتقديم الزايّ، وهو خطأ.
(c) إضافة من تاريخ ابن عساكر.
_________
(1)
الضبط من المصنِّف في مواضع عديدة غير هذا الموضع، وأجريناهُ على الكلّ، وضبطه ابن خلدون - برغم ما أبداه من حرص في ضبط الأعلام الأعجمية. على وجوه مختلفة، ففي العبر (6: 446 وما بعدها): بفتح أوله وثانيه: قَطَلَمَش، وفي موضع آخر منه (7: 818 وما بعدها) بضم أوله وفتح ثانيه كما قيده ابن العديم، وفي موضع ثالث (9: 83): بضم أوله وثانيه: قُطُلَمِش، وفي تاريخ ابن الوردي 1: 558: قطلومش.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 150.
(3)
لم أقف عليه في مؤلفات الخطيب البغداديّ، ولم يذكره في تاريخ بغداد عند كلامه على نهري دجلة والفرات.
مُعاذٍ رضي الله عنه، قال: الأرضُ المُقَدَّسَة ما بين العَريش إلى الفُرَات.
وقد حَكينا عن أبي العلاء بن سُلَيمان المَعَرِّيّ أنه قال في بَعْضِ رَسائله
(1)
: والشَّام خَمْسة أجنادٍ: جُنْد العَوَاصم منه حَلَب وقِنَّسْرُون (a)، وَجُنْد حِمْصَ، وَجُنْد جِلَّق، والأُردُنّ، وفِلَسْطين. وهذه الأجنادُ الخَمْسَةُ بلادٌ مُقْبلةٌ، يَزْعُمُ الأنبياءُ أنَّها ذُرَّت فيها البرَكة، ويَذكُرون أنَّ جميعَها أرضٌ مُقَدَّسَة.
بابٌ في بَيان أنَّ حَلَب مُهَاجَر إبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم، وأنَّها من جُمْلَة الأرضِ المُبَارَك فيها
أَخْبَرَنَا الفَقيهُ العَالِم فَخْر الدِّين أبو مَنْصُور بن عَساكِر الشَّافِعِيّ، قال: أَخْبَرَنَا عَمِّي الحافِظُ أبو القَاسِم الدِّمَشْقِيّ
(2)
، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ بن المُسَلَّم الفَقيهُ، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن أحْمَد بن عَبْد الواحد بن مُحمَّد بن أحْمَد بن أبي الحَدِيْدِ، قال: أَخْبَرَنَا جَدِّي، قال: أَخْبَرَنَا أبو الدَّحْدَاح، قال: حَدَّثَنَا أحْمَد بن عَبْد الوَاحِد، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن كثير، عن الأوزاعيّ، قال: يُهَاجِرُ الرَّعدُ والبَرْق إلى مُهاجَر إبْرَاهِيم حتَّى لا تَبْقَى قَطْرةٌ إِلَّا فيما بين العَرِيْش والفُرَات (b).
وأَخْبَرَنَا أبو مَنْصُور عبد الرَّحْمن بن مُحمَّد، قال: أَخْبَرَنَا عليّ بن الحَسَن الإمام
(3)
، قال: أَخْبَرَنَا أبو طَاهِر مُحمَّد بن الحَسَن بن مُحمَّد بن إبْرَاهِيم بن الحِنَّائِيّ في كتابه، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن أحْمَد بن عَبْد الوَاحِد بن مُحمَّد بن أبي الحَدِيْدِ، قال:
(a) في ك: وقِنَّسْريْن.
(b) في الأصل: إلى الفرات، فضبب عليها وأقحم عوضها الواو.
_________
(1)
لم أقف عليه في مؤلفات أبي العلاء المعري.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 164.
(3)
تاريخ ابن عساكر 1: 163.
أَخْبَرَنَا جَدِّي، قال: أَخْبَرَنَا أبو الدَّحْدَاح، قال: حَدَّثَنَا أبو عَامِر مُوسَى بن عَامِر، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيد بن مُوسَى، قال: حَدَّثَنَا الأوْزَاعِيّ، عن يَحْيَى بن أبي كَثِيْر، عن كَعْب الأحْبَار، قال
(1)
: يُوشِكُ بالرَّعْدِ والبَرْق أن يُهاجِرَ إلى الشَّام حتَّى لا تكُون رَعْدَةٌ ولا بَرْقَةٌ إِلَّا بينَ العَرِيش والفُرَاتِ.
قال عليّ بن الحَسَن
(2)
، وأنبَأنَاهُ أبو عَبْد الله مُحمَّد بن عليّ بن أبي العلاء المِصّيْصيّ، قال: حَدَّثَنَا الحَافِظُ أبو بَكْر أحْمَد بن عليّ بن ثابت
(3)
، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن بنُ بِشْرَان، قال: حَدَّثَنَا عثمان بن أحْمَد بن عبد الله الدَّقَّاقُ، قال: قُرِئَ على أبي بَكْر مُحمَّد بن أحْمَد بن النَّضْر، قال: حَدَّثَنَا مُعاوِيَة بن عَمْرو، عن أبي إسحاق، عن الأوزَاعِيّ، عن يَحْيَى، قال: قال كَعْبٌ: يُهاجِرَ الرَّعْد والبَرْق إلى الشَّام حتَّى لا تَبْقَى رَعْدَةٌ ولا بَرْقَةٌ إِلَّا فيما بينَ العَرِيش والفُرَات.
وأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمن بن مُحمَّد، قال: أَخْبَرَنَا أبو القَاسِم بن الحَسَن
(4)
، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن عَبْد الرَّحْمَن بن عَبِد الله بن الحَسَن، قال: أَخْبَرَنَا جَدِّي أبو عبد الله، قال: أَخْبَرَنَا أبو بكر مُحمَّد بن عَوْف بن أحْمَد المُزَنِيّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو العبَّاس مُحمَّد بن مُوسَى بن الحَسَن بن السِّمْسَار الحَافِظ، قال: أَخْبَرَنَا مُحمَّد بن خُرَيْم (a)، قال: حَدَّثَنَا هِشَام بن عَمَّار، قال: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بن يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا سُلَيمان بن سُليم، عن يَحْيَى بن جَابِر، عن يَزيد بن شُرَيْح، عن كَعْب الأحْبَار، قال: إنَّ الله تعالَى بارك في الشَّام من الفُرَات إلى العَرِيش.
(a) في ك: خزيم، وهو الإمام المحدث مُحمَّد بن خُرَيم بن مُحمَّد العقيلي الدّمشقيّ (ت 316 هـ)، انظر ترجمته ومصادرها في سير أعلام النبلاء 14: - 428 - 429.
_________
(1)
لم يرد في تاريخه وهو في مختصره لابن منظور 1: 71.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 164.
(3)
لم أقف عليه عند الخطيب البغدادي.
(4)
تاريخ ابن عساكر 1: 144.
بابٌ في بَيانِ أنَّ أهْل حَلَب في رِبَاطٍ وجِهَادٍ
أَخْبَرَنَا سُلَيمان بن الفَضْل بن سُلَيمان البَانِياسِيِّ، فيما أَذِنَ لنَا فيهِ، واجْتَمعَتُ بهِ بِحَلَب، قال: أَخْبَرَنَا أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن الحَافِظ
(1)
، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللهِ بن الحَسَن بن أبي الحَدِيَد، قال: أَخْبَرَنَا جَدِّي أبو عبد الله، قال: أَخْبَرَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن عَوْف بن أحْمَد المُزَنِيّ (a)، قال: أَخْبَرَنَا أبو العبَّاس مُحمَّد بن مُوسَى بن الحُسَيْن بن السِّمْسَار، قال: أَخْبَرَنَا مُحمَّد بن خُرَيْم (b)، قال: حَدَّثَنَا هِشَام بن عَمَّار، قال: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَة بن يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا أَرْطَأةُ، عن مَن حَدَّثَهُ، عن أبي الدّردَاءِ، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
: أهل الشَّام وأزْوَاجُهم وذَرَاريهم وعَبيدُهُم وإماؤهُم إلى مُنْتَهى الجَزِيرَة مُرَابِطُون في سبيل اللهِ، فمَن احتَلَّ منها مَدِينَةً فهو في رِباطٍ، ومن احْتَلَّ منها ثَغْرًا من الثُّغُور فهو في جِهادٍ.
وقال الحَافِظ أبو القَاسِم
(3)
، وأنْبَأنَا أبو عَبْد اللهِ مُحمَّد بن عليّ بن أبي العَلاءِ المِصِّيصيُّ، وأبو مُحمَّد هِبَةُ الله بن أحْمَد الأكفانِيّ، وأبو القَاسِم الحُسَيْن بن أحْمَد التَّمِيمّيّ، وأبو إسحاق إبْرَاهِيم بن طاهر الخُشُوعِيّ، قالوا: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم عليّ بن مُحمَّد بن أبي العلاء، قال: أَخْبَرَنَا أبو بَكْر أحْمَد بن حَرِيز بن أحْمَد بن خَمِيْس السَّلَمَاسِيّ،
(a) في الأصل وفي ك: المزكي، ومثله في أصول تاريخ ابن عساكر (1: 282)، فأصلحها المُحَقِّقُ، والصواب ما أثبت، وقد تقدّم ذكره في سند الحَدِيْث السابق، آخر الباب قبله، وانظر ترجمة المزني في: سير أعلام النبلاء 17: 550 - 551، العبر في خبر من غبر 2: 265، الصفدي: الوافي بالوفيات 4: 294، شذرات الذَّهب 5:155.
(b) في ك: خزيم، وتقدم التعليق عليه.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 144.
(2)
مجمع الزوائد للهيثمي 10: 60، کنز العمال للمتقي الهندي: 12: 276.
(3)
تاريخ ابن عساكر 1: 283، وانظر: الدر المنثور للسيوطي 3: 529.
قال: حَدَّثَنا أبو الحَسَن المُظَفَّر بن الحَسَن، قال: حَدَّثَنا أحمدُ بن عُمَيْر بن يُوسُف بن جَوصَا، قال: حَدَّثَنا عَمْرو بن عُثْمان، قال: حَدَّثَنا ابن حُمَيْر، عن سَعيد البَجَليّ، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي الدَّرْدَاءِ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال: سَيُفْتَحُ على أُمَّتي من بَعْدِي الشَّام وَشِيكًا، فإذا فتَحَها، فاحْتَلَّها، فأهْلُ الشَّام مُرابطُونَ إلى مُنْتَهى الجَزِيرَة؛ رِجالُهُم ونساؤُهُم وصِبْيانُهُم وعَبيدُهُم، فَمن احْتَلَّ سَاحِلًا من تلكَ السَّواحل فهو في جِهادٍ، ومَنْ احْتَلَّ بَيتَ المَقْدِس وما حولَهُ فهو في رِباطٍ.
أنْبَأنا أبو الحَجَّاج يُوسُف بن خَلِيل بن عَبْد اللهِ الدِّمَشْقيِّ، قال: أخْبرَنا أبو عَبْدِ الله مُحمَّدُ بن أبي زيد الكَرَّانِيّ، قال: أخْبَرَنا مَحْمُود بن إسْمَاعِيْل، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن بن فَاذْشَاه، قال: حَدَّثَنا أبو القَاسِم سُلَيمان بن أحْمد الطَّبَرَانيِّ، قال: حَدَّثَنا أحْمَدُ بن المُعَلَّى الدِّمَشْقِيّ، قال: حَدَّثَنا هِشَام بن عَمَّار، قال: حَدَّثَنَا أبو مُطِيع مُعاوِيَةُ بن يَحْيَى، عن أَرْطَأَة بن المُنْذِر، عن مَنْ حَدَّثَهُ، عن أبي الدَّرْدَاء، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: أهْلُ الشَّام وأزْواجُهم وذَرَاريهم وعبيدُهم إلى مُنْتَهى الجَزِيرَة مُرَابطُونَ، فَمن نَزَلَ مَدِينَةً من المَدَائِن فهو في رِباطٍ، أو ثَغْرًا من الثُّغُور فهو في جِهادٍ.
أنْبَأنا أحْمَدُ بن أزْهَر بن عَبْد الوهَّاب، عن أبي بَكْر بن عَبْد البَاقِي، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد الجَوْهَرِيّ إذنًا، قال: أخْبَرَنا أبو عُمَر بن حَيَّوْيَه
(1)
، قال: أخْبَرَنا أحْمَدُ بن مَعْرُوف إجَازَةً، قال: حَدَّثَنا الحُسَيْن بن فَهْم، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن سعد
(2)
، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن عُمَر، قال: حَدَّثَني عَبْد الله بن عامر، قال: سَمِعْتُ أَبَان بن صالِح يقول: سَمِعْتُ عُمَر بن عَبْد العَزِيْز يقول بدَابِق: نحنُ في رِباطٍ.
(1)
جودَّه في هذا الموضع فقط بضم المثناة التحتية وتشديدها: حَيُّوْيَه، ويرد فيما بعد على الوجه المثبت.
(2)
ابن سعد، الطبقات الكبرى 5:355.
بابٌ في بَيانِ أنَّ حَلَب كانت بابَ الغَزْو والجِهادِ ومَجْمَع الجُيُوشِ والأجْناد
اعْلَم أنَّ دَابِق كانت مَجْمعًا لعساكر الإسْلام في كُلِّ صَائِفَة من زمن مُعاوِيَة بن أبي سُفْيان، فكانوا يَجْتَمعُونَ بها، فإذا تكامَل العَسْكَر، وقَبَضُوا عطاءَهم، دخلُوا حينئذٍ من الثُّغُور إلى جِهاد العَدُوِّ، واسْتمرَّ ذلك في أيَّام بني أُمَيَّة، لا سِيَّما في أيَّام سُلَيمان بن عَبْد المَلِك، فإنَّه أقامَ بدَابِق سنين، وسيَّرَ أخاهُ مَسْلَمَة لغَزْو القُسْطَنْطِينِيَّة، وكان يُمدُّه بالعَساكِر إلى أنْ مات سُلَيمان بدَابِق.
وبعد زوال مُلْك بني أُمَيَّة، تتبَّعَ بنو العبَّاس مُدن الثُّغُور وحُصُونها، فعَمَرُوها وحَصَّنُوها، وغَزَوا غَزوات مَذْكُورَة من نواحي حَلَب من بَغْرَاس ودَابِق وغيرهما، لا سِيَّما أَمِير المُؤمِنِين الرَّشِيد رَحْمة الله عليه؛ فإنَّه اجْتَهَد في إقامة الجهاد، وأنْفَقَ الأمْوال الوافرة في الثُّغُور وأهْلها، وكان يَقْدَمُ حَلَب ويُرَتِّب أمر الغَزْو منها، وكذلك فعل المأْمُون بعده، وماتَ غَازِيًا بطَرَسُوس، وجاء المُعْتَصِمُ كذلك وفَتَحَ عَمُّورِيَّة.
أخْبَرَنا أبو مَنْصُور بن مُحمَّد بن الحَسَن الشَّافِعِيّ، قال: أخْبَرَنا عَمِّي الحافِظُ أبو القَاسِم
(1)
، قال: قرأتُ على أبي القَاسِم الخَضِر بن الحُسَيْن (a) بن عَبْدَان، عن عَبْد العَزِيْز بن أحْمَدُ الكَتَّانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن على بن الحَسَن بن أبي زَرْوَان الحافظ، قال: حَدَّثَنا عَبْد الوهَّاب بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أحْمَدُ بن عُمَيْر بن يُوسُف، قال: حَدَّثَنا أبو عَامِر مُوسَى بن عَامِر، قال: حَدَّثَنا الوَلِيدُ بن مُسْلِم، قال: وحَدَّثَني عَبْد الرَّحْمن بن يَزِيد بن جَابِر وغيره: أنَّ جُنْد حِمْص الجُنْد المُقَدَّم، وأنَّ
(a) ابن عساكر: الحصين.
_________
(1)
تاريخ ابن عساکر 2: 345 - 346.
قنَّسْريْن (a) كانت يومئذ ثَغْرًا، وأنَّ النَّاس كانوا يَجْتَمعُونَ بالجابِيَة لقَبْضِ العَطاءِ، وإقامة البُعُوث من أرْض دِمَشْق في زَمن عُمر وعُثْمان، حتَّى نَقَلَهُم إلى مُعَسْكر دَابِق مُعاوِيَةُ بن أبي سُفْيان لقُرْبه من الثُّغُور.
قال: وكان والِي الصَّائِفَة (b)، وإمام العامَّة في أهل دِمَشْق، لأنَّ مَنْ تقدَّمَهُم من أهل حِمْص وأهل قِنَّسْرِيْن وأهْل الثُّغُور مُقَدِّمةٌ لهم، وإلى أهلها يَؤُولُوْنَ إنْ كانت لهم جَوْلةٌ من عدُوِّهم.
وأخْبَرَنا عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن الفَقِيه، قال: أخْبَرَنا عليّ بن أبي مُحمَّد الشَّافِعِيّ
(1)
، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد هِبةَ الله بن أحْمَدُ وعَبْد الكَريم بن حَمْزَة، قالا: حَدَّثَنا عَبْد العَزِيْز، قال: أخْبَرَنا تَمَّامٌ وعَبْدُ الوهَّاب، قالا: أخْبَرَنا أحْمَدُ بن مُحمَّد، قال: حَدَّثَنا أحْمَدُ بن المُعَلَّى، ح.
قال تَمَّام: وأخْبَرَني أبو إسْحَاق إجَازَةً، قال: حَدَّثَنا ابنُ المُعَلَّى، ح.
قال تَمَّام: وأخْبرَني يَحْيَى بن عَبْد الله، قال: حَدَّثَنا عَبْد الرَّحْمن بن عُمَر، قال: حَدَّثَنا ابن المُعَلَّى، قال: وأخْبَرني صَفْوَان بن صالح، أملاهُ عَليَّ، قال: حَدَّثَنا الوَلِيدُ بن مُسْلِم، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن مُهاجِر، قال: سَمِعْتُ أخي عَمْرو بن مُهاجِر، قال: سَمِعْتُ عُمَر بن عَبْد العَزِيْز، وذَكَرَ مَسْجِد دِمَشْق، فذَكَر الحِكايَة، ومَقْدَم خَالِد بن عَبْد الله القَسْرِيّ إليه، وقَوْله له حين همَّ برَفْع الزَّخْرَفة منه: ما ذلكَ لك! حتَّى قال: فما قَوْلك: ما ذلك لي؟ قال: لأنَّا كُنَّا مَعْشر أهْل الشَّام، وإخْواننا من أهْل مِصْر، وإخواننا من أهْل العِرَاق، نَغْزُو، فيُعْرَض على الرَّجُل منَّا أنْ يَحْمل من
(a) لم ترد في نشرة تاريخ ابن عساکر، وموضعها بياض في أصوله.
(b) تاريخ ابن عساكر: الصافية، تحريف.
_________
(1)
تاريخ ابن عساکر 1: 269.
أرْض الرُّوم قَفِيزًا بالصَّغير من فُسَيْفِساء، وذِرَاع في ذراعٍ من رُخَام، فيَحْمله أهل العِرَاق وأهْل حَلَب إلى حَلَب، ويُسْتأجر على ما حملوا إلى دِمَشْق، ويَحْمله أهل حِمْص إلى حِمْص، ويَسْتأجر على ما حملوا إلى دِمَشْق، ويَحْمل أهل دِمَشْق ومَن وَراءهم حصَّتهم إلى دِمَشْق.
وقَرَأتُ في كتاب البُلْدان وفُتُوحها وأحْكامها، تأليف أحْمد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ
(1)
، قال: وحَدَّثَني مُحمَّد بن سَهْم الأنْطاكيِّ، قال: حَدَّثَني مُعاوِيَةُ بن عَمْرو، عن أبي إسْحَاق الفَزَارِيّ، قال: كانت بنو أُمَيَّة تَغْزُو الرُّومَ بأهْلِ الشَّام والجَزِيرَة، صَائِفَةً وشاتِيَةً، ممَّا يلي ثُغُور الشَّام والجَزِيرَة، وتُقيم المراكب للغَزْو، وتُرَتِّب الحَفَظَة في السَّواحل، ويكون الإغْفال والتَّفْرِيط خلال الحَزم والتَّيَقُّظ، فلمَّا وَلي أبو جَعْفَر المَنْصُور تتَبَّع حُصُون السَّواحل ومُدنها، فَعَمَرَها، وحَصَّنَها، وبَني ما احْتاج إلى البناء منها، وفعَلَ ذلك بمُدن الثُّغُور، ثمّ لمَّا اسْتُخِلفَ المَهْدِيّ، اسْتَتَمَّ ما بَقي من تلك المُدُن والحُصُون، وزَادَ في شَحْنها.
قال مُعاوِيَةُ بن عَمْرو: وقد رأينا من اجْتهادِ هارُونَ في الغَزْوِ، ونَفاذ (a) بَصِيْرته في الجِهادِ أمرًا عظيمًا، أقامَ من الصِّناعَة ما لَم يُقَم قَبْلَه، وقَسَمَ الأمْوال في الثُّغُور والسَّواحل، وأشْجر (b) الرُّوم وقَمَعَهُم، وأمرَ المُتَوكِّل بتَرْتيب المراكب في جميع السَّواحل، وأنَّ تُشْحَنَ بالمُقاتِلَة وذلك في سَنَة سَبْعٍ وأرْبَعين ومائتين.
(a) الأصل: ونفاد، وهو خلاف المُراد.
(b) كذا في الأصل وك، وفي كتاب البلاذري (مصدر النقل):"أشجي الروم"، والشجو: الهمّ والحزن، أي أنه أوقع الرُّوم في الهم والحزن، ولفظة "أشجر" تفيد قريبًا من هذا، فأشجر القوم: تخالفوا وتنازعوا فيما بينهم، ولفظة البلاذري أقرب للمراد. انظر: لسان العرب، مادتي: شجر وشجا.
_________
(1)
فتوح البلدان 222 - 223.
بابٌ في ذكْرِ صِفَة مَدِينَة حَلَب، وعَمَارِتِها، وأبْوابها، وما كانت عليه أوَّلًا، وما تغير منها وما بَقي
سُور حَلَب:
كان سُورًا مَبْنيًّا بالحِجَارَة من بناءِ الرُّوم، ولمَّا وصَل كِسْرَى أَنَوشَرْوان إلى حَلَب، واسْتَولَى عليها، شَعَّثَ سُورها عند الحَصَار، ثمّ رمَّ ما هُدِم منه، فبني بالآجُرّ الفارِسيّ الكِبَار، وشاهدتُ مَرَمَّته بالآجُرِّ الكِبار في الأسْوار الّتي بين باب الجِنَانِ وباب النَّصْر، وسَترها السُّور الثَّاني الّذي ابْتَناهُ المَلِكُ الظَّاهِر رحمه الله، فيما بين باب الجِنَان وباب النَّصْر، فلا يَبين الآن إلَّا لمَن يمرّ بين السُّورَين، وأظُنُّ أنَّ كِسْرَى أَنَوشَرْوان فتحَ حَلَب من هذه الجهة، فإنَّها كانت أضْعفَ مكانٍ في البَلَد، فلهذا كانت المَرَمَّةُ فيه دون غيره، وكان مَلِكها ومَلِك أَنْطاكِيَة الّذي أخذَها أَنَوشَرْوان من يده يُوسطِينيانُوس (a) مَلِك الرُّوم.
وفي أسْوارِ حَلَب أبْرِجَة عديدة، جَدَّدها مُلُوك الإسْلام بعد الفُتُوح، وأسْماؤهم مُكْتَتَبة عليها، وبنَى نور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي فَصِيلًا
(1)
على مواضع من الباب الصَّغير إلى باب العِرَاق، ومن باب العِرَاق إلى قَلْعَةِ الشَّريف
(2)
،
(a) في ك: موسطينيانوس، وللمزيد من وقائع الفرس والروم في هذه الحقبة، وما وقع بينهم من صلح وهدنة، انظر: تاريخ المنبجي 178 - 165 Pp ll./ Vol II ، Unvan Kitab Al - :Agpius de Menbidj
_________
(1)
الفَصيلُ: حائطٌ صغيرٌ دون الحصن أو دون سور البلد. لسان العرب، مادة: فصل.
(2)
قلعة الشريف: منسوبة لأبي علي الحَسَن بن هبة الله الحسيني الهاشمي، مقدم الأحداث بحلب، بناها سنة 478 هـ، وتقع ما بين سرايا إسماعيل باشا وباب قنسرين، بنيت على الجبل الملاصق لمدينة حلب من قبليها، وسورها دائر مع سور المدينة. سبط ابن العجمي: كنوز الذهب 1: 487، الغزي: نهر الذهب 1: 17، 2: 9 - 10، الأسدي: أحياء حلب وأسواقها 316 - 317.
ومن باب اليَهُود - الّذي يُقالُ لهُ الآن باب النَّصْر - إلى باب الجِنَان، ومن باب الأرْبَعِين إلى باب اليَهُود، جعل ذلك سُورًا ثانيًا قصيرًا بين يدي السُّور الكبير. وأمرَ المَلِك الظَّاهِر بتَجْدِيدِ سُور من باب الجِنَان إلى بُرْج الثَّعَابِين، وفتح الباب المستجدّ، فرفع الفَصِيْل وجدَّدَ السُّور والأبْرِجَة على عُلوّ السُّور الأوَّل، وكان يُباشِر العِمَارَة بنَفْسه، فصارَ ذلك المكان من أقْوَى الأماكِن.
ثُمَّ إنَّ أتَابِك طُغْرِل ابْتنى بُرْجًا عظيمًا فيما بين باب النَّصْر وبُرْج الثَّعَابِين، مُقابل أَتُونات الكِلْس ومَقَابِر اليَهُود.
ثُمَّ إنَّ المَلِك النَّاصِر صَلاح الدِّين يُوسُف بن مُحمَّد، أعَزَّ اللهُ سُلْطانه، أمرَ بتَجْدِيد أبْرِجَة من باب الأرْبَعِين إلى البُرْج الّذي جدَّدَهُ أتَابِك، فجُدِّدَت أَبْرِجَة عَظِيمَة؛ كلّ بُرْج منها حِصْن مُفْرد، وسُفّحَ من السُّور والأبْرِجَة في المَيْل إلى الخَنْدَق فصارَ ذلك كلّه كالقَلْعَة العَظِيمَة في الارتفاع والحَصَانة، وأمرَ ببناء أبْرِجَة كِبَار من باب الجِنَان إلى باب قِنَّسْرِيْن، فقَوِيَت المَدِينَة بذلك قوَّة ظاهرةً.
وأمَّا قَلْعَة حَلَب:
فلم يكُن بناؤُهَا بالمُحْكَم، وكان سُورها أوَّلًا مُتَهَدِّمًا على ما ذكَرَهُ أرْباب التَّواريخ، ولم يكن مَقام المُلُوك حينئذٍ فيها، بل كان لهم قُصُور بالمَدِينَة يسْكنونها، ولمَّا فَتَحَ الرُّوم حَلَب في سَنَة إحْدَى وخَمْسين وثَلاثِمائة، لجأ إلى القَلْعَة مَنْ لجأ، وسَتَرُوها بالأكُفِّ والبَراذع (a)، فعَصَمتهم من العَدُوِّ لعلُوِّها، وزَحَفَ ابنُ أخت المَلِك
(1)
فأُلْقي عليه حَجَر فقتَلَهُ، ورحَل الدُّمُسْتُق عنها، فاهْتَمَّ المُلُوك بعد ذلك بِعمَارَة القَلْعَة وتحْصِينها.
(a) في ك: البرادع، وهي لغة فيها.
_________
(1)
ربما كان يانس بن شمشقيق، فإنه كان مع نقفور بن الفقاس في مهاجمة حلب، وانظر الخبر مفصلًا في زبدة الحلب 1: 129، الكامل لابن الأثير 8: 540 - 542، وتاريخ ابن الوردي 1:453.
وعَصَى فيها فَتْح القَلْعِيّ على مَوْلاه مُرْتَضَى الدَّوْلَة بن لُؤْلُؤ، ثُمَّ سلَّمَها إلى نُوَّاب الحاكِم، فعَصَى فيها عَزيز الدَّوْلَة فَاتِك على الحاكِم، وقيل بالمرْكِز، وكان قَصْرُهُ - الّذي يُنْسَبُ إليه خَانَكاه القَصْر - مُتَّصِلًا بالقَلْعَة، والحَمَّام المَعْرُوفة بحَمَّام القَصْر إلى جانبه، فخُرِّب القَصْر بعد ذلك تَحْصينًا للقَلْعَة، وصار الخَنْدَق موضعه. ودخَلْتُ أنا هذه الحَمَّام وهي دَائِرَةٌ، فهدمَها المَلِكُ الظَّاهِر رحمه الله، وجعلها مَطْبخًا له.
ولمَّا قُتِلَ عَزيز الدَّوْلَة، صار الظَّاهر ووَلده المُسْتَنْصِر يُوَلِّيان واليًا بالقَلْعَة، وواليًا بالمَدِينَة خوفًا أنْ يَجْري ما جَرى من عزيز الدَّوْلَة.
فلمَّا مَلَكَ بنو مِرْدَاس، سَكنُوا في القَلْعَة، وكذلك مَنْ جاءَ بَعْدَهم من المُلُوك، وحَصَّنُوها، لا سِيَّما المَلِك الظَّاهِر غَازِي؛ فإنَّه حَصَّنَها وحَسَّنَها، وابْتنى بها مصنعًا كبيرًا للماءِ، ومخازنَ للغَلَّةِ، ورفعَ باب القَلْعَة وكان قريبًا من المَدِينَة، ويُصْعدُ منه إلى بَاشُوْرَة
(1)
، هي مَوضِع باب القَلْعَة الآن، ولها سُور من مَوضِع الباب الآن، يَدُور في وَسطِ التَّلّ إلى المِنْشَار
(2)
المُتَّصل بباب الأرْبَعِين.
وكان في البَاشُوْرَة مساكن لأجْنادِ القَلْعَة، ورأيْتُ في وسطِهِ بُرْجًا كبيرًا، مَبْنيًّا فوق طريق الماء من القَناة إلى السَّاتُورة الّتي للقَلْعَة، وكان على ذلك البُرْج اسم المَلِك الصَّالِح إسْمَاعِيْل بن نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي، فحرَّبَ المَلِك الظَّاهِر رحمه الله تلك البَاشُوْرَة، وسَفَّحَ القَلْعَة من أسْفل الخَنْدَق إلى سُورها الأعْلَى،
(1)
الباشورة: تلٌّ مرتفع يتخذ عند باب المدينة أو القلعة المباشرة القتال منه في أوقات الحصار والحرب، وعرفها ابن الشحنة بأنها "قطعة أرض ظاهر سور البلد يجعل عليها سور خاص يحول بينها وبين الخندق، يُخْرج منها إلى ظاهر البلد"، انظر: الدر المنتخب 45، والمعجم الجامع في المصطلحات 35.
(2)
المِنْشار: من أبراج قلعة حلب، ويصعد منه إلى القلعة، ويتصل هذا البرج أيضًا بباب الجبل الآتي ذكره فيما يلي. زبدة الحلب 2:554.
وكان قد بَنى بعض السَّفح بالحَجَرِ الهِرَقْلِيّ
(1)
، وعَزم على تَسْفيحها بذلك الحَجَر، قالت المِنيَّةُ بينَهُ وبين أمَله، وصدَّه عن مُراده ما حَضرَ من أجَله، وكان قد وسَّعَ الخَنْدَق الّذي للقَلْعَة وعمَّقه، وبنى حائطه من جهة المَدِينَة، ورفعَ باب القَلْعَة إلى مكانه الآن، وعمل له هذا الجِسْر المُمْتَدِّ، فجاءَ في غاية الحُسْن والحَصَانة.
وعَمِل بابًا آخر؛ كان إذا ركبَ ينزلُ منه وَحْدُه ويصْعَدُ، ويُغْلق فلا يُفْتح إلَّا له، وهو بابُ الجَبَل الّذي هو إلى جانب دار العَدْلِ، وبَني المَلِكُ الظَّاهِر سُورًا على دار العَدْل، وفَتح له بابًا من جهة القِبْلَة تجاه باب العِرَاق، وبابًا من جهة الشَّرْق والشَّمَال على حافَة الخَنْدَق، كان يخرج منهما إذا رَكب.
وبنى دار العَدْلِ لجلُوسِهِ العامِّ فيها بين السُّورين: السُّور العَتِيق الّذي فيه الباب الصَّغير، وفيه الفَصِيل الّذي بناهُ نُور الدِّين، وبين السُّور الّذي جدَّدَهُ إلى جانب المَيْدَان.
واهْتَمَّ المَلِك الظَّاهِر أيضًا بتَحْريرِ خَنْدَق الرُّوم، وهو من قَلْعَة الشَّريف إلى الباب الّذي يخرج منه إلى المَقام، وبنَى ذلك الباب ولَم يُتِّمه، فتُمِّمَ في أيَّام ولده المَلِك العَزِيْز، رحمه الله.
ثُمَّ يَستمرُّ خَنْدَق الرُّوم من ذلك المكان شَرقًا، ثُمَّ يعود شمالًا إلى الباب الّذي جُدِّد أيضًا في أيام المَلِك العَزِيْز لَصِيق المَيْدَان، ويُعْرفُ بباب النَّيْرَب، ثُمَّ يأخُذُ شمالًا إلى أنْ يَصل إلى باب القَناة الّذي يخرج منه إلى بَانَقُوسَا، وهو بابٌ قديم، ثُمَّ يأْخُذ غَرْبًا من شمالي الجُبَيْل (a) إلى أنْ يتَّصل بخَنْدَق المَدِينَة. وأمَرَ المَلِكُ
(a) الأصل: الحيل؛ مهملة باستثناء الياء، والمثبت من ك وابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 63.
_________
(1)
الحجر الهرقليّ: هي تلك الحجارة المشذبة التي تؤخذ من المباني والمنشآت الرومية، فتنقل وتستخدم في بناء القلاع والمنازل وخلافه.
الظَّاهِر برَفْع التُّراب وإلْقائه على شَفِير هذا الخَنْدَق ممَّا يلي المَدِينَة، فارْتَفع ذلك المكان وعَلا، وسُفّح إلى الخَنْدَق، وبُني عليه سُور من اللَّبِن في أيَّام المَلِك العَزِيْز مُحمَّد رحمه الله، وولاية الأتَابِك طُغْرِل، وأُمِرَ الحَجَّارُون بقَطْع الأحْجار من الحوَّارة من ذلك الخَنْدَق، فعُمِّق واتَّسَع، وقَوِيَت به المَدِينَة غايَة القُوَّة.
وأمَّا قَلْعَةُ الشَّريف:
فلم تكن قَلْعَةُ؛ بل كان السُّور محيطًا بالمَدِينَة، وهي مَبْنيَّة على الجَبَل المُلاصق للمَدِينَة، وسُورها دَائرٌ مع سُور المَدِينَة على ما هي الآن.
وكان الشَّريف أبو عَليّ الحَسَن بن هِبَةِ الله الحُتَيْتيّ الهاشمِيّ، مُقدَّم الأحْدَاث بحَلَب، وهو رَئيس المَدِينَة، فتمكَّن وقَوِيَت يَدُه، وسَلَّم المَدِينَة إلى أبي المَكَارِم مُسْلِم بن قُرَيْشٍ، فلمَّا قُتِلَ مُسْلِم، انْفَرد بولايةِ المَدِينَة، وسَالِم بن مَالِك بالقَلْعَة على ما نَشْرحه في تَرْجَمَتِهِ
(1)
، فبنَى الشَّريف عند ذلك قَلْعتَهُ هذه، ونُسِبَت إليه، في سَنَة ثمان وسَبْعِين وأرْبَعِمائة، خوفًا على نَفْسه من أهل حَلَب، واقْتطعَها عن المَدِينَة، وبنَى بينها وبين المَدِينَة سُورًا، واحْتَفَرَ خَنْدَقًا آثارهُ باقية إلى الآن، ثُمَّ خَرِب السُّور بعد ذلك في أيَّام إيلْغَازِي (a) بن أُرْتُق حين مَلكها، واسْتَقَلَّ بمُلْكها في سَنة ستّ عشرة وخَمْسِمائَة، فعادَت من المَدِينَة كما كانت.
وأمَّا أبواب مَدِينَة حَلَب:
فأوَّلها باب العِرَاق؛ سُمِيّ بذلكَ لأنَّهُ يُسْلَكُ منه إلى نَاحِيَةِ العِرَاق.
(a) قيَّده في الأصل حيثما يرد مهمل الحرف الثاني، ولعله تشكَّك في الاسم بين الباء والياء، وقيده في ك: ابلغازي، والمثبت من الكامل لابن الأثير 13: 44 - ، والأعلاق الخطيرة لابن شداد 1/ 2: 5، وكتاب الحوادث لمجهول 144، وعقد الجمان للعيني 2: 24، والعبر لابن خلدون 7: 204، وجاء تقييده في أصول ابن خلدون وفي مشجر نسب بني أرتق بخطّه 9: 651: أبلْغاري.
_________
(1)
انظر ترجمة سالم بن مالك بن بدران العقيلي في موضعها من الجزء التاسع من الكتاب.
ثُمَّ بعدَهُ إلى جهة الغَرْب باب قِنَّسْرِيْن؛ سمي بذلكَ لأنَّهُ يُخْرج منه إلى نَاحِيَةِ قِنَّسْرِيْن، وقد جُدِّدَ في أيَّام السُّلْطَان المَلِك النَّاصِر يُوسُف بن المَلِك العَزِيْز، أعزَّ اللهُ أنْصَاره، وغُيِّرَ عن وَضْعه، ووُسِّعَ، وعُمِلَ عليه أبْرِجَة عَظِيمَة، ومَرافق للأجْنادِ حتَّى صار بمنزلة قَلْعَةُ عَظِيمَة من القِلَاع المُرَجَّلَة
(1)
.
ثُمَّ باب أَنْطاكِيَة؛ سُمِّي بذلكَ لأنَّهُ يُسْلَكُ منه إلى نَاحِيَةِ أَنْطاكِيَة.
ثُمَّ باب الجِنَان؛ سُمِّي بذلكَ لأنَّهُ يُخْرجُ منه إلى البَساتِيْن الّتي لحَلَب.
ثُمَّ بعدَهُ باب اليَهُود؛ سُمِّي بذلكَ لأنَّ مَحالّ اليَهُود من داخلهِ، ومَقَابِرهم من خارجِه، وهذا البابُ غَيَّرَهُ السُّلْطَان المَلِك الظَّاهِر، رحمه الله، وكان عليه بابان، ويُخْرجُ منهما إلى بَاشُوْرَة يُخْرجُ منها إلى ظَاهِر المَدِينَة، فهدَمه، وجَعَل عليه أرْبعة أبْواب؛ كلّ بابين بدَرْكَاة
(2)
على حدة، يُسْلك من إحدى الدَّرْكَاتَيْنِ إلى الأُخرى في قَبْوٍ عظيم مُحْكَم البناء، وجَعَلَ عليه أبْراجًا عالية مُحكَمة البناءِ، ويُخْرجُ منهُ على جِسْر على الخَنْدَق، وكان على ظاهِره تُلول عالية من التُّراب والرَّماد
(1)
القلعة المرجَّلة: التي تبني على وجه الأرض مباشرة وليس على قُنَّة جبل أو مرتفع، أو لا يُتَّخذ لها أساس ترتفع به عن الأرض، ووردت اللفظة عند ابن نظيف الحموي في كلامه على تجديد قلعة حمص بأنها: قلعة مترجّلة، وقد يُفهم من كلامه أن المترجلة: المتهدمة، يقول:"كانت قلعة حمص مترجلة صغيرة فعلَّاها [صاحب حمص] وكبَّرها وحصَّنها"، وقد وصف القلقشندي قلعتي دمشق وبعلبك بأنهما قلاع مرجلة على وجه الأرض، ووصف الصفدي منارة بمدينة دلي بأنها مرحلة الأساس. انظر: التاريخ المنصوري لابن نظيف الحموي 137، الصفدي: أعيان العصر 5: 412، القلقشندي: صبح الأعشى 4: 93، 109.
(2)
الدَّرْكَاةُ: كلمةٌ فارسيّة، تُجمع على دركاوات (437: 1؛ Dictionnaires Arabes Dozy)، ويذكر الزبيدي أن الدَّركاة والدرقاعة، التي يتكرر ذكرها في كُتُب الشروط في الدور والمنازل، إنما هي دُور القاعة، وهي حضرة المنزل. (تاج العروس، مادة: درقع). ويُفهم من سياق ورودها في المصادر التراثية - ومن بينها كلام ابن العديم أعلاه - أنها ناحية من القصر أو القلعة تلي الباب الرئيسي، كالبهو، تتَّخذُ فيها مساطب مخصّصة للجلوس. بدر الدين العيني: عقد الجمان 1: 482، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 10: 228، المعجم الجامع في المصطلحات 90.
وكَنَائِس المَدِينَة، فنَسفها وأزَالهَا - وجعلها أرْضًا مُسْتَوية، وبُني فيها خاناتٌ تُباع (a) فيها الغَلَّة والحَطَبُ، وسُمِّي الباب: باب النَّصْر، ومُحِيَ عنه اسْم باب اليَهُود، فلا يُعْرَف الآن إلَّا بباب النَّصْر، وهُجِرَ اسمهُ الأوَّل بالكُلِيَّة.
ثُمَّ بَعَدهُ باب الأرْبَعِين؛ وكان قد سُدَّ هذا الباب مُدَّةً مَدِيدَة، ثُمَّ فُتح. واخْتُلِفَ في تسْميته بباب الأرْبَعِين، فقيل: إنَّه خَرَجَ منه مرَّةً أربعونَ ألفًا فلم يعودُوا.
وأخْبَرَني والِدي، رحمه الله، أنَّه بَلَغَهُ أنَّه خَرَجَ منهُ أرْبَعونَ ألفًا فلم يَعُدْ منهم غير واحدٍ، فرَأته امرأةٌ في طاق في علوٍ وهو داخل منه، فقالت له: دُبَيْر جئت؟ فقال لها: دُبَيْر من لم يَجئ!.
وقيل: إنَّما سُمِّي باب الأرْبَعِين لأنَّهُ كان بالمَسْجِد من داخلهِ أربعونَ من العُبَّادِ يَتَعَبَّدُون فيهِ، وكان الباب مَسْدُودًا.
وأخْبَرَني عَمِّي أبو غَانِم، رحمه الله، أنَّه بَلَغَهُ أنَّه كان به أرْبَعونَ مُحَدِّثًا، وقيل: كان به أرْبعون شَريفًا.
وإلى جانبه - أعْلى المَسْجِد - مَقْبَرَة للشِّرَاف العَلويِّين، قيل: إنَّهم من بني النَّاصِر.
والبابُ الصَّغير؛ وهو الباب الّذي يُخْرجُ منهُ من تحت القَلْعَة من جانب الخَنْدَق وخانكَاه القَصْر إلى دار العَدْلِ، ومن خارجه البابان الّلذان جَدَّهما المَلِك الظَّاهِر رحمه الله في السُّور الّذي جَدَّدَهُ على دار العَدْل، أحدُهما يفْتَح على شَفِير الخَنْدَق ويُدْعى باب الصَّغير أيضًا، وهو مَسْلوكٌ فيه إلى نَاحِيَةِ المَيْدَان.
(a) في الأصل: يباع، والمثبت من ك، والأعلاق الخطيرة 1/ 1:74.
والآخر القِبْليّ الّذي يقابل باب العِرَاق، وهو مُغْلقٌ لا يَخْرج منه أحدٌ بعد مَوْت المَلِك الظَّاهِر إلَّا السُّلْطَان في بعض الأحْيان، وكذلك باب الجَبَل الّذي للقَلْعَة أُغلق بعده.
وجدَّد المَلِك الظَّاهِر رحمه الله إلى جانب بُرْج الثَّعَابِين، فيما بين باب الجِنَان وباب النَّصْر، بابًا سَمَّاهُ باب الفَرَادِيْس، وبُني له جِسْرٌ على الخَنْدَق، ومات المَلِك الظَّاهِر ولم يَفْتحه، فسُدَّ، وتَطَيَّرُوا به، وفتَحَهُ المَلِك النَّاصِر بعد ذلك، ورتَّب فيه أجْنادًا.
وجَدَّد المَلِكُ النَّاصِر أيضًا بابًا إلى جانب بُرْج الغَنَم، وعُمِلَ عليه بُرْجان عَظْيمان، وفتَحه إلى جهة مَيْدان باب قِنَّسْرِيْن في سَنَة خَمس وأرْبَعين وستِّمائة، وسُمِّي [باب السَّعادة](a).
وكان لحَلَب بابٌ يُقالُ لهُ باب الفَرج (b) إلى جانب حَمَّام القَصْر، كان إلى جانبه القَصْر المَشْهُور الّذي يلي قَلْعَةُ حَلَب، فحرَّبَهُ المَلِكُ الظَّاهِر رحمه الله.
وكان خارج باب أَنْطاكِيَة، على جِسْر باب أَنْطاكِيَة، على نَهْر قُوَيْق، بابٌ (c) يُقالُ لهُ: باب السَّلامَة، وهو الّذي ذَكَرَهُ الوَاسَانيِّ في قَصيدته التي يَهْجُو فيها ابن أبي أُسامَة، وأوَّلها:[من مجزوء الكامل]
(a) خبر تجديد الباب أورده المصنف في هامش الأصل، وغاب عنه اسم الباب فلم يذكر اسمه، والتعويض من الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 75، والدر المنتخب 46.
(b) قيده وضبطه في الأصل و ك: الفَرْح؛ بالحاء وإسكان الراء، والمثبت من ابن شداد وأبي الفداء وابن الشحنة. انظر الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 75، اليواقيت والضرب 119، الدر المنتخب 45.
(c) ساقطة من ك.
يا ساكني حَلَب العَوا
…
صِم جادها صوب الغَمامَه
وسَيأتي ذكْرهُ بعد هذا
(1)
.
وعلى خَنْدَق الرُّوم أبوابٌ مُجَدَّدة:
أوَّلها: باب الرَّابِيَةِ التي تُباع فيها الغَلَّة والتِّبْن، خارج باب قِنَّسْريْن،
والسُّور اللِّبِن المُجَدَّد على خَنْدَق الرُّوم من حَدِّه.
والثَّاني: البابُ (a) المَعْرُوف بباب المَقام خارج باب العِرَاق من القِبْلة، يُسْلكُ فيه إلى مَقام إبْرَاهِيْم عليه السلام وغيره.
والثّالث: باب النَّيْرَب خارج باب العِرَاق، وقد ذكَرْنا أنَّه جُدِّدَ في أيَّام المَلِك العَزِيْز رحمه الله، ثُمَّ باب القناة، وقد ذكرناه أيضًا.
وأمَّا قناة حَلَب:
الّتي تَدْخل إلى المَدِينَة، فقيل: هي عَيْن إبْرَاهِيم عليه السلام، وهي تأتي من حَيْلان
(2)
؛ قريةٌ شمالي حَلَب، وفيها أعْيُن، جُمِعَ ماؤها وسِيْق إلى المَدِينَة، وقيل: إنَّ المَلِك الّذي بني حَلَب، وزنَ ماءها إلى وَسط المَدِينَة، وبَني المَدِينَة عليها، وهي تأتي إلى مَشْهَد العافية تحت بَعَاذِين (b)، وتركب بعد ذلك على بناءٍ مُحْكَم
(a) ساقطة من ك.
(b) في الأصل و ك: بعادين، والصواب بالذال المعجمة، وكانت إحدى قرى حلب، وهي اليوم من أحياء حلب، وتُعرف ببعيدين، وتشتهر ببساتينها ومقالع الرخام الأصفر. ياقوت: معجم البلدان 1: 452، الأسدي: أحياء حلب وأسواقها 135.
_________
(1)
إنَّ كان مراده ذكر الواساني أو أبياته التي يهجو فيها ابن أبي أسامة، فيرد ذلك في ترجمة الحسن بن الحسين الواساني (الجزء الخامس).
(2)
حيلان: كانت في القديم قرية تقع إلى الشمال من مدينة حلب، تتبع ناحية جبل سمعان بمحافظة حلب، وتبعد عن حلب مسافة 8 كم، وطالها التوسُّع فأصبحت اليوم من أحياء حلب، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 3: 191، الأسدي: أحياء حلب وأسواقها 184.
رُفِعَ لها لانْخفاض الأرْض في ذلك المَوْضِع، ثُمَّ تمرُّ إلى أنْ تصل إلى بَابِلَّى
(1)
، وهي ظاهرةٌ في مَواضع، ثُمَّ تَمُرُّ في جِبَابٍ قد حُفِرَت لها إلى أنْ تنتهي إلى باب القَناة، وتُظْهرُ في ذلك المكان، ثُمَّ تمرُّ تحت الأرْض إلى أنْ تَدْخل من (a) باب الأرْبَعِين، وتنْقَسم في طُرقٍ مُتَعدِّدة إلى البَلَد (b).
ولأهْل حَلَب صَهاريجٌ في دُوْرِهم يَخْزنون فيها الماء منها ويُبرِّدُونَه فيها، إلَّا ما كان من الأمْكنة المُرتَفعة كالعَقَبَة
(2)
، وقَلْعَة الشَّريف؛ فإنَّ صَهاريجهُم من المَطَر، وقد كانت هذه القَنَاة فسد طريقُها لطُول المُدَّة ونقص مَنابيع (c) عُيُونها فكَراها السُّلْطَان المَلِك الظَّاهِر رحمه الله، وحرَّر طَريقها إلى البَلَد وكَلَّسَهُ وسدَّ مَخارج الماءِ فيه، فكَثُر ماؤها، وقَوِيَت عُيُونها، وجدَّد القَنوات في حَلَب والقَساطِل، وأجْرى الماءَ فيها حتَّى عَمَّت أكثر دُوْر البَلَد، واتُّخذت البِرَك في الدُّور، حتَّى قال أبو المُظَفَّر بن مُحمَّد بن مُحمَّد الوَاسِطِيّ المَعْرُوفُ بابن سُنَيْنير (d) يَمدحُهُ، وسَمِعْتُها من لفظه
(3)
: [من الكامل]
(a) الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 339: إلى.
(b) في ك: أهل البلد.
(c) في ك: ونقص منها نبع.
(d) كذا في الأصل، و ك: ابن ستينير، وعند ابن خلکان وابن شاكر الكتبي: ابن السنينيرة، تصغير سنورة، وعند ابن الشعار والصفدي بإسقاط الألف واللام: ابن سنينيرة. واسمه عبد الرحمن بن محمد (ت 626 هـ). انظر: قلائد الجمان 2: 325 - 331، وفيات الأعيان 1: 215، فوات الوفيات 2: 298 - 300، والوافي بالوفيات 18:262.
_________
(1)
بابلّى: قرية بظاهر حلب إلى ناحية الشرق بينهما نحو ميل، كانت عامرة آهلة في زمن المؤلِّف. ياقوت: معجم البلدان 1: 309، الأسدي: أحياء حلب وأسواقها 109.
(2)
العقبة: ويقال لها عقبة بني المنذر لنشوزها عن بقية أرض حلب، وهي من أحياء مدينة حلب، فيها جامع عتيق يسمى جامع القيقان. الغزي: نهر الذهب 1: 17، 2: 87، الأسدي: أحياء حلب وأسواقها 280.
(3)
الأبيات في قلائد الجمان 2: 330، ويذكر ابن خلكان. في ثنايا ترجمة البهاء السنجاري - أن ابن السنينيرة قدم إلى حلب سنة 623 هـ، (وفيات الأعيان 1: 215)، ولعل ابن العديم سمع منه القصيدة في أثناء زيارته تلك.
روَّى ثَرَي حَلَب فعَادَت (a) رَوْضَةً
…
أُنُفًا وكانَت قَبْلَهُ تَشْكُو الظَّمَا
أحْيَا رُفَاتَ مَوَاتها فكأنَّه
…
عِيسَى بإذن الله أَحْيا الأعْظُما
لا غَرْوَ إنْ أجْرَى القَنَاةَ جَداولًا
…
فلطَالمَا بقَناتِهِ أجْرَى الدَّمَا
ووصَلَ ماءُ القَنَاة في أيَّامه إلى مواضِعَ من البَلَد لم يُسْمع بوُصُوله إليها، حتَّى إنَّها سِيقَت إلى الحاضر السُّلَيْمَانيِّ
(1)
، ووقف عليها أوقافًا لعمارتها وإصلاحها.
قرأت في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك الّذي وضَعَهُ الحَسَن بن أحْمَدُ المُهَلَّبيُّ العَزِيْز الفاطِميّ المُسْتَولِي على مِصْر، قال
(2)
: فأمَّا حَلَب؛ فهي مَدِينَةُ قِنَّسْرِيْن العَظِيمَة، وهي مُسْتقرُّ السُّلْطَان، وهي مَدِينَةٌ جَلِيلةٌ عامرةٌ آهلةٌ، حَسَنَةٌ المنازل، بسُور عليها من حَجَرٍ، وفي وسطها قَلْعَةُ على جَبَل وسط المَدِينَة لا تُرام، ليس لها
(a) ابن الشعار: فصارت.
_________
(1)
الحاضر السليمانيّ أو حاضر حلب: يقع إلى الجنوب الشرقي من حلب، وهو غير حاضر قِنّسرين المسمى بحاضر طيء، وكان عبارة عن محلة كبيرة بظاهر حلب، تجمع قبائل عديدة من تنوخ وغيرهم. وكان فيه قصر لسليمان بن عبد المَلِك ابتناه أيام ولايته ولهذا سمي بالحاضر السليمانيّ، وقد استغل أهل الحاضر الاضطرابات التي عمَّت الدولة الإسلامية أثناء الفتنة بين الأخوين فعمدوا لمهاجمة حلب، وتم صدّهم وإخراجهم بمعونة العباس بن زفر الهلالي فتوجّهوا إلى قِنّسرين وفشلوا أيضًا في التغلب عليها وتفرقوا بعد ذلك في البلاد. وكان الحاضر في القرن السابع الهجري يسمى حاضر السليمانية، وأكثر سكانه من التركمان، وأصبح اسمه اليوم حيّ الكلاسة، من أكبر أحياء مدينة حلب. قدامة: الخراج 303، ياقوت: معجم البلدان 2: 206، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 46، 84، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 91، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 34، ابن الشحنة: الدر المنتخب 58، الأسدي: أحياء حلب 177 - 178، 328.
(2)
کتاب المسالك والممالك المعروف اختصارًا بالعزيزي للمهلبي (ت 380 هـ) من الكتب الضائعة التي لم تصلنا، والنشرة المتوفرة منه هي نصوص مُجمعة من المصادر التي نقلت منه، وفي مقدمتها كتاب بغية الطلب لابن العديم، وكان كتاب المهلبي من أهم مصادر ياقوت في معجمه، نقل عنه - بحسب كراتشكوفسكي - أكثر من ستين مرة، كما اعتمده أبو الفداء في التعريف بالمواضع التي ضمّنها كتابه تقويم البلدان. انظر: كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي 2: 230.
إلَّا طريق لا مُقابَلَة عليه، وعلى القَلْعَة أيضًا سُور حَصِيْن؛ وشِرْبُ
(1)
أهْل حَلَب من نَهْرٍ على باب المَدِينَة يُعْرفُ بقُوَيْق، ويَكْنِيه أهْلُ الخَلَاعة أبا الحَسَن. وأعمال قِنَّسْرِيْن كُلّها ومَدِينَة حَلَب فُتِحَت صُلْحًا.
وقال: فأمَّا الأقالِيْم الّتي هي منها، فإنَّ من الإقْليم الرَّابع حَلَب، وعَرْضُها أربعٌ وثلاثون دَرَجَة.
فأمَّا أهلُها؛ فهم أخْلاطٌ من النَّاس من العَرَب والمَوَالِي، وكانت بها خِطَطٌ لوَلَدِ صالِح بن عليّ بن عَبْد الله بن عَبَّاسٍ، وتَأَثَّلَتْ لهم بها نِعْمة ضَخْمة، ومَلكوا بها نفيس الأمْلاك، وكان منهم مَنْ لَحِقْتُ بقيَّتهم بنو القَلَنْدَر، فإنَّني شاهدتُ لهم نِعَمًا ضَخْمةً، ورَأيتُ لهم منازلَ في نهايةِ السَّرْو.
وكان بها أيضًا قومٌ من العَرَب يُعْرفونَ ببني سِنَان، كانت لهم نعمةٌ ضَخْمةٌ.
وسَكَنها أحْمَدُ بن كَيْغَلَغ، وبنَى بها دارًا مَعْرُوفة إلى الآن؛ ومَلَكَ بها بدرٌ غلامُهُ ضِيَاعًا نفيْسَةً، فأتَى على ذلك كُلِّه الزَّمانُ، وسُوءُ مُعاملَة مَنْ كان يلَي أُمُورَهم، لأنَّهُ لم يكُن بالشَّامِ مَدِينَة أهلها أحْسَن نِعَمًا من أهْل حَلَب، فأتَى على ذلك كُلِّه، وعلى البَلَد (a) نَفْسه، سُوءُ مُعاملَة عليّ بن حَمْدَان لهم، وما كان يراهُ من التَّأَوُّلِ في المُطالبةِ.
قلتُ: إلى ذلك أشار أبو مُحمَّد عَبْد الله بن مُحمَّد بن سعيد بن سِنَان في قَصِيْدته الَّتي يقُول فيها
(2)
: [من البسيط]
أَوْدَي عليُّ بْنُ حَمْدَانٍ بوَفْرِهمُ
…
وقُدِّرت لهُم في مُلْكِهِ المِحَنُ
(a) في ك: أهل البلد.
_________
(1)
كذا بكسر الشين المعجمة، ومثله حيثما ترد، وهو لغة في الشُّرب.
(2)
لَم أقف عليه في ديوان ابن سنان الخفاجي.
وكان سَيْف الدَّوْلَة عليّ بن حَمْدَان قَبض أملاك جِدِّه سَعيد، وهي مَزْرعةٌ تُعْرفُ بكَفر صفْرا
(1)
من كُورَةِ قُوْرُس، ورَحى الدِّيْناريّ
(2)
وأرْضها السَّقي والعِذْي، وبُسْتان البُقْعَة (a) بحَلَب.
عُدْنا إلى كَلام العَزِيزِيّ، قال: وحَلَب من أجَلِّ المُدُنِ وأنْفَسِها، ولها من الكُوَرِ والضِّيَاع ما يَجْمَعُ سائرَ الغَلَّات النَّفِيسَة، وكان بَلد مَعَرَّة مَصْرِيْن إلى جَبَل السُّمَّاق بلَد التِّيْن والزَّبِيْب والفَسْتُق والسُّمَّاق وحَبَّة الخَضْراء، يَخْرج عن الحَدِّ في الرُّخْص، ويُحْمل إلى مِصْر والعِرَاق، ويُجَهَّز إلى كُلِّ بَلَدٍ.
وبلَد الأثارِب
(3)
والأَرْتاح
(4)
إلى نحو جَبَل السُّمَّاق أيضًا، مثل بَلَد فِلَسْطين في كَثْرة الزَّيْتُون. ولها ارتفاعٌ جليل من الزَّيْت، وهو زَيتُ العِرَاق؛ يُحْمل إلى الرَّقَّة إلى الماءِ - ماءِ الفُرَات - إلى كُلِّ بَلَد، وقد اخْتَلَّ ذلك ونَهَكَهُ الرُّوم.
فأمَّا خِلَقُ أهْلها، فهُم أحسَنُ النَّاس وجُوهًا وأجْسامًا، والأغلَبُ على ألْوانِهِم الدُّرِيَةُ والحُمْرة والسُّمرة، وعيُونُهم سُودٌ وشُهْل، وهُم من أحْسَنِ النَّاسِ أخْلاقًا
(a) مهملة الأول في الأصل.
_________
(1)
كفر صفرا (كفر صفرة): قرية عند السفح الجنوبي لجبل حلب تتبع ناحية جنديرس بمنطقة عفرين من محافظة حلب، وتبعد عن بلدة جنديرس مسافة 5 كم باتجاه الشمال الغربي. طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 5: 56.
(2)
لم أهتد للتعريف بها، وذكر أبو الفداء موضعًا يسمي: رحي القديمي على نهر قويق. اليواقيت والضرب 138.
(3)
الأثارب: في ناحية الغرب من قِنّسرين، تقع بين حلب وأنطاكية، وتبعد عن حلب نحو 30 كم، أو مسيرة يوم، وعن أنطاكية يومان، وعن بلدة عفرين 10 کم، وكانت القلعة خرابًا في زمن ياقوت الحموي (القرن السابع الهجري). وهي اليوم مركز ناحية بمحافظة حلب وتسمى الأتارب بمثناة فوقية عوض المثلثة. انظر: الطبري: تاريخ 10: 81، الإصطخري: مسالك 67، ابن حوقل: صورة الأرض 187، المقدسي: أحسن التقاسيم 190، ياقوت: معجم البلدان 1: 89، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 51 - 52.
(4)
أرتاح: بلد وحصن من العواصم من أعمال حلب، يتبع قضاء حارم. ياقوت: معجم البلدان 1: 140 - 141، کامل الغزي: نهر الذهب 1: 494.
وأتَمَّهم قامةً. وكانت اعْتقاداتُهم مثل ما كان عليهِ أهْلُ الشَّام قديمًا، إلَّا من تَخَصَّص منهم، وقِبْلَتُهم مُوافقَةٌ لقِبْلة أهلِ الشَّام.
يُشيرُ بقوله: وكانت اعتِقاداتُهم مثل ما كان عليه أهلُ الشَّام قديمًا؛ إلى مَذْهب أهلِ السُّنَّة، وكذلك كان مَذاهبُ أهْل حَلَب، حتَّى هَجَمَها (a) الرُّومُ في سَنَة إحْدَى وخَمْسين وثَلاثِمائة، وقَتَلُوا مُعظم أهلها، فنَقَلَ إليها سَيْف الدَّوْلَة من حَرَّان جماعةً من الشِّيْعَة مثل الشَّريف أبي إبْرَاهِيم العَلَويّ وغيره، وكان سَيْف الدَّوْلَة يَتَشَيَّع، فغَلَب على أهْل حَلَب التَّشَيُّع لذلك.
وقَوْله: وفي وسطها قَلْعَةٌ على جَبَل وسط المَدِينَة، ليس كذلك، بل القَلْعَة في طَرف المَدِينَة، وسُور المَدِينَة يَخْتلط بسُورها، والظَّاهرُ أنَّه شاهَدَ القَلْعَة من داخل المَدِينَة فظنَّها في وسطها، ولم يُشاهدها من خارج.
وقَوْله: وشِرْب أهْل حَلَب من نَهْر قُوَيْق، ليسَ كذلك، إلَّا لَمْن كان بالقُرْبِ منه، أو أنَّه أراد ما يَحْمله السَّقَّاؤون في الرَّوَايا، بل الغَالِب في شرْب أهْلها من قَنَاةِ حَيْلان.
وقد أنْبَأنَا أبو مُحمَّد عَبْد اللَّطِيْف بن يُوسُف، عن أبي الفَتْح بن البَطِّيّ، قال: أخْبَرَنا الحُمَيْديّ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن هِلِّل (b) بن المُحَسِّن الصَّابِئ، قال:
(a) في ك: هجمتها.
(b) في الأصل - حيثما يرد في سائر أجزاء الكتاب -: هلل، وأحالها ناس نسخة "ك" - وهي نسخة متأخِّرة جدًّا - إلى: هلال بألفٍ وُسْطى، جَريًا على الرَّسم المتأخِّر للأسماء التي كانت تُطرح منها الألف مثل: معوية = معاوية، وإسحق = إسحاق، وهرون = هارون وغيرها، ممَا درجَ عليه المحقِّقون. لكنَّ الباحث العراقي المحقِّق الدكتور إحسان ذنون الثامريّ، توصَّل إلى وجه آخر في كتابته، وأنه: هِلِّل أو: هِلِّيْل، وليس هِلَالًا، وتحقَّق من ذلك بالاتِّكاء على أصول خطيَّة كثيرة متنوعة، ورد فيها الاسم - في سياقة أسماء أفراد الأسرة - مجوَّدًا على هذه الصورة، ومنها أصول بخط أبي إسحاق الصابيء أحد كتاب الأسرة البلغاء، وجدُّ هِلّل المذكور أعلاه، وأدَّاهُ البحث والتتبُّع أيضًا إلى أن هذا الاسم بصيغة "هِلَّل" و"هِلِّيْل"، هو من أسماء الصابئة القدماء، ذكر ذلك كله في دراسة مُطوَّلة سبقت النصّ المنشور من كتاب ديوان رسائل الصابئ (وهو قيد الطَّبع)، وضمَّنها نماذج مخطوطة تدلّل على صواب مذهبه.
كَتَبَ المُخْتَار بن الحَسَن بن بُطْلان المُتَطَبِّب كتابًا إلى والدي هِلِّل بن المُحَسِّن في سَنَة أرْبعين وأرْبَعِمائة، يذْكُرُ له فيها خُرُوجه من بَغْدَاد، وما دَخَل من البلاد، قال فيها
(1)
: رَحَلنا من الرُّصَافَة إلى حَلَب في أربَع مَراحل، وحَلَب بلدٌ مُسَوَّر بحَجَرٍ أبيض، فيه ستَّة أبواب، وفي جانب السُّور قَلْعَةُ في أعْلَاها مَسْجِد وكَنِيْسَتان، وفي أحديهما كان المذبَحُ الّذي قرّب عليه إبْرَاهِيمُ عليه السلام. وفي البَلَد جامعٌ، وستّ بيَعٍ، وبِيْمَارِسْتان صَغير. والفُقَهاءُ يفْتُون على مَذْهبِ الإمامِيَّةِ. ويَشْربُ أهْل البَلَد من صَهاريج فيه مَمْلوءَة بماء المَطَر، وعلى بابه نَهْرٌ يُعْرفُ بالقُوَيْق، يَمُدُّ في الشِّتَاء ويَنْضَبُ في الصَّيْف. وفي وسط البَلَد دَارُ عَلْوَة صاحبَة البُحْتُرِيّ. وهو بلدٌ قليل الفاكهة والبُقُول والنَّبيذ إلَّا ما يأتيهِ من بلادِ الرُّوم، وفيها من الشُّعَرَاءِ جَمَاعَة، وذكَر أبا الفَتْح بن أبي حَصِينَة
(2)
، وذكَرَ کاتبًا نصرانيًّا هو صَاعِد بن عِيسَى بن سُمَّان (a)، وذكَر أبا مُحمَّد بن سِنَان، وأبا المَشْكُور.
ثُمَّ قال
(3)
: ومن عَجائب حَلَب أنَّ في قَيْسارِيَّة البَزِّ عشرين دُكَّانًا للوكَلاءِ، يَبِيعُونَ فيها كُلّ يوم مَتاعًا قَدْرُه عشرونَ ألف دِيْنار؛ مُسْتمرٌّ ذلك منذ عشرين سَنةً وإلى الآن. وما بحَلَب مَوضعٌ خَرَابٌ أصْلًا.
(a) كذا جوَّده المُؤلِّف في غير هذا الموضع؛ في ثنايا ترجمة زُرافة حاجب المتوكِّل (الجزء الثامن)، وتحرَّف اسمه في نشرة رحلة ابن بطلان 88: ابن شَمَّامة.
_________
(1)
بقيت شذرات متفرِّقة من رحلة (رسالة) ابن بطلان، حفظها. إضافة لابن العديم. كلُّ من ياقوت الحموي في معجم البلدان وجمال الدِّين القفطي في كتابه إخبار العلماء بأخبار الحكماء، وجُمعت بقايا نصوصها ونُشرت في كتاب بعنوان: رحلة يوحنا ابن بطلان بتحقيق شاكر لعيبي (أبو ظبي، 2006 م). وانظر النقل أعلاه في نص الرحلة المنشور 76، 87.
(2)
اسمه: الحسن بن عبد الله بن أحمد، الأمير أبو الفتح بن أبي حصينة، له ترجمة في الجزء الخامس من هذا الكتاب.
(3)
رحلة ابن بطلان 89.
قُلتُ: الكَنِيْسَة الّتي أشارَ إليها في القَلْعَة أنَّ فيها مَذْبَح إبرَاهِيْم عليه السلام، هي الآن مَقام إبْرَاهِيمَ عليه السلام الأسْفَل، والكَنِيْسَة الأخْرى دَثَرَتْ، والمَسْجِد الّذي في أعْلى القَلْعَة هو مَقَامُ إبَراهِيم عليه السلام الأعْلَى، وأمَّا البِيَعُ السِّتّ، فاثْنتان باقنتان؛ إحداهُما بالقُرْبِ من الزَّجَّاجين إلى جانب مَسْجِد ابن زُرَيْق، والأُخرى بالقُرْبِ من الرَّحْبَة، والبَواقي جُعِلَت مَسَاجد في سَنَة ثَمان عَشرة وخَمْسِمائَة حين حَصَر الفِرِنْجُ حَلَب وبَعْثَرُوا الضَّريح الّذي بمَشْهَدِ الدَّكَّة، ويقال إنَّ به سِقْطًا للحُسَين بن عليّ رضي الله عنه، وكان يُدبِّر أمْر البَلْدةِ أبو الفَضْل بن الخَشَّاب، لأنَّ صاحبَها تَمُرْتاش بن إيلْغَازِي بن أُرْتُق كان بِمَارِدِينَ، فجعَل ابنُ الخَشَّابِ كَنَائِس حَلَب هذه مَسَاجِد، إحداهما (a) الكَنِيْسَة العُظْمَى الّتي يُقالُ إنَّ هِيْلانَة ملكة القُسْطَنْطِينيَّة بنَتْها، فجُعِلَ فيها مِحْرَابٌ، وعُرِفَت بمَسْجِد السَّرَّاجين، وهي غَرْبي المَسْجِد الجامع وجعلَها نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي مَدْرَسَةً لأصْحَاب أبي حَنِيفَة رضي الله عنه، والأُخرى جُعِلَت مَسْجِدًا بالحَدَّادِين، فَوُقِفَت مَدْرَسَةً للحَنَفِيَّة أيضًا؛ وَقَفَها حُسام الدِّين لاجِيْن وهي مَدْرَسَة الحَدَّادِين، والأُخرى كانت بدَرْبِ الخَرَّاف (b) فهدَمَها عَبْد المَلِك بن المُقَدَّم، وبناها مَدْرَسَة للحَنَفِيَّة أيضًا، وأمَّا الرَّابعة فلا أعْلَم بها.
قَرَأتُ بِخَطِّ الحُسَيْن بن كَوْجَك العَبْسيِّ الحَلَبيِّ، في كتاب سِيرَة المُعْتَضِد بالله، تأليف سِنَان بن ثَابِت بن قُرَّة، كتَبَ بها إلى أبي الحُسَيْن مُحمَّد بن عَبْد الرَّحْمن الرَّوذْبَاريِّ الكَاتِب، قال ثَابِت بن سِنَان في أوَّل الجزءِ السَّادِس منها: لمَّا انتهَيتُ إلى هذا المَوْضِع، أمَرَني أَمِير المُؤمِنِين أنْ أُمَيِّزَ معهُ، وبحَضْرَته،
(a) هكذا في الأصل و ك، بالتثنية.
(b) في ك: درب الخزاف، والضبط من ابن شداد: الأعلاف الخطيرة 1/ 1: 315 - 316، 346.
ما في الخزائن القَديمةِ للسُّلْطان من الدَّفاتِر والآلاتِ النُّجُومِيَّةِ وغيرها ممَّا يَجْري مَجْراها، فما كان يَصْلح للأميرَيْن أبي جَعْفَر وأبي الفَضْل، أيَّدَهُما اللهُ، عَزَلتهُ لهما على ما رَسَمَهُ لي فيما رَغب في اخْتيارِي إيَّاهُ لهما، ممَّا يُشاكِل سنَّهُمَا من كُتُب الفِقْه، وكُتُب اللُّغة، وكُتُبِ السِّير القَديمةِ والقَرْيبَة العَهْد، وأخْبار المُلُوك وأيَّامِ النَّاسِ، وأخْبار الدَّوْلَة العبَّاسيّة، وأشْباه ذلك.
قال: فكان فيما أخْرَج إلينا صَناديق كَثِيْرة، فيها كُتُب أحمَد بن الطَّيِّب الّتي كان المُعْتَضِدُ قَبَضَها لمَّا نَكَبَه، وكُنْتُ بها عارفًا، وقد كُنتُ مَيَّزتُها للمُعْتضِدِ فِي ذلك العَصْر وعملتُ لها فِهْرسْتًا، فمرَّ (a) فيها كتابٌ بخَطِّ أحمد بن الطَّيِّب بأخْبار مَسير المُعْتَضِد بالله من مَدِينَة السَّلام إلى وَقْعة الطَّوَاحِين، وأخْبار انْصرافه عنها، فتَتَبَّعَتْهُ نَفْسي تَتَبُّعًا شديدًا لصحَّته، وأنَّه أضْلٌ لرَجُل مُحصِّل وبخَطِّه، وكان وقوعُ هذا الكتاب في يده قبل وقوعه في يَدِي، فبدَأني بما كان في نَفْسي، فرَمَى بهِ إليَّ لأتأَمَّلَهُ، ثمّ قال لي: أحْسبُ هذا ممَّا سبيْلُه أنْ تقتَصّه في الكتاب الّذي عملتَهُ لمُحمَّد بن عَبْد الرَّحْمن الرُّوذْبَارِيّ، فقُلتُ: بل أنْسَخهُ فيه حَرْفًا حَرفًا، فقال: افْعل، ثمّ ارْدُدْهُ. فنَسَخهُ ثَابِت من خطِّ أحمد بن الطَّيِّب كما قال، وذَكَرَ فيه المنازل إلى أنْ ذكَر وقال: ورَحَلْنا عن بَالِس ليلة السَّبْت لأرْبَع عَشرة ليلة بقيَت منه، فنَزلنا على مِيْلَين من بَالِس، على صِهْرِيج في أوَّل بَرِّيَّة خُسَاف
(1)
، ثمّ رَحلنا عن المَوْضِع سَحَرًا، فقطَعنا بَرِّيَّة خُسَاف إلى انْقضائها، وبين بَالِس وبين انْقضاء
(a) في ك: فمما.
_________
(1)
لم يُفرد ابن العديم خساف في باب مخصوص كما فعله بقية المواضع التابعة لحلب، وهي قرية في البادية تقع على بعد 48 كم غربي بالس، بينها وبين حلب، على الطريق بين الشام والعراق، وتوجد في بريتها العديد من القرى الخراب. وكانت تسمى أيضًا زراعة بني زُفَر، لأنها كانت مزرعة لبني زفر بن الحارث الكلابيّ. انظر: تاريخ الطبري 7: 443، 10: 81، الأزدي: تاريخ الموصل 69، المسعودي: مُروج الذَّهب 5: 28، ياقوت: معجم البلدان 2: 370، 3: 135، ابن الأثير: الكامل 5: 433.
بَرِّيَّة خُسَاف خمسة عَشر مِيْلًا بأمْيَال العِرَاق، وفيها قُرَىً خراب، ثمّ يوجد بعد هذه الخَمْسة عَشر مِيْلًا ماء نَزْرٌ قليل يَنْصَبُّ من قَنيِّ من حَدِّ حَلَب في قُنيِّ (a) حتَّى يَنْتهي إلى هذا المَوْضِع قليلًا يسيرًا، وفي هذا المَوْضِع يَجْري إليه الماءُ من قَرْيَة لمُحمَّد بن العبَّاس الكِلابيِّ، تُعْرَفُ بقَرْيَة الثَّلج
(1)
، كانت المَنْزل ذلك اليوم، والقُنِيُّ في هذه القَرْيَة غَزيرة كَثِيْرة الماء، قد سِيْقَت من نَهْر حَلَب من نَهْر قُوَيْق، من مَوْضِعٍ إلى مَوضِعِ، حتَّى انْتهى إليها، ثمّ إلى المَوْضِع الّذي ذَكَرناهُ على رأس بَرِّيَّة خُسَاف، وبين بَالِس وبين قَرْيَة مُحمَّد بن العبَّاس الكِلابيِّ ثلاثة وعشرون مِيْلًا، تكُون سَبْعة فَرَاسِخ ومِيْلَين.
قلتُ: هكذا ذَكَرَ أحَمد بن الطَّيِّب، وقد أخْطأ في مَوْضعين أحدهما قوله: يَنصَّبُ من قُنِيّ من حَدِّ حَلَب، والآخر في قوله: والقُنيِّ في هذه القَرْيَة غزيرة كَثْيِرة الماء، قد سِيقَتْ من نَهْر حَلَب، من نَهْر قُوَيْق، فإنَّ حَدَّ حَلَب ونَهْر قُوَيْق بعيدٌ من هذا المكان، يكون مِقْدَار ستَّة فَرَاسِخ من جِهَة الغَرْب، وهذه القُنيِّ تأتي من جهة الشَّمَال، لكنَّ الماء في هذه المواضِع الّتي ذَكَرها وفي قُرَى تأتي بعد ذلك فيما بين هذه المواضِع وبين النَّاعُورَة
(2)
، قد حُفِرَ له جِباب إلى مَنْبع الماء، ومَنْبَع الماء قَرِيْبٌ في تلك الأرْض كُلّها، ثمّ خُرِق بعض الجِباب إلى بعض إلى أنْ ينتهي الماء إلى أرض يتسلَّط عليها، فيَسْقي أرْض تلك القَرْيَة، وهذه القَرْيَة الّتي أشار إليها أظنُّها تُعْرف الآن بالكِلابِيَّةِ.
(a) كذا مكررة في الأصل و "ك".
_________
(1)
يذكر المُؤلِّف، بعد نقله هذا، وأيضًا عند كلامه على قبائل حلب، أنَّ قرية الثلج تسمى أيضًا الكلابيّة، نسبةً لبني كلاب قُطَّانها، وحدَّد ابن العديم موضعها - في آخر هذا الجزء عند كلامه على نزول بني كلاب بأعمال حلب - في طرف النقرة (نقرة بني أسد) ممَّا يلي برية خساف.
(2)
النَّاعورة: بلدة بين حلب وبالس، على طريق السائر بين العراق والشام. الطبري: تاريخ 10: 81، ياقوت: معجم البلدان 5: 253.
قال ابنُ الطَّيِّب: ورَحَلنا عن هذا المَوْضِع يوم الأَحَد لثلاث عشرة ليلة بَقِيَتْ منه، فنَزلنا مَنْزِلًا يُعْرفُ بالنَّاعُوْرَة، بينَهُ وبين المَنْزل الّذي كُنَّا نزلناهُ ثمانية أمْيَال، تكون فَرْسَخين ومِيْلَين، وفيه قَصْرٌ لمَسْلَمَة بن عَبْد المَلِك من حِجَارَةٍ صَلْدَة ليسَ بالكَبير، وماؤُه من العُيُون الّتي ذَكَرْناها.
قُلتُ: هذا القَصْر كان مَبْنِيًّا من الحِجَارَة السُّود الكِبار المَنْحُوتة، وأدْرَكْتُ أنا قطعةً منه، وهو بُرْج من أبْرِجَةِ القَصْر، وقد انْهدمَ الآن، وتقسَّمت حجارته إلَّا القليل منه.
قال ابنُ الطَّيِّب: ورَحَلنا غَدَاة يَوْم الاثْنَين لاثْنتي عَشرة لَيْلةٍ بقيَتْ من شَهْر ربيع الآخر، فنَزلنا مَدِينَة حَلَب في وَقْتِ ارْتفاع النَّهَار من هذا اليَوم، وبين المَنْزلَيْن ثَمانية أمْيَال تكون فَرْسَخين ومِيْلَين، وأقَمنا بحَلَب إلى انْقِضاء يوم الأرْبَعاء لليلةٍ خَلَتْ من رَجَب.
قال: وعلى حَلَب سُورٌ مُحيطٌ بها وبقلْعتها، كانت الرُّومُ بَنَتْهُ، وبَنَتْ الفُرْس بعْضَهُ أيَّام أَنَوشَرْوان، والقَلْعَة على جبلٍ مُشْرفٍ على المَدِينَةِ، وعليها سُورٌ، وعليها بابا حَديد؛ واحدٌ دونَ الآخر، وفي وسطها قد حُفِرَ إلى الماءِ يُنْزل إليه على مائةٍ وعشرين مِرْقَاة، قد خُرِقتْ تحت الأرْض خُرُوقًا، وصُيِّرت آزاجًا، يَنْفذُ بعضُها إلى بعضٍ إلى ذلك الماءِ، وفيها ديرٌ للنَّصارَي، وفيه امرأةٌ قد سدَّتِ البابَ عليها في وَجْهها منذ سَبْع عَشرة سَنَة. ثمّ يَنْحدرُ السُّور إلى المَدِينَةِ من جانبي القَلْعَة. ولها ستَّة أبواب، تُعْرفُ: باب العِرَاق، وباب قِنَّسْرِيْن، وباب أَنْطاكِيَّة (a)، وباب الجِنَان، وباب اليَهُود، وباب أربعين؛ وهو ممَّا يلي القَلْعَة، ومن جانبها الآخر باب العِرَاق.
(a) ضبطها ابن العديم هنا بتشديد المثناة التحتيّة، وهو أحد وجوه ضبطها، وتأتي كذلك في الشعر كما سيرد فيما بعد عند كلام ابن العديم عليها، وقد تحاشي ضبط الكلمة حيثما وردت فيما مضى، وقد أبقينا على ضبطها كيفما وردت؛ سواء بالتَّخفيف أو التَّشديد، واعتمدنا التخفيف في المواضع الّتي أغفل الضبط فيها.
وشِرْبُ أكْثَر أهْل حَلَبَ من ماءِ قُوَيْق، لأنَّهُ يَجْري إلى أبواب الجِنَان وأَنْطاكِيَة وقِنَّسْرِيْن.
وقُدَّام باب أَنْطاكِيَة رَبضٌ يُعْرفُ بَربَضِ الدَّارَيْن، في وَسَطه قَنْطَرَةٌ على قُوَيْق، كان مُحمَّدُ بن عَبْد المَلِك بن صالح بناهُ، أعْني الرَّبَض، ولم يَسْتَتِّمه، واسْتَتَمَّهُ سِيْما الطَّويل، ورَمَّ ما كان اسْتَهدَم منه وصَيَّرَ عليه بابَ حديد حِذَاء باب أَنْطاكِيَة، أخذَهُ من قَصْرٍ لبَعْضِ الهاشِميِّين بحَلَب، يُسَمَّى قَصْر البَنات، ويُسَمَّى الباب باب السَّلامَة.
قُلتُ: والقَصْر قد كان في الدَّرْب المَعْرُوف بدَرْبِ البنَاتِ بحَلَب، بالقُرْبِ من الصَّنادِيقيّين، وشَرْقي الدَّارَيْن بُسْتان، يُعْرفُ ببُسْتان الدَّار من شمالي مَيْدان باب قِنَّسْرِيْن، وهو الآن وَقْفٌ على المَدْرَسَة النُّورِيَّة الشَّافِعِيّة المَعْرُوفة ببني أبي عصْرُون، وهو مَنْسوبٌ إلى إحدَى الدَّارَيْن اللَّتَيْن ذَكَرهُما أحمدُ بن الطَّيِّب.
قال ابن الطَّيِّب: وشِرْبُ أهْلِ باب أرْبَعين، وأهْل بابِ اليَهُود، وأهلِ الأسْوَاقِ من عُيُون تَجْري على وَجْهِ الأرْض مِقْدَار أرْبعة فَرَاسِخ في موضِع هو أعْلَى من حَلَب، ثمّ تجري على باب اليَهُود على وجهِ الأرْض، وتَسْقِي بَساتيْن الدُّوْر هناك سَيْحًا، ثمّ يكون ما وراء هذا المَوْضِع من حَلَب أسْفل منه فقد عُدِل بعبَّارَة بَنَتْها الرُّوم في الطَّريق، يَجْري الماءُ عليها، فهو في السُّوق، وإنَّما بينهُ وبين باب أربعين (a) رُبْع ميل على عشرة أذْرع من الأرْض.
قُلتُ: يُريدُ بالعُيُون المَذْكُورَة قناة حَلَب الآتية من حَيْلان، وهي تَسْقي داخل باب الأرْبَعِين بُسْتانًا بَطَل وبُني دُوْرًا، وتَسقي بُسْتان اليَهُود باب اليَهُود الّذي هو وَقْفٌ على الكَنِيْسَة.
(a) في ك: الأربعين.
قال: وقُوَيْق نَهْر يأُخُذُ من وادٍ على أربعة فَرَاسِخ من حَلَب ممَّا يلي حَيْلان (a) يتَّصل بوَادِي العَسَل.
قُلتُ: وادي العَسَل غَرْبي مَدِينَة حَلَب، ونَهْر قُوَيْق يأتي إلى حَيْلان، ثمّ يجري في الوَادِي بين جَبَلين، لا يتَّصل بوَادِي العَسَل.
وقال أبو إسْحَاق إبْرَاهِيْم بن الحَسَن بن أبي الحَسَن الزَّيَّات الفَيْلَسُوف في كتاب نُزْهَة النُّفُوس وأُنْس الجِلَيْس
(1)
: ذِكْرُ مَدِينَة حَلَب، وهي في الإقْليمِ الرَّابِع قَريبًا من أَنْطاكِيَة، وبها يَنْزل الوُلاةُ العُزَّامُ، وهي عامرةٌ، أهلُها كَثِيْر، وبُعْدُها عن خَطِّ المَغْرب ثلاثةٌ وسَبْعُون دَرجَةً، وعن خطِّ الاستواء خمسةٌ وثلاثون دَرَجَة.
وقَرَأتُ في كتاب جَغْرافيَا، تأليفُ ابن حَوْقَل النَّصِيْبيِّ، وهو كتابٌ حَسَنٌ في بابه، قال
(2)
: حَلَبُ وهي مَدِينَة جُنْد قِنَّسْرِيْن، وكانت عامرةً جدًّا، غاصَّةً بأهلها، كَثِيْرة الخَيْرات، على مَدْرِج طَريق العِرَاق إلى الثُّغُور وسائر الشَّامات، افْتتَحها الرُّومُ، وكان لها سُورٌ من حِجَارَة لم يُغْنِ عنهم من العَدُوِّ شيئًا، بسُوءِ تَدْبير سَيْفِ الدَّوْلَة وما كان به من العِلَّةِ، فأخْربَ جامعَها، وسَبَي ذرارِيَّ أهْلها، وأحرقُوها، وكان لها قَلْعَةٌ غير طائلة ولا حَسَنَة العِمَارَة، لجأ إليها قومٌ من أهلها فنَجَوْا، ونقِل ما بها من المتاع والجهاز (b) السُّلطان وأهلِ البَلَد وسبي بها، وقُتل من أهل سَوادها ما في إعادته إرْماضٌ لمَن سَمِعَهُ، وَوَهْنٌ على الإسْلام وأهْلهِ.
(a) في الأصل: حبلا، ك: جيلان، ولعل ابن العديم رسمها كما وجدها، وتعليقه الذي يليه يشير إلى حيلان.
(b) الأصل: الجهات، والمثبت من ك وابن حوقل، ويختلف نصّ مطبوعة الكتاب عن النسخة التي ينقل منها ابن العديم قليلًا، في النشرة المطبوعة من صورة الأرض يرد النصّ:"وهلك بحلب وقت فتحها من المتاع والجهاز للغرباء وأهل البلد وسُبيَ منها".
_________
(1)
لم أقف على ذكر للكتاب ولا لمؤلفه، وينقل عنه ابن العديم في موضعين تاليين من هذا الجزء.
(2)
صورة الأرض 177 - 178.
وكانت لها أسْواقٌ حَسَنَةٌ، وحَمَّاماتٌ، وفَنادِق، ومَحالّ، وعِرَاضٌ فَسِيحةٌ، ومَشَايخ وأهْل جِلَّة، وهي الآن كالمُتَماسكةِ (a).
ولها واد يُعْرفُ بأبي الحَسَن قُوَيْقٍ، وشرب أهْلها منْهُ، وفيهِ قليلُ طَفَسٍ
(1)
. ولم تزل أسْعارها في الأغْذيَةِ وجميع المآكل قَديمًا واسِعةً رخيْصَةً.
وعليهم الآن للرُّوم في كلِّ سنةٍ قانونٌ يُؤدُّونه، وضَرِيبةٌ تُسْتخرَجُ من كلِّ دارٍ وضَيْعةٍ معلُومة، وكأنَّهم معهم في هُدْنَةٍ، وليْسَت - إنْ كانت أحوالُها مُتماسِكَةً، وأُمورُها رَاجِيةً (b) - بحالِ جُزءٍ من عشرين جُزءًا ممَّا كانت عليه في قديم أَوَانِها، وسَالِف أزْمانِها.
أشارَ ابنُ حَوْقَل إلى فَتْح الرُّوم لها، وتَخْريبها، في سَنَة إحْدَى وخَمْسين وثَلاثِمائة، وفي ذِكْر الضَّريبة الّتي تُؤدَّى إلى الرُّوم في كُلِّ سنةٍ إلى ما قَرَّرهُ قرعُويَه السَّيْفيِّ مع الرُّوم من الأتاوة الَّتي تُؤدَّى في كلِّ سنةٍ عن حَلَب إلى الرُّوم، وليس هذا مَوضِع ذِكْرها
(2)
.
(a) قوله: "وهي الآن كالمتماسكة" وردت في إحدى نسخ كتاب ابن حوقل، وأدرجت في الهامش.
(b) صورة الأرض: والأمور التي تجري معهم كالراخية، وفي إحدى نسخه المخطوطة ما يوافق المثبت أعلاه.
_________
(1)
الطَّفَس: القذارة والوسخ. لسان العرب، مادة: طفس.
(2)
لعل ابن العديم يُحيل خبر استيلاء الروم على حلب في سنة 351 هـ وخبر الصلح مع الروم على ترجمة قرعويه، غلام سيف الدولة، الذي استولى على حلب سنة 358 هـ، وترجمته تقع في الضائع من الكتاب، وانظر خبر الصلح عند: ابن الأثير: الكامل 8: 104، تاريخ ابن الوردي 1: 441، ابن خلدون: العبر 7: 760، 764، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 4: 58، والنويري: نهاية الأرب 23: 198.
وقال أبو العبَّاس أحمد بن إبْرَاهِيم الفارِسيّ الإصْطَخْرِيّ، في كتاب صِفَة الأقالِيْم
(1)
: وأمَّا جُنْد قِنَّسْرِيْن، فإنَّ مَدِينتها قِنَّسْرِيْن، غيرَ أنَّ دار الإمَارة والأسْواق ومجامع النَّاس والعِمَارات بحَلَب.
قال: وهي عامرةٌ بالأهْل جدًّا، على مَدْرجةِ طَريق العِرَاق إلى الثُّغُور وسائر الشَّامات.
سَمِعْتُ أبا عَبْد الله مُحمَّد بن يُوسُف بن الخَضِر يقول: بلَغَني أنَّ حَلَب كانت من أكثر المُدُن شَجَرًا، فأفْنى شَجَرها وقُوع الخُلْف بين سَيْف الدَّوْلَة والإخْشِيْد على ما تَذْكره
(2)
؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ منهما كان يَنْزل عليها ويَقْطع شَجَرها، فإذا أخَذَها جاءَ الآخر وفَعَل مِثْلهُ.
وأخْبَرني مَكِّيّ بن هارُون بن صالِح الكَفْر بلَاطيِّ
(3)
، وكان من كَفْر بَلاط
(4)
من نُقْرَة بَني أَسَد، قال: أخبَرَني أبي هارُون، عن أبيهِ صالِح، يَأْثرهُ عن سَلَفه، أنَّ النَّاس كانوا يَمْشُون من مَقام إبْرَاهِيْم عليه السلام الّذي على سَطْح جَبَل نَوَائِل إلى زُبَيْدة، وهي قَرْيَة على طَرف جَبَل الأَحَصّ، وهي مُشْرفة على النُّقْرَة، في ظلال شَجر الزَّيْتُون.
(a) الإصطخري: مجمع، وفي بعض نسخه ما يوافق المثبت.
_________
(1)
مسالك الممالك 67، وابن العديم يسميه بهذا الاسم ويكنيه أبا العباس حيثما يقع النقل عنه، والمعروف في اسمه: إبراهيم بن محمد الكرخيّ، أبو إسحاق الإصطخري (ت 346 هـ/ 957 م)، وأخباره عزيزة. انظر: كراتشوفسكي 1: 199 - ، أعلام الزركلي 1:61.
(2)
في أثناء الكلام على جبل بانقوسا، فانظره في موضعه من هذا الجزء.
(3)
أورده ابن العديم في تذكرته (سزكين) 101 - 102.
(4)
لعلها القرية المسمَّاة الآن: بلاط، والواقعة شمال جبل الأحص بمنطقة السفيرة من محافظة حلب، في الجهة الشمالية الغربية من مدينة السفيرة على بعد 11 كم. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 2:353.
والدَّليلُ على صحَّة ما ذَكَرهُ أنَّه ما من قَرْيَة في نُقْرَة بَني أَسدَ إلَّا وفيها أثَر مِعْصَرَة للزَّيْت والحَجَر الّذي كان يُعْصَر بها.
بابٌ في ذِكْرِ قِنَّسْرِيْن، وتَسْميتها بهذا الاسْم، ومَعْرفة مَن بَناهَا
(1)
قد ذكَرنا فيما تقدَّم
(2)
أنَّ اسْم قِنَّسْرِيْن كان أوَّلًا صُوْبَا، فسُمِّيَت بعد ذلك قِنَّسْرِيْن، وصُوْبَا بالعِبْرَانِيَّة، قيل: إنَّ اسمَها في التَّوْراة كذلك
(3)
، ويقال فيها قِنَّسْرُون أيضًا، ويُقال: بفتح النُّون بعد القاف وكسْرها.
(1)
قِنَّسرين: تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة حلب على بعد نحو 15 كم، على الضفة اليمني من نهر قويق، وربوة قِنَّسرين تشرف عليها. وكانت قنَّسرين مركز الجند "جند قِنَّسرين"؛ أحد أجناد الشام الخمسة، وتقع المَدينة في وسط الجند وهي مركزه وأصغر المدن فيه، وأضيَق تلك النواحي بناءً، وبالرغم من ذلك فقد كان الجند يُنسب إليها، لأن المقاتلة كانت تنزل بها في صدر الإسلام، وآنذاك لم يكن لحلب ذكر مع قِنَّسرين، ثم خربت قِنَّسرين وضعفت بالتزامن مع تقدم حلب، فأصبحت حلب مدينة الجند العظمي. وكانت لقِنَّسرين قلعة حصينة، وذكر الشريف الإدريسي والحميري بأن قِنَّسرِين كانت مسورة بسور حصين، وأنه هُدم في أيام مقتل الحسين بن علي بأمر يزيد بن معاوية وأن آثارًا من السور بقيت لعهديهما. وقد بقيت بعض أساسات السور فكانت عبارة عن جدران عريضة وبقايا أعمدة ضخمة تدل على مكانتها وازدهارها وأهميتها التاريخية. وقد ساهم أهل جند قِنَّسرين في حملة فتح الأندلس على يد طارق بن زياد سنة 93 هـ / 711 م، ونزلوا كورة جيان لمشابهتها بوطنهم بالشام، واللافت أن قصبة جيان تسمى الحاضر تأنُّسًا بحاضرهم أيضًا. وقِنَّسرين هي اليوم عبارة عن قرية صغيرة تسمى العيص تحيط بها الأطلال القديمة. انظر عنها: اليعقوبي: البلدان 362، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، الإصطخري: مسالك 61، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 177 - 178، 187، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، 156، البكري: المسالك 1: 461، الإدريسي، نُزهة المُشتاق 2: 648، ابن سعيد: بسط الأرض 86 - 87، ابن شداد، الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 10 - 11؛ أبو الفداء: تقويم البلدان 267؛ الوطواط: مناهج الفكر 1: 380، الحميري: الروض المعطار 473 - 474 ووهم الحميري عندما ظن أنها هي الجابية ذاتها. كامل الغزي: نهر الذهب 1: 467 - 469، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 609 وفيه: بعدها عن حلب 7 كم. 124 Kinnasrin،V،P EI، Elisseef، N.
(2)
إحالة على فصل ضائع من أول الكتاب، وتتكرر عند ابن العديم الإحالة على باب اسمه:"تسمية حلب"، فلعله هو المقصود.
(3)
العهد القديم: سفر الملوك 11: 23، سفر أخبار الأيام الأول 19: 3، 5، 9.
وقَرَأتُ بخَطِّ مُحمَّد بن يُوسُف بن المُنَيِّرَة، في جُزءٍ فيه اشْتقاق أسْماء البُلْدان
(1)
: قِنَّسْرِيْن من قَوْلهم للشَّيْخِ: قِنَّسرِيّ، وقيل: نزلَ بها رَجُلٌ يُقالُ لهُ مَيْسَرة، فقال: ما أشْبَه هذه بِقنّ نَسْرين، فبَنَى منهُ اسْمًا للمَكان.
وقال مُحمَّدُ بن سَهْل الأحْوَل في كتاب الخَرَاج
(2)
: قِنَّسْرِيْن سُمِّيَت برجُلٍ من قَيْسٍ يُقالُ لهُ مَيْسَرة، وذلك أنَّه مرَّ به رجُلٌ فقال له: ما أشْبَه هذا المَوْضِع بقنّ نَسْرين، فسُمِّيَت بذلك.
أخْبَرَنَا أبو عَليّ حَسَن بن أحمد الأوَقيِّ بالبَيْت المُقَدَّس، قال: أخْبَرَنَا الحَافِظُ أبو طَاهِر أحمد بن مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم السِّلَفِيُّ الأصْبَهانيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن أحمد بن مُحمَّد بن المُسَبّح، قال: أخْبَرَنَا أبو إسْحاَق إبْرَاهِيْم بن سَعيد الحَبَّال، قال: أخْبَرَنَا أبو العبَّاس مُنِير بن أحمد بن الحَسَن بن مُنِير الخَشَّاب، قال: أخْبَرَنَا عليّ بن أحمد بن إسْحَاق البُغْدَادِيّ، قال: أخْبَرَنَا الوَلِيد بن حَمَّاد الرَّمْليّ، قال: أخْبَرَنَا الحُسَيْنُ بن زياد، عن أبي إسماعيل مُحمَّد بن عَبْد الله البصري
(3)
، قال: وحدثني الحُسَيْنُ بن عَبْد اللهِ، قال: ثمّ إنَّ أبا عُبَيْدَة دَعا مَيْسَرة بن مَسْرُوق فسرَّحَهُ في ألفي فارس، فمَرَّ على قِنَّسْرِيْن فأخَذَ يَنْظر إليها في الجَبَل، فقال: ما هذه؟ فسُمِّيَت له بالرُّومِيَّةِ، فقال: إنَّها لكذلك، والله لكأنَّها قِنّ نَسْر!.
وقال أبو بَكْر بن الأنْبارِيّ
(4)
: قِنَّسْرُون أُخِذَتْ من قَوْلِ العَرَب: رَجُلٌ قِنَّسْرِيٌّ، أي مُسِنٌّ، وأنْشَد للعَجَّاج
(5)
: [من الرجز]
(1)
لم أقف على كتاب ابن المنيرة في أسماء البلدان.
(2)
لعله كتاب الخراج محمد بن محمد بن سهل العكبري (ت 423 هـ). الزركلي: الأعلام 7: 21.
(3)
فتوح الشام لأبي إسماعيل الأزدي 347.
(4)
كلام الأنباري وكلام الزجاج بعده أورده الرشاطي في اقتباس الأنوار (مخطوط الأزهرية) 2: 168 ب وياقوت في كلامه على قنسرين. معجم البلدان 4: 403.
(5)
ديوان العجاج: 480، وفي الصحاح للجوهري 2:791.
أطربًا وأَنْتَ قَنَّسْرِيُّ
…
والدَّهْرُ بالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ
وأَنْشَدَ غيره: [من البسيط]
وَقَنْسَرَتْه أُمورٌ فاقْسَأنَّ لَها
…
وقد حَنَى ظَهْرَه دَهْرٌ وَقد كَبِرَا
وقال أبو بَكْر بن الأنْبارِيّ: وفي إعْرابهِ وَجْهَان: يجوز أنْ تُجريها مَجْرى قولك: الزَّيْدُون، فتَجعلَها في الرَّفع بالواو فتقول: هذه قِنَّسْرُونَ، وفي النَّصب والخفْضِ بالياء، فتقول: مررْتُ بقِنَّسْرِيْن ودخَلْتُ قِنَّسْرِيْن، والوَجْهُ الآخرُ: أنْ تَجْعلَها بالياءِ على كُلِّ حالٍ، وتَجْعل الإعْرابَ في النُّون، فلا تَصرفها.
وقال أبو القَاسِم الزَّجَّاجيِّ: هذا الّذي ذَكَره ابن الأنْبارِيّ من طَريق اللُّغة، ولم يسمّ البَلَد كما ذكر، ولكنَّه روَى (a) أنَّها سُمِّيت برَجُلٍ من عَبْس (a) يُقالُ لهُ مَيْسَرة، وذلك أنَّه نَزَلها، فمَرَّ به رجُلٌ فقال: ما أشْبه هذا المَوْضِع بقنِّ نَسْرين (c)، فبُنِيَ منه اسْمٌ للمَكان، فقيل: قِنَّسْرِيْن؛ بفتح النُّون من قِنَّسْرِيْن.
وذكَر عَبْد الله بن علي بن عَبْد الله بن علي اللَّخْمِيّ ثم الرُّشَاطيِّ في كتاب اقْتباس الأنْوار، والْتماس الأزْهار، في أنْساب الصَّحابَة ورُواةِ الآثار، قال
(1)
: قال آخرون: دعا أبو عُبَيْدَة مَيْسَرة بن مَسْرُوق القَيْسيِّ (d) فوجَّهَهُ في ألف فارِس في أثر العَدُوّ، فَمرَّ على قِنَّسْرِيْن، فجعلَ يَنْظر إليها، فقال: ما هذه؟ فَسُمِّيَت له بالرُّوِميَّةِ، فقال: والله لكأنَّها قِنَّسْرِيْن؛ فسُمِّيت قِنَّسْرِيْن بذلك.
(a) الرشاطي وياقوت: ولكن رُوي.
(b) اقتباس الأنوار: من قيس.
(c) الرشاطي وياقوت: بقن سيرين.
(d) كذا نسبه، ومثله في مخطوطة كتاب اقتباس الأنوار، والمشهور في نسبته: العبسي، إلَّا أن يكون الرشاطي قد أراد نسبته للأرومة التي ينحدر منها العبسيون، وهم قيسية.
_________
(1)
اقتباس الأنوار للرشاطي (مخطوط المكتبة الأزهرية) 2: ورقة 168 ب.
قال الرُّشَاطِيُّ
(1)
: فهذا الخبر يدل على أن قِنَّسْرِيْن اسْم مكان آخر (a) عَرَفهُ مَيْسَرة القَيْسِيّ، فشَبَّه بهِ هذا، فسُمِّي به (b).
قُلتُ: وهذا وَهْمٌ من الرُّشَاطِيّ، وقد تصحَّفَ عليه قِنّ نَسْرين، أو قِنّ نَسْر، على ما ذَكَرناهُ بقِنَّسْرِيْن، فقال ما قال، ولعلَّه بلَغَهُ أنَّ حِيَار بني القَعْقَاع يُقالُ لها قِنَّسْرِيْن أيضًا، فوقعَ في هذا الوَهْم، ولا يُمكن الاعْتِداد بذلك، فإنَّ مَنْ ذهبَ إلى ذلك جَعَل مَدِينَة قِنَّسْرِيْن هي قِنَّسْرِيْن الأُوْلَى، وحِيَار بني القَعْقَاع هي قِنَّسْرِين الثَّانيَة، فلا يمكن تشبيه الأُوْلَى بالثَّانيةِ.
أخْبَرَنَا أحمدُ بن عَبْد الله بن عُلْوَان، قال: أخْبَرَنَا القَاضِي أبو البَرَكَات مُحمَّد بن حَمْزَة العِرْقيِّ إجَازَةً، قال: وأخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْد الدَّائم بن عُمَر بن حُسين سَمَاعًا منه، قال: أخْبَرَنَا أبو البَرَكَات بن العِرْقيِّ، قال: أخْبَرَنَا أبو القاسم عليّ بن جَعْفَر المَعْرُوفُ بابنِ القَطَّاع، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْرٍ مُحمَّد بن البرِّ اللُّغَويّ، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد إسْمَاعِيْل بن مُحمَّد النَّيْسَابُوريُّ، قال: أخْبَرَنَا أبو نَصْرٍ إسْمَاعِيْل بن حَمَّاد الجَوْهَرِيُّ، قال
(2)
: وقِنَّسْرُون بَلَدٌ بالشَّام، بكَسْر القافِ والنُّون مُشدَّدةٌ تُكْسرُ وتُفْتح، وأنشدَ ثَعْلَبٌ بالفَتْح هذا البيت لعِكْرِشَةَ العَبْسِيّ
(3)
: [من الطويل]
سَقَى اللهُ فِتْيَانًا وَرائي تَرَكْتُهُم
…
بحَاضِرِ قِنَّسْرِيْنَ مِنْ سَبَلِ القَطْرِ
قال: والنِّسْبَةُ إليه قِنَّسرِيُّ، وإنْ شئتَ: قِنَّسْرِيْنيّ.
وقع إليَّ كتابٌ ألَّفهُ أبو الحُسَيْنُ أحمدُ بن جَعْفَر بن مُحمَّد بن عُبَيْدِ الله المُنَادِي سَمَّاهُ: الحَافِظ لمَعَارف حَرَكات الشَّمْس والقَمَر والنُّجُوم في آفاقها، والأقالِيْم وأسْماء
(a) اقتباس الأنوار: أن قنسرين موضع آخر.
(b) قوله: "فسمي به" ليس في اقتباس الأنوار.
_________
(1)
اقتباس الأنوار للرشاطي 2: ورقة 169 أ.
(2)
الجوهري: الصحاح 2: 791 - 792.
(3)
مجالس ثعلب 1: 201.
بُلْدانها في سيَاقها
(1)
، وهو مَسْموعٌ عليه، وأحْسَبُه بخطِّهِ، فقَرَأتُ فيه: حَدَّثَنَا جَدِّي رحمه الله، قال: حَدَّثَنَا رَوْح بن عُبَادَةَ، قال: حَدَّثَنَا أشْعَثُ وسَعيد جميعًا، عن الحَسَن أنَّه قال: الأمْصارُ: المَدِينَة، والشَّام، ومِصْر، والجَزِيَرة، والكُوفَة، والبَصْرَة، والبَحْرين.
قال ابنُ المُنَادِي
(2)
: وحَدَّثَنِي جَدِّي، قال: حَدَّثَنا رَوْحٌ، قال: حَدَّثَنَا سَعيدٌ، عن قَتَادَة أنَّه كان يَجْعلُها عشرةً: المَدِينَة، ومِصْر، والكُوفَة، والبَصْرَة، ودِمَشْقَ، والجَزِيرَة، وحِمْص، والأُرْدُنّ، وفِلَسْطين، وقِنَّسْرِيْن.
وقال ابنُ المُنَادِي: الشَّاماتُ خَمْسُ كُوَر: الأُوْلَى قِنَّسْرِيْن، ومَدِينتها العُظْمَى حَلَب، وقِنَّسْرِيْن أقدَمُ منها، وبينهُما أرْبعةُ (a) فَرَاسِخ، وبها آثار الخَلِيل عليه السلام ومَقامُه، وقد نَزَلها أكابرُ المُلُوك كبني حَمْدَان وغيرهم.
قال: ومن رُسْدَاقِها مَنْبج، وهي مَدِينَةٌ قديمةٌ.
وذكَرَ ابنُ حَوْقَل النَّصِيْبِيِّ في كتابه، قال في ذِكْر جُنْد قِنَّسْرِيْن
(3)
: هي مَدِينَة تُنْسبُ الكُوَر (b) إليها، من أضْيَق النَّواحي بناءً وإنْ كانت نَزِهَة الظَّاهر، مَعُونَةً (c)
(a) الأصل و ك: أربع.
(b) ابن حوقل: الكورة.
(c) ابن حوقل: مغوثة.
_________
(1)
لم يصلنا كتابه هذا، مثلما لم تصل الكثير من مؤلفاته التي قدرها النديم بنحو 120 كتابًا، واطَّلع ابن العديم على ستّة منها كانت بين يديه حسبما يذكر في ترجمته الآتية (الجزء الثاني)، من بينها كتاب الملاحم الذي نقل عنه المؤرخ ابن عساكر في عشرة مواضع. (طلال الدعجاني: موارد ابن عساكر في تاريخ دمشق 474). ومؤلف الكتاب هو الإمام المقرئ الحافظ أحمد بن جعفر بن مُحمَّد بن عبيد الله بن يزيد المنادي البُغْدَادِيّ (ت 336 هـ). أما كتابه هذا "الحافظ المعارف حرکات الشمس" فقد نقل عنه أيضًا سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 1: 61.
(2)
كلام ابن المنادي هذا نقله أيضًا سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 1: 61.
(3)
صورة الأرض 178.
في مَوْضِعها لما كان بها من الرُّخْصِ والسَّعَةِ في الأسْعَار والخَيْرات (a) والمياه، اكْتَسحَها الرُّوم، فكأنَّها لم تكن إلَّا بقايا دِمَن، وجميع جُنْد قِنَّسْرِيْن أعْذَاءٌ، وشُرْبُهم من السَّماءِ، وهي مَدِينَة كَثِيْرة الخَيْر والسَّعَة، وبها الفُسْتُق والتِّيْن وما شاكلَ ذلك.
قَوْله: وشُرْبُهم من السَّماءِ، يعني: ضَواحي قِنَّسْرِيْن وقُراها، أما المَدِينَة نَفْسُها فقُوَيْقٌ يَمرُّ بجانبها، وكانت القَناة من بِرْكَةِ عين المُبارَكة بقُربِ حَلَب، يأتي ماؤُها إلى مَدِينَة قِنَّسْرِيْن، وكانت القَناة قد سِيقَت في لِحْف الجَبَل عند الوُضَيْحيّ
(1)
إلى صِلْدِي
(2)
، ثمّ سِيْقَت تحت الأرْض إلى أن انْتَهت إلى القَناطر، وهي قَريةٌ من عَمَلها، فعُقِدَتْ لها قَناطِر رَفِيْعة، ورُفع ماء القناة فَوْقها إلى أنْ انْتَهى إلى مكان مُرتفع، فَسِيقَت تحت الأرْض إلى مَدِينَة قِنَّسْرِيْن، فكان شُرْب أهل قِنَّسْرِيْن منها، وأدْرَكْتُ أنا مُعْظم أسْوارها، وبعض أسْوار قَلْعتها، وأبواب مَدِينتها قائمة.
وكان سُلَيمان بن قُطَلْمِشِ بعد قَتْلِه مُسْلِم بن قُرَيْشٍ، قد اسْتولَى على قِنَّسْرِيْن، وعَمَّرَ قَلْعتها، وتحصَّنَ فيها، وحَصَر حَلَب، فاتّفق على ما اتَّفق من قَتْله على ما نَذْكرهُ
(a) كتب فوقها حرف ح وقيد بموازاته في الهامش: والحيوان نسخة! ولعله ينبه إلى أن هذا جاء في إحدى نسخ ابن حوقل، والذي في نشرة ابن حوقل سقطت منه كلمة: الأسعار.
_________
(1)
الوضيحي: قرية تقع جنوب مَدِينَة حلب، على الضفة اليسرى لنهر قويق، وتبعد عن حلب مسافة 12 كم، وكانت من منتزهات المَدِينَة، ثم أصبحت من أحيائها. الغزي: نهر الذهب 1: 17، الأسدي: أحياء حلب 370، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 5:487.
(2)
صلدي: وترد عند ابن العديم أيضا برسم: صلدع (الجزء الخامس)، ومثله في زبدة الحلب مرة (1: 402): صلدع، ومرة أخرى (2: 457): صلدي، ويفهم من كلام ابن العديم أنها قرية قريبة من مَدِينَة حلب على نهر قويق، تقع جنوب حلب فيما بين الوضيحي وقنسرين، أغفل ياقوت ذكرها، وذكرها المعري في رسالة الصامل والشاحج 635 برسم: صَلْدع، وانظر: تاريخ ابن الفرات 5/ 1: 154.
في تَرْجَمَتِهِ
(1)
، فَخرِبَت قَلْعَة قِنَّسْرِيْن مع المَدِينَة، وأخذَ النَّاس حجارتها لعَمَائِرهم، وسُكُورة الأرْحَاء. وبنَى مَحْمُود بن زَنْكِي أوَّلًا خان قِنَّسْرِيْن منها، وزادَهُ أتَابِك طُغْرِل الظَّاهِريّ ثانيًا.
ونُقِلَ من عَمَد المَدِينَة إلى حَلَب شيءٌ وافِر، وقل أيضًا من حجارتها إلى الجِسْر الّذي جَدَّدَهُ سَيْف الدِّين عليّ بن سُلَيمان بن جَنْدر (a) في الوطاة، ورصَفَهُ بالحِجَارَة، وفي الخان الّذي جدّدهُ بتلِّ السُّلْطَان، فتَدَاعَت أقْطَارها، وأمَّحَت آثارها، ولم يبقَ منها اليوم غير قَرْيَة قِنَّسْرِيْن يَسْكنها الفَلَّاحُون والأَكَرَة، ويَرى مَنْ شاهد آثارَها فيها مُعْتَبَرَهُ!.
وقال أبو العبَّاس أحمدُ بن إبْرَاهِيْم الإصْطَخْرِيّ، في كتاب صِفَة الأقالِيْم
(2)
: وقِنَّسْرِيْن مَدِينَة تُنْسبُ إليها الكُوَر (b)، وهي من أصْغر المُدُن بها.
وقَرَأتُ في بعض كُتُبي من تواريخ القُدماء، ولم يُسَمّ القائل: أنَّ سَلُوْقُوس، وهو المَلِك الأوَّل بعد الإسْكَنْدَر، بَني فَامِيَة، وحَلَب، وقِنَّسْرِيْن، وقد ذَكَرتُ ذلك
(3)
، واللهُ أعْلَمُ.
(a) في الأصل: خدر، انظر ترجمته في التاريخ المنصوري لابن نظيف الحموي 114، مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي 22: 276، والأعلاق الخطيرة 1/ 1: 350، والبداية والنهاية 13: 108، وعقد الجمان للعيني 2: 221، 4: 131، والنجوم الزاهرة 6: 30، 41، وانظر ترجمة ألب أرسلان السلجوقي في الجزء الرابع.
(b) عند الإصطخري: الكورة.
_________
(1)
ترجمة سليمان بن قطلمش في الضائع من الكتاب، ويعرض في ثنايا بعض التراجم لشيء من أخباره، خاصة تراجم من اتصلت علاقته بهم من أمثال سالم بن مالك بن بدران، انظر عن سليمان بن قطليش: قطع تاريخية من كتاب عنوان السير للهمذاني 192، الكامل لابن الأثير 10: 36 - 37، 138 - 141، 147 - 148، زبدة الحلب 1: 313 - 320، أخبار الدولة السلجوقية للحسيني 72، تاريخ ابن الوردي 1: 575 - 577، ابن خلدون: العبر 9: 83 - 85، وانظر عن مسلم بن قريش العقيلي وأخباره ومقتله: ابن الأثير 10: 114 وما بعدها، وزبدة الحلب 1: 303 - 319، وابن خلدون: العبر 7: 825 - 831.
(2)
الإصطخري: مسالك الممالك 61.
(3)
إحالة على باب ضائع في أول الكتاب.
قُلتُ: ويُقال لقِنَّسْرِيْن هذه: قِنَّسْرِيْن الأُوْلَى، كَذا ذكَرَهُ ابن الطَّيِّب وابن وَاضِح؛ وقال ابن وَاضِح
(1)
: وقِنَّسْرِيْن الثَّانيَة، هي حِيَار بني القَعْقَاع.
وقال ابن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ في رحْلة المُعْتَضِد: ورَحَل الأَمِير نحو قِنَّسْرِيْن الأُوْلَى؛ وقِنَّسْرِيْن مَدِينَة صغيرةٌ لأخي الفُصَيْص التَّنُوخيّ، وعليها سُورٌ، ولها قَلْعَةٌ، وسُورها مُتَّصلُ بسُور سَائر المَدِينَة.
وقال ابن وَاضِح
(2)
: وكُورَة قِنَّسْرِيْن الأُوْلَى، وهي مَدِينَة على جادَّةِ الطَّريق الأعْظَم، وبها قَومٌ من تَنُوخ.
وقال أبو زَيْد أحمَد بن سَهْل البَلْخِيّ، في كتاب صُورة الأرْض والمُدُن
(3)
: وقِنَّسْرِيْن مَدِينَةٌ تُنْسبُ الكُورَةُ إليها، وهي من أخْصَب (a) المُدُن.
وقال أيضًا: وأمَّا جُنْد قِنَّسْرِيْن، فإنَّ مَدِيْنتها قِنَّسْرِيْن، غيرَ أنَّ دار الإمَارة والأسْواق ومَجامِعَ النَّاس والعِمارات بحَلَب.
(a) في مخطوط البلخي: أصغر.
_________
(1)
ضاع القسم الخاص بجند قنسرين من كتاب البلدان لليعقوبي، ولم يتبق من كلامه على الجند سوى بضعة أسطر، وتبقَّى أيضًا بعض الإفادات المتعلقة بمواضع تردد نسبتها بين جند حمص وجند قنسرين، مثل معرة النعمان وفامية وكفر طاب وحماة. انظر: البلدان 323 - 324، والنصوص التي حفظها ابن العديم تغطي - بمزيد الاطمئنان - أغلب ما ضاع من هذا القسم، ومن المتبقي من كتاب ابن واضح مما يتصل بالنقل أعلاه قوله:"ومن أراد أن يسلك على الطريق الأعظم إلى المغرب خرج من حلب إلى مَدِينَة قنسرين". البلدان 323.
(2)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لليعقوبي.
(3)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 أ.
واعْلم أنَّ لحَلَب من هذه الفَضِيلَة الحَظّ الأوْفَر، والنَّصيب الأكْثَر؛ لأنَّ ذِكْر قِنَّسْرِيْن - في الغَالِب؛ عند الإطْلاقِ - يَنْصَرفُ إلى جُنْد قِنَّسْرِيْن، فيَتناول ناحيتها، وقد بيَّنا فيما تَقَدَّم أنَّ قَصَبتها حَلَب، وأنَّها المَدِينَة العُظْمَي، فشَارَكتها في هذه الفَضِيلة المَذْكُورَة.
أخْبَرَنَا أبو الحَجَّاج يُوسُف بن خَلِيل بن عَبْد اللهِ الدِّمَشْقِيِّ، فيما أَذِنَ لَنا فيه، قال: أخْبَرَنَا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن أبي زَيْد بن حَمدٍ الكَرَّانِيِّ (a)، وأبو جَعْفَر مُحمَّد بن إسْمَاعِيْل الطَّرَسُوسيِّ، قالا: أخْبَرَنَا مَحْمُودُ بن إسْمَاعِيْل الصَّيْرَفيِّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحُسَيْنُ بن فَاذْشَاه، قال الطَّرَسُوسِيُّ: وأخْبَرنا أبو نَهْشَل العَنْبَرِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْر بن رِيْذَة، قالا: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم سُلَيمان بن أحمد الطَّبَرَانِيِّ، قال: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن أحمد بن حَنْبَل، قال: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بن حُرَيْثٍ، قال: حَدَّثَنَا الفَضْلُ بن مُوسَى، عن عِيسَى بن عُبَيْدٍ، عن غَيْلَانَ بن عَبْد الله العَامِرِيِّ، عن أبي زُرْعَةَ بن عَمْرو بن جَرِير، عن جَرْير، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال
(1)
: إنَّ اللهَ عز وجل أوْحَي إليَّ: أيَّ هؤلاءِ الثَّلاث (b) نَزَلتَ فهي دَارُ هِجْرتك: المَدِينَة، أو البَحْرين، أو قِنَّسْرِيْن.
وأخْبرنا أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن الكِنْدِيّ إذْنًا، وأبو مُحمَّد عَبْد العَزِيْز بن الأخْضَر مُكاتَبَةً، قالا: أخْبَرَنَا أبو الفَتْح عَبْد المَلِك بن أبي القَاسِم الكَرُوخِيّ (c)، قال: أخْبَرَنَا أبو عَامِر مَحْمُودُ بن القَاسِم الأزْدِيُّ، قال: أخْبَرَنَا عَبْد الجَبَّار بن مُحمَّد
(a) ضبطه في هذا الموضع بسكون الراء، وتقدَّم في أول الكتاب مشددًا وهو الصواب، نسبةً إلى محلة مشهورة بأصبهان. ياقوت: معجم البلدان 4: 444.
(b) الترمذي: الثلاثة، وهي لفظة تأتي في الرواية بعده.
(c) ضبطها بسكون الراء.
_________
(1)
الترمذي: الجامع 6: 206 (رقم 3923)، المستدرك للحاكم 3: 3، دلائل النبوة للبيهقي 2: 458، المسند الجامع 4: 525 - 526 (رقم 3184).
الجرَّاحِيُّ، قال: أخْبَرَنَا مُحمَّد بن أحمد المَحْبُوبِيُّ، قال: أخْبَرَنَا أبو عِيسَى مُحمَّد بن عِيسَى التِّرْمِذيُّ الحَافِظُ، قال: حَدَّثَنَا أبو عَمَّارٍ الحُسَيْنُ بن حُرَيْث، قال: حَدَّثَنَا الفَضْلُ بن مُوسَى، عن عِيسَى بن عُبَيْدٍ، عن غَيْلَان بن عَبْد اللهِ العَامِرِيّ، عن أبي زُرْعَة بن عَمْرو بن جَرِير، عن جَرِير بن عَبْد اللهِ البَجَليّ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال
(1)
: إنَّ اللهَ أوْحَي إليَّ: أيَّ هؤلاء الثَّلاثة نزلتَ فهي دار هجرتِكَ: المَدِينَة، أو البَحْرين، أو قِنَّسْرِيْن.
قال أبو عِيسَى التِّرْمِذيُّ
(2)
: غَريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلَّا من حَدِيثِ الفَضْل بن مُوسَى، تَفَرَّدَ بهِ أبو عَمَّارٍ. وقد تابَع أبا عَمَّار الحُسَيْنُ بن حُرَيْثٍ جَعْفَر بن مُحمَّد الخُرَاسَانيّ، فرَواهُ عن الفَضْل بن مُوسَى السِّيْنَانِيّ.
أخْبرناهُ شَيْخَنا الزَّاهِدُ الحَافِظُ أبو مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد الله بن عُلْوَان الأسَدِيّ الحَلَبِيّ مُشَافهةً، قال: أخْبَرَنَا الحَافِظُ أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن الشَّافِعِيّ
(3)
، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم نَصْر بن أحمَد بن مُقَاتِل، قال: أخْبَرَنَا جَدِّي أبو مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا أبو عَليّ الحَسَن بن عليّ بن إبْرَاهِيْم، قال: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم حَمْزَةُ بن عَبْد الله بن الحَسَن (a) الأديبُ بأطْرَابُلُس، قال: حَدَثَنَا القَاضِي أبو نَصْر مُحمَّد بن مُحمَّد بن عَمْرٍو النَّيْسَابُوريّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم بن نَيْرُوز الأنْمَاطِيّ، قال:[حَدَّثَنَا](b) جَعْفَر بن مُحمَّد الخُرَاسَانيّ، قال: حَدَّثَنَا الفَضْل بن مُوسَى، عن عِيسَى بن عُبَيْد، عن غَيْلَان بن عَبْد الله العَامِرِيّ، عن أبي زُرْعَةَ، عن جَرْير بن عَبْد اللهِ (c)، عن النَّبِيّ
(a) تاريخ ابن عساكر: الحسين.
(b) ساقطة من الأصل والتعويض من تاريخ ابن عساكر.
(c) تاريخ ابن عساكر: عن أبي زرعة عن عبد الله.
_________
(1)
الجامع الكبير 6: 206.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تاريخ ابن عساكر 55: 188.
صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال
(1)
: إنَّ اللهَ أوْحَى إليَّ: أيَّ هؤلاءِ نَزلتَ فهي دَار هجرتِك: المَدِينَة، أو البَحْرين، أو قِنَّسْرِيْن.
وقد تابَع الفَضْلَ بن مُوسَى السِّيْنَانِيّ عليٌّ بن الحَسَن بن شَقِيق، فرَواهُ عن عِيسَى بن عُبَيْد الكِنْدِيّ، عن غَيْلَان بن عَبْد الله العَامِرِيّ.
أخْبَرناهُ زَيْن الأُمَناءِ أبو البَرَكاتِ الحَسَن بن مُحمَّد بن الحَسَن بدِمَشْق، قال: أخْبَرَنَا عَمِّي الحافِظُ أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن الشَّافِعِيُّ، إجَازَةً إنَّ لم يَكُن سَمَاعًا قال: أخْبَرَنَا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن الفَضْل الفَرِاوِيّ، ح.
وأخْبرنا المُؤيَّد بن مُحمَّد الطُّوسِيّ، وزَيْنَب بنْتُ الشَّعْرِيّ في كتابيهما إليَّ من نَيْسابُور، عن أبي عَبْد الله الفَرَاوِيّ، ح.
قالت زَيْنَبُ: وأنْبَأنا أبو المُظَفَّر القُشَيْرِيُّ، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْر البَيْهَقيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو عَبْد الله الحَافِظ إمْلاءً
(2)
، قال: أخْبَرَنَا أبو العبَّاسِ القَاسِم بن القَاسِم السَّيَّارِيّ بمَرْو، قال: أخْبَرَنَا إبْرَاهِيْم بن هِلالٍ، قال: حَدَّثَنَا عليّ بن الحَسَن بن شَقِيق، قال: حَدَّثَنَا عِيسَى بن عُبَيْد الكِنْدِيّ، عن غَيلْاَن بن عَبْدِ الله العَامِرِيّ، عن أبي زُرْعَة بن عَمْرو بن جَرْير، عن جَرْير أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ اللهَ تبارك وتعالى أوْحَى إلي: أيَّ هؤلاء البِلاد الثَّلاث نزلْتَ فهي دَار هجرتكَ: المَدِينَة، أو البَحْرَيْن، أو قِنَّسْرِيْن.
قال أبو عَبْد اللهِ الحاكِم في المُستَدرَكِ على الصَّحِيحَيْن
(3)
: هذا حديثٌ صَحيحُ الإسْنادِ، ولم يُخَرِّجاهُ.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أبو عبد الله الحاكم: المستدرك 3: 2 - 3.
(3)
المستدرك 3: 3.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه توفيقي
بابٌ في ذِكْرِ أَنْطاكِيَة، وتَسْميتها بهذا الاسْم، ولقَبها، ومَعْرفة مَنْ بَناهَا، وما قِيْل فيها
(1)
وهي من الإقْليم الرَّابِع أيضًا، وكانت دار المُلْك للرُّوم، إلى أنْ كانت وَقْعَة اليَرْمُوك، ونَصَرَ اللهُ المُسْلِمِيْن، فلم تَقُم للرُّوِم رايةٌ بعدَها، فانْتَقل المُلْك عن أَنْطاكِيَة إلى القُسْطَنْطِينِيَّة، ولمَّا انْفَصَل هِرَقْل عنها، وخَرَجَ طَالِبًا القُسْطَنْطينِيَّة، الْتَفَتَ نحو الشَّام - عندما جاوَزَ الدَّرْب. وقال: عليكِ يا سُورْيَة السَّلام. وسُورْيَة
(1)
أنطاكية Antakié: مدينة في أقصى الغرب من جند قنسرين قريبًا من الساحل، تقع على خط العرض 36.14 والطول 36.10، اختلف الجغرافيون في توصيفها؛ فمرة كورة من الثغور الشامية أو العواصم، وقيل قصبة العواصم، وأخرى من جند قِنِّسرين، وثالثة من كور الشام، وهي مدينة قديمة ذكرها سترابون (ت 21 م) وسماها المدينة الأم أي: عاصمة سوريا، وكان فيها القصر الملكي لحكام البلاد، وهي تقع غرب حلب على بعد 110 کم، أو مسيرة يوم وليلة، واعتبرها بعض الجغرافيين - على التقريب - على ساحل البحر المتوسط، لكنها تبعد عنه مسافة 36 كم، وهي في لحف جبل يطل عليها من شرقيها، ويحجب عنها الشمس عند الشروق لمدة ساعتين، وعليها سور من الصخر يعدُّ من عجائب البلدان، ويمتد السور - بمقاييس العصر - بطول 12 کم، وفيه 360 برجًا، وكانت أنطاكية بطريركية، وفيها مجمع البطارقة، وكان يتبع لها عدة ضياع وقرى خصبة. انظر عن جغرافية المدينة وتاريخها وكنيستها "القسيان": سترابون: جغرافية 41، ابن خرداذبة: المسالك 75، 99، اليعقوبي: البلدان 362، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 83، 107، ابن الفقيه: البلدان 109، 180، 190، قدامة: الخراج 177، الإصطخري: مسالك 62، ابن حوقل: صورة الأرض 179، 187، المسعودي: مُروج الذَّهب 2: 339، المسعودي: التنبيه 49، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 645، ياقوت: معجم البلدان 1: 266 - 268، أبو الفداء: تقويم البلدان 257، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، 412، الحميري: الرَّوض المعطار 38 (وورد فيه خطأً أن عدد أبراجها: 136 برجًا)، موستراس: المعجم الجغرافي 111 - 114، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 183 - 184،. M Streck H.A.R. Gibb، EI، Antakiya، I، Pp 516 - 517
هي الشَّام الخامسَة، وأَنْطاكيَة منها، وقد ذَكَرنا
(1)
أنَّ في طَرَف الأَحَصّ مَدِينَة خَرِبَةٌ يُقالُ لها: سُورْيَة.
وأَنْطاكيَة: أعْجَمِيَّةٌ مُعَرَّبةٌ، قيل: إنَّها بتَشْديد الياء، وقيل: بالتَّخفيف، واسْمها بالرُّومِيَّةِ: أنطُوغنيا (a).
أخْبَرَنَا أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن الكِنْدِيّ قراءةً عليه قال: أخْبَرَنَا أبو مَنْصُور مَوْهُوب بن أحمد بن مُحمَّد بن الخَضِر الجَوَالِيْقِيُّ، قال في كتابهِ فيما تَلْحن فيه العامَّة
(2)
: وممَّا يُشَدَّدُ، والعَوَام تُخفِّفه، قال: وأَنْطاكِيَة بتَشْديد الياءِ.
وقال أبو مَنْصُور في كتابهِ المُعَرَّب
(3)
: وأَنْطاكِيَّةُ اسْم مَدِينَة مَعْروفةٍ مُشَدَّدةُ الياءِ، وهي أعْجَميَّةٌ مُعَرَّبةٌ، وقد تكلَّمَت بها العَرَبُ قديمًا، وكانوا إذا أعْجَبهم عَمَلُ شيءٍ نَسَبُوه إليها. قال زُهَيرٌ
(4)
: [من الطويل]
عَلَوْنَ بأَنْطاكِيَّةٍ فَوْق عَقْمَةٍ
…
وِرَادِ الحَوَاشِي لَوْنُها لَوْنُ عَنْدَم
قُلتُ: والمَشْهُور من شِعْر زُهَيْر: [من الطويل]
وعَالَيْن أنْمَاطًا عِتَاقًا وكلِّةً
…
وِرَادَ الحَوَاشي ..... البيت.
وقد جاء في رِوَايَةٍ كما ذكَره أبو مَنْصُور.
(a) وردت في الأصل وك: أنطوغينا، بتقديم المثناة التحتية، وترد صحيحة فيما بعد. وقارن بياقوت: معجم البلدان 1: 266.
_________
(1)
هذه هي الإحالة الوحيدة التي تشذُّ عن إعادة ترتيب أجزاء الكتاب، كما بينَّاه في المقدمة، إذ أن هذا الكلام يرتبط بنص سيأتي فيما بعد، في ثنايا الكلام على جبل الأحص، ولعل المؤلِّف ذكر ذلك أيضًا في الفصل - أو الفصول - التي ضاعت من أول كتابه، فتكون إحالته هذه موافقة للترتيب الذي اعتمدناه.
(2)
الجواليقي: تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة 13.
(3)
المعرب من الكلام الأعجمي 25.
(4)
ديوان زهير بن أبي سلمي 76، ورواية الديوان مباينة للروايتين الواردتين.
أنْبَأنَا زَيْد بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنَا أبو الفضل بن نَاصِر، قال: أخْبَرَنَا أبو زَكَرِيَّاء التَّبْرِيْزِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد الدَّهَّانُ اللُّغَويّ، قال: أخْبَرَنَا عليُّ بن عِيسَى الرُّمَّانِيّ، عن ابن مُجَاهِدٍ القارئ، عن أبي العبَّاس ثَعْلَب، ح.
وقال ابنُ نَاصِر: وأخْبَرَنا الحُمَيْدِيّ سَمَاعًا من لفْظِه، قال: أخْبَرَنَا الشَّيْخُ أبو غَالِب أحْمدُ بن مُحمَّد بن سَهْل النَّحْويّ الوَاسِطِيّ، قال: قَرأتُ على أبي الحُسَيْن بن دِيْنار، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْر بن مِقْسَم، قال: حَدَّثَنَا أبو العبَّاس ثَعْلَب، وأنْشَدَ بيتَ زُهَيْر
(1)
: [من الطويل]
وعَالَين أنماطًا عتاقًا وكَلِّةً
…
ورَادَ الحَوَاشِي لَوْنُه لَون عَنْدَم
وقال: ويُروَي: [من الطويل]
عَلَوْنَ بأَنْطاكِيَّةٍ فَوْقَ عَقْمَةٍ
…
ورادِ الحَواشي لَوْنُهُ لُوْنُ عَنْدَم
وقال في تَفْسِيره: أَنْطاكِيَّةُ. أنْمَاطٌ تُوضَعُ على الخُدُور، نسَبَها إلى أَنْطاكِيَة، قال: وكُلّ شيءٍ عندَهُم من قِبَل الشَّام فهو أنْطَاكِيٌّ.
قُلتُ: وقال كُثيِّرُ بن عَبْد الرَّحْمن الخُزَاعِيّ
(2)
: [من الطويل]
أَهَاجَتْكَ سُعْدَى إذ (a) أَجَدَّ بكُورُها
…
وحُفَّتْ بأَنْطَاكِيّ رَقْم خُدُورُهَا
وذَكَر أبو العلاءِ أحمد بن عَبْد اللهِ بن سُلَيمان المَعَرِّيّ في اللّامع العَزِيزِيّ
(3)
: قيل: إنَّما سُمِّيَت أَنْطاكِيَة؛ لأنَّ الّذي بناها يُقالُ له: أنطيخنُوسْ المَلِكُ، ولا شَكَّ أنَّ لَفْظَها قد عُرِّبَ بعضَ التَّعْرِيب، فلَوْ أنَّها عربيَّةٌ لوَجَبَ أنْ تكُونَ من النَّطْكِ، ولم يَذْكُر ذلك أحَدٌ من الثِّقاتِ.
(a) الديوان: أهاجتك سلمى أمْ.
_________
(1)
ديوان زهير بن أبي سلمي 76.
(2)
ديوان كثير عزة 312.
(3)
اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي 1: 140.
قال أبو العَلاء
(1)
: أَنْطاكِيَةُ بلدٌ قديمٌ، وقد ذَكَرَتْهُ العَرَبْ في أشْعارِها، وقيل: إنَّهم كانوا يقُولونَ لمَن جاءَ من الشَّام، ولِمَا جُلِبَ من مَتاعهِ: أنْطاكِيٌّ، ومنهُ قول امْرئ القَيْس
(2)
: [من الطويل]
عَلَوْنَ بأَنْطاكِيَّة فَوْقَ عَقْمَةٍ
…
كجِرْمَةِ (a) نَخْلٍ أو كجَنَّةِ يَثْرِبِ (b)
أي: بثياب أَنْطاكِيَّةٍ.
قال السُّكَّرِيّ: وهي قَريةٌ من قُرَى الشَّامِ، ويُقالُ لكُلِّ ما يأتي من الشَّام: أنْطاكِيٌّ.
وقَرَأتُ في كتاب أبي عُبَيْدٍ عَبْد الله بن عَبْد العَزِيْز بن مُحمَّد البَكْرِيّ؛ كتاب مُعْجَم ما اسْتَعْجَم، في ذِكْر ما جاءَ في أشْعار العَرَب من الأماكن، قال
(3)
: أَنْطاكِيَةُ بتَخْفيفِ الياءِ، مدينَةٌ من الثُّغُور الشَّاميَّةِ؛ مَعْروفةٌ، قال اللُّغَويُّونَ: كُلُّ شيءٍ عند العَرَب من قِبَلِ الشَّامِ فهو أَنْطاكِيٌّ، قال زُهَيرٌ
(4)
: [من الطويل]
وعَالَيْنَ أَنْطاكِيَةُ فَوْقَ عقْمَةٍ
…
وِرَادِ الحَوَاشِي لَوْنُهُ أو عَنْدَم
وقد وجَدْتُ بخطِّ عليّ بن حُمْرَان في ديوانِ شِعْر زُهَيْر هذا البيتَ، وكَتَب بخطِّه: نَسَبَها إلى أَنْطاكِيَةُ (c)، وكَتَب فَوْقَها: خف، وذَكَرَ أنَّه نقلَه من أصْلِ أبي الحُسَيْن عليّ بن مُحمَّد بن دِيْنار، وهي مُقَابلَةٌ بنُسخةِ أبي الفَتْح حُجْجُخ (d)، وذَكَرَ أنَّه
(a) في الأصل و ك: كحُرمَة، والمثبت من الديوان.
(b) في الأصل: يترب.
(c) كذا قيدها بالتخفيف، وأكده بكتب كلمة "خف" صغيرة فوق الياء.
(d) رسمها في الأصل: جخحج، وفي ك: حجحج، والصواب بجيمين وخاءين معجمتين، وهو: عبيد الله بن أحمد بن محمد (ت 358 هـ)، من الوراقين المشهورين بجودة الخط، "صحيح الكتابة، كتب بخطه حتى قال الناس إن يده من حديد". انظر ترجمته عند: ابن الأنباري: نزهة الأنباء 226 - 227، تاريخ بغداد 1: 114، 180، الوافي بالوفيات 19:346.
_________
(1)
اللامع العزيزي 1: 139.
(2)
ديوان امرئ القيس 74.
(3)
معجم ما استعجم 1: 200.
(4)
ديوان زهير بن أبي سلمى 76.
قابَل بها كتاب أبي عُمَر القُطْرُبُّلِيّ، وكتابًا بخطِّ أبي مُوسَى الحامِض، ونُسخةً بخطِّ أبي الحَسَن مُحمَّد بن مُحمَّد التِّرْمِذيّ، مَنْقُولة من أصْل أبي بَكْر بن مُجَاهِد، وذكر أبو الفَتْح أنَّه قابَلَ نُسْختَهُ بأصْلِ ابن الخَيَّاطِ، وقابَلَ أيضًا بأصْلِ أبي سَعيدٍ بخَطِّهِ، قال ابنُ حُمْرَان: وقرأتُهُ على أبي أحمد عَبْد السَّلام البَصْرِيّ، وسَمِعْتُهُ يقْرأُ على أبي الحَسَن عليّ بن عِيسَى صاحب أبي عليٍّ.
وقَرَأتُ في تاريخ أبي الثَّنَاء حَمَّاد بن هِبَةِ الله بن حَمَّاد الحَرَّانيّ
(1)
، بحَرَّان، قال: وقيل إنَّ إبْرَاهِيْم عليه السلام قال: أخبَرَني رَبِّي أنَّ أوَّل مَدِينَة وُضِعَتْ على وجهِ الأرْض حَرَّان، وهي العَجُوز، ثمّ بَابِل، ثمّ مَدِينَة تيونَه، ثمّ دِمَشْق، ثمّ صَنْعاء اليَمَن، ثمّ أَنْطاكِيَة، ثمّ رُوْميَة.
وهذا على خِلَاف ما يأتي من أنَّ بنائَها كان بعد مَوْت الإسْكَنْدَر.
وقال الحَسَنُ بن أبي الخَصِيْب الكَاتِب في كتاب الكَارِمِهْتَر في عِلْم أحْكام النُّجُوم
(2)
: أقسامُ الأرْض أرْبعة: أوَّلُها أَنْطاكِيَة وناحيةُ المَشْرِق، لها من البُرُوجِ: السَّرَطان والأَسَد والعَذْراء، ومن السَّبْعَة الشَّمْس والمُشْتَري.
قَرَأتُ بِخَطِّ مُحمَّد بن فُتُوح بن عَبْد الله الحُمَيْدِيّ الحَافِظ: أَنْطاكِيَة تُسمِّيها النَّصَارَي: مَدِينَةَ الله، ومَدِينَة المُلْكِ، وأُمّ المُدُنِ، لأنَّها أوَّل بلدٍ ظهرَت فيه
(1)
كتاب تاريخ حران لحماد الحراني من الكتب التي لم تصلنا، وأفرد ابن العديم ترجمة لمؤلفه، ذكر في آخرها أنَّه توفي سنة 598 هـ، وأنه "ألف لحَرَّان تاريخًا لمن دخلها ومن كان منها وبها من أهْل العِلْم والحَدِيْث وغير ذلك". انظر الجزء السادس من الكتاب.
(2)
الكارمهتر: كتاب في علم النجوم، ذكر النديم أنه يشتمل على أربعة كتب، هي: كتاب المدخل إلى علم الهيئة، كتاب تحويل سني العلَم، كتاب المواليد، كتاب تحويل سني المواليد، وعدد القفطي أسماء هذه الكتب كمؤلفات مستقلة إلى جانب كتاب الكارمهتر، وورد اسم المؤلف عند النديم والقفطي: الحسن بن خصيب، وزاد القفطي أنه فارسي النسب، وأنه وقع اختبار ما أورده في كتاب الكارمهتر فلم يصح منها شيء. انظر: الفهرست للنديم 2/ 1: 240، تاريخ الحكماء للقفطي 165.
ونقل ابن العديم أيضًا من كتاب الكارمهتر في الكلام على نهر الفرات فيما يلي.
النَّصْرانيَّة، وبها كُرسِيّ بَاطْرَهْ، وهو المُقدَّم على التَّلاميذِ، وهو سَمْعُون
(1)
، وقيل: إنَّه هو الّذي ابْتَدأ بُنْيان الكَنِيْسَة بأَنْطاكِيَة، الّتي تُسمَّى القُسْيَان.
وقَرَأت بِخَطِّ الشَّريف إِدْرِيس بن حَسَن بن عليّ الإِدْرِيسِيّ
(2)
المُؤرِّخ ما ذكَرَ أنَّه نقلَهُ من تاريخ أَنْطاكِيَة لبَعْضِ النَّصارَي: أقلوذنوسْ ملكَ ثلاثَ عَشرة سَنَة وتسْعَة أشْهرٍ، وسُمِّيَ المُؤمنونَ بالمَسِيْح - يعني في أيَّامهِ - بأَنْطاكِيَة: نَصارَى، ومنها كان ابتداء النِّسْبة، وانتشر هذا الاسْم في سائر البلادِ.
وذَكَرَ في هذا التَّاريخ: يُوسْطلْيانُوس مَلَكَ تسعًا وثلاثين سنةً، وفي السَّنَة الثَّالثة من مُلْكِهِ خُسِفَ (a) بأَنْطاكِيَة. وأبصرَ رجُلٌ قَدِّيسٌ في نومهِ قائلًا يقُول له: تكتبُ على أبْوابِ المَدِينَة: الله مَعَنا، ومن ذلك اليوم دُعِيَتْ مَدِينَة اللهِ.
وقَرَأتُ في بعض تَواريخ المَسِيْحيَّة: أنَّ مَقام الرُّوم بأَنْطاكِيَة، وكانوا يَدْعونَها: مَدِينَة اللهِ، ومَدِينَة المُلْكِ، وأُمّ المُدُن، وإنَّما قيل لها أُمّ المُدُن؛ لأنَّها أوَّل بَلَدٍ ظهرَ فيه دين النَّصْرانيَّةِ، وسُمِّيت مَدِينَةَ اللهِ، لأنَّه خُسِفَ بها في السَّنَةِ الثَّالثة من مَمْلكة يُوسْطِلْيانُوس الرُّومِيّ، وأبصر رجُلٌ صالِحٌ في نَوْمِهِ قائلًا يقُول: تكتبُ على أبواب المَدِينَة: الله مَعَنا، فدُعِيَتْ من ذلك اليوم مَدِينَةَ الله.
(a) ضبطها في هذا الموضع. وكذا تاليه - بإسكان السين، إلا أن يكون قد وقع سقط وأن العبارة:" [حدث] خسف بأَنْطاكِيَة".
_________
(1)
سمّاه المنبجي: سمعون الصّفا، وأنه شرع في بناء الكنيسة في أول عهد الملك قلوديوس.
Agapius de Menbidj: Kitab Al - Unvan، Vol II/I. Pp 28
(2)
ترجمة إدريس الإدريسي (ت نحو 610 هـ) تأتي في الجزء الثالث، وذَكَرَ ابن العديم أن "له مصنفات عديدة ومجاميع في الأنساب والتواريخ مفيدة"، ولم يذكر من عناوينها شيئًا.
وأمَّا مَعْرفة مَن بنَاهَا:
فقَرَأتُ بِخَطِّ يَحْيَى بن جَرِير التَّكْرِيتِيّ، في كتابه الّذي ضَمَّنَهُ أوْقَات بناءِ المُدُن
(1)
، وقد قدَّمنا ذِكْرهُ
(2)
، قال: بَعْدَ دَوْلةِ الإسْكَنْدَر ومَوْته باثْنَتي عَشرة سَنة بَني سَلُوْقُوسْ اللَّاذقِيَّة، وسَلُوْقِيَة، وأفَامِيَة، وبارَوَّا؛ وهي حَلَب، وأَذَاسَا؛ وهي الرُّهَا، وكَمَّلَ بناءَ أَنْطاكِيَة، وكان بناهَا قَبْلَهُ، أعْني أنْطاكِيَة، أنيطغنُوسْ في السَّنَةِ السَّادِسةِ من مَوْتِ الإسْكَنْدَر.
قال يَحْيَى بن جَرِير: بنَى أنطيْغنُوسْ المَلِكُ على نَهْر أَوْرَنْطَسْ مَدِينَةً وسمَّاها أنطوغنيا وهي التي كمَّلَ سَلُوْقُوس بناءَها، وزَخْرَفها وسمَّاها على اسْم وَلده أنْطيُوخُوس، وهي أنْطاكِيَة.
وذَكَر أحمد بن مُحمَّد بن إسْحَاق الهَمَذَانِيّ المَعْرُوفُ بابنِ الفَقِيه، فيما قَرأتُه في كتاب البُلْدان وأخْبارها من تأليفه، قال
(3)
: وقال الهَيْثَم بن عَدِيّ: أنْطاكِيَةُ بناهَا أنْطِيخُشْ المَلِكُ الثَّالثُ بعد الإسْكَنْدَر.
وقد ذكَرنا عن أبي العَلاءِ
(4)
أنَّ الَّذي بَناها يُقالُ لهُ أنْطِيخنُوسْ المَلِك.
وقَرَأتُ في تاريخٍ قديم وقَعَ إليَّ، وعدَّدَ فيه مُلُوكَ سُورْيَة، قال: وهي بالشَّام، فذَكَرَ سَلُوْقُوسْ، وهو الّذي بنَى حَلَبَ وقِنَّسْرِيْن، ثمّ مَلَك بعدهُ أنطباخوسْ بن سوطر تسْعًا وعشرين سنةً، وبنَي أنْطاكِيَة، وسُمِّيَ الإلَه خَمْس عَشرة سنَةً.
(1)
أبو نصر يحيي بن جرير التكريتي (ت بعد 472 هـ)، تلميذ يحيى بن عدي، له اعتناء بالطب والفلك وغيره من العلوم، ترجم له ابن أصيبعة، ولم يذكر من بين مصنفاته ما يتصل بالمدن ومواقيتها، وأغلبها تتصل بالطب ومنافع الأدوية والرياضة، وأقرب العناوين للنقل أعلاه هو كتاب: المختار من كتب الاختيارات الفلكية، وهو كتاب كبير في علم النجوم رتَّبه على فصول وأبواب. انظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 328 - 329 (وفيه: الاختبارات)، کشف الظنون 2: 1624، الزركلي: الأعلام 8: 140.
(2)
في الأبواب الأولى الضائعة من الكتاب.
(3)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لابن الفقيه.
(4)
تقدم في هذا الباب "باب في ذكر أنطاكية".
وقَرَأتُ في تاريخ سَعيد بن بِطْرِيْق النَّصْرانيّ، قال
(1)
: ومَلَكَ بَطْلَمْيُوس مُحبّ أُمّهِ عشرين سَنَة، وفي أيَّامه غلَبَ على الشَّام وأرض يَهُوذا أنْطِياخُوسْ (a) مَلِك الرُّوم، فأخرج اليَهُود (b) من الشَّام، ونالَهم منهُ كلّ شِدَّة وعَذَابٍ. ومَلَكَ بعدَهُ أخوهُ بَطْلَمْيُوس ويُلَّقب أيضًا الصَّائغ (c) ثلاثًا وعشرين سَنَة، وفي أيَّامهِ بَني أنْطِياخُوسْ مَلِك الرُّوم أَنْطاكِيَة، وسمَّاها باسْمه، فسُمِّيَتْ مَدِينَةَ أنْطِياخُوسْ وهي أَنْطاكِيَة.
وقَرَأتُ في بعض ما عَلَّقْتُهُ من الفَوائِد: قيل إنَّ أوَّل من سَكَن أَنْطاكِيَة وعَمَّرها أَنْطاكِيَةُ بنْتُ الرُّوم بن اليَفَن بن سَام بن نُوح، وهي أختُ أَنْطالِيَةَ باللّام.
وقَرَأتُ في بعض تَواريْخ القُدماء
(2)
: قال أونيناوسْ: في السَّنَة الثَّالثة عَشر من تاريخ الإسْكَنْدَر بني سُولُوقس أَنْطاكِيَةُ.
قَرَأتُ بِخَطِّ غَرْس النِّعْمَة مُحمَّد بن هِلِّل بن المُحَسِّن في كتاب الرَّبيع
(3)
، وأنْبَأنَا به جَمَاعةٌ عن ابن البَطِّيّ، عن مُحمَّد بن فُتُوح الحُمَيْدِيّ، قال: أخْبَرَنَا غَرْس النِّعْمَة أنَّه نقلَ من خطِّ ابن بُطْلان الطِّيْب رسالةً كتبَها إلى والده هِلِّل بن المُحَسِّن، بعد خُرُوجهِ من بَغْدَاد، يُخْبره فيها بأحْوالِ البلاد الّتي مرَّ بها في سَفَره، وذلك في سَنةِ أرْبعين وأرْبَعِمائة، قال فيها
(4)
: وخرَجنا من حَلَب طَالِبينَ أَنْطاكِيَةُ، وبين حَلَب وبينها يومٌ وليلةٌ، فوَجَدنا المسافة الّتي بين حَلَب وأَنْطاكِيَة أرْضًا عامرةً لا خَرَابَ فيها أصْلًا، لكنَّها أرض زَرْع للحِنْطَة والشَّعِير تحت شَجر الزَّيْتُون، قُراها مُتَّصلَة،
(a) عند ابن بطريق حيثما يرد: انتيوخس.
(b) الأصل: الهد.
(c) الأصل: الصايع، ابن بطريق: الصناع.
_________
(1)
التاريخ المجموع 86، وانظر شبيه عند حمزة الأصفهاني: تاريخ سني ملوك الأرض 71.
(2)
انظر شبيهه عند المنبجي: 109 Unvan، Agapius de Menbidj;Kitab Al - Vol II. P 109
(3)
كتاب الربيع سلك فيه غرس النعمة (ت 480 هـ) مسلك كتاب نشوار المحاضرة لأبي على التنوخي. انظر: ياقوت: معجم الأدباء 5: 2280، ابن الساعي: الدر الثمين 144.
(4)
رحلة ابن بطلان 77، 89، 96.
ورياضُها مُزْهِرة، ومياهُها مُتَفجِّرة، يَقْطعُها السَّفْر في بالٍ رَخيّ وأمْن وسُكون.
وأَنْطاكِيَةُ بلدٌ عَظِيمٌ، ذو سُور وفَصِيْل، ولسُوره ثلاثمائة وستُّون بُرْجًا، يَطُوفُ عليها بالنَّوْبةِ أربعة آلاف حارس، يَنْفَذُونَ من القُسْطَنْطِينيَّة من حَضْرة المَلِك، يَضْمَنُون حِراسَةَ البَلَدِ سنةً، ويَسْتَبْدل بهم في السَّنَة الثَّانيةِ.
وسِكَكُ البَلَدِ كنصف دَائرة، قُطْرها يَتَّصِل بجَبل، والسُّور يَصْعَد مع الجَبَل إلى قُلَّتِهِ، فيتمُّ دائِرَهُ، وفي رأس الجبَل دَاخِل السُّور قَلْعَة تَبِيْنُ - لبُعْدِها عن البَلَدِ - صغيرةً، وهذا الجَبلُ يَسْتُر عنها الشَّمْسَ فلا تَطْلُع عليها إلَّا في السَّاعَة الثَّانية، وللسُّور المُحيط بها دُون الجَبَل خَمْسة أبواب، وفي وَسطها بِيْعَة القُسْيَان، وكانت دَار قُسْيَان المَلِك الّذي أحْيا ولدَهُ فُطْرُسْ رَئيس الحَوَارِييّن عليه السلام، وهو هَيْكَلٌ طُوله مائة خَطْوَة، وعرْضُه ثمانون، وعليه كَنِيْسَة على أسَاطين، وكان بِدَوْر الهيكَل أرْوِقَة يَجْلِسُ عليها القُضَاةُ للحُكُومة، ومُعَلِّمو (a) النَّحو واللَّغَة، وعلى أبواب هذه الكَنِيْسَة بَنْجَام (b) للسَّاعات يَعْمل ليلًا ونهارًا دائمًا، اثْنَتي عَشرة ساعةً، وهو من عَجائب الدُّنْيا، وفي أعْلاه خَمْس طَبَقات، في الخامسَة منها حَمَّامات وبَساتِيْن، ومَعاصِر حَسَنَة تَخرَّقُها المياهُ، وعِلَّة ذلك أنَّ الماءَ يَنْزل إليهم من الجَبلِ المُطِلّ عليهم، وهناك من الكَنَائِس ما لا تُحَدّ كَثْرةً، كُلّها مَعْمُولة بالفَصِّ المُذهَب، والزُّجَاج المُلَوَّن، والبلاط المُجَزَّع.
(a) الأصل: ومعلموا.
(b) كذا ذكرها بالجيم، وتحرفت في نشرة رحلة ابن بطلان 78، 97: فنجان، والمعروف: البنكام والبنكان، الساعة المائية المُتَّخذة لرصد الوقت، وما تضمَّنه كلام ابن بطلان يعدّ انْفرادًا لم نجده عند غيره من وجود ساعات مائية في كنيسة القسيان بأنطاكية، بينما عُرفت السَّاعات في قصور الخلفاء والسَّلاطين، وكانت على باب جيرون، أحد أبواب الجامع الأموي بدمشق ساعات مائية وصفها ابن جبير في رحلته. انظر رحلة ابن جبير 243 - 244، ودهمان: علم الساعات والعمل بها 26 وما بعدها.
ثُمَّ قال
(1)
: وظَاهِر البَلَدِ نَهْرٌ يُعْرفُ بالمَقْلُوب، يأْخُذُ من الجَنُوب إلى الشَّمَالِ، وهو مثلُ نَهْر عِيسَى، وعليه رَحَىً، يَسْقي البَساتِيْن والأراضي.
وقال أبو العبَّاسِ أحمد بن إبْرَاهِيْم الفارِسيّ الإصْطَخْرِيّ، في كتاب صِفَة الأقالِيْم
(2)
: أَنْطاكِيَة، وهي - بَعْد دِمَشْق - أنْزَهُ بلَد بالشَّام، عليها سُور صَخْر يُحيط بها وبَجَبل مُشْرف عليها، فيه مَزَارِع ومياه (a) وأشْجَار ومَراعٍ وأرْحِيَة، وما يَسْتَغِلُّ (b) به أهلُها من مَرافِقها، يُقال: إنَّ دَوْر السُّور للرَّاكب يومين، وتَجْري مياهُهُم في دُوْرهم وسِكَكهم، وبها مَسْجِد جامِع (c)، وبها ضِيَاع وقُرَىً ونواحي خِصْبَة جدًّا.
وقَرَأتُ في كتاب ابن حَوْقَل النَّصِيْبيِّ
(3)
، قال: والعَوَاصِم اسْم النَّاحِيَة، وليسَ بمَدِينَةٍ تُسَمَّى بذلك، وقَصَبَتها أَنْطاكِيَّة، وهي - بَعْد دِمَشْق - أنْزَهُ بَلَدٍ بالشَّام، وعليها إلى هذه الغايةِ سُور من صَخْرٍ يُحيط بها، وجبل (d) مُشْرفٍ عليها، فيه لهم مَزَارِع ومَراعي وأشْجَار وأَرحِيَة، وما يَسْتَغلُّ (e) بها أهلُها من مرافقها.
ويقال: إنَّ دَوْر السُّور للرَّاكب يَوم واحد. وتَجْري مياهُهُم في أسْواقهم ودُورهم وسِكَكهم ومَسْجِد جامعهم. وكان لها ضِيَاع وقرىً ونواحي خِصْبَة حَسَنة، اسْتولَى عليها الرُّوم، وكانت قد اختلَّت قبل افْتتاحها في أيْدِي المُسْلِمِيْن، وهي أيضًا في أيْدِي الرُّوم أشدّ اخْتلالًا، وفتَحَها الرُّوم في سَنَة تسعٍ وخَمْسين وثَلاثِمائة.
(a) لم ترد في نشرة الإصطخري.
(b) ك: يشتغل، الإصطخري: يستقل.
(c) الإصطخري: تجري مياههم في
…
ومسجد جامعهم.
(d) ابن حوقل: وبجبل.
(e) ك: يشتغل، ابن حوقل: يستقلّ.
_________
(1)
رحلة ابن بطلان 78، 100.
(2)
الإصطخري: مسالك الممالك 62.
(3)
ابن حوقل: صورة الأرض 179 - 180.
قُلتُ: وبعد اسْتيلاء الرُّوم عليها في هذه السَّنَة، فتحَها المُسلِمُونَ، وذلك أنَّ سُلَيمان بن قُطَلْمِشِ بن قَاؤُر (a) بن سَلْجُوق، وجدّه قَاؤُر أخو ألْب أَرَسْلَان، أسْرَى من نِيقِيَّة، وكَتَم خَبره، وَجَدَّ في السَّير، فوصلَ إلى أَنْطاكِيَة في مائتي فارس وثمانية فَوَارس ليْلًا، فتسوَّرُوا الأسْوار، وفَتَحُوها ليلًا، وذلك في أوَّل شَعْبان سَنة سَبْعٍ وسَبْعِين وأرْبَعِمائة، ثمّ قُتِلَ سُلَيمان بن قُطَلْمِشِ، واسْتَولى يَغي سِيان (b) على أَنْطاكِيَة، وأخَذَها الفِرِنْج، خَذَلَهُم اللهُ منه في سَنة تسعينَ وأرْبَعِمائة، وبقيَت في أيْدِيهم إلى الآن.
والمَسْجِد الجامع الّذي كان بأَنْطاكِيَة للمُسْلِمين، هو إلى جانب القُسْيَان، ودَخَلْتُ أَنْطاكِيَة في سَنَة ثلاث عَشْرة أو أرْبع عَشرة وستِّمائة، ودَخَلتُ بِيْعَة القُسْيَان، فوَجدْتُ بجانبها مِحْرَابَ المُسْلِمِيْن على حالِهِ، وفي سُقُوفه آيات القُرْآن مكتُوبةً في النَّقش، وهي على ما ذَكَرهُ ابن بُطْلان من الصُّورة، وبِيْعَة القُسْيَان مُزَخْرفة بالرُّخَام والفُسَيْفِساءِ.
وقَرَأتُ في كتاب الحَافِظ لَمَعارف حَرَكات الشَّمْس والقَمَر والنُّجُوم في آفاقها، تأليف أبي الحُسَيْن بن المُنَادِي: يُقال
(1)
: ما من بناء بالحِجَارَة أبهى (c) من كَنِيْسَة الرُّهَا، ولا بناءٌ بالخَشَب أبْهَى مِنْ كَنِيْسَة مَنْبج، ولا بناءٌ بالرُّخَام أبْهَى من قُسْيَان أَنْطاكِيَة.
(a) كذا قيده ابن العديم في هذا الموضع، ويأتي ذكره في الجزء الرابع (ترجمة ألب أرسلان بن جغري بك): قاورت، ومثله عند ابن الجوزي: المنتظم 16: 147 وعند الحسيني: أخبار الدولة السلجوقية 56 وما بعدها: قاورد، وسبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 19: 173، 268 - 269: قاروت وقاروت بك، وابن خلدون: العبر 9: 52: قاورد بك، أما في مشجر نسب السلجوقية فقيده ابن خلدون بخطه (العبر 9: 305): قارتْبك. وانظر خبر تخليص أنطاكية من أيدي الروم مستوفًى عند ابن الأثير: الكامل 10: 272 - 278 (أرخ استيلاء الفرنج سنة 491 هـ)، وابن خلدون: العبر 9: 118 - 119.
(b) في الأصل و ك: يغي سغان، وهو أحد قواد السلجوقية ممن يرد اسمه في المصادر على صور متعددة؛ فعند ابن الأثير: الكامل 10: 220 - 275: باغي سيان بن محمد بن ألب، وابن الفوطي (مجمع الآداب 5: 151): بغَبسان، وابن شداد (الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 24): يغي سيان، وابن الوردي (تاريخه 2: 18 - 19): ياغي سنان، وابن خلدون (العبر 7: 202) باغي سيان، و (العبر 9: 57): ياغيسيان.
(c) أقام رسمها في الأصل حيثما ترد بالهمز في آخرها: أبهأ، وأبهئ، والدارج فيها التسهيل: أبهى، وأصل البهو: السعة؛ يقال: هو في بَهْو من عيش أي في سعة، والبهاء: المنظر الحسن الرائع المالي للعين. لسان العرب، مادة: بها.
_________
(1)
نسب ابن الفقيه هذا القول إلى الروم، انظر كتاب البلدان 180.
قال لي الشَّيْخ عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِيّ في ذِكْر مَدِينَة أَنْطاكِيَةُ
(1)
: وهي من المُدُن التي كانت يَتَسلَّى بها الغريبُ عن وَطَنه. وأمَّا اليوم فلا يُعنَي لكَرْبها صائمٌ.
ونَقَلْتُ من كتاب البُلْدان، تأليف أحمد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب
(2)
: ولجُنْد قِنَّسْرِيْن والعَوَاصِم من الكُوَر: كُورَة أَنْطاكِيَةُ، وهي مَدِينَةٌ قديمةٌ، يقال إنَّه ليس في أرْض الإسْلام، ولا أرض الرُّوم مثلها، أجَلّ ولا أعْجب سُورًا، عليها سُور حِجَارَة، في داخل السُّور منازل تسير فيها الرُّكبان.
وبلَغَنِي أنَّ مساحة دَوْر السُّور، وهو يُحيط بالمَدِينَة وبالجبل الّذي المَدِينَة في سَفْحه إثنا عشر مِيْلًا، وافْتُتحَتْ مَدِينَة أَنْطاكِيَةُ صُلْحًا؛ صالَحهم أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح، وعندَهُم كتاب الصُّلْح إلى هذه الغاية، وبها الكَفّ الّتي يُقال إنَّها كَفُّ يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء عليه السلام في كَنِيْسَة يُقالُ لها كَنِيْسَة القُسْيَان.
ولها نَهْرٌ يُقالُ لهُ الأُرُنْط، عليه العِمَاراتُ والأجِنَّة. ولها عُيُون كَثِيْرة تأتي من الجَبَل، ثمّ تَجْري في مَنازل المَدِينَة، ويُصَرَّفُ الماءُ فيها كيف أحبّ أهلها.
وأهلُها الغَالِبونَ عليها قومٌ من العَجَم، وبها قومٌ من ولد صالحِ بن عليّ الهاشِميّ، وقومٌ من العَرَب من يَمَن.
قَرَأتُ في كتاب أبي إسْحَاق إبْرَاهِيْم بن الحَسَن بن أبي الحَسَن الزَّيَّات الفَيْلَسُوف، المُسَمَّى نُزْهَة النُّفُوس وأُنْس الجَلِيْس، في ذِكْر المُدُن والأقالِيْم، فقال: ذِكْر مَدِينَة أَنْطاكِيَةُ: وهي في الإقْليم الرَّابِع، وبُعْدُها من خطِّ الاسْتواء ستَّةٌ وثلاثون درجةً، وهي مَدِينَة قديْمةٌ، وليس في أرْض الإسْلام ولا في أرْض الرُّوم مثلها، ولها سُور من حِجَارة، ودَوْرُها اثنا عَشر مِيْلًا، وبُعْدُها عن خَطّ المَغْرب اثْنَتان وستُّون دَرَجَة. افْتَتَحَها أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح صُلْحًا، وعندَهُم الآن كتاب الصُّلْح،
(1)
كلام الهروي هذا مُدرج في كتابه الزيارات 6.
(2)
هذا النقل مما ضاع من كتاب ابن واضح اليعقوبي وحفظه ابن العديم.
وبها قبرُ يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء عليه السلام، وكَنِيْسَة يُقالُ لها القُسْيَان، وبها نَهْرُ الأُرُنْط، عليه العِماراتُ والضِّياع والبّساتِيْن، وبها عيونٌ كَثِيْرةٌ تأتي من قنواتٍ من الجِبَال، فتَدْخل منازلهم، فيَضْربُ الماءُ لكُلِّ جهةٍ، وأهلُها قومٌ من العَجَم، وبها قومٌ من العَرَب.
وقَرَأتُ في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك للحَسَن بن أحْمَد المُهَلَّبِيّ العزيزي؛ وَضَعَهُ للعَزِيز الفاطِمِيّ المُسْتَولِي على مِصْر، قال: فأمَّا مَدِينَة أَنْطاكِيَةُ فهي مَدِينَةُ العَوَاصِم، وهي مَدِينَةُ جليلةٌ؛ فتَحَها أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح، وأسْكَنها المُسْلِمِيْن. وهي من الإقْليم الرَّابِع، وعرضُها خمسٌ وثلاثُون دَرَجةً.
وهي مَدِينَةٌ عَظِيمةٌ ليسَ في الإسْلام، ولا في بلدِ الرُّوم مثلها؛ لأنَّها في لِحْفِ جَبَلٍ، هو من شَرْقها مُطلّ عليها، لا تقَعُ عليها الشَّمْس إلَّا بعد سَاعتَيْن من النَّهَار، وعليها سُور من حِجَارَة يَدُور بسَهْلها، ثمّ يطلعُ إلى نصْف الجَبَل، ثمّ إلى أعْلاهُ، ثمّ يَنْزل حتَّى يَسْتديرَ عليها من السَّهلِ أيضًا، وفي داخل السُّور عرَاصٌ كَثْيرة في الجبل ومَزَارِع وأجِنَّةٌ وبَساتِيْن، ويتخرَّقُ الماءُ من عُيُون له في الجبل مُقَنَّاة إلى المَدِينَة والأسْواق والمنازل، كما يتخرَّق مَدِينَة دِمَشْقَ، وأبنيتها كُلُّها بالحَجَر. والفَوَاكِه والزَّهر بها كالمَجَّان، ومَسَاحة دَوْر السُّور إثنا عَشر مِيْلًا.
وبها كَنِيْسَة القُسْيَان، وهي كَنِيْسةٌ جليلةٌ عَظِيمَة البناء والقَدْر عند النَّصَارَى، ويُقال إنَّ بها كَفّ يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء عليه السلام، وبرَسْمها بِطْريْقٌ، وتُجِلُّ النَّصَارَي قَدْرَهُ.
لها أعْمَالٌ واسِعَةٌ من المَشْرِق إلى المَغْرب، وأهْلُها الغَالِبونَ عليها قَوْمٌ من الفُرْس، وقومٌ من ولد صالحِ بن عليّ ومَوَالِيهِ.
وأهلُها أحْسَنُ خَلْقِ الله تعالَى وجُوهًا، وأكْرَمهم أخْلَاقًا، وأرَقّهُم طِباعًا، وأسْمَحهم نُفُوسًا، والأغْلَب على خِلَقهم البياض والخُمْرة. ومَذَاهبهم على ما كان عليه أهل الشَّام إلَّا مَنْ تخصَّص.
ولها من الكُوَر: كُورَة تِيْزِيْن
(1)
، وهي ضِياعٌ جليلةُ القَدْر، وكُورَة الجُوْمَة، وبها العُيُون الكِبْرِيتيَّة الَّتي تَجْري إلى الحَمَّة، وكُورَة جَنْدَارِس
(2)
؛ مَدِينَةٌ عجيبةُ البناءِ (a)، مَبْنِيَّة بالحِجَارَة والعَمَد، وكُورَة أَرْتاح، وهي مَدِينَة جَلِيلةُ القَدْر، وكُورَة الدُّقسِ، وهي كَورَةٌ جليلةٌ، وكُورَة قَرْصِيلي، وهي ضِيَاعٌ جليلةٌ، وكُورَة السُّوَيدِيَّة
(3)
؛ وهي
(a) ك: حسنة المنظر.
_________
(1)
تيزين: قرية كبيرة من نواحي حلب وأنطاكية، وكانت كورة من العواصم بالشغور الشامية، وقيل كورة من كور أنطاكية، وتوجد اليوم في سوريا ثلاث قرى تحمل ذات الاسم، واحدة في حماة، والثانية خربة مدرسة في منطقة حارم بمحافظة إدلب، والأخيرة - ولعلها هي المعنية - تقع على السفح الجنوبي الغربي لجبل سمعان، إلى الشرق من قرية الريحانية بنحو 8 كم. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة: الخراج 304، الإسكندري: الأمكنة 1: 220، ياقوت: معجم البلدان 2: 58، 66 وذكرها:"توزين" و "تيزين"، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 85، 100، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 587.
(2)
الضبط من ابن العديم في كلامه على ما بحلب من العجائب والطلسمات، وجندارس Djindaris: مَدِينَة إلى الشرق من أنطاكية بميلة نحو الشمال، تقع على بعد 80 كم إلى الغرب من حلب، وجنوب غرب عفرين على بعد 20 كم، وتسمى اليوم جنديرس أو جين دارس، وكانت من مدن أنطاكية، مبنية بالحجر والأعمدة، ولها تاريخ قديم ذكرها سترابون (ت 21 م): غينداروس وأنها أكروبوليس (مدينة محصنة أو عالية) إذ كانت محصنة طبيعية ضد أي عدوان. انظر: سترابون: جغرافية 43، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 85، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363 (وفيه كورة من العواصم)، موستراس: المعجم الجغرافي 236، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 703.
(3)
السّويدية Sueidiye : حصن ومَدِينَة على ساحل البحر الشامي (الأبيض المتوسط)، وكانت من مدن جند قنسرين، تقع إلى الغرب من أَنْطاكِيَةُ على بعد 18 کم، وهي فرضة أنطاكية ومرساها، وكانت تسمى سلوقية، وعندها ينتهي نهر أنطاكية (نهر العاصي) إلى البحر الشامي. وهي اليوم داخل الحدود التركية وتسمى صمَّان داغ Sammandag . انظر: المقدسي: أحسن التقاسيم 154، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 145، ياقوت: معجم البلدان 1: 268 - 269، 3: 242، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 86، أبو الفداء: تقويم البلدان 233، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، الحميري: الرَّوض المعطار 330 - 331، موستراس: المعجم الجغرافي 311، زكرياء: جولة أثرية 113، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 690.
مَدِينَة على ضَفَّةِ البَحْر المالِح، وكُورَة الفارِسيَّة والعَرَبيَّة، وهي جليلةُ القَدْر، وكُورَة يدابيا (a)، والقُرَشِيّة
(1)
.
قُلتُ: وأهلُها الآن هم من أبناء الرُّوم والإفْرَنْجِ، وخِلَقُهم في الحُسْن والجمَال على ما ذَكَر.
وكُورَة تِيْزِيْن، وكُورَة الجُوْمَة، وكُورَة جَنْدَارِس، وكُورَة أَرْتاح في يد المُسْلِمِيْن الآن مُضافة إلى وُلاة حَلَب.
وحَارِم
(2)
من هذه النَّاحِيَة لها قَلْعَةٌ عَظِيمةٌ حَصِيْنَةٌ، وهي عامِرةٌ، ولها رَبَضٌ وأسْواقٌ ومَسْجِدٌ جامع، وهي كَثِيْرة البَساتِيْن والفَواكِه، نَزِهَةٌ، كانت من أعْمَال أَنْطاكِيَةُ، وهي الآن مُسْتقلَّة بنَفْسها، مُسْتَتْبَعَةٌ لغَيْرها (b) من أعْمَال حَلَب حَرَسَها اللهُ.
(a) مهملة الأول في الأصل، وفي ك: بدانيا، وذَكَرَ ابن العديم في زبدة الحلب 2: 623 موضعًا اسمه: بدَّايا، يقع فيما بين تل باشر ومنبج.
(b) كذا في الأصل و ك، ويظهر أن في النص اضطراب ونقص، إذ يقتضي الاستقلال أن لا تتبع إلى عمل آخر.
_________
(1)
القُرشيَّة: ما يفهم من كلام المهلبي أعلاه أنها إحدى كور أنطاكية، وجعلها ياقوت قرية من جند حمص، من آخر أعمال سواحله مما يلي حلب وأنطاكية، وذكر أن جماعة من أعيانها يقال لهم بنو القرشي يقيمون بحلب، وحدَّد ابن الشّحنة موضعها بقرب اللاذقية. انظر: ياقوت: معجم البلدان 4: 323، التاريخ المنصوري لابن نظيف الحموي 242، ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 86، ابن الشحنة: الدر المنتخب 10، 158، ابن سباهي: زاده: أوضح المسالك 508.
(2)
حارم Harim: كانت بلدة صغيرة ذات أشجار وأعين ونهر صغير، وكانت لها قلعة حصينة، وهي تقع على خط العرض 36.12 والطول 36.31، إلى الشرق من بغراس بين حلب وأنطاكية، وتبعد عن حلب إلى جهة الغرب نحو 67 كم، وشرق أنطاكية على بعد نحو 41 كم، وكانت حارم قديمًا حظيرة "صيرة" لجميع المواشي، وهي اليوم مدينة عامرة ومركز ناحية في محافظة إدلب. انظر: ابن سعيد: بسط الأرض 87، ياقوت: معجم البلدان 2: 205، (ورجح ياقوت سبب تسميتها بهذا الاسم المناعتها وحصانتها فتحرم العدو من حيازتها)، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 13، أبو الفداء: تقويم البلدان 259، زکرياء: جولة أثرية 80، موستراس: المعجم الجغرافي 248، کامل الغزي: نهر الذهب 1: 489 - 493، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 7 - 9، 209 - 208 S. Ory، El 2، Harim،III،Pp
نَقَلْتُ من خَطِّ بَنُوْسَةَ في كتاب البُلْدان؛ تأليفُ أحمد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ
(1)
، ممَّا حكاهُ عمَّن حدَّثه من أهْل الشَّام، قالوا: ونَقَلَ مُعاوِيَة بن أبي سُفْيان إلى أَنْطاكِيَةُ في سَنَة اثْنَتين وأرْبعين جَماعةً من الفُرْس من أهْل بَعْلَبَك (a) وحِمْصَ، ومن المِصْرَيْنِ
(2)
، فكان فيهم مُسْلم بن عَبْد الله، جَدُّ عَبْد الله بن حَبِيْب بن النُّعْمان بن مُسْلِم الأنْطاكِيّ، وكان مُسْلم قُتِلَ على بابٍ من أبْواب أَنْطاكِيَةُ يُعرفُ اليوم بباب مَسْلَمَة (b)، وذلك أنَّ الرُّوم خرَجَت من السَّاحِل، فأناخَتْ على أَنْطاكِيَةُ، وكان مُسْلم على السُّور، فرمَاهُ عِلْجٌ بحَجَرٍ فقتلَهُ.
وقال البَلاذُرِيّ
(3)
: وحَدَّثَني جماعَةٌ من مشايخ أهل أَنْطاكِيَةُ، منهم ابن بُرْد الفَقِيه، أنَّ الوَلِيدَ بن عَبْد المَلِكُ أقْطَع جُنْد أَنْطاكِيَةُ أرْض سَلُوْقِيَةَ عند السَّاحِل، وصَيَّرَ الفِلَثَر، وهو الجَرِيب
(4)
، عليهم بدِيْنارٍ ومُدَّيْ قَمْحٍ، فعَمَروها، وجَرَى ذلك لهم، وبَني حِصْن سَلُوْقِيَة.
قال
(5)
: وحَدَّثَني أبو حَفْص الشَّاميّ، عن مُحمَّد بن رَاشِد، عن مَكْحُول، قال: نَقَل مُعاوِيَة في سَنَة تسع وأربعين أو سَنة خَمْسين إلى السَّواحل قَوْمًا من
(a) فتوح البلدان: من الفرس وأهل بعلبك.
(b) كذا في الأصل ومثله في أصول البلاذري، وأحالها المحقق: باب مسلم.
_________
(1)
فتوح البلدان 201.
(2)
المصران: الكوفة والبصرة. العسكري: الأوائل 329، لسان العرب، مادة: مصر.
(3)
فتوح البلدان 202.
(4)
ذکر ياقوت أن الفلتر هو مِقْدَار من الأرض معلوم كما يقول غيرهم: الفدَّان والجريب. معجم البلدان 1: 269.
(5)
فتوح البلدان 221.
زُطِّ البَصْرَة والسَّيابِجَة (a)، وأنْزَل بعضهم أَنْطاكِيَةُ. قال أبو حَفْصٍ: بأَنْطاكِيَة محلَّةٌ تُعْرفُ بالزُّطِّ، وببُوْقَا من عَمل أَنْطاكِيَةُ قومٌ من أولادهم يُعرفُونَ بالزُّطِّ، وقد كانَ الوَلِيد بن عَبْد المَلِكُ نقَلَ إلى أَنْطاكِيَةُ قَوْمًا من زُطِّ السِّنْد ممَّن حَمَلَهُ مُحمَّد بن القَاسِم إلى الحَجَّاج، فبَعَثَ بهم الحَجَّاجُ إلى الشَّام.
أخْبَرَنَا أبو هاشِمِ عَبْد المُطَّلب بن الفَضْل بن عَبْد المُطَّلِب الهاشمِيّ مُشَافهةً، عن أبي سَعْدٍ عَبْد الكَريم بن مُحمَّد السَّمْعاني
(1)
، قال: أَنْطاكِيَةُ هي من أحْسَن البلَاد في تلك النَّاحية، وأكثرها خَيْرًا، اسْتَولَى عليها الفِرِنْجُ، وهي في أيْدِيهم السَّاعَة، وهي دار مَمْلكتهم، والدَّواء المُسْهِلُ الّذي يُقالُ لهُ: الأنْطاكِيّ مَنْسُوبٌ إلى هذه البلْدَة، المَعْروف بالسَّقَمُونْيا، ولا يكُون ببلَدٍ إلَّا بهذه البلْدَة، وقيل إنَّ هذه الآية في (b) أَنْطاكِيَةُ:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}
(2)
. وبها قَبْر حَبِيْب النَّجَّار في السُّوق؛ كانَ بها، ومنها جَماعةٌ من العُلَمَاءِ المَشْهُورين قَدِيمًا وحَدِيثًا.
(a) في نشرة البلاذري: السباتجة، وصوابه المثبت؛ وهم قوم أرجع بوزورث موطنهم الأصلي إلى بلاد ملبار (جنوب غرب الهند)، فكانوا يقيمون قبل الإسلام على السواحل، بينما يقيم الزط بالطفوف (جانب البر) حيث يتتبعون الكلأ، فنزلوا البصرة فلما اجتمعت الأساورة والسيابجة والزط توزعت بين قبائل بني تميم واشتركوا في بعض الحروب حتى كان خلاف ابن الأشعث على الحجاج سنة 83 هـ / 702 م، فكان الزط ومن لف لفهم إلى جانب ابن الأشعث، ولما انتهى الحجاج من أمر ابن الأشعث وقتله، هدم دور الأساورة والزط والسيابية وأجلى بعضهم، قيل: إنَّ الحجاج أجلاهم إلى جنوب كسكر فغلبوا على البطيحة وتناسلوا بها، وانضم إليهم من الموالي والعبيد الهاربين من أسيادهم، فغلب اسم الزط على جميع هؤلاء، وعلى هذا فإن ابن خلدون لما عرّف الزط تجاوز عن ذِكْر أصولهم واكتفى بالقول:"إنهم أخلاط من الناس، غلبوا على طريق البصرة وعاثوا فيها وأفسدوا البلاد". انظر عنهم: البلاذري: فتوح البلدان 367 - 368، ابن خلدون: العبر 5: 630، 574 Bosworth، El 2، Al - Zutt، Xl، P.
(b) أنساب السمعاني: نزلت في، وهي كلمة وردت في نسخة واحدة من أصوله.
_________
(1)
السمعاني: الأنساب 1: 271.
(2)
سورة يس، الآية 13.
قَرَأتُ في كتاب أحمد بن مُحمَّد بن إسْحَاق الهمذاني [ابن](a) الفَقِيه في البُلْدان (b) وأخبارها: لَمَّا أنَّ فتح أنوشروان قِنَّسْرِيْن ومَنْبج وحَلَب وحِمْص ودِمَشْق وإِيلِيَاء وأَنْطاكِيَة، اسْتَحْسَنَ أَنْطاكِيَةُ، فلمَّا انْصَرَف إلى العِرَاق، بَنى بها مَدِينَة على مِثال أَنْطاكِيَةُ بأسْواقها وشَوَارعها ودُورها، وسمَّاها رندخُسْره (c)، وهي الّتي تُسمِّيها العرب: الرُّومِيّة، وأمرَ أنَّ يُدْخَلَ إليها سَبْي أَنْطاكِيَةُ، فلمَّا دَخَلُوها لم يُنْكِروا من منازلهم شيئًا، فانْطلق كُلّ رَجُل منهم إلى مَنْزله، إلَّا رَجُلٌ إسْكَافٌ
(1)
، كان على باب داره بأَنْطاكِيَة شَجَرة فِرْصَادٍ فلم يَرَها على بابِه ذلك، فتَحَيَّر سَاعةً، ثمّ دخل الدَّار فوجَدَها مثل دَاره.
وقَرَأتُ في بعض ما عَلَّقْتُهُ من الفَوائدِ أنَّ كِسْرَى بنَى الرُّومِيّة بالمَدَائِن، وهي: بَاذْبَجَان خُسْره (d)، وتَفْسيرها: خَيْرٌ من أَنْطاكِيَةُ.
وهذا الّذي ذكرَهُ [ابن] الفَقِيه أحمد بن مُحمَّد بن إسْحَاق الهَمَذَانِيّ من أنَّهم لم يُنكروا من منازلهم، وأنَّ الرَّجُل الإسْكَاف لم يَرَ شَجَرة الفِرْصَاد على بابه، فتحيَّرَ سَاعةً ثمّ دَخَل، بعيدٌ جدًّا، بل هو من المُسْتحيلات؛ لأنَّ أبْنيَة أَنْطاكِيَةُ بالحَجَر، وبناء هذه المَدِينَة بالآجُرِ، بل يُحْتمل أنَّه شبَّهها بها في المنازل والشَّوَارع، فدَخَلَ كُلُّ واحدٍ إلى ما يُشْبهُ مَنْزله، لا أنَّ الإسْكَاف أَنْكر الموضِع لأنَّهُ لم يرَ شَجَرة الفِرْصَاد.
(a) ساقطة من الأصل، وقد تقدم للمؤلف أنْ لقَّبَهُ بابن الفقيه.
(b) في الأصل: كتاب البلدان، وضبب على كلمة كتاب التي تقدمت في طالع كلامه، وانظر: ابن الفقيه: كتاب البلدان 164 - 165.
(c) عند ابن الفقيه 164 بالزاي المعجمة: زند خُسْره، وعند أبي الفداء: اليواقيت والضرب 30: زبد حسره.
(d) عند ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 85: باذبخان خسره.
_________
(1)
الإسكاف: النَّجَّارُ، وقيل: الصَّانع أيًّا كان. لسان العرب، مادة: سكف.
وذَكَرَ أبو عَبْد الله حَمْزَة بن الحَسَن الأصْبَهَانِيّ، في كتاب تواريخ الأُمَم
(1)
كِسْرَى أَنَوشَرْوان بن قباد (a)، قال: وبنَي عدّة مُدُن، منها مَدِينَة دَخَلت في عِداد مُدن المَدَائِن السَّبْع، وسمَّاها: بُهُ أربذ يو خُسْره (b)، ومعنى: بُهُ أربذ يو خُسْره، أي: خَيْرٌ من أَنْطاكِيَةُ، وقال: أربذ يو: اسمٌ (c) لمَدِينَة أَنْطاكِيَةُ، وبُهُ: اسمٌ للخير.
وقع (d) إليَّ قَصِيدَة من نَظْم أبي عَمْرو القَاسِم بن أبي دَاوُد الطَّرَسُوسِيّ، مَزْدوجةٌ، وَسَمَها بقصيدةِ الأعْلَام؛ يَذْكُرُ فيها خُروجَهُ من طَرَسُوس سنةَ ثَمانٍ وثَلاثِمائة، ويَصِفُ فيها المنازل التي نَزَلَها، فذَكَرَ أَنْطاكِيَةُ وفَضْلها، وفَسَّر الأبيات، والنُّسْخةُ نُسخة عَتِيقة جدًّا. قال فيها:[من الرجز]
ثمّ وَرَدْنَا غدوة (e) أَنْطاكِيَةُ
…
وأهْلُها في خَيْرها مُواسِيَهْ
أهْل عَفَاف وأُمُور عاليهْ
…
أخْلاقهُم قدمًا عليها جارِيهْ
* * *
مَدِينَةٌ مَيْمُونةٌ مُذ لم تَزَلْ
…
النِّصْف في السَّهْلِ ونصفٌ في الجَبَل
والبَقُّ لا يَدْخُلُها ويتَّصل
…
لكن بها فأرٌ عظيمٌ كالوَرَل
* * *
كَثِيْرة الخَيْرات والثِّمار
…
وتِيْنُها القِلَّار في الأشْجَارِ
مثل النُّجُوم في دُجَى الأسْحار
…
حَصِيْنَةٌ كَثِيْرةُ الآثارِ
* * *
(a) في "ك": قياد، والمثبت من الأصل ومثله في نشرة كتاب تاريخ سني ملوك الأرض.
(b) تاريخ سني ملوك الأرض: سماها: به از انديو خسرو.
(c) كلمة "اسم" مكررة في الأصل.
(d) من هنا إلى آخر الباب، (تفسير الأبيات) موضعه في الأصل الصفحة [33 أ]، ونبَّه المؤلِّف على نقلها إلى هذا الموضع.
(e) ك: غداة.
_________
(1)
تاريخ سني ملوك الأرض 57.
صَاحِب يس حَبْيْبٌ فيَها
…
وكانَ عِنْدَ رَبِّهِ وَجِيْهَا
في الخلُد والثِّمَارِ يَجْتَنِيْهَا
…
أكْرِم به مُفْتَخَرًا نَبِيْهَا
وقال في تَفْسير الأبْيات: أمَّا أَنْطاكِيَةُ فإنَّ لها حِصْنًا نصفٌ في السَّهْلِ ونصفٌ في الجبَل، ولا يَدْخلُها البَقُّ، ومَنْ خَرَجَ منها آذاهُ البَقُّ، وهي كَثِيْرة الفَأر، والتِّيْنُ القِلَّارِيُّ لا يَكُون إلَّا بها، ويُعْرفُ بالعِرَاقِ: بالشَّاميّ، وصاحب يس: حَبِيب النَّجَّار، قَبْرهُ بها، وهو الّذي قال:{يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}
(1)
.
بابُ ما جَاءَ في ذَمِّ أَنْطاكِيَةُ
قيل: إنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِين هارُون الرَّشِيد، رَحْمة الله عليه، كانَ وَرَدَ أَنْطاكِيَةُ، فاسْتَطابَها جدًّا، وَهَمَّ بالمَقام فيها، وكَرِهَ ذلك أهْلُها، فقال له شيخٌ منهم، وصَدَفهُ (a) عن الصُّورة: يا أَمِير المُؤمِنِين؛ ليْسَت هذه مِنْ بُلدانك، قال: وكيف؟ قال: لأنَّ الطِّيْبَ الفاخِرَ يتَغيَّر فيها حتَّى لا يُنْتَفع به، والسِّلاح يَصْدَأُ فيها، ولو كان من قَلْعِ الهِنْد، فتركَها ورَحَلَ عنها.
ويُقال: إنَّ أَنْطاكِيَةُ كَثِيْرة الفَأْر، وقد ذَكَر ذلك أبو عَمْرو القَاسِم بن أبي دَاوُد الطَّرَسُوسِيّ في أُرْجُوزَةٍ له، فقال في ذكر أَنْطاكِيَةُ:[من الرجز]
والبَقُّ لا يَدْخلُها ويَتَّصل
…
لكن بها فأرٌ عظيمٌ كالوَرَل
(a) في الأصل: وصَدّقهُ، فخففها بإزالة الشدة، وشطب إحدى نقطتي القاف: وصَدَفه. وعند ابن الفقيه (البلدان 165)، وابن شداد (الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 88): وصَدَقَه، والصواب ما أثبت بالفاء؛ أي أمالَه عن وجهته وجعله يعرض عنها، يقال أصْدَفني عنه كذا أيَّ: أمالني، وصَدَفَ عنه: عدل وأعرض. لسان العرب، مادة: صدف.
_________
(1)
سورة يس، الآيتان 26 - 27.
أنْبَأنَا عَبْد المُحْسِن بن عَبْد الله الخَطِيب، عن أبي عَبْد الله الحُسَيْنُ بن نَصْر بن خَمِيْس، قال: أخْبَرَنَا أبو المَعَالِي ثابتُ بن بُنْدَار بن إبْرَاهِيْم البَقَّال، قال: أخْبَرَنَا أبو عَليّ الحَسَن بن الحُسَيْنُ بن دُوْمَا النِّعَالِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو عَليّ مُحمَّد بن جَعْفَر بن مَخْلَد البَاقَرْحِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو مُحمَّد الحَسَن بن عَلُّويَة القَطَّان، قال: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيْل بن عِيسَى العَطَّار، قال: حَدَّثَنَا إسْحَاق بن بِشْر أبو حُذَيْفَة، عن ابن سَمْعَان، قال: بلَغَني عمَّن له علمٌ بالعِلْم الأوَّلِ أنَّ كُلّ رجُل بعثَهُ سَمْعُون بعد عِيسَى إلى أُناسٍ أو بَلْدةٍ، أقام عندَهُم حتَّى ماتَ في بلادهم، واتَّبَعُوه ما خلا يُحْنَّى وتُومان؛ بُعثَا إلى أَنْطاكِيَةُ فلم يُجيبُوهما، وقَتَلُوا مَنْ آمنَ بهما واتَّبَعَهُما، وَعَدَوا عليهما، وأرادُوا قَتْلَهُما، وقَتَلُوا حَبِيبًا النَّجَّار، فأخذَهُم اللهُ بالصَّيْحَة. وكانت أوَّل مَدِينَة أَهْلكَها اللهُ بعد عِيسَى أَنْطاكِيَةُ.
قال أبو حُذَيْفَة إسْحَاق بن بِشْرٍ: وقال الحَسَنُ: إنَّ مَدِينَة أَنْطاكِيَةُ من مَدائِن جَهَنَّم.
قُلتُ: ظَنَّ أبو حُذَيْفَة أنَّ الحَسَن أرادَ بقوله: إنَّ مَدِينَة أَنْطاكِيَةُ من مَدَائِن جَهَنَّم، أَنْطاكِيَةُ الشَّام، فذَكَر ذلك عَقِيبَ ذِكْر حبيب النَّجَّار وأخذ أهل أَنْطاكِيَةُ بالصَّيْحة، وليس الأمر كذلك؛ بل المُراد من أَنْطاكِيَةُ التي ذكَرَها الحَسَن: أَنْطاكِيَةُ المُحْتَرِقة، وهي أَنْطاكِيَةُ الرُّوم، لِمَا نَذْكره ونُبَيِّنَهُ، وأخْذ أهل أَنْطاكِيَةُ بالصَّيْحة لعُتُوِّهم وتَكْذيبهم، لا يدُلُّ على عَدَم الفَضِيْلة، فإنَّ مَكَّة أشْرَف البِقَاع وقد كذَّب أهلُها رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فانْتَقَم الله منهم، ونصَره عليهم، بل عُقُوبَة الجاني في الموضِع الشَّريف ألْيَق بحال الجاني، ألَا ترَى إلى أصْحاب الفِيْل كيف انْتَهَكُوا حُرْمَة الحَرَم؟ فأهلكَهُم اللهُ تعالَى كما أَخْبَر في كتابهِ بقَوْله تعالَى:{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}
(1)
، فكان ذلك
(1)
سورة الفيل، الآيات 3 - 5.
زِيَادة في شَرف الحَرَم، فهذا فيما نحن فيه. ألَا تَرى إلى ما حَكيناهُ فيما تقدَّم من تَسْميتها مَدِينَة الله، أنَّه لَمَّا خُسِفَ بها رأي رجُلٌ صالِحٌ في نَوْمهِ قائلًا يقول: تكتبُ على أبْواب المَدِينَة: الله معنا، فسُمِّيت مَدِينَة الله.
والدَّليلُ على أنَّ المُراد بقول الحَسَن: أَنْطاكِيَةُ الرُّوم، ما أخْبَرَنَا الشَّيْخ الإمام أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنَا عَمِّي أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن
(1)
، قال: أخْبَرَنَا أبو الحُسَيْنُ عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد الله بن الحَسَن بن أبي الحَدِيْدِ، قال: أخْبَرَنَا جَدِّي أبو عَبْد الله، قال: أخْبَرَنَا أبو المُعَمَّر المُسَدَّد بن عليّ بن عَبْد الله بن العبَّاس بن أبي السّحيس (a) الحِمْصِيّ، قَدِمَ علينا، قال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن سُلَيمان بن يُوسُف الرَّبعِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن بن إسْمَاعِيْل الكُوْفيّ، قال: حَدَّثَنَا إدْرِيس بن سُلَيمان بالرَّمْلَةِ، قال: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمن بن خَالِد بن حَازِم، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيد بن مُحمَّد، عن الزُّهْرِيّ، عن سَعيد بن المُسَيَّب، عن أبي هُرَيْرَة قال: قال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
: أرْبَعُ مَدَائن في الدُّنْيا من الجَنَّة: مَكَّة والمَدِينَة وبَيت المَقْدِس ودِمَشْق، وأرْبع مَدَائِن من النَّار: رُوْمِيَّة وقُسْطَنْطِينِيَّة وأَنْطاكِيَة وصَنْعاء. قال إِدْرِيس: يعني أَنْطاكِيَةُ المُحْتَرِقة.
وقد جاءَ في رِوَايَة أُخْرى مُصرَّحًا في الحَدِيْثِ بأنَّها أَنْطاكِيَةُ المُحْتَرِقة؛ أخْبَرَنَا بذلك الفَقِيه (b) العالم شَرَف الدِّين أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن الدِّمَشْقِيّ بها، قال أخْبَرَنَا عَمِّي (c) أبو القَاسِم بن أبي مُحمَّد، قال: أخْبَرَنَا أبو عَليّ
(a) كذا في الأصل وك، وفي تاريخ ابن عساكر (33: 301) بالجيم المعجمة: السجيس.
(b) كلمة غير واضحة، والاستدلال عليها من تكرار الأخذ عنه في بقيَّة أجزاء البغية.
(c) قوله: "أخْبَرَنَا عمي" غير واضحة في الأصل، ووجه الاستدلال عليها كسابقتها.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 220.
(2)
الربعي: فضائل الشَّام 28 (رقم 53) وفيه: "من مدائن النار".
الحَسَنُ بن المُظَفَّر بن السِّبْط، وأبو عَبْد الله الحُسَيْن بن مُحمَّد بن عَبْدِ الوهَّاب البَارع ببَغْدَاد، وأُمُّ البَهَاء فاطِمَةُ بنتُ عليّ بن الحُسَيْن العُكْبَرِيَّة بدِمَشْق، قالوا: أخْبَرَنَا أبو الغّنائِم مُحمَّد بن عليّ بن عليّ بن الدَّجَاجيّ، قال: أخْبَرَنَا عليّ بن عُمَر بن مُحمَّد الحَرْبِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو السَّرِيّ سَهْل بن يَحْيَى. وقال ابنُ السِّبْط: ابن يَحْيَى بن سَبَأ الحَدَّاد - قال: حدَّثنا سَعيدُ بن عُثْمان الرَّازيّ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِد بن يَزِيد، عن مُحمَّد بن مُسْلِم الطَّائِفيّ، عن مُحمَّد بن مُسْلِم الزُّهْرِي، عن سَعيد بن المُسَيَّب، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم (a): أربع مَدَائن من مَدَائن الجَنَّة، وأرْبَع مَدَائن من مَدَائِن النَّار، فأمَّا مَدَائن الجنَّة: فمَكَّةُ والمَدِينة وبَيتُ المَقْدِس ودِمَشْقُ، وأمَّا مدائن النَّار: فالقُسْطنطينيَّة وطَبَرِيَّة وأَنْطاكيَّة المُحْتَرِقة وصَنْعاء.
وذكَر أحمد بن يَحْيَى بن جابر البَلاذُرِيّ
(1)
: أنَّ أَنْطاكِيَة المُحْتَرقة ببلادِ الرُّوم، أحرقَها العبَّاس بنُ الوَلِيد بن عَبْد المَلِك.
وقال أبو عَبْدِ الله السَّقَطِيّ: ليس هي صَنْعاء (اليَمَن)(b) وإِنَّما هي صَنْعاءُ بأرض الرُّوم.
وقد جاءَ في رِوايَةٍ أخْرى بدل طَبَرِيَّة: الطُّوَانة؛ وهو الصُّحيحُ.
(a) الربعي: فضائل الشام 29 (رقم 54) وفيه "بدل طبرية: "الطوانة"، وورد في هامش الصفحة نص بخط عسر القراءة ومباين لخط النسخة، منه: "قال لي بعض الثقاة: أنه لما عمر سور حلب وجد فيه أثر عظم مطروح إلى
…
تحت الأرض داخل
…
سور
…
ثم ولما كان ملك طم بعضه وهو معمول ........ بالحجار معقود على حجارة وفي وسطه أبواب [أو: أوان] حديد صغار ومالك وحفائر
…
".
(b) كلمة أفسدتها الرطوبة في الأصل، والتعويض منك ومن فضائل الشام للربعي 29، وتاريخ ابن عساكر 1: 221، وتهذيبه البدران 1:47.
_________
(1)
فتوح البلدان 233.
قَرَأتُ في كتاب الحَافِظ لمَعَارف حَرَكات الشَّمْس والقَمر، والأقالِيْم وأسماء بُلدانها، تأليفُ أبي الحُسَيْن أحمد بن جَعْفَر بن مُحمَّد بن عُبيد الله المُنَادي، وأظُنُّه بخَطِّه، والنُّسخة مقرُوءة عليه، قال: بَلَغَنا عن يزيد بن عبد الله الخَوْلانِيّ، عن كَعْب الأحْبَار أنَّه قال: خَمْسُ مَدَائِن في الدُّنيا من مَدَائِن الجَنَّة، وخمْسُ مَدَائِن في الدُّنْيا من مَدَائِن النَّار، فأمَّا مَدَائِن الجنَّة: فحِمْصُ، ودِمَشْق، وبَيتُ المَقْدِس، وبَيْتُ جِبْرِين، وظَفَار اليَمَن. وأمَّا مَدَائِن النَّار: فالقُسْطَنْطِيْنِيَّة وعَمُّورِيَّة وأَنْطاكِيَة وتَدْمُر وصَنْعاء اليَمَن.
قال أبو الحُسَيْن بن المُنَادي: هذه ليسَت أَنْطاكية الشَّامِ، ولكنَّها أَنْطاكِيَةُ الرُّومِ.
وأخْبرَنِي من أثِقُ به، وكَتَبَهُ لي بخَطِّه، قال: قَرَأتُ في مجموع جَمَعَهُ رَشَاء بن نَظِيف، قال: وأظُنُّه بخَطِّه، قُلتُ: وأخْبرَنَا به إجَازَةً أبو البَرَكَات الحَسَن بن مُحمَّد بن الحَسَن، عن عَمِّه أبي القَاسِم الحَافِظ
(1)
، قال: أنْبَأنَا أبو القَاسِم النَّسِيب، عن رَشَاء بن نَظِيف، قال: حَدَّثَني أبو سَعيد مُحمَّد بن أحمد بن عُبَادَة البَيْرُوتيِّ، بمَدينَة دِمَشْق، قال: حدَّثَني عَبْدُ المُؤْمن بن المُتَوكِّل، قال: حَدَّثَنَا أبو عَبْد الرَّحْمن مَكْحُول، قال: حدَّثنا العبَّاسُ بن الوَلِيد بن مَزْيَد، عن أبيهِ الوَليد، عن عُرْوَة، عن ثَوْبَان مَوْلَى رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: تَثُور بَنُو الأصْفَر بالعَرَب، فتكُون بينهم وَقْعَةٌ في مَوْضِعٍ يُقالُ له الرَّأسُ واللَّفئكة (a)، فتَسيل (b) فيه دماءٌ حتَّى تخوض الخَيلُ في الدِّماء إلى أَرْسَانها (c). قال ثوبان مَوْلَى رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا رسُول الله أفمن قِلَّةٍ؟ قال: إنَّما تكثر الأعْمال (ة) السُّوء، وليَنْزعَ
(a) في الأصل ياءٌ مثناة تحتية وفوقها همزة، وفي ك وابن عساكر (51: 60): اللفيكة.
(b) تاريخ ابن عساكر: فيسفك.
(c) تاريخ ابن عساكر: أرساغها.
(d) تاريخ ابن عساكر: أعمال.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 51: 60.
الله المهابَة من صُدور أعدائكُم منهم، وتكونوا في عَينهم كغُثَاء السَّيْل، ويَفتَحُون الملعُونَتَينِ (a). قال ثَوْبَانُ مولى رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا رسُول الله، وما المَلْعُونَتانِ؟ قال: أَنْطاكِيَةُ وصَيْدَا.
وهذه أيضًا أَنْطاكِية المُحْتَرِقة أيضًا. واللهُ أعْلَمُ - لأنَّهُ قد وَرَدَ أنَّها من مَدَائِن النَّار. أمَّا أَنْطاكِيَة الشَّام، فقد جاءَ في فَضْلها من الأخْبار والآثار ما نَذكُره إنْ شَاءَ اللهُ.
بابٌ في فَضْلِ أَنْطاكِيَة
ذكر اللهُ تعالى أَنْطاكِيَة في القُرْآن في موضعَيْن، وسمَّاها قَرْيةً وسمَّاها مَدِينَةً في المَوْضِعين، ذكَرها في سُوْرة الكهف في قِصَّة الجِدَار الّذي أراد أنْ ينقَض فأقامَهُ، وسمَّاها في أوَّل القِصَّة قرية بقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}
(1)
، وسمَّاها تبارك وتعالى في آخر القِصَّة بالمَدِينَة، حيث قال عزَّ مَنْ قائل:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ}
(2)
.
جاء في التَّفْسِير عن ابن عبَّاس
(3)
رضي الله عنه أنَّها أَنْطاكِيَةُ، وذَكَرَ ذلكَ أبو إسْحَاق الثَّعْلَبِي وغيره.
وذكَرَها الله تعالَى أيضًا في سُورة يس في قِصَّةِ حَبِيب النَّجَّار، قال سبحانه وتعالى في أول القصة:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}
(4)
، وقال عزَّ مَنْ قائل في آخر القِصَّة:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}
(5)
.
(a) الأصل: الملعونتان، وفوقها:"صـ"، وفي تاريخ ابن عساكر: ويقتحمون الملعونتين.
_________
(1)
سورة الكهف، من الآية 77.
(2)
سورة الكهف، من الآية 82.
(3)
تنوير المقباس من تفسير ابن عباس 316.
(4)
سورة يس، الآية 13.
(5)
سورة يس، من الآية 20.
أخْبَرنا أبو الغَنائم مُحمَّد بن أبي طالب بن شَهْرَيَار في كتابه إلينا من أصْبَهان، قال: أخْبَرتَنا فاطِمةُ بنتُ أبي الفَضْل، المعروفَة ببنْتِ البَغْدادِيّ، قالت: أخْبَرَنَا أبو طاهر أحمد بن مَحْمُود الثَّقفيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو بكر مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم بن المُقْرِئ، قال: حَدَّثَنا إبْرَاهِيْم بن عَبْد الله (a)، قال: حَدَّثَنا عَمْرو بن عليّ، قال: حَدَّثَنا يَحْيَى بن سَعيد، قال: حَدَّثَنا سُفْيانُ، عن السُّدِّيّ، عن عِكْرِمة في قَوْله تعالَى: واضْرِب لهم مَثَلًا أصْحَاب القَرْيَة. قال: هي أَنْطاكِيَةُ.
ونقَلْتُ من كتاب أبي الحُسَيْن أحمد بن جَعْفَر بن المُنَادي الّذي سمَّاهُ الحَافِظ، وهو مَسْمُوعٌ عليه، قال: حَدَّثَنا جَدِّي، قال: حَدَّثَنَا يُونُس، قال: حَدَّثَنا شَيْبَان، عن قَتَادَةَ: واضْرِب لهم مَثَلًا أصْحاب القَرْيةِ. قال: ذُكِر لنا أنَّها أَنْطاكِية؛ مَدِينَةٌ من مَدَائِن الرُّوم.
قُلتُ قَوْله: من مَدَائِن الرُّوم؛ يعني: أنَّها كانت من مَدَائِن الرُّوم، والرُّوم يُعَظِّمُونها، فإنَّ قِصَّة حَبِيب كانت بأَنْطاكِية الشَّام، وقَبْرهُ بها.
أخْبَرَنَا أبو اليُمْن زَيد بن الحَسَن الكِنْدِيّ إذْنًا، قال: أخْبَرَنَا أبو مَنْصُور عَبْدُ الرَّحْمن بن مُحمَّد القزَّاز، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْر أحمدُ بن عليّ بن ثابت الخَطيبُ
(1)
، قال: أخْبَرَنَا الحُسَيْن بن عليّ بن الحُسَيْن بن بَطْحاء المُحْتَسِبُ، قال: أخْبَرَنَا أبو سُلَيمان مُحمَّد بن الحُسَيْن بن عليّ الحَرَّاني، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن الحَسَن بن قُتَيْبَة، قال: حَدَّثَنا أحمدُ بن مُسْلِم الحَلِبِيّ، قال: حَدَّثَنا عبد الله بن السَّرِيّ المَدَائِنِيّ، عن أبي عُمَر البَزَّاز، عن مُجَالد بن سَعيد، عن الشَّعْبِيّ، عن تَمْيِم الدَّاريّ، قال
(2)
: قُلْتُ: يا رسُولَ
(a) بعده في الأصل مكررًا: حدثنا إبراهيم بن عبد الله.
_________
(1)
تاريخ بغداد 11: 144 - 145.
(2)
ابن الجوزي: الموضوعات 2: 57، الذهبي: ميزان الاعتدال 2: 427 (رقم 4347)، وفيه: مائدة بدل سرير، السيوطي: اللاليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1: 464، وفيه: في غار من غيرانها بدل في غاراتها. ابن عراق الكناني: تنزيه الشريعة المرفوعة 2: 46.
اللهِ، ما رأيتُ للرُّومِ مَدِينَةً مثل مَدِينَةٍ يُقالُ لها أَنْطاكِيَةَ، وما رَأيتُ أكثرَ مَطَرًا منها، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نعم؛ وذلك أنَّ فيها التَّوْراة، وعصَا مُوسَى، ورَضْرَاض الألْوَاح، ومَائِدَةُ سُلَيمان بن دَاوُد في غار من غِيْرَانها، ما من سَحابةٍ تُشْرفُ عليها من وَجْهٍ من الوُجُوهِ إلَّا أفرَغَتْ ما فيها من البَرَكَة في ذلكَ الوَادِي، ولا تَذْهبُ الأيَّام واللَّيالِي حتَّى يَسْكُنَهَا رجُلٌ من عِتْرَتِي، اسمُهُ اسمي، واسْمُ أبيهِ اسْمُ أبي، يُشْبهُ خَلْقُه خَلْقِي وخُلْقُهُ، يملأُ الدُّنْيا قِسْطًا وعَدْلًا كما مُلِئَتْ ظُلْمًا وجَوْرًا.
وقد رُويَ هذا الحَدِيْث عن عَطَاء، عن ابن عبَّاس، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وفيه زِيَادةٌ على ما رَوَاهُ الشَّعْبِيّ عن تَمِيْم الدَّارِيّ، نَقَلْتُهُ من خَطِّ القَاضِي أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد اللهِ بن إبْرَاهِيْم الطَّرَسُوسِيّ، قاضِي مَعَرَّة النُّعْمَان، وكان فَاضِلًا مُسْنِدًا، قال: حَدَّثَنَا أبو عُمَيْر عَدِيُّ بنُ أحْمد بن عَبْد البَاقِي، قال: حَدَّثَنَا يوسُفُ بن سَعيد بن مُسْلم، قال: حَدَّثَنَا الحَّجاجُ، عن ابن جُرَيْج، عن عَطَاءٍ، عن ابن عبَّاس، قال: كنتُ جالِسًا عندَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إذْ أتاهُ تَمِيْم الدَّارِيُّ، فقال لهُ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: من أينَ قَدِمْتَ؟ قال: من الشَّامِ، فقال تَمِيم: يا رسُول اللهِ؛ لم أرَ بالشَّام مَدِينَةً أحْسنَ من أَنْطاكِيَة ولا أطْيَبَ، إلَّا أنَّها كَثْيِرة الأمْطَار، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أتَدْرونَ ما السَّببُ في ذلك؟ قالوا: اللهُ ورسُولهُ أعْلَم! قال: فيها جَبَلٌ، وفي ذلك الجبَلَ غَار، وفي ذلك الغَار عصَاة (a) مُوسَى صلَّى اللهُ عليهِ، وشيءٌ من ألْواحهِ، ومائِدةُ سُلَيمانُ، ومَحْبُرَةُ (b) إِدْرِيسَ، ومِنْطَقَهُ شُعَيْب، وبُرْدَا نُوح، ولا تطلعُ سَحابةٌ شَرْقَيَّةٌ ولا غَربيَّةٌ، ولا قِبليَّة ولا جَرْبيَّة (c)، إلَّا حُطَّ من
(a) كتب ابن العديم فوقها: "صـ".
(b) كذا ضبطها بضم الباء، وهو لغة فيها، والأكثر على الفتح.
(c) في الأصل: حربية، وأكدها بحاء مهملة أسفلها، وفي ك: بحرية، والصواب بالمعجمة كالمثبت، والجربي: الشمال. انظر: البلدان اليعقوبي 320، مروج الذهب للمسعودي 2:359.
بَرَكتها عليها وعلى ذلك الغَار قَبْل أنْ تُمْطِر (a) في الدُّنْيا، ولا تقُوم السَّاعَة ولا تذهبُ اللَّيالِي والأيَّامُ حتَّى يَخْرُجَ رجُلٌ من أهْلِ بَيْتي ومن عِتْرَتِي، يُوافِق اسمُهُ اسْمِي، واسْمُ أبيهِ اسْم أبي، فيَسْتَخْرج جميعَ ما في ذلك الغَارِ، يَملأُ الأرْض عَدْلًا كما مُلِئَتْ جَوْرًا وظُلْمًا.
أنْبَأنَا عَبْد العَزِيْز بن الحُسَيْن بن هِلالَةَ، قال: أخْبَرَتنا عَفِيفَة بنت أحْمَد بن عَبْد الله الأصْبَهَانِيَّة، قالت: أخْبَرَتَنْا فاطِمَة الجُوزْدَانِيَّة، قالت: أخْبَرَنَا أبو بَكْر بن رِيْذَة، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم الطَّبَرَانِيّ، قال: أخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمن بن حَاتِم، قال: حَدَّثَنَا نُعَيْم بن حَمَّاد، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، عن مَعْمَر، عن مَطَر الوَرَّاق، عمَّن حَدَّثَهُ، عن كَعْب، قال
(1)
: إنَّما سُمِيَّ المَهْدِيُّ، لأنَّهُ يَهْدي (b) لأمْرٍ قد خَفِيَ، ويَسْتخرِجُ التَّوْراةَ والإنْجِيْلَ من أرْضٍ يُقالُ لها: أَنْطاكِيَةُ.
أخْبَرَنا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد، قال: أخْبَرَنا عَمِّي الحافِظُ أبو القَاسِم
(2)
، قال: أخْبَرَنَا أبو الفَضائِل نَاصِر بن مَحْمُود بن عليّ القُرشِيّ، ح.
وأخْبرنَا أبو مُحمَّد هِبَةُ الله بن الخَضِر بن هِبَةِ الله بن طَاوُس إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو الفَضائِل نَاصِر بن مَحْمُود، قال: حَدَّثَنا عليّ بن أحمد بن زُهَيْر، قال: حَدَّثَنَا عليّ بن مُحمَّد بن شُجاع، قال: أخْبَرنا أبو الحَسَن فَاتِكُ بن عَبْد اللهِ المُزَاحِميّ بِصُوْر، قال: حَدَّثنَا أبو القَاسِم عليّ بن مُحمَّد بن طَاهر بصُوْر، قال: حَدَّثَنَا أبو عَبْد المَلك مُحمَّد بن أحمد بن عَبْد الوَاحِد بن جَرِير بن عُبْدُوس، قال: حدَّثنا مُوسَى بن أَيُّوب، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن قُسَيْم، عن السَّرِيّ بن بَزِيع، عن السَّرِيّ بن يَحْيَى، عن
(a) جاء ضبطها في الأصل: تَمْطُر.
(b) في كتاب الفتن: يُهْدَي.
_________
(1)
نعيم بن حماد: كتاب الفتن 355.
(2)
تاريخ ابن عساکر 1: 257.
الحَسَن، عن أبي هُرَيْرَة، عن رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال
(1)
: لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتِي يُقاتلونَ على أبْواب بَيتِ المَقْدِس وما حَولها، وعلى أبواب أَنْطاكِيَة وما حَوْلها، وعلى باب دِمَشْقَ وما حَولها، وعلى أبوابِ الطَّالَقَان وما حَوْلها، ظَاهِرين على الحقِّ لا يُبالُون مَنْ خَذَلهم ولا مَنْ نصَرهم، حتَّى يُخْرج اللهُ كنزَهُ من الطَّالَقَان، فيُحيي بهِ دينَهُ كما أُميتَ من قَبْل.
وقَرَأت بِخَطِّ أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد اللهِ بن إبْرَاهِيم الطَّرَسُوسِيّ القَاضِي: حَدَّثَنَا أبو الفضل صالِح بن يوسف العِجْلِيّ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن عليّ بن الجَارُوْدِ، قال: حَدَّثَنَا ابن مَسْرُور، عن ابن عُيَيْنَة، عن الزُّهْرِيّ، عن ابن المُسَيَّب، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: أفْضَلُ الرِبّاطِ أرْبعةٌ: عَسْقَلان، والإسْكَنْدَرِيَّة؛ وهما العَرُوسَان، وأَنْطاكِيَة.
ثم قال: لا تزالُ طائفَةٌ من المَلائِكَة يُقاتِلُونَ حولَ أَنْطاكِيَة وحَول دِمَشْق وحول الطَّالَقَانِ إلى أنْ يخرج يَأْجُوج ومَأْجُوج.
وسقَطَ ذِكْر الرَّابِعَة في رِوايَةِ القَاضِي أبو عَمْرو، وأظُنُّها: دِمَشْق
(2)
.
قَرَأتُ بِخَطِّ القَاضِي أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد الله بن إبْرَاهِيْم الطَّرَسُوسِيّ: حَدَّثَنا أبو الحَسَن عَلَّان بن عِيسَى بن مُشْكان القَاسَانِيّ سنةَ اثنَتين وثلاثين وثَلاثِمائة، قال: حَدَّثَنَا أبي وعَمِّي، قالا: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بن رَاَهَوَيْه، قال: حَدَّثَنَا رَوْحُ بن عُبَادَة، قال: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاء بن إسْحَاق، عن عَمْرو بن دِيْنار، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاسٍ، وأبي سَعيد الخُدْرِيّ، وأبي هُرَيْرَة، قالوا: سَمِعْنا رسُول اللهِ
(1)
الربعي: فضائل الشام 75 (رقم 112) وفيه: "باب دمشق
…
ولا من يضرهم".
(2)
لعل مراد ابن العديم من التصويب: طرسوس لا دمشق، لأنه أورد ذكر دمشق في الروايتين قبله.
صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يقُول: ليلَة أُسْرِي بي إلى السَّماءِ رأيتُ قُبَّةً بَيْضَاءَ لم أرَ أحْسَنَ منها، وحَوْلها قِبَابٌ كَثْيِر، فقُلتُ: ما هذه القِبَاب يا جِبْرِيل؟ قال: فقال: هذه ثُغُور أُمَّتِكَ، فقُلتُ: ما هذه القُبَّة البَيْضاءُ؛ فإنّي ما رَأيتُ أحسَنَ منها؟ قال: هي أَنْطاكِيَة، وهي أُمُّ الثُّغُور، فَضْلُها على الثُّغُور كفَضْل الفِرْدَوْس على سَائر الجِنَان، السَّاكنُ فيها كالسَّاكِنِ في البَيْت المَعْمُور، يُحْشر إليها أخْيار أُمَّتكَ، وهي سجنُ عالَمٍ من أُمَّتكَ، وهي مَعْقِلٌ ورِباط، وعِبادَةُ يومٍ فيها كعبادَةِ سَنَةٍ، ومَنْ ماتَ بها من أُمَّتِكَ كَتَبَ اللهُ له يَوم القِيامَةِ أجْرَ المُرَابِطْين.
وقَرَأتُ في كتاب البُلْدان وفُتُوحها وأحْكَامها؛ تأليفُ أحْمَد بن يَحْيَى بن جَابر البَلاذُرِيّ
(1)
، قال: حَدَّثَني مُحمَّد بن سَهْم الأنْطاكِيّ، عن أبي صَالِح الفَرَّاء، قال: قال مَخْلَد بن الحُسَيْن: سَمْعِتُ مشايخَ الثَّغْر يَقُولُونَ: كانت أَنْطاكِيَة عَظِيمَة الذِّكْرِ والأمْر عند عُمَر وعُثْمان رحمهما اللهُ.
أنْبَأنا أبو الفَضْلِ عَبْد الرَّحْمن بن عَبْدِ الوهَّاب بن صالح المُعَزّمِ، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر هِبَة الله بن الفَرْخ ابن أُختِ الطَّويل، قال: أخْبَرنا أبو الحَسَن عليّ بن الحَسَن بن عليّ المُحَكِّميّ، قال: حَدَّثَنا أبو الحَسَن عليّ بن أحمد بن مُحمَّد بن سُلَيمان بن كَامِل الكَرَابِيْسِيّ البُخارِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو عَبْد اللهِ مُحمَّد بن مُوسَى، قال: حَدَّثَنا أبو جَعْفَر هارُون بن إبْرَاهِيْم بن عِيسَى بن المَنْصُور أَمِير المؤمِنِين الهاشِميّ ببَغْدَاد، قال: حَدَّثَنا إبَراهِيْم بن الحَسَن الأنْطاكِيّ والرَّبْيِع بن ثَعْلَب، قالا: حَدَّثَنا رَبيعُ بن جُمَيْع، عن الأَعْمَش، عن بِشْرِ بن غَالِبٍ، قال:
(1)
فتوح البلدان 201.
قَدِمَ أهْلُ أَنْطاكِيَة على الحُسَيْن بن عليّ، فسألَهُم عن حَالِ بلدِهم، وعن سِيْرة أميرهم فيهم، فذكَروا خَيْرًا، إلا أنَّهم شَكَوْا البَرْد، فقال الحُسَيْنُ بن عَليّ: حَدَّثَني أبي عن جدّي رسُول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال
(1)
: أيّما بَلْدة كثُرَ أذانُها بالصَّلاةِ كُسِرَ بَرْدُهَا.
وقد رَواهُ الرَّبْيع بن ثَعْلَب، عن عَمْرو بن جُمَيْع، عن بِشْر بن غَالِبٍ.
أخْبرَنا به أبو الحَجَّاج يُوسُف بن خَلِيل بن عَبْد اللهِ مُشَافهةً، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم يَحْيَى بن أَسْعَد بن بَوْش، قال: أخْبَرَنا أبو طَالِب عَبْد القَادِر بن مُحمَّد بن عَبْد القَادِر بن مُحمَّد بن يُوسُف، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد الحَسَن بن عليّ بن مُحمَّد الجَوْهَرِيّ، بقراءة أبي بَكْر الخَطِيب وأنا أسْمَعُ، قال: أخْبَرَنا أبو حَفْصٍ عُمَر بن مُحمَّد بن عليّ الصَّيْرَفِيّ المَعْرُوفُ بابنِ الزَّيَّاتِ قراءةً عليهِ، قال: حَدَّثَنا أبو الحَسَن أحمدُ بن الحُسَين بن إسْحَاق الصُّوفِيّ الصَّغير، قال: حَدَّثَنا الرَّبيعُ بن ثَعْلَب العَابِد، قال: حَدَّثَنا عَمْرو بن جُمَيْع، عن بِشْر بن غَالِب، قال: قَدِمَ على الحُسَيْن بن عليّ عليهما السلام ناسٌ من أهْلِ أَنْطاكِيَة، فسألَهُم عن حالِ بلادِهم، وعن سِيْرة أميرهم، فذكَرُوا خَيْرًا، إلَّا أنَّهم شَكَوْا إليه البَرْد، فقال الحُسَيْن رضي الله عنه: حَدَّثَني أبي عن جدِّي رسُول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: أيّما بلْدة كَثُرَ أذانُها بالصَّلاةِ كُسِرَ بَرْدُها.
وقد رُوي ذلك عن الحَسَن بن عليَ رضي الله عنه، عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَسَنَذْكُره في تَرْجَمَةِ أخي بِشْر بن غَالِب، فيمَن لا يُعْرف اسْمه
(2)
.
(1)
تاريخ بغداد 15: 26 (في ترجمة موسي بن سليمان الجوزجاني)، وانظر تخريج الحديث فيه.
(2)
انظر ترجمة أخي بشر بن غالب في الجزء العاشر من هذا الكتاب. وورد في الأصل بعده أربعة مزدوجات من قصيدة الطرسوسيّ، تتعلق بأنطاكية، مع تفسيرها، وكتب المؤِلّف إزاءها:"تنقل إلى آخر الباب الذي في أول الجزء"، فنقلناها حيث أشار.
بابٌ في ذِكْرِ مَنْبِج، واسْمها، وبِنَائها
(1)
وهي مَدِينَةٌ حَسَنَةُ البناءِ، صَحيحةُ الهَوَاء، كَثِيْرة المياه والأشْجَار، يانعَةُ البُقُول والثِّمَار، وأهلُها خِلَقٌ حَسَنَة، ويُقال إنها كانت مَدِينَة الكَهَنَة، ودُورها وأسْوارها مَبنيَّة بالحِجارَة، ولم تزل أسْوارها في أكْمل عمَارَة إلى أنْ حَصَرها المَلِكُ الظَّاهِر غَازِي بن يُوسُف بن أَيُّوب في سَنة [سَبْع وتِسْعِين وخَمْسِمائَة](a).
ولَمَّا فتحَها خرَّب حِصْنها، وكان حِصْنًا مانِعًا، وهو الّذي حَصَرهُ بلك بن أُرْتُق وصاحبها إذ ذاك حَسَّان
(2)
، فقُتِلَ
(3)
عليها، وبقي السُّور على حالهِ، وإذا انْهَدم
(a) بياض في الأصل و "ك" قدر سطر، والتعويض من: زبدة الحلب 2: 618، وتاريخ ابن الفرات 4/ 2: 198، 224، وفي الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 109: في رجب سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
_________
(1)
منبج: مدينة من مدن محافظة حلب تتبع إليها العديد من القرى والنواحي، تقع على خط العرض 36.31 والطول 37.57، إلى الغرب من جسر منبج، وهي مدينة قديمة بقرب نهر الفرات على بعد نحو 15 كم، وإلى الشمال الشرقي من حلب على بعد نحو 80 كم، أو مسيرة يومين باعتبارات الجغرافيين القدامى، وتبعد عن ملطية أربعة أيام، وهي حصينة عليها سور قديم، وبقعتها في أرض منبسطة. انظر: ابن خرداذية: المسالك 75، ابن الفقيه: البلدان 166، 180، اليعقوبي: البلدان 363، (وفيه أنها على الفرات، وكلامه هذا على التقريب، إلا أن يكون خلط بينها وبين جسر منبج، إذ أن بينها وبين الفرات 15 كم)، قدامة: الخراج 177، 187، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 83، 107، الإصطخري: مسالك 65، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 180 - 181، 185، 187، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، 190، الإدريسي: نزهة المشتاق 1: 378، 2: 651، ابن جبير: الرحلة 223، ياقوت: معجم البلدان 5: 205 - 207، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 34، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، 412، أبو الفداء: تقويم البلدان 270 - 271 (وكانت منبج وسورها خراب في زمنه)، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 30، الحميري: الرَّوض المعطار 547، موستراس: المعجم الجغرافي 468، زكرياء: جولة أثرية 217، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 348 - 350،383 - 377، N. ELISSEEFF، El 2: Manbidj، Vi، pp
(2)
الأمير حسَّان بن كمشتكين التركي البعلبكي، ويقال: المنبجي (ت 549 هـ)، وانظر خبر محاصرة بلك له في منبج وسجنه في ترجمته التالية (الجزء الخامس)، وأيضا عند ابن الأثير: الكامل 10: 619، 650، 11: 109 - 110،، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 414 - 416، النويري: نهاية الأرب 27: 77.
(3)
الذي قُتل: بلك بن بهرام بن أرتق، ومقتله سنة 518 هـ؛ أتاه سهم قتله، وتخلَّص حسان من سجنه. انظر المصادر المتقدمة.
منهُ شيء لا يُعْمر، فلمَّا مات المَلِك الظَّاهِر، جاء كَيْكَاوُس ملك الرُّوم وفي صُحْبته المَلِك الأفْضَل عليّ بن يُوسُف، أخو المَلِك الظَّاهِر، فاسْتولَى على المَدِينَة، ورَمَّ ما تَشَعَّثَ من سُورها، وفَتَحَ تلّ باشِر من يد ابن دَلْدرم، واسْتدعَى أتَابِك طُغْرِل المَلِك الأشْرَف مُوسَى بن المَلِك العادِل من حِمْص ليَدْفع كَيْكَاوُس، فجاء وخَرَجَ بعَسْكر حَلَب إلى الباب، واتَّفق للعَسكَرَيْنِ وَقْعَة أُسِرَ فيها جَمَاعة من أُمَراءِ الرُّوم، فانْدَفعِ كَيْكَاوُس عن البلادِ، فاسْتعادَها المَلِكُ الأشْرَف، فشَعَّثَ أتَابِك طُغْرِل سُور مَنْبِج عند ذلك تَشْعيثًا فاحشًا، وتداعَت أرْكانه، وبَني منهُ الخان الّذي جدَّده أتَابِك للسَّبيل، وهو موضع الحِصْن الّذي (a) خرَّبه المَلِك الظَّاهِر، وأخذَ أهل البَلَدِ من حِجَارَة السُّور أحْجارًا كَثِيْرة لعَمَائِرهمِ، فلم يبقَ منه إلَّا ما يمنَع الغَارة، وأمَّا البَلَد فإنَّه عَامِرٌ، آهِلٌ، كَثِيرُ الخَيْراتِ، ومَعايشهم وافرة جدًّا، لا سِيَّما في اسْتخراج ماء الوَرْد والخِلَاف
(1)
والإبْرَيْسَم.
وكان اسْمُها أوَّلًا: سُرْياس، ثمّ سُمِّيت: أبروقليس، فسمَّاها كِسْرَى: مَنْبه، وعُرِّبت فقيل: مَنْبِج.
قَرَأتُ في تاريخ وقع إليَّ، ذَكَرَ جامعُه أنَّه انْتَسَخهُ من كُتُب شتَّى، ومن التَّوْراة اليُونانِيَّة والسُّرْيَانيَّة، ومن تاريخٍ للرُّومِ وغيرهم
(2)
، قال: وفي سَنة خَمْسين
(a)" الذي" مكررة في الأصل.
_________
(1)
شجر الخِلاف: الصَّفْصاف، وقيل: ضربٌ منه. لسان العرب، مادة: صفف.
(2)
لعله كتاب "العنوان المكلل بفضائل الحكمة، المتوَّج بأنواع الفلسفة، الممدوح بحقائق المعرفة"، لمؤلفه أغابيوس بن قسطنطين، الذي تسمية المصادر العربية: محبوب المنبجي (ق 4 هـ/ 10 م)، وما أورده ابن العديم من أوصاف تدل على أنه هو المراد، وبرد في فاتحة كتاب المنبجي:"إعلم أن هذا الكتاب المبارك جمعه مصنفه وألفه من كتب الله المقدسة ومن كتب الفلاسفة والحكماء .... إلخ"، وقد أثنى المسعودي (التنبيه 154) على عمل المنبجي ووصفه بأنه "أحسن كتاب في تاريخ الملوك والأنبياء والأمم والبلدان". وإذا تقرر هذا، فإن نقل ابن العديم عنه - أو بواسطة غيره - كان على وجهٍ خاطئ ومُضْطرب، فإنَّ بختنصر (نبوخذ نصر) لم يحكم سوى 45 سنة، والإشارة عنده تؤرّخه في سنة خمسين من حكمه، ثم =
من مُلْكهِ - يعني مُلْك بُخْتَنَصَّر - قُتِلَ فِرْعَون الأعْرَج ملك مِصْر واسْمُه يُوياقيم (a)، قال: وكان فِرْعَون قد أحْرَق مَدينة مَنْبِج، ثمّ بُنِيت بَعْد ذلك، وسُمِّيت أبروقليس، وتفسيره: مَدِينة الكَهنَة.
أخْبَرَنَا أبو المُظَفَّر عَبد الرَّحِيم بن عَبد الكريم بن مُحمَّد بن منصور السَّمْعانيّ في كتابه إليَّ من مَرْو، قال: أخْبَرَنَا أبي أبو سَعد
(1)
، إجازَةً إن لم يَكُن سَمَاعًا، قال: ومَنْبِج بناها كِسْرَى حين غلب على نَاحيةٍ من الشَّام ممَّا كان في أيْدِي الرُّوم، وسمَّاها مَنْبِه، وبنَى بها بيت نَار، ووكَّل به رجُلًا يُسمَّى يَزْدَانِيَار (b) من وَلد أَرْدَشِيْر بن بَابَك (c)، وهو جَدُّ سُليمان بن مُجَالِد الفَقِيه.
ومَنْبِه بالفارسيَّة: أنا أجود، فأَعْرَبت العَرَبُ مُنْبِه مَنْبِج، وقال: إنَّما سُمِّيت ببَيْت نَار مَنْبِه، فغلَب على اسْم المَدِينَةِ.
أخْبَرَنا أبو اليُمْن زَيد بن الحَسَن الكِنْدِيّ إذْنًا، قال: أخْبَرنا أبو مَنْصُور مَوْهُوبُ بن أحمد بن مُحمَّد بن الخَضِر الجَوَالِيْقِيُّ، قال: ومَنْبِج اسم البَلد، أعْجَميُّ، وقد تكلَّمُوا به، ونسَبُوا إليه الثِّياب المَنْبَجَانِيَّةَ (d).
(a) مهملة الأول، والإعجام من تاريخ الطبري 1: 536، والعبر لابن خلدون 3: 259 - 260 (ضمن مشجر بني داود)، وفي تاريخ ابن الوردي 1: 44: يهوياقيم.
(b) أنساب السمعاني: يزداينار، وعند ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 106: يزدجرد.
(c) أنساب السمعاني: نائب.
(d) كذا بفتح الباء، وهي نسبة على غير قياس، وكلام ابن الجواليقي مثبتٌ بنصه في كتابه المُعرَّب من الكلام الأعجمي 325.
_________
= إن اسم يوياقيم (أو يواقيم) هو اسم لأحد ملوك بني إسرائيل وليس اسم لفرعون (انظر تاريخ الطبري 1: 536). ونص كلام المنبجي: "وفي سنة خمسة من مُلك يواقيم، قتل بختنصر فرعون الأعرج، ملك مصر،
…
وفي ذلك الزمان خرب فرعون مدينة منبج التي كانت على الفرات فلما بنيت ثانية سُمِّيت إيروبولس، أعني مدينة الكُهَّان". انظر Agapius de Menbidj: Kitab Al - Unvan، Vol ll/l. 67 - 66 Pp ، وتاريخ ابن الوردي 1:45.
(1)
السمعاني: الأنساب 12: 440.
قُلت: ويُقال الأَنْبَجانِيَّة أيضًا، وقد جاءَ في الحديث:[أتُوْني بأنْبجَانِيَّة أبي جَهْمٍ](a).
وقال: أبو زَيْد أحمَد بن سَهْل البَلْخيّ، في كتاب صُورة الأرض والمُدُن
(1)
: وأما مَنْبِج فهي مَدِينةٌ في بَرِّيَّة، الغَالِب على مَزَارعها الأعْذَاءُ، وهي خِصْبَة. وبقُربها سَنْجَة
(2)
، وهي مَدِينَةٌ صَغِيرَة، بقربها قَنْطَرَة حِجارَة، تُعْرفُ بقَنْطَرة سَنْجة، ليسَ في الإسْلام قَنْطَرَة أعْجب منها.
وقَرَأت في كتاب أحْمد بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ، في المَسَالِك والمَمَالِك
(3)
، في الطَّريق من بلاد الرُّوم إلى الشَّام في بعض مَسَالكه، قال: ثمّ ارْجع إلى الحوزة (b)، فمنها طريق إلى بُحيَرَة سماطى ثمّ بعَقَبة بيغاس
(4)
، إلى علُّو وهي الفُرَات، ثمّ إلى سُرْياس وهي مَنْبِج.
(a) ما بين الحاصرتين بياض في الأصل مِقْدَاره أزيد من نصف سطر، والمدرج من حديث متفق عليه، أخرجه مسلم في صحيحه 1: 391 (رقم 61، 62)، وصحيح ابن حبان 6:106.
(b) في "ك": الحورة.
_________
(1)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 أ.
(2)
سَنْجة: مدينة صغيرة تقع قريبًا من كيسوم، موضعها من نواحي بهنسي وكيسوم، وجعلها كل من الإصطخري وابن حوقل - خطأ أو على التقريب - بقرب مَنْبِج، ونهر سنجة يسمى الآن "بُلَم صو" وعليه قنطرة من عجائب الدنيا يضرب المثل بها، مبنية بالحجر المشذب، تسمى قنطرة سنجة. انظر: ابن الفقيه: البلدان 109، 156، 517، الإصطخري: مسالك 62، ابن حوقل: صورة الأرض 181 المسعودي: التنبيه 64، مجهول: حدود العالم 175، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 651، ياقوت: معجم البلدان 3: 265، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 105، الوطواط: مناهج الفكر 1: 412، لسترنج: بلدان الخلافة 156.
(3)
كتاب المسالك والممالك للسرخسي (ت 286 هـ) من الكتب التي لم تصلنا، ذكره ابن الساعي وابن أبي أصيبعة في تعدادهما لكتب ابن الطيب السرخسي، ونقل عنه ابن العديم في العديد من المواضِع في هذا الجزء، وأعاد ذكر الكتاب في ثنايا ترجمته لابن الطيب السرخسي (الجزء الثاني)، قال:"ووقَفت على كتاب المسالك والممالك من تَصنيف أحمد بن الطَّيِّب، وقد أوْردت منه فوائد في صَدْر كتَابنا هذا في ذكر البُلدان المُتَعِلّقة بحلب". انظر: ابن الساعي: الدر الثمين 263، ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 294.
(4)
مهملة الأول والثاني، وتأتي فيما بعد برسم بغراس، وهي عقبة في طريق الثغور يقال لها أيضًا: عقبة النساء.
وذكَر أحْمدُ بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب، في كتاب البُلْدان، في تَعْدَادِ كُوَر جُند قِنَّسْريْن والعَوَاصِم، فقال
(1)
: وكُورة مَنْبِج وهي مَدِينَةٌ قديمَةٌ، افْتُتِحَت صُلْحًا، صَالَح عليها عَمْرُو بن العَاصِ وهو من قِبَلِ أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح، وهي على الفُرَاتِ الأعْظَم، وبها أخْلَاطٌ من النَّاس من العَرَب والعَجم، وبها مَنازل وقُصُور لعَبْد المَلِك بن صالح بن عليّ الهاشِميّ.
قُلتُ: قوْله: وهي على الفُرَات، خَطَأٌ؛ لكنَّ جِسْر مَنْبِج
(2)
على الفُرَات.
وقيل: إنَّ عِياض بن غَنْم فَتَحَ مَنْبِج صُلحًا على مِثل صُلْح حَلَب.
وذكَر البَلاذُرِيُّ، قال
(3)
: ولم تَزَل قِنَّسْرِيْن وأَنْطاكِيَة ومَنْبِج وذَواتها جُنْدًا، فلمَّا اسْتُخلف هارُون بن المَهْدِي أفْرَد قِنَّسْرِين بكُورها فصَيَّرِ ذلك جُنْدًا واحدًا، وأفرد مَنْبِج ودُلُوْك ورَعْبَان وقُورس وأَنْطاكِيَة وتِيْزِيْن، وسَمَّاها العَوَاصِم؛ لأنَّ المُسْلِمِينُ يَعْتَصِمُون بها، فتَعْصمَهم وتَمْنَعهم إذا انْصَرفوا من
(1)
ضمن الضائع من كتاب ابن واضح اليعقوبي.
(2)
جسر منبج، وهي أول مدينة ثغرية تقع في أقصى جهة الشرق من جند قنسرين، وهي مدينة صغيرة تقع غربي نهر الفرات، في سهول حلب الشرقية، وشمال شرقي مدينة حلب على بعد 115 كم، وتبعد عن منبج نحو 30 كم إلى جهة الشرق منها، وعن بالس أربعة أيام، وهي مدينة حصينة، وذكر البلاذري أن الجسر استحدث في خلافة عثمان بن عفان لمرور الصوائف، وتسمى الآن قلعة النجم، وقد وهم الشريف الإدريسي بالقول إن قنطرة سنجة هي ذاتها جسر منبج، ونهر سنجة يرفد الفرات قريبًا من سميساط، وبين جسر منبج وسميساط مسافة بعيدة. انظر: المسعودي: التنبيه 385، الإصطخري: مسالك 62، 76، ابن حوقل: صورة الأرض 181، 210، 227، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 651، ابن سعيد: بسط الأرض 88، ياقوت: معجم البلدان 1: 328، 4: 391، ابن شدَّاد، الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 110 - 111، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، لسترنج: بلدان الخلافة 139، زکرياء: جولة أثرية 232، موستراس: المعجم الجغرافي 469، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 406 - 407، محمود شيث خطاب: بلاد الجزيرة قبل الفتح وفي أيامه 34.
(3)
فتوح البلدان 180.
عدوِّهم (a) وخَرجوا من الثُّغُور، وجَعل مَدِينَة العواصم مَنْبِج، فسَكَنها عَبْدُ المَلِك بن صالِح بن عليّ في سَنة ثلاثٍ وسَبْعِين ومائة، وبنَى بها أبْنيتَهُ.
وذكَر قُدامة في كتاب الخَرَاج
(1)
نحوًا من ذلك.
وقَرَأتُ في كتاب ابن حَوْقَل النَّصِيْبِيّ
(2)
: مَدينة مَنْبِج، وهي خِصْبَة، كَثِيْرة الأسواق، قَدِيمةٌ، عظيمة الآثار، وهي ذات سُورٍ أزَليٍّ رُوميٍّ، وبقُربها أيضًا مدينة صَنْجة (b)، وهي مَدِينَةٌ صَغِيرةٌ، بقُرْبها قَنْطَرَة حِجَارَة تُعْرفُ بقَنْطَرَة صَنْجة، ليس على الإسْلام أعْجب بناءً منها، يقال: إنَّها من عجائب الزَّمان.
قال
(3)
: وجِسْر مَنْبِج مَدينةٌ صَغيرةٌ، لها زرْع سَقي ومَباخِس، وماؤُهَا من الفُرَاتِ، حَصِيْنة، وزروعُها سَقي، نَزِهَةٌ، ذاتُ مياهٍ وأشْجارٍ، وهي قريبةٌ من الفُرَاتِ، وقد قاربَت أن تَخْتَلَّ وتَخْرَب.
قال البَلاذُريُّ في كتاب البُلْدانِ
(4)
: وقَرْيَة جِسْر مَنْبِج، ولم يكن الجِسْر يومئذٍ، إنَّما اتُّخِذَ في خِلَافَة عُثْمان بن عَفَّان رضي الله عنه للصَّوَائَف، ويُقال: بل كان لَهُ رَسْمٌ قديم.
وقال
(5)
: قالوا: وأتى أبو عُبَيْدَة حَلَب السَّاجُور، وقدَّم عِيَاضًا إلى مَنْبِج، ثمّ لحقَهُ وقد صَالح أهلَها على مِثل صُلْح أَنْطاكِية، فأنفَذَ أبو عُبَيْدَة ذلك.
(a) فتوح البلدان: من غزوهم.
(b) تقدم ذكرها بالسين، وهما لغتان فيها، والذي في نشرة ابن حوقل بالسين.
_________
(1)
قدامة: الخراج 299.
(2)
صورة الأرض 181، وتختلف النسخة التي ينقل عنها ابن العديم قليلًا عن النشرة المتداولة الآن.
(3)
صورة الأرض 181، وفيه اختلاف يسير.
(4)
فتوح البلدان 205
(5)
فتوح البلدان 204
قَرَأت بِخَطِّ عليّ بن هِلال الكَاتب، المَعْرُوفُ بابنِ البَوَّاب: لمَّا دَخَلَ الرَّشيد مَنْبِج، قال لعَبْد المَلِك بن صالح. وكان أوْطَنَها -: هذا منزلُك؟ قال: هو لك، ولي بك، قال: كيف بناؤه؟ قال: دُون منازل أهْلِي، وفَوْقَ مَنازل النَّاس، قال: فكيف طِيْب مَنْبِج؟ قال: عَذْبَةُ الماء، غَذِيَّةُ الهواءِ، قليلةَ الَأدْوَاء، قال: فكيف ليلُهَا؟ قال: سَحَرٌ كُلُّهُ
(1)
.
وفي رواية أُخْرى من غير خَطِّ ابن البَوَّاب، قال: إنَّها لطَيِّبة؟ قال: بك طابَتْ، وبك جَمُلَتْ
(2)
.
وقَرَأتُ في تاريخ مُحمَّد بن الأزْهَر الكَاتِب
(3)
: يقال إنَّ الرَّشِيد لمَّا وَصَلَ مَنْبِج، قال: لَهُ - يعني لعَبْد المَلِك بن صالح: كيف مَدِينتكَ؟ قال: عَذْبَةُ الماءِ، بارِدةُ الهَواءِ، صُلْبَةُ المَوْطَأِ، قليلَةُ الأدْوَاءِ، قال: كيف ليلُهَا؟ قال: سَحَرٌ كُلُّه.
وقال له يَوْمًا: يا أبا عَبْد الرَّحْمن؛ ما أحْسَن بلادَكُم! قال: وكيف لا يكون ذلك، وهي بَرِّيَّة حَمْراءُ، وشملةٌ صَفْراءُ، وشجرةٌ خَضْراءُ، فيافي فُيُّح، وجِبَال وُضَّح. فالْتَفتَ الرَّشِيدُ إلى الفَضْلِ بن الرَّبْيِع فقال له: ضَرْبُ السَّوْط أسْهل من هذا الكلام!.
(1)
انظر محاورة الرشيد وعبد الملك بن صالح عند: المسعودي: مروج الذهب 4: 271، الآبي: نثر الدر 1: 446، ياقوت: معجم البلدان 5: 206، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 71، ابن شداد، الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 105، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 51، الحميري: الروض المعطار 271.
(2)
انظره عند الثعالبي: ثمار القلوب 513، العسكري: المصون في الأدب 217.
(3)
يسمي ابن العديم كتاب ابن الأزهر هذا باسم: كتاب الأحداث، ونقل عنه في مواضع عديدة، إضافة إلى كتاب آخر في التاريخ لابن الأزهر اشترك في تأليفه مع عبد الله بن الحُسَيْن الكاتب المعروف بالقطربلي، أمَّا ابن الأزهر - أو ابن أبي الأزهر، حسبما يرد ذكره في بعض المصادر - فيشترك اسمه مع أسماء اثنين آخرين لهما كتب في التاريخ، هما: أبو عبد الله بن محمد الأزهر الأخباري (وفيات الأعيان 6: 402 - 415)، وأبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الأزهر البوسنجي (ت 325 هـ)، ولم تقطع المصادر بنسبة كتاب الأحداث لأيّ واحد من هؤلاء الثلاثة. انظر تفصيل ذلك عند: إحسان عباس: شذرات من كتب مفقودة 21 - 27.
وانظر ما يقارب رواية ابن الأزهر - المذكورة أعلاه - في المصادر التي تقدمت في الرواية قبلها، فيما ورد بخطّ ابن البوَّاب.
أنْبَأنَا أحْمد بن عَبْد الله الأسَدِيّ، عن الحَافِظ أبي طَاهِر الأصْبَهَانِيّ، عن أحمد بن مُحمَّد بن الآبِنُوسِيّ، عن أبي الحُسَيْن أحمد بن جَعْفَر بن مُحمَّد بن عبُيَد الله المُنَادِي، قال: يُقال
(1)
: إنَّ ما من بناءٍ بالحِجَارَة أبْهَى (a) من كَنِيْسَة الرُّهَا، ولا بناءٌ بالخَشَب أَبْهَى من كَنِيْسَة مَنْبِج؛ لأنَّها بطاقات من خَشَب العُنَّابِ، ولا بناءٌ بالرُّخَامِ أبْهَى من قُسْيَان أَنْطاكِيَة، ولا بناءٌ بطاقاتِ الحِجَارة أبْهَى من كَنِيْسَة حِمص، ولا بناء بالآجُر والجِصِّ أبْهَى من إِيْوَان كِسْرى بالمَدَائن، ولا منارةٌ أعْجب بناءً من مَنارة الإسْكَنْدَرِيَّة.
نَقَلْتُ من خَطِّ أبي جَعْفَر أحمد بن جُبَيْر في رِحْلَته
(2)
: ذِكْرُ مدينة مَنْبِج، حَرَسها الله: بلدةٌ فَسيحة الأَرجاء، صَحِيْحة الهَواء، يَحْويها (b) سُورٌ عَتِيق، مُمتَدّ الغاية والانْتهاء، جَوُّها صَقيل، ومُجْتَلَاها جَمِيل، ونَسيْمها أرِج النَّشْر عَليل، نَهارها يَنْدى ظِلُّه، وليلُهَا - كما قيل فيها - سَحَرٌ كُلُّه، يَحفٌّ بغربيِّها وشرقيِّها بَساتِيْن مُلْتَفَّة الأشْجار، مُختلفَة الثِّمَار، والماء يَطَّرد فيها، ويتخَلَّل جميعَ نَواحِيها.
قَرَأتُ في رسالة أبي المُظَفَّر إبْرَاهِيْم بن أحمد بن اللَّيْث الأذْريّ
(3)
، بخَطِّ أبي طَاهر السِّلَفِيّ الحافظ: ورحلنا منه - يعني من نَهر السَّاجُور - إلى مَنْبِج، فرأيته ثَغْرًا قد تشَعَّثَ سُورُه، وبَلَدًا قد اخْتَلَّت أُمُوره، إلَّا أنِّي رأيتُ لهُ ظاهِرًا حَسنًا أدِيْمهُ، وجَوًّا طيِّبًا نَسِيْمهُ، فلم أَلُمْ صديقَنَا الطَّائِيّ
(4)
على قَوْلِه: [الكامل]
في نِعْمةٍ أوْطَنْتُها وأقمتُ في
…
أفْيَائها فكأنَّني في مَنْبِج
(a) قيدها في الأصل حيثما ترد: أبهأ؛ بهمز في آخرها، وتقدم التعليق عليها.
(b) كذا في الأصل، وعند ابن جبير: يحف بها.
_________
(1)
تقدم بعض كلام ابن المنادي في الكلام على أَنْطاكِيَة، ونَسَب ابن الفقيه هذا القول للروم، وأورده في كتابه البلدان 180.
(2)
رحلة ابن جبير 223.
(3)
زار إبراهيم بن أحمد بن الليث الأذري بلاد الشام في سنة 432 هـ، ونزل بحلب، وكتب رسالة لبعض الكُتَّاب بأصبهان، يذكر فيها مَن لقي من العلماء، وينقل ابن العديم عن هذه الرسالة في العديد من المواضع.
(4)
يقصد البحتري، انظر البيت في ديوانه 1:405.
ولأبي فِرَاس الحَارِث بن سَعيد بن حَمْدان التَّغْلِبيّ يَصفُ مُنْتَزَهات مَنْبِج، وقد أنْشَدَنا بعض قوْله والدي رحمه الله، قال: أنْشَدَنا أبو المُظَفَّر سَعيد بن سَهْل بن مُحمَّد الفَلكِيّ، قال: أنْشَدَنا أبو الحَسَن عليّ بن أحمد بن مُحمَّد، قال: أنْشَدنا أبو مَنْصُور بن طَاهِر، قال: أنْشَدَنا مُحمَّدُ بن عُمَر المُتكلِّم، قال: أنْشَدنا أبو فِرَاس لنَفسه، فذكَرَ بيْتَين من شعره، والأبيات
(1)
: [من مجزوء الكامل]
قِف في رُسُوْمِ المُسْتَجَا
…
ب وَحَيِّ أكْنَافَ المُصَلَّى
فالجَرْس فالمَيْمُوم (a) فَالسُّـ
…
ــقْيا بها فالنَّهْرُ الأعْلى
تِلكَ الملاعب والمَنَا
…
زِلُ لا أرَاها اللهُ مَحْلا
حيثُ الْتَفَتَّ وجَدَّتَ (b) مَا
…
ءً سَائِحًا وسَكَنْتَ ظِلَّا
تَرَ (c) دار وادي عَين قَا
…
صِرَ مَنْزلًا رَحْبًا مُطِلَّا
وتَحُلُّ بالجِسْر الجِنَا
…
نَ وتَسْكُنُ الحِصْنَ المُعَلَّى
يَجْلُو (d) عرائِسُهُ لَنَا
…
مَرْجٌ أحسَّ (e) العَيش سَهْلَا
والماءُ يَفْصِلُ بَين زَهْـ
…
ــرِ الرَّوْضِ في الشَّطَّين فَصْلَا
كبسَاطِ وَشْيٍ جَرّدَتْ
…
أيْدِي القُيُون عليه نَصْلَا
السُّقْيَا: قَريةٌ كثيرة المياه والبَسَاتين على باب مَنْبِج، هي وقفٌ على بني البُحْتُرِيّ الشَّاعر، وهي في أيْدِيهم إلى الآن (f).
(a) الديوان: فالجوسق الميمون، ياقوت: معجم البلدان 3: 228: فالجُرْس فالميمون.
(b) الديوان: رأيت.
(c) في الأصل: نر.
(d) في الأصل: يحلو، وفي الديوان: تجلو.
(e) معجزه في الديوان يتبع البيت الذي يليه، وروايته: اجتنينا العيش سهلا.
(f) كتب ابن العديم هذا التعريف بقرية السقيا في هامش النسخة توضيحًا لما ورد في البيت الثاني من قصيدة الحمداني.
_________
(1)
ديوان أبي فراس الحمداني 239، ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 105.
قُلتُ: وجِسْر مَنْبِج الآن تحت قَلْعَة نَجْم، وهي قَلْعَة صَغِيرَة على الفُرَات، والجِسْر في ذَيْلها، وهي قَلْعَة حسنَةُ المَنْظر، مَحْمُودة المَخْبَر، كان لها رَبَضٌ صَغير، ومَسْجِدٌ لطيفٌ، فأقْطعَها المِلِكُ الظَّاهِر بَدْر الدِّين أَيْدَمُر عَتِيقَهُ عند مَوْته، وأخذَ ولاية قَلْعة حَلَب منه، فَعَمَرها، وبَنى في الرَّبَض مَسْجِدًا جامعًا، وجَعَل فيهِ مِنْبَرًا وخَطيبًا، وبنَي سُوقًا حَسنًا، فعَظُم الرَّبَض، ورَغِب النَّاس في المَقام فيهِ، وعُوِّض عن قَلْعَة نَجْم باللَّاذقِيَّة، وجُعل في القَلْعَة والٍ من جهة السُّلْطَان المَلِك النَّاصِر، أعزَّ الله نَصْره، وفي البَلَدِ وَالٍ، فكَثُرت العَمَائِر في الرَّبَض، وبُنيت فيه منازل كَثِيْرة، فاتَّسَعت أرجاؤُه، وكثُر بناؤُه، وصَار مِصْرًا من الأمْصَار، ومَقْصَدًا للمَعاشِ من سائر الأقْطار.
والقلعة مَنْسُوبة إلى نَجم غُلَام جِنِّي الصَّفْوَانيِّ، وكانت لبني نُمَيْر، وآخر مَنْ كان بها مَنْصُور بن الحَسَن بن جَوْشَن بن مَنْصُور النُّمْيرِيّ، من ولد الرَّاعِي عُبَيْد بن الحُصَيْن الشَّاعر، فقُتِل مَنْصُور وأُخِذَت القَلْعَة منهم، وخَلَّف ولدًا اسمهُ نَصْر، فأضَرَّ وعُمره أربع عشرة سنة، وقال الشِّعْر، وانْتَقل إلى بَغْدَاد بعد أنْ تغلَّب التُّرْك على ديارهم، فقال ولده يَذْكُر أباه، وأنْشَدَنيها أبو الحَسَن المُبارك بن أبي بَكْر بن مَزْيد الخَوَّاص البَغْدادِيّ بها عَنْهُ:[من الكامل]
لا تبعدَنَّ حسام دَوْلَةِ عَامِرٍ
…
من لَيْثِ مَلْحَمَة وغَيْث عَطَاء
أنْحَى على شمْلِ العَشِيْرَة بعده
…
ريبُ الزَّمان بفُرقةٍ وتناء
وَسَنَذْكُر تَرْجمة نَصْر
(1)
في الأسْماء إنْ شَاء اللهُ تعالى.
وقد ذكَرها القَاضِي الفَاضِل عَبْد الرَّحِيْم بن عليّ بن البَيْسَانِيّ في بعض رَسائله فقال
(2)
: وجئنا قَلْعَة نَجْم، وهي نَجْم في سحاب، وعُقَاب في عِقَاب، وهَامَة لها الغمامَة عَمامَة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قُلامَة.
(1)
ترجمة نصر بن منصور الخيري في الضائع من أجزاء الكتاب.
(2)
هذا النص مما يستشهد به على بلاغة التشبيه؛ أورده الصفدي: نصرة الثائر على المثل السائر 268، والنويري: نهاية الأرب 1: 402، 8: 2، (وفيه بقية الرسالة).
بابٌ في ذِكْرِ رُصَافَة هِشَام
(1)
وهي من عَمَل حَلَب، واسمُها بالرُّومِيَّة: قَطَا ميْلا؛ ذكَرَ ذلك أحْمد بن الطَّيِّب السَّرخَسِيّ في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك، وقال: ومن قَطا ميْلا إلى العُذَيْب أربعة وعشرون مِيْلًا.
وبناها هِشام بن عَبْد المَلِك بن مَرْوَان، ولها سُور من الحَجَر، وفي داخلها مَصْنَع كبير لماء المَطَر يَشْربُ منهُ أهلُها، وهي قَوِيَّة مَنِيعَة؛ لأنَّها في بَرِّيَّةٍ، ولا ماء عندها إلَّا ماء المَصْنَع الّذي هو داخِل السُّور، وكان هِشَام قد اتَّخذها دار إقامته، ويَجْري بها خَيْل الحَلَبة، وتَفِدُ إليه الوُفود بها. وأهلُها مَيَاسِيْر وتغلب عليهم التِّجَارَة.
نَقَلْتُ من كتاب ربيع الآداب، في مَحَاسِن الأخْبار، وعُيُون الأشْعَار، تَصْنيف أبي أحْمد الحَسَن بن عبد الله بن سعيد العَسْكَريّ
(2)
، من نُسخةٍ مَقْروءة
(1)
الرُّصافة: أو رصافة هشام، نسبة لبانيها هشام بن عبد الملك، ويذكر الطبري أنها مدينة قديمة من بناء الروم وأنها كانت تسمى: سيرجيو بوليس، أي "مدينة القديس سركيس"، مدينة تقع في أقصى جنوب شرق جند قِنّسرين في البرية، وتبعد عن الفرات مسيرة يوم أو أقل، وتبعد عن حلب في جهة الجنوب الشرقي نحو 200 كم، وعن الرقة نحو 50 كم إلى جهة الجنوب الغربي، وكانت منيعة ولها سور من الحجر، شرب أهلها من مصنع (خزان) كبير في داخل السور ولا ماء عندهم من غيره. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، قدامة: الخراج 315، ابن الفقيه: البلدان 180، الطبري: تاريخ 7: 207، الآبي: نثر الدر 3: 65، ياقوت: معجم البلدان 3: 47، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، أبو الفداء: تقويم البلدان 271، الحميري: الرَّوض المعطار 269، لسترنج: بلدان الخلافة 137، کامل الغزي: نهر الذهب 1: 482 - 484، محمود شيث خطاب: بلاد الجزيرة قبل الفتح وفي أيامه 32.
وهي اليوم اليوم قرية أثرية بناحية المنصورة في محافظة الرقة، أقيمت إلى الجنوب منها على بُعد نحو 25 كم منها قرية على اسمها "الرصافة". طلاس: المعجم الجغرافي 3: 492.
(2)
أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري (ت 382 هـ)، له مؤلفات عديدة في اللغة والنحو والأدب، بعضها مطبوع متداول مثل كتاب المصون في الأدب، أما كتابه الذي ذكره ابن العديم فمفقود، ولم يرد ذكره عند مَن ترجم له. انظر وفيات الأعيان 2: 83 - 85، بغية الوعاة 1:506. ونقل ابن شداد هذا النص عن ابن العديم، وأدرجه في كتابه الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 9.
عليه، قال: أخْبَرنِي مُحمَّد بن يَحْيَى بن العبَّاسِ، أخْبَرَنَا الحَسَنُ بن عُلَيْل العَنْزِيّ بها (a)، قال: حَدَّثَنَا عليّ بن الصَّبَّاح، قال: حَدَّثَني هِشَام بن مُحمَّد، قال: لَمَّا كَثُرَ الطَّاعُونُ في زَمَنِ بَني أُمَيَّة وفَشَا، كانت العَرَب تَنْتَجعُ البَرَّ، وتَبْتَنِي القُصُور والمصَانع هَرَبًا منهُ، إلى أنْ وَلي هِشَام بن عَبْد المَلِكِ، فابْتنَى الرُّصَافَة.
وكانت الرُّصَافَة مَدِينَةً رُوْمِيَّةً؛ بَنَتْها الرُّوم في القَديم، ثمّ خَرِبَت، وكان الخُلَفَاءُ وأبناؤُهُم يَهْربُون من الطَّاعُون، فينزلون البَرِّيَّة، فعزِم هِشَامٌ على نُزُول الرُّصَافَة، فقيل لهُ: لا تَخْرُج، فإنَّ الخُلَفَاءَ لا يُطْعَنُون؛ لم نَرَ خَلِيفَةً طُعِن! قال: أفتريدُونَ أنْ تُجَرِّبُوا بي؟ فخرج إلى الرُّصَافَةِ، وهي بَرِّيَّةٌ فابْتنَى بها قَصْريْن.
وذكَرَ حَمْزَة بن الحَسَن الأصْبَهَانِيّ في كاب تَوَاريخ الأُمَمِ
(1)
: أنَّ النُّعْمان بن الحَارِث بن الأيْهَم بن الحاَرِث بن مَارِيَة ذات القُرْطَيْنِ، وهو أحَد مُلُوك غَسَّان، هو الّذي أصْلَح صَهاريج الرُّصَافَة، وكان بعض مُلُوك لَخْم خَرَّبَها.
قُلْتُ: وفي الرُّصَافَة دَيْرٌ مَذكورٌ للنَّصارَى؛ ذكَرَه الشِّمْشَاطِيّ في كتاب الدِّيَارَات
(2)
، وذَكَرَ حِكايَة الأَخْطَل، وشَدِّ رَاهب الدَّيْر إيّاهُ على هَجوه النَّاس، وَسَنَذكُر ذلك في تَرْجَمَةِ الأَخْطَل
(3)
إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(a) كذا في الأصل، ونسبته لعنزة القبيلة وليست مكانًا، وهو من سر من رأى، إلا أن يكون أَفْلت من نسبته: السامري، نسبة لبلده.
_________
(1)
حمزة الأصفهاني: تاريخ سني ملوك الأرض 72، ونقله ابن شداد عن البغية. الأعلاق الخطيرة 1/ 2:9.
(2)
علي بن محمد العدوي الشمشاطي، أبو الحسن (كان حيًا سنة 377 هـ)، له مؤلفات. كثيرة عددها النديم وياقوت من بينها كتاب الديارات الذي وصفه بالكبير، وهو كتاب مفقود، نفل عنه ابن العديم في العديد من الواضع وذكره باسم: كتاب الديارات، وأحيانًا كتاب الديَرَة، انظر الجزء السادس: ترجمة حفص بن أحمد الكمدي، وترجمة حمدان الأثاربي. النديم: الفهرست 1/ 2: 477، ياقوت: معجم الأدباء 4: 1907 - 1909.
(3)
ترجمة الأخطل (غياث بن غوث) في الضائع من أجزاء الكتب، وذكره في الكنى وأحال على ترجمته الضائعة.
بابٌ في ذِكْرِ خُنَاصِرَة
(1)
وكانت بَلْدة صَغِيرَة، ولها حِصْنٌ، وبناؤه بالحَجَر الأَسْوَد الصَّلْد، وهي من كُورَة الأَحَصِّ وبلاد بَني أَسَد، وكان عُمَر بن عَبْد العَزِيْز رضي الله عنه قد تَدَيَّرها، وكان يُقِيم بها في أكْثر أوْقاته، وهي اليَوم قَرْية من قُرى الأَحَصّ، يَسْكُنها الفَلَّاحُون، وخَرِبَ حِصْنُها وأبْنيتها، ونُقِلَت حِجارَته.
وسُمِّيت باسْم بانيها: خُنَاصِرَة بن عَمْرو بن الحَارِث، وقِل: بناهَا أبو شَمِر بن جَبَلَة بن الحَارِث.
أنْبَأنَا أبو المُظَفَّر عَبْد الرَّحِيْم بن أبي سَعْد السَّمْعانيّ، عن أبيهِ أبي سَعْدٍ، قال
(2)
: وخُنَاصِرَةُ بناهَا خُنَاصِرَةُ بن عَمْرو بن الحَارِث بن كَعْب بن الوغا
(3)
ابن عَمْرو بن عَبْد وُدّ بن عَوْف بن كِنَانَةَ الكَلْبِيّ. وقيل: الخُنَاصِرَة (a) بن عَمْرو، خَلِيفَة إبْرَاهِيْم الأَثْرَم صَاحب الفِيْل، خَلَفَهُ باليَمَن بصَنْعاء إذ سَار إلى كِسْرَى أَنَوشَرْوان، وبوم خُنَاصِرَة أجارُوا على العَجَم. وقيل: بناهَا أبو شَمِر بن جَبَلَة بن الحَارِث.
(a) أنساب السمعاني: الخناصر.
_________
(1)
خُناصرة: تقع شرقي حَلَب بميلة إلى الجنوب على بعد نحو 70 كم، أو مسيرة يومين، وإلى الشمال الشرقي من مَدِينَة الرصافة، وهي تحاذي قِنِّسرين وعلى حدّها، تقع في طرف البرية من جُنْد قِنِّسرين، وكانت في عهدي أُمَيَّة مسكنًا لعمر بن عبد العزيز، وحصنها مبني بالحجر الأسود الصلد. وهي تسمى اليوم خناصر، ونتبع منطقة السفيرة بمحافظة حَلَب انظر: اليعقوبي: تاريخ 2: 214، الإصطخري: مسالك 62، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 179، 187، الإسكندري: الأمكنة 1: 461، ابن سَعِيد، بسط الأرض 86، ياقوت، مُعْجَمُ البلدان 2: 390، الوطواط: مناهج الفكر 1: 362، أبو الفداء: تقويم البلدان 232، كامل الغزي: نَهْر الذَّهب 1: 423، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 278 - 279.
(2)
السمعاني: الأنساب 5: 200 - 201.
(3)
هكذا في الأصل وأنساب السمعانيّ، ويريد في رواية تأتي بعده: كَعْب الوكاء.
ونَقَلتُ من كتاب البُلْدان، تأليفُ أحْمَد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ، قال
(1)
: حَدَّثَني العبَّاس بن هشَامٍ، عن أبيهِ، قال: خُنَاصِرةُ نُسِبَتْ إلى خُنَاصِر بن عَمْرو بن الحَارِث الكَلْبِيّ ثمّ الكِنَانِيّ.
وقَرَأتُ بِخَطِّ مُحَمّد بن أَسْعَد الجَوَّانِيّ النَّسَّابَة، في كتاب الجَوْهَر المَكْنُون
(2)
: خُنَاصِرَة فَخذٌ في عُذْرَهَ كَلْب، هُم ولَدُ خُنَاصِرَة بن عَمْرو؛ أحَد بَنِي عَبْد وُدّ بن عَوْف بن كِنَانَة بن عُذْرَة بن زَيْد اللَّات بن رُفَيْدَة بن ثَوْر بن كَلْب، وبهِ سُمِّيت خُنَاصِرَة.
وقَرَأتُ في جَمْهَرَة نَسَب اليَمَن
(3)
، ولا أعْلِمُ مؤلِّفه، في ذكْر كَعْب المَعْرُوفِ بالوَكَّاء بن عَمْرو بن عَبْد وُدّ بن عَوْف بِن كِنَانَة بن عَوْف بن عُذْرَة بن زَيْد اللَّات بن رُفَيْدَة بن زَيْد بن كَلْب بن وَبْرَة بن تَغْلِب بن حُلْوَان، قال: فمن بنَي الوَكَّاءِ بن عَمْروِ خُناصِر بن الحَارِث بن كَعْب الوَكَّاء؛ كانَ قد مَلَكَ الشَّامَ، وبهِ سُمِّيت خُنَاصِرَة.
(1)
فتوح البلدان 203.
(2)
تَمام العنوان في السلوك للمقريزي 1/ 1: 5 وكشف الظنون لحاجي خليفة 1: 620: "الجوهر المكنون في القَبَائِل والبُطُون"، وعَدّه حاجي خليفة "من الكتب الجامعة في الأنساب، أتقن صاحبه أصولها، وأورد فيه من الأنْساب ما ينتَفع به اللَّبيب، ويستغني بوجوده الكاتب الأريب"، نقل عنه المقريزي في السلوك 1/ 1: 5، والكتاب الآن في حكم المفقود، نقل عنه ابن العديم في تَرْجَمَتِه للحسين بن عليّ المَعْرُوف بأميركا، وتَرْجَمَة الحُسَيْن بن عليّ الإسحاق (كلاهما في الجزء السادس)، وتَرْجَمَة ربيع بن عبد اللّه الحَمَوِيّ (الجزء الثامن). ومؤلِّفه هو: الشريف مُحَمّد بن أسعد بن عليّ الجواني المصري (ت 588 هـ)، عالم نسابة، ولي نقابة الأشراف بمصر مدَّة، وله كتاب تاج الأنساب ومنهاج الصواب، وكتاب طبقات الطالبيين، وكتاب عنوانه: نُزهة القلب المعنى في نسب بَنِي مهنا، نقل عنه ابن العديم (في الجزء الخامس) وابن خلدون: العبر 7: 333، انظر تَرْجَمَة الجواني في: خريدة القصر 14: 117 - 119، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 175 (في كلامه على قرية الجوانية)، الوافي بالوفيات 2: 202، لسان الميزان 5: 74 - 76.
وانظر شبيه كلام الجواني في نسبة المَدِينَة لخناصرة بن عَمْرو بن عبد ودّ بن عَوْف في عذرة عند ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 61 أ.
(3)
لعلّه الكتاب الَّذي يذكره المؤلِّف فيما بعد باسم "جماهير أنساب اليمن وأسماء ملوكها"، كان قد اطَّلع عليه في القاهرة.
وقال ابنُ الكَلْبِيّ
(1)
: بناهَا خُنَاصِرَة بن عمرو بن الحَارِث بن كَعْب بن عَمْرو بن عَبْد وُدّ بن عوْف بن كِنَانَة، وكان مَلَك الشَّام.
وقال غيرهُ: عَمرها الخُناصِرُ بن عَمْرو خَلِيفَة الأَثْرَم صَاحب الفِيْل.
قال جِرَانُ العَوْدُ
(2)
؛ وجعَلَها خُنَاصِرَات: [من الوافر]
نَظَرْتُ (a) وصُحْبَتي بخُنَاصِرَاتٍ
…
ضُحَّيًا (b) بعْدَما متَعَ النَّهَارُ
إلى ظُعُنٍ لأُخْتِ بَنِي نُمَيْر (c)
…
بكابَة حيثُ زاحَمَها العفارُ
يَعْني: الرَّمْل.
وفي خُنَاصِرَة يقول عَدِيّ بن الرِّقَاع العَامِلِيّ، وقد نزلَ بها الوَلِيد بن عَبْد المَلِك، ووَفَدَ عليهِ
(3)
: [الكامل]
وإذا الرَّبِيْعُ تتابَعَتْ أنوَاؤُهُ
…
فَسَقَى خُنَاصِرَةَ الأَحَصِّ وزادَهَا (d)
نَزَلَ الوَلِيدُ بها فكانَ لأهْلِها
…
غَيْثًا أغَاثَ أنيسَها وبِلادَهَا
وقال أبو زَيْد البَلْخِيّ
(4)
في جُنْد قِنَّسرين: والخُنَاصِرَة حِصْنٌ على شَفِير البَرِّيَّةِ، كان يَسْكُنُه عُمَر بن عَبْدِ العَزِيْز.
وقال ابن حَوْقَل النَّصِيْبِيّ في جَغْرَافيَا
(5)
: خُنَاصِرَةُ، هي حِصْنٌ يُحَاذِي قِنَّسْرِيْن من (e) ناحيَةِ البَادِيَةِ، وهي على شَفِيرها وسِيْفها، وكان عُمَرِ بن عَبْد العَزِيْز يَسْكُن بها، وهي صَالِحة في قَدْرها، مغُوثة للمُجتازين عليها في وَقْتنا هذا؛ لأنَّ
(a) الديوان: رأيت.
(b) الديوان: بَنِي عفار.
(c) الديوان: حمولًا.
(d) الديوان: فجادها.
(e) ابن حوقل: إلى.
_________
(1)
لم يذكره في كتابيه في النسب: جمهرة النسب، ونسب معد واليمن الكبير.
(2)
ديوان جران العود 86 - 87.
(3)
ديوان عدي بن الرقاع 91.
(4)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة 24 أ.
(5)
صورة الأرض 179.
الطَّريق انْقَطع من بَطْن الشَّام بإتيان الرُّومِ عليهِ، وهَلاك مَرافقه، وبَوار وُلاته، واسْتيلاءَ الأعْرَاب عليهم بَعْد هلاك وُلاته، فلَجأ النَّاسُ إلى طَريق البَادِيةِ والبَرِّ بالأَدِلَّاءِ والخَفَارَة (a).
بابٌ في ذِكْرِ بَالِس
(1)
وهي مَدِينَةٌ كانت في أوَّل الإسْلام عَامِرَة جدًّا، وهي أوَّل مُدُن جُنْد قِنَّسْرِيْن، وكان لها سُور من بناءِ الرُّوم، وكانت تُفَضَّلِ (b) علي قِنَّسْرِيْن في العِمَارة، وخَرَجَ منها جَمَاعةٌ من العُلَمَاءِ والرُّؤَسَاء، وفي زَماننا خَرب سُورهَا، ولم يبقَ فيها من العُلَمَاءِ أحَدٌ ولا من الرُّؤَساء، ويُنْسَب أهلها إلى قِلَّة العُقُول.
والغَالِب على أهل البَلَد بنُو كِلَاب، وبَرِّيَّتها نَزلها قديمًا بنُو فَزَارَة.
(a) يبدو أن النسخة التي ينقل عنها ابن العديم من كتاب ابن حوقل مباينة للنشرة الموجودة الآن، لاختلاف عباراتها - في أكثر من موضع - عما أورده المؤلِّف، وما وقع فيها من نقص، ولو تصرَّف ابن العديم فيها لقال: "ذِكْر ابن حوقل
…
" لا "قال"، إذ يرد هذا النص في كتاب ابن حوقل على النحو الآتي: "لأن الطَّرِيق انقطع في غير وقت من بَطْن الشَّام على التجار باعتراض السلطان عليهم وبما سرح الرُّوم بالشام في غير وقت فلجؤا إِلى طريق البادية لبوار السلطان واستيلاء الأعراب على الولاة وخفروا وساروا بالإدلاء".
(b) كذا مشددًا في الأصل.
_________
(1)
بالس: Balis كانت إحدى مدن العَوَاصِم من جُنْد قِنِسرين، وتقع في جهة الشرقية من الجند على شط الفرات الغربيّ، ومنها ينعطف الفرات شرقًا بعد جريانه إلى الجنوب، وهي أول مدن الشَّام من ناحية الحراق، بين الرقة وحلب، وتقع جنوب شرقي حَلَب على بعد 90 كم، وتبعد عن مَنْبِج نحو 80 كم في جهة الجنوب، وعن قَلْعَة دوسر (قَلْعَة جَعْبَر) خمسة فراسخ، وتسمَّى اليوم: مسكنة، ونتبع منطقة مَنْبِج بمحافظة حَلَب. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، الإصطخري: مسالك 62، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 180، المقدسي: أحسن التقاسيم 154 - 156، 190، مجهول: حدود العالم 176، سهراب: عجائب الأقاليم 25، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 1: 328، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، أبو الفداء: تقويم البلدان 268 - 269، موستراس: المعجم الجغرافي 169، لسترنج: بلدان الخِلَافَة 139، كامل الغزي: نَهْر الذَّهب 1: 484 - 485، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 249، مَحْمُود شيث خطاب: بلاد الجَزِيرَة قبل الفتح وفي أيامه 33 - 34، 995 - 996 J.Sourdel - Thomine، El، Balis، I، Pp
أخْبَرَنَا أبو مَنْصُور بن مُحمَّد الدِّمَشْقِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم بن أبي مُحمَّد
(1)
، أخْبَرنا أبو القَاسِم بن طَاهِر، قال: أخْبَرَنا عليّ بن مُحمَّد، قال: أخْبَرَنَا مُحمَّد بن أحْمَد، قال: أخْبَرَنَا أبو حَاتِم البُسْتِيّ، قال: أوَّل الشَّام بَالِس.
وقال أبو زَيْد البَلْخِيّ في كتابهِ
(2)
: وأمَّا بَالِس فهي مَدِينَةٌ على شَطِّ الفُرَات، صَغِيرة، وهي أوَّل مُدُن الشَّام من العِرَاق إليها، عَامِرة (a)، وهي مَدِينَة فُرْضَةِ الفُرَات لأهْل الشَّام.
قُلتُ: وكانت الفُرَات تَلْصَق بسُورِ المَدِينَة، فَجَزَرَت عنها وبَعُدَت جدًّا حتَّى صَار بينهما بُعْدٌ، وفي زَماننا قد قَرُبَت منها.
وقَرَأتُ في كتاب البُلْدان، لأحمد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ، قال
(3)
: وحَدَّثَني سُفْيان بن مُحمَّد البهرَانِيّ، عن أشْيَاخِهِ، قالوا: فتح عُبَادَة - والمُسلِمُونَ مَعَهُ - أنطَرسُوس وكان حِصْنًا، ثمّ جَلا عنه أهلُه، فبَنى مُعاوِيَةُ أنطَرسُوس، ومَصَّرها، وأقْطَعَ بها القَطَائِع، وكذلك فَعَل بمَرَقِيَّة (b) وبَالِس.
وقال البَلاذُرِيُّ
(4)
، فيما حَكَاهُ عن شُيُوخ الشَّام: قالوا: ثمّ سار أبو عُبَيْدَة - يعني بعد فَتْح دُلُوْك ورَعْبَان - حتَّى نَزَل عَرَاجِيْن، وقَدَّم مُقَدِّمتَهُ إلى بَالِس، وبعثَ جَيْشًا عليه حَبِيْب بن مَسْلَمَة إلى قَاصِرِين. وكانت بَالِس وقَاصِرِين
(a) في الأصل: عَامِر.
(b) مهملة في الأصل، وفوقها "صـ"، وفي "ك": بمدفنه، وفي نشرة الفتوح:"بَمَرقِيَّة"، وفي نسختين أخريين منه:"مزققه، ومزقية"، وفي كتاب الخراج لقدامة 298:"مرقية وبلنياس [كذا] "، وذكرها ياقوت والضبط منه، قال:"قَلْعَة حصينة في سواصل حِمْصَ"، وذكر تجديد مُعَاوِيَة لها. مُعْجَمُ البلدان 5:109.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 196.
(2)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة 24 أ.
(3)
فتوح البلدان 182.
(4)
فتوح البلدان 205.
لأخوَيْن من أشراف الرُّوم أُقْطِعَا القُرَى الّتي بالقُرْبِ منهما، وجُعلا حافظَيْن لِمَا بينهما وبين مُدُن الرُّوم بالشَّام، فلمَّا نزل المُسلِمُون بهما صَالَحهُم أهْلها على الجِزْيَة أو الجَلاء، فجلَا أكثُرُهُم إلى بلادِ الرُّوم وأرْضِ الجَزِيرَة.
قالوا: ورَتَّب أبو عُبَيْدَة ببَالِس جَماعةً من المُقاتِلَة، وأسْكنها قَوْمًا من العَرَب الّذين كانُوا بالشَّام، فأسْلَمُوا بعد قدوم المُسْلِمِيْن الشَّام (a)، وقَوْمًا لم يكونُوا من البُعُوث؛ نَزَعُوا من البَوَادِي من قَيْس، وأسْكَن قَاصِرِين قَوْمًا ثمّ رفَضُوها وأعْقابَهُم (b).
ونَقَلْتُ من خَطِّ ابن كَوْجَك، في سِيْرَة المُعْتَضِد، تأليفُ سِنَان بن ثَابِت، وذَكَرَ سِنَان أنَّه نقلَهُ من خَطِّ أحْمَد بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ في مَسِير المُعْتَضِد لقتال خُمَارَوَيْه بن طُوْلُون في وَقْعَة الطَّوَاحِين، على ما ذكرناهُ في وَصْفه لمَدِينَة حَلَب
(1)
، وذكَر أنَّه رَحَل من دَوْسَر
(2)
إلى بَالِس يوم السَّبت لتِسْع ليالٍ خَلَوْنَ منه - يَعْني من شَهْر ربيع الأوَّل من سَنَة إحْدَى وسَبْعِين - فنزلَ في الجانب الشَّرْقيّ، ثمّ عَبَرَ في يوم الأَحَد إلى الجانب الغَرْبيّ من الفُرَات، وهو جانب المَدِينَة، وهي مَدِينَة صَغِيْرةٌ، ولها قَلْعَةٌ ورَبَضٌ، عليها سُورٌ واحد، بعضُ بنائها على الفُرَاتِ وبعْضُهُ بينَهُ وبينَ الفُرَات رَقَّة.
(a) في الأصل و"ك": من الشَّام! ولا وجه له. ولم ترد في نشرة الفتوح.
(b) في الفتوح: أو أعقابهم.
_________
(1)
انظره فيما تقدّم.
(2)
نسبةً لدوسر غلام النُّعْمَان بن المنذر، وتسمى أيضًا: قَلْعَة جَعْبَر، تقع في بادية الجَزِيرَة، وتتبع ناحية الجرنية بمحافظة الرقة، وهي إلى الجنوب الشرقي من بلدة الجرنية على بعد نحو 50 كم. تاريخ الطبريّ 10: 81، رحلة التطيلي 383، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 484، ابن شدّاد: الأعلاق الخطيرة 3/ 1: 110 - 119، الوطواط: مناهج الفكر 1: 360، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 676 - 677.
وذَكَرَ البَلاذُرِيُّ في كتابهِ، قال
(1)
: وكانت بَالِس والقُرَى المَنْسُوبة إليها حدّها الأعْلَى والأوْسَط والأسْفل أعْذَاء عُشْرِيَّة، فلمَّا كان مَسْلَمَة بن عَبْد المَلِك بن مَرْوَان، تَوَجَّه غَازِيًا للرُّوم من نحو الثُّغُور الجَزَرِيَّة، عَسْكَرَ ببَالِس، فأتاهُ أهلها وأهل تُوبلس (a) وقَاصِرِين وعَابِدِين وصِفِّيْن، وهي قُرَى مَنْسُوبة إليها، وأتاهُ أهل الحدّ الأعْلَى فسَألوه جميعًا أنْ يحفرَ لهم فَهْرًا من الفُرَات يَسْقِي أرْضهم على أنْ يَجْعَلُوا له الثُّلُثَ من غَلَّاتهم بَعْدَ عُشْر السُّلْطَان الّذي كان يأخُذه، فحفر النَّهْر المَعْروف بنَهْر مَسْلَمَة ووفَوا له بالشُّرُوط، ورَمَّ سُوْر المَدِينَة وأحْكَمه، ويُقال: بل كان ابْتداء العَرْض من مَسْلَمَة، وأنَّه دعَاهُم إلى هذه المُعاملَة.
فلمَّا مات مَسْلَمَة، صَارت بَالِس وقُرَاهَا لوَرَثَتِهِ، فلم تزل في أيْدِيهم إلى أنْ جاءَت الدَّوْلَةُ المُبارَكة، وقَبَض عَبْدُ اللّه بن عليّ أمْوَال بَنِي أمَيَّة، فدخَلَت فيها، فأقْطعها أَمِير المُؤمِنِين أبو العبَّاس سُلَيمان بن عليّ بن عَبْد اللّه بن العبَّاس، فصَارت لابنهِ مُحمَّد بن سُلَيمان.
وكان جَعْفَر بن سُلَيمان، أَخُوه، يَسْعى به إلى أَمِير المُؤمِنِين الرَّشِيد، ويَكْتب إليهِ فيُعْلمه أنَّه لا مال لهُ ولا ضَيْعة إلَّا وقد اخْتَانَ أضْعَاف قيمته، وأنْفَقه فيما يُرَشِّح لهُ نفسه، وعلى مَن اتَّخَذَ من الخَوَلِ، وأنّ أمْوَاله حِلٌّ طِلْقٌ لأَمِير المُؤمِنِين، وكان الرَّشِيدُ يأمُر بالاحْتِفاظِ بكُتبهِ، فلمَّا تُوُفِّي مُحمَّد بن سُلَيمان، أُخْرجت كُتُب جَعْفَر إليهِ واحْتُجَّ عليه بها، ولم يكن لمحمَّد أخ لأبيه وأُمِّهِ غيره، فأقرَّ بها، وصارَت أمْواله للرَّشِيد، فأقْطَع بَالِس وقُرَاها المأْمُون، فصَارَت لولده من بَعْده.
(a) كذا في الأصل و"ك"، وفي فتوح البَلاذُرِيّ: نُويلس، وعند ياقوت (نقلًا عن البَلاذُرِيّ): بويلس. مُعْجَمُ البلدان 1: 338، وقيدها ابن شدَّاد مع قاصرين وعابدين برسم: تلوسين. ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 7.
_________
(1)
فتوح البلدان 205 - 206، وانظر شبيهه عند قدامة: الخراج 305.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ تَوْفِيْقِي
قَرَأتُ في كتاب جَغرَافيَا لابن حَوْقَل النَّصِيْبِيّ
(1)
، قال: بَالِس وهي مَدِينَةٌ على شَطِّ الفُرَات من غربيِّهِ، صَغِيرة، وهي أوَّل مُدُن الشَّام على الفُرَات (a)، فعَفَت آثارها ودرسَت قوافلُها وتجارُها بعدَ سَيْف الدَّوْلَة، وهي مَدِينَةٌ عليهِا سُورٌ أزَلِيٌّ، ولها بَساتِيْن فيما بينها وبين الفُرَاتِ، وأكْثر غلَّاتها القَمْحِ والشَّعِير، ومن مشْهُورِ أخْبارها أنَّ المَعْروفَ بسَيْفِ الدَّوْلَة عند انْصرافهِ عن لقائهِ صَاحب مصْر، وقد هَلكَ جميعُ ماله (b)، أنْفَذَ إليها المعروفَ بأبي حَصِين (c) القَاضِيّ، فقَبَض من تُجَّارٍ كانوا بها، تَوافَرت لهم الأوقاتُ، ولم يُطْلِق لهم النُّفُور (d) مع خَوْف نَالَهم، فأخْرجَهُم عن أحْمالِ بَزٍّ، وأطْواف زَيْتٍ إلى ما عَدَا ذلك من مَتَاجر الإسْلام في دفعتَيْن بينهما شُهُور قلائل وأيَّام يسيرة، ألف ألف دِيْنار.
ونقلتُ من كتاب البُلْدان، تأليفُ أحْمد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب
(2)
، وذكَرَ بَالِس، وقال: وهي مَدِينَةٌ قَديْمةٌ على شَاطِئ الفُرَات في أصْلِ جَبَلٍ، ومنها تُحمل التِّجَاراتُ الَّتي تَرد من مِصْر وسائر أرْضِ الشَّام في السُّفُنِ إلى بَغْدَاد.
وخَرَاجُ بَالِس إلى عَامِل ديار مُضَر، وحَرْبُها وصَلَاتُها إلى عَاِمل جُنْد قِنَّسْرِيْن والعَوَاصِم. وأهْلُها أخْلَاطٌ من العَرَب والعَجَم.
(a) سبقت الإشارة قبل قليل إلى سوء النسخة التي كانت بين يدي ابن العديم، واختلاف عبارتها، ويؤكد ذلك ما وقع من نقص فيها هنا، بانتقال نظر الناسخ سببه تكرار كلمة الشَّام، ونصّ ابن حرقل:"وهي أول مدن الشَّام [من العراق، وكان الطَّرِيق إليها عامرًا، ومنها إلى مصر وغيرها سابل، وكانت فرضة لأهل الشَّام] على الفرات .. ".
(b) صورة الأرض: جنده.
(c) كذا ضبطه بالفتح، وهو عبد الله بن المحسِّن بن عَبْد اللهِ، يأتي ذكره آخر الجزء عند الكلام على قَبَائِل الجند، وضَبْطه هناك على هذا الوجه أيضًا. وله تَرْجَمَة - حسبما ذِكْر المؤلِّف ذلك في الكنى - وهي ضمن الضائع من الكتاب.
(d) صورة الأرض: النفوذ.
_________
(1)
صورة الأرض 180.
(2)
من الضائع من كتاب ابن واضح اليعقوبي.
بابٌ في ذِكْرِ حِيَار بني القَعْقَاع
(1)
ويُعْرفُ بحِيَار بَنِي عَبْسٍ أيضًا.
وهي مَنْسُوبَةٌ إلى بَني القَعْقَاع بن خُلَيْد بن جَزْءٍ بن الحَارِث العَبْسِيِّ، وهم أخْوَالُ الوَلِيدِ وسُلَيمان ابني عَبْد المَلِك بن مَرْوَان؛ لأنَّ أُمَّهُما وَلَّادَة بنت القَعْقَاع بن خُلَيْد بن جَزْءٍ. وقيل: هي وَلَّادَة بنت العبَّاسِ بن جَزْءٍ.
وكان الحِيَارُ بَلَدًا قديمًا، فصَار الآن مَنْزِلًا للأعْرَابِ، ويُعْرَفُ بقِنَّسْرِيْن الثَّانيَة، فإنَّني قَرَأتُ في كتاب البُلْدان لابن وَاضِح الكَاتِب، في تَعْدَادِ كُوَر جُنْد قِنَّسْرِيْن والعَوَاصِم، قال
(2)
: وكُورَة قِنَّسْرِيْن الأُوْلَى وهي: مَدِينَةٌ على جَادَّةِ الطَّريق الأعْظَم، وبها قوْمٌ من تَنُوخ. وكُورَة قِنَّسْرِيْن الثَّانيَة وهي: حِيَارُ بَنِي القَعْقَاع، وأهْلُها عَبْسٌ وفَزَارَة وغيرهم من قَيْس.
وذكَرَ أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي في كتابهِ المَعْروف بالحَافِظ أنَّ الحِيَار من الإقْليم الثَّالث.
وذكَر أحْمَد بن يَحْيَى بن جَابر البَلاذُرِيّ، في كتاب البُلْدان، فيما حكَاهُ عن شُيُوخهِ، ونَقَلْتُه من خَطِّ بَنُوْسَةَ، قال
(3)
: وقالوا: وكان حِيَار بَنِي القَعْقَاع
(1)
حيار بني القعقاع: ويقع إلى الشمال من قِنِّسرين وكان يُعرف بقِنِّسرين الثانية، وأيضًا: حيار بَنِي عبس، والمسافة بينه وبين حَلَب يومان. وكان الحيار مشهورًا في القرون الثلاثة الأوّلى، وأصبح بعدها برية ليس فيها غير الوحوش، وكان الحيار أيضًا بلدًا مشهورًا قبل الإسلام، وبه كان مقيل ملك الحيرة المنذر بن ماء السماء اللخميّ، فنزله بنُو القعقاع بن خليد بن جزء بن الحَارِث من بَنِي عبس ونسب إليهم، وقيل: إن عَبْد المَلِك بن مَرْوَان أقطع القعقاع وعمه العبَّاس بن جزء قطائع به فسمي باسمهم. انظر ابن خرداذبة: المسالك 75، اليعقوبي: البلدان 363، سهراب: عجائب الأقاليم 35، "وسماها سهراب مَدِينَة الحيار"؛ قدامة: الخراج 303 - 304، الإسكندري: الأمكنة 1: 437، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 327، ابن شدَّاد، الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 11، الوطواط: مناهج الفكر 1: 362، أبو الفداء: تقويم البلدان 333، اليواقيت والضرب 41.
(2)
من الضائع من كتاب البلدان لابن واضح اليعقوبي.
(3)
فتوح البلدان 199، ونقله قدامة (كتاب الخراج 304) دون عزو، وانظر ما يأتي في نَسَب بَنِي قُطَيْعة بن عبس، آخر هذا الجزء.
بَلَدًا مَعْروفًا قَبْل الإسْلام، وبهِ كان مَقْتَلُ المُنْذِر بن مَاءِ السَّماءِ اللَّخْمِيّ مَلِك الحِيْرَة، فنزَلَهُ بَنُو القَعْقَاعَ بن خُلَيْد بن جَزْءٍ بن الحَارِث بن زُهَيْر بن جَذِيْمَة بن رَوَاحَة بن رَبيعَة بن مَازِن بن الحَارِث بن قُطَيْعَة بن عَبْس بن بَغِيض، فأوْطَنُوهُ فَنُسبَ إليهم، وكان عَبْدُ المَلِك بنُ مَرْوَان أقْطَعَ القَعْقَاعَ بهِ قَطِيْعَةً، وأقْطَع عمَّهُ العبَّاس بن جَزْءٍ بن الحاَرِث قطائِعَ أوْغَرَهَا لهُ إلى اليَمَن، وأُوْغِرَتْ بَعْدهُ، وكانت - أو أكثرها - مَوَاتًا. وكانت ولَّادَةُ بنْتُ العبَّاس عند عَبْدِ المَلِكِ بن مَرْوَان فولَدَتْ له الوَلِيدَ وسُلَيمانَ.
بابٌ في ذِكْرِ مَعَرَّة النُّعْمَان
(1)
هي مَدِينَةٌ حَسَنةُ، وكان لها سُورٌ من الحِجَارة، وأبنيتها أبنيةٌ حَسَنةُ بالحَجَر، وهي كَثِيْرة الأشْجَار والفَوَاكِه، لا سِيَّما من التِّيْن والفُسْتُق والزَّيْتُون. ويَغْلِبُ على أهْلهَا الذَّكَاءُ المُفْرط، وخَرَجَ منها جَمَاعةٌ من العُلَمَاءَ والشُّعَرَاء منهم أبو العَلاء بن سُلَيمان.
وكان الفِرِنْج قد هَجَمُوها، وتَشَتَّتَ أهلُها في البِلاد [في سَنة ستٍّ وسَبْعِين وأرْبَعِمائة](a)، ثمّ فتحَها من أيديهم أتَابِك زَنْكي بن آقْسُنْقُر، وردَّ على أهلها
(a) ما بين الحاصرتين مثبت في الهامش بخط مغاير لخط المتن، وعنده موضع مخرج إلى ناحية اليسار.
_________
(1)
معرَّة النعمان: تقع غربي خناصرة وجنوب قِنِّسرين على بعد نحو 70 كم، ونحو 84 كم جنوب صلب. ووقع بين الجغرافيين قديمًا خلاف في نسبتها لجند قِنِّسرين أو جُنْد حِمْصَ، وهي - في الحالتين - تمثل حد جُنْد قِنِّسرين من ناحية الجنوب. وإضافة للآراء المختلفة التي أوردها ابن العديم في نسبة تسميتها فيذكر البكري أنها سميت بذلك لأن الجبل المطل علها يسمى النُّعْمَان. انظر ابن خرداذبة: المسالك 75، اليعقوبي: البلدان 324، الإصطخري: مسالك 61، ابن حوقل: صورة الأرض 178، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، البكري: المسالك 1: 459، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 652، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 5: 156، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، أبو الفداء: تقويم البلدان 364، الحميري: الرَّوض المعطار 555، موستراس: المعجم الجغرافي 465، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 305 - 307، 927 - 922 N.Elisseff.El 2.Maarrat Al - Numan.V.pp
أمْلاكهم، فعَادوا إليها وسكنُوها، وعمرت المَدِينَة عِمَارَة حَسَنَة، لكن سُورها خَرِب، وبنَى بها المَلِك المُظَفَّر مَحْمُود بن نَاصِر الدِّين مُحمَّد بن تَقِيّ الدِّين عُمَر بن شَاهَانْشَاه - حين كانت في يَدهِ - قَلْعَةً حَسَنَة حَصِيْنَة
(1)
، ونقل حجارتها من سِيَاث
(2)
؛ مَدِينَة خَرِبَةٍ كانت قريبًا منها، ومن أبْنيةِ الرُّوم الَتي في الكَنَائِس المُتهدِّمَة (a) في بَلدها. وانْتزعها من يَده عَسْكَرُ المَلِك النَّاصِر صَلاح الدِّين يُوسُف ابن المَلِك العَزِيز بن المَلِك الظَّاهِر، أعزَّ اللّهُ أنْصَاره، فزادَ في عِارتها وتقويتَها، فقَوِيَت قُلُوبُ أهلها بالقَلْعَة، ورَغبوا في عِمَارَة البَلَد وسُكْناه، وهي اليوم من أعْمَر البلاد، وقد صَار أكثر عُبُور القَوَافِل عليها.
أنْبَأنَا أبو مُحمَّد وأبو العبَّاس ابنا عَبْد اللّه بن عُلْوَان الأسَدِيّانِ، عن أبي عَبْد اللّه مُحمَّد بن أبي السَّعَادَات عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن أبي الحَسَن المَسْعُودِيّ، قال: مَعَرَّة النُّعْمَان هي مَنْسُوبَة إلى النُّعْمان بن بشِير من الصَّحَابَة رِضوَان اللّه عليهم؛ كان وَالي حِمْص والعَوَاصِم وتلك النَّواحِيّ، وكانت المَعَرَّة قديمًا تُسمَّى ذات القُصُور، فلمَّا ماتَ للنُّعْمان ابن هناك، قيل لها مَعَرَّة النُّعْمَان
(3)
.
(a) مهملة في الأصل وبتشديد الدال، وفي "ك": المنهدمة.
_________
(1)
بُنيت القَلْعَة في سنة 631 هـ بإشارة سيف الدين الهذبانيّ، وزير الملك المُظَفَّر صاحب حماة. ابن واصل: مفرج الكروب 5: 83 - 85.
(2)
سياث: خربة أثرية في جَبَل الزاوية بقرب قرية كفر رومة وعلى بعد 3 كم منها إلى ناحية الغرب، فوق تل يشرف على وادي الهرماس، وهي تتبع لمعرة النُّعْمَان بمحافظة إدلب. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 292، طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 3: 694 - 695.
(3)
انظر معالجة المؤلِّف لمسألة نسبة معرة النُّعْمَان في كتابه الإنصاف والتحري (ضمن إعلام النبلاء) 4: 82.
وأخْبَرَنِي أبو الحَسَن عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِيّ، قال
(1)
: كان اسْمُها - يعني المَعَرَّة - قديمًا ذات القُصُور، فَنُسِبَت إلى النُّعْمان بن بشَير من الصَّحابَةِ رضي الله عنهم؛ لأنَّ ابنَهُ ماتَ بها.
وبَلَغَني من غيره أنَّ الَّتي تُعْرفُ بِذَاتِ القُصُور هي مَعَرَّة مَصْرِيْن، والأوَّل أَصَحُّ.
وأخْبَرَني القَاضِي شِهَاب الدِّين أبو العبَّاس أحْمَد بن مُدْرِك بن سُلَيمان المَعَرِّيّ، قاضيها بها، فيما يَأْثرهُ عن أهْل مَعَرَّة النُّعْمَان، أنَّ مَعَرَّة النُّعْمَان إنَّما نُسِبَت إلى النُّعْمان بن بَشِير؛ لأنَّ مَوْضعَها كان أَجَمَةَ قَصَبٍ، وكان سُكْنى أهْل المَعَرَّة بِسيَاث، وهي المَدِينَة إذ ذاك، وآثارُهَا تَدُلُّ على ذلك، فخرج من سِيَاث ولد النُّعْمان يَتَصَيَّد، فافْترسَهُ الأَسَدُ عند الأَجَمَة، فدفنَهُ في ذلك المَوْضع، وبنَى مَنْزِلًا عند قَبْره، وقال لأهْل سِيَاث: مَنْ كان يُودّني، ويُحبّ مُوافقتي، فليَبْنِ لهُ مَوْضعًا عند الموضِع الّذي ابْتَنيتَه، فبنَى النَّاس مَعَرَّة النُّعْمَان، وسُمِّيت بذلك لِمَا لَحِقَ النُّعْمان من مَعَرَّة الحُزْن على وَلدهِ.
قُلتُ: والصَّحيحُ أنَّ النُّعْمان بن بَشِير جَدَّدَ بناءَهَا وزَادَ فيهِ، واخْتارها للمَقام أيَّام ولايته فنُسِبَت إليهِ، وقد كانت مَدِينَةً مَعْروفةً قبل ذلك؛ فَتَحَها أبو عُبَيْدَة رضي الله عنه. وأكثر أهْلها من تَنُوخ.
وقال البَلاذُرِيّ في كتاب البُلْدان له
(2)
: هي مَنْسُوبَه إلى النُّعْمان بن بَشِير.
(1)
أثبته في كتابه الإشارات 7.
(2)
فتوح البلدان 179، وسمَّاها معرَّة حِمْصَ تمييزًا لها عن معرة مصرين.
وقال ابنُ حَوْقَل النَّصِيْبِيّ في جَغْرَافيَا
(1)
: مَعَرَّة النُّعْمَان مَدِينَةٌ وما حَوْلها من القُرَى أعْذَاءٌ؛ ليس بنواحيها ماءٌ صَارٍ ولا عَيْنٌ.
كذا قال، وقد شاهدْتُ عَيْن مَاء من قِبْلي المَعَرَّة على الطَّريق بالقُرْبِ منها.
وقال الجَدَلِيُّ
(2)
: هي مَنْسُوبَةٌ إلى النُّعْمان بن بَشِير الأنْصاريّ، كان مُعاوِيَة بن أبي سُفْيان أقْطَعَهُ إيَّاها فَنُسِبَتْ إليهِ.
وقال ابنُ وَاضِح الكَاتِب
(3)
: ومَعَرَّة النُّعْمَان مَدِينَةٌ قَدِيْمَةٌ خَرَابٌ، وأهْلها تَنُوخ.
وذكَرَ صَاحبُنا يَاقُوت بن عَبْد اللّه الحَمَوِيّ في كتابه
(4)
، وقال: بمَعَرَّة النُّعْمَان قبرُ مُحمَّد بن عَبْد اللّه بن عَمَّار بن يَاسِر.
وقَرَأتُ بِخَطِّ مُحمَّد بن أحْمَد بن الحَسَن الكَاتِب، في رُوزنَامج
(5)
أنْشَأَهُ، وذكَرَ فيهِ رِحْلتَهُ من بلاد أَذْرَبِيْجَان إلى الحَجِّ وعَوْدِه منهُ، وجِعلَهُ كالتَّذْكرة لولَده، قال فيه بَعْدَ أنْ ذكَرَ خُروجَهُ من حَلَب حَرَسَها اللّهُ: ونَزَلْنا سَرْمِيْن، فاسْتقبلني القائدُ بها بالإكْرام وِالإنعام، ورَكب في صُحْبَتي إلى مَعَرَّة النُّعْمَان، بل مَقرّ الرُّوْح والرَّيْحان، بل زهْرة العَيْن والجَنَانِ، بل مَعْدِن البَيان واللِّسَان
(1)
صورة الأرض 178.
(2)
لم أقف عليه، والذين يَنْتسبُون هذه النسبة كثر يصعب معه الترجيح.
(3)
اليعقوبي: البلدان 334.
(4)
مُعْجَمُ البلدان 5: 156، والذي ورد في كتاب ياقوت "قبر عبد اللّه بن عمار بن ياسر الصحابي"، وليس ابنه مُحمَّد.
(5)
الروزناج: فارسية، تعريب روزنامه وتعني: اليوميات، أو المذكرات اليومية، وللصاحب ابن عباد كتاب بهذا العنوان قيد فيه يومياته. روزنثال: علم التأريخ 239.
وذكر ابن العديم في كتابه الإنصاف والتحري (ضمن كتاب إعلام النبلاء للطباخ 4: 144) روزنامج أبي الفرج مُحَمّد الكاتب، وأرخ رحلته في سنة 428 هـ، وذكر اجتماعه بأبي العلاء المَعَرِّيّ مما أورده في تَرْجَمَة المَعَرِّيّ (الجزء الثاني).
والرُّجْحَان، في الأدَب والشِّعْر والإتْقَان، بل مَحَلّ كُلّ كريم وهِجَان، وهي مَدِينَة تَبُلُّ غُلَّةَ الظَّمآن، وتَفْثَأُ أكلةَ الغَرْثَانِ السَّغْبَان.
أخْبَرَنَا أبو عَليّ الأوَقيّ إذْنًا، عن أبي طَاهِر السِّلَفِيّ، قال: حَدَّثَني أبو مُحمَّد بن أحْمَد بن إبْرَاهِيْم الرَّازِيَّ، قال: هذه نُسخة كتاب الشَّيْخ أبي الفَتح عَبْد العَزِيْز بن الحُسَيْن بن عليّ بن زُبَيْد المِصْرِيّ، وقد رأيتُهُ بمَعَرَّة النُّعْمَان، ولم أسْمعها منهُ، وذكَرَ فيها: ثمّ سافرتُ منها - يعني طَرابُلُس - فوصَلتُ مَعَرَّة النُّعْمَان، فوجَدْتُها واسعة الأسْواق، كَثِيْرة الأَرْفاق، صَحيحة الهَوَاء، واسعَة الفَضَاءِ، مياهُها غَزيرة، وفواكهُها كَثِيْرة، وأهلُها يَميْلُون إلى الخَيْر والتَّعَفُّف، ويَعِيْشُون [بالقَناعَة والتكلُّف](a)، وفيهم بعضُ الحَمِيَّة، وشيءٌ من العَصَبِيَّة، ولهم مع هذا مَعْرفة بالشَّرِّ والخصُومَة، وعادة شدَّة السّعاية والنَّميمة، غير أنَّ ذلك فيما بينهم؛ لا يتعدَّاهم ولا يتجاوزَهم إلى أحَدٍ سواهم.
وأنْبَأنَا أبو هاشِم عَبْد المُطَّلِب بن الفَضْل الهاشِميّ، عن تاج الإسْلام أبي سَعْد السَّمْعانيّ، قال
(1)
: وذكَر أبو نَصْر بن هُمَيْمَاه الرِّامشِيِّ أنَّ النِّسْبَة الصَّحيحة إليها: مَعَرنَمِيّ؛ لأنَّ ثَمَّ مَعَرَّتَيْن: مَعَرَّة النُّعْمَان ومَعرَّةَ مصْرِيْن (b)، فالنِّسْبَةُ إلى الأُوْلَى: معرنَميّ، وإلى الثَّانيَة: مَعرْمَصِيّ (c)، غير أنَّ أكثر أهل العِلْم لا يَعرْفُ ذلك، والمَعَرِّيّ المُطْلَق مَنْسُوبٌ إلى مَعَرَّة النُّعْمَان.
قال أبو سَعْد السَّمْعانيّ
(2)
: خَرَجَ منها جَمَاعةٌ من العُلماء في كُلِّ فَنّ، وقَبْر عُمَر بن عَبْد العَزِيْز رضي الله عنه في سَوَادِها بموضعٍ يُقالُ لهُ دير سِمْعَان.
(a) أورد المصنف الرواية في هامش الأصل، وفيها: "بالصناعة والتكا
…
"، والتكلف لا وجه له هنا، ولعله: بالقناعة والتكفف [الشحادة]، أو: بالقناعة والتكافل، وفي كتاب تعريف القدماء بأبي العلا، نقلًا عن ابن العديم: بالقناعة والتعفف، ونقله عنه مُحَمّد سليم الجندي (تاريخ معرة النُّعْمَان): بالقناعة والتغفف [كذا].
(b) أنساب السمعاني: معرة بسرين!.
(c) أنساب السمعاني: معرنسي.
_________
(1)
السمعاني: الأنساب 12: 345.
(2)
السمعاني: الأنساب 12: 345.
ومن أحْسَن ما وقَع إليَّ في وَصْفها، أبياتٌ قالها الوَزِير أبو القَاسِم الحُسَيْن بن عليّ بن الحُسَيْن بن المغْربِيّ، وقد أخْبَرنا ببعض قَوله أبو هاشِم عَبدُ المُطَّلِب بن الفَضْل بن عَبْد المُطَّلِب الهاشِمِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو سَعْد عَبْد الكَريم بن مُحمَّد بن مَنْصُور، قال: أنْشَدَني أبو صَالِح قراطاش بن طُنْطاش (a) الظَّفْرِيّ إمْلاءً، قال: أنْشَدَني أبو العِزّ أحْمدُ بن عُبَيْد اللّهِ بن كَادِشٍ العُكبَرِيّ، ح.
وقد أنْبَأنَا أبو حَفْص بن طَبَرْزَد، عن ابن كَادِش، قال: أنْشَدَني أبو عَبْد اللّهِ مُحمَّد بن جَرْدَة (b)، قال: أنْشَدَني الوَزِير أبو القَاسِم المَغربِيّ لنَفْسه؛ والأبيات
(1)
: [من الخفيف]
مَا على سَاكن المَعَرَّة لو
…
أنَّ دِيارًا نبَتْ بهم أو طُلُولا
يسكنُونَ العُلَا مَعاقِل شُمًّا
…
ويروْنَ الآدَابَ ظِلًّا ظَلِيْلا
مَنْزلٌ شَاقَنِي أنيسٌ ومَا كا
…
ن رسُومًا نواحلًا وَطُلُولا
حيثُ يُدْعَى النَّسيمُ فظًّا وتُلْفَى
…
سَبَلُ الغادِياتِ شكسًا بَخيلا
أينما تَلْتَفِتْ تَجدْ ظِلّ طُوْبَى
…
وتَجدْ كَوْثَرًا أغَرَّ صَقِيْلا
تُرْبُها طيَّبَ الشَّبَاب فما تَصْـ
…
ـحَبُ إلَّا السُّرُورَ فيها خَلِيْلا
فتَرى اللَّهْوَ إنْ أردْتَ طَلِيقًا
…
والتُّقَى إنْ أرَدْتَّهُ مغْلُولَا
وإذَا ما اعْتَزى بها الأدَبُ العُذْ
…
رِيُّ جاءُوا عمارةً وقَبيلا
ليتَ لا يعْنِفُ السَّحَابُ عَليها
…
ليتَهُ جادَهَا عليلًا كَليْلا
وسَلامٌ على بَنِيْها ولا زا
…
لَ نَعِيْمُ الحيَاةِ فيهم نَزِيلا
أنْشَدَنا الحَسَن بن عَمْرو بن دُهْن الحَصَا، قال: أنْشَدَنا الخَطِيب أبو الفَضْل عَبْد اللّه بن أحْمَد الطُّوسِيّ، قال: أنْشَدَنا الخَطِيب أبو زَكَرِيَّاء التَّبْرِيْزِيّ إجَازَةً، ح.
(a) يتكرر بهذا الرسم في ثلاثة مواضع تالية من هذا الكتاب، وفي مُعْجَمُ الأدباء لياقوت 4: 1732: أبو صالح قرطاس بن الطنطاش الظفري الصوفي التركي.
(b) وردت بالحاء بالمهملة في الأصل و"ك"، وترد فيما بعد بالمعجمة، في موضعين من تَرْجَمَة: الحُسَيْن بن عليّ بن المرزبان، الوزير المغربى، والمثبت موافق لما في الكامل لابن الأثير 9: 643، والوافي بالوفيات 16:245.
_________
(1)
ديوان الوزير المغربي 148.
وأنْشَدَنا أبو المَحَامِد إسْمَاعِيْل بن حَامِد القُوصِيّ، قال: أنْشَدَني أبو جَعْفَر مُحمَّد بن المُؤيَّد بن أحْمَد التَّنُوخيَّ، قال: أنْشَدَني جَدِّي أبو اليَقْظَان أحمَد بن مُحمَّد بن حَوَارِيّ، قالا: أنْشَدنا أبو العَلاء أحْمَد بن عَبْد الله بن سُلَيمان المَعَرِّيّ لنفسهِ ممَّا قاله ببَغْدَاد يَتَشَوَّق بَلَده
(1)
: [الطّويل]
مَتى سَألَتْ بَغْدَادُ عنِّي وأهلُها
…
فإنِّيَ عن أهْلِ العَوَاصِم سَأآلُ
إذا جَنَّ ليْلي جُنَّ لُبّي وزَائِدٌ
…
خُفُوقُ فؤادي كُلَّما خَفَقَ الَآلُ
وماءُ بلادي كانَ أنْجَعَ مَشْرَبًا
…
ولو أنَّ ماءَ الكَرْخِ صَهْباءُ جِرْيالُ
فيا وَطَني إنْ فاتني بكَ سَابِقٌ
…
من الدَّهْر فليَنْعِمْ لسَاكِنكَ البَالُ
فإنْ أسْتَطِعْ في الحَشْر آتِكَ زَائرًا
…
وهَيْهاتَ لي يَوْمَ القِيامَةِ أشْغَالُ
بابٌ في ذِكْرِ مَعَرَّة مَصْرِيْن
(2)
وهي من الجَزْر من عَمَل حَلَب، ويُقالُ فيها مَعَارَّة مَصْرِين أيضًا.
وهي مَدِينَةٌ مَذْكُورَة، وبَلْدَةٌ مَشهُورة، لها ذِكْرٌ في الفُتُوح، وباب الرِّزْق فيها لطالبه مَفْتوح، باطنها حَسَن، وظاهرُهَا أغَن، محفوفةٌ بالأشْجَار، وشِرْبُ أهلهَا من ماء الأمْطَار، ولها سُور قديم مبنيّ بالحَجَر، وقد تهَدَّم، وكاد أنْ لا يبقى منه إلّا الأَثَر.
(1)
سقط الزند 333 - 333.
(2)
معرَّة مَصْرِين، Maarrat Mesrin: تقع على خط العرض 36.01 والطول 36.40، إلى الشمال من بلدة سرمين، وإلى ناحية الجنوب الغريى من حَلَب، وتبعد عن إدلب نحو 10 كم إلى الشمال الشرقي منها، وكانت مَدِينَة صغيرة من مدن جُنْد قِنِّسرين ثمّ أصبحت في القرن السابع الهجري كررة نتبع إليها عدة قرى وبلدات. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، 154، اليعقوبي: البلدان 363، (وفيه: مصرين، دون إضافة) قدامة: الخراج 304، مجهول: حدود العالم 176، المقدسي: أحسن التقاسيم 154: (وفيه: معرة قِنِّسرين)، البكري: المسالك 1: 459، (وفيه معرة النصريّ، وأن النصرين جَبَل مطلّ عليها)، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 12، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363 (وذكر أنها تسمى بذات القصرين)، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 5: 155: أبو الفداء: تقويم البلدان 231 (وفيه: معرة نسرين، بالنون والسين)، موستراس: المعجم الجغرافي 465، زكرياء: جولة أثرية 133، طلاس: المعجم الجغرافي N.Elsseeff،El 2،Maarrat Masrin،V،Pp 921 - 922 ، 304 :5
وكان الفِرِنْج قد اسْتَولوا عليها حين اسْتَولوا على الأثارِب وزَرْدَنَا
(1)
؛ وزَرْدَنَا قَرْيَةٌ قريبة منها كان لها قَلْعَة خَرِبَت، ففَتَح إيلْغَازِي بن أُرْتُق مَدِينَة مَعَرَّة مَصْرِيْن وزرْدَنَا والأثارِب في سَنة ثلاث عَشرة وخَمْسِمائَة بعد أنْ كسَرَ الفِرِنْج على ما نَشْرحه إنْ شَاءَ اللّهُ في تَرْجَمَتِهِ
(2)
.
وأهلُها ذوو يَسَار وأمْوال وأمْلاك، ولمَّا هَجَمها الفِرِنْج دقَنَ أهلها فيها أمْوالًا، فظَهَرَ بعدَهُم منها شيء.
ويقالُ إنَّها هي الّتي تُعْرفُ بذاتِ القُصُور، وكان أكابر حَلَب وأعْيانُها يَرْغَبُون في اقْتناء الأمْلاك جها، واتِّخاذِ الدُّوْرِ والمنازِل فيها، وكان فيها لسلَفنا أمْلاكٌ وافرة، خَرَجَ عنَّا بعضُها، وبَقِي البعضُ، ويُجْلبُ منها الزَّيْتُ الكَثِيْر، وأرضُها عَذِيّ؛ يُزْرِع فيها البَصَل والثُّوم والكُسْفَرَة (a) والحَبَّة
(3)
، فتأتي على أكْمل ما يكون من غير سَقْي.
(a) كذا رسمها - في هذا الموضع وفي موضع أخر سيأتي من هذا الجزء - خلاف الدارج المشهور في ذلك؛ والذي في المعاجم: بالسين أو الزاي: الكُسبرة والكُزْبَرة، لفظة عربية لضرب من البزور، وقل نبات الجُلُجُلان. لسان العَرَب وتاج العروس: مادتي: كزبر، كسبر.
_________
(1)
زردنا: قرية في هضبة إدلب، نتبع ناحية معرة مصرين بمحافظة إدلب، تبعد عن معرة مصرين مسافة 9 كم باتجاه الشمال الشرقي. باقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 136، طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 3: 547 - 548، 5:304.
(2)
تَرْجَمَة ايلغازي بن أرتق في الضائع من الكتاب.
(3)
أي الحبَّة الخضراء، كما يُحدِّدها فيما يليه، وهي شجر البطم.
وذكَرَ أحْمد بن يَحْيَى البَلاذُرِيّ، في كتاب البُلْدان
(1)
، ما ذكَرهُ عن مَشَايخِه في ذِكْر الفُتُوح، قالوا: وبَلَغَ أبا عُبَيْدَة أنْ جَمعًا للرُّوم بين مَعَارَّة مَصْرين (a) وحَلَب، فلقيَهم وقَتَل عدَّة بَطَارِقَةٍ، وفضَّ ذلك الجَيْش، وسَبَى وغَنِم، وفتَحَ مَعَارَّة مَصْرِين على مِثْل صُلْح حَلَب.
وقد عَدَّ ابنُ وَاضِح الكَاتِب لجُنْد قِنَّسْرِيْن والعَوَاصِم كُوَرًا، فقال
(2)
: وكُورَة مَرْتَحْوان
(3)
، وكُورَة مَعَرَّة مَصْرِيْن.
قُلتُ: وكلتاهما من الجَزْر مُتَلاصقتان، ومَرْتَحْوان قريبة من مَعَرَّة مَصْرِيْن.
وقال الحَسَن بن أحْمَد المُهَلَّبيّ في كتابهِ: وكان بَلَد مَعَرَّة مَصْرِيْن إلى جَبَل السُّمَّاق بلد التِّيْن والزَّبِيْب والفُسْتُق والسُّمَّاق وحَبَّة الخَضْراء، يَخْرج عن الحدِّ في الرُّخْص، ويُحْمل إلى مُدُن العِرَاق، ويُجَهَّز إلى كُلِّ بَلَدٍ.
(a) أثبتها على هذا الوجه كما في أصول البَلاذُرِيّ وقبل أن يحيلها المحقق إلى الرسم الآخر المَعْرُوف، على عادة ابن العديم في إثبات النقول كما وجدها، حتَّى وإن خالفت الدارج السائر من المسميات.
_________
(1)
فتوح البلدان 202.
(2)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لابن واضح اليعقوبي.
(3)
مَرْتَحوان: مَدِينَة من نواحي حَلَب، تقع إلى الشمال الغربي من معرة مصرين، وتبعد عنها مسافة 9 كم، وعن إدلب نحو 17 كم، وتسمى اليوم معارة الإخوان، ونتبع إلى محافظة إدلب. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، اليعقوبي: البلدان 363، قدامة: الخراج 304، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 5: 100، موستراس: المعجم الجغرافي 460 (وفيه: مرتوان Mertwan)، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 302 - 303.
أنْشَدَني بَهَاءُ الدِّين أبو مُحمَّد الحَسَنُ بن إبرَاهِيم بن سَعيد بن الخَشَّاب، قال: أنْشَدَني بعضُ أهل مَعَرَّة مَصْرِيْن لَحْمدَان بن عَبْد الرَّحِيْم
(1)
: [من البسيط]
جَادَت مَعَرَّة مَصْرِيْن من الدّيَمِ
…
مثلُ الّذي جَاد من دَمْي لبَيْنهمِ
وسَالَمَتْها اللَّيالِي في تغيُّرها
…
وصافحَتْها يدُ الآلاءِ والنّعَم
ولا تناوَحت الإعْصَارُ عاصفةً
…
بعرْصَتَيها كما هَبَّت عك إرم
حَاكَت يَدُ القَطر في أفنائها حُلَلًا
…
مِنِ كلّ نَوْرٍ شَنيْب الثَّغْر مُبْتَسم
إذا الصَّبَا حرّكت أنْوارهَا اعتنقت
…
وقَبَّلت بعْضُها بعضًا فمًا لِفَمِ
كأنَّما نشَرت كفُّ الرَّبيعْ بها
…
بَهَارَ كِسْرَى مليْك الفُرْس والعَجَم
كم وقفَةٍ لي بباب السُّوْق أذكرُها
…
مع أُسْرةٍ مَاتَت الدُّنْيا لموتهم
وكم على تَلِّ باب الحِصْن من أربٍ
…
أدركته عند خلٍّ من بَني جُشَمِ
وكم على الجانب الشَّرْقيّ لي خُلَسٌ
…
مع فِتْيَةٍ يَدْرؤُونَ الهَمَّ بالهِمَمِ
مُهلهْليُّون لا يألُون في كرم
…
جهدًا ويرْعَونَ حقّ الجارِ والذّمَمِ
عَاقرتُهم وجَلابيبُ الصِّبا قُشُب
…
وعَارضي غير مُحْتاجٍ إلى الكَتَمِ
يا ليتَ شِعْري ولَيْتٌ أصبَحَتْ غُصَصًا
…
هل يَجْمع اللّهُ شمْلي بعد بينهِم
وما كَفَى الدَّهْر منّي أنْ نأى بكمُ
…
عنّي وغَادرني لحمًا على وَضَمِ
حتَّى أراني حِصَار الكَفر ثانيةً
…
بناظرٍ غَرْق تحتَ الدُّمُوع عَم
صَبْرًا لعلِّي أرى للدَّهرِ عاطفةً
…
تدبُّ فينا دبيبَ البُرْءِ في السّقَمِ
فاللّهُ يُعقبُ أهل الصَّبْر إنْ صَبَروا
…
وصَابَرُوا بنَعيم غير مُنْصَرِم
(1)
هو أبو الفوارس حَمْدَان بن أبي الموفق عبد الرحيم الأثاربي (ت 542 هـ)، ترجم له ابن العديم في الجزء السادس من كتابه، وهي من أوعب التراجم التي تناولت حياته، والأبيات في الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 12 - 13، وستة أبيات منها عند ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 5: 155 - 156.
الكَفْر
(1)
: قَرْيَةٌ كبيرةٌ من الجَزْر من كُورَة مَرْتَحْوان، ولها مغائر كان الفِرِنْج إذا أغاروا على البَلَدِ دَخَلُوا واحْتَموا فيها، ومعهم أهل يَحْمُول
(2)
وبيت رأس
(3)
؛ وهي ثلاث (a) قُرَى مُجْتَمعات، يُسْمع في كُلِّ قَرْيَة صَوْت مَنْ يَصيح في الأُخْرى، فكان الفِرِنْج يَحْصُرونهم في المغائر فلا يَقْدرُون عليهم.
أنْبَأنا أبو القَاسِم الحُسَيْن بن هِبَة الله بن صَصْرَى، قال: أجَازَ لنا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن نَصْر بن صَغِير القَيْسَرَانِيّ، وقال في مَعَرَّة مصْرِيْن، ورَأيتُه أنا بخَطِّه في دِيْوَان شِعْره
(4)
: [من المتقارب]
مَعَرَّة مَصْرِيْنَ (b) ناهيكَ مِصْرًا
…
مَحَلًّا مُحلًّى بَهَاءً وفَخْرا
أرقَّ البقَاعِ هَوَاءً ومَاءً
…
وأبْهَى المَنازِل دَارًا وقَصْرَا
أقَمْتُ بها يوْمَ صَدْرٍ أغَرّ
…
يُضاهِى وُجُوهًا من القَوْمِ غُرَّا
وَوَالَهْفَتَا لو أعان الزَّمانُ
…
خَلَعْتُ على ذلك اليَوْم شَهْرا (c)
(a) الأصل: ثلاثة.
(b) ضبطها في هذا الموضع بالكسر: مِصْرين.
(c) ترك المؤلِّف ثلثي. الصفحة بعده بياضًا.
_________
(1)
الكفر: كذا قيدها المؤلِّف غير منسوبة، وتسمى اليوم: كفر اليحمول، تمييزًا لها عن عشرات القرى والمزارع المسماة بكفر [كذا]، ويذكر ابن العديم في فصل الطلسمات أنها ملاصقة لقرية بيت رأس، وهى قرية في هضبة إدلب الشمالية، تتبع ناحية معرة مصرين بمحافظة إدلب، وتبعد عن بلدة معرة مصرين مسافة 35 باتجاه الشمال. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 72.
(2)
يحمول: قرية في هضبة حلب الغربية، تتبع إلى منطقة عزاز بمحافظة حلب، وتبعد عزاز نحو 7 كم باتجاه الشرق، وذكر ياقوت يحمول هذه، ويحمول أخرى بالثغور من أعمال بهسنا ناحية كيسوم.
انظر: ياقوت: معجم البلدان 5: 432، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 503. وسيأتي عند الكلام على ما بحلب وأعمالها من الطلمسات، بعض التعريف بها.
(3)
بيت رأس: ذكرها ياقوت من نواحي حلب، ولم يزد على ذلك. معجم البلدان 1:520. وكلام المؤلِّف يجعلها بالقرب من الكفر ويحمول، ولم أهتد للتعريف بها.
(4)
لم ترد الأبيات في ديوان ابن القيسراني.
بابٌ في ذِكْرِ حَاضِر قِنَّسْرِيْن
(1)
ويُقالُ لهُ: حَاضِر طَيِّء، وكان مَدِينَةً إلى جَانب قِنَّسْرِيْن، ولها قَلْعَةٌ تُشبهُ قلعَة قِنَّسْرِيْن، وبها قَوْمٌ من طَيِّء، فلهذا يُنْسبُ إليهم.
وقيل
(2)
: بأنَّ مُحمَّد بن عليّ بن عَبْد الله بن عبَّاس لمَّا تَزَوَّج رَائِطَة
(3)
بنت عَبْد الله الحارِثِيَّة، دَخَلَ بها في دار رجُلٍ من أهل الحَاضِر يُقالُ لهُ طَلْحَة بن مالِك الطَّائِيّ، أو مَنْصُور بن مالِك الطَّائِيّ، فاشْتملت (a) على أبي العبَّاس السَّفَّاح في دَاره.
والحَاضِرُ الآن قَرْيَة كبيرة يَسْكُنها الفَلَّاحُون، وخَرِبَت قلعتها وصارت الآن تلًّا يُزْرع فيه القَصِيْل والأُشْنَان.
قَرَأتُ بِخَطِّ ابن كَوْجَك العَبْسِيّ الحَلَبِيّ في كتاب سِيْرة المُعْتَضِد تَأليف سِنَان بن ثَابِت بن قُرَّة، ممَّا نَقَلَهُ من خَطِّ أحْمد بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ، في مَسير المُعْتَضِد
(a) الأصل: فاستملت، ويقال: اشتملت المرأة على حمل.
_________
(1)
حاضر قِنِّسرين: يقع إلى الشرق من قِنِّسرين على بعد 4 كم، ويسمى أيضًا حاضر طيء نسبة لقبيلة من طيء سكنته، وكانت تنوخ قد نزلت به منذ أول نزولهم الشام، وكانوا في خيم الشعر ثم ابتنوا به المنازل، وكان للحاضر سور وقلعة، وقد زار أبو حاتم الرازي (ت 277 هـ / 890 م) حاضر قِنِّسرين فوجد مدينتها وبيوتها وبساتينها خالية ليس فيها أحد، فقيل له إنه كان بينهم وبين أهل حلب قتال تفرقوا بعده، وقد آل أمر الحاضر في القرن السابع الهجري بأن أصبح قرية كبيرة يسكنها الفلاحون، وخربت القلعة وأصبحت تلًّا. انظر: قدامة: الخراج 303، الإسكندري: الأمكنة 1: 413، ياقوت: معجم البلدان 2: 202، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 48، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 11، أبو الفداء: اليواقيت والضرب Whitcomb، Archaeological Whitcomb، Donald، Archaeological Evidenece of 32؛ Sedentarization: Bilad al - Sham in the Early Islamic Period. In: Stefan Hauser، Die Sichtbarkeit von Nomaden und saisonaler Besiedlung in der Archaologie Multidisziplinare Annaherungen an ein methodisches Problem، halle، 2006، p 28
(2)
انظر الخبر في: أنساب الأشراف للبلاذري 1/ 3: 83.
(3)
يقال فيها أيضًا: رَيْطَة، أنساب الأشراف 1/ 3: 83، المسعودي: التنبيه 337، مجهول: العيون
والحدائق 3: 214، سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 12: 7.
إلى وَقْعَة الطَّوَاحِين، فقال بعد أنْ ذَكَرَ دُخُول المُعْتَضِد إلى حَلَب: ورحَلَ الأميرُ من مَدِينَة حَلَب يوم الخَمِيْس لليلتَيْن خَلَتا من رَجَب - يعني من سَنَة إحْدَى وسَبْعِين - نحو قِنَّسْرِيْن الأُوْلَى، وبينَهُما إثنا عشر مِيْلًا تكون أربعة فَرَاسِخ، وقِنَّسْرِيْن مَدِينَة صَغيرة لأَخِي الفُصَيْص التَّنُوخيّ، وعليها سُور، ولها قَلْعَة، وسُورها مُتَّصلٌ بسُور سَائر المَدِينَة، وعلى فَرْسَخ من هذا الموضِع - ممَّا يلي حَلَب - مثلُ هذه المَدِينَة لطَيِّءٍ، وهي الَّتي تُعْرفُ بحَاضِر طَيِّءٍ، وعليها سُور أيضًا، ولها قَلْعَةٌ على بناءِ قِنَّسْرِيْن.
وقَرأتُ بِخَطِّ بَنُوْسَةَ في كتاب أخْبار البُلْدان وفُتُوحها وبنائها، تأليفُ أحْمد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ
(1)
: وكان حَاضِر قِنَّسْرِيْن لتَنُوخ مُذْ أوَّل ما تَنَّخُوا (a) بالشَّام؛ نَزَلُوه وهم في خِيَم الشَّعْرِ، ثمّ ابتَنوا به المنازِل، فدَعَاهُم أبو عُبَيْدَة إلى الإسْلام، فأَسْلَم بعضُهُم، وأقام على النَّصْرانيَّةِ بنو سَلِيْح بن حُلْوَان بن عِمْران بن الْحَاف بن قُضَاعَة. قال: فحَدَّثَني بعضُ ولد يَزِيد بن حُنَيْن الطَّائِيّ الأنْطاكِيّ، عن أشْيَاخِهِم، أنَّ جَمَاعةً من أهْل ذلك الحَاضِر أسْلَمُوا في خِلَافَة المَهْدِيّ، فكتَبَ على أيديهِم بالخُضْرة: قِنَّسْرِيْن.
ثُمَّ قال البَلاذُرِيّ
(2)
: وكان حَاضِر طَيِّء قديمًا، نَزَلُوه بعد حَرْب الفَسَاد الّتي كانت بينهم حتَّى نزل الجَبَلَيْن
(3)
مَنْ نَزَلَ منهم، فتفرَّق باقُوهم في البِلادِ، فلمَّا وَرَدَ أبو عُبَيْدَة عليهم أسْلم بعضُهُم، وصَاعَ كَثِيْرٌ منهم على الجِزْيَة، ثمّ أسْلَمُوا بعد ذلك بيَسِير إلَّا مَن شَذَّ عن جَماعَتِهم.
(a) كذا بتشديد النون، ويجوز بالتخفيف.
_________
(1)
فتوح البلدان 197، ومثله عند قدامة (الخراج 303)، دون عزو.
(2)
فتوح البلدان 198، ونقله بنصه قدامة (الخراج 303) دون عزو.
(3)
هما جبل أجَأ وجبل سَلْمَى، ويقال لهما أيضًا جَبلي طَيّء.
وقال ابن وَاضِح الكَاتِب
(1)
: وبإزاءَ مَدِينَة قِنَّسْرِيْن مَدِينَةٌ يُقالُ لها: حَاضِرُ طَيِّء، بها مَنازِل طَيِّء.
قُلتُ: وبها الآن جَمَاعةٌ كبيرة عَبْسِيُّون. وكان عِكْرِشَة بن أَرْبَد العَبْسِيّ نازلًا بها في أيَّام هِشَام بن عَبْد المَلِك والوَلِيد بن يَزِيد، فمات بنوه فيها، فقال يَرثيهم؛ وَسَنَذكُرها في تَرْجَمَتِهِ
(2)
إنْ شَاءَ اللّهُ تعالَى: [من الطويل]
سَقى اللّهُ أَجْدَاثًا وَرَائي تَرَكْتُها
…
بحَاضِر قِنَّسْرِيْن منِ سَبَل القَطْرِ
مَضَوْا لا يريدُون الرَّواح وغالَهُم
…
من الدَّهْرِ أسْباب جَرين على قَدر
أخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن بن عُمَر بالمِزَّة من لَفْظه، قال: أخْبَرَنَا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن أبي أحمد لفظًا، قال: أنْبَأنَا مُحمَّد بن مُحمَّد الصُّوفِيّ، عن أبي سَعْد الفَقِيه، قال: أخْبَرَنَا أبو نُعَيْم الحَافِظُ، قال: أخْبرنا أبو الشَّيْخ الحَافِظُ، قال: قُرئ على أبي مُحمَّد عَبْد اللّهِ بن مُحمَّد بن يَعْقُوب، قال: أخْبرَنَا أبو حَاتِم الرَّازِيّ، قال: دَخَلْتُ حَاضِر قنَّسْرِيْن، فرأيتُ مدينَتَها وبيُوتَها وحيْطانَها وأَنْهارَها، قائمة ليسَ فيها أحَدٌ، فسَألتُ عن أمْرهم فقيل لي: إنَّه كان بينَهُم وبين أهْل حَلَب قتال، فكانوا يَغْدُون كُلَّ يوم للقِتَالِ حتَّى كانت ليلةٌ دَخَلُوا مدينَتَهُم، فأصْبَحُوا ولَيْسُوا في المَدِينَة، لا يُدْرَى أين أَخَذُوا! (a).
(a) كذا مجودًا في الأصل: بفتح الهمزة والخاء.
_________
(1)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لابن واضح اليعقوبي.
(2)
ترجمة عكرشة بن أربد العبسي في القسم الضائع من الكتاب.
بابٌ في ذِكْرِ سَرْمِيْن
(1)
وهي مَدِينَةٌ بطَرف جَبَل السُّمَّاق، كَبيرة العَمل، واسعَة الرُّسْتَاق، ولها (a) مَسْجِدٌ جامعٌ وأسْوَاق. وكان لها سُور من الحَجَر خَرِبَ في زماننا هذا ودَثَر، وبها مَسَاجِد كَثِيْرةٌ دَاثِرَة، كانت مَعْمُورَة بالحَجَر النَّحِيْت عِمَارَة فاخِرَة؛ قيل: إنَّ بها ثلاثمائة وستِّين مَسْجِدًا ليس بها الآن مَسْجِد يُصَلَّى فيه إلَّا المَسْجِد الجَامِع، وأكثرها الآن إسْمَاعِيْليَّة ولهم بها دَار دَعْوَة.
وكان يَسْكنُ بها الحَسَن بن عِجْل المَعْروف بالصُّوْفِيّ، الّذي يَنْتَسِبُ إليه بنُو الصُّوفِيّ رُؤساء دمَشْق، وكان جَدَّ أبي الحَسَن عليّ بن مُقَلَّد بن مُنْقِذ صَاحب شَيْزَر لأُمِّهِ، ولمَّا قَوِيَ أمْرُ الإسْمَاعِيْليَّة بسَرْمِيْن تحوَّل إلى حَلَب فسكَنها، وداره بحَلَب هي الدَّار الّتي وقَفَها شَيْخُنا قاضِي القُضَاة أبو المَحَاسِن يوسف بن رَافِع بن تَمِيْم، رحمه الله، مَدْرَسَةً لأصْحاب الشَّافِعِيّ رحمه الله، تجاه المَدْرَسَة النُّورِيَّة، وخَرَجَ منها فُضَلاء وشُعَراء.
وذَكَرها أحمد بن أبي يَعْقُوبَ بن وَاضِح الكَاتِب، في كتاب البُلْدان، في تَسْمِيَة كُوَر جُنْد قِنَّسْرِيْن والعَوَاصِم، فقال
(2)
: كُورَة سَرْمِيْن وأهْلُها من قَيْس.
(a) ك: وبها.
_________
(1)
سرمين Sermin: تقع في ناحية الجنوب الغربي من قِنَّسرين، وكانت إحدى مدن الجند بطرف جبل السماق، إلى الجنوب الغربي من حلب، وبينهما مسيرة يوم، وهى جنوب شرق مدينة إدلب على بعد 9 كم، ويحيط بها سور من البحر، ولها أسواق ومسجد جامع. انظر ابن خرداذبة: المسالك 75، قدامة: الخراج 304، ياقوت: معجم البلدان 3: 315، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 12، الوطواط: مناهج الفكر 1: 362، أبو الفداء: تقويم البلدان 231، 265، موستراس: المعجم الجغرافي 298، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 616.
(2)
ضمن القسم الضائع من كتاب ابن واضح اليعقوبي.
وكانَ بقُربها في جَبَل بني عُلَيْم حِصْنٌ مَنيع يُقالُ لهُ كَفَرْ لَاثَا
(1)
، وكان الفِرِنْج قد اسْتَولوا عليهِ وعلى سَرْمِيْن في سَنهَ ستٍّ وتسعين وأرْبَعِمائة (a)، فاسْتَنْقذه نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي من أيديهم وَخَرَّبَهُ.
بابٌ في ذِكْرِ كَفَرْ طَاب
(2)
وأمَّا مَدِينَة كَفَرْ طَاب، فكانت مَدِينَة مَبْنِيَّة بالمَدَر، وشُربهم من صَهاريج من ماءَ المَطَر، وكان بها جَمَاعةٌ من الأعْيَان المُوسِرِين، ومن أهْل العِلْم والدِّين، فَهَجَمَها الفِرِنْج في سنة ستٍّ وسَبْعِين، فتَشَتَّتَ أهلُها في بلاد الشَّام، وكان منهم المَعْرُوفُونَ ببني قُشَام، ولمَّا اسْتَرجعها أتَابِك زَنْكِي من أيدي الكُفَّار، رَجع إليها من أهلها من أَحَبّ الرُّجوع واخْتار، وكان بها جمَاعة من العُلَمَاء والأُدَباء والشُّعَرَاءِ.
وذكَرها أحمد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح في كتاب البُلْدان، فقال
(3)
: ومَدِينَة كَفَرْ طَاب والأَطْمِيْم وهى مَدِينَة قَدِيْمَة، وأهلُها قَوْمٌ من يَمَن من سائر البُطُون، وأكثرهم كِنْدَة.
(a) أُلْحق التاريخ في الهامش، وقيّد عقد العشرة مهملًا:"في سنة ست و [سعين] وأربعمائة"، وذكره في زبدة الحلب 1: 360 على النحو المثبت. وانظر عن المواضع التي استولى عليها الفرنج من الشام: الكامل لابن الأثير 10: 364 - 366، زبدة الحلب 1: 359 - 361.
_________
(1)
كفر لاثا: وتسمى اليوم: كفر لاتا؛ بالتاء عوض المثلثة، قرية في جبل الزاوية في منطفة أريحا بمحافظة إدلب، تقع على سفحي وادي السطر المنحدر من جبل الزاوية نحو الشرق إلى وادي الكروم، وتبعد عن مدينة أريحا مسافة 3 كم باتجاه الجنوب الشرقي، وكانت في القرن السابع الهجري - زمن ابن العديم وياقوت - مسكنًا للإسماعيلية. ياقوت: معجم البلدان 4: 470، كامل الغزي: نهر الذهب 1: 523، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 5:62.
(2)
كفر طاب: خربة أثرية تقع بين حلب ومعرة النعمان، وتبعد عن معرة النعمان نحو 18 كم إلى جهة الغرب، وغرب مدينة خان شيخون بمسافة 3 كم. ياقوت: معجم البلدان 4: 470، الحميري: الروض المعطار 500، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 3:207.
(3)
اليعقوبي: البلدان 324.
الأطْمِيم: هي المَعروفة الآن بِلَطْمِيْن
(1)
، وهى قَرْيَة كبيرة جامِعَةٌ.
قَرَأتُ بِخَطِّ أبي طَاهِر السِّلَفِيّ، في رِسَالة أبي المُظَفَّر إبْرَاهِيْم بن أحمد الأذْرِيّ الّتي ذكَرَ فيها رِحْلتَهُ إلى الشَّام وغيرها، قال: ومنها - يَعْني (a) من معَرَّة النُّعْمَان - إلى كَفَرْ طَاب، وما أحْسنها بَلْدةً لو أنَّ لأهْلها ماء لشفاههم وشِرْبًا لأفْواهِهِم.
أنَّشدَني والِدي، رحمه الله، لبَعْضِ الشُّعَرَاء يَصِف كَفَرْ طَاب بِقِلَّةِ الماءِ
(2)
: [مخلع البسيط]
باللّهِ يا حَادِيَ المَطَايَا
…
بينَ حُناكٍ
(3)
وأرْمَنايَا
(4)
عَرِّج على أرْضِ كَفَرْ طَابٍ
…
وحَيِّها أوْفر التَّحَايا
واهْدِ لها الماءَ فهي ممَّن
…
يفرحُ بالماء في الهَدَايا
ويُرْوَى: يُهْدَى لها الماء في الهَدَايا.
(a) الأصل: نعني.
_________
(1)
لطمين: ذكرها ياقوت كورة بحمص وفيها حصن، وهى قرية في هضبة حماة الشمالية، تتبع ناحية كفر زيتا بمنطقة محردة من محافظة حماة، وتبعد عن بلدة كفر زيتا نحو 4 كم باتجاه الجنوب الشرقي. ياقوت: معجم البلدان 5: 17، طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 5: 122.
(2)
الأبيات عند ياقوت: معجم البلدان 4: 470 والقزويني: آثار البلاد 248، ونسبها الاثنان لمحمد بن سنان الخفاجي، وجاء عجز البيت الأول عندهما:"بين حناك وأرضايا"، ونهر الذهب 1: 421، وفيه:"بين جبالي وأرضايا".
(3)
حناك: خربة أثرية في جبل الزاوية بالقرب من قرية كفر رومة، تتبع معرة النعمان من محافظة إدلب، تبعد عن قرية كفر رومة نحو 3 كم. ياقوت: معجم البلدان 2: 309، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 55، الجندي: تاريخ معرة النعمان 2: 135، كرد علي: خطط الشام 5: 394، طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 3: 158 - 159.
(4)
أرمنايا: تل أثري في جبل الزاوية بالقرب من قرية حاس، ناحية كفر نبل بمنطقة معرة النعمان بمحافظة إدلب، يقع التل إلى الجنوب الشرقي من قرية حاس على بعد 5 كم. طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 1: 75.
وقيل بأنَّ هذه الأبيات لأبي مُحمَّد عَبْدِ الله بن مُحمَّد بن سَعيد الخفَاجِيّ الحَلَبِيّ
(1)
، والأمْرُ على ما ذَكَرهُ في قِلَّةِ الماءِ بها، فإنَّ حَمَّامها لها صِهْرِيج من ماءِ المَطَر، وما يَخْرج منها من الماءِ المُسْتعمل يَسْتعملونَهُ في دِبَاغَةِ الجُلُودِ، ثمّ يَسْتعملونَهُ في طِيْن الفَخَّار الّذي يُعْمل بها، ويُحْمل إلى البِلاد التي حَوْلها.
بابٌ في ذِكْرِ أفَامِيَةَ
(2)
ويُقالُ فيها: فَامِيَة أيضًا بغير ألف.
وهي مَدِينَةٌ قَدِيْمَةٌ، وبها آثار رُوْمِيَّة عَظِيمَة، ولها قَلْعَةٌ مَنِيعَة في نهايةِ القُوَّة، هي باقية إلى اليَومِ، وقد ذَكَرنا فيما تقَدَّم
(3)
أنَّ سَلُوْقُوس بناهَا وبنَى سَلُوْقِيَة، وحَلَب، والرُّهَا، واللَّاذقِيَّة.
وقال ابن وَاضِح الكَاتِب في كتاب البُلْدان
(4)
: ومَدِينَة فَامِيَة، وهي مَدِينَة رُوْمِيَّة قَدِيْمَة خَرَاب على بُحَيرَة عَظِيمَة، وأهلها عُذْرَة وبَهْرَاء.
وشاهدتُ في طَريق حَمَاة بالقُرْبِ من العَبَّادِي
(5)
أثَر قَناة قيل لي: إنَّ هذه قَنَاة أفَامِيَة، وكانت تأتي إليها من سَلَمْيَة.
(1)
لم أقف عليها في ديوان شعره.
(2)
أفامية: مدينة حصينة من سواحل الشام وكورة من كور حمص، وهى اليوم مدينة أثرية تقع عند أسفل السفح الغربي لجبل الزاوية ناحية قلعة المضيق بمنطقة الغاب من محافظة حماة، وتبعد عن مدينة حماة نحو 60 كم باتجاه الشمال الغربي، وإلى الغرب منها تقع قلعة المضيق. ياقوت: معجم البلدان 1: 227، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 2: 118، H. A. R. Gibb، El 2، Afamiya، I، p 215
(3)
انظره فيما مرَّ عند كلامه على قنسرين وعلى أنطاكية.
(4)
اليعقوبي: البلدان 324.
(5)
لم أقف على ذكر لها في القرى والمزارع التابعة لحماة أو التي بجوارها، ويذكر ياقوت (معجم البلدان 5: 75): العَبَّادية؛ قرية بظاهر دمشق من قرى المرج.
وأخْبَرَني والِدي، رحمه الله، قال: إذا مَدَّ نهْر قُوَيْق، وغاض بالمَطْخ، يَحْمَرُّ ماءُ بُحَيرَة أفَامِيَة؛ فَيَقُولُونَ: إنَّ مَغِيض الماءِ يخرج تحت الأرْض إلى البُحَيرَة المَذْكُورَة. وبعضُ النَّاس يقول: إنَّ سَمَك البُحَيرَة يَحِيض فَيَحْمَرّ ماؤُها.
وأفَامِيَة بَلْدَةٌ وَبِئَةٌ (a) جِدًّا.
ويُقالُ: إنَّ أبا هُرَيْرَة، صَار إلى فَاميَة فلم يُضِيْفُوهُ، فارْتَحل عنهم، فقالوا: يا أبا هُرَيْرَة، لِمَ ارْتَحَلتَ عَنَّا؟ فقال: لأنَّكم لم تُضِيْفُوني. قالوا: ما عَرَفْناك. فقال: وإنَّما تُضِيفُونَ مَنْ تَعْرفونَهُ!؟ قالوا: نَعَم، فارْتَحل عنهم.
أخْبَرَنَا بذلك أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحمد بن عليّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الفَضْل إسْمَاعِيْل بن عليّ الجنْزَوِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد هبَةُ الله بن أحْمد بن مُحمَّد الأكْفانِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو مُحمَّد عَبْد العَزِيْز بن أحمد الكَتَّانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو المُعَمَّر المُسَدَّدُ بن عليّ بن عَبْد الله بن العبَّاس الأمْلُوكِيّ، قال: أخْبَرَنا أبي أبو طَالِب عليّ، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم عَبْدُ العَزِيْز بن سَعيد، قال: حَدَّثَنَا عِمْران بن بَكَّار البَرَّاد، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بن مُحمَّد الحَضْرَميّ، عن بَقِيَّة، عن الأوْزَاعِيّ، عن يَحْيَى بن أبي كَثِيْر، أنَّ أبا هُرَيْرَة دَخَل حِمْص مُجْتازًا بها حتَّى صارَ إلى فَامِيَة فلم يُضِيفوه، فارْتَحل عنهم، وذَكَرَ ما ذَكَرْناهُ إلى آخره.
وقلعَة فَامِيَة من القِلَاع المَوْصُوفَة بالحَصَانَة والمَنَعَة.
وأنْبَأنَا أبو القَاسِم الأنْصاريّ، عن الحَافِظ أبي طَاهِر السِّلَفِيّ، عن أحمد بن مُحمَّد بن الآبنُوسِيّ، عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادِي، قال: أمَّا القِلَاع الّتي اتَّخذها (b)
(a) رسمها في الأصل بالمثناة التحتية وفوقها همزة، أراد بذلك جواز الوجهين: وَبِئَةٌ على وزن فَعِلَة، ووَبِيئةٌ على وزن فَعيلة؛ وكلاهما تعني: كثرة الوباء. انظر: لسان العرب، مادة: وبأ.
(b) ك: أعدها.
جَبَّارُوا الأُمَم وملوك الأرْض عَواصِم من أعْدَائهم، والأبْنِيَة الّتي تحصَّنُوا بها من مخاوفهم، فأكْثَر من أنْ تُحْصَى، وأنَّ من أعجْبها بُنْيانًا، وأمْنعها بإذن الله لِمَن اسْتَقْطنها، قَلعَة مَارِدِين، وقَلْعَة بَعْلَبَك، وقلعَة فَامِيَة. وذكَرَ غير ذلك.
وكانت أفَامِيَة في أيْدِي نوَاب المِصْرِيِّين، فنَرَلَ عليها قَسِيم الدَّوْلَة آقْ سُنْقُر في سَنة أرْبعٍ وثَمانين وأرْبَعِمائة، فكاتَبه أهلُها، فخاف الوَالِي
(1)
وسلَّمها إليه، فسَلَّمها إلى أبي المُرْهَف نَصْر بن مُنْقِذ، ثمّ أخذَها منه تاج الدَّوْلَة تُتُش، فلمَّا قُتِلَ
(2)
وثَب أهلها فيها، ونادوا بشعَار المُسْتَنْصِر المُسْتولِي على مِصْر، فسَيَّر إليها خَلَف بن مُلَاعِب في سَنة ثَمان وثَمانين
(3)
، إلى أنْ قتله البَاطِنِيَّة بها، فنَزل عليها طنكري
(4)
الفِرِنْجي، فتَسَلَّمها في شَهر مُحَرَّم من سَنة خمْسمائة بعد أنْ أقام عليها ثَمانية أشْهر (a).
(a) من قوله: "وكانت أفامية" إلى "أقام عليها ثمانية أشهر"، ملحقٌ كتبه ببطن الصفح.
_________
(1)
وكان - وقتها - خلف بن ملاعب الملقب بسيف الدولة، وكانت في يده أيضًا حمص. انظر ترجمته في موضعها من حرف الخاء في الجزء السابع.
(2)
أي تاج الدولة تتش، قتل في 17 صفر 488 هـ.
(3)
يرد في ترجمة خلف بن ملاعب الآتية، نقلًا عن العليمي، وأيضًا في زبدة الحلب 1: 338: سنة تسع وثمانين.
(4)
طنكري هو صاحب أنطاكية (ت 506 هـ)، ويقال له أيضا تنكري، تنكريد، تانكرد. ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق 183، ابن الأثير: الكامل 10: 493، زبدة الحلب 1: 348 وما بعدها، ابن خلدون: العبر 9: 563.
بابٌ في ذِكْرِ شَيْزَر
(1)
هي مَدِينَةٌ صَغِيرَة، وفَواكِهُهَا كَثِيْرة، ولها قَلْعَةٌ حَصِيْنَة، ومَدِينَةٌ تحتَ مَدِينَة، اسْتولَى عليها الفِرِنْج حين خرجوا إلى الشَّام، وانتَزعوها من أيدي وُلاة الإسْلام، وكان لسَدِيدِ المُلْك أبي الحَسَن عليّ بن المُقَلَّد بن مُنْقِذ قَلْعَةُ الجِسْر إلى جانبها، فَعَمَرَها وحَصَّنَها، وقصَدَ بذلك التَّضْييقَ على الأُسْقُف الّذي كان بشَيْزَر، فحصَل لابن مُنْقِذ ما قصَدَه، وضَاقَ بالأُسْقُف الأمرُ، وكَرِهَ بلَدَهُ، فاشْتَرى شَيْزَر من الأُسْقُف بمالٍ بَذَلَهُ، وتَسَلَّم منه البَلَد ونَزَله، وذلك في سَنَة أرْبَعٍ وسَبْعِين وأرْبَعِمائة، وعَمرها ابن مُنْقِذ وسكَنها، وشَيَّد قَلْعتها وحَصَّنَها، فصَارت مَذْكُورة بين البِلادِ.
وأمراؤُها السَّادة بنو مُنْقِذ هم الأجْنَاد، وقصَدَهَا أبو المَكَارِم مُسْلِمُ بنُ قُرَيْشٍ بالحِصَار، فعَاد عنها بالخَيْبَةِ والخَسَار، فقال فيه سَالم بن المُهَذَّب، عند عَجْزه عنها، أبياتًا سَتُذكَر في تَرجَمَتِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ، منها
(2)
: [من الطويل]
فَمُتْ كمدًا بالجسر (a) لسْتَ بجَاسِرٍ
…
عليهِ وعَايِنْ شَيْزَرًا أبدًا شَزْرًا
(a) في الأصل و"ك": فالجسر، وستأتي صحيحة في ترجمة سالم، والمثبت موافق لما في الخريدة والوافي.
_________
(1)
شيزر: تقع على الضفة اليسرى لوادي العاصي، إلى الشمال الغربي من مدينة حماة، على بُعد 25 كم، وإلى الشمال الغربي من مدينة محردة على بُعد 3 كم، ولا زالت قلعة شيزر قائمة إلى اليوم. انظر عن البلدة وقلعتها: ابن خرداذبة: المسالك 75، اليعقوبي: كتاب البلدان 324، البكري: معجم ما استعجم 3: 818، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، الإدريسي: نزهة المشتاق 2: 645، ياقوت: معجم البلدان 3: 383، أبو الفداء: تقويم البلدان 262، الحميري: الروض المعطار 352، ابن سباهي زاده: أوضح المسالك 429، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 89 - 90، J. M. Mouton، EI 2، Shayzar، IX، Pp 410 - 411
(2)
البيت في خريدة القصر للعماد الأصفهاني 12: 12، والوافي بالوفيات 15: 82، ويأتي في ترجمة سالم بن عبد الجبار بن المهذب في الجزء التاسع من هذا الكتاب.
وشَيْزَر بَلَدٌ مَوْصُوف بالوَخَامَةِ، وفيه يقُول مُؤيَّد الدَّوْلَة أُسامَة
(1)
: [من الكامل]
وُخِمَتْ (a) وجاوَرَها العَدُوُّ؛ فأهلُها
…
شُهَداءُ بين الطَّعْنِ والطَّاعُونِ
ولم تزل شَيْزَر في أيدِي بني مُنْقِذ، يسكُنونها ويُحامون عنها ويحفظُونها، إلى أنْ جاءت الزَّلْزَلَة سَنة اثْنَتين وخمسين وخَمْسِمائَة، فهدمَت شَيْزَر وحَمَاة، وقَتَلت صَاحبها مُحمَّد بن سُلْطان بن مُنْقِذ، وهتكت حِمَاهُ، وكان قد ابْتنى دَارًا وزَخْرَفَها، وجَلَس فيها وعنده أولاده وبنو عَمّه وحاشيتَهُ، وهم يتفرَّجون على قِرْد عندهم، فجاءت الزَّلْزَلَة وهَدمت الدَّار عليهم، فلم يَنْجُ منهم غير القِرْد، وبادر نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي إلى شَيْزَر فتسلَّمها وعمر أسْوارها، ودَفعها إلى سَابِق الدِّين عُثْمان ابن دَايَتِهِ
(2)
، ولم تزل في عِمَارَة وزِيَادة إلى أنْ أُخِذَت من ابن ابنهِ؛ حَصَرهُ المَلِك العَزِيز مُحمَّد بن المَلِك الظَّاهِر رحِمهما اللّهُ، فتشَعَّثَت أحْوال المَدِينة، وقَلَّت مَعايش أهلهَا لعَدَم سُكْنى العَسْكَر بها.
وأمَّا القَلْعَةُ فأحْوالُها مُنْتظمةٌ، وأمُورُها مُسْتقيمةٌ ملتئمَة، ونَهْر الأُرُنْط يَحُكُّ سَفْح القَلْعَة، وقد بُنى عليه سَكْر (b) ليَجْتَمع الماء تحت القَلْعَة، ويُسَمَّى ذلك المَوْضِع الخِرَطْلَة.
وقد ذكَرَها امرؤ القَيْس في قَصِيدَته الرَّائِيَّة بقَوله
(3)
: [من الطويل]
تقَطَّعُ أسْباب اللُبانَة والهَوَى
…
عشيَّة جَاوَزنا حَمَاةَ وشَيْزَرا
(a) في الخريدة والوافي: وَبِئَتْ.
(b) ورد في الحاشية: "هُدم هذا السكر بِزِيَادة العاصي في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، كتبه محمد بن السابق الحموي". وقدَّر أبو الفداء ارتفاع هذ السد بما يزيد على عشرة أذرع، (تقويم البلدان 363).
_________
(1)
لم ترد في ديوانه، ونسبه العماد الأصفهاني والصفدي لأبي المُعافى سالم بن عبد الجبار المذكور قبله، انظر خريدة القصر 12: 129، والوافي بالوفيات 15: 82، وعند سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 20: 383 لأبي الحكم الأندلسي.
(2)
ولهذا يسمى ابن الدَّايَة، وانظر عنه: ابن خلدون: العبر 10: 199.
(3)
ديوان امرئ القيس 95، وتاريخ ابن الوردي 1:103.
أخْبَرَنَا أبو العبَّاس أحمد بن عَبْد الله بن عُلْوَان الأسَدِيّ، قال: أخْبَرنا أبو البَرَكَات مُحمَّد بن حَمْزَة العِرْقِيّ كتابةً، وأخْبَرَنَا عنهُ سَمَاعًا أبو مُحمَّد عَبْد الدَّائم بن عُمَر بن حُسَين، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم على بن جَعْفَر السَّعْدِيّ المَعْروفُ بابنِ القَطَّاع، قال: أخبرَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن البِرّ اللُّغَويّ، قال: أخْبَرَنَا أبوَ مُحمَّد إسْمَاعِيْل بن مُحمَّد النَّيْسَابُوريّ، قال: أخْبرَنا أبو نَصْر إسْمَاعِيْل بن حَمَّاد الجَوْهَرِيّ
(4)
، قال: وشَيْزَر اسمُ موضعٍ لا أحْسَبُه عَرَبيًّا صَحيحًا.
وقد ذكَرَها أبو زَيْد أحْمَد بن سَهْلٍ البِلْخِيُّ، في كتاب صُورة الأرْض والمُدُن وما تَشْتمل عليه، فقال
(5)
: فأمَّا شَيْزَر وحَمَاةُ فإنَّهُما مَدِينتان صَغِيْرَتان نَزِهَتان، كَثِيْرة (a) المياه والشَّجَر والزَّرْع.
بابٌ في ذِكْرِ حَمَاة
(6)
حَمَاةُ بَلْدَةٌ حَسَنَةٌ، نَضِرَةٌ، حُلَوةٌ، خَضِرةٌ، أطاعَ حُسْنها العَاصِي، واسْتحلاها الدَّانِيّ والقَاصِيّ، طَيِّبَة الفَواكِه والثِّمَار، وأهلُهَا خِيَرَةٌ أبْرَار، وهي مَدِينتان والقَلْعَة بينهُمَا، وعلى كُلِّ مَدِينَة منهما سُور، وفيها سُوْق، والمَدِينَة الغَرْبيَّة تُعْرفُ بِسُوق الأعْلَى، والمَدِينَة الشَّرْقيَّة تُعْرَفُ بسُوْق الأسْفَل، ولكُلِّ
(a) كذا في الأصل، ومثله عند البلخي، وحقُّه التثنية.
_________
(4)
الذي ذكره الجوهري في الصحاح 3: 696 أنه بلد، ولم يزد.
(5)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 أ، وقد عدَّهما من جند حمص.
(6)
حماة: مدينة قديمة من مدن الشام، وهى اليوم إحدى مدن سوريا الرئيسية، ومركز محافظة كبيرة، تبعد عن مدينة حمص مسافة 45 كم، ونهر العاصي يمر بها من شرقيها وشماليها، ولها قلعة حسنة البناء مرتفعة، وفي داخلها الأرحية على الماء وبها نواعير على العاصي تسقى أكثر بساتينها. المسالك والممالك لابن خرداذبة 75، البلدان لليعقوبي 324، صورة الأرض لابن حوقل 177، معجم ما استعجم 2: 466، معجم البلدان 2: 300، تقويم البلدان 262، خريدة العجائب لابن الوردي 42، الروض المعطار 199، المجم الجغرافي للقطر العربي السوري 3: 127، D. Sourdel، EI 2 Hamat، III، Pp 119 - 121
واحدةٍ منهُمَا مَسْجِدٌ جَامِعٌ تُقَام فيه الخُطْبَة. ونَهْرُ الأُرُنْط يحفُّ بِدُور المدينَتَين، ولم تكن قلعَتها بالحَصِيْنَة ولا المُخْتَارة، وخرَّبتها الزَّلْزَلَة سَنة اثْنتين وخمسين وخَمْسِمائَة، وكانت زَلْزَلَةً عَظِيمَةً هائلةً.
ولمَّا ملكَها تَقِيّ الدِّين عُمر ابن أخي السُّلْطَان المَلِك النَّاصِر حَصَّنَها وقَوَّاهَا، وجاءَ بعدَهُ وَلدُهُ المَلِك المنصُور مُحمَّد بن عُمَر فجدَّدَ أسْوار القَلْعَة، وبناها وشَيَّدَهَا وعَلَّاهَا، فصَارت من أحْسَن القِلَاع وأبْهَاها، ويَغْلِبُ على أهْلها العِلْم والأدَب، وقد عدَّها البِشَارِيّ
(1)
كما ذَكَرْناهُ
(2)
من مُدُن حَلَب.
وقَرأتُ بِخَطِّ أبي طَاهِر السِّلَفِيّ، في رِسَالة أبي المُظَفَّر الليثِيّ، قال: ومنها - يعني من كَفَرْ طَاب - إلى حَمَاة، وهي مَدِينَة نَزِهَةٌ بُنِيَت على النَّهْر المَعْرُوف بالعَاصِي، وربَّما قيل لهُ المَقْلُوب، وعلى حافتي النَّهْر دَوَاليب يُسمِّيها أهلها الحَنَّانَات، ومن جُمْلَتها الحنَّانَة المَعْروفُة بأم الحَسَن، ويُقالُ: إنَّ فلكها أربعونَ ذِرَاعًا.
وقد ذكَرَها امرؤ القَيْس مع شَيْزَر في شِعْره كما ذَكَرْنا
(3)
، وكذلك عُبَيْدُ الله بن قَيْس الرُّقَيَّات في قَوْله
(4)
: [من الطويل]
قِفُوا بِيَ أنْظُر نَحْوَ قَوْمِي نَظْرةً
…
فَلَم يَقِفِ الحادِي بنا (a) وتَغَشْمَرَا
فَواحَزَنا إذ فارَقونا وَجاوَزُوا
…
سِوى قَوْمِهِم أَعْلى حَمَاةَ وشَيْزَرا
وقال أحمد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب في ذِكْر حَمَاة
(5)
: وهي مَدِينَة قَدِيْمَةٌ، وعلى نَهْرٍ يُقالُ لهُ الأُرُنْط، وأهل هذه المَدِينَة قوْم من يَمَنٍ، والأغْلَب عليهم بَهْرَاء وتَنُوخ.
(a) الديوان: بها.
_________
(1)
أحسن التقاسيم 154، وقد جعلها البشاري في موضع آخر من كتابه (ص 54) ضمن مدن جند حمص.
(2)
في الفصول الأولى الضائعة من الكتاب.
(3)
في الصفحة قبلها،
(4)
ديوان عبيد الله الرقيات 140.
(5)
اليعقوبي: البلدان 324.
وعدَّها ابنُ وَاضِح
(1)
من عَمَل حِمْص، لكنَّ البِشَارِيّ
(2)
ذكَرها وشَيْزَر ورَفَنِيَّة من مُدُن حَلَب.
وذكَرَ أبو العَلاءِ المَعَرِّيّ
(3)
أنَّها من العَوَاصِم.
ورَفَنِيَّة
(4)
: مَدِينَةٌ قَريبةٌ من حَمَاة، خَرِبَت ودَثِرَت.
وقيل: إنَّما سُمِّيت حَمَاة؛ لأنَّهُ نَزَل بها الحَمَانيّ بن كَنْعَان بن حَام.
أنشَدَني أبو الرَّبيع سُلَيمان بن بُنَيمان (a) بن أبي الجَيْش بن بُنَيمان الإرْبِلِيّ لنفسه: [من الوافر]
سَقي زمنًا برَبْع حَمَاةَ وَلّى
…
هزيمَ الوَدْق مُنهَلَّ الرّبابٍ
حَبِيٌّ يَسْتَطيرُ البَرْقُ فيهِ
…
كمَتْن السَّيْف سُلّ [من](b) القرابِ
فكم سلَفَتْ لنا فيها ليَالٍ
…
سرقناهُنّ من عَصْر التَّصَابي
وكم صِدْنَا بها من ظَبي إنسٍ
…
رخيمِ الدَّلّ مُقتبلِ الشَّبابِ
(a) مهملة الأول في الأصل وكذا في اسم أبي جدّه، ويرد ذكره فيما بعد على هذا الوجه - باستثناء مرّة واحدة كتبه باللام في الجزء العاشر - مع إشارة ابن العديم في بعض المواضع إلى أنه التقاه وأخذ عنه فيما رواه من أشعار مشافهة، وورد أيضًا: بليمان، بلام عوض النون عند ابن المستوفي: تاريخ إربل "نشرة بشار عواد" 496، وابن الشعار في قلائد الجمان 2: 65، والذهبي في تاريخ الإسلام 15: 570، والنجوم الزاهرة 7: 372، وشذرات الذهب 7:690.
والمثبت مع ضبطه من: اليونيني: ذيل مرآة الزمان 4: 321، ابن شاكر: فوات الوفيات 2: 57، الوافي بالوفيات 15: 356، الزركشي: عقود الجمان ورقة 133 أ، السلوك للمقريزي 1/ 3: 738، ابن كثير: البداية والنهاية 13: 310.
(b) كلمة أخفاها التصوير.
_________
(1)
البلدن 324.
(2)
أحسن التقاسيم 154، لكن البشاري عدها في موضع آخر من كتابه (54) من جند حمص.
(3)
لم أقف عليه في المتاح من مؤلفات أبي العلاء المعريّ.
(4)
رفنية: خربة أثرية تقع بالقرب من بلدة بعرين (بارين) بالقرب من حماة، وذكرها ياقوت: كورة ومدينة من أعمال حمص يقال لها: رفنية تدمر، وقيل: بلدة عند طرابلس من سواحل الشام. ابن خرداذبة: المسالك 76، ياقوت: معجم البلدان 3: 55، أبو الفداء: تقويم البلدان 258، ابن سباهي زاده: أوضح المسالك 190.
يُريك إذا بَدَا أنْوار وَجْهٍ
…
كشَمْسِ الأُفْق تُسْفر عن نِقَابِ
وعَاصيْها يُصفِّقُ حين تشدُو الـ
…
ــحَمائمُ فَوْق أغْصَانٍ رِطابِ
تَرى الأَنْهارَ منها في اصْطخابٍ
…
إذا الورقاءُ أبدَت في انْتحابِ
فكم من جَدْولٍ ينسابُ فيهِ
…
على الحَصْباءِ جَرْيًا كالحبُابِ
وبدرُ التَّمّ قد ألْقَى سَناهُ
…
عليه فهو فضِيُّ الإهَابِ
فلا تَعْدِل بعَاصيْها قُوَيْقًا
…
فأينَ الدّوحُ من تلك الهِضَابِ
بابٌ في ذِكْرِ بَغْرَاس
(1)
هي قَلْعَة مَذْكُورَة حَصِيْنَة، وكان الطَّريق إلى الثُّغُور للغَزَاةِ عليها، وكان المَلِك النَّاصِر صَلاح الدِّين يُوسُف بن أيُّوب قد اسْتَنْقَذَهَا من أيدي الكُفَّار في ثاني شَعْبان من شُهُور سَنَة أرْبَع وثَمانين وخَمْسِمائَة، فخرَّب قلْعهَا. فجاءَ الفِرِنْج الدِّيْوِيَّة
(2)
وعَمَروها واسْتَولوا عليها وهي الآن في أيْدِيهم.
(1)
بغراس Bekrass: حصن يقع إلى الشمال من أنطاكية في لحف جبال الأمانوس (اللكام) لا يزال قائمًا إلى اليوم، ويبعد عن أنطاكية 38 كم، ومثلها بينه وبين إسكندرونة، ويقع جنوب دربساك في الجبل المطل على عمق حارم، وحارم إلى جهة الشرق منه، وهو على طريق الثغور، يتقي لأن يكون مدينة لأنه كان فيه منبر، وهى اليوم مدينة تركية في لواء بيلان. انظر: الإصطخري: مسالك 67، ابن حوقل: صورة الأرض 184، مجهول: حدود العالم 176، 187، البكري: معجم ما استعجم 1: 300، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 652، ياقوت: معجم البلدان 1: 467، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 98، أبو الفداء: تقويم البلدان 359، العيني: عقد الجمان 2: 104، موستراس: المعجم الجغرافي 166، كامل الغزي: نهر الذهب 1: 460 - 461، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 340، CL. Cahen، EI 2، Baghras، I، Pp 909 - 910
(2)
الدّيوية، أو الدَّاوية: جماعة فرسان المعبد، أو فرسان الهيكل، هيئة تأسست إبان الحروب الصليبية في سنة 513 هـ / 1119 م بدأت كمنظمة خيرية دينية بهدف إيواء الحجاج المسيحيين ومدواتهم وتأمين الحماية لهم، ثم تحولت إلى منظمة عسكرية لها مساهمة فاعلة في الحروب التي وقعت، واشتهر فرسان الداوية ببسالتهم في الحروب. انظر: الإسبان وفرسان القديس يوحنا لعمر محمد الباروني (طرابلس، 1952 م)، 75 وما بعدها.
وقريبٌ منها حِصْن الدَّربسَاك
(1)
، فتَحَهُ المَلِكُ النَّاصِر أيضًا [في ثامن شَهْر رَجَب من السَّنَة المَذْكُورَة](a)، وهو في أيْدِي المُسْلِمِيْن اليوم.
وقَرَأتُ في كتاب أبي زَيْد أحْمَد بن سهل البَلْخِيّ، في صِفَة الأرْض والمُدُن وما تَشْتملُ عليهِ
(2)
، قال: وبَغْرَاس على طَرِيق الثُّغُور، وبها دارُ ضِيَافَة لزُبَيْدَة، وليس بالشَّام دار ضِيَافَة غيرها.
وذكَرَ أحمدُ بن يَحْيَى البَلاذُرِيّ، في كتاب البُلْدان وفُتُوحها وأحْكامها، ونَقَلْتُه من خَطِّ بَنُوْسَةَ، وحَكَاهُ البَلاذُرِيّ
(3)
عمَّن حَدَّثه من أهْلِ الشَّام، قالوا: وكانت أرْض بَغْرَاس لمَسْلَمَة بن عَبْدِ المَلِك فوقَفَها في سُبُل البِرِّ، وكانت عَيْنُ السِّلَّوْر وبُحَيرتُها له أيضًا.
قُلتُ: يُريد بعَيْن السِّلَّوْر وبُحَيرتها: بُحَيرَة يَغْرَا من عَمَل حَارِم، وناحية العَمْق.
وقال البَلاذُرِيّ
(4)
: وحَدَّثَني بعضُ أهْلِ أَنْطاكِيَة وبَغْرَاس أنَّ مَسْلَمَة بن عَبْد المَلِك لمَّا غَزَا عَمُّورِيَّة، حَمَل معه نساءَهُ، وحَمل ناسٌ ممَّن معَهُم نسَاءَهُم، وكانت بنو أُمَيَّة تَفْعَل ذلك إرادَةَ الجَدِّ في القِتَالِ للغَيْرة (b)، فلمَّا صَار في عَقَبَةِ
(a) ما بين الحاصرتين مكتوب بهامش الأصل بمخرج إلى ناحية اليسار، ولعله من قلم متملك النسخة ابن السابق الحموي.
(b) فتوح البلدان: للغيرة على الحرم.
_________
(1)
دربساك: تقع إلى الجنوب من قورس، وإلى الشمال من بغراس على بعد نحو مرحلة منها، بقرب أنطاكية، وتبعد عن بلدة قرق خان مسافة 3 كم بقرب ممر بيلان، وهي قلعة مرتفعة، ولها مسجد جامع ومنبر، وفي شرقيها مروج واسعة، يخترقها نهر الأسود. انظر: ياقوت: معجم البلدان 2: 500 (وسماها: دير بساك)، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 99 (وسماها: درب ساك)، أبو الفداء: تقويم البلدان 261، طلاس: المعجم الجغرافي 318:3.
(2)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 25 أ.
(3)
فتوح البلدان 202.
(4)
فتوح البلدان 229.
بَغْرَاس، عند الطَّريق المُستَدّقَّة الّتي تُشْرفُ على الوَادِي، سقَط مَحْمَلٌ فيه امرأةٌ إلى الحَضِيضِ، فأمَر مَسْلَمَةُ أنْ تمشي سائرُ النِّسَاء، فمشَيْنَ، فسُمِّيت تلكَ العَقَبَةُ عَقَبَة النِّسَاءِ.
قال
(1)
: وقد كان المُعْتَصِم بالله صَلواتُ اللهِ عليهِ بَنَي على حَدِّ تلكَ الطَّريق حائطًا قصيرًا من حِجَارَة.
قال البَلاذُرِيّ
(2)
: وقد اخْتلَفُوا في أوَّل مَن قَطَع الدَّرْب، وهو دَرْبُ بَغْرَاس، فقال بعضُهم لبَعْضٍ: قَطَعَهُ مَيْسَرةُ بن مَسْرُوق العَبْسِيّ؛ وجَّهَهُ أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح فلَقِيَ جَمْعًا للرُّوْم ومعَهُم مُسْتَعْربَةٌ من غَسَّان وتَنُوخ وإيَاد؛ يُريدُوْنَ اللَّحاق بهِرَقْل، فأوْقَعَ بهم، وقَتَل منهم مَقْتلةً عَظِيمَة، ثمّ لَحِقَ به الأشْتَر النَّخَعِيّ مَدَدًا من قِبَلِ أبي عُبَيْدَة وهو بأَنْطاكِيَة.
وقال بعضُهم: أوَّل مَن قَطَع الدَّرْب عُمَيْر بن سَعْد الأنْصاريّ حين توجَّه في أثر جَبَلَة بن الأيْهَم.
وقال أبو الخَطَّاب الأزْدِيّ
(3)
: إنَّ أبا عُبَيْدَة نفْسَه غَزَا الصَّائِفَة فمرَّ بالمِصِّيْصَة وطَرَسُوس، وقد جَلَا أهلُهَا وأهْلُ الحُصُون الّتي تليها، فأدْرَبَ وبلغَ في غَزاته زَنْدَة (a).
وقال غيره: إنَّما وجَّه مَيْسَرة بن مَسْرُوق فبلَغَ زَنْدَة.
(a) رسمها مهملة الأول في الأصل: رندة، وتتكرر كذلك فيما بعد أيضًا، والصواب: بالزاي المعجمة: زَنْدَة، وهو المثبت عند البلاذري وياقوت: معجم البلدان 3: 154.
_________
(1)
النقل متتابع عن الفتوح 229.
(2)
فتوح البلدان 224.
(3)
البلاذري: فتوح البلدان (مصدر النقل)225.
بابٌ في ذِكْرِ المِصِّيْصَة
(1)
وهى الآن في أيدِي الأرْمَن
وهي مَدِينَة مَذْكُورَةٌ من الثُّغُور الشَّاميّةِ وأعْمال حَلَب والإقْليم الرَّابِع، وتَشتمل على مَدِينتَيْن بينَهُما نَهْر جَيْحَان: مَدِينَة المِصِّيْصَة من الجانب الغَرْبيّ من النَّهْر، ومَدِينَة كَفَرْبيَّا
(2)
من الجانب الشَّرْقيّ، وكلتاهما كان بها جَمَاعَة من أهل العِلْم.
(1)
المصيصة Missis: مدينة تقع في أعلى الثغور الشامية على نهر جيحان إلى الغرب منه، وإلى الشرق من مدينة أذنة على بعد نحو 30 كم، وهى على خط العرض 37.00 والطول 35.36، وذكر ابن خرداذبة أنها كانت تسمى:"مابْسُبَسْتِيَا"، هكذا كتبه مجودًا، وهى تقابل التسمية البيزنطية للمدينة (Mopsuestia)، وبحسب الإدريسي فإن اسمها بالرومية "مامسترا". ويفصلها نهر جيحان عن مدينة كفر بيا، ولهذا سميت المصيصة ببغداد الصغرى، وعند ابن خرداذبة والمهلبي أن نهر جيحان يشق المصيصة، وهي مدينة حصينة من بناء الروم، وعلى النهر قنطرة مرتفعة عن الأرض حصينة جدًّا من الحجارة، بنيت وجددت في العهد الإسلامي عدّة مرَّات، فأعاد عبد الملك بن مروان بناء حصنها، سنة 84 هـ/ 703 م، وفي العهد العباسيّ بن المنصور فيها مسجدًا جامعًا في موضع هيكل قديم، وفي سنة 139 هـ/ 756 م أمر المنصور بعمارتها بعد أن دمّر الزلزال سورها، وسمّاها المعمورة، وفرغ منها سنة 141 هـ/ 758 م، ورمّم الرشيد المدينة ومسجدها سنة 165 هـ/ 782 م في خلافة أبيه المهدي، وهى اليوم بلدة تركية تعرف باسم Yakapinar. انظر ابن خرداذبة: المسالك 99، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 91، 107، اليعقوبي: البلدان 362، اليعقوبي: تاريخ 2: 197، 271، الطبري: تاريخ 7: 509، قدامة: الخراج 186، 307 - 308، الأزدي: تاريخ الموصل 173، المسعودي: التنبيه 58، الإصطخري: مسالك 63، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 165، 183، 188 (وعدها مرة من ثغور الجزيرة، وأخرى من الثغور الشامية)، البكري: معجم ما استعجم 3: 1335، مجهول: حدود العالم 175، الإدريسي: نزهة المشتاق 2: 646، ياقوت: معجم البلدان 5: 145، 159، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 32، ابن الأثير الكامل 5: 500، الوطواط: منهاج الفكر 1: 361، ابن الشحنة: الدر المنتخب 179، الحميري: الروض المعطار 554، موستراس: المعجم الجغرافي 464، لسترنج: بلدان الخلافة 162 - 163، E. Honigmann، EI 2، Al - Massise، VI، Pp 779
(2)
كفربيا: تقع إلى الشرق من المصيصة على نهر جيحان من شرقيه، وكانت مدينة حصينة من بناء هارون الرشيد، وقيل: ابتدئ في بنائها زمن المهدي وأن الرشيد أعاد بنائها، وحصَّنها بخندق، ونسب اليعقوبي استحداثها للمأمون، ولكن الذي استحدثه فيها المأمون كان السور والزيادة في مسجدها. انظر اليعقوبي: البلدان 362، قدامة: الخراج 308، الإصطخري: مسالك 63، ابن حوقل: صورة الأرض 183، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 646، ياقوت: معجم البلدان 2: 196، 4: 468، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 32، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، لسترنج: بلدان الخلافة 163.
وقَرَأتُ في بعض المجامِيع في عَجَائب طَبَائِع البُلْدان، قال
(1)
: ومَنْ أَطَال الصَّوْم بالمِصِّيْصَة في الصَّيْفِ هَاجتْ به المِرَّةُ السَّوْدَاءُ، وربَّما جُنَّ.
وقَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمرو عُثْمان بن عَبْد الله الطَّرَسُوسِيّ، قال: حَدَّثنا أبو مُحمَّد وأبو الفَضْل، عن القَاسِم وصالح ابنا أبي القَاسِم العِجْلِيّان، قالا: حَدَّثنا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن أَيُّوب بن الضُّرَيْسْ الرَّازِيّ، قال: سَمعْتُ عليّ بن عَبْد الله يقول: تَوَسْوَسَ يُوسُف بن أسْبَاط بالمِصِّيْصَة، وعُوفي حتَّىَ صَار إلى حال الصِّحَّة.
وقَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمرو: حَدَّثَني أبو الحَسَن العَدْل عليّ بن الحُسَيْن الحَذَّاء، وأبو بَكْر غَانِم بن يَحْيَى بن عَبْد البَاقِي، قالا: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم يَحْيَى بن عَبْدِ البَاقِي، قال: وكذلك يَحكُمُ أهْل الحِكْمة على مَنْ أَدْمَنَ شُرْبَ ماءَ جَيْحَان مع مُلازمة الصَّوْم أنَّه يُوْرِث الوَسْوَاس.
وقَرَأتُ في كتاب أحمد بن مُحمَّد بن إسحَاق الزَّيَّات الهَمَذَانِيّ في البُلْدان، وذكَرَ من أعاجيب البِلَاد، وقال: ومَنْ أطَال الصَّوْم في المِصِّيْصَة هاجَ به المِرَار (a) الأَسْوَد.
وقال أبو عُبَيْد عَبْد الله بن عَبْدِ العَزِيْز بن مُحمَّد البَكْرِيّ في كتاب مُعْجَم ما اسْتَعْجَم من أسماء البِلادِ
(2)
: المِصِّيْصَة: بكسر أوَّلهِ، وتَشدِيدِ ثانيهِ، بَعْدَهُ ياءٌ، ثمّ صَادٌ أُخْرى مُهمَلَة: ثَغْرٌ من ثُغور الشَّام. قال أبو حَاتِم: قال الأصمَعِيُّ: ولا يُقال مَصِّيْصَة بفَتْح أوَّلِه.
(a) ضبط أولها بالضم: المُرار، والصواب بالكسر، انظر لسان العرب، مادتي: مرر، ومشج.
_________
(1)
ينظر في: الجاحظ: الحيوان 4: 140، ابن الفقيه: كتاب البلدان 167، ابن قتيبة الدينوري: عيون الأخبار 1: 219، الثعالبي: ثمار القلوب 444.
(2)
معجم ما استعجم 2: 1235.
وقَرأتُ بِخَطِّ إبْراهِيْم بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ المَعرُوف بتُوْزُوْن في كتاب اليَاقُوت، تأليفُ أبي عُمر مُحَمَّد بن عَبْدِ الوَاحِدِ صَاحب ثَعْلَب، في يَاقُوتَةِ البَرَم، وذَكَرَ أنَّ أبا عُمر أمْلَاهُ علينا من حِفْظِهِ في شُهور سَنة سَبع وثَلاثِمائة وعشرين (a)، وذَكَرَ أنَّه قَرأهُ على أبي عُمر أيضًا، قإل: أخْبَرَنا ثَعْلَبُ، عن ابن الأَعْرَابيّ، قال: هي المِصِّيْصَة، والنَّسَبُ إليها مِصِّيْصِيٌّ.
وأخْبَرَنا أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن الكِنْدِيُّ، قراءةً عليهِ، قال: أخْبَرنا أبو مَنْصُور مَوْهُوب بن أحْمد بن مُحَمَّد بن الخَضِر الجَوَالِيْقِي قراءةً عليهِ، فيما تلْحَنُ فيه العَامَّةُ
(1)
: ممَّا يُكْسَر، والعَامَّةُ تفتَحهُ، وهي المِصِّيْصَةُ؛ بكَسْر اليم.
وقَراتُ بِخَطِّ الحَافِظ أبي طَاهِر السِّلَفِيّ، وأجَازَهُ لنا عنه غير واحدٍ من الشُّيُوخ، قال: وسَمِعْتُه - يعني أبا الحَسَن أحمد بن حَمْزَة بن أحمد التَّنُوخِيّ العِرْقِيّ - يقول: كان أبو القَاسِم بن القَطَّاع يقول: فُلان المِصِيْصِيّ، تخفيف الصَّاد، ويُنْكر على مَنْ يشُدِّدهُ.
وأمَّا مَعْرفةُ مَنْ بناها أوَّلًا:
فاخْتُلِفَ في ذلك، فقال أحمدُ بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ، في المَسَالِك والمَمَالِك: المِصِّيْصَة، قال: وهي مُسَمَّاة فيما زَعَم أصْاب السِّيَرِ باسْم الّذي عَمَرَها، وهو: المِصِّيْصَة بن الرُّوم بن اليَفَن (b) بن سَام بن نُوْح.
(a) هكذا قيّد السنة، وسيتكرر - عند الكلام على بُزاعا والباب - ذكر سيرة الكتاب ويذكر السنة على مثل هذا الوجه. وفي الفهرست للنديم أن الزاهد ابتدأ بإملاء الكتاب بجامع المدينة في محرم 336 هـ. الفهرست 1/ 1:331.
(b) عند ياقوت والقزويني: اليقن. انظر معجم البلدان 1: 370، 3: 359، وآثار البلاد 150، 564.
_________
(1)
الجواليقي: تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة 48.
وقَرأتُ في كتابٍ وَقَعَ إليَّ بالقَاهِرَة، في جَماهير أنْسابِ اليَمَن وأسْماءِ مُلُوكها
(1)
: قال أبو القَاسم الحَسَنُ بن عليّ الكُوْفيّ، حَدَّثنا أبو سُلَيمانَ دَاوُد بن عَبْدِ اللهِ اليَمَانيّ الصّنْعانِيُّ، قال: حدَّثَنَا أحمدُ بنُ القَاسِم، قال: حَدَّثنا الفَضْلُ بن العبَّاس الأنْصاريّ، عن أبيه، قال: أتَي مُعاوِبَةُ بن أبي سُفْيان بشيخٍ كبير قد سَقطَ حاجبَاهُ على عينَيهِ من الكِبَر، فما ينظرُ إلَّا ما رفع باليدِ، قال: ما اسْمُكَ؟ قال: عُبَيْدُ بن شِرْيَه، قال: المَنِي؟ قال: الجُرْهمُيِّ، قال: وهل بقي من جُرْهُم أحَدٌ؟ قال: أنا من بقيَّتهم، قال: فسألهُ عن مسائل ذَكَرها، إلى أنْ دكَر له ولد يَافث بن نُوح، فقال: يَافِث بن نُوح ولد سبعَة ذكور منهم جوْمَر بن يَافِث، ومأْجُوج بن يَافِث، ومَاذي بن يَافِث، ويَاوَان بن يَافِث، وثَوْبَان بن يَافِث، ومَاشج بن يَافِث، وتيراس بن يَافث. قال: وولد يَاوَان بن يَافِث: أَيَّاس، والمِصِّيْصَة، وطَرَسُوس، وأَذَنَة. والرُّوم من ولدِ هؤلاء، وحَلُّوا بلَادَهُم، فَعُرِفَت بأسْمائهم على تُخُوم الرُّوم: طَرَسُوس وأذَنَة والمِصِّيْصَة وأيَّاس.
وقد ذُكِرَ في التَّوْراة
(2)
ولد يَاوَان كما ذكرَناهُ.
وقال الحَسَن بن أحمد المُهَلَّبيِّ العَزِيزِيّ، في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك، الّذي وضَعَهُ للعَزيْز المُسْتَولِي على مِصْر، وذكَرَ المِصِّيْصَة؛ فكانت تُسمَّى بَغْدَاد الصَّغيرة؛ لأنَّها كانت جانبَيْن على النَّهْرِ، وكان بها من أهلها فِتْيان فُرْسَان ظُرفاء شُجعان.
قال: فأمَّا خَاصِيَّات الثَّغْر، فإنَّه كان يُعْمل بالبَلَد الفِرَاء المصّيْصِيَّة، تُحمل إلى الآفاق، وربَّما بلغ الفَرْو منها ثلاثين دِيْنارًا، ويعمل بها عِيْدَان السُّروَج الّتي يُبَالَغُ بثَمنها إلى هذه الغايةِ، ولم يكُن على وجهِ الأرْض بَلَدٌ يُعْمَل فيه الحَدِيْد المَحْزُوز للكَراسِي الحَدِيْد واللُّجُم والمَهَامِيْز والعَمَد والدَّبَابِيْس كما يُعْمَل بالثُّغُور.
(1)
لم أهتد لمعرفته ولا اسم مؤلفه، وينقل عنه ابن العديم فيما بعد.
(2)
العهد القديم: سفر التكوين 10: 4، سفر أخبار الأيام الأول 1: 7، وفيه:"وبنو ياوان: أليشة وترشيش وكتيم ودودانيم".
وإحالة المؤلِّف تعود على باب ضائع من أول الكتاب.
وقَرَأتُ في كتاب البُلْدان، تأليفُ أحمد بن يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب، قال
(1)
: ومَدِينَة المِصِّيْصَة مَدِينَة بناهَا المَنْصُور أَمِير المُؤمِنِين في خلافَته، وكانت قبل ذلك مُصَلحةً (a). وأوَّل مَن قَطَع جَبَل اللُّكَام وصَار إلى المِصِّيْصَة مَالِك بن الحَارِث الأشْتَر النَّخَعِيِّ، من قِبَل أبي عُبَيْدَة بن الجرَّاح، وكان بها حِصْنٌ صَغِير بناهُ عَبْد الله بن عَبْد المَلِك لمَّا غَزَا الصَّائِفَة.
وقد حَكينا في الباب الّذي قَبْل هذا الباب عن البَلاذُرِيّ
(2)
، قال: وقال أبو الخَطَّاب الأزْدِيُّ: إنَّ أبا عُبَيْدَة نفسَهُ غَزَا الصَّائِفَة فَمرَّ بالمِصِّيْصَة وطَرَسُوس، وقد جَلَا أهلُها وأهْلُ الحُصُون الّتي تليها فأدْرَب، وبلغَ في غَزَاتة زنْدَة (b).
عُدْنا إلى كلام ابن وَاضِح، قال
(3)
: وخرج المَنْصُور إلى الثُّغُور، فبَنى مَدِينَة المِصِّيْصَة العُظْمَى على النَّهْر الّذي يُقالُ لهُ جَيْحَان، ونَقَل إلى مَدِينَة المِصِّيْصَة أهل السُّجُون من الآفاقِ وغيرهم، وبنَى أَمِير المُؤمِنِين المأْمُون مَدِينَةً إلى جانبها سَمَّاها كَفَرْبَيَّا، فصَار النَّهْر المَعْرُوف بجَيْحَان بين المَدِيْنَتَيْن، وعلى النَّهْر جِسْرٌ عَظِيم قَدِيمٌ مَعْقُودٌ بالحِجَارَة. ومَدِينَةُ المِصِّيْصَة من الجانب الغَرْبيّ من جَيْحَان، ومَدِينة كَفَرْبيَا من الجانب الشَّرْقيّ، وأهْلُها أخْلاطٌ من النَّاس.
(a) كذا وردت مضبوطة؛ ولعل الأوجه: مسلحة.
(b) في الأصل بالراء المهملة، وتقدم التعليق عليها.
_________
(1)
في القسم الضائع من كتاب ابن الفقيه، وبعض كلامه ورد في مختصر كتاب البلدان الذي نشره يوسف الهادي مجموعًا مع القطعة المحفوظة في الكتبة الرضوية (مشهد، إيران)، انظر كتاب البلدان 162.
(2)
فتوح البلدان 335، وانظر إحالته في آخر باب ذكر بغراس، المتقدم.
(3)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لليعقوبي.
وذكَرَ أحمد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ، في كتاب البُلْدان
(1)
، قال: وحَدَّثني مُحَمَّد بن سَعْد، عن الوَاقِدِيّ وغيره، قالوا: لمَّا كانت سنة أربعٍ وثمانين غَزَا على الصَّائِفَة عَبْدُ الله بن عَبْد المَلِك بن مَرْوَان، فدخَلَ من دَرْب أَنْطاكِيَة، وأتَى المِصِّيْصَة، فبَنى حِصْنها على أَسَاسهِ القَديْم، ووضَع بها سُكَّانًا من الجُنْد فيهم ثلاثمائة رَجُلٍ، انْتخبهم من ذوي البأسِ والنَّجْدة المَعْرُوفين، ولم يكن المُسلِمُون سَكَنُوها قبل ذلك، وبَنى فيها مَسْجِدًا فوق تَلِّ الحِصْن، ثمّ سَار في جيشه حتَّى غَزَا حِصْن سِنَان ففَتَحه، ووَجَّه يَزِيد بن حُنَيْن الطَّائِيّ الأنْطاكيّ فأغَار، ثمّ انصرفَ إليه.
وقال أبو الخَطَّاب الأزْدِيّ
(2)
: وكان أوَّل مَن ابْتَنَى حِصْنَ المِصِّيْصَة في الإسْلامِ عَبْد المَلِك بن مَرْوَان على يد ابنهِ عَبْد الله بن عَبْد المَلِك في سنة أربع وثمانين على أساسها القَدِيم، فتَمَّ بناؤهَا وشِحْنَتُها في سنة خمسٍ وثمانين، وكانت في الحِصْن كَنِيْسَةٌ جُعِلت هُرْيًا، فكانت الطَّوالعُ من أَنْطاكِيَة تَطْلعُ عليها في كُلِّ عام، فَتَشْتُوا بها، ثمّ تنصَرف، وعدَّةُ مَنْ كان يَطلعُ إليها ألف وخَمْسِمائَة إلى الألفَيْن.
قالوا (a): وشَخَصَ عُمَرُ بن عَبْد العَزِيْز حتَّى نزل هُرْيَ المِصِّيْصة، وأرادَ هَدْمَها وهَدْم الحُصُون بينها وبين أَنْطاكِيَة، وقال: أكْرَهُ أنْ يُحاصرَ الرُّوم أهلَها، فأعلَمهُ النَّاس أنَّها عُمِرَت ليَدْفَع مَنْ بها الرُّومَ عن أَنْطاكِيَة، وأنَّه - إنْ أخْربَهَا - لم يَكُن للعَدُوِّ نَاهِيَة دونَ أَنْطاكِيَةَ، فأمْسَكَ، وبَنى لأهْلِها مَسْجِدًا جَامِعًا من ناحِيَةِ
(a) فتوح البلدان: قال.
_________
(1)
فتوح البلدان 235.
(2)
النقل متتابع عن البلاذري: فتوح البلدان 226.
كَفَرْبيَّا، واتَّخَذ فيهِ صِهْرِيجًا، ثمّ إنَّ المَسْجِدَ جُدِّدَ (a) في خلافة المُعْتَصِم، وهو يُدْعَى: مَسْجِد الحِصْن.
قالوا (b): ثمّ بَنَى هِشَام بن عَبْد المَلِك الرَّبَض، ثمّ بَنى مَرْوَان بن مُحَمَّد الخُصُوصَ في شَرقيّ جَيْحَان، وبَنى عليها حائطًا، وأقام فيهِ بابَ خَشَب، وَخَنْدَقَ خَنْدَقًا، فلمَّا اسْتُخلفَ أبو العبَّاس، رحمه الله، فَرَضَ بالمِصِّيْصَة لأربَعمائَة رَجُلٍ زِيَادةً في شِحْنَتها، وأقْطَعَهم.
ثمّ لمَّا اسْتُخْلف المَنْصُور، صَلوات اللهِ عليهِ، فَرَضَ فيها لأربَعمائةِ رَجُلٍ. ثمّ لمَّا دخلَت سنة تسعٍ وثلاثين ومائة أمرَ بعمران مَدِينَة المِصِّيْصَة، وكان حائطها مُتَشَعِّثًا من الزَّلازِل، وأهلها قليل في داخل المَدِينَة، فبَنى سُور المَدِينَة، وأسْكَنَها أهْلَهَا سَنَةَ أربعينَ ومائَة، وسَمَّاها المَعْمُورَة، وبَنى فيها مَسْجِدًا جَامِعًا في موضع هَيْكلٍ كان فيها، وجعلَه مثل مَسْجِد عُمَر مرَّات، ثمّ زادَ فيهِ المأْمُون أيَّام ولاية عَبْد الله بن طَاهِر في الحُسَيْن المَغْرب، وفَرَضَ المنصُور، رَحْمَةُ الله عليه، فيها لألف رَجُلٍ، ثمّ نَقَل أهْلَ الخُصُوص؛ وهُم فُرْسٌ، وصقَالِبَةٌ، وأنْباط نَصارَى، كان مَرْوَان بن مُحَمَّد أسْكنَهم إيَّاهَا وأعطاهُم خِطَطًا في المَدِينَة عِوَضًا من مَنازلهم على ذَرْعها، ونقَضَ مَنازلهم، وأعانَهُم على البناءَ، وأقْطَعَ أرْباب الفَرْض قطائعَ ومَساكن.
ثمّ لما اسْتُخْلف المَهْدِيّ، أَمِيرُ المُؤمِنِين صَلواتُ اللهِ عليهِ، فرضَ بالمِصِّيْصَة لألْفي رَجُلٍ ولم يُقطِعهم؛ لأنَّها قد كانت شُحِنَت من الجُنْدِ والمُطَّوِّعَة، ولم تَزَل
(a) في نشرة البلاذري 227 (مصدر النقل): خرب، والمثبت موافق لما عند قدامة: كتاب الخراج 307.
(b) فتوح البلدان: قال.
الطَّوَالعُ تأتيها من أَنْطاكِيَةَ في كُلِّ عامٍ، حتَّى وُليَها سَالِم البُرْنُسِي (a)، وفَرَضَ معهُ لخسمائة مُقاتِل على خاصَّةِ عَشَرة دَنانير، عَشرة دنَانِير، فكَثُر مَنْ بها وقَوُوا، وذلك في خِلَافَة المَهْدِيّ رَحْمَةُ الله عليهِ.
قال البَلاذُرِيّ
(1)
: وحَدَّثَني مُحَمَّد بن سَهْم، عن مَشَايخ الثَّغْر، قالوا: أَلَحَّت الرُّومُ على أهْلِ المِصِّيْصَة في أوَّل الدَّوْلَة المُباركة حتَّى جَلَوا عنها، فوَجَّه صَالِحُ بن عليّ جِبْرِيل بن يَحْيَى البَجَليّ إليها، فَعَمَرَها، وأسْكنها النَّاسَ سَنَةَ أربَعين ومائة، وبَنَى الرَّشِيد، صَلوات اللهِ عليهِ، كَفَرْبيَّا، ويقال: بل كانت ابْتُدِيَت في خِلافَة المَهْدِيّ، رَحْمةُ الله عليه، ثمّ غَيَّر الرَّشِيدُ بناءَها، وحَصَّنَها بخَنْدَقٍ، ثمّ رُفِعَ إلى المأمُون، رضي الله عنه، في غَلَّةٍ كانت على منازلها، فأبْطلَها، وكانت منازلها كالخَانَاتِ، وأمرَ فَجُعِل لها سُور، فَرُفِع، فلم يَسْتَتِمَّ حتَّى تُوُفِّي، فقام المُعْتَصِمُ، صَلوات اللهِ عليهِ، بإتْمامِهِ وَتشرِيْفِهِ.
وقال البَلاذُرِيّ
(2)
: حَدَّثني دُؤَاد بن عَبْد الحَمِيْدِ قاضي الرَّقَّة، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، أنَّ عُمَر بن عَبْدِ العَزِيْز أرَادَ هَدْمَ المِصِّيْصَة ونَقْل أهلها عنها لِمَا كانوا يلقَونَ من الرُّوم، فتُوُفِّي قبل ذلك.
أخْبَرنا أبو جَعْفَر يَحْيَى بن أبي مَنْصُور جَعْفَر بن عَبْد الله الدَّامَغَانِيّ (b) البَغْدادِيّ إذْنًا، وَقَرأتُ عليه هذا الإسْنَاد بحَلَب، قال: أخْبَرَنا أبي، قال: أخْبَرَنَا
(a) كذا مضبوطًا في الأصل، ونسبته إلى البُرْنُس، القبيلة البربريَّة، لكن ابن العديم في ترجمته الآتية (الجزء التاسع) يُضيف إليه لقب السندي! وورد في نشرة فتوح البلدان: البُرلُّسي، وهي نسبة إلى بُرلُّس: البلدة المصرية الساحلية قرب الإسكندرية.
(b) يسميه ابن العديم أحيانًا: ابن الدامغاني، حسبما يأتي في المواضع العديدة التالية فيما يرويه عنه.
_________
(1)
فتوح البلدان 228.
(2)
فتوح البلدان 229.
الشَّريفُ أبو العِزّ مُحَمَّد بن المُخْتَار بن مُحَمَّد بن المُؤيَّد، قال: أخْبَرَنا أبو عَليّ الحَسَن بن عليّ بن المُذْهِب، قال: أخْبرنا أبو بَكْر أحمد بن جَعْفَر القَطِيْعيِّ، قال: أخْبَرنا أبو عَبْد الرَّحْمن عَبْد الله بن أحمد بن حَنْبَل، قال: حَدَّثنا هارُون بن مَعْرُوف، قال: حَدَّثنا ضَمْرَةُ، عن رَجَاءَ بن أبي سَلَمَة، قال: هَمَّ عُمَرُ بن عَبْدِ العَزِيْز بِهَدْم المِصِّيْصَة لِتَغَوُّلها في بلادِ الرُّوم.
عُدْنا إلى ما ذكَرهُ البَلاذُرِيّ
(1)
، قال: وقال أبو النُّعْمان الأنْطاكيّ: كان الطَّريق فيما بين أَنْطاكِيَة والمِصِّيْصَة مُسْبَعَةٌ يَعْترض النَّاس فيها الأسَدُ، فلمَّا كانَ الوَلِيد بن عَبْدِ المَلِك شُكِيَ ذلك إليه، فَوَجَّه أرْبعةَ آلاف جَامُوْسَةٍ وَجَامُوْسٍ، فنفَع اللهُ بها.
وكان مُحَمَّد بن القَاسِم الثَّقَفِيّ، عَامِل الحَجَّاج على السِّنْد، بَعَثَ منها بأُلُوف جَوَامِيْس، فَبَعَثَ الحَجَّاجُ إلى الوَلِيدِ منها بما بعثَ من الأربَعَة الآلاف، وأَلْقَى باقيها في آجَام كَسْكَر.
ولمَّا خَلَعَ يَزِيدُ بن المُهَلَّب فَقُتِل، وقَبضَ يزِيدُ بن عَبْد المَلِك أمْوالَ بني المُهَلَّب، أصَاب لهم أربعةَ آلاف جَامُوسَة، كانت بكُوَر دِجْلَة، فَوَجَّه بها يَزِيد بن عَبْد المَلِك إلى المِصِّيصَة أيضًا مع زُطِّهَا، فإن أصْل الجَوَامِيْس بالمِصِّيصَةِ ثمانية آلاف جَامُوْسَة، وكان أهل أَنْطاكِيَة وقِنَّسْرِيْن قد غَلَبُوا على كَثِيْر منها، واحْتَازُوه لأنفُسهم في أيَّامِ فِتْنَة مَرْوَان بن مُحَمَّد، فلمَّا اسْتُخلفَ أَمِير المُؤمِنِين المَنْصُور، رحمه الله، أمَرَ بِرَدِّها إلى المِصِّيْصَة، وأمَّا جَوَامِيْس أَنْطاكِيَة فكان أصْلُهَا ما قَدِمَ به الزُّطّ معَهُم، وكذلك جَوَامِيس بُوْقَا.
(1)
فتوح البلدان 229 - 230، ونقله عنه ابن الفقيه دون عزو، انظر كتاب البلدان 162.
قال
(1)
: وقال أبو الخَطَّاب: بُني الجِسْرُ الّذي على طَرِيْق أَذَنَة من المِصِّيْصَة، وهو على تسعة أمْيالٍ من المِصِّيْصَة، سنةَ خمسٍ وعشرين ومائة، فهو يُدْعَى: جِسْر الوَلِيد، وهو الوَلِيد بن يَزِيد بن عَبْد المَلِك المقتُول.
قالوا
(2)
: ولمَّا كانت سنَةُ خَمْسٍ وستِّين ومائة، أغْزَى المَهْدِيّ، رحمه الله، ابنَهُ هارُون الرَّشِيد، صَلواتُ الله عليه، بلادَ الرُّوم، فنَزلَ على الخلِيْج، ثمّ خرجَ، فَرَمَّ المِصِّيْصَة ومَسْجِدها، وزادَ في شِحْنَتها، وقَوَّى أهْلهَا.
وقَرَأتُ في كتاب أبي زَيْد أحْمد بن سَهْل البَلْخِيّ، في صِفَة الأرْض والمُدُن
(3)
، قال: والمِصِّيْصَة مَدِينَتان: إحداهما المِصِّيْصَة، والأخرى تُسَمَّى كَفَرْبَيَّا على جانبي جَيْحَان، وبينهما قَنْطَرَة حِجَارَة، حَصِيْنَة (a) جِدًّا على شَرَف من الأرْض، يَنْظُر منها الجالِسُ في مَسْجِد الجامع بها إلى قُرْب البَحْر نحو أربعة فَرَاسخ. وجَيْحَان يخرج من بَلَد الرُّوم حتَّى ينْتهي إلى المِصِّيْصَة، ثمّ إلى رُسْتَاق يُعْرف بالملون (b)، حتَّى يقَع في بَحْر الرُّوم.
قُلتُ: فقد يُنْخَل (c) من مَجْموع ما ذَكَرناهُ، أنَّ بناء المِصِّيْصَة في الدَّوْلَة الإسْلاميَّة كان، لأنَّ هِرَقْل لمَّا خرج عن أَنْطاكِيَة إلى القُسْطَنْطِينِيَّة اسْتصْحَبَ أهل هذه البِلادِ، وأجلوا منها، ونَقَلَهم معَه، وشَعَّثَ هذه البِلاد. فإنَّ البَلاذُرِيّ قال في كتابه
(4)
: حَدَّثني مشايخُ من أهل أَنْطاكِيَة وغيرهُم، قالوا: كانت ثُغور المُسْلِمِين الشَّامِيَّة أيَّام عُمَر وعُثْمان وما بعد ذلك: أَنْطاكِيَة وغيرها من المُدُن
(a) البلخي: خصبة.
(b) البلخي: الملوان.
(c) في الأصل و"ك": ينخل، وانْتَخلْتُ الشيء: اسْتتقصيت أفْضله.
_________
(1)
فتوح البلدان 230.
(2)
فتوح البلدان 230.
(3)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 ب.
(4)
فتوح البلدان 223.
الّتي سَمَّهاها هارُون الرَّشِيد
(1)
، فإن المُسلِمونَ يَغْزُونَ ما وراءها كغَزْو اليوم ما وراء طَرَسُوس، وكانت فيما بين إسْكَنْدَرُونَة وطَرَسُوس حُصُونٌ ومَسَالح للرُّوم، كالمَسَالح والحُصُون التي يَمُرُّ بها المُسلِمونَ اليوم، فربَّما أجْلَاهَا (a) أهْلُهَا، وَهَربُوا إلى بلاد الرُّوم خَوْفًا، وربَّما نقَل إليها من مُقاتلَة الرُّوم مَنْ تُشْحَن به، وقد قيل إنَّ هِرَقْل أدْخَلَ أهلَ هذه المُدُن معه عند انْتِقالهِ من أَنْطاكِيَة لئلَّا يسَيرَ المُسلِمونَ في عِمَارَة ما بينَ أَنْطاكِيَة وبلاد الرُّوم، واللهُ أعْلَمُ.
قال البَلاذُرِيّ
(2)
: وحَدَّثَني ابنُ طَيْبُوْن (b) البَغْرَاسِيّ، عن أشْيَاخِهِم، أنَّهُم قالوا: الأمْرُ المُتَعالَم عندنا أنَّ هِرَقْل نَقَلَ أهْل هذه الحُصُون معَهُ، وشَعَّثَها، وكان المُسلُونَ إذا غَزَوْا لم يَجدُوا بها أحَدًا، وربَّما كَمَنَ عندَها القَوْمُ من الروم، فأصَابوا غِرَّةَ المُتَخَلِّفين عن العَسَاكر والمُنْقَطعين عنها، فإن وُلَاةُ الشَّوَاتِي والصَّوائِف إذا دَخَلُوا بلاد الرُّوم خلَّفُوا بها جُنْدًا كَثِيْفًا إلى خُرُوجهم.
فكانت المِصِّيصَةُ وغيرُها من الثُّغُور الشَّامِيَّة خَرابًا بسبب ذلك، فلمَّا غزا عَبْدُ الله بن عَبْد المَلِك، بَن حِصْن المِصِّيْصَة دُون مَدِينتها، فأرادَ عُمَرُ بن عَبْد العَزِيْز هَدْمَهُ بالكُلِّيَّة، فلمَّا عَرف المصْلَحة في تَرْكِهِ، تَرْكَهُ، وبنَى مَسْجِدًا جَامِعًا للمُسْلمين من ناحيةِ كَفَرْبَيَّا، ثمّ بَنى هِشَام رَبَض الحِصْن، ثمّ بنَى مَرْوَان بن مُحَمَّد الخُصُوص من النَّاحِيَةِ الشَّرْقيَّةِ، لِقِلَّة مَنْ يَعُمّ المَدِينَة بالسُّكْنى، فيكون ساكنُوا الخُصُوص مُسْتَيقظين لأنفُسِهم، وجعل عليه خَنْدَقًا وحائطًا، وكثروا في أيَّام
(a) * فتوح البلدان 224: أخلاها.
(b) كذا مضبوطًا في الأصل، وجاء في نشرة الفتوح: ابن طسون! ولعلها جاءت في النسخ المخطوطة مهملة فأحالها المحقِّقان سينًا.
_________
(1)
أي ما سَمَّاهُ الرشيد بالعواصم.
(2)
فتوح البلدان 224.
السَّفَّاح، ثمّ ازْدَادُوا في أيَّام المنصُور، فرأى أنْ يُجَدِّد عِمَارَة المِصِّيْصَة ويُسْكنها النَّاس لأنَّهُم كثروا، فبَنَى المَدِينة على الوَجْهِ الّذي نَقَلناهُ، فلهذا نُسبَ بناءُ المَدِينَة إليهِ، وكَثُر النَّاس بعد ذلك، فاحْتيج في أيَّام الرَّشِيد إلى بناء كَفَرْبيَّا، ولم يكن لها سُور، فبَنى المأْمُون لكَفَرْبَيَّا سُورًا، فلهذا نُسبَ بناؤها إليه، واللهُ أعْلَمُ.
بابٌ في فَضْل المِصِّيْصَة
أخْبَرنا الفَقِيهُ العالَم أبو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمن بن مُحَمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنَا عَمِّي أبو القَاسِم
(1)
، قال: أخْبرَنا أبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الكَريم بن حَمْزَة، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيْز بن أحمد، قال: حَدَّثنَا تمَّامُ بن مُحَمَّد، قال: أخْبَرَنا أبو الحارِث بن عُمَارَة، قال: حَدَّثنا أبي - وهو مُحَمَّد بن عُمَارَة بن أبي الخَطَّابِ اللَّيثِيّ - قال: حَدَّثنا مُحَمَّد بن أحْمَد بن إبْرَاهِيم، عن هِشَام بن خَالِدٍ، عن الوَلِيد بن مُسلمٍ، عن مَكْحُول، عن كَعْب، قال: بطَرَسوس من قُبُور الأنْبِياءَ عَشَرة، وبالمِصِّيْصَة خَمْسةٌ، وهي الّتي تَغْزُوهَا الرُّومُ في آخرِ الزَّمانِ، فيَمُرُّون بها فَيَقُولُونَ: إذا رَجَعْنا من بلادِ الشَّام، أخَذْنَا هؤلاءَ أَخْذًا، فيَرْجعُونَ وقد تَحلَّقَت (a) بينَ السَّماءِ والأرْضِ.
قال الحافِظُ أبو القَاسِم: رَوَاهُ غيرُه عن مُحَمَّد بن هِشَام والرَّجُل سَعيد بن عَبْدِ العَزِيْز.
(a) تاريخ ابن عساكر: تخلفت.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 54: 406 - 407.
قال أبو القَاسِمِ: أخْبَرنَاهُ أبو الفَضْل نَاصِرُ بن مَحْمُود بن عليّ، قال: حَدَّثنا عليُّ بن أحمد بن زُهَيْر، قال: حَدَّثَنَا علي بن مُحَمَّد بن شُجاعٍ، قال: حَدَّثَنا تَمَّام بن مُحَمَّد، قال: حَدَّثنا أبو يَعْقُوب إسْحَاق بن إبرَاهِيم الأذْرَعيِّ، قال: حَدَّثَنا مُحَمَّد بن هِشَام بن خَالِد، عن الوَلِيد - يَعْتي: ابنَ مُسْلِم - عن سَعيد بن عَبْد العَزِيْز، عن مَكْحُول، عن كَعْب، فذكَرَهُ.
أخْبَرنَا أبو عَبْد اللهِ مُحَمَّد بن إبْرَاهيم بن مُسَلَّم بن سَلْمَان الإرْبِلِيّ، قال: أخْبرَتنا الكَاتبةُ شهدَةُ بنتُ أحْمَد بن الفَرَج الإِبرِيّ، قالت: أخْبَرَنا أبو عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنُ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن طَلْحَة النِّعَالِيّ، قال: أخْبرَنَا أبو الحَسَن مُحَمَّد بن عُبَيْدِ الله بن يُوسُف، قال: أخْبَرَنَا أبو عَمْرو عُثْمان بن أحمد السَّمَّاك، قال: حَدَّثنا أبو القَاسِم إسْحَاق بن إبرَاهِيْم (a) بن سُنَيْن الخُتَّلِيّ، قال: حَدَّثني عُثْمان بن سَعيد الأنْطاكيّ، قال: حَدَّثنَا عليّ بن الهَيْثَم المِصِّيْصيّ، عن عَبْد الحَمِيْد بن بَحْر، عن سَلَّام الطَّويل، عن دَاوُد بن يَحْيَى مَوْلَى عَوْن الطُّفَاوِيّ، عن رَجُلٍ كان مُرَابِطًا في بَيت المقدِس وبعَسْقَلان، قال: بيْنَا أنا أسيرُ في وَادي الأُرْدُنّ، إذ أنا برجُلٍ في ناحيةِ الوَادِي قائمًا يُصَلِّي، فإذا سحابةٌ تُظِلُّه من الشَّمْس، فوقَعَ في ظَنِّي أنَّه إلْيَاسُ النَّبِيّ عليه السلام، فأتيتُه، فسلَّمتُ عليه، فانْفَتَلَ من صَلاتهِ، فردَّ عليَّ السَّلامَ، فقلتُ له: مَنْ أنتَ رَحمكَ اللّهُ؟ فلم يَرُدَّ عليَّ شيئًا، فأعدْتُ القَولَ مَرَّتين، فقال: أنا إليَاسُ النَّبِي، فأخذتني رِعْدَةٌ شدِيدةٌ خشيتُ على عَقْلي من أنْ يَذْهَبَ، فقلتُ له: إنْ رأيت - رحمك اللهُ - أنْ تَدْعُوَ لي أنْ يُذْهِبَ اللهُ عنّي ما أجدُ حتَّى أفْهَمَ حديثكَ، فَدَعَا لي بثمان دَعَوات، قال: يا بَرُّ، يا رَحيمُ، يا قيُّومُ (b)، يا حنّانُ، يا منَّانُ، يأهيَا
(a) في الأصل: إبراهيم بن إسحاق، والصواب ما أثبت، وسيأتي صحيحًا في عديد المواضع التي يتَّصلُ سَنده بالرواية فيها، خاصّة من طريق محمد بن إبراهيم الإربليّ عن شُهدة الكاتبة، ولابن سنين كتاب عُنوانه: الدِّيباج؛ وهو ثلاثة أجزاء حديثيَّة، ونصُّ الرواية التي أوردها ابن العديم في كتاب الديباج ص 40 - 41، وانظر ترجمته في: الذهبي: سير أعلام النبلاء 13: 342 (وفيه بضم التاء المشدَّدة: الختلي!)، ابن حجر العسقلاني: لسان الميزان 1: 348.
(b) في الديباج: يا حيّ يا قيوم.
شَرَاهِيَا
(1)
، فذَهبَ عَنِّي ما كُنت أجِدُ، فقُلتُ له: إلى مَنْ بُعثْتُ؟ قال: إلى أهلِ بَعْلَبَكَّ، قُلتُ: فهل يُوحَى إليكَ اليوم؟ قال: منذُ بُعِثَ مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خاتم النَّبِيِّين فَلَا، قال: قُلتُ: فكم من الأنْبِياءِ في الحيَاةِ؟ قال: أربَعَةٌ، أنا والخَضِر في الأرْض، وإدْرِيسُ وعِيسى في السَّماء، قُلتُ: فهل تَلْتَقي أنتَ والخَضِر؟ قال: نعم؛ في كُلِّ عامٍ بعرَفاتٍ وبِمِنىً، قُلتُ: فما حَدِيثكُما؟ قال: يأْخُذُ من شعري (a) وآخذُ من شَعره، قُلتُ: فكم الأبْدَالُ؟ قال: هم ستُّون رَجُلًا: خمسُون ما بين عَرِيش مِصْر إلى شَاطئ الفُرَاتِ، ورَجُلَانِ بالمِصِّيْصَة، ورَجُلٌ بأَنْطاكيَة، وسَبْعَة في سائر أمْصارِ العَرَب، هُم بهم يُسْقَون الغَيْث، وبهم يُنْصَرون على العَدُوِّ، وبهم يُقيمُ اللهُ أمْرَ الدُّنْيا، حتَّى إذا أرادَ اللهُ أنْ يُهْلك الخَلْقَ كُلَّهُم أماتَهُم جميعًا.
وقد رَواهُ أبو حُذَيْفَة إسْحَاق بن بِشْرٍ، عن مُحَمَّد بن المُفَضَّل بن عَطِيَّةَ، عن دَاوُد بن يَحْيَى، عن زَيْد مَوْلَى عَوْن الطُّفَاوِيّ نَحوه، واللهُ أعْلَمُ.
قَراتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد اللهِ الطَّرَسُوسِيّ: حَدَّثنا مُحَمَّد بن سَعيد بن الشَّفَق، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أحْمد أبو الطَّيِّب، قال: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن مُحَمَّد بن نُوح، قال: سَمِعْتُ مُحَمَّد بن عِيْسَى، يقول: قيل لعليّ بن بَكَّار، وذُكرَ له جَزع الرُّوم، فقال: البِطِّيْخ كثيرٌ، والحلْو منهُ قليلٌ، كُنَّا في هذا الحِصْن - يعني حِصْن المِصِّيْصَة - أرْبَعمائة فتَىً، إذا أقْلبنا (b) حَوافر خُيُولنا لنُنْعِلهَا للغَزْوِ اضْطَربت رُكَبُ بَطَارِقَة القُسْطَنْطِينِيَّة.
(a) كذا قيدها بالفتح في الأصل وفي كتاب الديباج لابن سنين.
(b) كتب ابن العديم في الهامش إزاءه: صوابه. قلبنا.
_________
(1)
في لسان العرب لابن منظور: قولهم: هَيَا شَراهِيا، معناه: يا حيُّ يا قيُّومُ بالعِبرانية. لسان العرب، مادة: شره.
بابٌ في ذِكْرِ عَيْن زُرْبَة
(1)
؛ وهي في أيْدِي الأرْمَن الآن
وهي مَدِينَة من الثُّغُور الشَّامية والإقْليم الرَّابع، بينها وبين المِصِّيْصَة ثمانية عشر مِيْلًا، وهي مَدِينَة مَذْكُورَة خَرَجَ منها جَمَاعةٌ من العُلَمَاء والحُكَمَاء.
وقال أحمد بن يَحْيَى البَلاذُرِيّ في كتاب البُلْدان
(2)
: وحَدَّثَني أحمدُ بن الحَارِث الوَاسِطِيّ، عن مُحَمَّد بن سَعْد، عن الوَاقِدِيّ، قال: لمّا كانت سنَةُ ثمانين ومائة، أمَر الرَّشِيد، صَلواتُ اللهِ عليه، بابْتناءِ مَدِينَة عَيْن زُرْبَة وتَحْصينها، ونَدَبَ إليها نُدْبَةً من أهل خُرَاسَان وغيرهم، فأقْطَعهم بها المنازل. هكذا ذَكَرَ البَلاذُرِيّ.
وقال أحمد بن يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتب
(3)
: بَنَى عَيْن زُرْبَة أَمِير المُؤمِنِين المَهْدِيّ بن المَنْصُور، وأتْقَنَها.
(1)
عن زُرْبَة (زَرْبَى): Ainzarba مدينة من الثغور الشامية، تقع شمال المصيصة على أحد روافد نهر جيحان، وهي تشبه المناطق الغورية، وعليها سور، وقد قام هارون الرشيد بتجديد الثغر وإحكام تحصينه في سنة 180 هـ/ 796 م، وتحول اسمها منذ القرن السادس الهجري فأصبحت تسمى "ناورزا أو آناوارزا". انظر: ابن خرداذبة: المسالك 100، اليعقوبي: البلدان 363، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة الخراج 186، 311، الإصطخري: مسالك 63، 67، ابن حوقل: سورة الأرض 165، 183، 188، الإدريسي: نُزهة المُشتاق 2: 646 - 647، ياقوت: معجم البلدان 4: 177، ابن الأثير: الكامل 6: 153، أبو الفداء: تقويم البلدان 251، (وفيه: أنها تقع على جبل، وهو مخالف لما ذكره جمهرة الجغرافين من كونها غورية)، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361 الحميري: الرَّوض المعطار 422، موستراس: المعجم الجغرافي 368، لسترنج: بلدان الخلافة 161، M.Canard،EL 2، AynZarba،I،PP 789 - 790
وتجاوز ابن العديم عن ضبط زربة الملحقة بالعين، واقتصر في رسمها على هذا الوجه حيثما ترد، ربما للخلاف في ضبطها، فهي عند ياقوت (معجم البلدان 4: 177) بفتح أوله وألف مقصورة في آخرها: زَرْبى، ونص الزبيدي أنها بالضم عندما يكون آخرها التاء المربوطة، وبالفتح عندما تكون بالمقصورة بوزن سَكْرى. انظر: تاج العروس، مادة: زرب.
(2)
فتوح البلدان 234.
(3)
لم يرد في كتاب البلدان لليعقوبي، ولا في تاريخه.
فيُحْتمل أنَّ المَهْدِيّ حين أغْزى الرَّشِيد ابنَهُ الغَزَاة المَعْرُوفة، ابْتَناها الرَّشِيد بأمْر أبيهِ، فنُسِبَت إليه، واللهُ أعْلَمُ.
وذَكَرَ أبو زَيْد أحْمَدُ بن سَهْلٍ البَلْخِيِّ، في كتابه الّذي ذكَر فيهِ صُورة الأرْض والمُدُن وما تَشْتَمل عليه، قال فيه
(1)
: وعَيْن زُرْبَة بَلَدٌ فيه الغُورِيّة، بها نَخْلٌ، وهي خِصْبَة واسعة الثِّمَار والزُّرُوع والمَرْعَى، وهي المَدِينَة التي أرادَ وَصِيْفٌ الخادِم أنْ يَدْخُل بَلَد الرُّوم منها، فأدْركه المُعْتَضِد هناك.
وقيل: إنَّ أبا سُلَيمان الخَادِم التُّرْكِيّ بَنى عَيْن زُرْبَة في أيَّام الرَّشِيد، وكان وَلَّاهُ الثُّغُور، والصَّحيح أنَّه أبو سُلَيْم فَرَج.
قال البَلاذُرِيّ
(2)
: وقد كان المُعْتَصِمُ بالله نَقَلَ إلى عَيْن زُرْبَة ونواحيها بَشَرًا من الزُّطِّ الّذين كانوا قد غَلَبُوا على البَطائِح بين وَاسِط والبَصْرَة؛ فانْتَفَعَ أهْلُهَا بهم.
وكانت عَيْن زُرْبَة قد خَرِبَت في أيَّام سَيْف الدَّوْلَة ابن حَمْدَان، فسار سَيْف الدَّوْلَة، وبَناها، وغَزا الرُّوم بعد بنائها، وفي ذلك قال أبو فِرَاس
(3)
: [من البسيط]
وكُلّ يَوْمٍ تَزُورُ الثَّغْرَ لا ضَجَرٌ
…
يُثْنِيكَ عنهُ ولا شُغْلٌ ولا مَلَلُ
فالنَّفْسُ جاهِدَةٌ والعَيْنُ سَاهِدَةٌ
…
والجيْشُ مُنتهكٌ (a) والمالُ مُبْتذَلُ
(a) الديوان: منهمك.
_________
(1)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 ب، وفيه بالذال محرفًا: عين ذربة.
(2)
فتوح البلدان 235.
(3)
ديوان أبي فراس الحمداني 220.
بابٌ في ذِكْرِ أَذَنَة
(1)
وهي في أيْدِي الأرْمَن
وهي مَدِينَةٌ قَدِيْمَةٌ من بناءَ الرُّوم، سُمِّيَت باسْمِ أَذَنَة بن يَاوَان بن يَافِث، وقد ذَكَرنا ذلك في باب المِصِّيْصَة، وجُدِّدت عمارتُها في الدَّوْلَةِ العبَّاسيَّة، كما جُدِّد عِمَارَة غيرهَا من مُدُن الثُّغُور، وحالها في الخَرَاب كحال المِصِّيْصَة.
(1)
أذنة Adana: تقع إلى الغرب من المصيصة على خط العرض 37.01 والطول 35.18، وهي مدينة قديمة من بناء الروم، وكانت من مشاهير مدن الثغور الشامية في العهد الإسلامي، تقع على نهر سيحان من غربيه بقرب المصيصة، وتبعد نحو 30 كم عن ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكانت تسمى أدَانُم، جددت ورممت في العهد العباسي أكثر من مرة، أولها في عهد المنصور سنة 141 هـ/ 758 م الذي قام ببناء قسم منها، ثم أعاد بنائها هارون الرشيد، وفي الرشيد في خلافة أبيه المهدي قصرًا قرب الجسر سنة 165 هـ/ 782 م، ثم في سنة 194 هـ / 810 م أمر محمد الأمين عامله على أعشار الثغور فرج بن سليم الخادم بإعادة بنائها وإحكامها وتحصينها، وللمدينة ثمانية أبواب وسور وخندق، وتسمى اليوم: أضنة، وأطنة، وأدنة. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 99، ابن خياط: تاريخ 421، اليعقوبي: البلدان 363، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، ابن الفقيه: البلدان 109، قدامة: الخراج 186، 309 - 310، المسعودي: مروج الذَّهب 5: 168، المسعودي: التنبيه 58، 183، الإصطخري: مسالك 63 - 64، 68، ابن حوقل: صورة الأرض 165، 181، 183، المقدسي: أحسن التقاسيم 22، مجهول: حدود العالم 175، الإدريسي: نُزهة المشتاق 3: 647، ابن سعيد: بسط الأرض 84، ياقوت: معجم البلدان 1: 133، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 33، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، أبو الفداء: تقويم البلدان 249، ابن الشحنة: الدر المنتخب 181، الصفدي: تحفة ذوي الألباب 1: 196، الحميري: الرّوض المعطار 20، موستراس: المعجم الجغرافي 37، لسترنج: بلدان الخلافة 163، R.Anhegger، EL 2:Adana، I، PP 182 - 184
قَرَأتُ بِخَطِّ يَاقُوت بن عَبْد الله الحَمَوِيّ، قال
(1)
: ولأَذَنَة نَهْر سَيْحَان، وعليهِ قَنْطَرَة حِجَارَة عَجَيبة بين المَدِينَة وبين حِصْن ممَّا يلي المِصِّيْصَة، وهو شبيهٌ بالرّبَضِ، والقَنْطَرَة مَعْقُودةٌ على طَاقٍ واحدٍ، ولأَذَنَة ثمانية أبوابٍ، وسُورٌ، وخَنْدَقٌ.
وقال: قال ابن الفَقِيه
(2)
: عُمرت أَذَنَةُ في سَنَة تسعين ومائَة على يدي أبي سُلَيمان؛ خادمٌ تُرْكيٌّ كان للرَّشِيْد وَلَّاهُ الثُّغُور، وهو عَمَّر طَرَسُوس وعَيْن زُرْبَة.
قال: وقال البَلاذُرِيّ
(3)
: بُنِيَتْ أَذَنَةُ في سَنة إحْدى أو اثنتَين وأرْبَعين ومائة، وجُنود خُرَاسَان مُعَسْكرون عليها بأمر صالِح بن عليّ بن عَبْد الله بن العبَّاس.
وقَرَأتُ بِخَطِّ بَنُوْسَة، في كتاب البُلْدان للبَلاذُرِيّ، فيما حَكاهُ عنْ شُيُوخه، قالوا
(4)
: ولمَّا كانت سَنَهَ خَمسٍ وستِّين ومائة، أغْزَى المَهْدِيّ، رحمه الله، ابنَهُ هارُونَ الرَّشِيد، صَلَواتُ اللهِ عليهِ، بلاد الرُّوم، فنَزل على الخلَيْج، وبَني القَصْر الّذي عند جِسْر أَذَنَة على سَيْحَان، وقد كان المنصُور، صَلواتُ اللهِ عليهِ، أغْزَى صَالِح بن عليّ بلادَ الروم، فوَجَّه هِلالَ بن ضَيْغَم في جَمَاعَةٍ من أهْل دِمَشْق والأُرْدُنّ وغيرهم، فبنى ذلك القَصْر، ولم يكن بناؤُه مُحْكمًا، فهدَمَهُ الرّشِيدُ، وبَناهُ.
(1)
معجم البلدان 1: 133.
(2)
ما نقله ياقوت عن ابن الفقيه يقع ضمن الضائع من كتاب البلدان.
(3)
النقل متتابع من ياقوت وهو في فتوح البلدان 230، باختلاف قليل، وهو النص الوحيد الذي نقله ابن العديم عن البلاذري بوساطة، مع وجود أصل البلاذري بين يديه.
(4)
فتوح البلدان 230 - 231.
ثُمَّ لمَّا كانت سنَةُ أربعٍ وتِسْعِين ومائة بَني أبو سُلَيْم فَرَج الخَادِم أذَنَة، فأحْكمَ بناءَها وحَصَّنها، ونَدَبَ إليها رِجَالًا من أهل خُرَاسَانَ وغيرهم على زِيَادةٍ في العَطاءِ، وذلكَ بأمْرِ مُحَمَّد بن الرَّشِيدِ، ورَمَّ قَصْر سَيْحَان، وكان الرَّشِيدُ، رَحْمةُ الله عليه، تُوُفِّي سَنَة ثلاثٍ وتِسْعِين ومائَة، وعَامِلُهُ على أعْشَارِ الثُّغُور أبو سُلَيْم، فأقَرَّهُ مُحَمَّد، وأبو سُلَيْم هذا هو صَاحب الدَّار بأَنْطاكِيَة.
قُلتُ: وهذا أبو سُلَيْم قَدِمَ الثُّغُور في أيَّام المَهْدِيِّ هو وغيره من الخَدَم، وسكنُوهَا رَغْبَةً في الجِهادِ، وكانوا من أوْلاد المُلُوك بخُرَاسَان، ولِخِصَائهم سَبَبٌ أنا ذاكرهُ، ونَقَلْتُهُ من خَطِّ أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد الله الطَّرَسُوسيِّ قال: سَمِعْتُ أبا نَصْر مُحَمَّد بن أحمد بن الحَمَّال، قبل أنْ يُصِيبَهُ ما أصَابَهُ، يقول: سَمِعْتُ أبا حَفْص (a)، يقول: سَمِعتُ أبا حَفْصٍ عُمَر بن سُلَيمان الشَّرَابِيِّ (b)، يقول: سَمِعْتُ أبا العبَّاس بن المُعْتز باللهِ، يقول: ورَدَت الكُتُب من خُرَاسَان في أيَّام أبي جَعْفَر المنصُور: أنَّ قَوْمًا من أبناءَ وجُوهِ خُرَاسَان منَعُوا جانبَهم، وقُدِرَ عليهم، والْتُمِس إذْنُ المَنْصُور فيهم، فأَلْفى ورُود الكتابِ أبا جَعْفَر حَاجًّا، وتُوُفِّي في طريقهِ ذاكَ، واسْتُخلف المَهْدِيُّ، فعُرِضَ عليهِ الكتاب، فأمرَ بكَتْب الجَواب عَنْهُ، وأنْ يُحْصَى أولئكَ الأبناء فيُعمل في بابهم ما يَعُود بالصَّلَاح، فَسَقَط من
(a) كذا في الأصل، ولعله تكرار، أو يكون وجده هكذا في كتاب الطرسوسي فنقله، إذ لم يرد فيمن يروي عن الشَّرابيّ من يكنى أبا حفص.
(b) في الأصل: ابن الشرابي، والصواب المثبت حسبما يرد يما بعد في نقل آخر أثبته ابن العديم عن أبي عمرو الطرسوسي، فقد كان مولى للمعتز بالله وشرابيًا لابنه عبد الله، وترجم له ابن العديم - حسبما يذكر يما بعد - وسقطت ترجمته في الضائع من كتابه.
قَلَم الكَاتِب على أعْلَى الحاءِ مِقْدَار النَّقْط، فَقُرِئَ بخُرَاسَان بالخاءَ مُعْجَمَة. فَخَصُوهُم خَدَمًا، أربعة آلاف، منهم: أبو سُلَيْم، والحُسَيْن صَاحب المَهْدِيّ، وأبو مَعْرُوف، وبشَّار.
ونَقَلْتُ من كتاب أبي زَيْد أحمد في سَهْلٍ البَلْخيّ، في كتاب صُوْرة الأرْض والمُدُن وما تَشْتَمل عليهِ
(1)
، قال: وأَذَنَةُ مَدِينَةٌ خِصْبَةٌ عَامِرَةٌ، وهي مُنْعَطِفَةٌ (a) على نَهْر سَيْحَان في غَرْبي النَّهْر. وسَيْحَان هو دونَ جَيْحَان في الكِبَر، عليهِ قَنْطَرَةُ حِجَارَة عَجِيْبَة البناءَ طَويلة جدًّا، يخرج هذا النَّهْر من بلد الرُّوم أيضًا.
وقال أحمد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح في كتابهِ
(2)
: ومَدِينَة أَذَنَةَ بَناهَا أَمِير المُؤمِنِين الرَّشِيد، واسْتَتَمَّها أَمِير المُؤمِنِين مُحَمَّد بن الرَّشِيد، وبها مَنازِلُ وُلَاةِ الثُّغُور في هذا الوَقْت لِسَعَتها، وهي على هذا النَّهْر الّذي يُقالُ لهُ سَيْحَان. وأهلها أخْلاطٌ من مَوَالِي الخُلَفَاء وغيرهم.
قُلتُ: وكان بأَذَنَة جَمَاعَة من الرُّؤَسَاء والعُلَمَاءِ والمحدِّثِيْن، سَنَذْكرهُم في الأسماءِ
(3)
إنْ شَاءَ اللهُ.
(a) البلخي: منقطعة.
_________
(1)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 ب.
(2)
لم يرد في كتاب البلدان لليعقوبي، ولا في تاريخه.
(3)
من المنسوبين لأذنة ممن بقيت تراجمهم في كتاب ابن العديم: أحمد بن محمَّد الأذنيّ (الجزء الثالث)، وإسحاق بن الجرَّاح الأذنيّ (الجزء الثالث)، وإسحاق بن عبد الله الأذنيّ، (الجزء الثالث)، وأبو سَعيد الأذنيّ (الجزء العاشر)، وأبو مُحَمَّد بن مضاء بن عبد الباقي الأزْديّ الأذني (الجزء العاشر).
بابٌ في ذِكْرِ الكَنِيْسَة السَّوداءِ
(1)
ويُقالُ لها: الكَنِيْسَة المحتَرِقة: أيضًا.
وهي مَدِينَةٌ قَدِيْمَة، مَبْنِيَّة بالحَجَر الأَسْوَد من بناءَ الرُّوم، وأغارَت الرُّوم عليها وأحْرقتها، فقيل لها: الكَنِيْسَة المُحْتَرِقة، وحالُها في الخَرَاب والعِمَارَة حالِ بَقِيَّةِ مُدُن الثُّغُور.
وقال أبو زَيْدِ البَلْخِيّ في كتابهِ
(2)
: والكَنِيْسَة حِصْنٌ فيه مِنْبَرٌ، وهو ثَغْرٌ في مَعْزِل من شَاطِئ الَبَحْر.
وقال أحْمَد بن الطَّيّب السَّرْخَسِيّ في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك: ومن عَوَادِل الثُّغُور الشَّاميّة
(3)
: الهَارُوْنيَّة، كَنِيْسَة السَّوداءِ، تلّ جُبَيْر.
(1)
الكنيسة السوداء: وهي مدينة من الثغور الشامية، وتقع قريبًا من حصن الهارونية، وهي رومية قديمة، سميت بذلك لأنها مبنية من الحجارة السوداء، ويقال لها أيضًا الكنيسة المحترقة، لأن الروم أغارت عليها وأحرقها، وفيها منبر (أي أنها مدينة)، وهي ثغر بعيد عن ساحل البحر، وموضعها اليوم غير معروف على وجه التحديد، لكنها - مثل الهارونية - في الجبال بين مرعش وعين زربة. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 100، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة: الخراج 186، 311 الإصطخري: مسالك 63، 68، ابن حوقل: صورة الأرض 165، 182، مجهول: حدود العالم 175 (وسماها "كنيس"، مدينة صغيرة في سفح جبل)، ياقوت: معجم البلدان 4: 485، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 36، الحميري: الرَّوض المعطار 56، لسترنج: بلدان الخلافة 161 - 162.
(2)
البلخي: صور الأقاليم 24 ب، وفي: حُصين الكنيسة.
(3)
يرد مصطلح العوادل أو الطرق العادلة في بعض المصادر الجغرافية دون بيان لمدلوله؛ وإضافة لكلام السرخسي أعلاه يذكر ابن خرداذبة عند الحديث على السكك والطرق أربعة مواضع سماها عوادل الثغور الشامية، وهي:"عين زربة والهارونية والكنيسة السوداء وتل جبير"، وهد عند قدامة أيضًا" "سكك الطريق العادلة من منبج إلى الثغور الشامية، من حلب إلى قنسرين تسع سكك، ومن قنسرين إلى انطاكية أربع سكك، ومن أنطاكية إلى الإسكندرونة أربع سكك، ومن الإسكندرونة إلى المصيصة سبع سكك، ومن المصيصة إلى أذنة ثلاث سكك، ومن أذنة إلى طرسوس خمس سكك، ومن المصيصة إلى عين زربة سكّتان". وعرّف الخوارزمي مصطلح عوادل الثغور لكنه زاده غموضًا، قال: "وعوادل الثغور: التى عدلت عنها". فإشارته تعني الثغور المنحرفة!. والعَدل عن الطريق: الانحراف عنه، وعدل عن الطريق عدولًا: رجع، وعدلَ الطريق نفسه: مال، ولعل مراد ابن خرداذبة وقدامة: تلك الطرق المنحرفة أو الثانوية، غير تلك الطرق الرئيسية. انظر، ابن خرداذبة: المسالك 100، الخوارزمي: مفاتيح العلوم 144، قدامة: الخراج 129، لسان العرب وتاج العروس، مادة: عدل.
وقال أحمد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكاتب في كتابهِ، بعد ذِكْر المِصِّيْصَة وأَذَنَة وطَرَسُوس
(1)
: وللثُّغُور الشَّامِيَّة - غير هذه الثَّلاث المُدُن الّتي قد ذكرْناها -: مَدِينَةُ عَيْن زُرْبَةَ، والهَارُوْنِيَّة، والكَنِيْسَة المُحْترِقة. بَني عَيْن زُرْبَة أَمِيِر المُؤمِنِين ابن المنصُور وأتْقَنَهَا، وبَني الهَارُونِيَّةَ الرَّشِيدُ في أيَّام المَهْدِيِّ، وهو ولي عَهْدٍ، وبَنى الكَنِيْسَة المُحتَرِقة الرَّشِيدُ أيضًا.
ونَقَلْتُ من خَطِّ بَنُوْسَة، في كتاب البُلْدان للبَلاذُرِيّ
(2)
، ممَّا حَكَاهُ عن شُيُوخه من أهل الشَّام، قالوا: وكانت الكَنِيْسَة السَّوْدَاء من حِجَارَة سُوْد بناهَا الرُّوم على وَجْهِ الدَّهْر (a)، ولها حِصْنٌ قديم، أُخْرِبَ فيما أُخْرِب، فأمرَ الرَّشِيدُ ببناءِ مَدِينَة الكَنِيْسَة السَّوداءِ وتَحْصِيْنها، ونَدَبَ إليها المُقَاتِلَةَ في زِيَادةِ العَطَاءِ.
قال
(3)
: وأخْبَرَني بعضُ أهْلِ الثَّغْر وعَزَّانُ (b) بن سَعْدٍ: أنَّ الرُّوم أغَارت عليها، والقَاسِم بن الرَّشِيد مقيم بدَابِق، فاسْتاقُوا مَواشِي أهْلِها، وأَسَرُوا عدَّةً منهم، فنَفَرَ إليهم أهْلُ المِصِّيْصَة وَمُطَّوِّعَتُها، فاسْتَنْقَذُوا جميعَ ما صَار إليهِم، وقتَلوا منهم بَشَرًا كَثِيرًا، ورجَعَ الباقونَ منكُوبين مَفْلُولينَ، فوَجَّه القَاسِم منْ حَصَّنَ المَدِينَة، وَرَمَّها، وزادَ في شِحْنَتها.
قلتُ: وهذه المَدِينَة هي الآن أيضًا في أيْدِي الأرْمَن، خَذَلَهُم اللهُ (c).
(a) كتبها في الأصل: "الأرض"، ثم ضبب عليها.
(b) هكذا مضبوطًا في الأصل، والذي في نشرة الفتوح: عَزُّون، وذكره البلاذري بهذا الرسم أيضًا في كتابه أنساب الأشراف 1/ 3: 271 وسمى أباه: سعد بن نصر.
(c) ترك المؤلِّف ثلثي الصفحة بعده بياضًا.
_________
(1)
لم يرد في كتاب البلدان لليعقوبي ولا في تاريخه.
(2)
فتوح البلدان 235.
(3)
فتوح البلدان 235.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ ثِقَتِي
بابٌ في ذِكْرِ مَدِينَة طَرَسُوس
(1)
وهي مَدِينَةٌ قَدِيْمَةٌ من بلاد الثُّغُور الشَّاميّة، عَظِيمَة، وبها كان يقَوْم سُوْق الجهَاد، وينزلها الصَّالِحون والعُبَّاد، ويَقْصدها الغُزَاة من سَائر البِلَاد، وهي اليوم في أيْدِي الأرْمن من ولد ابن لَاوُن المَلْعُون. وفيها قَبْر أَمِير المُؤمِنِين عَبْد الله المأْمُون.
واسْمها بالرُّومِيّة: تارسَيْن (a)، وسُمِّيَت أيضًا طِرَيْسُوس، فَعُرِّبت، وقيل: طَرَسُوس؛ بفتح الرَّاء وقيل: بإسْكانها
(2)
.
(a) كتبها ابن العديم في هذا الموضع، والذي يليه - الذي ينقل فيه عن السرخسي - بإهمال أولها، والأقرب لتعريبها أن تكون بالتاء.
_________
(1)
طرسوس Tarsouss: مدينة كبيرة تقع إلى الغرب من أذنة والمصيصة على خط العرض 36.55 والطول 34.53، وكانت من أشهر مدن الثغور الشامية، بينها وبين حد الروم جبال منيعة متشعبة من جبال اللكام، وتقع على بعد 40 كم غرب أذنة على نهر طرسوس (البردان: قره صو)، وعلى بعد 15 كم شمال شرق قلمية (مرسين). انظر: ابن خرداذبة: المسالك 99، وفيه أن اسم طرسوس بالرومية:"تارسم" وفي نسخة أخرى "بارسم"، اليعقوبي: البلدان 362، 363، اليعقوبي: تاريخ 2: 287، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، الطبري: تاريخ 8: 234، قدامة: الخراج 186، الأزدي: تاريخ الموصل 262، المسعودي: التنبيه 44، 58، الإصطخري: مسالك 64، 68، ابن حوقل: صورة الأرض 165، 183، 188، مجهول: حدود العالم 176، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 647، ابن سعيد: بسط الأرض 84، ياقوت: معجم البلدان 4: 28، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 34، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، الحميري: الرَّوض المعطار 388، موستراس: المعجم الجغرافي 348 - 350، C. E. Bosworth، EI 2: Tarsus، X، Pp 306 - 307، وانظر دراسة: مصطفى الحياري: حياة الناس في مدن الثغور "مدينة طرسوس"، مجلة دراسات تاريخية، جامعة دمشق، ع 4، 1981 م، ص 85 - 95، وأيضًا الحياري: طرسوس "مدينة الثغور الشامية"؛ دراسة في عمران مدن الثغور، مجلة دراسات (العلوم الإنسانية)، الجامعة الأردنية، مج 8، ع 1، 1981 م، ص 85 - 112.
(2)
نَبَّه ياقوت الحموي على أن سكون الراء لا يكون إلا في ضرورة الشعر لأن فَعْلول ليس من أبنيتهم. معجم البلدان 4: 28.
أخْبَرَنَا أبو اليُمْن زَيد بن الحَسَن الكِنْدِيّ، قراءةً عليهِ بدِمَشْق، قال: أخْبَرنا أبو مَنْصُور مَوْهُوب بن أحمد بن مُحمَّد بن الخَضِر الجَوَالِيْقِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو زَكَرِيَّاء يَحْيَى بن عليّ الخَطِيب التَّبْرِيْزِيّ، ح.
وأخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْد اللَّطِيْف بن يُوسُف بن عليّ قراءةً عليهِ بحَلَب، قال: أخْبَرَنَا مُحمَّد بن خمرْدكين (a) مَوْلَى أبي زَكَرِيَّاء التَّبْرِيْزِيّ، عن مَولَاه أبي زَكَرِيَّاء، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد الدَّهَّان اللُّغَويّ، قال: أخْبَرَنَا عليّ بن عِيسَى الرُّمَّانِيّ، قال: أخْبَرنَا ابن مُجَاهِد القَارِئ، قال: أخْبَرنا أبو العبَّاس ثَعْلَب، ح.
قال: شَيْخُنا أبو اليُمْن: وأخْبَرَنا سَعْد الخَيْر بن مُحمَّد الأنْصاريّ، قال: أخبَرَنا أبو سَعْد المُطَرِّز، قال: أخْبرَنَا أبو نُعَيْم الحَافِظ أحمد بن عَبْد الله، قال: أخْبَرَنَا ابن كَيْسَان النَّحْويّ، قال: أخْبَرنَا أبو العبَّاس أحمدُ بن يَحْيَى ثَعْلَب في كتاب الفَصيح، في باب المَفْتُوح أوَّلهُ من الأسْماءِ، قال: وهي طَرَسُوس.
وقَرَأتُ في كتاب البَهيء (b) فيما تَلْحَنُ فيه العامَّة لأبي حَاتِم السِّجِسْتَانِيّ، قال: وتَقُول: هي طَرَسُوس بفتح الطَّاء والرَّاء جميعًا، ومثالهُ: أَسْوَد حالكٌ وَحَلَكُوكٌ. قال أبو زَيْدٍ: عُقَيْل وعَامِر يَقُولُون: طُرْسُوس، بضَمِّ الطَّاء وتَسْكين الرَّاءِ، ويَزْعُمُونَ أنَّهُم ليس يَعْرفون الحَلَكُوك اسْمًا ثانيًا.
وقَرَأتُ بِخَطِّ جَعْفَر بن أحْمد بن صَالح المَعَرِّيّ، كاتب أبي العَلاء أحمَد بن عَبْد الله بن سُلَيمان، في فوائد عن أبي عَبْد الله الحُسَيْن بن أحمد بن خَالَوَيْه، قال
(a) هكذا رسمه ابن العديم بالدال، ويرد في المصادر: محمد بن خمارتكين، والده مولى التبريزي. انظر: ابن الدبيثي: ذيل تاريخ بغداد 1: 324، تاريخ الإسلام للذهبي 12: 354، 397.
(b) كذا رسمه بمدة فوقه، بما يشي بأنه: البهائي، والذي ورد في المصادر من كتب أبي حاتم السِّجِستانيّ:"كتاب ما تلحن فيه العامة" غير مسبوق بشيء، وهناك كتاب للفراء عنوانه:"البَهِيّ فيما تلحن فيه العامة"، فلعله خلط بينهما. انظر عنهما: الفهرست للنديم 1/ 1: 167، 200، معجم الأدباء لياقوت 3: 1407، والوافي بالوفيات 16:14.
- يعني ابن خَالَوَيْه -: وممَّا تُخْطِئُ فيهِ العَامَّةُ: شَغْبُ الجُنْد، وثَغْر طَرْسُوس، وجَبَلٌ وَعْرٌ، ورَجُلٌ سَمْحٌ، هؤلاءِ الأربَعُ سَوَاكِنُ والعَامَّةُ تُحَرِّكهنَّ.
وقد ذكَرنا في باب ذِكْر المِصِّيْصَة، ما قرأتُه في كتاب جَماهير أنْساب اليَمَن، من حَدِيث الشَّيْخ الكَبير الّذي دَخَلَ على مُعاوِيَة بن أبي سُفْيان، وذكَر أنَّه من جُرْهُم، وذكَرَ له أنَّ يَافِث بن نُوح ولد سبعَة ذكُور، وعَدَّ فيهم يَاوَان بن يَافِث، وقال: ووَلَد يَاوَان بن يَافِث: أَيَّاس، والمِصِّيْصَة، وطَرْسُوس، وأَذَنَة. والرُّوم من وَلد هؤلاءِ؛ وحَلُّوا بلادَهُم فعُرِفت بأسْمائهم على تُخُوم الرُّوم: طَرْسُوس وأذَنَة والمِصِّيْصَة وأيَّاس.
وقَرَأتُ في تاريخ وقَعَ إليَّ، ذَكَر جامعُهُ - ولم أعْرف اسمَهُ - أنَّه نَقَلَهُ من تواريخ شَتَّى قال في تاريخ بنِ إِسْرَائِيل
(1)
: بَعْدَ مائةٍ وخَمْسٍ (a) وخَمْسين سنَة بعد الألفِ الرَّابِع لآدَمَ عليه السلام، أنَّه ملكهُمُ ثولغ (b) بن هوا من سِبْط أَيْسَاخار (c) ثلاثة وعشرين سنة، وفي زمَانه بُنِيَت طَرِيسُوس، وهي طَرسُوْس.
وذكَرَ أحمد بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك، في ذِكْر طَرَسُوس، قالوا: سُمِّيَت بطَرسُوس بن الرُّوم في اليَفَن (d) بن سَام بن نُوح. وقالوا: واسم طَرَسُوس بالرُّومِيّةِ: تارسَيْن.
قال ابنُ الطَّيِّب في رِحْلة المُعْتَضِد: وَرَحَلنا من المِصِّيْصَة نُريد العِرَاق إلى أَذَنَة، ومن أَذَنَة إلى طَرَسُوس، وبينها وبين أَذَنَة ستّة فَرَاسِخ، وبين أَذَنَةَ وطَرَسُوْس فُنْدُق بُغَا، والفُنْدُق الجَديد، وعلى طَرَسُوس سُوْران وخَنْدَق واسعٌ، ولها ستَّةُ أبْوابٍ، ويَشُقُّها نَهْر البَرَدَان.
(a) الأصل: وخمسة.
(b) مهملة في الأصل، والإعجام من المنبجي.
(c) مهملة في الأصل، والإعجام من معجم البلدان الياقوت 1:136.
(d) في الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 34: اليقن، وفي بعض أصوله ما يوافق المثبت.
_________
(1)
قارن بكتاب العنوان للمنبجي Agapius de Menbidj: Kitab Al - Unvan، Vol I/II. P 11، II/I p 103 وفيه: في سنة إحدى وعشرين من تدبير ثولغ بنيت طرسوس من فرسوس الملك.
قُلْتُ: وكانت طَرَسُوس قد خَرِبَت، وجَلَا أهلُها في صَدْر الإسْلام، خَرَّبها المُسلِمُونَ حين غَزوها وقاتلُوا أهْلها وهزمُوهم، ومضَى مَنْ مَضَى منهم إلى الرُّوم، وكان ذلك في السَّنَة الّتي فُتِحَت فيها حَلَب وأَنْطاكِيَة، فجدَّد عمارتَها أَمِير المُؤمِنِين الرَّشِيد رحمه الله، وقَوَّاها وحَصَّنَها، ولم تزل قُوَّتها تزيد وتتضَاعَف إلى أنْ اسْتَولى عليها الرُّوم في شَعْبان سَنَة أرْبع وخَمْسين وثَلاثِمائة.
قَرَأتُ في كتاب صِفَة الأرْض والأقالِيْم وما تَشْتَمل عليه، تأليفُ أبي زَيْد أحمد بن سَهْل البَلْخِيّ، قال
(1)
: وطَرَسُوس مَدِينَةٌ كبيرةٌ عليها سُوران (a)، تَشْتَملُ على خَيْلٍ ورجَال وعُدَّة، وهي على غايةِ العِمَارَة والخِصْب، وبينها وبين حَدّ الرُّوم جِبَال، وهي الحاجزُ بين المُسْلِمِيْن والرُّوم، ويقال إنَّ بها زُهَاءَ ألوف من الفُرْسان فيما يَزْعُمُ أهلهَا، وليس من مَدِينَةٍ عَظِيمَة - من حَدِّ سِجِسْتَان إلى كَرْمَان وفارس والحَبَل وخُوزسْتان وسائر العِرَاق والحِجَاز واليَمَن والشَّامَات ومِصْر - إلَّا وبها لأهلهَا دار وأكثر، أهْلُها ينزلونَها إذا وَرَدُوها.
وقال ابن وَاضِح الكَاتِب في كتاب البُلْدان
(2)
: وطَرَسُوس مَدِينَة بناهَا أَمِير المُؤمِنِين الرَّشِيد، في المَرْج الّذي في سَفْح الجبل، الّذي يُقْطع منه إلى أرْض الرُّوم، وكان بناؤهُ إيَّاها سنَةَ سَبْعِينَ ومائة، في أوَّل خِلَافَته على يَد أبي سُلَيْم فَرَج التُّرْكِيّ الخَادِم، وبها نَهْرٌ جَارٍ يأتي من جَبَل الرُّوم حتَّى يَشُقّ في وَسَطها، وأهْلُها أخْلَاطٌ من النَّاسِ من سَائر الآفاق.
(a) البلخي: سوران من حجارة.
_________
(1)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 ب.
(2)
لم يرد في كتاب البلدان لليعقوبي، والذي فيه نقل عن البلاذري قريب من هذا. وورد في تاريخ اليعقوبي 2: 287 ما يقارب هذا القول غير أنه أرخ بناء الرشيد لطرسوس في سنة 171 هـ.
وقال إسْحَاق بن الحَسَن بن أبي الحَسَن الزَّيَّات الفَيْلَسُوف، في كتاب نُزْهَة النُّفُوس وأُنس الجَلِيْس. مَدِينَة طَرَسُوس، وهي من الإقْليم الرَّابِع، وبُعْدُها من خَطِّ المَغْرب ثمانون دَرجَة، وبُعْدُها من خَطِّ الاسْتواء ستٌّ وثلاثون دَرَجَة، بَناهَا الرَّشِيدُ سَنَةَ سَبْعِين ومائة، وبها نَهْرٌ جَارٍ يأتي من بلاد الرُّوم يَشُقّ وَسَطَها، وأهْلُها أخْلَاطٌ من النَّاس.
وقَرَأتُ في كتاب المَسَالِك والمَمَالِكِ، الّذي وضَعَهُ الحَسَنُ بن أحمد المُهَلَّبيّ للعَزِيز المُسْتَولِي على مِصْر: فأمَّا مَدِينَة طَرَسُوس، فهي من الإقْليم الخَامِس، وعَرْضُها ستّ وثلاثون دَرجَة.
وارْتفاع الثُّغُور، جميع جَباياتها، ووُجُوه الأمْوَال بها، مائة ألف دِيْنار على أوْسط الارتفاع، تُنْفَق في المَرَاقِب والحَرَس والقَوَّائين والرَّكَّاضة والمُوَكَّلين بالدُّرُوب والمَخَاضِ (a)، وغير ذلك ممَّا جانَسَهُ، وكانت تحتاج - بعد ذلك، لشِحْنَتها من الجُنْد، وما يقُوم للمَمَاليكِ، وراتب تَعارِيفها للصَّوائفِ والشَّوَاتِي، في البَرِّ والبَحْر، وعِمَارَة الصِّنَاعَة، على الاقْتِصادِ - إلى مائةٍ وخَمْسين ألف دِيْنارٍ، وعلى التَّوْسِعَة إلى ثلاثمائة ألف دِيْنارٍ.
فأمَّا ما يَلْقاها من بلادِ العَدُوِّ ويتَّصِل بها؛ فإنَّها من جهّة البَرِّ وما يُسَامتُ الثُّغُور الجَزَرِيَّة، تواجهُ بِلَادَ الفَنَادِق من بلَد الرُّوم، وبعض النَّاطليق (b)، ومن جهّة البَحْر بلاد سَلُوْقِيَة.
(a) عند قدامة: الخراج 186: المخايض. والمخاضُ: جمع مخاضة؛ ما اجتازه الناس من المواضع مشاة أو ركبانًا. لسان العرب، مادة: خوض.
(b) قدامة: الخراج: الناطلوس، وفي بعض نسخه ما يوافق المثبت، وعرَّفه المسعودي في كتابه التنبيه والإشراف 177 بأنه أول بنود الروم وأعظمها وفيه مدينة عمورية ومبتدأ هذا البند مما يلي الثغور الشامية حصن هرقلة.
وكانت عَوَاصِم هذه الثُّغُور من ناحيةِ الشَّام: أَنْطاكِيَة وبلاد الجُوْمَة وقُورُس.
فأمَّا أهْل هذه الثُّغُور، ومَنْ كان يَسْكنها، وأحْوال البِلاد، ومَقادِيرها؛ فإنَّ طَرَسُوس كانت أجَلّها مَدِينَةً، وأكثرها أهْلًا، وأغَصّا أسْوَاقًا، وليس على وجهِ الأرْض مَدِينَةٌ جليلةٌ إلَّا ولبَعْضِ أهْلها دار حُبْس (a) عليها، حبْسٌ نَفِيس، وغِلْمَان برَسْم تيكَ الدَّار، بأحْسَنِ العُدَّة، وأكْمل الآلةِ، يقُوم بهم الحُبْس الّذي عليهم، وكان أكثر ذلك لأهل بَغْدَاد، فإنَّه كان لهم بها - ولغيرهم من وجوه أهل البُلْدان، وذَوِي اليَسَار منهم - جِلّة الغِلْمَان، مُقيمين عليهم الوُقُوف السَّنِيَّة، والأرْزاق الدَّارَّة، ليس لهم عَمَلٌ إلَّا ارْتباطَ فَرْهَة الخَيْل، وتخريجها في الطِّرَاد، والعَمل عليها بسائر السِّلاح، يَعْملون ذلك في صُدُور أيَّامهم، وَيَتَصَرَّفونَ في أعْجَازها إلى منازل فَيَّاحة فيها البَساتِيْن، والميَاه الجاريَة، والعَيْش الرَّغْد.
وكان أهْلُ البَلَد في نُفُوسهم على هذه الصِّفَة؛ من ركُوب الخَيْلِ، والعَمَل بالسِّلاح، ليس فيهم مَنْ يَعْجز عن ذلك، ولا يَتَخَلَّف عنه حتَّى أنَّ دور (b) المتاجر الدَّنِيَّةِ والصَّنَائع الوَضِيْعَة، كانوا يلحَقُون بالطَّبقة العُلْيا في الفُرُوسِيَّةِ والشَّجَاعَةِ وارْتِباطِ الخَيْلِ، وإعْدَاد السِّلاح. وكانت غزواتُهم تَتَّصِل، ومن الغَنائِم والمَقَاسِم لهم مَعِيْشة لا تَنْقَطع.
فأمَّا أهْلُ البَلَدِ؛ فكانوا من سَائر أقْطَار الأرْض، بخَلْقٍ حَسَنٍ، وألْوان صَافيَة، وفيهم رَقيق، وأجْسَام عَبْلَةٌ، والأغلَب على ألوانِهم البياضُ والحُمْرَةُ والسُّمْرة الصَّافِيَة، وكان في أكثرهم جَفَاءٌ وغِلْظة على الغَريب، إلَّا مَنْ كان منهُم قريب عَهْد بالغُرْبةِ، وكذلك الشُّحّ كان فيهم فاشِيًا إلَّا في الغَريب، وغَلَب
(a) كذا ضبط الباء بالسكون حيثما ترد، والمشهور الضم.
(b) كذا في الأصل و"ك"، ولعل الأظهر: ذوي.
على السُّوقَة والمُسْتخدَمينَ قَوْمٌ من الخُوْز وسَفِلَة العَجَم، ومَنْ كانت فيه فُسُوْلَةٌ عن الحرفَةِ، وكَسَلٌ عن طَلَب المَعاشِ، فأظهَرُوا زُهْدًا ووَرَعًا، وأعلَنُوا بالنَّصْبِ، فأَخَذَهُم اللهُ أخْذَ عزيز مُقْتدر.
قال: فأمَّا أهْلُ البَلَدِ، وأوْلادُ المُجَاهِدينَ، وأولاد الغِلْمَانِ، وأولاد خُرَاسَان؛ فكانُوا من الأخْلَاق السَّمْحَة، والنُّفُوس الكريمَة، والهِمَم العالية، والمَحَبَّة للغَريب، على ما ليس عليه أحَدٌ، ولكنَّهم كانُوا في تَقِيَّةٍ من هؤلاء الأوْبَاشِ، فهذا الأكْثر من حال طَرَسُوس.
وأمَّا ما سوى ذلك من مُدُن الثَّغْر، فعلى هذا الوَصْف، وهذا النَّعْت، وخاصَّة المِصِّيْصَة.
قال: وكان يُعْمل بها - يعني بالثُّغُور - ثياب كان تُسَمَّى الشَّفَايا، مثل رفيع الدَّبِيْقِيّ تُحْمل إلى كُلِّ بلَدٍ، وبالثَّغْر زَبِيْب لا عَجَم فيه كالقِشْمِشِ (a).
ويَقْطَع إلى الثُّغُور الجَارِح من بلد الرُّوم، فتُؤخَذ فيه البُزَاة الفُرَّه، وقد كان في جِبَال الثَّغْر أيضًا أوْكَارٌ للجَارِح والكِلابُ السَّلُوقيَّة المَوصُوفَة من بلاد سَلُوْقِيَة.
فهذه أحْوال الثَّغْر ومَنْ فيه، ولم تَزَل أحْواله تَجْري على الانْتظام والرَّخَاءِ والسَّلامَة، والغَزْو مُتَّصِلٌ، والمعايش رَغِدَةٌ، والسُّبُل آمنة، ما دامَ الغُزَاةُ إليهم من العِرَاق ومن مِصْر مُتَّصِلين، فلمَّا زَهِدَ النَّاسُ في الخَيْر، وقعَ بينهم في نُفُوسهم من التَّنافُسِ والتَّحاسد والغِلّ ما وَقعَ، وخَاصَّةً بين الغِلْمَان الثّمليَّة، وابن الزَّيَّات، والمَعْرُوف بسَيْف الدَّوْلَة عليّ بن عَبْد الله بن حَمْدَان.
(a) ويقال بالقاف أيضًا: الكِشْمِش، لسان العرب، مادة: کشمش.
وقَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد الله الطَّرَسُوسِيّ، في كتاب سِيَر الثُّغُور
(1)
، وَضَعه للوَزِير أبي الفَضْل جَعْفَر بن الفَضْل، فذكَرَ فيه صِفَة طَرَسُوس، فقال: مُدَّت طَرَسُوس على سُوْرَين، في كُلِّ سُور منها خَمْسة أبْوَاب حديد، فأبواب السُّور المُحيط بها حديد مُلبس، وأبْواب السُّور المُتَّصِل بالخَنْدَق حديد مُصْمَت، فالسُّور الأوَّل الّذي يلي المَدِينَة مُشَرَّف تعلُوه ثمانية آلاف شُرَّافَة، منها مُرتَّبة عند الحاجةِ إلى الحَرْب عنها رجال يرمُونَ عن ستّة عشر ألف قوسٍ رَمْيَة رجُل واحدٍ، وفي هذا السُّور من الأبْراج مائةُ بُرْج سواء، منها ثلاثة أبْرِجَةٍ للمَجَانِيْق الحرري
(2)
، وعشرون بُرجًا للمَجَانِيْق الكِبَار، وعشرون بُرْجًا للعَرَّادَات
(3)
، وسَائرها لقِسِيّ الرِّجْل
(4)
، وهذه الأبْرِجَة الّتي ذَكَرْناها فهي مِلْك لأرْبَابها، ومساكن لمتأهِّلين وعُزَّاب، وبعضُها مَرْسُوم بعَمَلِ الوَرَق والكَاغَد، وهو ممَّا يلي زاوية الحَبَّالين.
(1)
كتاب سير الثغور من الكتب المفقودة التي لما تصلنا، والنصوص التي نقلها عنه ابن العديم طويلة وتشكل جزءًا كبيرًا من الكتاب باعتبار ملازمة مادته لغرض كتاب ابن العديم، بل إن ابن العديم لم يُغْفل إيراد مقدمة الكتاب كاملة، واسم مؤلفه كما ساقه ابن عساكر في تاريخه: أبو عمرو عثمان بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد الكرجي العجلي الطرسوسي، توفي بحدود سنة 401 هـ، فعاصر حقبة الإعتداء الرومي على الثغور في منتصف القرن الرابع الهجري، وكان قبل ذلك من قطَّانها، فكشف لنا عن جوانب عديدة من حياة أهل الثغور الشامية والجزرية، وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والعلمية وما يتصل بالعمران أو التخريب. وقد ترجم ابن العديم لمؤلف الكتاب، وضاعت ترجمته ضمن المفقود من أجزاء الكتاب، وذكره في الكنى وأحال على ترجمته.
أما الوزير الذي ألف الطرسوسي له الكتاب فهو جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة (ت 391 هـ).
ونقل ابن شداد عن البغية بعض الذي أثبته ابن العديم من كتاب الطرسوسي، انظر: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 34، سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 18: 125.
(2)
كذا وردت ولم أهتد لمعرفة هذا النوع من المجانيق.
(3)
العَرَّادة: آلة حرب أصغر من المنجنيق ترمي بالحجارة المرمى البعيد. لسان العرب، مادة: عرد، دهمان: معجم الألفاظ التاريخية 112.
(4)
قسي الرجل: واحدتها القوس، معروف، وهذا النوع من القسي يحملها المترجلة.
قال: فأمَّا بُرْج باب قَلَمْيَة، المبنيّ على يَمين الخارج منه، فموسُوم بتَفْرِقَة أعْشَار غلَّات ضِيَاع طَرَسُوس، متى ورد منها عَشَرة أحْمالٍ أو رَواحِل أو عَجَل، حُطَّ واحد من عَشرة وأُطْلق له تسعَة، يقبَل قوله فيهِ، فإذا اجْتمع أُطْلق منهُ لأهل الشَّرف: أبناء المُهاجِرين والأنْصَار، على رَسْم جَرِيْدَة أمرَ بإنشائها المأْمُون عَبْدُ الله بن هارُون الرَّشِيد رَحمهُما اللهُ؛ يتوارثُ ما ثبتَ في تلك الجَرِيْدَة أهلُ الشَّرف المقيمُونَ بطَرَسُوس، ويَجْري بينهم مَجْرى الميْراث، يأخُذُه خلَفُهم عن سلَفهم، وإنْ طرأ طَرَسُوس غَريبٌ من أبناءِ المُهاجِرين والأنْصَار دُفع إليهِ مِقْدَار كفايته، وكِفَايَة حُمْلَته
(1)
إنْ كان ذا عيالٍ أو ذا حُمْلَة شريفَة. ويُفَضُّ منه على الشُّيُوخ المَسْجِديَّة رَسْمًا لا ينقَطِع عنهُم في كُلِّ سنةٍ عند قَبْض (a) الأعْشَارِ من الغَلَّاتِ؛ لكُلِّ شَيْخ منهم ستّة أَمْدَاء بالمُدْي الطُّغانِيّ
(2)
الّذي يَبْلغ كُل مُدْي منه أربعَة عشر مَكُّوْكًا بالمَكُّوْك الطَّرَسُوسِيّ، مَبْلَغُ المَكُّوْك منه زِيَادة على المَكُّوكين بالبَغْدَاديّ المُعَدَّل، ويُفَضُّ منه على الأدِلَّاءِ المُؤَلَّفة قُلُوبهم من الرُّوم والأرْمَن وأولادهم بحسب ما يَراه السُّلْطَان بطَرَسُوس من حُسْن النَّظر لهم ولِمَنْ يتجَدَّد (b) منهُم، ويجعَل ما يَفضُل عمَّا وصَفْناه من الحِنْطَة للخَبَّاز المُقَام لقُوت الأعْلاج المَحْبوسِيْنِ في سِجْن طَرَسُوس؛ وما وَرَد من الشَّعِير برَسْم العُشر أُطْلِق للأَدِلَّاءِ المُؤَلَّفَة قُلُوبهم رسْمًا على مِقْدَار كُرَاعِهم، قَضِيْمًا لها في كُلِّ سَنَة، وحُمل سَائره لقَضِيْم بِغَال السَّاقَة أوَّلًا أوَّلًا، فإنْ فَضُلَ من القَمْح شيء عمَّا وصَفناهُ وذَكَرناهُ من وُجوهه، بيْعَ بسعْر وَقْته، وصُرفَ في مُهِمَّاتِ البلد، وَسَنَذْكُرها في أماكنها إنْ شَاءَ اللهُ
(3)
.
(a) مهملة الأول في الأصل، وفي "ك": فيض.
(b) الأصل: يتحدد.
_________
(1)
الحُمْلَة: الاحتمال والانتقال من دار إلى داره تاج العروس، مادة: حمل.
(2)
نسبة إلى أحمد بن طُغان، أحد قواد خمارويه بن طولون، ولَّاه الثغور الشامية. انظر ترجمته في موضعه من حرف الألف في الجزء الثاني من الكتاب.
(3)
سيأتي شرح ذلك في هذا الباب والباب الذي يليه: "ذكر كيفية النفير بطرسوس".
قال: وما وَقعَ في هذا البُرْج من غَلَّاتِ القَطَانِي كُلّها، مع ما يَنْضَاف إليها من زَيْتُون وكَمُّون وبَزْر فُجْل وبَزْر كَتَّان وسِمْسِم وتُرْمُس وأَرُز، بِيْعَ كُلّ صِنْف منه بسعره، وأُضيف إلى رَاتِب البَلَدِ.
قال: وكان في هذا السُّور قديمًا، وقد رأيناه رأي عَيْن، أثر خَمْسةٍ وعشرين بابًا، منها خمسْة أبْواب مَفْتُوحة مَسْلوكة مَعْرُوفة، وهي: بابُ الشَّام، وبابُ الصَّفْصَاف، وباب الجِهَادِ، وباب قَلَمْيَة، وباب البَحْر، وسَادسهَا (a) مَسْدُودة.
وقال: سَمِعْتُ أبا الرَّبيْع سُلَيمان بن الرَّبيْع الجَوْزاتِيّ؛ شَيْخًا كَبيرًا؛ كان أقام بحِصْن الجَوْزاتِ زِيَادةً على أربعين سَنةً مُجَاهِدًا، يذكُر أنَّ جَيْشًا لَجِبًا خَرَج عن طَرَسُوس غَازِيًا في زِيَادةٍ على عشرين ألف فَارِسٍ ورَاجِل من باب المسدُود فأُصيبُوا عن آخرهم في بلَد الرُّوم، واسْتُشْهدوا رحمةُ الله علَيهم، ولم يَعُد منهُم إلى طَرَسُوس مُخَبِّر، فأجمعَ رأْيُ أهل طَرَسُوس على سَدِّهِ تَشَاؤُمًا بهِ.
قال: وقد رَأيتُه مفتُوحًا، وهو ما بين زاويَة الحَبَّالينَ وباب الجِهادِ عند آخر شَارع النَّجَّارين، تتَّصل به الدَّار الكبيرة التي بُنيت للسَّيِّدة أُمِّ المُقْتَدِر بالله رَحمهُما الله، وليس بطَرَسُوس ولا بالثَّغْر كُلِّه دار أكبر منها، وبرَسْم هذه الدَّار صُنَّاع مَعْرُوفون من أهل سُوْق السِّلاح لتَدْبير جَوانبها، وَرَمّ شعَث سِلَاحهَا، وجَلَاءِ دُرُوعها وسُيُوفها في كُلِّ سنة مرَّةً أو مرَّتين.
(a) في الأصل و"ك": وسائرها مسدود، ومثله فيما نقله ابن شداد عن البغية (الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 34)، ولا وجه لأن تكون جميع أبوابها الخمسة مسدودة لا يُنفذ منها، مع إشارة ابن الطرسوسي بعده إلى أن هذه الأبواب الخمسة مفتوحة مسلوكة، وإنما الغلق جاء لباب سادس يقع - حسب تحديد الطرسوسي - ناحية باب الجهاد. ولعل الخطأ وقع في نسخة الطرسوسي أو أن ابن العديم نقله على وجه خاطئ.
وكان يَرْكب من هذه الدَّار إلى الجِهاد في سَبِيل اللهِ مائةٌ وخمسُونَ غُلامًا بجَنَائِبهم
(1)
ومَنْ ضَامَّهُم، ويَرُوسَهُم
(2)
رَجُلٌ منهُم على رأْسِهِ مَطَارِد تُعْرَف بهم، متى احْتيج إليهم في الغَزْو، لسَاقَةٍ أو مَيْمَنَة أو مَيْسَرة، أو في تجرِيد لحَادِثةٍ، سَدُّوا أكبر مَسدّ، وقُوفُهم بأرْضِ الثَّغْر وأعْمال أَنْطاكِيَة وحَلَب معْرُوفة مَشهُورة، وارْتفاعُها في السَّنَة الواحدة مائة ألف دِيْنار، يَسْتغرقها (a) الإنْفاق، وربَّما اقترضُوا إنْ تَعَذَّر وَجْهُ مالِهم، ورَدُّوه عند حُصُولهِ.
قال: وأمَّا شارع باب الصَّفْصَاف، ففيه دَار قَبِيْحَة أُمّ المُعْتَزِّ باللهِ رَحمهما اللهُ، قد بُنيت حُجَرًا مُقَدَّرة لسُكْنى مائة وخَمسين غُلامًا؛ في كُلِّ حُجرة منها بيتان ومُرْتَفَق، وبرَسْمِ هذا الوَقْف رئيسٌ يَرْكب هؤلاء الغِلْمَان برُكُوبه، ويَسِيْرُون بسَيْره، يُنْشَر على رأسهِ مِطْرَدٌ وأعْلَامٌ كتابَتُها: المُعْتَزّ بالله، وكذلك شعارهُم إذا سَافَرُوا وغَزَوا في بَلَدِ الرُّوَم وغيره.
قال: وللدَّار خِزَانَةٌ للسِّلاح، تُظْهر في أيَّام الأعْيَادِ، وعندَ ورُودِ الرُّسُل من الرُّوم، فيها الدُّرُوع الحَصِيْنَةُ تَسْترُ الفَارِسَ والفَرَسَ، والعَمَد المُذْهَبَة، والجَوَاشِن التُّبَّنِيَّة (b)، والخُوَذ المَنِيْعَة، ومن الأسْلِحة كُلّ نوع، يَحْملُ كُلّ غُلام ما يُعانِي العَمَلَ به، وبرَسْم هذه الدَّار مُؤَدِّب لا يُدْخِل مكتَبَهُ أحَدًا، إلَّا أولاد مَوَالِي المُعْتَزّ بالله، والرَّئِيس على مَوَالِي المُعْتَزّ من المَوَالِي مَنْ وجَدُوه مَذْكُورًا فَارِسًا رَئيسًا مُقدَّمًا، فإنْ تعذَّر مَنْ هذه صُورتَهُ من المَوَالِي، نُصبَ لهم رئيس من قُوَّادِ طَرَسُوس ووجُوهها،
(a) مهملة الأول في الأصل.
(b) مهملة الأول في الأصل، والتراس التُّبنيَّة - كاللمطيَّة - يُضرب بها المثل في الجودة، ولم أتحقق من نسبتها. انظر: الطبري: تاريخ الرسل 9: 269، القلقشندي: صبح الأعشى 4: 434.
_________
(1)
واحدتها: الجنيبة، وهي الدابة تُقاد. لسان العرب، مادة: جنب.
(2)
يروسهم: يجمعهم، وراسَ السيلُ الغثاء: جمعه وحمله، (لسان العرب، مادة: روس)، ولعل المراد: يرأسهم.
يُدَبِّر أمرَهُم ويكتُب العُقُودَ والضَّمَانات باسْمه، وقد رأيتُ أبا حَفْصٍ عُمَر بن سُلَيمان الشَّرَابِيّ رحمه الله رَئيسًا عليهم، ثمّ رَأيتُ بعده جَمَاعَة منهُم ومن غيرهم.
قُلتُ: وهذا أبو حَفْص عَمَر بن سُلَيمان هوَ مَمْدُوح أبي الطَّيِّب المُتَنَبِّي بالقَصِيدَة الّتي أوَّلها
(1)
: [الطويل]
نَرَى عِظَمًا بالصَّدِّ والبَينُ أَعْظَمُ
…
ونَتَّهِمُ الوَاشِينَ والدَّمْعُ مِنْهُمُ
وكان من مَوَالِي المُعْتَزّ، وشَرَابِيًّا لابنهِ عَبْدِ الله بن المُعْتَزّ، وَسَنَذْكُر تَرْجَمَتهُ
(2)
في كتابنا هذا إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
وممَّا نَقَلْتُهُ من خَطِّ أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد الله الطَّرَسُوسِيّ: حَدَّثَني أبو نَصْر مُحمَّد بن أحمد بن الحَمَّال، قال: حَدَّثَني ابنُ عَطِيَّة، قال: أحْصَينا سَنَة تسعين ومائتين سكك طَرَسُوس، فوجَدناها ألفي سكَّةٍ، نافِذَة ومَسْدُودة، وأحْصَينَا الدُّور، فوَجَدنَاهَا أرْبعةً وثَلَاثين ألف دار، اقْتضَى التَّقدير أنْ يكُون ثُلُثاها للعُزَّابِ أهل البُلْدان، حتَّى لا يُعْرَف من عَمَائِر الإسْلام بلَدٌ إلَّا ولَهُم بطَرَسُوس دارٌ أو دَاران، حتَّى أهل قُمّ، وثُلُثها للمُتأهِّلين بها، مُلْكًا لأربَابها أو وَقْفًا عليهم.
قُلتُ: ووقفْتُ على كتاب وَقْفٍ كتبَهُ جدُّ جدّ جَدِّي زُهَيْر بن هَارُون بن أبي جَرَادَة، بحصَّةٍ منِ مُلكْه بأُوْرِم الكُبرى
(3)
من ضِيَاع حَلَب، على أنْ تُسْتغلّ ويُشْتَرَى من مَغُلّها فَرَسٌ، تكُون مُقيمةً بثَغْر طَرَسُوس، بدار السَّبيل المَعْرُوفَة
(1)
ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العكبري 4: 81.
(2)
ترجمته في الضائع من الكتاب.
(3)
أورم الكبرى: هي إحدى أربع قرى بنواحي حلب: وهي: أورم الكبرى، وأورم الصغرى، وأورم الجوز، وأورم البرامكة، وتقع أورم الكبرى في جبل سمعان، وتتبع ناحية الأتارب بمحافظة حلب، وموضعها عند الطرف الجنوبي لمرتفع ظهر الجُبّ، تبعد عن الأتارب شرقًا نحو 11 کم. ياقوت: معجم البلدان 1: 278، کامل الغزي: نهر الذهب 1: 475، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 191.
بزُهَيْر بن الحَارِث، وتُقام لها العُلُوْفَة، وأُجْرة مَنْ يَخدمها، ويُقام عليها فَارِسٌ يكون مُقِيمًا بالدَّار المَذْكُورَة، يُجاهد عليها عن زُهَيْر بن هارُون، وما فَضُل من المَغُلّ يُعد لنائبةٍ إنْ لَحِقَت هذه الفَرَس.
وقد ذَكَر هذه الدَّار أبو عَمْرو الطَّرَسُوسِيّ، وقال: وهذه الدَّار بيوت سَفَالِي وإصْطَبْلات ومَخازن وعلالي؛ فأمَّا الحَوَانيتُ فهي وَقْفٌ على سبْعَة أفراسٍ تكون في مَرْبَط هذه الدَّار بسُرُوجها وآلاتها وجُلَالاتها، ويقام بقَضِيْمها ونِعالها ومَسَاميرها وأُجْرَة بياطرتها وأُجرَة سَاستها، وقد رُسِمَت هذه الأفْراسُ السَّبْعَة كُلّ فَرَسٍ منها بقائد من قُوَّاد طَرَسُوس، متى نُودِي بنَفِيْرٍ أو غَزْو قادَ السَّائسُ فَرَسًا برَسْم قائدٍ من القُوَّادِ إليه بعَيْنه، بَعْد القيام بكفايَته، حتَّى إذا عَاد القائد من نَفِيْره أو غَزْوه ردَّ الفَرَس إلى مَرْبَطهِ.
وذَكَر دُوْرًا كَثِيْرة لا يَحْتمل الحال ذِكْرها، ويطول كتابنا بإيراد ما ذَكَرهُ.
قَرَأتُ في كتاب البُلْدان لأحمد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ، ونَقَلْتُه من خَطِّ بَنُوْسَة، قال
(1)
: وحَدَّثَني مُحمَّد بن سَعْد، عن الوَاقِدِيّ، قال: لمَّا غَزَا الحَسَنُ بن قَحْطَبَة الطَّائِيُّ بلادَ الرُّوم سنَةَ اثنتين وستِّين ومائة، في أهل خُرَاسَان وأهل المَوْصِل والشَّامِ وأَمْداد اليَمَن ومُتَطَوِّعَة (a) العِرَاق والحِجَاز، خرجَ ممَّا يلي طَرَسُوس، فأخْبَرَ المَهْدِيّ بما في بنائها وتَحْصينها وشِحْنتها بالمُقاتِلَة من عظيم الغَنَاءِ عن الإسْلام، والكَبْت للعَدُوِّ، والوَقْمِ
(2)
لهُ فيما يُحاول ويَكيد، وكان الحَسَنُ قد أبْلَى في تلكَ
(a) فتوح البلدان: ومطوِّعة.
_________
(1)
فتوح البلدان 231.
(2)
الوَقْم: القهر والإذلال، مأخوذ من وقم الدابة؛ وهو جذب عنانها لتكفّ. لسان العرب، مادة: وقم.
الغَزَاة بلاءً حَسَنًا، ودَوَّخ أرضَ الرُّوم حتّى سَمّوه التِّنِّين (a)، وكان معه في غَزَاتِه مَنْدَل العَنَزِيّ المُحَدِّث الكُوْفيّ، ومُعْتَمِر بن سُلَيمانَ البَصْرِيّ.
قال
(1)
: وحَدَّثَني مُحمَّد بن سَعْد، قال: حَدَّثَني سَعْد بن الحَسَن، قال: لمَّا خَرَجَ الحسَنُ من بلادِ الرُّوم، نزلَ مَرْج طَرَسُوس، فرَكِب إلى مَدِينتها وهي خَرَاب، فنظرَ إليها، وأطافَ بها من جمِيع جِهَاتِها، وَحَزَرَ عدَّة مَنْ يَسْكنها فوجَدَهُم مائةَ ألفٍ، فلمَّا قَدِمَ على المَهْدِيّ، وصفَ لهُ أمْرَهَا، وما في بنائها وشِحْنَتها من غَيْظِ العَدُوّ وَكَبْتِه، وعزّ الإسْلام وأهلهِ؛ وأخْبَرَهُ في الحَدَثِ أيضًا بخبِرِ رَغَّبَهُ في بناءِ مَدِينته (b)، فأمرَ ببناءِ طَرَسُوس، وأنْ يُبْدَأَ بمَدِينَة الحَدَثِ، فبُنِيَت، وأوْصَى المَهْدِيُّ ببناء طَرسُوس.
فلمَّا كانت سَنَة إحْدَى وسَبْعِين ومائة، بلَغَ الرَّشِيد أنَّ الرُّوم قد ائتَمَروا بينهم بالخُرُوج إِلى طَرَسُوس لتَحْصِينها وتَرْتِيب المُقاتِلة فيها، فأغْزَى الصَّائِفَةَ في سَنَة إحْدَى وسبْعِين ومائة هَرْثَمَة بن أَعْيَن، وأمَرَهُ بعِمَارَة طَرَسُوس وبنائها وتَمْصِيرها، ففَعل، وأجْرَى أمرَها على يدي فَرَج الخَادِم أبي سُلَيْم بأمر الرَّشِيدِ فَوُكِّل ببنائها، ووَجَّهَ أبو سُلَيْم إِلى مَدِينَة السَّلام، فأشْخَصَ النُّدْبَةَ الأُوْلَى من أهل خُرَاسَان، وهُم ثلاثة آلاف رَجُلٍ، فوَرَدُوا طَرَسُوس، ثمّ أشْخَصَ النُّدْبَةَ الثَّانيَةَ وهُم ألفا رجُلٍ: ألفٌ من أهْلِ المِصِّيْصَة، وألفٌ من أهل أَنْطاكِيَة، على زِيَادةِ عَشَرة دنانير لكُلِّ رَجُلٍ في أصْلِ عَطائه، فعَسْكَرُوا مع النُّدْبَة الأُوْلَى بالمَيْدَان على باب الجِهاد في مُسْتَهَلِّ المُحَرَّم سَنَة اثْنتَيْن وسَبْعِين ومائة، إلى أنْ اسْتَتَمّ بناءُ طَرَسُوس وتَحْصِينها، وبناء مَسْجِدها؛ ومَسَحَ فَرَج ما بين النَّهْر إلى النَّهْر، فبلغ ذلك
(a) في نشرة البلاذري: الشَّيْتَن، وفي نسخة أخرى "الشيطان"، والمثبت موافق لما في الطبري: تاريخ 8: 142، والأزدي: تاريخ الموصل 242، وابن الأثير: الكامل 6: 58، والذهبي: تاريخ الإسلام 4: 273.
(b) فتوح البلدان: مدينتها، والنسبة إلى الحدث كحصن.
_________
(1)
فتوح البلاذري 231 - 232.
أربعة آلاف خِطَّة، كُلّ خِطَّة عشرون ذِرَاعًا في مثلها، وأقْطع أهل طَرَسُوس الخِطَطَ، وسَكَنَتْها النُّدْبَتان في شهر رَبيع الآخر سَنَهَ اثنتَيْن وسَبْعِين ومائة.
قال
(1)
: وكان عَبْدُ المَلِك بنُ صالِح قد اسْتعملَ يَزِيد بن مَخْلَد الفَزَارِيّ على طَرَسُوس، فطَرَدَهُ مَنْ بها من أهل خُرَاسَان، واسْتَوحَشُوا منه للهُبَيْرِيَّة، فاسْتَخلَف أبا الفَوَارِس (a)، فأقرَّهُ عَبْد المَلِك بن صالِح، وذلك في سَنَة ثلاثٍ وتِسْعِين (b) ومائة.
قَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد الله الطّرَسُوسِيّ: سَمِعْتُ أبا زُرْعَة نُعَيْم بن أحمد المَكِّيّ سَنَةَ ستٍّ وثلاثين وثَلاثِمائة، يقُول: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بن كلُرت
(2)
، يقول: سَمِعْتُ أشيَاخَنا، رحمهم الله، يَذْكرونَ أنَّ خَيْل خُرَاسَان وردَت لعِمَارَة طَرَسُوس في أيَّام المَهْدِيِّ مع رُسُلهِ وعساكره، وأنَّهُم حَطُّوا - بمكانٍ وَصَفَهُ لنا بباب الجِهَادِ غَرْبي حَائط المُصَلَّى - أربعة آلاف راحلَة دقيقًا، مكتُوبٌ عليها: بَلْخ، خُوارَزْم، هَرَاة، سَمَرْقَنْد، فرْغَانَة، إسْبِيْجَاب؛ حُمِلَ ذلك كُلُّه على البَخَاتِي من خُرَاسَان مع أبي سُلَيْم، وبَشَّار، وأبي مَعْرُوف، الخَدَم أبناءِ المُلُوك.
(a) كذا في الأصل ومثله في فتوح البلاذري، وصنع له ابن العديم ترجمة في الكنى (الجزء العاشر) وكناه هناك: أبا القوارير، وأثبته في حرف القاف من الترتيب!.
(b) عند البلاذري: وسبعين!، ويصعب ترجيح أحد التاريخين، فإن عبد الملك كان واليًا للرشيد على الجزيرة وبعض الشام منذ سنة 177 هـ، وربما استمر في ولايته هذه حتى السنة التي سجن فيها، إذ حبسه الرشيد سنة 187 هـ (أو 188 هـ) لسعاية فيه من أنه يؤهّل نفسه للخلافة، وأنه يراسل رؤساء القبائل والعشائر بالشام والجزيرة، وبقي مسجونًا حتى وفاة الرشيد سنة 193 هـ، ثم أطلق وبعثه الأمين للقضاء على بعض الثورات في الشام، وبقي في الرقة حتى وفاته سنة 196 هـ. انظر: ابن خياط: تاريخ 458، اليعقوبي: تاريخ 2: 288، 297، 303، الطبري: تاريخ 8: 302 - 305، تاريخ ابن عساكر 37: 21، 30، الصفدي: تحفة ذوي الألباب 1: 236.
_________
(1)
فتوح البلدان 233.
(2)
كذا ورد اسم أبيه، وسيذكره فيما بعد عند ذكر حصن ثابت، ولم أوفق لمعرفته، ونقل ابن شداد هذه الرواية مخلَّصة من السند في كتابه الأعلاق الخطيرة 1/ 2:35.
أنْبَأنَا أبو هاشِم عَبْد المُطَّلِب بن الفَضْل بن عَبْد المُطَّلِب الهاشِميّ، عن أبي سَعْد عَبْد الكَريم بن مُحمَّد السَّمْعانيّ، قال
(1)
: سَمِعْتُ أبا عليّ الحَسَن بن مَسْعُود الوَزِير الدِّمَشْقِيّ الحَافِظ يقُول: كان المشايخ يقُولونَ: زينَةُ الإسْلام ثلاثة: التَّرَاويح بمَكَّةَ؛ فإنَّهُم يطوفُونَ سَبْعًا بين كُلِّ ترويحتَين، ويوم الجُمُعَة بجامِع المَنْصُور؛ لكثرة النَّاس والزَّحْمَة ونَصْب الأسْوَاق، ويوم العيد بطَرَسُوس؛ لأنَّها ثَغْرٌ وأهلُهَا يَتَزَيَّنُونَ ويَخْرجُون بالأسْلِحَةِ الكَثِيْرة المَلِيْحَةِ والخَيْل الحِسَان، ليَصل الخَبَر إلى الكُفَّار فلا يَرغَبُونَ في قتالِهم.
قَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيّ، وذكَرهُ بإسْنَاده إلى وُرَيْزَة بن مُحمَّد بن وُرَيْزَة الغَسَّانِيّ، قال: حَدَّثَني الحَارِث بن هَمَّام، قال: سَمِعْتُ أبي يَقُول: اسْتَوصف الحَجَّاجُ ابن القِرِّيَّة البَصْرَة والكُوفَة ووَاسِط فوَصَفَها، ثمّ اسْتَوصَف منه الشَّام، فقال: الشَّام عَرُوسٌ بين نِسْوَةٍ جُلُوس
(2)
.
قال أبو عَمْرو القَاضِي: قلت أنا: وابن القِرِّيَّة نَعَتَ الشَّام وليسَ للمُسْلمين يَوْمئذٍ طَرَسُوس، فأمَّا منذ ملَّكَهم الله إيَّاها، وجَعَل خُطبَة خُلَفاء دينهِ على مَنابرها، ونصبَها قُبَّة للجِهادِ، ومَلجأً وعَلَمًا لأولئك الأخْيار البَرَرة، فما اخْتَلَف اثنان سَلَكا عَمَائِر الإسْلام، وَجَابا أُفْقَها، أنَّ مُدُنَ الشَّام كالنِّسْوَة الجُلُوس، وأنّ طَرَسُوس تَلْمَع بينها بِمَنْزلة العَرُوس.
(1)
السمعاني، الأنساب 9: 65، وانظره أيضًا عند: التنوخي: نشوار المحاضرة 5: 172.
(2)
انظر خبر الحجاج مع ابن القِرِّيَّة بطوله عند: ابن الفقيه: كتاب البلدان 144، وفيه زيادة:"عروس في نسوة جلوس؛ كلُّهن يُزِفْنها ويرفدنها"، ابن خلكان: وفيات الأعيان 1: 252 - 254، اليافعي: مرآة الجنان 1: 138 - 139، الصفدي: الوافي بالوفيات 10: 41 - 43.
ذِكْرُ كَيفِيَّة النَّفِيْر بطَرَسُوس وكيف كان يَجْري أمْرَهُ
قَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو القَاضِي في كتابه، قال: يَرْكَبُ المُتَوَلِّي لعَمَل الحِسْبَةِ أيّ وَقْتٍ وَقَعَ النَّفِيْر من ليلٍ أو نَهارٍ، ورِجَّالتهُ بين يدَيهِ يُنَادُونَ بأعْلَى أصْوَاتهم أجْمعَ، صَوْتًا واحدًا، يَقُولُون: النَّفِيْر يا أصْحَابَ الخَيْل والرَّجَّالَة، النَّفِيْر حَمَلَكُم الله إلى باب الجِهادِ. وإنْ أراد إلى بابِ قَلَمْيَة أو إلى باب الصَّافِ
(1)
أو إلى أي بابٍ اتَّفَقَ، وتُغْلَق سائر أبْوابِ المَدِينَة، وتَحْصُل مفاتيحُها عند صَاحب الشُّرْطَة، فلا تَزالُ مُغْلَقَةً حتَّى يَعُودَ السُّلْطَان من النَّفِيْر، ويَسْتَقِرّ في داره، ثمّ تُفتح الأبْوابُ المُغْلَقَة كُلّها.
ويَطُوف المُحْتَسِبُ ورَجَّالَتهُ الشَّوَارع الجَوَادّ
(2)
كُلّها، فإنْ كان ذلك نهارًا انْضَاف إلى رَجَّالَته عَدَدٌ كَثِيرٌ من الصِّبْيَان، وسَاعدوهم على النِّداءَ بالنَّفِيْرِ، وربَّما احْتاجُوا إلى حَشْد النَّاس لشِدَّة الأمر وصُعُوبَةِ الحالِ، فأَمَرَ أهْل الأسْوَاقِ بالنَّفِيْر، وَحَضَّهُم على المسير في أَثَر الأَمِير؛ أين أخَذ، وكيف سَار.
ويكُون مَرْكز صَاحب الشُّرْطَة، إذا وقَعَ النَّفِيْر مع رَجَّالَته المَوْسُوْمين به، عِنْدَ البَابِ الأوَّل الّذي يلي المَدِينَة الّذي يَخْرج منهُ النَّاس إلى النَّفِيْر، وكذلك المُحْتَسِب، إلَّا أنَّ المُحْتَسِب يتردَّد في الأسْوَاق إذا طال أمرُ النَّفِيْر، وتأخَّر خَبَرَهُ، ويَبْعَث على اللُّحُوق بمَنْ سَارَ مع الأَمِير وبمَنْ تَوَجَّه إلى النَّفِيْر، فلا يَزَال الأمرُ على هذا حتَّى يعُودَ السُّلْطَانُ إلى دَار الإمارَة.
(1)
المراد: باب الصفصاف، ونقله ابن العديم - بأمانة - كما وجده في كتاب الطرسوسي، وكتب فوقها: كذا، وسيرد أيضًا فيما بعد برسم "الصّاف".
(2)
جمع جادَّة، وهي الطرق الرئيسية.
ويَخْرُجُ إلى النَّفِيْر قُوَّاد الرَّجَّالَة، مَعْرُوفُونَ، مَتَى عَقَدَ السُّلْطَان لقائدٍ من الفُرْسَان، فبَعَثَهُ للقاءِ مَنْ وَرَد من ذلك الوَجْهِ، أضَافَ إليه قائدًا من قُوَّادِ الرَّجَّالَةِ، وأتبعَهُ من أجْلادِ الرَّجَّالَةِ أهْل القُوَّهَ والنَّشَاط والنِّيَّة من المُطَّوِّعَة المَسْجِدِيَّة، حتَّى إذا نَزَلُوا أوَّل مَنْزل، تَبَتَّلَ شَيخٌ، بل شُيُوخٌ من الصُّلَحاءِ، مَعْرُوفونَ بحِفْظِ مَنْ هُناك من الغِلْمَانِ المَرْمُوقينَ بالصَّبَاحَةِ والوَضَاءَةِ، فَتَنْضَافُ طبقَةُ طَبَقَةٌ إلى ذي مَعْرفتهم وثقَتهمِ، وحَصَلُوا تحت عَلَمهِ ورَايَتهِ، فلو هَمَّ أحَدُهم بالوُضُوءِ لصَلاةٍ لَمَا أفْرج عنهُ إلَّا برقِيب ثِقَة أمين شيخ مَعْرُوف، يَمْضِي معَهُ لحاجتهِ، حتَّى إذا فَرغَ منها عاد إلى جُمْلَته.
وقد رأينا في آخر أيَّام طَرَسُوس رَجُلًا يُعْرف برُؤْبَة، يجتَمع إليهِ الصِّبْيَان الّذين لم يبلغُوا الحُلُم، يَزِيد عدَدُهم على ألفِ صَبِيّ، كُلّهُم بالسِّلاح الّذي يُمكن مثلهُ حَمْل مِثْله، وبمزاودِهم وقد أعدُّوا فيها من صُنُوف أطْعمَة أمثَالِهم، يَطُوفُ جميعُهم بمِطْرَد (a) يَحملهُ رُؤْبَةُ، يَسِيْرُون بسَيْره، ويقفُون بوقُوفهِ، فلا يزال ذلك دَأبَهُم، حتَّى إذا عَادَ السُّلْطَان إلى مقرِّ دَاره، عند رُجُوْعه من نَفِيْره، دَخَلَ أولئك الصِّبْيَان أمَامَهُ على مَراتبهم، يَصُفُّهم قائدُهم الأمثَلَ فالأمثَل، رُمَاتَهُم عن قِسِيّ الرِّجْل الّتي قد عُمِلَت على مقاديرهم، ثمَّ رُمَاتَهُم عن القِسِيّ الفَارِسيَّة، وربَّما كان فيهِ من أوْلادِ اليَمَانيَّة منْ يَحْمِلُ القِسِيّ العَرَبيَّة بِنَبْلها، فَيَدْخُلُونَ فَوْجًا فَوْجًا، صَبِيَّين صَبيَّين، ثمّ مَنْ يُحْسنُ الثِّقَافَ، فيُثَاقِف قَرِينَه ومثْلَهُ وخَدِيْنَهُ وشكلَهُ، حتَّى يَدْخُل كُلّ صِنْف منهم في مَرْتبته، ثمّ يَتلُوهم رُؤْبَةُ - قائدهم - بمِطْرَدهِ وعَلامَته، حتَّى إذا خَرَجَ أحَدُ أولئك الصِّبْيَان من حَدِّ الطُّفُولَة، واشْتَدَّ عَضُدُه، وقاربَ حَدَّ البُلُوغ، أو بلَغَ، أو تَجاوز البُلُوغ قليلًا، انْضَاف إلى قَائدٍ
(a) أوردها في هذا الموضع وتاليه: بفتح الميم.
من قُوَّادِ الرّجَّالَة الّذين ذَكَرتُ، وصَحِبَهُ في نَفِيْره وغَزْوِه، وارْتادَ لنَفْسهِ الرِّفاق بحَسَب ما يَخْتَار تِرْبَهُ وجَارَهُ وقَرينَهُ، فإذا الْتَحَى، وخَرَجَ عن حَدّ المُرْد، دَخَل في جُمْهُور النَّاس، حَاذقًا بما يحتاج إليهِ، مَاهرًا بصيْرًا بأمر جِهادهِ وتَدبير أمْرِه، ناقدًا يَقظًا إنْ شَاءَ اللهُ.
ووَقَع إليَّ قَصِيدَة الأعْلَام، وهي أُرْجُوزَة نَظمها أبو عَمْرو القَاسِمُ بن أبى دَاوُد الطّرَسُوسِيّ، يَذْكُرُ فيها رحلتَهُ من طَرَسُوس، ويتشَوَّقُها، ويَصف أوْضَاع المُجَاهِدينَ فيها، وقد شَرَحْنا في تَرْجَمَتِهِ
(1)
من كتابنا هذا صُورة القَصِيدَة، قال فيها في وَصْف طَرَسُوس:[من الرجز]
يذكُر قَوْمي عنهُم إرتحالي
…
وتَرْكَ دَارِي جانبًا ومَالي
تَرْكي سِجِسْتَان من المَعَالِي
…
مَا لي ودَارٌ للغُواةِ مَا لِي
لبئسَ ما بُدّلتُها مَزَارًا
…
زَرَنج من طَرْسُوس لا مُخْتارا
طَرسُوس أرْضُ الفَضْل والجِهادِ
…
ومُنْتهى الرَّغْبَةِ للعُبَّادِ
تيكَ بِلَادِي وبها تلَادِي
…
ومَألفي ومَعْدِن الرَّشَادِ
سُكَّانها أهْل البَلَاء والجلَد
…
غُلامُهم لَدَى الحُرُوب كالأَسَدْ
وَكَهْلهُم في المُعْضِلَات مُعْتَمد
…
وشَيْخهم لِكُلِّ خَيْرٍ مُسْتنَد
أهْل فَضِيْلَات وأهْل سُنَّة
…
للعائفين والغَرِيْب جُنَّة
حُبُّ النَّبِيّ فيهمُ ما إنّه
…
هَدَاهُمُ الله طَرِيْق الجَنَّة
قَد دوَّخُوا بالضَّرْب في الحَقَائق
…
بكُلِّ قطَّاعٍ من البَوارق
هَامَ العِدَى والوَخْز بالمَزَارِق
…
والطَّعْنِ بالْخَطّي في الحَمَالِق
بالسَّمْهَريَّات من الرِّمَاح
…
يختطِفُونَ شِكَّةَ الأرْوَاح
(1)
ترجمة القاسم بن أبي داود الطرسوسي في الضائع من الكتاب.
وفي الدُّجَي يَسْرُون للتِّصْبَاح
…
سريةً في الرُّوم لاجتيَاح
وللثَّواب والغِنَى والرَّيْش
…
يَرْجُون خُلْدًا في لذيذِ العَيْش
ليسُوا بأطْيَاشٍ غداة الهَيْش
…
إذا اغْتَدَوا كانُوا أمَام الجَيْش
تراهُمُ صَبِيْحَة المغَارِ
…
كالأُسْدِ في أشْبَالِها الضَّوَاري
على الجيادِ العُرْبُ والشَّهَاري
…
كأنّها العِقْبَانُ في البَرَارِي
من كُلّ طَرفٍ مارِح لَدَى العَمَل
…
أَعَرّ كالبَدْر تدَلَّى ما أَفَل
مُحَجّلٌ أرْجُله جَمّ الكَفَل
…
مَا هَاب يَوْمًا في الوَغَى لَمْحَ الأَسَل
فهُم يَحُلُّون بها الدِّيَارا
…
ويَقْتُلونَ عندَها الكُفَّارا
ويَسْتَبُونَ الخُرَّدَ الأبْكَارَا
…
ويَحْتَوُونَ المَالَ والأُسَارَي
قد صُفِّدوا في السَّير في وثاق
…
وضُمَّت الأيْدِي إلى التَّرَاقي
لخَشْيَةِ الفِرَار والإبَاق
…
وتلكُم الجَوار في اسْتِبَاق
يُسَقْنَ كالأغْنَام في الشَّغافِ
…
يُحَزْنَ بالرِّمَاح وَالقذَافِ
حَوْزَ الرُّعاة الشَّاءَ في الفَيافي
…
كم فيهمُ من ظبيةٍ ذلافِ
يمنَعُها من مَشْيَها سحج الرَّبَل
…
وثقْل ردفٍ مَائِل لها عَدَل
وأنَّها ذات دَلالٍ وخَجَل
…
لَو حسَّها الرَّاهِبُ يَوْمًا لنَزَل
والقَسُ لو أبصَرَها لَمَا صَبَر
…
وقَبَّلَ الرِّجْلَيْن منها واعْتَذر
تَبْكي بعَيْن ذَات غُنْج وحَوَر
…
وتَلْطِم الوَجْهَ المُنِيْرَ كالقَمَر
أبْيَض يَعْلُوه كلَون الخَمْر
…
نَعَمْ وفي الصَّدر الوضيءِ تَفْري
باللكم والخَمْش ونَتْفِ الشَّعر
…
من حَالكٍ قد حَلّ عند الخَصْرِ
وكُلّ ما يَبْدُو لها مَليْحُ
…
إذا احْتَوَاها المَرْءُ يَسْتَريحُ
دَعْ ذِكْرها فذِكْرُها قَبِيْح
…
على الفَتَى وخُذْ بما تَبُوح
ذِكْرُ زُهَّاد طَرَسُوس
بها رِجَالٌ بَعْضُهم من بَعْضِ
…
في اللهِ قَاموا بِحُقُوق الفَرْض
فيها يَعِيْشُونَ بكُلّ خَفْضِ
…
يَحْبُوهُم ببركاتِ الأرْض
يَبْدَون مَنْ يَلْقَون بالتَّسْليم
…
يَعْفُون عن ذي القُدْرة الظَّلُوْم
نَهارُهُم صَوْمٌ بلا تَعْتِيْم
…
وَلَيْلُهُم عِبَادَةُ القَيُّوْمِ
فتارةً يَبْكُونَ شجوًا دِررا
…
خَوْف الحِسَابِ والخَطايا حَذَرا
وتارةً يَعْتَبرُونَ السُّوَرَا
…
مُسْتَغْفرينَ عَلَّهُ قَد غَفَرَا
وتارةً يَغْزُون أرْضَ الرُّوم
…
يَرْجُونَ قتلًا في هَوى الكَرِيم
يا لَيْتَني في الأرض كالرَّمِيم
…
عِنْدَهُمُ فقَصِّري أو لُومي
هذا كان حال مَدِينَة طَرَسُوس والشَّرائع مَحْفُوظة، وأُمُور الجِهادِ مَلْحُوظَة، وأحْوَال البِدَع مَرْفُوْضَة، والجُفُون عن الحُرماتِ مَغْضوضَة، فحين فَسَدَت الأُمُور، وارْتُكِبَ الفُجُور، وقَلَّتِ الخَيْرات، واشْتَغل أهل الجِهادِ باللَّذَّات، طَمعَ العَدُوّ، ومنَعَهُ طلَبُ الثَّأر الهُدُوّ
(1)
، فقَصَدَ البِلاد، وأكْثرَ الأمْداد، وهَجَمَ حَلَب، وفَتَحَ أَنْطاكِيَّة، وقَتَلَ الأبْطال، وسَبَى الذُّرِّيَّة، ثمّ اسْتَولَى على الدِّيَار، وقَصَدَ طَرَسُوس، وألَحَّ عليها بالحصَار، فجَرى في أمْرهَا العَظِيْم ما ذَكَرَهُ عُثْمان بن عَبْد الله بن إبْرَاهِيْم في مُقدِّمةِ كتابهِ المَوْسُوم بِسِيَرِ الثُّغُور، ونَقَلْتُهُ من خَطِّه مع ما نقلتُهُ من حَوادِث الأُمُور.
قال بعد أنْ حَمَدَ الله على نعَمِهِ الّتي تظاهَرَت فما تُحْصَى، وأيادِيه الَّتي ترادفَتْ فما تُسْتَقْصَى: نَفَذَت سَوَابقُ أقضيَته، في عالِمٍ من بَريَّته، أسْكنَهُم حينًا من الدَّهْر ثَغْرًا بأطْراف الشَّام، نوَّه بهِ وبهم في مَعالِم الإسْلام، متَّعَهم فيه مُدَّةً من المُدَد،
(1)
الهُدُوُّ: السكون والطمأنينة والقرار.
وأعزَّهُ وأعزَّهُم إلى غَايةٍ من الأمَد، ظَاهِرينَ على أعدَائِهم، مُظَفَّرين في قُلُوب إخوانهِم المُسْلِمِيْن، مُعَظَّمين مُبَجَّلين، ضَاقَتْ بهِم أرْض الرُّوم، [وكَثُرَت فيهم منهم الكُلُوم](a)، تُرَاءَى
(1)
نِيْرانُهُم، وتُكافَحُ فُرْسَانهُم، إنْ دَنَوا منهُم هلَكُوا، وإنْ أمعنُوا الهَرَب عنهُم أُدْرِكُوا، لا تُحْرزهُم أرْضُهم وإنْ اتَّسَعت، ولا تَحْمِيْهم مَعاقلُهم وإنْ امتَنَعَت، تُعَرَّى بُنُودُهم، وتُهْزمُ حُشُودُهُم، وتُفَلُّ جُنُودُهُم، وتُسْتبَاح حَريمهُم، ويُسْتَأصَل كَرِيمُهم، وتُرَوَّح أفْنِيتُهم، وتُهْدَم أبْنِيَتُهم، وتُشَنُّ الغَارَاتُ فيهم، زِيَادة على مائتي سَنة، حتَّى نَبَغَ من نَقَفُور بن فاردس الفُقَّاس (b) مَنْ صَمَد نَحْوَهم وعندَهم، وأناخ بهِم وقصَدَهم، وأجمَعَ على استئصَالهم، واجْتِياحهِم وبَوارِهم، فغَزَاهُم عامًا بعد عام، ونَازلهُم في عُقْرِ ديارهم؛ يُدَوِّخ أطْرافَهُم، ويَسُوق عَوَامِلَهُم، ويتردَّدُ إلى زُرُوعهم أوانَ اسْتحصَادِهم، فَيَجْتَثُّها ويأتي عليها، وتتَوالى - لأجل ذلك - سَنَواتُ الخَوْفِ والجُوْع ونَقْص الأمْوَال والأنفُس والثَّمَرات
(2)
، وضيْق الأسْعَارِ، وتأخُّر المِيَر والأمْدَاد، وفَنَاءِ الحُمَاة مِنَ الرِّجالِ الكُمَاة، وتَلَاشي الشُّجْعَانِ والفُرْسَان، وانْحِلال الأحْوال، واخْتِلال الأبْطالِ، وحُلُول الدَّاءِ الّذي لا دَوَاءَ لَهُ، والعِلَّة الّتي لا يُرْجَى بُرْؤُهَا، وهو نُبُوّ السَّلاطين حينئذٍ عن نُصْرتهم، وتَثَاقلهُم عن إجابةِ مُسْتَصْرخهم، وتَخلُّفهُمْ حين دَهَمَهُم ما دهمَهُم عن مَعُونتهِم.
(a) كتبها في الهامش، ويبدو أن قراءتها تعسَّرت عليه، فكتب قبلها: أظنُّه.
(b) ضبطه من بيت شعر للمتنبي يذكره، انظر ديوانه بشرح العكبري 2: 228، وفي الأعلاق الخطيرة لابن شداد 1/ 2: 96: بردس الفقاس.
_________
(1)
التَّرائي: تفاعلٌ من الرؤية، وإسناد الترائي إلى النيران مجاز من قولهم داري تنظر إلى دار فلان، أي تقابلها. (لسان العرب، مادة: رأى)، والمراد: ما كان عليه المسلمين من القوة بحيث قربت منازلهم من منازل الروم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار الآخر.
(2)
اقتباسٌ من الآية الكريمة {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (سورة البقرة، الآية 155).
فالنَّائبُ بمِصْر
(1)
، وما يُنْسَبُ إليها بَرًّا وبَحْرًا من أقاصي الصَّعِيْدِ إلِى حُدُودِ جُوْسِيَة
(2)
، رَاضٍ بمُدَافعة الأيَّام، وسَلَامة الشُّهُور والأعْوَام، من صَوْلةِ مَلِك الغَرْبِ
(3)
ومُدَبِّره.
والرَّاتِبُ
(4)
المُشَارِ إليه بأرْض العِرَاق، وما يَجْري مَجْرَاها إلى حُدُودِ بَحْر الصِّيْن وبَاب الأبْوابِ، يَتَشَاغَل بأسَاورة دَيْلَمَان وجِيْلَان ومَلك خُرَاسَان في كَفِّ غَرْبِهِ كما قال المُسَاوِر بن هِنْد العَبْسِيّ
(5)
: [من الكامل]
وَتَشَعَّبُوا شُعَبًا فكُلُّ جَزِيرَةٍ
…
فيها أَمِيرُ المُؤمِنِين ومِنْبَرُ
فحاق لذلكَ بأهْل الثَّغْر - جَدَّدَهُ اللهُ - من قِرَاع الرُّوم - وَقَمَهُم اللهُ - على وُفُور عَدَدهم، وقُوَّة عُدَدِهم، ووفَاق أجْنَاسِ الكَفَرة إيَّاهُم، ما ثَقُل حَدُّهُ، وعَظُمَ مَرَدُّه، وامْتَنعَ مسَدُّه، بما وصَفْنَا من خُلْفِ سَلاطين الإسْلام وأُمَرائهِ، وتَفَاوت كُلّ منهم في شَتَاتِ آرائهِ، وما خَامر أفئدتَهم من الوَهَل
(6)
، ورَانَ على قُلُوبهِم من الرُّعْب والوَجَل، كما سَبَق لهم في عِلْم الله العَزيز {أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ}
(7)
.
(1)
هو علي بن الإخشيد (ت 355 هـ)، أقره المطيع على حكم مصر، غير أن تقاليد الحكم كانت بيد متولي الوصاية عليه: كافور الإخشيدي.
(2)
جوسية: كورة من كور حمص مسماة باسم قرية من قراها، والقرية تقع في هضبة حمص الجنوبية، بين جبل لبنان وجبل سنير، قرب الحدود اللبنانية الحالية وتسمى اليوم: جوسية الخراب تمييزًا لها عن القرية المعمورة، وتتبع منطقة القصير بمحافظة حمص، وتبعد عن مدينة القصير نحو 11 كم ناحية الجنوب. ابن خرداذية: المسالك 75، اليعقوبي: البلدان 325، المقدسي: أحسن التقاسيم 154 طلاس: المعجم الجغرافي 2: 723، ورود ذِكْرها في هذا الموضع لأنها كانت تمثل الحد الفاصل بين ملك بني حمدان في الشمال (حلب) وملك الإخشيديين في الجنوب (دمشق)، انظر: الحياري: نهاية الثغور الشامية 41 (هامش رقم 43).
(3)
الإشارة إلى المعز لدين الله أبو تميم معد بن منصور (ت 365 هـ) أول الخلفاء الفاطميين بمصر، والذي تمكن من إنهاء حكم الإخشيدية بمصر.
(4)
الرَّاتِبُ: الثابت الساكن لا يتحرَّك. والإشارة إلى الخليفة العباسي المطيع لله (ت 364 هـ).
(5)
شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1: 461.
(6)
الوَهَلُ: الفزع. لسان العرب، مادة: وهل.
(7)
من الآية الكريمة: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (سورة آل عمران، الآية 176).
فقَد حَدَّثَني أبو العبَّاس مُحمَّد بنُ نَصْر بن مُكْرَم، أحَدُ عُدُول بَغْدَاد، في دَرْب الرَّيْحان، أنَّ أحْمد بن بُوَيْه، رحمه الله، جلَس بمكانٍ أرَانِيْهِ بباب دَاره المُعِزِّيَّة، يعرضُ خَيْلَهُ مُتَنَزِّهًا بالنَّظر إليها، فَقِيْدَ بين يدَيْهِ من دَار الدَّوَابّ إلى ذلك المكان، في مُدَّة أرْبعَة عَشر يومًا مُتَّصلةً، اثنا عَشر ألف فَرَس، أغلاهَا ثَمَنًا بمائة ألف دِرْهَم، وأدْناهَا ثمنًا بعَشرهَ آلاف دِرْهَم، لم يطرَح قَطّ على فَرَسٍ منها سَرْج في سَبيل اللهِ ولا في غير سَبِيْل اللهِ.
وحَدَّثَني أيضًا كَهْلٌ من أهْلٍ أربه
(1)
يُعْرف بابن الشَّعْرَانيّ، وقد سَألتُه ببَغْدَاد عن مُنْصَرفه، فوَصَف إشْرافًا على قَضِيْم حَمِيْر برَسْم فَنَّاخُسْرُو (a) بن الحَسَن بن بُوَيْه، رحمه الله، عَدَدُهَا ستّة آلاف حِمَار، قد رتَّبها لخِدْمة الكُرَاع، ينْقل لها القَصِيْل في حينه، والقَضِيْم والعُلُوْفَات في سائر الأوْقاتِ، وسَألتُهُ عن عَدَدِ هذا الكُرَاع الّذي قد رُتِّبَت هذه الحَمِيْر لخدمَتِهِ، فذَكَر أنَّ المُشْرفَ على قَضِيْم جَميع الكُرَاع يَسْتَوفي كُل ليلةٍ قَضِيْمًا لثمانين ألف رأسٍ، من ذلكَ ثَلَاثُونَ ألْف جَمَل، وأربعةٌ وعشرون ألْف بَغْلٍ، وعشرون ألف فَرَس، وستّة آلاف حِمَار.
فهذان رَجْلَان من أمراء الإسْلام، وَصَفْنَا ظَاهِرَ نِعَم الله عليهما، والجِهَادُ مُعَطَّل، والثَّغْرُيَبَاب لا أنيس به، خاوٍ من القُرْآن، خَالٍ من الأذَان
(2)
: [من الطول]
مَدارس آياتٍ خَلَتْ مِن تلَاوَة
…
ومَنْزل وَحْيٍ مُقْفِر العَرَصاتِ
فمن قَتِيْل أو جَريح، وعَفير
(3)
من أهلهَا طَرِيْح، وهَارب طامِحِ، ومُتَحيِّز إلى وَطَن نازح، ومَفْتُون في دِيْنه، ومَغْلوب على ملْك يمينه، قد اسْتُبِيْحَت مَنَازلهم بجَميْع ما
(a) ضبطها ابن العديم بفتح النون المخففة، والتشديد من ضبط ابن خلكان له، انظر: وفيات الأعيان 4: 55.
_________
(1)
مهملة في الأصل بهذا الرسم، وتحتمل وجوهًا أخرى بإعجام حرفيها الثاني والثالث، ولم أهتد لمعرفتها.
(2)
بيت الشعر لدعبل الخزاعي، ديوانه 131.
(3)
العَفْر والعَفَر: ظاهر التراب، والعَفير: الممرغ فيه، لسان العرب، مادة: عفر.
كانت تَحْوِيْهِ، إلَّا ما نقَلَهُ السَّائر عنها على ظَهْره، بحَسَب قُوَّته إنْ كان ذا طَاقةٍ لشيء من حَمْلهِ، أو على ذي أرْبَعة إنْ كان وَاجِدًا لَهُ، أو أعْوَانِه إنْ وجَد عَوْنًا، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}
(1)
، لا يُعَرَّج على سواه، ولا يَعُودُ بَعْدُ إلى مَثْوَاه، بذلكَ سَبَقَ فيهم عِلْمُ اللهِ المَكْنُون، الغَامضُ المَصُون، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}
(2)
.
وقَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو في كتابه: وجَرَى من اعْتيادِ الرُّوم طَرَسُوس، ما اقتَضَت الصُّوْرَةُ إخْراجَ وَفْدٍ إلى مِصْر والعِرَاق، يَسْتَصْرخُون ويَطْلبُونَ المَدَد، ورُسم أبو الحَسَن بن الفَيَّاض بوِفَادَة مِصْر، ووَفَد أبو بَكْر بن الأصْبَهَانِيّ الإسْكَاف، وأبو عَليّ بن الأصْبَهَانِيّ، خَلِيفَة القَاضِي العبَّاس بن أحمد الخَوَاتِيْمِيّ على طَرَسُوس، إلى بَغْدَاد
(3)
، فنُدِبَ للخُطْبَة أبو صالِح عَبْد الغَفَّار بن الحَرَّانيّ الوَرَّاق عِوَضًا منهُ فقام مقامَهُ، وأقام أبو صالح، عند خُرُوج النَّاس، بطَرَسُوس لِعلَّةٍ مَنَعَتهُ من الحركَة بها تُوُفِّي، وما زال أبو صالح يَخْطبُ مُدَّةَ أيَّامِ مُنازلة نَقَفُور إيَّانَا.
فلمَّا انْتَهينَا إلى الأيَّام الّتي وادَعناهُ فيها للخُرُوج عن طَرَسُوس، اعْتَلَّ أبو صالِح عِلَّةً حالَت بينَهُ وبينَ الصَّلاة، واحْتَاجَ النَّاس في آخر جُمْعَةٍ جَمَّعُوهَا بطَرَسُوس إلى خَطِيب، فَسُئل أبو الحَسَن بن الفَيَّاض الصَّلاةَ، وقد كان عَادَ من مِصْر مُعَذَّرًا لم يَنَل في الوِفَادَة ما تَمَنَّى مَنْ أرْسله لها، فأبَى، وقال: ما أُحبّ أنْ أَكونَ آخر خَطِيب خَطَبَ بطَرَسُوس.
وَحَضَرَت الصَّلاةُ، فَصَلَّى بالنَّاس يَوْمئذٍ أبو ذَرّ؛ رَجُلٌ من أبناءِ طَرَسُوس، شَيْخٌ من أهْل العِلْم؛ كان سافَرَ وغابَ عن طَرَسُوس عدَّة سنين، وعاد إلينا في تلك الأيَّام، فهو آخرُ مَنْ خَطَب على مِنْبَر طَرَسُوس يوم الجُمُعَة العَاشر من شَعْبان سنَةَ أربعٍ وخمسين وثَلاثِمائة، لأنَّ خُرُوج النَّاس كان عنها في يوم الأرْبَعاءِ النِّصْف من هذا الشَّهْر في هذه السَّنَة.
(1)
سورة عبس، الآية 37.
(2)
سورة الأنبياء، الآية 23.
(3)
انظر عن سفارة الاستنجاد وطلب المعونة والمدد من بغداد ومصر: الحياري: نهاية الثغور الشامية 33 - 38.
وأقام المُؤِذّنون في ذلك اليَوم وأخَذُوا في الأذان، فسَهَوا فأقامُوا، فَرُدَّ عليهِم فأذَّنُوا، وقام أبو ذرَّ فخَطَب، فلمَّا أتَى الدُّعَاءُ للسُّلْطَان، خَطَب للمُعْتَضِد، وَرُدَّ عليه، فتَمَّم خُطْبتَهُ ونزَل، فأُقِيمَت الصَّلاة، وكَبَّر، وقَرأ في الرَّكْعَة الأُوْلَى بفاتحة الكتاب، وسُورة والشَّمْس وضُحاها، وفي الرَّكْعَة الثَّانيَة بسُورة الحَمْدِ وسُورَة إذا زُلْزِلَت الأرْضُ زِلْزَالَهَا.
فلمَّا سَلَّم، قامَ أبو عَبْدِ اللهِ الحُسَيْن بن مُحمَّد الخَوَّاصُ قائمًا في قِبْلَةِ المَسْجِد، واسْتَقْبَل النَّاسَ بوَجْههِ، وقال: يا مَعْشَرَ أهل طَرَسُوس، أَقُول فاسْمَعُوا: هذا المقَامُ الّذي كان يُتْلَى فيهِ كتابُ اللهِ العَظِيم، هذا المقَامُ الّذي كانَتْ تُعْقَدُ فيه المغَازي إلى الرُّوم، هذا المقَامُ الّذي كان يَصْدُر عنْهُ أمْرُ الثُّغُور، هذا المقَام الّذي كانت تُصَلَّى فيه الجُمُعُ والأعْيَادُ، هذا المقَام الّذي يَأوِي إليهِ المَلْهُوفُ بالدَّعَوَات، هذا المقام الّذي يَزْدَحم عليه أهْلُ السَّتْر والسَّدَاد، هذا المقام الّذي كانَ يَفِدُ إلى اللهِ فيهِ الوَافدُونَ، هذا المقامُ الّذي كان يَعْتكفُ فيهِ العَابِدُونَ الزَّاهِدُونَ، وما يَجْرى مَجْرَى هذا الكلام.
وقَرَأتُ في تاريخ أبي غَالِب هَمَّام بن الفَضْل المَعَرِّيّ
(1)
: أنَّ نَقَفُور لَمَّا صَالَحَ أهل طَرَسُوس، وخَرَجُوا منها، وتسلَّمها، صَعد على مِنْبَرها، وقال: يا مَعْشَرَ الرُّوم، أينَ أنا؟ قالوا: على مِنْبَر طَرَسُوس، فقال: لا؛ بل أنا على مِنْبَر بَيت المَقْدِس، وهذه البَلْدةُ الّتي كانت تَمْنعُكم من بَيت المَقْدِس.
(1)
نقَل ابن العديم عن هذا الكتاب في العديد من المواضع التَّالية، وعرَّف به في هذا الجزء، وأيضًا في تضاعيف ترجمة أحمد بن عبد الله صاحب الخال (الجزء الثاني)، قال:"وسيَّر إليَّ بعضُ الشِّرَاف الهاشميّين بحلَب تاريخًا جمعَهُ أبو غالب هَمَّام بن الفَضل بن جعفَر بن عليّ بن المُهذَّب، ذكر أنَّهُ تَذْكِرة كتبها ممَّا وجدَهُ في التَّوَاريخ المُتَقدِّمة، وممَّا وجَدَهُ بخَطِّ جَدّ أبيه الشَّيخ أبي الحُسَين عليّ بن المُهَذَّب بن أبي حامد مُحمّد بن هَمَّام بن أبي شهاب وغيره"، ويظهر من نقول ابن العديم أنَّ ابن المُهذَّب كان حيًّا سنة 467 هـ، وأخذ عنه أيضًا في كتابه الإنصاف والتحري (ضمن كتاب إعلام النبلاء) 4: 101، ونقل عنه ابن الوردي في العديد من المواضع في تاريخه ووصفه بأنه "من جباة أبي العلاء المعري"، انظر: تاريخ ابن الورديّ 1: 273 - 274، 330 - 331، 333، 337، 362، 368 - 370، 437 - 438، 445، 479، 485، 515، 557، 561.
ووضع أبو المغيث مُنقذ بن مرشد بن عليّ بن مُنْقذ ذيلًا على تاريخ ابن المُهَذَّب، ونقَل ابنُ العديم أيضًا عن هذا الذيل في بعض التَّراجم التالية.
بابُ ما جاءَ في فَضْل طَرَسُوس
قَرَأتُ بِخَطِّ القَاضِي أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد الله الكَرْجِيّ، ونَقَلْتُهُ منهُ: حَدَّثَنا أبو عُمَيْر عَدِيّ بن أحمد بن عَبْد البَاقِي، قال: حَدَّثَنَا عَمِّي أبو القَاسِم يَحْيَى بن عَبْد البَاقِي، قال: حَدَّثنَا يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء أبو زَكَرِيَّاء، قال: حَدَّثَني مُحمَّد بن إبرَاهِيْم بن مالِك الصُّوْرِيّ، قال: حَدَّثَني فَتح بن مُحمَّد بالغوْر، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن عِيسَى العَقَدِيّ، قال: حَدَّثَنَا نَصْر بن يُونُس، قال: حَدَّثَنَا عِيسَى بن يُونسُ، قال: حَدَّثَنَا السَّرِيّ بن بَزِيعَة (a) عن أبي بَكْر اليَشْكُرِيّ، عن الحَسَن البَصْرِيّ، عن أنَس بن مالِكٍ، قال: خرجَ علينا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ذات يَوْم ودُمُوْعُه تَقْطُر على لحيَتِه، قال: فقُلنا: بآبائنا وأُمَّهاتنا يا رسُول الله، مَنْ أخوَانُنا هؤلاء الّذين ذكرتَهُم فَرَقَقْت لذِكْرهم؟ قال: قَوْم من أُمَّتِي، يكونُونَ في مَدِينَةٍ تُبْنَى من وراءِ سَيْحَان وجَيْحَان، فمَنْ أدْرَك ذلك الزَّمان، فليأْخُذ بنَصِيْبه منها، فإنَّ شَهيْدَهُم يَعدل شُهَدَاءَ بَدْر، والّذي نَفْسِي بيَده ليَبْعَثَنَّ اللهُ يوم القِيامَة من تلك المَدِينَةِ سَبْعِين ومائةَ ألف شَهِيد يَدْخُلُونَ الجَنَّة بغير حِسَابٍ، وإنَّ الله عز وجل يَنْظرُ إلى أهْلِ تلك المَدِينَة كُلّ يوم سَبْعِين مَرَّةً، كُلَّما نَظَرَ إليهم ذَرَّ عليهم من بِرِّه وحَنَانهِ، اللهُ عز وجل أرْفَق بتلك المَدِينَة من الوالدة بولدهَا، يَغْفر اللهُ لأهْلِ تلك المَدِينَة كُلّ يوم عندَ طُلُوع الشَّمْس وعند غُروبها، ولا يَزالونَ على الحقِّ، والحَقّ معهم، حتَّى يكُون آخر الزَّمان عِصَابَة منهم يُحاربُون الدَّجَّال، يَحْشُر الله من تِلك المَدِينَة اثني عَشر ألف زُمْرَةٍ، في كُلِّ زُمْرَة مائة ألف شَهِيد، والشَّهِيْد منهُم يَشْفَعُ في مائة ألفٍ سوي أهل بيته وجيرانه، واسْمُها بالعَرَبيَّةِ: طَرَسُوس، وفي التَّوْراة: أبسوس، وفي الإنْجِيْل: أرسُوس، وهي الصَّارِخَةُ إلى اللهِ عز وجل
(a) كذا قيده المؤلِّف في هذا الموضع، وتقدم برسم: بزيع، ومثله - أي بزيع - في فضائل الشام للربعي 75.
في بَيت المَقْدِس حين أُخْرِبَت، ولها بابان مَفْتُوحان حَوْل العَرش، مَنْ دَخلها من أُمَّتِي غُفِرَ لَهُ ما سَلَفَ من ذَنْبِه، ولم يُكْتَب عليهِ ذَنْبٌ حَادِثٌ، طُوْبَى لِمَنْ حُشِرَ منها من أُمَّتِي، طُوْبَى له.
ونَقَلْتُ من خَطِّه: حَدَّثَني أبو الحَسَن عليّ بن وَهْب الوَرَّاق الرَّمْليّ بطَرابُلُس، قال: حَدَّثَنَا أبو يَعْقُوب العَدْل العَطَّار المَوْصِليّ بالمَوْصِلِ، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بن الهَيْثَم البَلَدِيّ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن إبرَاهِيم الحَرَّانيّ، عن قَيْس بن الرَّبيْع، عن ابن أبي لَيْلَى، عن عَبْد الكَريم، عن ابن عَبَّاسٍ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال: سَتُعْمَر مَدِينَة بين سَيْحَان وجَيْحَان تُسَمّى المَنْصُورة، مَنْ دَخَلها من أُمَّتِي دَخَلَها برَحْمة، ومَنْ خَرَجَ عنها رَغْبَةً عنها خرجَ بسَخْطة، يُبْنى مَسْجِدُهَا على رَوْضَةٍ من رياض الجَنَّة، يُدْعَى مَسْجِد النُّور، الصَّلاةُ فيهِ بألفَي صَلاةٍ، النَّائم فيها كالصَّائم القائم في غيرها، المُنْفق فيها على عِيَالهِ الدِّرْهَم بسَبْعمائة، طُوْبَى للمُجَاهِدين فيها، وطُوْبَى لِمَنْ حُشِرَ منها، المَيِّت فيها شَهِيْد، وشَهِيْدُها يَعدلُ عشرةً من شُهَدَاءِ البَحْر.
وقال أبو عَمْرو القَاضِي فيما نَقَلْتُهُ من خَطِّه: حَدَّثَنا أبو هاشِم عَبد الجَبَّار بن عَبْد الصَّمَد السُّلَمِيّ، قال: حَدَّثنا أبو يَعْقُوب الأذْرَعِيّ، قال: حدَّثَنَا أبو العبَّاس عَبْدُ الله بن عُبَيْد الله السُّلَيْمَانِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن عَبَّاد، قال: حَدَّثَنَا إبرَاهِيم بن صَدَقَة الجُهَنِيّ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن المُبارَك، قال: حَدَّثَنَا هِشَام بن مَوْدُود الهَجَرِيّ، عن بُرْد بن سِنَان، عن وَهْب بن مُنَبِّه، قال: لا تَذْهب الأيَّام حتَّى تُبْنَى مَدِينَةٌ من وراء سَيْحَان وجَيْحَان، قريبةٌ من العَدُوّ غير بعيدَة، تُخيفُ العَدُوّ من وَجْهين: من بَرٍّ ومن بَحْرٍ، يَنْظُر اللهُ عز وجل إليهم في كُلِّ يوم سَبْعِين مَرَّةً، كُلَّما نَظَرَ إليهم ذَرَّ عليهم من بِرِّهِ وحَنَانهِ، الله عز وجل أَرْوَفُ بأهْلِ تلك المَدِينَةِ من الوالدة الشَّفِيْقَة بوَلدها، يَغْفِرُ اللهُ لهم في كُلِّ يَوْم مَرَّتين عند طُلُوع الشَّمْس وعند
غُرُوبها، يَحْشُر اللهُ منها يومَ القِيامَة اثني عَشر ألف زُمْرَةِ، في كُلِّ زُمْرَة مائة ألف شهيد، لا يزالونَ على الحَقِّ، والحَقّ معَهُم، آخر عِصَابةٍ منْهُم تُقَاتل الدَّجَّال.
قال ابن مُنَبِّه: يا طُوْبَى لأهْلِ تلك المَدِينَة؛ هُم أولياءُ اللهِ وأحبَّاؤه.
ومن خَطِّه أيضًا: حدَّثَنَا عَدِيّ بن أحمَد بن عَبْد البَاقِي أبو عُمَيْر، قال: حَدَّثَنَا عَمِّي يَحْيَى بن عَبْد البَاقِي أبو القَاسِم، قال: حَدَّثَنَا يُوسُف بن بَحْر، قال: حَدَّثَنَا سَعيدُ بنِ هِشَامٍ الفَيُّومِيّ، قال: حَدَّثَنَا هِشَام بن مَوْدُود، قال: سَمِعْتُ وَهْبَ بن مُنَبِّه يقول: تُبْنَى مَدِينَةٌ من وراءِ نَهْرٍ من أَنْهار الجَنَّة، يَنْظُرُ اللهُ في كُلِّ يَوم إلى تلكَ المَدِينَة سَبْعِين مرَّةً، يدرُّ عليهم من بِرِّهِ وحَنَانهِ، وهو أَرْوَفُ بهم من الوالدة بوَلدهَا.
قال سَعيدُ بن هِشَام: سَمِعْتُ هِشَام في مَوْدُود يقول: هي طَرَسُوس.
ونَقَلْتُ من خَطِّه: حَدَّثَنَا أبو عُمَيْر عَديّ بن أحْمَد الأَذَنِيّ بطَرَسُوس، إملاءً في داره يَوْم السَّبْت غُرَّة ذي القَعْدَة سنة ستٍّ وثلاثين وثَلاثِمائة، حَدَّثَنَا عَمِّي أبو القَاسِم يَحْيَى بن عَبْد البَاقِي، حَدَّثَني أبو القَاسِم يُوسُف بن بَحْر السَّاحِلِيّ، قال: حَدَّثَنَا جُنَادَة بن مَرْوَان بن الحَكَم الأزْدِيّ، قال: حَدَّثَني الهَيثَم بن حُمَيْد الكِنْدِيّ، عن الحَكَم بن عَمْرو الرُّعَيْنِيّ، عن كَعْب الأحْبَار، قال: إنَّ طَرَسُوس خَرَجَت إلى رَبِّها عز وجل من وَحْشَتها، وبَكَت إليه من خَرَابها، فأَوْحَى اللهُ عز وجل إليها: أيَّتُها الصَّارِخَةُ إليَّ، أنا أذنْتُ لخَرابكِ، وأَذنْتُ لعُمْرَانكِ، وأُنْزل عليكِ من بركاتِ سَمَائي، لأُطَهِّرَكِ من دنَس الأرْجاس الأَنْجاس، ثمّ أَعْمُركِ بخَيْر أُمَّةٍ أُخْرجَت للنَّاس؛ يأمرون بالمَعْرُوف، وينهونَ عن المُنْكَر، وأضَعُ فيك معَهُم تَوْرَاةً مُحْدَثَةً وخُدُودًا سُجُودًا، يَدِفُّونَ
(1)
إليك دَفِيْفَ النُّسُور إلى أوْكارها، ويَحنُّون إليك حَنِينَ الحَمَامَة إلى فِرَاخِها.
أخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن الفَقِيه، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم بنُ أبي مُحمَّد، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد عَبْد الكَريم بن حَمْزَة، ح.
(1)
الدَّافَّة: القوم يسيرون جماعة، وكذا الجيش نحو العدو. لسان العرب، مادة: دفف.
وأنْبَأنا أبو القَاسِم عَبْدُ الصَّمَد بن مُحمَّد بن عَبْد الكَريم بن حَمْزَة، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيْز بن أحمد، قال: حدَّثنا تَمَّامَ بن مُحمَّد، قال: أخْبَرنَا أبو الحَارِث بن عُمَارَة، قال: حَدَّثَنَا أبي - وهو: مُحمَّد بن عُمَارَة بن أبي الخَطَّاب اللَّيْثِيّ - قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن أحمد بن إبرَاهِيم، عن هِشَام بن خَالِد، عن الوَلِيد بن مُسْلِم، عن رَجُلٍ، عن مَكْحُول، عن كَعْبٍ، قال: بطَرَسُوس من قُبُور الأنْبِياءِ عَشَرة.
أخْبَرَنَا أبو الفُتُوح الحُصْرِيّ، وأبو مُحمَّد عَبْد القَادِر الرُّهَاوِيّ في كتابَيْهما، قالا: أخْبَرَنَا أبو الخيَرْ القَزْوِيْنِيّ، قال: أخْبَرَنَا زَاهِر بن طَاهِر، قال: أخْبَرنَا أَبَوَا عُثْمان الصَّابُونِيّ والبَحِيْرِيّ، وأبَوَا بَكْر البَيْهَقِيّ والحِيْرِيّ، إجَازَةً منهُم، قالوا: أخْبَرَنَا الحاكِمُ أبو عَبْدِ اللهِ، قال: سَمِعْتُ أبا الفَضْل الحَسَنَ بن يَعْقُوب العَدْلَ يقُول: سَمِعْتُ حَمْشَ التُّرَيْكِيَّ الزَّاهِدَ يَقُول: سَمِعْتُ أحْمدَ بن حَرْبٍ يقُول: المَقام بطَرَسُوس في وَقْتِنا هذا أحبّ إليَّ من الجِوَار بمَكَّة.
وقَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو القَاضِي في كتابه: حَدَّثَنَا أبو هَاشِم السُّلمِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو يَعْقُوب الأذْرَعِيّ، قال: حدَّثنَا أبو العبَّاس عَبْد الله بن عُبَيْد اللهِ السُّلَيْمَانِيّ، قال: سَمِعْتُ يُوسُفَ بن عَبْد اللهِ الهَاشِميّ، يقُول: قال عَبْدُ الله بن المُبارَك: تَكْبيرةٌ على حائط طَرَسُوس، تَعْدِل فَرَسًا في سَبيلِ اللهِ، ومَنْ حَمَلَ على فَرَسٍ في سَبِيل الله، حَمَلهُ اللهُ على نَاقةٍ من نُوْق الجَنَّة.
قُلْتُ: وكان ابن المُبارَك قد قَدِمَ طَرَسُوس، فأقام بها وبالمِصِّيْصَة غَازِيًا سِنِين عِدَّة، فقال له أبو إسْحَاق الفَزَارِيّ، ما أخْبَرَنَا بهِ القَاضِي أبو القَاسِم عَبْدُ الصَّمَد بن مُحمَّد إذْنًا، قال: كَتَبَ إلينا أبو القَاسِم زَاهِر بن طَاهِر الشَّحَّامِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبَوَا بَكْر أحمد البَيْهَقِيّ ومُحمَّد الحِيْرِيّ، وأبَوَا عُثْمان إسْمَاعِيْل
الصَّابُونِيّ وسعيد البَحِيْرِيّ إجَازَةً منهم، قالوا: أخْبَرَنَا الحاكِم أبو عَبْد الله مُحمَّد بن عَبْد الله، قال: أخْبرني مُحمَّد بن عُمَر، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن المُنْذِر، قال: حَدَّثَني مُحمَّد بن الوَلِيد، قال: حَدَّثني أبو عِمْرَان الطَّرَسُوسِيّ، قال: سَمِعْتُ عبد الله بن مُحمَّد بن رَبِيْعَة المِصِّيْصِيّ يَقُول: حَضَرتُ أبا إسْحَاقَ الفَزَارِيَّ وابن المُبارَك، قال أبو إسْحَاق الفَزَاريّ لابن المُبارَك: يا أبا عَبْد الرَّحْمن، تركتَ ثُغُور خُرَاسَان: الوَاشَجِرْد وقَزْوِين وقد قال اللهُ تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}
(1)
، فقال: يا أبا إسْحَاق، وَجَدْتُ آيةً أَوْكَدَ من هذه، قال اللهُ عز وجل:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}
(2)
، قال: ثمّ قال: هؤلاءِ يُقَاتلونَ على دُنْيانَا، يعني: التُّرْك والدَّيْلَم، وهؤلاء يحارِبُونا على دِيْننا، يَعْني: الرُّوم، فأَيُّما أوْلَى: الذَّبّ عن دِيْننا أو عن دُنْيانَا؟ قال: لا؛ بل عن دِيْنِنَا، لا، بل عن دِيْنِنا.
وقال الحاكِم أبو عَبْد اللهِ: حَدَّثَني أبو أحْمَد بن أبي الحُسَيْن، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بنُ الفَيْضِ الدِّمَشْقِيّ، قال: حَدَّثَنَا المُسَيَّبُ بن وَاضِح، قال: أنْشَدَنا عَبْد الله بن المُبارَك رحمه الله: [من البسيط]
إنِّي أُشِيْرُ على العُزَّاب إنْ قَبلُوا
…
بأنْ يَكُون لهم مَثْوى بطَرَسُوس
الدَّار واسِعَة بالأهْلِ رافقةٌ
…
غيْظ العَدُوّ وأجْرٌ غَيْر مَحْسُوس
قَوْم إذا نَابَهُم في الحَرْب نَائِبَةُ
…
حَلُّوا الرِّبَاط فَلَم يُلْوُوا على كُوس
قَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيّ: حَدَّثَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن سَعيد بن الشَّفَق، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن أحمد أبو الطَّيِّب، قال: حَدَّثَنَا جَعْفَر بن مُحمَّد بن نُوح، قال: حَدَّثَنا يَحْيَى بن عَبْد الرَّحْمن، عن أبيهِ، قال: قال ابن المُبارَك: رأيتُ النَّبِيّ صَلَّى
(1)
سورة التوبة، من الآية 123.
(2)
سورة التوبة، من الآية 29.
اللهُ عليه وسَلَّم في المنامِ وَاضِعًا يَده على سُور طَرَسُوس، قال: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي فيها وفي أهلها.
ومن خَطِّه: حَدَّثَنَا عَبْدُ الجَبَّار بن عَبْد الصَّمَد، قال: حَدَّثَنَا أبو يَعْقُوب الأذْرَعِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو العبَّاس عَبْدُ الله بن عُبَيْدِ الله السُّلَيْمَانِيّ، قال: سَمْعْتُ أبا الطَّيِّب يقُول: حَدَّثَني بعضُ إخواني قال: قال ابنُ المُبارَك: رأيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في المَنَام، وهو وَاضعٌ يَدَهُ على حائطِ طَرَسُوس، وهو يَقُول: اللَّهُمَّ اخْلفْني على مَنْ فيها.
وقَرَأتُ بِخَطِّه أيضًا: حَدَّثَني مُحمَّد بن أحمد أبو نَصْر بن الحَمَّال، قال: سَمِعْتُ أحمد بن مُضَر؛ وهو أَبُو أبي العبَّاس بن مُضَر مُحمَّد بن أحمد يقول: كُنَّا نَسْمَعُ شُيُوخَ الثَّغر قديمًا يَقُولُونَ: لم يَسْكن طَرَسُوس فيما مضَى من الدُّهُور والأَزْمِنَة، في الكُفْر والإسْلام، إلَّا أَوْطَأ أهل زَمانِهِم، حتَّى أنَّ قَوْمًا من اليُونَانِيَّةِ سَكَنُوها، فكانوا أهْلَ سَدادٍ وصَلَاحٍ.
ونَقَلْتُ من خَطِّه: حَدَّثَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن سَعيد بن الشَّفَق البَغْدادِيّ بطَرَسُوس سنةَ خمسٍ وأربعينَ وثَلاثِمائة، قال: حَدَّثَنَا أبو الطَّيِّب مُحمَّد بن أحمد البَغْدادِيّ بطَرَسُوس سَنَة إحْدَى وتِسْعِين ومائتَين، قال: حَدَّثَنَا أبو الفَضْل جَعْفَرُ بن مُحمَّد بن نُوحٍ، قال: سَمِعْتُ مُحمَّد بن عِيسَى، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى ابن المبُارَك فقال: يا أبا عَبْد الرَّحْمن، أُريدُ أنْ أَسْكن الثَّغْر، قال: اسْكن أَنْطاكِيَة، قال: أُريدُ أنْ أتَقَدَّمَ، قال: أَذَنَةَ، قال: أريدُ أنْ أتقَدَّمَ، قال: أتُريد أنْ تكونَ في الطَّلائِع فَعَليك بطَرَسُوس.
بابٌ في ذِكْرِ حُصُون مَذْكُورَة مُجاورَة لطَرَسُوس والمِصِّيْصَة وأَنْطاكِيَة، كانت مُضافة إلى هذه المُدُن
وهي من الثُّغُور الشَّامِيَّة الّتي يَفْصِل جَبَل اللُّكَام بينها وبين الثُّغُور الجَزَرِيَّة، نَذْكُرُها عَقِيبَ ذِكْر طَرَسُوس لأنَّها الآن في أيْدِي الكُفَّار، خَذَلَهُم اللهُ، وأعادَها إلى أيدي المُسْلِمِيْن. فمنها:
ذِكْرُ أقْلِيْقية
(1)
وهي مَدِينَةٌ بين المِصِّيْصَة وأَذَنَة؛ دَاثِرَةٌ.
قَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيّ: سَمِعْتُ أبا الحَسَن عليّ بن جَعْفَر بن عُقْبَة الأَعرَابيَّ، صَاحبَ الجَيْش بطَرَسُوس، سنةَ خمسٍ وثلاثين وثَلاثِمائة، قال: سَمِعْتُ أبي جَعْفَر بن عُقْبَة رحمه الله يقُول: كان شُيُوخُنا يقُولون: إنَّ أوَّل مَدِينَةٍ عُرِفَتْ في إقليم الثَّغْر أَزَلِيَّة قبل الإسْلام مَدِينَة أقْلِيْقية، وإليها يَنْسُب عُلَماءُ الرُّوم الثَّغْر فيقُول: بَنْد أقْلِيْقية.
قال لنا أبو الحَسَن بن الأَعْرَابيّ: وقد بَقِي أثرُ هذه المَدِينَةِ دِمْنَة فيها آثارُ أبْنِيَة قَدِيْمَة، وهي عن يَمِين السَّالكِ من المِصِّيْصَة إلى أَذَنَة، بينها وبين أَذَنَة نحو مِيْلَين.
(1)
أقليقية: ويقال لها كيليكية أيضًا، مدينة قديمة ينسب إليها إقليم واسع في جنوب شرق الأناضول، حدودها جبال طوروس والبحر الأبيض المتوسط، تسمى الآن طاش إيلي Tasch Ili، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام أدناها سهل قليقية الذي يسقيه نهرا جيحون وسيحون. انظر: موستراس: المعجم الجغرافي M. Canard، EI 2، Cilicia، II، Pp 34 - 39
ذِكْرُ حِصْن ثَابِت بن نَصْر
(1)
وهو كَان (a) المَشْهُور قبل الثُّغُور وبنائها
قَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو القَاضِي: حَدَّثَني مُحمَّد بن أحمد الزّمام، قال: سَمِعْتُ عَبْد الله بن كلُرْت يقُول: ما زال أوَّلُونا يقُولُونَ: لم يُعْرَفِ الجِهَادُ فيما مَضَى في شيءٍ من أرْض الثُّغُور - يعني: طَرَسُوس، وأذَنَةَ، وعَيْن زُرْبَة - إنَّما كان حِصْن ثَابِت بن نَصْر بمَدِينَة المِصِّيْصَة في آخر أيَّام بَني أُمَيَّة، وأوَّل أيَّام بني العبَّاس، يَخْرجُ منه أرْبعمائة فَارِس صُلَحَاءُ، إذا أَقْلَبُوا (b) حَوَافِر خُيُولهم لتُنْعَلَ للغَزْوِ، قَلَبُوا بذلك قُلُوبَ بَطَارِقَةِ قُسْطَنْطِينيَّة خَوْفًا منهم وجَزَعًا.
قال: وقد غَزَا مُحمَّد بن عَبْد اللهِ أَمِير المُؤمِنِين المَهْدِيّ، رحمه الله، فلم تك هناكَ طَرَسُوس ولا أَذَنَة ولا عَيْن زُرْبَة، وإنَّما كان هذا الحِصْن لا غير.
وقَرَأتُ بِخَطِّه أيضًا حَدَّثَني أبو الحَسَن العَدْل عليّ بن الحُسَيْن الحَذَّاء، وأبو بَكْر غَانِم بن يَحْيَى بن عَبْد البَاقِي، قالا: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم يَحْيَى بن عَبْد البَاقِي،
(a) ساقطة من "ك".
(b) كتب ابن العديم في الهامش: صوابه: قلبوا.
_________
(1)
حصن ثابت بن نصر: تم بناء هذا الحصن في عهد عبد الملك بن مروان سنة 84 هـ/ 703 م؛ بناه على يد ابنه عبد الله في الموضع الذي أقيمت عليه فيما بعد مدينة المصيصة، وكان يسمى حصن ثابت، ويرد في المصادر أن الخليفة عمر بن عبد العزيز (حكم 99 - 101ھ / 718 - 720 م) أظهر الرغبة في عدم اتخاذ الحصون في الثغور، وأنه أراد هدم حصن ثابت وهدم الحصون التي بينها وبين أنطاكية، خوفًا من محاصرة الروم لأهلها، فتراجع عن ذلك بمشورة بعضهم، أو أنه توفي قبل أن يتم ذلك، ولعل تسمية الحصن بـ "حصن ثابت" كانت في وقت متأخر عن زمن بني أمية، إذ لا يعقل أن ينسب لثابت هذا في سنة 84 هـ/ 703 م وهو المتوفي بالمصيصة سنة 208 هـ/ 823 م، ويعضد هذا أن البلاذري وقدامة عندما ذكرا هذا الحصن وأنه بني في الموضع الذي أقيمت عليه المصيصة فيما بعد لم يذكرا نسبته لثابت بن نصر. انظر: البلاذري: فتوح البلدان 225، 17، قدامة، الخراج 307 وما بعدها، ابن الشحنة، الدر المنتخب 179، لسترنج، بلدان الخلافة 163، الحياري: طرسوس "مدينة الثغور الشامية".
قال: كان حِصْن ثَابِت بن نَصْر مُشَحَّنًا بالأبْدَالِ يُجَاهِدُونَ الرُّوم، منهم يُوسُف بن أسْبَاط صَاحب سُفْيان الثَّوْرِيّ، كان أدْمَنَ الصَّوْمَ بهِ فَتَوَسْوَس.
وقَرَأتُ بِخَطِّه: حَدَّثَني عليّ بن إسْحَاق صَاحب العَرْض، قال: سَمِعْتُ أبا العبَّاس بن عُبْدُوس يقول: كان ابتداءُ أمْرِ الثَّغْر، وحُصُوْل المُسْلِمِيْن به، أنَّ نَفَرًا صَالحينَ سكنُوا حِصْنَ ثَابِت بن نَصْر بالمِصِّيْصَة كثُرت غَزَواتُهُم، وتَشَمَّر الرُّوم منهم لشِدَّةِ بأْسِهم، وعِظَم نكايتهم فيهم، منهم: يُوسُف بن أسْبَاط، وعليّ بن بَكَّار، وبعْدَهم: إِبْرَاهِيْم بن أدْهَم، وعَبْدُ الله بن المُبارَكِ، وأبو مُعاوِيَة الأَسْوَد وطَبقاتهم، وَقْتًا بعد وقت منْ لا يُحْصَى عَدَدًا، إلى أنْ شُحِنَت طَرَسُوس؛ كُلّهُم أهل فَضْلٍ وجِهَادٍ.
قُلتُ: وهذا ثَابِت بن نَصْر الّذي نُسِبَ هذا الحِصْنُ إليهِ، هو ثَابِت بن نَصْر بن مَالِك بن الهَيْثَم بن عَوْف الخُزَاعِيّ، أَخو أحمد بن نَصْر الشَّهِيْد
(1)
، وكان فيه دِيْنٌ، وله حُسْن أثر في جِهَاد الرُّوم، ووَلِي الثُّغُور الشَّامِيَّة، وَسَنَذْكُر حَاله ونَسبَهُ في تَرْجَمَتِهِ
(2)
إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
(1)
يُعرف بالشهيد لأن الواثق قتله سنة 231 هـ لقوله بأن القرآن غير مخلوق، وكان أحمد من أهل العلم والديانة؛ يغشاه أهل الحديث، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. انظر عنه: الطبري: تاريخ 9: 135 - 140، الأزدي: تاريخ الموصل 178، 341، المسعودي: مروج الذهب 4: 376، الثقات لابن حبان 8: 14، ابن الأثير: الكامل 7: 20، سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 14: 413 - 418، النويري: نهاية الأرب 22: 265، ابن كثير: البداية والنهاية 10: 303، 305، (وخلط ابن كثير بين أحمد هذا وأبيه نصر)، الصفدي: الوافي بالوفيات 8: 212، الذهبي: تاريخ الإسلام 4: 488.
(2)
ترجمته في الضائع من الكتاب، وانظر عنه وعن ولايته في الثغور وجهاده: اليعقوبي: تاريخ 2: 313، 319، الطبري: تاريخ 8: 340، المسعودي: التنبيه والإشراف 190، 195، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب 236 (وفيه سياقة نسبه)، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 8: 15، وابن عساكر: تاريخ 56: 516، ابن الجوزي: المنتظم 10: 182، ابن الأثير: الكامل 6: 208، الذهبي: تاريخ الإسلام 5: 43، الصفدي: الوافي بالوفيات 10: 463، ابن كثير: البداية والنهاية 10: 303.
ذِكْرُ حِصْن عُجَيْف
وهذا الحِصْنُ يُنْسَبُ إلى عُجَيْف بن عَنْبَسَة من أكابر القُوَّاد، ومَنْ له بأْسٌ ونَجْدةٌ في الجِهَادِ، وكان من قُوَّاد المأْمُون، ودَخلَ معه إلى بلادِ الرُّوم، وَسَنَذْكُره
(1)
إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالَى.
قَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيّ في ذِكْر حُصُون طَرَسُوس: ذِكْرُ حِصْن عُجَيْف وأبْرجَته، رَسْم هذا الحِصْن: أميرٌ، وأرْبعةُ فُرْسَانٍ، وثلاثةُ حُرّاس، وثلاثة رَجَّالة، وخَطِيب. رِزْق الأَمِير عشرة دنانير، ورَسْم كُلِّ فَارِس دِيْناران، والرّجَّالَة والحَرَس دِيْنار دِيْنار، والخَطِيب دِيْناران.
بُرْج الوَصِيْفِيّ: ثمانية رِجَال، للرَّئيس دِيْنار وسُدُس، وللرَّجَّالَة دِيْنار دِيْنار.
بُرْج المنشا: ستَّة نَفَرٍ، رئيس بدِيْنارٍ وسُدُس، ولكُلِّ رَاجِل دِيْنار.
بُرْج المَقْطَع: خَمْسَة عَشر رَجُلًا، الرَّئيس دِيْنار وسُدُس، ولكُلِّ رَاجل دِيْنار.
بُرْج الجَزيرِيّ: سبعَة نَفَرٍ، الرَّئيس بدِيْنار وسُدُس، ولكُلِّ رَاجِل دِيْنار.
(1)
ترجمته في الضائع من الكتاب، توفي سنة 223 هـ، وانظر عنه: ابن خياط: تاريخ 476، ابن طيفور: كتاب بغداد 184، 186، الطبري: تاريخ 8: 628، 9: 9 - 10، 57، المسعودي: التنبيه 355، ومروج الذهب 4: 340، 357، الأزدي: تاريخ الموصل 408، 417، مجهول: العيون والحدائق 3: 375 - 376، 391، ابن الجوزي: المنتظم 11: 42، 50، 78، 85 - 86، ابن البطريق التاريخ المجموع 60، ابن الأثير: الكامل 6: 421، 444، 481، مارميخائيل: تاريخ 3: 40 - 41، 58، ابن العبري: تاريخ الزمان 27، تاريخ مختصر الدول 234، الذهبي: تاريخ الإسلام 5: 246، 254، ابن وادران: تاريخ العباسيين 481، ابن خلدون: العبر 5: 630، 647 - 648، 8:38.
ذِكْرُ حِصْنُ شَاكِر
وهو قريبٌ من طَرَسُوس، يُنْسَبُ هذا الحِصْن إلى شَاكِر بن عَبْد اللهِ أبي الحَسَن المِصِّيْصِيّ، وكان من الغُزَاة المذكُورين، والمُحَدِّثِيْن المَشْهُورين، وَسَنَذْكُر تَرْجَمَتهُ في بابه
(1)
إنْ شَاءَ اللهُ.
ذِكْرُ حِصْن الجَوْزَات
(2)
وبينَهُ وبين طَرَسُوس ثمانية فَرَاسِخ، وهو بين البَذَنْدُونَ
(3)
وطَرَسُوس، وبينه وبين البَذَنْدُون اثنا عَشر مِيْلًا، وهو حِصْن مَذْكُور، مَوْصُوف بالقُوَّة.
وَقَفْتُ على فَصْلٍ في ذِكْره بخَطِّ أبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيّ في سِيَرِ الثُّغُور، فنَقَلْتُهُ على حالهِ وصُورته: رَسْم هذا الحِصْن: أميرٌ، وخَلِيفَةٌ ينوب عنْهُ، وخَطِيب، وقَيِّم للدَّار، وصَاحب الحَمَّام، وكاتب، وَمِطْرَديان، وبُوْقِيٌّ، وبَوَّابٌ.
(1)
ترجمته في الضائع من الكتاب، ولم أقف له على ذكر في المتاح من المصادر.
(2)
حصن الجَوْزات: يرد ذكره في وصف الطريق النافذ إلى بلاد الروم، بين البذندون وطرسوس، ويبعد عن طرسوس مسيرة يومين، ويبدو أن هذا الحصن - وإن كان في حوزة المسلمين حتى مطلع القرن الرابع الهجري - إلا أنه قليل الأهمية لقلة ذكره في المصادر. وتسميته العربية بهذ الاسم نسبة إلى شجر الجوز الذي يكثر في الجبل المشتمل على الحصن. انظر: الإصطخري: مسالك 68، وفي نسخة أخرى منه "حورات"، ابن حوقل: صورة الأرض 188 وفي نسخة أخرى "الحوزات"، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 653.
(3)
البَذندون: بلدة تقع شمال مدينة طرسوس على مسيرة يوم منها، وهي طيبة الموضع كثيرة الخضرة، وفيها عين ماء تسمى عين العشيرة (وعند الحميري: القشرة)، ويبدو أن هذه القرية لم تكن معمورة في القرون الثلاثة الأولى، والإشارات الجغرافية عنها قليلة سوى ما يرد عنها في خبر وفاة المأمون بها سنة 218 هـ. انظر: الطبري: تاريخ 8: 646، المسعودي: مُروج الذَّهب 4: 299، 340 - 343، المسعودي: التنبيه 351، ابن البطريق: التاريخ المجموع 59، العظيمي: تاريخ حلب 110، ابن الأثير: الكامل 6: 428، ياقوت: معجم البلدان 1: 361 - 362، ابن العبري: تاريخ مختصر 234، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 76، الذهبي: تاريخ الإسلام 5: 251، الحميري: الرَّوض المعطار 85.
ذِكْرُ حِصْن الجَوْزَات
وفي جَبَل هذا الحِصْن شَجَر جَوْز مُثْمر، مسافَتُه ثلاثة أمْيَال في عَرْض مِيْل، فإذا حَان إدْراكُه، خَرَجَ وَالي الجَوْزات وَجَميع رَجَّالته، إلَّا مَنْ يَضْبطُ الحِصْن من الثِّقات، فينفضُون الجَوْز أيَّامًا، وضَمَّ كُلّ واحدٍ ما نَفَضَه، وَعَدَّ بالإحْصاء ما حصل، فَدفعَ إلى الوالي من كُلِّ عَشرة آلاف جَوْزَة ألف جَوزة، وأمْسَك لنفسه تسْعَة آلاف، فيَجْتَمع للوَالي - أعْني: والي الجَوْازَات - من ذلك خَمْسمائة ألف جَوزَة وأكثر، وممَّا يَنْمَحِقُ من ذلك بالمُسَامحة فيه عند ضَمِّه مَعَ ما تَعَذَّر نَفْضُه، لبُعْدِ فرُوع أشجاره، وتَعَذُّر وُصُول النَّاسِ إليهِ، أكثر ممَّا وَصَفْت، فتَمْتَلئ بُيوت الجَوْزَانيِّينَ كُلّهم من الجَوْز؛ يَرْتَفِقُونَ به مُدَّة أيَّام الشِّتَاءِ، ويتَهادوْنَهُ إلى طَرَسُوس، إلى ذِي مودَّاتِهم وقَرَاباتِهِم.
وفي فَضَاءٍ من عَمَل الجَوْزَاتِ مَنْبِت للأُشْنَانِ
(1)
الزِّبَطْريّ، فإذا تناهَى إدْراكه ضَمُّوه، وارْتَفَقُوا بهِ من هَدِيَّةٍ وبَيْعٍ واسْتعمال.
وفي هذا الجَبَل أشْجار مَخْصُوصَة بأوْكَار البُزَاةِ يَعْتادُهَا قَوْم من الجَوْزَانيِّيِن، فإذا فرَّخَ في وَكْره، تعهَّدَهُ الطَّالبُ له بالتَّفَقُّد وتردَّد إليه، حتَّى إذا صَلَح، تَلَطَّف بحيْلَةٍ في نَقْل الفِرَاخ، ودَبَّر تَربيتها، وتكلَّف حملَها إلى طَرَسُوس، وربَّما بيْعَ الواحد بمائةٍ وخَمْسين دِرْهمًا، فيَسْتَحيل إلى الفَرَاهَةِ إذا عُلِّم وضُرِّي، فبلَغ خَمْسمائة دِرْهَم وأكثر.
(1)
الأشنان: يتخذ من نبات الحَمض وقيل: الحرض؛ تغسل به الأيدي والثياب لإزالة الدهن والمرق والودك وما أشبهه. لسان العرب، مادتي: أشن، حرض.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبهِ تَوفِيْقِي
وفي جَبَلها أيضًا عَقَّار يُعْرَفُ بالغَارِيْقُون
(1)
يُحْمَلُ منه إلى أكْثَر الأقالِيْمِ.
حَدَّثَني أبو مُحمَّد عَبْدُ الله بن أبي مَرْوَان المَعْدَانِيّ، وهو الأفْطَسُ، وهو ممَّن رَابَط وجَاهَدَ في حِصْن الجَوْزات ثلاثين سنةً، أنَّهم أُخْرِجُوا في فَاثُور
(2)
، فوجَدَ أحَدُهُم شيئًا من الغَارِيْقُون، فرفعَه في مِئْزَر معَهُ، ثمّ وجَدُوا ماءً يَنْبُع من عَيْن، فعرَّسُوا عليها، وأخْرجُوا زَادَهُم، ورفعُوا الغَارِيْقُون من المِئْزَر في مِزْوَد معٍ أحَدِهِ، وبَلُّوا كَعْكًا معَهُم بذلك بالماء البارد، ولَفُّوه في المِئْزَر، وسَار ثلاثةٌ أو أربعةٌ منهم يَتَجَسَّسُونَ مكانهم لئلَّا يُعْلَم بمكانهم، فتَناول صاحبُهُم شيئًا من الكَعْكِ المَبْلُولِ، فنالَ منه، وأبْطَأَ أُولئك، فعَمِل الغَارِيْقُون المُلْتَصِق بالمِئْزَر في طَبعْ الرَّجُل، وتَرَدَّد
(3)
واخْتَلَف، فَوافاه أصْحَابُهُ وقد تَرَدَّد نحو مائتي طَرِيقٍ، وحِيْلَ بينَهُ وبين القُوَّة والحَرَكَة، فرأوا أنْ قَطَعُوا دَهْقَين
(4)
، وجَعلوا صاحبَهُم في عَبَاءٍ، وحَمَلُوه بينَهُم إلى الجَوْزَاتِ، فعُوْلِج وعُوفِي، فباعَ ما كان معَهُ من الغَارِيْقُون بجُمْلَةٍ جَامِلَةٍ.
وَمَا وَطِئ هذا الحِصْنَ منذ ملكَه المُسلِمُونَ وشَيَّدُوه إمْرَاةٌ، ولا أُطْلقَ لأحَدٍ أنْ يَدْخُل بغُلامٍ أمْرَد، إلى أنْ أُخْرج عنها المُسلِمُونَ، وإنَّما يُخْتار لها أهل القُوَّة والبَأْس، ومَنْ يُعاني أعْمَال السِّلَاح المُخْتلفَة كالثِّقَاف بالسَّيْف والرُّمْح، والرَّمي عن القِسِيّ الفَارِسيَّةِ، وقِسِيِّ الرِّجْل، من أبْنَاءِ أرْبَعين وما زاد وما نقَصَ، فإذا حضَر الغَزْوُ فقد رُسِمَ الجَوْزَانيُّونَ يومًا في سَاقة عَسْكَرِ
(1)
الغاريقون: نوع من الفطر يظهر على بعض أشجار تلك المنطقة خصوصًا السرو (الشربين)، ويستخدم كدواء مُسهل، نافع لأمراض عديدة كوجع الكبد والكلى والمغص والصرع والربو وعسر البول. ابن البيطار: الجامع 3: 146 - 147.
(2)
الفاثور: الجماعة في الثغر الذين يذهبون خلف العدو في الطَّلب أو التجسُّس. تاج العروس، مادة: فثر.
(3)
التَّرَدُّد: كثرة الذهاب لقضاء الحاجة.
(4)
الدَّهَقُ: خشبتان يُغْمَز بهما الساق. لسان العرب، مادة: دهق.
المُسْلِمِيْن، ويومًا في مُقَدِّمته بأحْسَنِ الزَّي، وأَجْمَلِ الأحْوالِ، وأكمل العُدَّة، شَامةً في النَّاس.
ذِكْرُ تلّ جُبَيْر
(1)
وهو من عَوَادِل الثُّغُور الشَّامِيَّة على ما ذكَرهُ أحمد بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ في كتابهِ، وقال: ومن طَرَسُوس إلى تلَّ جُبَيْر اثنا عَشر مِيْلًا.
وقَرَأتُ في كتاب البُلْدان، تأليفُ أحمد بن يَحْيَى البَلاذُرِيّ
(2)
، فيما نَقَلَهُ عن أشْيَاخ الثَّغْر، قالوا: وتلّ جُبَيْر نُسِبَ إلى رَجُلٍ من فُرْسِ أَنْطاكِيَة، كانت لهُ عندَهُ وَقْعَةٌ، وهو من طَرَسُوس على أقلِّ من عَشرة أمْيَال.
ذِكْرُ حِصْن أُوْلاس
(3)
ويُقالُ لهُ: حِصْن الزُّهَّاد
وهو على ساحل البَحْر، ومنهُ أبو الحَارِث فَيْض بن الخَضِر بن أحمد التَّمِيْمِيّ الأُوْلاسيّ، أحَدُ الأوْلِيَاءِ المَشْهُورين، وَسَنَذْكُر تَرْجَمَتهُ في بابها
(4)
إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
(1)
لا تقدم المصادر الجغرافية أكثر مما أورده ابن العديم في تحديد حصن تل جبير. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 100، البلاذري: فتوح 174، ياقوت: معجم البلدان 2: 41، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 36، ابن الشحنة: الدر المنتخب 187.
(2)
فتوح البلدان 233.
(3)
حصن أولاس: حصن منيع بالثغور الشامية على ساحل البحر، يقع في أقصى الغرب، ويبعد عن طرسوس مسيرة يومين، وكان هذا الحصن هو آخر ما بيد المسلمين من المواضع المعمورة على بحر الروم. انظر: الإصطخري: مسالك 64، ابن حوقل: صورة الأرض 184، 188، مجهول: حدود العالم 176، الإدريسي: نُزهة المُشتاق 2: 647، 652 وقيده بالشين المعجمة "أولاش"، ياقوت: معجم البلدان 1: 282، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 36.
(4)
ترجمته في الضائع من الكتاب، وذكره في الكني:"أبو الحارث الأولاسي"، وترجم لزاهد آخر من زهاد الحصن، اسمه:"أبو نصر الأولاسي"، أما الفيض بن الخضر بن أحمد، أبو الحارث الأولاسي=
وقال أبو زَيْد أحمد بن سَهْل البَلْخِيّ، في كتاب صُورة الأرْض والمُدُن وما تَشْتمل عليهِ
(1)
: وأُوْلاسُ حِصْنٌ (a) على سَاحل البَحْر، بها قَوْمٌ مُتَعَبِّدُون، وهو آخِرُ ما على بَحْر الرُّوم من العِمَارَة للمُسْلِمينَ.
ذِكرُ الهَارُوْنِيَّة
(2)
قال أبو زَيْد البَلْخِيّ في كتابهِ
(3)
: والهَارُوْنيَّة غَرْبِيّ جَبَل اللُّكَام في بعض شِعَابِهِ (b)، وهو حِصْنٌ صغِيرٌ، بناها هارُون الرَّشِيد، فَنُّسِبَتْ إليهِ.
وقال أحمد بن الطَّيِّب في المَسَالِك والمَمَالِك: ومن عَوَادِل الثُّغُور الشَّامِيَّة: الهَارُوْنِيَّة، كَنِيْسَة السَّوداء، تلّ جُبَيْر.
(a) البلخي: حُصين.
(b) في مخطوط البلخي: "والهارونية من غربيها جبل اللكام في بعض شعابها"، وهو تحريف من الناسخ، صوابه المثبت، وانظر شبيهه عند الإصطخري: مسالك 63.
_________
= الزاهد (ت 297 هـ/ 910 م) فهو من الأولياء والزهاد المعروفين وأحد مشايخ الطريق، نزل طرسوس ومات بها. انظر ترجمته في: تاريخ ابن عساكر 49: 24 - 31، ابن الجوزي: صفة الصفوة 4: 281 - 383، المنتظم 13: 98، ابن الأثير: الكامل 8: 59، وفيه بالمعجمة:"الأولاشي"، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 3: 171، الذهبي: تاريخ الإسلام 6: 41، 646، 998.
(1)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 ب.
(2)
الهارونية: حصن صغير في آخر حدود الثغور الشامية مما بتصل بالثغور الجزرية، يقع إلى الشمال الشرقي من مدينة سيس، ويقوم على قمة جبل في غربي جبل اللكام (جبال طوروس الداخلية) في بعض شعابه، بناه هارون الرشيد سنة 183 هـ / 799 م فنسب إليه، وبينه وبين الكنيسة السوداء 12 ميلًا. وموضعه اليوم غير معروف على وجه الدقة لكنه في الجبال بين مرعش وعين زربة، وربما كان الحصن أقرب لمرعش اعتمادًا على قول ياقوت إن الهارونية ربضٌ لمرعش. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 100، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة. الخراج 186، 311، الإصطخري: مسالك 63، 68، ابن حوقل: صورة الأرض 165، 182، مجهول: حدود العالم 175، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 653، ياقوت: معجم البلدان 5: 107، 388، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 36، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، أبو الفداء: تقويم البلدان 235، لسترنج: بلدان الخلافة 161 - 162.
(3)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 أ - 24 ب.
وذكَر أحمد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب، في كتاب البُلْدان، قال
(1)
: والثُّغور الشَّاميَّة: مَدِينَة عَيْن زُربَة، والهَارُوْنِيَّة، والكَنِيسَة المُحتَرِقة.
قال: وبَنَى الهَارُوْنِيَّة الرَّشِيد في أيَّام المَهْدِيّ، وهو وَلِّي عَهْد.
قال البَلاذُرِيّ
(2)
: ثمّ لَمّا كانت سَنة ثلاثٍ وثَمانين ومائة أمَرَ - يعني الرَّشِيد - ببناء الهَارُوْنِيَّة، فبُنِيت وشُحِنَت أيضًا بالمُقَاتِلَة ومَنْ نَزَع (a) إليها من المُطَّوِّعَة، ونُسِبَت إليه، ويقال إنَّه بناها في خِلافة المَهْدِيّ، رحمة الله عليه، ثمّ أُتِمَّت في خِلَافَته.
ذِكْرُ الإسْكَنْدَرُونَة
(3)
وهو حِصْنٌ بَنَتهُ أُمّ جَعْفَر زُبَيْدَة بنت جَعْفَر بن المَنْصُور أُمّ الأَمِيْن، وجَدَّدَ بناءه أحمد بن أبي دُؤَاد، وهو على سَاحِل البَحْر.
(a) فتوح البلدان: نزح.
_________
(1)
لم يرد في كتاب البلدان اليعقوبي ولا في تاريخه.
(2)
فتوح البلدان 234 - 235.
(3)
الإسكندرونة Iskenderoun: وسمَّاها اليعقوبيّ: باب إسكندرونة، كانت إحدى مدن الثغور الشامية من جند قِنِّسرين، تقع على خط العرض 36.37 والطول 36.07 على ساحل البحر الشّاميّ قرب أنطاكية، وهي إلى الشمال من بغراس وأنطاكية في الجزء الجنوبي من الخليج الذي يسمى باسمها، وتشكل الإسكندرونة اليوم إحدى ولايات الجمهورية التركية. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 99، اليعقوبي: البلدان 363، المسعودي: مُروج الذَّهب 1: 142، الإصطخري: مسالك 63، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 182، 188، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 646، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 1: 182، أبو الفداء: تقويم البلدان 254 - 255، الحميري: الرَّوض المعطار 56، موستراس: المعجم الجغرافي 61،، J . H . MordtMann ، EI skandarûn، IV، p 138
قال ابن وَاضِح الكَاتِب
(1)
: تَهْبط من جَبَل اللُّكَام إلى مَدِينَة على سَاحِل البَحْر الأخْضَر يُقالُ لها الإسْكَنْدَ [رُونَة](a)، بناها ابن أبي دُؤَاد الإيَادِيّ في خِلَافَة الوَاثِق.
وقال أبو زَيْد البَلْخِيّ
(2)
: والإسْكَنْدَرُونَة (b) حِصْن على سَاحِل البَحْر للرُّوم (c)، وهي صَغِيرةٌ بها نَخيل.
وقال أبو عَمرو (d) القَاسِم بن أبي دَاوُد الطَّرَسُوسِيّ في مُزْدَوَجَته: [من الرجز]
الإسْكَندرونَ (e) حِصْنُ أُمّ جَعْفَر
…
وَرَدْتُ يَومَ الجُمُعَة المُطَهَّرِ
كم من شَهيدٍ عنْدَهم في المَقبَرِ
…
ومن خَبَايا من طِيَابِ الثَّمَر
وفَسَّرَهُ بأنْ قال: بَنَتْهُ أُمّ جَعْفَر يعني: زُبَيْدَة.
قال البَلاذُرِيّ قي كأب البُلْدان
(3)
: وكانت الإسْكَنْدَرُونَة (f) له - يعني لمَسْلَمَة بن عَبْد المَلِك - ثمّ صارَت لرَجَاء مَوْلَى المَهْدِيّ إقْطَاعًا، فَورَثَهُ مَنْصُورُ وإبْرَاهِيمُ ابْنَا المَهْدِيّ، ثمّ صارَتْ لإبْرَاهِيم بن سَعيد الجَوْهَرِيّ، ثمّ لأحمد بن أبي دُؤَاد الإيَادِيّ ابْتِيَاعًا، ثمّ انْتَقَل ملكُها إلى المُتَوكِّل على اللّه.
(a) في الأصل: الإسكند، والمثبت من ((ك)).
(b) في مخطوط البلخي: الإسكندرية، تحريف.
(c) البلخي: على ساحل بحر الروم.
(d) كناه في هذا الموضع بأبي عُمَر، مضبوطًا بالحرف، وقد تكرر ذكره فيما مضى وسيرد أيضًا في مواضع عديدة على الكُنية المثبتة.
(e) في الأصل وك: والإسكندرون.
(f) في نشرة الفتوح: الإسكندرية، تحريف.
_________
(1)
لم يرد في المتبقي من كتاب البلدان لليعقوبي ولا في تاريخه.
(2)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 ب.
(3)
فتوح البلدان 202.
ذِكْرُ بَيَّاس
(1)
وهي مَدِينَةٌ على البَحْر، خَرَجَ منها جَمَاعةٌ من الرُّوَاةِ، وبينها وبين الإسْكَنْدَرُونَة عشرَة أمْيَال، وبينها وبين فُنْدُق حُسَين خمسَة عشر مِيْلًا، وهذا الفُنْدُق في مَرْجٍ يُقالُ لَه: مَرْج حُسَين
(2)
؛ مَنْسُوب إلى حُسَين بن سُلَيم الأنْطاكي، كانت له بهِ وَقْعة مع العَدُوِّ، وَسَنَذكُره
(3)
إنْ شَاءَ اللّهُ.
وقال أبو زَيْد أحْمَد في سَهْلٍ البَلْخِيّ
(4)
: وبَيَّاسٌ مَدِينَةٌ صغِيرَةٌ على شَاطِئ بَحْرِ الرُّوم، ذات نَخيلٍ وزُرُوع خِصْبَة.
ذِكْرُ أَيَّاس
(5)
قد ذَكَرنا أنَّ الشَّيْخ الجُرْهمُيّ
(6)
ذَكَرَ لمُعاوِيَة أنَّ يَاوَان بن يَافِث وَلَدَ أَيَّاس، فعُرِفَ المكان الّذي حَلَّه باسْمِهِ.
(1)
بياس Payass : مدينة صغيرة على ساحل البحر الشامي، من مدن جند قِنّسرين بالثغور الشامية، تقع على خط العرض 36.47 والطول 36.10 إلى الشمال من مدينة الإسكندرونة قرب جبل اللكام، وهي فرضة مدينة سيس على ساحل البحر. وزعم الوطواط أنها ذاتها (أياس) وأنه يقال لها أيضا: أياز، وأخطأ ياقوت في تحديد مرقعها فقال:"مدينة شرقي أنطاكية وغربي المصيصة"، والصواب: شمالي أنطاكية وإلى الجنوب الشرقي من المصيصة. انظر: قدامة: الخراج 186، الإصطخري: مسالك 63، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 188، مجهول: حدود العالم 175، المقديسي: أحسن التقاسيم 154، الإسكندري: الأمكنة 1: 194، ياقوت: معجم البلدات 1: 517، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 3: 37، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، موستراس: المعجم الجغرافي 309.
(2)
مرج حسين: واد بالثغور الشامية. ياقوت: معجم البلدان 5: 100.
(3)
ترجمته في الضائع من الكتاب، ولم أقف على ذكره سوى ما أورده ياقوت في معجمه مُعرِّفًا بمرج حسين، ولم يزد على ما ذكره ابن العديم، ولعله أخذ الإفادة منه.
(4)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 34 ب، وجاء فيه مهملة.
(5)
أيَاس Ayass: مدينة من الثغور الشّامية، تقع قرب بياس في سفح جبل اللكام على شاطئ البحر الشامي، والمعلومات عنها عزيزة، وسمَّاها موستراس "عَياس"، وأنها تقع ضمن لواء أضنة على خليج الإسكندرونة. انظر: المسعودي: مُروج الذَّهب 1: 142، موستراس: المعجم الجغرافي 367.
(6)
هو عبيد بن شريه، تقدم ذكره في الكلام على المصيصة.
قُلتُ: وأَيَّاس مَدِينَة إلى جانب بَيَّاس على شَاطِئ بَحْر الرُّوم، من الثُّغُور الشَّامِيَّة، هي الآن في يد الأرْمَن أيضًا.
ذِكْرُ التِّيْنَات
(1)
وهو حِصْنٌ على شاطِئ البَحْر بين بَيَّاس والمِصِّيصَة، أقام به أبو الخَيْر التِّيْنَاتِيّ فنُسِبَ إليهِ.
قال أبو زَيد البَلْخِيّ
(2)
: والتِّيْنَاتُ حِصْنٌ على شاطئ البَحْر أيضًا، فيه يُجْمع خَشَبُ الصُّنَوبَر الَّذي يُنْقل إلى الشَّامات، وإلى مِصْر، وإلى الثُّغُور.
ذِكْرُ المُثَقَّب
(3)
وهو حِصْنٌ على سَاحِل بَحْر الرُّوم.
قال أبو زيد البَلْخِيّ
(4)
: والمُثَقَّب حِصْنٌ (a) صَغِيرٌ، بناهُ عُمَر بن عَبْد العزِيْز رحمه الله بها مِنْبَرٌ وَمَسْجِدٌ ومُصْحَفٌ (b) .
(a) البَلْخِيّ: حصين.
(b) البَلْخِيّ: به منبر ومصحف له. ولم يرد عنده ذكر المسجد.
_________
(1)
التينات: كانت حصنًا منيعًا من حصون جند قسرين، تقع على شاطئ البَحْر قرب المصيصة بينها وبين بياس. انظر: الإصطخري: مسالك 63، ابن حوقل: صورة الأرض 182، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 646، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 68، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 37.
(2)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة 24 ب، وفيه محرفةً: البنيات.
(3)
المُثَقّب: حصن يقع إلى الغرب من التينات عند انعطافة ساحل البَحْر نحو الغرب، وفسر ياقوت سبب تسميته بهذا الاسم لأنه في جبال كلها مثقبة وفيها كوي كبار، وموضعه اليوم غير معروف على وجه التحديد، لكنه في لحن جبال طوروس الداخلية قرب المصيصة، ويبدو أن موضع هذا الثغر كان مسکونًا أيام الروم، وأن عمر بن عبد العزيز أو هشام بن عبد الملك أعاد بنائه وتحصينه، للرواية التي أوردها البلاذري - أعلاه - من أن المهندسين حين شرعوا في البناء وجدوا عظم ساق مفرط الطول فبعثوا به لهشام لطرافته. انظر: قدامة: الخراج 309، المسعودي: مُروج الذَّهب 1: 142، الإصطخري: مسالك 63، ابن حوقل: صورة الأرض 182، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 646، الإسكندري: الأمكنة 2: 456، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 5: 54، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 37، لسترنج: بلدان الخلافة 162.
(4)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة 24 ب.
قال البَلاذُرِيّ
(1)
: وكان الَّذي بني حِصْن (a) المُثَقَّب هشام بن عَبْد المَلِك على يد حَسَّان بن مَاهُوَيه الأنْطَاكِيّ، ووُجِدَ في خَنْدَقه حين حُفِرَ عَظْم سَاق مُفرط الطُّول، فبُعِثَ بِه إلى هِشَام.
ذِكْرُ سِيْسِيَّة
(2)
ويُقالُ لها: سِيْس، وهي مَدِينَة قريبَة من عَيْن زُرْبَة، وهي الآن مُسْتَقَرّ ملك الأرْمَن، خَذَلَهُمُ اللهُ.
ولم يكن لها فيما مَضَى كبير ذِكْر، غيرَ أنَّ أحْمَد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ ذكرها في كتاب البُلْدَان، وقال
(3)
: قال مُحمَّدُ بن سعَد، بَعد أنْ أسنَد عنه، فقال: حَدَّثَنِي مُحمَّد بن سعد، قال: حَدَّثَنِي الوَاقِدِيّ، قال: جَلا أهل سِيْسِيَّة ولحقُوا بأعالي (b) الروم في سَنة أربعٍ أو ثلاث وتِسعين (c) ، وسِيْسِيَّة مَدِينَةٌ تلي عَيْن زُرْبَة، وقد عُمرت سِيْسِيَّة في خِلَافَة المُتَوكِّل على يدي عليّ بن يَحْيَى الأرْمَنيّ، فنزلُوها، ثمّ أخربتها الرُّوم، ثمّ عمرها فَارس بن بُغَا الصغَّير في خِلَافَة أحْمَد المُعْتَمِد على الله في سَنَة سِتِّينَ ومائتين، أو سنَة تسعٍ وخَمْسين ومائتين، وأَنْفَق عليها من مَالِه بسَبَب نَذْرٍ كان عليه، وجَرَت عِمَارتُها على يَدي مَكِين الخَادم.
(a) فتوح البُلْدَان: الَّذي حَصَّن.
(b) فتوح البُلْدَان: بأعلى.
(c) كتب: ومائة، ثمّ ضبَّب عليه.
_________
(1)
فتوح البُلْدَان 228.
(2)
سيس: Siss مَدِينَة تركية، كانت تُعد قاعدة الثُّغُور الشَّامِيَّة، ويقال لها "سِيْسِيَّة"، وتقع على خط العرض 37.27 والطول 39.49 وهي بالقرب من مَدِينَة عين زربة على نهر جيحان، وتبعد نحو 65 كم إلى الشمال الشرقي من مَدِينَة أذنة، وتبعد عن المصيصة 24 ميلًا، وتسمى أيضًا كوزان Kozan . انظر: ياقوت: مُعْجَمُ البُلْدَان 3: 297، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 37، الوطواط: مناهج الفكر 1: 362، أبو الفداء: تقويم البُلْدَان 257، موستراس: المعجم الجغرافيّ 313، زكرياء: جولة أثرية 38، V. F. Buchner، EI 2: Sis، IX، Pp 678 - 679
(3)
فتوح البُلْدَان 233، وقوله: "ثمّ عمرها فارس
…
مكين الخادم" لم يرد في نشرة الفتوح. وليس من كلام ابن العديم وإلا سبَّق له بكلمة "قلت" على عادته عندما يستكمل كلامًا أو يصوّب نقلًا ما.
ذِكْرُ حِصْن ذِي الكِلَاع
(1)
قال البَلاذُرِيّ
(2)
، فيما حَكاه عن شُيوخ الشَّام: قالوا: والحِصْن المُعْرُوف بذي الكِلَاع إنّما هو الحِصْن ذو القِلَاع، لأنَّهُ على ثلاث قِلاعٍ فَحُرِّف اسْمُه، وتَفْسِير اسْمُه بالرُّومِيَّةِ: الحِصْن الَّذي مع الكواكب (a).
ذِكْرُ حِصْن قَطْرَغاش
(b)
قال أحْمَد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ
(3)
: وبني هِشَام حِصْن قَطْرَغاش على يدي عَبْد العَزِيز بن حَيَّان الأَنْطَاكِيّ.
قُلْتُ: وهذا الحِصْن بين أَنْطَاكِية والمُثَقَّب.
ذِكْرُ حِصْن مَوْرَه
وهو في جَبَل اللُّكَام، قال البَلاذُرِيّ
(4)
: وبَنَي هِشَام أيضًا حِصْن مَوْرَه على يدي رَجُلٍ من أهل أَنْطَاكِية، وكان سَبَبُ بنائهِ إيَّاه، أنَّ الرُّوم عَرَضُوا لرَسُول لَهُ في دَرْب اللُّكَام عند العَقَبَة البَيضَاء. ورَتَّب فيه أربعين رَجُلًا وجَمَاعة من الجُرَاجمَةِ، وأقامَ (c) ببَغْرَاس مَسْلَحَةً في خمسين رَجُلًا، وابْتَنَى لهم حِصْنًا.
(a) عند ابن خرداذبه: المسالك: 108 اسمها بالرومية: جُسَسْطَرُون، ومعناه: مناغية الكوكب.
(b) كتب اسم الحصن مهملًا حيثما يرد، والإعجام من فتوح البُلْدَان، مصدر النقل.
(c) فتوح: وقام.
_________
(1)
حصن ذي الكلاع: يقع هذا الحصن قرب المصيصة، وذكر المسعودي أن اسْمُه بالرومية: كوبسطرة، ويبدو أن الحصن تعرض للخراب والتدمير فهُجر منذ وقت مبكِّر، فلم يرد ذكره ضمن الحصون التي تعرضت للاعتداءات أثناء الغزوات أو مهاجمة الرُّوم للمنطقة. انظر إضافة لما أورده ابن العديم نقلًا عن البلاذري: ابن خرداذية: المسالك 108، المسعودي: التنبيه والإشراف 178، ياقوت: مُعْجَمُ البُلْدَان 2: 265.
(2)
فتوح البُلْدَان 233.
(3)
فتوح البُلْدَان 228.
(4)
فتوح البُلْدَان، وفيه بالضم: مُوْرة.
ذِكْرُ حِصْن بُوْقَا
(1)
وهو حِصْنٌ من عَمَل أَنْطَاكِيَة، يُنْسَب إليهِ بعضُ أهلِ الحَدِيث، وله كُورَة تُنْسَب إليهِ.
قال أحْمَد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ
(2)
: وبنى هِشَامٌ - يعني ابن عَبْدِ المَلِك - حِصْنَ بُوْقَا من عَمَل أَنْطَاكِيَة، ثمّ جُدِّدَ وأُصْلِحَ حَدِيثًا، وبنَى مُحمَّدُ بن يُوسُف المَرْوَزِيّ المَعْرُوف بأبي سَعيد حِصْنًا بِسَاحِل أَنْطَاكِيَة، بَعدَ غَارة الرُّوم على سَاحِلها في خِلَافَة المُعْتَصِم.
ذِكْرُ الصَّخْرَة
وهي بقُرب أَنْطَاكِيَة، وقيل: هي الّتي ذَكَرها اللهُ في القُرْآن بقَولِه تعالَى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ}
(3)
.
وقد ذَكَرها أبو زَيْد البَلْخِيّ في ذِكُر المُدُن والحُصُون عَقِيب ذِكْر أَنْطَاكِيَة، فقال
(4)
: وأمّا الصَّخْرَة فإنَّها تُعرَفُ بصَخْرَة مُوسَى بن عِمْرَان [ويقالُ إنَّ موسي اجتَمَع مع الخِضْر عليهما السلام](a) في هذا المَوضع.
(a) زيادة من البَلْخِيّ ليستقيم المُراد.
_________
(1)
بُوْقَا: بلدة من العواصم، تقع إلى الجنوب من قورس وإلى الشمال من حارم. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، قدامة: الخراج 304، 309 ياقوت: مُعْجَمُ البُلْدَان 1: 510، (وسماها: بوقاس)، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 100.
(2)
فتوح البُلْدَان 229.
(3)
سورة الكهف، من الآية 63.
(4)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة 24 أ.
بابٌ في ذِكْرِ الجَرْجُومَة
(1)
قد ذكَر أحْمَد بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ، فيما أوردنَاهُ عَنهُ، أنَّه عَدَّ في المَسَالك والمَمَالك، في ذِكر المُدُن والكُور بقِنَّسَرِين والعَوَاصِم، وقال: الجَرْجُومَة على جَبَل اللُّكَام.
وقد ذَكَر أحْمَد بن يَحْيَى البَلَاذُرِيّ، في كتاب البُلْدَان، فيها فَصْلًا نذكرهُ هَا هُنا بعَينه، قال
(2)
: حَدَّثَنِي مَشَايخُ من أهل أَنْطَاكِيَة أَنَّ الجَرْجُومَة (a) من مَدِينَةٍ على جَبَل اللُّكَام عند مَعْدِن الزَّاج، فيما بين بَيَّاس وبُوْقَا يُقالُ لها: الجَرْجُومَة، وأنَّ أمْرَهُم كان في أيَّام اسْتِيلاء الرُّوم على الشَّام وأَنْطَاكِيَة إلى بِطرِيق أَنْطَاكِيَة ووَاليها، فلمّا قَدِمَ أبو عُبَيْدَة أَنْطَاكِيَة وفَتَحَها، لَزَمُوا مَدينتهم، وَهَمُّوا باللَّحَاقِ بالرُّوم إنْ (b) خَافوا على أنفُسهم، ولم يَنتَبه المُسلِمُون لهم، ولم يَنَبِّهُوا عليهم، ثمّ إنَّ أهل أَنْطَاكِيَة نَقضُوا وغَدَروا، فوجَّهَ إليهم أبو عُبَيْدَة مَنْ فتحَهَا ثَانيةً، ووَلَّاهَا - بعد فَتحها - حَبِيبَ بن مَسْلَمَة الفِهريّ، فَغَزا الجَرْجُومَة، فَلم يُقَاتِلُه أهْلُهَا، ولكنهم بَدَرُوا بِطَلَبِ الأمَان والصُّلْح، فصَالَحُوه على أَنْ يَكُونُوا أعوانَ المُسْلِمِينَ وعُيونًا وَمَسَالح في جَبَل اللُّكَام، وأن لا يُؤخَذُوا بالجِزيَةِ، وأن يُنَفَّلُوا أَسْلَابَ مَنْ يَقتُلُونَ من عَدُوِّ المُسْلِمِينَ إذا حَضَروا معهم حَربًا في مَغَازيهم.
(a) ضبط ابن العديم الجَرْجُومَة بفتح أولها، وتجاوز عن ضبط أولها في حال نسبة القوم إليها "الجراجمة" حيثما ترد، والضبط بالضم هو ما وجدناه في نشرة البلاذري.
(b) كذا في الأصل، وفي فتوح البُلْدَان: إذ.
_________
(1)
الجومة: بقرب أَنْطَاكِيَة، وهي كورة من العواصم، أو من كور أَنْطَاكِيَة، ينفر أهلها إلى الثُّغُور وقت الغزو، وسماها البلاذري في النقل الَّذي أورده ابن العديم أعلاه:"الجَرْجُومَة"، وسمي أهلها "الجراجمة"، أما ياقوت فأورد ذكر الاثنتين، الجَرْجُومَة التي نقل خبرها بنصه عن البلاذريّ، والجُومة التي اكتفى بالقول إنها من نواحي حلب، بينما نقل ابن العديم مادة البلاذري بنصها دون زيادة أو نقصان. انظر: ابن خرداذبة: المسالك، 75، قدامة: الخراج 186، 304، تاريخ مارميخائيل السرياني 2: 364، 524 (جوميا)، ياقوت: مُعْجَمُ البُلْدَان 2: 123، 189، زبدة الحلب 1: 360، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363.
(2)
فتوح البُلْدَان 217 - 221.
ودَخَل مَنْ كان في مَدِينتهم من تَاجرٍ وأَجِيرٍ وتابِعٍ من الأنْبَاطِ وأهْلِ القُرَى وغَيرهم في هذا الصُّلْحِ، فَسُمُّوا الرَّوَادِيْفَ، لأنَّهم تَلَوْهم وليسُوا منهم، ويُقالُ إنَّهم جَاؤوا بهم إلى عَسَاكر المُسْلِمين، وهم أَرْدافٌ لهم، فَسُمُّوا الرَّوَادِيْفَ، فكان الجُرَاجمَةَ يَسْتَقِيمُونُ للوُلَاةِ مَرَّةً، ويَعْوَجُّونَ أخرى، فيُكَاتِبُونَ الرُّوم ويُمَايلُونَهُم (a) .
ولمَّا كانت أيَّامُ ابن الزُّبَيْر، ومَوْت مَرْوَان بن الحَكَم، وطَلَب عَبْد المَلِك. الخِلافَة بَعدَهُ لتَولِيتِه إيَّاهُ عهدَهُ، واستعدَاده للشُّخُوص إلى العِرَاق لمحاربَة المُصْعَب بن الزُّبَيْر، خَرجَتْ خَيلٌ للرُّوم إلى جَبَل اللُّكَام، وعليها قائد من قُوَّادهِم، ثمّ صَارت إلى لُبْنَان، وقد ضَوَتْ إليها جَمَاعَةٌ كَثِيرة من الجُرَاجِمَة وأنْبَاط وعَبِيد أباقٌ من عَبِيد المُسْلِمين، فاضْطَرَّ عَبْد المَلِك إلى أنْ صَالَحهم على ألف دِينار في كُلِّ جُمعة، وصَالَح طاَغيَةَ الرُّوم على مَالٍ يُؤدِّيهِ إليهِ ليَشْغَلَهُ عن مُحاربَتِه، وتخوُّفه أنْ يخرج إلى الشَّام فيغلب عليها، واقتَدَى في صُلْحِه بِمُعاوية حينَ شُغل بحَرْب أهْل العِرَاق، فصَالَحهُم على أن يُؤدِّي إليهم مالًا، وارتَهَن منهم رهنًا وضعَهُ (b) بِبَعْلَبَكّ، ووَافَق ذلك أيضًا طَلَب عَمْرو بن سعيد بن العاص الخِلَافَة، وإغْلاقه أبْوَاب دِمَشْقَ حين خَرَج عَبْدُ المَلِك عنها، فازْدَاد شُغْلًا، وذلك في سَنَة سَبْعِين.
ثُمّ إنَّ عَبْدَ المَلِك وَجَّهَ إلى ذلك الرُّومِيّ سُحَيْم بن المُهَاجِر، وتَلَطَّف حتَّى دَخَلَ عليه مُتَنَكِّرًا، فأظْهَرَ المُمَالأةَ لَهُ، وتَقَرَّب إليهِ بِذَمِّ عَبْد المَلِك، وَشَتْمِه، وتَوهِين أمْره حتَّى أمِنَهُ، واغتَرَّ بِهِ، ثمّ إنَّه انْكَفَأ عليه بِقَومٍ مِنْ مَوَالِي عَبْد المَلِك وجُنْدِه؛ كان أعَدَّهُم لمُواقَعته، ورَتَّبهم بمكانٍ عَرَّفه، فَقَتَلَهُ ومَنْ كَان معهُ من الرُّوم، ونادَي في سَائر من ضَوَى إليهِ بالأمَان، فتفرَّق الجُرَاجمَةُ بقُرَى حِمْصَ ودِمَشْق، ثُمّ رجَع أكثرهُم إلى مدينتهم باللُّكَامِ، وأتَى الأَنْبَاط قُرَاهُم، وَرَجَعَ العَبِيدُ إلى مَوَالِيهم.
(a) فتوح البُلْدَان: ويمالئوهم.
(b) فتوح البُلْدَان: رُهناء وضعهم.
وكان مَيمُون الجُرَاجُمَانِيّ عَبدًا رُومِيًّا لِبَني أُمِّ الحَكَم أُخْت مُعاوِيةَ بين أبي سُفيان، وهم ثَقَفيُّون، وإنمَّا نُسِبَ إلى الجُرَاجِمَة لاختَلاطِه بهم، وخُرُوجه بجبَل لُبْنَان معهم، فَبَلغ عَبْد المَلِك عنهُ بأسٌ وشَجَاعة، فسَأل مَوَالِيهُ أنْ يُعتقُوه، فَفَعلُوا، وَقَوَّدَهُ على جَمَاعَةٍ من الجُند وصَيَّره بأَنْطَاكِيَة، فغَزَا مع مَسْلَمة بن عَبْد المَلِك الطُّوانَة وهو على ألفٍ من أهْلِ أَنْطَاكِيَة، فاستُشْهِد بَعدَ بلاءٍ حَسنٍ ومَوقف مشهُور (a) ، فغَمَّ عَبْد المَلِك مُصابُه، وأغْزَى الرُّوم جَيشًا عَظيمًا طَلبًا بِثَأْره.
قالُوا: ولَمَّا كانت سَنَة تسعٍ وثَمانين، اجتَمع الجُرَاجِمَةُ إلى مَدينتهم، وأتاهُم قَومٌ من الرُّوم من قِبَل الإِسْكَنْدَرُونَة ورُوسِس (b) ، فَوجَّهَ الوَلِيد بن عَبْد المَلِك إليهم مَسْلَمة بن عَبْد المَلِك، فأنَاخَ عليهم في خَلْقٍ من الخَلق، فافْتَتَحَها على أن يَنزلُوا بحيث أحَبُّوا من الشَّام، ويُجْري على كُلّ إمرئ منهم ثَمانية دَنَانِير، وعلى عيَالَاتهم القُوْت من القَمْح والزَّيْت، وهو مُديَان من قَمح وقِسْطَان (c) من زَيتٍ، وعلى أن لا يُكرَهُوا ولا أحَدٌ من أولَادهِم ونسائِهم على تَرك النَّصْرانِيَّة، وعلى أن يَلبَسُوا لِباسَ المُسْلِمين، ولا يُؤْخَذُ منهم ولا من أولَادهِم ونسائِهم جِزيةٌ، وعلى أن يَغْزُوا معَ المُسْلِمين، فَيُنَفَّلُوا أسَلَاب من يَقْتُلُونَه مُبَارزة، وعلى أن يُؤْخَذ من تجاراتهم وأموال مُوسِريهم ما يُؤْخَذُ من أمَوال المُسْلِمين، فأخَرَبَ مَدِينَتَهُم، وأنزَلَهُم (d) جَبَل الحَوَّار،
(a) فتوح البُلْدَان: مشهود.
(b) كذا في الأصل وفي فتوح البُلْدَان، وعند المسعودي (مُروج الذَّهب 1: 142) وياقوت (مُعْجَمُ البُلْدَان 3: 83) بتوسيط ياء بين السينين: رُوسيس، وعرَّفاها بأنها كورة من كور العواصم راكبة البَحْر بين أَنْطَاكِيَة وطرسوس. وهي اليوم مَدِينَة تركية تقع فوق رأس الخنزير على خط العرض 36.27 والطول 35.51، وكانت تسمى قديمًا أرصوص ورُوسوس Rhosus، واسمها الآن أرسوز وأرسوس. موستراس: المعجم الجغرافي 44، 276.
(c) وردت في الأصل: قسطار من زيت، والمثبت من فتوح البلاذريّ 220، والقَسْطار: هو الَّذي ينقد الدراهم، ويميّز الزّيف فيها، ويسمّيه أهل الشَّام: الجِهْبِذ، وقيل هو الميزان والتَّاجر، أما ما يُكال به الزَّيت، فهو القِسْط. والقِسْطان: نصيبان من زيت كان يرزقُهُا الناس. انظر: لسان العرب، مادتي: قسط، قسطر، الجواليقي: المعرب من الكلام الأعجميّ 251، 263.
(d) فتوح البُلْدَان: وأنزلهم وأسكنهم.
وشيْح اللَّوْلون، وعَمْق تِيزين، وصارَ بعضهم إلى حِمْصَ، ونَزَل بِطريق الجَرْجُومَة في جَمَاعَةٍ معهُ أَنْطَاكِيَة، ثمّ هَربَ إلى بلادِ الرُّوم، وقد كان بعضُ العُمَّال ألزَم الجُرَاجِمَة بأَنْطَاكِيَة جِزْيَةَ رُؤُوسهم، فرفَعُوا ذلك إلى الوَاثِق باللهِ، وهو خَليفَةٌ، فأمَرَ بإسْقَاطِها عنهم.
وحَدَّثَنِي بعض من أثِقُ به من الكُتَّاب، أنَّ أَمِير المُؤْمنين المُتَوكِّلَ على اللهِ أمَرَ بأخْذ الجِزْيَة من هؤلاء الجُرَاجِمَة، وأن تُجَرَي عليهم الأرْزَاق، إذ كانوا مِمَّن يُسْتَعَان به في المَسَالِح وغير ذلك.
ورَوَى (a) أبو الخَطّاب الأزدِيُّ أنَّ أهْلَ الجَرْجُومَة كانوا يَغْزُون (b) في أيام عَبْد المَلِك بن مَرْوَان على قُرى أَنْطَاكِيَة والعَمق، وإذا غَزت الصَّوائِفَ قَطَعُوا على المُتَخلِّف واللَّاحق ومَن قَدَرُوا عليه من فِي أَواخر العَسْكَر، وغَالوُا في المُسْلِمين، فأمرَ عَبْد المَلِك ففَرض لقَومٍ من أَهْل أَنْطَاكِيَة وأنباطها، جُعِلُوا مَسَالِح، وأردفت بهم عَسَاكر الصَّوائِفَ ليَذُبُّوا (c) الجُرَاجِمَة عن أواخرها، فَسُمُّوا الرَّوادِيف، وأجرى على كُلّ امرئٍ ثمانية دَنَانِيْر، والخَبَر الأوّل أثْبتُ
(1)
.
فهذه أخبار الثُّغُور الشَّامِيَّة، فنَشْرعُ الآن في ذِكْر الثُّغُور الجَزَرِيَّة، وجَبَل اللُّكَام هو الفاصل بين الثُّغُور الشَّامِيَّة والثُّغُور الجَزَرِيَّة.
وقال أبو العبَّاس أحْمَد بن إبْرَاهيم الفَارِسّي الإصْطَخْرِيّ، في كتاب صِفَة الأقالِيم
(2)
: وقد جُمِعَت إلى الشَّام الثُّغُور الشَّامِيَّة، وبعضُ الثُّغُور يُعرفُ بثُغُور الجزيرَة، وكلاهما من الشَّام، وذلك أنَّ كُلَّ ما وراء الفُرات من الشَّام، وإنَّما
(a) فتوح البُلْدَان 221: وزعم.
(b) كذا في الأصل، ومثله أيضًا في إحدى نسخ الفتوح، وقد اعتمد المحققان القراءة الأخرى: يغيرون.
(c) فتوح البُلْدَان 221: ليؤذنوا.
_________
(1)
إلى هنا انتهاء النقل عن البلاذري بنصه.
(2)
الإصطخري: مسالك الممالك 55 - 56.
سُمي من مَلَطِيَّة (a) إلى مَرْعَش: ثُغُور الجَزِيرَة، لأنَّ أهْل الجَزِيرَة بها يُرَابِطُون وبها يُعرفُون (b) لا أنَّها (c) من الجَزِيرَة. وبينَ ثُعُور الشَّام وثُعُور الجَزِيرَة جَبَل اللُّكَام، وهو الفَاصلُ بين الثَّغْرين.
بابٌ في ذِكْر مَرْعَش
(1)
وهي مَدِينَة من أعْمَال حَلَب، عَامِرَةٌ، ولها ميَاهٌ وزُرُوع وأشْجَار، ولها حِصْنٌ منيعٌ، وخَرَجَ منها جَمَاعَةٌ من أهل العِلْم والعِبَادَة، منهم حُذَيفَة المَرْعَشِيّ.
(a) ضبطها ابن العديم في بعض المواضع من كتابه بكسر الطاء وتشديد الياء: مَلَطِيَّة، ونبَّه عند الكلام عليها - كما نبّه ياقوت - أن التشديد في كلام العامة. (مُعْجَمُ البُلْدَان 5: 192)، وابن العديم ينقلها - على أمانته المعهودة. حسبما يجدها في المصادر التي يأخذ. عنها، وقد أبقينا على كلا الضبطين مع التنبيه عليه عند وروده بالياء المشدَّدة.
(b) الإصطخري: يغزون.
(c) في الأصل: وبها يعرفون لأنها، وهو خلاف المُراد، وخلاف ما عند الإصطخري. .
_________
(1)
مرعش Merasch : مَدِينَة صغيرة تقع في جهة الغرب من حصن منصور، على خط العرض 37.36 والطول 36.55، وكانت إحدى مدن جند قنسرين من الثُّغُور الجَزَرِيَّة، تبعد عن أَنْطَاكِيَة يومان، وهي مسورة بسور حصين، وكانت من مدن الرُّوم التي فتحها المسلمون، ثمّ عمرها الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وتم تحصينها في عهد مروان بن مُحمَّد آخر خلفاء بني أمية، وجعل في وسطها حصن عليه سور يعرف بالمرواني نسبة إليهِ، وانتقل إليها المسلمون وبنوا لهم فيها مسجدًا جامعًا، ثمّ بناها صالح بن عليّ في خِلَافَة أبي جعفر المنصور، وحصنها من بعده المهدي وهارون الرَّشِيد، وهي تقع على نهر جيحان، وفيها مرج تحيط به الجبال يسمى عمق مرعش، وهي آخر ثغور المُسْلِمين ليس وراءها إِلَّا عمارات الرُّوم. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 97، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة: الخراج 115، 186، 319، الإصطخري: مسالك 62، 63، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 165، 181، 186، 188، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، مجهول: حدود العالم 157، الإدريسي: نُزهة المُشتاق 2: 652، الإسكندري: الأمكنة 2: 512 (وفيه: ثغر بأرمينية)، ياقوت: مُعْجَمُ البُلْدَان 5: 107: (وفيه: أنها مسورة بسورين)، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 37، أبو الفداء: تقويم البُلْدَان، 263، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، الحميري: الرَّوض المعطار 541 (وفيه: من ثغور أرمينية)، موستراس: المعجم الجغرافي 461، لسترنج: بلدان الخِلَافَة 161.
وقد ذَكَرَها أبو زَيْد البَلْخِيّ في كتابه، فقال
(1)
: والحَدَث ومَرْعَش هما مَدِينَتَان عَامِرتَان (a)، فيهما مياه وزُرُوع وأشْجَار كَثِيرة، وهما ثَغْران.
قُلْتُ: وبين مَرْعَش والحدث ثمانية فراسخ، وهي في زَمننا هذا في أيْدي المُسْلِمين، تسلَّمها نُور الدِّين مَحمُود بن زَنْكي من جُوسْلِين حين أُسر، ثمّ استَولَى عليها الأرْمَنُ في سَنة ستِّ وخمسين وستُّمائة من أيدي نُوَّاب مِلك الرُّوم كَيْكَاوُس بن كَيْخُسُرُو بن كَيْقُبَاذ.
وذكَرَ أحْمَد بن يَحْيَى البَلاذُرِيّ في كتاب البُلْدَان
(2)
، ممَّا نَقلَهُ عن مَشَايخ الشَّام، وقالوا: وجه أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح - وهو بمَنْبِج - خالد بن الوَلِيد إلى نَاحيةِ مَرْعَش، ففَتَح حِصْنَها، على أنْ جَلا أهْلَه ثمّ أخربَهُ. وكان سُفيان بن عَوف الغَامِدِيّ (a) لمَّا غَزَا الرُّوم سنة ثلاثين، دَخَلَ (b) من قبل مَرْعَش، فسَاح في بلد الرُّوم، وكان مُعاويَة بني مَدِينَة مَرْعَش، وأسكنها جندة، فلمّا كان موت يَزيد بن مُعاوِيَة كَثُرت غارات الرُّوم عليهم، فانْتَقَلُوا عنها.
قال
(3)
: ثمّ إنَّ العبَّاس بن الوَلِيد بن عَبْد المَلِك صار إلى مَرْعَش، فَعَمَّرَها وحَصَّنَها، ونَقَل النَّاس إليها، وبَنَى لهم (c) مَسْجِدًا جَامِعًا، وكان يقْطَعُ في كُلِّ عامٍ على أهلِ قِنَّسْريْن بَعْثًا إليها. فلمَّا كانت أيَّام مَرْوان بن مُحمَّد، وشُغِل بمُحَاربَة أهْل حِمْصَ، خَرَجت الرُّوم فَحَصَرت مَدِينَة مَرْعَش حتَّى صَالَحَهُم أهلُها على الجَلاءِ، فَخَرجُوا نحو الجَزِيرَة وجُند قِنَّسْريْن بعيالاتهم،
(a) في الأصل: العامريّ، والمثبت من فتوح البلاذري والإصابة لابن حجر 4:211.
(b) البَلْخِيّ: صغيرتان.
(c) فتوح البُلْدَان: رحل.
(d) فتوح البُلْدَان: لها.
_________
(1)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم 24 أ.
(2)
فتوح البُلْدَان 265.
(3)
فتوح البُلْدَان 266.
ثمّ أخرَبُوها، وكان عامِل مَرْوَان عليها يَوْمَئذٍ الكُوْثَرُ بن زُفَر بن الحَارِث الكِلابيّ، وكان الطَّاغِيَة يَوْمَئذٍ قُسْطُنْطِيْن بن أليْوُن، ثمّ لَمَّا فرَغ مَرْوَان من أمْر حِمْصَ، وهَدمَ سُورها، بَعثَ جيشًا لِبناء مَرْعَش، فبُنِيتْ ومُدِّنت، فَخَرجت الرُّوم في فِتْنَتِه فأَخْربتها، فبَناها صَالِح بنُ عليّ في خِلَافَة أبي جَعْفَر المَنْصُور، وَحَصَّنَهَا، ونَدبَ النَّاسَ إليها على زِيادة العَطَاء، واستُخْلفَ المَهْدِيُّ، فزادَ فِي شِحْنَتها، وقَوَّى أهْلَهَا.
قال البَلاذُرِيّ
(1)
: وحَدَّثَنِي مُحمَّد بن سَعْد، عن الوَاقِديّ، قال: خَرَج مِيخائِيل من دَرْب الحَدَث في ثمانين ألفًا، فأتَى عَمقَ مَرْعَش، فقتَلَ وأحْرَق، وسَبَى من المُسْلِمين خَلْقًا، وصَار إلى باب مَدِينَة مرعش وبها عِيَسى بن عليّ، وكان قد غَزَا في تلك السَّنَة، فخَرَج إليهِ مَوَالي عِيَسى وأهل المَدِينة ومُقَاتلتُهَا، فرشَقُوه بالنَّبْل والسِّهام، فاسْتَطرد لهم حتَّى إذا نَحَاهُم عن المَدِينة كَرَّ عليهم، فقُتِلَ ثمانية نَفَرٍ من مَوَالي عِيسى، واعتصَمَ الباقونُ بالمَدينةِ فأغلقُوهَا، فحاصَرهم بعض نهار، ثمّ انصرف حتَّى أتَى (a) جَيْحَان، وبَلَغ الخَبَرُ ثُمَامَة بن الوَلِيد العَبْسِيّ وهو بدَابِق، وكان قد وَلِيَ الصَّائِفَة سَنَة إحدَى وستِّين ومائة، فوجَّهَ إليهِ خَيلًا كثيفة، فأُصِيبُوا إِلَّا مَن نَجَا منهم، فأحْفَظَ ذلك المَهْدِيّ، واحتَفَل لإغْزاء الحَسَن بن قَحْطَبَة في العَام المُقْبل، وهو سَنةُ اثنتَين وستِّين ومائة.
(a) فتوح البُلْدَان: نزل.
_________
(1)
فتوح البُلْدَان 267.
وقال سَعيد بن كَثِير بن عُفَيْر في تاريخه
(1)
: ثُمّ كانت سَنَة إحْدَى وستِّين ومائة، فكان فيها خُرُوج الرُّوم على مَرْعَش، فخَرِبَت شيئًا كَثِيرًا.
قُلْتُ: وخَرَّب الرُّوم من مَرْعَش کما ذَكَرْنَاهُ، فبَنَاها سَيْفُ الدَّوْلَةِ أبو الحَسَن عليّ بن عَبْدِ الله بن حَمدَان، وجَاءَ الدُّمُسْتُقُ ليمنَع من بنائها، فقَصَدهُ سَيْفُ الدَّولَة، فوَلَّى هَاربًا، وتَمَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَة عمارة مَرْعَش. وفي ذلك يقُول المُتَنَبِّي
(2)
: [من الطّويل]
أتَى مَرْعَشًا يَستَقرِبُ البُعدَ مُقبِلًا
…
وَأدبَرَ إذ أقبَلْتَ يَستَبعِدُ القُرْبَا
فأضْحَتْ كأنَّ السُّورَ من فَوْقِ بدؤُهُ (a)
…
إلى الأرْضِ قد شَقَّ الكواكبَ والتُّربَا
تَصُدُّ الرّياحُ الهُوجُ عَنْهَا مَخافَةً
…
وَتَفْزَعُ فيها الطّيرُ أن تَلقُطَ الحَبّا
وَتَرْدي الجِيادُ الجُرْدُ فوْق جبالها
…
وَقد نَدَفَ الصِّنّبرُ في طُرْقها العُطْبَا
كَفَى عَجَبًا أنْ يَعجَبَ النّاسُ أنّهُ
…
بَنى مَرْعَشًا تَبًّا لآرائِهِمْ تَبَّا
وَما الفَرْقُ ما بَينَ الأنامِ وَبَيْنَهُ
…
إِذَا حَذِرَ المَحْذُورَ وَاستصْعبَ الصَّعبَا؟
(a) ديوان المتنبي: بدئه.
(b) الديوان: منها.
_________
(1)
مؤلفه: سعيد بن كثير بن عُفَير، أبو عثمان المصري (ت 226 هـ)، مؤرخ وعالم بالأنساب والأخبار وأيام العرب ومآثرها، له كتابان: كتاب تاريخ مصر، وكتاب الطبقات، والظاهر أن نقول ابن العديم عن كتاب ثالث له في التاريخ العام مرتَّب على السنين، نقل عنه في الموضع المذكور أعلاه، وفي عدة مواضع تالية من هذا الجزء، ثمّ في الجزء الخامس: ترجمة الحجاج بن يوسف (في موضعين من الترجمة)، وترجمة حذيفة بن اليمان (في موضعين أيضًا). انظر ترجمته في: تاريخ ابن يونس المصري 1: 210 - 211، سير أعلام النبلاء 10: 583 - 586، طبقات الحفاظ للسيوطي 187 - 188، السخاوي: الإعلان بالتوبيخ 278، 317.
(2)
ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العكبري 1: 63 - 68، وابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 38.
بابٌ في ذِكْرِ الحَدَث
(1)
وتُعْرفُ بالحَدَث الحَمرَاءِ لِحُمْرة أَرضها، وهي مَدِينَة كَثِيْرة الماءِ والزَّرْع، وَحَولها أَنْهار كَثِيْرة، وخَرِبَ حِصْنُها وبقيت المَدِينَة، وساكنُوهَا في زَمننا هذا أرْمَن أهل ذِمَّةِ، وهي في أيْدي المُسْلِمين، وكان يَنْزلُ في مُروجها الأكْرَاد بأغْنامِهِم، وتُسَمِّيها الأرْمَن: كَيْنُوك، وتُسَمِّيها الأكْرَاد: الْهَتُّ، والعَرَب تُسَمِّيها: الحَدَث، وكانت تُسَمَّى قديمًا: المُحَمَّدِيَّة، والمَهْدِيَّة، لأنَّها بُنِيت في أيَّام المَهْدِيّ مُحمَّد بن المَنْصُور رحمه الله، وتحوَّل إليها أبو مُحمَّد عِيسَى بن يُونُس السَّبِيْعِيّ من الكُوفَة، فنَزَها مُرَابِطًا إلى أنْ مات، وبقي ولدهُ بها بعْدَه. والجَبَل المَعْرُوف بالأُحَيدِب من قبليّها مُطِلّ عليها، شاهدتُها ونزلْتُ في أرضها عندما تَوَجَّهتُ إلى الرُّوم.
وفتَحَها حَبِيْب بن مَسْلَمَة من قِبَل عِيَاض بن غَنْم.
(1)
الحَدَث: تقع إلى الغرب من حصن منصور وشمالًا من مرعش، وهي من الثُّغُور الجَزَرِيَّة، كانت مَدِينَة صغيرة عامرة، عليها سور حصين، وكانت تسمى: الحمراء والمحمدية والمهدية، وتبعد عن أَنْطَاكِيَة ثلاثة أيَّام، وعن حصن منصور يوم، ويطل عليها جبل الأحيدب، وتشكَّك لسترنج في موضعها الحالي لكنه رجّح أن تكون بين مرعش والبستان على ضفاف نهر آق صو قرب أنكلي. انظر: ابن خياط: تاريخ 439، ابن خرداذبة: المسالك 97، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، اليعقوبي: تاريخ 2: 277، قدامة: الخراج 115، 186، 320، الأزدي: تاريخ الموصل 253، الإصطخري: مسالك 62 - 63، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 165، 181، 187، 188، مجهول: حدود العالم 175، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 652، ياقوت: مُعْجَمُ البُلْدَان 1: 118، 2: 227، مارميخائيل: تاريخ 2: 424، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 39، أبو الفداء: تقويم البُلْدَان 263، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361 (وذكر الوطواط أن الرُّوم تسميها: كينول)، ابن الشحنة: الدر المنتخب، لسترنج: بلدان الخِلَافَة 154 - 155، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 32.
وقَرَأتُ في كتاب البُلْدَان تأليف أحْمَد بن يَحْيَى البَلاذُرِيّ
(1)
، ممَّا رَوَاه عن شُيُوخ الشَّام، قالوا: كان حِصْن الحَدَث ممَّا فُتِحَ أيَّام عُمَر؛ فَتَحَهُ حَبِيْب بن مَسْلَمَة من قِبَل عِيَاض بن غَنْم، وكان مُعاوِيَة يَتَعهَّدُهُ بعد ذلك، وكان بنو أُمَيَّة يُسَمُّونَ دَرْب الحَدَث دَرْب السَّلامَة للطِّيرَة، لأنَّ المُسْلِمين كانُوا أُصِيبُوا به، فكان ذلك الحَدَث فيما يَقُول بعضُ النَّاس. قال: وقال قَومٌ: لَقَى المُسْلِمين على الدَّرْب غُلَامٌ حَدَثٌ، فقاتَلُهم في أصْحَابِه فقيل: دَرب الحَدَث.
قال
(2)
: ولَمَّا كان زمن فِتْنَة مَرْوَان بن مُحمَّد، خَرَجَت الرُّوم فهَدَمت مَدِينَة الحَدَث، وأجْلَت عنها أهلها، كما فعلت بِمَلَطِيَّة (a). ثمّ لَمَّا كانت سَنَة إحْدَى وستِّين ومائة، خَرَجَ مِيْخَائِيْل إلى عَمْق مَرْعَش، ووَجَّه المَهْدِيُّ الحَسَنَ بن قَحْطَبَة، سَاح في بلاد الرُّوم، فثَقُلَت وَطْأتُه على أهلها حتَّى صَوَّرُوهُ في كَنَائِسهم، وكان دُخُوله من دَرْب الحَدَث، فنَظَرَ إلى مَوْضِع مَدِيْنتها فأُخْبِر أنَّ مِيْخَائِيْل أُخرج (b) منهُ، فارتادَ الحَسَن مَوضع مَدِينَةٍ (c) هناك، فلمَّا انْصَرف كَلَّمَ المَهْدِيّ في بنائها وبناء طَرَسُوس، فأمرَ بتَقديم بناء مَدِينَة الحَدَث، فأنْشَأهَا عليّ بن سُلَيمان بن عَليّ، وهو على الجَزِيرَة وقِنَّسْريْن وسُمِّيَت المُحَمَّدِيَّة، وتُوُفِّي المَهْدِيّ مع فَراغِهم من بنائها، فهي المَهْدِيّةُ والمُحَمَّدِيَّة، وكان بناؤُها باللَّبِن، وكانت وفاتُه سنَة تِسْعٍ وستِّين ومائة، واستُخْلِف مُوسَى الهَادِي ابْنُهُ، فعَزَل عليّ بن سُلَيمان، ووَلَّي الجَزِيرَة وقِنَّسْريْن مُحمَّد بن إبْرَاهِيم بن مُحمَّد بن عَليّ، وقد كان عليّ بن سُلَيمان فرغ من بناء مَدِينَة الحَدَث، وفَرَضَ مُحمَّد لها فَرْضًا من أهْل
(a) ضبطها بكسر الطاء وتشديد المثناة التحتية، كما وجدها في أصول فتوح البُلْدَان، وتقدم التعليق عليه.
(b) فتوح البُلْدَان: خَرَج.
(c) فتوح البُلْدَان: مدينته.
_________
(1)
فتوح البُلْدَان 267.
(2)
فتوح البُلْدَان 267 - 268.
الشَّام والجَزِيرَة وخُرَاسَان في أرْبَعين دِيْنَارًا من العَطَاءِ، وأقْطَعَهُم المسَاكن، وأعْطَى كُلَّ امرئٍ منهم ثلاثمائة دِرْهَم، وكان الفَراغُ منها في سَنَة تِسْعٍ وستِّين ومائة.
قال
(1)
: وقال أبو الخَطَّاب: فَرَضَ عليُّ بن سُلَيمان بمَدِينَة الحَدَث لأربَعة آلاف فأسكنهم إيَّاَها، ونقل إليها من مَلَطْيَة، وَشِمْشَاط
(2)
، وَسُمَيْسَاط، وكَيْسُوم، ودُلُوْك ورَعبَان ألفَي رَجُل.
قال الوَاقِدِيُّ
(3)
: ولمَّا بُنِيَت مَدِينَة الحَدَث، هجَم الشِّتَاء والثُّلُوج، وكثُرت الأمطَار، ولم يكن بَناؤُهَا بِمُتَوثَّق (a) منه ولا مُحتاط فيه، فَتَثَلَّمَتِ المَدِينَة وتشَعَّثَت، ونَزَل بها الرُّوم، فتفرَّق عنها من كان فيها من جُنْدها وغيرهم، وبَلَغ الخَبرُ موسى، فقَطَع بَعثًا مع المُسَيَّب بن زُهَير، وبَعثًا مع رَوْح بن حَاتِم، وبَعْثًا مع حَمزة بن مالِكٍ، فماتَ قبل أن ينفذوا، ثمّ ولي الرَّشِيد، رَحِمَةُ اللهُ عليهِ، الخِلَافَة، فأمر ببِنَائها وتَحْصينها وشِحنتها، وإقطاع مُقاتِلَتِها المَسَاكن والقَطَائِعَ.
(a) فتوح البُلْدَان: بمستوثق.
_________
(1)
فتوح البُلْدَان: 268.
(2)
شمشاط: مَدِينَة قديمة كبيرة، تقع إلى الشمال من كمخ في أقصى شمال غرب جند قِنِّسْريْن، وهي إحدى مدن الثُّغُور الجَزَرِيَّة، وقيل من أرمينية، تبعد عن حصن منصور يوم، وتقع على نهر أرسناس (مراد صو) القادم من قاليقالا رافد نهر الفرات. وفيها قلعة حصينة، ووقع في كثير من المصادر التصحيف في رسم اسمها مع سميساط الواقعة إلى الجنوب منها على نهر الفرات، وقد نبَّه ياقوت إلى هذا الخلط. انظر: الزوقنيني: تاريخ 143، ابن خرداذبة: المسالك 97، اين رستة: الأعلاق النفيسة 106، ابن الفقيه: البُلْدَان 583، قدامة: الخراج 187، 322، الإصطخري: مسالك 67، ابن حوقل: صورة الأرض 187، أبو الفداء: تقويم البُلْدَان 277، ياقوت: مُعْجَمُ البُلْدَان 3: 362، الحميري: الرَّوض المعطار 345، لسترنج: بلدان الخِلَافَة 149، محمود شيث خطاب: بلاد الجَزِيرَة قبل الفتح وفي أيامه 40.
(3)
النقل متتابع عن فتوح البُلْدَان 268.
قال
(1)
: وقال غَيرُ الوَاقِدِيّ: أناخَ بْطْرِيقٌ من عَظمَاء بَطَارقَة الرُّوم في جَمع كثيفٍ على مَدِينَة الحَدَث حتَّى بُنِيَت، وكان بناؤُهَا بِلَبنٍ قد حُمل بعضَها على بعضٍ، وأَضَرَّ (a) به الثُّلُوج، فهَرَب عَامِلُها ومَن فيها، ودَخَلها العَدُوُّ، فَحَرَّقَ مَسجِدَهَا وأخرَبَها، واحتَمل أمتِعَةَ أهلَها، فبَنَاها الرَّشِيدُ حين اسْتُخْلفَ.
قال
(2)
: وحَدَّثَنِي بعضُ أهْل مَنْبج، قال: حَدَّثَنِي شيخٌ لنا أنَّ الرَّشِيد، رَحمةُ الله عليهِ، كَتبَ إلى مُحمَّد بن إبْرَاهِيم بإقراره على عَملهِ، فجَرَى أمرُ مَدِينَة الحَدَث وعِمَارتها من قبل الرَّشِيد على يَده ثمّ عَزَلَهُ.
وقيل: إنَّ المَهْدِيّ بَنَى الحَدَث لمنامٍ رَآهُ.
أنْبَأْنَا عَبْد اللَّطِيف بن يُوسُف بن عليّ، عن أبي الفَتْح بن البَطِّيّ، عن أبي عبد الله الحُمَيديّ، قال: أَخْبَرَنَا غَرْسُ النِّعْمَة أبو الحَسَن مُحمَّد بن هِلِّل بن المُحَسّن بن إبْرَاهِيم الصَّابِئ، قال: وذكَر الرَّئِيس أبو الحَسَن رضي الله عنه يعني والدَهُ هِلِّل بن المُحَسّن - في كتاب المَنَامات الَّذي صَنَّفه، قال: ذكَر أبو بَكْر بن دُقَّة، مَوْلَى بني هاشم، قال: لَمَّا عزم المَهْدِيُّ على الخُرُوج إلى قِنَّسْريْن والعَوَاصِم، رَأى في مَنامِه كأنَّ آتيًا أتاه وقال له: إنَّك تَمْضي إلى مَدِينَة يُقالُ لها مَنْبِج، وهُناك شيخٌ كبيرٌ له ثمانون سنةً يُؤْذِّن في بَعْضِ المَسَاجِد، فادْعُ به واضرب رَقَبَتَهُ، وإذا خَرَجْتَ من هذه المَدِينَة، فسَتَرى آثار خُطُوط فابِنِ عَلَيها مَدِينَة وسَمِّهَا الحَدَث.
(a) فتوح البُلْدَان: وأضَّرت.
_________
(1)
فتوح البُلْدَان 269.
(2)
فتوح البُلْدَان 269.
قال: فلمَّا وَصَل المَهْدِيّ إلى مَنْبج، وحَضَرهُ أهْلها، سَألهم وقال: هل عندكم شيخٌ كبيرٌ مُؤذِّنٌ؟ قالوا: نعم؛ عندنا شَيخ له مائةُ سَنَة وأربع سنين، يُؤذِّن منها ثَمانين سَنةً في بعض المَسَاجِد، فأمَرَ بإحْضَارِه، فلمَّا أُحْضر تقدّم بضَرْب رَقَبتهِ، فارْتاعَ الشَّيْخُ، وناشَدَهُ الله تعالى في أمْره، وأذْكَره بالله في دَفْعهِ عن دَمه، وعرَّفه كبَّر سنِّه وكثرة عيالهِ، فقال له: دَع هذا عَنْك، ولا بدَّ ممَّا أمرْتُ به فيك، ولكن إنْ صَدَقْتني عن أمْرك حَفِظتُك في مُخَلَّفيك، وإلَّا أسَأْتُ إليهم بَعْدك، فقال: أمَّا على ذاك فإنِّي منذ ثمانين سنةً أقول في أذاني: أجْحَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسُول الله، فأمَرَ به وقُتِلَ.
قال ابن دُقَّة: وهذا الشَّيْخ جَدّ البُحْتُرِيّ الشَّاعِر.
قُلتُ: وجاءَ مَلِكُ الرُّوم الدَّمُسْتُق في أيَّام سَيْف الدَّوْلَة ابن حَمْدَان، ونَزلَ على حِصْن الحَدَث ليحصُره، وكان سَيْف الدَّوْلَة قد بناهُ وأحْكم بناءَهُ، فخرجَ سَيْفُ الدَّوْلَة، فتركَه ومَضَى، وجَرَت له وَقْعَة مع الرُّوم أيضًا، وقد خرج سيف الدولة لبناء الحَدَث، فواقَعهم وقتل منهم وأسَر، وكان أهل الحَدَث سَلَّمُوه بالأمان إلى الرُّوم قبل ذلك فخربُوه.
أخبرَنَا عبْد العَزِيْز بن محمُود بن الأخْضَر البغدادِيّ كتابةً، قال: أخبرَنَا الرئِيسُ أبو الحَسَن عليّ بن عليّ بن نَصْر بن سَعيد، قال: أخبرَنَا أبو البَرَكَات مُحمَّد بن عَبْد الله بن يَحْيَى، قال: أخبرَنَا عليّ بن أيُّوب بن الحُسَيْن، قال: أنْشَدنا أبو الطَّيِّب المُتَنَبي لنَفْسه يَمْدحُ سَيْف الدَّوْلَة، ويذْكُر بناءَهُ ثَغْر الحَدَث، بعد أنْ كان أهلُها أسْلَمُوهَا عن الأمَانِ إلى الرُّوم، ومُنَازلة ابن الفُقَّاس إيَّاه وهَزْمَهُ
لابن الفُقَّاسِ، وكان أَسَرَ قُودس الأعْوَر بِطْرِيق سَمَنْدُو
(1)
وابن ابنَةِ الدُّمُسْتُق، وأنشَدَهُ إيَّاها بعد الوَقْعَة في الحَدَث
(2)
: [الطّويل]
على قَدْر أهل العَزْم تأتي العَزائمُ
…
وتأتي على قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
وتعظُمُ في عَيْن الصَّغير صِغَارُها
…
وتَصْغُرُ في عَيْن العَظِيم العَظائمُ
يُكلِّفُ سيفُ الدَّولةَ الجيْشَ همَّهُ
…
وقد عجزَتْ عنه الجُيُوشُ الخضَارِمُ
قال فيها
(3)
:
هَلْ الحدَثُ الحَمْرَاءُ تعرِفُ لونَها
…
وتَعْلَم أيُّ السَّاقِيَين الغَمائمُ
سَقَتْها الغَمامُ الغُرُّ قَبْل نُزُوله
…
فلمّا دَنا منها سَقَتْها الجَماجِمُ
بَناهَا فأَعْلى والقَنا يقرَعُ القَنا
…
ومَوْجُ المنَايا حَوْلها مُتلَاطِمُ
وكان بها مثل الجُنُونِ فأصبَحَتْ
…
ومن جُثَثِ القَتْلَى عليها تَمائمُ
طَريدَةُ دَهْرٍ سَاقَها فرَدَدْتَها
…
على الدِّين بالخَطِّيِّ والدَّهرُ رَاغِمُ
وكيفَ يَرْجَى الرُّومُ والرُّوُس هَدْمَها
…
وذا الطَّعَنُ أسَاسٌ لها ودعائمُ
وقد حاكمُوهَا والمنَايا حَوَاكمٌ
…
فما ماتَ مَظْلُومٌ ولا عاشَ ظالِمُ
نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الأُحَيْدِب كُلِّهِ (a)
…
كما نُثرتْ فَوْق العَرُوس الدَّرَاهمُ
وفي ذلك يقول أبو فراس
(4)
: [من الطّويل]
وحَسْبي بها يَوْمَ الأُحَيْدِبِ وَقْعَةً
…
على مِثْلها في الحَرْب (b) تُثْنى الخنَاصِرُ
عَدَلنا بها في قِسْمَة المَوْتِ بينَهُم
…
وللسَّيْف حُكْمٌ في الكَتِيْبَة جَائِرُ
(a) الديوان: نثرة.
(b) الديوان: العز.
_________
(1)
سمندو: بلدة في وسط بلاد الرُّوم، تقع بين موضع يسمى الرمانة ومرج قيسارية. المقدسي: أحسن التقاسيم 150، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 253.
(2)
ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العكبري 3: 378 - 379.
(3)
الديوان 3: 380 - 388.
(4)
ديوان أبي فراس الحمداني 115 - 116.
إذ الشَّيْخُ لا يَلْوِي ونَقَفُورُ مُجْحِرٌ
…
وفي القِدِّ (a) ألْفٌ كاللُّيُوثِ قَسَاوِرُ
ولَم يَبْقَ إِلَّا صِهْرُهُ وابنُ بِنْتِهِ
…
وثُوّرَ بالبَاقِين مَنْ هوَ ثَائرُ
وأنبَأنَا عَبْد العَزِيْز بن الأخْضَر، قال: أخبرَنَا أبو الحَسَن، قال: أخبرَنَا أبو البَرَكَات، قال: أخبرَنَا عليّ بن أيُّوب، قال: أنشَدَنا أبو الطَّيِّب المتنَبِّي لنَفْسه يمدَحُ سَيْف الدَّوْلَة، وقد ورَدَ عليه خبَرٌ آخر سَاعة نَهار يوم الثّلاثَاء لستٍّ خَلَوْنَ من جُمَادَى الأُوْلَى سنة أربعٍ وأربعين وثَلاثِمائة، أنَّ الدُّمُسْتُق وجُيُوشَ النَّصْرانيَّة قد نازلَتْ ثَغْر الحَدَث ونصَبَت مَكائد الحُصُون عليهِ، وقَدَّرت أنَّها فُرْصَةٌ فيه لِمَا تَدَاخلها من القَلَقِ والانْزعاج والوَصْم في تَمام بنائِه على يَد سَيْف الدَّوْلَة، ولأنَّ مَلكهم ألزمَهُم قصدَهَا، وأنجدَهُم بأصْنَافِ الكُفْر من البُلْغُر والرُّوس والصَّقْلَب وغيرهم، وأنقَذَ معهم العُدَدَ.
فرَكِبَ سيْفُ الدَّوْلَة لوَقْته نافِرًا، وانتَقَل إلى موضعٍ غير المَوْضِع الّذي كان به، ونَظَر فيما وَجَب أنْ ينظُرَ فيه في ليلَته، وسار عن حَلَب غَدَاةَ يوم الأرْبَعاءِ لسَبْعٍ خَلَوْنَ، فنَزَل رَعْبَان، وأخْبارُ الحَدَث مُسْتَعْجِمةٌ عليهِ، لضَبْطهم الطُّرُقَ، وتَقدِيرهم أنْ يَخْفَى عليه خَبَرهُم.
فلمَّا أسْحَر، لبسَ سِلاحَهُ، وأمر أصْحَابَهُ بمثل ذلك، وسَار زَحْفًا، فلمَّا قَرُبَ من الحَدَث، عَادَت إليهِ الطَّلَائِعُ بأنَّ عَدُوَّ اللهِ لَمَّا أشرفَتْ عليه خُيُول المُسلِمِين على عَقَبةٍ يُقالُ لها العِبْرانيّ، رحَل ولم تَسْتَقِرَّ بهِ دار، وامْتَنع أهْل الحَدَث من البِدَار بالخَبَر خَوْفًا من كَمِين يَعْتَرض الرُّسُل، فنَزَل سَيْف الدَّوْلَة بِظَاهِرها، وذكَر خليفَتُه بها أنَّهم نازلُوه وحاصَرُوه، فلم يُخْلِه اللهُ من نَصْر عليهم إِلَّا في نُقُوبٍ نقبُوْهَا في فصِيْل كان قديمًا للمَدِينَة، وأَتَتْهُم طَلائِعُهم بخَبْر سَيْف الدَّوْلَة في إشْرافهِ على حِصْن رَعْبَان، فوَقَعَت الصَّيْحَةُ وظهَرَ الاضْطرابُ، ووَلَّي كُلّ فريقٍ على وجْههِ،
(a) الديوان: القيد.
وخرَجَ أهْلُ الحَدَث، فأوقَعُوا ببَعْضهم، وأخَذُوا آلة حَرْبهم، فأعَدُّوْهَا في حِصْنهم، فقال أبو الطَّيِّب في ذلك
(1)
:
ذي المَعَالِي فليَعْلُونَ من تَعالَى
…
هكَذا هَكَذا وإلَّا فلا، لا
شَرَفٌ ينطَحُ النُّجُومَ برَوْقيهِ
…
وعِزُّ يُقَلْقلُ الأجْبَالا
حالُ أعْدَائنا عظيمٌ وسيْفُ الـ
…
ـدَّولة ابنُ السُّيوف أعظَمُ حَالَا
لا ألُومُ ابنَ لَاوُن مَلِكَ الرُّو
…
م وإنْ كانَ ما تَمنَّى مُحَالَا
أَقْلَقَتْهُ بَنِيّةٌ بينَ أُذْنَيهِ
…
وبانٍ بَغَي السَّماءَ فَنَالَا
كلَّما رَامَ حَطَّها اتَّسَعَ البَنْي
…
فغَطَّى جَبِيْنَهُ والقَذَالَا
يَجْمَعُ الرُّومَ والصَّقَالبَ والبُلْـ
…
ـغُرَ فيها وتَجْمَعُ الآجَالَا
ويُوافيهمُ (a) بها في القَنا السُّمْر
…
كما وَافَتِ العِطَاشُ الصِّلالَا
قَصَدُوا هدْمَ سُورِهَا فبَنَوْهُ
…
وأتَى كي يُقَصِّرُوهُ فَطَالَا
قال فيها
(2)
:
إنَّ دونَ التي على الدَّرْب والأحْـ
…
ـدَبِ والنَّهْرِ مِخْلَطًا مِزْيَالا
المخْلَط المزْيَالُ: هو الكثير المُخالطة للأُمور والمُزَايلة لها.
غَصَب الدَّهْرَ والمُلُوك عليها
…
فبَناها في وجْنَةِ الدَّهْرِ خالا
وحَماهَا بكُلِّ مطَّرِدِ الأ
…
كعُبِ جَوْرَ الزَّمانِ والأوْجَالَا
فَهِي تَمْشِى مَشْيَ العَرُوس اخْتِيالًا
…
وتَثَنّى على الزَّمان دَلَالَا
(a) الديوان: وتوافيهم.
_________
(1)
ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العكبري 3: 134 - 138.
(2)
الديوان 3: 145 - 146.
بابٌ في ذِكْرِ زِبَطْرَة
(a)
وهي مَدِينَةٌ هي الآن في أيْدِي المُسْلِمِيْنَ، وهي مَذْكُورَة، وفيها مَعْدِن حَديدٍ، يُجْلَب منها الحَدِيْد إلى البِلادِ، وهي الآن قَرْيَة، وبينها وبين الحَدَث ثَمانية عشر فَرْسَخًا.
وذَكَرها أبو زَيْد أحْمدُ بن سَهْلٍ البَلْخِيّ في كتابهِ، وقال
(1)
: وأمّا زِبَطْرَةُ فإنَّها حِصْنٌ كان من أقْرَب هذه الثُّغُور إلى بَلَدِ الرُّوم، خَرَّبَها الرُّومُ.
(a) البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة 24 أ.
_________
(1)
زبطرة: تقع على حد بلاد الرُّوم بجوار ملطية، إلى الشمال من حصن مَنْصُور على مسيرة يوم، وهي من الثُّغُور الجَزَرِيَّة وأقرب الثُّغُور إلى بلاد الرُّوم، حصن عظيم، وقلعة قديمة من بناء الرُّوم، وهي في أرض مستوية تحيط بها الجبال، وقد تعرض الحصن للتدمير من قبل الرُّوم أكثر من مرة ثمّ بناه المَنْصُور والرشيد والمأمون، وكانت محاطة بسور انهار أمام السيل الجارف الَّذي داهم المَدِينَة سنة 220 هـ/ 835 م. ثمّ هاجمها الرُّوم سنة 223 هـ/ 838 م فأخربوها وشتتوا أهلها، وبعد خرابها ابتني المعتصم. منصرفه من عمورية - مكانها وفي نواحيها مجموعة من الحُصُون لتقوم مقامها، فايتني: حصن طبارجيّ، وحصن الحسينية، وحصن بني المؤمن، وحصن ابن رحوان. وقد زارها أبو الفداء سنة 715 هـ/ 1315 م ووجدها خراب خالية من الزرع والسكان، ورجَّح لسترنج أن موضع زبطرة حاليًا هو في مكان مَدِينَة ويران شهر جنوب ملطية. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 97، اليعقوبي: تاريخ 2: 334، الطبريّ: تاريخ 9: 55، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة: الخراج 115، 186، 321، المسعودي: مُروج الذَّهب 4: 357، الإصطخري: مسالك 63، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 187 - 188، مجهول: العيون والحدائق 3: 38، مارمِيْخَائِيْل: تاريخ 2: 435، 3: 53 (وفيه نقلًا عن الأصل السرياني وترجمته الفرنسية: زوبطرا)، ابن الأثير: الكامل 6: 479، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 131، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 40، أبو الفداء: تقويم البلدان 234، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، ابن الشحنة: الدر المنتخب 194، الحميري: الرَّوض المعطار 285، لسترنج: بلدان الخِلَافَة 153. و ضبطها ابن العديم. في هذا الموضع والذي يليه فقط - بفتح الزَّايّ، وأهمل ضبطه في بقية المواضع حيثما ترد، والمثبت موافق لما عند ياقوت (مُعْجَمُ البلدان 3: 130)، ووردت بكسر الزاي في شعر أبي تمام 1:61.
قُلتُ: وقد كانت الرُّوم في صَدْر الإسْلام تنتابُه وتَطْرُقُهُ لقُرْبهِ من بلادهَا، فتُخَرِّبهُ ويعمره المُسلِمُون مَرَّةً بعد أُخْرَى، فإنَّ أبا جَعْفَر أحْمد بن يَحْيَى البَلاذُرِيّ ذكَرَ، فيما نَقَلَهُ في كتاب البُلْدان، عَمَّن حدَّثَهُ من أهل الشَّام، فقال
(1)
: قالوا: وكانت زِبَطْرَةُ حِصْنًا قديمًا رُوْمِيًّا، ففُتحَ مع حِصْن الحَدَثِ القَدِيم فتَحَهُ حَبِيْب بن مَسْلَمَة الفِهْرِيّ، وكان قائمًا إلى أنْ أخْربَتْهُ الرُّوم في أيَّام الوَلِيد بن يَزِيد، فبُنِيَ بناءً غير مُحْكَم، فأناخَت الرُّوم عليه في أيَّام فِتْنَة مَرْوَان فهَدَمَتْهُ، فبَنَاهُ المنْصُور، ثمّ خَرَجَت إليهِ فشعَّثَتْه، فبناهُ الرَّشِيد أَمِيرُ المُؤمِنِين على يَد مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم، وشَحَنَهُ.
فلمّا كانت خِلَاقة المأْمُون، طَرَقَهُ الرُّومُ فَشَعَّثُوهُ، وأغَارُوا على سَرْحِ أهْله فاسْتَاقُوا لهم مَواشيَ، فأمَرَ المأْمُون، رحمه الله، بِمَرَمَّتِهِ وتَحْصِيْنِهِ، وقَدِمَ وَفْدُ الطَّاغِيَة في سنَة عَشْر ومائتين يَسْأل الصُّلْح، فلم يُجبْهُ إلى ذلك، وكَتَبَ إلى عُمَّالِ الثُّغُور، فَسَاحُوا في بلادِ الرُّوم فأكْثَروا فيها القَتْل، ودَوَّخُوهَا، وظَفرُوا ظَفَرًا حَسَنًا، إِلَّا أنَّ يَقْظَانَ بن عَبْد الأعْلَى بن أحْمَد بن يَزِيد بن أُسَيْد السُّلَمِيّ أُصِيْب.
ثمّ خَرَجَت الرُّومُ إلى زِبَطْرَة في خِلَافَة المُعْتَصِم أبي إسْحَاق بن الرَّشِيد، فقَتَلُوا الرِّجَالَ، وسَبوا النِّسَاءَ، وأخْرَبُوها، فأحْفَظه ذلك وأغْضَبه، فَغَزَاهم حتَّى بَلَغَ عَمُّورِيَّة، وقد أخْربَ فيها (a) حُصُونًا، فأناخَ عليها حتَّى فَتَحَها، فَقَتَل المُقاتِلَة، وسَبَى النِّسَاءَ والذُّرِّيَّة، ثُمَّ أخْربَها، وأَمَرَ ببناءِ زِبَطْرةَ، وحَصَّنَهَا وشَحَّنَها، فَرَامَهَا الرومُ بعد ذلك، فلم يَقْدرُوا عليها.
(a) فتوح البلدان: قبلها.
_________
(1)
فتوح البلدان 270.
بابٌ في ذِكْرِ حِصْن منْصُور
(1)
وهو في أيْدِي المُسْلِمِيْن، توَلَّي بناءهُ. بعد أنْ كان الرُّوم خَرَّبُوه - مَنْصُور بن جَعْوَنَة بن الحَارِث العَامِرِيّ من بني عَامِر بن صَعْصَعَة، وكان هو وأبُوه يَغْزُوان الرُّوم، وقَتَلَهُ المَنْصُور في خِلافته، وَسَنَذْكُر حاله في تَرْجَمَتِهِ
(2)
إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
وذكَره أبو زَيْد أحْمَد بن سَهْل البلْخِيّ في كتابهِ، فقال
(3)
: وحِصْن مَنْصُور حِصْنٌ صَغِيرٌ، فيه مِنْبَرٌ، وزُرُوعُهُ عِذْيٌ.
وقال أحْمَد بن يَحْيَى البَلاذُرِيّ
(4)
: وحَدَّثَني أبو عَمْرو البَاهِلِيُّ وغيره، قالُوا: نُسبَ حصْنُ مَنْصُور إلى مَنْصُور بن جَعْوَنَة بن الحَارِث العَامِرِيّ، من قَيْسٍ، وذلك أنَّهُ تَوَلَّى بناءَهُ ومَرَمَّتَهُ، وكان مُقيمًا به أيَّام مَرْوَان ليَرُدَّ العَدُوَّ، ومعه جُنْدٌ كَثِيْرٌ (a) من أهْلِ الشَّام والجَزِيرَة.
قال
(5)
: وكان الرَّشِيد بَنَى حِصْن مَنْصُور وَشَحَنَهُ في خِلَافة المَهْدِيّ
(a) فتوح البلدان: كثيف.
_________
(1)
حصن مَنْصُور: Housni Mansour، يقع في وسط الثُّغُور الجَزَرِيَّة إلى الشمال الغربي من سميساط، وهو حصن صغير، منسوب إلى مَنْصُور بن جعونة بن الحارث العامري القيسي (قتل سنة 141 هـ/ 758 م)، وهو الَّذي تولى عمارته أيَّام مَرْوَان بن مُحمَّد آخر خلفاء بني أمية، ثمّ بناه الرَّشِيد في خِلَافَة المَهْدِيّ، وهو بين ملطية وسميساط، ويبعد عن ملطية مسافة يومين، وعليه سور مبني من الحجارة، وله عدة قرى تبع إليهِ، وتقوم على أنقاض الحصن الآن مَدِينَة تركية تسمى أدي مان Adiyaman. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 97، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة: الخراج 115، 186، 321، الإصحطخري: مسالك 62، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 181، 187، مجهول: حدود العالم 175، المسعودي. التنبيه والإشراف 183، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 651، ابن عساكر: تاريخ 11: 345، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 265، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 41، أبو الفداء: تقويم البلدان 369، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، الحميري: الرَّوض المعطار 203، موستراس: العجم الجغرافي 351، لستِرنج: بلدان الخِلَافَة 155.
(2)
ترجم ابن العديم في الجزء العاشر من كتابه لرجل تشكك فيه، وصدَّر اسْمُه بـ"ابن جعونة بن الحارث العامري"، وختم ترجمته بالقول: أظنه مَنْصُور بن جعونة والله أعلم.
(3)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة أ.
(4)
فتوح البلدان 270.
(5)
فتوح البلدان 271.
بابٌ في ذِكْرِ مَلَطْيَةَ
(1)
وكان اسْمُها بالرُّومِيَّة: مَلَطِيَا. وقيل: كان اسْمُها: مَلَدْني فعُرِّب وجُعِلَ مَلَطْيَة.
ويُقالُ: إنَّ الإسْكَنْدَر بَنَاهَا، والعَامَّة يقُولُون: مَلَطِيَّة، بكسر الطَّاءِ وتَشْديدِ الياء.
كذلك ضَبَطها أبو نصر الجَوْهَرِيّ في كتاب الصِّحَاح في اللُّغَة
(2)
، أخبَرَنَا بذلك أبو العبَّاس أحْمَد بن عَبْد الله بن عُلْوَان، قال: أخْبرَنا أبو البَرَكَات بن العِرْقِيّ في كتابه؛ وأخبَرَنَا أبو مُحمَّد عَبْد الدَّائم بن عُمَر، قال: أخْبَرَنا ابن العِرْقِيّ، قال: أخبرَنا أبو القَاسِم بن القَطَّاع، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْر بن البِرّ، قال: أخْبَرَنَا إسْمَاعِيْل بن مُحمَّد، قال: أخبَرَنَا أبو نَصْر إسْمَاعِيْل بن حَمَّاد الجَوْهَرِيّ
(3)
، قال: ومَلَطِيَّة بَلَدٌ.
(1)
ك: قلعة ملطية. وملطية Melatia: تقع في أقصى الشمال من زبطرة، على خط العرض 38.21 والطول 38.19، وهي من أقرب الشغور الجَزَرِيَّة إلى بلاد الرُّوم، مَدِينَة كبيرة محصنة، قديمة من بناء الرُّوم، وتحيط بها جبال كَثِيْرة، والطريق إليها صعبة تتخللها عقاب شديدة، وتبعد عن منبج مسيرة أربعة أيَّام، والمَدِينَة ذاتها في مستوى من الأرض، وماؤها من عيون وأودية من الفرات. انظر: الزوقنيني: تاريخ 118، ابن خياط: تاريخ 418، البسوي: المعرفة والتاريخ 1: 120، ابن خرداذبة: المسالك 97، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، اليعقوبي: البلدان 362، الطبريّ: تاريخ 9: 55، الأزدي: تاريخ الموصل 171، قدامة: الخراج 115، 187، 318 - 319، الإصطخري: مسالك 63، 65، 75، ابن حوقل: صورة الأرض 165، 181، 185، 187، مجهول: العيون والحدائق 3: 335، 334، الإدريسي: نُزهة المشاق 3: 650 - 651، ابن الأثير: الكامل 5: 447، 6: 479، ياقوت: مجم البلدان 5: 193، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 41، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، أبو الفداء: تقويم البلدان 385، ابن الشحنة: الدر المنتخب 195، الصفدي: تحفة ذوي الألباب 1: 148، الحميري: الرّوض المعطار 545، موستراس: المعجم الجغرافي 468.
(2)
الَّذي في صحاح الجوهري بالتخفيف، ضبط قلم. الصحاح 3:1162.
(3)
الصحاح 3: 1162.
ولَمَّا قرأتُ المَقَامات الحَرِيرِيَّة على شَيْخنا أبي اليُمْن الكِنْدِيّ، فقَرأتُ عليه: أزْمَعتُ عن مَلَطِيَّة مطيَّة البَيْن (a)، وكانت مَضْبُوطة في نُسْخَتِي كذلك بخَطِّ أبي المُعَمَّر الأنْصاريّ وعليها خَطّ الحَرِيرِيّ، فقال لي شَيْخُنا أبو اليُمْن: مَلَطْيَة لا غَير؛ لا يجوزُ غيرها.
ثُمَّ قَرَأتُ عليهِ بعد ذلك: أخْبَركم أبو مَنْصُور مَوْهُوب بن أحْمد بن مُحمَّد بن الخَضِر الجَوَالِيْقِيُّ، فأقَرَّ به، قال فيما تَلْحَنُ فيهِ العَامَّةُ
(1)
: ممَّا يُخَفَّفُ، والعَامَّةُ تُشَدِّدُهُ؛ وهي مَلَطْيَةُ.
وأخْبَرنا شَيْخُنا أبو اليُمْن إذْنًا، قال: أخْبَرَنا أبو مَنْصُور القَزَّاز، قال: أخبرَنَا أبو بَكْر أحْمَد بن علِيّ الخَطِيب
(2)
، قال: حَدَّثَنِي مُحمَّد بن عليّ الصُّوْرِيّ، قال: قال لي عَبْد الغَنِيّ بن سَعيد الحَافِظُ: ليسَ في المَلَطيِّينَ ثِقَةٌ.
وكَتَبَ إلينا أبو المُظَفَّر عَبْد الرَّحِيْم السَّمْعانيّ من مَرْو، يذكُرُ عن أبيه أبي سَعْد عَبْد الكريم بن مُحَمَّد السَّمْعانيّ أنَّه قال في ذِكْر ملَطْيَة
(3)
: بَنَى هذه المَدِينَة الإسْكَنْدَر. قال: وسَمِعْتُ أنَّ أكثر مَنْ خَرَجَ منها من المُحَدِّثِيْن كانُوا ضُعَفَاء.
قلتُ: وقد خَرَجَ منها جَمَاعةٌ من المُحَدِّثِيْن، وهي الآن في أيْدِي المُسْلِمِيْن، وهي مَدِينَةٌ عَامِرَةٌ كَبِيرَةٌ حَصِيْنَةٌ.
وقد ذَكَرها أبو زيْد أحمدُ بن سَهْل البَلْخِيّ، في كتاب صفة الأرْض والأقاليِم والمُدُن وما تَشْتَمل عليهِ
(4)
، قال: ومَلَطْيَة مَدِينَةٌ كبيرةٌ؛ من أكْبَر الثُّغُور الّتي دونَ
(a) في مقامات الحريري 310: "أنخت بملطية مطيَّة البين".
_________
(1)
الجواليقي: تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة 53.
(2)
تاريخ بغداد 7: 633، 14:456.
(3)
السمعاني: الأنساب 12: 421 - 422.
(4)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة أ.
جَبَل لُكَام، وتَحْتَفُّ (a) بها جبالٌ كَثِيْرة الجَوْز، وسَائر الثِّمَار مُبَاح لا مَالِكَ لَهُ، وهي من قُرَى بَلَدِ الرُّوم على مَرْحَلَةٍ.
نَقَلْتُ من كتاب البُلْدان، تأليفُ أحْمَد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب
(1)
، قال: وللثُّغُور الجَزَرِيَّة من المُدُن: مَرْعَش والحَدَث وزِبَطْرَة وسُميسَاط وحِصْنٍ مَنْصُور وحصْن زِيَاد
(2)
ومَلَطْيَة، وهي المَدِينَةُ العُظْمَى، وكانتْ مَدِينَةً قَدِيْمَةً فأخْرَبَتْهَا الرُّوم، فبَنَاهَا أبو جَعْفَر المنصُور سَنَة تِسْعٍ وثلاثين ومائة، وجَعَل عليها سُورًا واحدًا بلا فَصِيْل، ونَقَل إليها عدَّة قَبَائِل من العَرَب، فهي سَبْعة أسْباعٍ: سُبْعٌ لسُلَيْمِ وسَائر قَيْسٍ، وسُبعْ الهَواسيَّة، وسُبعْ الراعيَة (b) والجَعاونَة، وسُبعْ تيْم، وسُبْع رَيعة، وسُبعْ اليَمَنَ، وسُبع هَوَازِن.
ومَلَطِيَّة في مُسْتَوىً من الأرْض تُحيط بها جِبَال الرُّوم، وماؤُهَا من عُيُونٍ وأوْدِيَة ومن الفُرَاتِ.
أخْبَرَنَا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحْمَد بن عليّ، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد القَاسِم بن أبي القَاسِم، قال: أخْبَرنَا أبي أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن
(3)
، قال: أخْبَرَنَا أبو غَالِب المَاوَرْدِيّ، قال: أخْبَرَنَا مُحمَّد بن عليّ، قال: أخْبَرَنَا أبو عَبْد اللّه النَّهَاوَنْدِيّ، قال:
(a) البَلْخِيّ: وتحيف.
(b) مهملة في الأصل، ويمكن أن تقرأ أيضًا: البراعبة، الراعية، اليراعية، وكذا تقليب المثناة التحتيّة على الوجوه الثلاثة، صورتها الراعته.
_________
(1)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لليعقوبي.
(2)
حصن زياد: حصن يقع في أرمينية في أقصى ديار بكر من بلاد الرُّوم، وكان يسمى أيضًا: خرتبرت، بينه وبين ملطية مسيرة يومين، وبينهما الفرات، ويعرف اليوم باسم: خربوط. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 40، ابن سباهي زاده: أوضح المسالك 79، لسترنج: بلدان الخِلَافَة الشرقية 149، محمود شيت خطاب: بلاد الجَزِيرَة 40.
(3)
تاريخ ابن عساكر 37: 300.
أخبرَنَا أحْمَد بن عِمْران، قال: حَدَّثنا مُوسَى، قال: حَدَّثنا خَلِيفَة، قال
(1)
: وفيها - يعني سَنة أربعين ومائة - وجَّهَ أبو جَعْفَر عَبْدَ الوهَّاب بن إبْرَاهِيم بن مُحمَّد بن عليّ لبناء مَلَطْيَة، فأقام عليها سَنَةً حتَّى بَنَاهَا وأسْكنها النَّاس.
قَرَأتُ في كتاب البُلْدان، تأليفُ أبي جَعْفَر أحمد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ
(2)
، وحَكَاهُ عَمَّنَ حدَّثَهُ من أهل الشَّام، قالوا: وَّجه عيَاض بن غَنم حَبِيْبَ بن مَسْلَمَة الفِهْرِيِّ من سُمَيْسَاط (a) إلى مَلَطِيَّة ففَتَحَها، ثمِّ أُغلِقَتْ. فلَّا ولي مُعاوِيَةُ الشَّام والجَزِيرة، وجَّه إليها حَبِيْب بن مَسْلَمَة، ففَتَحَها عنْوَةً، ورَتَّبَ فيها رَابِطَةً من المُسْلِمِيْنَ مع عَامِلهَا، وقَدِمَها مُعاوِيَة وهو يُريد دُخُول الرُّوم، فَشَحَنَها بجماعةٍ من أهْل الشَّام والجزِيرَة وغيرها، وكانت طَريق الصَّوائِف.
ثمّ إِنَّ أهْلَهَا انتقلُوا عنها في أيَّام عَبْد اللّه بن الزُّبَيْر، وخَرجَت الرُّومُ فَشَعَّثَتها ثمّ تَرَكَتْها، فنَزَلها قَوْمٌ من النَّصَارى؛ من الأرْمَن والنَّبَط.
فَحَدَّثَني مُحمَّد بنُ سَعْد، عن الوَاقِدِيّ في إسْنَادِه، قالوا: كان المُسلِمُونَ نَزلُوا طُرَنْدَة بعد أنْ غَزَاهَا عَبْدُ اللّه بن عَبْدِ المَلِك سَنَة ثلاثٍ وثمانين، وبَنوا بها مَسَاكنَ، وهي من مَلَطِيَّةَ على ثلاث مَرَاحِل، وَاغِلَة في بلادِ الرُّوم، ومَلَطِيَّة يَوْمئذ خَراب ليس بها إلَّا ناسٌ من أهل الذِّمَّة من الأرْمَن وغيرهم، فكانت تأتيهم طالعَةٌ من جُنْد الجَزِيرة في الصَّيْفِ، فيُقِيْمُونَ بها إلى أنْ ينزل الشِّتَاءُ وتَسْقُط الثُّلُوج، فإذا كان ذلك، قَفَلُوا.
فلمَّا وَلي عُمَر بن عَبْد العَزِيْزِ، رَحَّلَ أهل طُرَنْدَة عنها وهم كارهُون، وذلك لإشْفَاقه عليهم من العَدُوّ، فاحْتَملُوا فلَم يدعُوا لهم شيئًا حتَّى كَسَرُوا خَوَابِيَ الخَلِّ والزَّيْت، ثمّ أنْزَلَهم مَلَطِيَّة، وأخْربَ طُرَنْدَة، ووَلَّى على مَلَطْيَة جَعْوَنَة بن الحَارِث، أحَدُ بَني عَامِر بن صَعْصَعَة.
(a) فتوح البلدان: شمشاط.
_________
(1)
ابن خياط: تاريخه 418، ونقله أيضًا ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 5: 192 - 193.
(2)
فتوح البلدان 261 - 262.
قالُوا: وخَرَج عشرُونَ ألفًا من الرُّوم في سَنَة ثلاثٍ وعشرين ومائة، فنزلُوا على مَلَطْيَةَ، فأغْلَق أهْلُهَا أبْوَابهَا، وظَهَر النِّسَاءُ على السُّور، عليهنَّ العَمَائمُ يُقاتِلْنَ، وخرَجَ رَسُول لأهْل مَلَطْيَة مُسْتَغيثًا، فرَكِبَ البَرِيدَ وسَار حتَّى لحَقَ بهِشَام بن عَبْد المَلِك وهو بالرُّصَافَةِ، فنَدَبَ هِشَامٌ النَّاس إلى مَلَطْيَةَ، ثمّ أتاه الخَبَر بأنَّ الرُّوم قد رَحَلَت عنها، فَدَعَا الرَّسُول فأخْبَرَهُ، وبعثَ معَهُ بخَيْلٍ ليُرَابَط علجها، وغَزَا هِشَامٌ نفسُه، ثمّ نَزَل مَلَطْيَةَ وعَسْكَر عليها حتَّى بُنِيَت، وكان مَمَرُّه بالرَّقَّةِ؛ دَخَلَها مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، ولَم يتقلّدْهُ قبل ذلك في أيَّامِهِ.
قال الوَاقِدِيُّ
(1)
: ولمَا كانت سَنَةُ ثلاثٍ وثلاثين ومائة، أقْبَل قُسْطُنْطِيْن الطَّاغِيَة عَامِدًا لمَلَطِيَّة، وكَمْخ
(2)
يَوْمئذٍ في أيْدِي المُسْلِميْنَ، وعليها رَجُل من بني سُلَيْم، فبعثَ أهْلُ كَمْخ الصَّرِيْخَ إلى أهل مَلَطْيَة، فَخَرَج إلى الرُّوم منهم ثمانمائة فَارِس، فواقَعتهم خَيْل الرُّوم فَهَزَمَتْهُم، ومَال الرُّومِيُّ فأنَاخَ على مَلَطْيَةَ فحصَر مَنْ فيها،
(1)
النقل عن فتوح اللاذري 363 - 364.
(2)
كَمْخ kemach: تقع شمال مَدِينَة سميساط، على خط العرض 39.36 والطول 39.02، وهي من الثُّغُور الجَزَرِيَّة، وعدّها خليفة بن خياط من بلاد الجَزِيرَة، وسماها الزوقنيني "قمح"، وهي مَدِينَة حصية على نهر الفرات من غربيه، تقع عل الطريق بين ملطية وزبطرة. وقد بقى متنازعًا عليها بين المُسْلِمين والروم طيلة العهد الأمويّ، يغلب طيها الرُّوم فيفتحها المسلمون، واستمرت على هذه الحال إلى أن فات دولة بني العبَّاس، فتم فتحها في عهد المنصرر سنة 149 هـ/ 766 م، ثمّ أخذها الرُّوم سنة 177 هـ/ 793 م وتمكن عامل شمشاط من استردادها، وبقيت في يد المُسْلِمين إلى أن وقعت الفتنة في الأمين والمأمون، فهرب أهلها واستولى عليها الرُّوم، فلمّا انتهت الفتنة وتمكن عبد الله بن طاهر من القضاء على الثورات التي وقعت في بلاد الشَّام استطاع فتحها من جديد، وهي اليوم مَدِينَة تركية جنوب أرزنكان في ولاية خربوت لواء دَرسِم. انظر: ابن خياط: تاريخ 424، الزوقيني: تاريخ 125، ابن خرداذبة: المسالك 97، قدامة: الخراج 115، 316، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 812، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 4: 479 (وسأل ياقوت واحدًا من أهلها فسماها له: "كماخ" بزيادة ألف)، موستراس: المعجم الجغرافي 426، لسترنج: بلدان الخِلَافَة 151.
والجَزِيرَة يَوْمَئذٍ مَفْتُونَة، وعَامِلَها من قِبَل بَني العبَّاس مُوسَى بن كَعْب بحَرَّان، فَوَجَّهُوا رَسُولًا لهم، فلم يُمْكنْهُ إعانتَهم (a)، وبَلَغَ ذلك قُسْطُنْطِيْن الطَّاغية، فقال لهم: يا أهْلَ مَلَطْيَةَ؛ إنِّي لم آتُكُمُ إلَّا على عِلْمٍ من أمركُم، وشَاغِل من سُلْطَانِكُم (b)، انْزِلُوا على الأمَانِ، وأخْلُوا المَدِينَة أهْدِمها (c) وأَمْضِي عَنْكم، فأَبَوا عليه، فوضَع عليها المَجَانِيْقَ، فلمَّا جَهَدَهُم البَلَاءُ وأشْتَدَّ عليهم الحِصَار، سألُوه أنْ يُوَثقَ لهم، فَفَعَل، ثمّ اسْتَعَدُّوا للرِّحْلةِ وحَمَلُوا ما اسْتَدَفَّ (d) لهمِ، وألْقُوا كَثِيْرًا ممَّا ثَقُل عليهم في الآبار والمَخَابِئ، ثُمَّ خَرَجُوا، وقامَ (e) لهم الرُّوم صَفَّيْن من باب المَدِينَةِ إلى مُنْقَطع آخرهم مُخْترطي السُّيُوف، طَرَف سَيْف كُلّ إمرئٍ منهم مع طَرف سَيْفِ الّذي يُقابِله حتَّى كأنَّها عقَد قنطَرَة، ثمّ شَيَّعُوهُم حتَّى بَلَغُوا مأمنهُم، وتوجَّهُوا نحو الجَزِيرَة، فتفرَّقُوا فيها، وهَدَم الرُّوم مَلَطِيَّةَ، فلم يبْقُوا منها إلَّا هُرْيها (f)، فإنَّهم شَعَّثُوا منه شيئًا يسيرًا، وهَدَمُوا حِصْن قُلوذَيَة.
فلَمَّا كانت سنَة تِسْعٍ وثلاثين ومائة، كَتَبَ المنَصُور إلى صالح بن عليّ يأمرُهُ ببناءِ مَلَطْيَة وتَحْصِينها، ثمّ رَأى أنْ يُوَجِّه عَبْد الوهَّاب بن إبْرَاهِيم الإمام وَاليًا على الجَزِيرَة وثُغُورها، فتَوَجَّه في سَنَة أرْبعينَ ومائة ومعَهُ الحَسَنُ بن قَحْطَبَة في جُنُودِ أهْل خُرَاسَان، وقَطع البُعُوث على أهل الشَّام والجَزِيرَة، فتَوافَى معَهُ سَبْعُونَ ألفًا، فعَسْكر على مَلَطِيَّة، وقد جَمَعَ الفَعَلَةَ من كُلِّ بَلْدَةٍ، فأخَذ في بنائها، فكان الحَسَن بن قَحْطَبَة ربَّما حَمَلَ الحَجَر حتَّى يُناولَهُ البنَاءَ، وجَعَل يُغدِّي النَّاسَ ويُعَشِّيْهم من مالهِ مُبْرِزًا
(a) فتوح البلدان: إغاثتهم، وفي نسخة منه ما يوافق المثبت.
(b) فتوح البلدان: وتشاغل سلطانكم عنكم.
(c) فتوح البلدان: أخرجها.
(d) فتوح البلدان: ما استدقَّ، بالقاف وصوابه الفاء، حملوا ما استدَفَّ لهم: أي ما تهيَّأ لهم حمله وأمكن وتسهَّل. لسان العرب، مادة: دفف.
(e) فتوح البلدان: وأقام.
(f) فتوح البلدان: إِلَّا هُرْيًا.
مَطَابِخَهُ، فغاظ ذلك عَبْد الوهَّاب، فبَعَثَ (a) إلى أبي جَعْفَر يُعلمه أنَّه يُطْعِم النَّاسَ، وأنَّ الحَسَن يُطْعمُ أضْعَاف ذلك التِمَاسًا لأنْ يَطُولَه ويُفْسِد ما يَصْنَع ويُهجِّنه بالإسْرَاف والرِّيَاء، وأنَّ لَهُ مُنَادِينَ يُنادُونَ النَّاس إلى طَعامِه، فكَتَبَ إليهِ أبو جَعْفَر رَحْمةُ الله عليه: يا صَبِيّ، يُطْعِمُ الحَسَنُ من مَالِه، وتُطْعِمُ من مالي فيَفْضُلكَ، ما أُتِيْتَ إِلَّا من صِغَر خَطرك، وقِصَر (b) هِمَّتِكَ، وَسَفَه رأيك! وكَتَبَ إلى الحَسَن: أنْ أطْعِم ولا تَتَّخذ مُنادِيًا. وكان الحَسَنُ يقُول: مَنْ سَبَقَ إلى شُرْفَةٍ فَلَهُ كَذَا، فَجَدَّ النَّاسُ في العَمَل حتَّى فَرَغُوا من بناء مَلَطِيَّة ومَسْجِدهَا في ستَّة أَشْهرٍ، وبُني للجُنْدِ الّذين أُسْكِنُوها لكُلِّ عِرَافَةٍ بَيْتَان سفليَّان، وعليَّان (c) فَوْقهما، وإِصْطَبْل، والعِرَافَة: عَشَرة نَفَرٍ إلى الخَمْسَة عَشَر، وبَنَى لها مَسْلَحَةً على ثلاثين مِيْلًا منها، ومَسْلَحَةً على نَهْرٍ يُدْعَى قُباقِب، يَدْفَع في الفُرَاتِ، وأسْكن المَنْصُور مَلَطْيَةَ أرْبَعة آلاف مُقَاتِل من أهْلِ الجَزِيرَة، لأنَّها من ثُغُورهم، على زيَادَة عَشَرةِ دَنَانِير في عَطَاءِ كُلِّ رَجُلٍ، ومَعُونَة مائة دِيْنار سوى الجُعْل الّذي يَتَجَاعَلَهُ القَبَائِل، ووضَعَ فيها شِحْنَتها من السِّلاح، وأقْطَعَ الجُنْدَ المَزَارِع، وبني حِصْن قلوْذَيَةَ (d)، وأقْبَل قُسْطُنْطِيْن الطَّاغِيَة في أكثر من مائةِ ألْفٍ، فنَزَل جَيْحَان، فبلغَهُ كثرة العَرَب، فأحْجَم عنها.
قال
(1)
: وفي سَنَة إحْدَى وأربعينَ ومائة، غَزَا مُحمَّدُ بن إبْرَاهِيْم مَلَطِيَّة في جُنْد من أهل خُرَاسَان، وعلى شُرْطَتِهِ المُسَيَّب بنُ زُهَيْر، فرابَطَ بها لئلَّا يَطْمَع فيها العَدُوّ فيراجع إليها مَنْ كان باقيًا من أهْلها، وكانت الرُّوم عرضت لَمَلَطِيَّة في
(a) فتوح البلدان: فكتب.
(b) فتوح البلدان: وقلَّة، وفي نسخة منه ما يوافق المثبت.
(c) فتوح البلدان: عُلِّيَّتان، ومثله عند ابن الفقيه: كتاب البلدان 163، نقلًا عن الوَاقِدِيّ.
(d) فتوح البلدان مجودًا: قَلُودِيَة، وعند ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 4: 392: قَلَوْذِيَة، والمثبت مع ضبطه من الأصل، ويوافق: ابن الفقيه: كتاب البلدان 163، قدامة: الخراج 318، ابن شدَّاد: الأعلاف الخطيرة 1/ 2: 41.
_________
(1)
فتوح البلدان 265.
خِلَافَة الرَّشِيدِ فلم تَقْدِر عليها، وغَزَاهم الرَّشِيد فأشْجَاهُم وقَمَعَهُم. وقد سَمِعْتُ مَنْ يذكُر أنَّه كان مِع عَبْد الوهَّاب بن إبرَاهِيم، نَصْر بن مالِك، وكان نَصْر بن سَعْد الكَاتِب موْلَى الأنْصَار معَهُ أيضًا، وقال:[من الطّويل]
تَكَنَّفَكَ النَّصْرَان: نَصْرُ بن مالِكٍ
…
ونَصْرُ بنُ سَعْدٍ، عَزَّ نَصْرُكَ من نَصْرِ
بابٌ في ذِكْرِ سُمَيْسَاط
(1)
وهي مَدِينَةٌ صَغِيرةٌ على الفُرَات، ولها قَلْعَةٌ حَصِيْنَةٌ، وهي مَذْكُورَة، وخَرَجَ منها جَمَاعةٌ من العُلَمَاءِ.
وقال أبو زَيْد أحْمَد بن سَهْل البَلْخِيّ، في ذِكْر صِفَة الأرْض والمُدُن وما تَشْتَمل عليه
(2)
: وأمَّا سُمَيْسَاط فهي على الفُرَات، وكذلك جِسْر مَنْبج، وهما مَدِينَتان صَغِيْرَتان خِصْبَتَان، لهما زُرُوع ستي ومَبَاخس، وماؤُهما من الفُرَات.
(1)
سميساط، sumaysat: تقع على خط العرض 37.30 والطول 38.31، وهي في ناحية الشرق من سنجة وكيسوم، صغيرة مطلة على الفرات من جهة الشَّام، وهي قديمة حيث ورد ذكرها عند الجغرافي الإغريقي سترابون (ت 31 م) وسمّاها "ساموساتا"، وهي محصنة ولها قلعة، وذكر المسعودي أن قلعة سميساط تسمى قلعة الطين، ويحتفّ بالمَدِينَة جبال كَثِيرة، وسقيها من الفرات، وموضع المَدِينَة أصبح محصورًا كالجَزِيرَة بعد أن أحاطت بها مياه الفرات عقب إنشاء سد أتاتورك. انظر: سترابون: جغرافية 40، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، ابن الفقيه: البلدان 176، 180، قدامة: الخراج 115، 187، المسعودي: مُروج الذَّهب 1: 117، الإصطخري: مسالك 62، 67، 76، ابن حوقل: صورة الأرض 181، 187، 227، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 651، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 3: 43، الوطواط: مناهج الفكر 1: 361، أبو الفداء: تقويم البلدان 367، الحيري: الرَّوض المعطار 333 (وذكرها من بلاد العجم)، موستراس: المعجم الجغرافي 306، محمود شيث خطاب: بلاد الجَزِيرَة قبل الفتح وفي أيامه 34، CP.HAASE،EL 2،SUMAYSAT،IXPP 871 - 872
(2)
البَلْخِيّ: صور الأقاليم ورقة 34 أ.
وذَكَرَ أحْمَد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب في كتاب البُلْدان، قال
(1)
: وكُورَة سُمَيْسَاط وهي مَدِينَة على الفُرَاتِ، بها أخْلَاطٌ من النَّاس.
وقد ذَكَرَهَا ابن وَاضِح
(2)
في كُوَر ديار مُضَر، وليسَت منها، بل إنَّما ذكَرَها فيها لأنَّها من جُمْلة الثُّغُور الجَزَرِيَّة، وقد ذَكَرْنا أنَّها من ثُغُور الشَّام، وإنَّما تُعرف بثُغُور الجَزِيرَة لأنَّ أهْلَهَا يَغْزُونَ منها وبها يُرَابطُونَ، وخَرَاجها إلى عَامِل دِيار مُضَر، وأمَّا حَرْبُها وصَلَاتُها فإنَّه ما زال إلى عَامِل جُنْد قِنَّسْرِيْن والعَوَاصِم.
وذكَرَ البَلاذُرِيّ في كتاب البُلْدان، قال
(3)
: وحَدَّثَني أبو أَيُّوب الرَّقِّيّ المُؤَدِّب، قال: حَدَّثَنِي الحَجَّاج بن أبي مَنيع الرُّصَافِيّ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: فَتَحَ عِيَاض الرَّقَّة، ثمّ الرُّهَا، ثمّ حَرَّان، ثمّ سُمَيْسَاط على صُلْحٍ واحد.
وقال
(4)
، فيما حَكَى عن شُيُوخ الشَّام وغيرهم، قالوا: ثمّ أتَى عِيَاض ففَتَحَ حَرَّان، ووَجَّه صَفْوَان بن المُعَطَّل وحَبِيْب بن مَسْلَمَة الفِهْرِيّ إلى سُمَيْسَاط، فصَالَح عِيَاضٌ أهل حَرَّان على مثل صُلْح الرُّهَا، وفَتَحُوا له أبوابها وولَّاها رَجُلًا، ثمّ سار إلى سُمَيْسَاط فوجَدَ صَفْوَان بن المُعَطَّل وحَبِيْب بن مَسْلَمَة مُقِيْمَيْن، وقد غَلَبَا على قُرَى وحُصُون من قُرَاها وحُصُونها، فصَالَحه أهلها على مثل صُلْح الرُّهَا.
قال
(5)
: ثمّ إنَّ أهل سُمَيْسَاط كَفروا، فلمَّا بلغه ذلك، رَجَع إليهم فحاصَرهم حتَّى فَتَحَها.
(1)
ضمن الضائع من كتاب البلدان.
(2)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لليعقوبي.
(3)
فتوح البلدان 241.
(4)
فتوح البلدان 240.
(5)
فتوح البلدان 241.
قُلْتُ: وصُلْح الرُّهَا على أن يُؤدُّوا عن كُلِّ رَجُلٍ دِيْنارًا ومُدي قَمْح، وعليهم إرشاد الضَّال، وإصلاح الطُّرُق والجُسُور، ونَصِيحة المُسْلِمين.
وقَرَأتُ في تاريخ سَعيد بن بِطْريق النَّصْرانيّ، قال
(1)
: وكان في عَصْر إبْرَاهِيم عليه السلام مَلِكٌ في الشَّرْق اسْمُه كمُوس (a)، وهو الَّذي بَنَى مَدِينَة سُوَمَيْسَاط وقُلُوْذَيَا (b) والعِرَاق.
وقُلُوذَيَة: حِصنٌ قريبُ من مَلَطيَة قد ذكَر البَلاذُرِيّ
(2)
أنَّ المَنْصُور بَنَاهُ.
وبين مَلطيَة وسُمَيْسَاط ستَّة عَشَر فَرْسخًا. وهي في أيْدِي المُسْلِمين في زَمَنِنَا هذا.
بابٌ في ذِكْرِ رَعْبَان
(3)
وهي مَدِينَةُ صَغِيرَةٌ، قَديمَةُ البناء، ولها قَلْعَةٌ حَسَنَة، وهي الآن في أيْدِي المُسْلِمِيْن، وكان لسَيْفُ الدَّوْلَة بن حَمْدَان بها وَقعَةٌ مع الرُّوم، وبينها وبين الحَدَث سَبْعة فَرَاسِخ، وبها آثار أبْنيةٍ قَدِيمَة، ويُنْسب إليها جَمَاعَة منهُم بنو الرَّعْبَانِيّ بحَلَب من أكابر الحَلَبِيِيّن، منهم الوَزير سَدِيْد الدَّوْلَة أبو القَاسِم هِبَة الله بن مُحمَّد بن عَبْد البَاقِي بن الرَّعْبَانِيّ كاتِب مُعِزّ الدَّوْلَة ثِمَال بن صالح، وتولَّى الوزارة للمُسْتَنْصِر
(a) ابن بطريق: کورش.
(b) ابن بطريق: سميساط وقلوديا، بالدال المهملة.
_________
(1)
التاريخ المجموع 25.
(2)
فتوح البلدان 265.
(3)
رعبان: تقع إلى جهة الشمال الشرقي من دلوك، وهي مَدِينَة صغيرة ولها قلعة تقع في أسفل جَبَل، وقد خربتها الزلازل سنة 340 هـ/ 951 م فأعاد سَيْفُ الدَّوْلَة عمارتها. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، 97، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، قدامة: الخراج 187، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 51، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 101، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363.
المُسْتَولي على مِصْر، وَسَنَذْكُر تَرْجَمَتَهُ وتَرْجَمةُ
(1)
ممَّن يُنْسَب إليها في كتابنا هذا إنْ شَاءَ اللهُ.
وذَكَرَ ابنُ وَاضِح في كتابهِ، في ذكْرِ كُور قِنَّسْريْن والعَوَاصِم، فقال
(2)
: وكُورَتا دُلُوْك ورَعْبَان وهُما مُتَّصلتان.
وذكَرَ قُدَامَة في كتاب الخَرَاج
(3)
: أنَّ الرَّشِيد لَمَّا اسْتُخْلِفَ أفْرَدَ قِنَّسْريْن بكُوَرِهَا، فَصَيَّر ذلك جُنْدًا، وأفرَدَ مَنْبِج، ودُلُوْك ورَعبَان، وقُورُس، وأَنْطَاكِيَة، وتِيْزِيْن، وسَمَّاها العَوَاصِم، لأنَّ المُسْلِمين يَعْتَصِمُونَ بها في ثُغُورهم فتَعصِمَهُم.
وكانت الزَّلَازل قد أخْرَبَت رَعْبَان، وجَلا أهْلُها، وانْدَرَس أثَرها، ومَلَكَها العَدُوّ في أيَّام سَيْفُ الدَّوْلَة، فَأنْهَضَ إليها العَسَاكر والصُّنَّاع، وأنفق عليها الأمْوَال الجَسيمَة حتَّى بناها في مُدَّة شَهْر، وعَساكر الرُّوم جَامِعة والحَرْب وَاقِعَة، وكان خَلِيفَته على الجَيْش أبا فِرَاس، وبعد أنْ بَنَاها، قَصَدَها الدُّمُسْتُق ونَزَلَ عليها، فسار إليهِ سَيْفُ الدَّوْلَة، فأوْقَع به وهَزَمهُ، وقَتَلَ وأَسَرَ خَلْقًا من عَسْكره، وخَلَّف أسْلحتَهم في المَدِينَة قُوَّةً لأهلها، وفي ذلك يقول أبو فِرَاس
(4)
: [من الطّويل]
وَسَوفَ على رَغْمِ العَدُوِّ يُعِيدُها
…
مُعَوَّدُ
(5)
رَدِّ الثَّغْرِ، والثَّغْرُ دَاثِرُ
(1)
ترجمة الوزير سديد الدين الرباني في الضائع من الكتاب، ولم يرد في المتبقي من كتاب ابن العديم سوى ترجمة لواحد من أحفاده اسْمُه: أبو الفتح بن مُحمَّد بن هبة الله الرَعْبَانيّ، وهي ترجمة صغيرة عارضة في الكني.
(2)
ضمن الضائع من كتاب البلدان اليعقوبي.
(3)
قدامة: الخراج 299.
(4)
ديوان أبي فراس الحمداني 108.
(5)
الأصل: معودة، والمثبت رواية الديوان.
بابٌ في ذِكْرِ دُلُوْك
(1)
وهي مَدِينَةٌ قَدِيْمَةٌ لها ذِكْر، وخَرَجَ منها بعضُ العُلَمَاءِ ممَّن نذكُرهُ في كتابنا هذا
(2)
، وكانت مَدِينَة عَامِرَة، ولها قَلعَةٌ من بناءِ الرُّوم، عَالِية، مَبنيَّة بِالحِجَارَة من بناءِ الرُّوم، وكان الرَّشِيد قد أفرَدَها مع غيرها، وجَعَلها من العَوَاصِم، لأنَّها كانت تَعْصِم ما يليها من الثُّغُور الجَزَرِيَّة من جهة الشَّمَال، وكان لها قَناةٌ قد رُكِّبت على قَناطِر يَصْعَدُ الماءُ عليها إلى القَلْعَة، وَحَوْلها أبْنية عَظِيمَةٌ حَسَنَةٌ مَنقُوشَةٌ في الحَجَر، وحَولها مَياهٌ كَثِيْرةٌ وبَسَاتِين، وهي كَثِيْرة الفواكه والكُروم، وقيل: إنَّ مقام داوُدَ عليه السلام كان بها، وأنَّه جَهَّز الجَيْش منها إلى قُورُس، فقُتِل فيه أُوريَّا بن حَنَان (a)، وقد خَرِبَت المَدِينَةُ والقَلْعَةُ، وبقيت الآن قَريَة مُضَافة إلى عَين تَاب، وبها فَلَّاحُون وأَكَرَه.
وذَكَرَ البَلاذُرِيّ في كتاب البُلْدان، قال
(3)
: وبَعَثَ - يعني أبا عُبَيْدَة - عِيَاضَ بن غَنْم إلى نَاحِيَة دُلُوك ورَعْبَان، فصَالَحَهُ أهْلُها على مِثل صُلْح مَنْبِج، واشْتَرَطَ عليهم أَنْ يَبْحَثُوا عن أخْبَار الرُّوم، ويُكَاتِبُوا بها المُسْلِمين.
وصُلح مَنْبِج كان على الجِزْيَة أو الجَلَاءِ.
(a) هكذا ضبطه المؤلِّف. حيثما يرد - بالفتح مُخَفَّفًا: حَنَان، ويأتي مثله بعده - عند الكلام على قورس - ما ورد من أن قبره فيها أيضًا، وضبطه أبو الحَسَن الهروي بالتشديد وذكر أن قبره بدلوك. الإشارات 5، وعند المسعودي: مُروج الذَّهب 1: 63: أوريا بن حيان.
_________
(1)
دُلُوك: مَدِينَة قديمة تقع قرب رَعْبَان إلى جهة الغرب، وإلى الشمال من عينتاب، وفيها قلعة عالية مبنية بالحجارة من بناء الرُّوم، تصلها المياه عبر قناة رُكِّبت على قناطر، وحول المَدِينَة مباني جميلة مبنية من الحجر المشذب، وتحيط بها المياه والبساتين الكثيرة العامرة بالفواکهـ والكروم. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، 97، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، اليعقوبي: تاريخ 2: 255، اليعقوبي: البلدان 363، (وذكر اليعقوبي أن المَدِينَة والقلعة قد طالها الخراب في وقته "نهاية القرن الثالث الهجري"، قدامة: الخراج 187، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 461، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 102، الوطواط: مناهج الفكر 1:، 363، P 624 II ، Duluk ، EF ، p Sourdel .D
(2)
لم يرد في المتبقي من الكتاب أيًا من تراجم علماء دُلُوك.
(3)
فتوح البلدان 204.
وخَرَبَّها نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي بعدما تَسَلَّمها من الجُوسْلِين، بعد أن أَسَرَهُ على ما نذكره بَعْدُ
(1)
إنْ شَاءَ اللهُ.
بابٌ في ذِكْرِ قُوْرُس
(2)
وهي مَدِينَة كانت قديمةً من بناء الرُّوم، وبها آثار عظيمة، ويُقالُ إنَّ بها قبْر أُوِريَّا بن حَنان، وخَرَجَ منها جَمَاعَةٌ من الرُّواة، ولها ذكِرٌ في الفُتُوح.
ونكرها أحْمَد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح في كور جُنْد قِنَّسْريْن والعَوَاصِم، فقال
(3)
: وكُورَة قُوْرُس مَدِينَةٌ قَدِيمةٌ، وأهْلُهَا قَومٌ من قَيْسٍ، وكان الغَالِبونَ عليها آل العبَّاس بن زُفَر الهِلَالِيّ.
وذَكَر أحْمَد بن يَحْيَى بن جَابر البَلَاذُرِيّ، فيما حَكاهُ في كِتَاب البُلْدان
(4)
عن مَشَايخ الشَّام، قالُوا: وسَارَ أبو عُبَيْدَة يُرِيدُ قُوْرُس، وقَدَّمَ أمامَهُ عِياضًا، فتَلَقَّاهُ
(1)
لعل الإحالة على خبرها في ترجمة نور الدين، ضمن الضائع من أجزاء الكتاب.
(2)
قُوْرُس: وهي أول مَدِينَة ثغرية في غربي حَلَب من مدن الثُّغُور الشَّامِيَّة، وذكرها ابن خرداذبة مرة كورة من العَوَاصِم وأخرى من الثُّغُور الجَزَرِيَّة، وعند الوطواط من العَوَاصِم، وهي على الحد بين الثُّغُور الشَّامِيَّة وقِنَّسْريْن، تبعد عن حَلَب نحو 33 كم، (أو مسيرة يوم باعتبارات الجغرافيين القدامى)، وهي مَدِينَة رومية قديمة وكانت قليلة السكان، وقد تعرضت المَدِينَة لغزو الرُّوم في سنة 293/ 906 م، فقاتلهم أهلها ولم يستطيعوا صدهم، ودخلوا المَدِينَة، وأحرقوا مسجدها. وهي اليوم قرية من قُرى مَدِينَة كيلر التركية، وذكر كامل الغزي أنها القرية المعروفة الآن باسم: الشّيخ خوروز وتقع إلى الشمال الغربي من مَدِينَة كلز. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، 97، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 107، الطبريّ: تاريخ 10: 129، الإصطخري: مسالك 65، 67، ابن حوقل: صورة الأرض 185، 187، مجهول: حدود العالم 175، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 264، 4: 412، ابن الأثير: الكامل 7: 546، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 103، أبو الفداء: تقويم البلدان 235، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، ابن الشحنة: الدر المنتخب 177، 225، کامل الغزي: نهر الذَّهب 1: 373 - 374.
(3)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لليعقوبيّ، ولم يذكره في تاريخه.
(4)
فتوح البلدان 203.
رَاهِبٌ من رُهْبانِها يَسألُ الصُّلْح عن أهْلها، فَبَعَث به إلى أبي عُبَيْدَة وهو بين جِبْرِين وتَلِّ عَزَاز فصَالَحه، ثمّ أتى قُوْرُس، فعَقَد لأهلهَا عَهْدًا، وأعطَاهُم مثل الَّذي أعطى أهْلَ أَنْطَاكِيَة، وكتَبَ للرَّاهِب كتابًا في قَرْية لَهُ تُدْعَى سَرْقِيْنَا (a) ، وبَثَّ خَيْلَهُ فغَلَبَ على جميع أرض قُورُس إلى آخرِ حَدِّ نِقَابُلس
(1)
.
قالوا
(2)
: وكانت قُوْرُس كالمَسْلَحَة لأَنْطَاكِيَة، يأتيها في كُلِّ عام طَالعَةٌ من جُنْد أَنْطَاكِيَة ومُقَاتِلَتها، ثُمّ حُوِّل إليها رُبْعٌ من رُبْع أَنْطاكِيَةَ، وقُطِعَت الطَّوَالعُ عنها.
وقال البَلاذُرِيّ
(3)
: ويُقالُ إنَّ سَلمَان بن رَبِيعَة البَاهِلِيِّ كان في جَيْش أبي عُبَيْدَة مع أبي أُمَامَة الصُّدَيّ بن العَجْلَان، صَاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل حِصْنًا بقُورُس، فَنُسِبَ إليهِ فهو يُعْرَفُ بحِصْن سَلْمَان. قال: وقيل إنَّ سَلْمَان بن رَبِيعَة كان غَزَا الرُّوم - بَعْد فَتْح العراق، وقَبل شُخُوصه إلى أَرْمِينِيَة - بعَسْكرٍ عند هذا الحِصْن، فَنُسِبَ إليه.
قال
(4)
: وسَمْعتُ مَنْ يذكر أنَّ سَلْمَان هذا رَجُل من الصَّقَالِبَة الّذين رَتَّبهُم مَرْوَانُ بن مُحَّمد بالثَّغُور، وكان فيهم زِيَاد الصَّقْلَبِيّ، فنُسِبَ إليه هذا الحِصْنُ، واللّهُ أَعْلَمُ.
(a) كذا مجودًا في الأصل، ومثله في بعض أصول فتوح البلدان (مصدر النقل)، واعتمد محقق الفتوح ما ورد بالشين المعجمة: شرقينا، ولم أقف لها على ذكر فيما سوى ذلك.
_________
(1)
نقابلس: تقع قريبة من قُوْرُس، وهي مَدِينَة بالثغور الشَّامِيَّة، من جُنْد قِنَّسْريْن والعواصم، وهي آخر حدّ أرض قُوْرُس، وموضعها اليوم مجهول ويبدو أن ذَكَرَها توقف منذ القرون الثلاثة الأوّلى، أو أن اسمها تغير. انظر: قدامة: الخراج 186، 305، البكري: المسالك 1: 459.
(2)
النقل متتابع عن البَلاذُرِيّ 203.
(3)
فتوح البلدان 204.
(4)
فتوح البلدان 204.
بابٌ في دِبْرِ كَيْسُوم
(1)
وكانت مَدِينَة كبيرة قَدِيْمَة، وولاية وَاسَعة عَظِيمَة، وكان حِصْنُها حَصِيْنًا، وبناؤُهُ قَويًا رَكِيْنًا، وكان بها - في أيَّام المأْمُون - نَصْرُ بن شَبَث العُقَيْلِيِّ
(2)
، وكان من قُوَّاد بني العبَّاس، فعَصَى فيها على المأْمُون، فسَيَّر إليهِ طَاهِر بن الحُسَيْن، فلقيَهُ نَصْر وكَسَرَهُ، فعَادَ طَاهِرٌ مَغْلُولًا إلى الرَّقَّة، وبقي نَصْرٌ على عِصْيَانهِ، فَسَيَّر
(1)
كَيْسُوم: وهي في جهة الشمال من دُلُوك ورَعْبَان، ومدينة قديمة حصينة، إذ كان لها خمسة أسرار وخندق، ثلاثة من أمرارها بناها نصر بن شبث العقيلي سنة 198 هـ/ 814 م، واستمدت المدينة شهرتها من تحصن ابن شبث فيها أيَّام تغلبه على المنطقة في عهد المأمون، واليوم تقع في تركيا إلى الجنوب الغربي من مدينة أديامان (Adiyaman) التركية، وتسمى اليوم كيسون (Keysun)، بإبدال الميم نونًا. انظر: ابن خرداذبة: المسالك، 97، اليعقوبي: تاريخ 2: 327، اليعقوبي: البلدان 363، قدامة: الخراج 187، مارمِيْخَائِيْل: تاريخ 2: 451، 3: 15، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 4: 497، ابن العبري: تاريخ الزمان 20، 25، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 104، وانظر مقالة بورورث عن نصر بن شبث ففيها الكلام على كَيْسُوم: Bosworth ، El ، Nasr b . Shabath ، VII ، p 1016
(2)
هو نصر بن شبث بن بن أبي بكر بن كعب بن حبيب بن عاص، وبقية سياقة نسبه في جمهرة ابن حزم 291، وثورته التي قام بها من أطول الثورات في العصر العباسي؛ شغلت الخِلَافَة وَجُنْد قنسرين مدة طويلة استمرت ثلاث عشرة سنة ونصف بالتمام (رجب سنة 196 هـ حتَّى وقت القبض على نصر في شهر ذي القعدة سنة 209 هـ)، انظر عنه وعن ثورته: ابن طيفور: كتاب بغداد 23، 37، 90، 97، تاريخ اليعقوبي 2: 312، 320 - 323، ابن أعثم: الفتوح 8: 312 - 314، تاريخ الطبريّ 8: 580، 600 - 613، حمزة الأصفهاني: تاريخ سني ملوك الأرض 229، ابن قُتَيبة: المعارف 387، 390، الأزدي: تاريخ الموصل 334، 366، الشابشتي: الديارات 133 - 135، مجهول: العيون والحدائق 3: 365، ابن الجوزي: المنتظم 10: 198 مارمِيْخَائِيْل، تاريخ 3: 8 - 17، ابن العبري: تاريخ الرمان 23 - 25، ابن الأثير: الكامل 6: 298، 304، 308، 363، 389 - 390، 396، الذهبي: العبر 1: 380، النويري: نهاية الأرب 22: 190، ابن العماد: شذرات الذَّهب 3: 46.
المأمُون إليهِ عَبْد اللهِ بن طاهر بن الحُسَيْن، فَحَصَرَهُ بها إلى أنْ فَتَحَها، وخَرَّب الحِصْن، وبَقِيَت المَدِينَة، وهي الآن قَريةٌ كبيرةٌ عَامِرَةٌ بها الفَلَّاحُون، وهي في أيْدِي المُسْلِمين.
وقد ذَكَرَها أحْمَد بن أبي يَعقُوب بن وَاضِح الكَاتِب في كتابه، فقال
(1)
: وهي مَدِينَة جَليلَةٌ حَصِينَةٌ، كان بها نَصْر بن شَبَث مُتحصِّنًا لمَّا خَالَف، وقد صار إليها المَأْمُون.
قُلْتُ: وقد رَأيتُها في طَريقي إلى الرُّوم، وبينها بين الحَدَث سَبَعَةُ فَرَاسِخ.
بابٌ في ذِكْرِ عَزَاز
(2)
وهي الآن مَدِينَةٌ عَامِرَةٌ، ومَحَاسِنُها في هذا العَصْر سَائره، قد كَثُر بناؤُها، واتَّسَعَت أرْجَاؤُها، وعمرت قَلعَتها، وكَثُرت مَنفعَتَها، وكانت قَلعَتها مَبْنِيَّة بِاللَّبِن والمَدَر، فعَمَرها المَلِكُ الظَّاهِر (a) رحمه الله بالحَجَر، فصَارت من أحْصَنِ القِلَاع، ومدينَتها من أحْسَن البِقَاع.
(a) كُتب في الهامش: الملك الظاهر هو غازي بن يوسف بن أيُّوب.
_________
(1)
لم يرد في كتابه البلدان، وذكرها في تاريخه في أثناء عرض أخبار نصر بن شبث، ولم يحدد موضعها واكتفى بالقول: كَيْسُوم من أرض الجَزِيرَة من ديار مضر. انظر تاريخ اليعقوبي 3: 311، 333، 337.
(2)
عزاز أو أعزاز أو تل أعزاز: Azaz تقع على خط العرض 36.35 والطول 37.03، إلى جهة الشمال بميلة إلى الغرب من حَلَب على بعد نحو 47 كم، وكانت إحدى مدن جُنْد قِنَّسْريْن التي أصبحت تُذُكر بعد القرن الرابع "عزاز" بإسقاط الألف ودون إضافتها للتل، وهي اليوم من مدن محافظة حَلَب. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 75، الإسكندري: الأمكنة 2: 241 (وجعلها من نواحي الرقة)، ابن سعيد: بسط الأرض 87، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 4: 118، أبو الفداء: تقويم البلدان 232، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، موستراس: المعجم الجغرافيّ 77، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 113 - 114.
وكانت تُعْرف في صَدْر الإسْلَام بتَلِّ عَزَاز، ولا ذكِر لها إِلَّا بالعُبُور بها والاجْتِيَاز، ولإسْحَاقَ بن إبْرَاهِيم المَوصِليِّ قِصَّةٌ فيها مع بنت قَسٍّ يُقالُ لها حَنَّه، ذَكَرها أبو الفَرَج الأصَبَهانِيِّ
(1)
، وقال فيها إسْحَاق المَوصِليِّ أبياتًا، وهي
(2)
: [من الخفيف]
إنَّ قلبي بالتَّلِّ تلِّ عَزَازِ
…
عندَ ظَبي من الظِّبَاءِ الجَوازِي
شادنٍ يسكُنُ الشَّآمَ وفيهِ
…
مَعَ شَكْلِ (a) العِرَاقِ ظَرفُ الحِجَازِ
يا لقَومي لبِنتَ قسٍّ أصابَتْ
…
منك صَفْوَ الهَوَى وليست تُجازِي
حَلَفَت بالمَسِيحِ إن تُنْجزَ الوَعْـ
…
دَ ولَيْسَت تَهُمُّ (b) بالإنْجَازِ
وكان الفِرنْج، خَذَلَهُم الله، قد اسْتَوْلَوا على عَزَاز في شَهْر رَمَضَان من سَنة اثنتي عَشرة وخَمْسِمائَة، ولَقِيَ أهْلُ حَلَب منهُم شِدَّة عظيمة، إلى أن فَتَحها نُور الدِّين مَحمُود بن زَنْكِي بن آق سُنْقُر، رحمه الله، في سَنَة خَمْسٍ وأربعين وخَمْسِمائَة، وتَسَلَّمَها من يَدِ جُوسْلِين.
وحَكَى لي والديّ، رحمه الله، أنَّ نُور الدِّين كان على حِصَارها، فسَمعنا بحَلَب أنَّها قد فُتِحَت، وكان ذلك في ساعة من نهارٍ، ولم نتحقَّق الخَبر، فوقَع کتاب نُور الدِّين على جَنَاح طَائر بأنَّها فُتِحَت في تلك السَّاعَة التي أُخبر بفَتْحَها فيها.
_________
(a) الديوان: دل، وفي الأغاني مرة: دل، والأخرى: ظرف.
(b) الديوان والأغاني: تجود، وفي الرواية الأخرى من الأغاني ما يوافق المثبت.
_________
(1)
الأغاني 5: 243، 275.
(2)
ديوان إسحاق المَوصِليِّ 140.
وكان مَحْمُود بن نَصْر بن صالِح أمير حَلَب قد ولَّى فيها أبا مُحمَّد عَبْد اللهِ بن مُحمَّد الخَفَاجِيّ الحَلَبِيّ، فعَصَى بها، فاحتال مَحْمُود حتَّى سَمَّهُ فمات بها، وسَنَذكُر القصَّة في تَرْجَمَة أبي مُحمَّد الخَفَاجِيّ
(1)
.
وقال أبو عَبْد اللهِ مُحمَّد بن نَصْر بن صَغير القَيسَرَانيّ، وقد اجْتَاز بعَزَاز، فرأى فيها نسَاءَ الفِرنْج، وأجازَهَا لنا شَيْخُنا أبو اليُمن زَيْد بن الحَسَن الكِنْدِيّ عنْهُ، وقرأتها بخَطِّه في دِيوان شِعْره
(2)
: [من الخفيف]
أَيْن عِزِّي مِنْ رَوْحَتَي بعَزَاز
…
وجَوَازِي عَلَى الظِّبَاء الجَوَازي
واليعَافيرُ سَاحبَات الغَفَافيـ
…
ــر (a) علينا كالرَّبْرَب الْمُجْتَاز
بِعُيونٍ كالمُرهَفات المَواضِي
…
وَقُدُودٍ مِثْل الْقَنَا الهَزهَازِ (b)
ونُحُور تَقَلَّدْت بثُغُور
…
ريقُها ذَوْبِ سُكَّرٍ الْأَهْوَاز
وَوُجُوه لَهَا نُبُوَّةٌ حُسنٍ
…
غير أنَّ الْإِعْجَازَ فِي الْإِعْجَازِ
كُلُّ خَمْصَانَةٌ ثَنَت طَرَف الزُّنَّارِ
…
من سُرَّةٍ عَلَى هرَّازِ (c)
ذَات خَصْر يَكَادُ يَخْفَى عَلَى
…
الفارس منه مَوَاقِع الْمِهْمَاز
لاحَظَتْنِي فَانْقَضَّ مِنْهَا عَلَى قَلْبِي
…
طَرْفٌ لَه قَوادِمُ بَازِ
وَسَبَتْني لَهَا ذَوَائب شَعْرٍ
…
عَقَدَتها تَاجًا عَلَى أبراز (d)
مَن مُعِيني عَلَى بَنَات بَنِي الأصْفَرِ
…
غَزْوًا فَإِنَّنِي الْيَوْم غَازِ
(a) الديوان: المغافير.
(b) الديوان: الهزاز.
(c) الديوان: من تَكَّة على هَوَّاز.
(d) الديوان: أبرواز.
_________
(1)
تَرْجَمَة ابن سنان الخفاجي الشاعر في الضائع من الكتاب، ويرد في ثنايا العديد من التراجم نقولًا عنه ومجموعة من أشعاره.
(2)
ديوان ابن القيسراني 249 - 250.
بابٌ في ذِكْرِ بُزَاعَا
(1)
والبَاب
(2)
وهما قَرْيتَان عَظِيْمَتان، بل مَدِينتَان صَغيرتَان، وفي كُلّ واحدةٍ منهما مِنبَرٌ، وخَطيبٌ، وبَسَاتِين تَلذُّ للنَّازِل بها وتَطِيْب، ولكُلِّ منهُمَا وَالٍ يَقْطَعُ الخصَام، وقَاضٍ يَفُصِلُ الأحْكَام، وبينهما وادِي بُطنَان
(3)
ومَرْجُه، وإلى مَحَاسِن هذا الوَادِي عُمْرَة كُلِّ مُتَنَزِّه وحَجِّهُ، وهوَ من أصَحّ البِقَاع ماءً، وأرقّها هَواءً، وفيهِ نَزَل أبو نَصْر المَنَازِيّ وقَال
(4)
، وقد تَفَيَّأ في ظِلالهِ من الحَرِّ وقال
(5)
: [من الوافر]
وَقَانا لفْحَةَ الرَّمْضَاءَ وَادٍ
…
غَذَاهُ مُضَاعَفُ النَّبْتِ العَمِيْمِ
نَزَلنا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلينَا
…
حُنُوَّ الوَالداتِ على الفَطِيمِ
وأرْشَفَنا على ظَمَأٍ زلَالًا
…
ألَذُّ مِنَ المدَامةِ للنَّدِيمِ
(1)
بُزاعا (بزاعة): قرية تتبع إلى محافظة حَلَب، وتقع بين مَنْبِج وحلب، وتبعد عن حَلَب نحو 35 كم في جهة الشرق، وهي إلى الشرق من بلدة الباب، وضيعة من أعمالها، ولا تبعد عنها أكثر من 4 كم، وكان لها حصن منيع وعليه خندق، وعادة ما ترد في المصادر مقرونة ببلدة الباب، فيُقالُ الباب وبزاعا. انظر: ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 1: 409، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 3: 29، أبو الفداء: تقويم البلدان 267، زکرياء: جولة أثرية 214، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 297.
(2)
الباب: تقع إلى الشمال الشرقي من مَدِينَة حَلَب على بعد نحو 37 كم، ويفصل بينها وبين بلدة بزاعا وادي بطُنان ومرجه، وكانت في الماضي بليدة صغيرة فيها مغائر يحتمي فيها السكان إذا ما طرقهم العدو، وأصبحت اليوم مَدِينَة من مدن محافظة حَلَب، تبع إليها الكثير من القرى والنواحي. انظر: ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 1: 409، ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 3: 29، أبو الفداء: تقويم البلدان 267، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 199 - 300.
(3)
وادي بُطْنان: وهو إلى الشرق من قِنِّسْريْن، وهو ذاته الَّذي سمّاه البَلاذُرِيّ "بُطْنان حبيب"، نسبة لحبيب بن مَسْلَمَة الفهري (ت 42 هـ/ 662 م) الَّذي أرسله أبو عُبَيْدَة لفتحه فتسب إليهِ، وقيل: نسبة لدير حبيب القريب منه، وكان عَبْد المَلِك بن مَرْوَان يعسكر فيه كل سنة حتَّى إذا دخل الشتاء رحل عنه. انظر: ابن أعثم: الفتوح 6: 254، اليعقوبي: تاريخ 2: 188، المقدسي: أحسن التقاسيم 154، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 1: 447، 3: 316، 4: 39، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 32.
(4)
من القيلولة: الاستراحة وسط النهار.
(5)
خريدة القصر 12: 348، وابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 28، ووفيات الأعيان 1: 143 - 144، ومسالك الأبصار 15: 37، أبو الفداء: تقويم البلدان، والوافي بالوفيات 8: 285، والبداية والنهاية 12: 55، وعقود الجمان ورقة 40 ب، والمقفي الكبير 1:756.
يَصُدُّ الشَّمْسَ أنَّى وَاجَهَتْنَا
…
فيَججُبها ويَأذَنُ للنَّسِيْمِ
يَرُوعُ حَصَاهُ حَاليَةَ العَذَارَى
…
فتلَمَسُ جانب العقْد النَّظِيْمِ
وقد خَرَجَ من المَوْضِعين جَمَاعَةٌ من الأُدَبَاءِ، وعصَابَةٌ من الشُّعَرَاء، وأعْيَان المَوْضِعين عَبَّاسيونَ؛ من بني العبَّاسِ بن الوَلِيد الكِلابِيَّ، وكان وَالي جُنْد قِنَّسْرِيْن، ونَسْله وعَقِبه ومَوَالِيهم بوَادِي بُطْنَان.
فأمَّا بُزَاعَا؛ فكان لها حِصْن مَانع، وعليه خَنْدَق، وآثاره باقية إلى يومنا هذا، وكان الرُّوم قد اسْتَولوا على هذا الحِصْنِ في سَنَة إحْدَى وثلاثين وخَمْسِمائَة؛ فَتَحَه مَلِكُ الرُّوم بالسَّيْف، ثمّ انْدَفع وعاد في سَنة اثْنَتين وثلاثين وفَتَحَه بالأمَان، ثمّ غَدَرَ بهم ونادَى مُنَاديه: مَنْ تنَصَّر فهو آمن، ومَن أَبَى فهو مَقْتُول أو مأسُور، فَتَنَصَّر منهم أكْثَر من خَمْسمائة إنسَان، منهم القَاضِي والشُّهُود، وانْقَطَعت الطُّرُقات على طَريق بُزَاعَا وصَارت على طَرِيْق بَالِس، وضَاق بالمُسْلِميْن الخِنَاق، فاسْتَنْقذهُ أتَابِك الشَّهِيْد زَنْكِي من أيْدِيهم في مُحَرَّم سَنَة ثلاثٍ وثلاثين، وخَرِب الحِصْن والبَلَد عَامِر.
وأمَّا البَابُ؛ فهي أكْثَر عِمَارَة من بُزَاعَا، وكان فيها مغائر تعصِمُهم من الغَارَات، وكان بها طائفة كَثِيْرة من الإسْمَاعِيْليَّة، فاجْتَمع النَّبوِيَّة (a) في [أهْل
(a) تقييد ابن العديم لهذه اللفظة يوهم بعدم معرفته بالوجه الصَّحيح لتقييدها، فوازي نقط الباء والنون على مستوى واحد بما يحتمل الوجهين، والمثبت - بتقديم النون - كما هو في رحلة ابن جبير 252 ومرآة الزمان 21: 231 وزبدة الحلب 2: 529، والأعلاق الخطيرة لابن شدَّاد 1/ 2: 29، و سير أعلام النبلاء 21: 461، وعرَّف ابن جبير هذه الجماعة بعد أن عَدَّد فرق الشيعة في الشَّام فقال:"وسلَّط الله على هذه الرافضة طائفة تعرف بالنبوية، سنّيون يدينون بالفتوة وبأمور الرجولة كلها. وكلّ من ألحقوه بهم لخصلة يرونها فيه منها يُحزّمونه السراويل فيلحقونه بهم، ولا يرون أن يستعدي أحد منهم في نازلة تنزل به، لهم في ذلك مذاهب عجيبة. واذا أقسم أحدهم بالفتوة برّ قسمه، وهم يقتلون هؤلاء الروافض أينما وجدوهم، وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف". رحلة ابن جبير 252.
وكان تواجد النبوية بالعراق، وواقعهم بالإسماعيلية في سنة 570 هـ، حسبما ذكره سبط ابن الجوزي في أحداث تلك السنة، قال:"وفيها وصلت النبوية من العراق في عشرة آلاف فارس وراجل، فنزلوا بزاعة والباب، فقتلوا ثلاثة عشر ألفًا من الإسماعيلية، وسبوا نساءهم وذراريهم، وعادوا إلى العراق ومعهم الغنائم، والرؤوس على رماحهم، وعلى القصب عشرون ألف أذُن". انظر: مرآة الزمان: 31: 231.
ذلك البَلَد] (a)، وزَحَفُوا إلى البَاب، فاعْتَصَمُوا في المغائر، فاسْتَخُرَجُوهم منها بالدُّخَان، وقَتلُوا منهم مقتَلة عَظِيمَة، وليس بها في زَمننا هذا منهم إِلَّا القليل.
وقد كَثُرت عَمَائِر الباب، واتَّسَعَتْ وصَارِت مِصْرًا من الأمْصَار، وعمر فيها الأتَابِك طُغْرِل الظَّاهِريّ خَانًا للسَّبِيْل، ومَدرَسَةً لأصْحَاب أبي حَنيفَة رضي الله عنه، وكُنْتُ في أيَّام الصِّبَا أتَردَّدُ إليها، فازدَادت عِمَارتُها على الضِّعْف ممَّا كانت.
ولأبي عَبْد اللهِ مُحمَّد بن نَصْر القَيسَرانِيِّ فيها أبياتٌ شَاهدتُها بخَطِّه، وأَخْبَرَنَا بها أبو اليُمْن زَيد بن الحَسَن الكِنْديّ، إجازَةً عنه، قال: ومَرَرنا بسَقْى الباب؛ وهي ضَيعَةٌ حَسَنةُ الظَّاهر، كَثِيْرة المياه والشَّجَر، فقُلتُ ارتِجَالًا
(1)
: [من الطّويل]
أمالكَ رِقِّي سَرِّح الطَّرفَ غَادِيًا
…
على أهْلِ بُطْنَانٍ سَقَتْها سَحابُها
حَدَائقُ للأحْدَاق (b) فيها لبُانَةٌ
…
يُعِيْدُ لنا شَرْخَ الشَّبَابِ شَبَابُهَا
وإنْ كُنتَ تَبْغي يَالَكَ (c) الخَيرِ مدْخَلًا
…
إلى جَنَّة الفِرْدَوْس فالبَابُ بابُهَا
والوَادِي يُنْسَبُ إلى بُطنَان حَبِيب، وهي قَرْيَة تُعْرَفُ ببُطْنَان حَبِيب، ولها تَلّ عليه دَيْرٌ يُقالُ لهُ: دَيْر حَبيب.
قال البَلاذُرِيّ في كتاب البُلْدان
(2)
: وبُطْنَان حَبِيْب نُسِبَ إِلى حَبِيْب بن مَسْلَمَةَ الفِهْريّ، وذلك أنَّ أبا عُبَيْدَة. أو عِيَاض بن غَنْم. وجَّهَهُ من حَلَب، فَفَتَح حِصْنًا بها، فَنُسِبَ إليهِ.
(a) بياضٌ قدر ثلاث كلمات والتعويض من زبدة الحلب 2: 529 ونصه: "فثار بهم النبوية من أهل ذلك البلد"، وجاء النص متصلًا عند ابن شدَّاد في نقله لهذا النص.
(b) الديوان: للحُذَّاق.
(c) مهملة الأوّل الأصل، والمثبت من الديوان وابن شدَّاد.
_________
(1)
ديوان ابن القيسرانيّ 86، وابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 29.
(2)
فتوح البلدان 203.
وإلى جانب بُطَنَان مَرج كان يَنزله عَبْدُ المَلِك بن مَرْوان إذا تَوَجَّه لقتالِ مُصْعَب بن الزُّبَيْر.
بوَادِي بُطنَان مَواضعُ نَزِهَةٌ كَثِيْرةُ المياه والأشْجَار، منها: تَاذِفُ
(1)
، وبُوْطَلْطَل
(2)
، وإِلْفين. وقال إمرؤ القَيْس في قَصِيدَته الرَّائِيَّة يَذكُر تَاذِفُ وبَاطَلْطل
(3)
: [من الطّويل]
ألَا رُبَّ يَوْمٍ صَالحٍ قد شَهدتُهُ
…
بتاذِفَ ذات التَّلّ من فَوْق طَرْطَرا
ولا مثْل يَوْم في قذَارَان (a) ظَلْتُه
…
كأنَّي وأصْحَابي على ظَهْر (b) أعْفَرَا
وقذَارَان: قريةٌ شمالي البَاب.
قَرأت بِخَطّ وتُوزُون إبْرَاهِيم بن مُحمَّد الطَّبَريّ، في كتاب اليَاقُوت، إمْلاء أبي عُمَر الزَّاهِد، قال تُوزُون: أملاهُ علينا من حِفْظه في شُهُور سَنَة سَبع وثَلاثمائة وعشرين، وذكر أنَّه قرأهُ أيضًا عليه، قال: فيما رَواهُ عن أبي عَمْرو بن الطُّوسيّ، ونَقَلهُ عن ابن الأعرَابيّ، وقال - يعني أبا عَبْد اللهِ بن الأعرَابيّ - في بَيْت إمْرئ القَيْس
(4)
: [من الطّويل]
بتاذِفَ دُونَ التَّلّ من جَنب طَرْطَرَا
(a) ضبطها ابن العديم حيثما ترد بالفتح، ويوافق ما في الديوان، وعند ياقوت (مُعْجَمُ البلدان 4: 314) روايات المختلفة لبيت الشعر.
(b) ديوان امرئ القيس: قرن.
_________
(1)
تاذف: تسمى الآن بالمهملة: تادف، وهي بلدة في سهول حَلَب الشرقية، وتتبع منطقة الباب بمحافظة حَلَب، تقع إلى الجنوب من مَدِينَة الباب بنحو 3 كم، واتصلت مساكنها مع أطراف مَدِينَة الباب. زكرياء: جولة أثرية 215، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 435 - 436.
(2)
أبو طلطل: قرية في سهول حَلَب الشرقية، نتبع ناحية تادف بمنطقة الباب من محافظة حَلَب، تبعد عن تادف نحو 2 كم، نحو الجنوب. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 32.
(3)
ديوان امرئ القيس 97 - 98، وياقوت: مُعْجَمُ البلدان 1: 447، 3:6.
(4)
ديوان امرئ القيس 97.
فقال له بعضُ مَنْ حَضَر: أَفَيُرْوي تاذَفَ؟. هو حَرفٌ أَعْجَمِيٌّ يصنعُون به ما شَاءُوا.
قال: وقال أبو عَمْرو بن الطُّوسِيّ: وأمّا طَرْطَر فأَخْبَرَنِي الوَلِيدُ بن عُبَيد البُحتُريّ الشَّاعِر، قال: هي قَريَةٌ عندَنا بناحيَةِ مَنْبِج يُقالُ لها: باطَرْطَل، باللَّام.
قُلْتُ: واليوم يُقالُ لها بُوطَلْطَل؛ بَلامَيْن.
وفي هذا الوَادِي يَجري نهر الذَّهب، ويَخْرج على قُري يَسْقيها، وتمدّه عُيُونٌ بالوَادِي إلى أن ينتهي إلى الجَبُّوْل
(1)
، وتَجْتَمع إليهِ عُيُون أُخَر من قُري نُقرَة بَني أَسَد، فَيجْتَمع الماءُ في الشِّتَاءِ في أرْض سَبَخَةٍ، إلى جانب الجَبُّوْل، لاستغناء النَّاس عن السَّقي بالمياه في الشِّتَاءِ، فلا يزال الماء في السَّبَخَة إلى فَصل الصَّيْف، فيَهبّ الهَوَاء الغَرْبيّ، فيَحْمِل ذلك الماءَ شيئًا فشيئًا إلى الأرْض التي يَجْمد الماءُ فيها، فيَصير ملْحًا، ويُجمع الأوّل فالأوّل، ويُعَبَّي ويُباع، وتَمتَار من البلاد، وربَّما ثقل (a) ماءُ السَّبَخَة في بعض السِّنين، فيَستَقُون ماءً من آبارٍ حُفرت في تلك الأرض، ويُجْرُونَه إلى مَسَاكب قد سكبُوهَا فيجمَد فيها ويَصِير مِلْحًا، فيجمعُونَهُ منها ويَرفَعُونه ويَصنعونَ غيره، وهذا الملح الَّذي يُصْنع يكون أشَدَّ بياضًا من الأوَّل.
ويُقالُ: إنَّ عجائب الدُّنيا ثَلَاثٌ: قَلْعَة حَلَب، وجُبَّ الكَلَب، ونَهْر الذَّهب.
فأمَّا قَلْعَة حَلَب فلِعُلوهَا وارتِفَاعِها، وأنَّها في وَطأة ليس إلى جانبها جَبَل يحكُم عليها.
(a) مهملة الأوّل في الأصل، وفي "ك": يقل.
_________
(1)
الجَبُّول: بحيرة وسبخة تقع إلى الجنوب الشرقي من حَلَب، على بعد 40 كم من حَلَب، عند نهاية نهر الذَّهب، وسماها ياقوت "ملَّاحة حَلَب" وقرية الجَبُّول بقربها، فبعد جريان نهر الذَّهب في وادي بُطنان تمده بعض عيون الوادي حتَّى يصل إلى الجَبُّول، وكانت مشهورة بملحها الَّذي يجمع ويتجر به، ولهذا فيطلق عليها أيضًا: مملحة الجَبُّول، وتبلغ مساحتها 150 کم. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 107، کامل الغزي: نهر الذَّهب 1: 46 - 47، موستراس: المعجم الجغرافيّ 230، طلاس: المعجم الجغرافي 1: 180، 304، 253، 2:634.
وأمّا جُبّ الكَلَب فإنَّه بئر في قَرية تُعرف بجُبِّ الكَلَب في طَرف الحَبْل (a) من قُرى حَلَب إلى جنب قِبْثَان
(1)
الحَبْل، هي الآن خَربة، كان الَّذي يَعضُّه الكَلبُ الكَلِب يأتي إلى هذه البئر فيَغْتسل فيها فَيَبْرأ، وقد بَطل الآن فعْلُها لِمَا نَذْكُره إنْ شَاءَ اللهُ في بابٍ يأتي
(2)
.
وأمّا نَهر الذَّهب، فقال لي والدي رحمه الله: إنّما سُمِّي نَهْر الذَّهب لأنَّ أوَّلَهُ بالقَبَّان وآخره بالكَيْل، لأنَّ أوَّله يُزرع على مائه القُطن، والبَصل، والثُّوم، والكُسْفَرَة، والكَرَاويَا، والخَشْخَاش (b)، والحَبَّة السَّوداء، والحَبَّة الخَضْراء، وبَزْر البَقْلَة وغير ذلك، ويُبَاع ذلك كُلّه بالقَبَّان. وآخره يَجْمد فيَصِير مِلْحًا، فيباع بالكَيْل ولا يَضِيع من مائه شيءٌ، ولهذا سُمِّي نَهْر الذَّهب، لأنَّهُ ذَهَب كُلَّه باعْتبار ما يُؤول إليهِ.
أنْشَدَنِي بعضُ الإخْوَان لِحْمَدان بن يُوسُف بن مُحمَّد البَابِي الضَّرير، وكان من أهل البَاب، وأدركتُهُ، وسَمِعْتُ منه شيئًا من شِعْره غير هذه الأبيات
(3)
، ثمّ حَمَلَ إليَّ بعضُ أهل البَاب - وأنا بها - شِعْر حَمْدان المَذكُور، فنَقَلْتُ منهُ هذه القَصِيدَةَ يَصِفُ فيها وَادِي بُطْنَان، وما على نَهْر الذَّهب من القُرَى إلى الجَبُّول، ويَمْدح فيها المَلِك الظَّاهِر، وهي:[من الخفيف]
(a) كذا وردت، مؤكدة بحرف حاء أسفلها، ويرد ذَكَرَها فيما بعد على هذا الوجه ومؤكدة بحرف الحاء أيضًا. وحدد ابن العديم موضعها في الناحية الشرقية من حَلَب، (انظر كلامه على ما بحلب من العجائب والخواص والطلسمات)، وذكرها ابن الشحنة من قرى نقرة بني أسد بجانب قرية أدكين، ونقل ابن شدَّاد عن ابن العديم فقيدها:"قبثان بالجبل"، ومثله نقل ابن الشحنة عنه، انظر: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 301، والدر المنتخب 128.
(b) في الأصل: الحشحاش.
_________
(1)
قبثان: يوجد اليوم قريتان بنواحي حَلَب، إحدهما تسمى قبتان (بالتاء)، والأخرى: قبتان الجبل (بالتاء والجيم)، تقع قتبان الأوّلى في هضبة حَلَب الغربية وتبع ناحية أخترين بمنطقة أعزاز من محافظة حَلَب، وهي إلى الشمال الشرقي من بلدة أخترن على بعد 3 كم، وأمّا قبتان الجبل فهي تقع شمال مَدِينَة حَلَب، وتتبع ناحية دارة عزة بمنطقة جَبَل سمعان من محافظة حَلَب، وتبعد عن دارة عزة مسافة 13 کم باتجاه الشرق. انظر: طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 4: 511.
(2)
في باب: "ذكر ما بحلب من العجائب".
(3)
أفرده ابن العديم بالترْجَمَة في الجزء السادس، وأورد له قصيدة في مدح افتخار الدين الهاشمي.
سَلْ وميضَ البُرُوق حَمْلَ التَّحيَّه
…
من مُحبٍّ أشوَاقُه عُذْرِيَّه
أظهَرتْ لَوعَةُ الغَرَام شُجُونًا
…
منه كانت بين الضُّلوع خَفِيَّه
وبرَى جِسْمَهُ النُّحُولُ فأمْسَى الـ
…
ــهَمُّ في حنْدس الظَّلام نَجِيَّه
وأبَى البَيْنُ أنْ يُبْقِّي من الصَّبر
…
عليهِ بَعْد الفِرَاق بَقِيَّه
أيُّها السَّائقُ الّذي لم يَزل يُطْرب
…
شَجْوًا بشَدْوه الشَّدَ نِيَّه
لا تَسَل عن قُبَا وسَلْ عن نَوَاحِي
…
قُبَّيا فَهْي جنَّةٌ عَدَنَيَّه
حَبَّذا تَاذِفُ الأنِيْقَةُ والأَنْهارُ
…
تَجْري تحت الغُصُون البهيَّه
وبسَاتِيْنُها إذا جَاوبَتْ وَرْ
…
قاءُ فيها بسَجْعِها قُمْرِيَّه
وبَنُونًا يا لَيْتَ لي كُلِّ يوم
…
غُرفًا فَوْق مائها مَبْنِيَّه
وَلكُم قد شَمَمْتُ في مَرقُونا
…
نَسَماتٍ مثل العَبِيْر ذَكِيَّه
رشَقَتْنِي على عُوَيْنَات زَكَّى
…
طيباتٍ بأَعْيُن بَابِليَّه
هذه كُلّها مَزَارِع بين البَاب وبُزَاعَا.
سفَح الوَابلُ المُلثُ على وَا
…
دِي بُزَاعَا وسميَّهْ وَوَليَّه
وسَما بارق الغَمام على بُطْنَانَ
…
بالغَيْث بُكْرَةً وعَشِيَّه
وغَدَ بالحَيَا ورَاحَتْ على البَابِ
…
غَوَادِي السَّحائب الوسميَّه
قَفْ على عَيْنها تَجد كُلَّ حَوْرَاء
…
تثنَّى كأنَّها حورِيَّه
وعلى تَيْمَرٍ وقيتَ من الخَطـ
…
ــب فقِفْ بي بالله عند الوَقيَّه
تَيْمَر: الجَبَل المُشْرف على البَاب من غربيّهِ، والوَقيَّة: حَجَرٌ كبير في هذا الجَبَل يُعْرف بالوَقِيَّة (a) .
(a) كتب بعدها: "آخر الجزء السَّادِس. ويتلوه في أوَّل السَّابع":
وانْظُر العين من شماليهِ والرَّا
…
هبَ تَزْهُو أنوارُه قبليَّه
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه توفيقي
وانظُرِ العَين من شَماليهِ والرَّا
…
هِبَ تَزْهُو أنْوارُه قبلِيَّه
وارْمُق السَّقي عندمَا يتثَنَّى
…
برباهَا أشجَارُه شَرْقيَّه
لا تَكِلنِي إلى اللَّوى فلقَدْ غا
…
دَرتُ من دُون وَصفه لي أليَّه
لستُ ممَّن تَثنيه عن وَصف إقليـ
…
ــم بُزَاعَا ذِكرُ الحِمَى والثَّنِيَّه
فلكَم ظَلْتُ في رُبُوع أبي طَلْـ
…
طلَ أقْضي أوْقَاتَ لَهُوٍ هَنِيَّه
ومسَاعٍ كانَتْ إلى السَّيْعَةِ الفَيْحـ
…
ـَاءِ أنوارُهَا لدَي مُضِيَّه
وبإِلفين لي وبيرة خفَّا
…
ن شُجُونٌ طُولَ الزَّمان شَجيَّه
قف بأَعْرانَ لي ومَحَّان والبُر
…
ج وأَيْشَى إنْ شئتَ والحَصَفيَّه
وتأمَّل زُهورَ نجارَةَ الفَيْـ
…
ـحَاءِ تَزْهو كالأنجُم الدُّرِّيَّه
فبأكنَاف عَين أرزَة لَهْوي
…
والمُرُوج الأنِيْقَةِ الشِّرْبعيَّه
مَنْسُوبَة إلى شِربِع
(1)
؛ قَريةٌ على النَّهْر.
طَالَما بتُّ بالقُبيبة أُفْنِي
…
جَلَدِي باكيًا على الجَلديَّه
وتأمَّل بلَحظ عَينك يا صَا
…
ح مُروج الجَبُّوْل والنَّجَبِيَّه
كَم بذاكَ الحِمَى ظبَاءٌ بأَطْرا
…
فِ العَوَالي وبالظُّبَى مَحْمِيَّه
(1)
شربع: قرية في هضبة حَلَب تتبع ناحية رسم الحرمل بمنطقة الباب من محافظة حَلَب، تقع إلى الشرق من وادي نَهْر الذَّهب المنحدر باتجاه سبخة الجَبُّوْل، وتبعد عن بلدة رسم الحرمل مسافة 10 كم باتجاه الغرب. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 4:18.
كُلّ سَمرَاءَ في التَّماثيِل تَهتَز
…
دَلالًا كالصَّعدة اليَزنيَّه
غَازلَتنا قَبل السُّفُور بعَيْنَبـ
…
ـهَا فَخلنَا بأنَّها تُركيَّه
أيّ قاضٍ يُعْدي لمُكتئبٍ غـ
…
ــرَّته تلكَ الغَرِيْرَةُ العَدَويَّه
مُسْتَهامٍ تَبيتُ أَحْشَاؤُه منـ
…
ــهَا على لاعج الأسَى مَحنيَّه
وانْسِكاب الدُّموع من جَفْنِه يَنْـ
…
ــشُر طَيّ السَّرائر المطويَّه
يا خَلِيلَي خَلّيا ذِكْر سَلعٍ
…
ورُبُوع المَعَالِم الحَاجريَّه
واذْكُرا لي أكنَاف سَاحَةِ بُطْنَا
…
ن وتلك المَشَاهد التَّيمَريَّه
وصفَا لي أنْهَار تَاذِفَ مع أشْـ
…
ـجَارَها لا الحَدَائقِ الجِلَّقيَّه
بتُّ أَسْري وَهنا من البَاب واللَّيْـ
…
ــل علينا سُتُوره حندسِيَّه
أنا أَعمَى وقائدي في دُجَاه
…
أعوَرٌ والأُتانُ لي مَهْريَّه
وهوَ مِمَّا تغَشْرَمَ البِيْدَ يَسْعَى
…
أعْرَجًا فاعجَبُوا لها من قَضِيَّه
مَنْ يَرانا يظَلُّ يَطرَبُ بالسَّا
…
ئق عجبًا والمُمْتَطي والمَطِيَّه
يا لَنَا من ثلاثةٍ يَعْجَزُ الطَّا
…
لبُ عن رابعٍ لنا في البَرِيَّه
سِرْتُ حتَّى طَوَيْتُ أرْضَ مُعَيراثـ
…
ــيا وتلك المَعَالِم الغُورِيَّه
واتِّسَاع المَيْدَان مَعْ سَطْحِ رَبَّا
…
ثَا وتلك الحَفِيْرَة النَّشَزيَّه
ورُبا البَقْعَة التي نَشَر الغَيْـ
…
ــثُ عليَّها مَلابِسًا سُنْدسيَّه
وتَرَتَّبتُ بالمُرَتَّب في ظَهْـ
…
ــر (a) أتَاني لأُدرك الأمنِيَّه
وَتَجَشَّمْتُ بالصُّخَيْر وشحنجَّـ
…
ـــار وَعْرًا تَهابُه الشَّدقَمِيَّه
وفَلَيْتُ الفَلَا إلى نَحْو بابـ
…
ـــلي بعَزم أمْضَى من المَشْرَفِيَّه
(a) مهملة في الأصل: طهر.
وعلى هَضْب بَانَقُوسَا بَدَا الصُّبْـ
…
ـحُ ولَاحَتْ أنْوارُه المَخْفِيَّه
وأتَى الدَّهر مُقْلِعًا إذ رأَى أنْنَ
…
مَلاذي بالقَلْعَة الظَّاهِريَّه
فَحَطَطْنا لَمَّا حَطَطَنْا عن الدَّهْـ
…
ـرِ بها كُلّ زَلَّةٍ وَخَطِيَّه
يا ذَوِي البُؤْسِ يَمِّمُوها تَحُلُّوا
…
كَعْبةَ الجُودِ والنَّدَى والعَطِيَّه
فبها مالِكٌ أقلَّ أيادِيـ
…
ـهِ تَفُوْقُ الأيَادِيّ الطَّائيَّه
قَلْعَة سَامَتِ السَّماءَ وضَاهَت
…
في المَعَالي أفْلَاكها العُلْويَّه
شَرُفَتْ بالغياثِ حتَّى غَدَتْ فو
…
قَ الثُّريا أركانها مَبْنيَّه
ثمّ أطال في مَدْح المَلِك الظَّاهِر رحمه الله فاختَصَرتُه خَوفًا من الإِطَالَة.
أنْشَدنِي والدي رحمه الله وقال: خَرَجَ أبو عَبْد اللهِ القَيْسَرَانِيَّ مع والدي إلى وَادِي بُزَاعَا فَمُرُّوا بتَاذِفَ فَرَاقَهُم حُسْنُها، فقال القَيْسَرَانِيَّ فيَّها
(1)
: [من مجزوء الكامل]
مَا زلتُ أخْدَعُ عن دِمَشْـ
…
ـقَ صَبَابَتي بالغُوْطَتَيْنِ
حتَّى مَرَرت بتَاذِفٍ
…
فكأنَّني بالنَّيرَبَيْنِ (a)
فَرَأيت مَا قَدْ كُنْتُ آ
…
مُلُهُ بأَشْوَاقي بعَيْنِي
(a) الديوان: بالنَّيِّرين.
_________
(1)
ديوان ابن القيسراني 414.
بابٌ في ذِكْرِ صِفِّيْن
(1)
وبقُعَتها، وحُكْم مَنْ شَهِدَها من الجانبَيْن، وَوَقْعتها
ويُقالُ فيها: صفُّونَ وصفِّيْن. وهي من أعْمَال حَلَب وجُنْد قِنَّسْرِيْن، وقد قال بعضُ أَصْحَاب عليِّ عليه السلام، وقد رَأى شِدَّهَ القِتَال بها، فأتَى أهْلَهُ
(2)
: [من الرجز]
إنَّ أباكِ فَرَّ يومَ صِفِّيْنْ
…
لَمَّا رأى عَكَّا والأَشعريِّينْ
والخَمْسُ قد أَجشَمنْك (a) الأَمَرَّينْ
…
جَمْزًا إلى الكُوفَة من قِنَّسْرِيْنْ
وحَابسًا (b) يَسَتَنُّ في الطَّائِيِّينْ
…
وقَيْسَ عَيْلَانَ الهَوَازِنيِّينْ
لا خَمْسَ إلَّا جَنْدَلُ الأحَرِّينْ
والكلام في صِفِّيْن يَقَعُ في فُصُول:
(a) ابن دريد: أجشَمَت.
(b) ابن دريد: وحاجبًا.
_________
(1)
صفين: وهي تقع غربي الفرات من جُنْد قِنِّسْريْن، واستمدت شهرتها من الوقعة التي حدثت في سهلها الغربي بين الإمام عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان في المحرم عام 37 هـ/ 657 م، وباستثناء ارتباطها بتلك الحرب لا نجد ما يفيد بُسكناها في القرون الأربعة الأوّلى، وبلغت من الإهمال إلى حدٍّ جعل الطبريّ يظنها في الجانب الجزري من الفرات، وجعلها الحميري من العراق، بينما يشير ابن العديم إلى أنها أصبحت قرية كبيرة عَامِرَةٌ في زمنه (القرن السابع الهجري)، وأورد كل من ابن العديم وابن شدَّاد رواية لمحمد بن إسحاق يذكرها "مَدِينَة عتيقة من مدائن الأعاجم في أرض قِنِّسْريْن". انظر: الطبريّ: تاريخ 10: 81، البَلاذُرِيّ: أنساب الأشراف 3: 65 - 99 (وتجاوز البَلاذُرِيّ - الَّذي أورد خبر صفين بطوله - عن تحديد موضعها)، المسعودي: مُروج الذَّهب 3: 121، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 414، ابن شدَّاد: الأعلاق 1/ 2: 7 - 8، الوطواط: مناهج الفكر 1: 121، الحميري: الروض المعطار 363، کامل الغزي: نَهْر الذَّهب 1: 485، 556 - 552 M . Lecker ، Er * ، Siffin ، IX ، PP
(2)
الاشتقاق لابن دريد 136، وترجم ابن العديم (الجزء التاسع) لشاعر كان مع عليّ رضي الله عنه بصفين، اسْمُه: زيد بن عُتاهية الفقيميّ، ونسب الأبيات له، ومثله ما نسبه ابن منظور في لسان العرب، مادة حرر.
الفَصْلُ الأوَّل في ذِكْرِ بُقْعَتها
وهي قَرْيَةٌ كبيرةٌ، عَامِرَةٌ، على مكان مُرْتفعٍ على شَطِّ الفُرَات، والفُرَات في سَفْحه، وفيها مَشْهَد لأَمِير المُؤمِنِين عليّ بن أبي طَالِب عليه السلام، وقيل بأنَّه مَوضع فُسْطَاطه، ومَوْضع الوَقْعَة من غَرْبيّه في الأرْض السّهْلَة، وقَتْلَى عليّ رضي الله عنه في أرضٍ قِبْليّ المَشْهَد وشَرْقيّه، وقَتلى مُعاوِيَة من غَرْبيّ المَشْهَد، وجُثَثُهم في تلال من التُّراب والحِجَارَة، كانوا لكَثْرة القَتْلَى يَحْفرُون حَفائر ويَطْرحُون القَتْلَى فيها، ويهيلونَ التُّراب عليهم، ويرفعُونه عن وجْهِ الأرْض، فصارت لطول الزَّمان كالتِّلَال.
وفي حَدِيث مُحمَّد بن إسْحَاق، قال: أقْبَل مُعاوِيَةُ حتَّى نزل صِفِّيْن، والصِّفِّيْن مَدِينَة عَتِيقة من مَدَائِن الأعاجم في أرض قِنَّسْرِيْن، على شَاطِئ الفُرَاتِ، فيما لين مَنْبِج والرَّقَّة، على نَجَفَة مُشْرفة الجِذْل
(1)
، وبين النَّجَفَة وبين الفُرَات غَيْضَة آسنَةٌ ذات ماءٍ آجِن، لا يقدر على الفُرَات إلَّا من شَرَائع الغَيْضَة، فَمَنْ قدر على الشَّريْعَة اسْتَقَى، ومَن لم يَقْدر على الشَّريعَة اسْتَقَى من الجرف بالدِّلاءَ ماءً آجِنًا غليظًا لا يَشْرب إلَّا بالشَّنِّ.
أنْبَأنَا أبو الحَسَن بن أبي عَبْد اللّهِ البَغْدادِيُّ، عن أبي مُحمَّد عَبْد اللّهِ بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن الخَشَّاب، قال: أخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن مُحمَّد بن مُحمَّد بن الفَرَّاء، قال: أخْبَرَنَا أبو طَاهِر البَاقِلَّانِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو عليّ بنُ شَاذَان، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن
(1)
النَّجَفَةُ: وجمعها النِّجَاف والنَّجَف، الأرض المستديرة المشرفة، والجِذْل: رأس الجبل. لسان العرب، مادتي: نجف وجذل.
أحْمَد بنُ إسْحَاق بن نِيْخَاب (a)، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن بن دِيْزِيْل
(1)
، قال: حَدَّثَنَا أبو اليَمَان الحَكَم بنُ نَافِعٍ، قال: حَدَّثَنَا صَفْوَان بن عَمْرو، عن ضَمْضَم أبي المُثَنَّى الأمْلُوكِيّ، عن كَعْب أنَّه رَأى صِفِّيْن والحِجَارَة الّتي على الطَّريق، فقال: لقد وجدْتَ نَعْتَها في الكتاب أنَّ بني إِسْرَائيل اقْتَتلُوا فيها تَسْعَ مَرَّات حتَّى تَفَانَوا، وأنَّ العَرَبَ ستَقْتتلُ فيها العَاشِرة حتَّى يتفَانوا ويتقاذَفُوا بالحِجَارَة الّتي تقاذفَتْ بها بنُو إِسْرَائيِل، فاقْتَتَل فيها أهل الشَّام مع مُعاوِيَةَ، وأهل العِرَاق مع عليٍّ عليهما السلام حتَّى تفَانَوا وتَقاذَفُوا بتلك الحِجَارَة.
قال صَفْوَانُ: وكان أهْل الشَّام ستِّين ألفًا، فقُتِلَ منهم عشرون ألفًا، وكان أهل العِرَاق مائةً وعشرينَ ألفًا، فقُتِل منهم أربعُونَ ألفًا.
وقَرَأتُ في كِتاب صِفِّين، تأليفُ أبي جَعْفَر مُحمَّد بن خَالِد الهاشِمِيّ، المَعْرُوفُ بابنِ أُمِّه
(2)
، قال: حَدَّثنِي الوَلِيد بن مُسْلِم، قال: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيْل بن عَيَّاش، أنَّ كَعْبَ الأحْبَار مَرَّ بصِفِّيْن قافلًا من غَزَاةٍ، فسَأل حَرَّاثًا يَحْرُثُ: ما يُقالُ لهذه الأرْض؟ قال: صِفِّيْن، قال: والّذي نفسِي بيده إنَّها لفي كتاب اللّهِ صُفُّوا، اقتَتَلَتْ فيها بنو إِسرَائِيل تِسْع مرار، وستَقْتِتل فيها أُمَّة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم العَاشِرَة.
(a) رسمه في الأصل بإهمال المثناة التحتية، ويأتي فيما بعد معجمًا، وورد صحيحًا عند ابن ماكولا: الإكمال 5: 258، والسمعاني: الأنساب 9: 120،، ومثله أيضًا في جزء الحَافِظ ابن ديزيل، في الورقة الثانية من المخطوط المدرجة في مقدمة التحقيق، (انظر: جزء الحَافِظ ابن ديزيل ص 19).
_________
(1)
لم ترد الرواية في جزء ابن ديزيل.
(2)
مؤلف الكتاب خراساني نزل الشَّام، روى عن أنس بن مالك والوليد بن مسلم وغيرهما، فهو من أهل القرن الثالث الهجريّ، وله تَرْجَمَة في: تاريخ البخاريّ الكبير 1: 73؛ الجرح والتعديل 7: 244، تاريخ ابن عساکر 52: 379 - 383، ميزان الاعتدال 3: 535، لسان الميزان 5: 153 - 154،، ويذكر ابن العديم هذا الكتاب فيما بعد باسم كتاب أخبار صفين، في تَرْجَمَة أجدع السكاسك (الجزء العاشر).
قال: وبنحو ذلك حَدَّثَنِي سَهْل بن زَيْد الأنْصاريّ، عن سَعيد بن عَبْد الرَّحمن الزُّرْقِيّ، عن نَافعٍ بن عَوْف الزُّرقِيّ، عن كَعْب.
قال أبو جَعْفَر الهاشِميّ: حَدَّثني أبو عَامرِ عَبْدُ المَلك بن عَمْرو العَقَديُّ البَصْرِيّ، عن سُلَيمان بن بَشِير، عن قُدَامَة بن مُوسَى، قال: حَدَّثني إسْحَاق بن أَبي قَبِيْصَة بن ذُؤَيْب: سأل كَعْبَ الذَّمَارِيّ: من أين كان كَعْب يَعْلَم مَلْحَمَة صِفِّيْن؟ قال: أمَّا مَلْحَمَة صِفِّيْن فإنَّها في كتاب الله تبارك وتعالى: إنِّي حَابِس الأميّين حيث حَبَسْتُ بني إِسرَائيِل، قال: وكانت قبل صِفِّيْن تسع مَلَاحِم كانت صِفِّيْن العَاشِرَة.
أخْبَرنا أبو الحَجَّاج يُوسُف بن خَلِيل بن عَبْد اللّه إذْنًا، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم بن بَوْش، قال: أخْبَرَنَا أبو طَالِب عَبْد القَادِر بن يُوسُف، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن عَبْد المَلِك بن بِشْرَان، قال: أخْبَرَنَا أبو عُمَر مُحمَّد بن العبَّاس بن مُحمَّد بن حَيَّوْيَه، قال: أخبرَنَا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيْم بن مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم الكِنْدِيّ، قال: حَدّثَنَا مُحمَّد بن المُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا وَكِيع، قال: حَدّثَنَا الأَعْمَشُ، قال: قيل لأبي وَائِل: شهدْتَ صِفِّيْن؟ قال: نَعَم، وبئسَتِ الصّفون كانَتْ!.
أنْبَأنَا أبو الغَنائِم مُحمَّد بن أبي طَالِب بن أبي الرَّجَاء بن شَهْرَيَار، قال: أخْبَرنَا أُمُّ البَهَاء فاطِمَة بنتُ مُحمَّد بن أحْمَد بن الحَسَن المَعْرُوفة ببنت البَغْدادِيّ، قالت: أخْبَرَنا أبو طَاهِر أحْمَد بن محمُود بن أحْمَد بن محمُود الثَّقَفِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم بن المقرِئ، قال: حَدَّثَنَا صَدَقَة، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن بَكَّار، قال: حَدَّثَنَا فَرَج بن فَضَالَة، عن إسْمَاعيل، عن سَعيد بن أبي سَعيد، عن أبي هُريَرَة، قال: قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
: أَربعةُ أَنْهَارٍ من أَنْهَار الجَنَّة، وأربعةُ جِبَالٍ من جِبَال الجَنَّة، وأربعة مَلَاحِم في الجنَّة، فأمَّا الأَنْهاز فسَيْحَانُ وجَيْحَانُ والنِّيلُ والفرَاتُ. وأمَّا الجِبَال: فَطُور، ولُبْنَان، وورَقَانُ، وأُحُد. وأمَّا المَلَاحِمُ: فصِفِّيْن والحَرَّة ويَوْم الجَمَل. قال: وكان يَكْتُم الرَّابعة.
(1)
ابن حنبل: المسند 13: 373 (رقم 7535) ولم يرد فيه ذكر الجبال، والحديث في تاريخ ابن عساكر 1: 342 وکنز العمال 11: 334 (رقم 31669) مقصور على الملاحم فقط.
أنَبْأَنَا أبو حَفْص عُمَر بن مُحمَّد بن طَبَرْزَد، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم إسْمَاعِيْل بن أحْمَد السَّمَرْقَنْدِيّ، إجَازَةً إنْ لَمْ يَكُن سَمَاعًا، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم عَبْدُ اللّه بن المحسِّن بن مُحمَّد بن الحَسَن بن الخَلَّال، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد الحسنُ بن الحُسَيْن بن عليّ بن العبَّاس النُّوبَخْتِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَنِ عليّ بن عَبْد اللّه بن مُبَشِّر، قال: حَدَّثَنَا أحمدُ بن النَّضْر بن مِهْرَان، قال: حَدَّثَنَا سوْرَة، قال: حَدَّثَنَا أبو مَعْشَر، عن سَعيد، عن أبي هُريرَة، ح.
قال: وحَدَّثَنَا فَرَج بن فَضَالَة، عن إسْمَاعِيْل بن أُمَيَّة، عن سَعيد، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم
(1)
: أربعَةُ مَلَاحِم في الجَنَّة: الجَمَل في الجَنَّة، وصفِّيْن في الجَنَّة، وحرَّة في الجَنَّة. وكان يَكْتُم الرَّابعة.
الفَصْلُ الثَّانِي في بَيان أنَّ عَلِيًّا، عليه السلام، على الحَقِّ في قِتَالِه مُعاوِيَة رحمه الله
لا خِلَاف بين أهل القِبْلَة في أنَّ عليًّا رضي الله عنه إمَام حَقٍّ منذُ وَلي الخِلَافَة إلى أنْ ماتَ، وأنَّ مَنْ قَاتَل معَهُ كان مُصِيْبًا، ومَنْ قاتلَه كان باغيًا ومُخْطِئًا، إلَّا الخَوَارِج فإنَّ مَذْهَبَهُم مَعْلُوم، ولا اعْتِبار بقَوْلهم.
أخْبَرنا أبو المُظَفَّر عَبْدُ الرَّحِيْم بن عَبْد الكَريم السَّمْعانِيّ، في كتابه إلينا من مَرْوَ، قال: أخْبَرَنا أبو البَرَكَاتِ عَبْدُ اللّه بن مُحمَّد بن الفَضْل الفَرَاوِيّ قراءةً عليهِ، ح.
(1)
انظر تخريجه في الرواية قبله.
وأنْبأنَا أبو بَكْر القَاسِم بن عَبْد الله بن عُمَر بن الصَّفَّار، قال: أخْبَرَنَا الشَّيْخان أبو الأَسْعَد هِبَةُ الرَّحمن بن عَبْد الوَاحِد بن أبي القَاسِم القُشَيْرِيّ قراءةً عليهِ، وأبو البَرَكَات عَبْدُ الله بن مُحمَّد بن الفَضْل الفَرَاوِيّ إجَازَةً. قال أبو الأَسْعَد: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد عَبْد الحِميْد بن عَبْد الرَّحْمن البَحِيْرِيّ قراءةً عليهِ، وقال أبو البَرَكَاتِ: أخْبَرَنَا أبو عَمْرو عُثْمان بن مُحمَّد بن عَبْد الله (a) المَحْمِيّ، قالا: أخْبَرَنَا أبو نُعَيْم عَبْد المَلِك بن الحَسَن الإسْفَرَايِنِيّ، قال: أخْبَرَنَا خالي الإمامُ الحَافظُ أبو عَوَانَة يَعْقُوِب بن إسْحَاق الإسْفَرَايِنِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو الأزْهَر، قال: حَدَّثَنَا أَسَدُ بن مُوسَي، ح.
قال أبو عَوَانَة: وأخْبَرَنَا حَمْدَان بن عليّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بنُ مَحْبُوب، ح.
قال: وحَدَّثَنَا أحْمدُ بن يَحْيَى بن أبي زَنْبَر الصوْرِيّ، قال: حَدَّثَنَا الهَيْثَم بن جَمِيل، ح.
قال: وحَدَّثَنَا الصَّغَانِيّ، قال: حَدَّثَنَا عَفَّان، كُلمّهُم عن أبي عَوَانَة، عن قَتَادَة، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سَعيد
(1)
، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: يكونُ في أُمَّتِي فِرْقتان يَخْرج بينَهُما مارِقَهُ يقتُلهم أَوْلَاهُما بالحَقِ.
وقال أبو عَوَانَة الإسْفَرَايِنِيُّ: حَدَّثَنَا ابن أبي رَجَاءٍ، قال: حَدَّثَنَا وَكِيعُ، ح.
وقال: وحَدَّثَنَا ابن المُبارَك، قال: حَدَّثَنَا يُونسُ بن مُحمَّد، قال: حَدَّثنا القَاسِمُ ابن الفَضْل، ح.
(a) كذا ورد، وفي النجوم الزاهرة 5: 127: عبيد الله.
_________
(1)
رواه التبريزي: مشكاة المصابيح 3: 1051 (رقم 3536) من حديث أبي سعيد الخدري باختلافٍ يسير في بعض ألفاظه.
وقال: وحَدّثَنا أبو الأزْهَرِ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ المَلِك الحريّ، ح.
قال: وحدَّثَنَا يُونُسُ بن حَبِيْب، قال: حَدَّثَنَا أبو دَاوُد، ح.
قال: وحَدَّثَنَا الصَّغَانِيُّ، قال: حَدَّثَنَا يُونُس بن مُحمَّد وعَفَّان، ح.
قال: وحَدَّثَنَا أبو أُمَيَّة، قال: حَدَّثَنَا أبو نُعَيْم وعُبيدُ الله، قالوا: حَدَّثَنا القَاسِم
ابن الفَضْل الحُدَّانِيّ، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سَعيد، قال: قال رسُول اللّهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّم
(1)
: تمرُق مَارِقَه عند فُرقةٍ من المُسْلِمِيْن يقتُلهم أَوْلَى الطَّائِفَتين بالحَقِّ.
معناهم واحد.
وقال أبو عَوَانَة: رَوَى أبو أحْمد الزُّبيرِيّ، عن سُفْيان، عن حَبِيْب بن أبي ثَابِت، عن الضَّحَّاك المشْرَفيّ (a)، عن أبي سَعيد الخُدْرِيّ
(2)
، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في حَديثِ ذكَر فيهِ: قَوْمًا يخرجُونَ على فرْقَة مُخْتلفةٍ، يقتُلهُم أقْربُ الطَّائِفَتَيْن من الحَقّ.
قال: رَواهُ مُسْلم
(3)
، عن القَوَارِيرِيّ، عن أبي أحْمَد.
قال أبو عَوَانَة: في هذا الحَدِيْث دليل أنَّ عليًّا كان الحَقّ له فيما كان بينَهُ وبين مُعاوِيَة، وأنَّ أصْحَابَهُما كانوا على الإسْلَام، ولم يَخْرجُوا من الإسْلام بمُحاربة بَعْضم بَعْضًا.
(a) بالفاء، نسبة إلى مشرف بطنَّ من همدان، انظر: مقائل الطالبيين للأصفهاني 83، والأنساب للسمعاني 12: 374، سير أعلام النبلاء 4:604.
_________
(1)
صحيح مسلم 3: 745، سنن أبي داود 5: 50 (رقم 4667).
(2)
صحيح مسلم، كتاب الزكاة، 746:2 (رقم 153).
(3)
صحيح مسلم 2: 746.
أنْبَأنَا أبو العَلاء أحمد بن شَاكِر بن عَبْد الله بن سُلَيمان المَعَرِّيّ، عن أبي مُحمَّد عَبْد الله بن أحمد بن أحمد بن الخَشَّاب، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن مُحمَّد بن مُحمَّد بن الفَرَّاء، قال: أخْبرنَا أبو طَاهِر أحْمد بن الحَسَن البَاقِلَّانِيّ، قال: أخْبَرنَا أبو عَليّ الحَسَنُ ابن أحمد بن شَاذَان، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن أحمد بن إسْحَاق بن نِيْخَاب الطِّيبِيّ، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بن الحُسَين، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن عَبْد اللهِ الكَرَابِيْسِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو كُرَيْب، قال: حَدَّثَنَا أبو مُعاوِيَة، عن عَمَّار بن رُزَيْق، عن عَمَّارٍ الدُّهْنِيّ، عن سَالَم ابن أبي الجَعْد
(1)
، قال: جاءَ رَجُلُ إلى عَبْد الله بن مَسْعُود فقال: إنَّ الله قد آمنَّا أنْ يَظْلمنا ولم يُؤمنَّا أنْ يفتنّا، أرأيتَ إذا نَزلَتْ فِتْنَة كيفَ أصْنعُ؟ قال: عليكَ بكتاب الله، قال: قُلتُ: أرأيتَ إنْ جاءَ قَوْمٌ كُلّهُم يدعُو إلى كتاب اللهِ؟ فقال: سَمِعْتُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُول: إذا اخْتَلَفَ النَّاسُ كان ابنُ سُميَة مع الحَقّ.
أخْبَرنا أبو عَليّ حَسَنُ بن أحمد بن يُوسُف الأوَقِيّ بالبَيْت المُقَدَّس، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر أحمد بن مُحمَّد بن أحمد السِّلَفِيّ، قال: أخْبَرنا أبو بَكْر الطُّرَيْثِيثِيّ، ح.
وأخْبَرَنَا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيمْ بن أُزُرْتُق (a) قال: أخْبَرَنَا أبو الفَتْح بن البَطِّيّ، وأبو المُظَفَّر الكَاغِدِيّ، قال أبو الفَتْح: أخْبَرنا أبو الفَضْل بن خَيْرون، وقال أبو المُظَفَّر: أخْبَرَنا أبو بَكْر الطُّرِيْثِيثِيّ، قالا: أخْبَرَنا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد بن جَعْفَر بن دَرَسْتَويْه، قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بن سُفْيان، قال: حَدَّثَنَا أبو عَمْرو أحمدُ بن حَازِم الغِفَارِيّ، قال: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيْل بن أَبان، قال: حَدَّثَنَا نَاصِحٌ،
(a) في ك: أرتق، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان الكاشغَريّ، وأزُرْتُق لقب يُعرف به والده، حسبما يذكر ابن العديم في عدة مراضع تالية في التراجم، ولم ترد تسمية أبيه على هذا الوجه سوى عند ابن العديم، والضبط منه في غير هذا الموضع.
_________
(1)
البيهقي: دلائل النبوة 6: 422.
عن سِمَاك، عن جَابِر بن سَمُرَة، أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال
(1)
: تقتُل عَمَّارًا الفئَةُ البَاغِيَة.
فبَانَ، بهذَين الحَدِيْثَين، أنَّ الحَقّ مِع عليّ رضي الله عنه، لأنَّهُ قال في الحَدِيْث الأوَّل: إذا اختَلَف النَّاس كان ابنُ سُمَيَّة مَع الحَقّ، وهو عَمَّار بن يَاسِر، وكان مع عليّ رضي الله عنه، وقال في الحَدِيْث الثَّاني: تقتُل عَمَّارًا الفئَةُ البَاغِيَة، وقَتَلَه أصْحَابُ مُعًاوِيَة رحمه الله.
وقد أنْبَأنَا عُمَر بن مُحمَّد بن طَبرزَد، قال: أنبأنا أبو غَالبِ أحمد بن الحَسَن ابن البَنَّاء، قال: أخْبَرَنا أبو غَالبِ مُحمَّد بن أحمد بن بشْرَان إجَازَةً، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن المَرَاعِيشِيُّ (a)، وأبو العَلاءَ عليّ بن عَبْد الرَّحْمن بن غَيْلَان الوَاسِطِيّ، قالا: أخْبرنَا أبو عَبْد الله إبْرَاهِيْمِ بن مُحمَّد بن عَرَفَة نِفْطَوَيْه، قال: نُسِخَ لي من كتاب مُحمَّد بن عَبْد المَلِك، عن يزِيد بن هارُون، عن العَوَّام بن حَوْشَب، قال: حَدَّثَني أَسْوَد بن مَسْعُود، عن حَنظَلَة (b) بن خوَيْلِد، قال: كنتُ عند مُعاوِيَة بن أبي سُفْيان، فأتَاهُ رَجُلَان يَخْتصِمان في رأس عَمَّار بن يَاسِرٍ رحمه الله، كُلُّ واحدٍ منهما يقُولُ: أنا قَتلتُهُ، فقال عَبْدُ الله بن عَمْرو: لتَطِب نفسُ أحَدِكما لصَاحبه! فإنّي سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُول: تقتُله الفئَةُ البَاغِيَةُ. فقال مُعاوِيَةُ: ألَا تُغْنِي مَجْنُونَكَ يا عَمْرو عنَّا، فما بالُكَ مَعَنَا؟ فقال: إنَّ أبي شَكَاني إلى رسُول
(a) هكذا يتكرر اسمه في كل الروايات التي يتصل سنده بها، بالكنية واللقب فقط، وهو لقب غريب لم نقف على من تَعرض له، ولم نجده ضمن شيوخ ابن بشران، أو ممن أخذ عن نفطويه.
(b) في الأصل: حبلة، "ك". جَبَلة، والصواب ما أثبت، ويقال فيه العنزي والغنوي، (أنظر: التاريخ الكبير للبخاري 3: 43، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3: 240، تهذيب الكمال للمزي 7: 436) وترجم له ابن العديم في موضعه من حروف المعجم (الجزء السادس)، وأعاد فيها الرواية أعلاه، بسند آخر يتصل بابن حوشب.
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 7: 547 (رقم 37834)، وابن حنبل في مسنده 10: 47 - 49 (رقم 6538)، وانظر المسند الجامع 11: 303 - 303.
_________
(1)
الاستيعاب لابن عبد البر 3: 1140.
الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: أطعْ أبَاكَ ما دام حَيًّا ولا تَعْصِه، فأنا مَعَكَ ولَسْتُ أقاتِل.
أنْبَأنَا أبو الحَسَن بن أبي عَبْد الله بن المُقَيِّر، عن أبي مُحمَّد عَبْد الله بن أحمد بن الخَشَّاب، قال: أخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن مُحمَّد بن مُحمَّد بن الفَرَّاءَ، قال: أخْبَرَنَا أبو طَاهِر البَاقِلَّانيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن بن نِيْخَاب، قال: حَدَّثَنَا إبرَاهِيمُ بن الحسُيْن، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن سُلَيمان، حَدَّثَني نَصْر بن مُزَاحِم، قال
(1)
: حَدَّثَنا مُحمَّدُ بن سَعْدٍ، عن عَبْد الرَّحْمن بن زِيَاد بن أَنْعُم، وذكَر أهل صِفِّيْن، فقال: كانُوا عَرَبًا (a) يَعْرِفُ بعضُهُم بَعْضًا في الجَاهِلِيَّة، فالْتقَوا في الإسْلام، معَهُمِ (b) تلك الحِميَّة، ونيِّة الإسْلام (c)، فتَصَابَرُوا واسْتَحْيَوا من الفِرار، وكانُوا إذا تحاجَزُوا دخَلِ هؤلاءِ في عَسْكر هؤُلاءِ، وهؤلاء في عَسكرِ هؤلاءَ، فيَسْتخرجُون قتلاهُم فيَدْفنونهم.
فلمَّا أصبَحُوا يَوْمًا -وذلك يَوم الثّلاثَاء- خرجَ النَّاسُ إلى مَصَافِّهم، فقال أبو نُوحِ الحمْيَرِيّ: وكنتُ في خَيْل عليّ، فبينا أنا واقفٌ إذْ نادَى رَجُلٌ من أهل الشَّام: منْ دَلَّني على أبي نُوح الحِمْيَرِي، قال أبو نُوح: فقُلتُ: أيَّهُم تُريدُ؟ فقال: الكَلاعِيَّ. فقُلتُ: قد وَجَدْتَه، فَمَنْ أنْتَ؟ فقال: أنا ذو الكَلَاع، فَسِرْ إليَّ. قال أبو نُوح: فقُلتُ: مُعَاذ اللهِ أنْ أسيرَ إليك إلَّا في كَتِيْبَةٍ، فقال: سِرْ ولك ذمَّةُ اللهِ وذِمَّةُ رَسُولِه صلى الله عليه وسلم، وذِمَّةُ ذي الكَلَاع حتَّى ترجعَ، فإنَّما أُريدُ أنْ أسْأَلك عن أمْرٍ فيكم، فسَار إليهِ أبو نُوحٍ، وسَار إليهِ ذو الكَلَاع حتَّى الْتَقَيَا، فقال
(a) وقعة صفين: عُرْبًا.
(b) وقعة صفين: وفيهم.
(c) وقعة صفين: "وعند بعضهم بصيرة الدين والإسلام".
_________
(1)
انظر رواية ابن مزاحم في كتابه وقعة صفين 332 - 333، وفيه بعض اختلاف وحوصلة، والفتوح لابن أعثم 3: 114 - 120.
لهُ ذو الكَلَاع: إنَّما دَعَوتُك أُحِدِّثكَ حديثًا حَدَّثنَاهُ عَمْرو بن العَاصِ في إمارة عُمَرَ، فقال أبو نُوح: وما هُوَ؟ فقال ذُو الكَلَاع: حَدَّثَنَا عَمْرو بن العَاصِ أنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: يلتَقي أهلُ الشَّام وأهْلُ العِرَاق، في إحْدَى الكَتِيبَتَيْن الحَقُّ -أو قال: الهُدَى- ومَعَها عَمَّارُ بن يَاسِرٍ. فقال أبوِ نُوح نعم واللهِ؛ إنَّ عَمَّارًا لَمَعَنَا وفِيْنَا. وقال: أَجَادٌّ هو على قِتَالِنا؟ فقال أبو نُوْحٍ: نعم وربّ الكَعْبَة، لَهُوَ أَجَدُّ على قتالكُم منِّي، وَلَوَدَّ أنَّكُم حَلْق واحِد فذَبَحَهُ (a).
أخْبَرنا أبو الحَسَن عليّ بن مَحْمُود الصَّابُونِيّ كتابةً، قال: أنْبَانَا أبو مُحمَّد بن أحْمَد النَّحْويّ، قال: أخْبَرنا مُحمَّد بن مُحمَّد، قال: أخْبَرَنا أحمد بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا الحَسَنُ بن أحمد، قال: حَدَّثَنَا أحمد بن إسْحَاق، قال: حَدَّثنا إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن
(1)
، قال: حَدَّثَنا سَعيدُ بن كَثِيْر بن عُفَيْر، قال: حَدَّثَنَا ابنُ لَهِيْعَة، عن ابن هُبيرَة، عن حَنَش الصَّنْعانِيّ، قال: جئتُ إلى أبي سَعيد الخُدْرِيّ -وقد عَمِيَ- فقُلتُ: أخْبرني عن هذه الخَوَارِج؟ فقال: تأتوني فأُخْبركم، ثمّ تَرْفعُونَ ذللث إلى مُعاوِيَة، فيبعَث إلينا بالكلام الشَّدِيد! فقال له:[أنا] حَنَش. [فقال](b): تعال؛ مَرْحبًا بك يا حَنَش المِصْرِيّ، سَمِعْتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقُول: يَخْرجُ ناس يقرؤُون القُرْآن لا يُجَاوزُ ترَاقيَهُم، يمرقونَ من الدِّين كما يمرُق السَّهْمُ من الرَّمية، تنظُر في نَصْلهِ فلا تَرى شيئًا، وتنظُر في قُذَذهِ، فلا تَرى شيئًا، سَبَقَ الفَرْث والدَّم، يَصْلَى بقتالِهم أوْلى الطَّائِفَتين باللهِ. قال حَنَش: فإنَّ عليِّ بن أبي طَالبِ عليه السلام صَلِي بقتَالِهم؟ قال: وما يمنعُ عَليًّا أنْ يكُون أوْلى الطَّائِفتَيْن بالله عز وجل.
(a) وقعة صفين: "لوددت أنكم خلق واحد فذبحته"، والخبر فيه طويل له تتمة.
(b) أشَّر ابن العديم على موضع السقط الأول بكتب علامة "صـ"، وما بين الحاصرتين زيادة من شرح نهج البلاغة للمعتزلي 2: 261، والرواية في عن ابن ديزيل.
_________
(1)
هو الحافظ ابن دِيزِيل.
وقال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن
(1)
، قال: حَدَّثَنَا عَمْرو بن الرَّبِيْعْ، قال: حَدَّثَنا السَّرِيُّ، عن عَبْدِ الكَريم، أنَّ عُمَر بن الخَطَّاب رضي الله عنه، قال: يا أصْحَابَ مُحمَّد؛ تَنَاصَحُوا، فإنَّكم إنْ لم تفْعَلُوا غلبَكم عَلَيها عَمْرُو بن العَاص ومُعاوِيَة بن أبي سُفْيان.
أخْبَرنا أبو الحسَن بن المُقَيِّر إذْنًا، عن أبي مُحمَّد بن أحمد النَّحْويّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن بن الفَرَّاء، قال: أخْبَرنا أبو طَاهِر البَاقِلَّانِيّ، قال: أخْبرَنا أبو عليّ ابن شَاذَان، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن بن نِيْخَاب، قال: حَدَّثَنَا ابنُ دِيْزِيْل
(2)
، قال: حَدَّثَنا يَحْيَى بن سُلَيمان الجُعْفِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو مُعاوِيَة، عن الأَعْمَش، عن مُوسَى بن طَرِيف، يَذْكُر عن أبيهِ، أو عن عَبْد اللهِ بن رِبْعِيّ، قال: قال عليّ عليه السلام: أنا قَسِيْمُ النَّار.
قال أبو مُعاوِيَة: قال الأَعْمَشُ: وإنَّما يَعْني بقَوله أنا قَسِيم النَّار أنَّ مَنْ كان مَعي فهو على الحَقِّ، ومَنْ كان مع مُعاوِيَةَ فهو على البَاطل.
أنْبَأنَا أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد القَاضِي، عن كتاب زَاهِر بن طَاهِر الشَّحَّاميِّ، أنَّ أبوَي عُثْمان، الصَّابُونِيّ والبَحِيْرِيّ، وأبوي بَكْر: البَيهَقِيّ والحِيْرِيَّ، كتبُوا إليهِ: أخْبَرَنَا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن عَبْدِ الله الحَافِظ، قال: حَدَّثَني مُحمَّد بن صالح، قال: حَدَّثَنَا عُمَر بن الحَسَن القَاضِي ببَغْدَاد، قال: حَدَّثَنَا الحَسَن بن أحمد ابن الحسَن السَّبِيْعِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبي، قال: حَدَّثَنَا قيَسُ بن الرَّبيعْ، عن الصّلْتِ ابن بَهْرَام، عن حَبِيْب بن أبي ثَابِت، عن ابن عُمَر، قال: ما آسَى على شيءٍ كما آسَى على أنّي لم أُقاتِل الفئَة البَاغِيَة مع عليّ.
(1)
جزء الحافظ ابن ديزيل 86 - 87.
(2)
لم يرد في جزء الحافظ ابن ديزيل.
قَرَأتُ في كتاب صفِّين، تأليفُ أبي جَعْفَر مُحمَّد بن خَالِد الهاشمِيّ المَعْرُوفُ بابن أُمّه، قال: حَدَّثَني أبو إسْمَاعِيْل أسَد بن سَعيد النَّخَعيِّ، وعليّ بن أبي بَكْر العَرْزَمِيّ، عن صَبَاح المُزَنِيّ، عن الحَارِث بن حَصِيرَة، عن أبي صَادق، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: تَنزلونَ صفِّيْن على ثلاث أُممٍ: أُمَّة على الحَقّ لا ينتقِصُ البَاطِلُ منهم شيئًا، وأُمَّة على البَاطِل لا ينتَقِصُ الحقّ منهم شيئًا، وأُمَّةٌ مُلبِدَة يقولونَ هُؤلاءِ أَهْدَى من هؤلاء، بل هؤلاء أهْدَى، مثلُهُم كمثَل شاةٍ باتتْ في رَبِيْض غَنَم، فاغْترَت من اللَّيْل وقد سُرِّح قطيعُها الّذي هيَ منْهُ، فخرجَت فلقيَت قَطِيعًا آخر، فاغْترَّت بهِ فأنْكَرته، فبينا هي كذلك إذْ جَاء الذِّئْبُ فأكلَها، كذلك مَنْ مات من أُمَّتِي ليس عليهِ إمامُ عامَّةٍ، فهو ميِّتٌ مِيْتَةً جَاهِلِيَّةً، يُحاسَبُ بأعْمال الإسْلام. ثمّ ترتحلونَ منها وأنتُم على أرْبَع أُمَمٍ: أُمَّةٌ على الحَقّ لا ينتقِصُ الباطِلُ منهم شيئًا، مثلهُم كَمثَل الذَّهَب إذا أُدْخِل النارَ فنُفخ عليهِ لم تزدهُ النَّار إلَّا جودةً، وأُمَّةً على البَاطِل لا ينتَقِصُ الحقُ منهم شيئًا، مثَلهُم كَمثَل خَبَث الحَدِيْدِ إذا أُدْخِل النَّار فنُفخ عليهِ صَار رمادًا، فذلك مثل أعْمالِهم كرمادٍ اشْتَدَّت به الرّيحُ في يوم عَاصفٍ لا يقدرونَ ممَّا كسَبُوا على شيء، ذلك هو الضَّلَالُ البَعيد، وأُمَّة مُلْبِدَة، وأُمَّه مَارقَة يَلْتمسُونَ الدِّين فيمرقونَ منه كما تمرقُ السَّهْمُ من الرَّميةِ، لا يرجَعُ فيه حتَّى يرجَع السَّهْم في رَمْيتِهِ. قال: قيل: يا رسُول الله، وأيْنَ المؤمنونَ يَوْمئذٍ، أمَا يُقاتلونَ؟ قال: بلى ويزلزَلونَ زلزالًا شَديدًا.
أخْبَرنا السَّلَّار بَهْرَام بن مَحْمُود بن بَخْتِيار الأتَابِكيّ إذْنَاً، وسَمِعْتُ منه بالمِزَّة من غُوْطَة دِمَشْق، قال: أخْبَرَنَا الحاَفِظ عَبْد الخَالِق بن أسَد بن ثَابِت، قال: أخْبرَني أبو المَعَالِي عَبْدُ الخَالِق بن عَبْد الصَّمَد بن البَدَن ببَغْدَاد، قال: أخْبَرَنا قاضِي القُضَاة أبو بَكْر مُحمَّد بن عَبْدِ الله بن الحسُيْن إجَازَةً، قال: أخْبرَنا أبو الفَضْل عُبَيْدُ الله بن أحمَد الميكَالِيّ، قال: أخبَرَنا الحاكمِ أبو مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد اللهِ، قال:
حَدَّثنَا أبو عَبْد الله الحُسَيْن بن عليّ بن جَعْفَر بالرَّيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر الجِعَابِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو سَعيد، قال: حَدَّثَنَا أحمد بن يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بن حَمَّاد، عن عَمِّه الحَسَن بن زِيَاد، عن أبي حَنِيفَة أنَّه قالَ: ما قاتَلَ أحَدُ عليَّاً إلّا وعليُّ أوْلَى بالحق منه، ولولَا ما سَار عليُّ فيهم ما عَلم أحَدُ كيفَ السِّيرَةُ في المُسْلِمِيْن.
قال: ورَوَى سَالِم بن سَالِم، عن أبي حَنِيفَة أنَّهُ قال: ما جَازَيْتُ أحَداً بسَيِّئَة قطّ، ثمّ قال: أتدرونَ لَمَ يُبغضُنَا أهْلُ البَصْرَة؟ قلنا: لا، قال: لأنَّ قَولهم في القَدَر ما قَد عَلمِتُم، ونحنُ نُخالفُهُم، ولذلك لم يُحبُّونا، ثمّ قال: أتدرون لَمَ يُبْغضُنَا أهلُ الشَّام؟ قلنا: لا، قال: لأنَّا لو حضَرْنا صِفِّيْن كُّنَّا مع عليّ على مُعاوِيَة، فلذلكَ لا يُحبُّونَا.
أخْبَرَنا بَهْرَام إذْنَاً، قال: أخْبَرَنا عَبْد الخاَلِق بن أسَد، قال: أخْبَرنا الفَقِيهُ أبو الحَسَن عليّ بن أحمد بن الحُسَيْن بن محْمُوَيه اليَزْدِيُّ ببَغْدَاد، قال: أخْبَرنا أبو عَبْد اللهِ مُحمَّد ابن الحسُيْن بن الحر (a) بن بَلُوك، ح.
وقال: أخْبَرَنا عَبْد الخاَلِق، قال: وأخْبَرَنا الفَقِيهُ أبو الخير مَسْعُود بن الحُسَيْن ابن سَعْد بن عليّ بن بندَار ببَغْدَاد، قال: أخْبَرَنا أبي، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد الحسَن بن مُحمَّد ابن الحَسَن، قال: حَدَّثَنَا أبو سعيد الحَسَن بن مُحمَّد بن الحُسَيْن بن أُشْتُوَبه، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ- هو ابن أحْمَد بن إبرَاهِيم المُسْتَمْلِيّ- قال: وأخْبَرَنا فَارِس- هو ابن مُحمَّد ابن عليّ بن عَبْد الله بن يَحْيَى- قال: حَدَّثَنَا سَعيد، قال: سَمِعْتُ أبا نُعَيْم، يقول: حَدَّثَني عليّ بن قَادِم، قال: سَمِعْتُ سُفْيان، يقول
(1)
: ما قاتَلَ عليّ أحَدَاً إلَّا كان أوْلَى بالحَقّ منهُ.
(a) ويمكن أن يكون: الحسن، وليس لأبي عبد الله هذا ترجمة مفردة في المتاح من المصادر، ويرد اسمه في بعضها ضمن شيوخ اليزدي، وينعت بالمقرئ الصوفي، ولم يرد اسم جده في سياقة اسمه. انظر: سير أعلام النبلاء 20: 334، وفيه: بلوك؛ بتشديد اللَّام.
_________
(1)
في حلية الأولياء 7: 31.
قُرئ على شَيْخنا أبي اليُمْن زَيْد بن الحَسَن بن زَيد الكِنْدِيّ، أخْبَركم أبو مَنْصور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد القَزَّاز، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر أحمد بن عليّ بن ثَابتِ
(1)
، قال: أخْبَرني الحَسَن بن عليّ بن عَبْد الله المُقْرِئ، قال: حَدَّثَنَا أحمدُ ابن مُحمَّد بن يُوسُف، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن جَعْفَر المَطِيْرِيّ، قال: حَدَّثَنَا أحْمَدُ بن عَبْد الله المُؤَدِّبُ بِسُرَّ مَنْ رَأى، قال: حَدَّثَنَا المُعَلَّى بن عَبْد الرَّحْمن ببَغْدَاد، قال: حَدَّثَنَا شَرِيك، عن سُلَيمان بن مِهْرَان الأَعْمَش، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِمُ، عن عَلْقَمَهَ والأَسْوَدِ، قالا
(2)
: أتَيْنا أبا أَيُّوبَ الأنْصاريَّ عندَ مُنْصَرَفه من صفّيْن، فقُلنا له: يا أبا أَيُّوب؛ إنَّ الله أكْرمَكَ بنُزُول مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وبمجيء ناقَتِه تَفَضُّلًا من الله وإكْرامًا لك، حتَّى أناخَتْ ببابكَ دونَ النَّاس، ثمّ جئتَ بسَيْفِكَ على عَاتقكَ تَضْرب به أهْلَ لا إله إلَّا اللهُ! فقال: يا هذا، إنَّ الرَّائدَ لا يَكذِبُ أهْلَهُ، وإنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَرَنا بقتالِ ثلاثة مع عليّ: بقتالِ النَّاكثيْنَ، والقَاسِطينَ، والمَارِقيْن؛ فأمَّا النَّاكِثُون فقد قاتلناهُم -أهل الجمل: طَلْحَة والَزُّبَيْر- وأمَّا القَاسِطُونَ فهذا مُنْصَرَفُنا مِن عندهم -يعني: مُعاوِيَة وعُمَرًا- وأمَّا المَارِقُونَ فهم أهلُ الطَّرْفَاواتِ، وأهْلُ السُّعَيْفَاتِ، وأهْلُ النُّخَيْلَاتِ، وأهْلُ النَّهْرَوَاناتِ، واللهِ ما أدْرِي أينَ هُم، ولكن لا بُدَّ من قتالِهم إنْ شَاءَ اللهُ.
قال: وسَمعْتُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يمُول لعَمَّارٍ: يا عَمَّارُ: تقتُلكَ الفئَةُ البَاغِيَة، وَأنت إذْ ذاك مع الحَقّ والحَقّ مَعَكَ. يِا عَمَّارُ بن يَاسِر: إنْ رأيتَ عَليَّاً قد سَلَكَ وَادِيًا، وسلك النَّاس وَاديًا غيرهُ، فاسْلُك معَ عليّ، فإنَّهُ لن يُدلِيكَ في رَدىً، ولن يُخْرِجَكَ من هُدَىً. يا عَمَّارُ: مَنْ تقلَّد سَيْفًا أعانَ به عَليًّا على عَدُوّه،
(1)
تاريخ بغداد 15: 344.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير 7: 305 - 306، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 4: 173 (رقم 4049) والهيثمي في جمع الزوائد 6: 335، وكنز العمال 11: 353 (رقم 31731) من حديث مخنف عن أبي أيوب، والحاكم في المستدرك 3: 139 من حديث عقاب بن ثعلبة عن أبي أيوب،
قلَّدَهُ اللهُ يوم القِيامَة وشَاحَيْن من دُرٍّ، ومَنْ تَقَلَّدَ سَيفًا أعانَ به عَدُوَّ عليّ عليهِ، قَلَّدَهُ اللهُ يَوم القِيامَة وِشَاحَيْن من نَار، قلنَا: يا هذا؛ حَسْبُكَ رَحِمَكَ اللهُ، حَسْبُكَ رَحِمَك اللهُ.
قال الخَطِيبُ أبو بَكْر أحمد بنُ عَليّ
(1)
: المُعَلَّى بن عَبْد الرَّحْمن ضَعِيفُ جدًّا، قيل: إنَّه كان يَكْذِبُ.
الفَصْلُ الثَّالث في بَيان أنَّ مُعاوِيَة ومَنْ كانَ مَعَهُ بصِفِّيْن لم يَخْرُجُوا عن الإيْمَان بقِتَالِ عليّ عليه السلام
أنبأنَا أبو رَوْح عَبدُ المُعِزّ بن مُحمَّد بن أبي الفَضْل الهَرَوِيُّ، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم تَمِيْم بنُ أبي سَعيد الجُرْجَانِيّ، قال: أخْبرنا الحاكمُ أبو الحَسَن عليُّ بن مُحمَّد البَحَّاثِيُّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن مُحمَّدُ بن أحمد بن هارُون، قال: أخْبَرَنا أبو حَاتِم مُحمَّد بن حِبَّان البُسْتِيّ، قال: أخْبَرنا أحْمدُ بن مُحمَّد الحِيْرِيّ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله ابن هاشِم، قال: حَدَّثنَا يَحْيَى القَطَّانُ، عن عَوْف، قال: حَدَّثَنا أبو نَضْرَة، عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيّ، قال: قال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
: يكُونُ في أُمَّتي فِرْقَتان، تفرِقُ بينهما مَارِقةٌ، تقتُلها أَوْلَى الطَّائِفتَين بالحَقّ.
وقد ذَكَرنا في الفَصْل المُتَقدِّم عندَ فرقة من المُسْلِمِيْن، فجعل الفُرْقة من المُسْلِمِيْن وهم أصْحَاب عليّ ومُعاوِيَة، وفي هذه الرِّوَايَةِ جَعَلَ الفِرْقَتين من أُمَّتهِ، فلم يُخْرج واحدةٌ منهما عن كونها من أُمَّته صلى الله عليه وسلم، ولا عن كونها من المُسْلِمِيْن بهذه الفُرْقَة التي وقعَتْ، والمَارِقَةُ هم الخَوَارِجُ الّذين قَتَلَهُم عليّ
(1)
تاريخ بغداد 15: 345.
(2)
صحيح مسلم 2: 746 (رقم 151).
رَضِيَ اللهُ عنهُ يوم النَّهْر، فبانَ بذلك أنَّ مُعاوِيَة وأصْحَابه لم يخرجُوا بقتال عليِّ عن الإسْلام، عن كونهمِ من أُمَّة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، وكون عليّ أوْلَى بالحَقّ لقتله المَارِقَة تَبيَّن أنَّ منْ قاتلَهُ من المُسْلِمِيْن كان باغِيًا عليهِ.
والّذي يُوضِّحّ ما ذكَرْناهُ، ما أخْبَرناهُ أبو هاشِم عَبْد المُطَّلِب بن الفَضْل بن عَبْد المُطَّلِب الهاشمِيّ، قال: أخْبَرنَا أبو الفَتْح أحمد بنُ الحسُيْن الشَّاشِيّ، قال: أخْبرَنا أبو المَعَالِي مُحمَّد بن زَيْد الحُسَيْنيّ في كتابهِ، قال: أخْبَرَنا طَلْحَةُ بن عليّ بن الصَّقْر الكَتَّانِيّ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن عَبْد الله البزاز (a)، قال: حَدَّثَنَا بشرُ بن موسَى، قال: حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيّ، قال: حَدَّثَنا سُفْيان، قال: حدَّثَنا أبو الزَّنَاد. وأخْبَرنا أبو الحَسَن المُبارَك بن أبي بَكْر بن مَزْيَد الخوَّاص، وأبو عَبْد الله مُحمَّد بن نَصْر بن أبي الفُتُوح البَغْدادِيّان بها، قال مُحمَّدُ: وأنا حاضِر، قالا: أخْبَرنَا أبو مُحمَّد عَبْد الغَنِيّ بن الحَسَن بن أحمد، قال: أخْبَرَنَا سَعيد بن أبي الرَّجَاء الصَّيْرَفِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو العبَّاس أحمد بن مُحمَّد بن النُّعْمان، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر بن المُقْرِئ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد الخُزَاعِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن يَحْيَى العَدَنِيّ، قال: حَدَّثَنَا وَكِيع، قال: حَدَّثَنَا سُفْيان، عن أبي الزَّنَادِ، عن الأعْرَج، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُول الله صلي للهُ عليه وسَلَّم
(1)
: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَقْتَتل فئتانِ عَظِيْمَتان دَعْواهُما واحدَة.
(a) في الأصل: البزار، وصوابه بزايين كما هو مثبث، انظر ترجمته ومصادرها في سير أعلام النبلاء 16: 39 - 44.
_________
(1)
أخرجه مسلم من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري عن أبي اليمان. انظر: الجامع الصحيح لمسلم، كتاب الفتن 18: 12، الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الفتن 8: 101، ابن حجر: فتح الباري 13: 81 (رقم 7121).
وأنْبَأنَا أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد القَاضِي، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد عَبْد الكَريم ابن حَمْزَة بن الخَضِر السُّلَمىّ، قال: حَدَّثَنا أبو مُحمَّد عَبْد العَزِيْز بن أحمد بن مُحمّد بن عليّ الكَتَّانِيّ الصُّوفِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم تَمَّام بن مُحمَّد بن عَبْد الله بن جَعْفَر بن الجُنَيْد الرَّازِيّ الحَافظ، قال: حَدَّثَنا أبو عَبْد اللهِ جَعْفَر بن مُحمَّد بن جَعْفَر بن هِشَام الكِنْدِيّ، قال: حَدَّثَنَا أَبو العبَّاس أحْمدُ بن نَصْر بأَنْطاكِيَة، قال: حَدَّثَنَا سُلَيِم بن مَنْصُور بن عَمَّار، قال: حَدَّثَنَا أبي، قال: حَدَّثني ابنُ لَهِيْعَةَ، عن يَزِيد بن أبي حَبِيْب، عن أبي الخير مَرْثَد بن عَبْد الله اليَزَنِيّ (a)، عن حُذَيْفَة بن اليَمَان، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
: يكونُ لأصْحَابي منِ بَعْدِي زَلَّةُ يَغْفِرُها اللهُ عز وجل بسَابِقَتِهم معي، يَعْملُ بها قَوْم من بَعْدَهُم يَكبُّهُمُ اللهُ عز وجل في النَّار على مَنَاخِرهم.
وأنْبَأنَا أبو الحَسَن عليّ بن مَحْمُود بن أحمد الصَّابُونِيّ، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد عَبْدُ الله بن أحمد بن أحمد النَّحْويّ إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن بن الفَرَّاء، قال: أخْبَرنا أبو طَاهِر البَاقِلَّانِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن بن نِيْخَاب، قال: حَدَّثَنا إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن، قال: حَدَّثَنَا الحَكَم بن نَافِعٍ، قال: حَدَّثَنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة (b)، عن الزُّهْرِيّ، قال: حَدَّثَنَا الحَسَن بن مالِكٍ، عن أم حَبِيْبَة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال
(2)
: رأيتُ ما تلْقَى أُمَّتِي من بَعْدِي، وسفْكَ بعضُهم دَم بعضٍ، سَبَقَ ذلك من الله عز وجل كما سَبق في الأُمَم قَبلهم، فسألتُه أنْ يُولِيني شَفَاعةً فهِم، فَفَعَل.
(a) في الأصل: البرني، مهملة الحروف سوى الباء، وفي "ك": البرتي، والصواب ما أثبت، نسبة إلى يَزَن، بطنُ من حِمْير، كما نص عليه ابن ناصر الدين: توضيح المشتبه 1: 416.
(b) في الأصل: حمرة، بالمهملة. وصوابه بالزاي: حمزة بن دينار، وانظر ترجمته ومصادرها في تهذيب الكمال للمزي 13:516.
_________
(1)
سير أعلام النبلاء 9: 95.
(2)
ابن أبي عاصم الشيباني: السنة 96 (رقم 215) الذهبي: سير أعلام النبلاء 10: 333، وفيهما:"أُريت ما تلقى".
أخْبَرَنا أبو مُحمَّدٍ عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد الله بن عُلْوَان الحَلَبيُّ بها، قال: أخْبَرنا أبو جَعْفَر أحمد بن مُحمَّد بن عَبْد العَزِيْز المَكّيّ العبَّاسيّ النَّقِيْبُ ببَغْدَاد، قال: أخْبَرَنَا أبو عَليِّ الحَسَنُ بنُ عَبْد الرَّحْمن بن الحَسَن بن مُحمَّد الشَّافِعيِّ المَكّيّ بها، قال: أخْبَرنا أبو الحَسَن أحمد بن إبْرَاهِيمْ بن عليّ بن أحمد بن فِرَاس العَبْقَسِيّ، قال: أخْبَرنَا أبو جَعْفَر مُحمَّدُ بن إبْرَاهِيمْ بن عَبْدِ الله بن الفَضْل الدَّيْبُليّ، قال: حَدَّثَنَا أبو صالح مُحمَّد بن أبي الأزْهَر المَعْرُوفُ بِابنِ زُنبور، قال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر بن عَيَّاش، عن أبي سَعْد، عن رَجُلٍ، عن عليِّ رضي الله عنه، قال
(1)
: مَنْ كان يُريدُ وجْهَ اللهِ منَّا ومنهم نَجَا؛ يعني صِفِّين.
أخْبَرنا أبو حَفْص عُمَر بن مُحمَّد بن طَبَرْزَد البَغْدادِيّ إذْنًا، قال: أخْبَرَنا أبو البَرَكاَت عَبْد الوهَّاب بن المُبارَك، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد عَبد الله بن مُحمَّد ابن عَبْد الله الصَّرِيفِيْنِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسمِ عُبَيد الله (a) بن مُحمَّد بن إسْحَاق ابن حَبَابَةَ، قال: حَدَّثَنَا أبو القَاسمِ البَغَوِيّ، قال: حَدَّثنا عليّ بن الجَعْد، أخْبَرَنا فُضَيْل بن مَرْزُوق، عن عَطِيَّة، عن عَبْد الرَّحْمن بن جُنْدَب، قال
(2)
: سُئلَ عليّ عن قتلَاهُ وقتلَى مُعاوِيَة، قال: يُؤْتيَ بي وبمُعاوِيَة يوم القِيامَة، فنَجْتَمع عند ذي العَرْش، فأَيَّنَا فَلَج، فَلَجَ أصْحَابَهُ.
وأخْبَرَنا أبو البَرَكاَت الحَسَن بن مُحمَّد بن الحَسَن بن هِبَة اللهِ إذْنًا، وقَرأتُ عليه إسْنادَهُ، قال: أخْبَرَنا عَمِّي الحافِظُ أبو القَاسمِ عليّ بن الحَسَن بن هِبَة الله
(3)
،
(a) في الأصل و"ك ": عبد الله، ويأتي صحيحًا فيما بعد. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 16: 548، تاريخ الإِسلام 8:650.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 346، وكنز العمال للمتقي الهندي 11: 348 (رقم 31707).
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 346، وكنز العمال للمتقي الهندي 11: 350 - 351 (رقم 31714).
(3)
تاريخ ابن عساكر 1: 343.
قال: أخْبَرنا أبو عَبْد اللهِ الحُسَيْن بن مُحمَّد بن خُسْرُو البَلْخِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ بن الحُسَيْن بن أَيُّوب، قال: أخْبرَنا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: أخْبَرَنا أبو الحسَن أحْمد بن إسحَاق بن نِيْخَاب الطِّيْبِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن بن عليّ الكِسَائيّ الهَمَذَانِيّ، قال: حَدَّثنا يَحْيَى بن سُلَيمان أبو سَعيد الجعفِيّ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن إِدْرِيس، قال: سَمعْتُ أبا مالِك الأشْجعيِّ ذكَر عن رَجُل من أَشْجْعَ يُقالُ لهُ: سَالَم بن عُبَيْد الأشْجَعِيّ، قال: رأيتُ عليًّا بَعْد صِفِّيْن
(1)
وهو آخذُ بيدي، ونحنُ نمشِي في القَتْلَى، فجَعَل عليُّ يَسْتَغْفرُ لهم، حتَّى بلغَ قَتْلَى أهْل الشَّام، فقلتُ له: يا أَمِير المُؤمِنِين، إنَّا في أصْحَاب مُعاوِيَةَ، فقال عَليّ: إنَّما الحِسَابُ عليَّ وعلى مُعاوِيَة.
وأخْبرَنا أبو البَرَكَات إذْنًا، قال: أخْبَرَنَا عَمِّي، قال: وأخْبَرَنَا أبو عَبْد الله البَلْخِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن بن أَيُّوبَ، قال: أخْبَرَنَا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: أخْبَرنَا أبو الحَسَن الطِّيبيُّ، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيْم الكِسَائيِّ، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى ابن سُلَيمان، قال: حَدَّثَني زَيْد بن الحبُاب، قال: أخْبرَنِي إسْحَاق بن أبي بَكْر مَوْلَى حوَيْطِب المَدَنِيّ، قال: حَدَّثَني عَبْد الرَّحْمن بن نَافِع القَارِيّ، عن أبيهِ، قال
(2)
: قَدِمْتُ العِرَاقَ، فَدَخلْتُ دارَ عليّ بن أبي طَالِب الّتي كان يَسْكن، فإذا المَوَالِي حَلْقَتان يَتحدَّثُونَ، فجلَسْتُ معهم، فخرج عليّ وهم يَذكرُون قَتْلى عليّ ومُعاوِيَة، فقالُوا: قِبْلتُنا واحِدَة، وإلهنا واحدُ، ونَبيُّنا واحدٌ؛ فأين قَتْلَانا وقَتْلَاهُم؟ فأقْبَلَ عليِّ، فلمَّا رآهُم قَصَدَ إليهم فسكَتُوا، فقال عليّ: ما كُنتم تَقُولُون؟ فسَكَتُوا، فقال عليّ: عَزَمْتُ عليكم لتخْبِرنّي، فقالوا: ذَكَرنا قَتْلَانا وقَتْلَى مُعاوِيَة، وأنَّ قِبْلَتنا واحِدَةٌ، وإلَهنا واحدٌ، ودِيننا واحدُ. فقال عليّ: فإنِّي أُخْبركم عن ذلك، إنَّ الحِسَاب عَلِيّ وعلى مُعاوِيَة.
(1)
في ترجمة سالم بن عبيد الأشجعي الآتية في الجزء التاسع، إعادة للرواية، وفيها: يوم صفين.
(2)
انظر الرواية في تاريخ ابن عساكر 1: 344.
أخْبَرَنا أبو هاشِم عَبْدُ المُطَّلِب بن الفَضْل بن عَبْد المُطَّلِب الهاشِميّ، أخْبَرَنَا أبو الفَتْح أحمد بنُ محمَّد بن أحْمَد في جَعْفَر الخُلْميِّ ببَلْخ، قال: أخْبَرَنا أبو اليُسْر مُحمَّد بن مُحمَّد بن الحُسَيْن البَزْدَوِيّ إملاءً ببُخَارَى، قال: أخْبَرنَا الحاكمِ أبو الحُسَيْن إبْرَاهِيْمُ بن عليّ في أحمد الإسْمَاعِيْليّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْد السَّلام بن مُوسَى بن عيسَى، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْدُ العَزِيْز بن مُحمَّد بن المَرْزُبَانِ، قال: أخْبرنا أبو عَبْد اللَّهِ مُحمَّد ابن عَبْد الرَّحْمن البَلْخِيّ، قال: أخْبَرَنا عَبدُ الرَّزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِىِّ، عن عَبْدِ الله بن صَفْوَان، قال: قال رَجُلُ يَوم صفِّيْن: اللَّهُمَّ الْعَن أهْل الشَّام، قال: فقال عليّ رضي الله عنه: لا تَسُبُّوا أهل الشَّام جَمًّا غَفِيرًا، فإنَّ بها الأبدَالَ، فإنَّ بها الأبْدَال، فإنَّ بها الأبْدَال.
أخْبَرَنا أبو الحَجَّاج يُوسُف في خَلِيل بن عَبْد الله، فيما أَذنَ لَنا فيهِ، قال:
أخْبَرنَا أبو عَبْد اللهِ مُحمَّد بن أبي زَيدٍ الكَرَّانِيّ، قال: أخْبَرَنَا محْمُود بن إسْمَاعِيْل الصَّيْرَفِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن بن فَاذْشَاه، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بنُ عَبْد اللهِ الحَضْرَميّ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بنُ أبي زِيَاد القَطَوَانِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْز بن أبي سَلَمَة المَاجُشُون، عن عَبْدِ الوَاحد في أبي عَوْن، قال: مَرَّ عليّ بن أبي طَالِب رضي الله عنه يوم صِفّيْن وهو مُتَّكئٌ على الأشْتَر، فَمَرَّ حَابسُ اليَمَانيّ، وكان حَابسٌ من العُبَّادِ، فقال الأَشْتَر: يا أَمير المُؤمِنِين، حَابِسٌ معهم، عَهْدِي به واللهِ مُؤْمنٌ! فقال عليّ: وهو اليوم مُؤْمن.
قُلتُ: وهذا حَابسِ اليَمَاَنيّ هو حَابسُ بن سَعْد، وقيل: حَابِسُ بن رَبيعَة، قيل: إنَّ له صُحبَةً.
أنْبَأنَا عُمَر في مُحمَّد بن طَبَرزَد، عن أبي غَالِب بن البَنَّاءَ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد الجوهَرِيّ، قال: أخْبَرنا أبو الفَضْل عُبَيْدُ اللهِ بن عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد الزُّهْرِيّ،
قال: حَدَّثَنا أبو عُمَر حَمْزَة بن القَاسِم بن عَبْدِ العَزِيْز الهاشمِيّ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بنُ عُثْمان، قال: حَدَّثَنَا أبو بِلال الأشْعَرِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو مُعاوِيَة مُحمَّد بنُ خَازِم، عن مُحمَّد ابن قَيْس، عن سَعْد بن إبْرَاهِيم، قال: خرجَ عليّ بن أبي طَالِب ذات يومٍ ومَعَهُ عَدِيُّ بن حَاتِم الطَّائِيّ، فإذا رَجُل من طَيِّء قَتِيْل؛ قد قتلَهُ أصْحَابُ عليٍّ، فقال عَدِيّ: يا وَيْحْ هذا؛ كان أمْس مُسلِمًا واليوم كافرًا، فقال عليّ: مَهْلًا، كان أمس مُؤْمنًا، وهو اليوم مُؤْمن.
وأنْبَأنَا تَاج الأُمَناء أحمد بن مُحمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبرَنا عَمِّي أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن الحَافِظُ
(1)
، ونَقَلْتُه أنا من خَطِّ الحَافِظ أبي القَاسِم، قال أخْبَرنَا أبو سَعْدٍ إسْمَاعِيْل بن أحمد بن عَبْد المَلِك الفَقِيه، قال: أخْبَرَنَا القَاضِي أبو الفَضْل مُحمَّد بن أحْمَد بن أبي جَعْفَر الهاشِمِيّ، قال: أخْبَرنَا القَاضِي أبو بَكْر أحمد بن مُحمَّد بن إبرَاهِيم الصدَفِيّ المَروَزِيّ، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد الحَسَنُ بن مُحمَّد بن حَلِيم المَرْوزِيّ الحلَيْمِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو المَوْجَّه مُحمَّد بن عَمْرو بن المَوْجَّه الفَزَارِيُّ المَرْوزِيّ، قال: أخْبَرَنَا الحَكَم بن موسَى، قال: حَدَّثَنَا شعَيْب بن إسْحَاق، عن مُحمَّد بن رَاشِد، عن مَكْحُول، قال: سُئلَ عليّ بن أبي طَالِب رضي الله عنه عن مَنْ قُتِلَ بصِفِّيْن: ما هُم؟ قال: هُم المُؤْمِنون.
أنْبَأنَا أبو نَصْر مُحمَّد بن هبَة الله بن مُحمَّد القَاضِي، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن أبي مُحمَّد بن هِبَةِ الله، قال: أنْبَأنا أبو الحُسَيْن عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد الله بن الحَسَن ابن أبي الحَدِيْد، قال: أخْبَرَنا جَدِّي أبو عَبْد اللهِ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ بن الحَسَن بن عليّ الرَّبعِيّ، قال: أخْبَرنَا أبو الحُسَيْن عَبْدُ الوهَّاب بنُ الحَسَن، قال: أخبَرَنَا مُحمَّد بن عَبْدِ اللهِ بن عَبْد السَّلام، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بن عَمُرو، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّة، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن رَاشِد، عن مَكْحُول، أنَّ أصْحَاب عليّ سَألُوُه عن مَنْ قَتَلُوا من أصْحَاب مُعاوِيَة، قال: هُم المُؤْمِنُون.
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 345.
وأخْبَرَنا أبو حَفْص عُمَر بن مُحمَّد بن طَبرَزَد مُشَافهةً، عن أبي البَرَكَاتِ عَبْد الوهَّاب بن المُبارَك الأنْمَاطِيّ الحَافِظ، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن المبُارَك بن عَبْد الجبَار الطُّيُورِيّ، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر عَبْد البَاقي بن عَبْد الكَريم بن عُمَر، قال: أخبرَنَا أبو الحُسَيْن عَبْدُ الرَّحْمن بن عُمَر الخَلَّال، قال: أخْبَرَنَا مُحمَّدُ بن أحمَدَ ابن يَعْقُوبَ بن شَيْبَةَ، قال: حَدَّثَنا جَدِّي، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن آدَم، قال: حَدَّثنا أبو بَكْر بن عَيَّاشٍ، قال: حَدَّثَنَا صَلْهَبٌ، أبو أَسَدٍ الفَقْعَسِيّ، عن عَمِّه، قال: قال رَجُلٌ يَوْم صِفِّيْن: مَنْ دَعَا إلى البَغْلة يومَ كَفَر أهْلُ الشَّام؟ قال: فقال عليّ: من الكُفْر فَرُّوا
(1)
.
أنْبَأنا القَاضِي أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد الدِّمَشْقِيّ، وسَمِعْتُ منهُ بها، قال: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ بنُ المُسَلَّم الفَقِيهُ، إجَازَةً إنْ لم يَكُن سَمَاعًا، قال: حَدَّثَنَا أبو مُحمَّد عَبْدُ العَزِيْز بن أحمد الكَتَّانِيّ لفظًا، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد ابن أبي نَصْر، قال: أخْبَرنَا أبو المَيْمُون عَبْدُ الرَّحْمن بن عَبْدِ اللهِ بن عُمَر بن رَاشِد، قال: حَدَّثَنَا أبو زُرْعَة عَبْدُ الرَّحْمن بن عَمْرو النَّصْرِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو نُعَيْم، قال: حَدَّثَنَا سُفْيان، عن جَعْفَر بن مُحمَّد، عن أبيهِ، قال: سَمعَ عليّ يَوْم الجَمَل -أو يوم صفِّيْن- رَجُلًا يَغْلُو في القَوْل؛ يقُول: الكَفَرة! قال: لا تقُولُوا، فإنَّهُم زَعَمُوا أنَّا بَغَيْنا عليهم، وزَعَمْنا أنَّهُم بَغوا علينا.
وأخْبَرنا القَاضِي أبو القَاسِم إذْنًا، قال: كَتَبَ إلينا أبو بَكْر وَجِيْه بن طَاهِر الشَّحَّامِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو حَامِد أحمد بن الحَسَن بن مُحمَّد الأزْهَري، قال: أخْبَرنَا أبو مُحمَّد الحَسَنُ بن أحمد بن مُحمَّد بن الحَسَن المَخْلَدِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو نُعَيْم عَبْد المَلِك بن مُحمَّد بن عَدِيّ، قال: حَدَّثنا إسْحَاقُ بن إبْرَاهِيم، قال: أخْبَرَنَا سَعْدُ بن
(1)
انظر الرواية عند ابن عساكر 1: 345.
سَعيد، قال: حَدَّثَنَا سُفْيانُ، عن جَعْفَر بن مُحمَّد، عن أبيهِ، قال: ذُكِرَ عند عليّ يومُ صِفِّيْن أو يَوْم الجَمَل، فذكَرْنا الكُفْر، قال: لا تقُولوا ذلك، زعَمُوا أنَّا بَغَيْنا عليهم، وزَعَمْنَا أَنهُم بَغُوا علينا، فقاتلنَاهُم على ذلك.
أنْبَأنَا أبو الحَسَن بن المُقَيِّر البَغْدادِيّ، عن أبي مُحمَّد عَبْد الله بن أحمد ابن أحمد بن الخشَّابِ، قال: أخْبرنا أبو الحُسَيْن بن الفَرَّاءِ، قال: أخْبَرنَا أبو طَاهِر البَاقِلَّانِيّ، قال: أخْبَرنا أبو عليّ بنُ شَاذَان، قال: حَدَّثنَا أبو الحَسَن ابن نِيْخَاب، قال: حدَّثَنا إبْرَاهِيْمُ بن الحُسَيْن، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى -يعني ابنَ سُلَيمان- قال: حَدَّثَني سُفْيانُ بن عُيينَة، عن عَمْرو بن دِيْنارٍ، عن أبي فَاخِتَة، قال: أتيتُ عَليًّا يوم صِفِّيْنَ بأسيْر، فقال له الأَسِيرُ: لا تقتُلني، فقال لَهُ عليّ: لا أقتُلك صَبْرًا! إنّي أخافُ اللَّه ربَ العالَمين. ثمّ قال له عليٌّ: أفيكَ خَيْرٌ، أَتُبايُع؟ فقال الرَّجُلُ: نَعَم، فقالَ عليٌّ للّذي جَاء بهِ: خُذْ سِلَاحَهُ وخَلّ سَبيلَهُ.
وقال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بن الحُسَيْن، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بن عُمَر، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بن بُكَيْرٍ التَّمِيْمِيّ، عن سَيْف بن عُمَر، عن مُجَالِد، عن عَامِر الشَّعْبي، قال: سُئلِ عنِ أهْلِ الجَمَلِ وأهْل صِفِّيْن، فقال: أهل الجَنَّة لَقِي بعضُهم بَعْضًا، فاسْتَحيَوا أنْ يفِرّ بعْضُهُم عن بعْض.
أنْبَأنَا عُمَر بن مُحمَّد بن طَبرزَد، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم بن السَّمَرْقَنْدِيّ، إجازَةً إنْ لم يَكُن سَمَاعًا، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن بن النَّقُّور، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر المُخَلِّصُ، قال: أخْبَرنا مُحمَّد بن هَارُون الحَضْرَميّ، قال: حَدَّثَنا أبو هِشَام الرِّفاعِيّ، قال: حدَّثنا النَّضْر بن مَنْصُور العَبْدِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو الجنُوب عُقْبَة ابنُ عَلْقَمَة اليَشْكُرِيّ، قال: شَهِدْتُ مع عليّ صِفِّيْن، فأتي بخمسَة عَشَر أَسِيرًا من أصْحَاب مُعاوِيِة، فكان مَنْ ماتَ منهم غسَّله وكفَّنه وصَلَّى عليه.
وقد رَواهُ إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن، فيما أُجيز لنا بالإسْنَاد المُتَقدِّم إليه، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ في عُمَر في أَبَان، قال: أخْبرنا النَّضْرُ بن مَنْصُور، عن أبي الجنُوِب، قال: شَهِدْتُ مع عليّ صِفِّيْن، قال: فأَسَرَ عليّ من أصْحَاب مُعاوِيَة خَمسَة عَشَر رجُلًا جَرْحَى، فلم يزل يُدَاويهم، يموتُ واحدٌ بعدَ واحدٍ، يكفِّنهم ويُصَلِّي عليهم ويَدْفنهم.
أنْبأنَا ابن طَبرزَد، قال: أنْبَأنَا أبو غَالِب أحمدُ بن الحَسَن بن البنَّاءِ، قال: أخْبَرنا أبو غَالِب مُحمَّد بن أحمد بن بِشْرَان إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن المَرَاعِيشِيّ، وأبو العَلاءَ عليِّ بن عَبْد الرَّحْمن بن غَيْلَان الوَاسِطِيّ، قالا: أخْبَرَنا أبو عَبْد الله إبْرَاهِيْم ابن مُحمَّد بن عرَفَة نِفْطَوَيْه، قال: حَدَّثَنَا العبَّاسُ بن مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا كَثِيْرُ بن هِشَامٍ، عن جَعْفر بن بُرْقَان، عن عَمْرو بن مَيْمُون، عن أبي أُمَامَةَ، قال: شَهِدْتُ مع عليّ بن أبي طَالِب صِفِّيْن، فكانوا لا يُجْهِزُونَ على جَريح ولا يتَبِعُون مُوَلِّيًا.
قُلتُ: وهذا كلّهُ حُكم أهْل البَغي، ولهذا قال أبو حَنِيفَة: لولا ما سار عليّ فيهم ما علم أحَدُ كيفَ السِّيرة في المُسْلِمِيْن.
أنْبَأنا أحمد بن أبي اليُسْر بن أبي المجد التَّنُوخيّ، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد النَّحْويّ كتابةً، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن مُحمَّد بن الحسُيْن، قال: أخْبَرَنَا أبو عليّ بن شَاذَان، أخْبَرنَا أبو الحَسَن أحمدُ بن إسْحَاق بن نِيْخَاب الطِّيبيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيم ابن الحُسَيْن بن عليّ الهَمَذَانِيّ، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن سُلَيمان، قال: حدَّثَنَا هُشَيْم بن بَشير، عن العَوَّام بن حَوْشَب، عن بَعْضِ أشْياخِهِ، قال: لمَا كان المُوادَعَة بين عليّ ومُعاوِيَة تَوَادَعًا إلى رَأس الحَول بدُومَة الجَنْدَلِ.
قال: وكان أصْحَابُ عليِّ يُصَلُّونَ خَلْف أصْحَاب مُعاوِيَة، وكان أصْحَاب مُعاوِيَة لا يُصَلُّونَ ظفَ أصْحَابَ عليّ، فذَكَرَ ذلك أصْحَابُ عليّ لعَليّ، فقال لهم: إذا اسْتَقبلُوا بكم القِبْلَة، وقرأوا بكم القُرآنَ، فصَلُّوا خَلْفَهُم.
أخْبَرنا القَاضِيِ أبو القَاسمِ بن الحَرَسْتانيّ إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم ابن السَّمَرْقَنْدِيّ كتابةَ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد أحمد، وأبو الغَنائِم مُحمَّد، ابْنَا عليّ بن الحَسَن بن أبي عُثْمان، وأبو القَاسمِ عليّ بن أحمد بن البُسْرِيّ، وأبو طَاهِر أحمد بن مُحمَّد بن إبْراهِيْم الغَضَارِيّ، وأبو الحسَن عليّ بن مُحمَّد بن مُحمَّد الأنْبارِيّ الخَطِيبُ، قالوا: أخْبَرَنا أبو عُمَر عَبْدُ الوَاحِد بن مُحمَّد بن عَبْد اللهِ بن مَهْدِي، قال أخْبرنَا مُحمَّد ابنُ أحمد بن يَعْقُوب بن شَيْبَة، قال: حَدَّثَنا جَدِّي يَعْقُوب، قال: حَدَّثَنَا عُثْمانُ بن مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا أبو أُسامَة، قال: حَدَّثَنَا هِشَام بنُ عُرْوَة، قال: أخْبَرَني عَبْدُ الله ابن عُرْوَة، قال: حَدَّثَني رَجُلٌ شَهِدَ صِفّيْنَ، قال: رأيتُ عليًّا خرجَ في بعضِ تلك اللَّيالِي، فنَظَرَ إلى أهل الشَّام، فقال: اللَّهُمَّ اغْفِرَ لي ولَهُم.
قال: فأتي عَمَّار، فأُخْبِر فقال: جرُّوا له الحَصِير فأجره لكُم.
قال: وحَدَّثَنا جَدِّي، قال: حَدَّثَنَا عُثْمان بن مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا وَكِيع، عن حَنَش بن الحَارِث، عن رِيَاح بن الحَارِث، قال: قال عَمَّار بن يَاسِر: لا تقُولُوا: كَفَر أهل الشَّام، قولُوا: ظَلَمُوا، فَسَقُوا.
قال: وحَدَّثَنا جَدِّي، قال: حَدَّثَنَا ابن الأصْبَهَانِيّ -وهو مُحمَّد بن سَعيد- قال: أخْبَرَنَا شَرِيكُ، عن حَنَش، عن رِيَاح بن الحَارِث، قال: سَمعَ عَمَّار رَجُلًا يقُول: كَفَر أهل الشّام، قال: لم يَكْفروا، إنَّ حُجَّتَنا وحُجَّتَهُم واحدَة، وقِبْلَتنا وقَبْلَتهم واحدَة، ولكنَّهم قَوْمٌ مَفْتُونُون جارُوا عن الحَقّ، فَحقَّ علينا أنْ نَردَّهُم إلى الحَقِّ.
قَرأتُ في كتاب صِفِّين، تأليفُ أبي جَعْفَر مُحمَّد بن خَالِد الهاشِميّ المَعْرُوفُ بابن أُمِّه، قال: حَدَّثني الوَلِيد بن مُسْلِم، قال: حَدَّثَنا سَعيدُ بن عَبْد العَزِيْز، قال: لَقِيَ أبو قُرَّة حُدَيْرُ السُّلَميِّ كَعْبًا في فَجّ مَعْلُولَا (a)، فقال: حَدَّثني حَدِيثًا ينفَعُني اللهُ
(a) في الأصل: معلولًا. والمراد اسم موضع، ومعلولا بلدة تقع في سلسلة القلمون الغربية شمال غرب دمشق على بعد نحو 50 كم، و 15 كم شمال غربي مدينة القطيفة، والفج المنسوب إليها شق في الجبل، ويسمى فج مار تقلا. ياقوت: معجم البلدان 5: 158، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 314 - 315.
بهِ، قال: كيف بكم إذا قاتلتمُ أهْل العَاقُول؟ قال: قلتُ: أمِنَ المُسْلِمِيْن أم مِن المُشْركينَ؟ قال: لا بل من المسْلميْن، قُلتُ: أمِنَ العَرَب أم مِن العَجَم؟ قال: منِ العَرَب، قُلتُ: لا يكون ذلك أبدًا، قال: بلى، ثمّ عَسَى أنْ لا تنفكّ حتَّى تَعْورَّ فيها عَيْنُك، ويُهْدَمِ فيها فُوْك، فلمَّا كان بصِفِّيْن أصيبَتْ عَيْنُه وهُدِمَ فُوهُ، حُصِب ورُمِيِ بجُلْمُوْدةٍ فذَهبَ فُوه.
أخْبَرنا ثَابِتُ بن مُشَرَّف بن أبي سَعْد البَغْدادِيّ كتابةً، وسَمعْتُ منه الكَثِيْر، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر مُحمَّدُ في عُبَيدِ الله في الزَّاغُونِيّ، قال: أخْبَرنَا أَبو الغَنائِم مُحمَّدُ بن عليّ الدَّقَّاق، قال: أخْبَرَنَا أبو الحسُيْن بن بشْرَان، قال: أخْبَرنا أبو عليّ في صفْوَان، قال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر في أبي الدُّنْيا القُرَشِيّ
(1)
، قال: حَدَّثَنَا عَبَّاد بن مُوسَى، قال: حَدَّثَنَا عليّ بن ثَابِت الجَزريّ، عن سَعيد في أبي عَرُوبَة، عن عُمَر بن عَبْدِ العَزِيْز، قال: رأيتُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأبو بَكْر وعُمَر جَالسَان عندَهُ، فسَلَمْتُ وجَلَسْتُ، فبَينا أنا جالسُ إذ أُتِيَ بعليّ عليه السلام ومُعاوِيَة رحمه الله، وأُدْخِلا بيتًا وأُجِيْفَ (a) عليهما البابَ، وأنا أنْظر، فما كانَ بأَسْرَع من أنْ خرَجَ عليٌّ عليه السلام وهو يقُول: قُضِي لي وربّ الكَعْبَة، وما كان بأَسْرَع [من] (b) أنْ خَرَجَ مُعاوِيَةُ وهو يقُولُ: غُفِرَ لي ورَبّ الكَعْبَة.
وقال: حَدَّثنا ابن أبي الدُّنْيا
(2)
، [قال]: حَدَّثَنَي الحُسَيْن بن عليّ العِجليّ، قال: حَدَّثَنَا الحُسَيْن بن عليّ الجعفِيّ، قال: حَدَّثَنَا سَعيدُ بن عَبْد الرَّحْمن الزُّبيرِيّ،
(a) الأصل و "ك": وأحيف. وأجَافَ الباب: ردَّهُ وسدّه. لسان العرب، مادة: جوف.
(b) ليست من الأصل ولم ترد في كتاب ابن أبي الدنيا، والزيادة من "ك" وتاريخ ابن عساكر 59: 140 والبداية والنهاية لابن كثير 8: 130 وفيهما الرواية من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا.
_________
(1)
رسائل ابن أبي الدنيا (كتاب المنامات) 3: 533.
(2)
رسائل ابن أبي الدنيا (كتاب المنامات) 3: 533.
قال: رأيتُ في المَنَام كأنَّ النَّاس حُشرُوا، فأرى سَوادًا عظيمًا ينطلقُونَ
(1)
، فقُلتُ: مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء المُقْتَتِلُون منِ أصْحَاب مُحمَّد رسُول الله صلى الله عليه وسلم، قُلتُ: فأين ينطلقُونَ؟ قالوا: إلى الجَنَّة، قُلتُ: سُبحان الله! وبينما هُم يتطاعنُون بالرِّمَاح إذ صَارُوا إلى الجَنَّة؟! قال: فقالُوا: وما تُنْكِر من رَحْمَةِ اللهِ تعالَى.
وأنْبأنَا أبو الحَسَن عليّ بن مُحمَّد بن أحمد الصَّابُونِيّ، قال: أنْبَأنَا أبو مُحمَّد بن أحمد النَّحْويّ، قال: أخْبَرنَا أبو الحسُيْن بن الفَرَّاء، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر البَاقِلَّانيّ، قال: أخبَرَنا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن بن نِيْخَاب، قال: حَدَّثَنا إبْرَاهِيْمِ بن الحُسَيْن، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن سُلَيمان، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن اليَمَان، قال: حدَّثنا سُفْيان الثَّوْرِيّ، عن الأَعْمَش، عن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلَمَة، عن أبي مَيْسَرة عَمْرو بن شُرحْبيل الهَمْدَانِيّ، قال: رأيتُ عَمَّار بن يَاسِر وذا الكَلَاع في المَنام في ثيابٍ بيضٍ بأقبِيَة الجَنَّة، فقُلتُ: ألَم يَقْتُل بعضُكم بَعْضًا؟ فقالُوا: بلى، ولكنَّا وَجَدْنا الله وَاسع المَغْفرة.
وقال: حَدَّثنا إبْرَاهِيمِ بن الحسُيْن، قال: حَدَّثنا يَحْيَى، قال: حَدَّثَنا يَزِيد بن هارُون، قال: أخْبَرَنا العَوَّام بنُ حوْشَب، عن عَمْرِو بن مُرُّة، عن أبي وَائِل، قال: رأيتُ أبو مَيْسَرة -وكان مِنِ أفاضِل أصْحَاب ابن مسْعُود- قال: رأيتُ في المنام كأنِّي دَخَلتُ الجنَة فإذا قِبَاب مضْرُوبةُ، فقُلتُ: لِمَن هذه؟ فقالوا: لذي الكَلَاع وحَوْشَب، قال: وكانا ممَّن قُتل مع مُعاوِيَةَ بصِفِّيْن، قال: فقُلتُ: فأين عَمَّار وأصْحَابهُ؟ قالُوا: أمَامَكَ، قُلتُ: قد قَتَل بعْضُهم بَعْضًا!؟ فقيل لي: إنَّهم لَقُوا اللهَ فوَجَدُوه واسِعَ المَغْفرة، قال: قُلتُ: فما فَعَلَ أهْلُ النَّهْرِ -يعني الخَوَارِجَ- قال: لَقُوابَرْحًا (4).
(a) مهملة الأول، والبَرْح: الشدائد والدَّواهي. (لسان العرب، مادة: برح)، وربما كانت: تَرَحًا: وهو نقيض الفرح.
_________
(1)
رسائل ابن أبي الدنيا: وإذا سواد عظيم منطلقون.
وأخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْد العَزِيْز بن محْمُود بن الأخْضَرِ في كتابهِ إليَّ من بَغْدَاد، قال: أخْبَرنا أبو بَكْر بن عُبَيْد اللهِ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن عليّ، قال: أخْبَرَنا عليُّ بن مُحمَّد، قال: أخْبَرَنا أبو عَليّ البَردَعيِّ، قال: حَدَّثَنا أبو بَكْر القُرَشِيّ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمن بن صالح، قال: حَدَّثَنا أبو بَكْر بن عَيَّاش، عن عَاصِم بن بَهْدَلَة، عن أبي وَائِل، قال: قال عَمْرو بن شُرَحْبِيل لَيْلَة صِفِّيْن: رأيتُ في المنَام البَارِحَة كأنَّا وهؤلاء القَوْم جميعًا، فَقُصَّ من بَعْضنا لبَعْضٍ، ثمّ أُدْخلنا الجنَّةَ جميعًا.
قال: فكان أبو وَائِل يقُول: إنْ صَدَقَتْ رُؤْيا أبي مَيْسَرة!.
الفَصْلُ الرَّابِع في ذِكْرِ ما جَاءَ في الكَفِّ عن الخَوْض في حَديث صِفِّيْن
أخْبَرَنا أبو القَاسِم عَبْدُ الله بن الحسُيْن بن عَبْدِ الله بن رَوَاحَة، قِراءةً عليه، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر أحمد بن مُحمَّد بن أحمد بن إبْرَاهِيْم الحاَفِظُ، إنْ لم يَكُن سَمَاعًا فإجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن المبُارَك بن عَبدِ الحبار الصَّيْرَفِيّ، قال: أخْبرَنا مُحمَّدُ ابن عليّ الصُّوْرِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد الحسنُ بن حَامِد بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أبو الحسَن عليّ بن مُحمَّد بن سَعيد المَوْصِليّ، قال: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بن عُليَل، قال: كَتَبَ إليَّ يُونُسِ بن عَبْد الأعْلَى في كتابهِ إليَّ، وحدَّثنا مُوسَى بن أبي مُوسَى، قال: حَدَّثَنا يُونُس أنَّه سَمعَ مُحمَّد بن إِدْرِيس، قال: قيل لعُمَر بن عَبْد العَزِيْز: ما تَقُول في أهْل صِفِّيْن؟ قال: تلك دِمَاءُ طَهَّر اللهُ يَدِي منها، ولا أُحبُّ أنْ أَخْضِبَ لسَانِي فيها.
أخْبَرَنا عَتِيق بن أبي الفَضْل في سَلامَةَ السَّلَمَانِيّ، قال: أخْبَرنا الحَافِظ أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن
(1)
، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم عليّ بن إبْرَاهِيم النَّسِيبُ،
(1)
لم أقف عليه في تاريخه.
قال: أخْبَرَنا رَشَاء بن نَظيف، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد الحسَنُ بن إسْمَاعيْل بن مُحمَّد الضَّرَّابُ، قال: حدَّثنا أَبو بَكْر أحمدُ بن مَرْوَان المَالِكِيّ
(1)
، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بنُ مُوسَى، قال: حَدَّثنا مُحمَّدُ بن الحَارِث، عن المَدَائنِيّ، عن الحَسَن بن دِيْنْار، قال: سُئِلَ عُمَر بن عَبْد العَزِيْز عن قَتْلَى صِفِّيْن، فقال: تلكَ دِمَاءُ طَهَّر اللهُ يَدِي منها، فما لي أَخْضِبُ لسَانِي فيها!.
أنْبَأنَا أبو الحَسَن بن أبي عَبْد الله بن المُقَيِّر، عن عَبْد الله بن أحمد بن الخَشَّاب، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن مُحمّد بن مُحَمَّد بن الفَرَّاء، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر البَاقلَّانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: حَدَّثَنَا أبو الحسَن الطِّيبِيُّ، قال: حَدَّثَنا إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن بن دِيزِيْل، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بن عُمَر، قال: حَدَّثَنا الوَلِيدُ بن بُكَيْر التَّيْمِيُّ، عن سُفْيانَ، عن فُضَيْل بن غَزْوَانَ، عن أبي مَعْشَرٍ، عن ابن تَمِيْم، قال: كان إذا سُئلَ عن أهل الجَمَل وأهْل صِفِّيْن قال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(2)
.
وأخْبَرَنا عَبْدُ الله بن أبي عليّ الحَمَوِيّ الأنْصاريّ قِراءَةً عليهِ، قال: أخْبَرَنا أحْمدُ ابن مُحمّد بن أحمد الحَافِظ، إجَازَةً إنْ لم يمُن سَمَاعًا، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن بن الطُّيُورِيّ
(3)
، بانْتخابي عليهِ من أُصُول كُتُبِه، قال: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن أحمد بن مُحمَّد ابن أحمد العَتَقِيّ، قال: حَدَّثَنَا سَهْل، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد
(4)
، قال: حَدَّثَنَا أبو شَرِيك، قال: حَدَّثَنَا يَعْقوب بنُ عَبْد الرَّحْمن، عن عَبَايَةَ بن سُلَيمان، عن عُثْمان بن عُمَر التَّيْمِيّ، قال: بلَغني أنَّه قَدِمَ ناسُ من أهْل المَشْرِق المَدِينَةَ، فاسْتَدَلُّوا على مَنْ يسألُونَهُ، فأشَاروا لهم إلى عَبْدِ الله بن عُتْبَةَ، فجلَسُوا إليهِ، فقالُوا: يا أبا مُحمَّد،
(1)
الدينوري المالكي: المجالسة وجواهر العلم 335.
(2)
سورة البقرة، الآية 134.
(3)
الطيوريات 2: 530 - 531 (رقم 454).
(4)
في الأصل: محمود، والمثبت من كتاب الطيوريات، ويتكرر عنده في الكثير من الأسانيد، وهو: مُحَمَّد ابن مُحَمَّد بن الأشعث الكوفي.
ما تقُول في أهْلِ صِفِّيْن؟ فقال: أقُول فيهم ما قال مَنْ هو خَيْرُ منِّي لِمَن هو شَرٌّ منهم، عِيسَى بنُ مَرْيَم عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(1)
.
أخْبَرَنا السَّلَّار بَهْرَامِ بن محْمُود بن بَخْتِيار الأتَابِكيّ، إجَازَةً غير مَرَّة، وقد سَمِعْتُ منه بظَاهِر مَدِينَة دِمشْقَ، قال: أخْبَرَنَا عَبْد الخَالِق بن أسَد بن ثَابِت، قال: أخْبَرَني أبو العَلاءَ أحمدُ بن مُحمَّد بن الفَضْل بأصْبَهَان، قال: أنْبأنا أبو شُجَاع بن شهرَدَار الدَّيْلمَيّ كتابةً، قال: سَمِعْتُ أبا ثَابِت الدَّيْلمِيّ، يقُول: سَمِعْتُ الإمَام خَالِي أبا حَاتِم أحمد بن الحَسَن، يَقُول: سَمِعْتُ أحمد بن عَبْد الله بن الخَضِر المقرِئ بباب الشَّام، يقول: سَمِعْتُ أبا عليّ الصَّوَّاف، يَقول: سَمِعْتُ عَبْد الله بن أحمد بن حَنْبَل، يقُول: كُنتُ جَمَعْتُ شيئًا من حَدِيث الصِّفِّيْن -صَوَابُهُ: صِفِّيْن- والجَمَل، فرأيتُ أبي رحمه الله في المَنام عَاضًّا على إِصْبَعِهِ يُهَدِّدُني ويقول: جَمَعْتَ حديثَ الفِتْنَة، فانْتَهَيْتُ عَنْهُ.
الفَصْلُ الخامسُ في ذِكْر نُبْذَةٍ مِن حَديْثِ وقعَة صِفِّيْن
أنْبَأنَا أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن الكِنْدِيّ، شيخُنا رحمه الله، عن أبي بَكْر مُحمَّد بن عَبْد البَاقِي الأنْصاريّ، قال: أخْبَرَنَا أبو غَالِب مُحمَّد بن أحمد بن بِشْرَان إجَازَةً، قال: أخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن المَرَاعِيشِيّ، وأبو العَلاءِ عليّ بن عَبْد الرَّحِيْم بن غَيْلَان الوَاسِطِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو عَبْد اللهِ إبْرَاهِيم بن مُحمَّد بن عَرَفَة نِفْطَوَيْه، قال: وكانت وَقْعَة صِفِّيْن أوَّل سنَة سَبعْ وثلاثين.
(1)
سورة المائدة، الآية 118.
أنْبَأنَا ابن طَبَرْزَد، عن أبي القَاسِم بن السَّمَرْقندِيّ، قال: أخْبَرَنا عُمَر بن عُبَيْد الله، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن بن بِشْرَان، قال: أخْبَرَنا عُثْمان بن أحمد، قال: حَدَّثَنا حَنْبَل بن إسْحَاق، قال: حدَّثَنا أبو كُرَيْب، قال: حدَّثَنَا وَكِيع، عن عليّ بن صالح، عن أبيهِ، عن أبي بَكْر بن عَمْرو، قال: كان بين الجَمَل وبين صِفِّيْن شهرَان أو نحوه، وكانت صِفِّيْن في سَنَة سَبْعٍ وثلاثين.
وأنْبَأنَا أبو الحَسَن بن أبي عَبْد الله بن أبي الحَسَن البَغْدادِيّ، عن أبي مُحمَّد عَبْد الله ابن أحمد بن الخشَّاب، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن مُحمَّد بن مُحمَّد بن الحُسَيْن بن الفَرَّاء، قال: أخْبَرنا أبو طَاهِر أحمد بن الحَسَن بن أحمد بن الحَسَن البَاقِلَّانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو عليّ الحَسَنُ بن أحمد بن إبْرَاهِيْم بن شَاذَان، قال: حَدَّثنا أبو الحَسَن أحمد بن إسْحَاق بن نِيْخَاب الطِّيبيِّ، قال: أخْبَرَنا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن بن دِيزيْل الهَمَذَانِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن، قال: حدَّثَنا شَرِيكُ بن عَبْد اللهِ النَّخَعيِّ، عن مُجَالِد، عن عَامِر، عن مَسْرُوق، عن عَبْد اللهِ، قال
(1)
: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ رحَى الإسْلام ستَزُول بعد خمسٍ وثلاثين سَنَةً، فإنْ يَصْطلحُوا فيما بينَهُم يأكلوا الدُّنْيا سَبْعِين عامًا رَغْدًا، وإنْ يقْتَتلُوا يركبُوا سَننَ مَنْ كان قبلَهُم.
قال: وأخْبَرَنا إبْرَاهِيم -يعني ابنَ دِيزِيلْ- قال: حَدَّثَنَا أبو نُعَيْم، قال: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عن مَنْصُور، عن رِبْعيِّ بن حرَاش (a)، عن البَرَاء بن نَاجِيَة، قال: قال عَبْدُ اللهِ: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
: إنَّ رَحَى الإسْلام سَتَزُول بعد
(a) في الأصل: خراش بالخاء المعجمة، وصوابه بالحاء المهملة. انظر: الاشتقاق لابن دريد 279.
_________
(1)
الطبراني: المعجم الكبير 10: 195 (رقم 10311).
(2)
ابن حنبل: المسند 5: 285 (رقم 3758)، وفيه: ستدور بخمس وثلاثين، وسنن أبي داود 4: 453 - 454 (رقم 4354)، والمستدرك للحاكم 4: 531 وفيهما: ستدور لخمس وثلاثين.
خمسٍ وثلاثين سنة أو ستٍّ وثلاثين أو سَبعٍ وثلاثين، فإنْ يَهلكُوا فسَبِيْل مَنْ هَلَك، وإنْ يَقُم لهم دينهُم يَقُمْ سَبْعِين عامًا. قال عُثْمانُ: يا نبيّ الله، ممَّا مَضَى أو ممَّا بقي؟ قال: ممَّا بقي.
وقال
(1)
: حَدَّثَنَا إبراهِيم -يعني ابن دِيزيْل- قال: قالُوا: وسَار مُعاوِيَة حتَّى وَرَدَ صفِّيْن في النِّصْف من المحرَّم، فسَبَق إلى سهولةِ المَنْزل، وسَعَة المُنَاخ، وقُرْب الماءَ من الفُرَاتِ، وبَني قَصْرًا لبيت مَالهِ.
وقال إبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -يعني ابنَ سُلَيمان- قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ، عن أبي يوسف، عن المجالِد، عن عَامِر: أنَّ علِيًّا قَدِمَ صِفّيْن في المحرَّم سَنَة سَبعٍ وثلاثين، لسَبع أو ثمانٍ بقيَت من المحرَّم، فأقامُوا سَلخ المُحَرَّم، ثمّ اقتتَلُوا.
وذَكَرَ أبو يُوسُفَ أيضًا عن أبي بَكْر الهُذَلِيّ أنَّهم التقَوا في المُحَرَّم.
وقال إبْرَاهِيْم بن دِيْزِيْل: حَدَّثنا أبو اليَمَاَن الحَكَم بن نَافِع، قال: حدَّثَنا صَفْوَانُ ابن عَمْرو، قال: وكان أهلُ الشَّام ستِّين ألفًا، فقُتِلَ منهم عشرونَ ألفًا، وكان أهل العِرَاق مائةً وعشرين ألفًا، فقُتِلَ منهم أربعُونَ ألفًا.
وقَرأتُ في كِتاب صِفِّين، تأليف أبي جَعْفَر مُحمَّد بن خَالِد الهاشِميّ، قالُوا بإسْنَادهم عن أبي مِخْنَف لُوط بن يَحْيىَ: قال: حَدَّثني الحاَرِثُ بن كَعْب الوَالِبيّ، عن عَبْد الرَّحْمن بن عُبَيْد أبي الكَنُود، قال: نَزَل مُعاوِيَةُ بن أبي سُفْيان صِفِّيْن في ثلاثةٍ وثمانين ألفًا.
قال: وحَدَّثَني أبو مُسْهِرٍ، قال: سَمِعْتُ المَشَايخَ يقولُونَ ذلك أيضًا أنَّ مُعاوِيَةَ ابن أبي سُفْيان في ثلاثةٍ وثمانين ألفًا.
(1)
انظر الخبر في التذكرة للقرطبي 3: 1085، بلا سند.
قال مُحمَّدُ بن خَالِدٍ: قُلتُ للوَليْد بن مُسْلم: إنَّ أبا مُسْهِرٍ حَدَّثَني أنَّ مُعاوِيَة نَزَلَ صِفِّيْن في ثلاثةٍ وثمانين ألفًا، فقال: صَدَقَ، لَمْ أزل أسْمعُ الجُنْدَ يقُولونَ ذلك.
وقَراتُ بِخَطِّ بَنُوْسَةَ وَرَّاق بني مُقْلَة، عنِ أبي الحَسَن المَدَائِنِيّ، قال أبو الحَسَن، عن أبي نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن، قال: حَدَّثَنَا جرِير بن حَازِم، عن يُونُس بن خَبَّاب، قال: شَهِدَ مع عليّ بن أبي طَالِب يوم صِفِّيْن ثمانون بَدْرِيًّا.
وأنْبَأنا أبو العَلاءَ أحْمَد بن شَاكِر، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد بن أحمد النَّحْويّ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن مُحمَّد، قال: أخْبَرَنَا أبو طَاهِر البَاقِلَّانِيّ، قال: أخْبَرنا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: أخْبَرنا أبو الحَسَن الطِّيبِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو إسْحَاق الكِسَائيّ، قال: حَدَّثنا يَحْيَى -يعني ابن سُلَيمان- قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن عُمَيْرة النَّخَعيِّ، قال: حَدَّثنَا أبو إِسْرَائيل العَبْسِيّ، عن الحكَم بن عُتيبَة، قال: شَهِدَ صِفِّيْنَ مع علىّ رضي الله عنه ثمانونَ بَدْرِيًّا، وخَمْسون ومائة ممَّن بايَع تحتَ الشَّجَرة.
وقال أبو إسْحَاق: حدَّثنا يَحْيَى، قال: حَدَّثَني سَيْفُ الضَّبِّيّ، قال: أقام عليٌّ ومُعاوِيَة بصِفِّيْن سَبْعَة أشْهُر -أو قال: تِسْعَة أشْهُر- وكانت بينَهم قبل القِتَال نحوًا من سَبْعِين زَحْفًا، وقُتل في ثلاثةِ أيَّامِ من شَهْرٍ- أيَّام البِيْض: ثلاث عَشْرة، وأربع عَشْرة، وخَمْس عَشْرة- ثلاثة وسبْعُون ألفًا من الفريقين.
وقال أبو إسْحَاق: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا ابنُ زِيَادٍ، قال: حَدَّثَنَا أبو عَبْد الله الثُّمَالِيّ، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، قال: الْتَقَى عليّ ومُعاوِيةُ بصِفِّيْن، فاقْتَتلوا زَمانًا، فلقد بلغَني أنَّه كان يُدفن في القبر خمسُونَ إنْسَانًا.
قال مَعْمَر: فلقَد رأيْتُها مَدَّ البَصَر؛ يعني قُبُورَهُم.
وقال أبو إسْحَاق: حدَّثنا عُقْبَةُ بن مُكْرَم الكُوْفيّ، قال: حَدَّثَنَا يُونسُ، عن عَمْرو ابن شَمِرٍ، عن جَابِرٍ، عن مُحمَّد بن عليّ، ومُحمَّد بن المُطَّلِب، وزَيْد بن حَسَنٍ، قالُوا: شَهِدَ معِ عليّ بن أبي طَالِب في حَرْبه من أصْحَاب بَدْرٍ سَبْعُون رَجُلًا، وشَهِدَ مَعَهُ ممَّن بايع تَحْتَ الشَّجَرة سبعُمائة رَجُلٍ فيما لا يُحْصَى من أصْحَاب رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وشَهِدَ مَعَهُ من التَّابِعِينَ ثلاثةٌ بَلَغَنا أنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لهم بالجَنَّةِ: أُوَيْسْ القَرَنِيّ، وزَيْدُ بن صُوْحَان، وجُنْدَب الخير، فأمَّا أوَيْسٌ القَرَنِيّ فقُتل في الرَّجَّالَةِ يِوم صِفِّيْن، وأمَّا زَيْدُ بن صُوْحَان فقُتِلَ يَوْم الجَمَل.
أخْبَرنَا أبو حَفْصٍ عُمَر بن مُحمَّد بن طَبَرْزَد المُؤَدِّب إذْنًا، قال: أخْبَرنا أبو غَالِب أحمد بن الحَسَن بن البنَاءَ إجَازَةً، قال: أخبَرنَا أبو غَالِب بن بشْرَان إجَازَةً، قال: أخْبَرَنَا أبو الحسُيْن المَرَاعِيشِيّ، وأبو العَلاء الوَاسِطِيِّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو عَبْد اللهِ إبْرَاهِيم بن مُحمَّد بن عَرَفَة نِفْطَوَيْه، قال: أخْبَرَني مُحمَّدُ بن عِيسىَ الأنْصارِيّ، عن عُبَيْد اللهِ بن مُحمَّد التَّيْمِيّ، عن إسْمَاعِيْل بن عَمْرو البَجَليّ، عن حِبَّان بن عليّ، عن سَعْد بن طَرِيف، عن الأَصْبغَ بن نُبَاتَة، عن عليّ بن أبي طَالِب، رحمه الله، أنَّه قال يوم صِفِّيْن: مَنْ يُبايعُني على المَوْتِ؟ فقام تِسْعَة وتِسْعُون رَجُلًا فبايَعُوه، فقال: أين التَّمامُ الّذي وُعدتُ؟ فقام إليه رَجُلٌ من أُخْرَيَاتِ النَّاس، مَحْلوقُ الرَّأس، عليهِ أطْمَار من صُوْف فبايَعَهُ، فإذا هو أُوَيْسُ القَرَنِيّ، فقَاتلُوا فَقُتلوا.
أنبأنا أبو الحَسَن في المُقَيِّر، قال: أخْبَرَنَا مُحمَّد بن ناصِر إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا المُبارَك بن عَبْد الجبَار الصَّيْرَفِيّ، قال: أخْبَرنا أبو الحَسَن أحمد بن عَبْد اللهِ الأنْمَاطِيّ المَعْرُوفُ بابنِ اللَّاعِب (a)، قال: أخْبَرَنا أبو حَامِد أحمد بن الحُسَيْن المَرْوزِيّ الحاكمِ،
(a) كذا ورد في الأصل و"ك"، وفي لسان الميزان 1: 199: ابن الملاعب.
قال: حَدَّثَنا أبو العبَّاس أحمد بن الحاَرِث بن مُحمَّد بن عَبْدِ الكَريم المَرْوزِيّ، قال: حَدَّثَنا جَدِّي أبو جَعْفَر مُحمَّد بن عَبْد الكَريم، قال: حَدَّثَنا الهَيْثَم بن عَدِيّ، قال: أخْبرنا يُونُس بن أبي إسْحَاق، قال: حدَّثَني أبي، قال: قلتُ لأبي: أي أبة، أشَهِدْتَ صفِّيْن؟ قال: نعم، لقد رأيتُ عجبًا، لقد شَهِدْتُهم يومًا، وشَجَرُونا بالرِّمَاح، وشَجَرْناهُم بها، حتَّى لو شاء رَجُلُ أنْ يمشي عليها لمَشَى، أسْمعُ من ها هُنا: لا إله إلَّا اللهُ والله أكبرُ، ومن هَا هُنا: لا إله إلَّا اللهُ والله أكبر، ثمّ رأيتُهم يومًا آخر، ودَلَفُوا إلينا ودَلفنا إليهم، فإذا رَجُل قد نَدَرَ بين الصَّفَّين على رأسِ أحْوَى ذَنُوبٍ، حتّى إذا كانَ بينَ الصَّفَّيْن، لا يُدْرَى أهو إلينا أقْرَبُ أَم إلى أهْل الشَّام، اسْتَدبرَ أهْل الشَّام، واسْتَقْبلَنا، فإذا هو الأشْتَر، فقال: أيُّها المُسلِمُون؛ آقَدْكُم من ربّكُم، لقد أسَأْتُم الضِّرَاب أَمْس، عَضَّ مَنْ ها هُنا بهَنِ أُمَّهُ، اسْتَقْبلُوا القَوْمَ بالهَام، وخُذُوا قَوَابعَ سُيُوفكم بأَيْمانكم، وعضُّوا على النَّوَاجِذ، واطْعُنُوا في الشَّرَاسِيْف اليُسْرَى؛ فإنَّها مَقَاتِل، ثمّ الْتقَى القَوْمُ، فقَتَلُوا منّا صُفُوفًا خَمْسَةً، وقتلْنا منهم مثلها، فأفْضَيْنا إلى الصَّفِّ السَّادِس أو السَّابِع وقد عقَلُوا أنْفُسَهُم بالعَمَائم، فوالّذي لا إلَهَ غيرهُ ما كان عندَهُم ولا عندنا (a) إلَّا العنَاق والكَدْم، فقُلتُ: أي أبةَ، لقد صَبَرتُم، قال: أي بُنَيَّ، إنَّها والله كانَتِ العَرَبَ ليسَ فيها شَائِبَةُ (b).
(a) في الأصل وك: عندهم، والأظهر ما أثبت.
(b) يلي انتهاء هذا الجزء في الأصل فراغ قدر ربع صفحة، والصفحة التي تليها فراغ أيضًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
أخْبَرَنا أبو مُحمَّد أحمد بن الأزْهَر بن عَبْد الوهَّاب السَّبَّاكُ في كتابهِ إلينا من بَغْدَاد، أنَّ القاضِي أبا بَكْر مُحمَّد بن عَبْد البَاقِي أخْبرَهُم كتابةً، عن أبي غَالِب مُحمَّد بن أحمد بن بِشْرَان، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن المَرَاعِيشِيّ، وأبو العَلاء عليّ بن عَبْد الرَّحِيْم بن غَيْلَان الوَاسِطِيّ، قالا: أخْبَرنا أبو عَبْد الله إبْرَاهِيم بن مُحمَّد بن عَرَفَة، قال: أخْبَرَني مُحمَّد بن عِيسَى الأنْصاريّ، عن ابن عائِشَة، قال: لَمَّا ورد أصْحَابُ مُعاوِيَةَ صِفِّيْن، بَادَأهُم أصْحَابُ عليّ بالقِتَالِ، فقَتلُوا منهم جَمَاعَةً، فكتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عليٍّ رحمه الله
(1)
: [البسيط]
أُزْجُرْ حِمَارَك لا يَرْتَعْ برَوْضَتنا
…
إذًا يُرَدَّ وقَيْدُ العيْر مَكْروبُ
إنْ تقْبلُوا الحَقَّ نُعْطِ الحَقِّ سَائلَهُ
…
والدِّرْعُ مُحْقَبَةٌ والسَّيْفُ مَقْروبُ
فكتَبَ إليهِ عليٌّ: عافانا اللهُ وإيَّاك، فكان أوَّلَ مَنْ كَتَبَ بها.
فلمَّا ورَد عليُّ صفِّيْن، قيل لَهُ: يا أَمِير المُؤمِنِينَ، جاءتكَ كتائبُ الشَّام، كأنَّها مَوْجُ البَحْر، وقطَعُ السَّحَاب، وظُلْمةُ اللَّيْل، يَسُوقُهَا مُعاوِيَة، ويحدُوهَا أبو الأعْوَر، ويقدُمُها عَمْرو بن العَاصِ وهو يَقُول
(2)
: [من الرجز]
لا تَحْسَبَنّي يا عَليُّ غَافِلَا
…
لأصْبِحَنَّ (a) الكُوفَةَ القَنَابلَا
والخيلَ والخَطيَّة الذَّوابلَا
…
من عَامِنَا العَامَ (b) وعَامًا قابلَا
(a) ديوان الإمام علي: لأوردنَّ.
(b) ديوان الإمام علي: بجمعي العام.
_________
(1)
ينسب الشعر لعبد الله بن عَنَمة الضبي، ووفاته قبل وقعة صفين بسنوات (ت 15 هـ)، ولعل عمرو بن العاص تمثل بها. انظر ترجمة الضبي في تهذيب الكمال للمزي 15: 392 - 394.
(2)
الرجز في فتوح ابن أعثم 3: 439، وينسب الشعر للأمام علي انظر ديوانه 58، 115.
فقال عَليٌّ ما يَقُول ابنُ النَّابِغَهَ
(1)
: [من الرجز]
لأصْبِحَنَّ (a) العَاصِيَ بنَ العَاصِي
…
سَبْعِينَ ألْفًا عَاقدِي النَّواصِي
مُسْتَحْقبين (b) حَلَقَ الدِّلَاص
…
مُجْتَنبين الخَيْلَ بالقِلَاصِ (c)
أَشْبَالَ (d) غيْل حينَ لا مَنَاصِ
فبادرَ أبو الأعْوَر السُّلَميَّ إلى ماءَ الفُرَاتِ، فصَفَّ خَيْلَهُ عليهِ، ومَنَعَهُ أصْحَاب عليّ، فشَاور مُعاوِيَةُ أصْحَابَهُ، فقال لهُ عَمْرو بن العَاصِ: خَلّ لهم عن الماءِ؛ فإنَّ ابن أبي طَالِب لا يَعْطَشُ وبيَده أَعِنَّهُ الخيل، فبعَثَ عليُّ إلى مُعاوِيَة: إنَّا وإيَّاك جئْنا لأمْر فَخَلِّ لنا عن الماءَ وإلَّا تَجالَدنا عليه، فبَعَثَ مُعاوِيَةُ إلى أبي الأعْوَر: خَلّ لهم عن الماءَ، فبَعَثَ إليهِ: والله لا شَربُوا منه شَرْبَةً وفِيَّ شيء من الرُّوْح، وقال لهُ ابنُ أبي سَرْحٍ: اقْتلُهُم عَطَشًا، قَتَلَهُم اللهُ كما قَتَلُوا أَمِيرَ المُؤمِنِين عُثْمان عَطَشًا، فقال مُعاوِيَةُ: إنَّ عُمَرًا أعْلَمُ منكما، وأَبَى أبو الأعْوَر أنْ يُخَلِي لهم عن الماءَ، فحَمَل الأشْعَثُ بن قيسٍ في اثْنَي عَشَر ألفًا، فكشفَهُم عن الماءَ، فقالَ عليٌّ: هذا يَوم نَصَرَتْنَا فيه الحِمَّيهُ، فقال رَجُلُ ممَّن كان في عَسْكر عليّ:[من الطويل]
ألَا تتَقُون الله إذْ تمنَعُوننا الـ
…
ـــفُراتَ وتَرْوِيَ بالفُرَاتِ الثَّعَالبُ
وَقَدْ وَعَدُوْنا الأحمَرَيْن فلم نَجِدْ
…
لَهُم أحْمَرًا إلَّا قِرَاعِ الكَتَائِبُ
وخَرَجَ عليّ يَسْتَعْرضُ عَسْكَر مُعاوِيَة على بَغْلٍ لَهُ قَصِيْرٍ، وفَرسُه تحت غُلَامٍ لهُ ورَاءَهُ، فهَمُّوا به، فقال عليّ لغُلَامِهِ: انْزل عن الأدْهَم لا أَبا لَكَ! ثمّ بعَثَ إلى هاشِم بن عُتْبَةَ، وهو المِرْقَالُ، وكان صَاحِبَ لواءِ عليٍّ يومَ صِفِّيْن، أن احْمِل
(a) ديوان الإمام علي: لأوردنَّ.
(b) دبوان الإمام علي: مستحلقين.
(c) ديوان الإمام علي: قد جنبوا الخيل مع القلاص.
(d) ديوان الإمام علي: آساد.
_________
(1)
لم أجده في ديوان النابغتين: الذيباني والجعدي، وينسب الشعر للإمام علي، انظر ديوانه 58، 115، والفتوح لابن أعثم 3: 440، أبن الجوزي: المنتظم 5: 101، تاريخ ابن الوردي 1:340.
بلوائك، فحمَلَ به، وسَطَعَ الغُبَارُ حتَّى حَالَ بينهم وبينَ السَّماء، وثَبَتَ العسكَران، فقال هاشِمُ بن عُتْبَة: واللهِ إنَّ لهؤلاءَ القَوْم لشَأنًا! واللهِ ما حَملتُ بلوائي هذا على عَسْكر قَطُّ إلَّا زَعْزَعْتُهُ، وتجالَد العسكَران بالسُّيُوفِ، وحَمَل المِرْقَالُ وهو يَقُول:[من الرجز]
أَعْوَر يَبْغي أَهْلَهُ مَحَلَّا
…
قَدْ عالجَ الحيَاةَ حتَّى ملَّاه
لا بُدَّ أنْ يقتَلَ أو يُفَلَّا
وأخْبَرَنا أبو الحَسَن عليّ بن مَحْمُود بن أحمد إجَازَةً، قال: أنْبَأنَا أبو مُحمَّد عَبْدُ اللهِ ابن أحمد، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن بن الفَرَّاءَ، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر البَاقِلَّانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن بن نِيْخَاب، قال: حَدَّثَنا إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن، قال: حَدَّثَنا يَحْيَى بنُ سُلَيمان، حَدَّثَني نَصْرُ بن مُزَاحِم
(1)
، قال: حَدَّثني عَمْرُو بن شَمِر، عن جَابِر الجعفِيّ، عن أبي جَعْفَر مُحمَّد بي عليّ، وزَيْد ابن الحَسَن بن عَليّ، ورِجُل منهم آخر قد سَمَّاهُ (a)، قالوا: اسْتَعْملِ عليّ على مُقَدِّمَته الأشْتَر النَّخَعِيِّ، ثمّ سَار في خَمْسين ومائة ألف، وسَار إليه مُعاوِية في نحوٍ من ذلك من أهْل الشَّام، واسْتعمل على مُقَدِّمتَهُ أبا الأعْوَر السُّلَمِيّ؛ سُفْيان بن عَمْرو، حتَّى تَوافَقا بقُنَّاصِرين (b) إلى جانب صفِّيْن، فأتَي الأشْتَرُ -وأبو الأعْوَر قد سَبَقَهُ إلى المُعَسْكر- وكان الأشْتَر في أربعةِ آلافٍ من مُسْتَنْصري (c) أهل العِرَاق، فأزالُوا أبا الأعْوَر عن مُعَسْكره، وأقْبل مُعاوِيَةُ في جَمعْ الفَيْلَقِ (d)، فلمَّا رأى ذلك الأشْتَر
(a) سمَّاة المنقري: محمد بن المطلب.
(b) كذا ورد مضبوطًا، ومثله في كتاب نصر، وفي: "حتى توافَوا
جميعًا بقناصرين"، وابن عساكر 65: 153، والذي عند ياقوت: قاصرين: بلدُ قرب بالس. معجم البلدان 4: 297، وانظر: ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 6.
(c) وقعة صفين: متبصِّري.
(d) وقعهْ صفين: في جميع الفيلق، وفي نسخة أخرى منه ما يوافق المثبت.
_________
(1)
وقعة صفين 156 - 157، وانظره أيضًا في تاريخ ابن عساكر 65:152.
انْحَاز إلى عليّ، وغلَب مُعاوِيَةُ، وأقْبل مُعاوِيَةُ على الماءَ وحَال بين أهل العِرَاق وبينَهُ (a) وأقْبل عليُّ حتَّى إذا أرادَ المُعَسْكر حالُوا بينَهُ وبينَ المَاءَ.
وقال إبْرَاهِيْم بن الحُسَيْن: حَدَّثَنَا يَحْييَ، قال: حَدَّثَنَا نَصْرُ بن مُزَاحِمِ
(1)
، قال: حَدَّثَنا عُمَر -يعني ابن سَعْد الأسَدِيّ -في إسْنَادِهِ الأوَّل- يعني عن رجُلٍ من الأنْصَار، عن الحَارِث بن حَصِيْرَة، عن أبي الكَنُود، وعن غيره -أنَّ علِيًّا أقبلَ يَوْمئذٍ يطلبُ مَوضِعًا لمُعَسْكره (b)، وأَمِنَ (c) النَّاسُ فَوضَعُوا أثْقالهم، وهم مائةُ ألفٍ أو يزيدُون، فلمَّا نزلُوا أسرَعَ فَوارسُ من فُرْسَان عليّ على خَيْلهم إلى أصْحَاب مُعاوِيَة، وكانوا في ثلاثين ومائة ألفٍ فناوَشُوْهُم القِتَال فاقتتَلوا هَوِيًّا.
قال إبْرَاهيِمْ بن الحُسَيْن: حَدَّثَنَا يَحْيي؛ قال: حَدَّثَنَا إبرَاهِيمُ، عن أبي يُوسُف، عن أبي بَكْر الهُذَلِيّ، أنَّ مُعاوِيَة، لمَا قَدِمَ عليهِ عليّ وأصْحَابُه بصِفِّيْن، اقْتَتلُوا على الإِبِل يُجَنبُون الخَيْل، فقال مُعاوِيَةُ لعَمْرو: وَيْحَك يا عَمْرُو؛ لقد وفَى عليّ بن أبي طَالِب بقولهِ: [من الرجز]
مُجنَّبين الخَيْل بالقِلاص
وقال إبْرَاهِيمُ بن الحسُيْن، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا نَصْر (d)، قال: حَدَّثَنَا عَمْرو بن شَمِر، عن جَابِر الجعفِيّ، عن أبي الطُّفَيْل، قال: لمَّا انْسَلخ المحرَّم من سَنَة سَبع وثلاثين، واسْتَهل (e) صفَرُ، بَعَثَ عليٌّ عليه السلام نَفَرًا من أصْحَابهِ، حتَّى إذا كانوا من عَسْكر مُعاوِيَةَ حيثُ يْسمعونهم الصَّوتَ قام [مَرْثَدُ] بن
(a) وقعة صحفين: "وغلب معاوية على الماء، وحال بين أهل العراق وبينه".
(b) وقعة صحفين: لعسكره.
(c) وقعة صفين: وأمر.
(d) وقعة صحفين 202.
(e) وقعة صفين: واستُقبل.
(f) الأصل: يريد، مهملة
الأول، والمثبت من كتاب وقعة صفين للمنقري 202، وتاريخ الطبري 5:10.
_________
(1)
وقعة صفين 157.
الحاَرِث الجشُمِيّ، فنادَى: يا أهْل الشَّام، إنَّ أَمِير المُؤمِنِين عَلِيًّا وأصْحَابَ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولونَ لكُم: إنَّا واللهِ ما كَفَفْنا عنكُم شَكًّا في أمْركم، ولا بُقْيَا عليكم، وإنَّما كَفَفْنا لدخُول (a) المُحَرَّم، وقد انْسَلَخ، وقد نَبَذْنا إليم على سواءِ، إنَّ الله لا يحبُّ الخائنين
(1)
، فتحاجزَ النَّاس وثَاروا إلى أُمَرائهم.
وقال: حَدَّثَنا يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا نَصْرُ
(2)
، قال: حَدَّثَنَا عَمْرو بن شَمرِ، عن أبي الزُّبَيْر، قال: كانت وَقْعَةُ صِفِّيْن في صَفَر.
وقال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن سُلَيمان الجُعْفِيِّ، قال: حَدَّثَني ابنُ وَهْب، قال: أخْبرَني يُونُسُ، عن ابن شِهَاب، قال: لَمَّا خَرَجَ عليّ بِمَنْ معَهُ يَؤُم مُعاوِيَة وأهْلَ الشَّام، وخَرَجَ إليهِ مُعاوِيَة بأهْلِ الشَّام حتَّى الْتَقَوا بصِفِّيْن، فاقْتتلُوا قتالًا شَديدًا لم تَقْتَتل الأُمَّة مثله قَط.
أخْبَرَنا أبو حَفْص عُمَر بن مُحمَّد المُؤَدِّبُ إذْنًا، عن أبي غَالِب أحمد بن الحَسَن ابن البَنَّاءَ، عن أبي غَالِب مُحمَّد بن أحمد، قال: أخْبَرنَا أبو ألحُسَيْن المَرَاعِيشِيُّ، وأبو العَلاءَ الوَاسِطِيُّ، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد اللهِ نِفْطَوَيْه، قال: وقال عَوَانَةُ بن الحَكَم: كانَتْ وَقْعاتُ صِحفِّيْن أرْبَعينَ وَقعَةً، كُلّها لأهْلِ العِرَاق على أهل الشَّام، فلمَّا خَافَ عَمْرو على أهلِ الشَّام، أشَار على مُعاوِيَة برفْعِ المَصَاحِفِ، فَفَتر أهلُ العِرَاق، ودَعوا إلى حُكم المَصَاحِفِ، وحُكِّم الحَكَمَان.
(a) وقعة صفين: لدخول.
_________
(1)
اقتباس واستشهاد بالآية الكريمة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} سورة الأنفال، الآية 58.
(2)
وقعة صفين 203.
أخْبَرنا أبو القَاسِم عَبْد الله بن الحُسَيْن الأنْصاريّ، قال: أخْبَرَنَا أبو طَاهِر أحمدُ بن مُحمَّد الحَافِظ، إجَازَة إنْ لم يَكُن سَمَاعًا، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن المُبارَك ابن عَبْد الجبَار الصَّيْرَفِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو عَبْد اللهِ الصُّوْرِيّ، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن الغَسَّانِيّ، قال: حَدَّثَنَا أحمدُ بن مُحمَّد بن بَكْر الهِزَّانِيّ، قال: حَدَّثَنا العبَّاسُ ابن الفَرَج (a) الرِّيَاشِيُّ، عن الأصْمَعيِّ، عن شَيْخٍ من أهل الكُوفَة، قال: قال زُبيدُ اليَاميِّ -وهو حَيّ من هَمْدَان-: خَرَجَ من هَمْدَانَ إلي صِفِّيْنَ اثْنا عَشر ألف رَجُل فما رَجَعَ منهم إلَّا خَمْسَةُ أو ستَّة.
أنْبَأنا أبو العَلاءَ بن سُلَيمان المَرَّيّ أنَّ أبا مُحمَّد عَبْد اللهِ بن أحمد بن أحْمَد ابن الخشًّاب أخْبرَهُم إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن بن مُحمَّد، قال: أخْبَرَنا أحمدُ ابنُ الحسَن، قال: أخْبَرَنا أبو عليّ بن أحمد، قال: حَدَّثَنَا أحمدُ بن إسْحَاق، قال: أخْبَرنَا أبو إسْحَاق الهَمَذَانِيُّ، قال: حَدَّثَنا يَحْيَى بنُ سُلَيمان، قال: حَدَّثَني نَصْرُ بن مُزَاحِم
(1)
، عن عُمَر بن سَعْد بإسْنَادِه، قال: افْتَرَقُوا علي سَبْعِين ألفَ قَتِيْل، فلمَّا صَدَر عليّ والنَّاس من صِفِّيْن أنْشَأ عليُّ يقُولُ
(2)
: [الطويل]
وكَم قد تَرَكْنَا في دِمَشْقَ وأَرْضِها
…
من أشْمَطَ مَوْتُورٍ وشَمْطَاءَ ثاكِلِ
وَغَانيَةِ صَادَ الرِّمَاحُ حَلِيْلَها
…
فأَضْحَتْ تُعَدُّ اليَومَ إحْدى الأرَامِلِ
تُبَكِّي عَلى بَعْل لها راحَ غَازِيًا (b)
…
فليس (c) إلى يوم الحِسابِ بقافِل
وإنَّا أُناسٌ ما تُصِيبُ رِماحُنا
…
إذا ما طَعَنَّا القَوْمَ غيرَ المَقَاتِل
(a) الأصل: الفرح، والمثبت من "ك".
(b) وقعة صفين: غاديا.
(c) الأصل: قليس، ولا معنى له.
_________
(1)
وقعة صفين 493، 533، وليس فيه قوله:"افترقوا على سبعين ألف قتيل".
(2)
تُنسبُ الأبيات الأربعة أيضًا إلى نافع بن الأسود التميمي الأسيِّدي (ت 37 هـ)، انظر: وقعة صفين 493.
بابٌ في ذِكْرِ حُصُون لم يقَع لها ذِكْر الفُتُوح، ولا وَرد في كتُب المَمَالِك والبُلْدان عنها خَبرُ مَشْرُوح
وهي في زَماننا مَعْدُودة من البِلَادِ، مَوْصُوفَةٌ بالحَصَانَةِ مَشْحونَة بالأجْنادِ، وهي من أعْمَال حَلَب وبِقَاعها، وحُصُوْنها المُتَعَلِّقة بها وقلاعها، فمن ذلك:
تلُّ بَاشِر
(1)
وهي بَلْدَة مَشْهُورة، ولها قلعَة مَعْمُورَة، وبساتِيْنُها كَثِيْرة، ومياهُها غَزيرة، وأجَّاصُهَا مَوْصُوف مَذْكُور، وشِرْبُ بلَدِهَا جَمِيْعه من نَهْرِ السَّاجُور، وهو نَهْر أصْله من عَيْن تَاب؛ تَجْتمع إليه عُيُون ببلد عَيْن تَاب، ويَجْري إلى قَرْيَةٍ تُعْرف بالنَّفَّاخ، وتَجْتمع إليه عُيُون أُخَر من بَلَد تلّ باشِر، ثمّ يَنْهي إلي الفُرَات ويَصُبّ فيه.
وللسَّاجُور ذِكْر في الفُتُوح، ونَزَلهُ أبو عُبَيْدَة رضي الله عنه عند فَتْح مَنْبج، وإيَّاه عَنَى البُحْتُرِيّ بقوله
(2)
: [الخفيف]
(1)
تل باشر: قلعة حصينة وكورة واسعة تقع إلى الشمال من حلب، بينها وبين حلب يومان، في جنوب شرق مدينة عينتاب، وكان أهلها نصارى أرمن. ياقوت: معجم البلدان 3: 40، ابن شداد: الأعلاق 1/ 2: 23، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، أبو الفداء: تقويم البلدان 333، موستراس: المعجم الجغرافي 222، كامل الغزي: نهر الذهب 1: 452 - 453، E.Honigmann-D.W.Morray،El، Tall Bashir،X،P 167 وضبط ابن العديم تسميتها في بعض المواضع بفتح الشين، وهي بالكسر في بقية المصادر التي أوردت ذكرها، وبالكسر أيضًا في شعر ابن منير الطرابلسي، انظر: ديوانه 226، 228، 242، 248.
(2)
ديوان البحتري 1: 633.
يا خَلِيْلي (a) بالسَّوَاجِيْر من عَمْـ
…
ـــرو بن وُدٍّ (b) وبُحْتُر بن عَتُودِ
أُطْلُبَا ثالثًا سِوايَ فإنِّي
…
راجُ العِيْسِ والفَلَا (c) والبِيْدِ
جَمَعَهُ على السَّوَاجِيْر لأنَّهُ جَعَل كُلّ نَهْر يَجْتَمع إلى السَّاجُور مُسَمَّى بالسَّاجُور.
وتلّ باشِر كانت قلعَة للجُوسْلِين الأَرْمَنِيّ، فَعَمَرَها وحَصَّنَهَا، وكان أهْلها أَرْمَن، وخرَجَ يومًا مُتَنزِهًا ومُتصيِّدًا في خِفٍّ
(1)
من أصْحَابه، فصَادفَهُ التُّرْكُمان، فأحاطوا به وبمَنْ معَهُ، وحَمَلُوه إلى نُور الدِّين، فأعْطاهم عَشَرة ألاف دِيْنارٍ، وسيَّر الأَمِير حَسَّان المَنْبِجِيّ فتسَلَّمها، وذلك في سَنة ستٍّ وأربعين وخَمْسِمائَة، وصارت بعد ذلك للأمير بَدْر الِدِّين دَلْدرم بن يَارُوْق، فحَصَّنها، وبَنَاها، وعَمَّر فيها أبْنيةً حَسَنَةً، ومَنازِل مُزَخْرفةً، وسَكنها المُسلِمُونَ، واتَّسع رَبَضُها، وصار بها قاضٍ ومِنْبَر وخَطِيب.
في ذِكْر عَيْن تَاب
(2)
وهي قلعَة حَصِيْنَة كانت لجُوسْلِين المذْكُور، فلمَّا جَرى عليه ما جَرَى، وصار في أَسْرِ نُور الدِّين مَحْمُود رحمه الله، سارَ نُور الدِّين إلى بِلَادِه وقِلاعهِ ففَتَحَها، ومن جُمْلتها عيْن تَاب، ورَتَّب فيها الرِّجال والعُدَد والذَّخَائِر، وصارت إلى [ناصر الدِّين مُحمَّد بن حُسام الدِّين أبي بَكْر](d) فَعَمَرَها وحَصَّنَها وصَارت إلى ولده من بعده.
(a) الديوان: نديمي.
(b) الديوان: ودّ بن معن.
(C) الديوان: والدجي.
(d) مكانه في الأصل بياضُ قدر أربع كلمات، والتعويض من الأعلاق الخطيرة 1/ 2:26.
_________
(1)
الخِفُّ: الجماعة القليلة. لسان العرب، مادة: خفف.
(2)
عين تاب (عينتاب): بلدة كبيرة لها قلعة حصية محفورة في الصخر، تقع إلى الشمال من حلب، وكانت في القرن السابع الهجري مضافة إلى دلوك، وتسمى اليوم غازي عنتاب. ياقوت: معجم البلدان 4: 176، ابن شداد: الأعلاق 1/ 2: 26، الوطواط: مناهج الفكر 1: 363، موستراس: المعجم الجغرافي 368، كامل الغزي: نهر الذهب 1: 453، 792 - 791 - M.Canard،El،Ayntab،I،Pp
فلمَّا مات، تَسَلَّمها أتَابِك طُغْرِل الظَّاهِريّ للمَلِك العَزِيز مُحمَّد بن المَلِك الظَّاهِر، ثمّ أنَّه سَلَّمها إلى المَلِك الصَّالحِ أحمد ابن المَلِك الظَّاهِر، فسَكنها، وبَني بالقَلْعَة آدُرًا حَسَنَة، وتَنَوَّع في زَخْرفتها بالرُّخَام والذَّهَب، وبَني أصْحابُه في الرَّبَض منازل سَكَنُوها، وفي فيها جَوْسَقًا تَنَوَّقَ في بنائِهِ ومَنْجُورِهِ
(1)
وزَخْرفته بالرُّخَام والذَّهَب، وعَمله في بُسْتان كبير نَصب فيه صنُوفًا كَثِيْرة من الفَوَاكه، وصارت الأخْشَاب تُحمل من بلادِ الأرْمَن ومَرْعَش إليها، وتُباع بها، وتُنْقَل منها إلى البِلادِ، وصار بها قاض ومِنْبَر وخَطِيب.
في ذِكر الرَّاوَنْدَان
(2)
وهي قَلْعَة صَغِيرَة، على رأسِ جَبَلٍ عَالٍ مُنفرد في مكانه، لا يحُكم عليها مِنْجَنِيْق، ولا يَصل إليها نَبْل، ولها ربَض صَغِير فىِ لِحْف جَبَلها. وهي من أقْوَى القِلَاع، وأحْسِن البِقَاع، ويَحفّ بالقَلْعَة وادٍ من جِهَة الغَرْب والشَّمَال؛ هو كالخندَق، وفيه نَهْر جار.
وصعَدْتُ إلى هذه القَلْعَة رَاكِبًا، فوَجدْتُ مَشَقَّة عَظِيمَة، لعلُوِّها وضيق المسلَك إليها.
أنبأنَا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن أحمد القُرْطُبيِّ، عن مُؤيَّد الدَّوْلَة أُسامَة بن مُرْشِد ابن عليّ بن مُنْقِذ، قال: تلّ هَرَاق
(3)
والرَّاوَنْدَان هذان المَركْزان من أعْمَال حَلَب،
(1)
المَنْخُور من الحَجَر والخشب: ما نُحِتَ منه وشُذِّب.
(2)
الراوندان: كورة من نواحي حلب، ذات أشجار وأغشاب، وفيها قلعة، وصفها ياقوت بأنها قلعة حصينة، وهي اليوم تقع في قضاء كلز في ناحية منبج الفوقافي. معجم البلدان 3: 19، ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 23، كامل الغزي: نهر الذهب 1: 376 - 377 D.W.Morray،El، Al-Rawandan،Vlll،P 460
(3)
تل هَرَاق: من حصون حلب الغربية. معجم البلدان 2: 45.
وكان فيهما ولاةُ المَلِك رِضْوَان بن تاج الدَّوْلَة، فكان يلي تلّ هَرَاق عزَّك (a) بن الوَزِير أبي النَّجْم، وكان المَلِك رِضْوَان يُنَادمُه ويَضْحك من حكاياتهِ، فَشَربَ عندَه ليلةً، فعَرْبد عليه المَلِك رِضْوَان وضَرَبَهُ، فخرجَ من المجلسِ، وسَار من حَلَب، ووصَل إلى شَيْزَر، وعليه آثار العَرْبَدَة وعَيْناه مُحضرَّتان، فَحَكَى يَوْمًا، قال: بَلَغني أنَّ بالرَّاوَنْدَان أُسَارَى إفْرَنْج، وقد وثَبُوا في حِصْنها ومَلكوه، فسِرْتُ من تلّ هَرَاق إلى الرَّاوَنْدَان؛ نزلتُ عليهِ، وراسَلتُ الإفْرَنْج الّذين مَلكُوه، وتلطَّفْتُ في أمْرهم، إلى أنْ اسْتَقرَّ أني أحْلِف لهم أنَّهُم آمنُونَ وأني أُسَيِّرهم إلى أَنْطاكِيَة ويُسَلِّمُوا لِيَ الحِصْنَ، فَخَلفتُ لهم، وخَرَجُوا، وأطْلقَتْهُم، وتَسَلَّمْتُ الحِصْنَ، وِاعْتَقَدْتُ أنَّني قد خَدَمْتُ المَلِك رِضْوَان خدمةً يراها لي لاسْتخلَاصِي الحِصْن مَعِ قُرْبه منَ الفِرِنْج، فلهَّا وَصَلتُ حَلَب، بلغَني أنَّ المَلِك رِضْوَان قال -لَمَّا بلغَهُ الخَبَر-: قد ضَيَّعَ عليَّ عزَّك ألفَ دِيْنارٍ ثمن الأسَارِى، فجَلَسْتُ من الغد في الدَّرْكاةِ والأُمراء فيها مُجْتَمعُون، وقُلتُ: سَمِعْتُ أنَّ مَوْلانا قال: ضيَّع عَليَّ عزَّك من ثَمن الأسارى ألف دِيْنار [ ..... ]
(1)
.
(a) كذا رحمه مشددًا، ولم أقف له على ذكر سوى عند ابن العديم وما نقله عه ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 22. أما والده فمعروف، وهو هبة الله بن محمد بن بديع، أبو النجم الوزير الأصبهاني، وزر لتاج الدولة تُتُش أخي ملكشاه، ثم لابنه رضوان، وتوفي سنة 552 هـ، انظر: زبدة الحلب 1: 352، الوافي بالوفيات 27: 316.
_________
(1)
كتَبَ ابنُ العديم هذا الخبر الّذي نقله عن القُرطبيّ في حاشية الصَّفْح الأيمن من الورقة، ولم تكْفِه، فكتبَ عقبه:"تَمامه في الورقة المزيدة"، وقد ضاعت الطيَّارة المشار إليها، ونقلَهُ عنه ابن شدَّاد مَعْزوًّا لابن العديم، وتقفُ حكاية عزَّك مع رضوان بن تتش عنده على مثل المثبت، وفيه زيادة تتَّصل بتقلُّب البلد في الأيادي، ونصُّ هذه الزِّيادة عند ابن شدَّاد والّتي ربّما تكون أيضًا من ابن العديم: "ولم يزل في أيدي ملوك حَلب إلى أنْ مَلك الظَّاهر غياث الدِّين غازي بن الملك النَّاصر صلاح الدّين حلَب، وفي أيَّامه -في سَنة ثَمان وتسعين وخمسمائة- راسلَ والي أفامية من جِهة عِزّ الدِّين إبراهيم بن شمس الدِّين محمَّد بن عبد الملك بن المقدَّم الملك، وهو يُحاصرها ومعه شمس الدّين بن عزّ الدّين بن المقدَّم تحت =
ذِكرُ المَرْزَبَان
(1)
واسْمها الصَّحيح البَرْسَمان فغُيّر، وغلَب هذا الاسْم عليها، ولها قَلْعَةٌ قد تَشَّعثَت وتَهَدَّمت، وهي قَرْيَة كبيرة، وأهلُها أَرْمَنُ أهْل ذِمَّة.
وكانت في يد قِلِيْج أَرَسْلَان (a) بن مَسْعُود بن قِلِيْج أَرَسْلَان السَّلْجُوقِيّ، فاسْتَولى عليها نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي وأخَذَها من يَده، والسَّبب في ذلك أنَّ المَلِك المُسَمَّى ذُو النُّون بن الدَّانشمَند كانت مَلَطْيَة وسِيْوَاس وغيرهما في يَده، فضَايقَه قِلِيْج أَرَسْلَان، وقَوي عليه، فأخَذ بلادَهُ من يده، فقَصَد نُور الدِّين مَحْمُود ابن زَنْكِي، وتعلَّق بهِ، فأكْرَمهُ، وأحْسن إليه، وشَفَعَ فيه إلى قِلِيْج أَرَسْلَان، فلم يَشَفِّعْه، فدخَل إلى بلَادهِ، واسْتَولى على البِلادِ الشَّاميَّة منها؛ مثل: المَرْزَبَان، وكَيْسُوم، ومَرْعَش، وبَهَسْنى، وعَجز قِلِيْج أَرَسْلَان عن مُقاوَمته
(2)
. وتحرَّك الفِرِنْج بنواحي حِمْص، فعاد نُور الدِّين بسَبَبهم.
(a) ضبْطه بإسكان السين من المصنف حيثما يرد.
_________
= الحوطة، وقال له:"إنْ أطلقت شمس الدّين واسْتخدمته سلَّمتها لك، فأجاب إلى ذلك، وأقطع الرَّواندان وعَصَى بها. فسارَ إليه الملك الظَّاهر وحاصرَهُ فيها وأخذَها منه بعد أنْ هرب منها إلى الأمير بدر الدّين دلدرم، فتشفَّع به، فشفع في إلى الملك الظَّاهر فلم يَقْبل شفاعته، فقصد الشّرق إلى المَلِك العادِل ولم يقطع الملك الظّاهر الرّاوندان إلى أنْ مات". ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 22.
(1)
المرزبان (البرسمان): قلعة بالثغور الشمالية مما يلي بلاد الروم، وذكر ياقوت وأبو الفداء: نهر البرزمان، وهو نهر يأتي من الجبال، ويصب في الفرات تحت قلعة الروم. ياقوت: معجم البلدان 1: 381، أبو الفداء: تقويم 269.
(2)
انظر خبر ابن الدانشمند مع قليج أرسلان في الكامل لابن الأثير 11: 391 - 392، والروضتين لأبي شمامة 1: 297 - 298.
ذِكْرُ بَهَسْنى
(1)
وهي قَلْعَةٌ عَظِيمَة حَصِيْنَة مَانعَةٌ، ولها رَبَضٌ كبير يَسْكُنه جَمَاعَة من المُسْلِمِيْن والأرْمَن، وبلدُهَا بَلَد حَسَنٌ كَثِيْر الخَيْراتِ، وبها قاضٍ ومِنْبَر وخَطِيب، وحَولها أَنْهار وبَساتِيْن كَثِيْرةٌ.
وهي على تَخْم بلادِ الرُّوم الإسْلاميَّة، وهي من جُمْلَة ما انْتَزعَهُ نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي من البِلادِ الشَّاميَّةِ من يَدِ قِلِيْج أَرَسْلَان للسَّبَب الّذي ذكَرناهُ، وكان ذلك في سَنة ثَمانٍ وخمْسين وخسِمائَة.
ولَمَّا تُوُفِّي المَلِك الظَّاهِر غَازِي، رحمه الله، خَرَجَ مَلِك الرُّوم كَيْكَاوُس ابن كَيْخُسْرُو بن قِلِيْج أَرَسْلَان، فقَصَدَ بلاد المَلِك العَزِيز مُحمَّد بن المَلِك الظَّاهِر، فافْتَتَح مَنْبِجِ ورَعْبَان والمَرْزَبَان، وكان قد نَزَل إليه الطّنْبُغَا الظَّاهِريّ، وكان ببَهَسْنى، فعَصَى على المَلِك العَزِيز، وانضَوى إلى كَيْكَاوُس وصارَ في عَسْكره، وفتح تلّ باشِر من يد وَلدِ دَلْدرم، فاسْتَدعى أتَابِك طُغْرِل المَلِك الأشْرَف مُوسَى بن المَلِك العادِل في سَنَة خَمْس عَشرة وسِتّمائة، فوَصل إلى حَلَب ودفعَ كَيْكَاوُس عنها على ما نَذْكرُه فيما يأتي من تَرْجَمتهما
(2)
إنْ شَاءَ اللهُ.
وعادَ الطّنْبُغَا مع كَيْكَاوُس فطَلَب منهُ تَسْليم بَهَسْنى، فامْتَنعَ من ذلك، فأُحْضِر تحتَ القَلْعَة وعُذِّبَ بأنْواع العَذاب، فأمرَ الولاةَ بها بالتَّسليم إليه، فلم
(1)
بهسنى: تقع بين مرعش وسميساط، على نهر أربان جاي أحد روافد الفرات، وهي من بناء الأرمن، وبدأ يتكرر ذكرها في أثناء الحروب الصليبية باسم "بهسدن"، وتسمى اليوم: بَسْني Besni. ياقوت: معجم البلدان 1: 516، ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 27، موستراس: المعجم الجغرافي 180، لسترنج: بلدان الخلافة 156.
(2)
ضاعت ترجمة ملك الروم كيكاوس بن كيخسرو، وترجمة الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب، بضياع الأجزاء الضامَّة لهما، وترد بعض أخبارهما في تراجم مَن اتَّصلت علاقتهم بهما.
يَفْعَلُوا، فماتَ تحت العُقُوبة، ورِحَل كَيْكَاوُس عنها، وكان بها والدة الملك الصَّالِح أحمد بِن المَلِك الظَّاهِر، وهي زوْج الطّنْبُغَا وأولادُها منه، فاتَّفق الأمر معها ومع ولاة بَهَسْنى على أنْ عوضَّهُم أتَابِك طُغْرِل بقَلْعَة عَزَاز ومَوَاضع من بلدها، وتَسَلَّم منهم بَهَسْنى للمَلِك العَزِيز رحمه الله.
ذِكْرُ الشُّغْر وبَكَاس
(1)
وهما قَلْعتان قِويَّتان من أَعْمَال حَلَب من النَّواحِي الغَرْبيَّة، والشُّغْر قَلْعَةٌ صَغِيرَة قريبة من بَكَاس يُعْبر من أحدَيهما إلى الأُخْرى بجِسْرٍ، وهما على جانب نَهْر الأُرُنْط المَعْرُوف بالعَصِي، ولبَكَاس نَهْرٌ يَخْرُج من تحتها، وهمُا في غايةِ المَنَعَة والقُوَّة.
وكانت هاتان القَلْعتان في يد الفِرِنْج، ففَتَحهُما المَلِك النَّاصِر صلاح الدِّين يُوسُف إبن أيُّوب، رَحِمَهُ إلله، على ما أخْبَرَني به القَاضِي بَهَاءُ الدِّين أبو المَحَاسِن يُوسُف بن رَافِع بن تَمِيْم
(2)
، قال: وسِرنا حتَّى أتَيْنا بَكَاس، وهي قَلْعَةٌ حَصِيْنَةٌ على جانب العَاصِي، وكان النُّزُول بذلك المَنْزل يوم الثّلاثَاء سادس جُمَادَى الآخرة، وكان المَنْزل على شَاطِئ العَاصِي، وصَعدَ السُّلْطَان المَلِكُ النَّاصِر إلى القَلْعَة جَرِيْدَة، وهي على جَبَل يُطِلّ على العَاصِي، فأحْدَق بها من كُلّ جانبٍ، وقاتَلَها قتالًا شديدًا بالمنجَنِيْقَات والزَّحْف المُضَايق إلى يوِم الجُمُعَة أيضًا تاسِعِ جُمَادَىَ الآخرة، ويَسَّر اللهُ فَتْحَها عَنْوَةً، وأَسَرَ مَنْ فيها بعد قَتْل منْ قُتِل منهم، وغنِم جميع ما كان فيها.
(1)
الشُّغْر وبَكَاس قلعتان حصينتان قريبتان من بعضهما البعض، تقعان على قمة جبل بين أنطاكية وأفامية شمال مدينة جسر الشغور بنحو 8 كم، وكان لهما في القديم مسجد جامع ومنبر ورستاق، واندثرت اليوم أغلب آثار قلعة بكاس باستثناء الصهاريج المنقورة في الصخر، بينما بقيت معظم آثار قلعة الشغر المؤلّفة من طابقين تحيط بها الأبراج. انظر: ياقوت: معجم البلدان 1: 474، 3: 352، وزبدة الحلب 2: 582، ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 31، أبو الفداء: تقويم 261، العيني: عقد الجمان 2: 101، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 33.
(2)
بهاء الدين ابن شداد: النوادر السلطانية 147 - 148.
وكان لها قُلَيْعَةٌ (a) تُسَمَّى الشُّغْر قريبًا منها، يُعْبَرُ إليها منها بجِسْرٍ، وهي في غايةِ المَنَعَة ليس إليها طريقٌ، فسُلِّطَت عليها المِنْجَنِيْقات من الجوانب، ورَأَوْا أنَّهُم لا ناصرَ لهم، فطَلَبوا الأمان وذلك في يوم الثّلاثَاء ثالث عَشرة، وسَألُوا أنْ يُؤخَّروا ثلاثة أيَّامٍ لاسْتِئذان مَنْ بأَنْطاكِيَة -يَسَّر الله فَتْحها- فأذِنَ في ذلك.
وكان تَمام فَتْحها وصُعُود العَلَم السُّلْطَانِيّ على قُلَّتها يوم الجُمُعَة سادس عَشرة.
ذِكْرُ حِصْن بَرْزَوَيْه والآن يُعرف بحِصْن بُرْزَيْه
(1)
وهو حِصْن مَنيع يُضْربُ المَثَل بحصَانَته ومَنَعَته، فيَقُول النَّاس: كأنَّه في حِصْن بُرْزَيْهِ.
وكان الفِرِنْج قد اسْتَولَوا عليه، ففَتَحَهُ المَلِك النَّاصِر يُوسُف بن أيُّوب من أيْدِيهم كما أخَبَرني به شَيْخُنا بَهَاء الدِّين أبو المَحَاسِن يُوسُف في رَاِفِع في تَمِيْم
(2)
، قال بعد ذِكْر فتح بَكَاس: ثمّ سَار (b) السُّلْطَان، رَحْمَةُ اللهِ عليهِ، جرِيْدَةً إلى قَلْعَة بُرْزَيْه؛ وهي قَلْعَةٌ حَصِيْنَةٌ؛ في غَايةِ القُوَّة والمَنَعَة، على سِنّ جَبَل شَاهقٍ، يُضْرَبُ
(a) هكذا في الأصل بالتصغير، ومثله في عقد الجمان للعيني 2: 101، وفي النوادر السلطانية: قلعة.
(b) في النوادر السلطاشية: سيَّر.
_________
(1)
حصن بَرْزَوَيْه: أو: بُرْزَيه، مدينة وحصن من جند قِنّسرين، تقع غربي معرة النعمان، في السفوح الشرقية لجبال اللاذقيَّة، وتحيط بها الأودية من جميع جوانبها، وهي في طرف جبل الخيط من شرقيه، وتطل على بحيرة أفامية، وفيها قلعة صغيرة مستطيلة يضرب المثل بحصانتها. وتسمى اليوم "مرزا" وتبعد 3 كم عن قرية الصفصافة في محافظة حماة، ولا زالت بعض بقايا قلعتها إلى اليوم كبقايا السور والأبراج والباب المشرف على البلدة. ابن حوقل: صورة الأرض 178، ياقوت: معجم البلدان 1: 383، زبدة الحلب 2: 582، أبو الفداء: تقويم البلدان 260 - 261، العيني: عقد الجمان 2: 12، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 202 - 203.
(2)
بهاء الدين ابن شداد: النوادر السلطانية 148 - 149.
بها المَثلُ في جميع بلادِ الفِرِنْج والمُسْلِمِيْن، يُحيْطُ بها أوْدِيَةٌ منِ سَائر جَوانبها، وذَرَعَ علُوّ قُلَّتِها فكان (a) خَمْسمائة ذِرَاع ونيفًا وسَبْعِين ذِرَاعًا، ثمّ حرَّرَ (b) عزمَهُ على حِصَارها بعد رُؤْيتها، واسْتدعى الثَّقَل، فكان وُصُول الثَّقَل وبَقِيَّة العَسْكَر يوم السَّبْتِ رابع عَشْرِيّ جُمَادَى الآخرة، ونَزَل الثَّقَلُ تحت جَبَلِها.
وفي بُكْرة الأَحَد خَامس وعشرين منهُ، صعَد السُّلْطَان، رحمه الله، جَرِيْدَةً معِ المُقاتِلَة والمنْجَنِيْقاتِ وآلات الحِصَار إلى الجَبَل، فأحْدَق بالقَلْعَة من سَائر نَواحيها، ورَكَّب القِتَالَ عليها من كُلِّ جانبٍ، وضرَبَ أسْوَارها بالمِنْجَنِيْقاتِ المُتَواترة الضَّرب ليلًا ونهارًا، وقاتَلَها، فقَسمَ العَسْكَر ثلاثة أقْسَام، كُلّ (c) قسمٍ يُقاتِل شَطْرًا من النَّهَار ثمّ يَسْتريح.
وضَرِسَ النَّاسُ من القِتَال، وتَراجَعُوا عنه، وتسلّم النَّوْبَةَ الثَّانيَة السُّلْطَان، رحمه الله، بنَفْسه، ورَكِبَ وتحرَّكَ خَطواتٍ عدّة، وصاح في النَّاس، فحملُوا عليها حَمْلَة الرَّجُل الواحد، وصَاحُوا صَيْحة الَرَّجُل الواحدِ، وقَصَدُوا السُّور من كُلِّ جانب، فلم يكن إلَّا بعض سَاعَة وقد رَقِي النَّاسُ على الأسْوَار، وهَجَمُوا القَلْعَة، واسْتَغاثُوِا الأمان، وقد تمكَّنت الأيدِيِ منهم، {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}
(1)
، ونُهِب جميع ما فيها، وأُسِرَ جميع منْ كان فيها، وكان قد آوَى إليها خَلْقٌ عَظِيم، وكانت من قِلاعهِم المَذْكُورة.
قُلْتُ: وقد بقي حُصُون لحَلَب وأعْمالها خَرِبَت بِالكُليَّةِ، وأمَّحَى رَسْمُها، وبقي اسْمُها؛ مثل: زرْدَنَا من بلد الجَزْر والأثارِب، وقد خَرجَ منها بعضُ الرُّوَاة، وكَفَرْ لاثَا من جَبَل بني عُلَيْم وغيرها لم أذْكرها لعَدم الفائدة في ذِكْرها.
(a) النوادر السلطانية: وذرع علوها كان.
(b) النوادر السلطانية: ثم جدَّد.
(c) في النوادر السلطانية: ورتَّب كل.
_________
(1)
سورة غافر، من الآية 85.
فإنْ جاءَ في أثناء كتابنا هذا ذِكْرٌ لشيءٍ منها، أو اسْم ينسَبُ إلى شيء منها، نَبَّهتُ عليه في مَوضِعه، وكذلك لها حُصُون صَغِيرَة وليست بمَشْهُورة ولا مَذْكُورَة، لم أذْكُرهَا خَوْفًا من الإطَالَة، وتَحاميًا عمَّا يُفْضي إلى المَلَالَة.
بابٌ في ذِكْرِ عَرْبَسُوس
(1)
وهي مَدِينَة قد ذُكِرَ أنَّها من ثُغُور الشَّام، وبعضُهم لم يُثْبتها فيها لأنَّها من وَراءَ الدَّرْب دَاخِلةٌ في بلادِ الرُّوم، ولهذا أخَّرْتُ ذكْرها لوقُوع الاخْتلاف في كَوْنها من الثُّغُور الشَّامِيَّة، ولم أَرَ إسْقاط ذِكْرها بالكُلِيًّة لأنَّهُ قد نُقِلَ أنَّها منها.
ويُقالُ لها: أَبْسُسْ، وأَفْسُسْ، وأَرْب سُوس، وعَرْبَسُوس. وهي مَدِينَة دَقْيَانُوس، ودخَلْتُ هذه المَدِينَة وقد اجْتَزتُ إلى زيارة أصْحَاب الكَهْفِ، وهم في جَبَل قريب منها، والمَدِينَة قد خَرِبَت أسْوارها وبقِيَتْ آثارها، وبعْضُ حِيْطانها قائمُ، وبَعْضُها قد هَدَمَهُ الهادِمُ، وبها الآن سُكَّانٌ من الأرْمَن وأسْوَاق دائِرَةٌ، والنَّاحِيَة المَسْكُونة من هذه المَدِينَة قَرْيَة عَامِرَة.
وذكَر يَحْيَى بن معين في التَّاريخ
(2)
: قال الأصْمَعِيُّ: سألْتُ عَبْد المَلِك بن صالح عن عَذَب سُوس (a)، فقال: إنَّما هي عَرْبَ سُوس؛ قَرْيَة من قُرَى الشَّام؛ أنا بها عَارفٌ.
(a) تاريخ ابن معين: عن عرب سوسن.
_________
(1)
عربسوس: بلد من نواحي الثغور الجزرية قرب المصيصة والحدث، وهي التي يقال إنها بلد أصحاب الكهف، والغالب على أسمها أفسس Ephesos. المسعودي: التنبيه والإشراف 177، البكري: معجم ما استعجم 2: 929، ياقوت: معجم البلدان 1: 231، 4: 96، القزويني: آثار البلاد 498 - 501، الحميري: الروض المعطار 49 وفيه: "أفسيس"، موستراس: المعجم الجغرافي 124 - 125، لسترنج: بلدان الخلافة 152.
(2)
تاريخ ابن معين 4: 247.
وذكَر ابنُ خَرْدَاذْبَه
(1)
: أنَّ أصْحَاب الرَّقِيْم في عَمَل من أعْمَال الرُّوم يُسَمَّى: تَرْقَسِيْسْ (a)، وفيه من الحُصُون أَفْسِيس في رُسْتَاق الأوَاسِي، وهي مَدِينَة أصْحَاب الكَهْفِ، وذَكَرَ أنَّهُ قَدْ قُرئ في مَسْجِدهم كتابًا بالعَرَبيَّةِ بدُخُول مَسْلَمَة بلاد الرُّوم.
كَتَبَ إلينا أبو الفُتُوح نَصْر بن أبي الفَرَج بن عليّ الحُصْرِيّ من مَكَّة شرَّفَها اللهُ، أنَّ أبا عَبْد الله مُحمَّد بن العبَّاس بن عَبْد الحَمِيْد الحرَّانيّ أخْبرَهُم، قال: أخْبَرَناه النَّقِيْبُ أبو الفَوَارِس طَرَّاد بن مُحمَّد بن عليّ الزَّيْنَبِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن أحمدُ ابنُ عليّ بن الحَسَن بن البَادَا، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد عَبْدُ الله بن إسْحَاق الخُرَاسَانيّ، قال: أخْبَرَنا عَمُّ أبي عليّ بن عَبْد العَزِيْز، قال: أخَبَرَنا أبو عُبَيْد القَاسِم بن سَلَّام
(2)
، قال: حَدَّثَنا يَزِيد بن هارُون، عن هِشَام بن حَسَّان، عن ابن سِيْرِيْن، أنَّ عُمَر ابن الخَطَّاب اسْتَعْمل عُمَيْر بن سَعيد -أو: سَعدٍ؛ شَكَّ أبو عُبَيْدٍ- على طَائِفَةٍ من الشَّامِ، فقَدِمَ عليه قِدْمَةً، فقال: يا أَمِير المُؤمِنين، إنَّ بينَنا وبين الرُّوم مَدِينَةٌ يُقالُ لها: عَرْبَ سُوس، وإنَّهم لا يخفُون على عَدُوِّنَا من عَوْراتنا شيئًا، ولا يُظهرونا على عَوْراتهم
(3)
، فقال لَهُ عُمَر، فإذا قَدِمْتَ فَخَيِّرهُم بين أنْ تُعْطِيَهُم مكان كُلّ شَاةٍ شَاتَيْن، ومكان كُل بَعير بعيرَين، ومكان كُلّ شيءٍ شَيْئَين، فإنْ رَضُوا بذلك فأَعْطِهم، وخَرِّبها، فإنْ أبَوْا فانْبِذ إليهم، وأجِّلهُم سنةً ثمّ خَرِّبها، فقال: اكتُب لي عَهْدًا بذلك، فكتَبَ لَهُ عَهْدًا، فلمَّا قَدِمَ عُمَيْرٌ عليهم عَرَض عليهم ذلك، فأبَوْا فأجَّلَهُم سنَةً ثمّ أخْرَبَها.
(a) حروفها الثلاثة الأولى مهملة في الأصل، والرسم المثبت من كتاب ابن خرداذبه (مصدر النقل)، وقدامة: الخراج 191، وعند المسعودي (التنبيه والإشراف 177): ترقسين.
_________
(1)
المسالك والممالك 106.
(2)
كتاب الأموال 1: 277 - 278.
(3)
في الأصل: عوراتنا، وفوقها:"صـ"، والتصويب من كتاب الأموال لأبي عبيد.
قال أبو عُبَيْدٍ
(1)
: فهذه مَدِينَةٌ بالثَّغْر من ناحيةِ الحَدَث يُقالُ لها: عَرْب سُوْس، وهي مَعْرُوفةٌ هُناك، وقد كان لهم عَهْدٌ، فصَاروا إلى هذا، وإنَّما نَرَى عُمَر عَرَض عليهم ما عرضَ من الجَلَاءِ، وأنْ يُعْطَوْا الضّعْفَ من أمْوَالهم، لأنَّهُ لم يتحقَّق ذلك عندَهُ من أمرهم، أو أنَّ النَّكْث كان من طَوَائف منهمِ دُون إجْماعِهم، ولو أطْبَقَتْ جماعَتُهم عليه ما أعْطاهُم من ذلك إلَّا القِتَال والمُحارَبة.
وقد وقع في غير هذه الرِّوَايَة عن طَرَّاد، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن بن البَادَا، قال: أخْبَرنا أبو عَليّ حَامِد بن أحمد الهَرَوِيّ، قال: أخْبَرَنا عليّ بن عَبْد العَزِيْز، أخْبَرَنا بذلك أبو إسْحَاق إبْرَاهِيْم بن عَبْد الوَاحِد بن عليّ بن سُرُور المَقْدِسِيّ وأبو الفَرَج عَبْد الرَّحْمن بن نَجْم بن عَبْد الوهَّاب الحَنْبَلِيَّان، فيما أجازاهُ لي، وقد سَمِعْتُ من كُلِّ وِاحدٍ منهما بدمَشْق، قالا: أخْبَرَتنا الكَاتبَةُ شُهْدَة بنتُ أحمد بن الفَرَجِ بن عُمَر الإِبَرِيّ، قالت: أَخْبَرَنا النَّقِيبُ أبو الفَوَارِس طَرَّاد بن مُحمَّد بن عليّ الزَّيْنَبِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن أحمد بن عليّ بن الحَسَن المَعْرُوفُ بابنِ البَادَا، قال: أخْبرنا أبو عَليّ حَامِد بن أحمد الهَرَوِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن عليّ بن عَبْد العَزِيْز البَغَوِيُّ، قال: أخْبَرَنا أبو عُبَيْد القَاسِم بن سَلَّام، فذكره بإسْنَادِه مثلَهُ.
وإنَّما وقَعَ الاخْتلَاف من أبي الحَسَن بن البَادَا؛ لأنَّ أبا عليٍّ الهَرَوِيّ المذكُور في هذا الإسْنَادِ الثَّاني وأبا مُحمَّدٍ الخُرَاسَانيّ المَذْكُور في الإسْنَاد الأوَّل كانا يَرْويان كتابَ الأمْوَالِ لأبي عُبَيْدٍ الّذي هذا الحَدِيْث منهُ عن عليّ بن عَبْد العَزِيْز، وِسَمعَهُ أبو الحَسَن بن البَادَا عنهما جميعًا، ورَوإه لطَرَّادٍ الزَّيْنَبِيّ عنهما، فروَاهُ طَرَّادٌ مَرَّةً عن ابن البَادَا عن أبي عليٍّ، ومرَّةً عن ابن البَادَا عن أبي مُحمَّد، واللهُ أعْلَمُ.
وعُمَير المذكُور في الحَدِيْثِ هو: عُمَيْرُ بن سَعْد بن شُهَيْد بن قَيْس بن النُّعْمان الأَوْسِيّ الأنْصاريّ، وَلَّاه عُمَر بن الخَطَّاب، رضي الله عنه، حِمْص وقِنَّسْرِيْن، وكان
(1)
كتاب الأموال 1: 278.
من أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَسَنَذْكُره في حَرْف العَين
(1)
في مَوْضِعه من كتابنا هذا إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
أنْبَأنَا عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد القَاضِي، عن أبي الحَسَنِ عليّ بن المُسَلَّم السُّلمِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن أبىِ العَلاءَ، قال: أخْبَرَنا أبو نصْرٍ بن الجَنَدِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن أبي العَقَب، قال: أخْبَرنا أبو عَبْد المَلِك القُرَشِيّ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بنُ عَائِذ، قال: قال الوَلِيدُ: حَدَّثَنا غيرُ واحدٍ ممَّن سَمِعَ هِشَام بنَ حَسَّان أنَّ مُحمَّد بن سِيْرِبْن حَدَّثَهُ أنَّ عُمَيْرَ بن سَعْد كان يَعْجَبُ عُمَر بن الخَطَّاب، فكان من عجبهِ بهِ يُسَمِّيه نَسِيْج وَحْدِه، وبَعَثَهُ مرَّهً عِلى جَيْشٍ منٍ قِبَل الشَّامِ، فقَدِمَ مرَّةً وَافدًا فقال: يا أَمِيرَ المُؤمِنِين، إنَّ بينَنا وبين عَدُوِّنا مَدِينَةً يُقالُ لها عَرْبَ السُّوْس، يُطْلِعُونَ عَدُوّنا على عَوْرَاتنا ويَفْعَلُونَ ويفْعلُون، فقال عُمَرُ: إذا أتيتَهم فخَيِّرهم أنْ يَنْتَقلُوا من مَدِينَتهم إلى كذا وكذا، وتُعْطيهم مكان كُلّ شَاةٍ شَاتَيْن، ومكانَ كُلّ بَقَرَهَ بَقَرتَيْن، ومَكان كُلِّ شيءٍ شَيْئَين، فإنْ فَعَلُوا فأَعْطِهِم ذلك، وإنْ أبَوْا فانْبِذ إليهمِ، ثمّ أجِّلْهُم سَنَةً، ففال: يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، اكْتُب لي عَهْدَك بذلك، فكتبَ له عهْدَهُ، فأرْسلَ إليهم، فعَرَضَ عليهم ما أمرَهُ بهِ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ، فأبَوْا فأجَّلَهُم سنَةً، ثمّ نابذَهُمِ، فقيل لعُمر: إنَّ عُمَيْر قد خرَّب عَرْب السُّوْس وفَعَلَ وفَعَل، فتَغَيَّظَ عليه عُمَرُ، ثمّ إنَّهُ قَدِمِ بعدَ ذلك وَافدًا ومعَهُ رَهْطٌ من أصْحَابهِ، فلمَّا قَدِم عليه علَاهُ بالدِّرَّة، وقال: خرَّبْتَ عرْبَ السُّوْس، وهو ساكتٌ لا يقُول له شيئًا، ثمّ قال لأصْحَابه: مُبَرْنَسيْن مُبرْنَسِين! ضَعُوا بَرَانسَكُم، قال عُمَيْرٌ: ضَعُوا بَرانسَكُمُ ثَكِلَتْكُم أُمَّهاتُكُم، إنَّكم واللهِ ما أنتُم بهم، فَوَضَعُوا بَرَانسَهُم، فقال عُمَرُ: مُعَمَّمِيْنَ مُعَمَّمِيْن! ضَعُوا عَمَائكُم، قال عُمَيْرٌ: ضَعُوا عَمَائمَكُم فإنَّا واللهِ ما نحنُ بهم، فقال: مُكَمَّمِيْنَ مُكَمَّمِيْنَ! ضَعُوا كَمَائكُم، فقال عُمَيْرٌ: ضَعُوا كَمائمَكُم، فإذا عليهم
(1)
ترجمته في الضائع من أجزاء الكتاب.
جِمَام
(1)
، فقال عُمَرُ: أمَا واللهِ الّذي لا إلَه إلَّا هُوَ لو وجَدْتكُم مُحَلّقيْن لرَفَعْتُ بكُم الخَشَب. ثمّ إنّ عُمَر دَخَل علىِ أهلهِ فاسْتَأذنَ عليهِ عُمَيْر، فَدَخَل فقال: يا أَمِير المُؤمِنِينَ، اقرأْ عَهْدَكَ إليَّ في عَرْب السُّوْس، فقال عُمَرُ. رَحمَكَ اللهُ؛ فهَلَّا قُلْت لي ذلك وأنا أَضْربُكَ، قال: كَرِهْتُ أُوَبِّخكَ يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ، فقال عُمَر: غَفَر اللهُ لك، ولكن غَيْرك لَوْ كان!.
أخْبَرنا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحمد بن عليّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد القَاسِم بن عليّ بن الحَسَن، قال: أنْبأنَا الفَقِيه أبو الحَسَن السُّلَمِيُّ، وأخْبَرَنا أبي عنْهُ، قال: حَدَّثَنا عليّ بن مُحمَّد الفَقِيهُ، قال: أخْبَرَنا أبو نَصْر مُحمَّد بن أحمد بن هارُون، قال: أخْبَرَنا عليّ بن يَعْقُوب بن إبْرَاهِيم، قال: أخْبَرني أحمد بن إبْرَاهِيْمِ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن عَائِذ، قال: قال الوَلِيد: ورأيتُ خَلْفَ دَرْب الحَدَث مَدِينَةً حين أَشْرفنا على قُباقِب ناحيَةً، فسألتُ عنها مَشْيَخَة من أهل قِنَّسْرِيْن، فقالوا: هذا عَرْب السُّوس؛ مَدِينَة أنَسْطاسْ الّتي غَدَرت، فأتاها عُمَيْر بن سَعْد، فقاتلَهُم وخرَّبها، فهي خَرَابٌ إلى اليوم.
وقريبٌ من هذه المَدِينَة جَبَلٌ فيه الكَهْفُ الّذي ذَكَرَهُ اللهُ في كتابهِ
(2)
، وجاء في التَّفْسِير أنَّ عَرْبَسُوس هي المَدِينَة الّتي قال اللهُ تعالَى فيما قَصَّهُ في كتابه الكريم:{فَابْعَثُوا [أَحَدَكُمْ] (a) بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ}
(3)
.
(a) ساقطة من الأصل.
_________
(1)
الِجِمَامُ: واحدنها الجُمَّة؛ الشعر الكثير. لسان العرب، مادة: جمم.
(2)
قوله عز وجل في الآية التاسعة وما بعدها من سورة الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} .
(3)
سورة الكهف، من الآية 19.
وَزُرْتُ هذا الموضع، فوَجَدْته على الصِّفَة التي أخْبَرَ اللهُ تعالَى فىِ كتابهِ الكريم:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}
(1)
، وقد بُنِيَ على المَوْضع بناءٌ عَظيم حَسَنٌ واسِعٌ لِمَنْ يَقْصدهُ من الزُّوَّار، ووُقف عليه وقْفٌ، ورتّب لهم ضِيَافَةٌ؛ بناهُ صَاحبُ مَرْعَش.
وأنْبَأنَا أبو القَاسِم بن رَوَاحَة، عن أبي طَاهِر الحَافِظ، عن أحمد بن مُحمَّد ابن الآبِنُوسِيّ، عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادِىِ، قال: ومَدِينَة أصْحَاب الكَهْف من عَمَل الرُّوم في رُسْتَاق الأوَاسِي، والكَهْف في جَبَل بانَجْلُوسْ، وقُرئ في مَسْجِدِهم كتاب بالعَرَبيَّةِ: يَدْخُل مَسْلَمَة بلَادَ الرُّوم، ويَفْتح أرْبَعة (a) حُصُون.
بيد الرُّوم وبعضٌ قد خَرِبَتْ، وكانت طَرَسُوسُ ومُدنُها خَلْف هذه الكُورَة، وبَالِس رأس الحَدِّ من قِبَل الرَّقَّة عَامِرَة، وقِنَّسْرِيْن مَدِينَةٌ قد خَفَّ أهْلُهَا (b).
قال البِشَارِيُّ
(2)
: فإنْ قال قائلٌ: لِمَ جَعَلْتَ قَصَبَة الكُورَة حَلَب وها هُنَا مَدِينَة على اسْمِها؟ قيل لَهُ: قد قُلْنا إنَّ مَثَل القَصَبَاتِ كالقُوَّادِ، والمُدُن كالجُنْدِ، ولا يُجوز أنْ تَجْعل (c) حَلَب على جلَالَتها وحُلُول السُّلْطَان بها، وجَمعْ الدَّواوين إليها، وأَنْطاكِيَة ونَفَاستها، وبَالِس وعمارَتها، أجْنادًا لمَدِينَةٍ خَربةٍ صَغِيرَة!.
(a) الأصل: أربع.
(b) هذا النص المنقطع بعضه من المقدسي البشاري (أحسن التقاسيم 152، 155)، وفيه: وقد أعرضنا عن ذكر طرسوس وأعمالها لأنها بيد الروم.
(c) أحسن التقاسيم: أن نجعل.
_________
(1)
سورة الكهف، من الآية 17.
(2)
أحسن التقاسيم 156.
وسَيَّرَ إليَّ القَاضِى بَهَاء الدِّين أبو مُحمَّد الحَسَنُ بن إبْرَاهِيْم بن الخَشَّاب أوْراقًا بخَطِّهِ، ذَكَرَ لي أنّه نَقَلها من خَطِّ الشَّيْخ أبي الحَسَن عليّ بن عَبْد الله ابن أبي جَرَادَة، فَنَقَلْتُ منها ما صُورته: كانتِ حَلَبُ في أوَّل الإسْلام إلى آخر مُلْك بني أمَيَّة مُضَافةً إلى قِنَّسْرِيْن، ومَعْدُودَةً منِ أعْمالها، ولذلك قَلَّ ذكْرُهَا في الأخْبار عن ذلك الزَّمان، ثمّ تَدَرَّجَتْ في العِمَارَة وقِنَّسْرِيْن في الخَرَاب، حتَّى صَارت مُضَافة إلى حَلَب في أيَّام بَني العبَّاس، ووَليها لهم جَمَاعَة من الهاشِميّين وخَاصَّة بنُو صَالِح بن عليّ بن عَبْد الله بن عبَّاسٍ.
فهذه المُدنُ والثُّغُور، الّتي أوْردنا ذِكْرها في هذا الفَصْلِ، هي شرْطُ كتابنا هذا، وقد بيَّنَا أنَّها من أعْمَال حَلَب، وإنْ وقعَ الاخْتلاف في بَعْضها، فلا بُدَّ من ذِكْرها في هذا الكتاب، وذِكْر ما وَرد فيها، وذكْر مَنْ دَخَلَها أو اجْتَاز بها، أو كانَ من أهْلها إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى] (a).
بابٌ في ذِكْرِ فَضَائِل الشَّام ولحَلَب وبلَادها منها أوْفَر الأقْسَام
وقد ذكَر الحَافِظ أبو القَاسِم الدِّمَشْقِيّ في تاريخ دِمَشْق
(1)
من فَضْله ما كَفَى، وأوْرد في ذلك من الأحاديث والآثار ما أشْبعَ القَوْل فيه وشَفَى، فإنَّه أطال فيما ذكرَهُ وأطْنَب، وأكْثَر النَّقْل فيما أوْردَه وأسْهَب، ومَدَّ عِنَان قَلمِهِ فيما سَطرَهُ وأطْلَقَهُ، وأوْسَعَ المجال في كُلِّ حديثٍ. أسْنَدَه وبَيَّن طُرُقه، فاكْتَفينا
(a) ما بين الحاصرتين، صفحة مُنفردة وردت في نسخة الأصل في [5 أ 5 ب]، تليها ورقة بيضاء بصفحيها، وقد قدَّرنا أنْ يكون موضعها هنا، اعتمادًا على إفادة المؤلِّف من أنَّه عدّد أسْماء ما يتَّصل بأعمال حلَب في هذا الفصل، وهذه الصفحة تتَّصل بنصٍّ سابق فيه نقلٌ عن البشاريّ المقدسيّ.
_________
(1)
خصَّص ابن عساكر المجلدين الأول والثاني من كتابه الكبير تاريخ دمشق للحديث عن المدينة ومعالمها وفضائلها وخططها وكل ما يتصل بها.
بما نقلَهُ وأوْردَهُ، واسْتَغنينا بما رَواه في فَضْل الشَّام وأسْنَدَه، إلَّا إنّا لم نَرَ إخْلاءَ كتابِنا هذا عن إيْرَادِ شيءٍ من فَضْله، ولا اسْتَحْسنَّا تركَ التَّنبيهِ على ما وَرَد فيه وفي أهْلهِ، فاقْتصَرنا من ذلك على القليل، واكْتَفَيْنا بالإشَارة إلى وَجْهِ الدَّليل.
أخْبَرَنا المَلِكُ الظَّاهِر غَازِي بن يُوسُف بن أَيُّوب، بقراءتي عليه بقَلْعَة حَلَب، حَمَاها اللهُ، والقَاضِي أبو نَصْر مُحمَّد بن هِبَةِ اللهِ بن مُحمَّد بن الشِّيْرَازيّ، وولدُه أبو المَعَالِي أحْمد، قراءة عليهما بدِمَشْق، قالوا: أخْبَرَنا القَاضِي أبو المَجْد الفَضْلُ بن الحُسَيْن بن إبْرَاهِيْمْ البَانِياسِيُّ، قال: أخْبَرَنا الأَخَوَان أبو الحَسَن، وأبو الفَضْل ابْنَا الحسَن بن الحُسَيْن المَوَازِينِيّ، قالا: أخْبَرَنا أبو عَبْد اللهِ بن سلْوان، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم الفَضْل بن جَعْفَر التَّمِيْمِيُّ، قال: أخْبَرنا عَبْدُ الرَّحْمن بن القَاسِم الهاشِميّ، قال: حَدَّثنا أبو مُسْهِر عَبْدُ الأعْلَى بن مُسْهِر الغَسَّانِيّ، قال: حَدَّثَنا سَعيد بن عَبْد العَزِيْز، عن رَبِيْعَة بن يزِيد، عن أبي إِدْرِيس الخَوْلانِيّ، عن عَبْد اللهِ بن حَوَالَة الأزْدِيّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال
(1)
: إنَّكم ستُجَنَّدُون أجْنَادًا: جُنْدٌ بالشَّام، وجُنْدٌ بالعِرَاق، وجُنْدٌ باليمَنَ. فقال الحَوَاليُّ: خِرْ لي يا رَسُول الله، قال: عليكُم بالشَّام، فمَن أبَى فليَلْحَق بيَمَنِهِ، وليسْق من غُدُرِه، فإنَّ اللهَ قد تكفَّل لي بالشَّام وأهْلهِ.
(1)
المستدرك للحاكم 4: 510، دلائل النبوة 6: 326، ابن بلبان: صحيح ابن حبان 16: 295 (رقم 7306)، وفيه:"عليك بالشام"، والدر المنثور للسيوطي 3:528.
فكان أبو إِدْرِيس الخَوْلانِيّ إذا حدَّثَ بهذا الحَدِيْث الْتفَتَ إلى ابن عَامِرٍ فقال: مَنْ تكفَّل اللهُ به، فلا ضَيْعَةَ عليه.
وقد رُويَ من طَربقٍ آخر، أنَّ ابن حَوَالَة كان يقُول ذلك، أخْبَرناهُ أبو مَنصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبرَنا عَمِّي أبو القَاسِم بن أبي مُحمَّد الحَافِظُ
(1)
، قال: أخْبَرنا أبو الفَتْح أحمد في عَقِيل في مُحمَّد بن رَافِع الفارِسيّ البَزَّار الدِّمَشْقِيّ، ببَغْدَاد وبدِمَشْق، قال: أخْبَرنا أبي أبو الفَضْل، ح.
وقال الحَافِظ أبو القَاسِم: وأخْبَرناهُ أبو القَاسِم إسْمَاعِيْل بن أحمد ببَغْدَاد، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد عُبَيْدُ الله بن إبْرَاهِيْم بن كُبَيْبَة النَّجَّار، ح.
قال أبو القَاسِم: وأخْبرناهُ أبو مُحمَّد طَاهِر بن سَهْل بن بِشْر، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم الحُسَيْن بن مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم بن الحِنَّائِيّ، قالوا: أخْبَرَنا أبو بَكْر مُحمَّد ابن عَبْد الرَّحْمن بن عُبَيْد الله بن يَحْيَى القَطَّان، قِراءَةً عليهِ ونحنُ نَسْمَع، قال: أخْبَرنا أبو الحَسَن خَيْثَمَةُ بن سُلَيمان بن حَيْدَرة، قال: حَدَّثنا العبَّاسُ بن الوَلِيد بن مَزْيَد، قال: أخْبرَني أبي وعُقْبَة بن عَلْقَمَة، قالا: حَدَّثنَا سَعيد بن عَبْد العَزِيْز، حَدَّثَني مَكْحُول، عن أبي إِدْرِدس الخَوْلانِيّ، عن عَبْد الله بن حَوَالَة، قال: قال رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّكُم سَتُجَنَّدُونَ أجْنادًا، جُنْدًا في الشَّام، وجُنْدًا في العِرَاق، وجُنْدًا باليَمَن. قال: قُلتُ: يا رسُول الله، خِرْ لي؟ قال: عليمُ بالشَّام، فمَن أبَى، فليَلْحَق بيمَنِهِ، وليسْقِ من غُدُره، فإنَّ اللهَ قد تكفَّل لي بالشَّام وأهْلِهِ.
قال سَعِيْد: وكان ابنُ حَوَالَة رَجُلًا من الأَزْد، وكان مَسْكنهُ الأُرْدُنّ، وكان إذا حدَّث بهذا الحَدِيث قال: وما تكفَّلَ اللهُ بهِ، فلا ضَيْعَة عليه.
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 57، 61 - 65.
أخْبَرنا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد الشَّافِعِيِّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن بن أبي الحَسَن بن إبْرَاهِيمْ الدَّارَانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الفَرَج سَهْل بنُ بِشْر ابن أحمد الإسْفَرَاينِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن مُحمَّد بنُ الحُسَيْن بن مُحمَّد بن الطَّفَّال، قال: أخْبَرَنا أبو الطَّاهِر مُحمَّد بن أحمد بن عَبْد الله بن نَصْر الذُّهْلِيّ، قال: حَدَّثَنا مُوسَى بن هارُون، قال: حَدَّثَنَا أبو طَالِب، قال: حَدَّثنا بقِيَّةُ بن الوَلِيد، عن بَحِير ابن سعْدٍ، عن خَالِد بن مَعْدَان، عن أبي قُتَيلَة، عن ابن (a) حَوَالَة، أنَّهُ قال
(1)
: قال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَيَصِيرُ الأمْرُ إلى أنْ يكون جُنُودًا مُجنَّدَةً: جُنْدًا بالشَّام، وجُنْدًا باليَمَنِ، وجُنْدًا بالعِرَاق. فقال ابنُ حَوَالَة: خِرْ لي يا رسُولَ اللهِ إنْ أدركتُ ذلك؟ فقال: عليكُم بالشَّام، فإنَّها خِيْرة الله من أرْضِهِ، يَجْتَبي إليهِ خِيْرَته من عِبادِه، فإنْ أبَيتُم فعليْكُم بَيَمَنِكُم، واسْقُوا من غُدُركم، فإنَّ الله قد تكفَّلَ لي بالشَّام وأهْلِه.
أخْبَرَنا أبو عَليّ حَسَن بن أحمد بن يُوسُف الصُّوفِيّ بالبَيْت المُقَدَّس، قال: أخْبَرنا أبو طَاهِر أحمد بن مُحمَّد بن أحمد السِّلَفِيّ الحَافِظ، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر الطُّرَيْثِيثِيّ، ح.
وأخْبَرنَا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيْم بن عُثْمان الكاشْغَرِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الفَتْح ابن البَطِّيّ، وأبو المُظَفَّر الكَاغِدِيّ، قال أبو الفَتْح: أخْبَرَنا ابنُ خَيْرونَ، وقال الكَاغِدِيّ: أخْبَرَنا أبو بَكْر الطُّرَيْثِيثِيّ، قالا: أخْبَرنا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: أخْبَرَنا ابنُ دَرَسْتَوَيْه، قال: حَدَّثَنا يَعْقُوب الفَسَوِيّ، قال: حَدَّثَنَا يَزِيد بن مِهْرَان، قال:
(a) في الأصل: عبد الله بن
…
، وضبَّب عليها.
_________
(1)
سنن أبي داود 3: 10 (رقم 2483)، وفضائل الشام للربعي 5، وفضائل الشام للسمعاني 33، تاريخ إبن عساكر 1: 73، كنز العمال 12: 277 (رقم 35030).
حَدَّثنا أبو بَكْر بن عَيَّاشٍ، عن دَاوُد بن أبي يَزِيد، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
: أوَّلُ النَّاسِ هَلاكًا فَارِس، ثمّ العَرَب، وسَائِر النَّاسِ ها هُنا، وأشارَ بيدِه إلى الشَّام.
أخْبَرَنا أبو مَنْصُور الفَقِيه، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِمِ عليُّ بن الحَسَنِ
(2)
، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم الخَضِر بنُ الحُسَيْن بن عَبْد الله بن عَبْدَان الأزْدِيُّ بدِمشْق، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد اللهِ الحَسَنُ بن أحْمد بن عَبد الوَاحِد بن أبي الحَدِيْدِ، قال: أخْبَرنا أبو الحَسَن عليّ بن مُوسَى بن السِّمْسَار، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن إبْرَاهِيمِ بن مَرْوَان، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد المَلِكِ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بنُ أبي السَّرِيّ، قال: حَدَّثنا فضَالَةُ بن حُصَيْن، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بن عُمَر، عن سَالِم بن عَبْد اللهِ بنٍ عُمَر، عن أبيهِ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
(3)
: ستَخْرجُ نار من حَضْرَمَوْتَ، فتَسُوق النَّاسَ إلى المَحْشَر، تَقِيْل إذا قالُوا، وتَسِير إذا سَاروا، قالوا: يا رسُول اللهِ، فا تأمرُ مَنْ أدْرَك ذلك منَّا؟ قال: عليكُم بالشَّام.
أخْبَرنا أبو مَنْصور، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم
(4)
، قال: وأخْبَرَنا أبو القَاسِم زَاهِر ابن طَاهِر بن مُحمَّد الشَّحَّامِيِّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن عُبَيْدُ الله بن مُحمَّد بن إسْحَاق ابن مُحمَّد بن يَحْيَى بن مَنْدَة، قال: أخْبَرَنا أبي، قال: حَدَّثَنا جُمَحُ بن القَاسِم بن عَبْد الوهَّاب بن أَبَانَ بن خَلَف المُؤذِّنُ بدِمَشْق، قال: حَدَّثَنا أحْمدُ بن بِشْر بن حَبِيْب الصُّوْرِيّ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الحَمِيْد بن بَكَّار، قال: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بن عَلْقَمَة، قال:
(1)
البيهقي: دلائل النبوة 4: 391 وفيه النصف الأول من حديث أبي هريرة.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 88 - 89.
(3)
ابن حنبل: المسند 7: 200 (رقم 5376)، الترمذي: الجامع الكبير 4: 75 (رقم 2217)، البغوي: شرح السنة 14: 207 (رقم 4007)، ابن بلبان: صحيح ابن حبان 16: 294 (رقم 7305).
(4)
تاريخ ابن عساكر 1: 101.
حَدَّثَنا الأوْزَاعِيُّ، عن عَطِيَّةَ بن قَيْس، عن عَبْد اللهِ بن عَمْرو
(1)
، قال: قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أُرِيْتُ عَمُود الكتابِ انْتُزع من تحتِ وسَادَتي، فذُهِبَ به إلى الشَّام، فأَوَّلْتُهُ: المُلْكَ.
أخْبَرَنا أبو الحَسَن عليِّ بن عَبْد اللَّطِيْف بن الحُسَيْن بن عليّ بن خَطَّاب الدِّيْنورِيّ -عُرف بابن الخِيَمِيّ- ببَغْدَاد، قال: أخْبرنا أبو الفَتْح عُبَيْد الله بن عَبْد الله بن مُحمَّد بن شَاتِيْل، قال: أخْبَرَنا الحاجِبُ أبو الحَسَن بن العَلَّاف، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم بن بِشْرَان، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر النَّجَّاد، قال: حَدَّثَنَا أبو اللَّيْث يَزِيد بن جُمْهُور بطَرَسُوس، قال: حَدَّثَنا أبو تَوْبَة الرَّبِيْع بن نَافِع، عن يَحْيَى بن حَمْزَة، عن ثَوْر بن يَزيد، عن بُسْر بن عُبَيْد الله، عن أبي إِدْرِيس الخَوْلانيّ عَائِذ الله، عن أيى الدَّرْدَاء
(2)
، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنَا نائِم رأيتُ عَمُودَ الْإسْلام احْتُمل من تحت رأسي، فظَنَنتُ أنَّه مَذْهُوبٌ به، فاتبَعْتُه بَصَري، فعُمِدَ به إلى الشَّام ألَا وإنَّ الإيْمان حين تقعُ الفتَنُ بالشَّام.
أخْبَرَنا ثَابِتُ بن مُشَرَّف بن أبي سَعْد، قال: أخْبَرنا عبدُ الأوَّل بن عِيسَى، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن الدَّاوُودِيّ (a)، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْدُ اللهِ بن حَمُّوْيَه السَّرْخَسِيّ، قال: أخْبَرَنا عِيسَى بن عُمَر السَّمَرْقندِيُّ، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد عَبْدُ الله بنُ عَبْد الرَّحْمن الدَّارِمِيِّ
(3)
، قال: أخْبَرَنا زَيْدُ بن عَوْف، قال: حَدَّثَنَا أبو عَوَانَة، عن عَبْد المَلِكِ بن عُمَيْر، عن ذَكْوَان أبي صَالِح، عن كَعْبٍ: في السَّطْر الأوَّلِ: مُحمَّد رسُول اللهِ، عَبْدي المُخْتَار، لا فَظٌّ، ولا غَليظٌ، ولا صَخَّابٌ في الأسْوَاق، ولا يَجْزي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ،
(a) الأصل و"ك": الداودي.
_________
(1)
حلية الأولياء لأبي نعيم 5: 252، فضائل الشام للربعي 8 (رقم 11)، كنز العمال للمتقي الهندي 12: 281 (رقم 35044 - 35047).
(2)
الدر المنثور للسيوطي 3: 529.
(3)
سنن الدارمي 1: 5.
ولكن يعفُو ويَغْفر، مَوْلدهُ بمَكَّة، وهجرتهُ بطيبَةَ، ومُلكُهُ بالشَّام. وفي السَّطْر الثَّاني: مُحمَّد رسُول الله، أُمَّتُه الحَمَّادُونَ، يَحْمَدُونَ الله في السَّرَّاءَ والضَّرَّاءَ، يَحْمدُونَ الله في كُلِّ مَنْزلة، ويُكَبِّرونه على كُلِّ شَرَفٍ، رعاةُ الشَّمْس، يُصَلُّونَ الصَّلاةَ إذا جاءَ وَقْتُها، ولو كانُوا على رأس كُناسَة، ويأْتَزرُونَ على أوْسَاطهم، ويُوضِّئونَ أطْرافهم، وأصْواتهم باللَّيْل في جَوِّ السَّماء كأصْواتِ النَّحْل.
وقال أبو مُحمَّد الدَّارِمِيّ
(1)
: أخْبَرنا مُجَاهِد بن مُوِسَى، قال: حَدَّثَنَا مَعْنٌ -هو ابن عِيسَىَ- قال: حَدَّثَنا مُعاوِيَةُ بن صالِح، عن أبي فَرْوة، عن ابن عبَّاس أنَّه سأل كَعْب الأحْبَار: كيف تَجد نَعْتَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في التَّوْراة؟ فقال كَعْبٌ: نَجدُهُ مُحمَّد بن عَبْد اللهِ، يُولَدُ بمَكَّة، ويُهاجر إلى طابةَ، ويكون مُلكهُ بالشَّام، وذَكَرَ تَمام الحَدِيْث.
أنْبَأنَا أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد القَاضِي، عن أبي مَسْعُود الأصْبَهَانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو عَليّ الحَسَن بن أحمد الحَدَّاد، قال: أخْبَرنا أبو نُعَيْمِ الحَافِظ، قال: حَدَّثَنا سُلَيمان بن أحمد، قال: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ بن إسْحَاق، قال: حَدَّثَنا مَخْلَدُ ابن مالِكٍ، قال: حَدَّثَنا إسْمَاعِيْل بن عَيَّاشٍ، عن عَبْد العَزِيْز بن عُبَيْدِ اللهِ، عن أبي أُمَامَةَ، قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(2)
: صَفوَةُ اللهِ من أرْضِه الشَّام، وفيها صفْوتُه من خَلْقهِ وعِبادِه، وليدخُلَنَّ الجَنَّة من أُمَّتِي ثُلَّةٌ لا حسَابَ عليهم ولا عَذَاب.
أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبَرنا الحاَفِظُ أبو القَاسِم
(3)
، قال: أخْبرَنا أبو القَاسِم زَاهِرُ بن طَاهِر الشَّحَّامِيِّ، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْر البَيْهَقِيّ، قال:
(1)
سنن الدارمي 1: 6.
(2)
المعجم الكبير للطبراني 8: 229، ومجمع الزوائد 10: 59، كنز العمال 12: 273 (رقم 35015).
(3)
تاريخ ابن عساكر 1: 125 - 128.
أخْبَرنا أبو عَبْدِ الله الحَافِظُ، فال: حَدَّثَنَا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن يَعْقُوب، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيْمِ بن عَبْدِ اللهِ السَّعْدِيّ، قال: حَدَّثَنَا وَهْب بن جَرِير، قال: حَدَّثَنَا أبي، قال: سَمِعْتُ يَحْيَى بن أَيُّوب يُحَدِّثُ عن يَزِيد بن أبي حَبِيْب، عن عَبْد الرَّحْمن بن شُمَاسة، عن زَيْد بن ثَابِتٍ، قال
(1)
: كُنَّا عند رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم نُؤَلِّفُ القُرْآنَ من الرِّقَاع، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: طُوْبَى للشَّام. قُلنا: لأيّ شيءٍ ذَاكَ؟ قال: لأنَّ مَلَائِكة الرَّحمن باسَطة أجْنِحتَها عليهم.
أخْبَرَنا عَبْد الرَّحْمن قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم
(2)
، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن السَّمَرْقَنْدِيّ، ح.
وأنْبَأنَا به عُمَر بن مُحّمَّد بن طَبَرْزَد عن ابن السَّمَرْقَنْدِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر مُحمَّد بنُ هِبَةِ الله الطَّبَرِيّ، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن بن الفَضْل، قال: أخْبَرَنا عَبْدُ الله ابن جَعْفَر، قال: حَدَّثنا يَعْقُوب بن سُفْيان
(3)
، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن يُوسُف، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن حَمْزَهَ، قال: حَدَّثَني أبو عَلْقَمَة نَصْرُ بن عَلْقَمَة الحَضْرَميّ -منِ أهل حِمْص- أنَّ عُمَيْر بن الأَسْوَد وكَثِيْر بن مُرَّة الحَضْرَميّ، قالا: إنَّ أبا هُرَيْرَة وابن السِّمْط كانا يقُولَان: لا يَزالُ المُسلِمُون فىِ الأرْض حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وذلكَ أنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: لا تَزالُ من أُمَّتِي عِصَابَةٌ قَوَّامَةٌ على أمرِ اللهِ، لا يَضرُّها مَنْ خَالفها، تُقاتِل أعْداءَ اللهِ، كلَّما ذَهَبَ حِزْبٌ نَشَبَ حِزْب (a) قَوْمٍ
(a) المعرفة والتاريخ: حرب.
_________
(1)
ابن أبي شيبة: المصنف 4: 224 (رقم 19441)، ابن حنبل: فضائل الصحابة 2: 906 (رقم 1728)، الترمذي: الجامع الكبير 6: 223 - 224 (رقم 3954)، الطبراني: المعجم الكبير 5: 158 (رقم 4933)، ابن بلبانْ صحيح ابن حبان 16: 293 (رقم 7304)، المستدرك للحاكم 2: 229، والدر المنثور للسيوطي 3:528.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 258.
(3)
المعرفة والتاريخ 2: 296 - 297.
آخرين، يُزِيْغُ اللهُ قُلُوبَ قَوْم ليَرْزقَهُم منه، حتَّى تأتيهم السَّاعَةُ كأنَّها قِطَعُ اللَّيْل المُظْلِم، فيَفْزعُون لذلكَ حتَّى يَلْبَسُوا لذلكَ الدُّرُوع. وقال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: هُم أهْلُ الشَّام. ونَكَتَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم بإصْبَعِهِ يُوْمئ بها إلى الشَّام، حتَّى أوْجَعَها. رواهُ البُخاريُّ في التَّاريخ
(1)
عن عَبْد الله بن يُوسُفَ.
أخْبَرَنَا أبو مَنْصُور، قال: أخْبَرَنا عَمِّي الحافِظُ
(2)
، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم الخَضِر بن الحُسَيْن بن عَبْد الله بن عَبْدَان، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد اللهِ الحَسَنُ بن أحْمد ابن أبي الحَدِيْدِ، قال: أخْبَرَنَا أبو الوَلِيدِ الحَسَنُ بن مُحمَّد الدَّربَنْدِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو نَصْر أحمدُ بن المُظَفَّر بن مُحمَّد المَوْصِليّ بها، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن حَيَّان بن عَبْد العَزِيْز بن حَيَّان، قال: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بن عَلُّويَة القَطَّان، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيْم ابن يَزِيد بن مُصْعَب الشَّاميّ، قال: حَدَّثَنَا ابن خُلَيْد الدَّمَشْقِيّ، عن الوَضِيْن بن عَطَاء، عن مَكْحُول، عن عَبْد الله بن عَمْرو
(3)
، قال: قال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: الخَيْرُ عَشَرَةُ أعْشارٍ؛ تسعة بالشَّام، وواحد في سائر البُلْدان؛ والشَّرُّ عَشَرةُ أعْشَارٍ؛ واحدُ بالشَّام، وتِسْعَةُ في سَائر البُلْدان، وإذا فَسَدَ أهْلُ الشَّام فلا خَيْرَ فيكُم.
أخْبَرَنا أبو مَنْصُور، قال: أخْبرَنا عَمِّي
(4)
، قال: قَرَأتُ بِخَطّ شَيْخنا أبي الفَرَج غَيْث بن علّي بن عَبْد السَّلام الخَطِيب، قال: قَرَأتُ بِخَطّ عَبْدِ اللهِ بن عليّ بن أبي العَجَائِز الأزْدِيّ: حَدَّثَنَا عليّ بن مُحمَّد بن أبي سُلَيمان الصُّوْرِيّ، قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ ابنُ عَبْد الصَّمَد الدَّمَشْقِيُّ، عن سَلَمَةَ بن أحمد، قال: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بن عَبْد الوَاحِدِ القُرَشِيّ المَوْصِلَّي، قال: حَدَّثَنَا عَمْرو بن رُزَيْقٍ -وهو مَوْصِليّ- عن ثَوْر بن يَزِيد، عن
(1)
تاريخ البخاري الكبير 4: 62.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 308.
(3)
فضائل الشام للسمعاني 37، وكنز العمال للمتقي الهندي 12: 284 (رقم (35056).
(4)
تاريخ ابن عساکر 1: 182.
حَفْص بن بِلال بن سَعْدٍ، عن أبيهِ، أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: إذا وقعَتِ الفِتَنُ فهَاجِرُوا إلى الشَّامِ، فإنَّها من الله بَمْنَظرٍ، وهي أرْضُ الَمْحَشر.
أخْبَرنا أبو الَحَّاج يُوسُف بن خَلِيل بن عَبْدَ الله الدَّمَشْقِيُّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُسْلم الُمؤيَّد بن عَبْد الرَّحِيْم بن الإخْوَة وصَاحبَتُه عَيْنُ الشَّمْس، قالا: أخْبَرنا أبو الفَرَج سَعيدُ بن أبي الرَّجَاءِ الصَّيْرَفِيّ الأصْبَهَانّيِ -قالت: إجازة- ح.
وأنْبَأنا أبو القاسم القَاضِي عن أبي الفَرَج بن أبي الرَّجَاءِ، ح.
وأخْبَرنا أبو مَنْصُور الفَقِيه، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم عليُّ بن أبي مُحمَّد
(1)
، قال: أخْبَرَنا أبو الفَرَج سَعيدُ بن أبي الرَّجَاء الأصْبَهَانيِّ بها، قال: أخْبَرَنا أحمد بن مَحْمُود الثَّقَفِيّ ومَنْصُور بنُ الحُسَيْن الكَاتِبُ، قالا: أخْبَرَنا أبو بَكْر بنُ المُقْرِئ
(2)
، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن عليّ بن الحَسَن بن حَرْب، قاضِي الطَّبَرِيَّة، بطَبَريَّة، قال: حَدَّثَنا سُلَيمان بن عُمَر بن خَالِد الأقْطَع، قال: حَدَّثنا إسْمَاعِيْل بن إبَراهِيم - هو ابنُ عُلَيَّة. قال: حَدَّثنا زِيَاد بن بَيَان، حَدَّثَنا سَالِم، عن عَبْد الله بن عُمَر، قال
(3)
: صلَّى رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاة الفَجْر ثمّ انْفَتَلَ، فأقْبل على القَوْم، فقال: اللَّهُمَّ بارِك لنا في مَدِينَتِنا، وبارِك لنا في مُدِّنا وصَاعِنَا، اللَّهُمَّ بارِك لنا في حَرَمِنا، وبارك لنا في شَامِنا ويَمَنِنا، فقال رَجُلٌ: والعِراَق يا رسُول اللهِ؟ ثمّ عاد فقال مثل ذلك، فقال الرَّجُلُ: والعِراَق يا رَسُول الله؟ فسَكَت، ثمّ قال: اللَّهُمَّ بارِك لنا في مَدينَتنا، وبارِك لنا في مُدِّنا وصَاعِنا، اللَّهُمَّ بارك لنا في حَرَمِنا، وبارِك لنا في شَامِنا ويَمَننا. فقال رَجُلٌ: والعِرَاق يا رسُول الله؟، قال: ثمّ يَطْلُعُ قرن الشَّيْطان، وتَهيْجُ الفِتَنُ.
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 131.
(2)
معجم ابن المقرئ 52.
(3)
مجمع الزوائد 3: 305، والمتقي الهندي: كنز العمال 14: 160 (رقم 38230)، وأخرجه الخطيب البغدادي من طريق آخر، وباختلاف في بعض ألفاظه. انظر تاريخ بغداد 1:321.
أخْبَرَنا أبو مَنْصُور، قال: أخْبَرَنا عَمَّي
(1)
، قال: أخْبَرَنا أبو الفَضائِل نَاصِرُ بن عليّ بن مَحْمُود، قال: حَدَّثَنا عليّ بن أحمد بن زُهَيْر، قال: حَدَّثَنا عليّ بن أحمد بن شُجاعٍ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم عَبْدُ الرَّحْمن بن عُمَر، قال: حَدَّثَنا أبو الفَضْل العبَّاس بن بَيْهَس بمِصْر، قال: حَدَّثَنا أحمد بن ثَابِت بن زيد، قال: حَدَّثنا أبو حُمَيْد أحمد بن مُحمَّد بن الُمِغيرَة، قال: حَدَّثَنا يَحْيَى بن سَعيد العَطَّار، قال: حَدَّثَنَا علي بن هَمَّام، عن كَعْب، قال: جاء إليه رجلً فقال: إنّي أُريدُ الخُرُوج أبتَغي فَضْلَ الله عز وجل، قال: عليكَ بالشَّامِ؛ فإنِّه ما نَقَصَ من بركَة الأرْضين يُزاد في الشَّام.
وأخْبَرنا أبو مَنْصُور، قال: أخْبَرَنا عَمَّي
(2)
، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد هِبَةُ اللهِ ابن أحمد بن طَاوُوس، وأبو القَاسِم الحُسَيْن بن أحمد بن عَبْدِ الصَّمَد بن تَميْم، وأبو إسْحَاق إبْرَاهِيمُ بن طَاهِر بن عليّ بن بَرَكات الخُشُوعِيّ، قالوا: أخْبَرَنا الفَقِيهُ أبو القَاسِم عليّ بن مُحمَّد بن أبي العَلاءِ، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر أحمد بن جَرِير بن أحمد بن خَمِيْس السَّلَمَاسِيُّ، قال: حَدَّثَنا أبو الحَسَن المُظَفَّرُ بن الحَسَن، قال: حَدَّثَنا أبو الحَسَن أحمدُ بنُ عُمَيْر بن يُوسُف بن جَوْصَا، قال: حَدَّثَنا أبو حَفْصٍ عَمْرُو ابنُ عثمان بن كَثِيْر، قال: حَدَّثَنَا أبو المُغِيْرَة، قال: حَدَّثَني الغَازُ بن جَبَلَة، قال: حَدَّثَني الوَليدُ بن عَامِرٍ اليَزَنيّ (a)، عن كَعْب، أنَّهُ كان يقول: يا أهْل الشَّام، إنَّ النَّاسَ يريدُون أنْ يضَعُوكم، والله يَرْفَكُم، وإنَّ الله يتَعاهَدُ كم كما يَتعاهَدُ الرَّجُلُ نَبْلَهُ في كِنانَتِهِ، لأنَّها أحبّ أرْضِه إليهِ، يُسْكِنُها أحبّ خَلْقهِ إليهِ، من دَخَلَها مَحُروم، ومَن خَرَجَ منها مَغْبون.
(a) الأصل و"ك": اليَرْفي! والتصويب من تاريخ البخاري الكبير 8: 149، وتاريخ ابن عساكر.
_________
(1)
تاريخ ابن عساکر 1: 144.
(2)
تاريخ ابن عساکر 1: 122.
أخْبَرنا أبو مُحمَّد عَبْد العَزِيْز بن بَرَكات بن إبْراَهِيْم بن طَاهرِ الخُشُوِعيّ بالرَّبْوَة بِظَاهِر دِمَشْق، قال: أخْبَرنا أبي، قال: أخْبَرنَا أبو القاسم نصر بن أحمد بن مُقَاتِل إجَازَةً، قال: أخْبَرنا أبو الحَسَن عليّ بن أحمد بن زُهَيْر الماَلِكِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو الحَسَن عليّ ابن مُحمَّد بن شُجاع الرَّبعيّ المَالِكِيّ
(1)
، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم عَبْد الرَّحْمن بن عُمَر بن نصر بن مُحمَّد الشَّيْبَانِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو الفَضْل العبَّاس بن بَيْهَس (a) بِمصْر، قال: حَدَّثنا عليّ بن الحُسَيْن (b) بن عَبْد المُؤْمِن، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن إسْحَاق الصَّيْنيّ (c)، قال: حَدَّثَنَا عَمْرو (d) بن عَبْد الغَفَّار، قال: حَدَّثَنَا المَسْعُوديّ عَوْن (e) بن عَبْدِ الله بن عُتْبَة، قال: قَرَأتُ فيما أنْزَل الله جلَّ وعزَّ على بعض الأنْبِياء أنَّ الله يقول: الشَّام كِنانَتي، فإذا غَضِبْتُ على قَوْمٍ رَميْتُهم منها بسَهْمٍ.
أخْبَرنا عُمَر بن مُحمَّد بن طَبَرْزَد قِراءَةً عليهِ، قال: أخْبرنا أبو القَاسِم هِبَةُ الله بنُ مُحمَّد بن الحُصَيْن، قال: أخْبَرنا أبو طَالِب مُحمَّد بن مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم بن غَيْلَان، قال: أخْبَرنا أبو بَكْر مُحمَّد بنُ عَبْدِ الله بن إبْرَاهِيْم الشَّافِعِيُّ، قال: حَدَّثَنا إسْحَاقُ بن الحَسَن، قال: حَدَّثَنا أبو حُذَيْفَة، قال: حَدَّثَنا سُفْيان في قَوْل الله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا}
(2)
. قال: الشَّام.
(a) الأصل: بهيس، "ك": بهنس، وقد تقدم ذكره في حديث سابق، والمثبت موافق لما عند الربعي. (b) الربعي: الحسن.
(c) الربعي: العيني، والصيني نسبة للصينية أو صينية الحوانيت، بلدة تحت واسط يُنسب إليها بعض العلماء. السمعاني: الأنساب 8: 369، ياقوت: معجم البلدان 3: 440.
(d) الربعي: عُمَر.
(e) في كتاب الربعي: المسعودي عن عون، خطأ، انظر ترجمة عون بن عَبْدِ الله المسعودي في سير أعلام النبلاء 5: 103 - 104.
_________
(1)
فضائل الشام للربعي 3، وانظر الدر المنثور للسيوطي 3:528.
(2)
سورة الأعراف، من الآية 137.
أخْبَرنا أبو مَنْصُور عَبْدُ الرَّحْمن، قال: أخْبَرَنا الحافِظُ أبو القَاسِم
(1)
، قال: أنْبَأَنا أبو الفَرَج غَيْثُ بن عليّ الصُّوْرِيّ، ونَقَلْتُهُ من خَطِّه، قال: حَدَّثَنا أبو بَكْر أحمد بن عليّ الحَافِظُ، قال: أخْبَرنا عليُّ بن إبْرَاهِيْم البَزَّازُ بالبَصْرَة، قال: حدَّثنا أبو بَكْر يَزِيدُ بنُ إسْمَاعِيْل بن عُمَر الخَّلالُ، قال: حَدَّثَنا العبَّاسُ بن عَبْدِ الله بن أبي عِيسَى التَّرْقُفِيّ، قال: حَدَّثنا مُحمَّد بن كَثِيْر المصّيْصِيّ، عن إسْمَاعِيْل بن خَالِدٍ، عن مُحمَّد بن عَمْرو. أو عُمَرَ، شَكَّ أبو مُحمَّد، يعني: العبَّاس -قال ابنُ كَثِيْرِ: وأراني قد سَمِعْتُهُ منه عن وَهْب بن مُنَبّه، قال: إنّي لأجِدُ ترداَد الشَّام في الكُتُب حتَّى كأنَّهُ ليسَ لله حاجَةٌ إلا بالشَّام.
أنْبَأنَا الأَخَوَان أبو مُحمَّد عَبْدِ الرَّحْمن، وأبو العبَّاس أحمد، ابْنَا عَبْد الله بن عُلْوَان، عن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، قال: أخْبَرنا أبو بَكْر أحمدُ بن عليّ الحافِظُ إجازَةً، قال: أخْبَرنا أبو الحسين بنُ بِشْران، قال: أخْبَرَنا عُثْمان بن أحمد بن عَبْدِ الله الدَّقَّاق، قال: قُرِئ على أبي بَكْر مُحمَّد بن أحمد بن النَّضْر ابن بنْت معاوِيَة بن عَمْرو: حَدَّثَنا مُعاوِيَة بن عَمْرو بن المُهَلَّب الأزْدِيّ، عن إبْرَاهِيْم بن مُحمَّد بن الحَارِث بن أسْماءَ ابن خارِجَةَ الفَزاَرِيّ، عن الأوْزَاعيّ، عن ثَابِت بن مَعْبَد، قال: قال اللهُ تعالَى: يا شَامُ؛ أنْتِ خِيرَتي من بلدي (a)، أُسْكِنُكِ خِيَرتي من عِبَادي.
أخْبَرنا قاضِي القُضَاة بَهَاء الدّين أبو المَحَاسِن يُوسُف بن رَافع بن تَمْيم، قال: أخْبَرَنا الحَافظُ أبو بَكْر مُحمَّد بن علىّ الجيَّانيّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْدِ الجبَّار بن مُحمَّد بن أحمد الخُوَارِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن عليّ بن أحمد بن مُحمَّد الوَاحِدِيُّ المُفَسِّر، قال
(2)
: قَوْلُه {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}
(3)
قال قَتَادَةُ: هي الشَّامُ.
(a) ضبطها في الأصل بضم الأول: بلُدي.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 123.
(2)
تفسير الواحدي 1: 314.
(3)
سورة المائدة، من الآية 21.
بابٌ في ذِكْرِ قُوَيْق؛ نَهْر حَلَب
(1)
، ومَخْرجه، وما وَرَدَ فيه
ولَهُ مَخْرجان شاهَدتُّهُما، وبين حَلَب وبينهما أرْبَعة وعشرون مِيْلًا، أحدُهُما في قَرْيَةٍ يُقالُ لها الحُسَيْنِيَّة؛ بالقُربِ من عَزَاز، يَخْرج الماء من عَيْن كَبيرة، فيَجْري في نَهْر، ويَخْرج بين جَبَلين حتَّى يقع في الوَطاة الّتي قبلي الجَبَل المُمتدّ من بلّد عَزَاز شَرْقًا وغَربًا، والمَخْرج الآخر يَجْتَمع من عُيُون ماءٍ من سُنْيَاب
(2)
، ومن قُرَىً حولها كُلّها من بَلَدِ الراَّوَنْدَان، فتَجْتَمع تلكَ الأعْينُ وتَجْري في نَهْر يخرجُ من فَم فَجّ سُنْيّاب، فيقَع في الوَطاة المَذْكُورَة، ويجْتَمع النَّهْران فيصيران نَهْرًا واحدًا في بلد عَزَاز، وهو نَهْر قُوَيْق، ثمّ يَجْري إلى دَابِق ويَمُرُّ بَمَدِيَنة حَلَب، وتَمدّه عُيُون قبل وُصُوله إليها، وكذلك بعد أنْ يتَجاوز حَلَب، وتمدّه عين المُبارَكة فيَقْوى وتَدُور عليه الأرْحَاء، ويَسْقي في طَرِيقه مَوَاضع كَثِيْرة حتَّى يَنْتَهي إلى قِنَّسْرِيْن، ثم يَمُرّ إلى المَطْخ، فيَغِيْض في الأَجَم.
(1)
نهر قُوَيقْ: ويسمى نهر حلب، لأنه يعبر بها من الشمال إلى الجنوب، وأيضًا نهر العَوَجَان، منبعه من قرية تدعى سُنياب، بالقرب من عينتاب، ويسير باتجاه الجنوب فيمر على حلب ثم على قنسرين، وينتهي إلى مرج الأحمر (تل السلطان) وبحيرة المطخ (المتخ)، ويبلغ طول هذا النهر 150کم، وهو كبير في الشتاء، صغير في الصيف، وإلى مثل هذا أشار ياقوت:"أنه في الصيف ينشف فلا يبقى إلَّا نزوز قليلة، وأما في الشتاء فهو حسن المنظر طيب المخبر .. وماؤه أعذب ماء وأصحه". وكان شرب أهل حلب منه، فيدخل البلد في قناة تجري في الشوارع والأسواق والدار. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 177، ابن رستة: الأعلاق 91، سهراب: عجائب الأقاليم 144، ابن حوقل: صورة الأرض 178، رحلة ابن بطلان 76، المقدسي: أحسن التقاسيم 155، الإدريسي: نزهة المشتاق 2: 648 - 149، الإسكندري: الأمكنة 2: 384، رحلة ابن جبير 228، ابن سعيد: بسط الأرض 87، ياقوت: معجم البلدان 4: 167، 417، أبو الفداء: تقويم 267، الوطواط: مناهج الفكر 1: 362، ابن الشحنة: الدر المنتخب 135، الحميري: الروض المعطار 357، 474، 486، کامل الغزي: نهر الذهب 1: 47 - 55، موستراس: المعجم الجغرافي 251، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 625، (وفيه: إن طوله يبلغ 126 كم منها 110کم داخل سوريا).
(2)
ضبطها في هذا الموضع بكسر السين.
وحكَي لي والدي، رحمه الله، قال: يُقالُ إنَّ نَهْر قُوَيق يَغِيْض في المَطْخِ، ويَخْرج إلى بُحَيَرة أفَامِيَة، وأنَّ قُوَيْق إذا مَدَّ في الشَّتَاء احْمرَّ ماء بُحَيَرة أفَامِيَة، فاسْتَدلُّوا بذلكَ على ما ذكرنَاهُ.
ومَسَافَة ما بين مَغِيْضه إلى أفَامِيَةَ مِقْدَار أرْبَعة عَشر مِيْلًا.
وقال أبو زَيدٍ البَلْخِيّ في تاريخه
(1)
: ومَخْرجُ نَهْر حَلَب من حُدُود دَابِق، دون حَلَب بثَمانية عشر مِيْلًا، ويَغِيض (a) في أَجَمَةٍ أسْفَل حَلَب.
وقال ابن حَوْقَل النَّصِيْبيّ في جَغْرَافيَا
(2)
وقد ذكَر حَلَبَ: ولها وادٍ يُعْرفُ بأبي الحَسَن قُوَيْق، وشِرْبُ أهْلِها منهُ، وفيه قليلُ طَفَس.
وذكَر الحَسَنُ بن أحمد المُهَلَّبيَّ العَزِيزِيّ في كتابِ المَسَالِك والمَمَالِك، الّذي صَنَّفَهُ للعَزِيز الفاطِميّ المُسْتَولِي على مِصْر، فذكَرَ حَلَب بما قَدَّمنا ذِكْره في صَدْر
(a) البدء والتاريخ: يفيض.
_________
(1)
البدء والتاريخ 4: 59، وتاريخ البلخي هذا، والذي ينقل عنه ابن العديم في ستة مواضع أخرى تالية، هو كتاب البدء والتاريخ الذي نشر منسوبا للمطهر بن طاهر المقدسي، وقد نصّ ابن العديم في موضع واحد (الجزء التاسع) على اسمه: كتاب البدء، بينما أشار له في بقية المواضع باسم تاريخ البلخي، واتَّفاق نقل ابن العديم عنه بالحرف، في كامل النصوص التي أخذها عنه، يؤشَّر على أن الكتاب من تأليفه، وعلى خطأ نسبته للمقدسي، ويحتاج الأمر إلى مزيد بحث ومقابلة.
ولم يرد اسم هذا الكتاب بين أسماء كتب البلخي الكثيرة التي عددها النديم (الفهرست 1/ 1: 247، 1/ 2: 428 - 431) وياقوت الحموي (معجم الأدباء 1: 274 - 275)، وابن الساعي: الدر الثمين 258 - 260، والصفدي (الوافي بالوفيات 1: 409 - 410)، وأغلب موضوعات مؤلفاته لا تتصل بالتاريخ أو بفنونه، ولم يصلنا من هذه المؤلفات التي بلغت 44 كتابًا سوى كتابين هما: كتاب "مصالح الأبدان والأنفس"، وقطعة مخطوطة ناقصة من كتابه "صور الأقاليم"، التي عوَّل عليها ابن العديم في التعريف بالكثير من مدن جند قنسرين، وتمت الإحالة عليها في أكثر من موضع.
(2)
صورة الأرض 178.
كتابنا هذا
(1)
، وقال: وشِرْبُ أهلِ حَلَب من نَهْر على باب المَدِينَة يُعرفُ بقُوَيْق، ويَكْنِيه أهْلُ الخلَاعَة أبا الحَسَن.
وقال أبو الحُسَيْن بن المُنَادي في كتابهِ المُسَمَّى بالحَافِظ، وأنْبَأنَا بذلك أبو القَاسِم الحَمَوِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر السَّلِفيّ إجَازَةً، عن أحمد بن مُحَمَّد الآبِنُوسِيَّ (a)، قال: ذَكَرَ أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي، قال: ومَخْرج قُوَيْق - نَهْر حَلَب - من قَرْيَةٍ تُدْعَى سُنْيَاب على سبْعَة أمْيَالٍ من دَابِق، ثمّ يَمُرّ إلى حَلَب ثَمانية عَشَر مِيْلًا، ثمّ إلى مَدِينَة قِنَّسْرِيْن اثنى عشر مِيْلًا، ثمّ إلى مَرْج الأحْمَر اثنى عَشر مِيْلًا، ثمّ يَغِيضُ في الأَجَمَةِ، فمن مَخرجِهِ إلى مَغِيضِه مِقْدَار اثنين وأربعينَ مِيْلًا.
وذكَرَ أبو عَبْدِ اللهِ مُحمَّد بن أحمد الجَيْهَانيَّ في كتابِهِ، قال: ويَخْرج قُوَيْقُ -نَهرُ حَلَب- من قَرْيَةٍ تُدعَى سُنْيَاب، على سَبْعَة أمْيَالٍ من دَابِق، ثمّ يَمرّ إلى حَلَب ستَّة عَشر مِيْلًا، ثمّ إلى مَدِينَة قِنَّسْرِيْن اثنا عشر مِيْلًا، ثمّ إلى مَرْج الأحمر اثنا عَشر مِيْلًا، ثمّ يَغِيْضُ في الأَجَمَة.
وقال أحمدُ بن مُحمَّد بن إسْحَاق الهَمَذَانيَّ المَعْرُوفُ بابنِ الفَقِيه
(2)
، فيما قرأتُهُ في كتاب البُلْدان وأخْبارها من تأليفه، قال: مَخرجُ قُوَيْق -نَهْر حَلَب- من قَرْيَةٍ تُدعَى بسُنْيَاب على ستَّة أمْيَالٍ من دَابقِ، ثمّ يَمرّ إلى حَلَب ثمانية عشر مِيْلًا، ثمّ يَمُرّ إلى مَدِينَة قِنَّسْرِيْن اثنا عَشَر مِيْلًا، ثمَّ يَغِيضُ في الأَجَمَة؛ فمن مَخرجِه إلى مَغِيضِه اثنان وأربعونَ مِيْلًا.
(a) ضبطه في الأصل بفتح الباء.
_________
(1)
تقدم في "باب في ذِكْرِ صِفَة مَدينة حلب، وعمَارتها، وأبُوابها، وما كانت عليه أوَّلًا، وما تَغَيَّر منها وما بَقي".
(2)
ضمن الضائع من كتاب ابن الفقيه.
قُلْتُ: وهذا مَرْج الأحْمر هو المَرْج المَعْرُوف الآن بمَرْج تلِّ السُّلْطَان، ولا يُعْرف الآن بمَرْج الأحمر؛ ويُعرفُ قُوَيْق تحت جَبَل جَوْشَن بالعَوَجَان، لاعْوجَاجِه في ذلك المَوْضِع. قال الصّنَوْبَريّ من أبياتٍ
(1)
: [من المنسرح]
والعَوَجَانُ الّذي كَلفْتُ بهِ
…
قد سُوَّيَ الحُسْنُ فيهِ مُذْ عُوّجْ
وقال أبو نَصْر مَنْصُور بن المْسَلَّم بن أبي الخُرْجَين الحَلَبيَّ من أبْياتٍ
(2)
: [من الطويل]
هل العَوَجَان الغَمْرُ صافٍ لوَارِدٍ
…
وَهَل خَضَّبَتْهُ بالخَلُوق مُدُودُ
وكان سَيْف الدَّوْلَة ابن حَمْدَان، لَمَّا ابْتَنى قَصْره بالحَلْبَة، سَاقَ نَهْر قُوَيْق من المَوْضِع المَعْرُوف بالسَّقَّايات وأدْخَلهُ في قَصْره في شُبَّاكٍ يَجْري في القَصْر، ثم يَخْرج من جانبهِ القِبْليّ في شُبَّاكٍ آخر، ثمَّ يصبّ في النَّهْر الأصْليَّ عند المَوْضِع المَعْرُوف بالفَيْض؛ وكان قد رأى في منامِه كأنَّ حَيَّة قد تطوَّقَتْ على داره، فعَظُم عليه ذلك، فقال لَهُ بعضُ المُفَسِّرين: الحيَّةُ في النَّوم: ماءً، فأمَرَ بحَفْرٍ يُحْفَرُ بين داره وبين قُوَيْق حتَّى أدارَ الماء حول الدَّار، وقضَى الله أنَّ الرُّوم خَرجُوا، فصبَّحُوا حَلَب، واسْتَولَوا على دارِ سَيْف الدَّولةِ، وأخَذوا منها أموالًا عَظِيمَة، وذلك في سَنة إحْدى وخَمْسين وثَلاثِمائة، وخَرِبَتِ الدَّار، فعادَ النَّهرُ إلى ما هو عليه الآن.
أخْبَرنا تَاجِ الأُمَناء أحمد بن مُحمَّد بن الحَسَن الدَّمَشْقيِّ كتابةً، واجْتمَعتُ بهِ في مجلسِ شَيْخنا أبي اليُمْن الكِنْدِيّ بدِمَشْق، قال: أخْبَرَنا عَمَّي الحافِظُ أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن الدَّمَشْقيِّ
(3)
، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم نَصْر بن أحمد بن
(1)
ديوان الصنوبري 404، وضبطه في الديوان:"مُذ عَوَّج"، وانظر: نهاية الأرب 1: 282.
(2)
البيت والقصيدة في خريدة القصر 12: 174.
(3)
تاريخ ابن عساكر 21: 11.
مُقَاتِل السُّوْسِيّ، قال: أخْبَرنا جَدَّي أبو مُحمَّد، قال: حَدَّثَنا أبو عَليّ الأهْوازيّ، قال: حَدَّثَنا أبو القاسم حَمْزَةُ بن عَبْدِ الله بن الحُسَين الأديبُ، قال: حَدَّثَنا أبو نَصْر مُحمَّد بن مُحمَّد بن عَمْرو النَّيْسَابُوريُّ، حَدَّثَني يَحْيَى بن عليّ بن هاشِم، قال: حَدَّثَنا عَبْدِ المَلِك بن دَلِيْل، قال: حَدَّثَنا عبَّاس الحَذَّاء، عن سعيد بن إسْحَاق الدَّمَشْقيّ في قَوْل اللهِ عز وجل:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
(1)
على نَهرٍ بحَلَبَ يُقالُ لهُ قُوَيْق.
وقد ذكَرَ قُوَيْق جَمَاعَةٌ من الشُّعَرَاءِ، ووَصَفُوه؛ فمنهم الوَزِير أبو القَاسِم الحُسَيْن ابن عليّ المَغْربيّ قال فيهِ، وقرأتُها في دِيْوَان شعره
(2)
: [من الكامل]
أمَّا قُوَيْقُ فلَا عَدَتْهُ مُزْنَةً
…
من خِدْرِها بَرَزَ الغَمامُ الصَّيَّبُ
نَهْرُ لأبْناءِ الصَّبَابةِ مَعْشَقٌ
…
فيهِ وللصَّادِي المُلوَّح مَشْرَبُ
لا زال يُدْرِمُ تحتَ وَسْق مُكلَلٍّ
…
عَمَمٍ يُقدَّحُ مَنْكبيهِ وَيَنكبُ
ممَّا تَمَناهُ الرَّبِيْعُ لرِيّهِ
…
أيَّامَ ظِمءٍ، رياضِهِ لا تُقْرَبُ
فَرْدُ الرَّبابِ يَقُولُ شائمُ بَرْقهِ
…
من أين رُفَّعَ ذا الفَرِيقُ (a) المُهْدبُ
والغَيْثُ في كِلَلِ السَّحَابِ كأنَّه
…
مَلِكٌ بقَاصيَةِ الرّواقِ مُحَجَّبُ
صَخِبُ الرّعُود وإنَّما هي ألْسُنٌ
…
فأمرُّهُنَّ اللّوذَعِيُّ المسْهبُ
راعى الضُّحَى في حين غِرَّة أَمْنِهِ
…
فسَنَاهُ مَخْطُوفُ الأَضَاءةِ أكْهَبُ
جَذلان إنْ هتَكَ اللّثَامَ بدا لَهُ
…
خَدُ بجادِيّ البَوارق مُذْهَبُ
والأرْضُ حَاسِرَةٌ تَوَدُّ لَو أنَّها
…
مِمَّا يُحبِّرُهُ الرَّبِيْعُ تَجَلْبَبُ
(a) الديوان: الغريق.
_________
(1)
سورة آل عمران، من الآية 44.
(2)
ديوان الوزير المغربي 115 - 116، ومصدر تخريجها في الديوان من ابن العديم.
وقال أبو بَكْر أحمد بن مُحمَّد الصَّنَوْبَريّ، وقد أنْشدَنا بعض قَوْله القَاضِي أبو القَاسِم ابن مُحمَّد قاضي دِمَشْق بها، قال: أنْشَدَنا أبو الحَسَن عليّ بن المُسَلَّم السُّلَمِيّ، قال: أخْبَرنا أبو نَصْر الحُسَيْن بن مُحمَّد بن طَلَّاب، قال: أنشَدَنا أبو الحُسَيْن مُحمَّد بن أحمد ابن مُحمَّد بن جُمَيْع، قال: أنَشَدَني أبو بَكْر الصَّنَوْبَريّ
(1)
:
قُوَيْقٌ لَهُ عَهْدُ لدينَا وميثَاقُ
…
وهذِي العُهودُ والمواثيقُ أطْواَقُ
نَفي الخَوفَ أنَّا لا غَرِيقُ تَرَي لَهُ (a)
…
فنحنُ على أَمْنٍ وذا الأَمْنُ أرْزَاقُ
ونَزَّهَهُ إلَّا سَفينَةَ تمتَطِي
…
مَطَاهُ لها وخْدُ عليهِ وإِعْنَاقُ
وأنْ ليسَ تَعْتاقُ التمَّاسيحُ شُرْبَه
…
إذا اعْتاق شُربَ الِنّيْل منهنَّ مُعْتاقُ
ولا فيهِ سِلَّورُ ولو كانَ لم أَكُن
…
أرَى أنَّهُ إلَّا حَميمُ وغَسَّاقُ
بَلَى تُعْلِنُ (b) التَّسْبيحَ في جَنَباتِه
…
عَلاجِمُ بالتَّسْبِيِح مُذ كُنَّ حُذَّاقُ
أقامتْ به الِحْيتانُ سُوْقًا ولم تَزلْ
…
تُقامُ على شَطَّيهِ للطَّير أسْواقُ
وَسُربلَ بالأرْجاءِ مَثْنَى ومَوْحدًا
…
كما سَرْ بلَتْ غُصْنًا من البان أوْراقُ
وفَاضَتْ عُيونُ من نَواحيه ذُرَّفُ
…
ولَمَّا تُعاونها جُفُونُ وآمَاقُ
هُو الماءُ إن يُوصَفْ بكُنه صفَاتِهِ
…
فللماءِ إغْضَاءُ لديه وإِطْراقُ
ففي اللَّون بَلُّورُ وفي اللَّمع لُؤلؤٌ
…
وفي الطِّيبِ قِنْدِيْدُ وفي النَّفع دِرْياقُ
إذا عَبَثَتْ أَيْدي النَّسِيْم بَوجْههِ
…
وقَدْ لَاح وَجْهُ منهُ أبْيَضُ بَرَّاقُ
فطورًا عليهِ منْهُ دِرْعُ خَفِيْفَةُ (c)
…
وطورًا عليهِ جَوْشَنُ منه رَقْراقُ
(a) في الديوان: لا غريق حِياله، والمثبت يوافق ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 331، وابن الشحنة: الدر المنتخب 137.
(b) في الديوان: يعلن.
(c) اسْتَصوب ابن العديم بديلًا لها وجده أجود مما في الأصول فكتب إزاءها في الهامش: رقيقة، وعليها حرف (ح) علامة على التحويل لقارئ متذوق.
_________
(1)
ديوان الصنوبري 357 - 359.
وَلَم يَعْدهُ نَيْلَوْفَر مُتَشَوّفُ
…
بأَرْؤُس تبْرٍ والزَّبرجَدُ أَعْنَاقُ
لَهُ ورقٌ يَعْلُو (a) على الماءِ مُطبَقٌ
…
كأطباق مَدْهُونٍ يَليهنَّ أطْبَاُق
يَهَابُ قُوَيْقٌ أنْ يُمَلَّ فإنَّما
…
يُقيم زمانًا ثمّ يمضي فيَشْتاقُ
وقَدْ عَابَهُ قَوْمٌ وكُلَّهمُ لَهُ
…
على ما تَعاطَوْهُ من العَيْب عَشَّاقُ
وقَالُوا أليْسَ الصَّيْفُ يُبْلي لبَاسَهُ (b)
…
فقُلتُ الفَتي في الصَّيْفِ يُقْنعهُ طاقُ
وَمَا الصُّبْحُ إلَّا آيب ثمّ غائبٌ
…
تُوارِيْهِ آفاقٌ وتُبْدِيه آفَاقُ
ولا البَدْرُ إلَّا زائدٌ ثمّ ناقصٌ (C)
…
لَهُ في تَمامِ الشَّهْر حَبْسٌ وإطْلاقُ
وَلو لَم تطَاوَل غيْبَةُ الوَرْدِ لم تَتُقْ
…
إليهِ قُلُوبٌ تَائقاتٌ وأحْدَاقُ
ولو دَامَ في الحُبّ الوِصَالُ ولم يَكنْ
…
فراقٌ ولا هَجْرٌ لَمَا اشْتَاق مُشْتَاقُ
وفَضْلُ الغنَى لا يَسْتَبينُ لذي الغني (d)
…
إذا لم يُبِيّنْ ذلك الفَضَل إمْلاقُ
قُوَيْقُ رسِيْلُ الغَيْثِ يأتِي ويَنْقَضِي
…
ويأبي (e)، انْسياقًا تارةً ثُمّ يَنْسَاقُ
قرأتُ هذه الأبيات بخَطِّ أحْمد بن خَلَف المُمَتَّع، وقال: قال القاضي أبو عَمْرو عُثْمان بن عَبْدِ الله الطَّرَسُوسيِّ: حَدَّثَنا أبو العبَّاس عَبْدِ الله بن عُبَيْد الله الصّفريّ، قال: وأنْشَدَني -يَعْني الصَّنَوْبَريّ- لنَفْسِه يصفُ قُويْقًا ويحنّ لهُ، وهذا ممَّا أبدَع فيهِ.
وقال الصَّنَوْبَريّ أيضًا في قُوَيْقٍ وقد مَدّ
(1)
: [من مخلع البسيط]
اليَوْمُ يا هَاشِميُّ يوم
…
لِباسُهُ الطَّلُّ والضَّبَابُ
(a) كتب في الهامش: يَطْفُوا، وعليها حرف (ح).
(b) الديوان: ثيابه.
(c) في الهامش: ناقص ثم زائد،
وفوقها حرف (ح).
(d) الأصل: لدى الفتي، والتصويب من الديوان.
(e) الأصل: ويأتي، والمثبت من الديوان وهو الأظهر.
_________
(1)
ديوان الصنوبري 391، وانظر: المحب والمحبوب 4: 220، ابن الشحنة: الدر المنتخب 140.
عيَّدَ في عِيْدنا قُوَيْقٌ
…
وخَلَّقَتْ وَجْهَهُ السَّحَابُ
مَا لَوَّنَ الزّعْفَرانُ ما قَدْ
…
لَوَّنَ مِنْ مَائهِ التُّرَابُ
تَذْهَبُ أمْوَاجُهُ كخَيْلٍ
…
شُقْرٍ، لها وسْطَهُ ذِهَابُ (a)
فبادِر (b) الشُّرْبَ قَبْلَ فَوْتٍ
…
قد بَرَدَ الماءُ (c) والشَّرَابُ
وقال الصَّنَوْبَريّ
(1)
أيضًا فيهِ: [من الطويل]
رِياضُ قُوَيْقٍ لا تَزَال مُرَوَّضَهْ (d)
…
يُجَاورُ فيها أحْمَرُ اللَّونِ (e) أبْيَضَهْ
يُعَارِضُنا كَافُورُه (f) كُلَّ شارقٍ
…
إذا ما الصَّبا مَرَّتْ بهِ مُتَعَرَّضَهْ
لَدَى العَوَجانِ المُسْتَفادَة عندَهُ
…
مغانٍ (g) على حَثِّ الكُؤوس مُحَرَّضَهْ
إذا ما طفَا النَّيْلَوفَرُ الغَضُّ فَوْقَه
…
مفَتَّحةً أجْفَنانُه أو مُغْمَّضَهْ
حَسِبْتَ نُجُومًا مُذْهَباتٍ تَتابَعَتْ
…
فُرادَى ومَثْنَى في سَمَاءٍ مُفَضَّضَهْ
أنْشدَنا ضِيَاء الدَّين الحَسَينُ بن عَمْرو المَوْصِليّ المَعْرُوفُ بابنِ دُهْن الحَصَا النَّحْويّ بقراءتي عليهِ، قال: أنشَدَنا الخَطِيبُ بالمَوْصِل أبو الفَضْل عَبْدِ الله بن أحمد ابن الطُّوسِيّ، قال: أنْشَدنا الخَطِيبُ أبو زَكَرِيَّاء يَحْيَى بنُ عليّ التَّبْرِيْزِيُّ إجَازَةً، قال: أنْشَدنا أبو العَلاءِ أحمدُ بن عَبْدِ الله بن سُلَيمان المَعَرِيّ
(2)
لنَفْسِه من أبياتٍ كتبَ بها إلى ابن جَلَبَات المَعَرِّيّ:
ونكَّبَ إلَّا عن قُوَيْقٍ كَأنَّهُ
…
يُظُنُّ سَواهُ زائدًا في أُوَامِهِ
(a) الديوان: لها وسطَها عِرابُ.
(b) الديوان: فباكر.
(c) الديوان: برد الشَّربُ.
(d) الديوان: مريضه.
(e) الديوان: الزهر.
(f) الديوان: كافورها .... بها.
(g) الأصل: معانٍ، والمثبت من الديوان.
_________
(1)
الديوان 222، وانظر: ابن الشحنة: الدر المنتخب 140.
(2)
سقط الزند 102 - 103.
بعِيْسٍ تُقَضِي الدَّهْر جَرْيًا (a) كأنَّها
…
مُفَتِّشةٌ أحْشَاءَه عن كِرامهِ
تذكَّرْنَ من ماءِ العَوَاصِم شَرْبةً
…
وزُرْقُ العَوَالي دونَ زُرْق جِمَامِهِ
فلَو نطَقَ الماءُ النَّميرُ مُسَلَّمًا
…
عليهنَّ لَم يَرْدُدْنَ رَجْعَ سَلامِهِ
ومُلْتَثم بالغَلْفَق الجَعْدِ عَرَّسَتْ
…
عليهِ فَلَم تَكْشِفْ خَفِيَّ لثَامِهِ
وكم بينَ ريفِ الشَّام والكَرْخ منْهَلًا
…
مَوارِدُهُ مَمْزُوجَةٌ بسِمَامهِ
وأنْشَدنا الحَسَن بن عَمْرو، قال: أنشَدَنا أبو الفَضْل الخَطِيبُ، قال: أنشَدنا أبو زَكَرِيَّاء التَّبْرِيْزِيّ في كتابهِ، قال: أنْشَدَنَا أبو العَلاءِ المَعَرَّيُّ
(1)
لنَفْسِه، وقَالَها وهو ببَغْدَاد:
طَربْنَ لضَوْءِ البارقِ المُتَعالِي
…
ببَغْدَاد وَهْنًا ما لَهُنَّ ومَا لِي
سمَتْ نحوَهُ الأبْصَارُ حتَّى كأنَّها
…
بنَارَيْهِ من هَنَّا وثَمَّ صَوَالِ
إذا طالَ عنها سرّهَا لو رُؤْوسُها
…
تُمَدُّ إليهِ في صُدُور (b) عَوَالِ
تَمنَّتْ قُوَيْقًا والصَّرَاةُ حِيَالَها
…
تُرَابً لها مِن أَيْنْقٍ وجِمَالِ
إذا لاحَ إيْماضٌ سَتَرْتُ وُجُوهَها
…
كأنَّيَ عَمْرٌو والمَطِيُّ سعَالِ
وكَم هو نِضْوٌ أن يَطيرَ مع الصَّبَا
…
إلى الشَّام لولا حَبْسَه بعقَالِ
أنْشَدَني أبو نَصْر مُحمَّدُ بن مُحمَّد بن إبرَاهِيم بن الخَضِر الحَلَبِيُّ لنَفِسه بدِمَشْق
(2)
: [من السريع]
مَا بَرَدَى عندي ولا دِجْلَهٌ
…
ولا مَجاري النَّيْل في مِصْرِ
(a) سقط الزند: تجوب الدهر جونًا.
(b) سقط الزند: رؤوس.
_________
(1)
سقط الزند 244.
(2)
الأبيات الثلاثة في الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 337، الدر المنتخب 139.
أَحْسَن مرأىً من قُوَيْقٍ إذا
…
أقْبَل في المَدِّ وفي الجَزْرِ
يا لهفَتَا منْهُ على جُرْعَةٍ
…
تَبُلُّ منِّي غُلَّةَ الصَّدْرِ
وممَّا قالهُ الصَّنَوْبَريّ
(1)
في قُوَيَّق: [من الكامل]
أمَّا قُوَيْقٌ فارْتَدَى بمُعَصْفرٍ
…
شَرقٍ بحُمرتِه الغَدَاةَ بياضُهُ
فكَأنَّما (a) فيما اكْتَسَى من صبْغِهِ
…
نَفَضَتْ شَقَائقَها عليهِ رياضُهُ
هذا يَصفُ قُوَيْق، وقد مَدَّ في الشَّتَاء واحْمرّ لونُ مائِه، ولا أعْلَمُ نهرًا إذا مَدَّ يكون أشدّ حُمْرةً من ماءِ قُوْيْق، لأنَّ السُّيُول الّتي تَسِيْل عليه تَمُرّ في البِقَاع التّي في بلدِ عَزَاز إلى حَلَب، وتُرابها كُلّها أحْمَر شَديدُ الحُمْرَة، فيَحمَرّ الماءُ لذلك، ويَكْتسي لَونًا حَسَن المَنْظر.
وقال الصَّنَوْبَريّ
(2)
في قُوَيْق: [من الطويل]
قُوَيْقٌ على الصَّفْراءِ رُكَّبَ جِسْمُهُ
…
رُبَاهُ بهذا شُهَّدٌ وحَدَائقُهْ
فإنْ جَدَّ جِدُّ الضَّيْفِ غَادر جِسْمَهُ
…
ضَئيلًا ولكنَّ الشَّتَاءَ يُوافقُهْ
يُريدُ أنَّ أصْحَاب الأمْزجَة الصَّفرَاويَّة تَنْحل أجْسَامهُم في الصَّيْف، ويوُافقهم الشَّتَاء، ويُريد أنَّ قُوَيْق يَقِلُّ ماؤهُ في الصَّيْف، وهو كذلك؛ لأنَّ النَّهْر يبقَى حَوْل المَدِينَة كالسَّاقية، لأنَّ أهل القُرَى يسقونَ من مائِه، والّذي يَصل منْهُ إلى حَيْلان يتقسَّمه أرْبابُ البَساتِيْن الشَّمَاليَّة يسقُونَها منه، فيَقلّ مَاؤُهُ لذلك، وربَّما انقَطع في بعض السَّنِيْن بالكُلَّيَّةِ لذلك، ولهذا قال ابن
(a) الديوان: فكأنَّه.
_________
(1)
ديوان الصنوبري 221، والدر المنتخب 139.
(2)
ديوان الصنوبري 359، والأعلاق الخطيرة 1/ 1: 335، والدر المنتخب 138.
حَوْقَل
(1)
فيما حَكيناهُ: وفيه قليل طَقَس. ثمّ يَزْداد قِبْليّ مَدِينَة حَلَب من عَيْن المُبارَكة، وتَدُور الأرْحَاء منها.
وللصَّنَوْبريّ
(2)
أبيات يصفُ فيها قلَّة ماءِ قُوَيْق في الصَّيْف؛ أنْشَدَني بعضَها والدي رحمه الله:
قُوَيْقٌ إذا شَمَّ رِيْحَ الشَّتَاءِ
…
أظْهَرَ تِيْهًا وَكِبْرًا عَجِيْبا
وَناسَبَ دِجْلَةَ والنَّيْلَ وَالـ
…
ــفُراتَ بَهَاءً وحُسْنًا وطِيْبَا
وإنْ أقْبَلَ الصَّيْفُ أَبْصَرْتَهُ
…
ذَلِيْلًا حَقِيْرًا حَزينًا كَئيِبًا
إذا ما الضَّفَادعُ نادَيْتَهُ
…
قُوَيْقُ قُوَيْقُ أَبَى أنْ يُجِيْبَا
فَيَأوِينَ مِنْهُ بقايا كُسِيـ
…
ـنَ مِنْ طُحْلُبِ الصَّيْفِ ثَوْبًا قَشِيْبَا
وَتَمْشِي الجَرادَةُ فيهِ فَلا
…
تَكادُ قَوائِمُها أنْ تَغِيبا
أنْشَدَني والدِي رحمه الله:
تَخُوضُ الجَرادَةُ في قَعْرِهِ
…
وتَأْبَى قَوائِمُها أنْ تَغِيْبَا
وقال الصَّنَوْبَريُّ
(3)
أيضًا في المعنَى: [من المتقارب]
قُوَيْقُ إذا شَمَّ ريحَ الشَّتَاءِ
…
تَشَمُّ الخلافةُ من جَيْبِهِ
وفي الصَّيفِ وَغْدٌ متى عِبْتَهُ
…
فَلَسْتَ مَلُومًا على عَيْبهِ (a)
(a) تنتهي الصفحة في الأصل في منتصفها، يليه فراغ يشغل الصفح المقابل أيضًا.
_________
(1)
صورة الأرض 178، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في هذا الباب وأيضًا عند كلام ابن العديم على حلب.
(2)
الديوان 385، وانظر الأبيات في: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 336 والدر المنتخب لابن الشحنة 139.
(3)
ديوان الصنوبري 396.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه توفيقي
بابٌ فيِ ذِكْرِ الفُرَاتِ
(1)
، ومَخْرجه، ومَعْرفة مَنْ حَفَرَهُ، وَمَا ورَدَ في فَضْلهِ
وإنَّما ذَكَرنَاه لأنَّهُ يمرُّ في عَمَل حَلَب من حَدّ مَلَطْيَة إلى أنْ يَتَجاوَز الرَّقَّة، وقد ذكَرْنا فيما أوْرَدناهُ في صَدْر كتابنا هذا عن كَعْب الأحْبَار، قال: إنَّ الله تعالَى بارَك في الشَّامِ من الفُرَاتِ إلى العَرِيْش؛ فيَدُلُّ ذلك على دخُوله في حَدَّ حَلَب.
والفُرَات بالتَّاء، هذا هو المَعْروف بالمنقُول.
(1)
نهر الفرات: من أهم أنهار منطقة غرب آسيا، وأكبرها مساحة، وأكثرها طولًا، فطوله من نقطة تشكله حتى التقائه بدجلة نحو 2335 کم، ومصادر مياهه تأتي من ذوبان الثلوج الساقطة في الشتاء فوق حوضه الأعلى الجبلي في تركيا، وهو ينبع من قاليقلا في الشمال الشرقي لتركيا من الهضبة الأرمينية المغطاة بالثلوج على ارتفاع يزيد على 3000 م، ويتكون الفرات من التقاء نهرين كبيرين، هما النهر الشمالي المعروف باسم نهر فرات (قره صو) الذي يجري في سهل أرضروم (أرزنكان)، والنهر الجنوبي وهو نهر مراد صو الذي ينبع من جبال آرارات، وملتقى النهرين في شمال مدينة كيبان التركية، فيحدثان نهر الفرات بعرض 100 م، ويرفده بعد خروجه من كيبان نهر القباقب (طوخمه صو)، الذي ينبع من جبال طوروس، وينحدر الفرات مارًا بسهل ملطية نحو الجنوب الغربي على هيئة قوس، ثم يتجه نحو الجنوب الشرقي مخترقًا جبال طوروس الجنوبية الشرقية، وبعدها يتجه جنوبًا فاصلًا أرض الجزيرة عن الشام، مارًّا بالعديد من المواضع مثل بلدة بيره جيك، ثم جرابلس (كركميش) وبالس (مسكنة)، ويجري باتجاه الجنوب الشرقي نحو الرقة، ثم يوالي جريانه باتجاه العراق. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 174، ابن الفقيه: البلدان 211، البلاذري: فتوح 191، قدامة: الخراج 155، 319، ابن حوقل: صورة الأرض 208، المسعودي: مروج 1: 117، سهراب: عجائب الأقاليم 119، البكري: المسالك 1: 233، الإدريسي: نزهة المشتاق 2: 650، (وفيه: أن منبعه من حومة قزالة من جبال متصلة بقاليقلا)، الوطواط: مناهج الفكر 1: 295، الحميري: الروض المعطار 439، لسترنج: بلدان الخلافة 152، طلاس: المعجم الجغرافي 1: 255، 4: 466 موستراس: المعجم الجغرافي 482، 948 - 945 Pp ، II ، -Furat Al، EI 2، De Vaumas . E
وقَرَأت بِخَطّ الحَافِظ أبي طَاهر السّلَفِيّ، في رسِالةٍ كَتَبها أبو الُمظَفَّر إبِرَاهِيم ابن أحمد بن اللَّيْث الأذْرِيّ إلى الكِيَا أبي الفتح الحَسَن بن عَبْد الله بن صالح الأصْبَهَانِيّ، يَذْكرلَهُ فيها سَفرتَهُ، قال في أثْنائها: إلى أنْ حَصَلنا بشَطّ الفُراَت، وهم يقُولونها: الفُراه، بالهاء، ولم أَكُ أحقُّها حتَّى قَرَأت في بعضِ الكُتُب أنَّه يُقالُ: فُرات وفُراَه، كما يُقال: عَنْکبُوتٌ وعَنكُبوهٌ، وتَابُوتٌ وتابُوهٌ، هذا على أنْ يكونَ لغةً لهم، ولا يكون على سَبِيْل الاعْتِقاب.
وذَكَر لي مَنْ شاهدَ مَخْرج الفُراَت من أرْزَنِ الرُّوم من جَبَل هُناك، قال: ويَخرجُ من جانبِه الآخر نَهْر جَيْحُون.
والفُراَتُ، إذا انْتَهى إلى الشَّام، ودَخَل في أرْضها، تَصُبُّ فيه أَنْهار مُتَعَدِّدة من أعْمَال حَلَب، شاهَدْتُها؛ منها: النَّهُر الأزْرَق، ويُعْرَفُ بَبَردا، وهو دونَ الدَّرْب على حدِّ بلادِ الرُّوم من الشَّام، ومنها نَهْر بَهَسْني، ومنها نَهْر رَعْبَان، ومنها نَهْر البَرْسَمان، ومنها نَهْر السَّاجُور، ويَجتَمع إليهِ أيضًا ذَوْبُ الثُّلُوج من الجِبَال الشَّاميَّةِ، فلهذا يكثُر ماؤُهُ، ويَمُدُّ عند إقْبالِ الصَّيْفِ، وعَقْد الرُّمَّان.
وقال أبو عَبْد الله مُحمَّد بن أحمد الجَيْهَانِيّ: الفُراَتُ طالعُهُ السُّنْبُلَة، وصَاحبُ السَّاعَةِ القَمَرُ، ونَهُر الفُراَتِ يَخْرجُ من بلادِ الروُّم فوق مَوضعٍ يُقالُ لهُ أبريق
(1)
،
(1)
أبريق: مدينة وإقليم من نواحي قاليقلا بثغور أرمينية، وذكرها الطبري (تاريخ 207) ناحية من بلاد الروم، كان منها خروج الروم على شمشاط سنة 242 هـ، وهي اليوم مدينة تركية تسمى Divrigi، وأبريق تسمية ولَّدها الجغرافيون العرب من التسمية اليونانية "أفريقس أو أفريك: Aphrike" والتسمية الرُّومية "تفريك: Tephrike"، ويرد الاسم مُحرَّفًا في بعض المصادر:(أبويق) ومنها مصادر نقل عنها ابن العديم، مثل كتاب دلائل القبلة لابن القاص 190 (وصححها المحقق في المطبوعة)، وسمّاها البلخي (حسب نقل ابن العديم الآتي عنه): أبويق صخر. وانظر أيضًا: سهراب: عجائب الأقاليم 137 وذكر نهرًا اسمه نهر أبريق، وابن رسته: الأعلاق النفيسة 93 (أبريق)، والمسعودي: مروج الذهب 5: 122، والتنبيه 183 (وفيهما: أبريق)، وانظر: لسترنج: بلدان الخلافة الشرقية 151 p ،ll ، Diwrigi ، EI 2 Thomine. - Sourdel . J
وانظر عن المواضع التي يمر فيها نهر الفرات إضافة للمصادر المتقدمة: قدامة: الخراج 155، الإدريسي: نزهة المشتاق 2: 650 وما بعدها، مجهول: غرائب الفنون 405، ابن سباهي زاده: أوضح المسالك 78 - 79.
فيُقْبل مع الشَّمَال حتَّى يَمُرّ بالجَزِيَرة والرَّقَّة، ثمّ يَخْدر إلى الكُوفَة وفي غربيّه بلاد الشَّام، وفي شَرقيّهِ بلادُ الجَزِيَرَة، ثمّ يَصُبُّ في البَطائِح بعد أنْ يتفَرَّق فيصير أَنْهارًا عِظَامًا، ومَصَبُّهُ في البطائحِ بمَوضع كَسْكَر. ويقَعُ في الفُراَت في أرْض الجَزِيَرة نَهْر الخاَبُور، فيَصُبّ في الفُراَتِ في مَوضعٍ يُسَمَّى قَرْقِيسِيَا.
وقال الحَسَنُ بن أبي الخَصِيْب الكَاتِب في كتاب الكَارِمِهْتَرْ في عِلْم أحْكام النُّجُوم
(1)
: الفُراَتُ: نَجْمُهُ العَذْراء.
وقَرَأتُ في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك، تأليفُ أحمد بن الطَّيَّب السَّرْخَسِيّ، قال: مَخارجُ الفُراَت من قَالِيْقَلا على فَرْسَخين من عَيْنٍ، يَمُرّ بأرْض الرُّوم، ويستَمدّ من عُيُون، ويَصُبُّ فيهِ أرْسَنَاس: نَهْر شِمْشَاط، ويجَيءُ إلى كَمْخ على مِيْلَين منِ مَلَطْيَة، ويخرجُ إلى حينيا (a) حتَّى يَبْلُغ إلى سُمَيسَاط، فيَحمل من هناك السُّفُنَ والأطْوافَ، ويَصُبُّ في أَنْهارٍ تتشعَّب منهُ بسَوادِ بَغْدَاد والكُوفَة في دِجْلَة.
وقال أحمد بن الطَّيَّب: عَلو هي الفُرَات.
أنْبَأنَا أبو مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن، وأبو العبَّاس أحمد، ابْنَا عَبْد الله بن عُلْوَان الأسَدِيَّان، قالا: أخْبَرَنا أبو طَاهر أحمد بن مُحَّمد الحافظُ إجَازَةً، عن أحمد بن مُحمَّد ابن الآبِنُوسِيّ، قال: ذَكَر أبو الحُسَيْن بن المُنَادي في كتاب الحاَفِظ، من تَلْخيصِه، قال
(2)
: ومخرَجُ الفُراَت من قَالِيْقَلا حتَّى يَمُرّ بأرْض الرُّوم، ويستَمدّ من عُيُون حتَّى يَخْرجُ على مِيْلَين من مَلَطْيَة، ثم يبلُغ إلى سُمَيْسَاط، فيَحْمل من هناك السُّفُنَ
(a) ك: جنينا، وترد فيما بعد -نقلًا عن ابن القاصّ- بالحاء المهملة، وعند سهراب 119 وقدامة: كتاب الخراج 155: هنزيط، ولعلها عربت (حنينا)، ووردت عند ابن خرداذبة 174: جبلتا، وذكر ياقوت هنزيط من الثغور الرومية، ولم يورد لها اسمًا آخر. معجم البلدان 5:418.
_________
(1)
تقدم التعريف بالكتّاب في باب ذكر أنطاكية أول هذا الكتاب.
(2)
نقله عنه ابن الجوزي في المنتظم 1: 160.
والأطْوَافَ، ثمّ يبلُغ إلى الكُوفَة من قُوَّة دِمِمَّا (a)، وإلى دِجْلَة من هنالكَ أيضًا، ومَصَابّهُ في دِجْلَة.
وقال أبو زَيْد البَلْخِيّ في تاريخه
(1)
: ومَخْرج الفُرَاتِ من أرْضِ الرُّوم من جبَال بها، من مَوضعٍ يُقالُ لهُ: أبريق (b) صخر، ويَمُرّ بالجَزِيرَة والرَّقَّة، وينحدر إلى الكُوقَة، ثمّ يَمُرّ حتَّى يَنْصَبُّ إلى البَطائِح فيَخْتلِط بدِجْلَة.
قال
(2)
: ويَخْرجُ (c) الخَابُور من رَأس عَيْن، ويستَمدُّ من الهِرْمَاسِ، ويَنْصَبُّ في الفُرَات.
أخْبَرنا عَبْدِ الله بن الحُسَيْن الأنْصاريّ، عن أبي طَاهِر السَّلفِيّ، قال: أخْبَرنا المُبارَك بن عَبْدِ الجَبَّار، قال: حَدَّثَنا أبو عَبْدِ الله الصُّوْرِيّ، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن الغَسَّانيَّ، قال: حَدَّثَنا أحمدُ بن مُحمَّد بن بَكْر الِهَّرانِيّ، قال: أخْبَرَنا العبَّاسُ بن الفَرَج الرَّيَاشِيُّ، قال: يُقالُ إنَّ الفُرَات جاءَ من بلادِ الرُّوم، فجاءَ حتَّى صَبَّ في دِجْلَة، وصَبَّتْ دِجْلَةُ في البَحْر، وعَطَفَ (d) البَحْر إلى عَدَن، ثمّ إلى جُدَّة.
قال الرَّيَاشِيُّ: وقال الأصْمَعِيُّ: هو من حَضْرَمَوْت إلى جُدَّة (e).
(a)" ك": قوة دمما، وفي المنتظم: من فوق دقما، ودِيِمَّا: قرية كبيرة على الفرات قرب بغداد عند الفلوجة. ياقوت: معجم البلدان 2: 471.
(b) الأصل: أبويق، والمثبت من كتاب البدء والتاريخ، وتقدم التعليق عليها.
(c) البدء والتاريخ: ومخرج.
(d) الأصل: وعطفت، وصوبه ابن العديم بهامش الأصل بالمثبت.
(e) في الأصل بالحاء المهملة مجودًا: حُدَّة.
_________
(1)
البدء والتاريخ 4: 58، وتقدمت الإشارة إلى تاريخ أبي زيد البلخي، الذي نُسب للمطهر بن طاهر المقدسي، ولم يرد في المتبقي من كتابه "صور الأقاليم" الكلام على مجرى الفرات.
(2)
البدء والتاريخ (المنسوب للمطهر المقدسي) 4: 58.
وقَرَأتُ في كتاب أحْمَد بن أبي أحْمَد بن القَاصّ، قاضي طَرَسُوس، في كتاب دَلائِل القبْلَة، قال
(1)
: ومَخْرجُ الفُرَات من قَالِيْقَلا من مَوضعٍ يُقالُ لهُ: أبربق (a) بينِ قَالِيْقَلا وبلاد الرُّوم، ثمّ يَنْحَدِر إلى نَاحيَةِ الكُوفَة، فيَتمّ فاصِلًا بين بلادِ الشَّام والجَزِيرة، ففي شَرْقيّهِ بلادُ الجَزِيرَة، وفي غَرْبَيّهِ بلاد الشَّام، فيَمُرّ على مِيْلَين من مَلَطْيَة، ويَخْرج إلى حينيا (b) حتَّى يبلغُ إلى سُمَيْسَاط، ويَمُرّ بقَرْقِيسِيا، ويَحْمل منها السُّفُن إلى الأطْراف، وآخر مصَبّه فيِ البَطائِح في مَوضعٍ يُقالُ لهُ كَسْكَر. والبَطائِحُ ثلاثُونَ فَرْسَخًا في ثلاثين فَرْسَخًا، حَدٌّ منها جَزِيرةُ العَرَب، وحَدّ منها أرضُ مَيْسَان (c)، وحَدٌّ منها دِجْلَةُ بَغْدَاد، وحَدٌّ منها مَصَبُّ الفُرَاتِ والنَّهْرَوَان، ويَمُرّ البَطائِح حتَّى يقَع في خَلِيْج أُبُلَّةَ (d) في بَحْر الهِنْد.
ووقَع إليَّ رسالةٌ في ذِكْرِ الدُّنْيا وما فيها من الأقالِيْم والجِبَال والأَنْهارِ والبِلادِ، ولَم يُسَمَّ واضِعَها، فنَقَلْتُ منها في فَصْلٍ ذَكرَهُ فىِ المَشْهُور من الأَنْهار الكِبَار في الرُّبْع المَسْكُوِن، ومَعْرفة ابْتدائها وانْتِهائها؛ قال: والمَشْهُور من هذه الأَنْهارِ الكِبَار اثنا عَشَر نَهرًا، وهي: الدِّجْلَةُ، والفُرَاتُ، والنِّيْل، وجَيْحُون، ونَهْر الشَّاش، وسَيْحَان، وجَيْحَان، ونَهْرُ بَرَدَان، ومِهْرَان، ونَهْر الرَّس، ونَهْر المَلك، ونَهْر الأهْوَاز، وجميع هذه الأَنْهار تَجْري فيها السُّفُن.
قال: فأمَّا الفُرَاتُ؛ فإنَّها تَخْرج وتَلْقى بلَد الرُّوم، ثمّ تتفرَّق على إقليم أَثُوْر، ونَتَشعَّب إليهِا الخَابُور، ثمّ تَدْخُل العِرَاق، وتَنْبطح خَلْف الكُوفَة، وتَلْقَى دِجْلَةَ منها أربَعُ شُعَب.
(a) الأصل: أبويق، وتقدم التعليق عليها.
(b) مهملة في الأصل، وتقدم التعليق عليها.
(c) في الأصل: مَشان، والتصويب من ابن القاص (مصدر النقل)، ومن ابن رسته: الأعلاق النفيسة 94 - 95. وقرية ميسان تقع بين البصرة وواسط.
(d) في الأصل مجودًا: الأيْلَة، "ك": أيلة، وهر تحريف ربما وقع في أصل كتاب ابن القاص الذي ينقل عنه ابن العديم. والمثبت يوافق ابن رستة: الأعلاق 94، وابن القاص: دلائل القبلة 191.
_________
(1)
ابن القاص: دلائل القبلة 190 - 191.
وأمَّا مَعْرفةُ مَنْ حَفَرَ الفُرَات:
فقد قيل: إنَّهُ خِلْقَةٌ من الله تعالَى لَم يَحْفرهُ أحَدٌ؛ فإنَّ أبوَي القَاسِم عَبْد الله بن الحُسَيْن الأنْصاريّ، وعَبْد الرَّحِيْم في يُوسُف بن الطُّفَيْل أجازا لنا عن أبي طَاهِر أحْمَد ابن مُحمَّد السِّلَفِيّ، عن أحْمَد بن مُحمَّد بن الآبِنُوسِيّ، قال: أُخْبرنَا عن أبي الحُسَيْن ابن المُنَادِي في كتاب الحَافِظ من تأليفه قال: حَدَّثنا مُوسَى بن إسْحَاق بن مُوسَى الخَطْمِيّ، قال: حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بن الحَارِثِ، قال: أخْبَرَنَا بِشْرُ بنُ عُمَارَة، عن أبي رَوْقٍ، عن الضَّحَّاك، عن ابن عَبَّاسٍ في قَوْلهِ {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ}
(1)
كذلك كانوا يَقْرؤونها وما عَمِلَتْ أيْديهم ذلك
(2)
؛ وَجَدُوه مَعْمُولًا، يعني: الفُرَاتَ ودِجْلَةَ ونَهْر بَلْخ، وأشْباهَهَا، وجَدُوه مَعمُولًا لم تَعْمَلُه أيديهم.
وقد قيل: إنَّ دَانيَال حَفَرَهُ. أخْبَرَنا زَيْدُ بن الحَسَن البَغْدادِيّ إذْنًا، ونَقَلْتُهُ من أصْلِ سَماعهِ، قال: أَخْبَرنا أبو القَاسِمِ هِبَةُ الله بنُ أحْمَد الحَرِيرِيُّ، قال: أخْبرَنا أبو القَاسِم بنُ البُسْرِيّ، عن مُحمَّد بن جَعْفر بن النَّجَّار، قال: يُقالُ إنَّ الفُرَات حَفَرَهُ دَانيَال مع الدِّجْلَةِ، وأنَّ الفُرَات يجيء من وادٍ يَقْطع الرُّوم، وأنَّ دِجْلَة يخرج ماؤُها من جَبَل بآمِد.
وأخْبَرَنا أبو اليُمْن الكِنْدِيّ إجَازَةً، قال: أخْبَرَنَا أبو مَنْصُور القَزَّازُ، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر أحمدُ بن عليّ بن ثَابِتٍ الخَطِيبُ
(3)
، قال: أخْبرنا عليّ بن مُحمَّد بن عَبْدِ الله المُعَدَّلُ، قال: أخْبَرَنا عُثْمانُ بن أحْمَد الدَّقَّاق، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بن أحمدَ بن البَرَاءِ، قال: حَدَّثَنَا الفَضْلُ بن غَانِم، قال: حَدَّثَنَا الهَيْثمَ بن عَدِيّ، عن الكَلْبِيّ، عن أبي الصالح، عن ابن عَبَّاسٍ، قال: أوْحَى اللهُ سُبْحانَهُ إلى دَانِيَال الأكْبَر أنْ
(1)
سورة يس، من الآيتين 34 - 35.
(2)
إشارة إلى تمام الآية: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} . سورة يس، الآية 35.
(3)
تاريخ بغداد 1: 361.
فَجِّر لعِبَادِي نَهْرين، واجْعَل مَغِيضَهُما البَحرَ، فقد أمْرتُ الأرْضَ أنْ تُطيعَكَ. قال: فأخَذَ قَناةً -أو قَصَبَةً- فَجَعَلَ يَخُدّها في الأرْض ويَتَّبعُه الماءُ، فإذا مَرَّ بأرضِ شَيْخٍ كبير أو يَتِيْمٍ ناشَدَهُ اللهَ، فيحَيدُ عن أرْضه، فعَوَاقِيْلُ دِجْلَة والفُرَات من ذلك.
وقال: أخْبَرَنا أبو بَكْر الخَطِيب
(1)
، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن أحْمَد بن مُحمَّد ابن أحْمَد بن حَمَّاد الوَاعِظ مَوْلَى بَنِي هاشِم، قال: أخْبَرَنا أبو عَليّ إسماعِيل بن مُحمَّد الصَّفَّار إمْلاءً، قال: حَدَّثَني أبو بَكْر مُحمَّد بن إِدْرِيس الشَّعْرَانيُّ، قال: حَدَّثَنا مُوسَى ابن إبْرَاهِيْم الأنْصاريّ، عن إسْمَاعِيْل بن جَعْفَر المَدَنِيّ، عنِ عُثْمان بن عَطَاءٍ، عن أبيه، قال
(2)
: أوْحَى اللهُ تعالى إلى دَانِيَال أنْ احْفِر لي سِيْبين نَهْرين بالعِرَاق، قال دَانِيَال: إلَهىِ؛ بأيّ مَكاتِل، وبأيّ مسَاحيّ، وبأيّ رِجَال، وبأيّ قُوَّة أحْفِر لك هذَيْن النَّهْرين؟ فأوْحَى اللهُ سُبحانَهُ، أنْ أعِدَّ سكَّة حَديدٍ وعَرِّضْهَا واجْعَلها في خشبَةِ، وألْقِها خَلْفَ ظَهْرِكَ، فإنِّي باعِثُ إليك المَلائِكَة يُعِيْنُونَكَ على حَفْرِ هذين السِّيْبَينَ؛ قال: ففَعَل، فحفَر، وكان إذا انْتَهى إلى أرْض أرْملةٍ أو يتيم حَادَ عنهُ، حتَّى حَفَر الدِّجْلَة والفُرَات، فهذه العَوَاقِيلُ الّتي في الدِّجْلَة والفُرَات من حَفْرِ دَانِيَال.
وأنْبَأنَا سَعيدُ بن هاشِم بن أحْمَد الخَطيبُ، عن أحْمَد بن مُحمَّد بن أحْمَد، عن أحْمَد بن مُحمَّد بن الآبِنُوسِيّ، قال: أخْبَرنا أَبو الحُسَيْن بن المُنَادِيّ، قال: ورُويَ عن ابن عَبَّاس أنَّ الله تعالَى أوْحَى إلى دَانِيَال الأكْبر، وكان بين نُوح وإبْرَاهِيْم صلَّى اللهُ عليهم أجْمَعِين، أنْ احْفِر لعِبَادِي نَهرَيْن ينتفِعُونَ بهما، فإنِّي قد أمَرْتُ الأرْضَ والماءَ أنْ يُطيْعَاك. فأخَذَ عصًا، ثمّ أقْبَل يَخُطّ في الأرْض، والماء يَتْبَعُهُ، يَمُرّ بالقرَاح والكَرْم والنَّهْر للشَّيخ وللمَرْأة وللصَّبيّ، فتقُول المرأةُ: نَحِّهِ عن كَرْمي وارْحمني لضَعْفيّ، فصَرف به حتَّى قَذفَهُ، فعَوَاقِيلُ دِجْلَة والفُرَات من ذلك.
(1)
تاريخ بغداد 1: 361 - 362.
(2)
المنتظم لابن الجوزي 1: 158.
وقد قيل: إنَّ مَلِكًا من مُلُوك العَجَم يُقالُ لهُ: جم شَاد هو الّذي حَفَرَ الفُرَات؛ فإنَّ البلخِيِّ ذَكَر فىِ تاريخه، وقال
(1)
: وفي كُتُب العَجَم إنَّ جم شَاد (a) حفَر سَبْعَة أَنْهار: سَيْحُون، وجَيْحُون، والفُرَات، ودِجْلَة، ونَهْر مُرَّان (b) بأرضِ السِّنْد. قالوا: ونَهْران لم يُسمَّيا لنا. وهذا غيرُ جائز ولا مُمكن، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ يُقال: هو سَاقَ ماءَ هذه الأنْهار إلى أراضِىِ البِلادِ فاسْتَعمرَها، واسْتَنزَلَها، وحَفَرَ الأنْهار منها، واللهُ سُبحانَهُ أعْلَم.
فَصْلٌ في تَفْضِيل مَاء الفُرَاتِ على غَيْرِه من المياهِ
أخْبَرَنَا أبو المُظَفَّر حَامِدُ بن العَمِيْد بن أميري القَزْوِيْنِيّ الفَقِيه القَاضِىِ بحَلَب، وأبَوَا مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن بن إبْرَاهِيم بن أحْمَد المَقْدِسِيُّ بنابُلُس، ومَحْفُوظ بن هِلال بن مَحْفُوظ الرَّسْعَنِيّ برَأس عَيْن، قالوا: أخْبرَتنا شُهْدَةُ بنْتُ أحْمَد الإِبَرِيّ -قالَ مَحْفُوظ: إجَازَةً- قالت: أخْبَرَنَا أبو الفَوَارِس طَرَّاد بن مُحمَّد الزَّيْنَبِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحسُيْن علىُّ بن مُحمَّد بن بِشْرَان، قال: أخْبَرَنَا الحُسَيْنُ بن صَفْوَان، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بن مُحمَّد بن أبي الدُّنْيا
(2)
، حَدَّثَنِي مُحمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ، عن عُبَيْد الله ابن مُحمَّد، عن حَمَّاد بن سَلَمَة، عن سِمَاك بن حَربٍ، قال: كان بَصرِي قد ذَهَبَ، فرأيتُ إبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحمن صلى الله عليه وسلم، فيما يَرى النَّائم، فَسَح عَيْنَيَّ وِقالِ: ائْتِ الفُرَاتَ، فَغُصْ فيهِ، وافْتَحْ عَيْنيكَ فيه، ففَعَلْتُ، فذهبَ ما كان بعَيْنَيّ.
(a) البدء والتاريخ: جم شاذ.
(b) البدء والتاريخ: مهران.
_________
(1)
البدء والتاريخ (المنسوب للمطهر المقدسي) 4: 60، وتقدم العليق على تاريخ البلخي.
(2)
رسائل ابن أبي الدنيا (رسالة مجابي الدعوة) 1: 806.
أنْبَأنَا أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَنِ الكِنْدِيّ، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم هِبَةُ الله ابن أحْمَد الحَرِيرِيُّ، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِم بن البُسْرِيّ، عن مُحَمَّد بن جَعْفَر ابن النَّجَّار، قال: وقالت الأطبَّاءُ: كُلُّ ماءٍ في نَهْر فَطِيرٌ إلَّا ماء فُرَات فإنَّهُ خَمِيْرٌ؛ لكثرة اخْتلاطِ الأهْويَةِ به، وتكسِير المَهْدَزانات
(1)
له، وهذه المَهْدَزاناتُ عُمِلَتْ لتَكْسِير حِدَّة الماءِ.
قُلتُ: وإلى زَمَننا هذا يُخْتار ماء الفُرَات للخُلفاءَ عِلى ماءِ دِجْلَةَ، فإنَّ دِجْلَة تَمُرّ ببَغْدَاد بدُوْر الخَلِيفَة، ويُحْمل الماءُ لشُرب الخلَيفَة من نَهْر عِيسَى، وهو نَهْرٌ يأتي مِن الفُرَاتِ، ويَصُبّ في دِجْلَة، حتَّى أنَّ السَّقَّائين ببَغْدَاد يُمْنَعُونَ أنْ يَسْتَقُوا للعَامَّةِ من نَهْر عِيسَى، فلا يُمَكَّن من الشُّرب منهُ إلَّا أهْل الدُّور الّتي هي على نَهْر عيسَى، وما يُقاربُهَا.
وقَرَأتُ فيما علقْتُهُ من الفَوائد: وقيل: إنَّ الفُرْس تُسَمِّي نَهْر الفُرَات عندَهُم نَهْر شيْر، وهو نَهْر الملك، وكانوا يَرَونَ سَقي الفُرَات وثَمارهُ أفْضَل من سَقي دِجْلَةَ وأحْلَى وأجْوَد.
بابٌ في ذِكْرِ ما جاءَ في فَضْلِ الفُرَات من الأحادِيْثِ والآثار
أخْبَرَنا أبو اليُمْن زَيْدُ بن الحَسَن بن زَيْد الكِنْدِيُّ، كتابةً، وسَمِعْتُهُ بدمَشْقَ في مَنْزلِه، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم هِبَةُ الله بن أحْمَد بن عُمَر الحَرِيرِيّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو القَاسِم بنُ البُسْرِيّ، قال: أخْبَرَنَا مُحمَّدُ بن جَعْفَر التَّمِيْمِيُّ إجَازَةً، قال: حَدَّثَنَا أبو القَاسِمٍ عَبْدُ اللهِ بن الحَسَن بن مَهْدِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن زَيْد الرَّطَّابُ، قال: أخْبرنا إبْرَاهِيْم بن مُحمَّد الثَّقَفِيّ، قال: أخْبَرَنَا يُوسُفُ بن بُهْلُول، قال: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ ابن سُلَيمان الكِلابِيّ، عن سَعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قَتَادَةَ، عن أنَس بن مالِكٍ،
(1)
لم أقف لها على تعريف سوى ما يُفهم من النصّ أعلاه.
عن مَالِك بن صَعْصَعَة، قال: أخْبَرَنَا نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ رفعَ لَهُ سدْرَة المُنْتَهى فرأى أربعَةَ أنْهارٍ يَخرُجن من أصْلِها. قُلتُ: يا جِبْرِيل ما هذه الأَنْهار؟ قال: أمَّا النَّهْران الظَّاهِرانِ فالنِّيْل والفُرَات، وأمَّا الباطنانِ فنَهْران في الجَنَّة.
وقد رَوَاهُ حَفْصُ بن عَبْدِ اللهِ السُّلَمِيّ، عن إبْرَاهِيْم بن طَهْمان، عن شُعْبَة بن الحَجَّاج، عن قَتَادَة، عن أنس، وذكَرَ فيه زِيَادةً.
أخْبرناهُ أبو مُحمَّد عَبْد العَزِيْز بن الحُسَيْن بن هِلالَة، قال: أخْبَرَنا أَسْعَدُ بن أبي سَعيد ابن رَوْح، قال: أخبرتنا فاطِمَةُ بنتُ عَبْد اللهِ الجُوْزَجانِيَّةُ (a)، قالت (b) أخْبَرَنا أبو بَكْر بن رِيْذَة، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم سُلَيمان بن أحْمَد الطَّبَرَانِيّ، قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بن إسْحَاق أبو عَوَانَة النَّيْسَابُوريّ الحَافِظ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن عَقِيْل النَّيْسَابُوريّ، قال: حَدَّثَنَا حَفْصُ بن عَبْدِ اللهِ السُّلَميّ، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيْم بن طَهْمان، عن شُعْبَة بن الحَجَّاج، عن قَتَادَة، عن أنَس بن مالِكٍ
(1)
، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: رُفِعَتْ لي سدرَةُ المُنْتَهى، فإذا أربعَةُ أنْهارٍ: نَهْران ظَاهرانِ ونَهْران باطنانِ، فأمَّا الظّاهِرَان فالنِّيْلُ والفُرَاتُ، وأمَّا الباطنَانِ فنَهْران في الجَنَّةِ، وأُتيتُ بثلاثة أقْدَاحِ، قدَح فيه لَبْنٌ، وقدَح فيه عَسَلٌ، وقدَح فيه خَمرٌ، فأخذْتُ الّذي فيه اللّبَن فشربْتُ فقيل: أصبْتُ الفِطْرَة أنْتَ وأُمَّتك.
(a) كذا وردت في الأصل، و"ك"، والأشْهَرُ: الجُوزْدَانيَّة، نسبةً لقرية جُوزْدَان أو كوزدَان على باب أصبهان (السمعاني: الأنساب 3: 401 - 403)، وضبط اليافعيّ نسبتها بالحرف. انظر: مرآة الجنان 3: 185، ويذكرها ابن العديم مرارًا على الوجهين فيما يلى.
(b) الأصل: قال.
_________
(1)
صحيح مسلم 1: 150 (رقم 264)، وفيه:"إنائين: لبن وخمر"، الطبراني: المعجم الكبير 19: 272 - 273، والمعجم الصغير 401 (رقم 1110)، الدارقطني: سنن 1: 25 (رقم 29)، الحاكم: المستدرك 1: 81، ابن حجر: فتح الباري 7: 301 - 303 (رقم 3887) و 10: 70 (رقم 5610)، المتقي الهندي: كنز العمال 11: 395 (رقم 31846)، الحلبي: السيرة الحلبية (إنسان العيون) 3: 125.
قال الطَّبَرَانِيّ
(1)
: لم يَرْوهِ عن شُعْبَة إلَّا إبْرَاهِيمْ بن طَهْمان، تَفرَّد به حَفْص ابن عَبْد اللهِ.
أخْبَرَنا زَيْد بن الحَسَن الكِنْدِيّ إذْنًا، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِمِ بن الطَّبَر، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِمِ بن البُسْرِيّ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن جَعْفَر التَّيْمِيُّ إجازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو سَعيد الأحْمسِيّ، قال: حَدَّثَنَا الحُسَيْن -يَعْني: ابن حُمَيْد- قال: حَدَّثَنَا يُوسُفُ في يَعْقُوب الصَّفَّارُ، قال: حَدَّثَنَا يِحْيَى بنُ سَعيد الأمَوِيُّ، عن عَبْد اللهِ بن سَعيدٍ المقَبُرىّ، عن جَدِّه، عن أبىِ هُرَيرَة، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
: نَهران مُؤْمنانِ: النِّيْل والفُرَات، ونَهْران كافران: دِجْلَة وبَرَدَى.
وفىِ رِوَايَةٍ أُخْرى بدَل بَرَدَى: نَهْر بَلْخ.
وأنْبَأنَا الكِنْديُّ، قال: أخْبَرَنا ابن الطَّبَر، قال: أخْبَرَنا ابن البُسْرِيّ، قال: أخْبَرَنَا التَّمِيْمىّ إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو سَعيد الأحْمَسيّ، قال: حَدَّثَنَا الحُسَيْن، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن إسْمَاعِيْل الوَاسِطِىّ، قال: حَدَّثَنَا علىّ بن عَاصِم، عن اللَّيْث بن سَعْد، أُرَاهُ عن عَطَاء، قال: دِجْلَةُ نَهر اللَّبَن في الجَنَّة، والفُرَاتُ نَهْر العَسَل، والنِّيْلُ نَهرُ الخَمْر في الجَنَّة.
وقُرئ على شَيْخنا أبي اليُمْن الكِنْدِىِّ: أخْبَركُم أبو مَنْصُور القَزَّاز، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر الخَطِيب
(3)
، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن أحمدُ بن مُحمَّد بن أحْمَد بن مُوسَى بن هارونُ بن الصَّلْتِ الأهْوَازِيُّ، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد اللهِ مُحمَّدُ بن مَخْلَد العَطَّار، قال: قَرأتُ على العبَّاس بن يَزِيد البَحْرانيّ، قُلتُ: حَدَّثكم مَرْوَانُ بن مُعاوِيَة، عن إِدْرِيسَ الأوْدِيّ، عن أبيهِ، عن أبىِ هُريَرَة أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال
(4)
: نَهْران من الجَنَّةِ: النِّيْلُ والفُرَات.
(1)
المعجم الصغير للطبراني 402.
(2)
تفسير روح المعاني للألوسي 13: 100، وفيه: جيحون بدل بردى.
(3)
تاريخ بغداد 1: 358.
(4)
المنتظم لابن الجوزي 1: 157.
وقد جاءَ في حديثٍ آخر عن أبي هُرَيْرَة أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال
(1)
: أربعَةُ أنْهارٍ من الجَنَّة: الفُرَاتُ وسَيْحانُ وجَيْحَانُ والنِّيْل.
ونحنُ نذْكرُ الحَدِيْث بإسْنَادِه في الباب الّذي يأتي بعد هذا في فَضْلِ سَيْحَان وجَيْحَان
(2)
.
أنْبَأنَا أبو المَحَاسِن سُلَيمانُ بن الفَضْل البَانيِاسِيّ، قال: أخْبَرَنا الحاَفِظُ أبو القَاسِم عليُّ ابن الحَسَن
(3)
، قال: أخْبَرَنَا أبو سَعْد أحمدُ بن مُحمَّد بن أحْمَد بن الحُسَيْن ابن البَغْدادِيّ، ح.
وأنْبَأنَا أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد القَاضِيّ، عن أبي سَعْد إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو الفَضْل المُطَهَّر بنُ عَبْد الوَاحِدِ بن مُحمَّد، قال: أخْبَرَنا أبو عُمَر عَبْد اللهِ بن مُحمَّد بن أحْمَد بن عَبْد الوهَّاب السُّلَميّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد عَبْدُ الله بن مُحمَّد بن يَزِيد الزُّهْرِيّ، قال: حَدَّثَنا عَمِّي عَبْد الرَّحْمن بن عُمَر بن يَزِيد أبو الحَسَن الزُّهْرِيّ يُعْرفُ برُسْتَةَ، قال: حَدَّثَنَا أبو دَاوُد، قال: حَدَّثَنَا المَسْعُودِيّ، عن القَاسم، قال
(4)
: مَدَّ الفُرَاتُ على عَهْدِ عَبْد اللهِ (a)، فكَرِهَ النَّاسُ ذلك، فقال عَبْدُ الله: يا أيُّها النَّاس؛ لا تَكْرهُوا مَدَّهُ، يُوشِكُ أنْ يُلْتَمَس فيهِ ملء طَسْتٍ من ماءٍ فلا يُوجَدُ ذلك، وذلك حين يرجعُ كُلّ ماءٍ إلى عُنْصُره، فتكون بَقِيَّة الماء والمؤمنُونَ بالشَّام.
والمَسْعُودِيّ: هو عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد الله بن مَسْعُود.
(a) أي عبد الله بن مَسْعُود.
_________
(1)
الحميدي: المسند 2: 491 (رقم 1163)، المتقي الهندي: كنز العمال 12: 345 (قم 35340)، وفيه تقديم وتأخير.
(2)
انظر فيما يلي من هذا الجزء: "باب في ذكر ما ورد في الحديث والسنة أن الفرات وسيحان وجيحان من أنهار الجنّة".
(3)
تاريخ ابن عساكر 1: 314.
(4)
انظره في: كتاب الملاحم لابن المنادي 295، كنز العمال 14: 569، الدر المنثور للسيوطي 3:529.
وذَكَرَ أبو زَيْد البَلْخِيّ في تاريخِه، قال
(1)
: وزَعمُوا أنَّ الفُرَات مَدَّ فرَمَى برُمَّانَةٍ شِبْهَ البَعِير البارِك (a)، وذلك في زَمَنِ مُعاوِيَة، فسُئلَ كَعْبُ الأحْبَار عن ذلك فقال: هي من الجَنَّةِ.
وقد رَواهُ جَعْفَر بن عَوْن العَمْريّ
(2)
، عن أبي عُمَيْس، عن القَاسِم مَوقُوفًا عليهِ، أنْبَأنَا به عَبْد الرَّحِيْم بن يُوسُف وغيره، عن أبي طَاهِر الحَافِظ، عن أحْمَد ابن مُحمَّد بن الآبِنُوسيّ، قال: أخْبَرَنا عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادِيّ، قال: وحَدَّثَنَا العبَّاسُ بن مُحمَّد -يعني: الدُّوْرِيّ - إمْلاءً، قال: حَدَّثَنَا جَعْفَر بن عَوْن العَمْريّ، قال: أخْبَرَنا أبو عُمَيْس، عن القَاسِم، قال: مَدّ الفُرَاتُ فجاءَ برُمَّانةٍ مثل البَعِير، فكانُوا يتحدَّثُون أَنَّها من الجَنَّة (b).
وأخْبَرَنا أبو اليُمْن الكِنْدِيّ، فيما أَذِنَ لَنا فيهِ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم الحَرِيرِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن البُسْرِيّ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن جَعْفَر التِّمِيْمِيّ إذْنًا، قال: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم عَبْدُ اللهِ بن الحَسَنِ بن مَهْدِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو جَعْفَر مُحمَّد بن زَيْد الرَّطَّاب، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيم بن مُحمَّد بن سَعيد الثَّقَفِيّ، قال: حَدَّثَني ابنُ أبي أُوَيْس الوَرَّاق، قال: حَدَّثَنَا جَعْفَر بن عَوْن، عن العُمَيْس، عن أبيهِ، قال: قَذَفَ الفُرَاتُ رُمَّانةً مثل البَعِير، فتحدَّث أهل الكتاب أَنَّها من الجَنَّة.
وقال مُحمَّدُ بن جَعْفَر التَّمِيْمِيُّ: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم بن مَهْدِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيم، قال: حَدَّثَنَي يَحْيَى بن الحَسَن بن الفُرَاتِ، قال: حَدَّثَنَا عليّ
(a) البدء والتاريخ: البازل.
(b) كُتبَ الخبر -دون السند- في الهامش مكررًا بخطٍّ مغاير.
_________
(1)
البدء والتاريخ (المنسوب للمقدسي) 4: 60، وتقدمت الإشارة إلى تاريخ البلخي المنسوب لغيره. وانظر شبيه كلامه عند ابن الوردي: خريدة العجائب 13.
(2)
نسبة إلى الصحابي عمرو بن حريث.
ابن بهيس (a)، قال: حَدَّثَني مُوسَى بن أبي الغَمْر، عن عَطَاءٍ الهَمْدَانِيّ، عن تَمِيْم بن حِذْيَم، قال: كُنَّا عند عليّ جلُوسًا فجاءه رَجُل فقال: يا أَمِير المُؤمِنِين؛ جاءَ البَارِحَة شيءٌ فسَكَر الفُرَات، ما نَدْري ما هُوَ! قال: فدَعَا بدُلْدُل فرَكِبَها، ورَكِبَ النَّاسُ معَهُ حتَّى انْتَهى إلى الفُرَاتِ، فقال: هذه رُمَّانَةٌ من رُمَّان الجَنَّةِ. فدعا بالرِّجال والحِبَالِ، فاستُخْرجَتْ، فقَسَم ما فيها، فما بقي أهلُ بيتٍ بالكُوفَة إلَّا وقد دخَلَهُ منها. قال عليّ: قال مُوسَى: قلتُ لعَطاءٍ: أرني المَوْضِعَ الّذي أراكَهُ تَميْمٌ، قال: فأرَاني المَضيق الزّمي (b).
وقال: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد، قال: حدَّثَنا إبْرَاهيم، قال: حَدَّثَنا إسماعِيلُ بن أَبَان، قال: حَدَّثَنا عَمْرو، عن جَابِر، قال: غَضِبَ الشَّعْبِيّ على رَجُلٍ من هَمْدَان اسمهُ عَبْد الرَّحْمن، فقال لي: ما لَهُ قاتلهُ اللهُ، كأنَّ رأسَهُ رُمَّانَة الفُرَاتِ، فقُلتُ: ياِ أبا عَبْدِ الرَّحْمن، وما قِصَّةُ رُمَّانةِ الفُرَات؟ قال: حَدَّثَني مَنْ زعَم أنَّهُ نظرَ إليها في زَمَنِ ابن أبي طَالب، أسْفَلها قد أفْرغ في أَسْفَلِ الوَادِي وأعلاها بارز، وذكَرَ أنَّه كان فيها حين كِيْل حَبُّها أَكْرارُ. وذَكَروا أنَّ عليًّا قال: إنَّ الفُرَات لَوَادٍ من أنْهارِ الجَنَّة.
وقال: حَدَّثَنا أبو القَاسِم، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد، قال: حَدَّثَنا إبرَاهِيم، حَدَّثَني عَبْد الرَّحْمن بن أبي هاشِم، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمن بن مُحمَّد العَرْزَمِيّ، عن أبيهِ، عن السُّدِّيّ، عن أبي أرَاكَة، قال: أُتي عليّ عليه السلام ذات يوْم فقيل لهُ: يا أَمِير المُؤمِنِين؛ هذه رُمَّانَةٌ قد سَدَّت الفُرَات، فقال: يا غُلَام بَغْلتِيّ، فرَكِبها ورَكِبَ النَّاسُ معَهُ، فإذا رُمَّانةٌ عَظِيمَةٌ، فأَمَر فأُنْشِبَتْ فيها الحِبالُ، ثمّ أمَرَ بها فأُخرجت، ثمّ هُدِمَتْ، فاسْتَخْرجُوا منها كُرَّيْن وأَقْفِزَةً، فقال عليٌّ: إنَّ نَهْركم هذا من أنْهارِ الجَنَّة، هذه الرُّمَانَة من رُمَّانِ الجَنَّة.
(a) مهملة الأول، وفي "ك": نهيس، ولم نجده في شيوخ ابن الفرات.
(b) كذا وردت في الأصل، وصورتها:
|
قال ابنُ العَرْزَمِيّ: فحدَّثتُ به عَمْرو الجُعْفِيّ، فذكَرهُ عن جَابرٍ، عن أبي أرَاكَة (a)، قال: كانت الحَبَّةُ منه مثل الكُمَّة العَظِيمَة.
أنْبَأنَا أبو اليُمْن بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أبو مَنْصُور القَزَّازُ، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر الخَطِيبُ
(1)
، قال: أخْبَرَنا إبْرَاهِيمُ بن عَبْد الوَاحد بن مُحمَّد بنِ الحُبَاب الدَّلَّال، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر مُحمَّد بن عَبْد الله بن إبرَاهيْم الشَّافِعِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد ابن أحمد ابن بُرْد، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن عِيسَى بن الطَّبَّاع، ح.
قال الخَطِيْبُ: وأخْبَرَنا أبو مَنْصُور مُحمَّد بن عِيسَي بن عَبْد العَزِيْز البَزَّاز بهمَذَان، واللَّفْظ له، قال: حَدَّثَنا أبو العبَّاس أحمدُ بن مُحمَّد بن الحُسَيْن الرَّازِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو بَكْر عَبْدُ الله بن مُحمَّد بِن طَرْخَان البَلْخِيُّ، قال: حَدَّثَنا أَحْيَد بن الحُسَيْن -قَرأْتُ (b) عليهِ- أنَّ مُحمَّد بن حَفْصٍ حدَّثَهم - قالا: حَدَّثَنا الرَّبِيْع بن بَدْر، عن الأَعْمَش، عن شَقِيْق، عن عَبْد الله بن مَسْعُود، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
: يَنْزل في الفُرَاتِ كُلَّ يوم مَثاقِيْلُ من بَرَكَةِ الجَنَّة.
وقال: أخْبَرَنا أبو بَكْر الخَطِيبُ
(3)
، قال: أخْبَرَنا القَاضِي أبو عُمَر القَاسِمُ ابن جَعْفَر بن عَبْد الوَاحِد الهاشِميّ بالبَصْرَة، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمن بن أحمد الخُتَّلِيّ، قال: حَدَّثَني عَبْدُ الله بن مُحمَّد بن عليّ البَلْخِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بنُ أَبَان، قال: حَدَّثَنَا أبو مُعاوِيَة، عن الحَسَن بن سَالِم بن أبي الجَعْدِ، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(4)
: ليسَ في الأرْض
(a) الأصل: أركة.
(b) كذا في الأصل، ومثله في إحدى نسخ تاريخ بغداد، وصححها المحقق: قراءةً عليه.
_________
(1)
تاريخ بغداد 1: 359.
(2)
أخرجه ابن الجوزي في المنتظم 1: 158، والسيوطي: الجامع الصغير 2: 763 (رقم 10024).
(3)
تاريخ بغداد 1: 360.
(4)
أبو شجاع الديلمي: الفردوس 3: 396 (رقم 5207)، السيوطي: الجامع الصغير 2: 463 (رقم 7668)، السيوطي: الفتح الكبير 3: 65، المتقي الهندي: كنز العمال 12: 216 (رقم 34736).
من الجَنَّة إلَّا ثلاثة أشياء: غَرْسُ العَجْوة، وأواقٍ تَنْزلُ في الفُرَاتِ كُلّ يوم من برَكَة الجَنَّة، والحَجَرُ.
أخْبَرَنا أبو مَنْصُور عَبْدُ الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن
(1)
، قال: أنْبَأنَا أبو الغَنائِم مُحمَّد بن عليّ بن مَيْمُون، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد اللهِ مُحمَّد بن عليّ بن الحَسَن الحَسَنيّ قِراءَةً عليهِ (a)، قال: أخْبَرَنا مُحمَّدُ بن عَبْد الله الجُعْفِيّ، قال: حَدَّثَنَا الحُسَيْن بن مُحمَّد بن الفَرزْدَق الفَزَارِيُّ، قال: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن عَبْدِ اللهِ المُحمَّديّ: سَمِعْتُ مُحمَّد بن أبي عُمَيْر يَذْكُر عن مُحمَّد بن مُسْلِم، قال: سألْتُ الصَّادِقَ عن قَوْل اللهِ عز وجل {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}
(2)
. قال: الرَّبْوَةُ: النَّجَفُ، والقَرار: المَسْجِدُ، والمَعيْنُ: الفُرَاتُ، ثمّ قال: إنَّ نَفَقَةً بالكُوفَة الدِّرْهَم الواحدُ يَعْدِل بمائة دِرْهَم في غيرها، والرَّكْعَة بمائة رَكْعَة، ومَنْ أحَبَّ أنْ يتوضَّأ بماءِ الجَنَّة، ويشْربَ من ماءِ الجَنَّة، ويغتَسِل بماءِ الجنَّةِ، فعليهِ بماءِ الفُرَات، فإنَّ فيه مَثْعَبَيْن (c) من الجَنَّة، ويَنْزل من الجَنَّةِ في كُلِّ ليلةٍ مِثْقالان مِسْك في الفُرَات.
أخْبَرَنا أبو الحَسَن بن أبي عَبْدِ الله بن أبي الحَسَن بن المُقَيِّر بالقَاهِرَة، أخْبَرَنا مُحمَّدُ بن نَاصِر السَّلَامِيُّ إجَازَةً، قال: أنْبَأنَا إبْرَاهِيمُ بن سَعيد بن عَبْدِ الله الحَبَّالُ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن أحمدُ بن مُحمَّد بن القَاسِم بن مَرْزُوق، قال: أخْبَرَنا أحمدُ بن عَبْد الرَّحْمن بن القَاسِم الحَرَّانيّ أبو صالح، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن عُمَر بن الحَسَن القَاضِيّ، قال: حَدَّثنا أبو بَكْر بن أبي الدُّنْيا، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمن بن صالح
(a) بعدها في الأصل: وكنّا نسمعُ، وضبّب عليها.
(b) جوّدها -حيثما ترد- بضم الراء، والضمُّ لغة فيها.
انظر: لسان العرب، مادة: ربا.
(c) في تاريخ ابن عساكر: شعبتين، والمثعبُ: منبع الماء ومَجراه من الحياض وغيرها، والجمع: مثاعب. لسان العرب، مادة: ثعب.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 213.
(2)
سورة المؤمنون، الآية 50.
الأزْدِىِّ، قال: حَدَّثَنَا يُونُسُ بن بُكَيْر، عن مُوسَى بن قَيْس الحَضْرَميّ، قال: سَمِعْتُ جَعْفَر بن مُحمَّد بن عليّ في قَوْلهِ عز وجل {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال: الرَّبْوَةُ: الكُوفَة، والمَعِينُ: الفُرَاتُ.
أنْبَأنَا أبو القَاسِم عَبْد الله بن الحُسَيْن الأنْصاريّ وعَبْد الرَّحِيْم بن يُوسُف ابن الطُّفَيْل، عن الحَافِظ أبي طَاهِر السِّلَفِيّ، عن أحْمَد بن مُحمَّد بن الآبِنُوسِيّ، قال: أُخْبرنَا عن أبي (a) الحُسَيْن المُنَادِيّ، قال: أخْبَرَنا العبَّاس بن مُحمَّد الدُّوْرِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو يَحْيَى الحِمَّانيّ، قال: حَدَّثَنا الأَعْمَشُ، عن خَيْثَمَة بن عَبْد الرَّحْمن، عن عَبْد اللهِ بن عَمْرو مَوقُوفًا، قال: ما مِن يوم إلَّا يُحْمَلُ في الفُرَاتِ مَثاقيل من بَرَكةِ الجَنَّة.
أخْبَرَنا أبو اليُمْن الكِنْدِيّ إذْنًا، ونَقَلْتُهُ من أصل سَمَاعِهِ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم الحَرِيرِيُّ، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم بن البُسْرِيّ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن جَعْفَر التَّمِيْمِيُّ إذْنًا، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم عَبْدُ اللهِ بن مَهْدِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن زَيْد، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الثَّقَفِيّ، قال: حَدَّثَنَا بَكْر، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بن الحَجَّاج، قال: أخْبَرَنِي الحَكَمُ، قال: سَمِعْتُ خَيْثَمَة بن عَبْد الرَّحْمن يقُولُ: قال عَبْدُ الله بن عَمْرو ما مِنْ يوم إلَّا وهو يُوزَنُ في الفُرَاتِ مَثاقِيْل من ماءَ الجَنَّة.
قال مُحمَّدُ بن جَعْفَر التَّمِيْمِيُّ: وأخْبَرَنَا أبو بَكْر الدَّارِمِيِّ، قال: أخْبَرَنَا الحُسَيْن بن مُحمَّد بن الحُسَيْن البَجَليُّ، قال: حَدَّثَنَا عليُّ بن سَعيد، قال: حَدّثَنَا مُطَّلِبٌ، عن عَبْد المَلِك ابن عُمَيْرٍ، قال: إنَّ الفُرَاتَ نَهْرٌ من أنْهار الجَنَّة، لولا ما يَخْلِطُه من الأذَى، ما تَداوَى به بَشَرٌ إلَّا بَرأَ، وإنَّ عليه مَلِكًا يَصْرفُ عنه الأذَى.
(a) في الأصل: أبو، كان قد أدرج كلمة "عن" ولم يُصلح ما بعدها.
بابٌ في ذِكْرِ جَيْحَان
(1)
؛ نَهْر المِصِّيْصَة وأهْلُ بلادِ الرُّوم يُسَمُّونَهُ: جَهَان
وهو نَهْرٌ كبير يَخْرج من بلَد الرُّوم، وينتهي إلى المِصِّيْصَة، فيَفْصِل بينها وبين كَفَرْبَيَّا، ثمّ يخرج منهما، فَيُلقي ماءَهُ في بحرِ الرُّوم، وشاهَدْتُ مَخرجَهُ من بلَد الرُّوم من قَرْيَة يُقالُ لها كِيْز مِيْت
(2)
، قريبة من مَدِينَة أبُلُسْتَين
(3)
من شَرْقيّها وقِبليّها، وبينها وبين مَدِينَة أبُلُسْتَين مِقْدَار مِيْل، والماءُ يَخْرجُ من شَقِيْفِ حَجَر إلى أرضٍ بين يدي الشَّقيف، وهي تنبعُ الماء جميعها، وعلى الشَّقِيف كَنِيْسَةٌ قَدِيْمَةٌ من بناءَ الرُّومِ، وقد صُوّر فيها الجَنَّة، والنَّهْرِ يخرج منها، ويأتي النَّهْر إلى مَدِينَة أبُلُسْتَين، فينقَسِم قسْمَين، ويُحيط بالمَدِينَةِ، فإذا جاوَزها عادَ واجْتَمع، وتلقى إليهِ أنْهار متعَدِّدة؛ منها نَهْر يأتي من بَلْدَة يُقالُ لها الرُّمَّان، شاهدتُها وشاهَدْتُ نَهْرها، وهو نَهْر كبير أَيضًا.
(1)
نهر جَيْحَان: مخرجه من بلاد الرُّوم، من موضع يقع شرق مدينة أَبُلُسْتَين (البستان)، وينصب في نهر التينات، وينتهي إلى البحر الشامي. وعليه قنطرة قديمة ضخمة معقودة بالحجارة من ثلاث طاقات، ويرفد نهر جيحان نهر يسمى حُورِيث، ومنبعه من بحيرة الحدث، ويمر قريبًا من مدينة الحدث، ثم يجري جنوبًا حتى يرفد نهر جيحان، وظن سهراب أن مصبه في نهر القباقب أحد روافد الفرات. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 177، ابن الفقيه: البلدان 165، اليعقوبي: البلدان 362، ابن رستة: الأعلاق 91، قدامة: الخراج 156، المسعودي: التنبيه 58، الإسكندري: الأمكنة 1: 320، ابن حوقل: صورة الأرض 183، الإصطخري: مسالك 63، سهراب: عجائب الأقاليم 123، المقدسي: أحسن التقاسيم 22، الإدريسي: نزهة المشتاق 2: 646، ابن سعيد: بسط الأرض 83، (وفيه: منبعه من عيون الناسين)، ياقوت: معجم البلدان 2: 196، 5: 320، الوطواط: مناهج الفكر 1: 362 (وفيه مخرجه من ناحية زبطرة)، أبو الفداء: تقويم 233، الحميري: الروض المعطار 185، لسترنج: بلدان الخلافة 164، مرستراس: المعجم الجغرافي 336، 503 - 502 M.Canard، El 2، Djayhan، II، Pp
(2)
لم أهتد للتعريف بها.
(3)
أبلُسْتين: وتسميها العامة: البستان، مدينة من الثغور الشامية من بلاد الروم قريبة من مرعش، إلى الشرق من قونية، وتقع بقربها أفسس؛ بلد أصحاب الكهف. معجم البلدان 1: 75، الزيارات للهروي 60، أوضح المسالك 126، لسترنج: بلدان الخلافة الرقية 175، 178 - 179.
ويَجْري هذا النَّهْر حتَّى يَخْرُج إلى الشَّام، ويَصِل إلى المِصِّيْصَة، وهي من الجانب الغَرْبيّ منه، وكَفَرْبَيَّا من الجانب الشَّرْقيّ، وعلى النَّهر بين المَدينَتَيْن جِسْر عظيم قَديم معقُود بالحِجَارَة.
وقال أبو زَيْد البَلْخِيّ
(1)
: جَيْحَان يَخرجُ من بَلد الرُّوم حتَّى يَنْتَهي إلى المِصِّيْصَة، ثمّ إلى رُسْتَاقٍ يُعْرفُ بالملَون (a)، حتَّى يقَع في بحرِ الرُّوم.
وقال أحمدُ بن أبي أحْمَد بن القَاصّ في كتاب دَلائل القِبْلَة، قال
(2)
: ونهَرْ جَيْحَان هو نَهْر المِصِّيْصَة، مَخْرجُهُ من بلاد الرُّوم، ويَنْصَبّ أيضًا في بحرِ الشَّام.
أنْبَأنَا أحمد بن عَبْد الله الأسَدِيّ، عن الحاَفِظ أبي طَاهِر، عن أحمد في مُحمَّد بن عليّ بن الآبِنُوسِيّ، قال: أُخْبرنَا عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادِيّ، قال: ومَخْرجُ جَيْحَان -نَهْر المِصِّيْصَة- من بلادِ الرُّوم على مَسيرة مراحل منها، ثمّ يَجْتازُ في طَريقه إليها بمَوضِعٍ، يُدْعَى هنالك: نَهْر المَسْدُود، ثمّ يَصُبُّ في بحر اللُّبْنَان، ويَسْتَمدّ من وَادِي الرِّيح، ثمّ يَصُبُّ في البَحْرِ الشَّاميّ.
وقال أحمد بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك: ومَخْرجُ جَيْحَان - نَهْر المِصِّيْصَة- من بلاد الرُّوم، ويصُبُّ في نَهْر اليبنَان (b)، ويستَمدُّ من وَادِي الرِّيح، ويصُبُّ في البَحْر الشَّاميّ.
أنْبَأنَا عِيسَى بن عَبْد العَزِيْز بن عِيسَى، قال: أخْبَرَنا الحَافِظُ أبو طَاهِر أحمد بن مُحمَّد بن أحمد الأصْبَهَانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو صَادِق المَدِيْنِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ بن مُنِير بن أحمد في كتابهِ، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر مُحمَّدُ بن أحْمَد بن الفَرَج، قال:
(a) البلخي: الملوان.
(b) كذا وردت في الأصل! وعند ابن خرداذبة 177: نهر التينات.
_________
(1)
البلخي: صور الأقاليم، ورقة 24 ب.
(2)
ابن القاص: دلائل القبل 193.
أخْبَرَنا أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن بن خَلَف الأزْدِيُّ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمن بن عَبْد اللهِ، قال: حَدَّثَنَا سَعيد بن أبي مَرْيَم، قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بن سَعْد وعَبْدُ الله ابنُ لَهِيْعَة، قالا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بن أبي حَبِيْب، عن أبي الخَيْر، عن أبي جُنَادَة الكَتَّانِيّ أنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يقُولُ: النِّيْلُ في الآخِرة عَسَلٌ، أغْزَر ما يكُونُ من الأنْهارِ الّتي سمَّى اللهُ عز وجل، ودِجْلَةُ في الآخِرة لَبَنٌ؛ أغْزَر ما يكونُ من الأنْهار الّتي سَمَّى اللهُ، وجَيْحَان ماءٌ؛ أغْزَر ما يكُونُ من الأنْهار الّتي سَمَّى اللهُ.
أخْبَرَنا أبو حَفْصٍ عُمَرُ بن مُحمَّد بن طَبَرْزَد البَغْدادِيُّ إجَازَةً، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم بن السَّمَرْقَنْدِيّ، وأبو غَالِب مُحمَّد بن أحْمَد بن الحُسَيْن بن عليّ بن قُرَيْشٍ، وأبو بَكْر مُحمَّد بن عُبَيْد الله بن دُحْرُوج، وأبو المَعَالِي أحمدُ بن مَنْصُور بن المُؤَمَّل الغَزَّال، قالوا: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن أحمدُ بن مُحمَّد البَزّازُ، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر مُحمَّدُ ابن عَبْد الرَّحْمن المُخَلِّصُ، قال: حَدَّثَنَا أبو مُحمَّد عُبَيْد اللهِ بن عَبْد الرَّحمن بن عِيسَى السُّكَّرِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو إسْمَاعِيْل مُحمَّد بن إسْمَاعِيْل التِّرْمِذيُّ، وأبو بَكْر مُحمَّدُ بن صالح الأنْمَاطِيُّ، قالا: حَدَّثَنَا أبو صالح عَبْدُ الله بن صالح، كاتب اللَّيْث بن سَعْد، قال: حَدَّثني اللَّيْثُ بن سَعْدٍ، قال
(1)
: بَلَغَني أنَّهُ كان رَجُل من بَني العِيْص يُقالُ لهُ حَائِذُ بنُ أبي شَالُوم بن العِيْص بن إسْحَاق بن إبْرَاهِيم نَبِيّ الله عليهما السلام، وأنَّه خرجَ هارِبًا من مَلكٍ من مُلُوكهم حتَّى دخَل أرض مِصْرَ، وأقام بها سِنين، فلمَّا رأى عجَائبَ نِيْلها وما يأتي به، جَعَل الله عليهِ أنْ لا يُفارِقَ سَاحِلَهُ حتَّى يبلُغَ مُنتهاهُ أو يموت، فسار عليهِ - قال بعضُهُم: ثلاثينَ سنةً في النَّاس، وثلاثين سنةً في غير النَّاسِ، وقيل: خَمْسة عَشَر كَذا، وخَمسة عَشَر كَذا - حتَّى انْتهى إلى بحرٍ أخْضَر، فنظرَ إلى النِّيْل يَشُقُّ مُقْبلًا، فقَعَدَ على البَحْر، فإذا رَجُل قائم يُصَلِّي تحت شجَرَة من
(1)
انظر قصة حائذ ومحاولة السعي لمعرفة منابع النيل عند: المسعودي: أخبار الزمان 244 - 246، ياقوت: معجم البلدان 5: 337 - 339، السيوطي: حسن المحاضرة 2: 343 - 346.
تُفَّاح، فمَّا رآهُ اسْتأنَسَ به، وسَلَّم عليه، فسألَهُ الرَّجُل صاحبُ الشَّجَرة فقال: مَنْ أنتَ؟ فقال له: أنا حَائِذُ بنُ أبي شَالُوم بن العِيْص بن إسْحَاق عليهما السلام، قال: فَمن أنْتَ؟ قال: أنا عِمْرَانُ بن فلان بن العِيْص بن إسْحَاق عليه السلام.
قال: فما الّذي جاءَ بك هُنا يا حَائِذ؟ قال: جئتُ من أجل هذا النِّيْل. فما جاءَ بكَ يا عِمْرانُ؟ قال: جاءَ بي الّذي جاءَ بكَ حتَّى انْتهَيْتُ إلى هذا المَوْضع، فأوْحَى اللهُ إليَّ أنْ قِفْ في هذا المَوْضع، فأنا واقفٌ حتَّى يأتيَني أمْرُهُ.
قال لهُ حَائِذ: أخْبرني يا عِمْرانُ: ما انْتَهى إليك من أمْرِ هذا النِّيْل، وهل بلغَكَ في الكُتُب أنَّ أحدًا من بَنِي آدَمَ يَبْلُغُه؟ قال له: نعم، قد بلغَني أنَّ رَجُلًا من وَلدِ العِيْص يَبلُغُه، ولا أظُنُّه غيركَ يا حَائِذ.
قال له حَائِذُ: يا عِمْران، أخْبرني كيف الطَّريقُ إليهِ؟ فقال له: لَسْتُ أُخْبرُكَ بشيءٍ إلَّا أنْ تَجْعَل لي ما أسألُكَ. قال: وما ذاك؟ قال: إذا رجَعْتَ إليَّ وأنا حيُّ أقَمْت عندي حتَّى يُوحِيَ اللهُ تعالَى إليَّ بأَمْرِه أو يتوَفَّاني فتَدفنَنِيّ، وإنْ وجَدْتَني ميِّتًا دفَنْتَني وذَهَبْتَ، قال: ذلكَ لكَ عليَّ.
قال لَهُ: سِرْ كما أنتَ على هذا البَحْر، فإنَّكَ سَتأْتي على دابَّة تَرى آخرَهَا، ولا تَرَى أوَّلها، فلا يَهُولنَّكَ أمرُها، ارْكَبْها فإنَّها دابَّةٌ مُعادِيَةٌ للشَّمس، فإذا طَلَعَتْ أهْوَت إليها لتَلْتَقِمَها حتَّى يحُول بينها وبينها حُجَابتها (a)، وإذا غَرَبَتْ أهْوَتْ إليها لتَلْتقمَها فتَذْهَب بكَ إلى جانب البَحْر، فَسِرْ عليه رَاجِعًا حتَّى تَنْتَهي إلى النِّيْل. فَسِرْ عليهِ فإنَّك ستَبْلُغ أرْضًا من حديدٍ، جِبَالها وأشْجَارها وسُهُولها حديدٌ، فإنْ أنتَ جُزْتَها وقَعْتَ في أرضٍ من نُحاسٍ، جِبَالها وأشْجَارُها وسُهُولُها من نُحاسٍ، فإنْ أنتَ جُزْتَها وقَعْتَ في أرضٍ من فِضَّة، جِبَالُها وأشْجَارُها وسُهولُها من فِضَّةٍ، فإنْ
(a) كتب في المتن: حجبتها، وصحَّحها في الهامش بما هو مثبت.
أنتَ جُزْتَها وقَعتَ في أرْضٍ من ذَهَبٍ، جِبَالُها وأشْجَارُها وسُهُولُها من ذَهَبِ، فيها يَنْتهي إليكَ علْمُ النِّيْل.
فسار حتَّى انْتهى إلى أرضِ الذَّهَب، فسارَ فيها حتَّى انتَهى إلى سُورٍ من ذَهَب، وشُرَفُهُ من ذَهَبٍ، وفيه قُبَّةُ من ذَهَبٍ، لها أربعَةُ أبواب، فنَظَرَ إلى ماءً يَنْحدِرُ من فَوْقِ ذلك السُّور حتَّى يَسْتقِرَّ في القُبَّةِ، ثمّ يَنْصرف (a) في الأبْواب الأربَعَة، أمَّا ثلاثةٌ فتَغيْض في الأرْضِ، وأمَّا واحدٌ فيَسير (b) على وجْهِ الأرْض، وهو النِّيْلُ، فشَربَ منهُ، واسْتراحَ، وأَهْوَى إلى السُّور ليَصْعدَ، فأتاهُ مَلكٌ فقال: يا حَائِذُ، قِفْ مكانَكَ، قد انْتهى إليك عِلْمُ هذا النِّيْل، وهذه الجَنَّةُ والماءُ يَنْزلُ منها، فقال: أُرِيدُ أنْ أنْظُرَ إلى ما في الجَنَّة، فقال: إنَّكَ لن تَسْتطيعَ دُخُولها اليوم يا حَائِذ، فقال: فأيّ شيءٍ هذا الّذي أَرَى؟ قال: هذا الفلَكُ الّذي يَدُور به الشَّمْس والقَمَر، وهو شبهُ الرَّحى، فقال: إنّي أُريدُ أنْ أرْكَبَهُ فأدُورَ فيه - فقال بعضُ العُلَمَاءِ: إنَّهُ ركبَهُ حتَّى دَار الدُّنْيا، وقال بعهُم: لم يركَبه - فقال لهُ: يا حَائِذُ إنَّهُ سَيأتيكَ من الجَنَّةِ رِزْقُ، فلا تُؤثر عليهِ شيئًا من الدُّنْيا، فإنَّه لا يَنْبغي لشيءٍ من الجَنَّة أنْ يُؤْثَر عليه شيء من الدُّنْيا، إنْ لم تُؤثر عليه شيئًا من الدُّنْيا بقي ما بَقِيْتَ.
فبينما هو كذلك، إذ نَزلَ عليه عُنْقُودٌ من عِنَب فيه ثلاثةُ أصْنافٍ: لَوْن كالزَّبَرْجَد الأخْضَر، ولَوْن كاليَاقُوت الأحْمر، ولَون كاللُّؤْلُؤ الأبيض؛ ثمّ قال: يا حَائِذُ، أمَا إنَّ هذا من حِصْرِم الجَنَّة وليسَ من طَيِّب عِنَبها، فارْجعْ يا حَائِذ، فقد انْتهى إليكَ عِلمُ النِّيْل.
(a) كتب فوقها: "نسخة"، وكتب إزاءها في الهامش ما وجده في نسخة أخرى وهو:"يتفرَّق"، والمثبت موافق لما في حسن المحاضرة للسيوطي، وفي كتاب أخبار الزمان 245: فيفرق، وعند ياقوت: يتفرق.
(b) كتب في الهامش: "قال أبو محمد: فينشق".
قال: فهذه الثّلاثةُ التي تَغِيضُ في الأرْض ما هي؟ قال: أحَدُها الفُرَاتُ، والآخرُ دِجْلَةُ، والآخر جَيْحَانُ، فارْجع.
فرَجَع حتَّى انتهَى إلى الدَّابَّة، فركبَهَا، فلمَّا أهْوَت الشَّمْسُ لتغرُبَ، قَذفَتْ به في جانب البَحْر، فأقْبَل حتَّى انْتَهى إلى عِمْران، فوجدَهُ ميِّتًا حينَ ماتَ، فدفنَهُ، وأقامَ على قَبْره ثلاثًا.
فأقْبل شَيْخٌ مُتَشبِّهٌ بالنَّاس، أغَرّ من السُّجُود، ثمّ أقبل إلى حَائِذ فسلَّم عليهِ، فقال لَهُ: يا حَائِذُ؛ ما انتهى إليك من علْم هذا النِّيْل؟ فأخْبره. قال الرَّجُل له: هكذا نَجدُه في الكُتُب، ثمّ طَرَّى ذلك التُّفَّاحَ في عَيْنَيهِ، فقال: ألَا تأكل منه؟ قال: معي رِزْقٌ قد أُعْطِيتُهُ من الجَنَّة، ونُهيْتُ أنْ أُوْثر عليهِ شيئًا من الدُّنْيا، قال: صدَقْتَ يا حَائِذ، و [لا](a) ينبغي لشيءٍ من الجَنَّة [أنْ](b) يُؤثَر بشيءٍ من الدُّنْيا، وهل رأيتَ في الدُّنْيا مثل هذا التُّفَّاح؟ إنَّما أنبت في الأرْض ليست من الدُّنْيا، وإنَّما هي شَجرةُ من الجَنَّة، أخْرجها اللهُ لعِمْران يأكل منها، وما تركها إلَّا لك، ولَوْ وَلَّيْتَ عنها لَرُفعَت، فلم يَزَل يُطْرِيها في عَيْنِه حتَّى أخَذَ منها تُفَّاحَةً، فلمَّا عضَّها عضَّ على يدَيهِ، ثمّ قال: أتَعْرفُهُ؟ هو الّذي أخْرجَ أباك من الجَنَّةِ، أما إنَّك لو سَلمتَ بما مَعَكَ لأكَلَ منها أهلُ الدُّنْيا قبل أنْ يَنْفَدَ، وأقبل حَائِذ حتَّى دَخَل مِصْر، فأخْبَرهُم بهذا، ومَات بأرض مِصْر رحمه الله.
(a) زيادة ليستقيم الكلام، وفي حسن المحاضرة: هل ينبغي.
(b) زيادة من حسن المحاضرة للسيوطي.
بابٌ في ذِكْرِ سَيْحَان؛ نَهْر أَذَنَة
(1)
وهو نَهْرٌ كبير دُون جَيْحَان في العِظَم، وبين مَخْرجه ومَخْرج جَيْحَان يومانِ، ومَخْرجُه أيضًا من بلادِ الرُّوم، وشاهدتُهُ في قَرْيَةٍ يُقالُ لها بالعَرَبيَّةِ رَأس العَيْن، ويُقالُ لها بالتُّرْكِيَّة يَانْغِرْ باشِيّ، ومَعْناهُ: رأس المَاءِ، وهو يَخْرج من فوْجَةٍ بين جَبَلَيْن ينبعُ ماؤهُ من تحت الجَبَل من الصَّخر الأصَمّ، وعندَهُ كَنِيْسَةٌ قَدِيْمَة من بناءِ الرُّوم، قد صُوِّرت الجَنَّةُ فيها، ونَهْر سَيْحَان خارجٌ منها، فيَجْري النَّهر، وتَجْتمِع إليهِ عُيُون تَسِيْل في وادٍ في الدَّرْ بَنْد الّذي بين السَّارُوص
(2)
وبين هذه القَرْيَة. وتَخرج هذه العُيُون في الوَادِي المَذْكُور، فتَصُبُّ في سَيْحَان، ويَخْرجُ سَيْحَان في بلدِ الرُّوم حتَّى يَمُرّ تحت قَلْعَة سَمَنْدُو، ويَمُرّ على بلادِ الأرْمَن، ويمتَدُّ على تلكَ البِلادِ حتَّي يَنْتَهي إلى أَذَنَة، وهو من شَرْقيّها، ثمّ يمتَدُّ منها فيصُبُّ في البَحْر الشَّاميّ.
أنْبَأنَا أبو مُحمَّد عَبْدُ الرَّحمن بن عَبْد الله بن عُلْوَان الأسَدِيُّ، قال: كَتَبَ إلينا أحمد بن مُحمَّد بن أحمد الحَافِظ: أنَّ أحمد بن مُحمَّد بن عليّ بن الآبِنُوسِيِّ أخبرَهُم إجَازَةً، قال: أُخْبرنَا عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادِيّ، قال: ومَخْرجُ سَيْحَان -نَهْرِ أَذَنَة-
(1)
نَهْر سَيْحَان: ينبع من جنوب جبل خنزير طاغي، في ولاية سيواس الحالية، وينتهي مصبه في البحر الشامي، وهو أصغر من نهر جيحان، ويمر بمدينة أذنة ولها عليه قنطرة من الحجارة طويلة جدًا عجيبة البناء.
انظر: ابن خرداذبة: المسالك 177، ابن الفقيه: البلدان 143، 165، 517، ابن رستة: الأعلاق 91، المسعودي: التنبيه 58، 183، الإصطخري: مسالك 63 - 64، ابن حوقل: صورة الأرض 183، المقدسي: أحسن التقاسيم 22، الإدريسي: نزهة المشتاق 2: 647، ياقوت: معجم البلدان 1: 133، 3: 293، أبو الفداء: تقويم 249، الوطواط. مناهج 1: 362 (وفيه: مخرجه من ناحية ملطية)، الحميري: الروض المعطار 20، 333، لسترنج: بلدان الخلافة 164، موستراس: المعجم الجغرافي 312، 113 - 112 C.P.Haase، El، Sayhan، IX، Pp
(2)
لعل اسم هذا الموضع مأخوذ من الاسم الروماني القديم لنهر سيحان وهو: ساروس sarus. انظر: موستراس: المعجم الجغرافي 312.
من بلاد الرُّوم، ثمّ يَمُرّ على مَوضعٍ من بلادِ أَرْمِينِيَة، فيُدْعَى هُنالك: نَهْر مُحمَّد، ثمّ يمتَدُّ حتَّى يَنْتَهي إلى أَذَنَة، وهُنالك يُدعَى: سَيْحَان، ثمّ يَسيرُ حتَّى يَصُبُّ في البَحْر الشَّاميّ.
قُلتُ: قَوْلهُ من بلاد أَرْمِينَيَة وَهْمٌ؛ فإنَّ أَرْمِينِيَة هي أخْلَاط، والفُرَات يَحُول بينها وبين بلاد الرُّوم، بل الظَّاهر أنَّ ابن المُنَادِي وجَدَ في بعض الكُتُب أنَّه يَمُرُّ ببلادِ الأرْمَنِ، فظنَّها أَرْمِينِيَة، واللهُ أعْلَمُ.
ونَقَلْتُ من خَطِّ صَدِيقَنا يَاقُوت الحَمَويّ، في كتاب البُلْدان
(1)
: ولَأذَنَة نَهْرُ سَيْحَان، وعليهِ قَنْطَرَة حِجَارَة عَجيْبة بين المَدِينَة وبين حِصْن ممَّا يلي المِصِّيْصَة، وهو شبيهٌ بالرَّبَض، والقَنْطَرَة معقُودة على طَاقٍ واحدٍ.
وقَرَأتُ في كتاب أبي زَيْد أحمد بن سَهْل البَلْخِيّ، في كتاب صُورة الأرْض، قال
(2)
: وسَيْحَانُ هو دونَ جَيْحَان في الكِبَر، عليهِ قَنْطَرَة حِجَارَة عَجيْبَة البناء، طويلةٌ جدًّا، يَخْرج هذا النَّهُر من بلَدِ الرُّوم أيضًا.
وقال أحمد بن الطّيِّب السَّرْخَسيِّ في كتابهِ: ومَخْرجُ سَيْحَان -نَهْر أَذَنَة- من بلادِ الرُّوم، ويَصُبُّ في البَحْر الشَّاميّ.
أخْبَرنَا أبو اليُمْن زَيْدُ بن الحَسَنِ الكِنْديِّ إذْنًا، قال: أخْبَرنَا أبو مَنْصُور القّزَّاز، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر أحمدُ بن عليّ بن ثَابتٍ الخَطِيبُ
(3)
، قال: أخْبَرنَا أبو القَاسِم عليّ بن مُحمَّد بن يَعْقُوب الإيَادِي ُّ، قال: أخْبَرنَا أحمدُ بن يُوسُف بن خَلَّاد، قال: حَدَّثَنَا الحَارِث بن مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا سعيد بن شُرَحْبِيل، عن لَيْث، عن يَزِيد بن
(1)
معجم البلدان 1: 133.
(2)
البلخي: صور الأقاليم ورقة 24 ب، وقد تقدم نقل هذا النص عند ابن العديم.
(3)
تاريخ بغداد 1: 361.
أبي حَبِيْب، عن أبي الخَيْر، قال: قال كَعْبٌ
(1)
: نَهْرٌ النِّيْل نَهرُ العَسَل في الجَنَّة ونَهْرُ دِجْلَةَ نَهرُ اللَّبَن في الجَنَّة، ونَهْرُ الفُرَاتِ نَهْر الجَمْر في الجَنَّة، ونَهْرُ سَيْحَانَ نَهْرُ الماء في الجَنَّة، قال: فأَطْفأ اللهُ نُورهنَّ فيُصيرهُنَّ إلى الجَنَّة.
بابٌ في ذِكْرِ ما وَرَد في الحَدِيْثِ والسُّنَّة أنَّ الفُرَات وسَيْحَان وجَيْحاَن من أَنْهار الجَنَّة
وهذه الأنْهار الثَّلاثة قد اخْتَصَّ عَمَل مَدِيَنة حَلَب بفَضْلها، لأنَّها من عَملها، لم تَخْتَصّ مَدِينَة أُخْرى بنَظِير هذه الفَضيْلَة ولا بمثْلِها، فإنَّ أبا الحُسَيْن مُسْلم ابن الحَجَّاج خرَّج في صحيحِهِ
(2)
من حَديث أبي هُرَيْرَة، رضي الله عنه، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. سَيْحَان وجَيْحاَن والفُرَات والنِّيْلُ كُلٌّ من أنْهار الجَنَّة. وهذه الثَّلاثةُ داخِلة في عَمَل حَلَب، لا يَخْرج عنه غير النِّيْل.
أخْبَرنَا بهذا الحَدِيْثِ قاضي القُضَاةِ أبو المَحَاسِن يُوسُف بن رَافعٍ بن تَمِيْم الأسَدِيّ، قاضي حَلَب، قِراءَةً عليهِ وأنا أسْمَعُ، قيل له: أخبَرك أبو بَكْر مُحمَّد بن عليّ ابن يَاسِر الأنْصاريّ الجَيَّانِيُّ، قال: أخْبَرنَا أبو عَبْدِ اللهِ مُحمَّد بن الفَضْل الفَرَاوِيّ، ح.
وكَتَبَ إلينا عاليًا أبو القَاسِم مَنْصُور بن عَبْد المُنْعِم بن عَبْد اللهِ بن مُحمَّد بن الفَضْل القَرَاوِيّ، وأبو الحَسَن المُؤيَّد بن مُحمَّد الطُّوسيِّ من نَيْسابُور، قالا: أخْبَرنَا أبو عَبْد الله الفَرَاوِيّ، قال: أخْبَرنَا أبو الحُسَيْن عَبْد الغَافِر بن مُحمَّد الفارِسيُّ، قال:
(1)
المنتظم لابن الجوزي 1: 158.
(2)
صحيح مسلم 4: 2183 (رقم 2839)، وانظره عند التبريزي: مشكاة المصابيح 3: 1565 (رقم 5628)، السيوطي: الفتح الكبير 2: 163، المتقي الهندي: کنز العمال 12: 345 (35340)، العجلوني: کشف الخفاء 1: 565 (رقم 1525).
أخْبَرنَا أبو أحمد مُحمَّد بن عِيسَى بن عَمْرُويَه الجُلُوديّ، قال: أخْبَرنَا أبو إسْحاَق إبْرَاهِيمُ ابن سُفْيان الفَقيِه، قال: أخْبَرنَا أبو الحُسَيْن مُسْلم بن الحَجَّاج القُشَيْرِيُّ، قال: وحَدَّثَنَا مُحمَّد بن عَبْد الله بن نُمَيْر، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن بِشْرٍ، قال: حَدَّثَنَا عُبَيْد الله -يَعْني: ابنَ عُمَر العُمَريّ - عن خُبَيْب بن عَبْد الرَّحمن، عن حَفْص بن عَاصِم، عن أبي هُرَيْرَة
(1)
، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: سَيْحَانُ، وجَيْحاَن، والفُرَاتُ، والنِّيْلُ، كل من أنْهار الجَنَّة.
وقد رَوَاه عن عُبَيْد الله بن عُمَر: عَبْد الله بن يُوسُف، وعَبْدُ الله بن جَعْفَر فأمَّا حَدِيثُ عَبْد الله بن يُوسُف، فأنْبَأنَا به عِيسَى بن عَبْد العزيز بن عِيسَى بن عَبْد الوَاحِدِ، قال: أخْبَرنَا الحَافِظُ أبو طَاهِر أحمد بن مُحمَّد بن أحمد السِّلَفيِّ، قال: أخْبَرَنَا أبو صَادِق مُرْشِد بن يَحْيَى بن القَاسِم المَدِيْنيِّ، قال: أخْبَرنَا أبو الحَسَن على ابن مُنِير بن أحمد الخلَّال (a) في كتابِه، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن أحمد بن الفَرَج القَمَّاح، قال: أخْبَرنَا أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن بن خَلَف بن قُدَيْد الأزْديِّ، قال: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد الله بن عَبْد الحكم، قال: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن يُوسُف، قال: حَدَّثَنَا عُبَيْد الله بن عُمَر، عن خُبَيْب بن عَبْد الرَّحْمن، عن حَفْص ابن عَاصِم، عن أبي هُرَيْرَة أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: النِّيْل وسَيْحَان وجَيْحاَن والفُرَات من أنْهار الجَنَّة.
(a) يكتبه في الأصل و "ك" -حيثما يرد- بالحاء المهملة: الحلّال، ومثله في بعض أصول ابن عساكر حيثما يرد في تاريخه، والمثبت بالخاء المعجمة من أنساب السمعاني 5: 5: 239 - 240، وهي نسبة إلى عمل الخل أو بيعه.
_________
(1)
مسند ابن حنبل 15: 6 (رقم 7873)، صحيح مسلم 4: 2183 (رقم 2839)، فيض القدير للمناوي 4: 424 (رقم 5841).
وأمَّا رِوَايَةُ عَبْد الله بن جَعْفَر؛ فإنَّ فيها زِيَادة على هذه الأَنْهار الأربعة: دِجْلَة.
أخْبَرنَا بها أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن الكِنْديِّ إذْنًا، قال: أخْبَرنَا أبو مَنْصُور القَزَّازُ، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر أحمدُ بن عليّ بن ثَابتٍ الخَطِيبُ
(1)
، قال: أخْبَرنَا أبو طَالِب مُحمَّد بن عليّ بن إبْرَاهِيمُ البَيْضَاويّ، قال: أخْبَرنَا مُحمَّد بن العبَّاس بن حَيَّوْيَه الخَزَّاز (a)، قال: أخْبَرنَا ابن المُجَدَّر، قال: حَدَّثَنَا دَاوُد بن رُشَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن جَعْفَر، قال: أخْبَرنَا عُبَيْد الله بن عُمَر، عن خُبَيْب بن عَبْد الرَّحْمن، عن حَفْص بن عَاصِم، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: النِّيْلُ والفُرَات ودِجْلَةُ وسَيْحَان وجَيْحاَن من أنْهار الجَنَّة.
وقد رَواهُ شُعْبَةُ بن الحَجَّاج، عن خُبَيْب بن عَبْد الرَّحْمن كذلك مَرْفُوعًا، وقال في آخر حَدِيثه: كُلٌّ من أنْهار الجَنَّة، وكُلٌّ قد شَرِبْتُ منهُ.
ورَواهُ عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: عَبْد الله بن مُغِيْث مَوْلَى الزُّبَيْر، وأبو سَلَمَة بن عَبْد الرَّحْمن وسعيدُ بن [كَيْسَان](b) المَقْبُريّ. فأمّا رواية عَبْد الله بن مُغِيْث، فحَّدث بها يُونُس بن بُكَيْر، عن مُحمَّد بن إسْحاَق، عن عَبْد الله بن يَزْيد، عن عَبْد الله بن مُغِيْث مَوْلَى الزُّبَيْر، عن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا، وزادَ في آخره: ولو أنَّ النِّيْلُ إذا مَدَّ الْتَمَسْتُم لوجَدْتُم فيه من ورَق الجَنَّة.
وأمَّا رِوَايَةُ سَعيدٍ المَقْبُريّ (c)، فأنْبَأنَا بها الأَخَوَان أبو مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن وأبو العبَّاس أحمد ابْنَا عَبْد الله بن عُلْوَان الحَلَبِياَّن، عن كتاب أبي طَاهِر السِّلَفيِّ،
(a) الأصل: الخراز، والمثبت من "ك" وتاريخ الخطيب البغدادي.
(b) مكانه في الأصل بياض قدر كلمة، والتعويض من تهذيب التهذيب 4:34.
(c) بعده في الأصل: "ابن رافع"، وضبب عليه.
_________
(1)
تاريخ بغداد 1: 359.
قال: أنْبَأنَا أحمد بن مُحمَّد بن الآبنُوسيِّ، قال: أخْبَرنَا عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادِي، قال: حَدَّثَنَا القَاسِم بن زَكَرِيَّاء، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن عَبْد الله بن عَمَّار، قال: حَدَّثَنَا قاسم بنُ يَزِيد الجَرْمِي، عن الفَرَج بن فَضَالة، عن أبي رافع - هو: إسَماعِيل بن رافعٍ المُزَنيِّ المَدِيْنيِّ، نزل البَصْرَة. عن سَعيد المَقْبُريّ، عن أبي هُرَيْرَة قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
(1)
: أربَعَةُ أنْهار في الجَنَّة: سَيْحَانُ وجَيْحاَن والنِّيْلُ والفُرَات.
وأمَّا رِوَايَةُ أبي سَلَمَة، عن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا، فأخْبَرَنا بها أبو الحَسَن المُبارَك ابن مُحمَّد بن مَزْيَد بن هِلال الخَوَّاص، وأبو عَبْد الله مُحمَّد بن نَصْر بن أبي الفَرَج الحُصْريِّ البَغْدادِيَّان ببَغْدَاد، قال: أخْبَرنَا الحَافِظُ أبو مُحمَّد عَبْد الغَنيِّ بن الحَافِظُ أبي العلاء الحَسَن بن أحمد الهَمْدانيِّ، قال: أخْبَرنَا أبو الفَرَج سَعيدُ بن أبي الرَّجاءِ ابن أبي مَنْصُور الصَّيْرَفيِّ، ح.
وأنْبَأنَا عن أبي الفَرَج شَيْخُنا القَاضِي أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد بن الحَرَسْتانيّ، قال أبو الفَرَج: أخْبَرنَا أبو العبَّاس أحمد بن مُحمَّد بن النُّعْمان، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن إبْرَاهِيمُ بن المُقْرِئ، قال: أخْبَرنَا أبو مُحمَّد إسْحاَق بن أحمد بن نَافِع الخُزَاعيِّ، قال: أخْبَرنَا أبو عَبْد الله مُحمَّد بن يَحْيَى بن أبي عُمَر العَدنَي (a)، قال: حَدَّثَنَا سُفْيان بن عُيَيْنَة، عن مُحمَّد بن عمرو، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هُرَيْرَة أنَّ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قال
(2)
: أربعة أنْهار من الجَنَّة: الفُرَاتُ وسَيْحَان وجَيْحاَن والنِّيْل.
(a) في الأصل: العداني، العلاني، تحريف، ويأتي صحيحًا في عدة مواضع من هذا الكتاب. وهو إمام ومحدث مشهور، توفي سنة 243 هـ. انظر ترجمته ومصادرها في سير أعلام النبلاء 12: 96 - 98.
_________
(1)
کنز العمال 12: 345 (رقم 35335).
(2)
الحميدي: المسند 2: 491 (رقم 1163)، المتقي الهندي: کنز العمال 12: 345 (رقم 35340).
وقد رَوَاهُ سَعْدَان بن نَصْر، عن سُفْيان بن عُيَيْنَة، عن مُحمَّد بن عَمْرو، وشَكَّ سُفْيان في رَفْعه؛ أنْبَأنَا بهِ سَعيد بن هاشِم بن أحمد الأسَديِّ، قال: أخْبَرنَا أحمدُ بن مُحمَّد كتابةً، عن أحمد بن مُحمَّد بن الآبِنُوسيِّ، قال: أخْبَرنَا عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادِي، قال: سَمِعتُ سَعْدَان بن نَصْر، قال: حَدَّثَنَا سُفْيان بن عُيَيْنَة، عن مُحمَّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة، قال: أربعَةُ أنْهارٍ من الجَنَّةِ: الفُرَاتُ والنِّيْلُ وسَيْحَان وجَيْحاَن. فقيل لسُفْيان: أهذا عن أبي سَلَمَة عن أبي هُرَيْرَة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: لعلَّهُ ورَواهُ يَزِيد بن هَارُون، عن مُحمَّد بن عَمْرو، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هُرَيْرَة مرفوعًا؛ أخْبَرنَا به أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن الكِنْديِّ إجَازَةً، قال: أخْبَرنَا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن ابن مُحمَّد القَزَّازُ، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر أحمدُ بن عليّ بن ثَابِتٍ الخَطِيبُ
(1)
، قال: أخْبَرنَا أبو الحَسَن مُحمَّد بن عُمَر بن عِيسَى البَلَدِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو العبَّاس عَمْرو ابن هِشَام بن عَمْرو، قال: قُرِئ عليّ الحَارِث بن مُحمَّد القَنْطَريِّ (a) : حدَّثكُم يَزِيد ابن هَارُون، ح.
قال الخَطِيبُ: وأخْبَرَنا أبو الفَتْح مُحمَّد بن أحمد بن أبي الفَوَاسِ الحَافِظُ، وأبو بَكْر مُحمَّد بن أحمد بن يُوسُف الصَّيَّاد وأبو القَاسِم طَلْحَة بن عليّ بن الصَّقْر الكَتَّانيِّ، قالوا: أخْبَرنَا أحمد بن يُوسُف بن خَلَّاد العَطَّار، قال: حَدَّثَنَا الحَارِثُ بن مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا يَزِيد بن هَارُون، قال: أخْبَرنَا مُحمَّد بن عَمْرو، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هُرَيْرَة، عن رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، قال
(2)
: فجِّرَتْ أربعَة أنْهار من الجَنَّة: الفُرَاتُ، والنِّيْلُ، وسَيْحَان، وجَيْحاَن.
(a) تشكَّك ابن العديم في رسمها، فكتبها بالتون المنقوطة بواحدة ووضع أسفلها نقطتان، والمثبت يوافق تاريخ بغداد للخطيب البغدادي.
_________
(1)
تاريخ بغداد 1: 358.
(2)
ابن حنبل: المسند 13: 273 (رقم 7535)، وابن الجوزي: المنتظم 1: 158.
وقد رَوَاهُ عَبْد المُلْك بن عُمَيْر، عن أبي سَلَمَة بن عَبْد الرَّحْمن، عن أبي هُرَيْرَة موقوفًا عليه، ولم يَذْكُر النِّيْلُ.
أخْبَرنَا بذلك القَاضِي أبو القَاسِم عَبْد الصَّمْد بن مُحمَّد بن الحَرَسْتانيُّ الأنْصاريُّ، قِراءَةً عليهِ بدِمَشْق وأنا أسْمَعُ، قال: أخْبَرنَا أبو الحسن بن قُبَيْس، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر أحمد بن عليّ بن ثابت الخَطِيبُ
(1)
، قال: أخْبَرنَا الحَسَن بن الحُسَيْن النِّعَاليُّ، قال: أخْبَرنَا أبو جَعْفَر مُحمَّد بن الحَسَن اليَقْطِينيِّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن الحُسَيْن السَّامَرِّيّ (a)، قال: حَدَّثَنَا عَمْرو بن عليّ، قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عن مِسْعَرَ، عن عَبْد المُلْك بن عُمَيْر، عن أبي سَلَمَة بن عَبْد الرَّحْمن، عن أبي هُرَيْرَة، قال: سَيْحَانُ وجَيْحاَن والفُرَات له من الجَنَّة. مَوقُوف.
أخْبَرنَا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبَرنَا عُمِّي الحَافِظُ أبو القَاسِم
(2)
، قال: قَرَأتُ بِخَطِّ شَيْخنا أبي الفَرَج غَيْث بن عليّ بن عَبْد السَّلام الخَطِيبُ: ذكر القَاضِي أبو القَاسِم الحَسَن بن مُحمَّد الأنْباريِّ، فيما قُرِئ عليه بِصُوْر في ذِي القَعْدَة سَنَة سَبْع عشرَةَ وأرْبَعِمائة، أنَّ أبا مُحمَّد الحَسَن ابن رَشِيْق أخبرَهُم، قال: حَدَّثَنَا أبو الفَضْل العبَّاس بن أبكجورْ مَوْلَي أمير المُؤمِنِين، قال: حَدَّثَنَا أبو مُحمَّد المَرَاغِيُّ، قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَة، قال: حَدَّثَنَا أبو عَوَانَة، عن الأَعْمَش، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيْرَة
(3)
، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اخْتار من المَلائِكَة أربعةً: جِبْرِيل ومِيْكائِيل وإسْرافِيْل وعِزْرَائِيْل، واختار من النَّبِيِّيِن أربعَةً: إبْرَاهِيمُ ومُوسَى وعِيسَى ومحمدًا
(a) ضبطه بفتح الميم، نسبة لسر من رأى.
_________
(1)
تاريخ بغداد 3: 24. 25.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 221.
(3)
ابن حجر في لسان الميزان 3: 237 مختصرًا عن ابن عساكر.
صلَواتُ الله عليهم، وقال فيه: واخْتار من الأَنْهار أربعَةً: سَيْحَانُ وجَيْحاَن والنِّيْلُ والفُرَات.
قال الحَافِظُ: هذا حديث مُنْكر بِمَرَّة، وأبو الفَضْل والمَرَاغيِّ مَجْهولان.
أخْبَرنَا أبو مَنْصُور قال: أخْبَرنَا عَمِّي الحَافِظُ أبو القَاسِم
(1)
، قال: أخْبَرنَا أبو القَاسِم بن السَّمَرْقَنْديِّ، ح.
وأنْبَأنَا عُمَر بن طَبَرْزَد، عن ابن السَّمَرْقَنْديِّ، قال: أخْبَرنَا أبو القاسِم ابن مَسْعَدَة، قال: أخْبَرنَا أبو القَاسِم حَمْزَةُ بن يُوسُف، قال: أخْبَرنَا أبو أحمد ابن عَديِّ
(2)
، قال: أخْبَرنَا بُهْلُول بن إسْحاَق بن بُهْلُول، قال: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابن أبي أوَيْس، قال: حَدَّثَنَا كَثِيْرٌ المُزَنيِّ (a)، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
(3)
: أربعَةُ أجْبُلٍ من جِبَال الجَنَّة، وأربعَةُ أنْهار من أنْهار الجَنَّة، وأربعَةُ مَلَاحِمَ من مَلَاحِم الجَنَّة. قيل: فما الأجْبُل يا رسُولُ اللهِ؟ قال: أُحُد جَبَلٌ يُحبُّنا ونُحبّه، جَبَلٌ من جِبَال الجَنَّة، وطُور جَبَل من جِبَال الجَنَّة، ولُبْنَان جَبَل من جِبَال الجَنَّة. والأنْهار: النِّيْلُ والفُرَات وسَيْحَانُ وجَيْحاَن. والمَلَاحِم: بَدْرٌ وأُحُد والخَنْدَقُ وخَيْبَرُ (b). وسَقَط ذكر الجَبَل الرَّابِع.
(a) الأصل: المري، والمثبت من الكامل لابن عدي 6: 2078، والمعجم الكبير للطبراني، وتاريخ ابن عساكر (مصدر النقل).
(b) المعجم الكبير للطبراني: حنين.
_________
(1)
تاريخ ابن عساکر 2: 346.
(2)
ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال 6: 2080.
(3)
ابن شبة: تاريخ المدينة المنورة 1: 57 (رقم 261)، وفيه بدل أحد "ورقان"، الطبراني: المعجم الكبير 17: 18 - 19، وفيه:"أربعة أجبال"، الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 4: 14، المتقي الهندي: كنز العمال 12: 301 (رقم 35121).
أنْبَأنَا عِيسَى بن عَبْد العزيز بن عِيسَى بن عَبْد الواحد، قال: أخْبَرنَا الحَافِظُ أبو طَاهِر الأصْبَهَانيِّ، قال: أخْبَرنَا أبو صَادِق مُرْشِد بن يَحْيَى بن القَاسِم المَدِيْنيِّ، قال: أخْبَرنَا أبو الحَسَن عليّ بن مُنِير بن أحمد الخلَّالُ (a) في كتابِه، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن أحمد بن الفَرَج القَمَّاحُ، قال: أخْبَرنَا أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن بن خَلَف بن قُدَيْد الأزْدِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو القَاسِم عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد الله بن عَبْد الحَكَم، قال: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن صالح، قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عن يَزِيد بن أبي حَبِيْب، عن أبي الخَيْر، عن كَعْب الأحْبَار أنَّه كان يقُول: أربعَةً أنْهار من الجَنَّة، وصفَهَا الله عز وجل في الدُّنْيا، فالنِّيْل: نَهْرُ العَسَل في الجَنَّة والفُرَات: نَهْرُ الخَمْر في الجَنَّة، وسَيْحَان: نَهْرُ الماء في الجَنَّة، وجَيْحاَن: نَهْرُ اللَّبَن في الجَنَّة.
أخْبَرنَا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحمد الفَنَكيِّ وفَرَج بن عَبْد الله الحَبَشيّ إجَازَةً من كُلِ واحدٍ منهُما، قالا: أخْبَرنَا أبو طَاهِر بَرَكات بن إبْرَاهِيمُ الخُشُوعِيُّ، قال: أخْبَرنَا أبو الحَسَن عليّ بن المُشرَّف بن المُسَلَّم، قال: أخْبَرنَا القَاضِي أبو الحَسَن مُحمَّد بن حَمُّود الصَّوَّاف، قال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن أحمد بن مُحمَّد، قال: حدَّثَنَا أبو حَفْص عُمَر بن المُفَضَّل بن المُهَاجر الرَّبِعيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبي، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بن مُحمَّد، قال: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قال: حَدَّثَنَا دَاودُ بن هِلالٍ، عن الصَّلْتِ بن دِيْنارٍ، عن أبي صالحٍ، عن نَوْفٍ البَكَاليِّ، قال: الصَّخْرَةُ يَخرجُ من تحتها أربعَةُ أنْهارٍ من الجَنَّة: سَيْحَانُ وجَيْحاَن والفُرَات والنِّيْلُ.
(a) في الأصل بالمهملة: الحلال، وتقدم التعليق عليه.
وقَرَأتُ في تاريخ أبي زَيْد البَلْخيِّ، قال
(1)
: وأهل الكتاب يَزْعُمُونَ أنَّ أربعَة أنْهارٍ تَخْرجُ من الجَنَّة: سَيْحَانُ وجَيْحاَن والفُرَات والنِّيْلُ.
وقَرَأتُ في قَصِيدَة الأعْلَام المُزْدوجة، من نَظْم أبي عَمْرو القَاسِم بن أبي دَاوُد الطَّرَسُوسيِّ، في ذكر الفُرَاتُ وسَيْحَان وجَيْحاَن:[من الرجز]
ثُمَّ انْشَمَرنْا في الفُرَاتُ الرَّحْب
…
وادٍ من الجِنَان ذَاتِ الحُجْبِ
أيمن وادٍ ومحَلّ الخِصْب
…
بالبَرَكَاتِ دهْرَهُ ذُو حَلْبِ
وإنّه يَوْمًا من الأيّام
…
عَنْ ذَهَبٍ يَحِسُر للأنَامِ
يَنْتَابَهُ قَوْمٌ من الطَّغَامِ
…
يُقَتَّلُونَ ثمّ في الزِّحَامِ
وقال في تَفْسيره: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
(2)
: يَحْسِرُ الفُرَاتُ عن جَبَلٍ من ذَهَب يأتيه شِرَارُ النَّاسِ، فيُقتَل من كُلِّ عَشَرة تِسْعَةٌ. وَسَنذْكُر الحَدِيْث بإسْنَاده في بابٍ
(3)
يأتي في كتابنا إنْ شَاءَ الله تعالَى.
ثُمّ ذَكَرَ المِصِّيْصَة وكَفَرْبَيَّا في قَصيْدته، وقال:[من الرجز]
أهْلاهُما خُصَّا ببَأسٍ وجُرَهْ
…
بَيْنَهما جَيْحَانُ تحت القَنْطَرَة
يَجْري فيَسْقِي يُمْنَةً وَمَيْسَرَةْ
…
حتَّى تَرَى في البَحْر أفْضَى أَثَرَهْ
ذَاك وسَيْحَان كصَاحِبَيْنِ
…
حَلَّا من الجَنَّة في المِصْرِيْنِ
(1)
البدء والتاريخ (المنسوب للمقدسي) 4: 60، وسبقت الإشارة إلى تاريخ البَلْخيِّ المنسوب لغيره.
(2)
سنن ابن ماجة 1343 (رقم 4046)، مسند ابن حنبل 14: 281 (رقم 7545)، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15:86.
(3)
الأحاديث التي أحال عليها ويوردها فيما يلي في "باب ذكر ما يتعلَّق بحلب وأعمالها من الملاحم وأمارات الساعة"، ليس فيها لفظ هذا الحديث، خاصة عبارة:"يأتيه شرار الناس".
بابٌ في ذِكْرِ العَاصِي
(1)
؛ وهو نَهْر أَنْطاكِيَة وحَمَاة، وذِكْر البَرَدَان؛ وهو نَهْر طَرَسُوس
وهما نْهَران كبيران، مَشْهُوران، يَصُبَّان في البَحْر الشَّاميّ، فأمَّا نَهْر البَرَدَان فإنَّهُ يخرجُ من بلَدِ الرُّوم، ويمتَدُّ إلى طَرَسُوس، ثمّ يصُبُّ في البَحْر، وتَجري فيه السُّفُن، ويشُقُّ وسط مَدِينَة طَرَسُوس، وماؤه مَوْصوُفٌ بشِدَّة البَرْد في الصَّيْف.
أنْبَأنَا أبو القَاسِم بن رواحة الأنْصاريُّ، عن الحَافِظُ أبي طَاهِر الأصْبَهَانيِّ، عن أحمد بن مُحمَّد [بن](a) الآبِنُوسيِّ، قال: أخْبَرنَا عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادِي،
(a) إضافة عليّ جاري عادة المؤلف في تقييد اسمه.
_________
(1)
نهر العاصي: نهر طويل يمتد مسافة 450 كم، مخرجه من نبعين هما: نبع اللبوة الواقع إلى الشمال الغربي من بعلبك، ونبع مغارة الراهب القريب من الهرمل، ويجتمع هذان النبعان ليؤلفا نَهْر العاصي بعرض يتراوح بين 15 - 17 مترًا، ويسير من الجنوب إلى الشمال ليصب في بحيرة حمص، ولهذا سمي بالنهر المقلوب، أو العاصي، ثم يتابع مجراه شمالًا بتعرج في مسيره حتى يصل حماة بعرض 30 مترًا، فيدير نواعيرها الكبيرة القديمة، ثم يمر بمدينة شيزر فيشقها، وبعد تخرجه من قلعة شيزر إلى الشمال الغربي من حماة يمر بمضيق صخري كثير التعرج فيصل إلى سهل الغاب، وينعطف شمالًا بين جِبَال بهراء وتنوخ (النصيرية) غربًا وجبلي الوسطاني والزاوية شرقًا، فيواي سيره باستقامة حتى جسر الحديد ويدخل بعدها في سهل العمق، فينحرف منه إلى ناحية الشمال الغربي حين يرفده نَهْر العمق القادم من بحيرة العمق (بحيرة أنطاكية)، والمتكونة من مياه نهري عِفْرين والأسود، ثم ينعطف نحو الجنوب الغربي مارًا بين جبل الأحمر (قيزل داغ) من جبال الكام (الأمانوس) وجبل الأقرع، ويكون عرضه بين الجبلين نحو 60 مترًا، ثم يندفع نحو البحر الشامي جنوب السويدية بعد أن يجتاز الصخور الصلدة والسدود الصناعية. انظر: جغرافية سترابون 42، وفيه: أورنتيس، وذكر أنَّ تسميته بهذا الاسم مأخوذة من أورونتوس الذي عمل له جسرًا بعد أن كان يسمى "تيفون"، ابن خرداذبة: المسالك 177، اليعقوبي: البلدان 324، ابن رستة: الأعلاق 91، سهراب: عجائب الأقاليم 143، المسعودي: التنبيه 58، 178، رحلة ابن بطلان 78، الإدريسي: نزهة المشتاق 1: 374، 2: 645، ابن سعيد: بسط الأرض 83، ياقوت: معجم البلدان 1: 162، 268 وزاد ياقوت في أسمائه:"الرستن"، أبو الفداء: تقويم 233، الحميري: الروض المعطار 405، موستراس: المعجم الجغرافي 482، طلاس: المعجم الجغرافي 1: 248 - 250، 4: 242، وفيه أنَّ طوله من منبعه حتى المصب 570 کم، 706 l،p - Asi-Al، R .Hartmann 0 R
قال: ومخرَجُ البَرَدَان - نَهْر طَرَسُوس - من طَرف بلاد الرُّوم عليّ دَعَوَة من طَرَسُوس، ثمّ يصُبُّ في البَحْر الشَّاميّ عليّ خمسة أميال من طَرَسُوس، وهو شَدِيدُ البُرُودةِ في الصَّيْف، فاتِرٌ في الشِّتاءِ.
وقد ذكَرتُ في باب الفُرَاتُ، أنَّه وقعَ إليَّ رسالة في ذِكْر الدُّنْيا وما فيها من الأقالِيمْ والجِبَال والأَنْهار، وقال فيها: والمَشْهُور من هذه الأَنْهار الكِبَار اثنا عَشَر نَهْرًا، وهي: الدِّجْلة، والفُرَات، والنِّيْلُ، وجَيْحُون، ونَهْر الشَّاش، وسَيْحَان، وجَيْحاَن، ونَهْرُ بَرَدَان، ومِهْرَان، ونَهْرُ الرَّسّ، ونَهْرُ المُلْك، ونَهْرُ الأهْوَاز. وجميعُ هذه الأَنْهار تَجْري فيها السُّفُن.
قال: وأمَّا سَيْحَانُ وجَيْحاَن وبَرَدَان، فإنَّهُن أنْهار طَرَسُوس وأَذَنَة والمِصِّيْصَة، تخرجُ من بلدِ الرُّوم، ثمّ تَغِيْضُ في البَحْر، وكذلك سائرُ أنْهار الشَّام جميعها إلَّا بَرَدَي والأُرْدُنّ.
وهذا غيرُ مُسَلَّم لصاحب الرِّسَالَة، فإنَّ في أنْهار الشَّام عدَّة أنْهر تَصُبّ في الفُرَاتُ، مثل نَهْر السَّاجُور والنَّهْر الأزْرَق وغيرهما من الأنْهَر الّتي ذكَرنا أنَّها تَغيْض في الفُرَاتُ وغيرها، فإنْ اعْتَذرَ له مُعْتذرٌ وقال: إنَّه أراد أَنْهار الشَّام الكبيرة مثل سَيْحَانُ وجَيْحاَن وبَرَدَان، فقول: اسْتثناؤُه بَرَدَى أوْجَبَ مُؤاخَذتَهُ، فإنَّ نَهْر السَّاجُور والنَّهْر الأزْرَق لا يقصِران عن بَرَدَي في الكبر، فدلَّ عليّ أنَّه أرادَ جميع الأَنْهار التي بالشَّامِ.
وأمَّا نَهْر العَاصِي، فيُقالُ لهُ: الأُرُنْدُ والأُرُنْط، ويُقالُ له: العَاصِي والمَقْلُوب، لأنَّهُ يخالفُ أنْهار الدُّنْيا كُلّها؛ لأنَّهُ يَجْريِ من الجَنُوب إلى الشَّمَال، بخلاف سَائر الأنهرُ، ومَخرجُه من أرض بَعْلَبَك من مَوضِعٍ يُقالُ لهُ اللّبْوَة، يَخْرج من عَيْنٍ
هُناك، شَاهَدْتُها، ثمّ تَمّده عُيُون أخر في طَريقه، ويَجْري حتَّى يَشُقّ بُحَيَرة قَدَس من عَمَل حِمْص، ويمتدّ من غَربيّ حِمْص، ويأتي إلى الرَّسْتَن، ثمّ يأتي حَمَاة من غربيّها (a)، فيُلاصق دُوْرها، ثمّ يأتي شَيْزَر فيلَصق بسَفْح قَلْعتها ودُوْر المَدِينَة من الغَرْب والشَّمَال، ويمتَدّ إلى أفَامِيَة، ويَخْرج إلى أَنْطاكِيَة فيحفّ بالمَدِينَة من جهَة والغَرب، وينفَصل عنها، فيصُبّ في البَحْر.
وكان يُنْسَب إلى أَنْطاكِيَة، فيقال: الأُرُنْط نَهْر أَنْطاكِيَة، وأمَّا في زَمننا هذا فنسْبَته إلى حَمَاة أكثر. وأهْل حَمَاة لا يَنْتفعُون بمائه في السَّقي والزَّرْرعِ إلَّا بالنَّوَاعِيْر، فإنَّ عامَّة سَقي بسَاتيِنْهم منه بالنَّوَاعِيْر، وكذلك الماء الّذي يَدْخُل إلى مِنازلِهم.
وأمَّا حِمْص، فإنَّ بَساتِيْنها تشرَبُ منه سَيْحًا. وسَاق المُلْك المُجَاهِد شِيرْكُوه ابن مُحمَّد بن شِيرْكُوه - حين كانت حِمْص له - من العَاصِي أنْهَارًا إلى مَدِينَة حِمْص، يَجْري بعضُها في المَسْجِد الجامع والبِيْمَارِسْتان، والمنازل بها، ويَجْري منه في خَنْدَق المَدِينَة والقَلْعَة، وبعض الأنْهَر تسقِي في قُرَى حِمْص.
أنْبَأنَا أبو القَاسِم بن رَوَاحَة، عن الحَافِظُ أبي طَاهِر، عن ابن الآنِبُوسيِّ، قال: ذَكَرَ أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي في كتاب الحَافِظُ من تأليفه، قال: ومَخْرجُ الُأُرنْد -نَهْر أَنْطاكِيَة- من أرْض دِمَشْق ممَّا يلي طَريق البَرِيد، وهو يَجْري مع الجَنُوب؛ ولذلك يُسَمَّى المَقْلُوب، ثُمَّ يَصيرُ في البَحْر الشَّاميّ.
(a) هكذا في الأصل، وكتب متملِّك النسخة في الهامش:"صوابه: شرقيها. كتبه محمد بن السابق الحوي"، ونهر العاصي يمر بحماة من شرقيها وشماليها، وذكر الحميري في الروض المعطار أن النهر يمر في وسط المدينة. انظر: أبو الفداء: تقويم البلدان 262، ابن سباهي زاده: أوضح المسالك 300، الحميري: الروض المعطار 199.
وقال أحمد بن مُحمَّد بن إسْحاَق الزَّيَّات: ومَخْرجُ الأُرُنْد -نَهْر أَنْطاكِيَة- من أرض دِمَشْق ممَّا يلي البَرِيد، ويَجْري مع الجَنُوب، ويَصُبّ في البَحْر الرُّوميِّ.
هذا ما ذَكَرَهُ ابن المُنَادِي وأحمدُ بن مُحمَّد الزَّيَّات أنَّه من أرْض دِمَشْق، وقد ذَكَرنا أنَّ مخرجَهُ من اللَّبْوَة، قَرْيَة من بَلَد بَعْلَبَك، ولعلهما أرادَا أنَّ بَعْلَبَك من أعْمَال دِمَشْق، فنَسَبا أرضَها إلى دِمَشْق.
في ذِكْر البَحْر الشَّاميّ ويُعْرفُ أيًضا ببَحْر الرُّوم
وهو مُلاصقٌ لأعْمال حَلَب، حَرَسَها الله، من طَرَسُوس إلى السُّوَيدِيَّة سَاحِل أَنْطاكِيَة، وعلى شَاطِئهِ من منها: طَرَسُوس، وحِصْن أُوْلاس، والإسْكَنْدَرُونَة، وبَيَّاس، والمُثَقَّب، والسُّوَيدِيَّة. والأَنْهار الأربعةُ التي وردَ الحَدِيثُ الصَّحيحُ
(1)
أنَّها من أنْهار الجَنَّة، وهي: النِّيْلُ، والفُرَات، وسَيْحَان، وجَيْحاَن، يصُبُّ فيه ثلاثةٌ منها، وهي: النِّيْلُ وسَيْحَان وجَيْحاَن، فقد صار لحَلَب وعَمَلها قِسْط من ماء النِّيْلُ، فتَكْمُل لها بَرَكَة الأَنْهار الأربعة، بعضُها بحقيقة الأنْهُر، وبَعْضُها بالمُمازَجَةِ.
وقد وردَ في فَضْل سُكَّان سَاحِل هذا البَحر ما أنا ذاكِرُهُ، وهو ما أخْبَرنَا به أبو يَعْقُوب يُوسُف بن مَحْمُود السَّاويّ الصُّوفيِّ إجَازَةً إنْ لم يَكُن سَمَاعًا، قال: أخْبَرنَا الحَافِظُ أبو طَاهِر أحْمدُ بن مُحمَّد بن أحمد السِّلَفيِّ قِراءةً عليهِ وأنا حاضِرٌ أسْمَعُ، ح.
(1)
تقدم الحديث في كلامه على ما وَرَد في الحديث والسُّنَّة من أنَّ الفُرَاتُ وسَيْحَان وجَيحان من أنهار الجَنَّة".
وأنْبَأنَا أبو الحَسَن عليّ بن المُفَضَّل بن عليّ بن مُفرِّج المَقْدِسيِّ، قال: أخْبَرنَا أبو طَاهِر السِّلَفيِّ، والصَّالح المُعَمَّر أبو الضِّيَاءِ بَدْر بن عَبْد الله الحَبَشيّ، سَمَاعًا عليهما بالإسْكَنْدَرِيَّةِ، قالا: أخْبَرنَا أبو إسْمَاعِيلُ إبْرَاهِيمُ بن الحَسَن بن مُحمَّد بن الحُسَيْن المُوْسَويّ، قال: أخْبَرنَا عُبَيْد الله بن أبي مَطَر المَعَافِريِّ، قال: أخْبَرنَا أبو الحَسَن عليّ بن عُمَر الفَقِيهُ، قال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر أحمُد بن عَبْد الله بن سَوَّار، قال: حَدَّثَنَا أحمدُ بن الحَجَّاج، قال: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد ابن يَزِيد، عن مَالِك بن يَحْيَى، عن مُعاوِيَة، عن الأوْزَاعيِّ، عن بِلالِ بن سَعْدٍ، عن ابن عُمَر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ كَبَّر عليّ شَاطِئ بَحْر الرُّوم تَكْبيرةً لا يُريدُ بها إلَّا وجه اللهِ والدَّارَ الآخِرة، جَعلَ اللهُ في ميزانِه يوم القِيامةِ صَخْرةً أثْقَل من السَّمَواتِ السَّبْع والأرْضين السَّبْع وما بينهُنَّ وما تحتَهُنّ.
وقال: أخْبَرنَا أبو الحَسَن الفَقِيه، قال: حَدَّثَنَا هانئٌ، عن مُحمَّد بن هَارُون، عن حَفْص بن عُمَر، عن الأوْزَاعيِّ، عن عَبْد الواحد بن قُبَيْس، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هُرَيْرَة؛ طُوْبَى لقَوْمٍ من أُمَّتِي يَمُوتُونَ على سَاحِل البَحْر، يَخْرجُونَ من قُبُورهم حتَّى يَرِذُوا
(1)
العَرْش، فيقُول اللهُ تعالَى: هؤلاء سُكَّان السَّواحل؟ فَيَقُولُونَ: نعَم، فيقُول اللهُ عز وجل: لا حِسابَ عليهم، انْطَلقُوا فعَانقُوا الأبْكار.
أنْبَأنَا سُلَيمان بن الفَضْل بن سُلَيمان، قال: أخْبَرنَا أبو القاسِم عليّ بن الحَسَن الحَافِظُ الدِّمَشْقيُّ
(2)
، قال: أنْبَأنَا أبوا مُحمَّد: هِبَة الله بن أحمدُ بن
(1)
الرَّوْذَه: المجئ والذّهاب. لسان العرب، مادة: روذ.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 284.
الأكْفانيِّ وعَبْدُ الله بن أحمدُ بن عُمَر بن السَّمَرْقَنْديِّ، قال: أخْبَرنَا أبو الحَسَن أحمدُ بن عَبْد الوَاحِد بن أبي الحَدِيْدِ، قال: أخْبَرنَا أبو مُحمَّد بن أبي نَصْر، قال: أخْبَرنَا أبو عليّ الحَسَن بن حَبِيْب بن عَبْد المُلْك، قال: حَدَّثَنَا أنس بن السَّلْم، قال: حَدَّثَنَا الحَسَن بن يَحْيَى القُرَشِي، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ اليَمَانيّ، قال: قَدِمْتُ من اليُمْن، فأتَيْتُ سُفْيان الثَّوْرِيَّ فقُلتُ: يا أبا عَبْد الله، إنِّي جعلت في نَفْسي أنَّ أنْزل جُدَّة فأُرابط بها كُلَّ سَنَة، فأعْتَمر في كُلِّ شهرٍ عُمْرةً، وأحجُّ في كُلِّ سَنةٍ حِجَّةً، وأقْرُبَ من أهْلي، أحبّ إليك، أم آتي الشَّام؟ فقال لي: يا أخا أهْل اليُمْن، عليك بسَوَاحِل الشَّام، عليك بسَواحِل الشَّام، فإنَّ هذا الَبيْتَ يَحُجُّه في كُلِّ عامٍ مائة ألفٍ ومائة ألف وثَلاثِمائة ألف، وما شاء الله من التَّضْعِيْف، لكَ مثلُ حجِّهم وعُمَرهم ومَنَاسِكِهم.
أخْبَرنَا إبْرَاهِيمُ بن مَحْمُود بن سَالِم إجازة، قال: أنْبَأنَا أبو الفَتْح بن البَطِّيّ، قال: أخْبَرنَا أبو بَكْر الطُّرّيَثْيِثيِّ، قال: أخْبَرنَا أبو القَاسِم الطَّبَريِّ، قال: أخْبَرنَا مُحمَّد بن رزق الله، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن الحَسَن بن زياد المُقْرِئ، قال: حَدَّثَنَا خَلَف بن شمس المُقْرِئ الخَصِيْب (a) عليّ نَهْر عِيسَي، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بن سَعيد الجَوْهَريِّ، عن أبي إسْحاَق الجُرّشيِّ، عن الأوْزَاعيِّ، عن القاسِم بن مُخَيْمِرَة قال: كان لأبي قِلَابَة الجَرْميّ ابن أخٍ يركب المَحَارِم، فاحتُضر، فجاء طَائران أبْيِضان يُشْبهان النَّسْرين، فجلسَا في كُوَّة البَيْت، فقال أحَدُ الطَّائرَيْن لصاحبِهِ: انْزِل ففتِّشه، فَنَزل ففتَّشَهُ، ثُمّ غرَّق (b) منقَاره في جَوْفِه، وذلك
(a) في الأصل بالضاد المعجمة: الخضيب.
(b) الأصل و "ك": عرق، وتأتي في ترجمة ابن أخي أبي قلابة في الكني:"غمز".
بعَيْن أبي قِلَابَة، فقال الطَّائر لصاحبِهِ: الله أكْبَر، انْزِل إليهِ فقد وجَدْتُ في جَوفِه تكبيرةً كَبَّرها في سَبيل الله عز وجل عليّ سُور أَنْطاكِيَة، فأخْرَج الطَّائر خِرْقةً بيضاءَ، فَلَفَّا رُوْحَهُ في الخِرْقَةِ ثمّ احْتَملاها، ثمّ قالا: يا أبا قِلَابَة، قُم إلى ابن أخيك فادْفنه؛ فإنَّهُ من أهْل الجَنَّة. قال: وكان أبو قِلَابَة عند النَّاس مَرْضيًا، فخَرج إلى النَّاس، فأخْبرهم بالّذي ظَهَر: قال: فما رأيتُ جَنازةً أكْثَر أهْلًا منها
(1)
.
فَصْلٌ في صِفَة البَحْر الشَّاميّ وطُوله وعَرْضه
ذَكَر أبو العبَّاس أحمدُ بن مُحمَّد بن يَعْقُوب ابن القَاصّ، قاضي طَرَسُوس، في كتاب دَلائِل القِبْلَة
(2)
، قال: وأمَّا بَحْرُ الرُّوم، الّذي هو بَحر إِفْرِيقِيَّة والشَّام، فيكُون من عند الخَليْج الّذي يخرجُ من عند البَحْر الأخْضَر إلى المَشْرِق، يَمُدّ إلى صُوْر وصَيْدَا وأَنْطاكِيَة وطَرَوسُوس، طولُهُ خَمْسَة آلاف مِيل (a)، وعرضُه في مكانٍ سَبْعمائة مِيْل، وفي مكانٍ ثمانمائة مِيل، يَخرجُ منه خَلِيْجٌ إلى نَاِحيَةِ الشَّمَالِ قريب من الرُّومِيةِّ، طول ذلك الخَلِيْج خَمْسُمائةَ مِيْل يُسَمَّى آرْس (b)، وخَلِيْج آخرَ
(a) أفلت من نقل ابن العديم قول ابن القاص بعد هذا (ومثله ابن رستة: الأعلاق النفيسة 84): وعرضه في مكان ستمائة ميل.
(b) ابن القاص: الرس، وابن رستة: الأعلاق النفيسة 85: أذريس.
_________
(1)
ترجم ابن العديم في الجزء الخاص بالكنى (الجزء العاشر) لابن أخي أبي قِلَابَة دون أنَّ يسميه، وأعاد ذكر هذه الرواية من طريق آخر تتصل بالأوزاعي.
(2)
ابن القاص: دلائل القبلة 185.
إلى خَلَف قُبْرسُ، ففي هذا البَحْر مائة واثنان وستُّونَ جزيرة عَامِرَة، منها خَمْسُ جزائر عِظَام كقُبْرُس (a).
وقال
(1)
: وبَحر اللَّاذقِيَّة (b)، فإنَّهُ يَمُدّ بين (c) لاذِقيِّة إلى خَلْف قُسْطَنْطِيِنَّية، يَخْرجُ منه خَلِيجٌ يَجْري كأنَّه نَهْرٌ حتَّى يصُبُّ في بحر الرُّوم، وعَرْضَه عند قُسْطَنْطِينِيَّة قدر ثلاثة أمْيَال فقط مُشْرفة عليه.
وقال أبو الحَسَن عليّ بن الحُسَيْن بن عليّ بن عَبْد الله المَسْعُوديِّ في ذِكْر بحر الرُّوم والشَّام
(2)
: إنَّ طُوله خمسَة آلاف ميل وعَرضه مُختلِفٌ؛ فمنهُ: ثَمانمائة ميل فما دونَه، وأضْيَق مَوضعٍ فيه بين سَبْتَةَ وطَنْجَة، وهو المَعْرُوفُ بزُقَاق سَبْتَة نَحو عَشرة أمْيَال.
وعلى هذا البَحْر من المُدُنِ الغَربْيَّة: سَبْتَّة، وطَنْجَة، والجَزَائر، وتُونِس، والمَهْدِيَّة، وطَرابُلُس، وسَفَاقُس. ومن المُدُن المِصْريَّة والثُّغُور: الإسْكَنْدَرِيَّة، ورشيْد، ودمْيَاط، وتنّيِس. ومن المُدُن الشَّاميَّة: غَزَّة، وعَسْقَلان، وعَكَّا، وصَيْدَا، وصُوْر، وبَيْرُوت، وطَرابُلُس، واللَّلاذِقِيَّة، وأَنْطاكِيَة، وأَذَنَة، وطَرَوسُ، وجَبَلَة، وغير ذلك.
(a) عند ابن القاص: تحيط بقبرس، وقدَّر قدامة عدد الجزر في بحر الروم بـ 162 جزيرة. انظر كتاب الخراج 146.
(b) كذا في الأصل بالذال المعجمة، في هذا الموضع وتاليه، وعند البتاني في زيجه 27: لاذقة، وعند سهراب: عجائب الأقاليم 115 والمسعودي: مروج الذهب 1140، وابن القاص: لازقة، بالزاي، و قدامة: كتاب الخراج 147: لارقة، وذكر الإدريسي أن بحر بنطس يتصل من جنوبه ببلاد لازقة، نزهة المشتاق 2:921.
(c) ابن القاص: من.
_________
(1)
ابن القاص: دلائل القبلة 186.
(2)
مروج الذهب 1: 137، التنبيه والإشراف 56 بتصرُّفٍ في النقل.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه توفيقي
وقال أبو عَبْد الله مُحمَّد بن أحمدُ الجَيْهَانيُّ: وبحر الرُّوم وإفْرِيقِيَّة والشَّام ومِصْر طولُه من الخَلِيْج الذي يَخْرجُ من بَحر المَغْرب إلى نَاحِيةَ المَشْرِق، ينَتهي إلى صُوْر وصَيْدَا، يكون ذلك مِقْدَار خَمْسَة آلاف مَيْل، وعرضُه في مكانٍ سّتمائة مِيْل وفي مكانٍ ثَمانمائة مِيْل، ويَخْرج منه خَلِيجٌ إلى ناحية الشَّمَال قريب من الرُّوميَّة، يكون طُوله ثمانين مِيْلًا
(1)
، وفي هذا البَحْر مائتان واثنَتان وسِتُّون
(2)
جَزيرة عَامِرة؛ منها خَمْس جَزَائر عِظَام، أعْظَمُها: قُوريس (a)، يُحيط بها مائتا مِيْل، وسَرْدَانَية، يُحيط بها ثلاثمائة مِيْل، وسقلّيّة، يُحيط بها خمسُمائة مِيْل، وأطْرِيْقيَة (b)، يُحيط بها ثَمانمائة مِيْل، وقُوْبرْسُ (c)، يُحيط بها ثلاثمائة وخَمسُون مِيْلًا.
قال: وعندَ القُسْطَنْطِينِيَّة، يَخْرجُ منه -يعني: من بَحر نيطش (d)- خَلِيجٌ يَجْري كَهَيئة النَّهْر، وينصَبّ في بحر مِصْر، وعرضُهُ عند القُسْطنْطِينِيَّة قَدر ثلاثة أمْيَال بُنِيَت القُسْطَنْطِينِيَّة عليه.
(a) فوقها في الأصل علامة "صـ"، وعند البتاني في زيجه 27: قُرْنُس.
(b) هكذا كتبها المؤلف، والمعروف من جزائر البحر الكبار: أقريطش، وعند ابن رستة والمنبجي: أقريطية، وانظر: الأعلاق النفيسة 85، زيج البتاني 27، معجم البلدان 1: 345، وغرائب الفنون 361، 64 Pp 0 Vol II .Unvan-Kitab Al Agapius de Menbidi
(c) كذا وردت، ولعله وجده هكذا في أصل الجيهاني.
(b) كتب ابن العديم فوقها علامة "ص"، وقال شارل بلا في فهارس المروج: هو بنطس، ومثله في زيج البتاني 27، وعند المنبجي: ماوطيس.
_________
(1)
عند المنبجي: طوله 500 ميل، انظر: 63 Pp 0 Vol II Unvan- Kitab Al: 0 Agapius de Menbidi
(2)
هكذا قدَّرها الجَيْهَانيُّ، وما تورده كتب الجغرافية أنَّ عددها 162، انظر: ابن رستة: الأعلاق النفيسة 85، البتاني: الزيج الصابئ 27، 63 Pp ،Vol II .Unvan-Kitab Al :Agapius de Menbidi مجهول: غرائب الفنون 363.
قال: وأمَّا البَحْر الشَّاميّ، فإنَّهُ إذا صَارت الشَّمْسُ في أوَّل العَقْرَب إلى أنْ تَصير في أوَّل الحُوْت في هذه الأربعَةَ الأشْهُر لا يَسْتَطِيعُ النَّاس رُكُوبه، وذلك لأنَّ الشَّمْس تباعَدُ عنه، وتَحْدُثُ فيه الرِّيَاح العاصِفةُ، وذلك في ناحيةِ الشَّمَال منه.
وقَرَأتُ في كتاب مُرُوج الذَّهب، تأليفُ أبي الحَسَن عليّ بن الحُسَيْن ابن عليّ بن عَبْد الله المَسْعُوديِّ، قال
(1)
: فأمَّا بَحْرُ الرُّوم وطَرَسُوسَ، وأَذَنَة، والمِصِّيْصَة، وأَنْطاكِيةَ، واللَّاذِقيَّة، وطَرابُلُس، وصَيْدَا، وصُوْر، وغير ذلك من سَاحَل الشَّام، ومِصْر، والإسْكَنْدَرِيَّة، وسَاحِل المَغْرب. فذكَرَ جَمَاعَةٌ من أصْحَاب الزّيجْات في كُتُبهم النُّجُوميَّة منُهم مُحمَّد بن جَابِر البَتَّانيّ
(2)
وغيره، أنَّ طولَهُ خمسَةُ آلاف مِيْل، وعَرْضهُ مختلِفُ، فمنه: ثَمانمائة مِيْل، ومنه سَبْعمائة، ومنه ستّمائة، وأقلّ من ذلك عليّ حَسَب مُضَايَقة البَرِّ للبَحر، والبَحْر للبّرِّ. ومبدأ هذا البَحْر (a) من خَلِيجٌ يَخْرجُ من بَحْر أُقْيَانُس (b)، وأضيَقُ مَوضعٍ في هذا البَحْر (c) بين سَاحِل طَنْجَة وسَبْتَة من بلادِ المَغْرب و بين سَاحِل الأنْدَلُس، وهو المَوضِع المَعْرُوف بشيطا (b)، وعرضُهُ فيما بين السَّاحِلَيْن نحو من عَشَرَة أمْيَال، وهذا المَوْضِعُ هو
(a) الأصل و "ك": الخَلِيْج، والتصويب من المروج.
(b) في الأصل و "ك": أقنابس، تحريف. وهو بحر أقيانس أو أوقيانوس حسب تسميته اليونانية، ويسمى أيضًا البَحْر المحيط، والبحر الأخضر، ابن رستة: الأعلاق النفيسة 85، زيج البتاني 26، المسعودي: التنبيه والإشراف 68، الإدريسي: نزهة المشتاق 1: 93، ياقوت: معجم البلدان 1: 344، أبو الفداء: تقويم البلدان 26 - 27، ابن الوردي: خريدة العجائب 22، 97، ابن سباهي زاده: أوضح المسالك 43 - 47.
(c) مروج الذهب: الخليج.
(d) كذا في الأصل و "ك"، وعند البتاني في زيجه 26: سبطا، والمسعودي: بسيطا، وفي نسخة أخرى: بنيطا، وعند ابن رستة (الأعلاق 58) وابن القاص (دلائل القبلة 183)"شَبْطَي"، وسمي المنبجي الخَلِيْج الذي بين الأندلس وطنجة: خليج سبطا. انظر Agapius de Menbidj: Kitab Al- Unvan، Vol 1/ 1. Pp 63
_________
(1)
مروج الذهب 1: 137، 138، 142، 143، نقل منه مقطوعات متفرقة غير متتابعة.
(2)
زيج البتاني 27.
المَعْبَرُ لمَن أراد من المَغْرب إلى الأنْدَلُس، ومن الأنْدَلُس إلى المَغْرب، ويُعْرَفُ بالزُّقَاق، ويتشَعَّب من بحر الرُّوم والشَّام ومِصْر خَلِيْجٌ من نحو خَمْسمائة مِيْل، يتَّصِلُ بمَدِينَة رُوْمِيَّةَ، يُسَمَّى بالرُّومِيّةِ أدوس (a).
وفي البَحْر الرُّومِيّ جزائر كَثِيْرةُ، منها: جزيرةُ قُبْرُس بين سَاحِل الشَّام والرَّوم، وجزيرة رُوْدُس مقابل الإسْكَنْدَرِيَّة، وجزيرة إِقْرِيْطُش، وجزيرة صِقِلِّيَّة.
والتَّنَانيْنُ فيهِ -يعني: بحر الشَّامِ- كَثِيْرة، وأكثر ما تكُونُ فيه ممَّا يلي طُرابُلُس واللَّاذِقِيَّة والجبَلَ الأقْرَع من أعْمَال أَنْطاكِيَة، وتحت هذا الجَبَل مُعظم ماءِ البَحْر وأكْثَره، وهو يُسَمَّى عَجُز البَحْر، وغايته إلى سَاحل أَنْطاكِيَة وسيس (b) والإسْكَنْدروْنَة، وبَيَّاس (c)، وحِصْن المُثَقَّب، وذلك في سَفْح جَبَل اللُّكام وسَاحِل المِصِّيْصَة، وفيه مَصَبُّ نَهْر جَيْحَان، وسَاحِل أَذَنَة، وفيه مَصَبُّ نَهْر سَيْحَان، وسَاحِل طَرَسُوس، وفيه مَصَبُّ نهر البَرَدَان، وهو نَهْرُ طَرَسُوس.
والعِمَارَة على هذا البَحْر الرَوِمِيّ من المضيق الّذي قَدَّمنا ذِكْرَهُ، وهو الخَلِيْجُ الّذي عليه طَنْجَة مُتَّصِل بسَاحِل المَغْرب، وبلاد إفْرِيقِيَّة، والسُّوْس، وطَرابُلُس المَغْرب، والقَيْرَوان، وسَاحِل بَرْقَة، والرَّقَّادَة، وبلاد الإسْكَنْدَرِيَّة، ورَشِيْد، وتِّنِيْس، ودِمْيَاط، وسَاحِل الثُّغُور الشَّاميّة، ثمّ سَاحِل الرُّوم متَّصل مارًّا إلى بلاد رُوْمِيَّة إلى أنْ يتَّصل بسَاحِل الأنْدَلُس الّذي يَنْتهي إلى سَاحِل الخَلِيْج الضَّيِّق المُقابِل طَنْجَة على ما ذَكَرنا أنّه لا يقْطع بين هذا البرّ كُلّه، والعَمَائر التي وصَفْناها من الإسْلام والرُّوم، إلى الأَنْهار الجارية إلى البَحْر إلَّا خَلِيْج القُسْطَنْطِينِيَّة، وعَرْضُه نحوٌ من مِيْلٍ، وخُلْجَانات أُخَر من البَحْر الرُّوِميّ داخلّة في البَرِّ لا منْفَذ لها.
(a) عند البتاني 27: أَذْرِيَس، والمسعودي: أدريس، وفي نسخة الأخرى: أدرس، درس. ويذكرها ابن العديم فيما بعد نقلًا عن ابن المُنادِيّ: أُنْدُس.
(b) مروج الذهب: رُوسِسْ.
(c) مروج الذهب: أياس.
فجميعُ ما ذكَرنا على شَطِّ هذا البَحْر الرُّومِيّ مُتَّصل الدِّيَار، غير منفصلين بماء يَمْنَعُهم أو بحرٍ يقْطَعُهم إلَّا ما ذَكَرنا من الأَنْهار وخَلِيْج القُسْطَنْطِينِيَّة، ومثال هذا البِحْر الرُّومِيّ ومثال ما ذكَرنا من العَمَائر عليه إلى أنْ يَنْتهي إلى مَبْدَأ (ا) الخَلِيْج الآخذ من أُقيانُس (ب) الّذي عليه المَنارة (ج) النُّحاس، ويلي الأعْلَام من طَنْجَةُ وسَاحِل الأنْدَلُس مثلُ الكَرْنِيْب
(1)
فمقبَضُه الخَلِيْج، والكَرْنيب على صِفَة البَحْر إلَّا أنَّه مُدَوَّر (د) الشَّكل لِمَا ذكَرنا من طوله.
قال
(2)
: وقد ذكَر أحمدُ بن الطَّيِّب السَّرخَسِيّ في رسالته في البحار والمياهِ والجِبَالِ عن الكِنْدِيّ: أنَّ بَحْر الرُّوم طُوله ستَّة آلاف ميْل من بلاد صُوْر وطَرابُلُس وأَنْطاكِيَة والمُثَقَّب وسَاحِل المِصِّيْصَة وطَرَسُوس وقَلمْيَة إلى مَنَار هِرَقْل، وأنَّ أغْرَضَ مَوضعٍ فيه أرْبَعمائة مِيْلٍ.
وقال
(3)
: شاهدْتُ أرْبابَ المراكب في البَحْر الرُّومِيّ من الحَرْبِيَّة، والعَمَّالَة؛ وهم النَّواتِيَّةُ، وأصْحَاب الأرْجُل، والرُّؤَسَاءِ، ومَنْ يَلي تَدْبير المَراكبَ والحَرْب فيها، مثل لَاوُن المُكَنَّى بأبي الحَارِث غُلَام زُرَافَة صاحب طَرابُلُس الشَّام من سَاحِل دِمَشْق، وذلكَ بعد الثَّلاثمائة، يُعَظِّمُون طُولَ البَحْر الرُّومِيّ وعَرْضَهُ وكَثْرة خُلْجانه وتَشَعُّبه. وعلى هذا وجدْتُ عَبْدَ الله بن وَزِير صاحب مَدِينَة جَبَلَة من سَاحِلِ حِمْصَ من أرضِ الشَّام، ولم يَبْقَ في هذا الوَقْت -وهو سَنَة اثْنتَيْن وثلاثين وثَلاثِمائة- أبْصَر منهُ بالبَحْر الرُّومِيّ، ولا آنسَ به، وليسَ في مَنْ يركَبُه من أرْباب
(a) الأصل و "ك": مبدأه.
(b) الأصل: أقنابس، "ك": أقياس.
(c) الأصل، "ك": المنار.
(d) في المروج: إلا إنه ليس بمدور!.
_________
(1)
الكرنيب والكَرْنَبَة: المِغْرَفَة، بلغة أهل مصر. تاج العروس، مادة: كرنب.
(2)
مروج الذهب 1: 148.
(3)
مروج الذهب 1: 151 - 152.
المراكب من الحَرْبِيَّة (a) والعَمَّالَةِ إلَّا وهو ينْقَادُ إلى قَوله، ويُقِرُّ له بالبَصَر والحِذق ممَّا هو عليه من الدِّيانَة والجهَاد القديم فيه.
وأنْبَأنَا الأَخَوَان أبو مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد الله، وأبو العبَّاس أحمد الأسَدِيَّان، قالا: أخْبَرَنا أبو طَاهِر السِّلَفِيّ إذْنًا، عن أحمد بن مُحمَّد بن الآبِنُوسِيّ، قال: ذكَرَ أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي في كتاب الحَافِظ لمعارف حَرَكات الشَّمْس والقَمَر والنجوم، وأوْصَاف الأفلاكِ، والأقالِيْم، وأسْماء بُلْدانها، قال: حَدَّثَني هارُون بن علىّ بن الحَكَم المُزَوِّق، قال: حدَّثنا عليّ بن دَاوُد القَنْطَريّ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّدُ بن عَبْد العَزِيْز الرَّمْليّ، قال: حدَّثَنا مُحمَّد بنُ شُعَيْب بن شَابُور، قال: حَدَّثَنَا عُمَر ابن يَزِيد المِنْقَريّ، قال: في الكتاب الّذي تَنَبَّأ عليه هارُون عليه السلام أنَّ بَحرنا هذا خَلِيْجُ من فُنْطُس (b)؛ وفُنْطُس خلْفَهُ مُحيط بالأرْض كُرِّيا؛ فهو عنده كَعَيْن على سِيْفِ البَحْر، ومن خَلْفه الأصَمّ مُحيط بالأرْض كُلّها، ففُنطُس وما دونَهُ عندَه كَعَيْن على سِيْف البَحْر، ومن خَلْفه المُظْلم مُحيطٌ بالأرْض كُلّها، فالأصَمّ وما دونَهُ عندَهُ كَعَيْن على سِيْف البَحْر، ومن خَلْفه الماس مُحيطٌ بالأرْض كُلّها، فالمُظْلِمُ وما دونَهُ عندَه كَعيْن على سِيْف البحْر، ومن خَلْفه الباكي، وهو ماءٌ عَذبٌ أمرَهُ اللهُ تبارك وتعالى أنْ يرتفِعَ، فأراد أنْ يستَجْمع، فزجرَهُ، فهو بَاكٍ يَسْتَغْفر الله، مُحيْطٌ بالأرْض كُلّها، فالماس وما دونَهُ عندَهُ كعَيْن على سِيْفِ البَحر، ومن خَلْفه العَرْش مُحيطٌ بالدَّنْيا كُلّها، فالباكي وما دُونَهُ عندَه كعيْن على سِيْفِ البَحْر.
(a) الأصل، "ك": البحرية، والتصويب من كتاب المسعودي، وقد تقدم صحيحًا.
(b) المشهور عند جمهرة الجغرافيين وأصحاب المسالك: بُنْطُس، بالباء عوض الفاء، وهو البحر الأسود، ويسمى أيضًا: بحر طرابُزندة، انظر: المسعودي: التنبيه والإشراف 66 - 67، معجم البلدان 1:342.
قال ابن المُنَادِي
(1)
: ثمّ بلغَنا بعد ذلك أنَّ البَحْر المَعْرُوفَ بفُنْطُس من وراء قُسْطَنْطِينِيَّة (a) يجيءُ من بَحر الخَزَر، وعَرْض فُوَّهته ستَّة أمْيالٍ، فإذا بلغ أَنْدُس (b) صار هنالك بين جَبَلين، وضَاق حتَّى يكُون عرضُه غَلْوَةَ سَهْمٍ، وبين أَنْدُس هذه وبين قُسْطَنْطِينِيَّة مائة مِيلٍ في مُستَوىً من الأرْض، ثمّ يَمُرّ الخَلِيْج حتَّى يصُبَّ في بحر الشَّام، وعَرْضُه عند مَصَبِّهِ ذلك مقْدَار غَلْوَة سَهْمٍ أيضًا، وهَنالك -زَعَمُوا- صَخْرة عليها بُرْجٌ فيه سِلْسلَةُ تَمنَعُ المُسْلِمِيْن من دخُول الخَليْج، وطُوُل الخَليج من بَحْر الخَزَر إلى بَحر الشَّام ثلاثةُ وعشرون مِيْلًا تنْحَدر المَراكب فيهِ من بَحَر الجَزَر وتيكَ النَّواحي، وتَصْعَدُ فيه من بَحْرِ الشَّام إلى القُسْطَنْطِينِيَّةِ.
وقال أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي: حَدَّثَنا جَدِّي، رحمه الله، قال: حَدَّثَنَا يَزِيد ابن هارُون، قال: أخْبَرَنَا العَوَّام بن حَوْشَب، قال: حَدَّثَني شَيخُ كان مُرَابِطًا بالسَّاحِل، قال: خَرَجْتُ ليلة بحَرَسٍ إلى المِيْناء، ولم يَخْرُج تلك اللَّيْلة أحدٌ غيري، فصَعدتُ الميناء، فكان يُخَيَّلُ إليَّ -وأنا مُسْتَيقظٌ- أنَّ البَحْر يُشْرفُ حتَّى يُحاذي برؤُوس الجِبَال ففَعَل ذلك مرارًا وأنا مُسْتَيقظُ، ثمّ نِمْتُ، فرأيْتُ في النَّوم كأنَّ الرَّاية بيَدي وأنا أمْشِي أمامَ أهْلِ هذه المَدِينَة، وهم يَمْشُونَ خَلْفي، فلمَّا أصبَحْتُ رجَعْتُ، فاسْتَقْبَلَني أميرُ المَدِينَة، وأبو صالح مَوْلَى عُمَر بن الخَطَّاب رحمه الله، فكانا أوَّل مَنْ خَرَجَ من المَدِينَة، فقالا لي: أين النَّاس؟ قُلتُ: رجَعُوا قَبْلي. قالا: لم تَصْدقْنَا، نحنُ أوَّل مَنْ خَرَجَ من المَدِينةَ، قال: قُلتُ: لم يَخْرُج أحَدٌ غيري، قالا: فما رأيتَ؟ قُلتُ: واللهِ لقد كان يُخَيَّل إليَّ أنَّ البَحْر يُشْرف حتَّى يُحاذي برؤوس
(a) الأصل: قسطنطينة.
(b) ابن الفقيه: البلدان 190، و مروج الذهب 2: 44: أَبدُس، والمثبت موافق لنقل ابن الجوزي عن كتاب ابن المنادي، وعند سبط ابن الجوزي 1: 105: الأندلس.
_________
(1)
شبيه كلام ابن المنادي عند ابن الفقيه: كتاب البلدان 190، ونقله ابن الجوزي عن ابن المنادي في المنتظم 1: 153، ونقله أيضًا سبطه في مرآة الزمان 1:105.
الجِبَال، ففَعل ذلك مرارًا وأنا مُسْتَيْقظ، ثمّ نِمْتُ، فرأيتُ كأنَّ الرَّاية بيَدِي، وأنا أمْشِي أمام أهْلِ هذه المَدِينَة، وهم يَمْشُون خَلْفي، فقال أبو صَالح: صَدَقْتَ، حَدَّثَنَا عُمَر بن الخَطَّاب
(1)
، عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ليسَ من ليلةٍ إلَّا والبَحْرُ يُشْرف على الأرْضِ ثلاث مَرَّاتٍ يَسْتأذنُ الله في أنْ يَنْتضِحَ عليهم، فيَكُفُّه اللهُ: وأمَّا ما رأيتَ من الرَّايةِ فإنَّ تَصْدُق رَؤياك تَفَز بأجر أهل هذه المَدِينَة اللَّيْلة، قال: وكان أبو صَالح مُبَاعدًا لي قبل ذلك، فكأنَّهُ اسْتأنَس بي، فجَعَل يُحَدِّثُني، وذكَر كَلامًا قَطَعْناهُ.
وعلى قُول المَسْعودِيّ
(2)
، فيما ذَكَرناهُ عنهُ أنَّ التَّنانِيْن في بَحْر الشَّام كَثِيرْة، فوقَعَ إليَّ ببَغْدَاد من تَصْنِيف أحمد بن مُحَّمد بن إسْحَاق الزَّياَّت، مؤلِّف كِتاب البُلْدان، قال فيه: وقال المُعَلَّى بن هِلالٍ العَوْفِيّ: كُنْتُ بالمِصِّيْصَةِ فسَمِعْتُهم يتحَدَّثوُنَ أنَّ البَحْر ربَّما مَكَثَ أيَّامًا ولَيَالي تَصفقُ أمْواجُهُ، ويُسْمَع له دوِيُّ شَدِيدُ، فَيَقُولُونَ ما هذا إلَّا لشَيءٍ قد آذَى دَوابَّ البَحْر فهي تَصِيحُ إلى الله، قال: فَتُقْبِل سَحابةُ حتَّى تَغِيْبَ في البَحْر، ثُمّ تُقْبل أُخرى حتَّى عدّ سبعَ سَحَاباتٍ، ثمّ ترتفعُ الّتي جاءت آخرهُنَّ وتتبَعُها الّتي تليها والرِّيحُ تُصَفِّقُها، ثمّ يرتَفعْنَ جميعًا في السَّماءِ، وقد أخرجْنَ شيئًا يُرَوْنَهُ أنَّه التَّنِّيْن، حتَّى يَغِيْبَ عنَّا، ونحن نَرَاهَ وننظُر إليه ورأسُهُ في السَّحَاب، وذَنَبهُ يَضْطَرُب، فيُقالُ إنَّهُ تَطْرحه إلى يَأْجُوج ومَأْجوُج، قال: ويَسْكن البَحْرُ عند ذلك.
(1)
ابن حنبل: المسند 1: 286 (رقم 303)، وأبو شجاع الديلي (شيرويه): الفردوس 3: 382 (رقم 5165)، ابن الجوزي: العلل المتناهية 1: 52 (رقم 37)، وعند ثلاثتهم (ابن حنبل والديلمي وابن الجوزي): ينتضح بدل ينفضخ، السيوطي: الجامع الصغير 2: 465 (رقم 7676).
(2)
مروج الذهب 1: 143 - 144.
قال الصُّوْرِىُّ: فربَّما رأيناهُ قد انَفْلَتَ من السَّحاب ورَجَع إلى البَحْر، فتجيءُ السَّحَابَةُ، ولها رعدُ و بَرْقُ حتَّى تَخرجَهُ ثانيةً، فربَّما مَرَّ في طريقِه بالشَّجرة العَادِيَّةِ العَظِيمَة، فيَقْتلعُها، أو الصَّخَرَة العَظِيمة فيَرفَعها.
فَصْلُ في ذِكْر ما ورَدَ في ذَمِّ بَحرِ الشَّام
أخْبَرنا أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن بن زَيْد الكِنْدِيّ، فيما أَذِنَ لَنا في روايَته عَنْهُ، قال: أخْبَرَنا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن زُرَيْق، قال: أخْبَرنا أبو بَكْر أحمدُ بن عليّ بن ثَابِتٍ
(1)
، قال: أخبَرَنا مُحمَّد بن عُمَر بن بُكَيْر المُقْرِئ، قال: أخْبَرَنَا أحمدُ بن جَعْفَر بن سَلْم، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن مُوسَى بن حَمَّاد البَرْبَرِيّ، قال: حَدَّثَنَا سَعْدُ بن زُنْبُور، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمن بن عَبْد اللهِ بن عُمَر، عن سُهَيْلٍ، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَة.
قال مُحمَّدُ: وحَدَّثنا سَرَيْج، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمن بن عَبْدِ اللهِ بن عُمَر بن عَاصِم بن عُمَر بن الخَطَّاب، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَة - المعنَى واحدُ- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
: كَلَّمَ اللهُ البَحْر الشَّاميّ فقال: يا بَحرُ، ألَم أخلُقكَ فأحْسَنْتُ خَلْقَكَ، وأكثَرتُ فيكَ من الماء؟ قال: بَلَى يا رَبَ، قال: فكيفَ تَصْنَعُ إذا حَمَلْتُ فيكَ عبَادِي؛ يُهَلِّلُوني ويَحْمَدُوني ويُسَبِّحُوني ويُكَبِّرُوني؟ قال: أُغَرِّقُهُم! قال: فإنّي جَاعِلُ بأسَكَ في نَواحيكَ، وحاملُهُم على يَدي. قال: ثمّ كَلَّمَ اللهُ البَحْر الهِنْدِيّ، فقال: يا بَحْرُ، ألَم أخلُقكَ فأحْسنْتُ خَلْقَكَ، وأكْترَثُ فيكَ من الماء؟ قال: بلى يا رَبّ، قال: فكيفَ تَصْنَعُ إذا
(1)
تاريخ بغداد 11: 502.
(2)
ابن عدي: الكامل 4: 1588 باختلاف في بعض ألفاظه، ابن الجوزي: العلل المتناهية 1: 50 (رقم 34).
حَمَلْتُ فيكَ عِبَادي؛ يُهَلِّلُونِي ويُسَبِّحُوني ويَحْمَدُوني ويُكَبِّرُوني؟ قال: أُهَلِّلُكَ معَهُم، وأُسَبِّحُكَ معَهُم، وأُكبِّرك معهُم، وأحْمِلُهُم بين ظَهْري وبَطْني، قال: فآتَاهُ الله الحِلْيَةَ والصَّيْدَ والطِّيْب.
قال أبو بَكْر أحمد بن عَليّ
(1)
: هكذا رَواهُ عَبْدُ الرَّحْمن بن عَبْد اللهِ العُمَريّ، عن سُهَيْل، وتابعَهُ أبو عُبَيْدِ الله أحمد بن عَبْد الرَّحْمن بن وَهْبٍ، فرَواهُ عن عَمِّه عَبْد الله بن وَهْبٍ، عن عَبْد العَزِيْز بن مُحَّمد الدَّرَاوَرْدِيّ، عن سُهَيْلٍ، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَة، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وخالَفَهُ خَالِدُ بن خِدَاشٍ المُهَلَّبيّ، فَرواهُ عن عَبْدِ العَزِيْز الدَّرَاوَرْدِيّ، عن سُهَيلٍ، عن أبيه، عن عَبْدِ الله بن عَمْرو ابن العَاص، عن كَعْب الأحْبَار. وخالفَهُما خَالِد بنُ عَبْد الله الوَاسطِيّ، فرَواه عن سُهَيْل، عن النُّعْمان بن أبي عَيَّاشٍ الزُّرَقيّ، عن عَبْد الله بن عَمْرو مَوقُوفًا لم يُجَاوزهُ، ورَفْعُهُ غيرُ ثَابِتٍ.
قال
(2)
: أمَّا حَديثُ ابن أخي عَبْد اللهِ بن وَهْبٍ، فأخَبَرناهُ أبو بِشْر مُحمَّد ابن عُمَر بن مُحمَّد بن إبْرَاهِيْم الوَكِيل، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن المُظَفَّر الحافِظُ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن مُحمَّد بن سُلَيمان البَاغَنْدِيّ، قال: حَدَّثَنَا أحمد بنُ عَبْد الرَّحمْن بن وَهْب، قال: حَدَّثَنا عَمِّي، حَدَّثَني الدَّرَاوَرْدِيّ، عن سُهَيْل بن أبي صَالح، عن أبيهِ، عن أبي هُريَرْة
(3)
أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الله تعالَى كلَّم البَحْرين، فقال للبَحْر الّذي بالشَّام: يا بَحرُ، إنِّي قد خَلَقَتُكَ، وأكْترَثُ فيكَ من الماء، وحَامِلٌ فيك عِبادًا لي يُسَبِّحُوني ويَحْمَدُوني ويَهَلِّلُونِي ويُكَبِّرُوني، فما أنتَ صانعٌ بهم؟ قال: أُعَرِّقُهُم، فقال الله: فإنِّي أحمِلهم على ظَهْرك، وأجْعَلُ بأسَكَ في نواحِيْك، وقال للبَحِر الّذي باليَمَن مثل ذلك، فما أنتَ صانعُ بهم؟ قال: أُسَبِّحكَ
(1)
تاريخ بغداد 11: 502 - 503.
(2)
تاريخ بغداد 11: 503.
(3)
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي 1: 48 - 49 (رقم 33).
وأحْمَدُك وأُهَلِّلُكَ معَهُم، وأُكَبِّرُكَ معهُم، وأحملُهُم في بَطْني وبين أضْلاعِي، قال اللهُ: فإنِّي أُفَضِّلُكَ على البَحْر الآخَر بالحِلْيَة والطِّيب.
قال
(1)
: وأمَّا حَدِيثُ خَالِد بن خِدَاش عن الدَّرَاوَرْدِيّ، فأخْبرناهُ عليّ بن مُحمَّد بن عَبْد اللهِ المُعَدَّل، قال: أخْبَرَنَا الحُسَيْن بن صَفْوَان البَرْذَعيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو بَكْر عَبْدُ الله بن مُحمَّد بن أبي الدَّنْيا
(2)
، قال: حَدَّثَنَا خَالِد بن خِدَاشٍ، قال: حَدَّاثَنا عَبْدُ العَزِيْز بن مُحمَّد الدَّرَاوَرْدِيّ، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيهِ، عن عَبْد اللهِ ابن عَمْرو بن العَاص، عن كَعْب الأحْبار
(3)
، قال: إنَّ الله تعالَى أوْحَي إلى البَحْر الغَرْبيّ حين خلقَهُ: قد خَلَقْتُكَ فأحْسَنْتُ خَلْقَكَ، فأكثرتُ فيكَ من الماءِ، وإنِّي حامِلُ فيكَ عِبَادًا لي، يُكَبِّرُوني ويُسَبِّحُوني ويُهَلِّلُونِي ويُقَدِّسُوني، فكيف تَفْعَل بهم؟ قال: أُغَرِّقُهُم، قال الله: فإنِّي أحمِلُهم على كَفِّي وأجْعَل بأسَكَ في نَواحيكَ. ثمّ قال للبَحر الشَّرْقيّ: قد خلقْتُكَ فأحْسَنْتُ خَلْقَكَ، وأكْثرتُ فيكَ من الماء، وإنّي حاملٌ فيك عَبادًا لي يُكَبِّرُوني ويُهَلِّلُونِي ويُسَبِّحُوني، فكيف أنْتَ فاعِلٌ بهم؟ قال: أُكَبِّرُكَ معَهُم، وأُهَلِّلُكَ معَهُم، وأحمَدُكَ معهم، وأحْملُهُم بين ظَهْري وبِطْنِي، فأعْطاهُ اللهُ الحِلْيَةَ والصَّيْدَ والطِّيْب.
قال
(4)
: وأمَّا حَدِيثُ خَالِد بن عَبْد اللهِ الوَاسِطيّ، عن سُهَيْلٍ، فأخْبَرناه مُحمَّدُ ابن الحُسَيْن القَطَّانُ والحَسَنُ بن أبي بَكْر بن شَاذَان، قالا: أخْبرَنا دَعْلَج بن أحمد، قال: أخْبَرَنَا مُحمَّد بن عليّ بن زَيْد الصَّائِغ أنَّ سَعيدَ بن مَنْصُور حدَّثَهُم، قال: حَدَّثَنَا خَالِد ابن عَبْد اللهِ، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن النُّعْمان بن أبي عَيَّاشٍ الزُّرَقيّ، عن
(1)
تاريخ بغداد 11: 503 - 504.
(2)
رسائل ابن أبي الدنيا (رسالة العقوبات) 2: 411.
(3)
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي 50:1 - 51 (رقم 35).
(4)
تاريخ بغداد 11: 504.
عَبْد الله بن عَمْرو
(1)
، قال: كَلَّمَ اللهُ هذا البَحْر الغَرْبيَّ، فقال: يا بَحْرُ، إنِّي خلَقْتُكَ فأحْسَنْتُ خَلْقَكَ، وأكْثرثُ فيكَ من الماء، وإنِّي حامِلُ فيكَ عِباَدًا لي يُكَبِّرُوني ويَحْمَدُوني ويُسَبِّحُوني ويُهَلِّلُونِي، فكيف أنتَ فاعِلٌ بهم؟ قال: أُغَرِّقُهُم، قال: بأسكَ في نواحيكَ، وأحْملهُم على يَدي. وكَلَّمَ اللهُ هذا البَحْر الشَّرْقيّ، فقال: يا بَحرُ، إنّي خلقْتُكَ فأحْسَنتُ خَلْقَكَ، وأكْثرثُ فيكَ من الماء، وإنِّي حَاملٌ فيكَ عِبَادًا لي يُكَبِّرُوني ويَحْمدُوني ويُسَبِّحُوني ويُهَلِّلُونِي، فكيف أنت فاعلُ بهم؟ قال: إذًا؛ أُسَبِّحُكَ معَهُم، وأُهَلِّلُكَ معَهم، وأحْمِلُهُم بين ظَهْري وبَطْني، فأثابَهُ اللهُ الحِلْيَةَ والصَّيْدَ.
قُلتُ: وقد تابَعَ النُّعْمانُ بن أبي عَيَّاشٍ شُعَيْبُ بن مُحمَّد بن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرو فرَوَاهُ عن أبيه
(2)
عَبْد الله بن عَمْرو مَوقُوفًا عليه.
أنْبَأنَا بهِ أبو القَاسِم عَبْد الله بن الحُسَيْن بن رَوَاحَة الحَمَوِيُّ، عن الحافظ أبي طَاهر الأصْبَهَانيِّ، عن أحمد بن مُحمَّد بن الآبِنَوسيِّ، عن رَجُلٍ، عن أبي الحُسَيْن بن المُنَادي، قال: أخْبَرَنا العبَّاسُ بن مُحمَّد الدَّوْرِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو سَلَمَة التَّبُوذَكيّ، قال: حَدَّثَنا سَعيدُ بن زَيْد، قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بن حَازِم، قال: مَرَّ بنا شُعَيْبُ بن مُحمَّد بن عَبْد الله بن عَمْرو بن العَاص بالمَدِينَة فجلَسَ في حلْقَة سُلَيمان بن يَسَار، فحَدَّثَنا عن عَبْد الله بن عَمْرو، قال: إنَّ الله تعالى لَمّا خَلَق بَحْرَ الشَّام أوْحَى إليهِ: إنّي خلَقْتُكَ، وإنِّي حامِلُ فيك عبادًا إليَّ؛ يَبْتَغُون من فَضْلي، يُسَبِّحُوني ويُقَدِّسُوني ويُكَبِّروني ويُهَلِّلُونِي، فكيف أنت صَانعُ بهم؟ قال: رَبّ، إذًا؛ أكْسِرُ بهم سفينَتَهُم وأُغَرِّقُهُم، قال: اذْهَبَ فقد لعنْتُكَ، وسأنْقُلُ -أو: سَأُقِلُّ- حليَتَكَ، وأُقِلُّ صَيْدَكَ. وأوْحَي إلى بَحْر العِراَق: وإنِّي قد خلقك، وإنّي حَامِلُ فيكَ عِبادًا إليَّ؛ يَبتغُون من
(1)
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي 1: 51 (رقم 36).
(2)
اسم أبيه محمد، ولعل الصواب: عن جده.
فَضْلي، يُسَبِحُوني ويُقَدِّسُوني ويُكَبِّرُوني ويُهَلِّلوُنِي، فكيف أنتَ صانعُ بهم؟ قال: رَبّ، إذًا؛ أحْمِلُهُم على ظَهْري وأحمِلُهُم في بَطْني، إذا سَبَّحُوكَ سَبَّحْتُكَ معَهُم، وإذا قَدَّسُوكَ قدَّسْتُكَ معَهُم، وإذا كَبَّرُوكَ كَبَّرتُكَ معَهم، وإذا هَلَّلُوكَ هَلَّلْتُكَ مَعَهُم، قال: اذْهَب فقد باركْتُ فيكَ، وسأُكْثِرُ حلْيتَكَ، وأُكْثر صَيْدك.
وقد رَوَاهُ صَفْوَانْ بن عَمْرو، عن خَالد بن مَعْدَان، عن عُبَادَةَ بن الصَّامِت، عن رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، أخْبَرَنَا به أبو مُحمَّد وأبو العبَّاس الأسَدِيَّان، إجَازَةً من كُلِّ واحدٍ منهما، قالا: كَتَبَ إلينا أبو طَاهِر الحافِظ أنَّ أحْمد بن مُحمَّد ابن الآبِنُوسيِّ أنبأهُم، قال: أُخْبرنَا عن أبي الحُسَيْن بن المُنادِي، قال: حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيْز بن مُحمَّد بن دِيْنارٍ أبو مُحمَّد الفارِسيّ، قال: حَدَّثَنَا هاشِم بنُ القَاسِم أبو النَّضْر الحَرَّانيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن إسْحَاق العُكَّاشيِّ (ا)، عن صَفْوَان بن عَمْرو، عن خَالد ابن مَعْدَان، عن عُبَادَةَ بن الصَّامِت، قال: قال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله أوْحَي إلى بَحْر الهِنْد: كيفَ أنتَ يا بحَر الهِنْد إذا حَمَلْتُ فيكَ عبادًا لي يُقَدِّسُوني ويُهَلِّلُونِي ويُسَبِّحُوني ويُكَبِّرُوني؟ قال: أكونُ لَهُم كالمُلُوك على أَسِرَّتهم؛ إذا سَبَّحُوكَ سَبَّحْتُكَ، وإذا كَبَّرُوكَ كَبرَّتُكَ، وإذا قَدَّسُوكَ قَدَّسْتُكَ، وإذا هَلَّلُوكَ هَلَّلْتُكَ. فبارَكَ اللهُ فيهِ، فأكْثر حلْيَتَهُ وصَيْدَهُ. وأوحَي إلى بَحر الرُّوم: كيف أنْتَ يا بَحْر الرَّوم إذا حَمَلْتُ فيكَ عبَادًا لي يُقَدِّسُون ويُهَلِّلُون ويُسَبِّحُون ويُكَبِّرون؟ قال: أكون لهم كفارس الأسَد
(1)
؛ إنْ ثَبَتُوا فَزَّعْتُهم، وإنْ غَرِقوُا أَكَلْتُهم، قال: فلعنَهُ اللهُ، وأقَلَّ حلْيَتَهُ وصَيْدَهُ.
(a) ضبطه بفتح الكاف دون تشديد، وهو نسبة إلى عُكَّاشة بن محصن.
_________
(1)
قال الطبري: كانت العرب في جاهليتها تُسمَّي: فارس الأسد، والأسدُ: الروم، لجرأة العرب عليهم.
تاريخ الطبري 3: 487.
بابٌ في ذِكْر البحَيْراتِ الْتي في أعْمَال حَلَب
وتُسَمَّى الواحدَةُ منها بُحيَرَة لانْبساطها على ظَهْر الأرْضِ في سَعَةٍ وامْتدادٍ تَشْبيهًا بالبَحْر، وتَخْرجُ عن حُدُودِ الأنْهار.
فمنها: بُحيَرَةُ أفامِيَة
(1)
:
وهي بُحيَرةٌ كبيرةٌ مَذْكُورةٌ، ويُجْلَبُ منها السَّمَكُ السِّلَّوْر، وهو الجرِّيْثُ
(2)
، ويُقالُ: إنَّ قُوَيْق إذا مَدَّ في الشِّتَاء، وغاض ماؤُهُ في الأَجَمَة بالمَطْخ، يَحْمَرُّ ماءُ بُحيَرَة أفَامِيَة، فَيَقُولُونَ إنَّه يَمُرّ تحت الأرْض إلى بُحيُرُة أفَامِيَة، وقد ذَكرنا ذلك فيما تقدَّم
(3)
، وقال بعضُهم: إنَّ السِّلَّوْر يَحِيْضُ في ذلك الأوان فَيحْمرُّ ماؤُها، واللهُ أعْلَمُ بذلك؛ ويُضمن سِلَّوْرُها بمبلَغٍ وافر.
ومنها: بُحَيرةُ يَغْرَا
(4)
:
وهي بُحَيرَةٌ كبيرةٌ في جانب العَمْق، مُسْتطيلَة بعَمْق أنْطاكِيَة، وتُعْرفُ أيضًا ببحُيَرَة بَغْراَس، ويُجْلَبُ منها السَّمَكُ الكَثير، ولها ارتفاعُ وافرٌ أيضًا.
(1)
بُحيرة أفامية: كانت تسمى بهذا الاسم قديمًا وأصبحت تعرف الآن بحيرة قلعة المضيق، وهي بالقرب من جشر الشغر، وماؤها حلو يأتي إليها من نهر العاصي. كامل الغزي: نهر الذهب 1: 22 - 23.
(2)
ذکر ياقوت (معجم البلدان 4: 178) أن السلور هو الجَرِّي بلغة أهل الشام، وضبط الاسم بالفتح: السَّلَّور، وعند ابن منظور أن: الجري هو الجريث. لسان العرب، مادة: جرث.
(3)
في باب ذكر أفامية، وأيضًا في باب ذكر قويق.
(4)
بحيرة يَغْرَا: وتسمى أيضًا بحيرة بغراس، وهي بحيرة كبيرة تتكون من مياه عين السلور، بقرب أنطاكية من عمل حارم وناحية العمق، وذكر ياقوت أن عين السلور هي ذاتها بحيرة يغرا، بعد أن تجتمع إليها مياه العاصي ونهر عفرين والنهر الأسود. انظر: البلاذري: فتوح 153، ياقوت: معجم البلدان 1: 352، ابن شداد: الأعلاق 1/ 2: 98.
ومنها: بُحيَرَةُ أَنْزَنِيْت
(1)
:
وهي بُحيَرَةٌ أصْغَر من البُحَيرَتَيْن اللَّتَيْن قدَّمنا ذِكَرهما، وهي بُحيَرَة على جانبها تَلٌّ عالٍ، عليهِ قَرْيَةٌ يُقالُ لها: أَنْزَنِيْت بالقُرْبِ من مَدِينَة الحَدَث، وتَخْم بلادِ الرُّوم، وأهلها أرْمَن، وهي اليوم من عَمَل بَهَسَني؛ بينها وبين الحَدَث.
بابٌ في ذِكْرِ الجِبَال المَذْكُورَة بحَلَب وأعْمالها
ونَبدأُ أوَّلًا بالجِبَال الَّتي تَخْتَصُّ بها وبقُراها، ثُمّ نَذْكُر ما هو في عَمَلهِا سِوَاها؛ فأوَّلهُا:
جَبَلُ جَوْشَن
(2)
وهو جَبَل من غَرْبي مَدِينَة حَلَب، وفي لِحْفهِ نَهْر قُوَيْق، ويُسَمَّى قُوَيْق في ذلك المَوْضِع العَوَجَان. وهذا الجَبَل فيه مَعْدِن النُّحاس.
وأخْبَرَني والِدي، رحمه الله، قال: إنَّما امْتَنَعُوا من عَمَل النُّحاس به لأنَّهُم عَمَلُوهُ فما حَصَلَ فيه فائدُة، وقيل: إنَّ سبَبَ عدم الفائدة فيهِ قلَّة الحَطَب بحَلَبَ.
وقَرَأتُ بِخَطّ بعض الحَلَبِيِّين، وأظُنُّه بعض أعْيَان بني المَوْصُول، قال: ويُقالُ إنَّهُ بطَلَ منذُ عَبَر عليه سَبْيُ الحُسَين ونسَاؤُهُ وأولادُه عليهم السلام، وأنَّ
(1)
بحيرَة أَنْزَنيْت: وتسمى أيضًا: بحيرة الحدث وعين زَنِيْثَا، ومنها منبع نهر حُوريث الذي يمر بالقرب من مدينة الحدث في أقصى ثغور الشام، ويجري حتى يرفد نهر جيحان، وجعل ياقوت موضع البحيرة بقرب مرعش. انظر: سهراب: عجائب الأقاليم 122 - 123، ياقوت: معجم البلدان 5: 320، 351.
(2)
جبل جوشن: أصبح اليوم جزءًا من حلب، في غربي المدينة، وعُمِّر حديثًا بعد أن كان من قبل مصيفًا لأهل حلب تكسوه أشجار الزيتون. الإسكندري: الأمكنة 1: 457، ياقوت: معجم البلدان 2: 186، 4: 167، الأسدي: أحياء حلب 176.
زَوْجة الحُسَيْن كانت حَاملًا، وأنَّها أسْقَطَتْ هناكَ، وطلَبَتْ من الضِّياَع في ذلك الجَبَل خُبْزًا أو ماءً، وأنَّهم شَتَمُوها ومَنَعُوها فَدَعَتْ عليهم، وإلى الآن مَنْ عَمِلَ فيه لم يَرْبَح سوى التَّعَب.
وقِبْليُّ الجَبَل فيهِ مَشْهَدٌ يُعرْفُ بالسِّقْط
(1)
، وهو يُسَمَّى مَشهَد الدَّكَّة، والسِّقْط يُسَمَّى المُحَسِّن بن الحُسَين.
وسَمِعْتُ بعض شُيُوخ الشِّيْعَة بحَلَب يقول: كان دُعاؤها عليهم: لا أرْبَحَ اللهُ لكُم تِجارة، فما رَبِحوا بعدَها.
قُلتُ: وللشِّيْعَة بحَلَب فيه اعْتقاد عَظيم، ويَنْذرُون له النُّذُور. وتَسْمِيَة السِّقْط بالمُحَسِّن لا أصْل له؛ لأنَّ السِّقْط لا يُسَمَّى، وإنْ كان اسْتَهل وسُمِّيَ، فكان ينبغي أن يَذْكرهُ النَّسَّابُون في كُتُبهم، ومع هذا لم يُذْكر
(2)
، اللَّهُمَّ إلَّا إنْ كان الحُسَيْن عليه السلام عَزَم على تسميَةِ ما في بَطْن امْرأته المُحَسِّن، فلمَّا أسْقَطَتْ أُطْلِق عليه هذا الاسم، لكن هذا وغيره لم يذكر في كتاب يعتمد عليه، وإنما يتداول الحلبيون ما ذَكَرناهُ.
ولمَّا نَزَلَ الفِرِنْجُ على حَلَب وحَصَرُوها، في سَنَة ثَمان عَشرة وخَمْسِمائَة، نبَشُوا الضَّريح الّذي يُقالُ به السِّقْط في المَشْهَد المذكور، ونَزَلُوا فيه، فلَم يَرَوا فيه شيئًا فأحْرَقُوه، وكان أبو الفَضْل بن الخَشَّاب حينئذٍ يَتَولَّى تَدبير أمْر المَدِينَة في الحِصَار،
(1)
ويسمى اليوم مشهد الطرح أو مشهد محسن، وهو غربي حلب على بعد أمتار قليلة من مشهد الحسين. الأسدي: أحياء حلب 351.
(2)
بل ورد ذكر المحسِّن كثيرًا في العديد من المصادر التاريخية وكتب الأنساب، والإشارة فيها إلى أنه دَرَج (مات) صغيرًا. انظر: المعارف لابن قتيبة 211، أنساب الأشراف للبلاذري (حميد الله) 1: 402، تاريخ الطبري 5: 153، جمهرة أنساب العرب لابن حزم 16، 37 - 38. بل عدَّه بعضهم ضمن الصحابة وساق بإسناده حديثًا. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 4: 308 ـ
فغَيَّر كَنَائِس النَّصَارَي بحَلَب، واتَّخَذ فيها مَحاريْبَ إلى جهة القِبلَةِ، وجَعلَها مَساجِدَ؛ أخْبرَني بذلك والدي رحمه الله عن أبيه.
وإنَّما عُرفَ هذا المْشْهَدُ بمَشْهَد الدَّكَّة، لأنَّ في سَطْح جَبَل جَوْشَن من شمالي المَشْهَد المَذْكُور، في مكانٍ مُشْرِف، صَخْرُة ناتئةُ في الجَبَل تُشْبه الدَّكَّة المَبْنِيَّة.
ووقفْتُ يومًا عليها ومعي رَضي الدِّين أبو سَالِم بن المُنْذر، وكان شَيْخًا حَسَنًا من أعْياَن الحَلَبِّيينَ، فقال لي: هذه الدَّكَّة كان يَجْلِسُ عليها الأمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَة ابن حَمْدَان كَثِيْرًا، ويَتَفرِّجُ على مَدِينَة حَلَب وما حَوْلَها، فلا يَسْتَتر عنْهُ شيء منها؛ وهذا المَشْهَدُ جَدَّدَ عِمَارتَهُ قَسِيمُ الدَّوْلَة آقْ سُنْقُر والد زَنْكِي، واسْمُهُ عليه.
وفي سَفْح جَبَل جَوْشَن، من شَماَلي مَشْهَد الدَّكةَّ، مَشْهَدُ آخر يُسَمَّى مَشْهَد الحُسَيْن، بناهُ الحَلَبِيُّون لمنامٍ زَعَمُوا أنَّهُ رُأَى، وتَنَوَّقُوا في بنائه وإحْكامِهِ ومَنْجُوره، وتبَرَّع جَمَاعَةُ من الصُّناّع في عِماَرَة شيءٍ منه، وأظْهر صَنْعتَه فيه؛ ووقَفَ المَلِكُ الظَّاهِر غَازِي، رحمه الله، عليه وَقْفًا حَسَنًا، اسْتمالةً لُقلُوبِ الشِّيْعَة من أهل حَلَب.
وكان في سَفْح جَبَل جَوْشَن دَيْرٌ للنَّصارَى يُعرفُ بدَيْر البِيْعَتَيْن، ويُعرْفُ أيضًا بمارْة مَرُوثا، وقد ذكَرَهُ الشِّمْشَاطيِّ في كتاب الدِّيَرةَ
(1)
.
وقيل إنَّ سَيْف الدَّوْلَة كان أيَّام مقامه بالحَلْبَة في قَصْرِه كان يَنْتَابُ هذا الدَّيْر، ويُحْسنُ إلى أهْله، وقد خَرِبَ هذا الدَّيْر بالكُلِّيَّة، ولم يبقَ له أثَرٌ، وكان من شمالي مَشْهَد الحُسَين، وأرَاني مَوضِعَهُ بعضُ أكابر أهْل حَلَب.
(1)
تقدم التعريف بالكتاب فيما سبق، وسمي هذا الدير بدير البيعتين لأن فيه مسکنين، للرجال والنساء، وانظر عن دير مار مروثا: مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري 1: 418.
وقد ذكَرَهُ أبو عِيسَى صَالح بن مُحمَّد بن إسْمَاعيل بن صالح بن عليّ الهاشمّي في قَصِيدَة قالَها في إحْراق المُتَنَزَّهات حَول حَلَب، وأظُنُّ أنَّ سَيْما الطَّويل أحْرقها، أوَّل القَصِيدَة:[من الوافر]
عَفَا أثرُ من المُتنزَّهات
قال فيها:
إلى البُرْج المُنِيْف فبِيْعَتَيْهِ
…
إلى تلك الدِّيار الخاَلِيَات
وهذا الدِّيْر هو الّذي عَنَاهُ الخَالِديَّان بقولهما من قَصِيدَةٍ يأتي ذكْرها في مَوضِعها
(1)
: [من الكامل]
واسْتَشْرفَتْ نَفْسِي إلى مُستَشرفٍ
…
للدَّير تاهَ بحُسْنه وبطِيْبهِ
فنَعمتُ بين رياضِه وغياضِهِ
…
وسكرتُ بين سكُوره وعُرُوبهِ
وقد ذكَرَ جَمَاعَة من الشُّعَرَاء جَبَل جَوْشَن، فمنهم أبو بَكْر الصَّنَوْبَريّ، قال
(2)
: [من المتقارب]
فللظَّهْرِ من حَلَبٍ مَنْزلٌ
…
تُثَابُ العُيونُ على حَجِّهِ
أعِدْ نحوَ جَوْشَنِهِ نَظرةً .... إلى بِيْعَتَيْهِ إلى بُرْجِهِ
وأنْشَدَنا الخَطِيبُ أبو عَبْد الله مُحمَّد بن هاشِم بن أحمد بن عَبْد الواحد الحَلَبِيّ، قال: أنْشَدَنا أبي هاشِم الخَطِيب بحَلَب، قال: أنْشدَنا أبي أحمد بن عَبْد الوَاحِد الأسَدِيّ، قال: أنْشَدَنا أبو مُحمَّد عَبْدُ الله بن مُحمَّد بن سِنَان الخَفَاجِيّ الحَلَبيِّ
(3)
لنفسه:] من الكامل]
(1)
لم ترد في هذا الجزء، ولعلها في ترجمتيهما السَّاقطتين ضمن حرفي السين والميم (سعيد ومحمد ابني هاشم بن وعلة).
(2)
ديوان الصنوبري 406.
(3)
ديوان ابن سنان الخفاجي 353 - 354 ـ
قُلْ للنَّسِيْم إذا حملْتَ تَحيَّةً
…
فاهْدِ السَّلامَ لجَوْشَنٍ وهِضَابهِ
واسْألْهُ هل سَحَبَ الرَّبيْعُ رِدَاءَهُ
…
فيها وجَرَّ الفَضْلَ من هُدَّابهِ
وتبسَّمَتْ عنْهُ الرِّيَاضُ وأَفْصَحَتْ
…
بثَناءِ بارقهِ ومَدْحِ سَحَابهِ
فلقَدْ حَنَنْتُ وعَادَنِي من نَحْوه
…
شَجَنُ بَخِلْتُ به على خُطَّابهِ
وأنْشَدَنا أبو عَبْد الله الخَطِيبُ، قال: أنْشَدَني أبي، قال: أنْشَدَني أبي، قال: أنْشَدَنا أبو مُحمَّد الخَفَاجِيّ لنفسِه
(1)
: [من الكامل]
يا بَرْقُ طَالِعْ مِن ثَنِيَّة جَوْشَنٍ
…
حَلَبًا وَحَيِّ كَريْمَةً من أَهْلِهَا
وقال الأُسْتاَذ أبو نَصْر مَنْصُور بن المُسَلَّم بن أبي الخُرْجَين الحَلَبيِّ الَمعْرُوف بالدُّمَيْك: [من الطويل]
عسَى مَوْردٌ من سَفْح جَوْشَنَ ناقِعٌ
…
فإنِّي إلى تلكَ الموارد ظَمْآنُ
وما كُلُّ ظنٍّ ظنَّهُ المَرْء كائنٌ
…
يَقُومُ عليهِ للحَقِيْقة بُرْهَانُ
ذِكْرُ جَبَل بَانَقُوَسَا
(2)
وهو جَبَلٌ مُمتدٌّ، قليل الارْتِفاع، من شَرْقيّ مَدينَة حَلَب، بينها وبين بَابِلَّي، وحَلَب فيما بينَهُ وبين جَبَل جَوْشَن، وقد كان مَسْكُونًا وفيه آثار صَهاريج للماء، ولم يبقَ من أثر بُنْيانهِ القديم غير الصَّهاريج، ثمّ بُني في سَفْحه أبْنية كَثِيرْة جُدِّد أكثرها في أيَّام المَلِك العزيز مُحمَّد بن المَلِك الظَّاهِر، ثم اتَّصل البناء إلى سَطْح
(1)
ديوان ابن سنان الخفاجي 180.
(2)
بانقوسا: حدد المؤلِّف موضعه شرقي مدينة حلب، وحدده ياقوت بظاهر المدينة من جهة الشمال، والمشهور بهذا الاسم محلة (حارة) بانقوسا من أحياء حلب، كما عُرف بحلب سوق بانقوسا، يقع في محلة خان السبيل. ياقوت: معجم البلدان 1: 331، ابن الشحنة: الدر المنتخب 44، الأسدي: أحياء حلب وأسواقها 120.
الجَبَل، وبُني عليه منازل كثيرة في دولة المَلِك النَّاصر صلاح الدِّين يوسف بن المَلِك العزيز، أعَّز اللهُ أنْصَارَهُ.
وقيل: إنَّ مَنْبَت خشب الشُّربين بحلب كان ببَانَقُوسَا، وهو خشب السَّرْو، ومنه كانت تُعْمل السُّقوف بحلب، والسُّقُوف في آدُر حلب القديمة والأنجاف من خشب الشُّربين، ويدل على ذلك وصف الصَّنَوْبَريّ حلب بكثرة السَّرو كما في قوله في القصيدة الهائيَّة التي يأتي ذِكْرُها في باب مدح حلب إن شاء الله
(1)
: [من مجزوء الرمل]
أيُّ حُسْنِ ما حَوَتْهُ
…
حَلَبُ أو مَا حَوَاها
سَرْوُهَا الدَّاني کما تَدْ
…
نُو فتاةٌ لفتاهَا (a)
وفيها:
بَانَقُوسَاهَا بِهَا با
…
هَي المُبَاهِي حَيْثُ بَاهَا (b)
وأخبرنا قاضي العسكر أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الخضر، قال: كانت حلب من أكثر المُدُنِ شَجَرًا، فأفْنَى شَجَرها وقوع الخُلْف بين سَيْف الدولة ابن حمدان وبين الإخشيد أبي بكر محمد بن طُغْج؛ فإنَّ الإخْشِيَد كان يَنْزلُ على حَلَب ويُحاصرها، ويَقْطَع شَجرها، فإذا أخَذَها وصَعَدَ إلى مِصَر، جاء سَيْف الدَّولة، وفعل بها مثل ذلك، وتكرر ذلك منهما حتى فني ما بها من الشَّجَر.
(a) الديوان: من فتاها.
(b) الديوان: حين باهي.
_________
(1)
سقطت هذه القصيدة من كتاب ابن العديم بضياع الباب المذكور أعلاه: "باب مدح حلب". وهي في ديوان الصنوبري 456 ومعجم البُلْدان 2: 288.
واتَّفقَ بعد ذلك ذلك نُزول الرُّوم على حلب، وأخذ المدينة في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، ففَنَى شجر الشُّربين لذلك، وكانت الوقعة بين سيف الدولة وبين الدُّمُسْتُق في هذه السنة في سفح بَانَقُوسَا، وسُمِّيَت وَقْعَة بَانَقُوسا، وقُتِل فيها جماعةٌ من أهلهِ وكُتَّابه؛ وكان عَسْكَره غائبًا مع نَجَا، واستولى الدُّمُسْتُق على حلب تسعة أيام، وسنذكر الوقعة فيما يأتي من كتابنا هذا في موضعها
(1)
.
والحيَّاتُ الّتي ببَانَقُوسا قَوَاتِل لا يَسْلَم مَنْ لَدَغَتْهُ بل يَمُوتُ في الحال، وحَيَّاتٌ داخل المديْنَة لا تكادُ تَقْتُل أحدًا. وبين المَدِينَة وبين بَانَقُوسَا مِقْدَار شَوْط من جَرْي الفَرَس.
وقد ذُكِرَتْ بَانَقُوسَا كثيرًا في الشِّعْر، وقال الصَّنَوْبَريُّ في القَصِيدَة الجِيْميَّة بعد البيتَيْن الّلذين ذَكَرناهُما في جبل جَوْشَن
(2)
: [من المتقارب]
إلى بانَقُوساهُ تلك الّتي
…
حكَتْ راكبًا لاح من فَجِّهِ
لتَرْتاضَ نَفْسَك في رَوْضِهِ
…
ويمرجُ (a) طَرْفُكَ في مَرْجِهِ
وقال أبو عبادة الوليد بن عُبَيْد البُحْتُرِيّ
(3)
يذكُرُ بَانقُوسَا و بَابِلَّي وبُطْياس: [من البسيط]
أقامُ كُلُّ مُلِثِّ الوَدْقِ رَجَّاسِ
…
على دِيَارٍ بعُلْوِ الشَّام أدْرَاس
فيها لعَلْوةَ مُصْطَافٌ ومُرْتَبَعٌ
…
من بَانَقُوسَا وبابِلَّي وبُطْيَاسِ (b)
(a) ديوان الصنوبري: ويمرح.
(b) هكذا يضبطها ابن العديم حيثما ترد بالضم، وضبطها ياقوت بکسر الباء أول الحروف، معجم البلدان 1: 450، ومثله في شعر البحتري 2: 932، 980 - 981، 1147.
_________
(1)
لم ترد عنها سوى أخبار عارضة، وخبر الوقعة التي أشار لها ابن العديم ربما كانت في ترجمة سيف الدولة الحمداني، علي بن عبد الله، وهي في الضائع من أجزء الكتاب.
(2)
ديوان الصنوبري 406.
(3)
ديوان البحتري 2: 1147.
مَنَازلٌ أنْكَرَتْنا بعدَ مَعْرِفةٍ
…
وأوْحَشَتْ من هَوَانا بعد إيْنَاس
هَل من سَبيْل إلى الظُّهْران من حَلَبٍ
…
ونَشْوَةٍ بين ذاك الوَرد والآس؟
إذا أقبل الرّيح والأيَّام مُقْبلةٌ
…
من أهْيَفٍ خَنثِ العطفَين مَيَّاس
ذِكْرُ جَبَل سِمْعَان
(1)
وهذا الجَبَلُ غربي مدينة حلب، أوَّله شمالي جبل جَوْشَن، ثُمّ يمتدُّ غَرْبًا ويتَّصل بجبال عدة محسوبة منه إلى كورة تِيْزيْن.
وهو جَبَلٌ نَرهٌ، كثير الشَّجَر من التِّيْن والزَّيْتُون والكَرْم والكُمَّثْرَي، وفيه آثارٌ عظيمة من بناء الروم، وفيه دَيْر سِمْعَان، وكان من الأبنية العظيمة المستحسنة التي تُقْصَد لحُسْنها، وكان على الدَّيْر حِصْن مانعِ، أخْرَبَهُ سَعْدُ الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة ابن حمدان، خوفًا من غلبة الروم عليه، ومضايقتهم حلب به.
وهذا الدَّيْر غير دَيْر سَمِعَان الذي دُفِنَ فيه عُمَر بن عبد العزيز رضي الله عنه بالقرب من مَعَرَّة النعمان، ويُعْرَفُ بَديْر النَّقِيْرَة أيضًا
(2)
.
(1)
جبل سمعان: يقع إلى جهة الشرق من جبال الأمانوس (الكام) حيث توجد سلسلتان جبليتان هما امتداد لمرتفعات عينتاب من جبال طوروس، يسمي الغربي منهما جبل الكرد (کرد داغ) ويسمى الآخر جبل سمعان (جبل لَيْلُون)، غربي حلب، ويجري بينهما نهر عِفْرين، ويحدّ جبل الكرد من الغرب صدع (كسر) مواز لأطراف قوس الأمانوس، ويبلغ أقصى ارتفاع له 1200 م، ومن مرتفعات جبل الكرد جبل اسمه هاوار، وهو الذي ورد عند البلاذري بلفظ "حوَّار"، أما جبل سمعان فيقع إلى الجنوب من جبل الكرد، غربي هضبة حلب، وينحدر سفحه الغربي بشدة نحو مجرى نهر عفرين، ويتصل بجبل سمعان من جهة الشمال الجبل الأعلى، ومن غربيه قرية أرمناز (من قرى إدلب). انظر: البلاذري: فتوح 166، ياقوت: معجم البلدان 4: 132، ابن شداد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 32، زكرياء: جولة أثرية 84، طلاس: المعجم الجغرافي 1: 544، 2،545:75.
وضبطه المؤلف تسميته بكسر السين: سِمْعَان، وهو يوافق ضبط ياقوت، انظر: معجم البلدان 3: 250.
(2)
انظر الهروي: الإشارات 7، وتاريخ ابن الوردي 1: 273 ـ
وفي هذا الدَّيْر الذي بجبل سِمْعان يقُول أبو الفَوارِس بن أبي الفَرَج الأُسْتاَذ البُزَاعِيّ، أنْشَدَنا عَبْدُ الرَّحْمن بن أبي غانم بن إبراهيم بن سِنْدي الحَلَبيِّ، قال: أنْشَدَني أبو الفَوَارِس بن أبي الفَرَج البُزَاعِيّ الأُستاذ لنفسه، وكتبها على حائط دَيْر سِمْعان؛ وقرأتُ هذه الأبيات أيضًا بخطِّ الَّلطيف عليّ بن سِنَان السَّرَّاج (a)، وذَكرَ أنَّه أنشَدهُ إيَّاها أبو الفَوَارِس لنَفْسه، وكتبها على حائط دَيْر سِمْعان، وقد أتاهُ مُتَفَرِّجًا في سَنَة إحْدَى وثمانين وخمسمائة:[من البسيط]
يا دَيْر سِمْعان قُل لي أين سِمْعانُ
…
وأين بانُوك خَبرني متَى بانُوا
وأين سُكاَّنُك القَوْم الأُلَى سَلَفُوا
…
قد أصْبَحُوا وهُمُ في التُّرب سُكَّانُ
أَصْبَحْتَ قَفْرًا خَرَابًا مثْلَ ما خَرِبُوا
…
بالموْتِ ثمّ انْقَضَى عمرُ وعُمرانُ
وقَفْتُ أسْألُهُ جَهْلًا ليُخْبرنَي
…
هيهات من صَامتٍ بالنُّطق تبْيَانُ
أجابني بلسَانِ الحالِ إنَّهمُ
…
كانُوا ويَكْفيك قَوْلي إنَّهم كَانُوا
وقيل: إنَّ هذا الجبل يُنْسَبُ إلى سِمْعَان حواري عِيسَى عليه السلام الذي ينسب الدَّيْرُ إليه، وسنذكر ترجمته إن شاء الله
(1)
.
وقيل: سِمْعَان هو اسْم الجَبَل نَفْسِه، والدَّيْر المذكور مضاف إلى الجَبَل المُسَمَّى بسَمْعان؛ ويدل على ذلك ما أخبرنا أبو البيان نَبأ بن أبي المكارم بن هَجَّام الحَنَفيِّ بالقاهرة المُعِزِّيَّة، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن محمد بن منصور الحَضْرَميّ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازيّ، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن عيسى السَّعْدِيّ، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الله ابن أحمد بن عليّ المُقْرِئ، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن دَرَسْتَوَيْه،
(a) في الأصل: السراح، بالحاء المهملة وفتح الراء، ولم أقف له على ذكر، ويرد اسمه مضبوطًا على الوجه المثبت أعلاه في الجزء العاشر الخاص بالكنى (في ترجمة أبي الفوارس بن أبي الفرج البزاعي).
_________
(1)
ترجمته في الضائع من أجزاء الكتاب.
قال: حَدَّثَني أبي، قال: حَدَّثَنَا أبو عَبْد اللّهِ مُحمَّد بن نُعَيْم، قال: حَدَّثَنا أبو عَليّ عُبيد اللّه الدَّارِسيّ (a)، حَدَّثَني أبو مَسْعُود عُبَيْد بن سُمَيعْ، عن الكَلْبِيّ، عن أبي صَالِح، عن ابن عَبَّاسٍ، قال: لَمَّا قَدِم وَفْدُ إيَادٍ قال لهم رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم
(1)
: ما فَعل قُسُّ بن سَاعِدَة؟ قالوا: ماتَ يا رسُول اللّهِ، قال: يَرْحَم اللّهُ قُسَّ بن سَاعِدَة؛ كأنّي أنظُر إليهِ بسُوْق عُكَاظ على جَمَلٍ له أَوْرَق (b)، وهو يتكلَّم بكلامٍ عليه حَلَاوة، وما أجدني أحفظُهُ؛ فقال أبو بَكْر رضي الله عنه: سَمِعْتُه يقول بسُوْق عُكَاظ: أيُّها النَّاس، اسْمَعُوا واحْفَظُوا، مَنْ عاش مات، ومَنْ مات فات، وكُلّ ما هو آتٍ آت، ليل دَاج، وسَمَاء ذَات أبْراج، وبِحَار تزْخَرُ، ونُجُوم تزهَرُ، ومَطَر ونَبَاتٌ، وآباءٌ وأُمَّهات، وذَاهبٌ وآتٍ، وضَوْءٌ وظَلام، وبرّ وأثَامٌ، ولباسُ ومَرْكب، ومَطْعَمِ ومشْرب، إنَّ في السَّماء لخَبرًا، وإنَّ في الأرْض لعِبَرًا، ما لي أرَى النَّاسَ يذهبُونَ ولا يَرجِعُونَ؟ أَرَضُوْا بالمقامِ هُنالك فأقامُوا؟ أم تُركُوا هنالك فَنَامُوا؟ يُقْسِم باللّهِ قُسُّ بنُ سَاعِدَةَ قَسَمًا بَرًّا لا إثْم فيهِ، ما للّهِ في الأرْض دِيْنٌ أحَبّ إليهِ من دِين قد أظَلَّكُمُ زَمَانُهُ، وأدْرَككُم أوَانُه، طُوْبَى لمَنْ أدْركَهُ فتابَعَهُ، ووَيْلٌ لمَنْ أدْرَكَهُ ففَارقَهُ، ثُمّ أنْشَأَ يقُولُ
(2)
: [من مجزوء الكامل]
(a) كذا ورد قي الأصل، ولم أقف على اسمه.
(b) في البيان والتبيين: جمل أحمر، والجمل الأورق: الذي لونه لون الرماد، وقيل في لونه بياض إلى سواد. لسان العرب، مادة: ورق.
_________
(1)
انظر خبر وفد إياد وسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن قس بن ساعدة عند أبي هلال العسكري: الأوائل 67، الجاحظ: البيان والتبيين 1: 308 - 309، الميداني: مجمع الأمثال 1: 111 (أبلغ من قس)، أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني 15: 164، أسامة بن منقذ: كتاب العصا (ضمن نوادر المخطوطات) 1: 185 - 186، سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 3: 77 - 78، ابن سعيد الأندلسي: نشوة الطرب 2: 668 - 671 الصفدي: الوافي بالوفيات 24: 241، ابن كثير: البداية والنهاية 2: 230، النويري: نهاية الأرب 2: 120، الخرائطي: هواتف الجنان 63 - 64، خزانة الأدب للبغدادي 2: 89 - 90.
(2)
الأبيات في البيان والتبيين 1: 309، وكتاب العصا لأسامة 1: 186، ومرآة الزمان 3:78.
في الذَّاهبِيْنَ الأوَّليْـ
…
ـن من القُرُون لنا بَصَائرْ
لَمَّا رأيْتُ مَوَارِدًا
…
للمَوْتِ ليسَ لها مَصَادِرْ
ورَأَيْتُ قَوْي نَحْوَها
…
يَمضِي الأصَاغرُ والأكابِرْ
لا مَنْ مَضَى منهم يرا
…
جِعُهُم ولا البَاقي بغَابِرْ
أَيْقَنْتُ أنّي لا مَحا
…
لَة حيثُ صَارَ القَوْمُ صَائِرْ
فقال رسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: رَحمَ اللّهُ قُسَّ بن سَاعِدَةَ؛ إنِّي لأرْجُو أنْ يأتيَ يومَ القِيامَة أُمَّةً وحْدَهُ، فقال رَجُلٌ من القَوْم: يا رسُول اللّه، لقد رأيتُ من قُسٍّ عَجَبًا، قال: وماذا الّذي رأيتَ؟ قال: بَيْنَا أنا يَومًا بجَبَلٍ في ناحيَتَنا يُقالُ لهُ سِمْعَان في يوم قائظٍ شَدِيد الحَرّ، إذا أنا بقُسٍّ بن سَاعِدَةَ في ظلّ شَجَرة عندَها عينٌ من ماءٍ، وإذا حَوْلَهُ سِبَاعٌ كَثِيْرةٌ قد وَرَدَتْ، وهي تَشْرَبُ من الماء، فإذا زَأَر سَبُعٌ منها على صَاحبِهِ ضَرَبَهُ بيَده، وقال: كُفَّ حتَّى يَشْرَبَ الّذي وَرَد قبلَك، فلمَّا رأيتُهُ وما حولهُ من السِّبَاع هَالَنِي ذلك، ودخَلَني رُعبٌ شديدٌ، فقال لي: لا تَخَفْ، لا بأسَ عليك إنْ شَاءَ اللّهُ، وإذا أنا بقَبْرَيْن بينهما مَسْجِدٌ، فلَّا أَنسْتُ به قُلْتُ له: ما هَذانِ القَبْران؟ قال: هذان قَبْرا أخَوَين كانا لي يَعْبُدان اللّه في هذا المَوْضِع، واتَّخَذْتُ فيما بينهما مَسْجِدًا أعْبدُ اللّه فيهِ حتَّى ألْحقَ بهما، ثمّ ذَكَر أيَّاما وفعالَهُمَا، فبكَل ثمّ قال
(1)
: [من الطّويل]
خَلِيْليَّ هُبَّا طالَ ما قَد رَقَدْتُما
…
أجِدَّكُمَا لا تَقْضيَان كَرَاكُمَا
ألَمْ تَعْلَما أَنّي بِسمْعَان مُفْرَدٌ
…
وما لِيَ فيها من حَبِيْبٍ سِوَاكُمَا
(1)
الأيات في الأغاني 15: 165 وأيضًا في الإشارات للهروي 5، باختلاف في الرواية وزيادة. بيت، وابن كثير: البداية والنهاية 2: 235.
أُقِيمُ على قَبْرَيْكُمَا لَسْتُ نازحًا
…
طِوَالَ اللَّيالِي أو يُجِيْب صَدَاكُمَا
أبكيّكُمَا طُوْلَ الحياة وما الّذي
…
يَرُدُّ على ذِي لوعَةٍ إنْ بَكَاكُمَا
كأنَّكُما والمَوْتُ أقْربُ غايَةٍ
…
برُوْحِيَ في قَبْريكُما قَدْ أَتاكُمَا
فلَوْ جُعِلَتْ نَفْسٌ لنَفْسٍ وقَايةً
…
لَجُدْت بنَفْسي أنْ تكُون وقَاكُمَا
فقال رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُ اللّهُ قُسُّ بن سَاعِدَةَ.
فقد صرَّح في هذا الخَبَر بقوله: بجبَلٍ في ناحيتنا يُقالُ لهُ سِمْعَان، وفي الشِّعْر:[من الطّويل]
أَلَمْ تَعْلَما أنّي بسِمْعَان مُفْرَدٌ
ويَجُوز أنْ يكون الجَبَلُ في الأصْلِ مَنْسُوبًا إلى سِمْعَان، ثمّ غلبَ الاسْم على الجَبَل، كما سُمِّي جَبَل البِشْر باسم رَجُل يُقالُ لهُ البِشْر، ثُمّ غلبَ على الجَبَل، ومِثْلُ هذا كَثِيْر في كلام العَرَب.
وفي هذا الجَبَل قَرْيَة يُقالُ لها: رُوْحِين
(1)
، وفي أرْضِها مَشْهَدٌ حَسَنٌ يُقَالُ لهُ: مَشْهَد رُوْحِين، وفيه قُبُور ثلاثة، قيل: إنَّ أحَدَ القُبُور قَبَر قُسّ
(2)
، وإلى جانبهِ عَيْن إذا زادَ الماء سرحَتْ. وَسَنَذْكُره فيما يأتي من المَزارَات بمَدِينَة حَلَب وأعْمالها إنْ شَاءَ اللّهُ.
(1)
روحين: وتعرف اليوم باسم مشهد روحين؛ تتبع قرية ترمانين بمنطقة حارم من محافظة إدلب، يحيط بها من الشمال الوَادِي الشمالي، ومن الجنوب وادي العين، وتقع على بعد 7 كم إلى الشمال الغربي من قرية ترمانين. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 76 - 77، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 271.
(2)
ذِكْر الهروي أيضًا وجود قبر قس الإيادي بقرية روحين. الإشارات 5.
وفي وَسَط هذا الجَبَل جَبَل عال شاهق على الجِبَال الّتي حَوْله، يُقالُ لهُ: بيت لَاهَا
(1)
، وهو. بَيْتُ لَاهَا الشَّرْقيّ، لأنَّ جَبَل اللُّكَام يُقالُ لهُ بيت لَاهَا الغَرْبيّ، ومَعْناهُ بِالسُّرْيَانيَّة: بَيْتُ اللّهِ، ويُقالُ: إنَّ إبْرَاهِيم عليه السلام لمَّا هاجَرَ إلى الشَّام كان يرْعَى غنمَهُ من أرْض حَلَب إلى بيت لَاهَا، ويُقالُ لِمَا حَوْله من الجِبَال: جَبَل لَيْلُوْن، وقيل فيه: لَوْلُوْن، كذا ذَكَرهُ البَلاذُرِيّ في حَديث الجُرَاجمة
(2)
. وهو من أحْسَن الأماكن وأكثرها بهجة، وجَمِيعها من جَبَل سِمْعَان. وأنْشَدَني مَنْصُور بن سَعيد بن أبي العَلاءِ الحَلَبِيّ، قال: أنْشَدَني عِيسَى بنُ سَعْدَان لنَفْسِه
(3)
: [من الطّويل]
يا دَارَ عَلْوَةَ ما جِيْدِي (a) بمنعَطفٍ
…
إلى سوَاكَ، ولا قَلْبي بمُنْجَذِبِ
ويا قُرَى الشَّام من لَيْلُونَ لا بَخِلَتْ
…
على بلادِكُم هَطَّالَةُ السُّحُبِ
مَا مَرَّ بَرْقُك مُجْتازًا على بَصَري
…
إلَّا وَذَكَّرني الدَّارَينْ من حَلَبِ
لَيْتَ العَوَاصِمَ من شَرقي فَامِيَةٍ
…
أهْدَتْ إليَّ نَسِيْمَ البَانِ والغَرَبِ
مَا كان أطْيَبَ أيَّامِي بقُرْبِهِمِ
…
حتَّى رَمَتْنا عَوَادِي الدَّهْر عن كَثَبِ
ولمحاسِن بن إسمَاعيْل بن عليّ الشَّوَّاء من قَصِيدَةٍ أوَّلُها: [من الخفيف]
أيُّها المُزْنُ إنْ طرقْتَ الأحَصَّا
…
فاسْق منهُ ذَاكَ المكَان الأخَصَّا
قال فيها:
وتَعَهَّدْ لَيْلُوْن لَيْلًا تَجد زُهْـ
…
ـرَ عِرَاصٍ تَحْكي بروقَك عرْصَا
(a) الأصل: حيدِي.
_________
(1)
بيت لاها: حصن عال بين أَنْطَاكِيَة وحلب على جَبَل ليلون. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 1: 521، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 22.
(2)
فتوح البلدان 220.
(3)
انظر الأبيات في مُعْجَمُ البلدان لياقوت 4: 233.
ذِكْرُ الجَبَل الأعْلَى
(1)
وهو جَبَلٌ عالٍ يَتَّصِل بجَبَل سِمْعَان من جهة الشَّمَال، وبجَبَل السُّمَّاق من قِبْليّهِ، ومن غَرْبي هذا الجَبَل أَرْمَنَاز
(2)
وكُوْرتها، ومن شَرقيّه الحَفَّة والجَزْر، وفيهِ من العَمَائِر وبناء الرُّوم آثار تَروق الطّرف، وتَبْسط النَّفْس، وهو كَثِيْر الأشْجَار من التِّيْن والزَّيْتُون والرُّمَّان والجَوْز والسُّمَّاق، وفيه قُرَى فيها أعْيُن ماءٍ، وكذلك القُرَى التي في لِحْف هذا الجَبَل، وتَحُفّ به من جَوانبِه الأرْبع.
وقَرَأتُ بِخَطِّ حَمْدَان بن عَبْد الرَّحِيْم بن حَمْدَان الأثارِبيّ من أجْزاءٍ من شِعْرِهِ، سَيَّرها إليَّ القَاضِي أبو مُحمَّد الحَسَنُ بن إبْرَاهِيْم بن الخَشَّاب، صَديقنا رحمه الله، فنَقَلْتُ منهُ أبياتًا كتَبها بعد خُرُوجهِ من معرْبُونيّة
(3)
، وهي قَرْيَة كانت ملكُهُ في
جانب هذا الجَبَل، إلى جيرانهِ بها، وهي
(4)
: [من الطّويل]
أَسُكَّانَ عُرْشِيْن (a) القُصُور عليكُمُ
…
سَلَامِيَ ما هَبَّتْ صَبًا وقَبُولُ
(a) ضبطها ياقوت بفتح العين. مُعْجَمُ اللدان 4: 101.
_________
(1)
الجبل الأعْلَى: وهو يتصل بجبل سمعان من جهة الشمال، وتقع من غربيه قرية أرمناز (من قرى إدلب).
انظر: ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 33، زكرياء: جولة أثرية 84، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 75.
(2)
أرمناز: قرية في جبال حارم، نتبع ناحية كفر تخاريم بمنطقة حارم من محافظة إدلب، وهي -كما ذكر ابن العديم أعلاه- على السفح الغربي لجبل الأعلى في أقصى شمال سهل الروج، تبعد مسافة 5 كم جنوب بلدة تخاريم. ياقوت: معجم البلدان 1: 158، ابن شدَّاد، الأعلاق 1/ 2: 32، كامل الغزي: نَهْر الذَّهب 1: 493 - 494، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 75.
(3)
معربونية، قرية من قرى معرة مصرين، تقع إلى الشمال من مدينة إدلب (مركز المحافظة) على بعد نحو 17 كم، وتسمى اليوم: معربرنة. طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربى السوري 5: 304.
وحدد ابن العديم في تَرْجَمَتِه لحمدان الأثاربي (الجزء السادس) موضعها من ناحية معرة مصرين، وأنها كانت في ملك الإثاربي بإعطاء من صاحب الأثارب منويل، وكانت بيد الإفرنج، وبيّن السبب في تمليك الفرنج، القرية. (انظر تَرْجَمَة حَمْدَان بن عبد الرحيم الأثاربي في الجزء السادس).
(4)
الأبيات الخمسة في مُعْجَمُ البلدان 4: 101.
ألَا هَلْ إلى حَثّ المَطَايا إليْكُمُ
…
وشَمِّ خُزَامَى حَرْبَنُوشَ سَبِيْلُ
وهَلْ غَفَلَاتُ العَيْشِ في دَيْر مَرْقُسٍ
…
تَعود وظِلُّ اللَّهو فيه ظَلِيْلُ
إذا ذكَرَتْ لذَّاتَها النَّفْسُ عنْدَكُم
…
تلاقَى عليها زَفْرَةٌ وعَوِيْلُ
بِلادٌ بها أَمْسَى الهَوَى غير أنّني
…
أميْلُ مع الأقْدَار حيثُ تَمِيْلُ
ذِكْرُ جَبَل السُّمَّاق
(5)
وهو جَبَلٌ يَشْتملُ على جِبَال وقُرَىً من أنْزَهِ البِقَاعِ وأعْجَبها، وأحْسنِ الأماكنِ وأطْيَبها، وفيه من الأبْنيَة الرُّومِيَّة والآثار، والفَوَاكِه الحَسَنَة والثِّمَار، ما يتجاوز الوصْف، ويسرُّ النَّفْس، ويُقرّ الطّرف. ويُزْرع في أرْضِه القَطَانِي كُلّها، والقِثَّاء والحُبُوب، فتأقي على أكْمل ما يكونُ في الأراضي الّتي تُسْقَى بالماء، وكذلك أشْجَاره فإنَّها قد عَمَّت الجِبَال والبِقَاع والأوْدِيَة والتِّلَاع، من التِّيْن والعِنَب والفُسْتُق واللَّوْز والجَوْز والتُّفَّاح والمِشْمِش والكُمَّثْرَى والسُّمَّاق، وإنَّما عُرِفَ بجَبَل السُّمَّاق لكَثرتهِ فيه، وسُمَّاقُهُ أجْوَدُ من غيره.
وقُراهُ قُرى نَزِهَةٌ عَامِرَةٌ، وفي بَعْضِها ماء نَبِع وعُيُون وأكْثَرها من ماء المَطَر، وفي قرَاها قَرْيَةٌ يُقالُ لها: إصْطمَك
(6)
، فيها مَصْنعٌ عَظيمٌ للماءِ من بناء الرُّوم، مَبْنِيّ بالحَجَر الهِرَقْليّ على قَناطر كَثِرة مُحْكمة البناء، وهو من عجَائب العَمَائِر.
(5)
جَبَل السُّمَّاق: أو جَبَل بَنِي عليم ويسمى الآن جَبَل الزاوية، يقع إلى الشرق من جَبَل بهراء وتنوخ، ويعرف قسمه الشمالي بجبل الأربعين لمقام معروف عليه، وجعلهما ابن العديم جبلين: جَبَل بَنِي عليم مشرف على جَبَل السماق، وهو يشتمل على مدن كَثِيْرة وقرى وقلاع، وتسميته بالسماق لكثرته فيه، ويشرف على سهول حَلَب الغربية، وهو من أشد جبال الشمال السوري وعورة نتيحة لانتشار الصخور الكلسية والبركانية المتباينة في الارتفاع والانخفاض، ويبلغ ارتفاع جَبَل الزاوية نحو 800 كم، ويفصله عن جَبَل بهراء وتنوخ وادي نَهْر العاصي وسهل الغاب. انظر: ياقوت: محجم البلدان 2: 102، طلاس: المعجم الجغرافي 1: 196، 546، 2:69.
(6)
إصطمك: وتسمى اليوم: المسطومة، قرية نتبع منطقة ومحافظة إدلب، وتقع بين مدينتي إدلب وأريحا، على بعد 7 كم من كل منهما. المعجم الجغرافي للقطر العربي السرري 5: 242 - 243.
والغَالِبُ من أهل هذا الجَبَل أَسَدِيُّونَ من بَنِي كَاهِلٍ، ومَذَاهب عامَّتهم في زمَنِنا هذا مَذْهب الإسْمَاعِيليَّةِ النِّزَارِيَّة.
وكان أحْمَد بن عَبْد اللّه بن طَاهِر بن الحُسَيْن أبو الفَضْل قد قَدِمَ الشَّام، ونزلَ بجَبَل السُّمَّاق، فاسْتَطاب ماءه، واسْتَلَذّ هواءه، وأُعْجِبَ به إعْجابًا كَثِيْرًا، ورَحَل عنه فقال
(1)
: [من السريع]
يا جَبَلَ السُّمَّاق سَقيًا لَكَا
…
ما فَعلَ الظّي الّذي حَلَّكا
فارقْتُ أطْلالَكَ (a) لا أنَّهُ
…
قَلاك قلي لا وَلا مَلَّكَا (b)
فأيّ لذَّاتِك (c) أبْكي دَمًا
…
ماءَكَ أمْ طَينكَ (d) أم ظِلَّكَا
أم نَفَحاتٍ منكَ تنْدَى (e) إذا
…
دَمعُ النَّدَى إثر (f) الدُّجى بَلَّكَا
ومن شِعْر عِيسَى بن سَعْدَان الحَلَبِيّ في ذِكْره
(2)
: [من البسيط]
عَهْدِي بها في روَاق الصُّبْح لامِعَةً
…
تَلْوِي ضفَائر (g) ذاكَ الفَاحِم الرَّجِلِ
وقَوْلُها وشُعَاعُ الشَّمْس مُنْخَرِطٌ
…
حُيِّيت يا جَبَل السُّمَّاق من جَبَلِ
(a) الأزمة والأمكنة: أوطانك.
(b) الأزمنة والأمكنة: فارقك الخل ولا ملكا.
(c) الأزمنة والأمكنة: أوطانك.
(d) الأصل: ظبيك، والمثبت من المحب والمحبوب، والأزمة والأمكنة.
(e) المحب والمحبوب والأزمة والأمكنة: تأتي.
(f) المحب والمحبوب والأزمنة والأمكنة: تحت.
(g) الأصل: ظفائر.
_________
(1)
الأبيات الأربعة عد السري الوفاء: المحب والمحبوب 2: 194، المرزوقي: الأزمنة والأمكنة 2: 254، ونسبها المرزوقي لمحمد بن عد اللّه بن طاهر.
(2)
في الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 391.
ذِكْرُ جَبَل الطّور بقِنَّسْرِيْن
وهو جَبَلٌ عالٍ، مَدِينَة قِنَّسْرِيْن كانت في لِحْفه من جهَة القِبْلَة والشَّرق، ونَهْر قُوَيْق يَمُرّ من شَرْقيّهِ، وفي رأسهِ مَشْهَدٌ يُقالُ إنَّهُ مَقام صالِح النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ويقُولونَ إنَّ النَّاقَة خَرجَتْ منهُ، وهذا لا أصْلَ لَهُ؛ فإنَّ صَالِحًا عليه السلام كان بالحِجْر، وقَتَلَ قَوْمُهُ النَّاقَةَ بالحِجْر، والّذي يَغْلِبُ على ظَنِّي أنَّ هذا المَشْهَد بناهُ صَالِح بن عليّ بن عَبْد اللّه بن عَبَّاسٍ، فنُسِبَ إلى صالح النَّبِيّ عليه السلام.
ذِكرُ جَبَل بَنِي عُلَيْم
وهوِ مَنْسُوبُ إلى بَني عُلَيْم بن جَنَاب بن كَلْب بن وَبْرَة بن تَغْلِب بن صُلْوَان، نَزَلُوهُ فعُرفَ بهم، ونَسْلُهم بهِ إلى اليَوْم، وسيأتي في أثناء كتابنا هذا ذِكْر جَمَاعَة منهم
(1)
إنْ شَاءَ اللّهُ.
وهو جَبَلٌ عالٍ مُشْرِف على جَبَل السُّمَّاق، وفي ذَيلِه قَرْيَة كبيرة يُقالُ لها رِيْحا
(2)
.
وفي رأس الجَبَل عينُ ماءٍ في مَوضِعٍ يُقالُ لهُ الكَرْسَانِيّ
(3)
، فيهِ أشْجَار على العَين، من الجَوْز وغيره، ويُشْرف ذلك المَوْضِعُ على جَبَل السُّمَّاق وغيره، ويَقْصدُ
(1)
لم يتبق من تراجم رجالهم سوى: حمل بن سعدانة، الوافد على الرسول صلى الله عليه وسلم. انظرها في موضعها من الترتيب على حروف المعجم في الجزء السادس.
(2)
ريحا: ويقال أريحا، مَدِينَة على السفوح الشمالية لجبل الأربعين والزاوية بمحافظة إدلب، تقع جنوب مَدِينَة إدلب على بعد 13 كم، وتشرف على حوض إدلب، وتبعد عن مَدِينَة جسر الشغور غربًا نحو 60 كم، وعن مَدِينَة معرة النُّعْمَان جنوبًا 20 كم. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 111، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 2: 78 - 80.
(3)
لم يرد لعين الكرساني ذِكْر مرى ما أورده عنها ابن العديم، ونقله عنه سبط ابن العجمي في كنوز الذَّهب 1:601.
النَّاس هذا المَوْضِع للنُّزْهةِ به من حَلَب وغيرها، ويَنْحدرُ الماءُ في هذا الجَبَل إلى أسْفَله، فيَجْري في قَريَةِ رِيْحَا، ويَنْتَفعُون به للشُّرب والحَمَّام، ونَفْس القَرْيَةِ إذا حُفِر فيها بئر لا يَصِلُونَ إلى مَنْبع الماء إلَّا بعد مُجاوزةِ ثلاثمائة ذِرَاع، وفي القَرْيَة أبْنِيَة عَظِيمَة من بناء الرُّوم.
وفي هذا الجَبَل، قِبْلي الكَرْسَانِيّ، قَرْيَةٌ يُقالُ لها: كَفَرْ لَاثَا في شِعْبٍ من شِعَابِه فيها عينُ ماء، وتحتها بَساتِيْن تَشْرَب منها، وهي من أَنْزَهِ البِقَاع تُشْرف على كُورَة قِنَّسْرِيْن وكُورَة حَلَب، وكان بها حِصْنٌ مَنِيعٌ اسْتَولَى عليه طنكري الفِرِنْجيّ، وأخَذَهُ من نُوَّابِ رِضْوَان بن تُتُش في سَنة ثَمان وتِسْعِين وأرْبَعِمائة، ففَتَحهُ نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي في سَنة ستٍّ وأربعين وخَمْسِمائَة، وخرَّبَهُ.
وفي قَرْيَةٍ من هذا الجبلِ يُقالُ لها نَحْلَة
(1)
مَقَابِر يُشَاهِدُ النَّاظِرُ النُّور عليها ليلًا عن بُعْدٍ، فإذا وَصَل إليها لا يَرَى شيئًا، وعليها كِتَابة بالرُّومِيَّة. حَكَى لي صَدِيقُنا بَهَاء الدِّين أبو مُحمَّد الحَسَن بن إبْرَاهِيمْ بن الخَشَّاب، رحمه الله، أنَّ الأَمِير سَيْف الدِّين عليّ بن قِلْج أمَرَ بأنْ تُنْقَل تلكَ الكابة، ودفَعها إلى بعض علماءَ الرُّوم بحَلَب، فترجَمها فكان فيها: هذا النُّور مَوْهبَةٌ من اللّهِ العَظِيْم لنا، أو ذكَر كلامًا نحو هذا، وفيهِ زِيَادةٌ عليه.
(1)
نحلة: قرية في جَبَل الزاوية من قرى منطقة أريحا بمحافظة إدلب، وتبعد عن مدينة أريحا مسافة 4 كم باتجاه الجنوب الغربيّ، وتُشرف عليها مرتفعات جَبَل الزاوية من الشرق والجنوب. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 5:409.
ذِكْرُ جَبَل الأَحَصّ
(1)
وهو من شَرْقي مَدِينَة حَلَب وقِبْليّها، ومن غَرْبيّه السُّهُول، ومن شَرقيّهِ بَرِّيَّة الرُّصَافَة، ومن شماليّه نُقْرَةُ بَني أَسَد، وهو جَبَلٌ كَبير وفيه قُرَىً عَامِرَة، كَثِيْرة الغَلَّةِ، وفيهِ خُنَاصِرَة؛ مَنْزل عُمَر بن عَبْد العَزِيْز رحمه الله، وفيه شُبَيْثٌ؛ ماءٌ مَذكُور، وفيه يَقُولُ الشَّاعِرُ
(2)
: [من الطّويل]
فَقَاَل تَجَاوَزْتَ الأَحَصَّ ومَاءَهُ
…
وَمَاءَ (a) شُبَيْثٍ وَهْوَ ذُو مُتَرَسَّمِ
وكان جَسَّاس بن مُرَّة بن ذُهْلِ بن شَيْبَان، وهو قَاتِل كُلَيْب وَائِل، يَنْزلُ الأَحَصّ، فجرت وَقْعَة البَسُوس، فقَتَلَ جَسَّاس كُلَيْبًا، فلمَّا غشيَهُ المَوتُ قال لجَسَّاسٍ: أَغِثْني بشَرْبةٍ، فقال: تَجاوزْتَ شُبَيْثًا والأَحَصَّ، فأرْسَلَها مَثَلًا، ووقعَتْ الحربُ بين الحَيَّيْن بَكْرٍ وتَغْلِب على ما نذْكُره في مَوضِعه من هذا الكتاب
(3)
إنْ شَاءَ اللّهُ.
(a) الديوان: وبطن.
_________
(1)
جَبَل الأحَصّ: ويقع ضمن هضبة حَلَب، شرقي صلب وقبليها، ويصل ارتفاعه إلى 550 م، وهو جبل بركاني ذو أحجار سوداء بسطح منبسط وحواف شديدة الانحدار، ويطل في الشرق على سبخة (بحيرة) الجبُّول، ويطل غربًا على منخفض المطخ (المتخ)، وفي الجنوب يشرف على منخفض الخرايج. وإلي الجنوب الشرقي من جَبَل الحص يقع جَبَل شُبَيث، وهو يشبه جبل الحص من حيث انبساط سطحه وانحدار حوافه، لكنه أصفر منه، إذ يبلغ ارتفاعه نحو 450 م، وحجارته سوداء خشنة، وتفصله أرض خناصر (خناصرة) عن جَبَل الحص، ويطل شبيث على سبخة شبيث في الجنوب الشرقي، وعلى سبخة رسم الروام في الشمال، وحول هذه السباخ أيضًا تلال متفرقة كرجم الهحانة (401 م) وتل المراغة (376 م) وجبل عبيسان (342 م). انظر: ياقوت: محجم البلدان 1: 112 - 114، 3: 323 (وعدَّ ياقوت خناصرة قصبة الأحص)، أبو الفداء: تقويم 232 - 233، طلاس: المعجم الجغرافي 1: 205، 550.
(2)
هو النابغة الجعديّ، انظر ديوانه 167.
(3)
لم ترد في المتبقي من كتابه.
وفي الأَحَصّ من المُدُن الخَرِبة: الأَنْدَرِين، وهي مَدِينَة خَرِبَة، مَبْنِيَّة بالحَجَر الأَسْوَد، على شَفِير البَرّبَّة، ويُنسَبُ إليها الخَمرُ، قال
(1)
: [من الوافر]
ألَا هُبِّي بصَحْنِكِ فاصْبَحِينا
…
ولا تُبْقي خُمورَ الأَنْدَرِيْنَا
مُشَعْشَعَةً كأنَّ الحُصَّ فيها
…
إذا ما الماءُ خالَطَهَا سَخِيْنَا
وتُنْسَبُ إليها الحِبَالُ أيضًا، قال النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِىُّ
(2)
: [من الطّويل]
كأنِّي شَدَدْتُ الكُوْرَ حين شَدَدْتُه
…
على قَارحٍ ممَّا تَضَمَّنَ عَاقِلُ
أَقَبَّ كعَقْدِ الأنْدَرِيَ مُعَقْرَبٍ
…
حَزابيَةٍ قد كَدَّحَتْهُ المَسَاحلُ
أي: قَاتَلتْهُ الحُمرُ وطَاردَها.
وفي هذا الجَبَل مَدِينَةٌ خَرِبَةٌ، وهي سُورْيَة؛ كانت مَبْنِيَّة بالحَجَر الأَسْوَد، وهي اليَوْم خَرَاب لا سَاكِن بها، ويُعْمل بها القلْي
(3)
السُّورْيَانِىِّ، وأظُنُّ اللِّسَان السُّورْيَانيِّ مَنْسُوب إليها، وصَار اسْمُها بعد خَرَابها يَنْطَلق على ناحيةِ قِنَّسْرِيْنَ وحَلَب وأعْمالهما.
أنْبَأنَا أبو حَفْصٍ عُمَر بن مُحمَّد بن طَبَرْزَد، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم إسْمَاعِيْل ابن أحْمَد بن عُمَر السَّمَرْقَنْدِيّ، إجَازَةً إنْ لم يَكُن سَمَاعًا، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن
(1)
طالع معلقة عمرو بن كلثوم، ديوانه 64.
(2)
ديوان النابغة الذبياني 116، باختلاف في الرواية، وصدر البيت الأول فيه: كأني شددت الرحل حين تشذرت، وفيه بدل معقرب: مُسحَّج، وبدل كدحته: كدمته.
(3)
القِلْي: يُتَّخذ من شجر الحَمض وشجر الحُرُض بعد أن يصفر آخر الصيف فيعالج ويستخدم لغسل الثياب، كما يستعمله الصباغون، وله منافع طبية. انظر: ابن البيطار، الجامع 4: 31، ابن منظور، لسان العَرَب، مادة: قلا.
أحْمَد بن مُحمَّد بن عَبْد الله بن النَّقُّور البَزّاز (a)، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر مُحمَّد بن عَبْد الرَّحْمن بن العبَّاس المُخَلِّص، قال: أخْبَرنا أبو بَكْر أحمدُ بن عَبْد الله بن سَيْفٍ السِّجِسْتَانِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو عُبَيْدَةَ السَّرِيّ بنُ يَحْيَى التّمِيْمِيّ، قال: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ ابن إبْرَاهِيْم التَّيْمِيّ، قال: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عن أبي عُثْمان وأبي حَارِثَة، عن عُبَادَةَ وخَالِدٍ، أنَّ هِرَقْل كلَّما حَجَّ بَيتَ المَقْدِسِ خَلَّفَ سُورْيَة وطَعَنَ في أرْضِ الرُّوم، الْتَفَتَ إليها فقال: عَليِك السَّلامُ يا سُورْيَةَ تَسْلِيمَ مُوَدّع ولَم يقْضِ منكِ وَطَرَهُ، وهو عَائدٌ. فلمَّا تَوَجَّهَ المُسلِمُونَ نحو حِمْصَ عَبَرَ الماءَ فنزلَ الرُّهَا، فلم يَزل بها حتَّى طلعَ أهْل الكُوفَةِ، وفُتِحَتْ قِنَّسْرِيْن، وقُتِلَ مِيْنَاس، فخَنَسَ عند ذلك إلى شِمْشَاط، حتَّى إذا فَصَل منها نحو الرُّوم عَلَا على شَرْفٍ، والْتَفَتَ ونَظَر نحو سُورْيَةَ وقال: عليكِ السَّلامُ يا سُورْيَة؛ سَلامٌ لا اجْتماع بعدَهُ، ولا يَعُودُ إليكِ رُومِيٌّ أبدًا إلَّا خائفًا، حتَّى يُوْلد المَولُود المَشْؤُوم، ويا لَيْتَهُ لا يَوْلَدُ، ما أحْلَى فِعْلَهُ، وأمَرَّ عاقبَتَهُ على الرُّوم
(1)
.
وقال: حَدَّثَنا السَّرِيّ، قال: حَدَّثَنَا شُعَيْب، قال: حَدَّثَنا سَيْفُ، عن أبي الزَّهْرَاءِ وعَمْرو بن مَيْمُون، قالا: لمَّا فَصَل هِرَقْلُ من شِمْشَاط وأخْلَى الرُّومُ، الْتَفَتَ إلى سُورْيَة، فقال: قد كُنْتُ سَلَّمْتُ عليكِ تَسْليمَ المُسافِر، فأمَّا اليَوم فعلَيك السَّلامُ يا سُورْيَةُ تَسْلِيمَ المُفَارِق، لا يَعُود إليكِ رُوْمِيٌّ أبدًا إلَّا خائفًا حتَّى يُوْلَد المولُود المَشْؤُوم، ويا لَيْتَهُ لم يُوْلَد، ومضَى حتَّى نَزَلَ قُسْطَنْطِينِيَّة
(2)
.
(a) الأصل و "ك": البزّار، براء آخر الحروف.
_________
(1)
مثله في تاريخ الطبري 3: 603، والبداية والنهاية لابن كثير 7:53.
(2)
الطبري، نفسه 3:603.
ذِكْرُ جَبَل البِشْرِ
(1)
وهو جَبَلٌ كبيرٌ في طَرف عَمَل حَلَب من جهةِ البَرِّيَّة، وبينَهُ وبين الرُّصَافَة أربعَة فَرَاسِخ، وهو مُتَّصِلٌ بعَاجِنَة الرَّحُوب، بينهما فَرْسَخ واحدٌ، وعَاجِنَة الرَّحوب من شماليّهِ، ويُفْرِغُ سُيُولَهُ فيها، وسُمِّي البِشْرَ برَجُلٍ يُقالُ لَهُ البِشْر، وفي هذا الجَبَل كانت وَقْعَة الجَحَّاف بن حَكِيم السُّلَمِيّ ببَني تَغْلِب، قَتَل فيها الرِّجال والنِّسَاء، وبقَر بُطُون الحَبَالَى، وَسَنَذْكُر ذلك إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى، في تَرْجَمةِ الجَحَّاف
(2)
مُسْنَدًا.
وإيَّاهُ عَنَى عُبَيد الله (a) بن قيسٍ الرُّقَيَّات: [من الكامل]
أمْسَتْ (b) رُقَيَّةُ دُوْنَها البِشْرُ
…
فالرَّقَّةُ السَّودَاءُ فالغَمْرُ
ووقفْتُ على صِفَة هذا الجَبَل وذِكْر الوَقْعَة في شِعْر القُطَامِيِّ، رِوَايَة أبي جَعْفَر الخُرَاسَانيّ، عن أبي يُوسُفَ يَعْقُوب بن السِّكِّيْت، ممَّا ذكَره ابن السِّكِّيْت في شَرْح قول القُطَامِيِ
(3)
: [من البسيط]
حَلُّوا الرَّحُوبَ وَحَلَّ العِزُّ سَاحتَهُم
…
تَدْعُوا أُمَيَّة أو مَرْوَان والحَكَمَا (c)
فأوْرَدْتُ الفَصْل جَمِيْعَهُ في هذا المَوْضع لِمَا تَضَمَّنَ من وَصْف الجَبَل، وذِكَر الوَقْعَةِ:
(a) في الأصل: عبد اللّه، وانظر البيت في ديوانه 182.
(b) الديران: أضحت.
(c) الديوان: يدعو
…
أو حكما.
_________
(1)
جَبَل البِشْرِ: جَبَل كبير يقع في جنوب جند قنسرين في طرف عمل حلب من جهة البرية امتدادًا حتَّى شمال شرق تدمر وصولًا إلى الفرات، ويتّصل به -من جهته الشمالية- عاجنة الرحوب، حيث تجتمع السيول المنحدرة من جَبَل البشر. انظر: البكري: مُعْجَمُ ما استعجم 1: 251 - ، وياقوت: مُعْجَمُ البلدان 1: 426، طلاس: المعجم الجغرافي 1: 202.
(2)
تَرْجَمَة الجحاف السلمي في القسم الضائع من الكتاب.
(3)
ديوان القطامي التغلبي 101.
قال ابنُ السِّكِّيْت
(1)
: هذا يَوْم الرَّحُوب، ويَوْمُ مُخَاشِن، ويَومُ البِشْر، وكان من سبَبَ هذا اليَوْم أنَّه لمَّا كانت سنَةُ ثلاثٍ وسَبعِين، قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بن الزُّبَيْر، فهَدَأَتِ الفِتْنَةُ، واجْتَمع النَّاسُ على عَبْد المَلِكِ، وتَكَافَّتْ قَيْسٌ وتَغْلِبُ عن المغَازِي بالشَّام والجَزِيرة، وظَنَّ كُلُّ واحدٍ من الفريقَيْن أنَّ عندَهُ فَضْلًا لصَاحبِه، وتكلَّم عَبْدُ المَلِكِ ولم يُحْكِم الصُّلْح، فبينا هُم على تلكَ الحالِ، إذ أَنْشَد الأَخْطَلُ عَبدَ المَلِكِ، وعندَهُ وجُوه قَيْسٍ، قولَهُ
(2)
: [من الطويل]
ألَا سَائِل الجَحَّافَ هَلْ هو ثَائرٌ
…
بِقَتْلَى أُصِيْبَتْ من سُلَيْم وَعَامرِ
حتَّى أتَى على آخِرها، فنَهَضَ الجَحَّافُ بن حَكِيم يَجُرُّ مُطْرَفَهُ حتَّى خَرَجَ من عند عَبْد المَلِكِ، ثمّ شَخَص من دِمَشْق، حتَّى أتى منزلَهُ ببَاجَرْوَان من أرضِ البَلِيْخ، وبين بَاجَرْوَان وبنِن شَطّ الفُرَات ليلةٌ، ثمّ جَمَعَ قَوْمَهُ بها، فقال: إنَّ أَمِير المُؤمِنِين اسْتَعمَلَني على صَدَقَاتِ تَغْلِب، فانْطَلِقُوا معيِ، فارتَحل، وانْطَلَقُوا معهُ وهو لا يُعْلمُهم ما يريدُ، وجَعَلَتِ امْرأتُهُ عَبْلَةُ تَبْكي حين ودَّعَتْهُ، ثمّ أتَى بهم شَطّ الفُرَاتِ مَنَازلَ بَنِي عَامِر، فقال لهم مثل ذلك، وجَمَعَهُم فارْتحلُوا معه، ثمّ قَطَع بهم الفُرَات إلى الرُّصَافَة، وبينها وبين شَطِّ الفُرَاتِ ليلةٌ، وهي قِبْلة الفُرَاتِ، حتَّى إذا كانُوا بالرُّصَافَة قال لهم: إنَّما هي النَّارُ أو العَارُ، فَن صَبَرَ فليَتَقَدَّم، ومَنْ كَرِه فليَرْجع، فقالوا: ما بأَنْفُسِنَا رَغْبةٌ عن نَفْسِك، فأخْبَرَهُم بما يُريدُ، فقالُوا: نحنُ معَكَ فيما كُنْتَ فيه من خير وشَرٍّ، فارْتَحلُوا فطَرَقُوا صَهِيْنًا (a) بعْدَ رُوْبَةٍ (b) منِ اللَّيْل، وهي في قِبْلةِ الرُّصَافَهَ وبينهما مِيْلٌ؛ ثمّ صَبَّحُوا عَاجِنَةَ الرَّحُوبِ، وهي في قِبْلة صَهِيْن، والبِشْرُ وادٍ لبَني تَغْلِب، وإنَّما سُمِّي البِشْرُ
(a) ضبطها أبو الفرج الأصفهاني بضم الصاد (الأغاني 13: 143).
(b) الرُّوْبَة: القطعة، الساعة أو الطائفة من الليل. لسان العَرَب، مادة: روب
_________
(1)
انظر قصة الجحاف بأوسع من هذا في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 12: 141 - 149.
(2)
ديوان الأخطل 130.
برَجُلٍ من قَاسِط يُقالُ لهُ البِشْرُ، كان يَخْفُر السَّابلَةَ، وكان يَسْلُكُه مَن يُريدُ الشَّامَ من أرْض العِرَاق بين مَهَبّ الدَّبُور والصَّبَا، مُعْترض بينهما، يُفْرِغُ سُيُولَهُ في عَاجِنَة الرَّحُوب وبينهما فَرْسَخٌ، وبين عَاجِنَةِ الرَّحُوبِ وبين الرُّصَافَةِ ثلاثةُ فَرَاسِخ، والبِشْرُ في قِبْلَةِ عَاجِنَةِ الرَّحوب، ودِمَشْق في قِبْلةِ البِشْر.
ثُمَّ أغارُوا على بَني تَغْلِب بين البِشْر والشَّام ليلًا، فقَتَلُوهم، وبَقَرُوا النّسَاءَ فقتَلُوهُنَّ، فهو يَوم البِشْرِ، ويَوم عَاجنَةِ الرَّحُوب، ويَوْم مُخَاشِن، وهو جَبَلٌ يَنْعَرج إلى بعض البِشْر، وهو يَوْم مَرْج السَّلَوْطَح، لأنَّهُ بالرَّحُوب.
قال: وقُتِلَ أبو الأَخْطَل
(1)
في تلك اللَّيْلةِ، وفي ذلك يقول جَرِيرٌ
(2)
: [من الوافر]
شربْتَ الخَمْرَ بعد أبي غِيَاثٍ (a)
…
فَلَا نَعِمَتْ لكَ النَّشَوَاتُ بَالَا
وهَرَبَ الجَحَّافُ بعد فِعْلَهِ هذا، فتَبعَهُ عُبَيْدَةُ بن هَمَّامٍ التَّغْلِبِيّ، فلحقَهُ دونَ الدَّرْبِ وهو يُريدُ بلادَ الرُّوم، فعَطَفَ عليه فهَزَمِ أصْحَابه وقتَلهُم، وأَفْلَتَ الجَحَّافُ، ومَكُثَ زمانًا في بلَدِ الرُّوم حتَّى سكَن غَضبُ عَبْد المَلِك ولَانَ، وكَلَّمَتْهُ العَبْسِيَّةُ
(3)
في أنْ يُؤَمِّنَهُ، فتَلَكَّأ، فقيل: إنَّا واللهِ لا نأمَنُه على المُسْلِمِيْنَ أنْ يأتي بالرُّوم إليهم؛ فأعْطاهُ الأمَان، وقد كان عَامَّةُ أصْحَابِه تَسَلَّلُوا إلى مَنَازلهمِ، فأقْبَل فيمَن بقي من أصْحَابه، فلهَّا قَدِمَ على عَبْدِ المَلِك لقيَهُ الأَخْطَل، فأنْشَدَهُ الجَحَّافُ:[من الطويل]
(a) الديوان: بعد أبي غويث.
_________
(1)
الذي يرد في بعض المصادر أن مَن قُتِلَ هو ابن للأخطل يُقالُ له غياث أو أبو غياث. انظر الأغاني 12: 143، الصفدي: الوافي بالوفيات 11: 61.
(2)
ديوان جرير 330.
(3)
هي ولادة بنت العبَّاس بن جزء بن الحَارِث العبسية، أم ولديه الوليد وسليمان. تاريخ خليفة 309، تاريخ اليعقوبي 2: 197، 205، البلاذري: فتوح البلدان 152، المسعودي: التنبيه 317، 318.
أبا مالِكٍ هَلْ لُمْتَني إذ حَضَضْتَني
…
على القَتْلِ أمْ هَل لامَنِي لكَ لائِم
فزَعَمُوا أنَّ الأخْطَل قال لهُ: أراكَ باللهِ شَيْخَ سَوْءٍ.
ورَأى عَبدُ المَلِك أنَّهُ إنْ تَرَكَهُم على حَالِهم أنَّه لم يُحْكم الأمْر، فأمَرَ الوَلِيدَ ابنَ عبْدِ المَلِك، فحمَلَ الدِّماءَ الّتي كانت قبل ذلك بين قَيْسٍ وتَغْلِب، وضَمَّن الجَحَّافَ قَتْلَى البِشْر، وألْزَمَهَا إيَّاهُ عقُوبَةً له، فقال الأَخْطَلُ في تَصْدَاق ذلك
(1)
: [من الطويل]
لَقَدْ أوْقَعَ الجَحَّافُ بالبِشْر وَقْعَةً
…
إلى اللهِ منها المُشْتَكَى والمُعَوَّلُ
فأدَّى إليهم الوَلِيدُ الحِمَالات، ولم يكُن عندَ الجَحَّاف ما حُمِّل، فلَحِقَ بالحَجَّاج بن يُوسُف، لأنَّهُ من هَوَازِن، فسَأل الإذْنَ على الحَجَّاج، فمنَعَهُ، فلم يَعُد إليهِ، وأتَى أسْماء بن خَارِجَة
(2)
، فَعَصَبَ حاجَتَهُ به، فقال: إنّي لا أقدِر لك على منفَعَةٍ، وقد عَلِمَ الأَمِيرُ مكانَك ولم يأذَنْ لك، فقال لأَسْماءَ: والله لا يلَزمُها غيرك أنْجَحَتْ أم نكثت! فلمَّا بلغَ ذلك الحَجَّاج قال: مَا لَهُ عندِي شيءُ. فأَبْلَغَهُ ذلك، قال: وَمَا عليكَ أنْ تكونَ أنتَ الّذي تُوئِسُه (a)، فإنَّهُ قد لَحَّ، فأذِنَ له، فلمَّا رآهُ قال: أَعَهدْتَني خائنًا لا أبا لَكَ؟ قال: أنتَ سيِّدُ هَوَازِن، وبَدَأنا بك، وعُمَالَتُك خمسُمائة ألفٍ في كُلِّ سَنَة، وما بِكَ بَعْدَها إليّ خيانَة، قال: أشْهَدُ أنَّ اللهَ وفَّقك، وأنَّك نظَرْت بنُور اللهِ، فلكَ نِصْفُها العَام، فأَعطَاهُ وأدَّى أسْماءُ البَقِيَّة.
(a) كذا وردت ولعلها أيضًا: تؤيسه، من اليأس: وهو القنوط ضد الرجاء، أو من الأوْس وهو العطاء، وفي لغة هَوَازِن أن معنى يأس عندهم: عَلِم، فتكون: أن تعلمه. انظر: لسان العَرَب، مادة: ياس.
_________
(1)
ديوان الأخطل 330.
(2)
أتي أسماء بدالَّة مصاهرة الحَجَّاج له في ابنته هند. انظر: العقد الفريد لابن عبد ربه 6: 104، الوافي بالوفيات 37:397.
ثُمِّ اسْتَأذَن الحَجَّافُ في الحَجِّ، فأذن له في ذلك مع الجلَّةِ من الشُّيُوخ الّتيَ شَهِدت الوَقْعَة وفعَلُوا الأفاعيْل، فخَرَجُوا وقد أبَرُوا آنُفَهم -يَقُول: خَزَمُوْهَا- يمشُونَ من الشَّام مُحْرِمين يُلَبُّون، فلمَّا قَدِمُوا المَدِينَة خَرَجَ أهْلُ المَدِينَة يَنْظرونَ إليهم ويتعَجَّبُون منهم، فلمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ، تَعَلَّقُوا بأسْتَار الكَعْبَة، فقالوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا وما أُرَاكَ تفعَلِ! فقال ابنُ عُمَر: يأْسُكُم من قَبُول التَّوْبَة أشَدُّ عليكم من ذُنُوبكُم، فقيل له: هذا الجَحَّاف وأصْحَابُهُ، فَسَكَت وتَمَّ ذلك الصُّلْح.
قلتُ: قَوله في هذا الخَبر ودِمَشْق في قِبْلةِ البشْر، يُريدُ في السَّمْت، لا أنَّها على قُرْبٍ منه، فإنَّ بين دِمَشْق وبين البِشْر ثمانية أيَّامٍ.
وقد ذَكَرَ الصِّمَّةُ بن عَبْدِ اللهِ القُشَيْرِيُّ جَبَل البِشْر في شِعْره، فقال
(1)
: [من الطويل]
ولَمَّا رأيْتُ البِشرَ قد حَالَ (a) دُوْنَنا
…
وأَضْحَتْ (b) بَنَاتُ الشَّوْق يَحْنِنَّ نُزَّعَا
تَلَفَّتُّ نحو الحيِّ حتَّى وَجَدْتُنِي
…
أَلمتُ (c) من الإصْغَاءِ ليتًا وأخْدَعَا
وقَرَأتُ في كتاب مُعْجَم ما اسْتَعْجَم لأبي عُبَيْد البَكْرِيّ
(2)
: البِشْر بكَسْرِ أوَّلهِ على لَفْظِ البِشْر الّذي هو الاسْتِبْشَار، قال عُمَارَة بن عَقِيْل: البِشْرُ هو عَاجِنَةُ الرَّحُوبِ مُتَّصَلُ بها، وسُمِّيَ البِشْرَيَ برَجُلٍ من النَّمِر بن قَاسِط؛ كان يَخْفِرُ السَّابلَة يُسَمَىَّ بِشْرًا، يَقطَعُهُ مَنْ يُريدُ الشَّام من أرض العِرَاق، بين مَهَبّ الصَّبَا والدَّبُور، مُعْتَرِضعًا بينهما، يُفْرغُ سُيُولَهُ في عَاجِنَةِ الرَّحُوب، وبينهما فَرْسَخٌ، والبِشْرُ في قِبْلةِ عَاجِنَة الرَّحُوب، وبين عَاجِنَة الرَّحُوب وبين رُصَافَةِ دِمَشق ثلاثة فَرَاسِخ. وفي البِشْرِ قَتَلَ الجَحَّافُ بن حَكِيم بَني تَغْلِبَ، فهو يَوْمُ البِشْر، ويَوم الرَّحُوب،
(a) ديوان الصمة: رأيت النير أعرض.
(b) الديوان: وجالت.
(C) الديوان: وجعت.
_________
(1)
ديوان الصمة القشيري 111.
(2)
مُعْجَمُ ما استعجم 1: 251 - 252.
ويَوْم مُخَاشِنٍ، وهو جَبَلٌ إلى جَنْب البِشْر، ويَوْم مَرْج السَّلَوْطَح لأنَّهُ بالرَّحُوب.
والرَّحُوب: مَنْقَعُ ماءَ الأمْطَار، ثمّ تحملُهُ الأوْدِيَة فيَصُبّ في الفُرَات. وقال أبو غَسَّان: البِشرُ دونَ الرَّقَّةِ على مَسِيرة يومٍ منها، فهذا بِشْرٌ آخر. قال الأَخْطَلُ
(1)
: [من الطويل]
سَمَوْنا بعِرْنَينٍ أَشَمَّ وعَارضٍ
…
لنَمْنَعَ ما بينَ العِرَاقِ إلى البِشْرِ
وقال أيضًا في إيْقاعِ الجَحَّاف بهم
(2)
: [من الطويل]
لَقَدْ أوْقَعَ الجَحَّافُ بالبِشْرِ وَقْعَةً
…
إلى اللهِ منها المُشتَكَى والمُعَوَّلُ
قُلتُ: قَولهُ: فهذا بِشْرٌ آخَر؛ غَلَطٌ منه لأنَّ الرُّصَافَة من الرَّقَّة تكُون مِقْدَار يوم وزِيَادة يَسيرة، وهي غَرْبيّ الرَّقَّة وقِبْليّها، وطَرف جَبَل البِشْر ويَنْتَهِي إلى الفُرَات، فيقْرُب من الرَّقَّة من هذا الطَّرف، وبينَهُ وبين الرُّصَافَة ثلاثة فَرَاسِخ في وسطِهِ، فظَنَّ أبو عُبَيْد البَكْرِيّ أنَّ ثَمَّ بِشْرًا آخر لقَوْل عُمَارَة بن عَقِيْل أنَّ بينه وبين رُصَافَة دِمَشْق ثلاثة فَرَاسِخ، وقال أبو غَسَّان: البِشْر دُون الرَّقَّة على مَسِيْرة يوم منها، فظَنَّ أبو عُبَيدٍ البَكرِىِّ أنَّ الرُّصَافَة عند دِمَشْقَ، ولم يَعْلم أنَّها من أرْض قِنَّسْرِيْن، لبُعْدِه عن بلادِ الشَّام، لأنَّهُ مَغْربيٌّ لا خِبْرة له ببلَادِ الشَّام، وإنَّما نَسَبَ الرُّصَافَة إلى دِمَشْق لنُزول هِشَام بن عَبْد المَلِك فيها وهو خَلِيفَة، وكان كُرْسي مُلْكه بدِمَشْق، فَنَسَبها إلى دِمَشْق ليفرُق بينها وبين رُصَافَة بَغْدَاد.
والبِشْرُ جَبَلٌ طويلٌ عريض يَمْتَدُّ في العرض إلى قُبَاقِب، وهو ماءٌ في طَرف البِشْر، وقد نزلْتُ به، بينَهُ وبين رَحْبةِ مَالِك بن طَوْق مِقْدَار عشرة فَرَاسِخ.
(1)
ديوان الأخطل 115، والنقل متتابع عن البكري.
(2)
ديوان الأخطل 230.
ولأبي الحَسَن مُحمَّد بن مُحَمَّد بن أحْمَد بن خَلَف البَصْرَويّ أبيات قالَها بالعِرَاق يذكر فيها البِشْر وحَلَب، وهي:[من الرجز]
يا رَاكبًا والفَجْر قَدْ غارَ على الـ
…
ـجَوْزاءَ إذ جَلَّلها الإزَارَا
وحَلَّقَ النَّسْرَانِ ثُمّ انْغَمَسَا
…
كالرَّاكِبَيْن أنْجَدَا أو غَارَا
أمَامَك البِشْرُ فإن طَرَحْتَهُ
…
مُسْتَقْبلًا من حَلَبٍ أحْجَارَا
فكَم ستَلْقَى دونَها من باحثٍ
…
عن خَبَري يستقبل السُّفَّارَا
يَوَدّ أنْ كانَ الّذي زُودتَّهُ
…
من العِرَاق كُلُّهُ أخْبَارَا
فبلغِّ القَوْمَ بأن لا سَفَرٌ
…
يَحْدُثُ أَرْضَى بالعِرَاق دَارَا
أرْضى من الإسْعادِ إنْ صَيَّرَنِي
…
لبَيْتهِ سَعْدُ الكُفَاةِ جَارَا
ذِكْرُ جَبَل بَرْصَايَا
(1)
وهو جَبَلٌ عالٍ شَامِخٌ شَمَاليّ عَزَاز، يُشْرف على بلَد عَزَاز وكُورَة الأُرْتِيْق، وهو من أبْهى البِقَاع مَنْظرًا، وأرَقِّها هَوَاء.
وعلى رأسِه مَشْهَدٌ حَسَنٌ، وقريب منهُ مَسْجِدٌ آخر، وتحتهما قَرْيَةٌ يُقالُ لها كَفر شِيْغال
(2)
، وَقَفَها نُور الدِّين مَحْمُودُ بن زَنْكِي على مصالِح المُسْلِمِيْن وعلى مَشْهَد بَرْصَايَا، ويُقالُ: إنَّ مَقام دَاوُد صلى الله عليه وسلم كان بمَوضع المَشْهَد المَذْكُور.
(1)
جَبَل بَرْصايا: يقع إلى الشمال من حلب، وبالتحديد شمالي تل عزاز، ويبلغ ارتفاع جَبَل برصايا نحو 850 م، ويشرف على بلدة تل عزاز فيما بينها وبين قُوْرُس. انظر: طلاس، المعجم الجغرافي 2:113.
(2)
لم أقف على ذكر لهذه القرية سوى عند ابن العديم ونقله عنه ابن الشحنة وقيدها في كتابه الدر المنتخب 97: "كفر شعيا"، وأعاد ابن العديم ذكرها بالرسم ذاته في ترجمة داود عليه السلام (الجزء السابع)، وذكر هناك أن القرية من نواحي عزاز.
وقال لي الشَّيْخ عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِيّ السَّائِحُ
(1)
: جَبَلُ بَرْصَايَا بهِ مَقَام بَرْصِيْصَا العَابِد، وقَبر شَيْخ بَرْصِيْصَا، ومَقَام دَاوُد عليه السلام.
وهذا الجَبَل بين عَزَاز وقُورُس.
ذكْرُ الجَبَل الأَسْوَد
(2)
وهو جَبَلٌ دون جَبَل اللُّكَام من شرقيّه، ويُقال: إنَّ إبْرَاهِيْم صلى الله عليه وسلم كان إذا أقام بحَلَب يَبُثُّ رِعَاءَهُ إليهِ ليَرْعُوا غنمَهُ فيه، وفيهِ أشْجَارٌ كَثِيْرةٌ غير مُثْمرة يؤخَذُ منه الخَشَب إلى البِلاد الّتي حولَهُ.
وفيه حِصْنُ الدَّربْسَاك؛ وهو حِصْنٌ مانعٌ.
وفي لِحْفه من شرْقيّه النَّهْر الأَسْوَدُ لهُ ذِكْرُ في حَدِيث المَلَاحِم أنَّ الرُّوم ينزلُونَ عليه في المَلْحَمَة، ويُقالُ لهُ نَهْر الرّقيّة أيضًا، ويَتَّصِل هذا الجَبَل إلى صَرْفَنْدكار
(3)
؛ حِصْنٌ قَوِيٌّ في يَدِ الأرْمَن، وكان به جَمَاعَة من العُبَّاد والرُّهْبَان.
(1)
كتاب الإشارات 6.
(2)
الجبل الأسْوَد: ويتكون من قطعتين هما: جَبَل الكافر (كاور داغ) أو جَبَل النور (نور داغ) في الشمال، وإلى الجنوب منه الجبل الأحمر (قيزيل داغ) الذي يرتفع إلى 1795 م فوق سطح البَحْر. ويفصل بين هذين القسمين ممرّ بيلان الذي لا يزيد ارتفاعه عن 687 م، وبآخر الجبل الأحمر من ناحية البحر جبل موسى الذي تُشكل نهايته رأس الخنزير، وتغطي هذه الجبال غابات السنديان والبلوط والصنوبر، ولهذا يطلق عليها اسم الجبل الأسود لكثرة الغابات فيها، بينما ذكر سهراب أن الجبل الأسود هو جَبَل السماق. انظر: سهراب: عجائب الأقاليم 96، الإدريسي: نُزهة المشتاق 2: 646، مرستراس: المعجم الجغرافي 276، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 57.
(3)
كذا قيدها ابن العديم بالصاد وبفتح أوله، وعند أبي الفداء، وابن سباهي زادة: بالسين المكسورة، ويقال فيها: سروندكار، وهي قلعة حصينة من بلاد الأرمن، تقع في واد صخري، بالقرب من نهر جيحان على البر الجنوبي. أبو الفداء: تقويم البلدان 256، أوضح المسالك 381.
أَخْبَرَنَا عَتِيق بن أبي الفَضْل بن سَلامَة، قال: أَخْبَرَنَا أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن
(1)
، ح.
وحَدَّثَنا أبو الحَسَن بن أبي جَعْفَر، عن أبي المَعَالِي بن صَابِر، قالا: أخْبَرَنَا الشَّريفُ النَّسِيبُ أبو القَاسِم العَلَويّ، قال: أخْبَرَنَا رَشَاءُ بن نَظِيف، ح.
وأَخْبَرَنَا أبو القَاسِم عَبْد الغَنِيّ بن سُلَيمان بن بَنِين (a)، قال: أَخْبَرَنَا أبو القَاسِم البُوْصِيرِيّ وأبو عَبْد الله بن حَمَد الأَرْتاحِيّ، قالا: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ بن الحُسَيْن المَوْصِليّ -قال ابنُ حَمَد: إجَازَةً- قال: أَخْبَرَنَا أبو القَاسِم عَبْدُ العَزِيْز ابن الحَسَن بن إسْمَاعِيْل، قالا: أَخْبَرَنَا أبو مُحمَّد الحَسَنُ بن إسْمَاعِيْل بن مُحمَّد الضَّرَّابُ، قال: حَدَّثَنا أبو بَكْر أحْمَد بن مَرْوَان
(2)
، قال: حَدَّثنا يوسُفُ بن عَبْد اللهِ، قال: قال حُذَيْفَة المَرْعَشِيّ: مَرَرْتُ على رَاهبٍ في جَبَل الأَسْوَد (b) فناديتُهُ: يا رَاهِب، فأشْرَفَ عليَّ، فقُلْتُ له: بأيّ شيءٍ تُجْتَلَبُ الأحْزَانُ؟ قال: بطُوْل الغُرْبَهِ، وما رأيتُ شيئًا أجْلَبَ لذوِي الأحْزان من الوحْشَةِ والوحْدَة.
(a) الأصل: ابن سَنين، والتصويب من: الذهبي: تاريخ الإسلام 15: 41، الصفدي: الوافي بالوفيات 19: 35، النجوم الزاهرة 7: 212، شذرات الذَّهب 7:531.
(b) المجالسة وجواهر العلم: جَبَل أسود.
_________
(1)
لم أقف عليه في تاريخه.
(2)
الدينوري المالكي: المجالسة وجواهر العلم 344.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ تَوفِيْقِي
ذِكْرُ جَبَل اللُّكَام
(1)
ويُقالُ لهُ أيضًا بَيْت لَاهَا الغَرْبيّ، ومَعْناهُ بالسُّرْيَانيَّة: بَيْت الله، وهو جَبَلٌ عالٍ مُشْرِف يَبِيْن عن مسيرة أربعَة أيَّام، ولا يزال به الثَّلْج في الشِّتَاءِ والصَّيْف، وهو مَسْكَن العُبَّادِ والزُّهَّاد. وفيه من الفَوَاكه المُبَاحَة ما يَقْتَاتُونَ به، وهو يَفْصِلُ بين الثُّغُور الشَّاميَّة والجَزَرِيَّة.
وكانتْ به وَقْعَةٌ لسَيْف الدَّوْلَة أبي الحَسَن عليّ بن عَبْد الله بن حَمْدَان مع الرُّوم؛ قَتَل منهم فيها ثَلاثين ألفًا. وقال أبو فِرَاس الحاَرِث بن سَعيد بن حَمْدَان في ذلك
(2)
: [من الطويل]
(1)
جَبَل اللُّكَام: درج الجغرافيون المسلون على إطلاق اسم جَبَل اللكام على جبال طوروس، واللكام ليست إلا شعبة واحدة من جبال طوروس الداخلية (أنتي طوروس)، فيخرج من جبال طوروس جبال متشعبة، منها جبال على هيئة القوس تحتضن خليج الإسكندرونة من جهة الشرق والجنوب، هي جبال الأمانوس (اللكام)، يفصلها عن سلسلة جبال طوروس وادي نهر جيحان الأعلى. وهي جبال عالية ممتدة؛ يبلغ طولها نحو 90 كم من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي، على هيئة جدار تضريسي شاهق يفصل خليج الإسكندرونة في الغرب عن سهل العمق وغور نهر الأسود (قره صو) في جهة الشرق. انظر: ابن خرداذبة: المسالك 173، ابن الفقيه: كتاب البلدان 82، 591، الإصطخري: مسالك 56، ابن حوقل: صورة الأرض 168، 183، سهراب: عجائب الأقاليم 96، المقدسي: أحسن التقاسيم 188، الإدريسي: نزهة المشتاق 1: 353، 2: 646 - 647، الحميري: الروض المعطار 510، موستراس: المعجم الجغرافي 376، 394، لسترنج: بلدان الخلافة 38، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 57.
(2)
لم يرد البيت في ديوانه، ولعله من الرائية المشهورة التي استشهد بها ابن العديم عند تعريفه بالعديد من المواضع.
وأَبْقَتْ على اللُّكام قَتْلَى سُيُوفُه
…
لَهُمْ من بُطُون الخامَعاتِ مَقَابِرُ
ويُقَال بتَشْديدِ الكاف وتَخْفيفها.
وقال أبو العبَّاس أحْمَد بن أبي أحْمَد بن القَاصّ، في كتاب دَلائِل القِبْلَةِ، وذَكَرَ الجبَالَ، فقال
(1)
: ربَّما كان الجَبَل دَلِيْلًا لأهلِ ناحيَةٍ (a) على القِبْلَة كَجَبَل لُكَام (b) بَالشَّام، وجَبَل الشَّرَاة (c) بتِهَامَة، وجَبَلَ الرَّاهُون بسَرَنْدِيب، وجَبَل دُنباوَنْد عندنا بآمُل طَبَرِسْتان.
قال: وأمَّا جَبَل لُكَام فإنَّهُ جَبَلٌ ممدودٌ، ابْتَدَاؤه من (d) مَكَّة والمَدِينَة، ويُسَمَّى هُنالك العَرْج، يمتدُّ طُولًا حتَّى يتَّصِل بالشَّام، ويَصِير من جِبَال حِمْص، فيُسَمَّى هُنالك لُبْنَان، ويَنْثَني من دِمَشْقَ ثمّ يَمْضي حتَّى يَصير من جِبَال أَنْطاكِيَة والمِصِّيصَة، فيُسَمَّى هُنالك اللُّكَام، ثمِّ يمتَدّ حتَّى يَصِيْرَ من جِبَالِ مَلَطْيَةَ وشِمْشَاط وقَالِيْقَلا، ويمتَدُّ طُولًا حتَّى يَصير من جِبَال خَزَر، ويُسَمَّى هُنالك القَبْق (e).
ونَقَلْتُ من كتاب الحَافِظ لمَعَارف حَرَكات الشَّمْسِ والقَمَر والنُّجُوم في آفاقها، والأقالِيْم وأسْماء بُلْدانها في سِيَاقها، تَلْخيصُ أبي الحُسَيْن أحْمَد بن جَعْفَر بن مُحمَّد بن عُبيدِ اللّه المُنَادِيّ، وأنبَانَا به أبو القَاسِم عَبْد الله بن الحُسَيْن بن رَوَاحَةَ،
(a) ابن القاص: ناحيته.
(b) ابن القاص: اللكام.
(c) ابن القاص: السراة.
(d) ابن القاص: بين.
(e) في الأصل مجودًا: القِيْق، ويأتي كذلك في النقل التالي عن ابن النادي. والمثبت من كتاب دلائل القبلة لابن القاص (مصدر النقل)، واليعقوبي: البلدان 82، 591، والمسعودي: التنبيه والإشراف 184، وياقوت: معجم البلدان 4: 306.
_________
(1)
ابن القاص: دلائل القبلة 210.
وعَبْد الرَّحِيْم بن يُوسُف بن الطُّفَيْل، عن أبي طَاهِر السِّلَفِيّ، عن أحْمَد بن مُحمَّد ابن الآبنُوسِيّ، عن رَجُلٍ، عنه، قال
(1)
: وأمَّا جَبَل العَرْج الّذي بين مَكَّة والمَدِينَة فإنَّه يَمْضِي إلى الشَّام حتَّى يتَّصِلَ بلبنَان من حِمْص، ثمّ يسَير من دِمَشْق فيَمْضِي حتَّى يَتَّصِلَ بجِبَال أَنْطاكِيَة والمِصِّيْصَة، ويُسَمَّى هُنالكَ اللُّكام، ثمّ يَتَّصِل بجِبَال مَلَطْيَة (a) وشِمْشَاط وقَالِيْقَلا أبدًا إلى بَحْر الخَزَر، وهو البَابُ والأبْواب، ويُسَمَّى هُنالك القَبْق (b).
وقال قُدَامَة
(2)
في جَبَل العَرْج: وهذا الجَبَلُ يَتَّصِل بالشَّام، فبعضُهُ يَتَّصِل بلُبْنَان، وبعضُهُ بجَبَل الثَّلْج من أرض دِمَشْق، ويَمْتَدُّ إلى الرُّوم.
قال
(3)
: وقال النَّضْر بن شُهَيْل: يأتي إلى الشَّام من ناحيةِ أَيْلَة، ثمِّ إلى الطّور، ثمّ إلى بَيتِ المَقْدِس، ثمّ إلى طَبِريَّة، ويَمْتَدُّ بالبِقَاعَ وبَعْلَبَك، ويَمْتَدّ غَرْبي حِمْص وحَلَب حتَّى يتَصِل باللُّكام، ثمّ يمتَدُّ إلى مَلَطْيَة، وإلى بَحْر الخَزَر، وفيهِ القِلَاعُ والحُصُونُ الكَثِيْرة والمُدُن.
(a) ضبطها ابن العديم في هذا الموضع والذي يليه بتشديد المثناة التحتية.
(b) الأصل: القيق، بالمثناة التحتية، وتقدم الكلام على وجه الصواب فيه.
_________
(1)
هذا النص الذي نقله ابن العديم عن كتاب ابن المنادي مثبت بلفظه عند ابن الفقيه: البلدان 81 - 83، 591، ونقله ابن الجوزي عن أبي الحسين بن المنادي في المنتظم 1:139.
(2)
لم أجده في كتاب الخراج لقدامة بن جعفر ولعله من كتابه المفقود: كتاب البلدان.
(3)
لم أجده أيضًا في كتاب الخراج لقدامة.
ذِكْرُ جَبَل الأقْرَع
(1)
وهو من جِبَال أَنْطاكِيَة، جَبَلٌ عالٍ يَسْتَبِيْن منِ مَسيرة ثلاثة أيَّام، وهو مُستَديرٌ عالٍ لا نَبَاتَ عليه، ولهذا يُسَمَّى الأَقْرَع، ويَتَّصِلُ بجَبَل اللُّكام، وهو على شَاطئ البَحْر.
وقال المَسْعُودِيُّ في كتاب مُرُوج الذَّهَب
(2)
: والجَبَل الأقْرَع من أعْمَال أَنْطاكِيَة، وتحتَ هذا الجَبَل مُعْظم ماءَ البَحْر وأكثَره وهو يُسَمَّى عَجُز البَحْر.
وأنْبَأْنَا أبو القَاسِم بن رَوَاحَة وابن الطُّفَيْل، عن الحَافِظ أبي طَاهِر، عن ابن الآبنُوسيِّ، عمَّن أخبرَهُ، عن أبي الحُسَيْن بن المُنَاديّ، قال: وأمَّا الجَبَل المُطِلُّ الّذي بأَنْطاكِيَة، فهو على ما ذَكَرُوا قِطْعَةُ من اللُّكام.
قال لي عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِيّ
(3)
: وجَبَلها -يعني أَنْطاكِيَة- كان مَعْبدًا يُزار من الآفاق.
بابٌ في ذِكْر الإقْليم الرَّابِع
اعْلَمِ أنَّ حَلَب من الإقْليم الرَّابِع من الأقاليمِ السَّبْعَة، وقد قيل إنَّه أفْضل الأقالِيْم السَّبْعَة، وأصحّها هواءً، وأعْذبها ماءً، وهو وَسَطُ الأقالِيمْ وخَيْرُها.
ووَقَعَ إليَّ رسالةٌ في ذِكْر الدُّنْيا وما فيها من الأقالِيْم والجِبَالِ والأنْهارِ والبِلَادِ، ولم أظْفَر باسْم مؤلِّف الرِّسَالةِ، فنَقَلتُ منها بعض ما ذَكَرهُ مُلخِّصُها، في فَصْلٍ منها، في قِسْمة الأقالِيْم السَّبْعَة، قال: فأمَّا الأقالِيْم السَّبْعَة؛ فإنّها قُسمَتْ
(1)
جَبَل الأقْرَع: ويسمَّى جَبَل أم ميال، يقع شمال هضبة حلب حيث ينحدر من مرتفعات عينتاب شريطان من الجبال المنخفضة هما: جبل جبال الجرن الممتد شمال شرق حلب، وجبل الأقرع الممتد من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي، على هيئة مستديرة، ويطل على أَنْطَاكِيَة واللاذقية وجزيرة قبرس. انظر: المسعودي: مروج 1: 107، 142، موستراس: المعجم الجغرافي 227، طلاس: المعجم الجغرافي 1: 194.
(2)
مروج الذَّهب 1: 142.
(3)
الإشارات 6.
في الرُّبْعِ المَسْكُون سَبْعَة أقْسَام، فسُمِّي كُلّ قسمٍ منها إقْليم، فتكون الأقالِيْم كُلّها سبْعَة، فأمَّا هِرْمِس الأوَّل فقَسَمها قِسْمَة مُسْتَويهً، فَجَعَل الإقليم الرَّابِع في الوَسَط من العُمْران، والسِّتَّة الأقالِيْم تُحيطُ به، وكُلّ إقليم منها سَبْعُمائة فَرْسَخَ في سَبْعمائة فَرْسَخ؛ فالأوَّلُ منها: الهِنْد، والثَّاني: الحِجَاز، والثَّالث: مِصْر والإسْكَنْدَرِيَّة، والرَّابِعُ: بَابلِ، والخامس: الرُّوم، والسَّادِس: يَأْجُوج ومَأْجُوج، والسَّابِع: الصِّيْن.
فأمَّا بَطْلَيْمُوس الحَكِيمِ، فقَسَمها بِخَلاف ذلك
(1)
، وجَعلَهَا على قَدْر بُعْدها عن خَطِّ الاسْتِواء، وقَسَمها سَبعة أقْسام جعلَها في الرُّبْعِ المَسْكُون من الأرْض، كُلّ إقْليم كأنَّه بِسَاطٌ مَفْروشٌ قد مدَّ طُولهُ من الشَّرْق إلى الغَرْب، وعَرْضُهُ من الجَنُوب إلى الشَّمَال، وهي مُختلفَةُ الطُّول والعَرْض، فأطْوَلُها وأعْرَضُها الإقْليم الأوَّل، وأقْصَرها طُولًا وعَرْضًا الإقْليم السَّابِعُ، وأمَّا سَائرِ الأقالِيمْ مُقَسم بينهما من الطُّول والعَرْض. ثمّ ذَكَرَ كُلّ واحدٍ من الأقالِيْم السَبْعَة.
وقال في الإقْليم الرَّابِع: الإقْليم الرَّابِع للشَّمْس أطْوَل ما يكون النَّهَارُ في المُدُن الّتي على الخَطَ المُسَمَّى وبَسِيْطه (a) أرْبعَة عَشَر ساعةً ونصفٌ، وبُعْدُ هذا الخطّ من خَطِّ الاسْتِواء ستَّةٌ وثلاثون دَرَجَة، يكُونُ من الأمْيَالِ ألفَي مِيْل وأرْبَعِمائة مِيْل، وسَعَة عَرْضهِ من آخر حُدُودِ الإقْليم الثَّالث إلى أوَّل حَدِّ الخامسِ من الأجْزَاء خَمْسُ دُرج وأرَبع دقائق ونصفٌ، يكون ذلكَ
(a) مهملة الأوّل في الأصل.
_________
(1)
نقل الهمداني والمنبجي تفصيل بطليموس في الأقاليم السبعة، انظر: صفة جزيرة العرب 11 - 15، Agapius de Menbidj: Kitab Al- Unvan، Vol I/I. Pp 51 - 61
من الأمْيَالِ ثلاثمائة وثمانيةً وثلاثين مِيْلًا ونصف مِيْل، وابْتَداؤه من الشَّرْق، ويَمُرّ على بلادِ الصِّيْن وجَنُوب بلادِ يَأْجُوج ومَأْجُوِج، ثُمّ يَمُرّ على بلادِ التُّرْك ممَّا يلي الجَنُوبَ والشَّمَال من بلادِ الهِنْد، ثُمّ يَمُرّ على بلادِ بَلْخ، ثُمّ يَمُرّ على شَمال بلادِ كَابُل، ثُمّ يَمُرّ على سِجِسْتَان، ثُمّ يَمُرّ على وَسَط بلاد كَرْمَان وخُرَاسَان، ثُم يَمُرّ على بلاد فَارِس وخُوزسْتان، ثِمّ يَمُرّ على وَسَط بلاد العِرَاق، ثمّ على وَسَطِ ديار بَكْر ورَبيعَة، ثُمّ يَمُرّ على جنوبِ بلَدِ الثَّغْر وشَمَال بَلَد الشَّام، ويَمُرّ على وَسَطِ بَحْر الرُّوم وجزيرة قُبْرُس وجزيرة رُودُس، ويَمُرّ في البَحْر على شَمَال بلَادِ مِصْر والإسْكَنْدَرِيَّة، وشَمال بلاد مماريقي (a) وبلادِ القَادِسِيَّة، وبلاد القَيْرَوان وبلاد طَنْجَة، ويَنْتَهِي إلى بحر المَغْرب، وأكثَرُ هذه المَواضع ألْوانُهم بين السُّمْرَةِ والبَيَاض.
وفي هذا الإقْليم من الجِبَال الطِّوَال اثنان وعشرون يَهْرًا (b)، ومن المُدُن المَشْهُورة الكِبَار نحو مائتي مَدِينَةٍ واثني عَشر مَدِينَة، وهذا الإقْليم هو إقليمُ الأنْبِياء والحُكَمَاء، لأنَّهُ وسَطُ الأقالِيْم؛ ثلاثةٌ جَنُوبيَّةُ وثلاثةُ شَمَاليَّةٌ، وهو أيضًا في قِسْمَة النَّيِّر الأعْظَم من بَعْد الإقليْمَين الّلذين عن جَنَبَتِيْهِ -أعْني: الثَّالث والخامِس- وعَدَّ من المُدُن المَشْهُورة في هذا الإقْليم: زِبَطْرَة، مَلَطْيَة، سُمَيْسَاط، بَالِس، مَنْبج، حَلَب، قِنَّسْرِين، المَعَرَّة، المَعَرَّة (c)، كَفَرْ طَاب، شَيْزَر، حَمَاة، فَامِيَة، أَنْطاكِيَة، طَرَسُوس، الكَنِيْسَة السَّوداء، أَذَنَة، المِصِّيْصَة، قُورص، دُلُوْك.
(a) كذا في الأصل، وفي رسائل إخوان الصفاء 1: 175: بلاد مرماريقي، وفي غرائب الفنون 293: بلاد أقراطي.
(b) كذا في الأصل وفوقه "صـ"، ولعله وقع في النص سقط فيكون استكماله كما أورده مؤلف غرائب الفنون 294 - 295:"وفيه أربعة وعشرون جبلًا .... وأربعة وعشرون نهرًا"، واليَهْرُ: الموضع الواسع. تاج العروس، مادة: يهر.
(c) كررها مرتين، وكتب فوق الثانية "صح"، ولعل الإشارة إلى معرة النُّعْمَان ومعرة مصرين.
قال: وعَرْضُ هذه البُلْدان جَميعها من ثلاث (a) وثلاثين دَرَجَةً إلى تسع (b) وثلاثين دَرَجَةً. وعدَّ غير هذه المواضع من المُدُن لم أكتبُها لأنَّهُ لا يتَعَلَّق بذِكْرها لي غَرضٌ، وإنَّما غَرَضي منها ما ذَكَرْتُه لأنَّهُ من أعْمَال حَلَب حَرَسَها اللهُ تعالى.
وقَرَأتُ في تاريخ المَوْصِل للخَالِديَّيْن أبي بَكْر وأبي عُثْمان
(1)
، قالا: وأمَّا مَوْقعُها -يعني: المَوْصِل- من الأقالِيْم السَّبْعَة، ففي الإقْليم الرَّابِع، وهو أفْضَل الأقالِيم وأجَلُّها، وذلك أنَّهُ يبتدئُ من المَشْرِق بالصِّيْن فيَمُرّ ببلادِ التُّبَّت ثمّ على خُرَاسَان، ففيه من المُدُن: خُجَنْدَة، وأشْرُوسَنَة، وفَرغَانَة، وسَمَرْقَنْد، وبَلْخ، وبُخَارَى، وهَرَاة، وأبْرَشَهْر، ومَرْوَرُّوذ، ومَرو الشَّاهِجَان، وسَرْخَس، وطَخَارَسْتان، وطُوْس، ونَيْسَابُور، وجُرْجَان، وقُوْمِس، وطَبَرِسْتان، ودُنْبَاوَنْد، والدَّيْلَم، والرَّيّ، وأصْبَهَان، وقُمّ، وهَمَذَان، ونَهَاوَنْد، والدِّينوَر، وحُلْوان، وشَهْرَزُور، وسُرَّ مَنْ رَأى، والمَوْصِل، وبَلَد، ونَصِيبِيْن، وآمِد، ورَأس عَينْ، وقَالِيْقَلا، وشِمْشَاط، وحَرَّان، والرَّقَّة، وقَرْقِيسِيا.
ثُمّ يَمُرُّ على شَمالِ الشَّام، ففيه من المُدُن: بَالِس، ومَنْبج، وسُمَيْسَاط، ومَلَطْيَة، وزِبَطْرَة، وحَلَب، وقِنَّسْرِين، وأَنْطاكِيَة، والمِصِّيْصَة، وأطرَابُلُس، وصَيْدَا، وأَذَنَة، وطَرَسُوس، وعَمُّورِيَّة، واللَّاذقِيَّة.
ثُمّ يَمُرّ في بَحْر الشَّام على جزيرة قُبْرُس، ورُودُس، وإليها يُنْسَبُ هذا الإقْليم.
(a) الأصل: ثلاثة.
(b) الأصل: تسعة.
_________
(1)
للخالديين تَرْجَمَة مقتضبة في الجزء العاشر (الكني)، وكتابهما: تاريخ (أو: أخبار) الموصل في حكم الضائع، ذكره ابن الساعي في تعداد مؤلفاتهما. ابن الساعي: الدر الثمين 141.
ثُمّ يَمُرّ في أرْضِ المَغْرب بالأنْدَلُس وقُرْطُبَة وسَردينة (a) إلى بلاد طَنْجَةَ، ويَنْتَهِي إلى بَحر المَغْرب.
وأهُلُ هذا الإقْليم أَصَحُّ هذه الأقالِيْم طِبَاعًا وأتَمُّهُم اعْتدَالًا، وأحْسَنُهم وُجُوهًا وأخْلاقًا.
والإقْليم الأوْسطُ هو الّذي فيهِ المَوْصِل أكْثَر الأقالِيْم السَّبْعَة مُدُنًا وعِمَارَةً، وأنَّه واسطَةُ الأقالِيْم، وأطيَبُهَا ماءً، وأعْدَلُها هواءً، وأحْسَنُها أهْلًا، وفيهِ مَغَاصُ الدُّرّ، وفي جِبَالهِ أنواعُ اليَوَاقِيْت والحِجَارَة المُثْمَنة، وجميعُ أصْنافِ الطِّيْب، ولأهْلهِ الصَّنَائِع والُّلطَف والتَّأليف في الرُّخَام، وصُنعْ الرُّخَام وعَمَل الفُسَيْفِسَاء، ونَصْب الطِّلَّسْمات.
ومن أهلهِ كان الجبابِرَةُ من المُلُوك، وخِيرة الصَّالِحين، وكُلّ مَدِينَة مُعْتَدلة الهَوَاءَ مَشْهُورة الاسْم فمنهُ، داخلَةٌ فيه.
وقال أبو عَبْد الله مُحمَّد بن أحْمَد الجَيْهَانِيّ في كتابه: والإقْليم الرَّابِع يَبْتدئ من المَشْرِق فيَمُرّ ببلَد التُّبَّت ثمّ على خُرَاسَان، فيكون فيه من المُدُن: فَرْغَانَة، وخُجَنْدَة، وأشْرُوسَنَة، وسَمَرْقَنْد، وبُخَارَى، وبَلْخ، وآمُل، وهَرَاة، ومَرْوِ الرُّوذ، ومَرْو، وسَرْخَس، وطُوْس، ونَيْسابُور، وجُرْجَان، وقُوْمِس، وطَبَرِسْتان، ودُنْبَاوَنْد، وقَزْوِين، والدَّيْلَم، والرَّيّ، وأَصْبَهَان، وقُمّ، وهَمَذَان، ونَهَاوَنْد، والدِّيْنَوَر، وحُلْوان، وشهرَزُور، وسُرَّ مَنْ رَأى، والمَوْصِل، وبَلَد، ونَصِيبِيْن، وآمِد، ورَأس العَيْن، وقَالِيْقَلا، وشِمْشَاط، وحَرَّان، والرَّقَّة، وقَرْقِيسِيا.
(a) كذ وردت، والمعروف: سَرْدانِيَة، جزيرة في بحر المغرب. قدامة: كتاب الخراج 146 (وفيه: سرتانية)، ياقوت: معجم البلدان 3: 209، ابن سباهي زاده: أوضح المسالك 380، Agapius de Menbidi : kitab 36 Al- Unvan، Vol I/I. Pp
ويَمُرّ على شمال الشَّام ففيه من المُدُن هناك: بَالِس، ومَنْبج، وسُمَيْسَاط، ومَلَطْيَة، وزِبَطْرَة، وحَلَب، وقِنَّسْرِيْن، وأَنْطاكِيَة، وأطْرَابُلُس، والمِصِّيْصَة، والكَنِيْسَة السَّوداء، وأَذَنَة، وطَرَسُوس، وعَمُّورِيَّة، ولَاذِقِيَّة.
ثُمّ يَمُرّ في بَحْر الشَّام على جزيرة قُبرُس، ورُوْدُس.
ثُمّ يَمُرُّ في أرْض المَغْرب على بلادِ طَنْجَة، وينْتَهِي إلى بلاد المَغْرب.
قال: والإقْليم الرَّابِع وسَطُهُ حيثُ يكُون طُولُ النَّهَارِ الأطْوَل أرْبَع عَشرة سَاعةً ونصف سَاعة، وارْتفاع القُطْب ستَّةً وثلاثين جُزءًا وخُمْسِ جُزءٍ، وعَرْضُهُ من حَدِّ الإقْليم الثَّالث إلى حيثُ يكُون طُول النَّهَار الأطْول أرْبَع عَشرة سَاعةً ونصف ورُبْع سَاعة، وارْتفاع القُطْب تسعَةً وثلاثين جُزءًا، وهو مَسافَةُ ثلاثمائة مِيْلٍ.
أنْبَأنَا الخَطِيبَان أبو البَرَكَات سَعيد وأبو الفَضْل عَبْد الوَاحِد ابنا هاشِم بن أحْمَد بن عَبْد الوَاحِد الأسَدِيّان، قالا: كَتَبَ إلينا الحاَفِظ أبو طَاهِر بن مُحمَّد الأصْبَهَانِيّ أنَّ أحْمَد بن مُحمَّد بن الآبِنُوسِيّ أنْبأَهُم، قال: أُخْبرتُ عن أبي الحُسَيْن ابن المُنَادِيّ، قال: والإقْليم الرَّابع وسَطُهُ حيثُ يكُون طول النَّهَار الأطْول أرْبَع عَشرة سَاعةً ونصف سَاعةٍ، وارْتفاع القُطْب ستَّةً وثلاثين جُزْءًا وخُمْسِ جُزْءٍ، وعَرْضُهُ من حَدِّ الإقْليم الثَّالث إلى حيثُ يَكون طُول النَّهَارِ الأطْوَل أرْبَع عَشرة سَاعةً ونصفَ ورُبْع ساعَة، وارتفاع القُطْب تِسْعَةً وثلاثين جُزْءًا، وهو مَسافَةُ ثلاثمائة مِيْلٍ.
قال: والإقْليم الرَّابِع يَبْتَدئ من المَشْرِق فيَمُرّ ببلادِ التُّبَّت ثمّ على خُرَاسَان، وفيهِ من المُدُن هُنالك: خُجَنْدَة، وأشْرُوسَنَة، وفَرْغَانَة، وَسَمَرْقَنْد، وبَلْخ، وبُخَارَى،
وآمُوية (a)، ومَرُّوذ، ومَرْو، وسَرْخَس، وطُوْس، ونَيْسَابُور، وجُرْجَان، وقُوْمِس، وطَبَرِسْتان، ودُنباوَنْد، وقَزْوِين، والدَّيْلَم، والرَّيّ، وأصْبَهَان، وقُمّ، وهَمَذَان، ونَهَاوَنْد، والدِّينوَر، وحُلْوَان، وشَهرَزُور، وسُرَّ مَنْ رَأى، والمَوْصِل، وبَلَد، ونَصِيبِيْن، وآمِد، ورَأسْعَين (b)، وقَالِيْقَلا، وشِمْشَاط، وحَرَّان، والرَّقَّة، وقَرْقِيسِيا.
ثُمّ يَمُرّ على شَمَال الشَّام وفيهِ من المُدُن هُنالكَ: بَالِس، ومَنْبج، وسُمَيْسَاط، ومَلَطْيَة، وزِبَطْرَة، وحَلَب، وقِنَّسْريْن، وأَنْطاكِيَة، وطَرابُلُس، والمِصِّيْصَة، وصَيْدَا، والكَنِيْسَة السَّوْداء، وأَذَنَة، وطَرَسُوس، وعَمُّورِيَّة، ولَاذِقِيَّة
(1)
.
ثُمّ يَمُرّ في بَحْرِ الشّام على جزيرة قُبْرُس، ورُوْدُس.
ثُمّ يَمُرُّ في أرْض المَغْرب على بلادِ طَنْجَة، وينْتَهِي إلى بلاد المَغْرب، وَذَكَرَ الحِيَارِ من الإقْليم الثَّالث.
أخْبَرَنَا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن الشَّافِعِيِّ بدِمَشق، قال: أخْبَرَنا عَمِّي أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن بن هِبَةِ الله الشَّافِعِيِّ الحافِظُ
(2)
، قال: أخْبَرَنَا أبو القَاسِمِ عليّ بن إبْرَاهِيْم الحُسَيْنِيّ، وأبو الحَسَن عليّ بن أحْمَد بن مَنْصُور المَالِكِيُّ، وأبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن عَبْد الوَاحِد بن زُرَيْق، ح.
(a) ذكر اليعقوبي في كتابه البلدان 619: آموية، في المواضع التي يمر بها نهر بلخ، وذكر ياقوت مدينة اسمها: آمُو؛ وأنها هي آمُل الشط كما يسميها العجم. مُعْجَمُ البلدان 1: 59.
(b) هكذا في الأصل، متصلة.
_________
(1)
كذا رسمها في الأصل، وعند ياقوت في تعداده لمدن الإقليم الرابع: اللاذقية. معجم البلدان 1: 31.
(2)
تاريخ ابن عساكر 1: 193.
وأنْبَأنَاه إجَازَةً عاليًا أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن الكِنْدِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو مَنْصُور بن زُريق، قالوا: قال لنا أبو بَكْر أحمدُ بن عِليّ بن ثَابِت الحَافِظ
(1)
: ذَكَر عُلَماءُ الأوَائِل أنَّ أقاليم الأرْض سَبْعةٌ، وأنَّ الهِنْد رسَمَتها فَجَعَلَتْ صِفَةَ الأقالِيْم كأنَّها حَلقة مُستَديرةٌ تَكْتَنِفُها ستُّ دَوَائر على هذه الصِّفة:
|
فالدَّائرةُ الوُسْطَى هي إقليم بَابِل، والدَّوائر السِّتّ المُحْدقة بالدَّائرة الوُسْطَى كُلُّ دائرة منها إقليمٌ من الأقالِيْم السِّتَّة.
فالإقْليمُ الأوَّل منها: إقليم بلَاد الهِنْد.
والإقْليم الثَّاني: إقليمُ الحِجَاز.
والإقْليمُ الثَّالثُ: إقليم مِصْر.
والإقْليمُ الرَّابِعُ: إقليم بَابِل؛ وهو المُمَثَّلُ بالدَّائرةِ الوُسْطَى الّتي اكتَنَفَتْها سَائرُ الدَّوائر، وهو أوْسَطُ الأقالِيْم وأعْمَرها، وفيه جَزيرة العَرَب، وفيهِ العِرَاقُ الّذي هو سُرَّةُ الدُّنْيا، وحَدُّ هذا الإقْليم ممَّا يلي أرضَ الحِجَاز وأرضِ نَجْدٍ الثَّعْلَبِيَّة من طريق مَكَّة، وحَدُّه ممَّا يلي الشَّام وراء مَدِينَة نَصِيبِيْن من ديار رَبِيْعَة بثلاثة عَشر فَرْسَخًا، وحَدُّهُ ممَّا يلي أرْض خُرَاسَان وراء نَهْر بَلْخ، وحَدُّه ممَّا يلي الهِنْد خلف الدَّيْبُل بِستَّة فَرَاسِخ، وبَغْدَاد في وَسَط هذا الإقْليم.
والإقْليم الخاَمِس: بلاد الرُّوم والشَّام.
والإقْليم السَّادِس: بلاد التُّرْك، والإقْليم السَّابِع: بلاد الصِّيْن.
(1)
تاريخ بغداد 1: 319، ونقله عنه سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 1: 53.
وهذا الّذي ذَكَرَهُ الخَطِيبُ، من أنَّ الإقْليم الخامِس بلاد الرُّوم والشَّام، وَهْمٌ فاحشٌ لأنَّ البِلَاد الشَّمَاليَّة من الشَّام وهي الّتي حَكَينا فيها عن الخَالِديّين والجَيْهَانِيّ وأبي الحُسَيْن بن المُنَادِيّ، وعن الرِّسَالَة التي ذكَرْنَاها في أوَّل الباب مَا حَكَيْناهُ، اتَّفَقُوا كُلّهم على أَنَّها من الإقْليم الرَّابِع، وما عَدَا هذه البِلاد من بلاد الشَّام -وهي الأكْثَر- هي من الإقْليم الثَّالث، فكيفَ يَجْعَل الشَّام جميعَهُ من بلَادِ الإقْليم الخامِس ولم يذهَبْ أحَدٌ إلى ذلك، وإنَّما أوْرَدنا قَوْلَهُ لوصْفه الإقْليم الرَّابِع لكونه أوْسَط الأقالِيْم وأعْمَرَها. واللهُ الموفِّق للصَّواب.
بابُ ما جاءَ في صِحَّةِ تُرْبَة حَلَب، وهَوَائها، واعْتِدَالِ مِزَاجها، وخِفَّة مائها
اعْلَم أنَّ هَواءَ حَلَب الغَرْبيّ يُنْعِشُ الأنْفُسَ ويُحْييها، ويُرَبِّي الأجْسَامَ ويُغَذِّيْها، ويُؤثِّرُ في الأجْسادِ كتأْثيرهِ في الزُّرُوع بعدَ الفَسَاد، فإنَّ الزَّرْع بها قد يَذْبُل ويَبُور، فيَخْضَرُّ عندما تَهبُّ عليه الدَّبُور، ومياهُهَا بالرِّقَّةِ والخِفَّة مَوْصُوفَة، وتُرْبَتُها بقلَّةِ العُفُوناتِ مَشهُورةٌ مَعْرُوفةٌ، وهذه الأسْبابُ مُوْجِبَةٌ للصِّحَّة والاعْتِدال، مُؤثِّرةٌ في دَفْعِ الأسْقَام والأعْلَال.
وما أحْسَن ما وصفَها عَبْد المَلِك بن صَالح، وجَمعَ في أوْجَز كلام ما فيها وفي بلادهَا من المَدَائح، وقد قيل له يَوْمًا: يا أبا عَبْد الرَّحْمن، ما أحْسَنَ بلادَكُم! فقال: وكيف لا تَكُون كذلك، وهي تُرْبَةٌ حَمراءُ، وسُنبلةٌ صَفْراءُ، وشَجَرةٌ خَضْراءُ، فيافي فُيَّح، وجِبَالٌ وُضَّح
(1)
.
(1)
المسعودي: مروج الذَّهب 4: 271، الآبي: نثر الدر 1: 446، ياقوت: معجم البلدان 5: 206، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 71، ابن شدَّاد: الأعلاق 1/ 1: 105، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 51.
وسَمِعْتُ الحَكِيم الصَّفِيّ سُلَيمان بن يَعْقُوب بن سَعيد البَغْدادِيّ بقيصَريَّة
(1)
من بَلَد الرُّوم يقول لي: ذَكَر أَرُسْطَاطَالِس في كتاب الكيان
(2)
أنَّهُ لَمَّا أَتَى مع الإسْكَنْدَر لقَصْدِ دَارَا المَلِك ومُقاتَلَته
(3)
، وَصَل معهُ إلى حَلَب -وكانت تُسَمَّى باليُونانيَّةِ: بِيْرُواءَ- فتحقَّق حالَ تُرْبَتِها، وصِحَّة هَوَائها، فاسْتَأْذن الإسْكَنْدَر في المَقَام بها، وقال: إنَّ لي بها (a) مَرَضًا باطنًا، وهَوَاءُ هذه البَلْدَة مُوَافقٌ لشِفَائيّ، فأقَام بها، فَزَال ما كانَ به من المَرَض.
وقد اتَّبَعَهُ الإسْكَنْدَر بعدَ ذلك فيما اعتَمده من فعالهِ، وسَلَك طريقَهُ الّذي سَلكَهُ ونَسَج على منواله، فإنَّ الشَّيْخ أبا مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن الفَقِيه الدِّمَشْقِيّ أخْبَرَنَا بها، قال: أخْبَرَنا عَمِّي الحافِظُ أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن ابن هِبَة الله الشَّافِعِيُّ
(4)
، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ بن المُسَلَّم الفَقِيه، قال: أخْبَرَنَا أبو الفَتْح نَصْر بن إبْرَاهِيْم المَقْدِسِيِّ، وأبو مُحمَّد عَبْدُ الله بن عَبد الرَّزَّاق بن فُضَيْل، قالا: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن مُحمَّد بن عَوْف بن أحْمَد بن عَوْف، قال: أخْبَرَنَا أبو عَليّ الحَسَنُ بن مُنِير، قال: أخْبَرَنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن خُرَيْم، قال: حَدَّثَنَا هِشَام بن عَمَّار، قال: حَدَّثَنَا غَالِبُ بن غَزْوَان الثَّقَفِيّ، قال: حَدَّثَنَا صَدَقَة بن يَزِيد الخُرَاسَانيّ، عَمَّن
(a) كذا وردت، وفي زبدة الحلب 1: 35: إن بي مرضًا.
_________
(1)
قيصرية: Kaissarye مَدِينَة كبيرة في بلاد الرُّوم بالأناضول، وهي مركز لواء يحمل الاسم نفسه، تقع على خط العرض 43، 38 والطول 35.30، وهي مَدِينَة قديمة كانت عاصمة بلاد قَبدوقية، وهي تسمي أيضًا قيصرَى، وقيسارية. انظر: ياقوت: معجم البلدان 4: 421، موستراس: المعجم الجغرافي 414.
(2)
سمّاه ابن العديم في تضاعيف ترْجمة أرسطو الآتية في الجزء الثالث: كتاب "سَمْعُ الكيان"، ومثله عند المسعودي (التنبيه 120) والنديم (الفهرست 2/ 1: 361)، وهو كتابٌ يُعرِّف بعدد المبادئ لجميع الأشياء الطبيعية، وبالأشياء التوالي للمبادئ، وبالأشياء المشاكلة للتوالي. وذكر ابن منظور أن "سَمْع" عند العجم بمعنى: ذِكْر. لسان العَرَب، مادة: كون.
(3)
في الأصل بإهمال التاء الأولى، ويحتمل: مقابلته، وكلاههما صحيح.
(4)
تاريخ ابن عساكر 48: 55.
حدَّثَهُ، قال: لمَّا أتَى ذُو القَرْنَيْن العِرَاقَ، اسْتَنْكَر قَلْبَهُ، فبَعَثَ إلى تُرَاب الشَّام فأُتِي بهِ، فجَلَسَ عليه، فرجعَ إليهِ ما كان يَعْرفُ من نَفْسه.
ولا أشُكُّ أنَّ التُّراب الّذي أُحْضر إليهِ، من تُرَاب حَلَب أو بعض عَمَلها، لِمَا ذَكَرناهُ من فِعْل أَرُسْطُو، ولِمَا بَيَنَّاهُ في الباب المُتَقدِّم من أنَّ الإقْليم الرَّابِع وَاسِطة الأقاليِمْ، وأطيَبُها ماءً، وأعْدَلُها هَواءً، وأحْسَنُها أهْلًا، وأصَحُّها طِباعًا، وليس في بلادِ الشَّام من الإقْليم الرَّابِع غير حَلَب وأعْمَالها.
وقَرَأتُ بخَطِّ الحَافِظ أبي نَصْر بن فُتُوح الحُمَيْدِيّ، قال: ووَقَع طَاعُون ووَباء بالشَّام، فَأرادَ الوَلِيدُ أنْ يخرُجَ إلى حَلَب فيُقِيم بها، فقال لَهُ رَجُلٌ يا أَمِير المُؤمِنِين، إنَّ الله عز وجل يقول:{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}
(1)
، فقال له الوَلِيدُ: فذلك القليلَ أُرِيْدُ.
قُلْتُ: وقد كان جَمَاعَةٌ من بني أُمَيَّة اخْتارُوِا المَقَام بناحيةِ حَلَب، وآثَرُوها عِلى دِمَشْق، مع طِيْب دِمَشْق وحُسْنها، وكَوْنها وطَنَهُم، ولا يَرْغَب الإنْسَان عن وطَنه إلَّا بما هو أفْضَل منهُ، فمنهم هِشَام بن عَبْد المَلِك، انْتقَل إلى الرُّصَافَة، وسَكَنها واتَّخذها مَنْزِلًا لصِحَّة تُرْبَتها، واخْتار المَقَام بها على دِمشْق، ومنهم عُمَر ابن عَبْد العَزِيْز رحمه الله، أقام بخُنَاصِرَة واتَّخذها لهُ مَنْزِلًا، ومنهمِ مَسْلَمَة بن عَبْد المَلِك، سَكَنَ بالنَّاعُورَة، وابْتَنَى بها قَصْرًا، وبناهُ بالحَجَر الصَّلْد الأَسْود، وبقي ولدَهُ به بعْدَهُ، وكان صالح بن عليّ بن عَبْد الله بن عَبَّاسٍ قد وَلي الشَّام جميعَهُ، فاخْتارَ حَلَب لمَقَامهِ، وابْتَنى له بِظَاهِرها قَصْر بُطْياس، وهو من غَرْبيّ النَّيْرَب
(2)
وشَماليّه، ووُلِدَ لهُ بهِ عامَّة أولادِه.
(1)
سورة الأحزاب، الآية 16.
(2)
النيرب: قرية في هضبة حلب الغربية تتبع لحلب، وهي في أرض منبسطة تنحدر قليلًا نحو الشرق، وتقع في ناحية الجنوب الشرقي لمدينة حلب على بعد 6 كم. الغزي: نهر الذهب 1: 16، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 437 - 438.
كُلُّ هذا لمَا اخْتُصَّتْ به هذه البِلاد من الصِّحَّة والاعْتدال، وكذلك الحَصَانَة؛ فإنَّني قَرَأتُ في كتاب نَسَب بني العبَّاس، تأليف أبي مُوسَى هارُون بن مُحمَّد بن إسْحَاق بن مُوسَى بن عِيسَى بن موسَى بن مُحمَّد بن عليّ بن عَبْد الله بن عَبَّاس
(1)
: أنَّ إبْرَاهِيمْ بن صالح بن عليّ بن عَبْد الله بن العبَّاس لمَّا مات، وكان أولاده بفِلَسْطين قال: فأمَرَ الرَّشيدُ عَبْد المَلِك بن صالح بحَمْل ولدِ إبْرَاهِيمْ جميعًا من فِلَسْطين إلي حَلَب من مال أَمِير المُؤمِنِين، لاجْتماعَ ولد صَالح بن عليٍّ بها، ولأنَّها حَصِيْنَةُ مَنِيعةٌ، وأنْ يُجْري عليهم من الأرْزَاق ما أمَر به لهم، فحملَهُم عَبْدُ المَلِك بن صالح جميعًا من فِلَسْطين إلى حَلَب، فلم يَزَالُوا بها إلى أنْ تُوُفِّي الرَّشِيد، ثمّ افْتَرقُوا.
وأمَّا غير هؤلاءَ من المُلُوك العِظَام؛ أرْباب المَمالِك الوَاسعَة، والبِلَاد الشَّاسِعَة، الّذين تَرَكُوا سَائر بلادهم، واخْتاروا المَقَام بحَلَب قَرَارًا، وجَعَلُوها مَسْكَنًا لهم ودَارًا، فأكْثَر من أنْ يُحْصَوْنَ، وهذا هِرَقْل، على سَعة مملكته واسْتِيلائهِ على بلاد الرُّوم وبلاد الشَّام جميعها، اخْتَار المَقَام بأَنْطاكِيَة، وكان كما ذَكَرنا عنه أنَّه كُلَّما حَجَّ بَيتَ المَقْدِس، خَلَّف سُورْيَة - وهي شام حَلَب وقِنَّسْرِيْن وعَمَلهما - وطَعَن في أرْض الرُّوم، الْتَفَتَ إلا فقال: عليك السَّلام يا سُوِرْيَة، تَسْليم مُوَدّع ولم يَقْض منكِ وَطَرَهُ، وهو عَائد. ولمَّا فُتِحَتْ قِنَّسْرِيْن، وسِار نحو القُسْطَنْطِينِيَّة الْتَفَتَ وقال: عليكِ السَّلام يا سُورْيَةُ، سَلامُ لا اجْتماع بعدَهُ.
(1)
لم يرد ذكر هذا الكتاب إلا عند ابن حزم وابن العديم، وأما مؤلفه فمعروف، وهو أحد أبناء البيت العباسي، تولى المدينة ومكة، وحج بالناس من سنة سنة 263 هـ إلى سنة 278 هـ، ثم ارتحل إلى مصر وأقام بها حتى وفاته، قال ابن حزم:"ألَّف نسب العباسيّين وغير ذلك". انظر: جمهرة أنساب العرب 32 - 33.
بَابٌ في ذِكْر ما وَرَدَ من الكِتَابةِ القَدِيْمَة على الأحْجَار بحَلَب، وعَمَلها، وما أشْبَه ذلك
قد ذَكَرْنا في أوَّل كتابنا هذا، ما حَكَاهُ أبو أُسامَةَ الخَطِيب بحَلَب
(1)
، أنَّ أباهُ حَدَّثَهُ أنَّهُ حَضَرَ مع أبي الصَّقْر القَبِيْصِيّ ومعهما رَجُل يَقْرأُ باليُونانِيَّة، فنَسَخُوا كتابةً كانت على القَنْطَرَة الّتي على باب أَنْطاكِيَة، قال: ونُسْختُها: بُنِيَتْ هذه المَدِينَة؛ بناها صَاحب المَوْصِل، والطَّالِعُ العَقْرَبُ والمُشْتَري فيهِ، وعُطَارِد يليهِ، وللهِ الحَمْدُ كَثِيْرًا. وذَكَرْنا أنَّ صَاحِب المَوْصِل هو بُلُوكُوس (a) .
وقَرَأتُ بِخَطِّ إبْرَاهِيْم بن أحْمَد بن إسْحَاق بن إبْرَاهِيْم بن عَطَاء الله، ممَّا سَمعَهُ على أبي العبَّاس الكِنْدِيّ: قُرئ على أبي العبَّاسِ أحْمَد بن إبْرَاهِيْم الكِنْدِيّ، قال: حَدَّثني أبو مُزَاحِم مُوسَى بن عُبَيْدِ الله بن يَحْيَى بن خَاقَان في رَجب من سنَة تسعَ عَشرة وثَلاثِمائة، قال: حَدَّثني أبو مُحمَّد عَبْدُ اللهِ بن أبي سَعْدٍ الوَرَّاق، قال: حَدَّثني عليُّ بن الحُسَيْن بن هارُون، قال: حَدَّثني أحمدُ بن عَبَّاد، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِك بن قُرَيْب، قال: وُجُدَ حَجَر بقِنَّسْرِيْن مَزْبُور مكتوب فيهِ بالعِبْرَانِيَّة: [من الوافر]
(a) مهملة الأول، والإعجام من زبدة الحلب 1: 36، والأعلاق الخطيرة لابن شداد 1/ 1: 42 - 43، 46، اليواقيت والضرب لأبي الفداء 2.
_________
(1)
هذا مما سقط من أول الكتاب، وهو في زبدة الحلب 1: 37، ونقله عنه ابن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 41 - 42، ونصه:"وشاهدتُ على ظهر كتاب عتيق من كُتُب الحَلَبِيِّين بخطِّ بعضهم: رأيتُ في القنطرة الّتي على باب أنطاكية، من مدينة حلب، في سنة عشرين وِأربعمائة للهجرة كتابة باليونانية، فسألتُ عنها، فحكى لي أبو عبد الله الحُسَيْن بن إبراهبم الحسينيّ الحرَّانيّ أيَّده الله، أنَّ أبا أسامة الخطيب بحلَب حكى له: أنَّ أباه حَدَّثهُ: أنَّه حضرَ مع أبي الصقر القَبِيصيّ، ومعهما رجلٌ يقرأ باليونانيَّة، فنسخوا هذه الكتابة، وأنفذ إليَّ نُسختها في رقعة وهي: بُنيت هذه المدينة، بناها صاحبُ الموصل، والطالع العَقْرب والمشتري فيه، وعطارد يليه، ولله الحمد كثيرًا".
إذا كان الأَميرُ وصَاحِبَاهُ
…
وقَاضِي الأرْضِ يُدْهن في القَضَاءَ
فوَيْلٌ ثمّ وَيْلٌ ثُمّ وَيْلُ
…
لقاضِي الأرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءَ
وقَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد اللهِ الطَّرَسُوسِيِّ، قاضي مَعَرَّة النُّعْمَان، في كتاب سِيَر الثُّغُور من تألفه، في ذِكْر مَدِينَة طَرَسُوس، قال: وببَاب قَلَمْيَة -يعني: باب طَرَسُوس- حَجَر بحَضْرة دار مُزَاحِم، مدوَّر، لاصِق بالحائط، مَكْتُوب عليهِ باليُونانيَّةِ سُطُور قرأها أحْمدُ بن طُغان السِّنْدِيّ البَيْطَار، فذَكَر أنَّ المكتوبَ عليهِ: الحمدُ للّهِ الوَارث للخَلْقِ بعد فَنَاءِ الدُّنْيا كما غَرَّقنيّ، فإنِّي ابن عمِّ ذي القَرْنَيْن، عِشْتُ أرْبَعمائةِ سنَة وكسرًا، ودُرْتُ الشَّرْقَ والغَرْبَ أطلُبُ دواءً للمَوتِ، مَنْ أرادَ أنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ فليُصَلِّ في هذا الدَّيْر عند العَمُودِ ركْعَتَيْن، ومَنْ أرادَ صَنْعَةَ العَمَدِ وآلتها فعليهِ بالقَنْطَرَة السَّابِعَة من جِسْر أَذَنَة (a) .
أَخْبَرَنَا أبو عَبْد اللّهِ مُحمَّد بن إبْرَاهيم بن مُسَلَّمِ بن سَلْمَان الإرْبِلِيِّ، قال: أَخْبَرَتْنَا الكَاتِبةُ شُهْدَة بنتُ أحْمَد بن الفَرَج، قالت: أَخْبَرَنَا أبو عَبْد اللّهِ الحُسَيْن بنُ أحْمَد ابن مُحمَّد النِّعَالِيّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحَسَن مُحمَّد بن عُبَيْد اللّهِ بن مُحمَّد بن يُوسُف، قال: أخْبَرَنا أبو عَمْرو عُثْمان بن سَعيد بن السَّمَّاك، قال: حَدَّثَنَا إسْحَاق بن إبْرَاهِيْم الخُتَّلِيّ
(1)
، قال حَدَّثني أبو عَمْرو عُثْمان بن سَعيد بن يَزِيد الأنْطاكِيّ، قال: حَدَّثَنَا عليّ بن الهَيْثَم المِصِّيْصِيّ، قال: حَدَّثَنَا تَمَّامُ بن كَثِيْر أبو قُدَامَةَ السَّاحِلِيّ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن شُعيْب بن شَابُور، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيدُ القَاصُّ، قال: أتيتُ أَنْطاكِيَةَ، فإذا أسْوَدُ قد نَبَشَ قَبْرًا فأصَابَ فيه صَفيحَةَ نُحاسٍ، فهِا مَكْتوبٌ بالعِبْرَانيِّة، فأَتَوْا بها
(a) ألحْق المؤلِّف هذا النصّ بحاشية طويلة، تتضمّن ما نقله عن سُلَيمان الموصليّ، ثمّ كتب فوقها:"تؤخّر هذه الحاشية إلى مرضع العلامة"، وحدَّد موضع العلامة بكلمة:"الحاشية"، مرضعها بعد انتتهاء نقله من كتاب الزيات.
_________
(1)
انظر الرواية في كتاب الديباج للخُتَّلي 80 - 81.
إلى إمام أَنْطاكِيَة، فبَعَثَ إلى رَجُلٍ من اليَهُودِ فقرأَهُ، فإذا فيه: أنا عَوْنُ بن أُرْميا النَّبِيّ، بَعَثَني رَبِّي إلي أَنْطاكيَة أدْعوهُم إلى الإيمان باللّهِ، فأَدْركني فيها أجَليّ، وسَينْبشني أسْوَدُ في زمانِ أُمَّةِ أحمدَ صلى الله عليه وسلم.
وقعَ إليَّ ببَغْدَاد كتاب من تأليف أحْمَد بن مُحمَّد بن إسْحَاق الزَّيّات الهَمَذَانِيّ الفَقِيه، فنَقَلْتُ منهُ: حَدَّثَنَا أبو حَمْرو عَبْد العَزِيْز بن مُحمَّد بن الفَضْل، قال: حَدَّثني الفَضْل بن شَخْرف
(1)
، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ اللّه بن جُبير، قال: حَدَّثني مُوسَى ابن طَرِيف، عن أبي يَحْيَى، عن إسْمَاعِيْل بن عَيَّاشٍ، قال
(2)
: كُنْتُ جَالِسًا إلى عَامِل أَنْطاكيَة إذ وردَ عليه كتاب من أبي جَعْفَر بنَبْش القُبُور، فنَبَشُوا في هذا الجَبَل قَبْرًا، فإذا فيه رَجُل اضلاعُهُ تَتَثَنَّى، وعند رأْسهِ لَوْحٌ مَكْتُوبٌ فيه: لَا إلَهَ إِلَّا اللّه مُحمَّد رسُول اللّهِ، أنا عُوْذُ بن سَام بنِ نُوح، بُعِثْتُ إلى أهْل أَنْطاكِيَة فكذَّبُوني وقَتَلُونيّ، ويَنْبشني رَجُل أسْوَدُ أفْرَعُ أصْلعُ، فنظرُوا فإذا الّذي نَبَشَهُ أسْوَد، وكانت عليه عِمامَة فكَشَفُوها، فإذا هو أصْلعُ، ونَزَعُوا خُفَّهُ فإذا هو أفْرَعُ، فقال: اتْرُكُوهُ كما كان.
أخْبَرَنَا سُلَيمان بن مُحمَّد بن الفَضْل المَوْصِليّ في كتابهِ، قال: أَخْبَرَنَا أبو القَاسِم ابن السَّمَرْقَنْدِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم الإسْمَاعِيْليُّ إذْنًا، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم السَّهْمِيّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو أحْمَد بن عَدِيّ، قال: حَدَّثَنا جَعْفَر بن أحْمَدَ، قال: حَدَّثَنَا سَعيد بن كَثِيْر، قال: حَدَّثَنا ابنُ لَهِيْعَةَ، عن يَزِيد، عن أَبَان بن أبي عَيَّاشٍ، عن
(1)
لم أهتد لمعرفته، والمعروف: الفتح بن شَخْرف أو شحرف، من الزهاد المعروفين (ت 273 هـ)، يأتي ذكره فيما بعد، ترجم له ابن عساكر في تاريخه 48: 228 - 236 (وفيه: ابن شخرف)، الكامل لابن الأثيري 7: 425 (وفيه: الفتح بن شحرق [كذا] أبو داود الكشي الصوفي)، صفة الصفوة 2: 402 - 404 (وفيه: الفتح بن شحرف)، سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 16: 115 - 117، وابن الملقن: طبقات الأوّلياء 274 - 275.
(2)
أعاد ابن العديم ذِكْر هذا الخبر في تَرْجَمَة إسماعيل بن عَيَّاش العنسيّ الحمصي في الجزء الرابع من الكتاب.
أنَس بن مالِك
(1)
، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ وُجد تحت الجِدَار الّذي قال اللّهُ عز وجل في كتابه: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا}
(2)
أنَّه كان لَوْحٌ من ذَهَب، والذَّهَبُ لا يَصْدَأُ وِلا يتغيَّر، فيهِ مكْتُوب: بِسْمِ اللّه الرَّحْمن الرَّحِيْمِ، عَجِبْتُ لمَنْ يُؤمِنُ بالمَوْت كيفَ يفرَح، وعَجِبْتُ لمَن يؤمِنُ بالقَدَرِ كيف يحزنُ، وعَجِبْتُ لمَن يُؤْمِنُ بزوَالِ الدُّنْيا وتقلّبها بأهْلها كيفَ يَطْمئن إليها، مُحمَّد رسُول اللّهِ.
أخْبَرَنا أبِو عَبْد اللّه مُحمَّد بن إبْرَاهيم بن مُسَلَّم الإرْبِليِّ، قال: أخْبَرَتْنَا الكَاتِبَةُ شُهْدَة بنتُ الإِبرِيّ، قالت: أَخْبَرَنَا أبو عَبْد اللّه النّعَالِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن مُحمَّد بن عُبَيْد اللّه
(3)
الحِنَّائِيّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو عَمْرو بن السَّمَّاك، قال: حَدَّثَنَا إسْحَاق بن إبْرَاهيم ابن سُنَيْن قال: حَدَّثَنَا أبو عَبْد اللّه مُحمَّد بن عَمْرو بن الجَرَّاح، قال: حَدَّثَنَا سُفْيان، عن ابن أبي نَجِيْح، عن مُجَاهِد
(4)
، في قَوْله وكاَنَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا قال: صُحُفُ عِلْم.
وقال: حَدَّثَنَا إسْحَاق بن سُنَيْن، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن عَمْرو، قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَة ابن بَسَّام، عن إسْمَاعِيْل، عن لَيْث، عن مُجَاهِد، قال: كان الكَنْزِ لَوْحًا من ذَهَبٍ في أحَد جانبيه: لا إله إلَّا اللّه الواحِد الصَّمَدُ لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَد
(5)
، وكان في الجانب الآخر: عَجَبًا لمَنْ أيقَن بالمَوْت كيف يَفْرح، وعَجَبًا لمَن أيْقَن بالنَّار كيفَ يَضْحك، وعَجَبًا لمَن رَأى الدُّنْيا وتقلّبها بأهْلها ثمّ هو يَطْمئن إليها، عَجَبًا لمَنْ أيْقَن بالحِسَاب غَدًا ثمّ لا يَعْمل.
قُلْتُ: وكان الكَنْز المذكُور بأَنْطاكِيَة فيما رُوِيَ عن ابن عَبَّاس رضي الله عنه، وقد ذَكَرْنا ذلك في فَضْل أَنْطاكِيَة
(6)
.
(1)
الفردوس لشيرويه الديلمي 4: 418 (رقم 7214).
(2)
سورة الكهف، من الآية 82.
(3)
الأصل: عبد اللّه، انظر ترجمته ومصادرها في تاريخ بَغْدَاد 3: 583 - 584.
(4)
تفسير مجاهد 1: 379، وعبارته: صحف فيها علم.
(5)
سورة الإخلاص، الآيات 2 - 4.
(6)
فيما تقدّم من هذا الجزء.
أخْبَرَنا أبو عَليّ حَسَنُ بن أحمَدَ بن يُوسُف، قال: أخْبَرنا أبو طَاهِر أحْمَد بن مُحمَّد ابن أحْمَد بن إبْرَاهِيْم، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر الطُّرَيْثِيثِيّ، ح.
وأخْبَرنا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيمِ بن عُثْمان الزَّركَشِيّ البَغْدادِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الفَتح ابن البَطِّيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الفَضْل بن خَيْرُون، قال أبو إسْحَاق: وأخْبَرنا أبو المُظَفَّر الكَاغِدِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر الطُّرَيْثِيثيّ، قالا: أخْبَرَنا أبو عليّ بن شَاذَان، قال: أخْبَرَنا أبو جَعْفَر بن دَرَسْتَوَيْه، قال: حَدَّثَنَا يَعْقوبُ بن سُفْيان، قال: حَدَّثتنا هَنَّادَةُ بنْتُ مالِكٍ الشَّيْبَافِيّ، ذكَرَت عن صَاحبها حَمَّاد بن الوَلِيد الثَّقَفِيّ أنَّهُ سَمِعَ جَعْفَر بن مُحَمَّد وهو يَقُول، حين سُئلَ عن كَتْر الغُلَامَيْن اليَتيمَيْن وصَلَاح أبيهما، فقال جَعْفَر إنَّه كان أبوهُما صَالِحًا دونَهُ سَبعَةُ آباءٍ، فحُفِظَ الغُلَامان بصَلَاح أبيهما الأكْبَر، وإنَّما كان الكَنْزُ علم سَطْرين ونصف ولم يَتم الثَّالث، فيه مَكْتُوب: يا عَجَبًا من المَوقن بالمَوْتِ كيفَ يَفْرِح، ويا عَجَبًا من المُوْقن بالرِّزْق كيفَ يَتْعَبُ، ويا عَجَبًا من المُوقن بالحِسَاب كيف يَغْفُلُ.
وهذا الكَنْز كان بأَنْطاكِيَة، جاء في التَّفْسِير عن ابن عَبَّاس
(1)
وغيره ذلك.
وفي جَبَل بني عُلَيْم من أعْمَال حَلَب قَرْيَة يُقالُ لها: نَحْلَة، وقريبٌ منها مَقْبرَة علجها كتابة بالرُّومِيّةِ، وبشُاهد النَّاظر عِلى المَقْبَرَة في بعض اللَّيالِي نُورًا سَاطعًا حتَّى إذا قصَدَهُ اخْتَفَى عنهُ النُّور، فلا يَرَى شيئًا، وهذا أمرٌ شَائع ذائع مُسْتفيضٌ، أخْبَرَني جَمَاعَة لا يتصَوّر تَواطؤهُم على الكَذِب أنَّهُم شَاهَدُوهُ.
وقال لي صَدِيقُنا بَهَاء الدِّين أبو مُحمَّد الحَسَن بن إبْرَاهِيْم بن الخَشَّاب رحمه الله: أمَرَ الأَمِير سَيْف الدِّين عليّ بن قِلْج - وكان من أكابر الأمراء بحَلَب، وقد اجْتَمعتُ أنا به ولم أسْأله عن ذلك - بأنْ تُنْقَل تلك الكتابة الرُّومِيَّة، فنُقلت، ودَفَعَها إلى بعض علماءِ الرُّوم، فتَرْجَمها، فكان مَعْناها: هذا النُّور هِبَةٌ من اللّه العَظِيْم لنا، أو ذَكَر كلامًا نحو هذا، وفيهِ زِيَادة عليه.
(1)
تنوير المقباس من تفسير ابن عباس 317.
وحَضَرْتُ بقَلْعَة الرَّاوَنْدَان عند المَلِك الصَّالِح أحْمَد بن المَلِك الظَّاهِر غَازِي ابن يُوسُف بن أَيُّوب، فحَكَى أنَّ عندَهُ ببلَد الرَّاوَنْدَان قَرْيَةً، وأشَارَ بيَده نحو الغَرب، وقال: هي في ذلك المكان، وِأنَّه يشُاهَدُ فيها نُور سَاطِع، إمَّا في ليلةِ الجُمُعَة أو في لَيلة أُخْرى سِوَاها، يخظُر إليهِ منْ كان ضارجًا عن تلك القَرْيَة، حتَّى إذا قَصَدَها ووصَلَ إليها غاب عنه فلم يَرَ شيئًا.
قَراتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو عُثْمان بن عَبْد اللّه الطَّرَسُوسِيّ، في كتَاب سِيَر الثُّغُور، قال: وفي البُرْج المَنْسُوب إلى الهُرْي، فَذَكَر أشياء ثمّ قال: وعلى أسْكُفَّتَي الباب العُلْيَاتَيْن (a) حَجَر قد طبَّق المصرَاعَيْن، فيه قبر ذَقْيَانُوس مَلِك أصْحَاب الكَهْف، ذَكَرَ لي جَمَاعَةٌ ثقاتٌ بطَرَسُوس أنَّ يَازْمَار (b) الخاَدِم في ولايتهِ كَشَفَ عنهُ بمِقْدَار ما يُمْكن الوصُول إليهِ، فَوُجِدَ ميِّتًا مُسَجَّىً بأكْفانِهِ مُصَبَّرًا، معه سَيْفٌ إلىِ جَانبهِ، فأمَرَ بالسَّيفِ فأُخِذَ فوُزِنَ فوَجَدُوه أحدَ عشر أُوْقِيَّة بالطَّرَسُوسِيّ الّتي وزْن كُلّ أُوْمِيَّة منها إشان وثلاثون دِرْهَمًا، ورَدَّ ما كان كُشِفَ منهُ إلى صاله.
قلتُ: والعَجَبُ أنَّ عَبْد اللّه المأمُون دُفِنَ في بِطانَةِ مِحْرَاب جامعِ طَرَسُوسَ بسلَاحِه، ولمَّا مَلَكَ الدُّمُسْتُق طَرَسُوس، سَقَط مِحْرَاب الجاَمع، وسقَط المأْمُون بسلاحِه، فأخَذَ الدُّمُسْتُق سَيْفه، ورَدَّ الباقي إلى حالِهِ، ورُدَّ إلى مَوضِعِه.
وشاهدْتُ في المَدْرَسَة الحَنَفِيَّة المَعْرُوفة بالحَلاويَّة بحَلَب مَذْبجًا من الرُّخَام المَلَكيّ الشَّفَّاف الّذي يُقَرِّب النَّصَارَى عليه القُرْبان، وهو من أحْسَن الرُّخَام صُورةً، إِذا وضعَ تحتَهُ ضَوءٌ بَانَ من وجههِ، فسألْتُ الشَّريف تَاج الدِّين أبا المَعَالِي الفَضْل وَلد
(a) كذا في الأصل وفوقه "صـ".
(b) هكذا قيده ابن العديم هنا وفي زبدة الحلب 1: 90، ومثله في اليواقيت والضرب لأبي الفداء 71، وجاء في مرآة الزمان 16: 74، والأعلاق الخطيرة لابن شدَّاد 1/ 2: 65 - 66، والبداية والنهاية لابن كثير 11: 57: يا زمان، وعند ابن العبري: تاريخ الزمان 46: نازمان، وفي العبر لابن خلدون 6: 144 - 145: بازمار، وفي موضع آخر منه (6: 164): مازمار، وثالث (8: 30): مازيار.
شَيْخنا افْتِخار الدِّين أبي هاشِم عَبْد المُطَّلِب بن الفَضْل الهاشِميّ عنهُ، وكان نَشَأ بهذه المَدْرَسَة، ووَلي تَدْريسها بعدَ أبيه، فقال لي: إنَّ نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي أحْضَره من أفَامِيَة، ووضعَهُ في هذه المَدْرَسَة، وعليه كتابةٌ باليُونانيَّةِ، فسألتُهُ عنها فذكَرَ لي أنَّهُ حَضَر مَنْ تَرْجَمَهَا، وفيها مَكْتُوب: عُمِلَ هذا للمَلِك دِقْلِطْيَانُوسْ والنَّسْرُ الطَّائر في أربعَة عَشر دَرَجَةً من بُرْج العَقْرَب، قال: فيكُون مِقْدَار ذلك ثلاثة آلاف سنةٍ، واللّهُ أعْلَمُ.
قلتُ: وهذا دِقْلِطْيَانُوسْ هو آخر مُلُوك رُوْمِيَة. قيل: إنَّهُ مَلَك عشرين سنَة.
وسَمِعْتُ والديّ، رحمه الله، يقُول لي: إنَّ نُور الدِّين مَحْمُود في زَنْكِي، رحمه الله، كان يَحْشُو للفُقَهاءِ القَطَائف، ويَمْلَأُ بها هذا الجُرْن الرُّخَام، ويَجْتَمِعُون عليهِ، ويأكُلُوْنَها.
بابٌ في ذِكْرِ ما بحَلَب وأعْمالها من المَزَارَاتِ، وقُبُور الأنْبِياء والأوْلِيَاء، والمَواطِن الشَّرِيْفَة، الّتي بها مَظَاّنَ إجَابة الدُّعَاء
فأمَّا قلعَةُ حَلَب؛ ففيها مَقامَا إبرَاهِيمِ صلى الله عليه وسلم: الأعْلَى والأسْفَل، وقيل: إنَّ إبْرَاهِيم عليه السلام كان قد وَضَعِ أثْقالَهُ بتَلِّ القلْعَة، وكان يُقِيمِ بهِ ويَبُثُّ رِعَاءَهُ إلى نَهْر الفُرَاتِ والجَبَل الأَسْود، ويَحْبسُ بعض الرِّعَاء بما معَهُم عندَهُ، ويأمُرُ بحَلْب ما معَهُ، واتِّخاذ الأطْعمة، وتَفْرقتها على الضُّعَفَاء والمَسَاكِين، وقد ذكَرنا ذلكَ مُسْتَقصىً في باب تسْمِيَة حَلَب
(1)
.
فأمَّا المَقام التَّحْتَانيّ؛ فكان مَوضِعُهُ كَنيْسَة للنَّصارَى إلى أيَّام بني مِرْدَاسٍ، وقد قال ابنُ بُطْلان في بعض رَسائله
(2)
إنَّ فيها كان المَذْبَح الّذي قرَّب عليهِ إبْرَاهِيمُ عليه السلام، فغُيِّرت بعد ذلك وجُعِلَتْ مَسْجِدًا للمُسْلِمينَ، وجَدَّدَ عِمارَتَهُ
(1)
من الأبواب الضائعة من الكتاب، وقد حفظ ابن شداد كلام ابن العديم الَّذي أحال عليه، فألحقناه في الملتفط مما ضاع من الكتاب، وانظر: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 54 - 55، وابن الشحنة: الدر المنتخب 36.
(2)
رحلة ابن بطلان 76، 87.
نُور الدِّين مَحْمُود بن زَنْكِي، ووَقِفَ عليهِ وَقْفًا حَسَنًا، ورَتَّبَ فيهِ مُدَرِّسًا يُدَرِّسُ الفِقْه على مَذْهَب أبي حَنِيفَة رضي الله عنه.
وأمَّا المَقام الأعْلَى؛ ففيهِ تُقَام الخُطْبَة بالقَلْعَة، ويُصَلِّي فيه السُّلْطَان الجُمُعَة.
وفيه رَأس يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء عليه السلام، مُوْضُوع فِي جُرْن من الرُّخَام في خِزَانَةٍ، ووقَعَ الحَريقُ ليلةً من اللَّيالِي في المَقام المذكور فاحْترقَ جميعُه في سَنَة أرْبَعٍ وسِتِّمائة، ولم يَحْترق الجُرْن المَذْكُور، ودَع اللّهُ النَّار عنهُ.
وقَرَأت في تاريخ مُحَمَّد بن عليّ العُظَيْمِىّ
(1)
، وأنْبَأنا بهِ شَيْخُنا ابو اليُمْن الكِنْدِيّ عنهُ، قال: في سَنَة خَمْسٍ وثلاثين وأرْبَعِمائة ظَهَرَ ببَعْلَبَك رأسُ يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء في حَجَرٍ مَنْقُور، فنُقِلَ إلى حِمْصَ، ثُمّ إلى حَلَب وهو بها إلى الآن.
وأخْبرَني أبو الحَسَن عليّ بن أبي بَكْرٍ الهَرَوِيّ، رحمه الله، قال
(2)
: بقَلْعَة حَلَب مَقَام إبْرَاهِيم الخلَيْل عليه السلام، وبه صَنْدُوق فيه قِطْعَة من رَأس يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء عليه السلام، ظَهَرَت سنَة خَمْسٍ وثلاثين وأرْبَعِمائة.
وأمَّا ما هُوَ في نَفْسِ المَدِينَة، فنها مَسْجِد الغَضَائِرِيّ، ويُعْرفُ الآن بمَسْجِد شُعَيْب، وهو أوَّل مَسْجِد اخْتَطَّهُ المُسلِمُونَ بحَلَب عند فَتْحها.
أنْبَأنَا شَيخُنا أبو اليُمْن الكِنْدِيّ، عن مُحمَّد بن عليّ العُظَيْميّ، قال
(3)
: لمَّا فَتَحَ المُسلِمُون حَلَب، دَخَلُوها من باب أَنْطاكِيَة، ووَقَفُوا دَاخل الباب، وَحَفُّوا حولَهُم بالتِّرَاس، فبُنِيَ في ذلك المكان مَسْجِدٌ وهو المَعْرُوف بالغَضَائِرِيّ.
(1)
العظيمي: تاريخ حلب 336.
(2)
الإشارات 4.
(3)
لم نجده في كتاب العظيمي المنشور باسم تاريخ صلب، وهو مختصر لكتاب آخر للعظيمي في التاريخ، كبير، نَقل عنه ابن العديم في كثير من المواضع التالية، ونصَّ على عنوانه:"كتاب المُؤَصَّل على الأصْلِ المُوَصَّل؛ وهو التَّذْكِرَة من سِيَر الإسْلَام".
وأخْبَرَني عَمِّي أبو غَانِم مُحمَّد بن هِبَهَ اللّهِ أنَّ الغَضَائِرِيّ كان يَعْبُد اللّه بالمَسْجِدِ المَعْرُوف بالغَضَائِرِيّ دَاخلِ باب أَنْطاكِيَة، وهو المَعْرُوف الآن بمَسْجِد شُعَيْب، لأنَّ نُور الدِّين وَقَفَ عليهِ وقْفًا، وجُعِلَ فيه الشَّيْخ شُعَيْبًا يُقْرئُ النَّاسَ الفِقْه.
وهذا الغَضَائِرِيّ هو أبو الحَسَن علِيّ بن عَبْد الحَمِيْد الغَضَائِرِيّ؛ أحدُ الأوْليَاءِ من أصْحَاب سَرِيّ السَّقَطِيّ، وحَجَّ من حَلَب مَاشِيًا أرْبَعين حِجَّة، وَسَنَذْكُر تَرْجَمَتهُ
(1)
في مَوضِعَها من كتَابنا هذا إنْ شاءَ اللّهُ.
وأمَّا شُعَيْب فهو ابن أبي الحَسَنِ بن حُسَين بن أحْمَد الأنْدَلُسِيِّ الفَقِيهُ، كان من الفُقَهَاءِ الزُّهَّادِ، وكان مَحْمُوِد بن زَنْكِي يَعْتقدُ فيهِ، وكان مُقَيْمًا بهذا المَسْجِد، فوقَفَ على المَسْجِد وَقْفًا، ورَتَّب فيه شُعَيْبًا هذا يَذْكُرَ الدَّرْسَ على مَذْهَب الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، فاليوم يُعْرفُ بمَسْجِد شُعَيْب. وَسَنَذْكُر تَرْجَمَتهُ
(2)
إنْ شاءَ اللّهُ تعالَى.
ومنها مَسْجِدُ غَوْثٍ داخل باب العِرَاق في المَرْمَى، وفيهِ قِطْعة من عَمُود فيهِ كابة في الحَجَر، يَزْعُمُون أنَّ عليًّا رِضْوَانُ اللّه عليهِ كَتَبَها بسِنَان رُمْحه حين وردَ إلى صِفِّيْن، ويقُولونَ: إنَّ هذا الحَجَر نُقِلَ من الرَّقَّة إلى حَلَبَ.
قال لي عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِيّ
(3)
، فيما ذَكَرَهُ من الزِّيارَات بحَلَب: وبها دَاخل باب العِرَاق مَسْجِد غَوْث، بهِ حَجَرٌ عليه كتابةٌ، ذَكَروا أَنَّها خَطّ عليّ بن أبي طَالِب عليه السلام، ولَهُ حِكَايةٌ.
قلتُ: وأظُنُّ أنَّ مَسجِد غَوْث هذا مَنْسُوبٌ إلى غَوْث بن سُلَيمان بن زِيَاد قاضىِ مصْر، وكان قَدِمَ مع صالِح بن عليّ بن عَبْد اللّه بن العبَّاس إلى حَلَب، وَسَنَذْكُر تَرْجَمَتهُ
(4)
في مَوضِعها من هذا الكتاب إنْ شاءَ اللّهُ تعالَى.
(1)
ترجمته في القسم الضائع من الكتاب.
(2)
ترجمة شعيب الأندلسي في الضائع من أجزاء الكتاب.
(3)
الإشارات 4.
(4)
ترجمة غوث بن سُلَيمان القاضي في الضائع من أجزاء الكتاب.
ومنها مَشْهَدُ النُّور، وهو بالقُرْبِ من باب قِنَّسْرِيْن في بُرْج من أسْوار حَلَب؛ فيما بين بُرْج الغَنَم وباب قِنَّسْرِيْن، قال لي عَمِّي أبو غَانِم مُحمَّد بن هِبَة اللّه بن أبي جَرَادَةَ: هذا مَشْهَد النُّور، إنَّما سُمِّيَ بذلكَ لأنَّهُ رُؤِيِ النُّور يَنْزِلُ عليه مِرارًا؛ قال: وكان ابن أبي نُمَيْر العَابِد يتَعَبَّدُ فيهِ، فاتَّفَق أنْ نَزَلَ مَلِكُ الرُّوم على حَلَب مُحاصِرًا لها، فجاء الحَلَبِيُّون إلى ابن أبىِ نُمَيْر العَابِد، فقالُوا: ادْعُ الله لنا أيُها الشَّيْخ، قال: فسَجَدَ على تُرْسٍ كان عندَهُ، ودَعَا اللّه تَعالَى، وسَأله دَفعْ العَدُوّ عن حَلَب، فرأى مَلِكُ الرُّوم في منامه تلكَ اللَّيْلة قائلًا يقُول له: ارْصَل عن هذه البَلْدَة، وإلَّا هَلَكت، أتَنْزِلُ عليها وفيها السَّاجدُ على التُرْس في ذلك البُرْج، وأشَار إلى البُرْج الّذي فيهِ مَشْهَد النُّوْر، فانْتَبه مَلِكُ الرُّوم، وذَكَرَ المنام لأصْحَابهِ، وصَالَح أهْل حَلَب، وقال: لا أرْحَل حتَّى تُعْلِمُوني مَنْ كان السَّاجِد على التُرْس فِى ذلك البُرْج، فكَشَفُوا عنه، فوصدُوه ابن أبي نُمير، ورَحَل مَلِكُ الرُّوم عن حَلَب.
وقال لي الوَزِير الأكْرَم أبو الحَسَن علىِّ بن يُوسُف القَفْطِيّ: مَشْهَد النُّور تَعْتَقِدُ فيه النُّصَيْرِيَّة اعْتِقَادًا عَظِيمًا ويَحُجُّونَ إليهِ.
وهذا ابنُ أبي نُمير هو أبو عُبَيْدِ اللّه عبد الرَّزَّاق بن عَبْد السَّلام بن عَبْد الوَاحِد في أبيِ نُمير العَابِد الأسَدِيّ، وكان من الأوْلِيَاء المَشْهُورين بالكَرَامَات، وَسَنَذَكُره في مَوضِعه
(1)
من هذا الكتاب إنْ شَاءَ اللّهُ تعالَى، وقَبْرُهُ خارج باب قِنَّسْرِيْن، يُزَار وتُنْذَر لَهُ النُّذُور إلى يَومنا هذا، وهو مَدْفُون في تُرْبَة بني أَمِين الدَّوْلَة ابن الرَّعْبَانِيّ، غَرْبيّ قَلْعَة الشَّريف والخَنْدَق. وقيل: إنَّهُ ما سُئل اللّه عنده حاجَة إلَّا قَضَاها.
وقال لي أبو بَكْر أحْمَد في عَبْد الرَّحِيْم بن العَجَمِيّ: يُقال لقَبْره سُمّ سَاعَة، لسُرعة الإجابة عندَهُ، يعني: إذا دَعَا الإنْسان عنده على عدُوِّه.
(1)
في الضائع من أجزاء الكتاب، وكانت وفاته سنة 425 هـ. أبو الفداء: اليواقيت والضرب 137.
وكان بالقُرْبِ منهُ، من جهة الشَّمَال إلى جانب سُور باب قِنَّسْرِيْن، قَبْر مُشْرِق بن عَبْد اللّه العَابِد الحَنَفِيّ، وكان فَقِيهًا حَنَفيًّا مُنْقَطِعًا في المَسْجِد الجَامِع، وكان قَبْرهُ يُزَار ويُتَبَرَّك به، وزُرْتُهُ مِرارًا مع والدي رحمه الله، فلمَّا حرَّر المَلِكُ الظَّاهِر خَنادِق حَلَب، ووُضِعِ التُّراب على المَقَابِر حُوِّلَ قَبْر مُشْرِق العَابِد من مَوضِعه، ونُقِلَ إلى سَفْحِ جَبَل جَوْشَن، وشاهدْتُه في المَوضِع الّذي نُقِلَ إليهِ، ولَوْح قَبْره الأوَّل عليه، وَسَنَذْكُره إنْ شَاءَ اللّهُ في مَوضِعه
(1)
.
وفي المَسْجِد الجامع في الشَّرْقِيَّة من القِبْليَّةِ في العِضَادة الثَّانيَة المُلاصقَة لصَحْن الجَامِع في شمالي الشَّرْقيَّة مَوضع مُتَعَبَّد مُشْرِق العَابِد المذكور.
وأخبَرَني القَاضِي أبو مُحمَّد الحَسَن بن إبْرَاهِيمِ بن الخَشَّاب، قال: كان الخَطِيب أبو الفَضْل عَبْد الوَاحِد بن هاشِم يُصَلِّي بجامع حَلَب في الشَّرْقيَّة، ويتَعَمَّد الصَّلاة في هذا المَوْضِع المذكُور، فسَألتُهُ عن ذلك، فقال: كان أبي هاشِم يُصَلِّي أبدًا هَا هُنا كَثِيْرًا، وأخْبرني أنَّ الشَّيْخ مُشْرِق بن عَبْد اللّه العَابِد كان يُصَلِّي فيه، وأنّه رَأى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في المنام يُصَلِّي ها هُنا.
وخَارج المَدِينَة، ممَّا يَلي القِبْلَة، مَقام إبْرَاهِيْم صلى الله عليه وسلم فِى الجَبَّانَة، وفي مِحْرَاب المَسْجِد حَجَرٌ قيل إنَّهُ كان يَجْلِسُ عليه، وفي الرّوَاق القِبْليّ الّذي يلي الصَّحْن صَخْرة نابِتَةٌ فيها نُقْرَة؛ قيل: إنَّه كان يَحْلب فيها غَنَمُه، وقد ذكَرنا ذلك فيما تقدّم
(2)
.
وفي المَشْهَد المذكُور في جهة الشَّمَال فيها قَبْر الإمام عَلاء الدِّين أبي بَكْر الكَاسَانِيّ الحَنَفِيّ، أمير كَاسَان، وقَبْر امْرأته فاطِمَة بنت شَيْخِه عَلاء الدّين السَّمَرْقنَدِيّ، وكانا من العُلَمَاء الصَّالِحين، وَسَنَذْكُرهما في هذا الكتاب
(3)
إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(1)
ترجمته في الضائع من أجزاء الكتاب.
(2)
خبر ذلك في الباب الضائع من أول الكتاب، عنوانه "باب في تسمية حلب"، وقد ألْمعَ ابن العديم إلى هذا الخبر وموضعه في الباب المذكرر في أول هذا الباب.
(3)
تَرْجَمة الإمام الكاسانيّ في الجزء العاشر (الكنى)، وسقطت التَرْجَمَة الأخرى التي أحال عليها؛ إن كانت ترجمة زوجته فاطمة أو (والدها) شيخه علاء الدين السَمَرْقَنْدي.
وقِبليّ هذا المَشْهَد مَقْبَرَة فيها جَمَاعَة من العُلَمَاءِ الصَّالِحين الأخْيار؛ منهم أحْمد الأُصُولِيّ صَاحب بُرْهَان الدِّين البَلْخِيّ، وسَيأتي ذِكْره
(1)
إنْ شَاءَ اللّهُ.
وقِبْليّ هذه المَقْبَرَة قَبْر أبي الحُسَيْن الزَّاهِد المَقْدِسِيّ، تُنْذَرُ له النُّذُور، والدُّعَاءُ عنده مُسْتَجاب، وله كَرَامَات مَشْهُورة، وكان الفِرِنْج يُعَظِّمُونَهُ، وقيلِ إنَّهُ رُؤيَ وهو راكب الأسَد. وإلى جَانبه قَبْر صَاحبٍ لَهُ من الأوْلِيَاء أيضًا يُقالُ لهُ: زَيْد العَابِد.
ومن شَمالي المَشْهَد التُّرْبَة المَعْرُوفة بسَلَفِي من بَني العَدِيْم، فيها جَدّ أبي أبو غَانِم وعَمِّي أبو غَانِم، وكانا من العُبَّادِ الأوْلِيَاء، وفيها قَبْر الحَافِظ أبي بَكْرٍ الجَيَّانِيّ، وسيأتي ذِكْر هؤلاء في هذا الكتاب
(2)
، إنْ شَاءَ اللّهُ تعالَى.
وفي جِهة الشَّمَال من هذه الجَبَّانَة مَشْهَد للخَضِر عليه السلام؛ قيل: إنَّهُ رُؤيَ فيه، وهو قَدِيمٌ، وعليه وَقْفٌ.
ومن شَرْقيّ المَدِينَة، بينها وبين النَّيْرَب، مَشْهَد قَرْنَبِيَّا
(3)
على جَبَل صَغِير؛ قيل: إنَّهُ رُؤي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فيه، فعَمره قَسِيم الدَّولَة آقْ سُنْقُر، ووَقَفَ عليه وَقْفًا.
(1)
الأصولي المدفون قبلي مقام إبراهيم هو: أحْمَد بن عليّ الأصولي السلفيّ، وترجمته في الضائع من الكتاب: فيمن اسم أبيه علي في الأحمدين.
(2)
جد أبيه: هو القاضي أبو غانم مُحَمّد بن هبة اللّه بن أحْمَد، ومثله أيضًا اسم عمّه فهو: أبو غانم مُحَمّد بن هبة اله بن حد، وضاعت كلتا الترجمتان بضياع الأجزاء الضامَّة لمما، وكان ابن العديم قد ذكر الثاني منهما في الكنى (الجزء العاشر) وأحال على ترجمته الضائعة.
أما الحَافِظ الجيَّانيّ، فاسمه مُحَمّد بن عليّ بن ياسر، وترجمته في الضائع من الكتاب.
(3)
يقع مشهد قرنبيا الآن داخل مَدِينَة حلب، وتحديدًا في محلة الضوضو، شرق باب الأحمر، وأقيم عليه مسحد بعد زمن ابن العديم وجُدِّد في فترات لاحقة خلال العهد العثماني. وضبط الاسم من ضبط المؤلِّف في ترجمة آق سنقر بن عبد الله المَعْرُوف بقسيم الدَّوْلَة، الَّذي يُنسب بناء المشهدِ. (انظر الجزء الرابع فيما يلي)، وذكر بدر الدين العيني والنويري أن اسمها القديم: مقرّ الأنبياء، فسمّاها العامّة قرنبيا. عقد الجمان (القسم الخاص بعصر سلاطين الممالك) 1: 368، النويري: نهاية الأرب 30: 40.
وخارجِ باب الأرْبَعِين قَبْر بِلال بن رَبَاح مُؤَذِّن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعْرف مَوضِعِ قَبْره بل نُقِلَ أنَّهُ مات بحَلَب ودُفِنَ بها خارج باب الأرْبَعِين، وَسَنَذكُر ذلك في موضِعه
(1)
، ونذكُرُ اخْتلافَ النَّاسِ فيه إنْ شَاءَ اللّهُ. وقد شُوْهِدَ النُّور مِرارًا يَنْزل على الجَبَّانَة الّتي خارج باب الأرْبَعِين بالجَبَل.
وفي هذا الجَبَّانَة جَمَاعَةٌ من الأوْلِيَاءِ والصَّالِحين منهم: الحَافِظُ أبو الحَسَن عليِّ ابن سُلَيمان المُرَاديّ، أحَدُ الأوْلِيَاء المُكاشَفين، والأُسْتَاذ عَبْد اللّه بن عُلْوَان، والد شَيْخنا الحَافِظ أبي مُحمَّد عَبْد الرَّحْمن، وشَيْخنا المذكُور.
وفيها -في تُرْبَةٍ واحدة- قُبُور جَمَاعَة من الأوْلِيَاء منهم: الشَّيْخُ أبو الحَسَن عليّ بن يُوسُف الفَاسِيّ، والشَّريف الزَّمِن، والشَّيْخُ عَبْد الحَقّ المَغْربِيّ، وشيخ الشُّيُوخ بالمَوْصِل، وسيأتي ذِكْرهُم في هذا الكتاب
(2)
إنْ شَاءَ اللّهُ تعالَى.
وبني جَبَّانَة باب النَّصْر مَشْهَدٌ يُعْرفُ بمَشْهَدِ الدُّعَاءِ، يُقالُ: إنَّ الدُّعَاءَ به مُسْتَجابٌ.
وبباب الجِنَان، مُلاصِق الباب من ظَاهرهِ، مَشْهَدٌ قَديمٌ يُعرفُ بمَشْهَد عليّ بن أبي طَالِب رضي الله عنه، قيل: رُؤيَ في المَنَام؛ أخْبَرَني بذلك الشَّيْخُ علىِّ بنُ أبي بَكْر الهَرَوِيّ
(3)
.
(1)
سقطت ترجمة بلال بن رباح بضياع حرف الباء، وأشار في ترجمة أخيه خالد بن رباح إلى اختلاف النَّاس في نسبة المقام إلى أحدهما. انظر الجزء السابع من الكتاب.
(2)
ترجمة الحَافِظ المُرَاديّ في الضائع من الكتاب، وسقطت ترجمة الشخ الحَافِظ عبد اللّه بن عُلْوَان وابنه القاضي عبد الرَّحمن، وقد أكثر ابنُ العديم الأخذ عنهما -أي: الشيخ وابنه- منفردين أو مجتمعين، مباشرة أو من طريق عمه أبو غانم.
أما الشَّيخُ أبو الحَسَن عليّ بن يُوسف الفاسيّ، فقد ذكره في الجزء العاشر (الكُنى) وأحال على ترجمته الضائعة، وسماه: عليّ بن مُحَمّد بن يوسف، وله بعض إشارات في ترجمة ربيع بن محمود المارديني في الجزء الثامن.
وذكرَ الشَّريف الزَّمِن في الكنى "أبو عبد اللّه الشَّريف" وترجم له. انظر الجزء العاشر. وسقطت ترجمة الشَّيخ عبد الحقِّ الفاسيّ المَغْربيّ.
ولم أهتد لاسم شيخ الشُّيُوخ بالمَوْصِل.
(3)
الإشارات 4.
وبجَبَل جَوْشَن مَشْهَد الدَّكَّة، ومَشْهَد الحُسَيْن رضي الله عنه، وقد ذَكَرْناهمُا عند ذِكْر جَبَل جَوْشَن
(1)
.
وفي قِبْلي جَبَل جَوْشَن، في طَرف اليَارُوْقِيَّة
(2)
، مَشْهَد الأنْصاريّ؛ قال لي أبو الحَسَن بن الهَرَوِيّ
(3)
: بهِ قَبْر عَبْد اللّه الأنْصاريّ، كما ذَكَرُوا.
وأخْبَرَني والِديّ، رحمه الله، قال: رأت امْرأةٌ من نساءِ أُمراء اليَارُوْقِيَّةِ في المَنَام قائلًا يَقُول: ها هُنا قَبْر الأنْصاريّ صَاحب رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم، قالُوا: فنَبَشُوا، فوجَدُوا قَبْرًا، فبَنَوا عليه هذا المَشْهَد، وجَعَلُوا عليه ضَريحًا.
وفي قَرْيَةٍ يُقالُ لها نَوَائل
(4)
، من شَرْقيّ مَدِينَةِ حَلَب، على رأس جَبَلها، مَشْهَدٌ يُقالُ هو مَقام إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم.
وبأرْض آرِل
(5)
، وهي قَرْيَة من جَبَل سِمْعَان، على رأس الجَبَل من جِهَة الشَّرْق، مَشْهَدٌ مُشْرِفٌ على بَلَد الأُرْتِيْق جَميعه، يُقالُ لهُ مَشْهَدُ الرَّجْمِ، يُزَار ويُتَبَرَّكُ به، وفيه سِرْدَابٌ، قيل: إنَّ نَبِيًّا من الأنْبِياء رَجَمَهُ قَوْمُهُ، وأنَّه في ذلك السِّرْدابِ؛ سَمِعْتُ والديّ، رحمه الله، يَذْكُر لي ذلك.
(1)
فيما تقدّم من هذا الجزء.
(2)
الياروقية: كانت فيما مضى من قرى حلب، وأصبحت اليوم من أحياء المدينة وتسمى الأنصاريّ، وتقع بين الحمدانية والراموسة، الأسدي: أحياء حلب وأسواقها 89 - 91، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 1: 183، وانظر وصف ابن الفرات للياروقية ومشهد الأَنْصَارِيّ في تاريخه 4/ 1:79.
(3)
أثبته في كتابه الإشارات 4.
(4)
ذكر ابن شدَّاد وابن الشحنة هذه القرية عند ذكر مقام إبراهيم عليه السلام في ظاهر البلد من ناحية الشرق، ولم يُضيفا على كلامه شيئًا. الأعلاق الخطيرة 1/ 158: 1، الدر المنتخب 93.
(5)
آرِلْ: حدَّد ابن شدَّاد وابن الشحنة موضعها بجوار قرية عَنَاذَان (في ريف حلب) على رأس الجبل المشرف على الأرتيق. الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 159، الدر المنتخب 94.
وبرُوْحِين؛ قَرْيَة من جَبَل سِمْعَان، مَشْهَدٌ حَسَنٌ، وفي جانب المَسْجِد منه ثلاثة قُبُور، قيل إنَّ الأوْسَط منها قَبْر قُسّ بن سَاعِدَة الإيَادِيّ، والقَبْران الآخران قَبْرَا سِمْعَان وشَمْعُون من الحَوَارِيّين
(1)
، وقد ذَكَرْنا قِصَّة قُسّ، ومَقَامه بين القَبْرين، والشِّعْر الّذي أنْشَدَهُ
(2)
، فلا حاجَةَ إلى إعادتهِ هَا هُنا، وسيأتي في تَرْجَمَةُ قُسٍّ
(3)
من شَرْح ذلك ما فيه مَقْنَعٌ إنْ شَاءَ اللّهُ تعالَى.
وبجَبَل بَرْصَايَا قَبْر شَيْخ بَرْصِيْصَا، ومَقام دَاوُد عليه السلام، وقد ذَكَرْناهُ
(4)
.
وقال لي الشَّيْخُ عليّ بن الهَرَوِيّ
(5)
: جَبَلُ بَرْصَايَا به مَقَامُ بَرْصِيْصَا العَابِد، وقَبْر شَيخ بَرْصِيْصَا، ومَقام دَاوُد عليه السلام.
وقال
(6)
: مَشْحَلا قَرْيَةٌ من بَلَد عَزَاز، بها قَبْرُ أخي دَاوُد النَّبِيّ عليه السلام.
قُلْتُ: وهذه مَشْحَلا قَرْيَة من قِبْلّي عَزَاز وغَرْبيّها، وبها نَهْر جار وبَساتِيْن، وقد خَرَجَ منها بعضُ أهْلِ الحَدِيْث.
وبقُورُس قَبْر أُوْرِيَّا بن حَنان
(7)
، في قُبَّةٍ من قِبْليّ المَدِينَة، وقِصَّتُه مع دَاوُد عليه السلام مَعْرُوفة، تُذْكَر في مَوضِعها
(8)
إنْ شَاءَ اللّهُ تعالَى.
وبمَنْبج مَشْهَدٌ من شَرْقيّ المَدِينَة، زَعَمُوا أنَّ بهِ قَبْر خَالِد بن سِنَان العَبْسِيّ، وهو النَّبِيّ الّذي ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ، وَسَنَذْكُر قِصَّتَهُ
(9)
إنْ شَاءَ اللّهُ.
(1)
أثبته في كتابه الإشارات 7.
(2)
انظر فيما تقدّم باب: ذكر جَبَل سمعان.
(3)
ترجمته في الضائع من أجزاه الكتاب.
(4)
في كلامه على جَبَل برصايا.
(5)
ذكر الهروي شبيه ذلك. الإشارات 5 - 6.
(6)
وأثبت هذا أيضًا في كتابه الإشارات 6.
(7)
ذكره الهروي أيضًا. الإشارات 5.
(8)
أورد قصته في ترجمة داود عليه السلام في الجزء السابع من الكتاب.
(9)
في ترجمته الآتية في الجزء السابع.
أخبَرَني عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِيّ، قال
(1)
: وبها -يعني: مَنْبج- مَشْهَد النُّور، يَزعمُونَ أنَّ به بعض الأنْبِياء، ويقُولونَ إنَّهُ خَالِد بن سِنَان العَبْسِيّ الّذي قال فيه رسُول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
: ذَاك نَبِيٌّ أضَاعَهُ قَوْمُه.
قال
(3)
: وبها مَسْجِد المُسْتَجَاب، وبها قُبُور جَمَاعَة من الصَّالِحين.
وفيها مَشْهَدٌ من غَربيّ المَدِينَة وشَماليّها يُقالُ لهُ: المُسْتَجاب، يُتَبَرَّكُ بهُ، ويُقالُ: إنَّ الدُّعَاءَ به مُسْتَجاب.
وبجَبَل باب بُزَاعَا -من غَرْبيَ البَاب، وُيُقالُ للجَبَل: تَيْمَر- مَشْهَدٌ مُطلٌّ على البَاب، يَزُورُونَهُ ويَتَبَرَّكُونَ به، وبقولونَ بأنَّه في كُلِّ سَنَةٍ في خَمِيْس نَيْسَان يجتَمع إليهِ من هذه الدُّوَيْبَات الحُمْر الّتي تُشْبهُ الذَّرَارِيْح، ويُوجَد علىِ المَقَابِر شيء كَثِيْر حتَّى يعمّ أكْثَر الأرْض الّتي حَوْل المَشْهَد، ثُمّ تَذْهب من حولهِ، ولا يبقَى إلَّا اليَسِيْر.
وبجَبَل الطّور إلى جانب قِنَّسْرِيْن مَشْهَدٌ قيل إنَّه مَقام صالِح النَّبِيّ عليه السلام، وقد تَقَدَّمَ ذِكْرهُ
(4)
.
وقال لي الشَّيْخُ عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِيّ
(5)
: مَدِينَةُ قِنَّسْرِيْن بجَبَلها مَشْهَدٌ يُقال إنَّه مَقامُ صالِح النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ويُقالُ: إنَّ النَّاقَة منهُ خَرَجَتْ لصَالحِ، وبهِ آثارُ أقْدَام البَعِير. قال: والصَّحِيح أنَّ صَالِحًا كان بأرْض اليَمَن، وقَبْرُه في شَبْوَةَ باليَمَن، هذا ما ذَكَرَهُ ابن الهَرَوِيّ.
(1)
أثبته في كتابه الإشارات 61.
(2)
الحاكم: المستدرك 2: 599.
(3)
مثبت أيضًا في كتابه الإشارات 61.
(4)
مرّ في كلامه على جَبَل الطور بقنسرين.
(5)
أثبته في كتابه الإشارات 7.
والصَّحيحُ أنَّ مَوضِعَ النَّاقَة بالحِجْر من مَدَائِن ثَمُود، والّذي يَغْلِبُ على ظَنِّي أنَّ هذا المَشْهَد من بناءِ صَالح بن عليّ بن عَبْد اللّه بن العبَّاس، وكان إليهِ ولاية الشَّام، وله آثارٌ بحَلَب وقِنَّسْرِيْن، فنُسِبَ المَشهَدُ إلى صالح عليه السلام.
وبمَعَرَّة النُّعْمَان -فيما زَعَمُوا- قَبْر يُوْشَع بن نُوْن عليه السلام، في مَشْهَد هناك، جَدَّدَ عِمارتَهُ المَلِكُ الظَّاهِر غَازِي بن يُوسُف بن أَيُّوب، رحمه الله، وهو يُزَارُ ويُتَبَرَّكُ بهِ.
وقيل: إنَّ بها قبر مُحمَّد بن عَبْد اللّه بن عَمَّار بن يَاسِر، يُزَارُ أيضًا.
وبكَفَرْ طَاب قَريَةُ يُقالُ لها شَحْشَبُو
(1)
قيل بها قَبْر الإسْكَنْدَر، وقيل: إنَّه مات بها ونُزِعَ ما في جوْفه ودُفِنَ بهذا المكان، وصُبِّر جَسَدهُ وحُمِل إلى أُمِّهِ؛ وقد ذكَرَ بعضُ أرْباب التَّواريخ أنَّه ماتَ بحِمْص، فلا اسْتَبعدُ ذلك؛ فإنَّ كَفَرْ طَاب كانت من أعال حِمْص، واللّهُ أعْلَمُ
(2)
.
قال لي عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِيّ
(3)
: شَحْشَبُو قَرْيَة من أعال فَامِيَة، بها قَبْر الإسْكَنْدَر، وبقال إنَّ أمْعَاءَهُ هناك وجُثَّته بمَنارَة الإسْكَنْدَرِيَّة، وقيل إنّه ماتَ ببَابِل.
وبدَيْر سِمْعَان من قُرَى مَعَرَّة النُّعْمَان -ويُقالُ أيضًا: دَيْر النَّقِيرَة لأنَّ إلى جانبها قَرْيَة يُقالُ لها النَّقِيْرَة- قَبْر عُمَر بن عَبْد العَزِيْز رضي الله عنه في حَائر صَغِير، وإلى جانبه، من خَلْف ظَهْره، قَبْر الشَّيْخ أبي زكرى يَحْيَى بن المَنْصُور، وكان
(1)
شحشبو: قرية من قرى أفامية نتبع مرعة النعمان، في طرف جَبَل منسوب إليها (جَبَل شحشبو)، وتقع إلى الشمال من مدينة أفامية، والضبط من المؤلِّف، ويوافق ضبط ياقوت وابن الشحنة، مُعْجَمُ البلدان 3: 328، الدر المنتخب 98، كامل الغزي: نهر الذَّهب 1: 24.
(2)
يُعبد ابن العديم ذكر هذا القول، وتأكيد وفاته بقرية شحشبو، في ترجمته للإسكندر المقدوني (في الجزء الرابع).
(3)
أثبته في كتابه الإشارات 7، وورد اسمها: شحشبوا، بإلحاق ألف في أخرها.
أحَد أَوْلياء اللّه تعالَى، وله كَرَامَات ظَاهِرة، وكان قد أقام في المَسْجِد الّذي بهذه القَرْيَة يَعْبُد اللّه تعالَى حتَّى أدْرَكه أجَلُه، فدُفِنَ في الحاَئِر إلى جانب عُمَر رضي الله عنهما، وَسَنَذْكُره
(1)
إنْ شَاءَ اللّهُ تعالَى في كتابنا هذا.
وبأَنْطاكِيَة قبر حَبِيْبٍ النَّجَّار، مُؤمن آل ياسِيْن، وزُرْتُ قَبْرَهُ بها. وبها قبر عَوْن بن أُورْميا النَّبِيّ، وقَبْر عُوْذ بن سَام بن نُوح النَّبِيّ عليهما السلام، وقد ذكَرناهمُا في بابٍ قبل هذا
(2)
.
وأخْبَرنا أبو عَبْد اللّهِ مُحمَّد بن دَاوُدَ بن عُثْمان الدَّربَنْدِيّ بحِبْرَى في مَشْهَد الخلَيل عليه السلام، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد القَاسِم بن عليّ بن الحَسَن الشَّافِعِيُّ، قال: أنْبَأنَا أبو سَعد عَمَّارُ بن طَاهِر بن عَمَّار بن إسْمَاعِيْل الهَمَذَانِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم مَكِّي بن عَبْد السَّلام بن الحَسَن بن القَاسِم بن مُحمَّد الرُّمَيْلِيّ المَقْدِسِيّ، قال: أخْبرَني الشَّيْخُ أبو الحَسَن عليّ بن الخَضِر بن سُلَيمان بن سَعيد السُّلَميّ الدِّمَشْقِيّ، إجَازَةً شَافَهني بها، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم تَمَّام بن مُحمَّد بن عَبْد اللّهِ الحاَفظُ الرَّازِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أبو يَعْقُوب إسْحَاقُ بن إبْرَاهِيمَ الأذْرَعِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن الخَضِر، عن هِشَام بن خَالِد، عن الوَلِيد بن مُسْلِم، عن سَعِيد -يعني: ابن عَبْد العَزِيْز- عن مَكْحُول، عن كَعْب، قال: بطَرَسُوس من قُبُور الأنْبِياء عَشَرةٌ، وبالمِصِّيْصَة خَمْسَةٌ، وبسَواحلِ الشَّام من قُبُور الأنْبِياءَ ألْفُ قَبْرٍ، وبأَنْطاكِيَة قَبْر حَبِيْبٍ النَّجَّار، وذَكَرَ تَمام الحَدِيْث.
(1)
ترجمته في الضائع من الكتاب، وكان الشّيخ أبو زكرياء يَحْيَى بن مَنْصُور المغربي حيًا سنة 584 هـ، فإن السلطان صلاح الدين الأيوبي زاره في طريقه بين حلب والمعرة لما كان مارًا بالمعرة. انظر: الروضتين في أخبار الدولتين 4: 37.
(2)
تقدّم في باب ما ورد من الكتابة القديمة على الأحجار بحَلَب.
وقد ذَكَرْنا فيما تقدَّم، في فَضْل أَنْطاكِيَة
(1)
، حَدِيثًا مُسْنَدًا مَرْفُوعًا إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال: إنَّ فيها التَّوْراةَ، وعَصَا مُوسَى، ورَضْرَاض الألْوَاح، ومَائِدَة سُلَيمان بن دَاوُد في غَارٍ من غِيْرَانها.
وفي حديثٍ آخر عن ابن عَبَّاسٍ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال
(2)
: وفيها جبَلٌ، وفي ذلك الجَبَل غَارٌ، وفي ذلك الغَارِ عَصَا مُوسَى صلى الله عليه وسلم وشيءٌ من ألْوَاحهِ، ومائِدَةُ سُلَيمانَ، ومَحْبُرَةُ إِدْرِبسَ، ومِنْطَقَةُ شُعَيْب، وبُرْدَا نُوح.
وقد ذَكَرْنا فيما نَقَلْنَاهُ عن الحَسَن بن أحْمَد المُهَلَّبِيّ في وَصْفها
(3)
: وبها كَنِيْسَةُ القُسْيَانِ، وهي كَنِيْسَةٌ جَلِيلَةٌ، ويُقال إنَّ بها كَفَّ يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء عليه السلام.
وقَرَأتُ بِخَطِّ أبي عَمْرو الطَّرَسُوسِيِّ، قاضي المَعَرَّة، قال: قَبْرُ أبي مُعاوِيَة الأَسْوَد بطَرَسُوس، بباب الجِهاد في الطَّربق الآضذ إلى المَيْدَان يُمْنة السَّائر، بإزاءِ قُبَّةِ ابن الأغْلَب، ما فارقَهُ الزُّوَّارُ مُدَّة عِمَارَة طَرَسُوس تَبَرُّكًا بهِ وتَيَمُّنًا بالدُّعَاءِ بحَضْرته.
وقال أبو عَمْرو: سَمِعْتُ عِدَّةً من شُيُوخ طَرَسُوس يقُولُون: ما صَدَق أحَدٌ نِيَّتَهُ في حاجَةٍ للّه عز وجل فيها رِضًا، فتَوَسَّل ودَعَا عند قَبْر أبي مُعاوِيَة، إلَّا أجابَهُ اللّهُ عز وجل.
وبعَرْبَ سُوْس -وقيل: إنَّها آخر حُدُود الشَّام- في جَبَل بَانَجْلُوسْ، من غَرْبيّ عَرْبَ سُوْس، الكَهْفُ الّذي كان فيهِ أصْحَاب الكَهْف، ولَبثُوا فيه ثلاثمائة سِنينَ، وزُرْتُ المكان عند دُخُولي إلى بلادِ الرُّوم، وهو مكانٌ حَسَنٌ كَثِيْر الزُّوَّار، وهو كما وصفَهُ اللّهُ تعالَى في كتابه: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ
(1)
فيما مرّ من هذا الجزء.
(2)
تقدّم حديث ابن عباس بتمامه وتخريجه فيما مرّ.
(3)
تقدّم أيضًا في هذا الجزء.
وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}
(1)
. والكَهْف يَدْخُل إليه الإنْسانُ حَبْوًا لا يُمْكِن الماشِي أنْ يَمْشِي فيه قائمًا لقِصَر سَقْفه، وبُنِيَ عليه مَشْهَد عظيم بالحَجَر، وجُعِلَ له سُور، ووُقِفَ عليه وَقْفٌ للزُّوَّار، وقد ذَكَرْنا عَرْبَ سُوْس فيما تقدَّم
(2)
.
قال لي عليّ بن أبي بَكْر الهَرَوِىِّ
(3)
: مَدِينَة الرُّصَافَة بها قُبُور جَمَاعَة من الصَّحابَةِ والتَّابِعِين لا أعْرف أسمْاءهُم.
وقال
(4)
: مَدِينَة بَالِس بها مَشْهَد عليّ بن أبي طَالِب عليه السلام، وبها مَشْهَد الطُّرْح، وبها مَشْهَد الحَجَر؛ يُقالُ: إنَّ رأسَ الحُسَيْن عليه السلام وُضع عليه عندما عَبَرُوا بالسَّبْيّ، واللّهُ أعْلَمُ.
بابٌ في ذِكْرِ ما بحَلَب وأعْمالها من العَجَائِبِ، والخَوَاصِّ، والطِّلَّسْمات، والغَرَائبْ
حَدَّثَني والديّ، رحمه الله، قال: لم يكُن البَقُّ يُوجَدُ في مَدِينَة حَلَب، ولا يُعْهَد منهُ شيء، إلى أنْ اتَّفَق عِمَارَةٌ في بعض أسْوارها، ففُتحَ فيها طاقَة أفضَتْ إلى مَغَارة كانت مَسْدُودة، فَخَرج منها بَقٌّ عظيم عند فَتْحها، أظُنُّها في ناحيةِ قَلْعَة الشَّريف، فَحَدَث البَقُّ فهِا من ذلك اليَوم.
قال: وقيل بأنَّه كان الإنْسانُ إذا أخْرَج يدَهُ من داخل السُّور إلى خارجه سَقَطَ البَقُّ على يَدِه، فإذا أعادها إلى داخل السُّور ارْتَفَعَ.
(1)
سورة الكهف، من الآية 17.
(2)
في الباب الَّذي أفرده للتعريف بها: "باب في ذكر عربسوس"، وقيدها هناك متصلة.
(3)
الإشارات 61.
(4)
الإشارات للهروي 61.
وأخْبرَني الرَّئِيس إبْرَاهِيْم بن الفَهْمِ، رَئيس مَعَرَّة النُّعْمَان، قال: كان في مَعَرَّة النُّعْمَان عَمُود فيه طِلَّسْم للبَقِّ، قال: وذَكَرَ أهْلُ المَعَرَّة أنَّ الرَّجُل كان يُخْرج يدَهُ وهو على سُور المَعَرَّة إلى خارج السُّور فيَسْقُط عليها البَقُّ، فإذا أعادَها إلى داخل السُّور زالَ عنها.
قال لي: وأخْبَرَني رَجُلٌ من أهْل المَعَرَّة يُسَمَّى مُحمَّدًا، قال: رأيتُ أسْفل عَمُودٍ في الدَّار الِّتي كُنْتُ بها في مَعَرَّة النُّعْمَان ففتحْتُ مَوضِعَهُ لأسْتَخرجه، فانْخرقَ إلى مَغَارة، فأنْزَلْتُ إليها إنْسانًا -أو قال: نَزَل هو بنَفْسه- ظَنًّا أنَّه مطلَبٌ، فوَجَدنا مَغَارةً كبيرةً، ولم نَجِد فيها شيئًا، قال: ورَأَى فيها في الحائط صُورَةَ بَقَّةٍ، قال: فن ذلك اليوم كثُر البَقُّ بمَعَرَّة النُّعْمَان.
وقد قال أبو عمرو القَاسِم بن أبي دَاوُد الطَّرَسُوسِيّ في قَصِيدَة الأعْلَام، في وَصْف أَنْطاكِيَة، وقد قدَّمنا ذِكْره:[من الرجز]
والبَقُّ لا يَدْخُلُها ويتَّصل
…
لكن بها فأر عَظيم كالوَرَل
وقال في تفْسير هذا البيت: ولا يَدخُلُها البَقُّ، ومَنْ خَرَجَ منها آذَاهُ البَقُّ، وهي كَثِيْرةُ الفَأْر.
وسَمِعْتُ والديّ، رحمه الله، وغيره من الحَلَبِيِّين، يقُولُون: لَم نَسْمَع بأنَّ حَيَّةً من الحَيَّات الّتى دَاخل مَدِينَة حَلَب لَدَغَتْ أحدًا فمات من لَدْغتها. قال لي والدي رحمه الله: ويُقالُ إنَّ بها طِلَّسْمًا للحَيَّاتِ، وقيل إنَّهُ ببُرْج الثَّعَابِين في الزَّاويَةِ الّتي عندَ باب الفَرَادِيْس المُسْتَجَدَّ.
وبَلَغَني أنَّ جَمَاعَة في زَمَاننا لَدَغَتهُم حَيَّاتٌ دَاخل مَدِينَة حَلَب، ولم تُؤْذِهمِ كجاري العَادَة، وأنَّ المَلْدُوغِ لا يبقى بالألم إلَّا أيَّامًا يسيرةً ويَبْرأ، والعَجَبُ أنَّ حَيَّات بَانَقُوسَا خارج المَدِينَة لا تَلْدَغُ أحَدًا إلَّا ويموتُ في الحالِ، وحَيَّات المَدِينَة كما ذَكَرنا، وهذا لُطْفٌ من اللّه عز وجل.
وسَرْمِيْن لا يُوجَد فيها حَيَّة أصْلًا، وفىِ وَسَطها عَمُود يُقال إنَّه طِلَّسْم للحَيَّات.
وذَكَرَ لي أهْلُ مَعَرَّة النُّعْمَان أنَّ حَيَّات مَعَرَّة النُّعْمَان لا تُؤْذِي إذا لَدَغَتْ كما يُؤذي غيرها.
وسَمِعْتُ إبْرَاهِيم بن الفَهْمِ، رئيس المَعَرَّة، يقُولُ: إنَّ العَمُودَ القائم في مَدِينَةِ المَعَرَّهَ هو طِلَّسْم، ذَكَرَوا أنَّه للحَيَّات، وأنَّ الحيَة إِذا لَدَغَتْ إنْسَانًا عندنا بالمَعَرَّة لا تُؤذِيهِ. وهذا العَمُود قائمُ مُسْتَقرٌّ على قاعدَة بزُبْرَة حَدِيدٍ في وسطه يُمِيْله الإنْسان فيَميل، وربَّما تُمِيلهُ الرّيح القويَّة، ويضع النَّاس تحته إذا مال الجَوْز أو اللَّوْز فيعُود إلى مُسْتَقرِّه فيُكَسِّرهُ.
وسَمِعْتُ إبْرَاهِيْم بن الفَهْم المَذْكُور يقُول: كان بالمَعَرَّة عَمُودٌ آخر كان فيهِ طِلَّسْم للعَقَارِب، فكانت العَقَارِب بالمَعَرَّة لا تُؤذِيّ، فزَال ذلك العَمُود، فزال أثَره، والعَقارِبُ اليَوم بالمَعَرَّة إذا لَدغَتْ تقتُل.
وبناحيَةِ الجَزْر من أعْمَال حَلَب، بالقُرْبِ من مَعَرَّة مَصْرِيْن، قَريَةٌ يُقالُ لها: يَحْمُول
(1)
، ولنا فيها ملكٌ نَتَوَارثُهُ عن أجْدادنا من حُدُود الثَّلاثمائة للهِجْرة، لا يُوجَد في أرْضِها عَقْرَبٌ أصْلًا.
وحَكَى في جَمَاعَةٌ من فلَّا حيها أنَّهم يَخْرجُون في بعض الأوْقَاتِ، ويَحْتَطِبُونَ من جَبَل الأعْلَى حَطَبًا، ويأتونَ بهِ إلى يَحْمُول هذه، فربَّما يَعْلق في الحَطَب من الجَبَل عَقْرَبُ، فمَتَى ما شَمَّت تُراب يَحْمُول ماتَتْ.
ومن العَجَب أنَّ إلى جانب يَحْمُول قَرْيَتَيْنِ يُقال لأحديْهما: الكَفْر، وللأُخْرى: بَيْت رَأس
(2)
، وبين جدارها وجدار كُلِّ واحدة من القَريتَيْن مِقْدَار شَوْط فَرَس،
(1)
تقدّم التعريف بها.
(2)
تقدم التعريف بالكفر وبيت رأس.
وإذا صَاح إنْسان في القَريَة سُمِعَ في القَرْيَةِ الأُخرى، وفي كُلِّ واحدةٍ من القَرْيَتين من العَقَارِب شيءٌ كَثِيرٌ، وهي من أشَدِّ العَقَارِب ضَرَرًا.
وفي يَحْمُول هذه آبار كَثِيْره، ماؤها مَعِيْن، طُول البئر مِقْدَار عَشرة أذْرع، وهاتان القَرْيَتان ليس فيهما بئرٌ واحدٌ، وإذا حُفِرَ فيهما بئر لايَجِدُونَ فيها مَعِينًا، ولهم صَهَاريج من ماء المَطَر، وربَّما يقلّ علجهم الماء، فيكُون شُرب أهْلِ القَريَتَيْن من يَحْمُول هذه.
وأخْبرَني مَنْ أثِقُ بهِ من الحَلَبِيِّين أنّه وَلي عَمَلًا بشِيْحِ الحَدِيْدِ
(1)
، وأنَّه لا يُوْجَد بها عَقْرَبٌ أصْلًا، وأنّ الرَّجُل من أهل شِيْحِ إذا غَسَل ثَوْبَهُ في مائهِا ثمّ خَرَجَ إلى مَوضِع آخر، فوُضِعَ على ثَوبهِ ماءٌ وعُصِر وشَرِبَهُ مَنْ لَدَغَتْهُ عَقْرَب بَرِئَ من وَقْتهِ، وإنْ قُطر منهُ قَطْرَةٌ على عَقْربٍ ماتَتْ في الحالةِ الرَّاهِنَةِ.
وهذه شِيْح الحَدِيْد قَرْيَةٌ كبيرةٌ لها كُورَة، وفيها وَالٍ ودِيْوَان، وهي في طَرف العَمْق من أعْمَال أَنْطاكِيَة، وِ اليَوم من أعْمَال حَلَب مُضافَةٌ إلى حَارِم، وبها كان مَقَام يُوسُف بن أسْبَاط رحْمَةُ اللّهِ علَيهِ.
وأخْبَرَني والدِيّ، رحمه الله، وجَمَاعَة من مَشَايخ حَلَب، يَأْثُرُهُ الخَلَفُ عن السَّلَف، أنَّ العَمُود الحَجَر المَعْرُوف بعَمُود العُسْر، بالقُرْبِ من الأسْفَربس
(2)
(1)
شيح الحديد: توجد اليوم بلدة في جَبَل حلب (جَبَل الكرد) تسى: شيخ الحديد، نتبع منطقة عفرين بمحافظة حلب، فلعل اسمها تغير وأصبح نطقه بالخاء المعجمة، وشيخ الحديد تبعد عن عفرين نحو كم باتجاه الغرب. انظر: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 4: 73، ويُلفت النظر أن ابن شداد أضرب عن ذكر شيح الحديد (الأعلاق الخطيرة 1/ 2: 33) وعدها من الحُصُون التي طالها الخراب في زمنه (أواخر القرن السابع) فلم تعد مانعة، وهو قريب عهد بابن العديم الَّذي أشار لسعتها وكبرها!.
(2)
الأسفريس: حارة تعرف الآن بحارة الأسفرس، تقع بين حارة المغازلة وساحة بزة، فيها مسجد الأسفرس والمسجد العمري الَّذي يعتقد بأن المتصوف إبراهيم بن أدهم نزله، بقرب الحدادية. ابن شدَّاد: الأعلاق الخطيرة 1/ 1: 349، ابن الشحنة: الدر المنتخب 125 (وفيه محرفة: الأسقريس)، الأسدي: أحياء حلب وأسواقها 83.
بمَدِينَة حَلَب، ينفَعُ من عُسْر البَوْل، وإذا أصَاب الإنْسان أو الدَّابَّة عُسْر البَول أتَوا به إليهِ، وأدَارُوا به حَوْلَهُ، فيَزُول ما بهِ، وذَكَرُوا أنَّ هذا مُجَرَّبٌ، والنَّاسُ يَعْرِفُونَ ذلك إلى زَمَننا هذا ويَسْتعمِلُونَهُ فيُفيد، والمَحَلَّة الَّتي هذا العَمُود بها تُعرف بعَمُود العُسْر.
وفي قُرَى حَلَب في النَّاحِيَةِ الشَّرْقيَّة، وتُعْرَفُ بالحَبْل
(1)
، خِرْبةٌ تُعْرفُ بجُبِّ الكَلَب، وهي إلى جانب قِبْثان الحَبْل كان بها بئر ينفَعُ المَكْلُوب.
وأخْبَرَني والِديّ، رحمه الله، فيما يَأْثُرهُ عن سَلَفه، أنَّ هذا البِئْرَ كان يَنفَعُ مَنْ عَضَّهُ الكَلْب الكَلِب، فيأْمَن المَعْضُوض من الكَلَب بالنَّظر في تلك البئر والشَّرب منها.
قال والدِي رحمه الله: وبَطَلَت مَنْفَعة البِئْر بأنَّ امْرأةً ألْقَتْ فيها خِرْقَةَ حَيْضٍ، فبطلَ تأثيرُها، وهذا مُتَدَاولٌ عند أهْل حَلَب، يَأْثُرُهُ الخَلَفُ عن السَّلَف، وإنَّما بطلَت مَنْفَعَةُ البئر في صُدُود الخَمسمائة.
ونَقَلْتُ من خَطِّ أبي الحَسَنِ عليّ بن مُرْشِد بن عليّ بن مُنْقِذ، في تاريخهِ المَوْسُوم بالبدَايةِ والنِّهايَة
(2)
، قال: سَنَة خَمسٍ وأرْبعين وأرْبَعِمائة، فيها كَلِبَت الذِّئابُ والكِلَابُ وأتْلَفْت أكْثَر النَّاسِ. قال أبي: قال لي جَدُّكَ رحمه الله: كان أبي أبو المُتَوَّجَ قد دَخَل إلى حَلَبَ، وترَكَني عندَ جَدِّي الصُّوفِيّ أتفَرَّجُ بسَرْمِيْن، وكُنْتُ لا أعْرفُ لي وَالدًا سِواه لغَيْبَة أبي عند الأُمراءِ والمُلُوك، فقال: يا عَليّ،
(1)
تقدّم التعريف بها وبقبثان الحبل فيما تقدّم.
(2)
لم يشر لهذا الكتاب غير ابن العديم، ونقل عن نسخة توفرت له بخط مؤلف الكتاب في 19 مرة، وسمى كتابه بالعنوان أعلاه في موضعين، ولم يرد عند مَنْ ترجم له ذِكْر لاعتنائه بالتأليف، إِلَّا من أشعار ومنظومات له، وقد توفي الأمير علي بن مرشد شهيدًا بعسقلان سنة 546 هـ. انظر: ياقوت، مُعْجَم الأدباء 2: 581 - 584، (وأرخ وفاته سنة 545 هـ)، الوافي بالوفيات 22: 191 - 192، النجوم الزاهرة 5:301.
احْذَرْ أنْ تَخْرج وَحْدَك فإنَّ الكِلَاب الكَلِبةَ كَثِيرٌ، فاتَّفَق أنِّى خَرَجْتُ مع أصْحَابي وغِلْمَاني، فَقُيِّضَ لي كَلْبٌ فَرَعشَنِي، فدَخَلت غيرَ طيِّب النَّفْس، وذلك بعد العَصْر والزَّمان الصَّفَريُّ في التَّشَارِين، فمضَى مَنْ خَبَّرَ جَدِّي الحَسَن الصُّوفِيّ العِجْلِيّ، فركبَ فَرَسَهُ، وأخَذ دَلْوًا للسُّمُوط وأخَذَني، ومضَى يَخُبُّ ويُنَاقِل، وأنا معَهُ، إلى أنْ أتَى بي جُبّ الكَلَب شَماليّ حَلَب، فَسقَاني منهُ، وغَسَل يَدي ورِجْلي ووَجْهي، وقال: اقْلَعْ ثيابكَ، فقُلتُ: الله الله! إن خلَعْتُ ثيابي في هذا البَرْد مُتّ، فقال: وليتَ مُتّ واسْتَرحت [منك](a) يا صَانِع، فاسْتَقَى أربعين دَلْوًا وصَبَّها عَلىَّ، وقال: تَطَلَّعْ في الجُبِّ، وكانت آية الجُبّ إنْ نَفَعَ المَرْعُوش أَبْصَر النُّجُوم في الجُبِّ، وإنْ لَم يَنْفَعهُ سَمِعَ نَبِيْح الكِلَاب، فقال: ما تَرَى؟ فقُلتُ: أرَى النُّجُوم في الماءِ، فقال: الحَمْدُ لله، ورَكِب، وأخَذَني فباتَ في سَرْمِيْن، ولكن بَعْدَ تَهَوُّرِ اللَّيْل.
قال: يقُول جَدُّكَ: فوالله بعد تَمام الأسْبُوع بُلْتُ ثلاثَة (b) كِلَاب مُصَوَّرة بأذْنَابها ورُؤوسها.
قال: ولم يَزَل هذا الجُبُّ يَتَدَاوَى به النَّاسُ إلى أنْ مَلَكَ حَلَب رِضْوَان المَلِك ابن تاج الدَّوْلَة، فعَوَّل على تَوْسِيع فَمهِ، وكان ضَيِّقًا، عليه أرْبَعة أَعْمَدة، تَمنَعُ أنْ يُنْزلَ فيه، فقال: نَعملَهُ يكون الإنْسانُ يَنْزل إليه، ولا يَقْلِبُ عليه، فقيل له: إنَّ هذه الطِّلَّسْمات لا يجبُ أن تتغَيَّر عن كيفيَّاتها، فلم يَقْبَل، ففتحه، فزَال عنه ما كان يزيل الأذَى.
وكان يقال إنَّ ذلك كان في سَنَة ستٍّ وتِسْعِين وأرْبعمائة، وهو كان من العَجَائب الثَّلاث: جُبُّ الكَلَب، ونَهْر الذَّهَب، وقَلْعَة حَلَب؛ فأمّا النَّهْر فهو ماء يَجْري إلى أنْ ينتَهي إلى مَواضِع في الجَبُّول وغيرها من القُرَى، فيسكُبونها ويُجْرُون
(a) كلمة أفسدتها الرطوبة، والمثبت علي التقريب.
(b) الأصل: ثلاث.
إليها السَّواقي، فإذا دَخَل تلك المساكب جَمَد بإذْن الله، وصار مِلْحًا أبيض في بياض الثَّلْج، فيُباع منه بالأمْوالِ الخَطيرة، ولذلك سُمِّي نَهْر الذَّهَب.
قُلتُ: وهذا عليّ بن مُنْقِذ صَاحب هذه الوَاقِعَة هو الأَمِير سَدِيْدُ المُلْك [أبو الحَسَن عليّ](a) بن أبي المُتَوَّج مُقَلَّد بن مُنْقِذ الكِنَانِّي، الّذي فَتَح شَيْزَر واشْتَراها من الأُسْقُف بمالٍ بذلَهُ له على ما ذَكَرناهُ في الباب المُتَقدِّم في ذِكْر شَيْزَر
(1)
، وكان من الرِّجال العُقلاءِ، والأُمَراءِ العُلَمَاء، والأُدَبَاء الشُّعَرَاء، وجَدُّهُ المذكُور لأُمِّه هو الحَسَنُ بن عِجْل المَعْرُوف بالصُّوفيِّ، وبنو الصُّوفِيّ الّذين تَولُّوا رئاسة دِمَشْق كانُوا من نَسْلِه، وكان الصُّوفِيِّ يَسْكن سَرْمِيْن، وسيأتي ذكْرهُما
(2)
في هذا الكتاب إن شَاءَ اللهُ تعالَى.
قَرَأْتُ في كتاب الرَّبِيع، تأليفُ غَرْس النِّعْمَة أبي الحَسَن مُحمَّد بن هِلِّل بن المُحَسِّن بن إبْرَاهِيم بن هِلِّل الصَّابئ، وأخْبَرنا به عَبْد اللَّطِيف بن يُوسُف إجَازَةً، عن أبي الفَتْح مُحمَّد بن عَبْد البَاقِي بن البَطِّيّ، عن أبي عَبْد الله الحُمَيْدِيّ، قال: أخْبَرَنا غَرْسُ النِّعْمَة أبو الحَسَن، قال: وحَدَّثَني أبو عَبْد الله بن الإسْكَافِيِّ كاتب البَسَاسِيرِيّ في سَنَة إحْدَى وخمسين وأرْبَعِمائة، قال: احْتَرق بحَلَب عاما أوَّل، بُرْجٌ من أبْراج سُورها، وحَكَي ذلك للمُسْتَنْصِرِ باللهِ صَاحب مِصْر خَادِمٌ كان له بحَلَب، فقال له: إنْ كُنتَ صَادِقًا ففي هذه السَّنَة يُخْطَبُ لنا بالعِرَاق، وذَاكَ عندنا في كُتُبنا دَلِيل على ما قُلْناهُ.
قال أبو عَبْد الله: واتَّفَق أنْ جئنا وأَقَمْنا الخُطْبَة في ذي القَعْدَة من سَنَة خَمْسين.
(a) ما بين الخاصرتين كلمتان مطموستان بفعل الرطوبة.
_________
(1)
تقدم في الباب المذكور: "باب في ذكر شيزر".
(2)
سقطت ترجمة سديد الملك على بن منقذ، ووردت عنه أخبار كثيرة مفرَّقة في ثنايا بعض التراجم، أما ترجمة جده لأمه الحسن بن الحسين بن محمد بن عجل الصوفي فهي مدرجة في موضعها من الجزء الخامس.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ تَوْفِيقِى
وفي قَرْيَة من قُرَى جَبَل السُّمَّاق من أعْمَال حَلَب يُقالُ لها: كَفْر نَجِدْ
(1)
، وهي قَرْيَةٌ كبيرةٌ، كَثِيرة الأشْجَار، بئرٌ من غَرْبي القَرْيَة ربَّما سَاح ماؤُها في بعض السِّنِين على وجهِ الأرْض، من خَاصِّيَّة ماءِ البِئْر أنّه يُخْرجُ العَلَقَ إذا نَشِبَ في حَلْق الإنْسان أو الدَّابَّةِ إذا شُرب ذلكَ الماء
(2)
.
وهذا أمرٌ مُستَفِيضٌ لا شَكَّ فيه، فإنّني جرَّبْتُهُ أنا بنَفْسِي، فإنّي سَافرْتُ في بعض السِّنِين مع والدي، رحمه الله، إلى حَمَاةَ، فشربْتُ ماءً بتُمْنَعَ
(3)
، وهي قَريَةٌ في طَريق حَمَاة من عَمَل كَفَرْ طَاب، ولها رَكِيَّةٌ
(4)
مَعْرُوفة بالعَلَق، فَنَشبَ في حَلْقي عَلَقَةٌ في مَوضعٍ لا يُوصَل إليه في أقْصَى الحَلْق، وعُدتُ إلى حَلَب، وهي على حالها، وعُولِجْتُ بأنْواع الأدْوِيَةِ الّتي تُسْتَعمل لاسْتخراج العَلَقِ، فلَمْ تَنْجِعْ شيئًا، وجعلَتْ تَكبر في حَلْقي، ويَزْدادُ خُرُوج الدَّم بسَبَبِهَا، حتَّى أنّي كُنْتُ أُلقي منهُ في كُلِّ يوم شيئًا كَثِيرًا، فاشْتَغل خاطِرُ والدِي، رحمه الله، لذلكَ.
(1)
كفر نجد: قرية في هضبة إدلب، تتبع منطقة أريحا بمحافظة إدلب، وتقع على مرتفع يشرف على سهول أريحا الشمالية، والقرية تبعد عن أريحا نحو 2 کم باتجاه الشمال الغربي. ياقوت: معجم البلدان 4: 471، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 5:67.
(2)
ذكر الهروي مثل هذا، وزاد عليه أنه: كلما شَرب من علقت بحلقه علقة من ماء البئر شربة وطاف به فإذا أكمل سبع مرّات خرجت دون أذى، وذكر أن ذلك مجرّب عندهم. انظر الإشارات 6.
(3)
تمنع: وتسمى اليوم التمانعة أو: المانعة، قرية في هضبة حماة، تتبع ناحية خان شيخون بمعرة النعمان من محافظة إدلب، وتبعد عن بلدة خان شيخون نحو 10 كم باتجاه الشرق. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 2:576.
(4)
الرَّكِيَّة: البئر، والجمع: رَكِيٌّ وركايا. لسان العرب، مادة: ركا.
فاتَّفَق أنْ حَضَر مُقَدِّم قَرْيَة كَفْر نَجِد عند عَمِّي أبي المَعَالِي، وذَكَرَ له خَاصِّيَّة هذه البئر، فجاء عمِّي وذَكَر لوالدِي ذلك، فقام في الحالِ ورَكِب، وسَارَ بي إلى كَفْر نَجِد، فوصَلْناها آخر النَّهَارِ قبل المَغْرب، وخرج بي إلى البئر، وشَرِبْتُ من مائها مرارًا، وعُدْتُ إلى القَرْيَة، وألْقَيْتُ من الدَّمِ شيئًا كَثِيرًا، وغَلَبني النَّوم لِمَا نالَني من التَّعب، فأغْمضت، فخرجَتْ العَلَقَةُ من حَلْقي إلى فَمي فوجَدَتْهُ مُطبَقًا، فطلبت مَنْفَسَ الهَوَاءِ وأنْ تخرج من خيشُومي، فانتَبَهْتُ، وفَتَحْتُ فمي، فَنَزَلَتْ إليه، فأخرجتُها من فمي وهي بِمِقْدَار الإصْبَع الطَّويلة بعدَ أنْ ألقَتْ ما كان في جَوْفها من الدَّمِ.
وفي أعْمَال حَلَب عِدَّة حَمَّاتٍ تَنْفَعُ من البَلَاغِم والرِّيَاح وكَثِير من الأدْواءِ، فمنها حَمَّةٌ في السُّخْنَة
(1)
من عَمَل المَنَاظر
(2)
من ناحيةِ قِنَّسْرِين، ماؤها في غاية الحَرارة، وأهلُها يَغْتَسلُونَ فيها ويَتَعَوَّضُونَ بها عن الحَمَّام، وذَكَرَ لي جَمَاعَة من أهْلها أنَّهم يَنْتفعُونَ بها من الرِّيح والبَلْغَم والحَبّ، ونَزَلْتُ إليها واغْتَسلْتُ فيها.
وذُكِرَ لي أنَّ بناحيَةِ العَمْق حَمَّة أُخْرى يَتَداوَى بها النَّاسُ أيضًا.
وذَكَرَ أحمد بن أبي يَعْقُوب بن وَاضِح الكَاتِب، في كتاب البُلْدان، وَعَدَّ کور قِنَّسْرِين والعَوَاصِم، وقال
(3)
: وكُورَة الجُومَة، وبها العُيُونُ الكِبْرِيتِيَّة الّتي تَجْرِي
(1)
السخنة: بلدة في بادية تدمر بمحافظة حمص، تقع عند نهاية امتداد سلسلة جبال تدمر باتجاه الشمال والشرق، فيما بينها وبين جبل البشر، وتبعد عن مدينة تدمر مسافة 75 کم باتجاه الشمال الشرقي، ولا زال النبع الكبريتي الساخن يتدفق بجوارها في ناحية الجنوب من البلدة، ومنه استمدت تسميتها بالسخنة. طلاس: المعجم الجغرافي 3: 604 - 605.
(2)
المناظر: موضع في برية الشام قرب عُرض. (ياقوت: معجم البلدان 5: 203)، وظاهر كلام ابن العديم أعلاه يشير إلى صقع أو عمل واسع لا إلى موضع محدد، ومع ذلك فتوجد اليوم بسوريا قرية تسمى مناظر الجرف تتبع ناحية منبج بمحافظة حلب، وتبعد عن مدينة منبج نحو 18 كم نحو الجنوب الغربي. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 348.
(3)
ضمن الضائع من كتاب البلدان لليعقوبي.
إلى الحَمَّة، والحَمَّةُ بقَرْيَة يُقالُ لها جَنْدَارِس، ولها بُنْيانٌ عَجيبٌ مَعْقُودة بالحِجَارَة، يأتيْهَا النَّاسُ من كُلِّ الآفاق، فيَسْبَحُونَ فيها للعِلَلِ الّتي تُصِيْبهُم، ولا يُدْرَي من أين يَجيءُ ماؤُها ذلك الكِبْرِيِتيُّ، ولا أينَ يَذْهَبُ.
وقَرَأتُ في كتاب أخبار البُلْدَان، تأليفُ أحْمَد بن مُحمَّد بن إسْحَاق الهَمَذَانِيّ، المَعْرُوفُ بابنِ الفَقِيهِ، قال
(1)
: وعلى سَبْعَة أمْيالٍ من مَنْبِج حَمَّةٌ، عليها قُبَّةٌ تُسَمَّي: المُدِيْر، وعلى شَفِيرها صورةُ رَجُلٍ من حَجَرٍ أسْوَد، تَزْعَمُ النِّسَاءُ أنَّ كُلّ مَنْ لا تَحْبَلُ منهُنَّ إذا حَكَّتْ فَرجَها بأَنْف تلكَ الصُّورَة حَبِلَتْ. وبها حَمَّامٌ يُقالُ لهُ حَمَّامُ الصَّرانِيّ (a) في وسَطهِ صُورةُ رَجُلٍ من حَجَرٍ يخرجُ ماءُ الحَمَّام من إحْليلِهِ.
أخْبَرني بَهَاءُ الدِّين أبو مُحمَّد الحَسَنُ بن إبْراهِيم بن الخَشَّاب، رحمه الله، قال: أخْبَرَني ابنُ الإكْلِيليِّ المُنَجِّم الحَلَبيِّ، قال: لمَّا حُفِرَ بالمَسْجِد الجامِع بحَلَب مَوضِع المَصْنَع للماءِ، وُجِدَ فيه صُورَةُ أسَدٍ من الحَجَر الَأسْوَد، وهو مَوْضُوع على بلاطٍ أسْودَ، ووَجْهه إلى جِهَةِ القِبْلَةِ، قال: فاسْتَخْرجُوه من مكانه، فجرى بعدَ ذلك ما جَرَى من خَراب جامِع حَلَب؛ إمَّا بالزَّلْزَلَةِ وإمَّا بالحَرِيق.
قُلتُ: ووَقَعَ مثل ذلك في زَمَاننا، في أيَّام دَوْلة المَلِك العَزِيز مُحمَّد بن المَلِك الظَّاهِر غَازِي بن يُوسُف بن أيُّوب، وأتَابِكُهُ ومُدَبِّرُ دَوْلته طُغْرِل الخَادِم الظَّاهِريّ، فجدَّدَ طُغْرِل دارًا في القَلْعَة ليَسْكنها، فلمَّا حُفِرَ أسَاسُها، ظَهَرَ في ما حَفَرُوه صُورة أسَدٍ من حَجرٍ أَسْوَد، فأزالُوهُ عن مَوضِعه، فسَقَط بعد ذلك الجانب القِبْليّ من أسْوار قَلْعَة حَلَب، وانْهَدَمَ من سَفْح القَلْعَة قِطْعة كبيرة.
(a) البلدان لابن الفقيه: الصوابي.
_________
(1)
ابن الفقيه: كتاب البلدان 166.
أخْبَرنا أحمد بن الأزْهَر بن السَّبَّاك البَغْدادِيّ، في كتابهِ إليَّ، عن أبي بَكْر مُحمَّد بن عَبْد البَاقِي الأنْصاريّ، قال: أنْبَأنا المُحَسِّنُ بن علىّ التَّنُوخيُّ
(1)
، قال: حَدَّثَني الحَسنُ ابنُ ابنةِ غُلَام أبي الفَرَج البَبَّغَاء، وكَتَب خَطّه، وشَهد له أبو الفَرَج بصِحَّة الحِكَاية، قال: في أعْمَال حَلَب ضَيْعَةٌ تُعرَفُ بعَيْن جَارَا
(2)
، وبينها وبين الحَوْتَة
(3)
حَجَرٌ قائم كالتَّخْم بين أرْض الضَّيْعَتَيْن، فربَّما وقَع بين أهْلِ الضَّيعَتَيْن شرٌّ، فيكيدُهُم أهْلُ الحَوْتَةِ بأنْ يطرَحُوا ذلك الحَجَر القائم، فكُلَّما (a) يقَع الحَجَرُ، يَخْرج أهْلُ الضَّيْعتَين من النِّسَاءِ ظَاهرات مُتَبرِّجات لا يَعْقلن بأنْفُسهنَّ طلبًا للجِمَاع، ولا يَسْتَقْبحن (b) في الحالِ ما هُم عليه من غَلَبةِ الشَّهْوَة، إلى أنْ يَتَبادر الرِّجالُ إلى الحَجَر فيُعِيدُونَهُ إلى حَالهِ الأُولَى، فيَتَراجعن النِّساءُ إلى بُيُوتهنَّ، وقد عَادَ إليهنَّ التَّمْييزُ باسْتقباح ما كُنَّ عليه.
وهذه الضَّيْعَة كان سَيْفُ الدَّوْلَة أقْطَعها أبا علىّ أحمد بن نَصْر البَازْيَار، وكان أبو عَلىّ يَتَحَدَّثُ بذلك ويَسْمَعَهُ منهُ النَّاسُ، وذَكَر هذه الحكاية بخَطّهِ في الأصْل.
(a) في الأصل: فكما، والتصويب من رواية ياقوت 4:177.
(b) ياقوت: يستحيين.
_________
(1)
نقل ياقوت الحكاية في معجمه بالسند المذكور عن أبي علي التنوخي. معجم البلدان 4: 177.
(2)
عين جارا: يذكرها ابن العديم بعد هذا النقل موصولة برسم: "عنجارا"، وهو الاسم الذي أصبحت عليه الآن، وهي قرية في هضبة حلب الغربية تتبع ناحية دارة عزَّة بمنطقة جبل سمعان من محافظة حلب، وتبعد عن دارة عزة (مركز الناحية) مسافة 15 كم باتجاه الجنوب الشرقي. ياقوت: معجم البلدان 4: 177، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 349.
(3)
الحوتة: عرَّف بها ابن العديم بعد انتهاء النقل، وذكر ما أصبح عليه اسمها في زمنه، وهو: الهوتة، وهو الاسم المستخدم اليوم، وتقع -كسابقتها- في هضبة حلب الغربية، وتتبع ناحية دارة عزة بمنطقة جبل سمعان (محافظة حلب)، ويمر إلى الشرق منها مسيل ماء ينتهي إلى وادي جهنم. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 461.
وقد تشكك ياقوت في رسمها عند إيراده الحكاية فقال: "الهونة، أو الحونة أو الجومة". معجم البلدان 4: 177.
قُلتُ: هكذا قال: الحَوْتَة بالحاءِ، وهي الآن تُسَمَّى الهَوْتَةِ بالهاء، وهي إلى جانب عِنْجَارا. والهَوْتَة أُقْطِعْتُها، وبَطل ما ذكَرَهُ التَّنُوخيُّ، وقيل لي بأنَّ الحَجَر باق.
قَرَأتُ في تاريخ أعارنيهِ بعضُ الهاشِميِّينَ بحَلَبَ، جَمَعَهُ أبو غَالِب هَمَّامُ بنُ الفَضْل بن جَعْفَر بن المُهَذَّب المَعَرِّيّ
(1)
، ذَكَر فيه حوادثَ سنَة سبعٍ وستِّين وأرْبَعِمائة، أنَّهُ ظَهَرَ بأَنْطاكِيَةَ طِلَّسْمٌ في جُرْن على صُوَر الأتْرَاك، فما حالَ الحَوْلُ حتَّى فَتَحها الأتْراكُ.
ثم قَرَأتُ بخَطِّ مُحمَّد بن عليّ العُظَيْميّ الأُسْتَاذ في تاريخه
(2)
، وأنْبَأنَا به عَنْهُ المُؤيَّد بن مُحمَّد الطُّوسِيّ، في حَوادِث سَنَة سبعِ وستِّين، قال: وفيها فَتَحَ سُلَيمان بن قُطَلْمِش نِيقِيَّة وأعْمالها، وفيها كانت الزَّلْزَلَةُ بأَنْطاكِيَة، فأخْرَبَت منها كَنَائِس ومنازِل وبعضَ سُورها، وفيها ظَهَرَ بأَنْطاكِيَة طِلَّسْم الأتْرَاك في دَيْرٍ على بابها، وكان الدَّيْرُ عابَ، فلم يَجِدُوا له خَشَبًا لسَعَةِ أكْوَاره، فجدَّدُوا في وسَطِه أسَاسَاتٍ للقَنَاطِر، فخرَج عليهم جُرْنٌ فيه خَيَّالة أتْرَاك من نُحاسٍ، فظَهَر الأتْرَاكُ على أَنْطاكِيَة.
وذكَرَ العُظَيْميُّ في تاريخه المُخْتصَر
(3)
، ما أخْبَرَنا به شَيْخُنا أبو اليُمْن الكِنْدِيّ إجَازَةً عنهُ، قال في حَوادث سَنَة سَبْعٍ وستِّين وأرْبَعِمائة: وزُلْزِلَتْ أَنْطاكِيَةُ، وفَتَحَ سُلَيمان بن قُطَلْمِش نِيقِيَّة وأعْمَالها، وظَهَر بأَنْطاكِيَة طِلَّسْم الأتْرَاك في دَيْر المَلِك على باب أَنْطاكِيَة، سَبْعَة أتْرَاك من نُحاسٍ على خَيْل نُحاسٍ بجِعَابِهم، فما حالَ الحَوْلُ حتَّى فَتَحَها الأتْرَاكُ.
(1)
تقدم التعريف بالكتاب لأول وروده في هذا الجزء.
(2)
صرح ابن العديم في الجزء السابع من هذا الكتاب "بغية الطلب"، باسم كتاب العظيمي الذي أكثر في النقل عنه، ونص كلامه:"قرأت بخطِّ أبي عبد الله مُحمّد بن علىّ بن مُحمَّد بن أحمد بن نزَار التَّنُوخيّ المعروف بابنِ العُظَيْميّ الحلبِيّ في كتابه المُؤَصَّل على الأصْلِ المُوَصَّل، وهو التَّذْكِرَة من سِيَر الإسْلَام". وكتاب المُؤصَّل كتاب كبير في التاريخ لم يصلنا، اختصره مؤلفه في كتاب آخر، نُشِر باسم تاريخ حلب (العنوان ليس من وضع المؤلِّف إنما هو صنع المُحقق)، وهو الذي نقل عنه ابن العديم في النصّ التالي وسمَّاه: التاريخ المختصر.
(3)
العظيمي: تاريخ حلب 349.
قُلتُ: فقد تَواطأ ابن المُهَذَّب والعُظَيْميِّ على أنَّ هذا كان في سنَة سَبْعٍ وستِّين! وليس الأمْر كذلك؛ بل كان فَتْح سُلَيمان بن قُطَلْمِش أَنْطاكِيَة في سَنَةِ سَبْعٍ وسَبْعِين وأرْبَعِمائة، والظَّاهر أنَّ ابن المُهَذَّب نَقَلَ ذلك وطَغَى القَلَمُ في سَنَة سَبْع وسَبْعِين وستِّين، فكتبه على الغلَط، ونَقَل العُظَيْميُّ ذلك من تاريخه على الغَلَط، والصَّحيح ما ذكَرَهُ حَمْدَان بن عَبْد الرَّحِيم الأثارِبيّ في أخْبار الفِرِنْج
(1)
، وقرأتُهُ بخَطِّ الرَّئِيس يَحْيَى بن المِرَاوِيّ الحَلَبِيّ، وذَكَرَ أنَّه نَقَلَهُ من خَطِّ حَمْدَان بن عَبْد الرَّحِيم، قال: وكان من عجائب الزَّمان أنَّ أنْطاكِيَة خرَّبَتْها زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ قَبْلَ فَتْحها بمُدَّة أربع سِنين، وسقَط من سُورها عدَّةُ أبْرِجَةٍ.
حَكَى القَاضِي حَسَنُ بن المَوْج الفُوعيّ، قال: كُنْتُ قد هَرَبْتُ من المِجَنّ
(2)
ووصَلتُ إلى أَنْطاكِيَة، وخدَمْتُ بها الأجَلّ مَسْعُود وَزير يَغِي سْغان، فتَرَكني على العِمَارَة، قال: فعُدْنا إلى ما قد أخْربَتْهُ الزَّلْزَلَةُ من السُّور فعَمرناهُ، فعَاد أحَدُ الأبْرِجَةِ هَبْطًا وعَاب، فأُشير علينا بنقَضِه، وأنْ يُقرَّر أسَاسهُ، فهَدَمْناهُ، ونَزلناهُ على آخر دِمْس في أسَاسهِ، فوَجَدْنا جُرْنًا قد انكَسَر عليه طابقٌ عظيم، فكَشَفْناهُ فَوجَدْنا فيه سَبْعَةَ أشْخاصٍ من نُحاسٍ على خَيْلٍ من نُحاسٍ، على كُلِّ واحدٍ ثَوْبٌ
(1)
سماه ابن العديم في ترجمة مؤلفه الأثاربي (الجزء السادس) وكذلك ابن الساعي (الدر الثمين 363): "كتاب المُفوَّف"، وسمَّاه العظيمي (تاريخ حلب 147):"سيرة الفرنج"، وسماه ابن ميسر (أخبار مصر 131):"سيرة الإفرنج الخارجين إلى بلاد الإسلام"، وهو كتاب بحكم المفقود. ووقعت لابن العديم أوراق منه، نقل منها في بعض المواضع التالية، واطّلع على مقتطفات منه من خلال بعض النقول عنه، قال في ترجمته:"ووضَع كتابًا في تاريخ حَلَب من سَنَة تِسْعين وأرْبَعِمائة، ضَمَّنَهُ أخبار الفِرِنج وأيَّامَهُم وخُروجهم إلى الشَّام من السَّنة المذكُورة وما بعدها، وسَمَّاهُ المُفَوَّف"، وزاد ابن الساعي على ما تقدم أنه انتهى فيه إلى بعد الخمسمائة، وتصحف عنوان الكتاب عند السخاوي في كتابه الإعلان بالتوبيخ 260 والطباخ في إعلام النبلاء 1: 34: القوت، وانظر للمزيد من التفصيل حول الكتاب وقيمته في دراسة عصر الحروب الصليبية: بحث عصام عقلة. المؤرخ حمدان الأثاربي (ضمن كتاب بحوث مهداة إلى محمد عدنان البخيت، الجامعة الأردنية، 2013 م)، 184 - 193.
(2)
الأصل: المحن، وهو رئيس حلب ومقدم أحداثها، بركات بن فارس المعروف بالمجن (ت 491 هـ)، زبدة الحلب 1: 331، 340، 352، 431، نهر الذهب للغزي 3: 78 - 88.
من الزَّرَد، مُعْتَقِلًا تُرْسًا ورُمْحًا، قال: فعرَّفْتُ الأجَلّ مَسْعُود بذلكَ، فنَفَّذ ثِقَتَهُ، فأخْرج الأشْخاصَ، وكَشَفَ ما تحت الجُرْن، فلم يَجِد شيئًا سِوَاها، فحَمَل الأشخاصَ إلى الوَزِير فأخَذَها، وأحْضَرَها إلى مَجْلِس الأَمِير يَغِي سْغان؛ فقال بعضُ الحاضِرِين: لو أحْضَر الأميرُ من مَشَايخ المَدِينَة مَنْ يَكْشف لهُ حقيقةَ هذا الأمْر، فتقَدَّم بإحْضَار جَمَاعَةٍ، وأُبرزَتْ إليهم الأشْخاص وقيل لهم: تَعْرفُونَ ما هذه الأشخاصُ؟ قالوا: ما نَعْرفُ! بل إنَّنا نَحْكي للأمِير ما يُقاربُ هذا الأمْر: لنا دَيْرٌ يُعْرفُ بدَيْرِ المَلِكِ، واسِع الهَوَاءِ، عابَ علينا في سَنَة سَبْعٍ وسَبْعِين وأرْبَعِمائة، فتكسَّر أكثَرُ خَشَبِه، فَنَقَضْنَاهُ، وتَطَلَّبْنا له خَشَبًا بمِقْدَاره فلَم نَجِد بأَنْطاكِيَة وبلدِهَا شيئًا، فأشَار علينا بعضُ الصُّنَّاعِ بتَقْديم الحَائِط، فَحَفَرْنا أساسَ الحائط الجديد، فلمَّا انتَهينا إلى أسْفَلهِ، وجَدْنا أشْخاصَ أتْرَاكٍ من نُحاسٍ في أوْسَاطِهِم القِسِيِّ والنُّشَّاب، فلم نَحْفل بذلكَ، وعَمرنا الحائط، فما مَضَى لنا غير مُدَّة قَصيرة حتَّى سَرَقَ المَدِينَة سُلَيمانُ بن قُتْلَمِش (a) في أوَّل شَعْبان سَنَة سبْعٍ وسَبْعِين وأرْبَعِمائة، في أربعمائة غُلامٍ أو دُون، ومَلَكَنا كما سَمِعَ الأميرُ، وهذه الأشْخاصُ ربَّما كانت من أُمَّةٍ هذه أشْكالُهُم من العَرَب أو غيرهم من المُسْلِمِين، وَوَرَّوْا عن خَبر الفِرِنْج، وكان قد وصَلَهُم عنهم أخْبارٌ شاذَّةٌ، وما يَجْسرُ أحدٌ يَفُوهُ بها، فشَتَمَهُم يغَي سْغَان أقْبَح شَتْمٍ وقال: يا كُفَّار، في الأرْض غير الأتْرَاك؟! وأمَرَ بإخْراجهم، فما حالَ الحَوْلُ حتَّى قيل: الفِرِنْجُ قد نَزَلُوا القُسْطَنْطِينِيَّة.
هذا ما حَكاهُ القَاضِي حَسَنُ بن المَوْج، والتَّوَاريخ كُلّها مُتَّفقةٌ على أنَّ سُلَيمان بن قُطَلْمِش هَجَم أَنْطاكِيةَ في سَنَة سَبْع وسَبْعِين وأرْبَعِمائة.
وقال حَمْدَانُ بن عَبْد الرَّحِيم بعد هذه الحِكَاية، ونَقَلْتُهُ من غير خطِّ ابن المِرَاوِيّ: ومِثْل هذا أنَّ رُوْجَّار صَاحب أَنْطاكِيَة احْتاج إلى رُخَام يَسْتَعْملُه، فَذُكِرَ له أنَّ في المَوْضِع الفُلَانىّ قَصْرًا عَمرهُ المَلِكُ الّذي عَمر أَنْطاكِيَة، وأنَّ فيهِ من الرُّخَام كُلِّ
(a) كذا قيَّده مجوَّدًا، وتقدم في العديد من المواضع بالطاء عوض التاء، ويرد ضبطه وتقييده في المصادر على وجوه مختلفه.
عَجيبة، فأمَرَ أنْ يُطْلَب، وكان هذا في سَنَة اثْنَتي عَشرة وخَمْسِمائَة، فلمَّا كُشِفَ عنهُ وُجِدَ جُرْن رُخَام، وفيه فَارسٌ على فَرَس، إلَّا أنَّ فيها ما يُنافي الفَرَس، وهو مُلثَّم لا يَبِين فيهِ غير عَيْنَيه، فأُحْضِر ذلك الشَّخْصُ إليهِ، وأخذَ في أحاديثِ تلكَ الأشْخاص التُّرْكِيَّة والفِرِنْجِيَّة، فنَظَر في ذلك، فقال لهُ بعض القُسُوس اضْرِبْ بهِ الأرْضَ يَنْكَسر ويَنكَسر شَرّهُ، فَضَرَبَ بهِ الأرْض حتَّى تَكَسَّر. وفي تلك الجُمُعَة وصَلَهُ مُسْتَصْرِخُ بَيت المَقْدِس يُخْبرُهُ بنُزُولِ عَسْكَرِ المِصْرِيِّين إليهِم، فسَار حتَّى إذا وصَلهم وبرز لمُقَابلَةِ عَسْكَرهم فجايشُوا أيَّامًا، ثمّ رجع عَسْكَر مِصْر وقد خَسر، وعاد رُوجَّار إلى أَنْطاكِيَة، ولم يُقِمْ بها غير عَشرة أيَّامٍ، وخَرَج إلى أعْزَاز وحَاصَرهَا، فأنْفَذَ الحَلَبِيُّون إلى إيل غَازِي بن أُرْتُق، فاسْتَدْعُوه ومَلَّكُوه حَلَب، وشَدَّ التُّرْكُمان، وسار إليه فالْتقَوا على فُرْضَة لَيْلُون على مَوضعٍ اسْمهُ تَلّ عُقْبَرين
(1)
فكُسِرَ الفِرِنْج، وقُتِلَ رُوْجَّار، وأُخِذَ رأسُهُ، وقُتِلَ من الفِرِنْج عدَد أُلوف، ولو تَمَّ عَسْكَر إيل غَازِي إلى أَنْطاكِيَة لأُخِذَتْ، ولكنَّهُ هَابَ الأمْرَ، ولله المَشِيْئَةُ.
بابٌ في ذِكْرِ مَا يَتَعلَّق بحَلَب وأعْمَالها من المَلَاحِم وأمَارات السَّاعَة
أخْبَرنا أبو رَوْح عَبْد المُعِزّ بن مُحمَّد بن أبي الفَضْل الهَرَوِيّ في كتابهِ إلينا، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم تَمِيم بن أبي سَعْد بن أبي العبَّاسِ الجُرْجَانِيّ، قال: أخْبَرَنا الحاكِم أبو الحَسَن عليّ بن مُحمَّد بن عليّ البَحَّاثِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن مُحَمَّد بن أحمد بن هارُون، قال: أخْبَرَنا أبو حَاتِم مُحَمَّدُ بنُ حِبَّان بن أحمد البُسْتِيّ، قال: أخْبَرَنا مُحَمَّد بن أحمد بن أبي عَوْن، قال: حَدَّثنا أبو ثَوْر، قال: حَدَّثَنا مُعَلَّي بن مَنْصُور،
(1)
تل عقبرين: تل أثري في ناحية الدانا بمنطقة حارم من محافظة إدلب، يحوي آثارًا ومبان قديمة تعود للقرن السادس الميلادي. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 542.
قال: حدثنا سُلَيمان بن بلال، قال: حنا سُهَيْلٌ، عن أبيه، عن أبي هريرة
(1)
، أنَّ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: لا تقُوم السَّاعَةُ حتَّى يَنْزل الرُّومُ بالأعْماقِ أو بدَابِق، فيخرُجُ إليهم جَيْشٌ من أهْل المَدِينَة، وهم خِيار أهْلِ الأرْض يَوْمئذٍ، فإذا تَصَافُّوا، قالت الرُّومُ: خلُّوا بيننا وبين الّذين سَبَوْا منَّا نُقَاتلهُم، فيقُول المُسلِمُون: لا واللهِ لا نُخَلِّي بينكم وبين إخْوَاننا، فيقاتِلونَهُم فيُهْزَموا، ثُلُثٌ لا يتُوبُ الله عليهم أبدًا، ثمّ يُقتَل ثُلُثُهُم، وهم أفْضَلُ شُهَدَاء عند اللهِ، ويَفْتَح ثُلُثٌ، فيفتتحُون قُسْطَنْطِينِيَّة، فبينا هُم يَقْسِمونَ الغَنائِم، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُم بالزَّيْتُون، إذ صاحَ فيهم الشَّيْطانُ: إنَّ المَسِيْحَ قد خَلَفَكُم في أهالِيْكُم، فيَخْرجُونَ، وذلك باطلٌ، فإذا جاءوا الشَّام خرجَ -يعني الدَّجَّالَ- فبينا هم يُعِدُّونَ للقتالِ، ويُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إذ أُقيمتِ الصَّلاةُ، فيَنْزل عِيسَى بنُ مَرْيَم (a) فإذا رآهُ عَدُوُّ اللهِ يَذُوبُ كما يَذُوبُ الثَّلْج، ولو تَرَكُوهُ لذاب حتَّى يَهْلِكَ، ولكنَّه يَقْتُلُه اللهُ بيَدِه، فيُريهم دَمَهُ في حَرْبَتِهِ.
هذا حديثٌ صَحِيحٌ أخْرَجَهُ مُسْلم بن الحَجَّاج في صَحِيحه، عن زُهَيْر بن حَرْب، عن مُعَلَّى بن مَنْصُور، عن سُلَيمان بن بلال، وقد أوْرَدناهُ عنهُ فيما تقدَّم
(2)
.
كَتَبَ إليْنا أبو مُحمَّد أحمد بن الأزْهَر بن عَبْد الوهَّاب بن السَّبَّاك من بَغْدَاد، أنَّ القَاضِي أبا بَكْر مُحَمَّد بن عَبْد البَاقِي بن مُحَمَّد أخبرَهُم كتابةً، عن أبي مُحَمَّد الحَسَن ابن علىّ بن مُحَمَّد الجَوْهَرِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو عُمَر مُحَمَّد بن العبَّاس بن زَكَرِيَّاء بن حَيَّوْيَه، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن أحمدُ بن جعفر بن مُحَمَّد بن المُنَادِي، قال
(3)
:
(a) في رواية مسلم والحاكم: فينزل عيسى بن مريم فأمَّنهم.
_________
(1)
انظر: صحيح مسلم، کتاب الفتن وأشراط الساعة، 4: 2221 (رقم 2987)، المستدرك للحاكم 4: 482، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15: 224 (رقم 6813).
(2)
في باب فضل حلب، فيما مرّ من هذا الجزء.
(3)
انظر: كتاب الملاحم لابن المنادي 146 - 147، وهو أيضًا في كتاب الفتن لنعيم بن حماد 491 - 492.
أُخْبِرتُ عن الحَكَم بن مُوسَى السِّمْسَار، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن حَمْزَة، عن إسْحَاق بن عَبْد اللهِ، قال: أخْبَرَني عَبْدُ الرَّحمن بن سَنَّة (a)، عن مَنْ أَخْبَرَهُ، أنَّه سَمِعَ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُول
(1)
: بَدَأ الإسْلام غَرِيبًا، ثمّ يَعُودُ غَريبًا، فطُوبَى للغُرَباءِ، قالُوا: ومَن الغُرَباء يا رسُول اللهِ؟ قال: الّذين يَصْلُحُون إذا فسَدَ النَّاسُ، والّذي نَفْسِي بيَده لَيَأْرِزَنَّ
(2)
الإيمانُ إلى المَدِينَة كما يَحُوزُ السَّيْل الدِّمَن، والّذي نَفْسي بيَدِه ليَأْرِزَنّ الإسْلامُ إلى ما بين المَسْجِدَيْن كما تأْرِزُ الحيَّة إلى حُجْرِها، فبينما هُم كذلك اسْتَغَاثَ العَرَبُ بأعْرابها، فخَرجُوا في مَجْلَبةٍ (b) لهم لصالح (c) من قَضَى وخير من بقي، فاقتتلُوا هم والرُّوم، فتَنقلِب (d) بهم الحربُ حتَّى يردُوا العَمْقَ، عَمْقَ أَنْطاكِيَة، فيَقْتَتلُونَ فيها ثلاثَ ليالٍ (e)، العَرَبُ والرُّوم، ويَرْفَعُ اللهُ النَّصْر عن كُلٍّ حتَّى تُخَاضَ (f) الخَيْلُ إلى رُكَبِهَا في الدَّمِ، وتقُول المَلائِكَةُ: يا رَبّ، ألَا تَنْصُر عبادَكَ المُؤْمنينَ؟ فيقُول: حتَّى يكثُر شُهادهُم (g). فيُسْتَشْهَد ثُلُث، ويَصْبِر ثُلُثٌ، ويَرجع ثُلُثٌ شكاكًا، فيُخْسف بهم، فيقُول الرُّوم: لن نَدَعَكُم حتَّى تخرجُوا كُلّ بَضْعَةٍ فيكم ليستْ منكم (h)، فيقُول العَرَب للعَجَم: الْحَقُوا بالرُّوم، فيقُول العَجَمُ: أَكُفْرٌ (i) بعد الإيمانِ! فيغضَبُونَ عند ذلك، فيجتَمعُونَ على الرُّوم، فيَقْتتلُون هُمْ وهُم، ويَغْضَبُ الله عز وجل عند ذلك فيَضْربُ بسَيْفِه، ويَطْعن برُمْحِه.
(a) في الأصل: عَبْد الرحمن بن شيبة، تصحيف، صوابه المثبت من كتاب الملاحم لابن المنادي، وكتاب الفتن لابن حماد، والرازي: الجرح والتعديل 5: 238، وأسد الغابة 3: 299، وهو عَبْد الرحمن بن سنة الأسلمي، معدود في أهل المدينة.
(b) في الأصل: محلية، والأظهر ما هو عند ابن المنادي وابن حماد: مجلبة؛ أي مجتمعين. انظر لسان العرب، مادة: جلب.
(c) ابن المنادي وابن حماد: کصالح.
(d) ابن المنادي وابن حماد: فتتقلَّب.
(e) ابن المنادي: الملاحم: أيام، وأفلت منه -ومن ابن حماد- قوله بعد هذا: العرب والروم.
(f) ابن المنادي وابن حماد: تخوض.
(g) ابن المنادي وابن حماد: شُهداءهم.
(h) الفتن لابن حماد: لن ندعكم إلا أن تخرجوا إلينا كل ما كان أصله منا.
(i) ابن المنادي: الكفر، ابن حماد: أنكفر.
_________
(1)
ابن حنبل: المسند 3: 95 - 96 (رقم 1604)، الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 7: 277 - 278.
(2)
أرَزَتْ الحيةُ: لاذت بجحرها، والمأرز: الملجأ. لسان العرب، مادة: أرز.
فقيل لعَبْد اللهِ بن عَمْرو: وما سَيْفُ الله ورُمْحُهُ؟ قال: سَيْفُ المؤمن (a) ورُمْحُهُ حتَّى يَهْلكَ الرُّوم جميعًا، فما يَنْفَلتُ منهم مُخَبِّرٌ (b). ثمّ يَنْطلقُونَ إلى أرْضِ الرُّوم، فيَفْتَحُونَ حُصُونَها ومَدَائِنَها بالتَّكْبير، ثمّ يأتُوا مَدِينَة هِرَقْل، فَيجِدُوا خَلِيجها بَطْحَاءَ، ثمّ يَفْتحُونها بالتَّكْبير، ثمّ يأتُوا فيُكَبِّرُون الله تَكْبيرةً فتُسْقِط جدارًا من جُدُرٍ بها، ثمّ يُكَبِّرُون تكْبيرةً أُخرى فتُسْقِطُ جدارًا آخَر، ثمّ يُكَبِّرُون تَكبيرةً أُخْرى فتُسْقط جدارًا آخر، ثمّ لا يَبقَى جدَارُها البَحْريّ إلَّا سَقَط (c)، ويَسِيرونَ إلى رُوْميَةَ فيَفْتَحُونَها بالتَّكْبير، فيَكيلونَ بها غَنائمهم كيلًا بالفَرَايق (d).
قال أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي
(1)
: وحَدَّثَنَا علىّ بن دَاوُد، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله ابن صالح، قال: حَدَّثَني اللَّيْثُ بن سَعْد، قال: حَدَّثَنِي أبو قَبِيل المَعَافرِيُّ، عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرو، أنَّهُ قال فيما كان يسأل عنه من المَلَاحِم
(2)
: إنَّ رَجُلًا من أعْداء المُسْلِمِين بالأنْدَلُس، يُقالُ لهُ: ذُو العُرْف، يَجْمَعُ من قَبائل الشِّرك جَمْعًا عَظيمًا، فَيَعْرف مَن بالأنْدَلُسِ أنّه لا طَاقَة لهم بهِ، فيَهْرب أهْل القُوَّة من المُسْلِمِينَ في السَّير (e)، فيَجُوزُون إلى طَنْجَة، ويَبْقَى ضَعَفَة المُسْلِمِين وجماعَتُهُم ليسَ لهم سُفُنٌ يَجُوزُونَ فيها، فيبعَثُ اللهُ لهم وَعْلًا يُبَيِّنُ لهم الأرْض في البَحْر، فيجُوزونَ، فلا يُبْطِنُ الماءُ أظْلَافَهُ فيَفْطُنُ لهُ النَّاسُ، فيقُولُ بعضُهُم لبعضٍ اتَّبِعُوا الوَعْلَةَ، فيجُوز النَّاسُ كُلّهُم على أثرِه، ثمّ يرجع البَحْر قَلًّا على ما كان عليهِ قبل ذلك، ثمّ يجُوز العَدُوّ في المَرَاكبِ، فإذا أحَسَّهُم أهْلُ إفْرِيقِيَّة هربُوا كُلّهم مِن إفْرِيقِيَّة، ومعهم مَنْ كان بالأنْدَلُس من المُسْلِمِيْن، حتَّى يَقْتَحمُون الفُسْطَاط هَرَبًا من ذلك العَدُوّ،
(a) ابن المنادي: سيفه المؤمنون.
(b) ابن حماد: إلا مخبر.
(c) ابن حماد: ويبقى جدارها البحري لا يسقط.
(d) ابن المنادي وابن حماد: بالغرائر.
(e) كذا في الأصل وفوقه: "صح"، وفي كتاب الفتن: السفن.
_________
(1)
لم أقف عليه في كتاب الملاحم لابن المنادي.
(2)
انظر الرواية في كتاب الفتن لابن حماد 473 - 474، من طريق ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عَبْد الله ابن عمرو بن العاص، باختلاف يسير.
حتَّي ينزلُوا فيما بين تَرْنُوط إلى الأهْرَام مَسيرةَ خَمْسَة بُرُد، فيصِلُونَ هُنالك تَتْرَي، فتخرج إليهم رايةُ المُسْلِمينَ على الجِسْرِ فيَنصرُهُم اللهُ عليهم فيهزمُونَهُم ويقتلونَهُم إلى نُوبِيَة مَسِيرَة عَشْرِ لَيالٍ من النِّيل، فيُوقِدُ أهْل الفُسْطَاط بعَجلهم وأدَاتِهم سَبْع سِنين، ويَنْفَلِتُ ذُو العُرْفِ من أهْلِ القَتلِ، ومعَهُ كتابٌ قد كُتِبَ لهُ وأُمِرَ أنْ لا ينظُر فيه حتَّى يَقْدمَ مِصْر، فيَنْظُر فيهِ وهو مُنْهزمٌ، فيَجد فيهِ ذِكْر الإسْلام، وأنَّهُ يُؤْمرُ بالدُّخُول فيه إذا قرأ ذلك الكتاب، فيَسْأل الأمَانَ على نَفْسِه وعلى مَنْ أجَابهُ إلى الإسْلام الّذين انفلَتُوا مَعَهُ من القَتْلِ، فيَسْلَم (a) ويَصير مع المُسْلِمِين. ثمّ يأتي في العام الثَّاني رَجُلٌ من الحَبَشَة يُقالُ لهُ أَسِيس وقد جَمَعَ جَمْعًا، فيَهْربُ المُسْلِمُونَ من أُسْوَان حتَّى لا يبقَى فيها ولا فيما دونَها أحدٌ من المُسْلِمِين إلَّا دَخَل الفُسْطَاط، فيَنْزل أسِيس بجَيْشِه مُدِفًّا على رَأسِ بَرِيدٍ من الفُسْطَاط، فتخرج إليهم رَايةٌ من المُسلِمِيْنَ على الجِسْرِ، فيَنْصُرهم الله عليهم، فيَقْتلونَهُم ويأسرُونهم حتَّى يُبَاع الَأسْوَدُ بعَبَاءةٍ.
قال اللَّيْثُ بن سَعْدٍ: قال أبو قَبِيْل: فالفَارِس يَوْمئذٍ خَيْرٌ من كَذَا وكَذَا راجِلًا، يُغير على فَرَسِه فيُصيب لأهْلهِ الشَّاةَ والطّعْم يُغِيثهم بهِ.
قال اللَّيْثُ بن سَعْدٍ: فقُلْنَا لأبي قَبِيلٍ: قَدْرَ ماذا؟ فقال: قَدْر ما يأتيهم أعْرابٌ على قِعْدانِهِم مِدادًا لهم، يَخْرُج الرَّاكبُ يَوْمئذٍ من عَدَن أبْيَنَ فلا يَجِدُ لراحلته كَلَأً حتَّى يَرِدَ الشَّام، فإذا اجْتَمع المُسْلِمُونَ بالشَّام سَاروا إلى الرُّوم، فالتَقُوا بالأَعْماق من أرْض قِنَّسْرِين فاقتَتلُوا، وأنْزلَ اللهُ على الفَريقَيْن الصَّبْر، ورَفَع عنهم النَّصْر، قال أبو قَبِيلٍ: فيُقْتل ثُلُث المُسْلِمِين، فهم من خِيارِ شُهَدَاء المُسْلِمِين، ويَهْرب ثُلُثٌ فيُخْسَف بهم، ويَبْقَى ثُلُث.
(a) الضبط من المصنف.
أخْبَرَنا أبو مَنْصُور عَبْدُ الرَّحْمن بن مُحَمَّد بن الحَسَن بدِمَشْق، قال: أخْبَرَنا الحَافِظ أبو القَاسِم بن الحَسَن
(1)
، قال: أنْبَأنا أبو طَاهِر مُحَمَّد بن الحُسَيْن بن مُحَمَّد بن إبْرَاهِيم الحِنَّائِيُّ، قال الحَافِظُ: وحَدَّثَنا أبو البَرَكَات الخَضِر بن شِبْل بن عَبْد الوَاحِدِ الحَارِثِيُّ الفَقِيه، عَنْهُ، قال: أخْبَرَنا أبو عَليّ الحَسَنُ بن عليّ بن إبْرَاهِيم المُقْرِئ، قال: حَدَّثنا أبو نَصْر عَبْدُ الوهَّاب بن عَبْد الله بن عُمَر المُرِّيّ، قال: أخْبَرَنا أبو هاشِم عَبْدُ الجَبَّار بن عَبْد الصَّمَد السُّلَمِيِّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن أحمدُ بن عُمَيْر بن يُوسُفَ ابن جَوصَا، قال: حَدَّثَنَا أبو عَامر مُوسَي بن عَامِر بن عُمَارَة بن خُرَيْم المُقْرِئ، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيد بن مُسْلِم، قال: حَدَّثَنِي سَعيد بن عَبْد العَزِيز أنَّ مَنْ أدْرَك من عُلمائنا كانُوا يقُولُونَ: يخرجُون أهْل مِصْر من مِصْرِهم إلى ما يلي المَدِينَة، ويخرج أهل فِلَسْطين والأُرْدُنّ إلى مَشَارِق البَلْقَاءِ وإلى دِمَشْقِ، ويخرجُ أهْلُ الجَزِيرَة وقِنَّسْرِين وحِمْص إلى دِمَشْق، وذلك لِمَا كان حَدَّثَنَا بهِ سَعيد، عن مَكْحُول، عن رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال
(2)
: فُسْطَاط المُسْلِمِين يوم المَلْحَمَة الكُبرى بالغُوطَة مَدِينَة يُقالُ لها دِمَشْق.
أخْبَرَنا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحمد بدِمَشْق، قال: أخْبَرَنا أبو مُحَمَّد القَاسِمُ بن علىّ ابن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أبو البَرَكَاتِ الخَضِرُ بن شِبْل بن عَبْد الوَاحِد الحَارِثِيّ،
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 233.
(2)
سنن أبي داود 5: 33 (رقم 4640)، السيوطي: الجامع الصغير 1: 352 (رقم 2310)، وفيه:"إلى جانب مدينة يقال لها دمشق".
وأخرجه عن أبي الدرداء الحاكم في المستدرك 4: 486، والتبريزي: مشكاة المصابيح 3: 1768 (رقم 7272)، وفيه "إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق"، والمناوي في فيض القدير 4: 463 (رقم 2310)، 4: 429 (رقم 5850)، وفيه "إلى جانب مدينة يقال لها دمشق"، والمنذري: الترغيب والترهيب 4: 63 (رقم 18)، المتقي الهندي: کنز العمال 11: 124 (رقم 3087)، وفيه "إلى جانب مدينة يقال لها دمشق".
ومن حديث عوف ابن مالك: الربعي: فضائل الشام ودمشق 77 (رقم 116)، والطبراني: المعجم الكبير 18: 42.
قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر مُحَمَّد بن الحُسَيْن بن مُحَمَّد بن إبْرَاهِيم، قال: أخْبَرَنا أبو عَلىّ الحَسَنُ بن عليّ بن إبْرَاهِيم المُقْرِئ، قال: حَدَّثنا أبو نَصْر عَبْد الوهَّاب بن عَبْد اللهِ بن عُمَر المُرِّيُّ، قال: أخْبَرَنا أبو هاشِم عَبْدُ الجَبَّار بن عَبْد الصَّمَد السُّلَمِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن أحمدُ بن عُمَيْر بن يُوسُف بن جَوصَا، قال: حَدَّثَنَا أبو عَامِر مُوسَي بن عَامِر ابن عُمَارَة بن خُرَيْم المُقْرِئ، قال: حدَّثَنا الوَلِيد بن مُسْلِم، قال: لقيتُ أبا بِشْرٍ الكَلاعِيّ، وكانَ ثِقَةً، فذاكرتُهُ، فقال: سَمِعْتُ أبا وَهْبٍ الكَلاعِيّ يُخْبر عن مَكْحُول أنَّ المَلَاحِمَ عَشْرٌ، فأولاهُنَّ مَلْحَمَةُ قَيْسارِيَّة فِلَسْطين وآخرهُنَّ مَلْحَمَة عَمْق أَنْطاكِيَة.
قَرَأتُ في كتاب المَلَاحِم والفِتَن
(1)
لأبي عَبْد اللهِ نُعَيْم بن حَمَّاد المَرْوزِيّ، وقد قرأهُ كاتبهُ على أبي بَكْر عَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّد بن سَعيد بن الحَكَم بن أبي مَرْيَم، قال أبو بَكْر: حَدَّثَنَا نُعَيْم بن حَمَّادٍ.
وأنْبَأنَا عَبْد العَزِيز بن الحُسَيْن بن هِلالَة، قال: أخْبَرَنا بذلك أمّ هَانئ عَفِيفَة بنتُ أبي بَكْر أحمد بن عَبْد الله بن مُحمَّد الفَارْفَانيِّ
(2)
الأصْبَهَانِيَّة، قالت: أخْبَرَتْنا فاطِمَة بنْتُ عَبْد الله الجُوزْدَانِيَّة، قالت: أخْبَرَنا أبو بَكْر بن رِيذَة، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم الطَّبَرَانيِّ، قال: أخْبَرَنا عَبْد الرَّحْمن بن حَاتِم المُرَاديّ، قال: حَدَّثَنَا نُعَيْم بن حَمَّاد، قال: حَدَّثَنا الوَلِيد ابن مُسْلِم، عن الوَلِيد بن سُلَيمان بن أبي السَّائِب، سمعَ القَاسِم، أبا عَبْد الرَّحْمن يقول: الفِئَةُ الخَاذلَةُ للمُسْلِمين بعَمْق عَكَّا وأَنْطاكِيَة، يَنْخَرِق (a) لهم من الأرْض خَرْقٌ يَدْخلُونَ فيه لا يَرون الجَنَّة ولا يرجعُونَ إلى أهليهم أبدًا.
(a) ک تاب الفتن: يتخرق.
_________
(1)
كتاب الفتن 443.
(2)
نسبةً إلى فارفان؛ قرية من قرى أصبهان. (معجم البلدان 4: 228، أنساب السمعاني 10: 123، الإعلام بوفيات الأعلام للذهبي 249، سير أعلام النبلاء 21: 481 - 483)، وقيّدها ياقوت بکسر الراء، ولم يذكر المحدثة عفيفة من بين علمائها. وتصحفت الفاء فيها إلى قاف "الفارقانية" في العديد من المصادر، منها: بعض أجزاء الوافي بالوفيات (3: 219، 5: 327، 6: 418، 15: 67 وفي غير ذلك) بالرغم من قول الصفدي أنها بفائين (الوافي 2: 137)، شذرات الذهب 7:37.
وقال: حَدَّثَنا نُعَيْم بن حَمَّادٍ
(1)
، قال: حَدَّثَنا الوَلِيد، عن كُلْثُوم بن زِيَادٍ، عن سُلَيمان بن حَبِيب المُحَارِبِيِّ، عن كَعْبٍ، قال: تَقْتَتِلُونَ بالأَعْماقِ قتالًا شديدًا، ويُرفَع النَّصْر، ويُفْرَغ الصَّبْر، ويُسَلَّط الحَدِيد بَعْضُهُ على بعضٍ، حتَّى تركُضَ الخَيْلُ في الدَّمِ إلى ثُنَّتِها (a) ثلاثة أيَّام مُتَوَاليَة، لا يَحْجزُ بينهم إلَّا اللَّيْلُ حتى تَقُول عَمائرُ من النَّاس -يعني طَوَائف-: ما كان الإسْلام إلَّا إلى أجَلٍ ومُنْتَهى، وقد بلَغ أجَلَهُ ومُنْتَهاهُ، فالْحَقُوا بمَوَالِدِ آبائنا، فيلحقُونَ بالكُفْر، ويَبْقى أبناءُ المُهاجِرينَ فيقُول رَجُلٌ منهم: يا هؤلاء، ما ترونَ إلى ما صَنَعَ هؤلاءِ؟ قُومُوا بنا نَلْحَق باللهِ، فما يَتَّبِعُهُ أحَدٌ، فيَمْشي إليهم حتَّى يأتيَهُم فيَنْشُلونَهُ بِنَيَازِكهم (b) حتَّى أنَّ دماءَه لتَبُلّ أذرعُهُم، فيهزمهُم اللهُ.
قال الوَلِيدُ
(2)
: فَحَدَّثَني عُثْمان بن أبي العَاتِكَة، عن كَعْب مِثْلَهُ، قال كَعْب: فذلكَ أكْرمُ شَهيدٍ (c) كان في الإسْلام إلَّا حَمْزَة بن عَبْد المُطَّلِب، فتَقُول المَلائِكَةُ: رَبّنا ألَا تَأْذَن لنا بنُصْرة عِبادَكَ؟ فيقُول: أنا أوْلَى بنُصْرَتهم، فيَوْمئذٍ يَطْعنُ برُمْحه، ويَضْربُ بسَيْفه ورُمْحه، وسَيْفُهُ أَمْرُهُ، فيَهْزمهمُ اللهُ، ويَمْنَحهُم أكْتافَهم فيدُوسُونَهم كما تُدَاس المَعْصَرَة (d)، فلا يكُون للرُّوم بَعْدَهَا جَمَاعَةٌ ولا مُلكٌ.
وقال: حَدَّثَنَا نُعَيْم
(3)
، قال: حَدَّثَنَا الحَكَمُ بن نَافِعٍ، عن جَرَّاح، عن أَرْطَأةَ، قال: إذا ظَهَرَ صَاحبُ الأدْهَم في الإسْكَنْدَرِيَّة، وَعَلَا أرضَ مِصْر، لَحقَتِ العَرَبُ
(a) في الأصل مجودًا: ثُتَنِها، والصواب ما أثبت؛ وفي كتاب الفتن: ثُننها. والثُّنَّةُ من الفَرَس: مؤخر الرُّسْغ، وهي شعرات في مؤخر الحافر من اليد والرجل. والجمع: ثُنَن. لسان العرب، مادة: ثنن. وتأتي فيما بعد صحيحة على الجمع: ثُنَن.
(b) الأصل مجودًا: بِيَنَازكهِم، والصواب بتقديم النون على الياء، وكما هو عند ابن حماد: الفتن 444. والنَّيْزَك: فارسي معرب، تكلمت به العرب، وهو الرمح الصغير، يكون أقصر من الرمح المعتاد. لسان العرب، مادة: نزك.
(c) الأصل: شهيدًا.
(d) كذا ضبطه بفتح الميم.
_________
(1)
كتاب الفتن 444.
(2)
کتاب الفتن: 444 - 445.
(3)
کتاب الفتن 445، وأعاد الرواية في موضع آخر من كتابه 709 - 710، وفي الثانية اختلاف في بعض ألفاظها.
بيَثْرِبَ والحِجَاز وتخَلّي بين الشَّام (a)، وتلحَق كُلّ قَبِيلَةٍ بأهْلِها، ويَبْعث إليهم بجَيْش، فإذا انْتَهَوا بين الجَزِيرتَيْن نادَى مُنادِيهم: ليخرج إلينا كُلّ صَريح أو دَخِيل كان منَّا في المُسْلِمِين، فتَغْضَب المَوَالِي، فيُبايِعُونَ رَجُلًا يُسَمَّى صالح بن عَبْدِ الله بن قَيْس بن يَسَار، فيخرج بهم، فيلقَى بهم جَيْشَ الرُّوم، فيَقْتلهم، ويَقَعُ المَوْتُ في الرُّوم، وهم يَوْمئذٍ ببَيتِ المَقْدِس قد اسْتَولَوا عليها، فيَمُوتُونَ مَوْتَ الجَرَاد، ويَمُوتُ (b) صاحبُ الأدْهَمِ، ويَنْزِلُ صالحٌ بالمَوالِي أرْض سُوريَة، فيدْخُل عَمُّورِيَّة وتَدِين لهُ، ويَنْزِل قُمولية ويَفْتَح بزنطيَة، وتَكُون أصْوَات جَيْشهِ فيها بالتَّوْحِيد عَالية، وتُقْتسم أمْوَالها بينهم بالآنيةِ، ويَظْهَرُ على رُوْميَة ويَسْتَخرج منها تابُوت صُهْيُون (c)، وتَابُوت من جَزع فيه قُرْط حَوَّاء، وكتونة آدَم -يعني: كِسَاءَهُ- وحُلَّة هارُون، فبينا هو كذلك إذ أتاهُ خَبَرٌ وهو باطل فيرجعُ.
قال جَرَّاح عن أَرْطَأة
(1)
: المَلْحَمَة الأُوْلَى في قَوْل دَانِيال (d) بالإسْكَنْدَرِيَّة [يَخرجُون]
(2)
بسُفُنهم فَيَسْتَغِيث أهلُ مِصْر بأهلِ الشَّام، فيَلْتَقُونَ فيَقْتلُونَ قتالًا شَدِيدًا، فيَهْزم المُسلِمُونَ الرُّوم بعد جُهْدٍ شَديدٍ، ثمّ يُقيمُونَ عامًا (e)، ويَجْمعُونَ جَمْعًا عَظِيمًا، ثمّ يُقْبلونَ فينزلُون يَافَا فِلَسْطين (f) عَشَرة أمْيَالٍ، ويعتَصِم أهْلُهُ بذَرَارِيهم في الجِبَال، فيلقَاهم المُسلِمُونَ فيَظْفَرُون بهم، ويقتُلونَ مَلِكَهُم.
والمَلْحَمَةُ الثَّانيَةُ: يَجْمعُون -بعد هزيمَتهم- جَمْعًا أعْظَم من جَمْعِهم الأوَّل، فيُقْبلُونَ فيَنزلُونَ عَكَّا، وقَدْ مَلَك مَلِكُهم ابن المَقْتُول، فيلتَقي المُسْلِمُونَ بعَكَّا، ويُحْبَسُ النَّصْرُ عن المُسْلِمِين أرْبَعين يومًا، ويَسْتَغيث أهلُ الشَّام بأهْل الأمْصَار، فيُبْطِئُونَ عن نَصْرهم، فلا يَبْقَى يَوْمئذٍ مُشْرِكٌ؛ حُرٌّ ولا عَبْدٌ من النَّصْرانيَّة إلَّا أمَدَّ الرُّوم،
(a) كتاب الفتن: ويجلى الشام.
(b) كتاب الفتن 710 في الرواية الثانية: ويملك.
(c) الأصل: صيهُون، والمثبت من كتاب الفتن لنعيم (مصدر النقل) 445، 710، وفيه: باب صهيون.
(d) في الأصل: دانيل، والمثبت من "ك" وكتاب الفتن لنعيم.
(e) كتاب الفتن: عليها.
(f) الأصل: يافا وفلسطين فضبب على الواو. والمثبت موافق لكتاب الفتن.
_________
(1)
نعيم بن حماد: الفتن 445 - 446.
(2)
إضافة من كتاب الفتن 445.
فيَفِرُّ ثُلُثُ أهْل الشَّامِ، ويُقْتَل الثُّلُث، ثُمَّ يَنْصُر اللهُ البَقِيَّة، فيَهْزمُونَ الرُّوم هزيمةً لم يُسْمَع بمثلها، ويقتُلونهم ومَلِكَهُم.
والمَلْحَمَةُ الثَّالثةُ: يرجعُ مَن رَجَع منهم في البَحْرِ، وينْضَمّ إليهم مَنْ كان فَرَّ منهم في البَرِّ، ويُمَلِّكُونَ ابنًا لمَلِكهم المَقْتُول؛ صَغيرًا لم يَحْتَلِم، ويقذف (a) لهُ مَوَدَّةٌ في قُلوبِهم، فيُقْبلُونَ بما لم يُقْبل بهِ مَلِكَاهُم الأوَّلانِ من العَدَد، فيَنْزلُونَ عَمْقَ أَنْطاكِيَة، ويَجْتَمعِ المُسلِمُون فيَنْزلُونَ بإزائهم، فيَقْتتلونَ شَهْرين، ثمّ يُنْزلُ اللهُ نَصْرَهُ على المُسْلِمِين فيَهْزمُونَ الرُّومَ، ويَقْتلونَ فيهم وهُم هاربُونَ طالعُونَ في الدَّرْب، ثمّ يأتيهِم مَدَدٌ لهم، فَيقفُونَ، ويَتَذامَرُ المُسلِمُونَ، فيَكرُّونَ عليهم كَرَّةً فيقْتلُونَهُم ومَلِكهُم، ويَنْهَزم بقيّتهم، فيطلُبُهُم المُهاجِرونَ، فَيَقْتلُونَهُم قَتْلًا ذَريعًا، فحينئذٍ يَبْطُل الصَّلِيب، ويَنْطلقُ الرُّومُ إلى أُمَمٍ من وَرَائهم من الأنْدَلُس، فيُقْبلُونَ بهم حتَّى يَنْزلُوا الدَّرْبَ فيتمَيَّز المُهاجِرونَ نِصْفَيْن، فيسيرُ نصْفٌ في البَرِّ نحو الدَّرْب، والنِّصْف الآخر يركَبُون في البَحْر، فيَلْتقي المُهاجِرون الّذين في البَرِّ ومَنْ في الدَّرْب من عَدُوِّهم، فيُظفرهُم اللهُ بعدُوِّهم، فيهزمونهم هزيمةً أعْظم من الهزائم الأُوَل، ويُوجِّهُونَ البَشِير إلى إخْوَانهم في البَحْر: إنَّ مَوْعدَكم المَدِينَة، فيُسَيّرهُم الله أحْسَن سِيرةٍ حتَّى ينزلُوا على المَدِينَة، فيفتحُونَها ويخرِّبُونَها، ثمّ يكون بعد ذلكَ أنْدَلُسٌ، وأنتُم (b) تجمعُون فتأتونَ الشَّام فيلقَاهم المُسلِمُون فيَهْزمهم اللهُ.
وقال: حَدَّثَنَا نُعَيْم
(1)
، قال: حَدَّثَنَا الحَكَم بنُ نَافِعٍ، قال: ثمّ يَسْتَمدّ الرُّوم بالأُمَم الثَّانيَةِ، فتجيش عليهم الألْسِنَةُ المختلفة، ويَجْتَمع إليهِ (c) أهْلُ رُومِيَةَ والقُسْطَنْطِينِيَّة وأَرْمِينِيَة حتى الرِّعَاء والحَرَّاثُون تغضَبُ لمَلِكِ الرُّوم، فيُقبل بأُمَمٍ كَثِيرة سِوَى الرُّوم، مُلُوك عشرَةٌ يبلُغ جَمْعُهم مائةَ ألف وثمانين ألفًا، وتَنْزوِي العَرَبُ بعْضُها إلى بعضٍ من
(a) كتاب الفتن: وتقذف.
(b) كتاب الفتن: أندلس وأمم.
(c) كتاب الفتن: إليهم.
_________
(1)
الفتن 449 - 451.
أقْطَار الأرْض، ويَجْتَمِعُ الجناحَان مِصْرُ والعِرَاقُ بالشَّامِ وهي الرَّأسُ، فيُقْبل مَلِكُ الرُّوم على مِنْبَر مَحْمُولٍ على بَغْلَيْن فيُوجِّهُونَ جُيُوشَهُم، فيَجُولُونَ الشَّام كُلّها غير دِمَشْقَ، فيَسير إليهم المُسلِمُونَ على أقْدامِهم، فيَلتَقُونَ في عَمْقِ كَذَا وكَذَا وعَمْق كَذَا وكَذَا أرْبَعة مَواطن، فيَسير الجَمْعَان على نَهْرٍ ماؤُهُ باردٌ في الصَّيْف حَارٌّ في الشِّتَاءِ، فيَفُور (a) مَاؤهُ ويكثُر يَوْمئذٍ، فينزل المُهاجِرونَ أدْناهُ والرُّومُ أقْصَاهُ، ويربطونَ خُيُولهم بالشَّجَر الّتي عند رحالِهم، ويَسْتَعدَّوا للقتالِ حتَّى يصيروا في أرْض قِنَّسْرِيْن، فيكون مَنْزلهم ما بين حِمْص وأَنْطاكِيَّة (b)، والعَرَب فيما بين بُصْرَى ودِمَشْق وما وراءهُما، فلا يُبْقي الرُّوم خَشَبًا ولا حَطَبًا ولا شَجَرًا إلَّا أوْقَدُوهُ، فَيلتَقِي الجَمْعان عند نُهَيْر فيما بين حَلَب وقِنَّسْرِيْنَ، ثمّ يصيرُونَ إلى عمْق من الأرْض، فيهِ عُظم قتالِهم، فمَنْ حَضَر ذلك (c) فليَكُن في الزَّحْف الأوَّل، فإنْ لَمْ يَسْتَطع ففي الثَّاني أو الثَّالث أو الرَّابِع أو الآخِر، فإنْ لَمْ يُطِق فليَلْزَم فُسْطَاط الجماعَة لا يُفَارِقُها فإنَّ يَدَ اللهِ عَلَيهُم، ومَنْ هَرَب يَوْمئذٍ لم يَرَح ريح الجَنَّة، فيقُول الرُّوم للمُسْلِمين: خَلَّوا لنا أرْضَنا وردُّوا إلينا كُلّ أحْمر وهَجِين منكُم، وأبناء السَّرَاري، فيقُول المُسلِمُون: مَنْ شَاء لَحِقَ بكُم، ومَن شَاءَ دفَع عن دينهِ ونَفْسهِ، فَيَغْضَبُ بنو الهُجْن والسَّرَاري والحَمْرَاء، فيعقدُونَ لرَجُلٍ من الحَمْرَاء رايةً وهو السُّلْطَان الّذي وعد إبرَاهِيم وإسْحَاق (d) أنْ يُعْطَيا في آخر الزَّمان، فيُبايعُونَهُ، ثمّ يقاتلونَ وَحْدَهُم الرُّومَ، فيُنْصَرُونَ على الرُّوم، ثمّ تَنْحازُ فَجَرَةُ العَرَب إلى الرُّوم ومُنافقوهم حين يَرون نُصْرَة المَوَالي على الرُّوم، وتَهْرب قَبائلُ بأسْرها جُلُّها من قُضَاعَة وناسٌ من الحَمْرَاءِ، حتَّى يركزُوا رَاياتهم فيهم، ثمّ يُنادِي الرِّفاق بالتَّمّيز، فإذا لَحق بهم مَنْ لَحقَ، نادَوا: غَلَب الصَّلِيبُ، فخَيْرُ العَرَب يَوْمئذ اليَمَانيُّون المُهاجِرُونَ (e) وحِمْيَر وأَلْهَان وقَيْس؛ أُولئك خَيْرُ النَّاس يَوْمئذٍ، فقَيْسٌ يَوْمئذٍ تَقْتُل ولا تُقْتَلُ، وحَدَسٌ مِثْلها، والأَزْدُ يُقْتلونَ
(a) في الأصل: فيغور، ولا يستقيم؛ لأن غور الماء ضد الكثرة المذكورة، والمثبت موافق لما في كتاب الفتن.
(b) ضبطها في هذا الموضع بتشديد المثناة التحتية.
(c) كتاب الفتن: ذلك اليوم.
(d) في الأصل: وعد إبراهيم إسْحَاق، والمثبت من كتاب الفتن.
(e) الأصل: والمهاجرون، وضبب على الواو.
ولا يَقْتُلُونَ، ويَوْمئذٍ يَفْترقُ جَيْشُ المُسلمِين أربَع فرقٍ: فِرْقة يَسْتَشْهدُون، وفِرْقة تَصْبِر، وفِرْقَة تَفِرُّ، وفرقة تَلْتَجئ (a) بعَدُوِّها.
قال: ويَشُدّ الرُّومُ على العَرَب شدَّةً، فيُقْبل (b) خليفَتُهم القُرَشِيّ اليَمَانيّ الصَّالِح في ثلاثةِ آلاف، فيُؤمِّرُونَ عليهم أميرًا ومعَهُ سَبْعُون أميرًا كُلّهُم صَالحٌ صَاحب رايَة، فالمَقْتُول والصَّابِر يَوْمئذٍ في الأجْر سَواءٌ، ثمّ يُسلِّطُ اللهُ على الرُّوم ريحًا وطَيرًا تَضْرب وجُوهَهُم بأجْنحتها فتَفْقَأ أعيُنَهُم وتنصَدِع بهم الأرْض، فيتَحلحَلُوا (c) في مَهْواةٍ بعدَ صَوَاعق ورَواجف تُصِيْبُهم، ويُؤيِّدُ اللهُ الصَّابِريْنَ، ويُوجِبُ لَهُم من الأجْرِ كما أوْجَب لأصْحَاب مُحمَّدٍ عليه السلام، ويَملأُ قلوبَهُم وصُدُورَهُم شَجاعةً وجُرْأةً، فإذا رأت الرُّوم قلَّة الفرقَةِ الصَّابِرَة طَمعَتْ، فقَالَتْ: ارْكَبُوا كُلّ حافرٍ فطَؤُوهُم وانْبذُوهُم (d)، فيقُومُ رَاكِبٌ من المُسْلِمِيْن على سَرْجِهِ (e) فيَنْظُر عن يَمينه وشَمالهِ وبين يديهِ فلا يَرَى طَرَفًا ولا انْقطَاعًا. فيقُول: أتاكُم الخَلْقُ، ولا مَدَدَ لكم إلَّا اللهُ، فمُوتُوا وأَميْتُوا، فيُبَايعُونَ رَجُلًا منهم بَيْعَة خلَافةٍ، فيأمرهُم فيُصلُّونَ الصُّبْحَ، فيَنْظُرُ اللهُ إليهم، فيُنْزل عليهم النَّصْرَ، ويَقُول: لم يَبْقَ إلَّا أنا وملائكتي وعِبَادِي المُهاجِرونَ، اليوم مأْدُبَةُ الطَّيْر والوُحُوشِ، لأطعمنَّهَا لُحُومَ الرُّوم وأنْصَارِهَا، ولأسْقيَنَّها دِمَاءَهُم، فيَفْتح ربُّكَ خَزائن سلَاحهِ الّتي في السَّماءِ الرَّابعةِ، وسِلَاحُهُ العِزّ والجَبَرُوت، فيُنزل عليهم المَلائِكَة، ويَقذفُ المُسلِمُونَ قِسِيَّهُم، ويَدُقُّوا أغْمادَ سُيُوفهم، فَيُصْلِتُونَها عليهم، ويُوَجِّهُوا أسنَّة رماحهم إليهم، ويبْسُط ربُّكَ يدَهُ إلى سِلَاحِ الكُفَّار، فيَضُمه فلا يقْطَع، وَيَغلُّ أيدِيَهُم إلى أعْنَاقهم، ويُسَلّطُ أسْلِحَةَ المُوَحِّدِين عليهم، فلو ضَرب مؤمنٌ
(a) كتاب الفتن: تلحق.
(b) الأصل: فيقتل، والمثبت من كتاب الفتن.
(c) كتاب الفتن: فيتلجلجوا.
(d) كتاب الفتن: وأبيدوهم.
(e) كتاب الفتن: مرجه.
يَوْمئذٍ بزَندٍ (a) لقُطِعَ، ويَهْبط جِبْرِيل ومِيْكائِيل فيَدفعُونَهُم بمَنْ مَعَهُم من المَلائِكَةِ، فيَهْزمهم اللهُ، فَيَسُوقُونَهُم كالغَنَم حتَّى ينتَهُوا بهم إلى مُلُوكهم، و [يَخرّ](b) مُلُوكهم من الرُّعْب لوجوههم، وتُنْتزع أتْوجَتهم عن رُؤوسهم، فيَطَؤُونَهُم بالخَيْل والأقْدام حتَّى يْقْتُلوهُم حتَّى تبلُغَ دِمَاؤُهُم ثُنَنَ الخَيْل فلا تُنَشّفه الأرْضُ، وكُلّ دَم يبلُغُ ثُنَنَ الخَيْل فهو مَلْحَمَة، وهو ذِبْحٌ، فذلك انْقِطاعُ مُلْكِ الرُّوم، ويَبْعَث اللهُ مَلَائكة إلى جزائرها تُخبرهم بقَتْلِ الرُّوم.
وقال: حَدَّثنا نُعَيْم
(1)
، قال: حَدَّثَنا أبو المُغِيرَة، عن صَفْوَان، قال: حدَّثَنا بَعْضُ مَشَايخِنَا، قال: جَاءَنا رَجُلٌ وأنا نازل عند خَتَنٍ لي بعِرْقَة (c)، فقال: هل من مَنْزلٍ اللَّيْلة؟ فأنزلوهُ، فإذا رَجُلٌ خَلِيق للخَيْر كأنَّهُ حين يُنْظر إليه مُلْتَمِسٌ العِلْم، فقال: هل لكم علْمٌ بسُوْسِيَةَ
(2)
؟ قالوا: نَعم، قال: وأين هي؟ قُلْنا: خَرِبَة نحو البَحْر، فقال: هل فيها عَيْنٌ يُهْبطُ إليها بدَرجٍ وماء بارد عَذب؟ قالوا: نَعم، فقال: هل إلى جانبها حِصْن خَرِبٌ؟ قلنا: نعم، قال: قلنا: مَنْ أنتَ يا عَبْد اللهِ؟ قال: أنا رَجُل من أَشْجَع، قالوا: ما بالُ ما ذَكَرْتَ؟ قال: تُقبل سُفُنُ الرُّوم في البَحْر حتَّى يَنْزلُوا قريبًا من تلك العَيْن، فيُحرِّقونَ سُفُنَهم، فيَبْعَث إليهم أهْل حِمْصَ (d) وأهل دِمَشْقَ، فيمكثون ثلاثًا يَدعُونَهم الرُّوم على أنْ يُخَلُّوا لهمُ البَلَد، فيَأبَون عليهم، فيُقاتلهم
(a) كتاب الفتن: بوتد.
(b) إضافة من كتاب الفتن.
(c) مهملة في الأصل، وفي "ك": يعرفه، والمثبت من كتاب الفتن 454، وذكر ياقوت موضعين بهذا الاسم؛ أحدهما بكسر العين: بلدة شرقي طرابلس، وآخر بفتحها: موضع ببلاد الروم له ذكر في حروب سيف الدولة الحمداني، (معجم البلدان 4: 109 - 110) وقَدَّرنا أن الأول هو المُراد.
(d) قوله "وأهل حمص" لم يرد في كتاب الفتن.
_________
(1)
كتاب الفتن 454 - 455.
(2)
ذکر ياقوت سوسية كورة بالأردن (معجم البلدان 3: 283)، وتوجد اليوم في سوريا بلدة تسمى: سوسية، تقع بقرب وادي العاصي الأدنى بقضاء أنطاكية من لواء الإسكندرونة، وهي على الضفة اليمنى لنهر العاصي، وتبعد عن مدينة أنطاكية 6 كم إلى ناحية الجنوب الغربي. طلاس: المعجم الجغرافي 3: 680.
المُهاجِرونَ، فيكون أوَّل يَوْم القَتْلُ في الفَريقَيْن كلاهما، واليَوْمَ الثَّاني على العَدُوّ، والثَّالث يَهْزمُهم اللهُ، فلا تُبَلّغ سُفُنهم منهم إلا أَقلَّهُم، وقد حَرَّقُوا سُفُنًا كَثِيْرةً، قالوا: لا نَبْرحُ هذا البَلَد، فيَهزمُهُم اللهُ، وصَفّ المُسْلِمِيْن يَوْمئذٍ بحِذَاءِ البُرْج الخَرِب، فبينما هم على ذلك، قد هَزَم اللهُ عَدَوَّهم، حتَّى يأتي آت من خَلْفهم فيُخبرهم أنَّ أهْل قِنَّسْرِيْن قد أقْبَلُوا مُقْبلين إلى دِمَشْقَ، وأنَّ الرُّومَ قد حَمَلَت عليهم، وكان مَوْعِدًا منهم في البَرِّ والبَحْر، فيكون مَعْقِل المُسْلِمِيْن يَوْمئذٍ دِمَشْق.
وقال: حَدَّثَنا نُعَيْم
(1)
، قال: حَدَّثَنَا أبو أَيُّوب سُلَيمانُ بن دَاوُد، قال: حَدَّثَنا أرْطَأةُ بن المُنْذِر، قال: سَمِعْتُ أبا عَامِرٍ الأَلْهَانِيَّ يقُول: خَرجْتُ مع تُبَيْع من باب الرَّسْتَن، فقال: يا أبا عَامِرٍ، إذا نُسفَتْ هَاتان الزّبلَتان (a) فاخْرِجْ أهْلَكَ من حِمْص، قال: قُلتُ: فإنْ لَم أفْعَل؟ قال: فإذا دُخِلَت أنطَرَسُوس فَقُتل فيها ثَلاثمائة شَهيد فاخْرِج أهلَكَ من حِمْص، قُلت: فإنْ لَمْ أفْعَل؟ قال: فإذا جاءَ الحِمْلُ من أهْل الأنْدَلُس بألف قِلْعٍ
(2)
، ثمّ فرَّقَها بين الأقْرَع ويَافَا فاخْرِج أهلَكَ من حِمْص، قُلتُ: أرأيتَ إنْ لم أفْعَل؟ قال: فواللهِ لئن لم تَفْعَل ليُصِيْبَنَّ أهْلَكَ ما أصَابَ أهلَ حِمْصَ! قُلتُ: وما الّذي يُصِيْبُهم؟ قال: يُغْلِقُها أعَاجِمُها على ذَرارِي المُسْلِمِين ونِسَائهم.
وقال: حدَّثَنَا نُعَيْم
(3)
، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّة، عن صَفْوَان، عن شُرَيْح بن عُبَيد (b)، عن كَعْب، قال: تكون وَقْعَةٌ بيَافَا؛ يُقَاتلهم المُسلِمُونَ يَوْم (c) الأرْبَعاء والخَمِيْس والجُمُعَة والسَّبْت والأَحَد، ثمّ يفتح اللهُ للمُسْلِمين يَوْم الاثْنَين.
(a) كتاب الفتن: المزبلتان.
(b) في الأصل: عَبد، وفوقه "صـ"، ولم أجد في رواة كعب ولا في شيوخ صفوان من اسمه شريح بن عَبْد، والمثبت موافق لما في كتاب الفتن.
(c) في كتاب الفتن بدل "يوم": تقع.
_________
(1)
كتاب الفتن 452، باختلاف في بعض الألفاظ.
(2)
القِلْعُ: شراع السفينة (لسان العرب، مادة: قلع)، والمُراد: المراكب والسفن.
(3)
كتاب الفتن: 468.
قال صَفْوَانُ: فسَألتُ عن ذلك خَالِد بن كَيْسَان، فقال: حَدَّثَني أبي قال: إذا هَزَمَ اللهُ الرُّوم من يَافَا سَارُوا حتَّى يَجْتَمعُوا بالأَعْماق، فتكُون المَلْحَمَة (a).
وقال: حدَّثَنا نُعَيْم
(1)
، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ القُدُّوس، عن صَفْوَان، عن عَامِر بن عَبْد اللهِ أبي اليَمَان الهَوْزَنِيّ، عن كَعْب، قال: إنَّ الله يُمِدّ أهْلَ الشَّام إذا قاتلَهُم الرُّوم في المَلَاحِم بقطْعَتَين، دَفْعَة سَبْعِين ألفًا، ودَفْعَة ثَمانين ألفًا من أهل اليَمَن، حَمائل سُيُوفِهم المَسَدُ، فَيَقُولُونَ: نحنُ عِبَادُ اللهِ حَقًّا حقًّا، نُقاتل أعْدَاءَ اللهِ، يرفَع اللهُ عنهم الطَّاعُون والأوْجَا [ع] والأوْصَابَ حتَّى لا يكون بَلَد أَبْرأَ من الشَّام، ويكون ما كان في الشَّام من تلك الأوْجَاع والطَّاعُون في غيرها.
قال كَعْبٌ: وإنَّ بالمَغْرب لَحَمَلَ الضَّأْنِ مَلك من مُلُوكِهم، يُعِدُّ لأهْل الإسْلام (b) ألْفَ قِلْعٍ، كُلَّما أعدَّها بَعَثَ اللهُ عليها قاصِفًا من الرِّيح، حتَّى يأذنَ اللهُ بخُرُوجها، فَتُرسِي ما بين عَكَّا والنَّهْر، فيَشْغَلُوا كُلّ جُنْدٍ أنْ يُمِدّ جُنْدًا، فسألتُهُ أيّ نَهْر هو؟ قال: مُهَراق الأُرُنْط؛ نَهْر حِمْص، ومُهَرَاقُهُ ما بين الأقْرَع إلى المِصِّيْصَة.
وقال: حَدَّثَنا نُعَيْم
(2)
، قال: حَدَّثنا ابن وَهْب ورِشْدِين جميعًا، عن ابن لَهِيْعَة، عن أبي قَبِيْل، عن حَيْوِيل (c) بن شَرَاحِيْل قال: سَمِعْتُ عَبْد الله بن عَمْرو ابن العَاص يقول: إنَّ أهل الأنْدَلُس يأتون في البَحْر، وإنَّ طُول سُفُنهم في البَحْر خَمسُون مِيْلًا، وعَرْضُها ثلاثة عَشَر مِيْلًا حتَّى يَنْزلُوا الأَعْماق (d).
قال ابن وَهْبٍ: البَرّ والبَحْر.
(a) في كتاب الفتن: "فتكون الملحمة؛ ملحمة بالأعماق".
(b) كتاب الفتن: الشام.
(c) في الأصل: جبريل، وفي كتاب الفتن: حيوئل، والمثبت من تاريخ ابن يونس المصري، ونسبه:"المعافري"، ورأى ابن يونس اسمه في ديوان المعافر بمصر في "بني سريع بن ماتع". انظر: تاريخ ابن يونس (قسم تاريخ المصريين) 1: 143.
(d) كتاب الفتن: في الأعماق.
_________
(1)
كتاب الفتن: 469.
(2)
کتاب الفتن 472.
أنْبَأنَا أبو العبَّاس أحمدُ بن عَبْد اللهِ بن عُلْوَان، وسعيد بن هاشِم بن أحمد الأسَدِيّان، عن أبي البَرَكَات الخَضِر بن شِبْل الحَارِثِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر مُحمَّد ابن الحُسَيْن، قال: أخْبَرنا أبو عَليّ الأهْوَازِيّ، قال: حَدَّثَنا أبو نَصْر عَبْد الوهَّاب ابن عَبْدِ الله بن عُمَر بن أَيُّوب المُرِّيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو هاشِم عَبْد الجَبَّار بن عَبْد الصَّمَد السُّلَمِيّ، قال: أخْبَرَنا أحمدُ بن عُمَيْر، قال: حَدَّثَنَا أبو عَامِر مُوسَى بن عَامِر، قال: حَدَّثنا الوَلِيدُ بن مُسْلِم، قال: حَدَّثَني كُلْثُوم بن زِيَادٍ، عن سُلَيمان بن حَبِيْب المُحَارِبِيّ، عن رَجُلٍ من قَوْمهِ أنَّهُ سَمِعَهُ من كَعْب يقُول: يلتقُونَ بعَمْق عَكَّا فيَقْتتلُونَ، ثمّ يَتَهايَبُون فيَنْحازُونَ، ثمّ يَقْتتلُونَ ثمّ يَتَهَايَبُونَ حتَّى يَنْتَهُوا إلى عَمْق أَنْطاكِيَة، فيقيمونَ به لا يَنْهَزم هؤلاءِ ولا هؤلاءِ، ويَبْعَث المُسلِمُون فيستَمدُّون إلى عَدَن أبْيَن، ويَبْعَث الرُّوم إلى مَنْ يُمِدُّهم من رُوْميَة.
أخْبَرنا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن الشَّافِعِيّ الدِّمَشْقِيّ بها، قال: أخْبَرَنا عَمِّي الحافِظُ أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن بن هِبَة اللهِ
(1)
، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن السَّمَرْقَنْدِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر مُحمَّدُ بن أحمد بن أبي الصَّقْر، قال: أخْبَرَنا هِبَةُ الله بن إبْرَاهِيْم بن عُمَر بن الصَّوَّاف، قال: أخْبرنا أبو بَكْر أحمد بن مُحمَّد ابن إسْمَاعِيْل المُهَنْدِس، قال: حَدَّثَنا أبو بِشْر الدُّولَابِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد ابن عَوْف، قال: حَدَّثَنَا أبو المُغِيرَة، قال: حَدَّثَنا صَفْوَان بن عَمْرو، قال: حَدَّثَنَا أبو الزَّاهريَّة حُدَيْر بن كُرَيْب، عن كَعْب أنَّه قال، ح.
قال الحَافِظُ أبو القَاسِم: وأنْبَأنَا أبو عَليّ الحَدَّاد (a)، وحَدَّثَني أبو مَسْعُود -يعني: عَبْد الرَّحِيْم بن عليّ بن حَمَد- عنْهُ، قال: أخْبَرَنا عَبْد الرَّحْمن بن مُحمَّد بن
(a) في الأصل: الجداد، تصحيف.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 245 - 246، ولم يورده ابن أبي الصقر في مشيخته.
أحمد الذَّكْوَاني، قال: حَدَّثَنا أبو الشَّيْخ (a)، قال: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيْم بن مُحمَّد بن الحَسَن، قال: حَدَّثنا عِيسَى بن خَالِد، قال: حَدَّثَنَا أبو اليَمَان، عن صَفْوَان بن عَمْرو، عن أبي الزَّاهِرِيَّةِ، عن كَعْب أنَّهُ قال: لَنْ تَزالوا بخَيْر ما لم يَرْكَب أهْل الجَزِيرَة أهل قِنَّسْرِيْن، وأهل قِنَّسْرِيْن أهل حِمْصَ، فيَوْمئذٍ تكون الجَفْلَةُ ويَفْزَعُ النَّاس إلى دِمَشْق.
أخْبَرنا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحمد بن عليّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد القَاسِم بن عليّ بن الحَسَن الحَافِظ
(1)
، قال: أخْبَرنا أبو البَرَكَات الخَضِرُ بن شِبْل الفَقِيهُ، قال: أخْبَرنَا أبو طَاهِر مُحمَّد بن الحُسَيْن، قال: أخْبرنَا أبو عَليّ الحَسَن بن عليّ بن إبْرَاهِيْم المُقْرِئ، قال: حَدَّثَنَا أبو نَصْر عَبْد الوهَّاب بن عَبْد اللهِ بن عُمَر المُرِّيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو هاشِم عَبْد الجَبَّار بن عَبْد الصَّمَد السُّلَمِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن أحمد بن عُمَيْر ابن يُوسُف، قال: حَدَّثَنا أبو عَامِر مُوسَى بن عَامِر، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيد بن مُسْلم، حَدَّثَني يَزِيد بن سَعيد بن ذي غَضْوَان (b) العَنْسِيّ، عن مُدْلِج بن المِقْدَاد العُذْرِيّ، عن سُلَيم مولَاهُم أنَّه سَمِعَ كَعْبَ الأحْبَارِ يقول: إذا نزلَت الرُّومُ عَمْقَ الأَعْماقِ بأَنْطاكِيَةَ، فَمن لم يَنْصُر المُسْلِمِيْن يَوْمئذٍ فليسَ هو على شيء.
أنْبَأنَا أبو حَفْص عُمَر بن مُحمَّد بن طَبَرْزَد، عن أبي بَكْر مُحمَّد بن عَبْد البَاقِي الأنْصاريّ، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد الجَوْهَرِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو عُمَر بن حَيَّوْيَه، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن بن مَعْرُوف، قال: أخْبَرَنَا الحُسَيْن بن فَهْم، قال: حَدَّثنا مُحمَّد
(a) في الأصل: أبو الشيح، بالحاء المهملة، وأبو الشيخ هو الإمام المحدث: عَبْد الله بن مُحَمَّد بن جعفر بن حيان الأصبهاني (ت 369 هـ).
(b) كذا قيَّدهُ في الأصل و"ك"، والذي في المصادر بالعين والصاد: عَصْوَان. انظر: التاريخ الكبير للبخاري 8: 338، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 9: 267، تاريخ داريا 99 - 100، ابن عساكر 65: 198 - 202، لسان الميزان 6:287.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 72: 284.
ابن سَعْد، قال: أخْبَرَنا عَارِمُ بن الفَضْلِ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّاد بن زَيْد، عن أَيُّوبَ وهِشَام، عن مُحمَّد قال: نُبِّئْتُ أنَّ عَبْدَ الله بن سَلَّام قال: إنْ أدْرَكنِي، وليسَ لي ركُوبٌ فاحملُوني حتَّى تَضَعُوني بين الصَّفَّين؛ يعني: قتال الأَعْماق.
أخْبَرنا أبو مَنْصُور عَبْدُ الرَّحْمن بن مُحمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن
(1)
، قال: أنْبَأنا أبو عَليّ الحَسَنُ بن أحمد المُقْرِئُ، قال: أخْبَرنَا أبو نُعَيْم الحَافِظ، قال: حَدَّثَنَا حَبِيْب بن الحَسَن، وعَبْدُ اللهِ بن مُحمَّد، قالا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بن الحَسَن أبو حُفَيْص القَاضِي الحَلَبِيُّ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن كَامِل بن مَيْمُون الزَّيَّات، قال: حَدَّثَنا مُحمَّدُ بن إسْحَاق العُكَّاشِيّ، قال: حَدَّثنا الأوْزَاعِيّ قال: قَدِمْتُ المَدِينَةَ في خِلَافَة هِشَام، فقُلتُ: مَنْ هَا هُنا من العُلَمَاءِ؟ قالوا: ها هُنا مُحمَّدُ بن المُنْكَدِر، ومُحمَّدُ بن كَعْب القُرَظِيّ، ومُحمَّد بن عليّ بن عَبْد الله بن عَبَّاسٍ، ومُحمَّد بن عليّ بن الحُسَيْن بن فاطِمَة بنْت رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقُلْتُ: واللهِ لا بُدَّ أنْ أبْدَأ بهذا قَبْلَهُم، قال: فدَخَلْتُ المَسْجِدَ، فسَلَّمْتُ، فأخَذَ بيَدِي فأدْنَاني منهُ، فقال: من أيّ أخَوَانِنَا أنتَ؟ فقُلتُ له: رَجُل من أهْلِ الشَّام، قال: من أيِّ أهْل الشَّام؟ قُلتُ: رَجُل من أهل دِمَشْق، قال: نَعَم؛ أخْبَرَني أبي عن جَدِّي أنَّه سَمِعَ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ
(2)
: للنَّاسِ ثَلاثةُ
(3)
مَعَاقِل؛ فمَعْقِلهُم من المَلْحَمَة الكُبرى الّتي تكون بعَمْقِ أَنْطاكِيَةَ: دِمَشْق، ومَعْقِلُهم من الدَّجَّالِ: بَيتُ المَقْدِس، ومَعْقِلُهم من يَأْجُوج ومَأْجُوج: طُوْر سَيْناء.
(1)
تاريخ ابن عساكر 1: 240.
(2)
الأصبهاني: حلية الأولياء 6: 146، المتقي الهندي: كنز العمال 14: 260 (رقم 38649)، وفيه:"الدجال بدل من الملحمة".
(3)
الأصل: ثلاث، والمثبت موافق لما في مصادر تخريجه.
ونَقَلْتُ من كتاب المَلَاحِم والفِتَن، تأليف نُعَيْم بن حَمَّاد
(1)
، ممَّا رَواهُ عنهُ أبو بَكْر بن أبي مَرْيَم، وأنْبَأنَا عَبْد العَزِيْز بن الحُسَيْن، قال: أخْبَرَتْنا به الحُرَّة عَفِيفَة بنتُ أحمد، قالت: أخْبَرَتْنا فاطِمَة، قالت: أخْبَرَنا ابن رِيْذَة، قال: أخْبَرنا الطَّبَرَانِيّ، قال: أخْبَرَنا المُرَاديّ، قال: حَدَّثَنَا نُعَيْم، قال: حَدَّثَنا أبو عُمَر، عن ابن لَهِيْعَة، عن عَبْدِ الوهَّاب بن حُسَين، عن مُحمَّد بن ثَابِتٍ، عن أبيهِ، عن الحَارِث، عن عَبْد اللهِ، قال: لا يَنْجُو من بلِيَّتها (a) إلَّا مَنْ صَبَر على الحِصَارِ، والمَعْقِلُ من السُّفْيَانِيّ بإذْن اللهِ ثَلاث مُدُنٍ للأعَاجم ناحيَة الثُّغُور: مَدِينَة يُقالُ لها أَنْطاكِيَة، ومَدِينَة يُقالُ لها قُورُس، ومَدِينَة يُقالُ لها سُمَيْسَاط، والمَعْقِل من الرُّوم جَبَلٌ يُقالُ لهُ المُعْنِقُ (b).
وقال: أخْبَرنا أبو عَبْد الله نُعَيْم بن حَمَّاد المَرْوزِيّ
(2)
، قال: حَدَّثَنا أبو عُمَر؛ صاحبٌ لنا من أهْلِ البَصْرَة، قال: حَدَّثنا ابنُ لَهِيْعَة، عن عَبْد الوهَّاب بن حُسَين، عن مُحمَّد بن ثَابِت، عن أبيهِ، عن الحَارِث الهَمْدَانِيّ، عن عَبْد اللهِ بن مَسْعُود، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال: يكُون بين المُسْلِمِيْن وبين الرُّوم هُدْنَةٌ وصُلْحٌ حتَّى يقاتلُوا معهم عَدُوًّا لهم، فيُقاسمُونَهم غنائِمَهُم، ثمّ إنَّ الرُّوم يَغْزُونَ مع المُسْلِمِيْن فَارِس، فيَقتلُونَ مُقاتلتَهُم، ويَسْبُونَ ذَرَاريَهُم. فتَقُول الرُّومُ: قَاسِمونا الغَنائِم كما قاسَمْناكُم، فيُقاسِمُونَهم الأمْوَال وذَرَاري المُشْرِكين، فتقُول الرُّومُ: قاسِمُونا ما أصَبْتُم من ذَرارِيْكُم، فَيَقُولُونَ: لا نُقاسِمكم ذَرارِي المُسْلِمِيْن أبدًا، فَيَقُولُونَ: غَدَرْتُم، فتَرجعُ الرُّومُ إلى صَاحبهِم بالقُسْطَنْطِينِيَّة، فَيَقُولُونَ: إنَّ العَرَبَ غَدَرَتْ بِنا، ونحنُ أكثَرُ منهم عَدَدًا، وأتَمّ منهم عُدَّة، وأشَدّ منهم قوَّةً، فأمدّنا نُقاتلْهُم. فيقُول: ما كُنت لأغْدرَ بهم وقد كانت لهم
(a) كتاب الفتن: بليّها.
(b) في كتاب الفتن حيثما ترد تاليًا: المُعْتَق.
_________
(1)
کتاب الفتن: 248.
(2)
کتاب الفتن: 417 - 421.
الغَلَبَةُ في طُول الدَّهْر علينا، فيأتُونَ صَاحبَ رُوْمِيَة فيُخْبرونَهُ بذلك فيُوجِّهُ بثمانين غَايَةً
(1)
تحتَ كُلّ غايَةٍ اثنا عَشَر ألْفًا في البَحْر، ويقُول لهم صَاحبُهُم: إذا أَرْسَيْتُم بسَوَاحل الشَّامِ، فَحَرِّقُوا المراكب لتقاتلُوا عن أنفُسِكُم فيَفْعَلونَ ذلك، ويأْخُذَونَ أرضَ الشَّام كُلَّها بَرَّهَا وبَحْرَهَا ما خَلا مَدِينَةَ دِمَشْق والمُعْنِق، ويُخْرِّبُونَ بَيتَ المَقْدِس.
قال: فقال ابنُ مَسْعُود: وَكَم تَسَعُ دِمَشْقُ من المُسْلِمِيْن؟ فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: والذي نَفْسي بيده لتتَّسِعَنَّ على مَنْ يأتها من المُسْلِمِيْن كما تَتَّسِعُ الرَّحمُ على الولدِ، قال: قُلتُ: وما المُعْنِقُ يا نَبيّ الله؟ قال: جَبَلٌ بأرض الشَّام من حِمْصَ على نَهْر يُقالُ لهُ الأُرُنْط (a)، فتكون ذَرَارِي المُسْلِمِيْنَ في أعْلَى المُعْنِقِ والمُسلِمُونَ على الأُرُنْط، يُقاتلونَهُم صَباحًا ومَسَاءً، فإذا أبْصَرَ ذلك صَاحبُ القُسْطَنْطِينِيَّة، وَجَّهَ في البَرِّ إلى قِنَّسْرِيْن ثلاثمائة ألف (b) حتَّى تَجيئَهُم مادَّةُ اليَمَن سَبْعُون ألفًا، ألَّفَ الله قُلُوبهُم بالإيمان، فيهم أربعُونَ ألْفًا من حِمْيَر، حتَّى يأتُوا بَيتَ المَقْدِس، فيُقَاتلونَ الرُّومَ، فيَهْزمونَهم ويُخرجُونَهُم من جُنْدٍ إلى جُنْدٍ حتَّى يأتُوا قِنَّسْرِيْن، وتَجِيئُهم مادَّةُ المَوَالِي، قال: قلتُ: وما مادَّةُ المَوَالِي يا رسُول الله؟ قال: هُمْ عَتاقَتُكم، وهم منكم؛ قَوْمٌ يَجِيْئُون من قِبَلِ فَارِس، فَيَقُولُونَ: تَعَصَّبْتُم يا مَعْشَرَ العَرَب! لا نكُون مع أحدٍ من الفَرِيقَيْن، أو تجتَمع كلمتكُم، فتُقَاتِل نِزَارٌ يَوْمًا، واليَمَنُ يَوْمًا، والمَوَالِي يَوْمًا، فيُخْرجُونَ الرُّومَ إلى المُعْنِق (c)، ويَنْزِلُ المُسلِمُونَ على نَهْرٍ يقال كَذَا وكَذَا، والمُشْرِكون على نَهْرٍ يُقالُ لهُ الرّقيَّة (d)، وهو النَّهْرُ الأَسْوَدُ، فيُقاتلونَهُم، فيَرْفَعُ نَصْرَهُ عن العَسْكَرين، ويُنْزل صَبْرهُ عليهما، حتَّى يُقْتَلَ من المُسْلِمِيْن ثُلُثٌ، ويَفرّ ثُلُثٌ، ويَبْقَى الثُّلُث.
(a) بعده في كتاب الفتن: "والمشركون خلف نهر الأرنط".
(b) في كتاب الفتن 418: ستمائة ألف.
(c) كتاب الفتن 419: العمق.
(d) كتاب الفتن 419: الرقبة.
_________
(1)
الغايَةُ: الراية. لسان العرب، مادة: غيا.
فأمَّا الّذين يُقْتَلُونَ فشَهِيدُهم كشَهيدِ عَشَرة من شُهَدَاء بَدْر، يَشْفعُ الواحدُ من شُهَدَاءِ بَدْرٍ لسَبْعِين، وشَهِيْدُ المَلَاحِم يَشْفَعُ لسَبْعمائة.
وأمَّا الثُّلُثُ الّذين يَفِرّونَ، فإنَّهم يفتَرقُونَ ثلاثةَ أثْلَاثٍ: ثُلُث يلحَقُونَ بالرُّوم ويقُولُونَ: لو كان للهِ بهذا الدِّين من حَاجةٍ لنَصَرَهُم، وهم مُسْلِمَةُ العَرَب: بَهْرَاء (a) وتَنُوخ وطَيِّء وسَلِيْح (b). وثُلُثٌ يقُولونَ: منَازلُ آبائنا وأجْدَادنا، وحيث لا ينالنا الرُّوم أبدًا، مُرُّوا بنا مُرُّوا بنا إلى البَدْو، وهُم الأعْرَابُ. وثُلُثٌ يقُولونَ: إنَّ كُلّ شيءٍ كاسْمِهِ، وأرْض الشَّام كاسْمها: الشُّؤْم، فَسِيروا إلى أرض العِرَاق واليَمَن والحِجَاز حيثُ تخاف الرُّوم.
وأمَّا الثُّلُث الباقي، فيَمْضي بعضُهُم إلى بعضٍ يقُولُونَ: اللهَ اللهَ! دَعُوا عنكم العَصَبِيَّة، ولتَجْتَمع كلمتُكُم، وقاتِلُوا عَدُوَّكُم؛ فإنَّكُم لن تُنْصَرُوا ما تَعَصَّبْتُم، فيجتَمعُونَ جميعًا ويتَبايَعُونَ على أنْ يُقاتِلُوا، حتَّى يَلْحَقُوا بإخْوانِهم الّذين قُتِلُوا، فإذا أبْصَر الرُّومُ إلى مَنْ تَحوَّل إليهم، ومَنْ قُتِل، ورَأوا قِلَّة المُسْلِمِيْنَ، قام رُومِيٌّ بين الصَّفَّين ومَعَهُ بَنْدٌ في أعْلَاهُ صَلِيبٌ، فيَقُول: غَلَبَ الصَّلِيبُ، غَلَبَ الصَّلِيْبُ، فيقُومُ رَجُلٌ من المُسْلِمِيْن بين الصَّفَّين ومعَهُ بَنْدٌ فيُنادِي: بل غَلَبَ أنْصَارُ اللهِ وأوْلياؤهُ، فيَغْضَب اللهُ على الّذين كَفَرُوا من قَولهم: غَلَبَ الصَّلِيبُ، فيقُول: يا جِبْرِيلُ، أَغِثْ عِبَادِي، فينحَدِر في مائةِ ألْفٍ من المَلائِكَةِ، ويقُول: يا مِيْكَائِل، أغِثْ عِبَادِي، فَيَنْحَدِر في مائتي ألفٍ من المَلائِكَة، ثمّ يقُول: يا إسْرافِيْل، أغِثْ عِبَادِي، فيَنْحَدِر إسْرافِيْلُ في ثلاثمائةِ ألفٍ من المَلائِكَةِ، ويُنْزل اللهُ نَصْره على المُؤْمنيْن، ويُنْزلُ بأسَه على الكُفَّارِ فيُقْتَلُونَ ويُهْزَمُونَ.
ويَسِير المُسلِمُونَ في أرْض الرُّوم حتَّى يأتُوا عَمُّورِيَّةَ، وعلى سُورها خَلْقٌ كَثِيْرٌ يقولونَ: ما رأينا شيئًا أكثر من الرُّوم! كَم قَتَلْنا وهَزمنا وما أكَثرهم في
(a) كتاب الفتن: بهزًا.
(b) كتاب الفتن: سليم.
هذه المَدِينَة، فَيَقُولُونَ: أمِّنُونا على أنْ نُؤدِّي إليكُم الجِزْيَةَ، فيأْخُذُون الأمَان لهم ولجميع الرُّوم على آداءِ الجِزْيَةِ، وتجتَمع إليهم أطْرَافُهُم. فَيَقُولُونَ: يا مَعْشَرَ العَرَب، إنَّ الدَّجَّال قد خَالفَكم إلى ذَرارِيكم -والخَبَر باطلٌ- فمَنْ كان فيهم منكم فلا يُلقيَنَّ شيئًا ممَّا معَهُ، فإنَّهُ قوَّة لكم على ما بَقي، فيَخْرجُونَ فيجدُونَ الخَبَر باطلًا، وتَثب الرُّومُ على مَنْ بقي في بلادِهم، فيَقْتلونهم حتَّى لا يَبْقى بأرْض الرُّوم عَرَبيٌّ ولا عَرَبيَّةٌ ولا وَلَد عَرَبيّ إلّا قُتِل، فيبلُغ ذلكَ المُسلِمِيْنَ، فيَرجعُونَ غَضَبًا للهِ فيَقْتُلونَ مُقاتِلَتَهم ويَسْبُونَ الذَّرَارِي، ويَجْمَعُونَ الأمْوَالَ، لا يَنْزلونَ على مَدِينَةٍ ولا على حِصْنٍ فوق ثلاثة أيَّام حتَّى يفْتح لهم، ويَنزلونَ على الخَلِيْج، ويمدّ الخَلِيْج حتَّى يَفيْضَ، فيُصْبح أهلُ القُسْطَنْطِينِيَّةِ يقُولونَ: الصَّلِيب مَدَّ لنا بَحْرنا، والمَسِيْحُ نَاصرُنا. فيُصْبحُونَ والخَلِيْج يابسٌ، فتُضْربَ فيه الأخْبِيَةُ ويَحْسِر البَحْرُ عن القُسْطَنْطِينِيَّة، ويَحُوط المُسلِمُونَ ليلة الجُمُعَة بالتَّحْمِيْد والتَّكْبير والتَّهْلِيْل إلى الصَّبَاح ليسَ فيهم نائمٌ ولا جالسٌ، فإذا طَلَعَ الفَجْرُ كَبَّر المُسلِمُونَ تَكْبيرةً واحدةً، فيَسْقُط ما بين البُرْجَيْن. فيقُول الرُّومُ: إنَّما كُنَّا نُقاتِل العَرَبَ فالآن نُقَاتِل رَبَّنا وقد هَدَم لهم مَدِينَتَنَا وخَرَّبَها لهم [. . . .](a) فيُمَكَّنُون (b) بأيْديهم، ويكيْلُونَ الذَّهَبَ بالأتْرِسَة، ويقسمُونَ الذَّرَارِيّ حتَّى يبلُغَ سَهْمُ الرَّجُل منهم ثلاثمائة عَذْرَاء، ويتَمَتَّعُونَ بما في أيْدِيهم ما شَاءَ اللهُ، ثمّ يخرج الدَّجَّالُ حَقًّا، ويفتَحُ اللهُ القُسْطَنْطِينِيَّةَ على يدي أقْوامٍ هُم أولياءُ الله، ويرفَعُ اللهُ عنهم المَوْتَ والمَرَضَ والسَّقَمَ حتَّى ينزلَ عليهم عِيسَى ابن مَرْيَم، فيُقاتِلُونَ مَعَهُ الدَّجَّال.
(a) ترك ابن العديم فراغًا قدر كلمة، وكتب فوقه:"نقص"، وليس ثمة نقص في كتاب الفتن لابن حماد.
(b) كتاب الفتن 421: فيمكثون.
وقال أبو بَكْر عَبْد الله بن مُحمَّد بن أبي مَرْيَم
(1)
: وأخْبرَنِي عَمْرو بن قَيْس، عن أبي بَحْرِيَّة، قال: لتسيرَنَّ الرُّوم حتَّى ينزلُوا دَيْرَ بَهْرَاء حتَّى يضَع مَلِكُهُم صَلِيْبَهُ وبنُودَهُ على هذا التَّلِّ؛ تَلِّ قَحْمَايَا (a)، فيكُون أوَّل هَلَاكِهم على يَدِ رَجُل من أَنْطاكِيَةَ يَدْعُوا النَّاسَ فيَنْتَدبُ معه رِجالٌ من المُسْلِمِين، فهو أوَّلُ من يَحْملُ عليهم، فيُهلكهُم الله.
كَتَبَ إلينا أبو مُحمَّد أحمدُ بن الأزْهَر بن عَبْد الوهَّاب بن السَّبَّاك من بَغْدَاد، أنَّ القَاضِي أبا بَكْر مُحمَّد بن عَبْد البَاقِي بن مُحمَّد، المَعْرُوف بقاضي المَارَسْتَان، أنبأَهُم أنَّ أبا مُحمَّد الحَسَن بن عليّ بن مُحمَّد الجَوْهَرِيّ أخْبَرَهم، فيما أذِنَ لهم فيهِ، قال: أخْبَرَنا أبو عُمَر مُحمَّدُ بن العبَّاس بن زَكَرِيَّاء بن حَيَّوْيَه، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن أحمد بن جَعْفَر بن مُحمَّد المُنَادِي
(2)
، قال: أخْبَرَني أبو سُلَيمان عَبْدُ الله بن جَرِير الجَوَالِيْقِيّ (b)، قال: أخْبرَني رَجُل من أهل الكتابِ مَوْصُوفٌ بجَمْعِ المَلَاحِم أنَّ هذا الكتاب -يعني: كتابَ دَانِيَال عليه السلام عندَهم مَسْمُوع من كُبرائهم لا يكَادُون يَدْفعُونَهُ إلَّا إلى مَنْ يثقُونَ بكَتْمه، ليُعَرِّفَهُم (c) بما يَتَضَمَّنُهُ من عَجائب المَلَاحِم: فأخَذْتُ من أبي سُلَيمان ما يكون من المَلَاحِم الآتية، وتَرَكت كُتُب المَاضِيَة، فابْتَدأتُ من ذلك بآخر عَهْد المُعْتَمِد، ثمّ آخر الكتاب، فذَكَر دَانِيَال عليه السلام في كتابهِ هذا. وذَكَرَ ابنُ المُنَادِي أشياء من المَلَاحِم، اخْتَصَرتُها أنا، وذكَرتُ ما يتَعلَّق بحَلَب وأعْمالها، فمنها أنَّه قال
(3)
: ويَطْوِي اللهُ الأرْضَ للظَّاهر (d) الخارج من مَكَّة، واسْمُه مُحمَّد بن عليّ من ولد السِّبْط الأكْبَر الحَسَن بن عليّ، فيَتَسَمَّى بالإمام الحَسَنيّ، فيبلغ البَيْدَاء من يَوْمِه.
(a) في كتاب الفتن: تل فحمايا.
(b) ابن المنادي: الجوالقي.
(c) ابن المنادي: لمعرفتهم.
(d) ابن المنادي: الطاهر، مهملة.
_________
(1)
كتاب الفتن 452.
(2)
ابن المنادي: الملاحم 76 - 110.
(3)
ابن المنادي: الملاحم 90.
وذَكَرَ حديث السُّفْيَانِيّ وهَلاكه وهَلاك جَيْشه إلى أنْ قال
(1)
: ثمّ أنَّ الحَسَنيّ يَسْتَخلفُ على العِرَاقَيْن وما والاهما ويَخْرج إلى الرُّوم، فيَكتب مَلِكُ الرُّوم إلى مَلِك الصَّقَالِبَة: إنَّ هذا العَدُوّ الّذي قَدِم لقتَالِي إذا هَزَمني أقْبَلَ إليكَ، فأمدَّني أكفِكَ أمْرَهُ. فيَمُدّه ويَكْتُب إلى صَاحب أَرْمِينِيَة بمثل ذلك، فأمَّا صَاحبُ أَرْمِينِيَة فقد شَغَلَهُ صَاحبُ الحَسَنيّ فلا يُجِيبُه بلا ولا نَعَم، ويُحارب الحَسَنيّ الرُّوم فيَفْتح منها مُدُنًا وحُصُونًا كَثِيْرةً، ويقيمُ بطَرَسُوس، ويَبُثُّ أصْحَابَهُ وجُيُوشَهُ في جميع الثُّغُور فكُلّهم يَنْصُرهم الله، فيَفْتَتِح الوَجْهَ الّذي هَوَ فيهِ ويَغْنَم.
وذَكَرَ بعد ذلك فَتْحَ الحَسَنيّ قُسْطَنْطِينِيَّة (a)، وهَرَبِ مَلِكها، وقد قسم السَّبْي وغَنم ما يَعجز عن قسمَته حتَّى يكيْل الذَّهَبَ والفِضَّة بالتُّرْس.
وذَكَرَ خَوَارِجَ يَخْرجُون على أصْحَابِ الحَسَنيّ في البِلادِ، ثُمَّ قال
(2)
: ويَخْرج أصْحَابُ الحَسَنيّ في كُلِّ الوُجُوه، فيَنْصُرهُم الله في الوُجُوه كُلِّها، ويَفْتَحُونَ البُلْدانَ، ويَصْفُو الأمْرُ للحَسَنيّ. وقد كان مَلِكُ الرُّوم لمَّا بَلَغَهُ أنَّ الخَوَارِج قد خَرَجُوا على الحَسَنيّ حَلَفَ وهو بالرُّومِيَةِ خَلْفَ قُسْطَنْطِينِيَّة (b) أنْ يَخْرج إلى أرْض الإسْلام، فيَغْلِب على ما قَدر عليها من مُدُنها، ويَدْخُلها كما دَخَل الحَسَنيُّ قُسْطَنْطِينِيَّة، ويَرْجع إلى قُسْطَنْطِينِيَّة، ثمّ تَجْتَمع بطارقته عنده (c) ويَسير إلى طَرَسُوس، ثمّ يَخْرج منها حتَّى يأتي الفُرَات، ويُمْهله الحَسَنيُّ حتَّى يأتي حَرَّان. ثمّ يأْخُذُ عليه الحَسَنيُّ من ورائه ومن قُدَّامِه، فيَقْتُل أصْحَابَهُ، ويأْخُذ صُلْبانهم، وينزعُ مَلِكُ الرُّوم ثيابَهُ، ويَلْبَسُ ثيابَ أهْل طَرَسُوس، ويَتَزَيَّا بزيّ أهل الثَّغْرِ، ويتقَلَّد
(a) في الأصل: قسطنطينة، وانظر ما تجاوز ابن العديم عن إثباته عند ابن المنادي: الملاحم 92 - 95.
(b) في الأصل وعند ابن المنادي: قسطنطينة.
(c) ابن المنادي: ثم يجمع بطارقته وجنده.
_________
(1)
ابن المنادي: الملاحم 91 - 92.
(2)
ابن المنادي: الملاحم 97.
سَيْفًا، ويَرْكَب بَغْلًا، ويَلْطَخُ فَمَهُ بدَمٍ، فكُلَّما تلَقَّاه رَجُلٌ من المُسْلِمِينَ، أوْمَأ إليهِ بيَدِه كأنَّهُ يُسَلِّم عليه ويَدْعُو له، فيَظُنّ أنّهُ رَجُلٌ من أهْلِ الثَّغْر قد أصَابَهُ ذلك في جِهادِه الرُّوم، فلا يَزال كذلك حتَّى يأتي طَرَسُوس، ثمّ يَضْربُ إلى الرُّوم ويُنادِي ويَسْأَلُ: هل رأيتُم الطَّاغِيَةَ؟ فَيَقُولُونَ: هربَ، ولو كان في القَتْلَى وَجَدْنَاهُ (a)، فيُوَلِّي الوُلاةَ، ويُوجِّهُهم في وُجُوه بُلْدان الإسْلام كُلّها وقد اسْتَقامَ أمْرُ الإسْلام كُلّهِ. ثمّ يخرج في أصْحَابهِ فيُجاهِدُ الرُّوم، ويُرسل إليهِ مَلِكُ الرُّوم ويُخْبره بحِيْلَته الّتي نَجَا بها، ويَسْألُه الصُّلْحَ والرُّجُوعَ (b)، ويُخَوِّفهُ فَسَاد بلادهِ إنْ هو اشْتَغَل بقتالِ الرُّوم، فيقُول له: لَسْنَا نقاتلُكَ على الأمْوَالِ والغَنائِم، إنَّما نُقَاتلُكَ على أنْ يكون الدِّينُ دِيْنَ الإسْلام.
قال: فيَقْرأ مَلِكُ الرُّوم كتابَهُ على بطَارقَتِهِ، ويقُول لهم: لا يكون هذا أحْرصَ على الجِهادِ منكم، فَيَقُولُونَ له: صَدَقَتْ، فاخْرُج بنا إليه. فيَجْتَمعُونَ ويخرجُونَ إلى الحَسَنيّ في ألفِ صَلِيْبٍ، تحتَ كُلِّ صَلِيب جَمْعٌ كبيرٌ، ويَلْقاهُم الحَسَنيّ، فيَقْتُل منهم كُلَّ يَوْم مَقْتَلَةً عَظِيمَةً لا تُحْصَى، ويَنْهزمُونَ ويتَّبعُهم حتَّى يبلُغَ بهم القُسْطَنْطِينِيَّة، ثُمّ يُحاصرهم أيضًا، ويُضَيِّق عليهم (c)، ويسأَلونَهُ الصُّلْح، فيأبَى ذلك عليهم، فينهزمُونَ عنها إلى رُومِيَةَ ويُخلونَها له، فيَدْخُلها في أصْحَابهِ، فيهدمُونَ بِيْعَتَها العُظْمَى بعد أخْذِهم بيتَ مَذْبَحها وصُلْبانه، ويَحْرثُونَ (d) قُسْطَنْطِينِيَّة، ويَهْدمُونَ سُورَهَا، ويقيمُونَ فيها وفيما حَوْلَها، ويريدونَ المَسِيْر إلى رُومِيَة، فيُرسِل الحَسَنيُّ جَيْشًا إلى مَلِك الصَّقَالِبَةِ فيهزمُونَهُ أيضًا، ويأْخُذونَ بعضَ بلادهِ.
ويَخْرجُ بإصْطَخْر من فَارِس رَجُل أعْوَر يَدَّعِي أنَّه الدَّجَّالُ، ويُسَمِّي نفسَهُ فيقُول: أنا الإلَهُ.
(a) ابن المنادي: لوجدناه.
(b) ابن المنادي: الصلح أو الرجوع.
(c) ابن المنادي: في مضيق عليهم.
(d) ابن المنادي: ويخربون.
واقْتَصَّ قِصَّة خُرُوج الدَّجَّال
(1)
، ونُزُول عِيسَى بن مَرْيَم
(2)
، وقال
(3)
: ثمّ يقول المَسِيْح للحَسَنيّ وأصْحَابِه: دُونكم أصْحَاب الدَّجَّال، فكُلّ مَنْ لا يقُول: لا إله إلَّا الله وَحده لا شَرِيك لهُ، فاقْتلوه. فيَضَعُونَ فيهم السِّلاح فيقتُلونَهُم عن آخرهم. ثمّ يقُول المَسِيْحُ عِيسَى للحَسَنيّ: قد قَضَيْت ما عليكَ، وَوَجَب أجْرُك، وهذا آخر يَومِك من الدُّنْيا، ويأتيه مَلَكُ المَوْت، فيَقْبِض رُوحَه بأهْوَن ما قَبض أحدًا من النَّاسِ، طيبَةً بذلك نَفْسُه. ثمّ ذَكَرَ بعد ذلك قِصَّةَ المَهْديّ وبَيْعَتَهُ
(4)
.
كَتَبَتْ إلينا زَيْنَبُ بنْتُ عَبْد الرَّحْمن الشَّعْرِيّ من نَيْسابُور أنَّ أبا المُظَفَّر القُشَيْرِيّ أنْبَأها، قال: أخْبَرَنا الإمامُ أبو بَكْر البَيْهَقِيّ، قال: أخْبَرنا الحاكِم أبو عَبْد الله الحَافِظُ
(5)
، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بن صالح بن هَانئ، قال: حَدَّثَنا الفَضْل بن مُحمَّد الشَّعْرَانيّ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله (a) بن صالح، قال: حَدَّثَنا اللَّيْثُ بن سَعْدٍ، عن أبي قَبِيْلٍ، عن عَبْد الله بن عَمْرو بن العَاص، قال: للدَّجَّالِ آياتٌ مَعْلُوماتٌ؛ إذا غَارَت العُيُون، ونَشفت (b) الأنْهارُ، واصْفَرَّ الرَّيْحَانُ، وانْتَقَلَتْ مَذْحِج وهَمْدَانُ من العِرَاق فنَزَلَتْ قِنَّسْرِيْنَ، فانْتَظرُوا الدَّجَّال غَاديًا أو رَائحًا.
قال الحاكِم
(6)
هذا حديثٌ صَحْيحُ الإسْنَادِ، ولم يُخَرِّجَاهُ.
(a) في الأصل: عَبْد الصمد، وصوابه المثبت كما في كتاب الحاكم، وهو كاتب الليث بن سعد، اسمه: عَبْد الله بن صالح بن مُحَمَّد بن مسلم، أبو صالح الجهنيّ المصري (ت 223 هـ)، انظر ترجمته ومصادرها في سير أعلام النبلاء 10: 405 - 416.
(b) المستدرك: ونزفت.
_________
(1)
ابن المنادي: الملاحم 99 - 101.
(2)
ابن المنادي: الملاحم: 103.
(3)
ابن المنادي: الملاحم: 104.
(4)
ابن المنادي: الملاحم: 104 - 110.
(5)
المستدرك للحاكم 4: 459.
(6)
المستدرك للحاكم 4: 459.
أخْبَرنا الشَّريفُ افْتِخارُ الدِّين أبو هاشِم عَبْد المُطَّلِب بنُ الفَضْل بن عَبْد المُطَّلِب الهاشِميّ، قال: أخْبَرَنا أبو الفَتْح أحمدُ بن الحُسَيْن بن عَبْد الرَّحْمن الشَّاشِيّ، قال: أنْبَأنَا أبو المَعَالِي مُحمَّد بن مُحمَّد بن زَيْد الحُسَيْنيُّ، قال: أخْبَرَنا الحَسَنُ بن أحمد الفَارِسيّ، قال: أخْبَرَنَا دَعْلَج بن أحمد العَدْلُ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن عليّ، قال: حَدَّثنا سَعيدُ بن مَنْصُور، قال: حَدَّثَنا يُونُس بن أبي يَعْقُوبَ، قال: حَدَّثَني أبي أبو يَعْقُوبَ، عن مُسْلمٍ أبي سَعيدٍ، قال: كُنْتُ مع ابن مَسْعُود رضي الله عنه فوضَعَ يدَهُ عليَّ يتوَكَّأُ حتَّى دَخَل -يعني: دَارًا قريبةً من باب السُّوق- فَرَأى فيها غَضَارةً من عَيْشٍ؛ من رَقيق وحَشَمٍ وخَيْلٍ وهَدَايا ودَوَاجن من الغَنَم، فقال: يا أبا سَعيد، يُعْجبُكَ ما تَرَى ها هُنا؟ قُلتُ: أي واللهِ يا أبا عَبدِ الرَّحْمن، فقال: والّذي نَفْسُ عَبْدِ اللهِ بيَدِه لئن بَقيْتَ قليلًا لتَخْتَارُ أنَّ لكَ بالدُّنْيا وما فيها بَعِيرًا تَقْتَنِيْهِ! ثمّ أشارَ بيَدِه نحو المَغْرب، ثمّ قال: طَريق المُسْلِمِين هَاربينَ من الدَّجَّالِ ملْطَاطُ الفُرَات إلى الشَّام، فذَكَر الحَدِيْث.
أخْبَرنا أبو جَعْفَر يَحْيَى بن جَعْفَر بن عبدِ اللهِ بن الدَّامَغَانِيّ البَغْدادِيّ الصُّوفِيّ، قِراءَةً عليهِ بحَلَب، قال: أخْبَرَنا أبي، قال: أخْبَرَنَا أبو العِزّ مُحمَّد بن المُخْتَار ابن مُحمَّد، قال: أخْبَرنا أبو عَليّ الحَسَنُ بن عليّ بن المُذْهِب، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر أحمد بنُ جَعْفَر بن حَمْدَان القَطِيْعِيُّ، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن أحمد بن مُحمَّد بن حَنْبَل، قال: حَدَّثنا أبي، قال: حَدَّثَنا وَكِيع، قال: حَدَّثنا المَسْعُودِيُّ، عن حَمْزَة العَبْدِيّ -أو: العَيْدِيّ- قال: حدَّثَنا أشْياخُنا، قال: خَرَج ابنُ مَسْعُود فنادَى نداءً، ولم يُناجِ نجاءً، فقال: الملْطَاطُ شَاطِئُ الفُرَات طَريق بَقِيَّة المُؤمنين، هُرَّابٌ من الدَّجَّال، فبئس المُنْتظَر أم السَّاعَة؛ فالسَّاعَةُ أدْهَى وأمَرّ، ثمّ أخَذَ حَصَاةً فقال بها على ظُفْرهِ، هكذا: ما خُرُوجُه بأنْفَض لإيمان مُؤمن ما نَفَضْتُ هذه الحَصَاةَ من ظُفُري.
وقَرَأتُ في كتاب المَلَاحِم والفِتَن لنُعَيْمِ بن حَمَّاد
(1)
، رِوَاية أبي بَكْر بن أبي مَرْيَم عنه من نُسْخَة قُرئت على أبي بَكْر، قال: حَدَّثَنَا نُعَيْم.
وأنْبَأنَا عَبْد العَزِيْز بن هِلالَة، قال: أخْبَرَتْنا به عَفِيفَةُ بنْتُ أحمد، قالت أخْبَرَتنا فاطِمَةُ، قالت: أخْبَرَنا ابن رِيْذَة، قال: أخْبَرَنَا الطَّبَرَانِيّ، قال: أخْبَرنا عَبْد الرَّحْمن، قال: حَدَّثنا نُعَيْم، قال: حَدَّثَنَا الحَكَم بن نَافِعٍ، عن جَرَّاح، عن أَرْطَأة قال: تُفْتَح القُسْطَنْطِينِيَّة (a)، ثمّ يأتيهم الخَبَرُ بخُرُوج الدَّجَّالِ، قال: فيكُونُ باطلًا، ثمّ يُقِيمُونَ ثُلثَ سُبْع سَابُوع، فتُمْسك السَّماء في ثُلُث السَّنَة ثُلُثَ مَطَرِها (b)، وفي السَّنَةِ الثَّانيَةِ ثُلُثَيها، وفي الثَّالثة تُمْسكُ قطرهَا أجْمَع، فلا يَبْقَى ذو ظُفر ولا نابٍ إلَّا هَلَكَ، ويَقَعُ الجُوع فيَمُوتُونَ حتَّى لا يَبْقَى من كُلّ سَبْعِين عَشَرَةٌ، ويَهْربُ النَّاسُ إلى جِبَالِ الجَوْف إلى أَنْطاكِيَةَ.
ومن عَلامَة خُرُوج الدَّجَّال ريحٌ شَرْقيَّةٌ ليسَتْ بحارَّة ولا باردة، تَهْدِم صَنَم إسْكَنْدَرِيَّة، وتقلعُ زَيْتُونَ المَغْرب والشَّام من أُصُولها، وتَيْبسُ الفُرَاتُ والعُيُونُ والأنْهارُ، وتُنْسَئ لها مَوَاقيتُ الأيَّام والشُّهُور ومَواقيتُ الأهلَّةِ.
وقال أبو بَكْرٍ عَبْد الله بن أبي مَرْيَم، حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بن يُوسُف الفِرْيَابِيُّ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيان، عن سَلَمَة بن كُهَيْل، عن أبي الزَّعْرَاءِ، قال: ذُكِرَ عندَ ابن مَسْعُود الدَّجَّال فقال: تَفْتَرقُونَ -أيُّها النَّاسُ- لخُرُوجِه على ثلاثةِ فِرَقٍ: فِرقَةٌ تَتْبَعُه، وفِرقَةٌ تَلْحَقُ بأرض آبائها بمَنابتِ الشِّيْحِ، وفِرقَةٌ تأخُذُ شَاطئَ الفُرَاتِ يُقَاتِلُهم ويُقاتِلونَهُ حتَّى يَجْتَمِع المُؤمنونَ بقُرَى الشَّام، فيَبْعَثُونَ إليه طليعَةً فيهم فَارِسٌ على فَرَسٍ أشْقَرَ أو أبْلَقَ، فيُقْتَلُونَ لا يَرْجعُ منهم بَشَرٌ.
(a) في الأصل: القسطنطينة.
(b) كتاب الفتن: قطرها.
_________
(1)
كتاب الفتن: 527.
أنْبَأنَا أبو القَاسِم بن الحَرَسْتانيّ، عن أبي مُحمَّد عَبْد الكَريم بن حَمْزَة، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن بن أبي الحَدِيْد، قال: أخْبَرَنا جَدِّي أبو بَكْر، قال: حَدَّثَنا أحمد بن مُحمَّد بن سَعيد بن خَالِد الخُشَنِيّ، قال: حدَّثَنا أبو عَليّ الحَسَنُ بن عَوَانَة الكِلابِيّ، من كَفْر بَطْنا، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن نَصْر النَّيْسَابُوريّ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن بَدْرٍ المَلَطيّ، قال: حدَّثَنا كَثِيْر بن الرَّبِيْع بن مَرَازِم السُّلَمِيّ، قال: حَدَّثنا سُفْيانُ بن عُيَيْنَة، عن الزُّهْرِيّ، عن أنَس بن مالِك، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم (a): يا أنس، لا تُؤْذِن عليَّ اليَوْم أحَدًا، فجاءَ أبو بَكْر فاسْتأذَن فلَم يُؤْذَن له، ثمّ جاءَ عُمَر فاستأذَن فلَمْ يُؤْذَن له، ثمّ جاءَ عليّ فاسْتأذَن فلم يُؤذَن لَهُ، فرجع عليّ إلى رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا، فدخَلَ عليه الحُجْرَة، والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فجلَسَ عليٌّ مُحْمَرّ قفَاه، فلمَّا انْصَرفَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أخَذ برَقَبته، فقال له: يا عليّ، لعلَّكَ أمْكَنْتَ الشَّيْطانَ من رَقبتك، قال: وكيفَ لا أَغضَبُ وهذا أبو بَكْر صاحبُكَ ووَزِيرك اسْتأذنَ عليك فلم يُؤْذن له، وهذا عُمَرُ بن الخَطَّاب صاحبُكَ ووَزِيرُك اسْتأذنَ عليكَ فلم يُؤذَن له، وأنا ابنُ عمَّكَ وصهْرُكَ اسْتأذَنْتُ عليك فلم يُؤْذَن لي، وجاءَك رَجُلٌ من بني سُلَيم فأذنْتَ له!
فقال له: اسْكُتْ يا عليّ، يأبَى اللهُ لسُلَيم إلَّا حُبًّا. يا عليّ، إنَّ جِبْرِيل أمَرَني أنْ أدفَع الرَّايةَ إلى بَني سُلَيم. يا عليّ، إنَّ لله ملائكةً سيَّاحين، مُشَبَّهين برجالٍ من بَني سُلَيم، يتصَفَّحُون وُجُوهَ بني سُلَيم فإذا لقِيْتُم الشَّيْخَ الكَبير منهم، فسَلوهُ أنْ يَدْعُو الله لكُم؛ فإنَّه تسْتَجابُ دعْوتهُم. يا عليّ، إنَّ بني سُلَيم رضَى الإسْلام. يا عليّ، إنَّ بني سُلَيم رِدْءُ الإسْلام. يا عليّ، إنَّ اللهَ ادَّخرَ بني سُلَيم إلى آخر الزَّمان. يا عليّ، إنَّه إذا كان في آخر الزَّمان يَخْرُج من النَّواحِي معهم أحْياء من العَرَب من عكٍّ وسُلَيم وبَهْرَاء وجُذَام وطَيّء، فيَنْتهُونَ إلى مَدِينَةٍ يُقالُ لها نَصِيبِيْن،
(a) في الأصل: قسطنطينة.
فيكون من فَسَادهم أمْرٌ عظيم، فيَنْتهون إلى مَدِينَةٍ يُقالُ لها آمِد، فيغلبونَ عليها، فيَفْزَع النَّاس منهم ويَدْخلُون في حُصُونهم، ثمّ يَنْتهونَ إلى مَدِينَةٍ يُقالُ لها الرَّقَّة؛ مَدِينَةٌ يَجْري على بابها نَهْرٌ من الجَنَّة، فيغلِبُونَ على مَدِينَةٍ إلى جانبها يُقالُ لها الرَّقَّة السَّوداء، فيَسْتَبيحونَ ذَرَاري المُسْلِمِيْن وأمْوالهم، فتَنتهي طائفةٌ منهم إلى نَواحي من نَواحِيها، فَتَسْبي نساءَ عَيْلَان فيَغْضَب لذلك رَجُلٌ من بني سُلَيم، خَميْصُ البَطْن، أخْوَصُ العَيْن، يُقالُ لهُ فُلَانٌ، ويَخْرج حَيٌّ من بني عُقَيْل، فيلحقُون فيدْرکونَهُم، فيَسْتَنقذُونَ ذَراري المُسْلِمِيْنَ وأموَالهم.
يا عليّ، رَحم اللهُ بَني سُلَيم، يُقْتَل منهم الثُّلُثُ، ويبْقَى الثُّلُثان، ثمّ يَنْتهونَ من فَوْرهم ذلك إلى مَدِينَةٍ يُقالُ لها مَلَطْيَة؛ قد غَلَب عليها العَدُوّ.
يا عليّ، رَحم الله بني سُلَيم يُقْتَل منهم الثُّلثَان، ويبْقَى الثُّلُث. يا عليّ، رَحم اللهُ بني عُقَيْل؛ يُقْتَل منهم الثُّلُث ويبْقَى الثُّلثان.
يا عليّ، إنَّ في بَني سُلَيم خَمْس خصَال، لو أنَّ خَصْلَةً منها في جميع العَرَب لافْتَخرت بها، إنَّ فيهم من خَصَبَ القِرَى، وفيهم ثالث ثَلاثةٍ، وفيهم مَنْ نزلَتْ بَراءَتُه من السَّماء، وفيهم مَن نصَر اللهَ ورَسُولَهُ، وفيهم من الثَّلاثة الّذين خُلّفُوا. يا عليّ، لو أنَّ خَصْلَةً منها في جَميع العَرَب لافْتَخَرت بها. يا عليّ، لو مالَت العَرَبُ فرقَتَيْن، فكانت فِرْقةٌ منها بني سُلَيم لمِلْتُ مع بني سُلَيم. يا عليّ، إنَّ العَرَب كُلَّها تَخْتَلفُ في حُكْمِهم، وإنَّ بني سُلَيم على الحَقّ. يا عليّ، حِبَّ بني سُلَيم، فإنَّ حُبَّهُم أمان وبُغْضَهُم نفاقٌ، يا عليّ لا تُخْبرهم بما أخْبرتُكَ بهِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ تَوْفِيقِي
أخْبَرنا الشَّيْخُ العَلَّامَةُ أبو اليُمْن زَيْد بن الحَسَن بن زَيْد الكِنْدِيّ، فيما أَذِنَ لَنا في روَايته عنهُ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم هِبَة الله بن أحمد بن عُمَر الحَرِيرِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن البُسْرِيّ، قال: أخْبَرنا مُحمَّد بن جَعْفَر التَّمِيْمِيّ إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو سَعيدٍ الأحْمَسِيّ، قال: حَدَّثَنا الحُسَيْن بن حُمَيْد، قال: حدَّثنا المَسْعُودِيّ، عن القَاسِم بن عَبْد الرَّحْمن، قال
(1)
: مَدَّ الفُرَاتُ، فكَرِهَ النَّاسُ ذلك، فقال عَبْدُ الله: أيُّها النَّاس لا تَكْرَهُوا مَدَّهُ؛ فإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يُلْتَمس فيه مِلءُ طَسْتِ ماءٍ فلا يُوجَد، وذلك حين يَرْجع كُلّ ماءٍ إلى عنْصُره، وتكون بَقِيَّة الماءِ والمؤمنُونَ بالشَّام.
هكَذا جاءَ في رِوَايَةِ عَبْد الرَّحْمن المَسْعُودِيّ مُنْقَطِعًا ليسَ بين القَاسِم وابن مَسْعُود أحدٌ، ورَواه الأَعْمَشُ عن القَاسِم عن أبيهِ عن ابن مَسْعُود مُتَّصِلًا.
أنْبَأنَا بها عُمَر بن مُحمَّد المُؤَدِّبُ، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم بن السَّمَرْقَنْدِيّ، إجَازَةً إنْ لم يَكُن سَمَاعًا، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر مُحمَّد بن هِبَةِ الله بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن بنُ الفَضْل، قال: أخْبَرَنا عَبْد الله بنُ جَعْفَرٍ، قال: حدَّثَنَا يَعْقُوبُ بن سُفْيان
(2)
، قال: حَدَّثَنا قَبِيْصَة، قال: حَدَّثَنا سُفْيان، عن الأَعْمَش، عن القَاسِم بن عَبْد الرَّحْمن، عن أبيهِ، عن عَبْد اللهِ قال: شَكَونا (a) إليهِ الفُرَاتَ وقلَّة الماءِ، فقال: يأتي عليكم زمانٌ لا تجدونَ فيهِ ملْء طَسْتٍ (b) من ماءٍ، ويَرْجع كُلّ ماءٍ إلى عنصُره وبَقِى الماء والمُؤمنونَ بالشَّام.
(a) المعرفة والتاريخ: شكوا.
(b) المعرفة والتاريخ: لا تجدون منه طستًا.
_________
(1)
تقدم من طريق أبي داود عن المسعودي في باب ما جاء في فضل الفرات من الأحاديث والآثار.
(2)
المعرفة والتاريخ 2: 305.
ففي رِوايـ[ـته مُنْقَطِعًا](a) وفي هذه عن القَاسِم بن عَبْدِ الرَّحْمن عن أبيهِ عن عَبْد الله بن مَسْعُود مُتَّصِلًا ذَكَر قِلَّة الماء في الفُرَات، وفي رِوَايَة عَبْدِ الرَّحْمن ابن عَبْدِ الله المَسْعُودِيّ مُنْقَطِعًا ليس بين القَاسِم وبين ابن مَسْعُود أحدٌ ذَكَرَ كَثرةَ الماءِ في الفُرَاتِ.
قال أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي
(1)
: ثمّ إنَّ الرِّوايتَيْن على الاتِّفاق أنَّ الفُرَات يَقِلّ ماؤهُ قلَّةً ضَارَّةً بالنَّاس، واللهُ أعْلَمُ.
قُلتُ: ويُحتَمل أنَّ الاخْتلاف في الكَثرة والقِلَّة إنَّما جاءَ لاختلاف الواقِعَتَيْن بأنْ يكونَ ماءُ الفُرَات مَدَّ سَنةً ونقَصَ أُخرى، فقال عَبْدُ اللهِ فيه ما يَؤُول حالهُ إليهِ.
أخْبَرَنا الشَّيْخُ الثِّقَةُ أبو سعدٍ ثَابِتُ بن مُشَرَّف بن أبي سَعْد البَنَّاءُ البَغْدادِيُّ قِراءَةً عليهِ بحَلَب، قال: أخْبَرَنَا مَسْعُودُ بن الحُصَيْن البَغْدادِيّ، قال: أخْبَرنا أبو عَبْد الله الحُسَينُ بن عليّ بن أحمد بن البُسْرِيّ، قال: أخْبرنا أبو مُحمَّد عَبْد الله بنُ يَحْيَى بن عَبْد الجَبَّار السُّكَّرِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو عَليّ إسْمَاعِيْل بن مُحمَّد الصَّفَّار، قال: حَدَّثَنَا عبَّاس بن عَبْد الله التَّرْقُفِيُّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن يُوسُف، عن سُفْيان، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
: لا تَذْهَب الأيَّامُ واللَّيالِي حتَّى تَعُودَ أرضُ العَرَب مُرُوجًا وأنْهارًا، ويَحْسِرُ الفُراتُ عن جَبلٍ من ذَهَبٍ، فيَقْتتلُونَ عليه، فيُقْتَل من كُلّ مائةٍ تِسْعَة وتِسْعِين، ويَنْجُو واحدٌ.
(a) كلمة أذهبتها الرطوبة قدَّرناها بالمثبت.
_________
(1)
ابن المنادي: الملاحم 296.
(2)
مسند ابن حنبل 16: 166 (رقم 8370)، کنز العمال 14: 252 (رقم 38613).
وقد رواهُ عليّ بن عَاصِم عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَة، وزادَ فيه أنَّ أبا صَالح قال لابنه سُهَيل: يا بُنَيّ إنْ أدركتَهُ فلا تقربنَّهُ.
أخْبَرنا بذلك أبو الحَجَّاج يُوسُف بن خَلِيل بن عَبْد الله، قال: أخْبَرَنا المُؤيَّد بن عَبْد الرَّحِيْم بن الإخْوَة وصَاحبته عَين الشَّمْس، قالا: أخْبَرَنا أبو الفَرَج سَعيد بن أبي الرَّجَاء الصَّيْرَفِيّ، قالت: إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر الثَّقَفِيّ وأبو الفَتْح مَنْصُور بن الحُسَيْن، قالا: أخْبَرنا أبو بَكْر بن المُقْرِئ، قال: حَدَّثَنا أحمد بن مَسْعُود بن عَمْرو بن إدْرِيس الزَّنْبَرِيّ المِصْرِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو غَسَّان مَالِك بن يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا عليّ بن عَاصِم، قال: أخْبرَني سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَة
(1)
، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَذْهَب الدُّنْيا حتَّى يَحْسِرُ الفُرَاتُ عن جَبَلٍ من ذَهَبٍ فيَقْتَتلُ النَّاسُ عليه، فيُقتَل من كُلِّ مائةٍ تسعةٌ وتسعُون. قال لي أبي: يا بُنيّ إنْ أدْرَكْتَهُ فلا تقربنَّهُ.
قال عليّ بن عَاصِمٍ: فحدَّثْتُ بهذا الحَدِيْث شُعْبَة، فقال: إنِّي قد سَمِعْتُه من سُهَيْل ولكنّي لا أحْفظ أنَّهُ قال: يا بُنيّ إنْ أدْركتَهُ فلا تقربنَّهُ، اسْتَيقَنْت أنَّهُ قال: يا بُنيّ إنْ أدْركتَه فلا تقربنَّهُ؟ قُلتُ: نَعم.
وأخْبَرَنا أبو اليُمْن زَيدُ بن الحَسَن الكِنْدِيّ بدِمَشْق، قِراءَةً عليهِ وأنا أسْمَعُ، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد الله الحُسَيْن بن عليّ بن أحمد المُقْرِئ، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن ابن النَّقُّور، قال: أخْبَرنا أبو الحُسَيْن مُحمَّد بن عَبْد الله بن الحُسَيْن ابن أخي مِيْمِي الدَّقَّاق، قال: حَدَّثنا يَحْيَى بن مُحمَّد بن صَاعِد، قال: حَدَّثَنا إسْحَاقُ بن شَاهِين، قال: حَدَّثَنا خَالِد، عن سُهَيْل، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَقُوم السَّاعَةُ حتَّى يَحْسِرَ الفُرَاتُ عن جَبَلٍ من ذَهَبٍ يَقْتَتل النَّاسُ عندَهُ، فيُقْتل من كُلّ مائةٍ تسعة وتِسْعِين.
(1)
صحيح مسلم 4: 2219، مسند ابن حنبل 16: 166 (رقم 8370)، التبريزي: مشكاة المصابيح 3: 27 (رقم 5443)، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15: 85 - 86 (رقم 6691).
وأخْبَرنا أبو سَعْد بن مُشَرَّف، قال: أخْبَرَنا أبو الوَقْت عَبدُ الأوَّل بن عِيسَى بن شُعَيْب السِّجْزِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن الدَّاوُدِيّ، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد عَبْد الله بن أحمد بن حَمُّوْيَه، قال: أخْبَرَنا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيمُ بن خُزَيْم الشَّاشِيُّ، قال: حَدَّثَنا أبو مُحمَّد عَبْدُ بن حُمَيْد بن نَصْر، قال: أخْبرَني ابن أبي شَيْبَة، قال: وجَدْتُ في كتابِ أبي مُحمَّد بن أبي شَيْبَة عن عَبْد الحَمِيْد بن جَعْفَر، قال: أُخبِرتُ عن سُلَيمانَ بن يَسَار، عن عَبْد الله بن الحَارِث بن نَوْفَل، عن أُبَيّ بن كَعْب
(1)
، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال: يُوشِكُ الفُرَات أنْ يَحسِر عن جَبلٍ من ذَهَبٍ، فإذا سَمِعَ بهِ النَّاسُ سَاروا إليه، فيقُول الّذين عندَهُ لئن تَرَكْنا النَّاسَ يأخُذونَ منه ليَذْهبُونَ به، فيَقْتَتِلُونَ عليه حتَّى يُقْتَلَ من كُلِّ مائةٍ تسعةٌ وتسعُون.
وقد رواهُ حَفْصُ بن عَاصِم بن عُمَر والأعْرَج عن أبي هُرَيْرَة وزَادَا فيه: فمَنْ حَضَرَهُ فلا يأْخُذْ منه شيئًا.
أخْبَرنا به أبو رَوْح الهَرَوِيّ في كتابهِ، قال: أخْبَرَنا تَمِيْم الجُرْجَانِيّ، قال: أخْبَرنا الحاكِم البَحَّاثِيُّ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن أحمد بن هارُون، قال: أخْبَرنا أبو حَاتِم ابن حِبَّان
(2)
، قال: أخْبَرنا أحمد بن حَمْدَان بن مُوسَى، قال: حَدَّثَنا أبو سَعيد الأَشَجّ، قال: حَدَّثَنا عُقْبَةُ بنُ خَالِدٍ، قال: حَدَّثَنا عُبَيْد الله بن عُمَر، عن خُبَيْب بن عَبْد الرَّحْمن، عن حَفْص بن عَاصِم، عن أبي هُرَيْرَة، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
: يُوشِكُ الفُرَاتُ أنْ يَحْسِر عن كَنْزٍ من ذَهَبٍ فَمن حَضَرَهُ فلا يأْخُذ منه شيئًا.
(1)
صحيح مسلم 4: 2220، والذهبي في سير أعلام النبلاء 1:393.
(2)
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15: 87 (رقم 6693).
(3)
صحيح مسلم 4: 2220، الترمذي: الجامع الكبير 4: 326 (رقم 2569)، فؤاد عَبْد الباقي: اللؤلؤ والمرجان 3: 305 (رقم 1838).
وقال ابن حِبَّان
(1)
: أخْبَرنا أحمد بن حَمْدَان في عَقِبِهِ، قال: حدَّثَنا الأَشَجُّ، قال: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بن خَالِدٍ، قال: حَدَّثَنَا عُبَيدُ الله بن عُمَر، قال: حَدَّثَنَا أبو الزَّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ إلَّا أنَّهُ قال
(2)
: يَحْسِر عن جَبَلٍ من ذَهَبٍ.
وقد رَواهُ الحُسَيْن بن حُمَيْد، عن عَبْد الله بن سَعيد الكِنْدِيّ، عن عُقْبَة بن خَالِد، عن عُبَيْد الله بن عُمَر، عن خُبَيْب بن عَبْد الرَّحْمن، عن جَدِّه حَفْص بن عُمَر -وهو جَدُّ عُبَيْد الله بن عُمَر بن حَفْص بن عُمَر وليس بجَدِّ خُبَيْب- وزادَ فيهِ: من ذَهَبٍ ومن فِضَّة.
أخْبَرنا به أبو اليُمْن الكِنْدِيّ إذْنًا، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم هِبَةُ الله بن أحْمد الحَريْرِيّ، قال أخْبَرنا أبو القَاسِم بن البُسْرِيّ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن جَعْفَر التَّمِيْمِيّ إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو سَعيد الأحْمَسِيّ، قال: حَدَّثَنا الحُسَيْن بن حُمَيْد، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن سَعيد الكِنْدِيّ، قال: حدَّثَنَا عُقْبَةُ بن خَالِدٍ، قال: حَدَّثنا عُبَيْد الله بن عُمَر، عن خُبَيْب بن عَبْد الرَّحْمن، عن جَدِّه، عن حَفْص بن عُمَر، عن أبي هُرَيْرَة
(3)
، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: يُوشِكُ الفُرَاتُ أنْ يَحْسِرَ عن كَنْزٍ من ذَهَبٍ ومن فِضَّةٍ، فمَنْ حَضَرَهُ فلا يأْخُذ منهُ شيئًا.
ورَواهُ إسْحَاق مَوْلَى المُغِيرَة بن نَوْفَل، عن المُغِيرَة بن نَوْفَل، عن أُبَيّ بن كَعْب، وقال فيه
(4)
: فيُقْتَل تسْعَةُ أعْشَارِهِم.
(1)
صحيح ابن حبان 15: 87 - 88.
(2)
صحيح مسلم، کتاب الفتن 4: 2220، الترمذي: الجامع الكبير 4: 327 (رقم 2570)، فؤاد عَبْد الباقي: اللؤلؤ والمرجان 3: 305 (رقم 1838).
(3)
عَبْد الباقي: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 3: 305.
(4)
المعجم الكبير للطبراني 1: 200 (رقم 537)، ولم يرد في رواته المغيرة بن نوفل إنما: إسْحَاق مولى المغيرة بن نوفل عن أبي بن كعب.
أنْبَأنَا به أبو رَوْح الهَرَوِيُّ، قال: أخْبَرَنا تَمِيْم الجُرْجَانِيّ، قال: أخْبَرَنَا الحاكِم البَحَّاثِيُّ، قال: أخْبَرنَا مُحمَّد بنُ أحمد بن هارُون، قال: أخْبَرَنا أبو حَاتِم بنُ حِبَّان، قال: أخْبَرَنا يَحْيَى بنُ أحمد بن عَمْرو بالفُسْطَاط، قال: حَدَّثَنا إسْحَاقُ بن إبرَاهِيم بن العَلاءِ الزَّبِيْديّ، قال: حَدَّثنا عَمْرو بن الحَارِث، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بنُ سَالِم، عن الزَّبِيدِيّ، قال أخْبرَني مُحمَّد بن مُسْلِم، قال: أخْبَرَني إسْحَاق مَوْلَى المُغِيرَة بن نَوْفَل أنَّ المُغِيرَة بن نَوْفَل أخْبرَهُ عن أُبَيّ بن كَعْب
(1)
، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَقُوم السَّاعَةُ حتَّى يَحْسَرَ الفُرَاتُ عن تَلٍّ من ذَهَبٍ، فيَقْتَتل عليهِ النَّاسُ فيُقْتَل تسعَةُ أعْشَارِهم.
وقَرَأتُ في كتاب المَلَاحِم والفِتَن
(2)
لنُعَيْم بن حَمَّاد، رِوَايَة أبي بَكْر بن أبي مَرْيَم، قال: حَدَّثَنَا نُعَيْم، وأنْبَأنَا عَبْد العَزِيْز بن هِلالَة، قال: أخْبَرَتْنا به عَفِيفَةُ بنتُ أحمد بن عَبْد الله، قالت: أخْبَرَتْنا فاطِمَةُ الجُوزْدَانِيَّة، قالت: أخْبَرنا أبو بَكْر بن رِيْذَة، قال: أخْبَرَنَا الطَّبَرَانِيّ، قال: أخْبَرنَا المُرَاديّ، قال: حَدَّثَنَا نُعَيْم، قال: حَدَّثَنا مَرْوَان، عن ابن أبي خَالِد، عن قَيْس بن أبي حَازِم، عن حُذَيْفَة أنَّهُ قال لعُرْوَة بن أبي الجَعْد البَارِقِيّ، ونَظَرَ إلى الفُرَاتِ، فقال: كيفَ أنتم حين تخرجُونَ منها لا تَذُوقُونَ منه قَطْرَةً؟ فقال لهُ عُرْوَة: تَظُنُّ ذلك؟ قال: لا؛ بل أسْتَيْقِنُهُ.
أنْبَأنَا الحَافِظ أبو عَبْد الله مُحمَّدُ بن عَبْد الوَاحِد بن أحمد المَقْدِسِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو إسْمَاعِيل دَاوُد بن مُحمَّد بن أبي مَنْصُور بن مَاشَاذَة بأصْبَهَان أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ عَبْد الله الجُوزْدَانِيَّة أخْبرَتهم، قِراءَةً عليها وهو حاضِرٌ، قال: أخْبَرَنا مُحمَّد بن عَبْد الله بن رِيْذَةَ، قال: أخْبَرَنا سُلَيمان بن أحمد الطَّبَرَانِيّ، قال: أخْبرنا أبو زَيْد عَبْدُ الرَّحْمن بن
(1)
کنز العمال 14: 203 (رقم 38396).
(2)
لم يرد في مطبوعة كتاب الفتن، وهو في مصنف ابن أبي شيبة 7: 527، رواه عن وكيع عن إسماعيل عن قيس.
حَاتِم المُرَاديّ، قال: حَدَّثَنا نُعَيْم بن حَمَّاد
(1)
، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن سَعيدٍ العَطَّارُ وأبو المُغِيرَة، عن ابن عَيَّاشٍ، عن عَبْدِ الله بن دِيْنارٍ، عن كَعْب قال: تَنْزِلُ التُّرْكُ آمِد، وتَشْربُ من الدِّجْلَةِ والفُرَات، ويَسْعَونَ في الجَزِيرَة، وأهل الإسْلام من الحيْرَة لا يَسْتطِيعُونَ لهم شيئًا، فيَبْعَث اللهُ عليهم ثَلْجًا بغير كَيْل، فيه صرٌّ من ريح شَدِيدَة وجَليْدٍ فإذا هُمْ خَامدُونَ، فإذا أقامُوا أيَّامًا، قامَ أميرُ أهل الإسْلام في النَّاسِ فيقُول: يا أهْل الإسْلام؛ ألَا قَوْمٌ يَهِبُون أنْفُسَهُم للهِ فيَنْظُروا ما فَعَل القَوْمُ، فيَنْتدب عَشَرة فَوارس، فيجيزُونَ إليهم، فإذا هم خَامدُون، فيَرْجعُونَ فَيَقُولُونَ: إنَّ الله قد أهْلكهم وكفاكُم؛ هَلَكوا من عند آخرهم.
قال ابن عَيَّاش: وأخْبرَني عُتْبَةُ بن تَمِيْم، عن الوَلِيد بن عَامِر اليَزَنِيّ، عن زَيْد ابن جُبَيْر -وفي نُسخةٍ: يَزِيد بن جُبَيْر (a)- عن كَعْبٍ، قال: ليردن التُّرْك الجَزِيرَة حتَّى يَسْقُوا خُيُولَهُم من الفُرَاتِ، فيَبْعَث اللهُ عليهم الطَّاعُونَ فلا يُفْلِتُ منهم إلَّا رَجُلٌ واحدٌ.
وأخْبَرَنا أحمد بن الأزْهَر بن عَبْد الوهَّاب في كتابه، قال: أنْبَأنَا أبو بَكْر مُحمَّد بن عَبد البَاقي، قال: أخْبَرنا أبو مُحمَّد الجَوْهَرِيّ، فيما أَذِنَ لَنا في الرِّوَايَةِ عنهُ، قال: أخْبَرَنا أبو عُمَر بن حَيَّوْيَه، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي
(2)
، قال: حَدَّثَنا أبو مُوسَى مُحمَّد بن هَارُون أنَّ مُوسَى الأنْصاريّ، قال: حَدَّثَنا أحمد بن عَبْد الرَّحْمن بن المُفَضَّل
(3)
الحَرَّانيّ المَعْرُوف الكُزْبَرَانيّ، قال: حَدَّثَنا عُثْمان بن عَبْد الرَّحْمن -هو الطَّرَائِفِيّ (b)- قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمن بن ثَابِت بن
(a) كتاب الفتن: يزيد بن خمير.
(b) في الأصل و"ك": الطوابيقي، والصواب ما أثبت من كتاب الملاحم، ويأتي صحيحًا فيما بعد في العديد من الأحاديث التي اتَّصل سنده بها، ولُقب بذلك لأنه كان يتتبع طرائف الأحاديث ويطلبها. السمعاني: الأنساب 9: 61، والضعفاء للعقيلي 3: 207 - 208.
_________
(1)
کتاب الفتن: 220، 676.
(2)
كتاب الملاحم 158.
(3)
ابن المنادي: الفضل.
ثَوْبَان، عن أبيهِ أنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا يقول: لا تَنْقَضي الدُّنْيا حتَّى يَرِد التُّرْكُ الفُرَات.
وقَرَأتُ في كتاب المَلَاحِم والفِتَن
(1)
، تأليفُ نُعَيْم بن حَمَّاد، رِوَايَة أبي بَكْر ابن أبي مَرْيَم من نُسْخةٍ قُرئَت عليه، قال: حَدَّثَنَا نُعَيْم بن حَمَّاد، وأنْبَأنَا عَبْد العَزِيْز ابن هِلالَة، قال: أخْبَرَتْنا عَفِيفَةُ بنتُ أحمد بن عَبْد الله، قالت: أخْبَرَتْنا فاطِمَةُ الجُوزْدَانِيَّة، قالت: أخْبَرَنا أبو بَكْر بن رِيْذَة، قال: أخْبَرَنا الطَّبَرَانِيّ، قال: أخْبَرنا عَبْد الرَّحْمن، قال: حَدَّثَنَا نُعَيْم بن حمَّاد، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، عن ابن جَابِرٍ وغيره، عن مَكْحُول، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: للتُّرك خَرْجَتان؛ إحداهما يُخَرِّبونَ أَذْرَبِيْجَان، والثَّانيَة يَشرعُونَ منها على ثِنْي الفُرَاتِ، قال: فيُرْسل الله على جُنَنِهم (a) المَوْتَ -يعني: دَوابَّهُم- فيُرجّلهم (b)، فيكُون فيهم ذبحُ الله الأعْظَم، لا تُرْكَ بعدَهَا.
وقال: حدَّثنا نُعَيْم
(2)
، قال: حَدَّثَنا يَحْيَى بن سَعيد وأبو المُغِيرَة، عن ابن عَيَّاش، قال: وأخْبَرني رَجُلٌ من آل حَبِيْب بن مَسْلَمَة، عن الحَكَم بن عُتَيْبَة، قال: يخرجُونَ فلا يُنَهْنِهُهُم (c)، دون الفُرَاتِ شيء، أصْحَاب مَلَاحِمهم (d) وفُرْسَان النَّاس يَوْمئذٍ قَيْس عَيْلَان فتَسْتأصلُهُم، لا تُرْكَ بَعْدَها.
(a) كذا وردت مجودة، وفي كتاب الفتن لنعيم: خيلهم، وفي رواية أخرى منه (ص 683) جثثهم، وفي کنز العمال 11: 277: خيلهم.
(b) كتاب الفتن: فيرحلهم.
(c) كتاب الفتن: يُنهيهم.
(d) كتاب الفتن: أصاب ملاحهم.
_________
(1)
كتاب الفتن 221، وقريب من هذه الرواية أيضًا في ص 677، وكنز العمال 11: 276 - 277 (رقم 31510).
(2)
کتاب الفتن 677.
وقال: حَدَّثَنَا نُعَيْم
(1)
، قال: حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، عن ابن آدَمَ، عن أبي الأعْيَس (a)، عن كَعْبٍ، قال: يَشْرعُ التُّرْك على ثِنْي (b) الفُرَاتِ، فكأنِّى بذَواتِ المُعَصْفَرات يَطْفِقْنَ (c) على ماءِ (d) الفُرَاتِ.
وقال: حَدَّثَنَا نُعَيْم
(2)
، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن أَيُّوبَ، عن ابن سِيْرِيْن، عن ابن مَسْعُود، قال: كأنِّي بالتُّرْكِ قد أَتَتْكُم على براذِينَ مُخَذَّمَةِ الآذَان حتَّى يربطُوهَا بشَطِّ الفُرَاتِ.
وقال: حَدَّثَنَا نُعَيْم
(3)
، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عن أم عَبْد اللهِ، عن أخيها عَبْد اللهِ بن خَالِد، عن أبيهِ خَالِد بن مَعْدَان، عن مُعاوِيَةَ، قال: اتْرُكُوا الرَّايضَةَ (e) ما تَرَكُوْكم؛ فإنَّهم سيَخْرجُونَ حتَّى ينتَهوا إلى الفُرَاتِ، فيَشْرب منهُ أوَّلُهم ويجئُ آخرُهُم، فَيَقُولُونَ: قد كان هَا هُنا ماءٌ.
وقال: حَدَّثَنَا نُعَيْم
(4)
، قال: حَدَّثَنَا الحَكَم بن نَافِع، عن جَرَّاح، عن أَرْطَأة، عن مَنْ حدَّثَهُ، عن كَعْبٍ، قال: قال عَبْدُ الله بن عُمَر (f): ثمّ يَبْعَث اللهُ بعد قَبْضِ عِيسَى وأرْواح (g) المُؤمنين بتلك الرِّيح الطَّيِّبة نارًا تَخْرج من نَواحي الأرْض، تَحْشر النَّاسَ والدَّوَابَّ والذَّرَّ إلى الشَّامِ.
(a) في الأصل: الإعْبس، بباء موحدة، والصواب ما أثبت، وهو عَبْد الرحمن بن سلمان -وقيل سليمان- الخولاني الحمصي، انظر: الفتن لنعيم 683، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1: 290، تاريخ ابن عساكر 34: 391 - 394، توضيح المشتبه لابن ناصر 1:255.
(b) كتاب الفتن: نهر.
(c) ک تاب الفتن: يصطففن.
(d) كتاب الفتن: نهر.
(e) كتاب الفتن: الرابضة.
(f) هكذا في الأصل ومثله في أصل كتاب الفتن فأحالها المحقق: عمرو.
(g) كتاب الفتن: عيسى أرواح.
_________
(1)
كتاب الفتن 683.
(2)
كتاب الفتن 683.
(3)
کتاب الفتن 680.
(4)
كتاب الفتن 624 - 625.
قال كَعْبٌ: وتَخْرج تلك النَّار من القُسْطَنْطِينِيَّةِ (a)؛ نارٌ وكِبْرِيتٌ يَبْلُغ لَهبها ودُخَانُها السَّماء، فتَركد عند الدُّرُوب بين جَيْحَان وسَيْحَان، ونارٌ أُخْرى من عَدَنَ تبلُغ بُصْرَى، تَقُوم إذا قامُوا، وتَسِيرُ إذا سَارُوا، وإنَّ الفُرَاتَ ليَجْري ماؤهُ أوَّل النَّهَار، وبالعَشيّ يَجْري كِبْرِيتًا ونارًا، وذكَر تَمام الحَدِيْث.
وقال: حَدَّثنا نُعَيْم
(1)
، قال: حَدَّثَنا عَبْد الوَارِث، عن حَمَّاد بن سَلَمَة، عن عليّ بن زَيْدٍ، عن رَجُلٍ، عن أبي هُرَيْرَة، قال: تَخْرج نارٌ من قِبَل المَشْرِق، ونارٌ أُخرى من قِبَل المَغْرب، تَحْشُران النَّاسَ، بين أيْدِيهم القِرَدَةُ، تَسيْران بالنَّهَار، وتكمنان باللَّيْل حتَّى تَجْتَمعا (b) بجِسْر مَنْبِج.
وقال: حدَّثَنَا نُعَيْم
(2)
، قال: حَدَّثَنَا أبو يوسف المَقْدِسِيّ، عن صَفْوَان بن عَمْرو، عن عَبْد الله بن بُسْرٍ الحِمْصِيّ (c)، عن كَعْب، قال: المَهْدِيُّ يبعَثُ بقتال الرُّوم، يُعْطَى قوَّة (d) عَشَرَة، يَسْتَخرج تابُوتَ السَّكيْنَة من غَارٍ بأَنْطاكِيَة، فيهِ التَّوْراة الّتي أَنْزَلَ اللهُ على مُوسَى، والإنْجِيْل الّذي أنْزلَ اللهُ على عِيسَى، يَحْكم بين أهْل التَّوْراة بتَوْرَاتِهم، وبين أهل الإنْجِيْل بإنْجِيلهِم.
وقال: حَدَّثَنا نُعَيْم
(3)
، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاق، عن مَعْمَر، عن مَطَرٍ الوَرَّاق، عَمَّن حدَّثَهُ، عن كَعْب، قال: إنَّما سُمِّيَ المَهْدِيُّ لأنَّهُ يَهْدي (e) لأمرٍ قد خَفي، ويَسْتَخرج التَّوْراة والإنْجِيْل من أرضٍ يُقالُ لها: أَنْطاكِيَة.
(a) الأصل: القسطنطينة.
(b) كتاب الفتن: يسيران. . . يکمنان. . . يجتمعا.
(c) ک تاب الفتن: "بِشر الخثعمي"، وكلاهما موجود؛ يسمى عَبْد الله!.
(d) كتاب الفتن: فقه.
(e) كذا ضبطه في الأصل، وفي كتاب الفتن: يُهْدى.
_________
(1)
كتاب الفتن 627 - 628.
(2)
كتاب الفتن 355.
(3)
کتاب الفتن 355.
وقال: حَدَّثنا نُعَيْم
(1)
، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن اليَمَان، عن المِنْهَال بن خَلِيفَة، عن مَطَر الوَرَّاق، قال: المَهْدِيُّ يُخْرج التَّوْراة غَضَّةً -يعني: طَريَّةً- من أَنْطاكِيَة.
أنْبَأنا أبو اليُمْن الكِنْدِيّ، قال: أخْبَرنا القَزَّاز، قال: أخْبَرَنا أبو بَكْر الحَافِظ
(2)
، قال: أخْبَرنا الحُسَيْن بن عليّ، قال: أخْبَرَنا أبو سُلَيمان الحَرَّانيّ، قال: حَدَّثَنا مُحمَّد بن الحَسَن، قال: حَدَّثَنَا أحمد بن مُسْلِم (a)، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الله بن السَّرِيّ، عن أبي عُمَر البَزّاز، عن مُجَالِد، عن الشَّعْبِيّ، عن تَمِيْم الدَّارِيّ
(3)
، قال: قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ولا تَذْهبُ الأيَّامُ واللَّيالِي حتَّى يَسْكُنَهَا -يعني: أنْطاكِيَةَ- رجُلٌ من عِتْرَتِي، اسمُهُ اسْمِي، واسْمُ أبيهِ اسْمُ أبي، يُشْبِهُ خَلْقُه خَلْقِي، وخُلْقُهُ خُلْقِي، يَملأُ الدُّنْيا قِسْطًا وعَدْلًا كما مُلِئَتْ ظُلْمًا وجَوْرًا.
أخْبَرنا أبو مُحمَّد صَقْر بن يَحْيَى بن صَقْر الحَلَبِيّ الشَّافِعِيّ قاضي مَنْبِج، قِراءَةً عليهِ، قال: أنْبَأنَا أبو طَاهِر هاشِم بن أحمد بن عَبْد الوَاحِد بن هاشِم المُعَدَّلُ، قال: أخْبَرَنا أبو الأسْوَار عُمَر بن مُنَخَّل الدَّربَنْدِيّ بحَلَب، قال: حَدَّثنا مُحمَّد بن أبي نَصْرٍ بن أبي بَكْر اللَّفْتُوانيّ
(4)
من لفْظِه بأصْبَهَان، قال: أخْبَرَنا أحمد بنُ عَبْدِ الغَفَّار، وتَمِيْم بن عَبْد الوَاحِد، وعُمَر بن أحمد بن عُمَر الأصْبَهَانِيُّونَ بها، قالوا: أخْبَرنا أبو سَعيد مُحمَّدُ بن عليّ ابن عَمْرو بن مَهْدِي، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم الطَّبَرَانِيُّ، قال: حَدَّثنا أبو عَبْدِ المَلِك أحمد بن إبْرَاهِيْم القُرَشِيّ الدِّمَشْقِيّ، بدِمَشْق سَنَة سَبْعٍ وسَبْعِين، قال: حَدَّثَنَا سُلَيمانُ بن عَبْد الرَّحْمن بن بنْت شُرَحْبِيل، قال: حدَّثَنا إسْمَاعِيْل بن عَيَّاشٍ،
(a) الأصل: سلم، والتصويب من تاريخ بغداد، وهو أحمد بن مسلم الحلبي.
_________
(1)
كتاب الفتن 356.
(2)
تاريخ بغداد 11: 144 - 145.
(3)
تقدم ذكر الحديث من طريق ابن السري المدائني عن البزاز في باب في فضل أنطاكية.
(4)
الضبط من أنساب السمعاني 11: 218، نسبةً إلى لَفْتُوان؛ من قرى أصبهان.
عن يَحْيَى بن أبي عَمْرو السَّيْبَانِيّ (a)، عن عَبْد الله بن الدَّيْلَمِيّ، قال
(1)
: أتى رَجُل ابن عَبَّاسٍ قال: بلغَنَا أنَّك تذْكر سَطِيْحًا تزعُمُ أنَّ الله عز وجل خَلَقَهُ، لم يخلُقْ من ولد آدَمَ شيئًا يُشْبهُهُ؟! قال: نعم، إنَّ الله عز وجل خلَق سَطِيحًا الغَسَّانِيّ لَحْمًا على وَضَمٍ، والوَضَمُ شِرَاحٌ من جَرِيْد، وكان يُحْمل على وَضَمَةٍ، فيُؤْتَى به حَيْثُ يَشَاء، ولم يكن فيه عَظم ولا عَصَب إلّا الجُمْجُمَةَ والكَفَّان (b)، وكان يُطْوَى من رجلَيْهِ إلى ترقُوتهِ كما يُطْوَى الثَّوبُ، ولم يكُن فيهِ شيءٌ يتحرَّك إلَّا لسَانُه.
فلمَّا أرادَ الخُرُوج إلى مَكَّة، حُمل على وَضَمه فأُتِيَ بهِ، فخرج إليهِ أربعةٌ من قُرَيْشٍ: عَبْدُ شَمْسٍ وعَبْد مَنَافٍ ابْنَا قُصَيّ (c)، والأحْوَص بن فِهْر، وعَقِيل بن أبي وَقَّاص، انْتَمُوا إلى غير نَسَبهم، وقالوا: نحنُ أُناس من جُمَح، أتيناكَ لنَزُورَك لمَّا بلَغَنا قُدُومُكَ، ورأينا أنَّ إتْيانَنَا نحوَك حَقٌّ لكَ واجبٌ علينا.
وأهْدَى إليه عَقِيْلٌ صَفِيْحةً هِنْديَّةً وصَعْدَةً رُدَيْنِيَّة، فوضِعَت على باب البَيْتِ الحَرَام لينظُرُوا هل يَرَاها سَطِيْحٌ أم لا، فقالَ: يا عَقِيلَ، ناولني يدَك، فناولهُ يدَهُ، فقال: يا عَقِيْل، والعالِم الخَفِيَّة، والغَافِر الخَطِيَّة، والذِّمَّة الوَفِيَّة، والكَعْبَة المَبْنِيَّة، إنَّك الجائي بالهِنْدِيَّة والصَّعْدَة الرُّدَينِيَّة، فقالُوا: صَدَقْتَ يا سَطِيْحُ، فقال: والآتِي
(a) في "ك": الشيباني، وصوابه بالسين المهملة، نسبةً إلى سيبان بن الغوث، وتصحف في كثير من المصادر إلى الشيباني، انظر: دلائل النبوة لأبي نعيم 83، أنساب السمعاني 7: 332 - 334، ابن كثير: البداية والنهاية 2: 354، تهذيب التهذيب 11: 260 - 261، وتقريب التهذيب 2: 355، وله ذكر مقتضب في الجزء العاشر من هذا الكتاب (الكنى)، وفيها الإحالة على ترجمته الضائعة بضياع الجزء الضام لها.
(b) الأصل: والكفَّين.
(c) في دلائل النبوة لأبي نعيم 84: عبد شمس بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وفي البداية والنهاية 2: 355: عبد شمس وهاشم ابنا عبد مناف بن قصي.
_________
(1)
انظر خبر سطيح في: دلائل النبوة لأبي نعيم 83 - 85، تاريخ ابن عساكر 72: 214 - 217، البداية والنهاية 2: 354 - 356.
بالفَرح، وقَوْس قُزَح، وسَائر القُرح (a)، والحَطِيم المنْتَطح (b)، والنَّخْل والرُّطب والبَلَح، إنَّ الغُرابَ من حيثُ مَرَّ (c) سَنَح (d) فأخْبَر أنَّ القَوْم ليسُوا من جُمَح، وأنَّ نَسَبَهُم من قُرَيْشٍ ذِي البِطَح، فقالوا: صَدَقَتْ يا سَطِيْح؛ نحنُ أهل البَلَد الحَرَام أتيناكَ لنزُوركَ لَمَا بلغنا من عِلْمك (e)، فأخْبِرْنَا عمَّا يكُون في زَمَاننا وما يكُون بَعْدُ، إنْ يكُن عندَكَ عِلْمٌ في ذلك، فقال: صَدَقْتُم؛ والآن خُذُوا منِّي إلْهَام الله عز وجل إيَّايَ: أنتم يا مَعْشَرَ العَرَب في زَمانِ الهَرَم، سواءٌ بَصَائركم وبَصِيْرَةُ (f) العَجَم، لا عَمَل عندَكُم ولا فَهَم، ويَنْشُؤُ من عَقبِكم ذو فَهْمٍ، يَطْلبونَ أنْواع العِلْم، يكسُرونَ الصُّنَم، يَبْلغُونَ الرُّدَم، يقتُلونَ العُجَم، يَطْلبونَ الغُنَم.
قالوا: يا سَطِيْحُ، مَنْ يكُون أولئكَ؟ قال لهم: والبَيْت ذِي الأرْكان، والأَمْنِ والسُّكَّان، ليَنْشُوَنَّ من عَقبِكُم وِلْدَان، يَكسرُونَ الأوْثَان، ويُنْكِرونَ عِبادَةَ الشَّيْطان، ويُوَحِّدُونَ الرَّحمنَ، ويَنْشُرونَ دِيْنَ الدَّيَّانِ، ويَسْتَفْتُونَ العُمْيان (g).
قالُوا: يا سَطِيْحُ، من نشوءِ (h) مَنْ يَكون أولئك؟ قال: وأَشْرفِ الأَشْرَاف، والمُحْصِي للأَشْرَافِ (i)، والمُزَعْزعِ الأحْقَاف، المُضْعِف الأضْعَاف، ليَنْشُوَنَّ أُلَّاف (j) من عَبْدِ شَمْسٍ ومَنَاف؛ نَشْوٌ يكُونُ فيهم اخْتلَاف.
قالوا: يا سَوءَتَاهُ يا سَطِيْح! فما (k) تُخْبِر من العِلْم بأَمْرهم، وفي أيّ بَلَدٍ هُم، ومن أيّ بَلَدٍ يخرجُ أولئك؟ فقال: والباقِي الأبَدَ، والبالِغ الأمَدَ، ليَخْرُجنّ أولئك من ذَا
(a) دلائل النبوة والبداية والنهاية: الفرح.
(b) دلائل النبوة والبداية والنهاية: المنبطح.
(c) كتب إزاءها ما وجده في نسخة أخرى وهو: "حيث طار".
(d) في الأصل: سيح، والمثبت من "ك" ودلائل النبوة وتاريخ ابن عساكر والبداية والنهاية.
(e) في الأصل: من عملك؛ والمثبت من دلائل النبوة وابن عساكر وابن كثير.
(f) دلائل النبوة: وبصرة، البداية والنهاية: وبصائر.
(g) في دلائل النبوة: يشرفون البنيان ويقتنون القيان، وفي البداية والنهاية: يشرفون البنيان ويستفتون الفتيان.
(h) دلائل النبوة والبداية والنهاية: نسل.
(i) دلائل النبوة: والمفضي للإسراف، البداية والنهاية: والمفضي للأشراف.
(j) الدلائل والبداية: الألآف.
(k) الدلائل والبداية: مما.
البَلَد، نَبِيٌّ (a) يَهْدِي إلى الرَّشَد، يَرفُض يَغوْثَ والفَنَد، يُنَزِّهُ (b) من عِبادَة المدَد (c)، يَعْبُدُ رَبًّا انْفَرَد، ثمّ يتوفَّاهُ اللهُ مَحْمُودًا، من الأرْض مَفْقُودًا، وفي السَّماءِ مَشْهُودًا.
ثمّ يلي أمرَهُ الصِّدِّيقُ؛ إذا قَضَى صَدَق، وفي ردِّ الحُقُوق لا خرَق ولا نَزَق.
ثمّ يلي أمرَهُ الحنيفُ، مُحربٌ (d) غِطْريفٌ، يتركُ قَول العَنيف، قد صَافَ المَضِيف (e)، وأحْكَم التَّخْفِيْف (f).
ثُمَّ يَلي أمْرَهُ دَارِعٌ لأمْره مُجرّب (g)، فتجتمعُ له جُموعٌ وعُصَب، فيَقتلونَهُ نَقْمةً عليه وغَضَبًا، فيؤخَذ الشَّيْخُ يُذْبح إرَبا، فتقُوم به رجالٌ خَطْبَا؛ يعني عُثْمان.
ثمّ يَلي أمْرَهُ النَّاصِر، يخلطُ الرَّأي برأي مَاكِر (h)، يظهر في الأرْض العَسَاكِر؛ يعني مُعاوِيَة.
ثمّ يَلي بعدَهُ ابنُهُ، يأْخُذ جَمْعَهُ، ويُقِلّ حَمْدَهُ، ويأْخُذُ المال، ويأكُل وحدَهُ، ويَكْثر المال من بَعْده (i).
ثمّ يَلي بعدَهُ عدَّةُ مُلُوك، الدَّمُ فيهم لا شَكَّ مَسْفُوك.
ثمّ يلي من بعده الصُّعْلُوك، يَطَأُهم كَطيَّة (j) الدُّرْنُوك (k)؛ يَعني أبا العبَّاس.
ثُمّ يَلي من بعده عَضْهُور (l) يُقْصِي الخَلْقَ (m) ويُدْني مُضَرا (n)، يَفْتَتحُ الأرْض افْتِتاحًا مُنكرًا؛ يعني أبا جَعْفَر.
(a) الدلائل والبداية: فتى.
(b) الدلائل والبداية: يبرأ.
(c) كتب في الهامش إزاءها: "الصدد"، وفوقها حرف خ، أي: نسخة، وفي الدلائل والبداية والنهاية: الضدد.
(d) البداية والنهاية: مجرب.
(e) في "ك": المصيف، وفي تاريخ ابن عساكر: قد أضاف المضيف.
(f) دلائل النبوة: وأكرم التحنيف، البداية والنهاية: وأحكم التحنيف.
(g) الدلائل والبداية: داعيًا لأمره مجربا.
(h) الدلائل: الناكر، البداية والنهاية: المناكر.
(i) الدلائل: ويكثر المال لعقبه من بعده، البداية والنهاية: ويكثر المال بعقبه من بعده.
(j) في الهامش: "نسخة: كوطْئَة"، وفي البداية والنهاية: كطي، ووقف أبو نعيم هنا عن إتمام القصة في كتابه دلائل النبوة.
(k) الأصل: الدرنول. وفي "ك": الدرفول. والدُّرنوك: البساط، جمعه: درانك. لسان العرب، مادة: درنك.
(l) البداية والنهاية: عظهور.
(m) البداية والنهاية: الحق.
(n) البداية والنهاية: مصر.
ثمّ يلي قَصِير القامَة، بظَهْره عَلَامَة، يموتُ مَوْتًا وسَلَامَة؛ يَعْني المَهْدِيّ.
ثمّ يلي من بَعْده قليلٌ ماكِر (a)، يتركُ المُلْكَ باير.
ثمّ يلي بعدَهُ أخُوه، بسَنَنهِ (b) سَائِر، يختصُّ بالأمْوَال والمَنابر.
ثمّ يلي من بعدَهُ أهْوَج، صَاحبُ دُنْيا ونَعِيْم مُخْتَلَج (c)، تُبادِرُه مَعَاشِر ودُودَة (d)، يَنْهَضُونَ إليهِ يَخْلَعُونَه، ويأْخُذُون المُلْكَ ويَقْتلونَه.
ثمّ يلي أمْرَهُ من بعده السَّابِع، يَتركُ المُلْكَ مُخَلًّا (e) ضَائع، يَثُور في مُلْكِهِ كُلُّ مُشَوَّه جَائع (f)، عندَ ذلك يَطْمَعُ في المالِ كُلُّ غَرْثَان (g)، ويَلِي أمْرَهُ الصِّبْيَان (h)، يُرْضي نِزَارًا جمع قَحْطَان، إذا الْتَقَيَا (i) بدِمَشْقَ جَمْعَان، بين بَيْسَان ولَبْهَان (j)، يصف (k) اليَمَن يَوْمئذٍ صِنْفَان، صِنْفُ المشُورة، وصِنْفُ المَخْذُول، لا تَرَى إلَّا خباءً محلُولًا، أو أسِيْرًا مَغْلُولًا بين الفُرَات والجَبُّوْل (l)، عندَ ذلك تَخْربُ المنازل، وتُسْلَب الأرَامِل، وتُسْقط الحَوامِل، وتَظْهَر الزَّلَازِل، وتَطْلُب الخِلَافَة وَائِل، فتَغْضَب نِزَار، وتُدْنِي العَبِيْدَ والأشْرَار، وتُقْصِي النُّسَّاكَ (m) والأخْيار، وتَغْلُوا الأسْعَار، في صَفَر الأصْفَار، تقتلُ كُلّ جَبَّار (n)، ثمّ يسيرونَ إلى خَنَادقَ وأنْهار، ذات أسْفار (o) وأشْجَار، تُصَد له الأنْهار، يهزمُهم أوَّل النَّهَار، تَظْهَر الأحْبار (p)، فلا يَنْفَعُهم نَوْمٌ ولا قَرَار، حتَّى يَدْخُل مِصْرًا من الأمْصَار،
(a) البداية والنهاية: قليلًا باكر.
(b) البداية والنهاية: سنَّته.
(c) البداية والنهاية: مختلج.
(d) البداية والنهاية: يتشاوره معاشره وذووه.
(e) البداية والنهاية: محلًا.
(f) البداية والنهاية: بنوه في ملكه كالمشوه جامع.
(g) في "ك" وتاريخ ابن عساكر والبداية والنهاية: كل عريان. والغرثان: الجائع. لسان العرب، مادة: غرث.
(h) البداية والنهاية: اللهفان.
(i) كتب في الهامش: "نسخة: التقى".
(j) في الهامش: "نسخة: لبنان"، وفي البداية والنهاية: بين بنيان ولبنان.
(k) البداية والنهاية: يصنف.
(l) البداية والنهاية: بين القراب والخيول.
(m) البداية والنهاية: الأمثال.
(n) البداية والنهاية: يقتل كل حيا منه.
(o) كتب في الهامش: "لعله: أشعار، وفي نسخة: أشغال"، وفي تاريخ ابن عساكر: أشغال، وفي البداية والنهاية: وإنها ذات أشعار وأشجار.
(p) البداية والنهاية: الأخيار.
فيُدْركُه القَضَاءُ والأقْدَار، ثمّ تَجئ الرُّمَاة، بلِفٍ (a) مُشَاة، تَقْتُل (b) الكُمَاة، وتَأْسر الحُماة، وتَهْلك (c) الغُواة، هُنالكَ يُدْرك في أعْلَى المياه، ثمّ يَبُور الدِّين، وتَنْقلب الأُمُور، ويكفر الزَّبُور، وتُقْطَع الجُسُور، فلا يفْلِتُ إلَّا مَنْ كان في جَزَائِر البُحُور، ثمّ تَثُور (d) الجبوب (e)، وتَظْهر الأعَاريب، ليسَ فيهم مُعِيْب، على أهْل الفِسْق والمُرِيب (f)، في زَمان عَصِيْب، لو كان للقَوْمِ جَنَى (g)، وما تُغْني المُنَى.
قالُوا: ثُمّ ماذا يا سَطِيْح؟ قال: ثمّ يَظْهَرُ رَجُلٌ من أهْلِ اليَمَن، أبْيَضُ كالشَّطَن، يُذْهِبُ الله على رَأسِهِ الفِتَن.
هكذا وَقَع في هذه الرِّوَايَة سُقُوط ذِكْرِ عليٍّ عليه السلام، وقد وَقَع لنا هذا الخَبَر من طريقٍ آخر وفيه ذِكْره.
أخْبَرَنا به أبو مُحمَّد أحمد بن الأزْهَر بن عَبْد الوهَّاب السَّبَّاك في كتابه إلينا من بَغْدَاد، قال: أخْبَرنا أبو بَكْر مُحمَّد بن عَبْد البَاقِي القَاضِي إجَازَةً، عن أبي مُحمَّد الجَوْهَرِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو عُمَر بن حَيَّوْيَه، قال: أخْبرنا أبو الحُسَيْن بن المُنَادِي، قال: أُخْبِرتُ عن سُلَيمان بن شُرَحْبِيل الدِّمَشْقِيّ، عن إسمَاعِيل بن عَيَّاش، وذَكَر باقي الإسْنَاد والخَبَر كما سُقْنَاهُ إلَّا أنَّهُ قال فيه: لا عِلْم عندكم ولا فهم، وليَنْشونَّ من عَقبِكُم دُهْم، وقال: ويَسْتَنُّونَ بدين الدَّيَّان، يُشرفون البُنْيان، وقال: ثمّ يَلي من بعده الأَمِين النَّاصِر، فيَخْلطُ (h) الرَّأي بحَزْمٍ باهر، ثمّ يلي من بعده إمرءٌ مُنَاكِر، يُظْهر في المَدَائِن العَسَاكِر. فقد ذَكَرَ في هذه الرِّوَايَة عَليًّا ثمّ مُعاوِيَة.
قُلْتُ: والجَبُّوْلُ قَرْيَةٌ كبيرةٌ من قُرَى حَلَب في طَرف نُقْرَة بَني أَسَد والقُرْب من بَرِّيَّة خُسَاف، في أرْضها يَجْمد المِلْحُ ويُجْمَع، وبينها وبين الفُرَات سَبْعَة فَرَاسِخ.
(a) البداية والنهاية: تلف.
(b) البداية والنهاية: لقتل.
(c) في متن الأصل: ومهلك، وصوبه في الهامش بالمثبت، ويوافق ما في البداية والنهاية.
(d) البداية والنهاية: تبور.
(e) كذا في الأصل وكتب فوقها: "كذا".
(f) البداية والنهاية: أهل الفسوق والريب.
(g) البداية والنهاية: حيا.
(h) الأصل: فتخلْطُ.
سَيَّر إليَّ ابن تَيْمِيّة خَطِيبُ حَرَّان کتابَ بَابَا الصَّابِئ الحَرَّانيّ، يَشتَمِلُ على سَبْع مَقالاتٍ، ذَكَرَ فيها ما يكُونُ في الأزْمان، وقيل إنّه تكلَّم بذلك قبل هِجْرة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بثلاثمائة سَنةٍ وسَبْعةٍ وستِّين سنةً.
قال في المقالةِ الرَّابِعة: والأسْرار الخَفِيَّة ظهرَتْ لي وانْزَعَجَتْ نَفْسِي، ورُعب قَلْبي أنْ أتكلَّم، وتكلَّمْتُ بغير اخْتيارِي لأنّي أُمِرْتُ من رَبّ الأرْبابِ بذلك حتَّى أُعَرِّفَ وأُبَيّن ماذا يكون في الأزْمَان، وذلكَ أنَّه تَنْتَبِهُ الحَبَشَةُ الّذين هُم أفاضِلُ أهْلِ القِبْلَة، ويَخْرج مَلِكُهم الّذي اسْمُهُ حَسَن بقُوَّة عَظِيمَة، ما لا يَحْوِيْهِ عَدَدٌ من كَثرتهِ مَعَ دَوَابّهم وسَوَادِهِم، وأعْوَادُهُم كالحَيَّات، ودَوَابُّهم كالسِّبَاع تَعج، ويكون خُرُوجهم من قِبْلةِ المَغْرب، ويكُون عددُهُم كعَدَدِ الرَّمْل والجَرَادِ، ويكون أشَدّ شَرًّا من الحَيَّات، والشَّرَابِيْش
(1)
التّي على رُؤوسهم من الخُوْصِ، وهم فارغُونَ من المَال والنَّفَقَة، ولا في قُلُوبهم رحمةٌ لوَالدٍ ولا وَلَد، وتَجْتَمع أجنادُهُم وجُيُوشُهُم كالجَرَاد الّذي يَطِيرُ، ويَعْبر البِلادَ الخَرِبَةَ، ويصَل إلى البِلَادِ العَامِرَةِ، ويَمْلِكُونَ بلاد النُّوْبَةِ وبلَاد مِصْر، ويَصْعَدُونَ من هُناكَ إلى دِمَشْق ويُفْسِدُونَها ويُخَرِّبُونَها، ويأتي نَهْر الأُرْدُنّ ويَعْبُر على فِلَسْطين، ويَنْزلُ على الفُرَاتِ، وتَأْمن مَدِينَةُ الأحْبار المُسَمَّاة مَابُوْغ -هي حَلَب- وحينئذٍ يأتي إليكِ يا حَرَّانُ، وأنتِ أيضًا تكُونين في الأمْن والسَّلامَة، وأهلُ السَّماءِ فيك يَسْكُنونَ، ويرفع شَأنُ أهْلِ حَرَّان إلى المَنْزلِة العُلَيا ويُحاربُون ويَقْهَرُونَ البَرَّ والبَحْرَ بعقْدٍ قَوّي، ويطرد واحدٌ لمائةٍ وعشرين، ويَطردُ عشرُون لألفين، وكُلّ مَنْ لا يَقْبَلُ منهم ويَسْمَعُ كلامَهُم يَقْتلُونَهُ.
وذَكَر في المقالةِ السَّادِسةِ وقال: فَصْلٌ، إذا ما انْتَهَتْ مَملَكَةُ الأهْوَاز، يكُون قتالٌ عظيمٌ، ويُسْفَكُ في الأرْض دَمٌ عظيمٌ، ويَكُون في المَغْرب قِتالٌ شَدِيدٌ مُدَّة
(1)
الشَّربش: هدب الثوب. (تاج العروس، مادة: شربش)، والشربوش غطاء للرأس.
أيَّام، ومَعَ هذا فالوَيْلُ لكم يا مُدن بَهِيَّات، والوَيْل للقَرَايَا والمُدن الصِّغَار من شُعَب نجسَه يُنَجِّسُونَ الأرْض بأعْمَالِهم، وهم الّذين لا يَعْرفُونَ اللهَ ولا يُوقِّرون أهْل السَّماءِ، سَلَكُوا طَرِيْقَ الشَّهَوات الرَّدِيَّة وزَاغُوا عن الحَقّ، فسَخط عليهم أهْل السَّماء، الوَيْل لك يا دِمَشْقُ البَهِيَّة يا مَدِينَةً حَسَنَة المُلْكِ، كيف تُخَرَّب أسْوَارك، وتُهْدَم أسْوَاقُكِ إلى الأرْض، والوَيْلُ لك يا بَعْلَبَكّ يا مَدِينَةَ الشَّمْس، كيفَ تَنْتَقِلُ قُوَى الطِّلَّسْمات الّتي فيك إلى جَبَل البَاجُوك -وهو الجَبَلُ الشَّرْقيّ من حَرَّان- ويتبَدَّل بَخُورُك وعطرك وقَرَابينُك، وتُصَيِّرُك إلى الخَرَابِ حتَّى تُسْمَعَ أصْوَاتُ الهَدْم فيك، وأنت يا مَابُوْغ -وهو حَلَب- مَدِينَةُ الأحْبَار، يأتي رَجُلٌ سُلْطانٌ ويَحُلُّ بكِ، ويُعَلِّي أسْوَارَكِ، ويُجَدِّدُ أسْوَاقكِ، ويَحُوْزُ المَعِيْن الّذي فيكِ، وبَعْدَ قَليلٍ يُؤْخَذُ منكِ، فالوَيْلُ لكِ، وما تلتَقِيْنَ من القِتَالِ والحُرُوب، والوَيْلُ لكِ يا سُمَيْسَاط.
وقال: فَصْلٌ، وبالحَقِيْقةِ أقُول: إنَّ الرُّهَا تَخْربُ، والماءُ الّذي أُخِذَ منها يَرْجع إلى حَرَّان، وتخربُ سُمَيْسَاط، والماء الّذي لكُوزَن يأْخُذُونَهُ إلى القِبْلَةِ.
وقال في هذه المَقَالةِ: وتُشَالُ حِجَارَةُ الرُّهَا إلى حَرَّان، ويُبْنَى بها لحَرَّان سُور وفَصِيْل، وفي الباب الّذي بين الشَّرْق والقِبْلَةِ يُبْنَى بَيْتٌ للعِبادَةِ، وذلك بأمْرٍ من قُوَّة سَيِّدنا الأعْمَى، وهو أمَرَني أنْ أُعَرِّفَكُم بهذه الأشياءِ، وأقُولُ إنَّ مَابُوْغ -وهي حَلَبُ- تَسْتَعِيْرُ من الأحْبَارِ، وتكُون الأمْنُ والسَّلامَةُ على جميع العَالَم.
وقد ذَكَرْنَا هذا الفَصْل فيما تقدَّم
(1)
، وأنَّهُ انْهَدَم مَوضِعٌ في سُور حَرَّان في سَنَة اثْنتين وخَمْسين وسِّتمائة، فاحْتيج إلى أنْ نُقِلَ إليه من سُور الرُّهَا حِجَارَة بُنيَ بها ما انْهَدَم من سُور حَرَّان، أخْبَرَني بذلك خَطِيبُ حَرَّان، ونَقَلْتُ ما نَقَلْتُهُ من هذا الكتاب على ما فيه من اللَّحْن، ورِكَّة الألْفاظ.
(1)
لم يرد في هذا الجزء، وهو في الأقسام الضائعة من أول الكتاب.
بابٌ في ذِكْرِ مَنْ نَزَل من قَبَائِل العَرَب بأعْمال مَدِينَة حَلَب، ومَنْ كان قَبْلهم في سَالِف الحِقَب
قَرَأتُ في كتاب جَمَاهِير أنْساب اليَمَن
(1)
: قال أبو القَاسِم الحَسَنُ بن عليّ الكُوفِيّ: حَدَّثَنا أبو سُلَيمان دَاوُد بن عَبْد اللهِ اليَمَانيّ، قال: حدَّثنا أحمدُ بن القَاسِم، قال: حَدَّثَنا الفَضْل بن العبَّاس الأنْصاريّ، عن أبيه، قال: أُتِيَ مُعاوِيَةُ بن أبي سُفْيان بشَيْخٍ كبيرٍ قد سقَطَ حاجبَاهُ على عَيْنَيهِ من الكِبَر فما يَنْظُر إلَّا ما رفَع باليَدِ، فسَألَهُ عن أشياءَ ذَكَرَها، وذَكَرها له، وذَكَرَ لهُ وقال: فكانتْ أرضُ الشَّام لسَام بن نُوح وبه سُمِّيَتْ شَامًا، فحوَّلَهُم عنها وَلَدُ حَام.
وذَكَرَ من وَلَدِ حَام كَنْعَان بن حَام، وقال: ووَلَد كَنْعَانُ بن حَام: صَيْدُون بن كَنْعَان، وَحَاث بن كَنْعَان، واليَبُوسيّ بن كَنْعَان، والرّوَّاديّ بن كَنْعَان، والصِّمَاري ابن كَنْعَان، والحَمَايّ بن كَنْعَان، والحَوَانيّ بن كَنْعَان، حَلَّ هؤلاء كُلّهم -وهم بنُو كَنْعَان- السَّواحِلَ من أَنْطاكِيَة، والسَّاحِل كُلّه من صَيْدَا وطَرابُلُس وحِمْص وأرْض القُدْس والغَوْر إلى عَمَل البَثَنِيَّة، وهُمُ الّذين قَتَلَهم يُوْشَع بن نُوْن، وأجْلَاهُم إلى بلادِ المَغْرب.
وقال: وذَكَرَ لهُ وَلَد يَافِث، فقال: يَافِث بن نُوح وُلِد له سَبْعة ذكُور منهم: جُوْمَر بن يَافِث، ومَأْجُوج بن يَافِث، ومَاذِي بن يَافِث، ويَاوَان بن يَافِث، وثُوبان بن يَافِث، ومَاشِخ بن يَافِث، وتِيْراس بن يَافِث.
قال: وولد يَاوَان بن يَافِث: أيَّاس والمِصِّيْصَة وطَرَسُوس وأَذَنَة. والرُّوم من ولد هؤلاء، وحَلُّو بلَادَهُم فعُرِفَتْ بأسْمَائهم على تُخُوم الرُّومِ: طَرَسُوس، وأَذَنَة، والمِصِّيْصَة، وأيَّاس.
وذَكَرَ لي بَعْضُ الإِسْرَائِيليِّين أنَّ الرّوَّاديّ بن كَنْعَان هو الأرْوَادِيّ.
(1)
تقدم لابن العديم النقل عن هذا الكتاب الذي جاء غفلًا من اسم المؤلِّف.
وقَرَأتُ في نُسْخةٍ مُعَرَّبَة من التَّوْراة
(1)
؛ عُرِّبتْ للمَأْمُون، قال: وبنو يَاوَان: أيَّاس، وطَرَسُوس، والمِصِّيْصَة، وأَذَنَة.
قُلتُ: والحَمَايّ بن كَنْعَان إليه تُنْسَب حَمَاة.
وقَرَأتُ في كتاب دِيْوَان العَرَب، وجَوْهَرَة الأدَبِ، وإيْضَاح النَّسَب، تأليفُ مُحمَّد بن أحمد بن عَبْد الله الأسَدِيّ النَّسَّابَة
(2)
، قال: وقَرَأتُ في التَّوْراة
(3)
أنَّ العِيْصَ لمَّا وُلِدَ لهُ هؤلاء الشُّعُوب بأرْضِ سَاعِيْر، وكان مَعَ أخيهِ وأهْل بَيْتِه،
(1)
العهد القديم: سفر التكوين 10: 4، سفر أخبار الأيام الأول 1: 7، وفيه:"وبنو ياوان: أليشة وترشيش وكتيم ودودانيم". وإحالة المؤلِّف تعود على باب ضائع من أول الكتاب.
(2)
ذكر حاجي خليفة (کشف الظنون 1: 800) الكتاب ومؤلفه، ولم يزد على ما هو وارد أعلاه، ولم يؤرِّخ لوفاة مؤلفه، وجاء العنوان عنده:"ديوان العرب وجوهرة الأدب في إيضاح النسب".
ولعل مؤلفه هو ذاته الذي ينقل عنه الحسين بن علي الوزير المغربي (ت 418 هـ) في كتابه أدب الخواص، وسماه:"الهاشمي النسابة من أهل حلب"، وذكر ما يشي باتِّصاله به:"وكان هاشميِّنا الحلبيّ النَّسَّابة يقول .. ". (انظر أدب الخواص 134، 147)، وإذا ما قدرنا إقامة الوزير المغربي بحلب في سنوات نشأته الأولى وتنقله فيما بعد بين الشام ومصر فيمكن الميل إلى أن النسابة الهاشمي هو ذاته الذي عناه ابن العديم، فيكون النسابة الأسدي من أهل القرن الرابع الهجري، ويعضد هذا أيضًا بعض السنوات التي ذكرها في كتابه، ومنها ما يذكره، وسيأتي فيما يلي، من أن نزول بني نمير بالجزيرة في سنة 309 هـ، وأن لعقب صالح بن علي بن عبد الله العباسي أوقافًا حتى سنة 320 هـ، وأن موالي بني صالح بن علي بن عبد الله العباسي لحقوا بمواليهم في النسب في أيامه حتى سنة 320 هـ، كما يؤكده أيضًا حديثه المستفيض عن قبيلة بني أسد -التي ينتسب إليها- وتعداد بطونها دون الإشارة إلى إمارة بني مزيد الأسديون في الحلة والتي استمرت نحو قرن ونصف (403 - 545 هـ). وأيضًا فلم يُشر عند حديثه عن القبائل القيسية القاطنة في جند قنسرين إلى النزوح الكبير نحو الجزيرة الذي حدث بحدود سنة 358 هـ. انظر: ابن حوقل، صورة الأرض ص 228.
ونقل عنه ابن خلكان وسماه: محمد بن أحمد الأسدي النسابة، ولم يذكر عنوان کتابه. (وفيات الأعيان 2: 117؛ في ترجمة ناصر الدولة الحمداني).
وإضافة إلى النقول الكثيرة والنصوص الطويلة التي نقلها ابن العديم منه، وهي التي أقام هذا الفصل عليها، فقد نقل عنه أيضًا في تضاعيف: ترجمة إسحاق الأنطاكي، وترجمة إسحاق بن قضاعة، وترجمة أبي رمادة الضبي، وجميعها تأتي في مواضعها من الترتيب على حروف المعجم.
(3)
العهد القديم: سفر العدد 24: 18، سفر التثنية 2: 5، 12.
وكَثُر مالُهُما وأوْلَادُهُما، وضَاقَتْ عليهم الأرْضُ، فلم يَزَالُوا بتلكَ الأرْض إلى أنْ خَرَجَ مُوسَى ببني إِسْرَائِيل، فاجْتازَ بهم، ودَامَ حَرْبُهم، ونَهَاهُ رَبُّ العالَمين عن ذلكَ، فأخْبَره أنَّ تلك الأرْض دَفَعَها إلى العِيْص ووَلَده مِيْراثًا، ولم تَزل المُشَاحَنَةُ والبَغْضَاء بين وَلَد يَعْقُوبَ والعِيْص ووُلدهم ومُلُوكهم، ولم يَزَل وَلَدُ العِيْص بتلك الأرْض يَقْتَتلُونَ إلى أنْ قَوِيَت وُلْدُ يَعْقُوب بالمُلْكِ والسَّعَة.
كَذَا يقُول الكتابُ، إلى عَصْر دَاوُد فَغَزَاهُم ومَلكَهم، وصَار الآدَمِيُّونَ عَبِيْدًا وإمَاءً لآل إِسْرَائِيل، إخْوَتهم، وتَفَرَّقَ مَنْ بَقي منهم في البِلَادِ، فمنهُم مَن دَخَل بَلَد إسْمَاعِيْلَ عَمّهم، ومنهم مَنْ سَار نحو الشَّام فدَخَلُوا على الأُمَم واخْتَلَطُوا بهم، ومنهم مَنْ نَزَل إلى نحو العِرَاق وبلاد الجَزَائر وأطْراف البَرِّ مثل الرُّصَافَة وما وَالَاهَا، فهُم بها إلى اليَوْم، وضَاع نَسَبُهُم في الشُّعُوب وليسَ لهم حِفظٌ.
وأمَّا مَنْ نَزلَ من قُرَيْش بحَلَب وأعْمالها، فمن بني هاشِم: صالح بن عليّ ابن عَبْد الله بن عَبَّاس، نَزَل ظاهِر حَلَبَ، وابْتَنَى بهِ قَصْره المَعْرُوف ببُطْياس وكان على الرَّابِيَةِ المُشْرِفَة على النَّيْرَب من جِهَة الغَرْب والشَّمَال، وكان عن يَسَار المُتَوَجِّه من حَلَب إلى النَّيْرَب، ومَوضِع إصْطَبْلهِ عن يمين المُتَوَجِّه والطَّريق بينهما، ودَثَرَ القَصْرُ ولم يبقَ منهُ إلَّا الآثار، ويَجِد النَّاس في مَوضِعه شيئًا من الفُسَيْفِساء وكسُور الرُّخَام.
ووُلد لصَالح عامَّة أوْلادِه به، وبَقي من أوْلاده عِيسَى بحَلَب بعده، ووقفَ بها وُقُوفًا على ولدهِ، فوَلده بحَلَب إلى زَمننا وأوْقافُهم عليهم، وَسَنَذْكُر إنْ شَاءَ اللهُ صَالِحًا وولده
(1)
في كتابنا هذا.
(1)
سقطت ترجمة صالح بن علي العباسي وولده عيسى من الكتاب بضياع بعض الأجزاء، وبقيت تراجم آخرين من أبناءه منهم: إسحاق (الجزء الثالث) وإسماعيل (الجزء الرابع)، وتراجم بعض أحفاده من بني عبد الملك وإبراهيم.
ونَزَل من ولده عَبْدُ المَلِك بن صالح بمَنْبج، وابْتَنَى بها قَصْرًا وبُسْتَانًا، وولده إلى اليَوْم بمَنْبج، وبُسْتان القَصْر بأيْدِيهم إلى اليَوْم.
قال النَّسَّابَةُ مُحَمَّد بن أحمد بن عَبْد الله الأسَدِيّ في كتاب دِيْوَان العَرَب: وأمَّا صالح بن عليّ بن عَبْد الله بن العبَّاس؛ فأُمُّه يُقالُ لها: سُعْدَى، وهي أُمّ ولَدٍ يُعرف ولدهَا ببني سُعْدَى، وأنَّهُ طَلعَ إلى الشَّام بأرض حَلَب فولد هناك سَبْعَة عَشر ذكَرًا من ولدِها، منهم بِظَاهِر حَلَب ومنهُم بحَلَب، والعَقِب في العَشَرة إلى اليَوْم: الفَضْل ابن صالح، وإسْمَاعِيْل بن صالح، وعِيسَى بن صالح، وعليّ بن صَالح، وعَبْد المَلِك بن صالح، ويَعْقُوب بن صالح، وسُلَيمان بن صالح، ودَاود بن صالح، وإبْرَاهِيْم بن صالح، وعَبْد الله بن صالح وغير ذلك، كُلّ واحدٍ منهم قد ولد بَطْنًا، وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر.
وأمَّا ولد صالح؛ فهو ممَّن عَلَا أمْرُهُ في بلَد حَلَب، وَعظم قَدْرهُ، ومَلَكَ منها الضِّيَاع والعَقَار والعَبِيْد مثل: صَبَّاح، ومَطْرف، ولُؤْلُؤ، وبَدْر، وغير ذلك من العَبِيْد، حتَّى لَحِقُوا مَوَالِيَهُم في النَّسَب.
قال: وعَقِبُهم إلى يَوْمنا هذا لاحِقٌ بهم، عليهم الوُقُوفُ، وُقُوف مَوَالِيهِم مثل الزَّامِر
(1)
وغيره بأرْض دِمَشْق وغير ذلك من أرْض الشَّام إلى سَنَة ثلاثمائة وعشرين، ثمّ غلب على الأمْر غيرهم.
قُلتُ: ومن أوْقاف مَوَالِيهم وُقْف بني فَضَّال، وبني الصُّفرِيّ، والطَّشْتيّ، كُلّ هؤلاء من مَوَالِي صالح وبَنِيْه، وعَوامُّ حَلَب ورَعَاعُهَا يقولونَ: إِنَّ وَقْف الزَّامِر وَقْفٌ على وَلد الّذي زَمَرَ بين يدي رأس الحسُين عليه السلام، ووقْف الطَّشْتيّ (a)
(a) الأصل: الطستي، وتقدم قبله بالشين المعجمة.
_________
(1)
لم أقف على ذكر لهم، ويرد بعده أنهم من بني الزامر الذي زمر عند رأس الحسين عليه السلام.
على الّذي حَمَلَ رَأسه في الطَّسْت، ووَقْف الصُّفريَّة على بَني الّذي صَفَر بين يَديه، ووَقْف بني فَضَّال على بَني المُتَفَضِّلة، وهي امْرأة أبدَتْ سوءَتها لرَأسه عليه السلام حين قدمَ حَلَب أنَّه (a) يَطُوفونَ به، وهذا لا أصْل له ولا صِحَّة، والصَّحيحُ ما ذكَرْناهُ.
ونَزَلَ من ولد عَبْد المَلِك بن صالح بأَنْطاكِيَة الفَضْل بن صالح بن عَبْد المَلك ابن صالح، فلمّا وَلِيَ سِيْما الطَّويل أَنْطاكِيَة، قَبَضَ عليهِ وعلى وَلده، ودفنَهُما حَيَّين في صُنْدُوقَيْن، فبَصُر رَجُلٌ بالصُّنْدُوق الّذي كان ولد الفَضْل فيه، فَظَنَّهُ مالًا، فَحَفر عليه واسْتخرجه وبهِ رَمَق، وعاشَ بعد ذلك عشرين سنةً ومات.
والمَوْجودونَ الآن بمَنْبج وحَلَب من ولد صالح بن عَليّ: بنو عِيسَى بن صالح، وبنو عَبْد المَلِك بن صالح من نَسْل عَبْد الرَّحْمن بن عَبْد المَلِك بن صالح، وَسَنأتي من أخْبارهم
(1)
ما فيهِ كِفَايَة إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
وأمَّا مَنْ نَزَلَ من بني أُمَيَّة، فهِشَام بن عَبْد المَلِك بن مَرْوَان بن الحَكَم؛ نَزَلَ الرُّصَافَة وبناها واتَّخذها منْزِلًا لَهُ، وبَقي بها ولده بعْدَهُ إلى أنْ زالَت دولةُ بني أُمَيَّة وتَفَرَّقُوا.
ونَزَلَ عُمَر بن عَبْد العَزِيْز بخُنَاصِرَة، واتَّخَذَها مَنْزِلًا إلى أنْ مَات.
ونَزلَ مَسْلَمَةُ بن عَبْد الملِك بن مَرْوَان بالنَّاعُورَة من نُقْرَةِ بني أَسَد، وبَنَى بها قَصْرًا بالحَجَرِ الصَّلْد الأَسْوَد، وآثارُه باقية إلى يَوْمنا هذا، وأدْرَكْتُ منهُ بُرْجًا قائمًا انْهَدَم في زمَاننا، وأخذَ منه حِجَارة كَثِيْرة، وبَقِي أوْلَاد مَسْلَمَة بعدَهُ إلى دَوْلةِ بني العبَّاس، ولمَّا اجْتاز الرَّشِيد بهم، بَرَّهُم ووَصَلهُم مُجَازَاةً لأبيهم، لأنَّهُ كان يُحْسِن
(4) ساقطة من: "ك".
_________
(1)
ترجمة عيسى بن صالح وترجمة أبناء عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح في الضائع من أجزاء الكتاب.
إلى بني هاشِم في أيَّام ولاية إخْوَته، وكان لمَسْلَمَة قُرَى ومَزَارِع بأعْمال حَلَب، اتّخذَها وعَمرها أيَّام إقامته بالنَّاحِيَة المَذْكُورَة، منها الحَانوت وبها ماتَ، وتُسَمَّى في زَمَننا الحاَنُوتَة
(1)
.
وأمَّا سُلَيمان بن عَبْد المَلِك؛ فإنَّه نَزَل دَابِق غَازِيًا، وأقام بها سنين ومات بها، وبَقي من أولاده بناحيَةِ حَلَب بَعْضُهم، فإنَّني قَرأتُ في كتابِ نَسَب بَني العبَّاس، تأليفُ أبي مُوسى هارُون بن مُحَمَّد بن إسْحَاق بن مُوسَى بن عِيسَى الهاشميّ
(2)
، قال: حَدَّثني علِىّ بن عيسَى بن مُحَمَّد، قال: سَمِعْتُ أبي يَقول: خَرَجْنا مع أَمِير المُؤمِنِين هارُون، رضي الله عنه، ونحنُ نُريد أنْ نَغْزُو، فَمَرَرْنا بعَسْكَرنا، ونزلْنا على نَهْرٍ بين خُسَاف وبين حَلَبَ يُقالُ لهُ: سَبْعِين
(3)
، فتحدَّثَ أَميرُ المُؤمِنِين مع قوْمٍ من بَني هاشِم من سَاكِنِي حَلَبَ، وجاءوا بلَغَطٍ من القَوْل، فقال لنا: إنِّي أُريدُ أنْ أنْفَرِدَ اليَوْم في مَسيري فلا يَدْنُو منِّي أحدٌ إلَّا أنت. قال: فمَضَى غير بعيد، فتنَكَّب عن الطَّريق، فَبَصُر برَجُلٍ حَسَن الوَجْه يمشِي خَلْفَ فَدَّانٍ يَحرُثُ عليه وهو يَبْكي، فقَصَدَهُ، فإذا عليهِ فَرْوٌ مَقْلُوبٌ؛ الجِلْدُ على ظَهْرِ جَسَدهِ والصُّوف إلى خَارج، فسَلَّم عليهِ أمِيرُ المُؤمِنِين وأعْجَبَهُ حُسْنُ وَجْههِ، فقال: اسْقِنِى يا فَتَى ماءً، فقال: نَعَم يا سَيِّدِي، فَفَزِع إليه وتَرَكَ الفَدَّان، وقال: تَصِيرُ معي إلى القَريَةِ فأَسْقِيْكَ ماءً باردًا؟ فقال:
(1)
الحانوتة: وتعرف أيضًا باسم: تل الحواصيد، قرية في هضبة حلب في منطقة جبل سمعان بمحافظة حلب، تقع عند بداية السفح الجنوبي لإحدى هضاب جبل الأحص، وتبعد عن تل الصمان مسافة 7 كم باتجاه الجنوب الشرقي. طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 3: 16.
(2)
لم يصلنا كتابه، وتقدم التعليق عليه.
(3)
نهر سبعين: لا وجود للنهر اليوم، ولعله مما كان ينحدر من مياه وادي بطنان التي كانت تشكل نهر الذهب فتنحدر إلى سبخة الجبول، أما قرية سبعين: فهي في سهول حلب الوسطى بمنطقة الباب من محافظة حلب، وتسمى اليوم تل سبعين، أرضها سهلية تنحدر نحو الجنوب الشرقي باتجاه سبخة الجبول، وهي تقع إلى الجنوب الغربي من بلدة كويرس شرقي، على بعد 5 كم، وذكر ياقوت القرية بباب حلب وأنها كانت إقطاعًا للمتنبي من سيف الدولة. انظر: معجم البلدان 3: 185، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 517.
نَعَم، فعَدَا بين يَديه وهارُون يَتْلُوه حتَّى جاءَ القَرْيَةَ، فأخْرَجَ مِفْتاحًا، ففَتح بابًا، وخرجَتْ منه صَبِيَّةٌ ظَاهرَةُ الوَضَاءَةِ يَبِبْنُ عليها سُوءُ الحالِ، وأخْرَجَ قدَحًا فغَسَلَهُ، ثمّ قال: يا سَيِّدِي تَشْربُ ماءً على الرِّيق! هل لكَ أنْ تَنْزل عندِي فتُصِيْب ما حَضَر وتشْرَبَ على أثر طَعامِك؟ فقال: نعم، فأنْزَلَهُ، وأخَذَ فَرَسَهُ فربَطَهُ، وأضْجَعَ عِجْلَةً فذبَحَها، واسْتَخْرج كَبِدَهَا، وأخْرَجَ دَقيقًا من كُوْزٍ له، فدفعَهُ إلى جَارَة له تُصَيِّرُ لَهُ منه فطِيرًا، ومَرَّ إلى الفَدَّان فَحَلَّهُ، وقَدْ شَوَى الكَبِد، وخَرَج الخُبْز من التَّنّور، فقَدَّمَهُ إلى أمِير المُؤمِنِين، وجلَسَ يأكُل معهُ.
قال أبي: ثمّ قام فجاءني من ذلك الفَطِير ومن تلكَ الشَّرَائح اللَّحْم، فقالَ: كُلْ، وعَمد إلى رَيْحانٍ كان على سَطْح بَيْتِهِ فوضَعَهُ بين يَدَيهِ؛ فقال: أتُنْشِدُ من الشِّعْر شيئًا؟ فأنشدَهُ من أشْعَار بني أُمَيَّةَ، وأنْشدَهُ في زَوالِ النِّعَم، فقال له: حَدَّثَني حَدِيثك، فوالله ما وَجْهُكَ بوجْهِ زَرَّاعٍ ولا بوَجْه مَنْ رَبِي في بُؤْس، فأخْبرَهُ أنَّهُ من وَلدِ سُلَيمان بن عَبد المَلِكِ وأنَّ هذه الصَّبِيَّة الّتي معَهُ أُختُه، وأنَّ بعضَ المَسَالِمَةِ خَطَبَها، فأَبَى عليه، وأنَّهُ هَرَبَ فنَزَل ها هُنا، فاسْتَأجَرَهُ وَكيْلُ القَرْيَة بعَشَرة دَرَاهِمَ على أنْ يُفرِدَ له بَيْتًا يكون فيه وفَدَّانهُ وأُخْتهُ، فبكَى هارون وقال: عَمَلٌ صَالح قبْل الغَزْو، فإنَّما النَّصْرُ والتَّمكين بخَوف اللهِ.
وجاءتِ الخُيُول، وحَفَّتْ بالمَوْضع، وقيل: أمِير المُؤمِنِين، أَمِير المُؤمنين! فقال: لا بأسَ عليكَ لَنْ تُرَع، فكَتَبَ إلى الّذي خَلَفَهُ بالإحْسان إلى بَني أُمَيَّةَ، وإدْرَار العَطَاءِ عليهم، ودَفَع إلى مَنْ اشْترَى له القَرْيَة الّتي هُوَ بها.
قال: قال أبي: فرأيتُ أَمير المُؤمِنِين يَبْكى ويقُولُ في سُجُودِه: إلَهى ارْحَمني بقَرابَتي من مُحَمَّد، ولا تجعَل مُحَمّدًا خَصْمِي، ومُوَبِّخى، ولا تُؤاخِذ الأُمَّة بذنُوبي، ثمّ صَلَّى الظُّهْرَ، فرَكِبَ، فنَزَلْنا حَلَب بعدَ المَغْرب، وهارُون مُنْكَسِر مُتَخليًّا بنَفْسه.
قَوله: وإنَّ بعْضَ المَسَالِمَة خَطَبَها، يُريدُ بعضَ بَني مَسْلَمَة: بن عبْدِ المَلِك، وكانتْ منازلهم بالنَّاعُورَة قَريبًا من سَبْعِين.
وقَرَأتُ في دِيْوَان العَرَب، تأليفُ مُحَمَّد بن أحمد الأسَدِيّ النَّسَّابَة، قال: وأمَّا النَّضْرُ بن كِنَانَة -يعني ابن خُزَيمَة بن مُدْرِكَة- فهو قُرَيْشٌ، وقَبَائِل قُرَيْشٍ كُلّها من وَلدِه، وعَدَّ جَمَاعَةً منهم.
وقال: وبنُو عَوْف بن حَرْب بن خُزَيمَة بن لُؤَي بن غَالِب فتشاءَمَتْ وتَجَزَّرَتْ، ومنهم بأرْضِ حَلَبَ خَلْقٌ كَثِيْر، أهلُ مَدَر لا وَبَر، وهُم أهْلُ ذَاذِيْخ
(1)
وكفر بِطِّيْخ
(2)
وغيرها من الضِّيَاع بأرْضِ معرَّة مَصْرِيْن، وهي تُعْرفُ بهم: ضِيَاع العَوْفِييّن إلى اليَوْم.
قُلتُ: ونسبُهم بنُو عَوْف بن حَرْب بن خُزَيمَة بن لُؤَي -وفيهِ يَجْتَمِعُونَ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم بن غَالِب بن فِهْر بن مَالِك بن النَّضْر بن كِنانَةَ بن خُزَيمَة بن مُدْرِكَة بن إلْيَاس بن مضَر بن نِزَار.
ونَزَلَ بأعْمال حَلَب بعض العَمَالِقَة، وقد ذَكَرْنا فيما تقدَّم
(3)
أنَّ حَلَب إنَّما سُمِّيت بحَلَب بن المهْرِ من ولدِ جَاب (a) بن مكنَّف (b) من العَمَالِقَة، وقيل فيهِ: حَلَب بن مهْر بن حيص بن عِمْلِيْق.
(a) عند ياقوت: جان وعند كامل الغزي: خاب. معجم البلدان 3: 282، نهر الذهب 1:12.
(b) مهملة في الأصل، وفي "ك": مكيف، والمثبت مع ضبطه من ياقوت: معجم البلدان 2: 282.
_________
(1)
ذاذيخ: وتسمى اليوم داديخ بمهملتين، تقع على السفوح الشرقية لجبل الزاوية، ونتبع ناحية سراقب بمحافظة إدلب، وتبعد عن بلدة سراقب مسافة 13 كم، إلى ناحية الجنوب الغربي، وعرَّفها ياقوت بأنها قرية قرب بلدة سرمين من أعمال حلب. ياقوت: معجم البلدان 3: 3، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 296.
(2)
كفر بطيخ: قرية على السفوح الشرقية لجبل الزاوية بمحافظة إدلب، إلى جانب داديخ المتقدمة، تقع جنوب غرب بلدة سراقب على بعد 14 كم. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 43.
(3)
الإحالة على باب ضائع من أول الكتاب، في تسمية حلب، ونقله عنه الزبيدي (تاج العروس، مادة: حلب)، فألحقناه ضمن الملتقط من الضائع من نصوص الكتاب.
ومنهم عَمرو بن ظَرِب بن حَسَّان بن أُذَيْنَة بن السَّمَيْدَع بن عَامِلَةَ العَمَالِيْق، مَلِك العَرَب بأرْضِ قِنَّسْرِيْن والمشَارف، وبِنْتُهُ الزَّبَّاء واسْمُها نَائِلَةُ بنْتُ عَمْرو بن ظَرِب، مَلكت قِنَّسْرِيْن والجَزِيرَة، وكان لها حُصُون من غرْبيّ الفُرَات وشَرْقيّها، وَسَنَذْكُرهما في مَوضِعهما
(1)
من كتابنا إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
نُزُول بَني أَسَد بن خُزَيمَة بن مُدْرِكَة بن إلْيَاس ابن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عَدْنَان بن أُدّ بن أُدَد بن الهَمَيْسَع ابن نَبْت بن حَمَل بن قَيْذَار (a) بن إسْمَاعِيْل بن إبْرَاهِيْم عليهما السلام
قال مُحمَّدُ بن أحمد بن عَبْد الله بن مُحَمَّد الأسَدِيّ النَّسَّابَة، في كتاب دِيوَان العَرَب، وجَوهَرَة الأدَب، وإيْضَاح النَّسَب: وأمَّا أسَد بن خُزيمَة؛ فهو شَعْبٌ كبيرٌ تَشَعَّبت منهُ قَبَائِل وعَشَائِر وأفْخاذ إلى يَوْمنا هذا.
قال: وإنَّما سُمِّيَ خُزَيمَة؛ لأنَّهُ خَزَم نُور رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولم ينظر (b) من النِّسَاء إلَّا أُمَّ وُلْدِه؛ فوَلَد خُزَيمَة: أسَدَ بن خُزَيْمَةَ، وكِنَانَة بن خُزَيْمَة، والهُون بن خُزَيمَة قَبِيلَة لا شَعْب.
قال: وخصَّ اللهُ بالرِّسَالَة والشَّرَف كِنَانَة دون أخيه أسَد. فأمَّا أسَدُ ابن خُزَيمَة؛ فولد خَمْسَة (c) نَفَرٍ: كَاهِلًا، وهو أَوَّلُ وَلَده، وبهِ كان يُكَنَّى، قَبِيلَة
(a) عند الحازمي: عجالة المبدي 12: قيدار، بالمهملة، وعند ابن خلدون 4: 132: قيْذَر.
(b) كلمة غير واضحة في الأصل.
(c) الأصل: خمس.
_________
(1)
ترجمة عمرو بن الظرب العمليقي وابنته الزَّبّاء ضمن الضائع من أجزاء الكتاب، وانظر عن منزل بني الظرب ابن عمرو: تاريخ ابن الوردي 1: 95 وابن خلدون: العبر 4: 56 - 61.
لَطِيْفَةٌ، وعَمْروا قَبِيلَة مُتَوَسِّطة، وصَعْبًا قَبِيلَة، وَحَملة (a) قَبِيلَة، وذُوْدَان (b) قَبِيلَة. ومن ذُوْدَان تَفَرَّعَتْ قَبَائِلُ أسَد بن خُزَيْمة وعَمَائِرُها وأفْخَاذُها إلى يَوْمنا هذا.
فولد ذُوْدَانُ: ثَعْلَبَةَ وغَنْمًا قَبِيْلَتَيْن عِظَامًا في العَدَدِ والمَنَعَة، فأمَّا غَنْم فإنَّها حَالفَتْ ولَدَ عَبْدِ مَنَافٍ وأقامَتْ بالحَرَم ولم تَشْخَص مع بَني أبيها؛ وذلك أنَّ بَني أَسَد شَخَصَتْ عن الحَرَم لحَرْبٍ جَرى بينها وبين اليَمَن، فنَزَلَتْ بئْرَ (c) فَيْد بموضِع يُقالُ لهُ إهَالَة
(1)
، فأقامُوا بتلكَ الأرْضِ مُدَّةً طَويلةً، ثمّ انْتَشَرُوا في الأرْضِ، فمنهم
(a) كذا في الأصل و "ك"، ومثله في بعض أصول جمهرة ابن حزم (190)، واعتمد المحقق: حُلْمة كما في كتاب النسب لابن سلام الورقة 12 أ، ومختلف القبائل لابن حبيب 326، والعقد الفريد لابن عبد ربه 3: 340، ونهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي 220.
وكتاب النسب لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ)، مطبوع بتحقيق مريم الدرع، أعدته
لنيل درجة جامعية بإشراف الدكتور سهيل زكار، ونشر الكتاب بدمشق (دار الفكر 1989 م)،
ولسوء هذه النشرة وما وقع فيها من تحريف وتداخل في النصوص فقد تجاوزنا عنها واعتمدنا
على النسخة المخطوطة الوحيدة (مكتبة مغنيزيا بالأناضول/ رقم 6594)، وانظر عن بعض ما
وقع في المطبوعة من أخطاء وتحريف: حمد الجاسر: كتاب النسب لأبي عبيد في مطبوعة محرفة،
مجلة العرب، السنة 28، ع 5، 6، 1413 هـ / 1993 م، ص 293 - 305.
(b) تتَّفق أغلب المصادر على أنه بالدال المهملة، واشتقاقه عند ابن دريد (كتاب الاشتقاق 179): من دُوَادٍ وأشْباهه، وقد أثبته ابن العديم بالمعجمة في أغلب المواضع التي نقلها عن النسَّابة الأسدي، أمانةً منه في النقل، وجعل النقطة - أحيانًا تحت الذال تنبيهًا على الاختلاف فيه، واعتمد التسمية بالدال عندما يكون القول قوله. وقد أبقينا على رسمه كيفما جاء في الأصل.
(c) كذا في الأصل ويعيد ذكره فيما بعد: بئر إهالة، ولم أقف على إشارة لبئر أو نحوه فيما كُتب عن فَيْد، فلعله تصحيف: برّ فيد، وفيد: منزل في طريق الحاج تقع في منتصف المسافة بين مكة والكوفة. ياقوت: معجم البلدان 4: 282.
_________
(1)
إهالة: ذكرها ياقوت في معجمة اعتمادًا على ورودها في شعر لهلال الحازمي، ولم يُعيِّن موضعها. معجم البلدان 1:283.
مَنْ أخَذَ نحو العِرَاق وأرضها فتديَّرُوها إلى يَوْمنا هذا، أرض الطِّيب
(1)
وقُرْقُوب
(2)
وبَرِّ الرَّمْلَة
(3)
وما وَالَى تلك الأرْض، وهُم أهْلُ وبَر ومَدَر، عالَمٌ كَثِيْرٌ، ومُلْكٌ عَظِيم؛ ومنهم مَنْ أخذَ نحو بلاد الشَّام فقَطن بلادَ دِمشْق، وهم أصْحَابُ مَدَر لا وَبَر، ومنهم منْ نَزَلَ أرضَ الكُوفَة إلى أرض البَصْرَة إلى الأحْسَاءِ وما وَالَى تلكَ الأرْض، ومنهم مَنْ أخذَ نحو نَهْر كَرْبَلَاء، ومنهم مَنْ جَزَّر، ومنهم مَن أخذَ نحو الشَّام السُّفْلَى؛ نحو أرْض حَلَب وما والَاها، فهُم بها إلى اليَوْم أهل مَدَر ووَبَر، وبهم تُعْرفُ تلك الأرْض فيُقالُ نُقْرَة بَني أَسَدٍ طَرف البَرّ، وكان نُزُولهم سَنَة سَبْع ومائتين للهِجْرة، فهُم بها إلى اليَوم.
قُلتُ: وفي زَمَننا لَم يبقَ من بَني أَسَدٍ في بَلَد حَلَب مَنْ يَنْزل بُيوتَ الوَبَر بل مَساكنهم المَدَرُ لا غير.
قال النَّسَّابَةُ: فمن قَبَائِل غَنْم بن ذُوْدَان بن أسَد: بَنُو دُهْمَان بن عَامِر بن غَنْم، وبنُو صالح، وهو قُلَيْع بن عَامِر؛ قَبِيلَةٌ، كانَ مَنْزلهُم الأَحَصّ طَرف البَرّ، وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر، وبنُو حَبِيْبَة بن عَامِر؛ بَطْنٌ لا قَبِيلَة، وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر، وكان مَنْزلهُم نحو بلادِ الشَّمَال بدَيْرٍ يُقالُ لهُ دَيْر قُزْمَان (a) .
(a) ضَبْطُهُ بحسب ما جوَّده به ابن العديم في غير هذا الموضع، ولم يذكره ياقوت في معجمه ولا في كتابه الذي رصد فيه الديارات "كتاب الخزل والدأل"، وإضافة لتحديد ابن العديم لموضعه بقرب عزاز من شماليها وشرقيها، فقد أورد في ترجمة الشاعر أبي القاسم بن عبدان المنبجي (الجزء العاشر) نقلًا عن كتاب الديرة للشمشاطي قوله:"دير قزمان شمالي حلب ما بين جبرين وتل خالد".
_________
(1)
الطِّيب: بليدة بين واسط والأهواز، يغلب على أهلها النبط. البلدان لليعقوبي 277، معجم ما استعجم 3: 899، ياقوت: معجم البلدان 4: 52 - 53، تقويم البلدان لأبي الفداء 314.
(2)
قُرْقُوب: بلدة متوسطة بين واسط والبصرة والأهواز، كانت تعدّ من أعمال كسكر. ابن حوقل: صورة الأرض 256، الإدريسي: نزهة المشتاق 1: 396، ياقوت: معجم البلدان 328، أبو الفداء: تقويم البلدان 314.
(3)
الرملة: الرملات كثر، وأقربها للمراد الرملة التي كانت محلة نحو شاطئ دجلة مقابل الكرخ ببغداد. ياقوت: المشترك وضعًا 210، معجم البلدان 3:96.
قُلتُ: ودَيْر قُزْمَان هذا قريبٌ من عَزَاز من شماليّها وشَرقيّها، وهو مَذْكُورٌ في كُتب الدِّيَارات، وسيأتي شيءٌ من ذِكْره
(1)
في كتابنا هذا إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
قال: وأمَّا مَالِك بن غَنْم فوَلد: رَبِيْعَةَ؛ بَطْنٌ ومَنَازلهم بأذيذ عاربة (a) وما وَالاها، وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر، ورَبِيْعَة يُعْرفُ بالكَذَّاب.
قال: وأمَّا كَثِيْر (b) بن غَنْم بن ذُوْدَان بن أسَد، فهُم مُحالِفُونَ لبني عَبْد مَنَاف بن قُصَيٍّ، وهُم أصْهار رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، منهم زَيْنَبُ زَوْجُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهي زَيْنَبُ بنْتُ جَحْش بن رِئَاب بن يَعْمَر بن صَبْرَة (c) بن مُرَّةَ بن كَثِيْر بن غَنْم بن ذُوْدَان بن أسَد.
قال: وبنُو كَثِيْر قَبَائِل، وهُم آل رِئَاب، ومَنازلهُم بأرْض الشَّام بحوْرَان.
قال: وسَلِيْط بن رِئَابٍ ومنازلهُم بأرْض حَلَب طَرف البَرّ من الأَحَصّ، وهم أهْلُ مَرْيَميْن
(2)
وما وَالَاها، وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر.
(a) كذا في الأصل واضحة الرسم والإعجام، ولم أقف على ذكر لها.
(b) مهملة في الأصل، وتأتي بعد على هذا النحو، وعند مصعب الزبيري: نسب قريش 19 وابن حزم: الجمهرة: 191: كبير.
(c) الأصل: صبرة، والمثبت من مصعب الزبيري: نسب قريش 19، وابن حزم: جمهرة 191.
_________
(1)
يذكره في ثنايا ترجمة: أبي العباس التنوخي المنبجي، وأبي القاسم بن عبدان المنبجي، وابن جناح؛ كلها تراجم في الجزء العاشر من الكتاب.
(2)
مريمين: قرية في جبل سمعان تتبع منطقة عفرين بمحافظة حلب، تقع في أقصى جنوب هضبة كلسية من هضاب الجزء الشمالي لحبل سمعان، وهي إلى الشمال الشرقي من مدينة عفرين على بُعد 9 كم، وذكر ياقوت قريتين بهذا الاسم: واحدة خارج حمص، والأخرى من قرى حلب مشهورة، وضبطها بكسر الميم الأولى. معجم البلدان 5: 119)، زبدة الحلب 1: 245، 394، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 219.
قال النَّسَّابَةُ: وقد كانَ منهم بأرض الشَّام -أعْني بَني غَنْم- بأرض الحَاتِميَّةِ
(1)
والمَلُّوحَةِ
(2)
وما والَى تلكَ الأرض بَطْنٌ يُقال لهُ سُلَيم، وكان سَيِّدًا [جَوادًا](a) عظيمًا، وله بَطْنَان: عَبْد المَلِك وحَاتِم، وهُم أهْلُ مَدَر لا وبَرَ، مَنْزلهُم مع إخَوَتهم بني غَنْم بأرض الحَاتِميَّة والمَلُّوحَة.
قُلتُ: الحَاتِميَّةُ -واللهُ أعْلَم- مَنْسُوبَة إلى حَاتِم بن سُلَيم هذا، واللهُ أعْلَم.
قال النَّسَّابَةُ: وقَبَائِل ذُوْدَان بن أسَد كان العزّ فيهِ دون إخْوَته، فقَبَائِل ذُوْدَان: بنو فَقْعَس، رَهْط طُلَيْحَةَ بن خُوَيْلِد بن نَضْلَة بن الأشْتَر بن حَجْوَان (b) بن فَقْعَس، الّذي ادَّعَى النُّبُوَّة بعدَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عَظِيم القَدْر في العَرَب، وأخُوهُ حبَالُ بن خُوَيْلِد.
وقَبَائِل فقْعَس بن طَرِيف بن حَجْوَان قَبِيلَةٌ كَبيرة أيضًا، وبنُو ديَّان
(3)
قَبِيلَةٌ كبيرَةٌ، وبنو نُفَيْل قَبِيلَةٌ عَظِيمَة، وبنو مُنْقِذ (c) قَبِيلَةٌ كبيرةٌ، وبنو حِذْيَم (d) قَبِيلَةٌ
(a) كلمة غير مقروءة في الأصل، وفي "ك": القرية، والمثبت على التقريب.
(b) في الاشتقاق لابن دريد (103 - 104) بتقديم الحاء: حجوان، اشتقاقٌ من الحجو، ذكره في اسم أحد أولاد مُحارِب بن فهر، فقاسه محقق جمهرة الأنساب لابن حزم (178، 195) على غيره وأجراه على هذا، ولعلهما اسمان. والمثبت موافق لما قيده ابن سلام فى كتاب النسب الورقة 12 ب - 13 أ، وميزه بحرف حاء تحت المهملة الثانية، وابن عبد ربه: العقد الفريد 3: 340، والقلقشندي وضبطه بالحرف، انظر نهاية الأرب في أنساب العرب 190.
(c) في الأصل بالدال المهملة منقد، والمثبت من كتاب النسب لابن سلام الورقة 12 ب، والعقد الفريد 3: 340، والجمهرة: لابن حزم 195، والإيناس للوزير المغربي 164.
(d) في الأصل بالدال المهملة حديم، وقارن بالاشتقاق لابن دريد 118، 253، وعند ابن سلام (كتاب النسب ورقة 12 ب) وابن عبد ربه: العقد الفريد 3: 340 والقلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب 213: حذلم؛ سمي بذلك لكثرة كلامه، مأخوذ من الحذلمة وهي الإسراع.
_________
(1)
الحاتمية: لعلها المزرعة الواقعة في قرية هرم شيخو بمنطقة القامشلي من محافظة الحسكة، قرب الحدود السورية التركية، وتبعد عن مدينة القامشلي مسافة 12 كم إلى ناحية الغرب. طلاس: المعجم الجغرافي 3: 1.
(2)
الملوحة: قرية كبيرة من قرى حلب، تقع شرق السفيرة. ياقوت: معجم البلدان 5: 195.
(3)
لم أجده في أولاد فقعس، وعوضه: دثار، فلعله هو. انظر كتاب النسب الورقة 12 ب، ابن حزم: جمهرة 195.
كبيرةٌ، وقد خَرَجَ من كُلِّ قَبِيلَةٍ من هذه القَبَائِل عَمَائرُ وأفْخَاذ وعَشَائِرُ وفَصَائل إلى يَوْمنا هذا، ومنازل بَني فَقْعَس بأرْض الطِّيب وقُرْقُوب
(1)
مع إِخْوَتهِم ولد الحَارِث بن ثَعْلَبَة، وهُم أهْلُ وَبَر لا مَدَر في تلك الأرْض إلَّا منْ شَذَّ منهم، فتَشَاءَم وجَزَّر فنَزل أرضَ حَلَبَ طَرفَ البَرّ وهو حِيَارُ بني فَقْعَس
(2)
؛ سُمِّيَتْ تلكَ الأرْض باسْمه، فهُم بها وبالنُّقْرَة مُتفرِّقين مع إخْوتهم بَني أسَد بن خُزَيمَة.
قُلتُ: قَوْله مع إخْوَتهِم؛ ولد الحَارِث بن ثَعْلَبَة بن ثَعْلَبَة (a) بن ذُوْدَان بن أسَد، والثَّعْلَبِيَّة
(3)
بالقُرْبِ من كَارس
(4)
مَنْسُوبَة إلى ثَعْلَبَة بن ذُوْدَان، وحِيَار بَني فَقْعَس في طَرف البَرّ من ناحيةِ مَنْبج، وحَبَال (b) بن خُوَيْلِد بن نَضْلَة ابن الأشْتَر بن حَجْوَان بن فَقْعَس بن ذُوْدَان بن أسَد بن خُزَيْمة له فِرْقَةٌ تُنسَب إليهِ بضَواحِي حَلَب، يُقالُ لهم: الحبَّاليُّونَ، وبينَهُم وبين فِرْقَة أُخْرى بضَوَاحي حَلَب يُقالُ لهُم: الزَّوَاقلَة حَرْبٌ وعَدَاوَةٌ مُسْتمرَّةٌ وشحْناء، ويُنْسبُونَ إلى زَوْقَل بن
(a) كذا مكررة، ولعل الصواب عوض الأولى: سعد، فيكون:"الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان" كما في الإيناس للوزير المغربي 134.
(b) كذا في الأصل بفتح أوله، ومؤكدًا بحرف حاء أسفله.
_________
(1)
تقدم التعريف ببلدتي الطيب وقرقوب من أرض العراق.
(2)
حيار بني فقعس: يحدده ابن العديم فيما بعد: في طرف البر من ناحية منبج، ولم أقف له على ذكر فيما عداه.
(3)
الثعلبية: قرية في هضبة حلب تتبع منطقة الباب بمحافظة حلب، تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة الباب على بعد 27 كم. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 591.
(4)
كارس: قرية تقع في ريف حلب، في منطقة الباب بمحافظة حلب على بعد نحو 20 كم عن ناحية دير حافر، وتسمّى اليوم: كويرس شرقي، ويذكر ابن العديم فيما بعد، عند كلامه على بطون بني كعب، أنه كانت هناك قريتان بنفس الاسم: كارس الشمالية لبني كِلاب، وكارس القبلية لبني أسَد، وكارس القبلية هي التي تسمى اليوم كويرس غربي وتقع إلى الشرق من كويرس شرقي على بعد 4 كم. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 102 - 103.
حُبَيْط (a) بن قُدَامَةَ بن عَبْد الله بن عَامِر بن حُصَيْن بن الحارِث بن الهِصَّان، وهو عَامِر الأكْبرُ بن كَعْب بن عَبْد بن أبي بَكْر بن كِلاب، وهم ثلاث بُطُون: حَمْزَة، وقَابوس، وعجَمي، ومنهمِ الزَّوْقَليَّة أُمّ صالح بن مِرْدَاس الكِلابِيّ أمير حَلَب، وكان حَبَال يَنْزل بحِيَار بني فَقْعَس، وزَوْقَل بمنازل بَني الهِصَّان بنواحي وَادِي بُطْنَان. فالحبَّاليُّونَ من بني أَسَد، والزَّواقِلَة من بني كِلاب.
قال النَّسَّابَةُ: فهذه قَبَائِل ذُوْدَان بن أسَد بن خُزَيْمَة بن مُدْرِكَة بن إلْيَاس بن مُضَر بن نِزَار، وقد كُنْتُ ذكرتُ في ابْتدَاء الكَلامِ طرفًا من مَنَازلهم بعدما نَزلُوا بئر إهَالَة ثمّ افْتَرقُوا؛ منهم مَنْ تَشاءَم، ومنهم مَن جزَّرَ، ومنهم مَنْ تَعَرَّقَ.
ومنهم مَن نَزَل الشَّمَال من أرض بلاد اليُونانِيَّةِ بجَبَلٍ يُقال لهُ عُوْريَة
(1)
من أرْض الرُّوم، منهم فيه عالَم عظيمٌ، وذلك أنَّهم هَربوا من جَوْر المُلُوك من ديار العَرَب والغَلَاء إلى تلك الأرْض.
ومنهم فَرِيق بأرض الغَرْب من أهل المُدُن قَاطِنين بالغَرب أعْلَى غَرْبيّ حَلَب بمَعَرَّة مَصْرِيْن وجَبَل السُّمَّاق بنَحْليَّا
(2)
وبتباسُون
(3)
وما وَالَاها، وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر.
ومنهم بأرْضِ الجَزِيرَة خَلْقٌ كَثيرٌ، وتُعرَف أرْضهم بنُقْرَة بَني أَسَد، وحَدُّها مِن خُنَاصِرَة إلى جَبَل الأَحَصِّ إلى الوَادِي إلى طَرف البَرِّ ثمّ غَرْبًا إلى حَدّ النَّاعُورة،
(a) كذا في الأصل مجودًا بإهمال الحروف، والمثبت من ك، وإن لم يكن المثبت فهو: حييط، أو بالخاء المعجمة: خبيط وخييط.
_________
(1)
لم أهتد للتعريف بجبل عوريه.
(2)
نحليَّا (نحليَّة): قرية في هضبة إدلب في جبل الزاوية، تتبع منطقة أريحا بمحافظة إدلب، تقع إلى الشمال عن مدينة أريحا على بعد 4 كم، فيها آثار باقية إلى اليوم ترجع إلى العهدين الروماني والبيزنطي، وفيها أيضًا آثار إسلامية. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 409 - 410.
(3)
لم أهتد للتعريف بها.
والجِبَال مُحيطةٌ بها من حَقْلَى
(1)
إلى القُبَّتَيْن
(2)
إلى الجَرَّاعَة
(3)
إلى المَلُّوحةِ وكُسْيَان
(4)
إلى حَدِّ البَرِّ من أرْض السَّبَخَة
(5)
ثمّ على الحَبْل (a) سَائر إلى حَدِّ النَّهْر من سَبْعِين وكارس إلى حَدِّ وَادِي بَني كِلَاب، كُلُّ هذه الضِّيَاع والجِبَال وما يليها من البِقَاع لبَني أَسَدٍ، وهُم بها إلى اليَوْم، وهذا الإقْليمُ كبيْرٌ تَدَيَّرُوهُ سَنَة سبْعٍ ومائتَين للهِجرَة.
قال: وأمَّا كَاهِل بن أسَد، فولد ثلاث قَبَائِلَ عِظَامٍ: بنُو أُذَيْنَة، وبنُو هرَاوَة، وبنو حرمُوا؛ هذه ثلاثُ قَبَائِل، ومن هذه القَبَائِل تَفَرَّعَتْ قَبَائِل كَاهِل وبُطُونها، وهُم أهْلُ مَدَر ووَبَر مُتَفرِّقين في البِلادِ، منهم بالنُّقْرَة بالجَرَّاعَة وكُسْيَان، وكان منهم بَطْن بجَبَل السُّمَّاق وبالجَزْر وغير ذلك.
قُلتُ: وأظُنُّ الكاهِلية مَنْسُوبَة إلى كَاهِل بن أسَد، واللهُ أعْلَمُ.
قال النَّسَّابَةُ في ولد مَالِك بن مالِك -يعني: مَالِك بن أُسامَة بن نُمَيْر بن نَصْر بن قُعَيْن، منِ بَني أَسَد، أو مَالِك بن نَصْر بن قُعَيْن- قال: منهم: بنو قُطْبَةَ بن محيس بن برة بن خُزَيمَة بن كُوز بن مَوَالَة (b)، وقُطْبَة بن كُوْز.
(a) بالحاء المهملة، وتقدم التعليق عليها فيما مضى.
(b) عند ابن حبيب: مختلف القبائل 313: مَوْأَلَة، مهموزًا، والوزير المغربي: الإيناس 239: مَوَلَة، والمثبت موافق لما عند الحازمي: عجالة المبتدي 109.
_________
(1)
حقلى: قرية شمال جبل الأحص، تتبع منطقة السفيرة بمحافظة حلب، تقع قريبًا من سبخة الجبول، وتبعد عن بلدة السفيرة 23 كم باتجاه الجنوب الشرقي، وتسمى اليوم: حقلة، وذكرها ياقوت: حقلاء؛ بالمد والقصر، قرية من نواحي حلب. معجم البلدان 2: 278، طلاس: المعجم الجغرافي 3: 88.
(2)
القُبتين: قرية في هضبة حلب، تتبع منطقة السفيرة بمحافظة حلب، تقع في الطرف الشمالي الشرقي من جبل الأحص، في أرض منبسطة شمال غرب سبخة الجبول التي تبعد عنها نحو 3 كم، وتبعد عن بلدة السفيرة مسافة 15 كم باتجاه الجنوب الشرقي. طلاس: المعجم الجغرافي 4: 511.
(3)
لم أهتد للتعريف بها.
(4)
لم أهتد للتعريف بها، ويظهر أنها من نواحي الملوحة الواقعة شرق السفيرة، وتقدم التعريف بها.
(5)
هي سبخة (بحيرة) الجبُّول، تقدم التعريف بها فيما مضى.
قُلتُ: والقَرْيَةُ المعرُوفة بالقُطْبِيَّة
(1)
مَنْسُوبَة إلى أحد الرَجُلَيْن، وهي من نُقْرَة بَني أَسَد بالقُرْبِ من البَرِّ، ويُقالُ لها القُطْبِيَّات أيضًا، فلعلَّها مَنْسُوبَة إليهما، وأبو عُبَيد الله (a) عبد الرَّزَّاق بن عَبْد السَّلام بن أبي نُمَيْر الأسَدِيّ القُطْبِيّ مَنْسوبٌ إلى أحدهما أيضًا، واللهُ أعْلَمُ.
قال النَّسَّابَةُ: وأمَّا ضَبَّةُ بن أُدّ بن طَابِخَةَ بن إلْيَاس بن مُضَر بن نِزَار، خَرَجَ منه قَبَائِل وعَمَائِر وبُطُونٌ وأفْخَاذ وإلى يَوْمنا هذا، فوُلِدَ لضَبَّة بن أُدّ بن طَابِخَة بن إلْيَاس بن مُضَر: سَعْد بن ضَبَّة؛ قَبِيلَة عَظِيمَة، وذَكَرَ جَمَاعَةً منهم.
قال: وبنو شعاع بن عَلْقَمَة -هو علْقَمة بن سَعد (b)- كان بأرض حَلَبَ، ثمّ بوَادِي بني كِلَاب في ضَيْعَةٍ يُقالُ لها البِيْرَة
(2)
؛ وبنُو عَلْقَمَة قَبِيلَةٌ كبيرةٌ.
قال: وبنو السِّيْد بن مَالِك بن بَكْر بن سَعْد بن ضَبَّة قَبِيلَةٌ عَظيمَةٌ
(3)
. قال: وقد كان شَخَصَ منهم فَريقٌ، فنَزلَ بأرْضِ الشَّام، وكان يُعْرفُ بَأبي رَمَادَة
(4)
(a) الأصل: أبو عبد الله، والصواب ما أثبت حسبما يأتي ذكره في أكثر من موضع، وانظر أيضًا: السمعاني: أدب الإملاء والاستملاء 96، 515، 517.
(b) كتب ابن العديم الإشارة المعترضة في هامش الأصل.
_________
(1)
لم أهتد لمعرفة هذه القرية التي حدَّدها ابن العديم بالقرب من برية نقرة بَني أسد، وتوجد اليوم بمنطقة القامشلي من محافظة الحسكة قريتان باسم قطبة التحتاني وقطبة الفوقاني، وهما بعيدتان عن تلك التي ذكرها ابن العديم رسمًا وموضعًا.
(2)
البيرة: قرية في سهول حلب الشرقية تتبع ناحية تادف بمنطقة الباب من محافظة حلب، وتقع جنوب بلدة تادف على بعد 5 كم، وسط أرض سهلية يحدها غربًا وادي نهر الذهب، وتسمى اليوم بيرة الباب تمييزًا لها عن العديد من المواضع التي تحمل الاسم ذاته، وهي غير مدينة البيرة الواقعة قرب الفرات والتي يرد ذكرها فيما بعد، وكان صاحبها الملك الزاهر مجير الدين داود بن يوسف. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 424 - 425.
(3)
انظر عن بَني السِّيْد (بكسر السين وسكون الياء): ابن سلام: كتاب النسب الورقة 18 أ، والمعارف لابن قتيبة 75، وابن دريد: الاشتقاق 190 وفيه بكسر السين المشددة؛ اسم للذئب، وابن عبد ربه: العقد الفريد 3: 342، وابن حزم: جمهرة الأنساب 204، الحازمي: عجالة المبتدي 77، القلقشندي: نهاية الأرب في أنساب العرب 66.
(4)
أفرد ابن العديم لأبي رمادة الضَّبِّيّ ترجمة في الجزء العاشر ضمن المعروفين بالكنى، وأقام الترجمة على ما وجده من كلام النَّسَّابة الأسدي.
فإنَّهُ نَزَل بأرْض حَلَب؛ بأرض النُّقْرَة، وجاوَر بَني أَسَدٍ في دَارِهم، ووُلِدَ له نحو من عَشرة أوْلادٍ ذكُور، ووُلد لهم أيضًا أوْلادٌ، فصَار قَبِيلَة تُعرف بقَبِيلَة أبي رَمَادَةَ، وتأمَّرَ فيهم مَنْ تَأمَّر، وسَاد منهم مَن سَاد، وهم من هِجَان
(1)
بن كَعْب بن بَجَالَة بن ذُهْل -يعني: ذُهْل بن مَالك بن بَكْر بن سَعد بن ضَبَّة- قال: ونَسْلُهم إلى اليَوْم، وهم وبنو (a) عِمٍّ لهم منِ ضَبًّةَ بأرض حَلَب وأرْض الغَرْب والبارَة
(2)
وما وَالَاها، وهم أهْلُ مَدَر لا وَبَر.
قُلتُ: وبالمَلُّوحَةِ رَجُلٌ من نَسْلِ أبي رَمَادَة في زَمَننا يُعْرفُ بالرَّمَادِيّ.
قال النَّسَّابَةُ: وولد عَبْس بن بَغِيْض بن رَيْث بن غَطَفَان بن سَعْد بن قَيْس بن عَيْلَان -واسْمُه النَّاسُّ- بن مُضَر بن نِزار بن مَعَدّ بن عَدْنَان: قُطَيْعَة بن عَبْسٍ، فولَدَ قُطَيْعَة: غَالِبًا قَبِيلَةً عَظِيمَةً، [ومُعْتَمِرًا](b) قَبِيلَة، والحاَرِث بن قُطَيْعَة قَبِيلَة. فمن وَلد الحَارِث بن قُطَيْعَةَ بن عَبْسٍ: مَازِن؛ قَبِيلَةٌ، فولد مَازِنُ: رَبيعَةَ قَبِيلَةً، فولَدَ رَبيعَةُ: رَوَاحَةَ قَبِيلَة، وعُبَيْد قَبِيلَة، ورِيَاحًا، ورَوَاحًا (c). هؤلاء بنُو رَبيعَةَ بن مَازِن بن الحَارِث بن قُطَيْعَة بن عَبْس، وهم رَهْطُ زُهَيْر بن جَذِيْمَة بن روَاحَة سَيِّد عَبْس في زمَانِه، وِهو أبو عَشَرة
(3)
، وأُمُّهُم تُمَاضِر السُّلَمِيَّة، والحَارِث بن زُهَيْر، وأهل الحِيَار من وَلده.
(a) الأصل: وبني.
(b) غير واضحة في الأصل وأقرب للمثبت، وربما تكون: ومغنمًا، ومكانها بياض في "ك"، ولم نجد في أولاد قُطيعَة سوى الحارث وغالب، إلا عند النويري، فإنه أضاف لهم: معتمر وعوف ومريطة. انظر: نهاية الأرب 2: 342.
(c) ابن حزم 251: روحًا.
_________
(1)
لم أجده في أولاد كعب بن بجالة.
(2)
البارة: قرية في جبل الزاوية تتبع ناحية إحسم بمنطقة أريحا من محافظة إدلب، وتقع جنوب بلدة إحسم على بعد 4 كم، وذكرها ياقوت من نواحي حلب، وأنها كانت تسمى في زمنه: زاوية البارة. ياقوت: معجم البلدان 1: 320، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 213.
(3)
تعدادهم عند ابن حزم: جمهرة أنساب العرب 251.
قُلتُ: ومن وَلده القَعْقَاع بن خُلَيْد بن جَزْءِ بن الحَارِث بن زُهَيْر، وعمّهُ العبَّاس بن جَزْءِ بن الحَارِث بن زُهَيْر، ونُسِبَ حِيَارُ بني عَبْسٍ إلى بَني القَعْقَاع، لأنَّ عَبْد المَلِك بن مَرْوَان أقْطَعَهُم بهِ قَطَائِعَ، وكانتْ مَوَاتًا فعمرُوها، وتزوَّج عَبْد المَلِك منهم وَلَّادَة بنت العبَّاسِ بن جزْءٍ، وقيل إنَّها بنْت القَعْقَاع، وهي أُمّ الوَلِيد وسُلَيمان
(1)
.
عُدْنا إِلى كلام النَّسَّابَة، قال: وقيْس بن زُهَيْر صَاحب حَرْب دَاحِس، وكَثِيْر بن زُهيْر قَتِيْل كَلْب
(2)
، وخِدَاش بن زُهَيْر لم يُعْقِبْ، وشَأْس بن زُهَيْر قَتِيْل غَنِيّ ولم يُعْقِبْ، ووَرْقَاء بن زُهَيْر لم يُعْقِبْ، وأَسِيْد بن زُهَير، وهُم أهْلُ وَبَر لا مَدَر، والحَكَم بن زُهيْر له عَقِب بالبَادِيَةِ، وحِذْيَم بن زُهَيْر عَقِبُهُ في البَادِيَةِ، وعُوَيْر
(3)
بن زُهير له عَقِب بالبَادِيَة.
قال: وعَنْتَرَة الفَوَارِس منهم. قال: ومنهم الحُطَيْئَة الشَّاعِر واسْمُهُ جَرْوَل.
فولد غَالِب بن قُطَيْعَة: مالِك قَبِيلَة، وعوذ قَبِيلَة، ومَخْزُوم قَبِيلَة، وعبد وعُوْذ (a) قَبِيلَة، وقيس بن غَالِب قَبِيلَةٌ.
ومن مَخْزُوم بن مَالِك بن غَالِب بن قُطَيْعَة بن عَبْس: خَالِد بن سِنَان، وهو النَّبِيُّ الّذي بعثَهُ الله إلى نَار الحَدثَان فأطْفَأها، ولهُ حديثٌ يَطُولُ
(4)
.
(a) كذا ورد في الأصل مكررًا في أولاد غالب، وجود الثانية بالضم وفوقها "صـ". وذكر ابن دريد: الاشتقاق 377: عَوذًا الأولى. ولم يرد في كتاب النسب لابن سلام (الورقة 20 ب) سوى: عوذ في غالب.
_________
(1)
انظر ابن سلام: كتاب النسب ورقة 20 أ، ومعجم الشعراء للمرزباني 252 - 253 وجمهرة ابن حزم 251.
(2)
عند ابن حزم: الجهرة 251 أن الذي قتلته كلب هو الحارث بن زهير، قتلته يوم عُرَاعر.
(3)
لم يذكر ابن حزم عوير ولا الحكم في أولاد زهير، وذكر عوضًا عنهما: جرير والحصين؛ ولعل تحريفًا وقع في اسميهما: عوير تحرَّف إلى جرير، والحصين تحرف إلى الحكم. ويرد اسم الحصين في زهير أيضًا عند: ابن عبد ربه: العقد الفريد 5: 134، الأصفهاني: الأغاني 11: 53، 55، النويري: نهاية الأرب 15: 344.
(4)
انظر ترجمته الآية في موضعها من حروف المعجم في الجزء السابع.
ومنهم بنو هِذم
(1)
قَبِيلَة عَظِيمَة، من ولد هذم أهل شَحْشَحُور
(2)
وفَاح
(3)
وما وَالَاها، وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر.
فهذه عَبْسٌ؛ ومن هذه تَفَرَّعَتْ قَبَائِل عَبْس وعَمَائِرها وأفْخاذها وبُطُونها، وهي قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وكانت من إحْدَى الجَمَرَات، ومَنَازلهم كانت (a) بالبَرِّ، ثُمّ تَشَاءَم منهم وجَزَّر وتَعَرَّق، وكان لهم مَحَلٌّ يُعْرفُ بجَبَل صُرَاع
(4)
وأرْض زَعْرَايا
(5)
وهو طَرف البَرِّيَّةِ تَدَيَّرَتهُ عَبْس وتناسَلَتْ فيه، أعْني في ضِيَاعِه، مثل القَعْقَاعيَّة
(6)
من أرْض العَرَب وغير ذلك.
قُلتُ: خَالِد بن سِنَان هو خَالِد بن سِنَان بن غَيْث بن مُرَيْط بن مَخْزُوم بن مالِك بن غَالِب بن قُطَيْعَة بن عَبْسٍ وستأتي تَرْجَمته في مَوضِعها
(7)
إنْ شَاءَ اللهُ
(a) الأصل: كان.
_________
(1)
في منتهى الطلب لابن المبارك 3: 215 بالدال المهملة هدم، ذكره في سياقة نسب الشاعر عروة بن الورد.
(2)
شحشحور: قرية من قرى حريتان بمنطقة جبل سمعان بمحافظة حلب، وهي اليوم عبارة عن مزرعة تقع إلى الشمال الغربي من مدينة حلب. طلاس: المعجم الجغرافي 3: 50 (في ثنايا الكلام على حريتان).
(3)
فاح: قرية في هضبة حلب، تتبع ناحية حريتان بمنطقة جبل سمعان من محافظة حلب، وتبعد عن بلدة حريتان 30 كم باتجاه الجنوب الشرقي. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 4:453.
(4)
جبل صراع: توجد اليوم قرية في مرتفعات معرة النعمان تحمل الاسم ذاته، وإلى الشمال منها جبل رجم صراع، فلعلها هي التي عناها النسابة الأسدي وإن كان كلامه يشي بجبل ناحية البر قبلي حلب، وصراع قرية تتبع ناحية سنجار بمنطقة معرة النعمان من محافظة إدلب، وهي تبعد عن بلدة سنجار مسافة 5 كم إلى ناحية الجنوب الشرقي. طلاس: المعجم الجغرافي 4: 121.
(5)
زعرايا: قرية في هضبة حلب، تتبع ناحية رسم الحرمل بمنطقة الباب من محافظة حلب، وهي في بسيط من الأرض ينحدر نحو الجنوب، وتبعد عن بلدة رسم الحرمل مسافة 9 كم باتجاه الشرق. طلاس: المعجم الجغرافي 3: 552.
(6)
القعقاعيَّة: موضع من برية منبج، يذكرها تاليًا ابن العديم ويحددها من ناحية الفايا من عمل منبج، والفايا كورة بين منبج وحلب.
(7)
ترجمة خالد بن سنان في الجزء السابع، وفيها سياقة نسبه.
تعالَى. وشَحْشَحُور خربةٌ تقربُ من فَاح في الوَادِي الّذي هو شماليّ المُرَتَّب
(1)
والمُقْبِلَة
(2)
، وآثارُ العِمَارَة بها كَثِيْرةٌ، ليسَ بها يَوْمنا هذا سَاكِن.
وهذم هو ابن مَخْزُوم بن مالِك، والقَعْقاعيَّةُ من ناحيَةِ الفَايَا
(3)
من عَمل مَنْبج تُنْسَبُ إلى القَعْقَاع بن خُلَيْدٍ العَبْسيّ.
ونَزَلَ بحَاضِر قِنَّسْرين جَماعَةٌ من عَبْس، منهم عِكْرِشَة بن أَرْبَد بن عُرْوَة بن مِسْحَل بن شَيْطَان بن حِذْيَم بن جَذِيْمَة بن رَوَاحَة بن رَبيعَة بن مَازِن بن الحَارِث بن قُطَيْعَة بن عَبْس بن بَغِيض، وكان في أيَّامِ هشَام بن عَبْد المَلِك، والوَلِيد بن يزيد؛ والغَالِبُ اليَوْم على أهل حَاضِر قِنَّسْرِيْن عَبْسٌ.
قال النَّسَّابَةُ: وولد مَالِك بنُ أعْصُر بن سَعْد بن قَيْس: سَعِيْدًا (a) قَبِيلَة، وأُمُّهُ يُقالُ لها: بَاهِلَةُ، وهي ابنَةُ صَعْب بن سَعْد العَشِيْرَة من مَذْحِج، ومَعْن قَبِيلَة، وأُمُّهُ هِنْد ابنَةُ سِنَان بن عَبْد الله بن غَطَفَان، فولد مَعْن: أَوْد وجِئاوَة (b)، قَبِيلَتَيْن عِظَامًا، وأُمُّهُما بَاهِلَة، وكان خَلَفَ عليها مَعْنٌ بعدَ أبيهِ، فولد مَعنٌ: شَيْبَان (c).
(a) عند ابن سلام: كتاب النسب ورقة 20 ب وابن جزم: الجمهرة 245: سعد مناة.
(b) في الأصل: حادة، والمثبت من ابن سلام: كتاب النسب ورقة 21 أ، وفيه مجودًا: جِأَاْوَة، والمعارف لابن قتيبة 81، والاشتقاق لابن دريد 271، 274، وجمهرة ابن حزم 245، وفي بعض أصوله: حادرة، وفي المطبوع: جِئاوة.
(c) هكذا في الأصل، مجودًا، ومثله عند الحازمي: عجالة المبتدي 22، وجاء عند ابن سلام: كتاب النسب ورقة 21 أ: شَبَّان.
_________
(1)
المرتب: لم أقف على ذكر لها، ولعل اسمها تغير أو اندرست القرية فلم تعد تُعرف، واعتمادًا على تحديد ابن العديم أعلاه، فإنها من القرى المجاورة لبلدة المقبلة -الآتي ذكرها- بجبل سمعان وتقع شمالي بلدة فاح، وإلى الشمال الشرقي من حلب.
(2)
المقبلة قرية في هضبة حلب، تتبع ناحية حريتان بمنطقة جبل سمعان. من محافظة حلب، تقع في أرض منبسطة تميل نحو الشمال والغرب، قرب مسيل مائي يرفد وادي مدياقة الذي ينحدر إلى نهر قويق، وهي إلى ناحية الجنوب الشرقي من بلدة حريتان على بعد 27 كم. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 330.
(3)
الفايا: كورة بين منبج وحلب بالقرب من وادي بطنان، تتبع إليها قرى ومزارع، ذات بساتين ومياه جارية. معجم البلدان 4:234.
وهو فَرَّاصٌ (a)؛ قَبِيلَة كبيرة، وهم بشَطِّ الفُرَاتِ، وزَيْد قَبِيلَة وهو لِحْيَان (b)، وذَكَرَ غيرهم.
قال: وولد سُلَيم بن مَنْصُور بنِ عِكْرِمَة بن خَصَفَة بن قَيْس بن عَيْلَان بن مُضَر، وسُلَيْم شَعْبٌ لا قَبِيلَة، لأنَّهُ خرَجَ منهُ عدَّة قَبَائِل وعَمَائِر وبُطُونٌ وأفْخاذ، مُتَفرِّقين في البِلَادِ، أهل مَدَر ووَبَر. فولد سُلَيم بن مَنْصُور: بُهْثَة بن سُلَيم كلّها، فولد بُهْثَة بن سُلَيم: الحَارِث قَبِيلَة كبيرة، وثَعْلبَة قَبِيلَة كَبيرة (c)، وامْرؤ القَيْس قَبِيلَة كبيْرة، وعَوْف قَبِيلَة؛ وكان كَاهِنًا في العَرَب، وثَعْلَبَة ومُعاوِيَة قَبِيلَتان كِبَار.
فولد امْرؤ القَيْس: خُفَاف، وعَوْف، وتَيْم
(1)
؛ ثلاث قَبَائِل عِظَام تَفَرَّعَتْ منها عَمَائِر وبُطُونٌ وأفْخَاذ كَثيْرةٌ، فولد خُفَاف: مَالِك بن خُفَاف قَبِيلَة، وولد خُفَاف أيضًا: عَمِيْرة (4) وعُصَيَّة (e) ونَاضِرَة؛ ثلاث قَبَائِل عِظَام خَرَج منها عَمَائِر وبُطُون وأفْخَاذ كَثيرةٌ، ومن خُفَاف خَلْق كَثِيْر كانوا بُطُونًا وأفْخاذًا بأرض جَبَل صُرَاع وأرض زَعْرَايا طَرف البَرِّ، أهل مَدَر ووَبَر وغير ذلك من الأرْض.
قال: وولد الحَارِث بن بُهْثَة بن سُلَيم: جني (f)، ورِفَاعَة، وكَعْب، وظَفَر، ووَائِلَة، وعُبَادَة، وعُبَيْد؛ كُلّ هؤلاء قَبَائِل خَرَجَ منها بُطُونٌ وأفْخَاذ وفَصَائل مُتَفَرِّقُونَ في الأرْض.
(a) الأصل: فرَّاض، والمثبت من ابن سلام: كتاب النسب ورقة 21 أ، والمعارف لابن قتيبة 81، وابن دريد: الاشتقاق 274، وابن حزم: الجمهرة 245، وفي بعض نسخه: فرَّاض، وقرَّاض، والحازمي: عجال المبتدي 22.
(b) في الأصل، مجودًا: بحِثَّان، والتصويب من ابن سلام: كتاب النسب ورقة 21 أ، والحازمي: عجالة المبتدي 22.
(c) عند ابن حزم: الجمهرة 261: ثعلبة بطن صغير.
(d) الضبط من ابن سلام: كتاب النسب ورقة 21 ب، وابن حزم 261.
(e) ضبطها ابن سلام: كتاب النسب ورقة 21 ب: بفتح أوله، والمثبت من الأصل ويوافقه الاشتقاق لابن دريد 307، 309.
(f) كذا في الأصل وفوقه "صـ"، وعند ابن حزم 263: حُيَيّ.
_________
(1)
يسمى تيم أيضًا بهز، انظر الأغاني 9: 121، وذكر ابن حزم: الجمهرة 262: بهز ولم يشر إلى أنه يسمى تيم.
فولدُ رِفَاعَة بن الحارِث في بُهْثَة بن سُلَيم: عَبْس، ورَبيعَة، وعَامِر، وجُشَم، وذَكْوَان، وبُجَير (a)؛ كُلّ هؤلاءِ قَبَائِل، فمن عَبْس بن رِفَاعَة: مِرْدَاس بن أبي عَامر، وجُشَم؛ فولد مِرْدَاس بن أبي عَامِر: العبَّاس بن مِرْدَاس، وهُبَيْرَة، وجَزْء (b)، ومُعاوِيَة، وعَمْرو، وهم قَبَائِل خرجَ منها بُطُونٌ وأفْخَاذ، وهم بأرْضِ العِرَاق والحِجاز والشَّام، أهل مَدَر وَوَبر.
قُلت: ومن ولد العبَّاس بن مِرْدَاسٍ جَمَاعَةٌ بعَلَم
(1)
؛ وهي قَرْيَة من طَرف النُّقْرَة والحَبْل
(2)
ممَّا يلي حَلَب، وهم يَحفَظُونَ أنْسَابهم.
وقال النَّسَّابَةُ: فولد صَعْصَعَة بن مُعاوِيَة بن بَكْر بن هَوَازِن بن مَنْصُور -يعني: مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خَصَفَة بن قَيْس بن عَيْلَان-: عَامِر شَعْب لا قَبِيلَة، ومُرَّة قَبِيلَة، ومَازِن قَبِيلَة كبيرة، وهم رَهْطُ بَني وَرْدَان، كان منازل هؤلاء بأرْض [الصّنبران](c) من بَرِّ حِمْص إلى حِيَار عبْسٍ؛ خَلْقٌ كَثِيْر أهْلُ مَدَر لا وَبَر، كان قد أشخصوا عن بَرِّ الحِجاز قديمًا فتَدَيَّرُوا هذه الأرْض، ثمّ رَحَلُوا عنها. فولد عَائِذ ووَائِل وأُمُّهُم عَمْرَةُ بنْتُ عَامِر بن الظَّرِب العَدْوَانِيّ
(3)
يُعْرفُونَ
(a) مهملة في الأصل، وفوقه "صـ"، وربما كان أيضًا بجير، بحتر، بحير، ولم أقف عليه في أولاد رفاعة بن الحارث.
(b) في الأصل: وحدي، مهملة، وفوقه "صـ"، والتصويب من ابن سلام: كتاب النسب 22 أ، وابن حزم 263، وذكر ابن سلام أن أمهم جميعًا باستثناء العباس هي الشاعرة: الخنساء بنت عمرو.
(c) أفسدت الرطوبة اسم الموضع في الأصل، واختلط بمعكوس الكلمتين اللتين في الصفحة التي تقابلها، وهو قوله:"وإلى العباس"، وصورته: بأرض الصنوبران والمثبت على التقريب، ولم أجده في أسماء المواضع التي تقع شرقي حمص وفي باديتها.
_________
(1)
علم: تسمى اليوم تل حلب، وهي قرية في حوض الجبول، تتبع منطقة السفيرة بمحافظة حلب، وهي تقع إلى الشمال من مدينة السفيرة على بُعد 11 كم، في سهل منبسط ينحدر نحو الجنوب الشرقي. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 542.
(2)
تقدم للمصنف تحديد الحبل الذي تُنسب إليه قرية قبثان الحبل، وهي إلى الشرق من حلب.
(3)
انظر عن عمرة بنت عامر: ابن سلام: كتاب النسب ورقة 24 ب، 60 ب، وزاد في أولادها: عامر ومازن، البيان والتبيين للجاحظ 2: 77، جمهرة الأنساب لابن حزم 458، الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 5: 5 - 6، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي 288.
بها، وكان رحيلُهُم من المَصْغَبة
(1)
والشِّدَّة، تَولّوا فنَزَلوا بأرض النُّقْرَة، نُقْرَة بَني أَسَد، وذَكَر غيرَهُم.
ذِكْرُ نُزُول بَنِي كِلَاب بأعْمال حَلَب
ونَزَلَ منهُم بنُو عَامِر الأكبر، وهو عَامِر بن كَعب بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكر بن كِلَاب.
قال النَّسَّابَة الأسَديّ: وولد عَامِر الأكبر، وهو الهِصَّان، جميع ولَدِ العبَّاس بن سَعيد بن بَكْر بن سَعيد بن المَعَاد (a) بن المُعَارك بن سَعيد بن الحَارِث بن الهِصَّان، فَولد المَعاد: سَعيد قَبِيلَة، وعَبْد اللهِ قَبيلَة، وحَمْزَة قَبِيلَة، ومُحمَّد قَبِيلَة. وولد المُعَارك: مَعاد قَبِيلَة، ومُرْشِد قَبِيلَة، ومُدْرِك قَبِيلَة لَطِيفَة، وأبا الهدلة بَطْن كبير، وأُمُّهُم كَرِيمَةُ ابنَةُ أشْرَس.
قال: وكان سَعيد بن الحَارث بن الهِصَّان وولد المعارك من بَطْنٍ وفَخِذٍ بأرْض الشَّام والبوَا (b)، وكان نُزُول المَعاد بن المُعَارك الشَّام قبل نُزُول الهبير بالنّسير (c) ، وهم أهلُ مَدَر لا وَبَر، وكانت الإمارةُ والرئاسة من ولد الهِصَّان فيهم،
(a) كذا كتبه بالدال حيثما يرد، ووضع نقطة تحت الدال دلالة على أنه مُعاذ.
(b) كذا في الأصل، ويظهر اضطراب النص، ولعل فيه نقص يستقيم بمقارنته بكلام الهمداني على منازل كلب وبني كلاب، وهو قوله:"و مَنْبِج مشتركة بينهم [أي كنانة كلب] وبين بني كلاب إلى جد وادي بطنان، ثمّ تأتي الفرات من بلد الرُّوم شاقًّا في طرف الرُّوم على التواء إلى العراق. . .". انظر: صفة جزيرة العرب 275.
(c) في "ك": الهبير باليسير. والهبير موضع في طريق الحجَّاج كانت به وقعة يوم اعترض القرامطة في عهد المقتدر بالله على الحجَّاج في هذا الموضع سنة 311 هـ وقيل في التي تليها، وذكر ياقوت موضعًا آخر اسْمُه هبير سيار، واستدرك بأنه ربما كان الأوّل. وذكر الحربي: الهبير ويسمى بطين، وهو واد مقبل من الغرب يصب فيها. كتاب المناسك 290، وانظر عن يوم الجبير: ياقوت: مُعْجَمُ الأدباء 5: 2323، مُعْجَمُ البلدان 5: 392، ابن خلكان: وفيات الأعيان 4: 334 - 335.
_________
(1)
المصغبة: المسغبة، لغة فيها، وهي المجاعة، تاج العروس، مادة: صغب.
منهم الأميرُ العبَّاس كان والي جُنْد قِنَّسْريْن وما والاها وغير ذلك، وسَاد في الإسلام، فولد له مُحمَّد الأمير وأحمد وسَعيد، ووُلِد هؤلاء ومَوَاليهم بوَادي بُطْنَان.
قُلْتُ: وإلى العبَّاس بن الوَلِيد الكِلَابيّ تُنْسَبُ الكِلَابِيَّة، وتُعْرف بقَرْيَةِ الثَّلْج، وهي في طَرف النُّقْرَة مِمَّا يلي بَرِّيَّة خُسَاف، ذَكَر بعض ذلك أحْمَدُ بن الطَّيِّب السَّرْخَسِيّ.
قال النَّسَّابَةُ: ومن وَلد سَعِيد بن قُرْط: مُسْكر بن عِلْيَط بن فَرْقَد بن أشْرَس ابن هَوْذَة بن نَهْشَل بن ثُمَامَةَ بن سَعِيد بن قُرْط بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب، كان سَيِّدًا وشَريفًا في زَمانِه، وشَرَفُ قُرْط فيهِ إلى اليَوم بالشَّام.
قال: ومن هؤلاء أهْل مَدَرٍ لا وَبَر بأرض الشَّام بمَحَلِّ سَمُّوقَة بني مُسْكر
(1)
، فولده بها إلى اليَوْم.
قُلتُ: هذه السَّمُّوقَة من كُورَة نَهْر بوجَبَّار
(2)
، وهي قَرْيَةٌ كبيرةٌ بين بُزَاعَا ومَنْبِج، وإلى جانبها السُّكَّريَّة
(3)
، أظُنُّها مَنْسُوبَة إلى بني مُسْكر فغُيّرَت نسبتها وقيل السُّكَّريَّة، وهذه أماكن لم يبقَ بها من بني كِلَاب أحَدٌ، وأهلُها في زَمننا هذا تُرْكُمَان.
(1)
ذكر ابن العديم (في زبدة الحلب 2: 631) موضعًا سماه: السموقة، وحدد موضعه على نَهْر قويق، وعند ابن نظيف الحموي: السُّمُوقة من بلاد حَلَب. (التاريخ المَنْصُوري 61)، ولعل هذه السُّموقة التي ذَكَرَها ابن العديم في الزبدة وابن نظيف هي التي عناها النسابة الأسديّ، وهي قرية في هضبة حَلَب تتبع ناحية أخترين بمنطقة أعزاز من محافظة حَلَب، تبعد عن بلدة أخترين 12 کم باتجاه الجنوب الغربيّ، ويمر إلى الجنوب منها وادي قويق. انظر: طلاس: المعجم الجغرافي 3: 662.
(2)
بوجبار: منسوب إلى قرية أبو جبار الواقعة في سهول حَلَب الشرقية بمنطقة الباب من محافظة حَلَب، تقع في منطقة سهلية تنحدر نحو الجنوب، وبجوارها الوادي المنسوب إليها، تنحدر منه المياه نحو سبخة الجَبُّول، والقرية تبعد عن تادف مسافة 11 كم نحو الجنوب الشرقي. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 9.
(3)
السكرية: قرية من قرى منطقة الباب بمحافظة حَلَب، تقع في هضبة حَلَب في أرض سهلية تنحدر إليها من الجنوب الغربي مسيلات مائية ترفد وادي بوجبار، والقرية تبعد عن مَدِينَة الباب مسافة 16 کم باتجاه الشمال الشرقي. طلاس: المعجم الجغرافي 3: 638.
قال النَّسَّابَةُ: وولد قُرْط بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب: زِنْبَاع بَطنٌ كبيرٌ، من قُرْط أهل كَارس بني كِلَاب وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر ومَرْبع، فوقَعَ ولدُهُ بأرض العَرَب.
قُلْتُ: كَارس بني كِلَاب هي كَارس الشَّمالية، وكارس القِبليَّة هي كارس بَنِي أَسَد.
قال النَّسَّابَةُ: ومن ولد عَبْد القَيْس -يعني: ابن رَبِيعَة بن كَعْب بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب-: نُبَاتَة بن حَنْظَلَة بن رَبِيعَة بن عبد القَيْس بن رَبِيعَة بن كَعْب بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب، كان سَيِّدًا وشَرِيفًا في زَمانه مع بني أُمَيَّة، فولد مُحمَّد بن نُبَاتَة بَطْن، وعُبَيْد الله بن نُبَاتَة بَطْن، منهم بالرَّقّة أهل مَدَر لا وَبَر، ومنهم بجُرْجَان أيضًا من ولده، ومنهم بأرض حَلَب بوادي بُطْنَان بالسِّيعَة (a) وأرْضها منهُم بَطْن، والكُلّ أهل مَدَر لا وَبَر إِلَّا من شَذَّ منهم. وباسم نُبَاتَة سُمِّي مَحَلّ ببَرِّ الوَادِي يُقالُ له النُّبَاتِيَّة
(1)
، لأنَّه وَقَعَ هُناك.
قُلْتُ: والنُّبَاتِيَّة من عَمل بُزَاعَا على نَهْر بوجَبَّار، وإلى جانبها قَريَةٌ صَغيرَةٌ يُقالُ لها: المُرِّيَّة مَنْسُوبَةٌ إلى مُرَّة بن أبي لَطِيفَة بن عَامِر بن كَعْب بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب.
(a) كذا في الأصل مجودًا، ولم أقف على ذكر لها.
_________
(1)
النباتية: إضافة لما يذكره ابن العديم بعده في تحديد موضعها، فإن نَهْر بوجبار الَّذي تقع عليه القرية هو مسيل مائي ينحدر نحو سبخة الجَبُّول، وعليه قرية مسماه باسمه: قرية بوجبار تتبع ناحية تادف وتبعد عنها نحو 11 كم نحو الجنوب الشرقيّ، (المعجم الجغرافي 2: 9)، وعلى هذا فإن موضع قرية النباتية وقرية المرية التي تجاورها من نواحي تادف. وتوجد اليوم بسوريا قريتان تعرفان بـ نباتة صغيرة ونباتة كبيرة تتبعان لمنطقة الباب على بعد نحو 22 و 24 كم باتجاه الشمال الشرقي. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 398.
ومن المَشْهُورين من بني كِلَاب، مِمَّن كان بنَاحِيَة حَلَب، من ولد عَبْد القَيْس: الأمير صالح بن مِرْدَاس بن إدْرِيس بن نَصْر بن حُمَيد بن شدَّاد بن عَبد قَيْس بن رَبِيعَة بن كَعْب بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب، وأُمُّهُ الرَّبَاب الزُّوْقَلِيَّة من ولد زَوْقَل بن حُبَيْط (a) بن قُدَامَة بن عَبْد اللهِ بن عَامِر بن حُصَين، وكان لسَلَفه شَرَف وبأس بقِنَّسْريْن، وانتهت إمْرة العَرَب بنَاحِيَة حَلَب إليهِ، فقبَضَ عليه مُرْتَضَى الدَّوْلَة بن لُؤْلُؤ وسَجَنَه بقَلْعَة حَلَب، فهَرَب منها، وجَمَع بَنِي كِلَاب، وقَصَد ابن لُؤْلُؤ فخرَجَ إليهِ إلى تَلِّ حَاصِد
(1)
ولقيه فأَسَرَ ابن لُؤْلُؤ، فاشْترى نفسَهُ منهُ فأعادَهُ إلى حَلَب، ثمّ ضَعُفَ أمْر ابن لُؤْلُؤ، وتجدَّدَت ولاية حَلَب بعدَهُ لجَمَاعَةٍ إلى أنْ نَزَل على حَلَبٍ وحاصَرَها وتَسَلَّمها في سنَة خَمْس عَشرة وأرْبَعِمائة، وسَنَذْكُر شَرْح ذلك مُسْتَقصًى في تَرْجَمَتِه
(2)
إن شاء الله.
(a) مهملة في الأصل، وفي "ك": حبيط.
_________
(1)
يسمى اليوم تل حاصل: وهي قرية في الجزء الشمالي من جَبَل الأحص، وتتبع إلى منطقة السفيرة من محافظة حَلَب، تقع جنوب غربي حَلَب، وعلى بعد نحو 10 كم شمال غرب مَدِينَة السفيرة، وذكر ابن العديم هذا التل في زبدة الحلب وأنه من ضياع نقرة بني أسد. انظر: زبدة الحلب 1: 182 - 183، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 153، طلاس: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 2: 492، الأسدي: أحياء حَلَب وأسواقها 149.
(2)
تَرْجَمَة صالح بن مرداس في الضائع من الكتاب، وله أخبار متفرقة في ثنايا العديد من التراجم، كتَرْجَمَة أمير طيء وحليفه ضد الفاطميين: حسان بن المفرج (الجزء الخامس)، وتَرْجَمَة سالم بن مستفاد، (الجزء التاسع) وأبو الجيش بن لُؤْلُؤ السيفي أخو مرتضى الدَّوْلَة المذكور أعلاه (الجزء العاشر)، وغيرهم، وله خبر مع أبي العلاء المعري يرد في تَرْجَمَتِه (الجزء الثاني).
وانظر تفاصيل وقوعه في سجن ابن لُؤْلُؤ وكيفية تخلصه، ثمّ إيقاعه بابن لُؤْلُؤ وتقييده بذات القيد عند: ابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 1: 214، العظيمي: تاريخ حَلَب 322، ابن بطريق: التاريخ المجموع 2: 246، ابن الأثير: الكامل 9: 227 - 228، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 180 - 181، ابن خلكان: وفيات الأعيان 2: 487، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 151 - 152، الداوداري: كنز الدرر 324، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 4: 248.
وفي رسائل العميدي المنشورة مؤخرًا رسائل موجهة من الخِلَافَة الفاطمية له على سبيل التحذير؛ تشرح أفعاله حتَّى تم الإيقاع به وبحلفائه في وقعة الأقحوانة سنة 420 هـ، انظر: رسائل العميدي 248 - 300، 308 - 320، وابن خلدون: العبر 7: 836 - 839.
وبَقِيَت مَمْلكة حَلَب في عَقِبهِ بعدهُ إلى أنْ مَلَكها أبو المَكَارم مُسْلِم بن قُرَيش العُقَيلِيّ في سَنة اثنتين وسَبْعين وأرْبَعِمائة، وزَالت دَولة بني مِرْداس وبَقِيَت إمرَةُ العَرَب في بني كِلَاب إلى من ولاية المَلِك الظَّاهر، ثمّ أزاحهم عنها آل طَيِّء فَدَخَلُوا إلى بلاد الرُّوم، وتَحَضَّر منهم جَمَاعَةٌ واشْتغلوا بالمَعَايش.
ومن ولد عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب القُرَيطِيُّون، ويُعرفُونَ بالجَهَابِلَة، ومنهم المَعْرُوف بالدُّنَين (a) الَّذي أَسَر ناصِر الدَّوْلَة الحُسَيْن بن الحَسَن بن الحُسَيْن بن حَمْدَان في الفُنَيْدَق
(1)
، وقد قَدِمَ إلى حَلَب ليأْخُذَها من مَحْمُود بن نَصْر بن صالح، وهُم يَنْتَسِبُون إلى جَهْبَل بن نُصَيْر بن زَيْد بن جَنَاب بن نُصَيْر بن عَمْرو بن عِصْمَة بن مُرَيْرَة بن قُرَيْط بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب، وتَحَضَّر بَعْضُ ولده وصَار منهم عُلَماء وفُقَهَاء وعُدول بمَدِينَة حَلَب، وَسَنَذْكُرهم
(2)
في كِتَابنا هذا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(a) كذا مجوَّدًا، وذكر ابن العديم اسْمُه كاملًا في زبدة الحلب (1: 237): "الدُّنَيْن بن أبي كلب الجهبليّ"، ولم نجد له ذكرًا في سواه.
_________
(1)
الفُنيدق: هذا هو الاسم القديم للبلدة، ثمّ أصبحت تسمَّى بعد منتصف القرن الخامس الهجري: تل السلطان، لنزول السلطان ألب أرسلان السّلجوقيّ بها في سنة 463 هـ، حسبما يذكر ذلك ابن العديم في تَرْجَمَتِه (الجزء الرابع)، قال:"ومن ذلك اليوم عُرِف تلّ السُّلطان بتلِّ السُّلطان لنُزول ألب أرسْلَان على التَّلِّ، وكان يُعْرف المكان أوَّلًا بالفُنَيدق، وكان فيه فُنْدُق صَغِير يأوي إليهِ النَّاس، شاهدْتُه قبل أنْ يُجدّد الأمير سَيف الدِّين عليّ بن سُلَيمان بن جَنْدَر هذا الخان الَّذي هو الآن موجُود"، وسميت الوقعة بين ناصر الدَّوْلَة الحمداني وبني كِلَاب بوقعة الفنيدق.
وتلّ السلطان (أو الفُنيدق) إحدى ضياع المطخ الواقعة جنوبي بلدة قِنَّسْريْن (العيس)، وهي غنية بالينابيع والعيون، وتقع اليوم في سهول إدلب الشرقية، وتتبع ناحية أبو الظهور بمحافظة إدلب، وهي في بقعة سهلية واسعة غرب المطخ، في ناحية الشمال الغربي من بلدة أبو الظهور على بعد 7 كم، وإلى الشرق من الطريق الواصل بين بلدتي سراقب وأبو الظهور. انظر: تاريخ ابن عساكر 14: 51، والكامل لابن الأثير 10: 12، ابن العديم: زبدة الحلب 1: 237، والوافي بالوفيات 12: 353، واتعاظ الحنفا 2: 261، وكامل الغزي: نَهْر الذَّهب 1: 475، زكرياء: جولة أثرية 179 - 180، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 519 - 520.
(2)
لم يرد في المتبقي من الكتاب أي تَرْجَمَة لأولاد جهبل هؤلاء، ونقل ابن العديم بعض الأخبار عن أحدهم، وهو: أبو طالب عَبْد الرَّحْمَن بن فضل الله بن جهبل الحلبيّ، كما ورد في ثنايا تَرْجَمَة أحْمَد بن =
وذكَرَ النَّسَّابَةُ وَلد عَوْف بن كَعْب بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب، فقال في ذِكْر عَوْف: وهو الأَفْقَهُ؛ سَمَّاهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بذلكَ لأنَّه أوْفَده إلى قَوْمه فكان كُلَّما كَلَّمهُ بشيءٍ يَقُول: قد فَقُهت يا رسُول اللهِ.
قال: ووَلَدُ عَوْف أهلُ وَبَرٍ، وإخْوَتهم من عَامِر بن كَعْب بِبَرِّ الشَّام.
قال: فمن وَلده حَيَّة بن عَاصِم بن سَلْمَان بن ثَعْلَبَة بن يَزِيد بن مَالِك بن خَصَفَة ابن عَوْف بن عَبْد اللهِ بن أبي بَكْر بن كِلَاب، أهلُ مَدَرٍ لا وَبَر، وهُم بأرض الوَادِي بضَيْعَةٍ تُعْرفُ بشيْح أبي حَيَّة
(1)
باسْم أبيهم، ومَوَالِيهم بها وبما وَالَاها. فولد حَيَّة بن عَاصِم: إدْرِيس بن حَيَّةَ بَطْن كبير، ومُوسَى بن حَيَّة بَطْن، والحُوَيْرِث بن حَيَّة دَرَجَ لم يُعْقِبْ وَلَدًا.
قُلْتُ: شِيْح (a) بني حَيَّة غيَّرُوا اسْمها فهو يُعْرفُ في زَماننا بشيح بَنِي مَيٍّ.
قال النَّسَّابَةُ في ذِكْر جُزَيّ (b) بن عَمْرو بن عَوْف بن كَعْب بن عَبْد اللهِ، فولد جُزَيّ: زُرَارَة قَبِيلَة، وقَيْس قَبِيلَة، وطَلْحَة بَطْن كبير، فبَنُو زُرَارَة بن جُزَيّ بُطُونُها وأفْخَاذها (c) بأرض الحِجَاز.
= رستم بن كيلان شاه اسم: طاهر بن جهبل الحلبي المعروف بالمجد، فينظر هناك.
(a) كتبها هنا في الأصل بالإعجام: شيخ.
(b) كذا قيَّدهُ المؤلِّف وجوَّده، وكتبه فيما بعد بدون إعجام الزاي: جُرَي، ومثل هذا ما وجده الزبيدي (تاج العروس، مادة: زرر) في النسخ: جُرَي بالجيم والراء مصغرًا، وفي تاريخ البخاريّ (3: 439) جُزَي مُكبَّرًا، وفي كتاب الإصابة لابن حجر (3: 8): جُزَيّ أو جزءٍ، وذكر ابن ماكولا أن المحدثين يقولونه بكسر الجيم وسكون الزاي، وأهل اللغة يقولونه: جزءٍ بفتح الجيم والهمزة. انظر: الإكمال لابن ماکولا 2: 77 - 78.
(c) كرَّر في الأصل كلمة: "وأفخاذها"، ثمّ ضبب عليها.
_________
(1)
شيح أبي [أو: بني] حَيَّة: ذَكَرَها المصنف ضيعة في وادي بُطْنَان الواقع إلى الشرق من قِنَّسْريْن، والممتد ما بين بلدتي بزاعا والباب بانحدار نحو سبخة الجَبُّول، وذكرها في تَرْجَمَة أحْمَد بن العبَّاس الشيحي (الجزء الثاني) وحدد موضعها بالقرب من بزاعا. وتوجد اليوم في سوريا العديد من القرى والمزارع التي تحمل اسم: الشيحة، غير مَنْسُوبَةٌ، وليس من بينها ما يقرب من تحديد المؤلِّف. انظر: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 4: 66 - 68.
وكان نُزُول مَشَارقة بني كِلَاب: شُعْثَة
(1)
وذيْبَة أرْض الشَّام سَنة عشرين وثلاث مائة، وفي سنَة اثْنتان وعشرين مَخَرُوا
(2)
البَلَد من ضِيَاع الشَّرْق وغيره من البِلاد.
ومن بني زُرَارَةَ عَبْد العَزِيْز بن زُرارة بن جُزَيّ
(3)
، وكان سيِّدًا في زَمانهِ، ولهُ جِهادٌ كبيرٌ في بلاد الرُّوم؛ مات رحمه الله شَهيدًا.
وولد قَيْس بن جُزَيّ بن عَمْرو بن عَوْف بن كَعْب بن أبي بَكْر بن كِلَاب: صَالِحًا بَطْنٌ كبيرٌ، وأبا الصَّهبَاء بَطْنٌ، واسْمُه مُسْلم، وعُبَيد الله بَطْن كبيرٌ، وهُم أهلُ وَبَر لا مَدَر بِبَرِّ الشَّام اليَوْم، ولهم بالحِجَاز فَرِيقٌ أهْل وَبَرٍ لا مَدَر مع إخوَتهم زُرَارَة إِلَّا من شَذَّ منهم فجَزَّر وتحَضَّر، ولهم بأرض الوَادِي بَاد وبيس (a) وما وَالَاه من الأرض فَريقٌ يَسير أهلُ وَبَر لا مَدَر.
قال: ومن كَعْب بن عَوْف بن عبد بن أبي بَكْر بن كِلَاب: مُطَرِّف بن قَتَادَة بن كَعْب بن عَوْف بن عبد بن أبي بَكْر بن كِلَاب، وهو بَطْنٌ كبيرٌ من بني كِلَاب.
(a) كذا في الأصل و"ك"، ولعله من ضياع وادي بُطْنَان، ولم أجده في منازل بني جزيّ، ويرد من منازلهم في الجَزِيرَة العربية: ذِقان. انظر الحَسَن الأصفهاني: بلاد العَرَب 147. وربما كان المراد الموضع المسمى: بابنّس، بنَاحِيَة جَبَل سمعان، والمشرف على وادي تنحدر مياهه في نَهْر قويق، ويبعد عن حَلَب مسافة 12 كم نحو الشمال الشرقي. انظر: طلاس: المعجم الجغرافي 2: 207.
_________
(1)
شعثة بن هلال بن عَامِر بن صعصعة. انظر جمهرة ابن حزم 273.
(2)
مَخَرَ الأرض مَخْرًا: شقَّها للزراعة (تاج العروس، مادة: مخر)، ولعل المُراد: كثرة أعدادهم بالشام بعد هجرتهم إليه.
(3)
أحد قادة مُعَاوِيَة بن أبي سفيان، غزا القُسْطَنْطِينِيَّة، وتوفي سنة 50 هـ، وله أشعار أورد بعضها ابن الأثير، انظر: الكامل 3: 459، الوافي بالوفيات 14:194.
وذَكَرَ أيضًا مُطَرِّف بن إيَاد بن قَتَادَة بن كَعْب بن عَوْف، وهو بَطْن أيضًا من إيَاد من بني كِلَاب، وكانوا أهل وَبَرٍ بأرض الشَّام لا مَدَر، وهم أهْلُ بَيْت شَرف في عَوْف بن عبد بن أبي بَكْر بن كِلَاب.
قُلْتُ: والمُطَرِّفيَّة
(1)
، بالقُرْبِ من بُزَاعَا في وَادِي بني كِلَاب؛ نَزلتها مُطَرِّف فَنُسِبَت إليهم، واللهُ أعْلَمُ.
مَنْ نَزَل عَمَل حَلَب من وَلد عَمْرو بن كِلَاب
ذكَرَ النَّسَّابَةُ ولده نُفَيلًا فقال: ونُفَيْل قَبِيلَة كبيرة، فوَلد نُفَيْل: خَالِد بَطْن كبير، وخُوَيْلد
(2)
بَطْنٌ كبيرٌ؛ وأُمُّهُما غِنَى من كَعْب بن غَنِيّ (a). فولد خُوَيْلد بن نُفَيْل: رَبِيعَة بَطْنٌ كبيرٌ، وعَمْرو بَطْنٌ كبيرٌ، وزُفَر بَطْن، ومُعَاوية وعَوْف بَطْنَان، وعَلَس ومَعَد بَطْنَان كِبَار. فولد عَمْرو بن خُوَيْلد: يَزِيد الشَّاعِر وكان سَيِّدًا.
فمن بني يَزِيد بن عَمْرو: زُفَر بن الحَارِث بن عَبْد عَمْرو بن مُعَاز (b) بن يَزِيد بن عَمْرو بن خُوَيْلد بن نُفَيْل، كان سَيِّدًا في زَمانه، وكان فَارِسًا شُجَاعًا، فولد ثلاثَ بُطُون: الهُذَيْل، والكَوْثر، ووَكيع، وهُم أهْلُ مَدَرٍ وَوَبَرٍ مُتفرِّقين في البِلاد.
(a) عند المرزباني (أشعار النساء 96): أمهما ريطة بنت الحريش بن كَعْب، وعند ابن ماکولا (الإكمال 7: 39): غني بنت حرَّاق من غَنِيّ.
(b) في الأصل مجودًا: معان، ويأتي في تَرْجَمَتِه التالية (الجزء الثامن) بالزاي في آخره، وقد وقع في كثير من المصادر الاختلاف فيه؛ فعند ابن حزم (جمهرة أنساب 286): معاذ، وعند ابن عساكر (تاريخ 19: 34): مُعَاوِيَة، والمثبت من ابن سلّام (كتاب النسب ورقة 25 أ) وفيه: معاز، مجودًا وأكدها الناسخ بكتابة زاي فوقها، ومثله تقييد ابن حبيب (المحبر 255)، كتبه معاز وأكده بالكتب عقبه: بالزاي، وكذا ابن ماکولا (الإكمال 7: 273): معاز، بزاي في آخره، وانظر: تَرْجَمَتِه في الجزء الثامن.
_________
(1)
المطرفية: كانت -بحسب تحديد المؤلِّف لها- بالقرب من مَدِينَة بزاعا في وادي بَطْنَان، أي إلى الشمال الشرقي من حَلَب، ولم نجد في القرى التابعة لبزاعا والباب من تسمى بهذا الاسم. انظر عن القرى والمزارع التابعة للباب وبزاعا: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 2: 199 - 200، 297.
(2)
يُعرف بالصَّعِق؛ لصاعقة أحرقته. الاشتقاق لابن دريد 297، جمهرة الأنساب لابن حزم 286.
قُلْتُ: وكان مَنْزل زُفَرَ وأولادِه بالقُرْبِ من خُسَاف وناحية بَالِس
(1)
، وكان ينْزل كَوْثَر ببَالِس.
قال النَّسَّابَةُ: وولد خَالِد بن نُفَيْل: حُصَيْن بَطْن كبير، وحِصْن بَطْن كبير، وشُنَيْن (a) بَطْن كبير، وكان شُنَيْن فَارِسًا جَوَادًا شَاعِرًا، ودُوْدَان (b) وعَبْد اللهِ قَبِيلَتان كِبَار، وزُهَيْر بَطْنٌ، والصَّبَّاح بَطْنٌ.
فمن ولد الحُصَيْن بن خَالِد: بنو جُمْهُور بَطْن كبير، وهُم أهْلُ مَدَر لا وَبَر، وكانُوا يَنْزِلون ببَالِس، وكان بها بَطْنَان من العَرَب لا غير؛ هُم: بنو جُزَي بن عَمْرو بن مَالِك بن عَمْرو بن كِلَاب، وبَنُو صَلَتَان، وكانوا يَنْزلُون الحَدَث وما وَالَاها.
ومن ولد الحُصَيْن: بَنُو الضَّحَّاك بن فَائِد
(2)
؛ بَطْنٌ كبيرٌ كانُوا بأرض زَعْرَايا تُعرفُ بهم، كانُوا يَتَدَيَّرُونَها فأُسْمِي تلكَ الأرْضَ بدَيْر عَمْرو
(3)
، وهم أهلُ مَدَر لا وَبَر.
قال: ووَلَد عَبْد اللهِ بن كِلَابٍ: مُعَاوِيَة بَطْنٌ كَبِيرٌ، وهو الصَّمُوت، ونُفَاثَةَ بَطْن كبيرٌ، وعَوْف بَطْنٌ كَبِيرٌ.
فولد الصَّمُوت: عَامِر بَطْن كبير وغيره من البُطُون. وولد نُفَاثَةَ بن عَبْد اللهِ: عَمْرَة بَطْن كبير وغيره من البُطُون، وهؤلاء أهل وَبَرٍ ومَدَر بأرض الشَّام وأرض العِرَاق، كان منهم بوَادِي بني كِلَاب بضَيْعَةٍ يُقالُ لها البيرة بَطْن يُعْرفُ بِبَني عَامِرٍ هم ومُلَايمتَهُم مُتفَرِّقينَ في البِلادِ، منهم بالبَصْرة خَلْقٌ كَثِيرٌ، أهلُ مَدَرٍ ووَبَرٍ.
(a) كذا في الأصل مجودًا، وفي المصادر: شُتَيْر. انظر: الاشتقاق 297، العقد الفريد لابن عبد ربه 5: 180 - 181، المستقصى من أمثال العَرَب للزمخشري 1: 204، ومجمع الأمثال للميداني 1: 408، والنويري: نهاية الأرب 15: 378.
(b) كذا قيدها بالدال المهملة، وتقدم التعليق عليها.
_________
(1)
ذکر ياقوت من قرى زُفر: زرَّاعَة زُفَر بقرب بالس. مُعْجَمُ البلدان 3: 135.
(2)
ذكر البخاريّ في تاريخه الكبير (4: 337) الضَّحَّاك بن فائد، ولم يزد في اسْمه على هذا.
(3)
دير عَمْرو: لم أقف له على ذِكْر في أسماء القرى والمزارع الواقعة بنواحي زعرايا أو بنَاحِيَة رسم الحرمل الَّذي تتبع له الآن إداريًّا، وزعرايا -كما تقدّم التعريف بها- قرية بمنطقة الباب من محافظة حَلَب، تبعد عن بلدة رسم الحرمل مسافة 9 كم باتجاه الشرق. انظر: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 3: 478، 553.
قال: وولد مُعَاوِيَة بن كِلَاب، وهم الضِّبَابُ: زُهَيْرٌ، وحِصْنٌ، وحُصَيْن، وحَمَل، ومَالِك، وأُمُّهُم الأحْمَسِيَّةُ، هؤلاء الخمْسُ بُطُون يُعرفُونَ بأُمِّهِم، وَرَبِيْعَة وضَبٌّ وضُبَيْب، وحيين (a)، وجني، وزُفَر، والأعْوَر، هذه السَّبْعُ بُطُون أُمُّهُم السَّلُوليَّةُ وبها يُعرفونَ، وهذه الأسْماء تُعْرف بالضِّبَاب، منهم آلُ جَوْشَن، واسمُه شُرَحْبِيل، وإنَّما سُمِّي جَوْشَن؛ لأنَّه أوَّل عَرَبيٍّ لبسَ الجَوْشَن من كِلَاب في الجَاهِليَّة. ومنهُم بنُو الأشْهَب قَبِيلَةٌ ذاتُ مَنَعَةٍ وعَدَدَ
(1)
. ومنهم بنُو منَّة بَطْنٌ لَطِيفٌ.
ومن بَنِي السَّلُوليَّةُ وبَني الأحْمَسِيّةَ تَفَرَّعَتْ قَبَائِل الضِّبَاب وبُطُونُها وأفْخَاذُها إلى اليَوم، أهل وَبَرٍ ومَدَرٍ بِبَرِّ الشَّام من أرض شَيْزَر وما وَالَاها، وكان منهُم بنَهْر السَّاجُور وبأرض مَنْبِج إلى أرض زَعْرَايا (b) خَلْقٌ كَثِيْر، أهل مَدَر وَوَبَرٍ لأنَّهم تَدَيَّروا هذه الأرْض، وهُم بها إلى اليَوْم.
(a) في الأصل بإهمال الياء الأولى، وفي "ك": حبين، ولم أجده -هو وآخرين- في أولاد مُعَاوِيَة بن كِلَاب، وقد اختلفت كتب الأنساب في عدد أولاد مُعَاوِيَة وأسمائهم، فابن حبيب (مختلف القبائل 343) أسماهم: ضب ومُضِب وحِسل، وذكرهم ابن قُتَيبة (المعارف 88): حسل وحسيل. ولعله المُراد أعلاه. وضبّ، وزاد الوزير المغربي (الإيناس 202) على هؤلاء الثلاثة اسم: مُضِبّ، وعدد ابن رشيق (العمدة 2: 195) أربعة عشر ولدًا هم: ضب، حسل، حسيل، حصن، حُصَيْن، خَالِد، عَبْد اللهِ، قاسط، الأعرف، تولب، شقيق، خزيم، الوَلِيد، زهير، وذكر أبو عليّ الهجري (التعليقات والنوادر 4: 1801): عَبْد اللهِ وضبّ وزفر، وأمهم سلولية، وحصين وحصن وحمل وشجاع وزهير. وعند ابن حزم (الجمهرة 287): زهير بن عَمْرو بن مُعَاوِيَة الضبابيّ، والجوشن "شرحبيل بن الأعور"، وانظر أيضًا الحازمي: عجالة المبتدي 82.
(b) أفسدت الرطوبة النصف الأوّل من الكلمة، وربما تكون: الفايا، وهي قريبة من زعرايا في البر.
_________
(1)
ذكر أبو عليّ الهجري من بُطُون الأشهب بن قاسط: خِصْيَل بن الأشهب، والعدد فيه، وحوشب والطَّوَّاف، ومن بُطُون خِصْيَل: زنمة وحُمْرَة. انظر التعليقات والنوادر 4: 1801.
قال: ووَلَدُ جَعْدَة بن كَعْب بن رَبِيعَة بن عَامِر بن صَعْصَعَة ستّ قَبَائِل: زُهَيْرٌ، ورَبِيعَةُ، وعَبْد اللهِ وهو اللَّبْوَةُ الطَّحْنَاءُ (a)، ومُعَاوِيَة، ومِرْدَاس، وبُرْقان، فولد رَبِيعَة ابن جَعْدَة تِسْعُ بُطُون: عَمْرو، وحَيَّان، وعَبْد اللهِ
(1)
، وحَرْب (b)، وعَامِرٌ، وعَوْفٌ، وحِصْن، وعُدْس، وقُرَّة (c)، ومن هذه البُطُون تَشَعَّبَتْ بُطُونُ جَعْدَة وأفخَاذُها.
فمن جَعْدَة: الرُّقَّاد (d) بن عَمْرو بن رَبِيعَة بن جَعْدَة بن كَعْب؛ الوافِدُ على رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وكَتَب له كتَابًا هو عندَ ولده، وأقْطَعَهُ الفَلَجِ، والعَايل (e) ، وصَدَّاء (f)، وحَراضَة (g) ، فجَعْدَةُ بها إلى اليَوْم وبأرْضِ اليَمَامَة، أهل مَدَرٍ وحَقْل (h) وحَرْث إِلَّا مَنْ شَذَّ منهم فتَشَاءَم وجَزَّر وتَحَضَّر، وكان منهم بَطْن بأرْض مَنْبِج بإخْلِيطَ
(2)
والصَّيَّادَة
(3)
وما وَالَاها، أهلُ مَدَرٍ لا وَبَر.
(a) أفسدتها الرطوبة، ويمكن أن تقرأ أيضًا: الضخماء، وفي "ك": الصخباء.
(b) الهمداني 180: جزء.
(c) الهمداني 180: قردة.
(d) الأصل و"ك": الرفاد، والتصويب من ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 25 أ، والهمداني: صفة جزيرة العَرَب 180 وتعليقات أبي على الهجري 2: 745، ذكره وأورد شعرًا فيه، وقال: الرُّقَّاد أهل بيت الإمرة والملك فيهم، وهم أهل الفَلَج.
(e) كذا في الأصل، وفي "ك": العامل، وعند الهمداني: صفة جزيرة العَرَب 306، والحربي: كتاب المناسك 619، والحسن الأصفهاني: بلاد العَرَب 227: الغَيْل، وهو وادٍ بين جبلين يبعد عن الفَلَج نحو سبع فراسخ، وتكثر فيه أشجار النخيل، يقطنه بنو جَعْدَة، وبأعلاه بعض بني قشير.
(f) الأصل: صد، والمثبت من تعليقات الهجري 4: 1852، وكتاب المناسك للحربي 619، والحسن الأصفهاني: بلاد العَرَب 226، وهم يشاركون بني قشير فيها، وصداء: من بلاد الأفلاج كان فيها حصن لبني قشير. انظر: مناسك الحربي 619 (هامش 8)، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 395 - 397.
(g) الأصل و"ك": حراصة، والمثبت من صفة جزيرة العَرَب للهمداني 306، ومناسك الحربي 619، والحسن الأصفهاني: بلاد العَرَب 400، وحراضة: واد من أودية الأفلاج الشمالية، وعدد الهمداني مواضع أخرى غير التي ذَكَرَها النَّسَّابَةُ الأسدي أعلاه، وهذه مواضع بنجد واليمامة وتهامة.
(h) كلمة أخفتها الرطوبة، يظهر في آخرها اللام، وفي "ك": وبر، وعند الهمداني: بلد بني جَعْدَة به النخل والزروع والآبار والحُصُون.
_________
(1)
قال الهمداني: ويُنبز بالمجنون. صفة جزيرة العَرَب 180.
(2)
لم أقف على ذِكْر لها، ولم ترد ضمن القرى والمزارع التابعة إلى مَنْبِج. انظر عن قرى مَنْبِج: المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 5: 350.
(3)
الصَّيادة: قرية في هضبة حَلَب الشرقية تبع منطقة مَنْبِج بمحافظة حَلَب، تقع إلى الغرب من مَدِينَة مَنْبِج على بعد 14 كم. طلاس: المعجم الجغرافي 4: 164، 5:350.
ومِن وَلَدِ قُشَيْر
قال النَّسَّابَةُ: ثمّ قَبَائِل الأَعْوَر بن قُشَيْر: بنُو عَبْد اللهِ الأَعْوَر، وبَنُو حِصْنٍ (a)، وبنُو قُرْط، وبنو عَامِر، وبنو مَسلح (b)، فهذه قَبَائِل عَامِر بن الأَعْوَر، وبنو بَيْهَسٍ، وبنو عَاصِم بن عَامِر. فمن بَنِي بَيْهَسٍ: آلُ زِيَاد وهُم يَتَفَخَّذُونَ وأفْخَاذُهم القاطِنُون بشَطِّ الفُرَات يُعْرَفُون بالشَّطِّيِّيِن، وهُم أهْلُ مَدَرٍ لا وَبَر، ومَوَالِيهم إلى اليَوْم، وَلهُم بأرْض خُرَاسَان خَلْقٌ كَثِيرٌ، وهُم من ولد زيَاد بن عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد اللهِ بن هُبَيْرة بن زُفَر بن عَبْد اللهِ بن الأَعْوَر بن قُشَيْر، وكان عُمَر بن عَبْد العَزِيْز ولَّاه خُرَاسَان بأسْرها، فَوَلدهُ هناك أهلُ مَدَر وَوَبَرٍ.
ولَهُم بأرْضِ العَرَب خَلْقٌ كَثِير أهل مَدَر لا وَبَر، وهُم ولد كُلْثُوم بن عِيَاضٍ (c) بن وَحْوَح بن قُشَيْر بن الأَعْوَر بن قُشَيْر بن كَعْب؛ وَلِيَ لهِشَام بن عَبْد المَلِك إفريقِيَّة، فولَدهُ هُناك.
ولهم بخُرَاسَان، بِنَيْسَابُور وبِسَرْخَس، خَلْقٌ كَثِيْر، منهم ولد زُرَارة بن عُمَر (d) بن سُمَيْر (e) بن سَلَمَة، كان وَلِيَ خُرَاسَان للوَلِيد بن عَبْد المَلِك، وعَظُم بها قَدرهُ، فولده هُناك إلى اليَومْ، أهلُ مَدَرٍ لا وَبَر.
(a) التعليقات والنوادر 4: 1853: بنو حُصَيْن.
(b) التعليقات والنوادر 3: 653، 4: 1853، 1876: بنو مُشَنَّج.
(c) الأصل: عَياص، والتصويب من ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 25 ب، ومن جمهرة ابن حزم 290. وانظر عن منازل بني قُشَيْر في جزيرة العَرَب: الحَسَن الأصفهاني: بلاد العَرَب 323 - 239.
(d) كذا في الأصل، وعند ابن حزم 290: عقبة، ولم أجد ما يعضده.
(e) في الأصل: سمس، مهملة، "ك": شمس، وعند ابن خلکان: وفيات الأعيان 6: 367: سَمُرة، والتصويب من جمهرة ابن حزم 290، والتعليقات لأبي عليّ الهجري 4:1852.
ولهم بأرض الشَّام خَلْقٌ، بالشَّام بأرض حَلَب بحَمُّوص (a) وغَارْ (b) وما وَالَى تلكَ الأرْض، أهلُ مَدَرٍ لا وَبَر، وتُعرفُ تلك الأرْض بنُقْرَة قُشَيْر، ومنهم متَفرِّقُون في البلاد بالجَزِيرَة وغيرها من الأرض.
قُلْتُ: ومن آل زِيَاد القُشَيْريِّين الشَّطِّيِّين: جَعْبَر القُشَيْري الَّذي تُنْسَبُ إليهِ قَلْعَة جَعْبَر، وكانت أوَّلًا تعرف بقَلْعَة دَوْسَر
(1)
، وكان جَعْبَر هذا يقطع الطَّرِيق، وجَمَع في قَلْعَة جَعْبَر أمْوالًا جَلِيلةً كَثِيْرةً، وقُتِلَ في سنَة أربعٍ وسِتِّين وأربَعِمائة بحِيْلةٍ ومَكِيدَةٍ تَمَّت عليه، ويُقالُ إنه عَمِيَ قبل أن يَموتَ، وصَارَت القَلْعَةُ بعدَهُ إلى ولدِهِ سَابق بن جَعْبَر القُشَيْريّ، فَسَلكَ مَسْلكَ أبيهِ في الفَسَاد وقَطْع الطَّرِيق، فلمَّا اجتَاز السُّلْطَانُ مَلِك شاه بقَلْعَة جَعْبَر وهو مُتَوَجِّهٌ إلى حَلَب، فأُنِهى إليهِ سُوء سِيرته وما هو عليه من الفَسَاد، فقَبَضَهُ وقَتَلَهُ، ولَمَّا تَسَلَّم قَلْعَة حَلَب من سِالمِ بن مَالِك بن بَدْران العُقَيْلِيِّ عوَّضَه عنها بقَلْعَة جَعْبَر، وسَيأْتِي ذِكْرُ ذلك في تَرْجَمَةِ سَالِم
(2)
إنْ شاء اللهُ تعالَى.
(a) كذا في الأصل، ويرد عند بعض المؤرخين ذِكْر حصن حموص في الثُّغُور الشمالية، أحد حصون سيس -وكان في يد الأرمن- يرد ذكره مع مرعش والمصيصة وغيرهما، وحدّد أبو الفداء موضع الحصن بجانب تل حمدون إلى ناحية الشرق منه، على مقربة من نَهْر جيحان، وظاهر النص يشير إلى موضع بحلب أو نواحيها. انظر: أبو الفداء: تقويم البلدان 250 - 251، العيني: عقد الجمان (القسم الخاص بعصر سلاطين المماليك) 1: 423، ابن خلدون: العبر 10: 349.
(b) كذا في الأصل، في "ك": عارا، ولم أهتد لمعرفتها.
_________
(1)
قَلْعَة دوسر (جَعْبَر): نسبةً لدوسر غلام النعمان بن المنذر، وهي قَلْعَة وقرية في بادية الجَزِيرَة، تتبع ناحية الجرنية بمحافظة الرقة، تقع إلى الشمال الغربي من مَدِينَة الثورة على بُعد 17 كم، وإلى الجنوب الشرقي من بلدة الجرنية على بعد نحو 50 كم، ولا تزال القَلْعَة بشكلها البيضوي قائمة إلى اليوم، تقوم على قاعدة صخرية مرتفعة على الجانب الأيسر لوادي الفرات. انظر: تاريخ الطبريّ 10: 81، رحلة التطيليّ 282، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 484، الوطواط: مناهج الفكر 1: 360، كامل الغزي: نَهْر الذَّهب 1: 485 - 486، طلاس: المعجم الجغرافي 2: 676 - 677.
(2)
انظر تَرْجَمَة سالم بن مَالِك العُقَيْلِيِّ في الجزء التاسع من هذا الكتاب، وعن جَعْبَر بن سابق القُشَيْري انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 1: 363، الصفدي: الوفيات بالوفيات 11: 84.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبِهِ تَوْفِيقِي
مَنْ نَزَل من وَلَد نُمَيْر بن عَامِر بن صَعْصَعَة
قال أبو عَبْد اللهِ مُحمَّدُ بن أحْمَد النَّسَّابَةُ الأسَدِيُّ في كتاب ديوان العَرَب: ثُمَّ قَبَائِل ضِنَّة
(1)
بن نُمَيْر: بنو وَهْب، وبنو نَاضِرَة، وبنو نَاشِرَة، وبنو عَفِيف، وبنو سَعْد، وبنو عَمْرو، وبنو رَبِيعَة، وبنو حَبِيْب، وبنو وَدِيْعَة، وبنو عُلاثَة، ومن هذه العَشَرة قَبَائِل تَفَرَّعَتْ بُطُون ضِنَّة بن نُمَيْر وأفْخَاذه إِلَّا أنَّهم قليل، مُتَفَرِّقُون في البِلادِ، قد نَزَل منهُم فَريقٌ بِمَحَلِّ حَلَب طَرف البَرِّيَّة وهو يُعْرفُ بِتَلِّ بَنِي ضِنَّة
(2)
وهو اليَوْم خَراب، مُتَفَرِّقُون في البلاد.
وكان قد نَزَل منهُم فَريقٌ كبير من سَائِر فرق بَنِي نُمَيْر بأرضِ الشَّمَال نحو الحوَّارة
(3)
والأخْترين
(4)
وما وَالَى تلك الأرض فتديَّرُوها فَنُسِبَ المَحَلّ إليهم،
(1)
ضبطه ابن العديم -وربما النَّسَّابَةُ- بفتح الضاد في بعض المواضع، وهو بالكسر كما في كثير من المصادر وكتب الأنساب، وبين ابن دريد اشتقاق الاسم من ضِنَّة، من قولهم: ضَنِنْت بالشيء أضَّنَّ ضِنًّا. انظر: الاشتقاق لابن دريد 294.
(2)
تل بَنِي ضِنَّة: لعلّه القرية المسماة اليوم: قرية أبو ضِنَّة، وهي في سهول حَلَب الوسطى تتبع ناحية كويرس شرقي بمنطقة الباب من محافظة حَلَب، تقع ناحية الجنوب الشرقي من بلدة كويرس شرقي على بعد 10 كم. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 31.
(3)
الحوارة: لعلها القرية المسماة اليوم: حوار كِلِّس، وهي من قرى هضبة حَلَب بمنطقة أعزاز من محافظة حَلَب، تقع إلى الشمال الشرقي من مَدِينَة عزاز على بعد 22 كم، ويمر بشماليها مسيل مائي يرفد نَهْر قويق. طلاس: المعجم الجغرافي 3: 163.
(4)
الأخترين: بلدة في سهول حَلَب الغربية، تتبع منطقة أعزاز بمحافظة حَلَب، تبعد عن مَدِينَة أعزاز نحو 30 كم نحو الجنوب الشرقيّ، ويمر إلى الجنوب منها وادي العقير أحد روافد نَهْر قويق. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 59.
فيُقال: حَبْل (a) بَنِي نُمَيْر، وكان القوم أهل مَدَرٍ لا وَبَرٍ، وكان نُزُول نُمَيْر بالجَزِيرَة سنة تسع وثَلاثمائة للهِجرة.
قُلْتُ: وبعد زَمن النَّسَّابَةُ عمر تَلّ بَنِي ضِنَّة، ونَزَلَه من أهل نُقْرة بَنِي أَسَد مَنْ سَكَنَهُ، وصَارَ المكانُ من أُمَّهات قُرَى النُّقْرَة.
وممَّن كان بأعْمال حَلَب من بَنِي نُمَيْر: بنو الحَارث بن نُمَيْر، ومنهم عُبَيْد الرَّاعي ابن الحُصَيْن، قيل: إنَّهم نَزَلُوا بشَطِّ الفُرَات، وكانت قَلْعَة نَجْم لبعضِ أولاده، وهو مَنْصُور بن الحَسَن بن جَوْشَن بن مَنْصُور بن حُمَيْد بن ثال (b) بن وزر (c) بن عَطَّاف بن بشر بن جَنْدَل بن عُبَيْد الرَّاعي بن الحُصَيْن بن مُعَاوِيَة بن جَنْدَل بن قَطَن بن رَبِيعَة بن عَبْد اللهِ بن الحَارِث بن نُمَيْر، وكان له قَلْعَة نَجْم، فقُتِلَ وأُخِذَت القَلْعَة، ووقَع الاختلاف بين عشيرته واختلَّ أمْرهم، وتَغلَّب التُّرك على ديارهم، وتفرَّقت جماعتهم وكان ولده نَصْر فَاضِلًا أدِيْبًا، وسَيْأتي تَرْجَمَتُه
(1)
في موضعها إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى.
ولولده نَصْر المَذكُور أبياتٌ يَرْثي والده، ويَذْكر ما جَرَى من اخْتلاف عَشِيرته، أنشَدناهَا ببَغْدَاد أبو الحَسَن المُبارَكُ بن أبي بَكْر مُحمَّد بن مَزْيَد الخَوَّاص عنه:[من الكامل]
لا تبعدنّ حُسَام دَوْلةِ عَامِرٍ
…
من لَيْث مَلْحَمَة وغَيْث عَطَاءِ
(a) كذا بالحاء وسكون الباء، وتقدم التعليق عليه فيما مرّ.
(b) كذا في الأصل، ومثله في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1: 374 (في سياقة تَرْجَمَة ابنه نصر بن مَنْصُور)، وورد الاسم بزيادة ألف في أوله:"أثال" عند ياقوت: مُعْجَمُ الأدباء 6: 2747، ووفيات الأعيان 5:383.
(c) كذا في الأصل، و"ك"، ومثله في ذيل طبقات الحنابلة 1: 374، وعند ابن خلکان (وفيات الأعيان 5: 383): ورد، وفي نسخه الأخرى: ورز، وزر، وزرين.
_________
(1)
تَرْجَمَته في الأجزاء الضائعة من الكتاب.
أنْحَي على شَمل العَشِيْرَة بعدَهُ
…
ريبُ الزَّمان بفُرقَةٍ وتَنَائِي
وأنشَدَنا أيضًا عنه: [من الوافر]
ولولا الخُلْفُ ما انْصَدَعَتْ عصَانَا
…
ولا ملَكَ الزَّمان لنا اقْتِسَارا
عُدْنا إلى قول النَّسَّابَةِ، قال:
من وَلَد هِلَال بن عَامِر بن صَعْصَعَة، أخي نُمَيْر
بنُو عَبْد اللهِ بن هِلَال، منهم: رُوَيْبَة بن عَبْد اللهِ بن هِلَال بن عَامِر بن صَعْصَعَة.
قال النَّسَّابَةُ: فقبائل رُوَيْبَة بن عَبْد اللهِ بن هِلَالٍ: بنو الهُزَم
(1)
، وبَنُو عَمْرو، وبَنُو البَرَّاق، وبَنُو أنس (a)، وبَنُو زُفَر، وبَنُو الخَيْر، ومن هذه السَّبْع (b) تَفَرَّعَتْ بُطُون رُوَيْبَة بن عَبْد اللهِ بن هِلَالٍ بن عَامِر، وهُم أهل وَبَر ومَدَر بالحِجَاز إِلَّا من شذَّ منهم فإنَّه نزلَ بأرض الشَّام، فتدَيَّر بأرض حَوْرَان، وَنَزَلَ منهم فَرِيقٌ بأرض زَعْرَايا طَرف البَرِّ، منهم بالفَايا وما وَالَاهَا، ونُسِبَ المحَلّ إليهم إلى اليَوْم فكانوا هُم ومَوَالِيهم بهِ، ثمّ تَخَرَّب البَلَدُ فنَزَلُوا في البلاد.
قُلْتُ: ومن بَنِي الهُزَم بن رُوَيْبَة بن عَبْد اللهِ بن هِلَال، مِمَّن كان بالفَايَا: عَاصِم بن عَبْد اللهِ (c) بن بُرَيْد بن عَبْد اللهِ بن الأصْرَم بن شُعَيثَة بن الهُزَم بن رُوَيْبَة بن عَبْد اللهِ بن هِلَال الهِلالِيّ، وولده زُفَر بن عَاصِم، وابنُه العبَّاس ابن زُفَر، وابنه زُفَر بن العبَّاس، وابنه عَاصِم بن زُفَر، وما زَالُوا يقيمون بأرض
(a) غير واضحة في الأصل، والمثبت من "ك".
(b) كذا والمذكور ستّ قَبَائِل!؟
(c) في الأصل مصغرًا: عبيد الله، والتصويب من تَرْجَمَة ابنه زفر بن عاصم التي أفردها له ابن العديم في الجزء الثامن من الكتاب، والتصويب موافق لمصادر التَرْجَمَة المذكورة هناك.
_________
(1)
انظر عن بَنِي الهُزَم: الاشتقاق لابن دريد 294، جمهرة ابن حزم 274، المقتضب 157.
حَلَب، والعبَّاس بن زُفَر بن عَاصِم هو الَّذي أنْجَدَ الهَاشِمِيِّين من أهل حَلَب لمَّا حاربَهُم أهل حَاضِر حَلَب وأرادوا إخراجهم منها وذلك في أيَّام فتنة مُحمَّد بن الرَّشِيد
(1)
، وما من أحدٍ من هؤلاء إِلَّا سَيِّد مذكور، وسَنَذْكُر كُلّ واحدٍ منهم في مَوضِعه
(2)
من كتابنا هذا إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى.
ومن قَبَائِل نَصْر بن مُعَاوِيَة بن بَكْر بن هَوَازِن بن مَنْصُور
قال النَّسَّابَةُ: وكان من نَصْر بن مُعَاوِيَة بَطْنٌ نَزَل بأرض حَلَب ونَسَل بها يُقالُ لهُم بنُو طَرِيف، وهم أهلُ مَدَر وَوَبَرٍ بالغُوْز
(3)
وما والَى تلك الأرض، كانُوا بها وَمَوَالِيهِم.
قال النَّسَّابَةُ:
ثُمَّ قَبَائِل ثَقِيف
وهو مُنَبِّهُ بن بَكْر بن هَوَازِن بن مَنْصُور، وثَقِيف واسمُهُ قَسِيّ، فقَبَائِل قَسِيّ ثَقِيف: بنو عَوْف، وبَنُو جُشَم (a)، وبَنُو خِدَاش (b) وهم في الأَزْدِ، وبَنُو سَلَامَة
(4)
.
(a) في الأصل: "فقبائل قسي ثقيف بن عَوْف وهي جشم"، والوهم بيّنٌ؛ تصويبه من ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 26 ب، وابن حزم: جمهرة أنساب العَرَب 266.
(b) عند ابن حزم: الجمهرة 266: دارس؛ دخل ولدُه في الأزد.
_________
(1)
أنجدهم العبَّاس بن زفر للخؤولة التي تربطه بهم، وامتدت محاولته هذه للخروج على الدَّوْلَة العباسية بقِنَّسْريْن. انظر: البَلاذُرِيّ: فتوح البلدان 151 - 152، قدامة: الخراج 303، ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 2: 206، تاريخ مارمِيْخَائِيْل 2: 456، ابن العبري: تاريخ الزمان 22.
(2)
بقيت من بين هذه الأسماء تَرْجَمَة زفر بن عاصم بن عَبْد اللهِ (الجزء الثامن)، وسقطت تراجم: عاصم ابن عَبْد اللهِ بن بُريد، والعباس بن زفر بن عاصم، وزفر بن العبَّاس بن زفر، وعاصم بن زفر بن العبَّاس.
(3)
الغُوْز (بالزاي): قرية في هضبة حَلَب تتبع ناحية أخترين بمنطقة أعزاز من محافظة حَلَب، تقع جنوب بلدة أخترين على بعد نحو 9 كم، وتنحدر أراضيها قليلًا نحو الشمال الغربي باتجاه وادي قويق. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري 4:448.
(4)
لم أجده في أولاد ثقيف.
ومن هذه القَبَائِل تَفَرَّعَتْ بُطُونُ ثَقيف وأفْخَاذُهَا، فَقَبَائِل عَوْف بن ثَقيفٍ: بنُو مُعَتِّب (a)، وبَنُو عَتَّابٍ، وبَنُو عِتْبَان (b)، وبَنُو مُنَبِّه، وبَنُو عُقْبَة، وبَنُو مالِكٍ (c) ؛ هذه قَبَائِل عَوْف، ومنها تَفَرَّعَتْ بُطُون عَوْف بن ثَقِيف.
وقَبَائِل مُعَتِّب بن عَوْف (d) : بَنُو مَسْعُود، وبَنُو عَامِرٍ، وبَنُو وهْبان، وبَنُو عَمْرو، وبَنُو مُعَاوِيَة، وبَنُو سَلَمَة، وبَنُو رَبِيعَة. ومن هذه القَبَائِل تَفَرَّعَتْ قَبَائِل مُعَتِّب (e) ابن عَوْف وأفْخَاذُه، ومنهُم بنُو حُطَيْط بن جُشَم بَطْن كبير، وهُم أهْلُ مَدَر وَوَبَرٍ كان محَلُّهُم الطَّائف
(1)
، وهم قَبِيلَة عظيمَة خَرَج منها سَادَةٌ في الجاهلِيَّة والإسْلَام، وقد شذَّ منهم قَبَائِل تَشَاءَمَتْ وجزَّرَتْ وتَعَرَّقَتْ، وكان منهم بَطْنٌ نَزَلَ أرض مَنْبِج وبأرض رَعْبَان وما وَالَى تلك الأرْض، وهُمْ أهْلُ مَدَرٍ لا وَبَر.
قال: ومن قَبَائِل النَّمِر بن قَاسِط بن هِنْب بن أفَصْى بن دُعْمِي بن جَدِيْلَة بن أَسَد ابن رَبِيعَة بن نِزَار: فقَبَائِل تَيْم اللهِ بن النَّمِر: بنُو الخَزْرَج بن تَيْم اللهِ، ومن الخَزْرَج تَفَرَّعَتْ بُطُونُ الخَزْرَج وأفْخَاذُهَا، فولد الخَزْرَج بن تَيْم الله بن النَّمِر بن قَاسِط: سَعْد قَبِيلَةٌ كبيرةٌ، فوُلد لسَعْد بن الخَزْرَج: عَامِر الضَّحْيَان قَبِيلَة، وكان سَيِّدًا في زَمَانه، وكان حَاكِم العَرَب، يَقْعُدُ لقَوْمِه الضُّحَى، فَسَمَّتْهُ رَبِيْعَةُ الضَّحْيَان، والبَيْتُ فيه وهو البَيْتُ الثَّالِث، فمن وَلدِه عَامِر بن هِلَال قَبِيلَة، وهو هِلَال بن عَامِر بن سَعْد بن الخَزْرَج ابن تَيْم اللهِ.
(a) في الأصل مجودًا: مُغِيث، ومثله في "ك"، والتصويب من ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 26 أ، والضبط منه، وابن دريد: الاشتقاق 306، وابن حزم 267، والمقتضب 163 وفيه: مَعْتب؛ بالتخفيف.
(b) في الأصل مجودًا: غَسَّان، ومثله في "ك"، والتصويب من ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 26 أ، وابن دريد: الاشتقاق 306.
(c) عند ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 26 أ: أبو عُتْبَة بنُو مَالِك؟!
(d) في الأصل و"ك": مغيث بن غوث، ولعله تحرف من عَوْف، وعند ابن سلّام: معتب بن مَالِك.
(e) في الأصل: مُغِيث، وفي "ك": مغيث بن غوث.
_________
(1)
انظر مساكن ثقيف في الطائف عند الهمداني: صفة جزيرة العَرَب 260.
فمن عَامِر بن هِلَال: نُمَيْر بن عَامِر أبا سَلَمَة بن سَلّام بن الحَارِث بن هِلَال بن عَامِر، فأهل كَفَرْيَا
(1)
من نُمَيْر بن النَّمِر والقَشْعَم وهذه القَبِيلَة -أعْني هِلَال- شَطَّت عن مَحَلِّ النَّمِر، وكانُوا أهل وَبَرٍ لا مَدَر بأرض العراق ببَرِّهِ.
فولَد نُمَيْر: سَلّام، ومالِك، وحُصَين، وسُهَيْل، وسَالِم، وبهيج (a)، وعياش (b) بنُو دروة بن عَيَّاش بن عِيسَى من ولد سَالِم بن نُمَيْر، وخَرَجَ من الخَزْرَج عن المحلِّ، فمنهم مَن تشَاءَم ومنهم مَن جزَّرَ، وتفرَّقُوا في البِلاد على نسبهم في رَبِيعَة، أهلُ مَدَرٍ وَوَبَرٍ.
قال: أمَّا هِلَال بن عَامِر بن سَعْد بن الخَزْرَج بن تَيْم الله بن النَّمِر بن قَاسِط فنَزَل هو ومالِك بأرض حَلَب، وولده هُناك، وذلك المَحَلّ يُعْرفُ بالنَّمِريَّاتِ؛ وهي: كَفَرْيَا وكَفْر زغيْر
(2)
وتَلَّ الغِبْر (c)، وهم قَبِيلَةٌ أهلُ مَدَرٍ وَوَبَرٍ.
وقال: ومن ولد زُهَيْر بن تَيْم بن أُسامَة بن مَالِك بن بَكْر بن حُبَيْب (d) بن عَمْرو بن غَنْم بن تَغْلِب، وذكَرَهُم، وقال: ومن هذه القَبَائِل الثلاث تَفَرَّعَتْ
(a) مهملة الأوّل، والمثبت من "ك".
(b) مهملة في الأصل في هذا الموضع وتاليه، وفي "ك": عباس، ولم أجده في كتب الأنساب.
(c) كذا قيده في الأصل بالغين المعجمة، ويسمى اليوم: تل عِبِرْ، بالمهملة: وهو موقع أثري قديم يقع على الضفة الغربية لنهر الفرات من نواحي حَلَب، ويبعد عن بلدة الشيوخ بمنطقة عين العَرَب مسافة 8 كم نحو الجنوب الشرقي. طلاس: المعجم الجغرافي 2: 536.
(d) ضبطه في هذا الموضع بالفتح: حَبيب، ويأتي فيما بعد بالتصغير: حُبَيْب، والأخير موافق لابن حزم 304، والوزير المغربي: الإيناس 117.
_________
(1)
كفريا: قرية في هضبة إدلب الشمالية، تتبع ناحية معرة مصرين بمحافظة إدلب، تبعد عن بلدة معرة مصرين 3 کم باتجاه الجنوب، وتسمى اليوم: الكفرية، وذكر ياقوت: كَفَرِيَّة، قرية من قرى الشَّام ولم يحدد موضعها. مُعْجَمُ البلدان 4: 471، طلاس: المعجم الجغرافي 5: 72.
(2)
کفر زغير: لعلها القرية المسماة الآن: كفر صغير، والواقعة في هضبة حَلَب بمنطقة جَبَل سمعان، على بعد نحو 15 كم عن بلدة حريتان باتجاه الشرق. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 55.
قَبَائِل زُعَيْر (a)، بن تَيْم وبُطُونها إلى اليَوْم، وهُم أهْلُ مَدَرٍ وَوَبَرٍ بديار رَبِيعَة إِلَّا من شَخَصَ منهم فَنَزَل الشَّام والجَزِيرَة، والَّذي بالشَّام منهم ولَدُ الحَارِث بن زُهَيْر وهو هُنَيْئة (b) ، فولَدُه هُناك بأرضِ بلد آمِد وما وَالَى تلكَ الأرْض إلى نَهْر السَّاجُور إلى شُبَيْث وبُقْعَة مَنْبِج، أهلُ مَدَرٍ لا وَبَر إلى حَدِّ قَلْعَة بَنِي الشَّنَّان (c) ، وهذه القَبِيلَةُ مُتَفِرِّقَةٌ في الأرْض، خَلْقٌ كَثِيْرٌ وسَادَةٌ، فهم بذلك المَحَلِّ، وهو يُعْرفُ بِمحَلِّ رَبِيْعَة.
قال: ثمّ قَبَائِل خَالِد بن كَعْب بن زُهَير: بنُو سَلَمَة وهو السَّفَّاح، فولد السَّفَّاح بن خَالِد: هِدْم قَبِيلَة، وسُفَيح قَبِيلَة، فولد لسُفَيْح بن السَّفَّاح: قُرْط بَطْنٌ كبير، فولد لقُرْط بن سُفَيح: قَيْس بَطْنٌ كبير، فهذه بُطُون سَلَمَة، وهم بديار رَبِيعَة أهل مَدَرٍ وَوَبَرٍ إِلَّا من شَذَّ منهم. فولد لقَيْس بن عَمْرو بَطْن وهو وَبْر (d)، فولد لوَبْر بن قَيْس: حَنْظَلَة بَطْن، فهذه بُطُون هِدْم بن كَعْب بن زُهَيْر ومنه تَفَرَّعَتْ هذه البُطُون، وهُم أهلُ مَدَرٍ وَوَبَرٍ بأرض ديَار رَبِيعَة، ومنهم فريقٌ بأرض الشَّام مع إخْوَتهم ببُقْعَة مَنْبِج، ونَهْر السَّاجُور.
(a) كذا في الأصل بالعين المهملة، وفي المحبر لابن حبيب 300: زهير، ذكره في سياقة اسم سَلَمَة بن خَالِد ابن كَعْب السفاح.
(b) مهملة في الأصل ومجودة، والمثبت موافق للوزير المغربي: الإيناس 273 (وضبطه بفتح الهاء) وياقوت: المقتضب 206.
(c) في الأصل بإهمال النون ومشددة، فيمكن أن تكون أيضًا: الشتان، الشيان، الشبان. وتوجد اليوم في سوريا العديد من المواضع التي تتشابه في المسمى:
ففي هضبة حَلَب الشرقية توجد قرية اسمها: خربة الشيَّاب، تتبع منطقة مَنْبِج، وهي إلى الغرب من مَدِينَة مَنْبِج بنحو 17 کم. طلاس: المعجم الجغرافي 3: 237.
وقرية شنان: في جَبَل الزاوية من ناحية منطقة أريحا بمحافظة إدلب، وتقع على السفوح الشرقية لجبل الزاوية، وتبعد عن مَدِينَة أريحا مسافة 8 كم باتجاه الجنوب، فيها آثار قديمة. المعجم الجغرافي 4:51. ومزرعة الشنان في وادي الفرات بنَاحِيَة ذيبان من محافظة دير الزور. المعجم الجغرافي 4: 51.
وقرية اسمها: حويجة شَنَّان، تقع في وادي الفرات من ناحية السبخة بمحافظة الرقة، وهي على الجانب الأيمن لنهر الفرات، تبعد عن بلدة السبخة نحو 6 كم باتجاه الغرب، ويرد أن هذه القرية حديثة النشأة. المعجم الجغرافي 3:178.
(d) سماه ابن حزم: الجمهرة 306: هَوْبر.
قال: وقَبَائِل سَعْد بن كِنَانَة بن تَيْم بن أُسامَة بن مَالِك بن بَكْر بن حُبَيْب بن عَمْرو بن غَنْم بن تَغْلِب: بنُو عَبْد العُزَّى بن سَعْد؛ سَلَمَة ويَغْمر قَبِيلتَان، ويَغْمر هو الشّمس؛ لَقبٌ لزمَهُ في العَرَب.
فولد لسَلَمَة بن عَبْد العُزَّى مُعَاوِيَة بَطْن كبير، فولد لمُعاوية بن سَلَمَة: عَمْرو، وولد لعَمْرو بن مُعَاوِيَة: عَامِر، فهذه بُطُون سعد بن كِنَانَة، ومنها تَفَرَّعَتْ بُطُون سَعد، ومنهم فَريقٌ مع إخوَتهم بالشَّام بنَهْر السَّاجور وبُقْعَة مَنْبِج.
قال: ومن قَبَائِل جُشَم بن بَكْر بن حُبَيب بن عَمْرو بن غَنْم بن تَغْلِب، وهي القَبِيلَةُ الثَّانية من الأرَاقم
(1)
: بنُو زُهير بن جُشَم، وبَنُو سَعْد بن جُشَم، وبَنُو زَيْد بن جُشَم، وبَنُو عبد بن جُشَم، ومن هذه القَبَائِل الأربع تَفَرَّعَتْ بُطُون جُشَم. ثمّ ولد لَهُ خَمْسُ قَبَائِل أُخَر: بنُو عَامِر بن جُشَم، وبَنُو مُعَاوِيَة بن جُشَم، وبَنُو عَوْف بن جُشَم، وبَنُو الحَارِث بن جُشَم، وبَنُو مَالِك بن جُشَم.
قال: فولد الحَارِث بن زُهير: مُرَّة بَطْنٌ كَبيرٌ، فولد لمُرّة بن الحَارِث: رَبِيعَة بَطْن، فولد لرَبِيعَة بن مُرَّة: وائل بَطْن كبير، وهم: أُرَيْقط
(2)
، وكُلَيب، وعَدِي وامرؤ القَيْس، ومُهَلهِل (a) ، ومَسْلَمة، وعَبْد اللهِ.
والبَيت الرَّابع والخَامس من رَبِيعَة في كُلَيب [وآله، وأسماه بَنِي](b) كُلَيْب وَائل سيِّد تَغْلِب في زَمَانِه، ومَلِك رَبِيعَة بن مُرَّة في عَصره.
(a) عند ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 75 أ: مُهلهل واسمه امرؤ القيس.
(b) ما بين الخاصرتين أفسدته الرطوبة في الأصل، وتركه بياضًا في "ك"، وفي الاشتقاق لابن دريد 338 والعقد الفريد 3: 359 هو الَّذي يضرب به المثل فيُقالُ: "أعزُّ من كليب وائل"، وانظر: البَلاذُرِيّ: أنساب الأشراف (حميد الله) 1: 20، وتاريخ ابن الوردي 1: 105، وخزانة الأدب للبغدادي 2:166.
_________
(1)
قارن بكتاب النسب لابن سلّام ورقة 57 أ، والاشتقاق لابن دريد 336، والجمهرة لابن حزم 304 - 305، والعقد الفريد 3: 359 - 360، ونهاية الأرب في أنساب العَرَب للقلقشندي 159.
(2)
لم نتبين الاسم على الوجه الدقيق، ولم نجده بين أولاد وائل بن رَبِيعَة بن مُرَّة. وعدد ابن حزم: الجمهرة 305 أربعة منهم فقط هم: كليب ومهلهل وعدي وسلمة.
فهذه ولد الحَارِث من زُهَيْر بجميع بطونه وأفْخَاذه، وهم أهلُ وَبَر ومَدَرٍ بديار رَبِيعَة إِلَّا من شَخَص منهم من قَبَائِل (2) جُشَم فتَشاءمَ وجَزَّرَ، وذلك أنَّهُ نَزل فَريقٌ كبيرٌ بأرض حَلَب بجَبَل السُّمَّاق وهم فيه من حَدِّ ريحا إلى النَّيْرَب إلى مَعَرَّة مَصْرِين إلى سَرْمِين إلى تِيْزيْن إلى العَمق و [أرتيق](b) إلى حَدِّ حَرِيم (c) حَلَب، فهذه من جُشَم بن بَكْر ومَوَاليهم، خَلْقٌ كَثِيْرٌ أهلُ مَدَر وَوَبَرٍ.
قُلْتُ: وهذا كُلَيْب وائل الَّذي قتَلهُ جَسَّاسُ بن مُرَّة بن ذُهْل بن شَيبَان بن ثَعْلبَة بن عُكَابَة بن صَعْب بن عليّ بن بَكْر بن وَائِل بن قَاسِط، فوقَعَت الحَربُ بين بَكْر وتَغْلِب، وهي حَرب البَسُوس، وكان مَنْزل جَسَّاس بالأحَصّ، ولمَّا غَشِىَ كُلَيْبا الموتُ قال لجَسَّاس: أَغِثْني بِشَربةٍ، فقال: تَجَاوزت شُبَيْثًا والأحَصَّ؛ فأرسَلَهَا مثلًا. وسنَذْكُر قِصَّتهُ
(1)
إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى.
وقال بعد ذِكْر:
إيَاد بن نِزَار
فوُلد لإيَاد بن نِزَار أربْعُ قَبَائِل: زُهْر (d) ، ودُعْمِيّ، وقُثَم، ونُمَارة، ومن هذه الأربع تَفَرَّعَتْ بُطُون إيَاد وأفْخَاذُهَا، فقَبَائِل زُهر بن إيَادٍ: بنُو حُذَاقَة وبَنُو الشَّليلِ (e)، فولَد حُذَاقَة بن زُهْر: أُمَيَّةُ بَطْنٌ كبيرٌ. فولد لأُمَيَّةُ بن حُذَاقَة: الدَّئِل (f)
(a) كررها في الأصل في مطلع الصفحة بعدها.
(b) كلمة غير واضحة في الأصل، ويمكن أن تقرأ:"وأرضه"، وتقدم لابن العديم ذِكْر الأرتيق في لحف جَبَل برصايا.
(c) كذا في الأصل، وفي "ك": حرم.
(d) في الأصل و"ك" حيثما يرد في أولاد إياد بن نزار: زُهَيْر، وهو خطأ، تصويبه من الكلبي (نسب معد 122) وابن سلّام (كتاب النسب ورقة 53 أ) وابن حزم (الجمهرة 327) وياقوت (المقتضب 217)، ولم يرد عند جميعهم ذِكْر قُثَم بين أولاد إياد بن نزار.
(e) الكلبي: نسب معد 122: الشَّلل بن زُهر بن حُذَاقَة.
(f) أورده الكلبي (نسب معد 122) وابن حبيب (مختلف القَبَائِل ومؤتلفها 315) غير مهموز: الدِّيْل.
_________
(1)
في الضائع من الكتاب، وتقدم مثل هذا الكلام عند حديث المؤلِّف على جَبَل الأحص.
بَطْن كبيرٌ، وقَدَم بَطْن، فولد لقَدَم بن أُمَيَّة: عُصَيْمَة بَطْنٌ، ومن هذه البُطُون تَفَرَّعَتْ بُطُونُ زُهْر بن إيَّاد، وولد للدُّئِل: الدَّوس بَطْن كبير، فوُلِدَ للدَّوس خمسُ بُطُون كِبَار: بنُو سَلْمَان، وبَنُو جدم (a)، وبَنُو زَمْعَة، وبَنُو أَنْمَار، وبَنُو سَعدٍ، ومن هذه البُطُون تَفَرَّعَتْ بُطُون الدّئل بن أُمَيَّة.
ثمّ قَبَائِل دُعْمِيّ بن إيَاد: مَسْعُود بَطْن كبير، فولدُ مَسْعُود: وائل والتَّاج بُطْنَان كِبَار، ومن هذه البُطُون تَفَرَّعَتْ بُطُون دُعْمِيّ بن إيَّاد.
ووُلِدَ لنُمَارَة بن إياد: الطَّمَّاح قَبِيلَة، ومنه تَفَرَّعَتْ بُطُون نُمارَة.
ومن قَبَائِل إياد المشهورة: بنُو يَقْدُم بن أفْصى بن دُعْمِيّ بن إيَاد قَبِيلَة، وبنو ضُبَيْعَة بن ذُهْل بن مَالِك قَبِيلَة، وبَنُو الهُون قَبِيلَة، وبَنُو النَّمِر من وائِلة قَبِيلَةٌ، وبَنُو كِنَانة بن نُبَاتَة قَبِيلَةٌ، وبَنُو الحَارِث بن ذُهل قَبِيلَة، وغير ذلك من عدد القَبَائِل؛ قَبَائِل إياد بن نِزار، ومن هذه القَبَائِل تَفَرَّعَتْ بطون إياد بن نِزَار، وجُلُّهم أهل مَدَر، وهم مُتَفَرِّقُون في البلاد بأرض العراق والجزائر، ومنهم فريقٌ بأرض كَفَر طَاب والمَعَرَّة وأرض سَرْمِين وحلب بتَلِّ نصَب
(1)
، وهؤلاء أهلُ مَدَر لا وَبَر.
(a) كذا في الأصل، وفي "ك": حدم.
_________
(1)
تل نصب: توجد اليوم قرية تسمى نصب (غير مضافة إلى التل)، من قرى خان شيخون وتتبع معرة النعمان بمحافظة إدلب، وتبعد عن بلدة خان شيخون 3 کم باتجاه الجنوب، فلعلها هي المعنية. طلاس: المعجم الجغرافي 5: 416.
ذِكْرُ مَنْ نَزَل في أعْمَال حَلَب من حِمْير بن سَبَأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطَان
قال أبو عَبْد اللهِ الأسَدِيّ النَّسَّابَة، قال: ووَلَدُ عَمْرو بن حِمْيَر، وهو الأكْثر (a) من ولدِه: قُضاعَة بن مَالِك بن زَيْد بن مُرَّة بن عَمْرو بن مَالِك بن حِمْيَر بن سَبَأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطَان. ويُقالُ: قُضاعة بن مَعَد بن عَدْنَان.
قال: ولم أجد أهل العلم مُجمعِين على ذلك، بل ذكروا أنَّ مالكًا اجتاز هو وزَوجَته بمَعَدّ بن عَدْنَان وكانت حَامِلًا، وهي مُعايَة أم قُضاعة ابنة جَوْشَم بن جَلْهمة بن عَمْرو بن جُرْهم الأصغر.
قال أهل العلم: فنزل مَالِكٌ بِمَعَدّ هو وزَوجته فلحقَهُ حالٌ فأودَعَهُ زَوجتَهُ ورحَل، فوَلدت على فراش مَعَدّ ابنًا ذكرًا وسمَّتْهُ عُمرًا وهو قُضَاعَة، وقُضَاعَة قَبِيلَةٌ عظيمةٌ تَظهرُ منها عشرون قَبِيلَةً، وتشَعَّب من كُلِّ قَبِيلَةٍ بطْنٌ وفخذٌ وفَصيلَة وعَشِيرةٌ إلى يَومنا هذا.
فمن قَبَائِل قُضَاعَة: كَلْب بن وَبْرَة بن تَغْلِب بن حُلْوَان بن عِمْران بن الحَاف بن قُضَاعَة.
ومن بُطُون كَلْب وجَنَابٍ: زُهَيْر، وعَدِيّ، وعُلَيْم، وحَارِثَة، هؤلاء ولد جَنَاب وهم قَبَائِل وأفْخَاذ عدَّةٌ.
قال: فمن كَلْب: عَامِر بن عَوْف قَبِيلَة خَرَج منها نَيِّف وعشرون بَطنًا، ومن (b) كَلْب: كِنَانَة بن عبد وُدّ (c) ؛ قَبِيلَةٌ كبيرةٌ، خرج منها أفخَاذٌ وبُطُون عدَّة، ومنازل
(a) كذا الأصل و"ك" بالثاء المثلثة.
(b) الأصل: أولهن، وفي:"ك": أولها، ولا يستقيم، فإن عَامِر بن عَوْف هم إخوة كِنَانَة بن عَوْف وليس من عقبه.
(c) كذا في الأصل، وهم بنُو كِنَانَة بن بَكْر بن عَوْف، ومن ولد كِنَانَة: عبد ود بن عَوْف بن كِنَانَة بن عَوْف، ولعل النص يستقيم بأن يكون: ومن كلب: كِنَانَة ومن كِنَانَة: ابن عبد ود. انظر: ابن حزم 456، 459، والمقتضب 310.
هؤلاء كِنَانَة بأرض حِمْصَ والرَّسْتن إلى فَامِيَة وما وَالَاهَا إلى حَدِّ جَبَل بهراء. ومنازل عَامِر كَلْب المَنَاظر
(1)
طرف البَرّ إلى حَدِّ أرض دِمَشْقَ والقريتين
(2)
والغُنْثُر
(3)
وضُمَير
(4)
وما وَالَاهَا.
ومنازل جَنَابٍ -عُلَيْم وزُهَيْر وعَدِيّ- من أرض حَلَب من حدّ جَبَل جَوْشَن، وكان بها من كَلْب ومن كِنَانَة، وكذا كانت حاضر حَلَب؛ نزل كِنَانَة كَلْب ظاهرها إلى حَدِّ جَبَل بَنِي عُلَيْم، وهُم أهلُ وَبَرٍ لا مَدَر.
قُلْتُ: وإلى عُلَيْم بن جَنَاب بن كَلْب بن وَبْرة يُنْسَب جَبَل بَنِي عُلَيْم، ومنهم عَمْرو بن هَوْبَر بن مُعاذ البُرَيْديّ من مَعْرَاثَا البُرَيْديّة
(5)
، وسَيأتي ذِكْره وذكْر أبيهِ
(6)
في هذا الكتاب إن شاءَ اللهُ تَعَالَى.
(1)
المناظر: عمل في برية الشَّام، تقدّم التعريف به.
(2)
القريتين: بلدة في بادية الشَّام من محافظة حِمْص، تقع جنوب شرق مَدِينَة حِمْص بنحو 75 كم، وذكرها ياقوت: بلدة من نواحي تدمر في البرية، وأنها تسمي حوَّارين، وعند ابن الأثير ما يفيد بأن كل واحدة منهما قرية مفردة عن الأخرى. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 4: 336، ابن الأثير: الكامل 2: 409، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 548 - 549.
(3)
الغُنْثُر: وادٍ بين حِمْص وسلمية، ذكره أبو الطيب المتنبي في شعره، وهو اليوم عبارة عن قرية تسمى الغنثر والقصر، تقع في أقصى شرق حوض الدرة، وتتبع ناحية مهين بمحافظة حِمْص، وهي إلى الشمال من بلدة مهين بمسافة 16 كم، وفيها بقايا آثار وخرائب رومانية. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 4: 215 - 216، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 444.
(4)
ضُمَير: قرية وحصن آخر حدود دِمَشْق مما يلي السماوة، وهي في بادية الشَّام تتبع منطقة دوما بمحافظة ريف دِمَشْق، تقع إلى الشمال الشرقي من مَدِينَة دوما على بعد 30 كم. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 3: 463، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 175.
(5)
معراثا: عدة قرى من حَلَب والمعرة، (مُعْجَم البلدان 5: 154)، وهذه المسماة بالبريدية من ضياع معرة النعمان. (زبدة الحلب 1: 79)، ويأتي فيما بعد في تَرْجَمَة حمّاد الأثاربي (الجزء السادس) ذِكْر معراثا الأثارب. وضبط "البريدي" بالضم من ابن العديم، نسبة إلى بُرَيدة.
(6)
سقطت من الكتاب كلتا الترجمتين.
قال النَّسَّابَةُ: وأمّا بَهْرَاء وبَلِيّ وخَوْلان (a) فهم ولَدُ عَمْرو بن الحَارِث (b) بن قُضَاعَة؛ ثلاث قَبَائِل عِظَام خَرَجَ منها عدَّة قَبَائِل.
وقال: وأمَّا بَهْرَاء فتشاءَمَتْ، فأخذتْ جَبَلًا من جبال الأكراد وغلبت عليه وعلى حرفٍ فيه فقَطَنَتْهُ، وهو من حَدِّ جَبَل بلد طَرابُلُس إلى حَدِّ جِبَال اليُونانِيَّة وما تحته من المُدُن، ومنهم بحَمَاة وأرْضِها إلى حدِّ الجَبَل بنُو عبد اللهِ بَطْن كبير، وبَنُو أرقش بَطْن كبير، وبَنُو مَسْعُود
(1)
أهل بَيْت شَرف، وغير ذلك من بُطُونهم
(2)
.
ومن قَبَائِل قُضَاعَة: سَلِيْح
قال النَّسَّابَةُ: وأمّا سَلِيْح فتَشاءَمَ ونَزَل ولده (c) طَرفـ[ــًا] من أطراف الشَّام، منهم بأرض حِمْص وبكَفَرْ طَاب وبأرض القَسْطَل
(3)
طرف البَرِّيَّةِ وما وَالَاهَا
(4)
؛ هُم بها إلى يَوْمنا هذا.
(a) ولد عَمْرو عند ابن سلّام (كتاب النسب 62 أ): بهراء وبلي وحَيْدان وخولان ولَوْزة (بالزاي)، وعند ابن حزم: الجمهرة 440: ولد عَمْرو: بهراء وبلي وحيدان. وزاد ياقوت في المقتضب 339: ايليا وخولان ولوذة.
(b) عند الكلبي (نسب معد 217) وابن سلّام (كتاب النسب ورقة 59 أ، 62 أ) وابن حزم (الجمهرة 440 وما بعدها)، وياقوت (المقتضب 340): ابن الحاف، ويُقال فيه أيضًا الحافي بإلحاق ياء عوض الكسرة، ونبه القلقشندي على الاختلاف في الحاف والحارث، انظر نهاية الأرب في معرفة أنساب العَرَب 58.
(c) الأصل: وله.
_________
(1)
لم أجد لبني أرقش وبني مَسْعُود ذِكْر في بُطُون بهراء.
(2)
ومما يستدرك عليه، فيما يتصل بمنازل بهراء، سُكناهم بالرصافة (رصافة هشام)، بجند قِنَّسْريْن، وهو في شعر الأخنس بن شهاب التغلبيّ، قوله:[من الطّويل]
وبَهْراءُ حيٌّ قد عَلِمْنا مكانَهُم
…
لهم شَرَكٌ حَوْل الرّصافَة لاحِبُ
انظر: الهمداني: صفة جزيرة العَرَب 368، الوزير المغربي: أدب الخواص 99.
(3)
القسطل: موضع في بادية الشَّام، بمنطقة سلمية من محافظة حماة، يتكون اليوم من ثلاثة تجمعات بشرية هي: القسطل الشماليّ، والقسطل الوسطانيّ، والقسطل الجنوبيّ، وحدد ياقوت موضعه بين دِمَشْق وحمص. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 4: 347، طلاس: المعجم الجغرافي 4: 554 - 555.
(4)
أضاف الهمداني من منازل سَلِيْح في بادية الشَّام: البلقاء وسلمية والموقر، صفة جزيرة العَرَب 319، 334.
قال: وأمّا تَنُوخ فهم قَبَائِل عدَّة
(1)
، منها قُضَاعَة، ومنها نِزَارٌ اجْتَمَعت فتَشاءَمَتْ وتَنَّخَتْ بأرض الشَّام، وجمعها الاسم كما جمع لغيرها من القَبَائِل مثل مذْحِج وكَلْب وغير ذلك من قَبَائِل العَرَب، وأنَّ تَنُوخ يجمعها فَهْم بن تَيْم اللَّات ابن أسَد بن وَبْرة بن تَغْلِب بن حُلَوان بن عِمْران بن الحَاف بن قُضَاعَة بن مَالِك.
قال: وكان تَنُوخ ولد السَّاطع، كان دارهم سُوريَّة من طَرف البَرِّيَّة وما وَالَاهَا، وبأرض معرَّة النُّعمان وأرْض قِنَّسْريْن وما وَالَى تلك الأرض جَبَل مُتَّصِل إلى أرض حِمْصَ، غَلَبَ عليه تَنُوخ وذلك في عصر ملك الرُّوم، وكان أقْطَعَهُم إيَّاه، فلمَّا أن جاء الإسلام، في عصر مُعَاوِيَة بن أبي سفيان رضي الله عنه، سارت معه قُضَاعَة إلى صِفِّين، وقاتلتْ بن يديه، فلمّا أن رجع إلى الشَّام، وَفَدتْ عليه وفُودُ قُضَاعَة مِمَّن كان بأرض الشَّام تَطْلُبُ الإقْطاع والجوائز، فأقْطَعَهُم الزيادات والمدن وذلك من حَدِّ بلد الأُردُنّ إلى حَدِّ جَبَل حَلَب، وهو جَبَلُ جَوْشَن، وكان مَرْوَان بن الحكم أقْطَعَ لعَكَّار القُضَاعيّ الجبَل الَّذي يلي السَّاحل إلى حدِّ أرض حِمْصَ، فهو يُسَمَّى جَبَل ابن عَكَّار.
قال النَّسَّابَةُ: فاقْتَسَمَتْ تَنُوخ وقَبَائِل قُضَاعَة بن مَالِك بن حِمْيَر بأنْسَابها، وهو قُضَاعَة وكَلْب وغيرها، الدُّنيا والجبال والمدن والبَرّ، وأقاموا بها إلى اليوم.
قُلْتُ: وقال أحْمَد بن يَحْيَى بن جَابِر البَلاذُرِيّ، في كتاب البُلْدان
(2)
، فيما حكاه عمن حدَّثه من أهل الشَّام، وكان حاضر قِنَّسْريْن لتَنُوخ مُذْ أوَّل ما تَنَّخُوا بالشَّام، نَزَلُوه وهُم في خِيَم الشَّعر، ثمّ ابْتَنَوا به المنازل، فدعاهم أبو عُبَيْدَة إلى الإسلام، فأسلم بعضهم، وأقامَ على النَّصرانِيَّة بنُو سَلِيْح بن حُلْوان بن عِمْران بن
(1)
انظر كلام المؤلِّف على تَنُوخ وبني الساطع منهم في كتابه الإنصاف والتحري (ضمن إعلام النبلاء) 4: 83.
(2)
فتوح البلدان، ومثله عند قدامة: الخراج 303 دون عزو.
الحَاف بن قُضَاعَة. فحدَّثَنِي بعضُ ولد يَزيد بن حُنَين الطَّائِي الأَنْطَاكِيّ عن أشياخِهم أنَّ جَمَاعَةً من أهْل ذلك الحاضر أسْلَمُوا في خِلَافَة المَهْدِيّ، فكتب على أيديهم بالخُضْرَةِ: قِنَّسْرِيْن.
قُلْتُ: وهذا يُوهم أن بَنِي سَلِيْح من تَنُوخ، وليس كذلك، بل تَنُوخ يجمعها تَيْم اللَّات بن أسَد بن وَبْرة بن تَغْلِب بن حُلْوَان، وقيل ولده فَهْم بن تَيم اللَّات، وَسَلِيح تجتمع مع تَنُوخ في حُلْوَان، جَدّ جَدهم.
ومن سَلِيْح: الضَّيْزَن بن مُعَاوِيَة بن العبيد بن الأجْرام (a) بن عَمْرو بن النَّخَع ابن سَلِيْح بن حُلْوَان، وكان مَلَكَ الجَزِيرَة وقِنَّسْرِيْن.
وقال البَلاذُرِيُّ
(1)
: وكان بقُرْب مَدِينَة حَلَب حاضِرٌ يُدْعَى حاضِر حَلَب، يجْمَعُ أصْنافًا من العَرَب من تَنُوخ وغيرهم، فصَالَحهم أبو عُبَيْدَة على الجِزْيَة، ثمّ إنَّهم أسْلَمُوا بعد ذلك، فكانُوا مُقِيمين وأعْقابهم إلى بعد وَفاة أمير المُؤمنين الرَّشِيد، ثمّ إنَّ أهْل ذلكَ الحاضِر حاربوا أهل مَدِينَة حَلَب، وأرادوا إخراجهم عنها، فكتب الهاشميُّون من أهلها إلى جميع من حولها من قَبَائِل العَرَب يَسْتَنْجدُونهم، فكان أسبَقَهم إلى إنجادهم وإغاثتهم العبَّاس بن زُفَر بن عَاصِم الهِلَاليّ بالخؤولَة؛ لأنَّ أُمّ عَبْد اللهِ بن العبَّاس لُبَابَةُ بنتُ الحَارِث بن حَزْن بن بُجَيْر بن الهُزَم الهِلَاليَّة، فَلَم يكُن لأهْلِ ذلك الحاضِر به وبمَن معه طاقَةٌ، فأجْلَوهُم عن حاضِرهم، وأخْرَبُوه وذلك في أيَّام فِتْنَة مُحمَّد بن الرَّشِيد، فانْتَقَلوا إلى قِنّسْرِيْن، فتلقَّاهم أهلُها بالأطْعِمَة والكُسَاء، فلمَّا دَخَلُوها أرَادوا التَّغَلُّب عليها فأخْرجُوهم عنها، فتَفَرَّقُوا في البلاد، فمنهم قومٌ بتَكْرِيت قد رأيتُهم، ومنهم قومٌ بأرمِينيَّة وفي بُلْدانٍ كَثِيْرة مُتباينة.
(a) القلقشندي: نهاية الأرب في أنساب العَرَب 70: العبيد بن الأبرص بن عَمْرو.
_________
(1)
فتوح البلدان 198.
قُلْتُ: وبعد خَراب حَاضِر حَلَب صَار قَرْيةً، وكان بها دَارٌ تُعْرفُ بدار السُّلَيمانيَّة ابْتَناها بنُو سُلَيمان بن صَالح بن عليّ أو مَوَاليه، فنُسِبَ الحاضِر إليهم، فقيل: الحَاضِر السُّلَيمانيّ، وعمر بعد أيَّام بَنِي حَمْدان، وسَكَنَهُ النَّاس.
قُلْتُ: والتَّنُوخيُّون كُلّهم يَنْتَسِبُون إلى فَهْم بن تَيْم اللَّات، وكان له أوْلاد: جَذِيمَة، وعَبْدُ اللهِ، وعَمْرو. فأمَّا بنُو جَذِيمَة فإنَّهم من بَنِي محَطَّة بن عَدِيّ بن زَيْد ابن حَيَّة بن عَمْرو بن بَرِيح بن جَذِيمَة بن فَهْم بن تَيْم اللَّات، منهم الفُصَيْصِيُّون
(1)
وكانوا بقِنَّسْريْن وحلب، فيهم أمراء وكُتّاب ووزراء، وسيأتي ذِكْر أعيانهم
(2)
في هذا الكتاب إن شاءَ اللهُ تَعَالَى.
وهم يَنْتَسبُون إلى الفُصَيْص، وهو يُوسُف بن يعقوب بن إبْرَاهِيم بن إسْحَاق ابن قُضَاعَة بن ثُوَيْب بن محَطَّة بن ثُوَيْب بن عديّ بن زَيْد بن تَمِيم بن ضُبَيْعَة بن بلقَن بن عَدِيّ بن زَيْد بن محَطَّة بن عَدِيّ بن زَيْد بن محَطَّة بن عَدِيّ بن زَيْد بن حَيَّة بن عَمْرو بن بَريح بن جَذِيمَة بن فَهْم بن تَيْم اللهِ، وهو تَيْم اللَّات، والفُصَيْص لقبٌ، وقيل: المُلَقَّب بالفُصَيْص هو أبوه يعقوب، وكان لهم بلاد كَثِيْرة من بلاد الشَّام، وكانت قِنَّسْريْن لأخي الفُصَيْص، وكانت حِمْص واللَّاذقيَّة وجَبَلَة لابنه إبْرَاهِيم، فحصرهم طَريف السُّبكريّ واستنزل إبْرَاهِيم وأهله من حُصُونهم بالأمان
(1)
وقع في بعض المصادر تحريف في اسمهم، فورد عند اليعقوبي (تاريخ 2: 350) بالقاف: القصيص، وعند الهمداني (صفة جزيرة العَرَب 275): الفضيض، وصوابه ما أثبت، وهو موافق لما عند الطبريّ (تاريخ: 10: 107) وكما ورد في أشعار البحتري (ديوانه 2: 777، 4: 2100) وكما تكرر ذِكْر قومه في أشعار المعري يمدح بعض رجالهم، (سقط الزند 9، 10)، وأشعار کشاجم (ديوانه 162 - 165، 169). وانظر أخبار بعض أفراد الأسرة عند: ابن العديم: زبدة الحلب 1: 101، أبو الفداء: اليواقيت والضرب 82.
(2)
من تراجم الفصيصيين المتبقية: تَرْجَمَة إسْحَاق بن عليّ بن إبْرَاهِيم الفصيصي (الجزء الثالث)، وإسحاق ابن يوسف الفصيصي (الجزء الثالث)، وترجم ابن العديم أيضًا لشاعر منهم لم يظفر باسمه، فذكره باسم الفصيصي الحلبي (الجزء العاشر).
سَنة تسْع عشرة وثَلاثِمائة، وقد وَلِيَ اللَّاذقيَّة بعد ذلك إبْرَاهِيم بن عليّ بن إبْرَاهِيم ابن الفُصَيْص، ثمّ صاروا إلى حَلَب، وصار منهم كُتَّاب، وانقرض عَقِبهُم، وإليهم يُنْسَبُ دَرْب الفُصَيْصِيّ بحَلَب.
وحكى كَثِير بن أبي صابِر القِنَّسْرينيّ، قال: كنت يومًا عند إسْحَاق بن قُضَاعَة التَّنُوخيّ، فدَعا بسُيُوف فجَعَل يُقَلِّبُها، فقال لي: يا كثير، هذه سيوف آبائنا التي قاتلوا بها يوم صِفِّين، وهي عندنا مُذَّخَرَةٌ (a) حتَّى يقوم القائم من آل أبي سُفيان، فنُقاتل بها معه.
ومنهم بنُو السَّاطِع، واسمه النُّعْمَان بن عَدِيّ بن عبد غَطَفَان بن عَمْرو بن بَريح ابن جَذِيمَة بن فَهْم بن تَيْم اللَّات، ونزلوا معرَّة النُّعْمَان، وعَقِبهم بها إلى يومنا هذا.
وكان للسَّاطع بنُون ثلاثة: أسْحَم، وعدِيّ، وغَنْم، فأمَّا أسْحَم فينتسب إليهِ من أهل معرَّة النُّعْمان: بنُو سُلَيمان، وفيهم جَمَاعَة من العُلَماء والفُضَلَاء منهم أبو العلاء أحْمَد بن عَبْد اللهِ بن سُلَيمان بن مُحمَّد بن سُلَيمان بن أحْمَد بن سُلَيمان بن داود بن المُطَهَّر بن زياد بن رَبِيعَة بن الحَارِث بن رَبِيعَة بن أنور بن أرْقَم بن أسْحَم -وقيل: أنور بن أسْحَم- ابن النُّعْمَان بن السَّاطِع بن عَدِيّ بن عبد غَطَفَان بن عَمْرو بن بَريح بن جَذِيمَة.
وينتسب إليه أيضًا من أهل مَعَرّة النُّعْمَان بنُو أبي حَصِيْن؛ وهو أبو حَصِيْن القاضِي، واسمُه عَبْد اللهِ بن المُحَسِّن بن عَبْد اللهِ بن مُحمَّد بن عَمْرو بن سَعِيد بن مُحمَّد ابن داود بن المُطَهَّر، وفي داود يجتمع بنُو سُلَيمان وبنُو أبي حَصِيْن.
وأمّا عَدِيّ بن السَّاطع؛ فينتسبُ إليهِ من أهْل معرّة النُّعْمَان بنُو المُهَذَّب، وهو المُهَذَّب بن مُحمَّد بن هَمَّام بن عَامِر بن عَامِر بن مُحارِب بن نُعَيْم بن عَدِيّ بن عَمْرو بن عَدِيّ بن السَّاطِع.
(a) الأصل: مدخرة، بالدال.
وينتسب إليهِ بنو زُرَيْق؛ وهو عبد اللطيف بن سَعِيد بن يَحْيَى بن عبد اللطيف ابن يَحْيَى بن عبد المنعم بن نُعَيْم، وفيه يجتمع بنُو المُهَذَّب وبَنُو زُرَيْق، ويُقالُ لهم: العَمْريُّون، وفيهم جَمَاعَة غير هؤلاء البَطْنَيْن، وينتسبون كذلك إلى عَمْرو بن عَدِيّ ابن السَّاطِع، وأهل المَعَرَّة يقولون: الشِّعْرُ عَمْرِيٌّ، لأن الشعراء فيهم كثير، وكُلّهم مُجِيدون، وقيل: إنّما لُقِّبَ النُّعْمَان السَّاطِع لحُسْنه وجماله.
وأمّا بنُو غَنْم بن السَّاطِع، فمنهم بمعرّة النُّعْمَان: بنُو الحَواريّ، وهو الحَواريّ ابن حِطَّان بن المُعَلَّى بن حِطَّان بن سعد بن زَيْد بن لَوْذان بن غَنْم بن السَّاطِع، وما من بَطْن من هذه البُطُون إِلَّا وقد خرج منه جَمَاعَة من العلماء والأدباء والشعراء والمُحَدِّثين، وسيأتي ذكرهم
(1)
في كتابنا هذا إن شاءَ اللهُ تَعَالَى.
ومَنْ لا معرفة له من الجُهَّال يقول: إنَّ مَعَرَّة النُّعْمَان مَنْسُوبَةٌ إلى النعمان ابن عدِيّ بن السَّاطِع لأن عامة أهلها من ولده، وهو خطأ منه، وإنما هي مَنْسُوبَةٌ إلى النُّعْمَان بن بشير الأنصاري كما ذكرناه في الباب المختص بذكرها فيما تقدّم
(2)
.
فهؤلاء بنُو جَذِيْمَة بن فَهْمٍ.
وأمّا بنُو عَمْرو بن فَهْمٍ من تَنُوخ فنزلُوا أَنْطَاكِيَة، ومنهم القاضي أبو جَعْفَر أحْمَد بن مُحمَّد بن داود أبي الفَهم بن إبْرَاهِيم بن تميم بن جابر بن هانئ ابن زيد بن عُبَيْد بن مَالِك بن مُرَيْط بن سَرْح بن نِزار بن عَمْرو بن الحَارِث بن صُبْح بن عَمْرو بن الحَارِث بن عَمْرو بن فَهْم بن تَيم الله بن أسْلَم، وانتقل أخوه أبو القَاسِم عليّ بن مُحمَّد بن داود إلى بغداد من أَنْطَاكِيَة فسَكَنَها، وسَنذكرهُ وأخاهُ
(3)
في كتابنا هذا
(1)
مِمَّن بقيت تراجمهم: الحواري بن حطان بن المعلى (الجزء السادس)، وخير بن مُحمَّد الحواري (الجزء السابع)، وذكره أيضًا في الكنى (الجزء العاشر).
(2)
انظر: باب في ذِكْر معرَّة النُّعْمَان، فيما تقدّم من هذا الجزء.
(3)
تَرْجَمَة أبي جَعْفَر التنوخيّ، وأخيه أبو القَاسِم عليّ بن مُحمَّد التنوخي في الضائع من أجزاء الكتاب.
إنْ شَاءَ اللهُ. وأوْلد أبو القَاسِم ببغداد ولَدَهُ المُحَسِّن بن علىّ التَّنُوخِيّ مؤلِّف نِشْوار المُحَاضرة، وكِتاب الفَرَج بعد الشِّدَّة، وليس هو من شرط كتابنا هذا
(1)
.
وأمّا عَبْد اللهِ بن فَهْم، فنزل بنُوه أَنْطَاكِيَة، ومن ولده أبو بَكْر مُحمَّد بن الرَّبيع ابن عَامِر المَعْروف بالصامت، وكان موصوفة بالدين والورع، وكان خال القاضي أبي الحَسَن سُلَيمان بن مُحمَّد المَعَرِّيّ، جدّ أبي العلاء المَعَرِّيّ.
وقرأتُ في كتابٍ وقع إليّ في أنساب اليمن، قال فيه: ومن أشراف تَنُوخ: الصَّامت، واسمه مُحمَّد بن الرَّبيع بن عَامِر بن الرَّبيع بن عبد المُجيب بن مُحمَّد بن العبَّاس بن ذُبْيَان بن كَعْب بن ذُبْيَان بن الشَّلَل (a) بن إيَّاد بن عَبْد اللهِ بن فَهْم ابن تَيْم الله بن أسَد بن وَبْرَة.
وقال بعضُهم في الشَّلَل: إنَّه ابن فَهْم بن تَيْم الله بن أسَد بن وَبْرة، والصَّحيح أنَّه ابن إيَّاد بن عَبْد اللهِ بن فَهْم، وسَنَذكُر تَرْجَمَة الصَّامِت في ذِكْر المُحَمَّدِين
(2)
من هذا الكتاب إن شاءَ اللهُ تَعَالَى.
ونَزَل بأعْمال حَلَب من ولد كَهْلَان أخي حِمْيَر لأبيه: بنُو زَيْد بن كَهْلان بن سَبَأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطَان.
(a) عند الكلبي (نسب معد 122): الشلل بن زُهْر بن إياد دخل في تَنُوخ، وهم غير الشلل من بَنِي كِنَانَة ابن عَوْف الذين كان لهم تواجد في قِنَّسْريْن، إذ يذكر الوزير المغربي (الإيناس 193): الشلل -بلامين- ابن زيد اللَّات بن رفيدة بن ثور بن خَالِد بن وبرة، بَطْن مع بَنِي عبد ودّ بن كِنَانَة بن عَوْف؛ منهم معاذ بن عقبة بن وهب، كان أكثرَ كلبيٍّ مالًا بقِنَّسْريْن.
_________
(1)
ذلك أن أبا عليٍّ التنوخي عراقي المولد والوفاة، ولد في البصرة سنة 329 هـ، وتوفي ببغداد سنة 384 هـ. ولم تتصل له بحلب رابطة، فعلى هذا لم يسلكه المؤلِّف فيمن ترجم لهم.
(2)
تَرْجَمَته في الضائع من الكتاب.
قال النَّسَّابَةُ الأسَديُّ: والمُلْكُ كان في وَلد حِمْيَر، والحُكْم في ولد كَهْلَان، وذكر من بنيهِ زَيْد بن يَشْجُب بن عَرِيب بن زَيْد بن كَهْلان، قال: فولد زَيْدٌ مَالِكًا، وفيه العَدَد، وأُدَد بن زَيْدٍ، فمن ولد أُدَدٍ: طَيِّء بن أُدَدَ بن زَيْد بن يَشْجُب ابن عَرِيب بن زَيْدِ بن كَهْلان بن سَبَأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان.
قال النَّسَّابَةُ: فولد فُطْرَة (a) بن طَيِّء، والغَوْثَ بن طَيِّء، والعَدَد والشَّرَف في غَوْث، وأُمّ فُطْرَة وغَوْثٍ: عُدَيَّةُ بنتُ الآمِرِيّ بن (b) مَهْرَة. وولد فُطْرَة: سَعْدٌ، وحَيَّة (c)، وولد سَعْد بن فُطْرَة: خَارِجَة، فولد خَارِجَةُ جُنْدُبًا (d) ، وحُور (e)، وأُمُّهُما جَدِيلَةُ ابنةُ سُبَيْع بن حِمْيَر، وهذه القَبِيلَةُ من طَيِّء
(1)
فتشاءَمَتْ، ولحقَتْ بأرْضِ الشَّام، فنزل منهم بأرض رَفَنِيَّة
(2)
وما وَالَاهَا من الأرْض إلى حَدِّ جَبَل السَّاحِل،
(a) قيده في الأصل و"ك" -حيثما يرد- بالقاف "قَطْرَ"، ومثله عند القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العَرَب 49، 224، 226، وصوابه بالفاء المضمومة، كما هو عند الكلبي: نسب معد 218، وابن سلّام: كتاب النسب ورقة 47 ب، وابن حبيب: مختلف القَبَائِل 309، وابن حزم: الجمهرة 398، والوزير المغربي: الإيناس 82، 99، 129، والحازمي: عجالة المبتدي 38، وياقوت: المقتضب 292.
(b) ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 47 ب: من مهرة.
(c) الكلبي: نسب معد 218: حَيْش، ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 47 ب: حَبَّة.
(d) ضبطه بضم الدال، ومثله عند الوزير المغربي: الإيناس 99، والمشهور فتحها، انظر الكلبي: نسب معد 218 وما بعدها، ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 47 ب، وابن دريد: الاشتقاق 380، وابن حزم: الجمهرة 399 وما بعدها.
(e) عند الكلبي: نسب معد 218: جَوْر، بالجيم المعجمة، والمثبت موافق لما عند ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 47 ب، (وأكده بحرف ح تحته والضبط منه)، وابن حبيب: مختلف القَبَائِل 309، وابن دريد: الاشتقاق 380، الوزير المغربي: الإيناس 99، والحازمي: عجالة المبتدي 38، وياقوت: المقتضب 292، والقلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العَرَب 224.
_________
(1)
سمي الكلبي أولاد خارجة بن سعد: أهل السهل، وقال:"والسهليون هم الذين تفرقوا في حرب الفساد فلحقوا بحاضر حَلَب فتزوجوا في الأنبار". انظر: نسب معد 218، ومثله عند: ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 47 ب، وابن حزم: الجمهرة 399.
(2)
تقدّم التعريف بها فيما مرّ.
ومنهم مَن نَزَلَ بأرض حَلَب، منهم بحَاضر قِنِّسْريْن مع إخْوَتهم من طَيِّءٍ، ومنهم مَنْ نَزَلَ بأرض مَنْبِج فهُم مع إخْوَتهم الدِّرْمَاوِيِّينَ (a).
قُلْتُ: وقَرَأتُ في كتاب البُلْدان، لأحْمدَ بن يَحْيَى البَلَاذُرِيّ، فيما حَكَاهُ عمَّن حدَّثَهُ من أهْلِ الشَّام
(1)
: قالُوا: وكان حَاضِرُ طَيِّءٍ قديمًا نَزلُوه بعد حَرْب الفساد التي كانت بينَهُم، حتَّى نَزَل الجبلين مَنْ نَزَلَ منهم، فتفرَّقَ باقُوهُم في البِلَادِ، فلمَّا ورد أبو عُبَيْدَة عليهم، أسْلَم بعضُهم، وصَالَح كثيرٌ منهم على الجِزْيَة، ثُمَّ أسْلَمُوا بعدَ ذلك بيَسِير إِلَّا مَنْ شَذَّ عن جماعتهم.
قال النَّسَّابَةُ: ومن سَلَامَان بن عَمْرو بن ثُعَل بن الغَوْث بن طَيِّء: بنُو ثَعْلَبَة بن سَلَامَان، فولد ثَعْلَبَة: مَالِك بَطْنٌ كَبيرٌ، وعَوْف بن ثَعْلَبَة بَطْنٌ كبيرٌ، وأبَان بن ثَعْلَبَة بَطْنٌ كبيرٌ، ووائل بن ثَعْلَبَة بَطْنٌ كبيرٌ، فولد وائل بن ثَعْلَبَة: عَدِيّ (b) بن وَائِل، وأُمّ وائل وأبان مرةٌ (c) يُقال لها دَرْمَاءُ، وكان قد تشَاءَمَتْ هذه القَبِيلَة وفارَقَتْ طَيِّءٍ، فنَزَلت الشَّام في ستِّمائة، منهُم آل المُنْتَصر بن عَبْد العَزِيْز، وهُم أهْلُ بَيْت شَرَف، ومنهم آل دِهْلَاث -أو: دِلْهَاث- من مُحمَّد بن عوارتيم
(2)
بن أبَان بن ثَعْلَبَة بن سَلَامَان الدَّرْمَاوِيُّونَ، نَزَلُوا بأرْض الشَّام بمَدِينَةٍ يُقالُ لها مَنْبِج، فَهُم بها إلى اليوم.
(a) في الأصل: بالذال المعجمة حيثما ترد: الذرماويين، ومثله عند ابن سلّام: كتاب النسب ورقة 48 ب. والصواب بالمهملة، نسبةً لأمهم: دَرْماء، مهموزًا، ولبني دَرْمَاء ذكر في شعر امرئ القيس وأبي العلاء المعرِّيّ وغيرهما، وذكرهم ابن منقذ في كتابه الاعتبار 59. وانظر أيضًا: أبو عليّ الهجري: التعليقات والنوادر: 2: 966، 980، 4: 1749، والكلبي: نسب معد 247، ياقوت: المقتضب 302، والقلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العَرَب 233 وفيه: درما بدون همزة، وترجم المرزباني لشاعر اسْمُه: عَمْرو بن عدي بن وائل بن عَوْف بن ثَعْلَبَة الطائي يعرف بابن درماء، وهي أمه. انظر مُعْجَمُ الشعراء 91.
(b) في الأصل بالمعجمة: عذي، ولم أجده في ولد وائل بن ثَعْلَبَة بن سَلَامَان، والمثبت من الكلبي: نسب معد 247، وابن سلّام: كتاب النسب ورقة 47 ب وياقوت: المقتضب 302.
(c) هكذا في الأصل و"ك".
_________
(1)
فتوح البلدان، ونقله عنه قدامة بنصه (الخراج 303) دون عزو.
(2)
لم أجد له ولا لدهلاث (أو دلهاث) ذكر.
قال: ووَلَدُ بُحْتُر -يعني ابنَ عَتُود بن عُنَيْن بن سَلَامَان بن ثُعْل بن عَمْرو بن الغَوث بن طَيِّءٍ-: تَدُول (a) ، ومن تَدُول تَشَعَّبَت قَبَائِل بُحْتُر، ومنازلهم أرض الحِجَاز إِلَّا مَنْ شَذَّ منهم فتَشاءَمَ وجَزَّر.
قُلْتُ: والذين تَشَاءَمُوا نزلُوا بمَنْبِج والسَّاجُور، ومنهم البُحْتُرِيّ الوَلِيد بن عُبَيْد بن يَحْيَى بن عُبَيْد بن شَمْلَال بن جَابِر بن سَلَمَة بن مُسْهِر بن الحَارِث بن جُشَم بن أبي حَارِثَة بن جُدَيّ بن تَدُول بن بُحْتُر بن عَتُود بن عُنَيْن بن سَلَامَان بن ثُعْل بن عَمْرو بن الغَوْث بن طَيِّءٍ، وكان من قرية مَنْبِج يُقالُ لها خُزْدُفْنَة (b)، وهو القائل
(1)
:
[من الخفيف]
يا خَلِيلي (c) بالسَّوَاجِير من عَمْـ
…
ـــرو بن وُدٍّ (d) وبُحْتُر بن عَتُودِ
ونَزَلَ من بَنِي بُحْتُر فرقة بأُوْرِم الكُبْرى
(2)
من قُرَى حَلَب، وكان بأُورِم مَزْرعة يُقالُ لها البُحْتُريَّة مَنْسُوبَة إليهم، وقد دَثَرت وانضَافت إلى أُورِم.
ورأيتُ كتابًا من كُتُب أجْدادِنا وقد اشْتَري حصَّةً في هذه البُحْتُرِيَّة من بَعْضهم.
قال النَّسَّابَةُ: وولد مُرّ (e) بن عَمْرو بن الغَوْث بن طَيِّء: الكَهْف، فولد الكَهْف: الكُهَيْف (f) بَطْنٌ، وامرؤ القَيْس بَطْنٌ. فولد الكُهَيْف:[رُزَيْقًا](g)
(a) قيده في هذا الموضع وتاليه، في الأصل و"ك": تَدُل. وانظر ضبطه عند الكلبي: نسب معد 242، وابن حزم: الجمهرة 401، الحازمي: عجالة المبتدي 24، وياقوت: المقتضب 301.
(b) هكذا في الأصل مجودًا، وفي "ك": حردفنة، وعند ابن خلکان مضبوطًا بالحرف:"زَرْدَفْنَة: بفتح الزاي وسكون الراء وفتح الدال المهملة وسكون الفاء وفتح النون وبعدها هاء ساكنة"، انظر: وفيات الأعيان 6: 29، ونقله عنه الصلاح الصفدي في الوافي بالوفيات 37:465.
(c) الديوان: نديمي.
(d) الديوان: من ود بن معن.
(e) في الأصل و"ك": مُرَّة، والتصويب من الكلبي: نسب معد 266، وابن حبيب: مختلف القَبَائِل ومؤتلفها 97، وابن حزم: الجمهرة 401، وياقوت: المقتضب 307.
(f) عند الكلبي: نسب معد 266: ولد الكهف بن مر: الكهف.
(g) الزيادة من الكلبي: نسب معد 266، والوزير المغربي: الإيناس 154 (وتشكك فيه: يُقالُ بتقديم الزاي)، وياقوت: المقتضب 307.
_________
(1)
ديوان البُحْتُرِيّ 1: 633.
(2)
تقدّم التعريف بها فيما مرّ.
وَزُبَيْرة بَطْنَيْن، وبُقَيْرة (a) بَطْنٌ، وهؤلاء هُم أهْلُ السَّهْل. وولد الزَّهو (b) : تَيْم اللَّات بَطْن، فولد تَيْم اللَّات: مالِكًا، فولد مَالِك: قنانة (c) ومُبارك، هؤلاء بأرض الشَّام، وهُم بأرضٍ يُقالُ لها حَاضِر قِنَّسْرِين، ومنهم مَنْ نَزَل أرْض العِرَاق ومنهُم مَنْ جَزَّر.
بابٌ في ذِكْر فَتح حَلَب وقِنَّسْرِيْن، وما تَقَرَّر عليه أحكامُهما
أَخْبَرَنَا أبو عَليّ حسن بن أحْمَد بن يوسف الأوَقِيّ، قِراءةً عليه بالبَيْت المُقَدَّس، قال: أَخْبَرَنَا أبو طاهر أحْمَد بن مُحمَّد بن أحْمَد بن مُحمَّد السِّلَفيّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن أحْمَد بن مُحمَّد بن الشَّيخ، قال: أَخْبَرَنَا أبو إسْحَاق إبْرَاهِيم بن سَعِيد الحَبَّال، قال: أَخْبَرَنَا أبو العبَّاس مُنير بن أحْمَد بن الحَسَن بن مُنِير الخَشَّاب، قال: أَخْبَرَنَا علىّ بن أحْمَد بن إسْحَاق البَغْدادِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو العبَّاس الوَلِيد بن حمّاد الرَّمْليّ، قال: أَخْبَرَنَا الحُسَيْن بن زياد، عن أبي إسماعيل مُحمَّد بن عَبْد اللهِ
(1)
، قال: وحَدَّثَنِي الحَسَن بن عَبْد اللهِ (d) أنَّ الأشْتَر قال لأبي عُبَيْدَة: ابعث معي خَيْلًا أتبعُ آثار القوم، وأمْضِي نحو أرضِهم، فإنَّ عندي جَزاءً وغَنَاءً، فقال له أبو عُبَيْدَة: والله
(a) غير واضحة في الأصل، ونقلها في "ك": نفيرة، والمثبت موافق للكلبي: نسب معد 266، وياقوت: المقتضب 307.
(b) في الأصل و"ك": وهم أهل السهل والدهر وتيم اللَّات، والإضطراب بَيِّنٌ صوابه ما أثبت، وزهو هو بن مرّ بن عَمْرو، وولده تيم اللَّات. انظر: الكلبي: نسب معد 266، وياقوت: المقتضب 307.
(c) كذا في الأصل، مهمل أولها، وعند الكلبي: نسب معد 266: ثَبابة وهم بالشام، وياقوت: المقتضب 308: نباتة وهم بحاضر قِنَّسْريْن.
(d) فتوح الأزدي: عبيد الله، والمثبت موافق لفتوح الوَاقِدِيّ 214 والإكتفاء للكلاعي 2/ 1:275.
_________
(1)
هو الأزدي البصريّ، وانظر خبر الأشتر وميسرة في فتوح الشَّام للأزدي 346 - 347، وفتوح الشَّام للواقدي 214 - 218، والإكتفاء للكلاعي 2/ 1: 275 - 277: (وفيه اختصار قليل).
إنَّك لخَليقٌ لكُلِّ خير، فبعثَهُ في ثلاثمائة فَارِس وقال له: لا تَتَبَاعد في الطَّلَب وكُنْ منِّي قريبًا، فَخَرج الأَشْتَر، فكان يَغِير منه على مَسِيرة اليَوْم واليَومين ونحو ذلك.
قال: ثمّ إنَّ أبا عُبَيْدَة دعا مَيْسَرة بن مَسْروق فسرَّحَهُ في ألفي فَارِسٍ، فمَرَّ على قِنَّسْريْن، فأخَذَ يَنْظُر إليها في الجَبَل، فقال: ما هذه؟ فسُمِّيَتْ له بالرُّومِيَّة، فقال: إنَّها لكذلك، والله لكأنَّها قِنُّ نَسْرٍ! ثمّ إنَّه مَضَى في أثر القوم حتَّى قَطَع الدُّروب، وبلَغ الأَشْتَر أنَّه قَطَعَ الدُّرُوب، فمَضَى قبلَهُ حتَّى لحقَهُ، وإذا مَيْسَرة مُواقفٌ لِجَمْعٍ من الرُّوم وهم كثيرٌ، وكان مَيْسَرةُ في ألفي فارسٍ من المُسْلِمينَ، وكان أولئكَ أكثر من ثلاثين ألفًا من الرُّوم، وكان مَيْسَرة قد أشْفَق على مَنْ معه وخاف على نَفْسه وعلى أصحابه الهَلاك.
فإنَّهم لكذلك، إذ طلَعَ عليهم الأَشْتَر في ثلاثمائة فارس من النَّخَع، فلمّا رآهُم أصحاب مَيْسَرة كَبَّرُوا، وكَبَّرَ الأَشْتَر وأصْحابه، وأنَّ الأَشْتَر حَمل من مكانه ذلك عليهم، وحَمل مَيْسَرة عليهم فهزمُوهم، وركب بعضهم بعضًا، فهزمُوهُم، وركبُوا رؤُوسَهُم واتَّبَعَتهم خيل المُسْلِمين يقتلونَهُم حتَّى انْتَهَوا إلى موضعٍ مرتفعٍ من الأرض فَعَلَوا فوقه، ونزلت رَجَّالَةٌ منهم إلى خَيل المُسْلِمين فرمَوْهُم، فوقف المُسْلِمُون حين رمتْهُم رَجَّالَةُ الرُّوم، فقال بعض المُسْلِمين لبعضٍ: دعوهم فإنَّهم قد انهزَمُوا، وأخذت الرُّوم على وجوههم (a)، وأقْبَل عظيمٌ من عُظمائهم مع رَجَّالَة كَثِيْرة من رجَّالتهم فجَعلُوا يرمونَ خَيْل المُسْلِمين وهُم على مكان مُشْرف.
قال: فإنَّ خَيْل المُسْلِمين لمُوَافقَتهم، إذْ نزل إلى المُسْلِمين رَجُلٌ من الرُّوم، أحمر عَظيم جَسيم، فتعرَّض للمُسْلِمينَ ليخرج إليهِ رَجُل منهم، قال: فوالله ما خَرَجَ إليهِ رَجُل منهم. فقال لهم الأَشْتَر: فما منكم من أحَدٍ يخرجُ إلى هذا العِلْج؟ فلم
(a) فتوح الوَاقِدِيّ 215: يمضون على وجوههم.
يتكلَّم أحدٌ، قال: فنَزَل الأَشْتَر ثمّ خَرَجَ إليهِ، فمشَى كُلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبهِ وعلى الأَشْتَر الدِّرْع والمِغْفَر، وعلى الرُّوميّ مثل ذلك، فلمّا دَنَا كُلُّ واحدٍ منهما من صاحبهِ شَدَّ عليه الأَشْتَر فاضْطَرَبا بِسَيْفيهما، فوقَع سَيْفُ الرُّومي على هَامة الأَشْتَر فَقطع المِغْفَر وأسرع السَّيْف في رَأسه حتَّى كاد يَنْشَبُ في العَظْم، ووَقَعت ضَرْبةُ الأَشْتَر على عاتق الرُّوميّ فلم يَقْطَع سيفهُ شَيئًا من الرُّوميّ، إِلَّا أنَّهُ قد ضَرَبهُ ضَرْبةً شديدةً أَوْهَنَت الرُّوميَّ وأثْقلَت عاتقَهُ، ثُمّ تَحَاجَزا.
فلمَّا رأى الأَشْتَر أنَّ سَيفَهُ لم يَصْنَع شيئًا انصَرَفَ يَمْشي على هِيْنَتِهِ (a) حتَّى أتَى الصَّفَّ وقد سَال الدَّمُ على لِحْيته ووَجْهِهِ، فقال: أخْزَى اللهُ هذا سَيْفًا! وجاءَهُ أصحابُه؛ فقال: عليَّ بشيءٍ من حِنَّاء، فأتَوه به من سَاعته، فوضعَهُ على جُرْحِه، ثُمّ عَصَّبَهُ بالخِرَقِ، ثُمّ حَرَّكَ لِحْيَيهِ وضرب أضْراسَه بعضها ببعض، ثمّ قال: ما أشَدَّ لَحْيَيّ ورَأسي وأضْراسي! ثمّ قال لابن عَمٍّ له: أمْسِكْ سَيْفي هذا وأعْطني سَيْفُكَ، فقال له: دَع سَيْفي -رَحِمكَ اللهُ- فإنِّي لا أدري لعلّي أحْتاج إليهِ، فقال: أعطِنيْهِ ولكَ أُمّ النُّعْمَان -يعني: ابنَتُه- قال: فأعْطاهُ إيَّاه، فذهب ليعود إلى الرُّوميّ. فقال له قَومُهُ: إنَّا ننشُدك الله أن تتعرَّضَ لهذا العِلْج، فقال: والله لأَخْرُجنَّ إليهِ؛ فليقتُلَنِّى أو لأقتُلَنَّه! فتَرَكُوه، فخَرج إليهِ فلمَّا دَنَا منه الأَشْتَر شَدَّ عليه وهو شديد الحَنَق فاضطربا بسَيْفيهما، فضَربهُ الأَشْتَر على عاتقه فقَطع ما عليه حتَّى خَالَط السَّيْفُ رئتَهُ ووقعَت ضَرْبة الرُّوميّ على عاتق الأَشْتَر فقطعَتْ الدِّرع ثمّ انتهت ولم تضرّهُ شيئًا، ووَقَع الرُّوميّ مَيِّتًا، وكَبَّر المُسْلِمُون ثُمّ حَمَلوا على صَفّ رَجَّالَةِ الرُّوم، فجعلُوا ينقضُّون ويَرْمُون المُسْلِمين وهُم من فَوق، فما زالوا كذلك حتَّى أمْسَوا وحالَ بينهم اللَّيل.
(a) فتوح الأزديّ 348، وفتوح الوَاقِدِيّ 215، والإكتفاء للكلاعي 2/ 1: 276: على هيئته. والمثبت كما هو في الأصل و"ك". ومشي الواحد -أو الدابة- على هِيْنَتِه: أي مشى في سكون ورفق. لسان العَرَب، مادة: هون.
فلمَّا أمْسَوا، نادَى مُنادِي العَبْسِيّ بالصَّلاة، فلمَّا أقام وتقدَّم مَيْسَرَة بن مَسْرُوق العَبْسِيّ فصَلَّى بأصْحابه، وتقدَّم الأَشْتَر بأصْحابه فصَلَّى بهم، فلمّا انْصرف، جاءَهُ قَنَان بن دَارِم العَبْسِيُّ فقال: يا صَاحب هذه الخَيْل، ما منعك أن تَجيء فتُصَلِّي مع الأمير مَيْسَرَة بن مَسْرُوق العَبْسِيّ؟ فقال الأَشْتَر: ومن مَيْسَرة بن مَسْرُوق؟ فقال: مَيْسَرة بن مَسْرُوق العَبْسِيّ؟ فقال الأَشْتَر: وما عَبْسٌ؟ وما بنُو عَبْسٍ؟ فقال: سُبحان اللهِ! وما تَدري مَنْ عَبْس ومَنْ بنُو عَبْس! قال الأَشْتَر: لا والله ما أدري، فقال العَبْسِيّ: فمن أنت؟ قال: أنا مَالِك بن الحَارِث، قال: مِمَّن أنت؟ قال: من النَّخَع، قال العَبْسِيُّ: فوالله إنْ سَمعتُ بالنَّخَع قطّ قبل السَّاعَة. فغَضب أناسٌ من أصْحاب الأَشْتَر، فقال الأَشْتَر لأصحابه: مِمَّ تَغْضَبُون؟ أمَّا أنا والله ما كذبْتُ، وما أظُنُّ هذا الرَّجُلَ إِلَّا صَادِقًا. ثمّ قال الأَشْتَرُ: مَنَعَني يا عَبْد اللهِ من الصَّلاة معَكُم أنِّي وُلِّيْتُ هذه الخَيْل ولم يُؤَمَّر عليَّ إنْسان، ولم أُؤمر بطاعةِ أحدٍ، ولَسْتُ مُؤمِّرًا عليَّ مَنْ لم أُؤمَر بطاعَتِه، ولا أُريد الإمارةَ على مَنْ لم يُؤْمَر بطاعتي، وأنا إذا صَلَّيتُ الغَدَاةَ انْصَرفتُ إنْ شاء اللهُ.
فلمَّا صَلَّى الغَدَاة، وقد باتُوا لَيْلَتَهُم كُلّها يَتحارَسُون (a)، فلمَّا أصْبَحُوا وصَلَّى الغَداة ارْتَحل الأَشْتَر بأصحابه، ومضى مَيْسَرَةُ حتَّى بلَغَ مَرْج القَبَائِل
(1)
وهي ناحيَةِ أَنْطَاكِيَة والمِصِّيْصَة، ثُمّ انصرف رَاجعًا.
وكان أبو عُبَيْدَة قد أشْفَق عليهم حين بَلَغَه أنَّهم قد أدْرَبُوا، وجَزِعَ جَزَعًا شَديدًا، ونَدِمَ على إرْسالهِ إيَّاهم في طَلب الرُّوم. قال: فإنَّه لجالِسٌ في أصحَابه،
(2) الأصل و"ك": يتحاربون، والأظهر ما أُثبت من فتوح الأزدي 350، وفتح الوَاقِدِي 217، والإكتفاء للكلاعي 2/ 1:276.
_________
(1)
مرج القَبَائِل: واد واسع ناحية الثُّغُور الشَّامِيَّة داخل الدروب المفضية لبلاد الرُّوم بنواحي المصيصة، ذكره الوَاقِدِيّ ووصفه في خبر غزوة مَيْسَرة بن مَسْرُوق لمرج القَبَائِل. الوَاقِدِيّ: فتوح الشَّام 223.
مُسْتَبطئٌ قُدُوْمَهُم، مُتأسِّفٌ على تَسْريحه إيَّاهم، إذ أتى مُبَشِّرٌ (a) ، بقدوم الأَشْتَر، وجاء الأَشْتَر فحدَّثَهُ بحديثِ ما كان من أمرهم ولقائهم ذلك الجَيْشَ، وهزيمتهُم إيّاهم، وما صَنَع اللهُ لهم، ولم يَذْكر مُبارزتَهُ الرُّوميّ وقَتْلِه إيَّاهُ حتَّى أخْبرَهُ غيره، وسألَه عن مَيْسَرة بن مَسْرُوق وأصحَابه، فأخبَرَهُ بالوَجْهِ الَّذي توجَّه فيه، وأخبره أنَّهُ لم يَمْنَعهُ من التَّوجُّهِ معه بأصحَابه إِلَّا الشَّفَقة على أصحابه أن يُصَابُوا بعدما ظفروا، فقال: قد أحسَنْتَ، وما أُحِبُّ الآن أنَّك معهم، ولودَدتُ أنَّهم كانُوا مَعَك.
قال
(1)
: وأقام حتَّى قَدِمَ عليه مَيْسَرة بن مَسْرُوق، وكتب كتابًا أمَانًا للنَّاس من أهل قِنَّسُرِيْن، ثمّ أمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادى: الرَّحيل إلى إيْليَاء، وقدّم خَالِد بن الوَلِيد على مُقَدِّمته بين يديه، وأقْبل يَسيرُ حتَّى انتَهى إلى حِمْصَ، فبَعَث على حِمْص حَبِيب بن مَسْلَمَة القُرَشِيّ، وأرض قِنَّسْريْن إذ ذاك مَجْمُوعة إلى حِمْص، وإنَّما سُمِّيَتْ حِمْص الجُنْد المُقَدَّم لأنَّها كانت أدْناها من الرُّوم ومن دِمَشْق والأُرْدُنّ وفِلَسْطين وهُنَّ كُلَّهن وراءها.
أَخْبَرَنَا أبو عَلىّ الأوَقِيّ، قال: أَخْبَرَنَا أبو طاهر، قال: أَخْبَرَنَا أبو الحُسَيْن، قال أَخْبَرَنَا أبو إسْحَاق الحَبَّال، قال: أَخْبَرَنَا أبو العبَّاس مُنير بن أحْمَد، قال: أَخْبَرَنَا عليّ ابن أحْمَد، قال: حَدَّثَنَا أبو العبَّاس الوَلِيد بن حَمَّاد الرَّمْليّ، قال: أَخْبَرَنَا الحُسَيْن بن زِيَاد، عن أبي إسْمَاعِيل البَصْرِيّ
(2)
، قال: وحَدَّثَنِي عُمَر (b) بن عَبْد الرَّحْمَن أنَّه حين خَرَجَ من أَنْطَاكِيَة -يعني هِرَقْل- أقْبَل حتَّى نَزَل الرُّهَا، ثمّ منها كان خُرُوجُهُ
(a) فتوح الأزدي 350 وفتوح الوَاقِدِيّ 217 والإكتفاء 2/ 1: 276: فبُشر.
(b) في "ك" وفتوح الأزدي 346 والإكتفاء للكلاعي 2/ 1: 275: عَمْرو، ولم نهتد لمعرفته، والمثبت هو ما ورد في الأصل، ومثله في فتوح الشَّام للواقدي 213، وكذا في إحدى نسخ فتوح الأزدي.
_________
(1)
النقل عن الأزدي: فتوح 351، وهو في الإكتفاء 2/ 1:277.
(2)
انظر الرواية في فتوح الأزدي البصري 346، والاكتفاء للكلاعي 2/ 1:275.
إلى القُسْطَنطِينيَّة، فأقْبلَ خَالد فىِ طَلبِ الرُّوم حتَّى دَخَل أرْض قِنَّسرين، فلمَّا انْتَهى إلى حَلَب، تحصَّنَ منه أهْل حَلَبَ، وجاءَ أبو عُبَيْدَة حتَّى نَزَل عليهم، فطلَبُوا إلى المُسْلِمِيْن الصُّلْحَ والأمْانَ، فقَبِلَ منهم أبو عُبَيْدَة فصَالَحَهُم، وكَتَبَ لهم أمانًا.
ووَقَعَ بيدي فُتُوح الشَّام بِخَطِّ أبي عَبْد الله بن مُقْلَة
(1)
، رَواهُ أحْمَد بن عَبْد العَزِيْز الجَوْهَرِيّ، عن أبي زَيْد عُمَر بن شَبَّة، عن هارُون بن عُمَر، فذكَرَ فيهِ، قال
(2)
: حَدَّثَنى هارُون، قال: حَدَّثَني مُحمَّد بن سَعيد، قال: حَدّثَني أبي، قال: حَدَّثَنِي أبو جَهْضَم، عن عَبْد الرَّحمن بن السُّلَيْك، عن عَبْد الله بن قُرْط، فذكَر نحوًا ممَّا ذَكَرَ أبو إسْمَاعِيْل البَصْرِيّ وقال: وكان مَخْرجه -يعني هِرَقْل- من أَنْطاكِيَة إلى الرُّهَا ثمّ إلى القُسْطَنْطِينِيَّة.
وكان أبو عُبَيْدَة لمَّا نَزَل حِمْص قدَّم خَالِد في جُنُودِهِ إلى قِنَّسْرِيْن، فسَار خَالِد حتَّى نَزَل على حَلَب، وأقْبَل أبو عُبَيْدَة في أثره حتَّى نَزل بها، فعَسكَر بها، فتَحَصَّن أهْلُها منه، فحاصرَهُم، فطلبُوا منه الصُّلْح والأمان، فقَبِلَ ذلك منهم على أنْ يُؤدُّوا الجِزْيَة إلى المُسلِمِين، وكَتَب لهم كتابًا وأمانًا.
أخْبَرَنا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحْمَد بِن عليّ، قال: أخْبَرنا الحَافِظُ أبو مُحمَّد القَاسِم ابن عليّ بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أبي رحمه الله غير مَرَّة
(3)
، قال: أخْبَرنا أبو غَالِب مُحمَّد بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن السِّيْرَافيّ، قال: أخْبَرنا أحمدُ بن إسْحَاق (a)،
(a) الأصل و"ك": الحَسَن، والصواب ما أثبت وقد تكرر ذكره فيمن يروي عنهم السيرافي.
_________
(1)
هو أخو الوزير الخطاط المشهور أبي علي مُحَمّد بن مقلة، واسمه الحَسَن، وكانت وفاته بعد وفاة أخيه مُحَمّد بعشر سنوات (ت 338 هـ). انظر: الفهرست للنديم 1/ 1: 24، ابن خلكان: وفيات الأعيان 5: 117.
(2)
الوَاقِدِيّ: فتوح الشَّام 213.
(3)
تاريخ ابن عساكر 44: 394 وانظره أيضًا في تاريخه 46: 157، بإسناد مختلف.
قال: حَدَّثَنا أحمدُ بن عِمْران، قال: حَدَّثنا مُوسَى، قال: حَدَّثَنا خَلِيفَة بن خَيَّاطٍ، قال
(1)
: حدَّثَنا عَبْد الله بن المُغِيرَة، قال: حَدَّثَني أبي أنَّ أبا عُبَيْدَة بعثَ عَمْرو بن العَاص بعْدَ فراغه من اليَرْمُوك إلى قِنَّسْرِيْن فصَالَح أهل حَلَبَ ومَنْبِج وأَنْطاكِيَة وافْتَتَحَ سَائر أرض قِنَّسْرِيْن عَنْوَةً.
وقَرَأتُ في مغَازِي أبي عُثْمان سَعيد بن يَحْيَى بن سَعيد، قال: حَدَّثَني أبي، عن يَزِيد بن سِنَان، عن أشْياخٍ لهم، قال: بَعَثَ عَمْرٌو عِيَاضَ بن غَنْم الفِهْرِيّ إلى قِنَّسْرِيْن والجَزِيرَة، وكانت قِنَّسْرِيْن والجَزِيرَة من حِمْص، فافْتَتحَ قِنَّسْرِيْن وكَتَبَ لهم كتابًا وخَتَمَهُ. قال يَزيد: فأنا قرأتُ كِتابهم، ثمَّ خَرَج حتَّى نزلَ حَرَّان.
وأنْبَأنا أبو العَلاءِ أحْمد بن شَاكِر بن عبْد الله بن سُلَيمان، قال: أخْبَرَنا الحافِظُ أبو القاسِم عليّ بن الحَسَن الشَّافِعِيّ
(2)
، قال: أخْبَرَنا أبو غَالبِ المَاوَرديّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن السِّيرَافيّ، قال: أخْبرنا أحْمدُ بن إسْحَاق، قال: حدَّثَنا أحْمدُ بن عِمْران، قال: حَدَّثنا مُوسى بن زَكَرِيَّاء، قال: حَدَّثنا خَليفَة بن خيَّاطٍ، قال
(3)
: سنَة ستَّ عشرة قال: وفي هذه السَّنَة افْتُتِحت حَلب وأنْطاكِيَة ومَنْبِج. وقال ابنُ الكَلْبيّ
(4)
: صَالَح أبو عُبَيْدة أهْل حَلبَ، وكَتَبَ لهم كتابًا، ثُمَّ شَخَصَ أبو عُبَيدة وعلى مُقَدِّمته خَالِد بن الوَلِيد، فَحاصَرَ إيلِيَاءَ.
أخْبَرَنا أبو حَفْص عُمَر بن مُحمَّد بن مُعَمَّر
(5)
المُؤدِّب، قراءةً عليه بحَلَب، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم إسْماعِيل بن أحْمد بن عُمَر السَّمَرْقَنديّ، إجَازةً إنْ لم يكُن سَماعًا، قال: أخْبرَنا أبو عليّ مُحمَّد بن أحمَد بن المُسْلِمَة، قال: أخْبَرَنا أبو الحسَن عليّ
(1)
تاريخ ابن خياط 134 - 135.
(2)
تاريخ ابن عساكر 46: 157.
(3)
تاريخ ابن خياط 134.
(4)
لم يرد في كتابه في النسب، وهو في تاريخ ابن خياط (مصدر النقل)135.
(5)
هو ابن طبرزد؛ المحدث البَغْدَاديّ المشهور.
ابن الحَمَّاميّ، قال: أخْبَرَنا أبو عليّ مُحمَّد بن أحْمد بن الصَّوَّاف، قال: أخْبَرَنا أبو محمَّد الحَسَنُ بن عَتُّود القَطَّان، قال: أخْبَرَنا إسْماعِيلُ بن عِيْسى العَطَّار، قال: أخْبَرَنا أبو حُذَيْفَة إسْحَاق بن بِشْر القُرَشيِّ، قال: حدَّثَنَا سَعيدُ بن عَبْدِ العَزيْز القُرَشيّ، عن قُدَماء أهْلِ الشَّامِ، وذَكَر عنهم وقْعَة اليَرْمُوك، وتَوَجّه خَالِد من اليَرمُوك، وأنَّ أبا عُبَيْدة سَار بالنَّاس في أثر خَالد بن الوَليد حتَّى لَحقَهُ بِحمْص. قالوا: فلمَّا اجْتَمَعُوا بها أراهُم اللهُ الغَلَبَة والسُّرور واجْمعوا لها، وأمر خَالِد بن الوَليْد بالمَسِيْر إلى أرْض قِنِّسرِين.
ثُمَّ ذَكَرَ وُرود الخَبَر إلى قَيْصَر بالهَزِيْمة، وقال: قالُوا: ثُمّ نادَى -يَعني قَيْصَر- في أصْحابه، فخرَجَ إلى القُسْطَنطينيَّة راجعًا، فلمَّا خَرَجَ من الشَّام، وأشْرَفَ على أرض الرُّوم قال: سَلامٌ عليكِ يا سُوْريَّة؛ سَلام مُودِّع لا يرَى أنْ يَرجعَ إليكَ أبَدًا، فلمَّا أشْرفَ على أرضِه قال: وَيْحَك أرْضنا، ما أنْفَعك لعَدُوّك؛ لكَثْرة ما فيها من العُشْب والخِصْب.
قال: وأقْبلَ خَالِد في طَلَبِ الرُّوم في وَجْهه هذا الّذي قَدَّمَهُ فيهِ أبو عُبَيْدة بين يديه من حِمْص حتَّى دَخَل في أهْل قِنِّسرِين فانْتَهى إلى حَلَب، فتَحَصَّنَ أهلُ حَلَبَ منهُ، فأقامَ حتَّى لَحقَهُ أبو عُبَيْدة حتَّى نَزَل فتَهَيَّأ لهم أيضًا، فطَلَبُوا إلى المُسلِمين الصُّلْح والأمَان، فقَبِلَ منهم أبو عُبيْدة وكَتَبَ لهم كتابًا أمانًا.
قالُوا: ثمّ طَلَبَ إلى أبي عُبَيدة الأشْتَرُ مَالك بن الحارث أنْ يَبْعَث معَهُ خَيْلًا حتَّى يتَّبع آثار الرُّوم، فإنَّ عِندي غَنَاء وحَزمًا، فقال: واللهِ إنَّك لخَليقٌ لكُلِّ خَيْر، فبَعَثَهُ في ثلاثمائة فَارِس، وقال له: لا تُبْعد في الطَّلَبِ وكُن منِّي قريبًا؛ فكان يَغِيرُ منهُ على مَسِيرة اليَوم أو بعض اليَوْم. ثُمّ إنَّ أبا عُبَيدة دَعَا مَيْسَرَة بن مَسْرُوق العَبْسِيّ فبَعَثَهُ في ألْفَي فَارسٍ، فمَرَّ على قِنِّسرِين، وذَكَر إدْرابَهُ ثُمَّ قال: وأقامَ أبو عُبَيْدة
حتَّى قَدِمَ عليهِ مَيْسَرَة وكَتَبَ أمانًا وصُلْحًا لأهْل قِنِّسرِين، ثمّ نادَى في النَّاس للرَّحيل إلى إيلِيَاء، وقَدَّمَ خَالِد بن الوَليْد بين يَدَيه وأبو عُبَيدة يَسير رَاجِعًا حتَّى انْتهى إلى حِمْص.
قالوا: فبَعَثَ حَبِيْب بن مَيْسَرَة القُرَشيّ إلى أرض قِنِّسرِين؛ وأرض قِنِّسرِين إِذْ ذاكَ مَجْمُوعة لصَاحِب حِمْص، وإنَّما أُحْدِثَتْ قِنِّسرِين وفُرِقَت بعدَ ذلكَ في إمارة يَزيْد بن مُعاويَة ليُقِيم بها.
وأنبأنا أبو القَاسِم عبْدُ الصَّمد بن مُحمَّد القاضِي إجازةً، عن أبي القَاسِم إسْماعِيل بن أحْمد السَّمَرقَنديّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَين أحْمَد بن مُحمَّد بن عَبْد اللهِ ابن النَّقُّور البَزَّاز، قال: أخْبَرَنا أبو طَاهِر مُحمَّد بن عَبْد الرَّحمن بن العبَّاسِ المُخَلِّص، قال: حَدَّثَنا أبو بَكر أحمَد بن عَبد اللهِ بن سَيْفٍ، قال: حَدَّثَنَا السَّريّ بن يَحْيى، قال: حَدَّثنا شُعَيْب بن إبْراهِيم، قال: حدَّثنا سَيْفُ بن عُمَر، عن أبي عُثمان، قال
(1)
: وكان صُلْح حِمْص على أنْصَاف دُوْرهم، وعلى أنْ يَتْرك لهم المُسْلِمُونَ أمْوالَ الرُّوم وبُنْيانَهُم؛ لا يَنْزلُونَ عليهم فَتَرَكُوه لهم. قال: فصَالَح بعْضَهم على صُلْح دِمَشْق: على دِيْنار وطَعام على كُلّ جرِيْبٍ أبدًا؛ [أيْسَرُوا](a) أو أعْسَرُوا، وصَالَح بَعْضَهُم على قَدر طَاقَتِه؛ مَنْ زَادَ مالُهُ زِيْدَ عليه، وإنْ نقَص نُقِص.
وقال: حَدَّثَنَا السَّرِيّ، قال: حَدَّثنا شُعَيْب، قال: حَدَّثنا سَيْفٌ، عنِ أبي حَارِثَةَ وأبي عُثْمان، عن خَالِد وعُبَادَةَ والرَّبِيْع بن النُّعْمان، عن رَجَاء بن حَيْوة، قالُوا: لمَّا كان ذُو القَعْدَة من سَنَة ستّ عَشرة، أغْزَى هِرَقْلُ أهْلَ حِمْصَ في البَحْر وقد اتَّخذوا مَسَالح، ونَزَلَ عَلْقَمَة بن مُحْرِز وعَلْقَمَة بن حَكِيم الرَّمْلَةَ وعَسْقَلان
(a) في ك: "أو أبعدوا"، وغير واضحة في الأصل، تقديرها المثبت، ومثله في تاريخ الطبريّ 3:600.
_________
(1)
انظر تاريخ الطبريّ 3: 600.
وذوَاتها، وفَعَلَ يَزِيد وشُرَحْبِيل نحوًا من ذلك، واسْتَمَدَّ أهل الجَزِيرَة واسْتَثار أهل حِمْصَ، فأرْسلُوا إليهِ بأنَّا قد عاهَدْنَاهُم فنَخاف ألَّا تُنْصر، وخَرج على أبي عُبَيْدَة في جَلَبةِ الرُّوم، فاسْتَمَدَّ أبو عُبَيْدَة خَالِدًا، فأمَدَّهُ بمَن معهُ جميعًا؛ لم يُخَلِّف أحَدًا، فكَفر أهلُ قِنَّسْرِيْن بعدَهُ، وتابَعُوا هِرَقْل، فكان أكْفر مَنْ هُنالك تَنُوخ الحَاضِر، وكان تمسُّكُ كُلّ أميرِ بكُوْرته من القُوَّة وهو أنْجز وأعزّ للمُسْلِمين، ودنا هِرَقْل من حِمْص وعَسكَر وبَعَثَ البُعُوث إلى حِمْص، فأجْمع المُسلِمُون على الخَنْدَقة والكتابة إلى عُمَر رِضْوَانُ الله عليه، إلَّا ما كان من خَالِدٍ؛ فإنَّ المُناجزة كانت رَأيَهُ، فخَنْدَقوا على حِمْص، وكتبوا إلى عُمَر، واسْتَصرخُوه.
وجاءَ الرُّوم ومَنْ أمَدَّهُم حتَّى نزلوا عليهم، فحصَرُوهُم، وبَلَغت أمْداد الجَزِيرَة ثلاثين ألفًا سوى أمْدادِ قِنَّسْرِيْن من تَنُوخ وغيرهم، فبلغُوا من المُسْلِمِيْن كلّ مَبلَغ، وجاءَ الكتاب إلى عُمر وهو مُتَوَجِّه إلى مَكَّة للحَجِّ في ذِي الحِجَّة فمضَي لَحَجِّهِ، وكتبَ إلى سَعْدٍ أنَّ أبا عُبَيْدَة قد أُحِيطَ بهِ ولَزِمَ حِصْنه، فبثّ المُسْلِمِيْن بالجَزِيْرَة، واشْغلهم بالخيُول عن أهل (a) حِمْص، وأمِدَّ أبا عُبَيْدَة بالقَعْقَاع [. . .](b)، فخرج القَعْقَاع بن عَمْرو مُمِدًّا لأبي عُبَيْدَة، وخرجَت الخُيُول نحو الرَّقَّة وحَرَّان ونَصِيْبِين، فلمَّا ولَجُوا (c) الجَزِيرَة، وبَلَغ ذلك إلى القَوْم وهم بحِمْص تَقَوَّضُوا إلى مَدَائِنهم، وبادر المُسْلمُون إليها، فَتَحَصَّنُوا، ونَزَل عليهم المُسلِمُون فيها، ولمَّا دَنا
(a) النص غير واضح في الأصل، والمثبت موافق لما عند الكلاعي: الإكتفاء 2/ 1: 219، وورد في الإكتفاء في موضع آخر (2/ 2: 308): وتقدم إليهم بالجد والحث.
(b) كلمة غير مقروءة، تقديرها: والسهيلي أو: والنهشليّ، ويرد في خبر الفتح أنَّه كتب إلى سعد أيضًا: وسرح سهل بن عدي إلى الرقة، انظر: الإكتفاء للكلاعي 3/ 3: 308، وابن الجوزي: المنتظم 4: 223، ابن الأثير: الكامل 2: 531، ابن خلدون: العبر 4: 474 (وفيه: سهيل بن عدي)، الحميري: الروض المعطار 165.
(c) كذا في الأصل، وفي الإكتفاء للكلاعي 2/ 1: 219: فلمّا وصلوا.
ـ
القَعْقَاع بن عَمْرو من حِمْص راسَلَتْ طائِفَة من تَنُوخ خالِدًا ودلُّوه (a) وأخْبرُوه الخَبَر، فأرْسَل إليهم: إنِّي والله لولا أنِّي في سُلطان غَيري ما باليت أقللْتُم أم كَثرتم، أو أقَمْتم أو ذَهَبْتُم، فإنْ كُنتم صَادِقين فانْفَشُّوا كما انفَشَّ أهل الجَزِيرَة، فسَامُوا سَائر تَنُوخ ذلك، فأجابُوهم، وراسلوا خَالِدًا: إنَّ ذلك إليك، فإنْ شِئْتَ فعَلْنا، وإنْ شئت أنْ تَخْرُجَ علينا فنَنْهزم بالرُّوم، فقال: بل أقيموا فإذا خَرَجنا فانْهزموا بهم؛ وقال المُسلِمُون لأبي عُبَيْدَة: قد انْفَشَّ أهل الجَزِيرَة، وقد نَدِم أهل قِنَّسْرِيْن ووَعَدُوا من أنفسِهم، وهُم العَرَب، فاخْرج بنا -وخَالِد ساكت- فقال: ما لَكَ يا خَالِد لا تتكلَّم؟ فقال: قد عَرفتَ الّذي عليه (b) رأيي فلم تَسْمَع من كلامي، قال: فتكلَّم فإنِّي أسْمع منك وأطيعك، قال: فاخْرج بالمُسْلِمِيْن؛ فإنَّ الله قد نقَص من عدّتهم، وبالعَدَد يقاتلُون، وإنَّما نُقاتِل منذ أسْلمنا بالنَّصْر فلا تَجْفلْكَ كَثْرتهم.
وقال السَّرِيّ: حَدَّثَنَا شُعَيْب، قال: حَدَّثَنَا سَيْف، عن أبي عُثْمان يَزِيد بن أُسَيْد الغَسَّانِيّ، عن أبيه، عن خالِد وعُبَادَة والرَّبيع (c) بن النُّعْمان النَّصْرِيّ، عن عَلْقَمة بن النَّضْر بن عَلْقَمَة النَّضْريّ، قالوا: فجمَع أبو عُبَيْدَة النَّاس، فحَمَد الله وأثْنَى عليه، وقال: أيُّها النَّاس، إنَّ هذا يَوْم له ما بعده، لعلَّ مَنْ حَيى منكم أنْ يَصْفُوَا مُلْكهُ وقراره، وأمَّا مَن ماتَ منكم فإلى الجنَّة فإنَّها هي الشَّهادَةُ، فأحْسنُوا بالله الظَّنَّ، ولا يُكَرِّهن إليكُم المَوْتَ أمرًا اقْتَرفه أحدُكُم دونَ الشِّرك، تُوبُوا إلى الله [. . .](d) وتعَرَّضوا للشَّهادَةِ، فإنِّي أشْهَدُ -وليسَ أوَانُ الكَذِب-
(a) من قوله "وكتب إلى سعد. . . ودلوه" استعصى على ناسخ "ك" قراءته فتركه فراغًا.
(b) غير واضح في الأصل، وتركه بياضًا في "ك"، والمثبت من زبدة الحلب 1: 50، وفي الإكتفاء للكلاعي 2/ 1: 220: "قد عرفت الَّذي كان من".
(c) كذا ويمكن أن تكون عن الربيع.
(d) كلمة غير مقروءة، وهي غير موجودة في الإكتفاء للكلاعي.
أنِّي سَمِعْتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقُول
(1)
: مَنْ ماتَ لا يُشْرِك بالله شيئًا دَخَل الجَنَّة.
فكأنَّما كان النَّاس في عُقْل فنُشِطَتْ، فخَرَجَ بهم وخَالِد على المَيْمَنَة، وعيَاض (a) على المَيْسَرة، وأبو عُبَيْدَة في القَلْب، وعلى بابِ المَدِينَة مُعَاذ بن جَبَل، فاجْتَلَدُوا بها، فإنَّهم كذلك إذ قَدِم القَعْقَاع مُتَعجِّلًا في مائةٍ، وانْهَزَم أهلُ قِنَّسرِيْن بالرُّوم، فاجْتمع القَلْب والمَيْمَنَة على قَلْبهم وقد انْكَسَر أحدُ جَناحَيهِ، [ورجَع إلى الوَراء](b) فما أفْلَت منهم مُخبر، وذَهَبت المَيْسَرةُ على وَجْهها، وكان آخر من أُصِيب منهم بمَرْج الدِّيْباج
(2)
انْتَهوا إليهِ فكسَرُوا سلَاحَهُم وألْقوا بلأمَتِهم
(3)
تَخْفيفًا فأُصيبوا وتَغَنَّمُوا.
ولمَّا ظَفر المُسلِمُون، جَمَعَهُم أبو عُبَيْدَة فخَطَبهم، وقال: لا تَتَّكلُوا ولا تزهدوا في الدَّرجات، فلو عَلمتُ أنَّه يبقَى منَّا أحدٌ لم أُحَدِّثكم بذلك الحَدِيْث. وتَوافَى إليهِ آخرُ أهْل الكُوفَة في ثلاثٍ من يَوْم الوَقْعَة
(4)
.
(a) غير واضحة في الأصل، وفي الإكتفاء: قيس.
(b) كلمتان غير مقروءتان، وليستا في الإكتفاء، والمثبت على التقريب.
_________
(1)
سنن سَعِيد بن مَنْصُور 2/ 3: 332 (رقم 2931)، ابن حنبل: المسند 5: 223 (رقم 3625)، صَحيح مسلم 1: 94 (رقم 150، 151)، الترمذي: الجامع الكبير 4: 384 (رقم 2644)، النسائيّ: عمل اليوم والليلة 318 (رقم 1124)، وفيه: من مات من أمتك، 319 (رقم 1129)، وفيه: من مات من أمتي، مسند أبي يعلى المَوصِلي 4: 188 (رقم 2278)، الطبرانيّ: المعجم الكبير 4: 206 (رقم 4152)، ابن منده: الإيمان 1: 218، الأصبهاني: حلية الأولياء 5: 46، صَحيح ابن حبَّان بترتيب ابن بلبان 8: 1118 (رقم 3326)، ابن حجر: فتح الباري 3: 110 (رقم 1238)، المتقي الهندي: كنز العمال 1: 65 (رقم 237)، 1: 68 (رقم 259)، 1: 301 (رقم 1436)، المناوي: فيض القدير 1: 94 (رقم 77)، 1: 95 (رقم 78)، وفيه: من مات من أمتك.
(2)
مرج الديباج: وادٍ في الثُّغُور نزه بين الجبال، بينه وبين المِصِّيْصَة عشرة أميال. ياقوت: مُعْجَمُ البلدان 5: 101.
(3)
اللَّأمَةُ: مهموزًا، الدرع. لسان العَرَب، مادة: لام.
(4)
انظر خبر هذه الوقعة في الإكتفاء للكلاعي 2/ 1: 219 - 220.
وقال: حَدَّثَنَا السَّرِيّ بن يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا شُعَيْب بن إبْرَاهِيْم، قال: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عن أبي عُثْمان وأبي حَارِثَةَ، قالا
(1)
: وبعَثَ أبو عُبَيْدَة بعد فَتْح حِمْصَ خَالِد بنَ الوَلِيدِ إلى قِنَّسْرِيْن فلمَّا نَزَل بالحَاضِر، زَحَف لهم الرُّومُ، وثارَ أهْلُ الحَاضِر بهم، وعليهم مِيْنَاسٌ؛ وهو رأس الرُّوم وأعْظَمهُم فيهم [بعد هِرَقْل](a) فالْتقَوا بالحَاضِر، فقُتِلَ مِيْنَاس ومَنْ معه مَقْتلةً لم يُقتلُوا مثلها، فأمَّا الرُّومُ فماتوا علِى دَمهِ حتَّى لم يبقَ منهُم أحد، وأمَّا أهل الحَاضِر فهَربُوا وراسَلُوا خَالِدًا بأنَّهم عَرَبٌ، وأنَّهم إنَّما حُشروا ولم يكن من رأيهم حَرْبه، فقَبِلَ منهم وتَركَهم (b).
ولمَّا بلَغَ ذلك عُمَرَ رضي الله عنه قال: أمَّرَ خَالِدٌ نفسَهُ، يَرْحَمُ اللهُ أبا بَكْرٍ؛ هو كان أعْلَمَ بالرِّجال منِّي، وقد كان عَزَلَهُ والمُثَنَّى مع قيامِهِ
(2)
، وقال: إنِّي لم أعزلهما عن ريبةٍ، ولكن النَّاس أعظمُوهما (c) فَخَشِيْتُ أنْ يُوْكَلُوا إليهما، فلمَّا كان من أمْره وأمْر قِنَّسْرِيْن ما كان، رَجَع عن رَأيه، وكذلك فَعَل بالمُثَنَّى لمَّا قام بعد أبي عُبَيْدة، وقال: كان أبو بَكْر رضي الله عنه أعْلَم بالرِّجال منِّي.
وسَار خَالِد حتَّى نَزَلَ علي قِنَّسْرِيْن فتَحَصَّنُوا منهُ، فقال: إنَّكُم لو كُنتم في السَّحَاب لحَمَلَنا اللهُ إليكم أو لأنْزَلَكم إلينا، فنَظَرُوا في أمْرهم، وذَكَرُوا ما لقيَ أهلُ حِمْص، فصَالَحُوه على صُلْح حِمْص، فأبَى إلَّا على إخْرَاب المَدِينة فأخْرَبَها،
(a) كلمتان أذهبتهما الرطوبة، والتعويض من الطبريّ 3: 601، والإكتفاء للكلاعي 2/ 1: 221، والكامل لابن الأثير 3: 493، وزبدة الحلب 1:46.
(b) في زبدة الحلب 1: 46: فقتل منهم وترك الباقين.
(c) عند الطبريّ والكلاعي وابن الأثير: عظَّموهما.
_________
(1)
الخبر في تاريخ الطبريّ 3: 601 - 602، وفيه عن أبي عثمان وجارية، وفي الإكتفاء للكلاعي 2/ 1: 221 - 222، وابن الجوزي: المنتظم 4: 191، 223 (باختصار)، وابن الأثير: الكامل 3: 493 - 494، وابن كثير: البداية والنهاية 7: 52 - 53.
(2)
أي عزل خَالِد والمثنى بن حارثة عندما ولي الخِلَافَة.
واتَّطَأتْ حِمْصُ وقِنَّسْرِيْن، [. . .](a) عَسْكَر النَّاس باليَرْمُوك أقَلّ من ثلاث سنين وأكْثَر من سنتَيْن، فعند ذلك خَنَسَ هِرَقْلُ، وإنَّما كان سَبَبُ خُنُوسِه أنَّ خَالِدًا حين قَتَلَ مِيْنَاسَ وماتَتْ الرُّوم على دمهِ وعَقَدَ لأهْل الحَاضِر وقُتِلَ مِيْنَاس
(1)
، ونَزَل (b) قِنَّسْرِيْن طلَعَ عليه من قِبَل الكُوفَة عُمَر بن مالِك من قبل قَرْقِيسِيا، وعَبْد الله بن المُعتمِّ (c) من قبل المَوْصِل، والوَلِيد بن عُقْبَة من بِلَاد بَني تَغْلِب في تَغلِبْ (d) وعَرَب الجَزِيرَة، وطووا مَدَائِن الجَزِيرَة نحو هِرَقْل، وأهل الجَزِيرَة في حَرَّان والرَّقَّة ونَصِيبِيْن وذَواتها لم يُغْرِضُوا غَرضَهم، حتَّى يَرْجعون إليهم، إلَّا أنَّهم خلَّفُوا في الجَزِيرَة الوَليدَ لئلا يُؤْتَوا من خَلْفهم، فأدْرَبَ خَالِدٌ وعِيَاضٌ ممَّا يَلي الشَّام، وأدْرَب عُمر وعَبْد الله ممَّا يلى الجَزِيرَة، ولم يكُونوا أدْربوا قبله، ثمّ رَجَعُوا، فهي أوَّل مدربَةٍ كانت في الإسْلام سنَة ستّ عَشرة، فرَجَع خَالِدٌ إلى قِنَّسْرِيْن فنزلها، وأتَتْهُ امْرأته (e)، فلمَّا عزلَهُ وضَمَّه إلى المَدِينَة قال: إنَّ عُمَر ولَّاني الشَّام حتَّى. . . الحَدِيْث
(2)
.
قُلتُ: سَيأتي ذِكْر عَزْله وقول خَالِد في تَرجمة خالد
(3)
من كتابنا هذا إنْ شَاءَ اللهُ تعالَى.
(a) موضع النقط قدر سطرين ذهبت الرطوبة به، ولم يرد في رواية الطبري.
(b) تاريخ الطبريّ: وترك.
(c) الأصل: المعتمر، آخره راء، والصواب ما أثبت، أحد القادة في فتوح الجَزِيرَة، كان على ميمنة سعد ابن أبي وقَّاص في معركة القادسية، وكان على خراج الموصل، وله ذِكْر في فتوح تكريت في خِلَافَة عمر بن الخطّاب، انظر: الطبريّ: تاريخ 3: 601، 4: 35 - 36، 39، ابن الأثير: أسد الغابة 3: 263، ابن الأثير: الكامل 2: 452، 493، 523 - 524.
(d) قوله: "في تَغْلِب" لم ترد في رواية الطبريّ.
(e) غير واضحة في الأصل، رسمها: أمان أو أمارته، والمثبت من الطبريّ.
_________
(1)
كذا كرر ذِكْر مقتل ميناس.
(2)
تمامه: إن عمر ولاني الشَّام حتَّى إذا صارت بثنيَّة وعَسَلًا عَزَلَني. الطبريّ 3: 602.
(3)
في الجزء السابع.
ونعود إلى تَمام الحَدِيْث؛ قال: حَدَّثَنَا السَّرِيّ بن يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قال: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عن أبي عُثْمان، عن أبيهِ أنَّ خَالِدًا أتي في قِنَّسْرِيْن برَجُل معه زِقّ خَمْر فقال: اللَّهُمَّ اجْعله خَلًّا، وأقْبَل منه فإذا هو خَلّ مُسْطَار
(1)
، وأقبل الرَّجُل يَعدُو.
وقال زِيَاد بن حَنْظَلَة
(2)
: [من الطّويل]
نحنُ بقِنَّسْرِيْن كُنَّا وُلَاتها
…
عَشِيَّة مِيْنَاسٌ يكُوس ويَعْتِبُ
يَنُوءُ وتَثنيه جَوَارحُ جَمَّة
…
وحَالفَهُ منَّا سِنَان وثَعْلَبُ
وقد هرَبَتْ منَّا تَنُوخ وخاطَرَتْ
…
بحَاضِرها والسَّمْهريَّة تَضْرِبُ
فلمَّا اتقَونا بالجزاء وهَدَّمُوا
…
مَدِيْنَتُهم عُدْنا هُنالِكَ نعْجَبُ
وقال أيضًا
(3)
: [من الطّويل]
وميْنَاس قَتَلْنا يَوْمَ جَاءَ بجَمْعِهِ
…
فصادفَهُ منَّا قِرَاعٌ مُؤَزَّرُ
فوَلَّتْ فُلُولًا بالفَضَاءِ جُموعُهُ
…
ونازَعَهُ منَّا سِنَانٌ مُذَكَّرُ
فضمَّنْهُ لَمَّا تَرَاخَتْ خُيُولُهُ
…
مناخٌ لديه عَسْكَرٌ ثمّ عَسكَرُ
وغُودِر ذاكَ الجَمْعُ يَعْلُو وجُوههُم
…
دُقَاق الحَصَا والسَّافِيَاءُ المُغَبَّرُ
أنْبَأنَا أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد الدِّمَشْقِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحَسَن علي بن المُسَلَّم إذْنًا، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِمِ بن أبي العَلاءِ، قال: أخْبَرنا أبو نَصْر بن الجَنَدِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن أبي العَقَب، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد المَلِك أحْمدُ بن إبْرَاهِيْم القُرَشِيّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بن عَائِذ، قال: قال الوَلِيدُ: حَدَّثَنِي هِشَام بن عَبَّاد، عن أبيهِ أنَّ أبا عُبَيْدَة بن الجَرَّاح عَقَدَ لحَبيب بن مَسْلَمَة حين هَزم الله الرُّوم
(1)
المُسْطَار: الخمر الحامض، وقيل: ضرب من الخمر عند أهل الشَّام. لسان العَرَب، مادة: سطر.
(2)
الأبيات الأربعة عند ابن عساكر: تاريخ 19: 143 - 144، باختلاف طفيف في الرواية، ويعيد ابن العديم ذَكَرَها في تَرْجَمَتِه في الجزء التاسع من هذا الكتاب.
(3)
ابن عساكر: تاريخ 19: 144.
على خَيْل الطَّلَب، يَقْتُل مَنْ أُدْرِكَ، ويَقتَفي مَنْ سبَقَهُ بالهَزيْمَةِ حتَّى أجْلَاهم عن دِمَشْق وغُوْطتها والجَوْلَان والحُوْلَة وبَعْلَبَك هكَذَا إلى حِمْص.
قال: وأخْبَرَني عَبْدُ الرَّحْمن بن يَزِيد بن جَابِر أنَّ الخُيُول طَلبَت الرُّومَ حتَّى أجْلَتْها عن أرْض دِمَشْقَ وحِمْصَ، وبَعَثَ إليهم مَنْ في مَدَائِن قِنَّسْرِيْن والجَزِيرَة يَسْألونه المُوَادعَة سَنَةً، فمَنْ سَارَ إلى أرض الرُّوم في تلك السَّنَة فهو حَرْبٌ، ومَنْ أقامَ فيها فهو ذِمَّةٌ وصُلْح، فأجابُوهم إلى ذلك، ولم يَغْزُوهُم سَنَةً، وجَعَلُوا عَمُودًا قائمًا بين المُسْلِمِيْن وبينهم، ليس للمُسْلِمين أنْ يَجُوزُوا ذلك العَمُودَ إليهِم، ولا لهم أنْ يَجُوزوا العَمُودَ إلى المُسْلِمِيْن، وصَوَّرُوا قيْصَر في ذلك العَمُود جَالِسًا في مُلْكه؛ فبَيْنا رَجُل من المُسْلِمِيْن على فَرَسِه مُعْتَقل رُمْحه إذْ مَرَّ بذلك العَمُود وبتلك الصُّورة، فقال برُمْحه فَفَقأ بها عَيْن التِّمْثال، فاجْتَمَعت الرُّومُ، فقالوا: غَدَرْتُم يا مَعْشَرَ العَرَبِ، وانْتَقَضَ الصُّلْح، فقالوا (a): ما نَقَضَهُ؟ فقَالوا: فَقَأْتُم عَيْن مَلِكنا، قالوا: ما نَدْري مَنْ صَنَع هذا، قالوا: فإنَّا لا نَرضَي دونَ أنْ نَفْقَأ عَيْن أميركم، قالوا: وكيف؟ قالوا: تُصَوِّرُونَهُ لنا في عَمُود ونَصْنَعُ مثل ما صَنَعتُم.
قال: فَصَوَّرُوا لهم مثالًا، وأقْبلَ رَجُلٌ منهم حتَّى فَقَأ عينَهُ برُمْحه، وتَمَّ الصُّلْحِ بينهُم، فلمَّا انْقَضَت السَّنَةُ سَار منْ سَار منهم وأقام مَن أقام على الصُّلْح والجِزْيَة، ودَخَل المُسلِمُونَ أرْض قِنَّسْرِيْن وأمْضَوا صُلْحهم لمَن أقام بالجِزْيَة.
وقال أبو عَبْد المَلِك القُرَشِيّ: وحَدَّثنا ابنُ عَائِذ، قال: قال الوَلِيد: قال أبو مُطِيع مُعاويَة بن يَحْيَى: إنَّ أبا عُبَيْدَة بن الجَرَّاح وَلي فَتْح مَدَائِن قِنَّسْرِيْن، [وأقبل](b) لَهُ بَطَارِقَةٌ من بَطَارِقَةِ الرُّوم فيما بين قِنَّسْرِيْن ومَعَرَّة مَصْرِيْن، فصافوه للقتال وتَواقَفُوا للقِتَال، فقَتَل المُسلِمُون اثْني عَشر بِطْرِيْقًا منها رَمْيًا بالنَّبْل، ثمّ إنَّ سَائر البَطَارِقَة كفَّت وقالت: نحنُ تَبَعٌ لمَن بين أيدينا من بَطَارِقَة المَدَائِن والحُصُون، فمضَى أبو عُبَيْدَة إلى أَنْطاكِيَة.
(a) الأصل: فقال، والمثبت من "ك".
(b) كلمة غير مقروءة.
قَرَأتُ في تاريخ سَعيد بن كَثِيْر بن عُفَيْر
(1)
، قال: ثمّ كانت سَنَة سَبع عَشرة، وفيها كان افْتتاح قِنَّسْرِيْن صُلْحًا على يَدي أبي عُبَيْدَة؛ سَارَ أبو عُبَيْدَة إلى قِنَّسْرِيْن فافْتتحها بصُلْح، وأغار على حَاضِرها فقَتَل المُقاتِلَة وسَبَى الذُّرِّيَّةَ، ولم يَدْخل مَدِينَة حَلَب لأنَّهُ لم يكن فيها أحدٌ؛ كانت قد تُرِكَت قبل الإسْلام، فبعثَ إلى عُمَر بثُلث سَبي الحَاضِر.
قُلتُ: وقد ذَكَرَ سَعيد بن البِطْرِيْق النَّصْرانيّ في تاريخه ما حَكاهُ ابن عَائِذ بأتَمّ منهُ، فأوْرَدتُهُ بما فيه من الزِّيَادة، ولعلَّ الزِّيادة إنَّما أخذَها من كُتُبهم، قال
(2)
: وكان هِرَقْل قد تنحَّى من دِمَشْق إلى حِمْص، فلمَّا سَمِعَ هِرَقْل أنَّ المُسْلِمِينَ قد فَتَحوا فِلَسْطين والأُرْدُنّ وصَاروا إلى البَثَنِيَّة خَرَجَ من حِمْص إلى مَدِينَة أَنْطاكِيَة، ففَرَضَ الفروض واسْتَجْلَب (a) المُسْتَعرِبَة من غَسَّان وجُذَام ولَخْم (b)، وكُلّ مَنْ قدر عليه من الأرْمَن (c)، وأقامَ (d) عليهم قائدًا من قُوَّاده يُقالُ لهُ مَاهَان، ووَجّه بهم إلى دِمَشْق.
وذَكَرَ أمْرَ دِمَشْق وفَتْحها
(3)
، وقال
(4)
: وكُلُّ مَن أفْلَتَ من الرُّوم من المُقَاتِلة لَحِقَ هِرَقْل بأَنْطاكِيَة. فلمَّا سَمِعَ هِرَقْل (e) أنَّ دِمَشْق قد فتِحَتْ، قال: عليك (f) السَّلام يا سُورْيَة. ثمّ سارَ حتَّى دَخَل قُسْطَنْطِينِيَّة، وذلك في السَّنَة الثَّالثة من خِلَافَة عُمَر بن الخَطَّاب.
فكَتَبَ عُمَر بنُ الخَطَّاب إلى عَمْرو بن العَاص أنْ يَصِيرَ بجُنْده إلى فِلَسْطين، وكَتَبَ: إنِّي قد اسْتعمَلْتُ يَزِيد بن أبي سُفْيان على دِمَشْق، وشُرَحْبِيل بن حَسْنة
(a) في الأصل: واستعرب، والمثبت من تاريخ ابن بطريق (مصدر النقل).
(b) عند ابن بطريق بزيادة: كَلْب.
(c) أبى بطريق: العَرَب، ولعله الأظهر.
(d) ابن بطريق: وأمَّر.
(e) التاريخ المجموع 16: هرقل الملك.
(f) ليست في المطبوع من تاريخ ابن بطريق، وهي موجودة في إحدى نسخه الآخرى.
_________
(1)
تقدّم التعريف بالكتاب ومؤلفه لأول وروده من هذا الجزء.
(2)
ابن بطريق: التاريخ المجموع 13 - 20.
(3)
التاريخ المجموع 13 - 16.
(4)
التاريخ المجموع 16.
على الأُرْدُنّ، وأبا عُبَيْدَة بن الجَرَّاح على حِمْص. فسَار عَمْرو بن العَاص إلى فِلَسْطين، وشُرَحْبِيل إلى الأُرْدُنّ، وسَار أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح إلى بَعْلَبَك، فقالوا: نحنُ على ما صالَحْتُم عليه أهل دِمَشْق (a)، فكتَبَ لهم أمانًا، ثمّ سَار إلى حِمْص (b)، وكتبَ لأهْلِ مَدِينة حَلَب الأمان، ودعت المَدَائِن كُلّها إلى الصُّلْح، فالمَدَائِن كُلّها صُلْح (c).
ثمّ اتَّصل الخَبَر بقُدوم عُمَر بن الخَطَّاب إلى بَيت المَقْدِس (d)، فخلف أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح عِيَاض بن غَنْم على أصْحَابه، وخلف يَزِيد بن أبي سُفْيان مُعاويَة (e) ابن أبي سُفْيان على أصْحَابه، وخلف عَمْرو بن العَاص ابنهُ عَبْدَ الله بن عَمْرو على أصْحَابه، ولقوا عُمَر بن الخَطَّاب عند فَتْح بَيت المَقْدِس (f).
وقال (g): ثمّ رجع عُمَر بن الخَطَّاب من بَيت المَقْدِس إلى المَدِينَة، وخَرَجَ (h) أبو عُبَيْدَة ابن الجَرَّاح إلى حِمْص، وسَارَ من حِمْص إلى قِنَّسْرِيْن، فكتَبَ إليهِ أهل قِنَّسْرِيْن يسألونَهُ المُوَادعَة سنةً (i)، فمَن سَار إلى الرُّوم فذلك، ومَنْ أقام فيها فهو ذِمَّةٌ وصُلْحٌ، فأجابُوهم ولم يَغزوهم سَنَة. وجَعَلُوا عَمُودًا قائمًا الرُّوم وبين المُسْلِمِيْن، ليس للمُسْلِمِيْن أنْ يَجُوزوا ذلكَ العَمُود إلى الرُّوم، ولا الرُّوم أنْ يجوزوا ذلك إلى المُسْلِمِيْن، وصوَّرُوا في العمُود صُورة هِرَقْل جالِسًا في مُلكه، فرضي بذلك أبو عُبَيْدَة.
(a) زيد بعده في تاريخ ابن بطريق 16: غير مخالفين.
(b) التاريخ المجموع 16: ورحل إلى حِمْص فقالوا له: نحن على ما صالحتم عليه أهل دِمَشْق فكتب لهم الأمان ودخل حِمْص.
(c) قوله: "فالمدائن كلها صلح" ليس في تاريخ ابن بطريق.
(d) قوله: "إلى بيت المقدس" غير واضحة في الأصل، ولم يرد في تاريخ ابن بطريق.
(e) الأصل: ومعاوية.
(f) قوله: "عند فتح بيت المقدس" ليس في تاريخ ابن بطريق، وأورد ابن بطريق بعده نص كتاب الأمان لأهل القدس "العهدة العمرية" مما تجاوز عنه ابن العديم.
(g) التاريخ المجموع 19.
(h) التاريخ المجموع: ورجع.
(i) التاريخ المجموع: فكتب إليه بطريق قِنَّسْريْن يسأله الموادعة على نفسه سنة. والنص الَّذي يليه فيه بعض تصرف واختلاف.
فمرَّ به نَفَرٌ من المُسْلِمِيْن في عدد مَن يتعاطُونَ للفُرُوسِيَّة، [ومَرَّ أبو جَنْدَل](a) ابن سُهَيل (b)[بن عُمَر على فَرَسِهِ ملأَ فرُوجه]، في يَدِه قَنَاة حَدِيدة (c)، فمَرَّ بالعَمُود وتلكَ الصّورة [فنَصب زجَّ رُمْحه] في عَيْن تلك الصُّورة غير مُتَعمِّد (d) لذلك، ففَقَأَ عَين التِّمْثالِ، فأقبل بِطْرِيْق قِنَّسْرِيْن، وقال لأبي عُبَيْدَة: غَدَرْتُم يا مَعْشَرَ العَرَب (e)، ونَقَضْتُم الصُّلْح، وقطَعتم المُدَدَ (f) الّتي كانت بيننا وبينكم، فقال أبو عُبيدَة: ومَنْ نَقَضَهُ؟ قالوا: الّذي فَقَأ عين مَلِكنا، قال أبو عُبيدَة: فما تُريدُونَ؟ قالوا: لا نَرْضى حتَّى تُفْقَأ عَين مَلِككُم، قال أبو عُبَيْدَة: صوِّرُوني في صُورتكم هذه، ثمّ افْعَلوا ما بَدَا لكُم، قالوا: لا نَرْضى بتَصْوير إلَّا مَلِككم الأكْبر، فأجَابَهم أبو عُبَيْدَة إلى ذلك، فصوَّرت الرُّوم تمثال عُمَر في عَمُود وأقْبَل رَجُلٌ منهم حتَّى فَقَأ عَيْنَهُ برُمْحهِ. فقال البِطْرِيْق: قد أنْصَفتُمونا، وبعد سنةٍ أقامُوا على الصُّلْح والذِّمَّة.
أخْبرَنا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحْمَد بن عليّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحمَّد القَاسِم بن عليّ الحَافِظ، وأنْبَأنَا أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد القَاضِي، قالا: أخْبَرَنا أبو الحُسَيْن عليّ بن المُسَلَّم إذْنًا، قال: أخْبَرنا أبو القَاسِم بن أبي العَلاء، قال: أخْبَرَنا أبو نَصْر ابن الجَنَدِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن أبي العَقَب، قال: أخْبَرَنَا أبو عَبْد المَلِك القُرَشِيّ، قال: حَدَّثنا مُحمَّد بن عَائِذ، قال: قال الوَلِيد: قال: وقطع -يعني حِمْص (g)- فمضَى أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح إلى أَنْطاكِيَة، فصالحَه أهْلُها على الإقامة وإعْطاء الجِزْيَة [. . .](h).
(a) ما بين الحاصرتين، في تالي هذا الخبر، مواضع أفسدتها الرطوبة، فاستُكْمِلت من تاريخ ابن البطريق؛ مصدر النقل.
(b) التاريخ المجموع: سهل.
(c) التاريخ المجموع: في يده رمحه.
(d) التاريخ المجموع: معتمد.
(e) التاريخ المجموع: المُسْلِمين.
(f) التاريخ المجموع: الهدنة.
(g) غير مقروءة في الأصل، وكان خروج أبو عُبَيْدَة إلى أَنْطَاكِيَة من حِمْص.
(h) بعده في الأصل ثلاثة أسطر غير مقروءة، بعض كلماتها:[فدخل. . . الصلبان. . . فإن طلب أجلًا. . . الرجل (الرحيل) فأدركهم ثلْجٌ .. عند عقبة موره فرجعوا إلى البلد. . . ارتفع الثَّلْج ارتحلوا. . . الثلج ارتحلوا فلمَّا كان. . .].
بسم الله الرحمن الرحيم
وبِهِ تَوْفِيقِي
وقال البَلاذُرِيّ
(1)
: حَدَّثَني مُحمَّد بن سَهْم الأنْطاكِيّ، عن أبي صالِح الفَرَّاءَ، قال: قال مَخْلَد بن الحُسَيْن: سَمِعْتُ مَشَايخ الثَّغْر يقولون: كانت أَنْطاكِيَة عَظِيمَة الذِّكْر والأمْر عند عُمَر وعُثْمان رَحمهما اللهُ، فلمَّا فُتِحَت كَتَبَ عُمَر بن الخَطَّاب إلى أبي عُبَيْدَةَ أنْ رَتِّبْ بأَنْطاكِيَة جَمَاعَةً من المُسْلِمِيْن أهل نِيَّاتٍ حَسَنة (a)، واجْعلهُم بها مُرابطةً، ولا تَحْبس عنهم العَطَاءَ، ثُمّ لمَّا وَلي مُعاويَة كَتَبَ إليهِ بمثل ذلك، ثمّ إنَّ عُثْمان كَتبَ إليهِ يأمرُهُ أنْ يُلْزِمهَا قَوْمًا ويُقطعَهُم قَطائع، فَفَعَل.
قال ابنُ سَهْم: وكُنْتُ واقفًا على جِسْر أَنْطاكِيَة على الأُرُنْط، فسَمِعْتُ شَيْخًا مُسِنًّا من أهل أَنْطاكِيَّة (b)، وأنا يَوْمئذٍ غُلَام، يقول: هذه الأرْض قطيْعَةٌ من عُثْمان لقَوْمٍ كانُوا في بَعْثِ أبي عُبَيْدَة؛ أقْطعَهُم إيَّاها أيَّام ولاية مُعاويَة الشَّام.
وقال البَلاذُرِيُّ
(2)
: قالُوا: وبلَغ أبا عُبَيْدَةَ أنَّ جَمْعًا للرُّوم بين مَعَارَّة مِصْرين (c) وحَلَب، فلَقِيَهُم، وقَتَلَ عدَّة بَطَارِقَة، وفضَّ ذلك الجَيْشَ، وسَبَى وَغَنم، وفَتَحَ مَعَارَّة مِصْرين على مثل صُلْح حَلَب، وجَالَتْ خُيُولُه حتَّى بَلَغتْ بُوْقَا، وفتَحَت
(a) في نشرة الفتوح: أهل نيات وحسبة؛ سوء قراءة!.
(b) قيدها -في هذا الموضع- بتشديد المثنّاة التحتية، حسبما وجدها في الكتاب.
(c) أبقى المؤلِّف على الرسم كما وجده في نسخة الفتوح.
_________
(1)
فتوح البلدان 201.
(2)
فتوح البلدان 202، ونقله قدامة في كتاب الخراج 304 دون عزو، وانظر أيضًا ابن الأثير: الكامل 2: 495 - 496.
قُرَى الجُوْمَةِ، وسَرْمِيْن، ومَرْتَحْوان، وتِيْزِيْن، وصَالَحوا أهْل دَيْر طَيَايَا (a)، ودَيْر الفَسِيْلَة
(1)
على أنْ يُضِيْفُوا مَنْ مَرَّ بهم من المُسْلِمِيْن. وأتاهُ نَصارَى خُنَاصِرَة فصَالَحَهُم، وفتَحَ أبو عُبَيْدَة جميعَ أرْضَي (b) قِنَّسْرِيْن وأَنْطاكِيَّة (c).
أخْبرَنا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحْمَد بن عليّ، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد القَاسِم بن عليّ بن الحَسَن، ح.
وأنْبَأنَاهُ عاليًا أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد الأنْصاريّ، قالا: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ بن المُسَلَّم إذْنًا، قال: أخْبرَنا أبو القَاسِم بن أبي العَقَب، قال: أخْبرَنا أبو عَبْد المَلِك القُرَشِيّ، قال: حَدَّثنا مُحمَّد بن عَائِذ، قال: قال الوَلِيدُ: حَدَّثنا أبو عَمْرو عَبْد الرَّحْمن بن عَمْرو الأوْزَاعِيُّ: أنَّهُ كان في كتاب أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح لأهلِ دَيْر طَيَايَا: إنِّي آمَنْتُكم على دِمَائكم وأمْوالكم وكَنَائِسكُم أنْ تُهْدَمَ أو تُسْكَن ما لم تُحْدِثُوا أو تُؤْوُوا مُحْدثًا، فإنْ فَعَلْتُم، فقد بَرئت منكُم الذِّمَّة، وأبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاح والمُسلِمُون بُرَّاءٌ من مَعَرَّة الجَيْش. شُهِدَ على ذلك.
قال لي أبو الحَسَن: قال لي الحَافِظ أبو مُحمَّد القَاسِم بن عليّ: دَيْر طَيَايَا من أرض قِنَّسْرِيْن، وذَكَرَهُ لي مُقَيَّدًا بياءَيْن.
ونَقَلْتُه من خَطِّ بَنُوْسَة فيما نَقَلْتُهُ من كتاب البَلاذُرِيّ كذلك بياءَين.
(a) في نشرة الفتوح: دير ياطايا. وعند قدامة: دير طايا، ويرد فيما بعد ما نقله ابن العديم عن صديقه ابن الخشاب من أن الصواب: دير طباثا (بالباء والثاء)، ويسمى في زمنهم دير باثبوا بقرب قرية تسمى بنفس الاسم، تُشرف على الأثارب، وهي تسمى اليوم: باتبو (بالتاء)، قرية في هضبة حَلَب تتبع ناحية الأتارب بمنطقة جَبَل سمعان من محافظة حَلَب، وهي إلى الغرب من بلدة الأتارب على بُعد 7 كم. طلاس: العجم الجغرافي 2: 210.
(b) فتوح البلدان: أرض.
(c) جوَّدها مشددة كما في الفتوح.
_________
(1)
لم أهتد للتعريف به.
وقَرَأتُ في تاريخ سَعيد بن كَثِير بن عُفَيْر
(1)
، في سَنة سَبع عَشرة، في نُسْخَةٍ قَدِيْمَةٍ صَحِيْحة، قال: وافْتتَحَ أبو عُبَيْدَةَ في وجْههِ ذلك دِيَارات حَوْل قِنَّسْرِيْن بصُلْحٍ منها دَيْر طَيَايَا؛ بياءَيْن.
وقال لي صَديقُنا بَهَاء الدِّين الحَسَنُ بن إبْرَاهِيْم بن الخَشَّاب: هو دَيْرُ طَبَاثَا بالباءِ والثَّاءِ، وهو المَوْضِعُ المَعْرُوف بدَيْر بَاثَبُوْا، وهو إلى جانب القَرْيَة المَعْرُوفَة بِبَاثَبُوا في مكانٍ يُشْرفُ على الأثارِب وما حَوْلها.
وَقَعَ إلىَّ مَجْمُوع بخَطِّ بعضِ الفُضَلَاء، يتضمَّن فِقَرًا وقَواعِدَ وأخْبارًا وفوائِدَ، في نُسْخةٍ عَتِيقة، يَغْلبُ على ظَنِّي أنَّ كاتب النُّسخة جَمع المجموع، فقَرَأتُ فيهِ: شَرَطَ عُمَر بن الخَطَّابِ على أهَل قِنَّسْرِيْن على الغَنِيّ ثمانيةً وأربعين، وعلى الوَسَطِ أربعةً وعشرينَ، وعلى المُدْقِع اثْنَي عَشَر؛ يُؤدِّيها بصَغَار، وعلى مُشَاطَرة المنازل بينَهُم وبين المُسْلِمِيْن، وأَلَّا يُحْدِثوا كَنِيْسَة إلَّا ما كان في أَيدِيهم، ولا يَضْرِبُوا بالنَّاقُوس إلّا في جَوْفِ البِيْعَةِ، ولا يرفَعُوا أصْواتَهُم بالقِراءةِ، ولا يرفَعُوا صَلِيبًا إلَّا في كَنِيْسَةٍ، وأنْ يُؤْخَذَ منهم القبليُّ من الكَنَائِس للمَسَاجِدِ، وأنْ يُقْرُوا ضَيْفَ المُسْلِمِين ثلاثًا، وعلى أنْ لا تَكُون الخنَازيرُ بين ظَهْراني المُسلِمِين، وعلى أنْ يُناصِحُوهُم فلا يَغُشّوهم، ولا يُمَالُوا عليهم عَدُوًّا، وأنْ يَحْملُوا رَاجلَ المُسْلِمِين من رُسْتَاقٍ إلى رُسْتَاق، وأنْ لا يلبَسُوا السِّلاح ولا يَحملُوهُ إلى العَدُوّ، ولا يَدُلُّوا على عوْرَاتِ المُسلِميْن، فمَنْ وَفَى، وَفَى المُسلِمُون لَهُ، ومنَعُوه بما يَمْنعُونَ به نسَاءَهم وأبناءَهُم، ومَن انْتَهَكَ شيئًا من ذلك حَلَّ دَمُهُ ومَالُهُ وسِبَاءُ أهْلِهِ، وبَرئَتِ الذِّمَّةُ منه. وكَتَبَ بذلك كتابًا برئَ فيهِ من مَعرَّة الجَيْشِ، فدَخَل في هذا الصُّلْح أهلُ الجَزِيرَة، وقبل ذلك ما كان أبو عُبَيْدَةَ فارقهُم على أربعة دَرَاهِم وعَبَاءَة على كُلّ جَلْجَلة على أنْ يكون عُمر الفَارض عليهم إذا قَدِم بلادهم.
(1)
تقدّم التعريف بالمؤلِّف وكتابه فيما مرّ.
وذكَرَ البَلاذُرِيّ، فيما حَكاهُ في كتابه، قال
(1)
: وحَدَّثَني أبو حَفْص (a) الدِّمَشْقِيّ، عن سَعيد بن عَبْد العَزِيْز قال: لمَّا افْتَتح أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح دِمَشْق، اسْتخلف يَزِيد على دِمَشْق، وعَمْرو بن العَاص على فِلَسْطين، وشُرَحْبِيل على الأُرْدُنّ، وأتى حِمْص فصَالَحَ أهلَها على نحو صُلْح بَعْلَبَك، ثمّ خلَّفَ بحِمْصَ عُبَادَةَ بن الصَّامِت الأنْصاريّ، فمضَى نحو حَمَاةَ، فتلقَّاهُ أهلُها مُذْعنينَ فصَالَحَهُم على الجِزْيَةِ في رُؤوسهم، والخَرَاج في أرضِهم، فمضَى إلى شَيْزَر فخَرجُوا يُكَفِّرُونَ ومَعَهم المُقَلِّسُونَ ورضُوا بمثْل ما رَضِي به أهل حَماة (b)، ومَرَّ أبو عُبَيْدَة بمَعَرَّة حِمْصَ؛ وهي الّتي تُنْسَبُ إلى النُّعْمان ابن بَشِير، فخَرَجُوا يُقَلِّسُونَ بين يَدَيه، ثمّ أتَى فَامِيَةَ ففَعَل أهْلُها مثل ذلك وأذْعَنُوا بالجِزْيَة والخَرَاج، واسْتمرَّ (c) أمر حِمْص. وكانت حِمْصُ وقِنَّسْرِيْن شيئًا واحدًا.
قَوْلهُ: يُكَفِّرُونَ؛ أي: يَخْضَعُونَ بأنْ يَضَعُوا أيْديَهُم على صُدورِهِم، ويَتَطأْمَنُوا له كما يفعَلهُ العُلُوجُ بدَهاقِيْنِهم. قال جَرِير
(2)
: [من الكامل]
وإذا سَمِعْتَ بحَرْبِ قَيْسٍ بَعْدَها
…
فَضَعُوا السِّلاح وَكَفِّرُوا تَكْفِيرَا
والمُقَلِّسُونَ: الّذين يلعَبُونَ بين يَدي الأَمِير إذا قَدِمَ المِصْر، قال أبو الجَرَّاح
(3)
: التَّقْلِيْسُ: اسْتِقْبالُ الوُلَاة عندَ قُدُومهم بأصْناف اللَّهْو. قال الكُمَيْت يَصِفُ ثَوْرًا طَعن الكِلَابَ فتَبعهُ الذُّبابُ لِمَا في قَرْنهِ من الدَّم
(4)
: [من البسيط]
(a) كنَّاه في الأصل بأبي جَعْفَر، والصواب ما أثبت من فتوح البلدان (مصدر النقل)، أخذ عنه البَلاذُرِيّ 13 مرَّة، والمشهور بهذه اللقب والكنية هو: عَمْرو بن أبي سَلَمَة التنِّيسيّ -لنزوله بتنِّيس- الدّمشقيّ (ت نحو 214 هـ)، والبلاذري توفي سنة 279 هـ وجُهلت سنة مولده، فلعله أدركه وأخذ عنه في حداثة سِنِّه.
(b) الأصل: حَلَب، والمثبت من فتوح البَلاذُرِيّ (مصدر النقل) وهو أوْفَق، ومثله في الكامل لابن الأَثير 2:492.
(c) كذا في الأصل، وعند البلاذري: واسْتتمَّ.
_________
(1)
فتوح البلدان 179 - 180، وانظر الخبر أيضًا في الكامل لابن الأثير 2: 493 - 494.
(2)
ديوان جرير 225.
(3)
انظر قول أبي الجرَّاح العُقيْليّ في لسان العَرَب، مادة: قلس.
(4)
ديوان الكميت 221.
ثُمَّ اسْتَمَرَّ يُغَنِّيْهِ الذُّبَابُ كَمَا
…
غَنَّى المُقَلِّسُ بِطْرِيْقًا بِمزْمَارِ
أنْبَأنَا أبو القَاسِم عَبْد الصَّمَد بن مُحمَّد الدِّمشْقِيّ، قال: أخْبَرَنَا أبو الحَسَن عليّ ابن المُسَلَّم إجَازَةً، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن أبي العَلاء، قال: أخْبَرَنَا أبو نَصر بن الجَنَدِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم بن أبي العَقَب، قال: أخْبَرَنا أبو عَبْد المَلِك أحْمَد بن إبْرَاهِيْم القُرَشِيِّ، قال: حَدَّثَنَا مُحمَّد بن عَائِذ، قال: قال الوَلِيد: حَدَّثَنَا الهَيْثَم بن حُمَيْد، عن مُحمَّد بن يَزِيد الرَّحبِيّ، قال: سَمِعْتُ أَبا الأشْعَث الصَّنْعانِيّ (a) قال: لمَّا فَتَحَ اللهُ علينا دِمَشْقَ خَرَجنا مع أبي الدَّرْدَاء في مَسْلَحَةٍ ببَرْزَة، ثمّ تقدَّمنا مع أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح، ففَتَحَ اللهُ بنا حِمْصَ، ثمّ تَقَدَّمنا مع شُرَحْبِيل بن السِّمْط فأَوْطَأَ اللهُ بنا ما دونَ النَّهْر -يعني الفُرَات- وحاصَرْنا عَانَات، وأصابَتْنا عليها لأْوَآءُ، وقَدِمَ علينا سَلْمَان الخَيْر في مَدَدٍ لنا، فقال: ألا أُحَدِّثكُم بشيءٍ سَمِعْتُهُ من رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَسَى أنْ يُيَسِّر اللهُ عليكُم بعضَ ما أنتم فيهِ؛ سَمِعْتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(1)
: رِباطُ يَوْمٍ وليلَةٍ خَيْرٌ من صِيَام شَهْر وقيامهِ، صَائمًا لا يُفْطِر، وقائمًا لا يَفْتُر، فإنْ ماتَ جَرَى له صَالحُ ما كان يَعْملُ ووُقِيَ عَذَاب القَبْر.
أخْبَرَنا أبو الحَسَن مُحمَّد بن أحمَد بن عليّ، قال: أخْبَرَنَا أبو مُحمَّد القَاسِم بن عليّ بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنا أبي
(2)
، قال: أخْبَرَنَا أبو غَالِب مُحمَّد بن الحَسَن، قال: حَدَّثَنَا أبو الحَسَن السِّيْرَافيّ، قال: أخْبَرَنا أحمدُ بن إسْحَاق، قال: أخْبَرَنا أحمدُ بن عِمْران، قال: حَدَّثَنَا مُوسَى، قال: حَدَّثَنَا خَلِيفَةُ بن خَيَّاط، قال
(3)
: وفي هذه السَّنَة -يعني سَنَة ستّ عشرة- افْتُتحت مَنْبج.
(a) في رواية البخاريّ (التاريخ الكبير 1: 261) من طريق الهيثم بن حميد عن الرحبي: "سمعت أبا الأشعث عن أبي عثمان الصنعانيّ"، فلعله وقع في السند سقط.
_________
(1)
كنز العمال للمتقي الهندي 4: 326 - 327.
(2)
تاريخ ابن عساكر 46: 157.
(3)
تاريخ ابن خياط 134.
بابٌ في ذِكْرِ نُبْذَةٍ من أخْبار ثُغُور الشَّام، وما كان تَجْري عليه أُمُوْرُها في صَدْر الإسْلَام
لم يزل الخُلَفَاءُ في صَدْر الإسْلَام مُهتَمِّين بأمْر الجِهاد، باذلين في ذلك من أنْفُسِهم نهاية الاعْتناء وغاية الاجْتهَاد، وقد ذَكَرنا فيما سَبَق من أَحْوال البِلاد الّتي قدَّمنا ذِكْرَهَا وبَيَّنا حالَها، وشَرحنا أمْرَها ما فيه كِفَايَة صالِحة، ودَلائل على ما قَصَدنا في هذا الباب وَاضِحة، وغير خاف ما كان في زَمنِ عُمَر وعُثْمان من الاهتمام بالثُّغُور الشَّاميَّة، وأنَّ مُعاويَة أغْزَى ابنَهُ يَزِيد حتَّى وَصَلَ إلى القُسْطَنْطِينيَّة، وأغزَى عَبْد المَلِك بن مَرْوَان ابنَه مَسْلَمَة الغَزَاة المَشْهُورة، وهي مَسْطُورَةٌ في التَّوَاريخ مَذْكُورَة، وأغْزَى الوَلِيدُ ابنَهُ العبَّاس مرارًا، وأوْسَع الرُّومَ بغَزَواتِه ذِلَّةً وصَغارًا، ورابط سُلَيمان بدَابِق سِنِين، وحَلف أنْ لا يَعُودَ منها حتَّى يَفْتحَ اللهُ القُسْطَنْطِينِيَّة على المُسْلِمِيْن، وجهَّز لفَتْحها أخاهُ مَسْلَمَة إلى أنْ اسْتَدعاهُ عُمَر بن عَبْد العَزِيْز إشْفاقًا على المُسْلِمِيْن ومَرْحَمة.
واهْتَمَّ -بعد بَني أُمَيَّة- بأمْر الثُّغُور أَمِير المُؤمِنِين أبو جَعْفَر المَنْصُور؛ فَعَمَرَها وحَصَّنَها وقوَّاها بالجُنْد وشَحَنها، وتَمَّمَ المَهْدِيّ ما شَرع فيهِ أبو جَعْفَر، وفَعَل مثلَهُ هارُون الرَّشِيد وأكْثَر، وغَزا المأْمُون فأدركتْهُ في غَزاته الوَفَاة، وقد عُرِفَ فِعْل المُعْتَصِم حين بلغَهُ نِدَاء المرأة؛ وقد غَدر بالمُسْلِمِيْن طاغيَةُ الرُّوم: وامُعْتَصِمَاه. واهْتَمَّ المُتَوكِّل في الثَّغْر بترتيب المراكب، وما زَال مَشْحُونًا من مُلُوك المُسْلِمِيْن بالرَّاجِل والرَّاكب إلى أنْ قَصُرت الهِمَمُ، ووَلِيَ مَنْ تَعَدَّى وظَلَم، واشْتَغَلُوا باللَّذات، وتَعاطَوا الأمور المُنْكرات، فضَعُفَ أمْر الثُّغُور واخْتَلّ، ووَهَى عقد نظامها وانحَلّ، فجَرَى ما ذَكَرْناهُ في بَابِ طَرَسُوس، وحَلَّ بالمُسْلِمِيْن من أعْداءِ الله الشِّدَّة والبُؤس.
أخْبَرَنَا أبو مَنْصُور عَبْد الرَّحْمن بن مُحمد بن الحَسَن، قال: أخْبرَنا عَمِّي أبو القَاسِم عليّ بن الحَسَن الحافِظُ
(1)
، قال: قرأتُ على الخَضِر بن الحُسَيْن بن عَبْدَان، عن عَبْد العَزِيْز الكَتَّانِيّ، قال: أخْبرَنا أبو الحَسَن عليّ بن الحَسَن بن أبي زَرْوَان، قال: حَدَّثَنا عَبْدُ الوهَّاب بن الحَسَن، قال: أخْبَرَنَا أحمدُ بن عُمَيْر، قال: حَدَّثَنا أبو عَامِر مُوسَى بن عَامِر، قال: حَدَّثَنا الوَلِيد بن مُسْلِم، قال: وحَدَّثَني عَبْد الرَّحْمن بن يَزِيد بن جَابِر، وغيره، أنَّ النَّاسَ كانُوا يَجْتمعُونَ بالجابِية لقَبْض العَطَاءِ وإقامَة البُعُوث من أرض دِمَشْق في زَمن عُمَر وعُثْمان، حتَّى نقلَهُم إلى مُعَسْكر دَابِق مُعاويَةُ بن أبي سُفْيان لقُرْبِه من الثُّغُور.
وقد ذَكَرْنا في البابِ المُتَقدِّم أنَّ أوَّل مَنْ أدْرَبَ من المُسْلِميْن خَالِد ابن الوَلِيد من جِهة الشَّام، وعُمَر بن مالِك وعَبْد الله بن المُعْتَمِّ (a) من جهة الجَزِيرَة، فهي أوَّل مَدْربةٍ كانت في الإسلام سنَة ستّ عَشرة فيما رَوَاهُ سَيْف بن عُمَر. وقيل: أوَّل مَنْ أدْرب الأشْتَر مَالِك بن الحارِث في ثلاثمائة فَارِس، وألْحَقَهُ أبو عُبَيْدَةَ بمَيْسَرة بن مَسْرُوق العَبْسِيِّ في ألفي فَارِس على ما رَوَيناهُ أيضًا في الباب المُتَقدِّم عن أبي إسْمَاعِيْل مُحمد بن عَبْد الله البَصْرِيّ ومُحَمد بن عَائِذ.
وذكر البَلاذُرِيُّ في كتاب البُلْدان، قال
(2)
: وقد اخْتَلفُوا في أوَّل من قَطَعَ الدَّرْبَ، وهو دَرْبُ بَغْرَاس، فقال بعضُهم: قَطَعَهُ مَيْسَرة العَبْسِيُّ، وجَّهه أبو عُبَيْدة ابن الجَرَّاح، فلَقي جَمعًا للرُّوم ومعهم مُسْتَعربةٌ من غَسَّان وتَنُوخ وإيَاد يريدون
(a) الأصل: المعتمر، وتقدم التعليق عليه في الباب قبله.
_________
(1)
تاريخ ابن عساكر 2: 346.
(2)
فتوح البلدان 224 - 225، وأيضًا في الكامل لابن الأثير 2:496.
اللَّحاق بهِرَقْل، فأوْقَع بهم، وقتَل منهم مَقْتلة عَظِيمَة، ثمّ لَحِقَ بهِ مالِك الأشْتَر
النَّخَعِيِّ مَدَدًا من قِبَل أبي عُبَيْدَة وهو بأَنْطاكِيَة. وقال بَعْضُهم: أوَّلِ من قطع
الدَّرْب عُمَيْر بن سَعْد [الأنْصاريّ حين تَوجَّه في أمْر جَبَلَة بن الأيْهَم](a).
(a) يقف نص نسخة الأصل بانتهاء الصفحة عند موضع الحاصرتين، ومثله في نسخة "ك"، الناقلة عنها، واستكملنا بقية كلام البلاذري من كتابه، وأيضًا مما نقله ابن شداد عن البغية. الأعلاق الخطيرة 1/ 2:44.