الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وصفيّه من خلقِه وخليلُه، اللهم صل وسلم على نبي الرحمة، ومَن كشفَ اللهُ بِهِ الغمة، الذي نسخت شريعتُه كلَّ شريعة، وشملت دعوتُه كلَّ أمّة، لا نجاةَ إلّا في اتباع دعوته، ولا فلاح إلّا في الاستقامة على أمره، ولا جَنّة إلّا في الدخول في دينه، أما بعد:
فإنَّ أكثر انحرافٍ هوتْ لأجله الأمّةُ وذلّت، هو انحرافُ بعض أتباعها في العقيدة والتوحيد، وإنّ أوّل خطوة تُطلب من أتباع الأمّة للتصحيح، والعودة للعزّة والأمن في الدنيا والآخرة، أن يتنادى أهلُها لتصحيحِ التوحيد، وتعبيد الناس لربِّ العالمين، وتطهيرِ القلوبِ من شوائب الشرك كبيرِه وصغيره.
ولقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الأمّة سيقعُ بعضُ أتباعِها في كدر الشرك، بعد صفاء المنبع، ولقد وقع ما أخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ولئن تباين العلماءُ تجاه موجات الانحرافِ العقدي الذي وقع فيه كثير من فئام المسلمين، ما بين مُقَصِّرٍ في بيان الحقّ، وما بين واقعٍ فيما وقع فيه الناس، نسأل الله السلامة، إلّا أنَّ ثمة علماء كان لهم دورٌ في التصحيح كبير، وجُهدٌ في إعادة الناس للحقّ عظيم.
وممن وفَّقه الله لكشف كثيرٍ من غشاوة الشرك، وتصحيحِ مسار التوحيد، ونبذِ معالم الباطل الحسية والمعنوية: الإمامُ المجدّد محمد بن عبد الوهاب التميمي -رحمه الله تعالى-.
ومِن جهودِ الشيخ في قلمه، هذا الكتاب الذي سطَّره للناس، وكانوا وما زالوا ينتفعون به (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، وسيأتي الكلام عن الشيخ وكتابِه في المقدمات بحول الله.
وقد يسر الله لي كتابة شرحٍ موجز على هذا الكتاب المبارك، فأشار عليَّ بعض الأحبة بإخراجه؛ لعل الله أن ينفع به.
فعزمت على إجابة طلبهم، مع علمي يقينًا أنَّ في غيره من الشروح غنيةً عن هذه البُغية، لكن ذلك ليس يعني: أنَّ الباب قد أُغلِق، بل المجالُ يسع، وربّما كان في الأنهارِ ما ليس في البحار، ولئن لم يكن فيما كتبتُه فضلُ معلومة -فلن آتي بجديدٍ لم يذكره الأولون-، إلّا أنَّه ربما كان في ما كتبته فضلُ ترتيب، وإضافة في الطرح والتبويب، فاجتمع هذا مع رغبة في المساهمة في تصحيح اعتقاد الأمة، فاستعنت بالله ونشرته.
وكانت طريقتي فيه تتلخص فيما يلي:
1.
أورد نصوص الباب بتمامه، ثم أتبعها بالتعليق.
2.
جعلت الشرح يقوم على مسائل، وأوردت في هذه المسائل جُلَّ ما يذكره الشراح في هذه الأبواب، من مناسبة ومسائل وتقاسيم وغير ذلك، وتوخيت فيها الاختصار، ووضوح الفكرة قدر الإمكان.
3.
في أغلب الأحيان لا أتطرق لما قد يُستَنْبطُ من النصوص من معانٍ
ومسائل غير مرتبطة بالتوحيد، وإنما أورد ما يتعلق بالباب وبالتوحيد؛ وذلك طلبًا للإيجاز، وتوحيد القصد للقارئ.
4.
أختم الباب غالبًا بخلاصةٍ تلخص فكرة الباب في سطر أو سطرين، إلّا الأبواب الموجزة، فقد أتركها بدون خلاصة.
5.
لم أتكلم عن المسائل التي يختم بها الشيخ الأبواب؛ لأنَّ ما كان متعلقًا منها بالباب فقد ورد الكلام عليه في الباب، وما ليس متعلقًا بالباب فليس من مقصودي، على أنَّها استنباطات نافعة وُفِّقَ لها الشيخُ رحمه الله، ولذا أوردتها في الحاشية، ومن أراد الكلام عنها فليراجع كتاب الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله:(التوضيح المفيد لمسائل كتاب التوحيد)، حيث أفرده لشرح المسائل.
وقد قدمت الكتاب بمقدماتٍ أربعٍ، أرى أنَّها مهمةٌ قبل الدخول في الشرح، وهي كما يلي:
المقدمة الأولى: في شرف علم التوحيد.
المقدمة الثانية: لمحة موجزة عن حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
المقدمة الثالثة: التعريف بكتاب التوحيد.
المقدمة الرابعة: في معنى التوحيد.
وتحت هذه المقدمات عدة نقاط.
وأسميت الكتاب: [بغية المستفيد في شرح كتاب التوحيد].
وبعد؛ فهذه بضاعتي المزجاة، وبنات أفكاري، وجهد جمعي، أسوقه لك،
وهو جهد المقل وقُدرة المفلس، فما كان في الكتاب من صواب فمن الله وحده، فهو المحمود والمستعان، وما كان فيه من خطأ فمن مصنفه ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله، فإن وجدتَ ما يُحمد فلله وحده الحمد، وإن وجدتَ ما يستدعي التنبيه والتقويم، فأخوك يفرح بالتوجيه والتسديد والتقويم.
أسأل الله أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصًا لوجهه، وأن يجزي خيرًا من تفضل عليَّ بمراجعته، ومن تولى طباعته، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والسداد في القول والعمل؛ إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه/
د. منصور بن محمد الصقعوب
M0505148411@hotmail.com
المقدمة الأولى: في شرف علم التوحيد
اعلم -وفقك الله- أنَّ من العلم ما هو من علوم الغايات، ومنه ما هو من علوم الوسائل، وإنّما يَشرُف العلم بشرف ثمرته.
وأشرفُ علومِ الغاياتِ علمُ التوحيد والاعتقاد، فهو أساسُ الدين، وأسنى المطالب، وأشرفُ المكاسب، مَنْ ناله فهو أربحُ الناسِ صفقةً، ومَن خسِره فهو المغبون حقًّا، فبالتوحيد تطمئنُّ القلوب، وتنشرحُ الصدور، ويتميز أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، وعلى حسب كماله تُنال ولاية الله، ويكون انشراح الصدر، وبفقده تحلّ الهموم والغموم.
قال ابن القيم متحدثًا عن شرفِ هذا العلم، وشرفِ تعلمه:» فإنّ أولى ما يتنافسُ به المتنافسون، وأحرى ما يتسابقُ في حلبة سباقه المتسابقون، ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلًا، وعلى طريق هذه السعادة دليلا، وذلك العلم النافع، والعمل الصالح، اللذان لا سعادة للعبد إلّا بهما، ولا نجاة له إلّا بالتعلق بسببهما
…
ولمّا كان العلم للعمل قرينًا وشافعًا، وشرفه لشرف معلومه تابعًا، كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد»
(1)
.
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 4).
وتتجلى
أهمية تعلم التوحيد
في جوانب عديدة، منها:
1 -
أنَّه أول أمرٍ فرضه الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد فرضه الله قبل الصلاة والصوم وبقيّة الأركان، ولا يصح إسلام عبد حتى ينطق به، ويعتقده، وهذا يجعل له مزيّة عن غيره من الأوامر.
وتوحيد الله هو الأمر الذي خلق الله الخليقة لأجله، كما قال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات، الآية (56)].
(1)
.
2 -
وهو الأمر الذي تضافر الأنبياء على الأمرِ به، فما مِنْ نبيّ إلّا وأمر به {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل، الآية (36)]. وهم وإن اختلفت شرائعهم إلّا أنَّهم يتفقون في الأمر بتوحيد الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:«الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»
(2)
.
3 -
تتجلى أهمية التوحيد؛ من حيث إنَّه بتحقيقه ينال الفرد والمجتمع الأمن، أمن الدنيا، وأمن الآخرة.
* أما أمنُ الدنيا: فإنَّ سببه الحقيقي ليس كثرة الجيوش والقوى والعتاد، وإنما توحيد الله تعالى، وفي الواقع خير شاهد على هذا.
(1)
تفسير ابن كثير (7/ 425).
(2)
أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365) من حديث أبي هريرة، وهذا لفظ مسلم.
* وأما أمنُ الآخرة: فإنَّه يُنال بالدين، وأكملُ الناسِ في الآخرة أمنًا هم الموحّدون، وأقلُّهم أمنًا هم المشركون، قال تعالى:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام الآية (81، 82)]، وقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال:«لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} بِشركٍ، أَوَ لَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تُشركْ بِاللَّهِ إِنَّ الشركَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟»
(1)
.
وحين تصلح عقائد الناس، ويستقيم توحيدهم، فإنَّ الله ينزل عليهم من خيراته، وعند فساد الاعتقاد يحلّ بالعباد مقتُ الله، ففي حديث عياض بن حمار رضي الله عنه، أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ
…
»
(2)
، وذلك المقت حين أطبق الشرك في الأرض.
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3360)، ومسلم (124).
(2)
أخرجه مسلم (2865).
(3)
مجموع الفتاوى (15/ 25).
4 -
أن ترك التوحيد يترتب عليه الوقوع في الشرك، وهنا تكمن أهميته، بخلاف غيره من العلوم كالفقه ونحوه.
5 -
أن هذا الباب مِنْ أشد الأبواب التي سعى الشيطانُ لإغواءِ العباد فيه، وصرفِهم عن حقيقته، فما زال الشيطانُ بالناس يسعى لإيقاعهم في الشرك، حتى وقع فيه فئامٌ من الناس كثير، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن- حين ذكر وقوع الشرك في دولة بني بويه، وانتشار بعض أمور الشرك-:«فلما كان بعد زمن البخاري من عهد بني بويه الديلمي، فشا في الرافضة التجهم، وأكثر أصول المعتزلة، وظهرت القرامطة ظهورًا كثيرًا، وجرت حوادث عظيمة، وعُبدت الأموات في هذا المصر وغيره، حتى ادّعوا فيهم التصرف في الكون من دون الله تعالى؛ فما زال هذا الشرك يزداد حتى ملأ الأرض قاصيها ودانيها، وما زال الغرباء ينكرونه، لكنهم أقلُّ القليل لا يُسمع لهم، ولا يطاع»
(1)
.
وجوانب أهمية التوحيد كثيرة جدًا، وما ذكرته إنّما هو إشارةٌ يسيرةٌ جدًا، ولأجل هذا كان لزامًا على طالب العلم أن يعتني بتعلم التوحيد، وأن يعلِّمه غيره من عامة الناس وخاصتهم، لا سيّما في هذه الأزمان المتأخرة التي كثرت فيها الشبهات، وتعددت أسباب الانحراف والزيغ، ورأينا من وقع في خوارم التوحيد أو مبطلاته، برغم أنَّ البعض ربما يظن أنَّه عرف التوحيد فلا يحتاج لدراسته، ولكن حينما تأتي المحكّات تتبين الحقائق.
وحين نقول: «علم الاعتقاد» فإن المراد أمران:
الأول: علم توحيدِ العبادة، وهو ما يُعرَف باسم التوحيد، ويتناول توحيد الألوهية، والربوبية.
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 517).
وهذا العلم ألّف فيه كثيرًا، ومما ألف فيه: هذا الكتاب.
الثاني: علمُ الاعتقاد العام، ويشمل جُلَّ مسائلِ الاعتقاد مما يجب على المسلم اعتقاده: الأسماء والصفات، والإيمان، والقضاء والقدر، والكرامات، ونحوها من مسائل الاعتقاد التي يذكرها العلماء في عقائدهم.
* وقد صنَّف العلماء في هذا وأكثروا، ولم يكن ذلك حكرًا على مذهب معين، بل لكل المذاهب الأربعة عناية في هذا، ولعل من أشهر ما يتدوال من المتون في هذا:
1.
عقيدة الإمام الطحاوي، وشرحها، لابن أبي العز الحنفي.
2.
مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في الاعتقاد، لابن أبي زيد المالكي.
3.
العقيدة الواسطية، لابن تيمية الحنبلي.
4.
عقيدة السلف وأصحاب الحديث، للصابوني الشافعي.
وقد صنف العلماء كتبًا سموها باسم [التوحيد] كالتوحيد لابن خزيمة، ولابن منده، وغيرها، وهي في إثبات الأسماء والصفات، حيث يذكرون فيها صفات الله تعالى والرد على من نفاها، ووجه تسمية السلف كتبهم المؤلفة في إثبات الصفات كتب التوحيد؛ لأنَّ نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع وجحد له، وإنما توحيده إثبات صفات كماله وتنزيهه عن التشبيه والنقائص.
المقدمة الثانية: لمحةٌ موجزةٌ عن حياة الشيخ محمد ابن عبدالوهاب
حينما يتحدث أحدٌ عن أحدٍ، فإنَّ ثمة سلسلةً طويلة من التعريفات بالشخصية، كالاسم والنشأة، والشيوخ، وطلبه للعلم، ونحو ذلك.
وأما أنا فسأُعرض عن كثير من هذه المقدمات المعتادة؛ لشهرتها، وإذا طلبها المرء وجدها مبثوثه في ترجمة الشيخ، وسأذكر بعض الأمور والمعالم، مما أرى أنَّ لها أثرًا في حياة الشيخ ينبغي أن تُجلَّى.
أولًا: ولد الشيخ عام (1115 هـ)، أي: أنَّه عاش في القرن الثاني عشر الهجري، وهذا القرنُ كان وقتَ تفرّقٍ وضعفٍ للدولة العثمانية، وتشتت للمسلمين، حتى عبّر الجبرتي في تاريخه عن حال الدولة آنذاك بقوله:«يضيقُ صدري ولا ينطلق لساني، وليس الحالُ بمجهولٍ حتى يُفصِحَ عنه اللسان بالقول، وقد أخرسني العجزُ أن أفتح فمًا، أفغير الله أبتغي حَكمًا»
(1)
.
وقال الصنعاني في مقدمة كتابه: [تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد] متحدثًا عن ذلك الزمان، وذاكرًا سبب تأليفه للكتاب: «وجب عليَّ تأليفُه، وتعيَّن عليَّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته يقينًا من اتخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار
(1)
عجائب الآثار في التراجم والأخبار، للجبرتي (1/ 66).
الإسلام»
(1)
.
* وقد كان التصوف والوقوع في الشركيات بالغًا مبلغه في الناس في ذلك الوقت، وقد أفاض المؤرخون في ذكر أحوال الناس في هذا الواقع.
* كل هذا يؤكد أن الناس في ذلك الزمن قد ابتعد فئامٌ منهم عن التوحيد، ووقعوا في خوارمه، والشركيات، من تعظيم القبور، والتقرب لها، والتبرك بها، والسحر، وغير ذلك.
* ولم تكن الجزيرة خالية من هذه الشرور، بل كانت كغيرها فيها القبور والأضرحة وغير ذلك، وقد ذكر ابن بشر:«أنَّ انتقال البدع والشرك لنجد كان على يد طائفة من الأعراب، كانوا ينزلون حول القرى في فصل الصيف، ويتطببون لأهلها بالذبح للجن ونحوه، فشاع الأمر بين الناس، ساعد على ذلك الجهل، وانصراف الحكام إلى الصراع على السلطة، والله المستعان»
(2)
.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «وقد عمّت في زمنه البلوى بعبادة الأولياء والصالحين وغيرهم، وأطبق على ترك الإسلام جمهور أهل البسيطة؛ وفي كل مصرٍ من الأمصار، وبلدٍ من البلدان، وجهة من الجهات، من الآلهة والأنداد لرب العالمين، ما لا يحصيه إلا الله، على اختلاف معبوداتهم، وتباين اعتقاداتهم: فمنهم من يعبد الكواكب، ويخاطبها بالحوائج، ويبخر لها التبخيرات، ويرى أنها تفيض عليه، أو على العالم، وتقضي لهم الحاجات، وتدفع عنهم البليات.
(1)
تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، للصنعاني (ص: 48).
(2)
عنوان المجد في تاريخ نجد (1/ 34).
ومنهم من لا يرى ذلك، ويكفِّرُ أهله، ويتبرأ منهم، لكنه قد وقع في عبادة الأنبياء، والصالحين؛ فاعتقد أنه يستغاث بهم في الشدائد والملمات، وأنهم هم الواسطة في إجابة الدعوات، وتفريج الكربات، فتراه يصرف وجهه إليهم، ويسوي بينهم وبين الله في الحب والتعظيم، والتوكل والاعتماد، والدعاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادات، وهذا هو: دين جاهلية العرب الأميين، كما أن الأول هو دين الصابئة الكنعانيين»
(1)
.
* كل هذا مما جعل الشيخ رحمه الله يجتهد في الدعوة إلى التوحيد.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «وقد أخبرنا شيخنا رحمه الله يعني: محمد بن عبد الوهاب- أنَّه كان في ابتداء طلبه للعلم وتحصيله في فنّ الفقه وغيره، لم يتبيّن له الضلال الذي كان الناس عليه من عبادة غير الله من جِنّ أو غائب، أو طاغوت، أو شجر أو حجر، أو غير ذلك، ثم إنَّ الله جعل له نَهمةً في مُطالعة كتب التفسير والحديث، وتبيَّن له من معاني الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة أنَّ هذا الذي وقع فيه الناس من هذا الشرك، أنَّه الشرك الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وأنَّه الشرك الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه، فبحث في هذا الأمر مع أهله وغيرهم من طلبة العلم، فاستنار قلبه بتوحيد الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، فأعلن بالدعوة وبذل نفسه لذلك على كثرة المخالفين، وصبر على ما ناله من الأذى العظيم في ابتداء دعوته، فلما اشتهر أمره، أجلبوا عليه بالعداوة، خصوصًا العلماء والرؤساء، وحرصوا على قتله، فأتاح الله له من ينصره، على قِلَّةٍ منهم وحاجةٍ، وتصدى لحربهم القريب والبعيد، واستجلبوا على
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 456).
حربهم الدول»
(1)
.
* وقد استمر الشيخ داعيًا إلى التوحيد ونبذ الشرك، ولقي في ذلك العنت والحرب والعداء، حتى توفاه الله على ذلك.
ثانيًا: لم يكن الشيخ وحده عالم ذلك الزمان، بل كان في بلاد المسلمين علماء كثر في كل صقعٍ من بلاد المسلمين، عن بعضهم أخذ الشيخُ الاعتقاد، لكن هؤلاء العلماء انقسموا إلى قسمين:
1.
قسمٌ صمت عن الواقع، مؤثرًا السلامة، مقصّرًا في واجب النصح للأمة، وأسبابُ الصمت عن بيان الحق للناس عديدة، وليس بنا أن نتكلم عن المقاصد والأسباب؛ فالله أعلم بحال عباده.
2.
قسمٌ دعوا للحق، وأمروا الناس بنبذ مظاهر الشرك بالله، وهؤلاء منهم من نُقِلت مواقفه، ومنهم من لم تُذكر، لكنَّ حُسْنَ الظنِّ بالعلماء أنَّ منهم من كان ينكر، ولكن القبول والشيوع والثبات على الحقّ يتفاوت فيه الناس.
* ومِن هؤلاء العلماء الذين نصحوا ودعوا للتوحيد: أحدُ علماء الأزهر، ذكره الجبرتي في تاريخه، حيث ذكر عن هذا العالِم الواعظ أنَّه جلس بجامع المؤيد، فكثر عليه الجمع وازدحم المسجد وأكثرهم أتراك، ثم انتقل من الوعظ وذكر ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء، وإيقادِ الشموع والقناديل على قبور الأولياء، وتقبيل أعتابهم، وفِعل ذلك كفرٌ يجب على الناس تركه، وعلى ولاةِ الأمور السعيُ في إبطال ذلك، وحصل اضطراب عند العامة كبير، وتبعه العامة، فسعى في إيقافه شيخان، وحصلت أمورٌ كثيرة، حتى أمر الأمير
(1)
المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن (ص: 14).
بنفي الواعظ من البلد، والله المستعان
(1)
.
* ولأنَّ بعض الحكومات آنذاك قد تولت الحرب على الدعوة الوهابية، فلقد توارى كثير من العلماء عن الصدع بالحقّ، ولكن كان منهم من صدع بالحقّ، ودعا إلى التوحيد ونبذ الشرك، وهم كثير، ومنهم:
* مُلاّ أحمد بن الكولة، وهو في الموصل، وكان مؤيدًا لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأوذي في ذلك حتى مات سنة (1170 هـ).
* وأما بعد ذلك، فقد كثر العلماءُ الصادعونَ بالتوحيد في جميع الأقطار، ومنهم:
* أحمد بن عرفان الشهيد في الهند، توفي سنة (1246 هـ)، وهو صاحب الحركة المعروفة للجهاد ونبذ الخرافات، قال الشيخ عبد الحي الحسيني عنه:«فأحيا كثيرًا من السنن المماتة، وأمات عظيمًا من الأشراك والمحدثات، فتعصّب أعداء الله ورسوله في شأنه وشأن أتباعه، حتى نسبوا طريقته إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، ولقبوهم بالوهابية»
(2)
.
* محمود شكري الآلوسي في العراق، توفي سنة (1342 هـ)، وقد عاداه أهل البدع حينها، وكتبوا به إلى والي بغداد، فكتب به إلى السلطان عبد الحميد الثاني، فصدر الأمر بنفيه إلى بلاد الأناضول، وحين وصل إلى الموصل سعى أهلها لإعادته إلى بغداد، فأذن له
(3)
.
(1)
تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار (1/ 83)، وقد ساق الجبرتي القصة بتمامها.
(2)
الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام، المسمى: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر (7/ 901).
(3)
أعلام العراق (ص: 100).
* الشيخ عبد القادر بن بدران في الشام، وكان داعية إلى الحقّ والتوحيد، وقد أوذي في ذلك كثيرًا، حتى توفي سنة (1346 هـ)، ومما يبين عداءَ أهل البدع له ولدعوته قول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:«ولقد عوقبتُ مرةً في المدرسة؛ لأنَّهم أمسكوني بالجُرمِ المشهود في حلقة الشيخ عبد القادر بدران»
(1)
.
* أبو بكر محمد خوقير مفتي الحنابلة في مكة، وسجن لذلك سنوات طوال، توفي سنة (1349 هـ).
* الشيخ حسن الرزق في حماة، توفي سنة (1330 هـ)، وغيرهم كثير
(2)
.
ثالثًا: قد أثنى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جماعة من المثقفين، منهم مستشرقون، ومنهم علماء مسلمون، ومن ذلك ما كتبه المستشرق الأمريكي ستودارد، مؤلف:[حاضر العالم الإسلامي] الذي علّق عليه الأمير شكيب أرسلان، حيث قال في الفصل الأول من الكتاب في اليقظة الإسلامية في القرن الثامن عشر: «كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدلي والانحطاط أعمق درك، فاربدّ جوّه، وطبقت الظلمة كُلَّ صقع من أصقاعه، ورجًا من أرجائه، وانتشر فيه فسادُ الأخلاق والآداب
…
إلى أن قال: وأما الدين، فقد غشيته غاشية سوداء، فأُلبِسَت الوحدانية التي علّمها صاحبُ الرسالة الناس سخفًا من الخرافات، وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين،
(1)
ذكريات الطنطاوي (1/ 78).
(2)
انظر: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، للدكتور علي الزهراني (1/ 209 وما بعدها).
يخرجون من مكان إلى مكان، يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور.
وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يُشرب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل، وهُتِكت سُتُر الحُرمات على غير خشية ولا استحياء، ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، وعلى الجملة: فقد بُدِّل المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطًا بعيد القرار.
فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يدعي الإسلام، لغضب، وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين، كما يعلن المرتدون، وعبدة الأوثان.
وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومُدلج في ظلمته، إذا بصوت يدوّي من قلب صحراء شبه الجزيرة مَهد الإسلام، يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح، والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، فكان الصارخ: هذا الصوت، إنما هو المصلح المشهور الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، الذي أشعل نار الوهابية، فاشتعلت واتقدت، واندلعت ألسنتها، إلى كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي.
ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس، واستعادة المجد الإسلامي القديم، والعز التليد تبدت تباشير صبح الإصلاح، ثم بدأت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام»
(1)
.
(1)
محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية، ودعوته الإصلاحية، وثناء العلماء عليه، للشيخ أحمد بن حجر آل أبو طامي (ص: 105).
بل إنَّ طه حسين الكاتب المعروف بتوجهه، كتب عن الشيخ بقوله:«إنَّ الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب، لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة، نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر، فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب، واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثارًا خطيرة، هان شأنها بعض الشيء ولكنها عادت، فاشتدت في هذه الأيام، وأخذت تؤثر لا في الجزيرة وحدها، بل في علاقاتها بالأمم الأوربية، هذه الحركة هي: حركة الوهابيين، التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب، شيخ من شيوخ نجد» .
ثم ذكر نزرًا يسيرًا عن نشأة الشيخ، ورحلاته العلمية ودعوته إلى أن قال: «قلت: إنَّ هذا المذهب الجديد قديم معنى، والواقع أنَّه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر؛ لأنَّه ليس إلّا الدعوةَ القوية إلى الإسلام الخالص، النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام، كما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم خالصًا لله، مُلغيًا كل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي
(1)
، وتطهير له، مما أصابه من نتائج الجهل، ومن نتائج الاختلاط بغير العرب».
هذا طرفٌ مما كتبه الخصوم، فأمّا ما كبته العلماء والمصلحون فكثير وهو الأصل.
وسأكتفي بنقل موجز واحد في الشيخ المجدد، لعالم من علماء الشام آنذاك، وهو العلامة عبد القادر بن بدران، حيث قال عنه:«العالم الأثري والإمام الكبير محمد بن عبد الوهاب رحمه الله» .
(1)
كذا قال، ولا يوافق على هذا؛ فالإسلام دين أهل الأرض جميعًا، ولا يختص بجنس أو بلد.
ثم تكلم عن طلبه للعلم، ثم قال: «ولما امتلأ وِطابهُ من الآثار وعلم السنة، وبرع في مذهب أحمد، أخذ ينصر الحق، ويحارب البدع، ويقاوم ما أدخله الجاهلون في هذا الدين الحنفي والشريعة السمحاء، وأعانه قوم أخلصوا العبادة لله وحده، على طريقته التي هي إقامة التوحيد الخالص والدعاية إليه، وإخلاص الوحدانية والعبادة كلها بسائر أنواعها لخالق الخلق وحده، فحبا إلى معارضته أقوامٌ أَلِفوا الجمودَ على ما كان عليه الآباء، وتدرعوا بالكسل عن طلب الحق، وهم لا يزالون إلى اليوم يضربون على ذلك الوتر، وجنودُ الحقِّ تُكافحهم، فلا تبقي منهم ولا تذر، وما أحقهم بقول القائل
(1)
:
كناطحٍ صخرة يومًا ليوهنها
…
فلم يضرها، وأعيا قرنه الوعل
ولم يزل مثابرًا على الدعوة إلى دين الله تعالى حتى توفاه الله تعالى»
(2)
.
-رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وجميع علماء المسلمين-.
رابعًا: مما تميزت به دعوة الشيخ رحمه الله: ارتباطها الوثيق بالكتاب والسنة، فلا يذكر أمرًا إلّا ويسوق عليه الدليل، ومن نظر في كتبه أدرك ذلك بجلاء.
فأشهر كتبه، مثلًا وهو كتاب التوحيد -الذي يدور حديثنا عليه- كله نصوص من آيات وأحاديث، وهذا يبين أنَّه لم يأتِ بجديد.
لكن المُشَغِّبينَ على الشيخ ودعوته من بعض الصوفية والخرافية وأضرابهم، يشيعون أنَّه مخالفٌ لما عليه العلماء، وكل هذا محضُ افتراء، وما زالوا ينسجون عنه الأكاذيب تلو الأكاذيب؛ ليشوهو سمعته، ويصرفوا الناس عن
(1)
القائل هو الأعشى. انظر: جامع بيان العلم (2/ 1113)، محاضرات الأدباء (1/ 311).
(2)
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، لابن بدران (ص: 446).
دعوته، ومن طالع بعض كتبهم وما ذكروا عنه من كذبٍ، علم أن القوم قد فجروا في الخصومة، وافتروا في الدعوى، فاتهموه بأبشع الأمور، حتى اتهموه بالعظائم، ورموه بالكبائر، ولكن يأبى الله إلا أن يتمّ نوره.
المقدمة الثالثة:
التعريف بكتاب التوحيد
كتابُ التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب لقي حظوةً واسعة عند العلماء مِنْ يوم أن صُنِّفَ، فقد شُرِحَ كثيرًا، وعُنِيَ الناسُ بحفظه، ومُدارسته، وقد ألّفه الشيخ رحمه الله حين كان بالبصرة مرتحلًا لطلب العلم
(1)
.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «فموضوعه -أي: كتاب التوحيد- في بيان ما بعث به الله رسله، من توحيد العبادة، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر ونحوه، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه»
(2)
.
(3)
.
(1)
ذكر ذلك حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن. الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 7).
(2)
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص: 5).
(3)
قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين (ص: 264).
وثمة أمورٌ أشير إليها مما يتعلق بالكتاب.
أولًا: مِنْ أشهر ما تميز به الكتاب:
1.
اعتماده على النص من القرآن والسنة، وهما محلُّ اتفاق بين المسلمين، فليس في الكتاب كلام للشيخ إطلاقًا، إلّا إن كان التبويب أو المسائل.
2.
أنَّه حوى أهم المسائل التي وقع فيها الخلل عند طوائف من المسلمين آنذاك وإلى الآن، وهي:(خوارم التوحيد من خصال الشرك الأكبر، ومنقصاتُه من خصال الشرك الأصغر).
3.
اختصاره بالنسبة لغيره من الكتب التي صُنِّفت في الاعتقاد.
4.
ليس في الكتاب حديثٌ موضوع، وإنّما فيه الصحيح والحسن، وفيه الضعيف الذي تشهد له الشواهد من الكتاب أو السنة.
5.
أنَّ الشيخ اعتنى بتحريره غاية العناية، وجعله أصلًا يتداوله العلماء في البلدان، ويتدارسه الناس في المساجد، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:«فيلزم الأمير أن يأمر على جميع المدرسين، وأئمة المساجد بالحضور عند من يعلمهم دينهم، ويلزمهم القراءة فيما جمعه شيخنا رحمه الله في [كتاب التوحيد] من أدلة الكتاب والسنة، التي فيها الفرقان بين الحق والباطل، فقد جمع على اختصاره خيرًا كثيرًا، وضمنه من أدلة التوحيد ما يكفي من وفقه الله، وبين فيه الأدلة في بيان الشرك الذي لا يغفره الله»
(1)
.
ثانيًا: موضوع كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب:
هذا الكتاب ضمّنه مؤلفه أنواع التوحيد الثلاثة، إلّا أنَّ جُلّ أبوابِ الكتاب
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 338).
تدور حول توحيد الألوهية، وإنما اعتنى الشيخ بهذا لأمور:
أ) أنَّ هذا النوع من التوحيد هو مدار الخلاف بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في أول عهد الإسلام.
ب) أنَّ هذا النوع هو الذي وقعت فيه المخالفة من الناس في عهد الشيخ رحمه الله.
ج) أنَّه أهمُ أنواعِ التوحيد، إذ يخرج المرءُ بمخالفته من الإسلام.
* ولأجل كل هذا اعتنى الشيخ بهذا النوع، وأكثر من ذكر فروعه ومسائله.
ثالثًا: طريقته فيه:
1.
أنَّه ابتدأ ببيان التوحيد، وفضله، ومعناه، والدعوة إليه، والتحذير من نقيضه وهو الشرك.
2.
ذكر بعد ذلك جملة من الأبواب في الردِّ على من تعلّق بغيرِ الله من تمائم ورقى وشفعاء، وغير ذلك.
3.
ذكر بعد ذلك جملة من الأبواب عن أمور مناقضة للتوحيد من أصله، أو لكماله كالسحر والكهانة والاستسقاء بالأنواء والتطير، ونحو ذلك.
4.
ذكر بعد ذلك جملة من الأبواب المكملة للتوحيد، إما من باب الألفاظ، كباب سَبِّ الدهرِ، وبابِ ما شاء الله وشئت، ونحوه.
أو من باب تعظيم الله، كباب التسمّي بقاضي القضاة، وباب لا يقال: السلام على الله، ونحوه.
أو من باب وسائل الشرك وذرائعه، كباب ما جاء في المصورين، أو ما
يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات.
رابعًا: منهجه في الكتاب.
1 -
التبويب بقضية من قضايا التوحيد.
2 -
ذكر الأدلة عليها من القرآن والسنة، وفي أحيان يسيرة يضيف لذلك آثارًا عن السلف، أو نقولًا عن ابن تيمية وابن القيم.
3 -
يختم الباب بمسائل مستنبطة من أدلّة الباب ونصوصه، فيها دليل على فهم الشيخ، وهذه المسائل غالبها مرتبط بالتوحيد، وبعضها بالدعوة، وبعضها في فوائد عامة.
4 -
ليس في الباب كلام للشيخ إلّا التبويب والمسائل، وهذا من حسن صنيعه، فإن الآيات والأحاديث محل اتفاق بين الناس.
خامسًا: أهم شروح كتاب التوحيد:
شُرِحَ الكتابُ بشروح كثيرة؛ لعل من أجودها ما يلي:
1.
[تيسير العزيز الحميد] للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وهو أول شروح الكتاب، وقد توسع فيه وأسهب، وأتى فيه بما لا يستغني عنه طالب العلم.
2.
[فتح المجيد] للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وهو من أجود الشروح، وقد عني به العلماء تدريسًا وقراءة في حلقات العلم.
3.
[القول السديد] للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وهو عبارة عن تعليقات على الأبواب، وعلى اختصاره إلّا أنَّه نافع.
4.
[حاشية كتاب التوحيد] للشيخ عبد الرحمن بن قاسم، وهي من أجود الحواشي على الكتاب، وقد طبعت في مجلد واحد.
5.
[التوضيح المفيد لمسائل كتاب التوحيد] للشيخ عبد الله بن محمد الدويش (ت 1408 هـ)، وقد أفرده للكلام على مسائل الأبواب.
6.
[القول المفيد] للشيخ محمد بن عثيمين، وهو عبارة عن دروس ألقاها في جامعه بعنيزة، وقد طبع في مجلدين، وفيه فوائد غاية في النفاسة.
7.
[التمهيد شرح كتاب التوحيد] للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، وهو عبارة عن دروس ألقاها في الجامع بالرياض، وقد طبع في مجلد واحد، وفيه فوائد قيمة، وتحريرات نفيسة.
هذا باختصار شديد، وإلا فمن أحب التوسع فليراجع كتاب [عناية العلماء بكتاب التوحيد] لعبد الإله الشايع.
سادسًا: كان للكتاب أثرٌ في تغيير نظرة البعض عن الشيخ
رحمه الله، فقد ذكر الشيخ محمد المجذوب حكاية لطيفة، عن الشيخ عبد الله القرعاوي داعية الجنوب رحمه الله، وهي: «أنَّه حين ذهب للهند لطلب العلم، كان أحد شيوخه لا يمر به ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلّا صب عليه سياط غضبه، ثم يختم ذلك بالتضرع إلى الله أن ينقذ الإسلام من شرّ دعوته إلى يوم الدين، حتى إنَّه ليكاد يجعل ذلك وردًا ملزمًا في أعقاب كل درس، فجاء الشيخ عبد الله ووضع على منضدة الشيخ الهندي كتاب التوحيد، ونزع منه غلافه الذي يحوي اسم الشيخ، وشاء الله أن يقرأ الشيخ الكتاب ويستوعبه، فراح يبدي إعجابه به، ويسأل عن مؤلفه، فأخبره الشيخ عبد الله باسمه، فقال الشيخ الهندي: لقد ظلمنا هذا المصلح كثيرًا، ولا نجد كفارةً لما أسلفنا،
إلا أن ندعو له بمقدار ما دعونا عليه»
(1)
.
وقريبٌ من هذا: قصة الشيخ علي باصبرين، وقد نقلها الشيخ عبدالله البسام في ترجمة الشيخ مبارك آل مبارك رحمه الله، فقال: «حدثني الشيخ محمد نصيف رحمه الله قال: كان الشيخ علي باصبرين يُدرِّس طلابه ما بين المغرب والعشاء في جامع الشافعي بجدة، ففي إحدى الليالي جاء البحث في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعها، فنال الشيخ باصبرين منها نيلًا فاحشًا، وكان من الطلبة: الشيخ صالح العبد الله البسام، والشيخ مبارك آل مساعد، فلما فرغ الدرس قاما إليه، وقالا له: هل اطلعت يا شيخ على كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب حينما نِلت منه ومن دعوته؟ فقال لهما: لا، إنني لم أطلع عليها، ولكني قلتُ هذا نقلًا عن مشايخي، فقالا له: ألا ترغب في الاطلاع على كتبه؟ قال: بلى، فأتياه بنسخ من كتبه، فدرسها نحو أسبوع، وهو لا يأتي للشيخ محمد بن عبد الوهاب بذكر؛ لا بمدح ولا قدح.
وبعد ذلك قال للطلبة: إنني في إحدى الليالي السابقة نلتُ من الشيخ محمد بن عبدالوهاب ودعوته، والحقُّ أن كلامي لم يكن عن اطلاع على كتبه، وإنما هو تقليدٌ وحُسن ظنٍّ في مشايخنا، وقد أطلعني بعض إخواننا النجديين على بعض كتبه ورسائله، فرأيت فيها الحق والصواب، وأنا أستغفر الله تعالى عما قلت، ثم صنّف رسالة سمّاها [هداية كُمَّل العبيد إلى خالص التوحيد]»
(2)
.
وقريب من هاتين أيضًا: قصة الشيخ محمد السناني المتوفى سنة (1269 هـ) رحمه الله،
(1)
علماء ومفكرون عرفتهم، لمحمد المجذوب (1/ 108)، المسيرة لداعية جنوب الجزيرة، لبندر الأيداء (168).
(2)
علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 434).
فقد نقل البسام في كتابه [علماء نجد] قائلًا: لم يقرأ كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وكان بعض الناس يحذره منها، فسافر إلى الأقطار الشامية والعراقية ورأى من البدع والشرك الأمور الفظيعة، فعلم ما لفضل دعوة الشيخ محمد في نجد من الأثر الطيب، ورجع إلى كتبه، وقرأها، فأولع بها وشغف باتباعها، وقال كلمة وقصيدة في هذه الحال التي مرت به، وهذا نص كلامه: «كنتُ في أول أمري مع أناس نسمي [كشف الشبه] ب (جمع الشبه)! ولم أرها ولم أطالع فيها تقليدًا لمن غروني، فلما سافرت إلى بعض الآفاق ورأيت كثرة من أعرض عن الهدى، دعوت الله أن يهديني لما اختُلف فيه إلى الحق، فأزال الله عني الهوى والتعصب، وأبدله بالإنصاف، وصار عندي الحق أحق أن يُتبع، فعنَّ لي أن أطالع [كشف الشبه] فوجدتها كاسمها، مشتملة على أجل المطالب وأوجب الواجبات، فكانت جديرة أن تُكتب بماء الذهب، ثم قلتُ نظمًا:
لقد ضل قوم سمو الكشف بالجمع
…
وقالوا مقالًا واجب الدفع والرد
فجمع الشبه ما لفقوه ببغيهم
…
وتضليلهم من هد ما شيد من ند
وقام بنصر الدين لله وحده
…
وتجريده التوحيد للواحد الفرد
وجاهد فيما قام فيه لربه
…
بماله والأهلين حقًا وباليد
إلى أن قال:
فيا طالب الإنصاف بالعلم والهدى
…
ألا تنظر كشف الشبه درة العقد
فقد حل فيها كشف ما كان مشكلًا
…
بأوضح تبيان ينوف على العد
فجازاه رب الخلق خير جزائه
…
لما قام في التوحيد يهدي ويهتدي
(1)
(1)
علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 473 - 474).
المقدمة الرابعة:
معنى التوحيد.
والكلام على هذه المقدمة في مسائل:
المسألة الأولى: تعريف التوحيد.
التوحيد: مصدر وحّدَ يوحد توحيدًا، أي: جعله واحدًا، قال ابن فارس: الواو والحاء والدال أصلٌ واحد يدل على الانفراد
(1)
.
وقال الجوهري: فلانٌ واحِدُ دهرِهِ، أي: لا نظير له
(2)
.
وشرعًا: هو اعتقاد أن الله تعالى واحد في ذاته، وواحد في ربوبيته، وواحد في صفاته، لا مثيل له، وواحد في ألوهيته وعبادته، لا شريك له.
وهذا التعريف تضمن اعتقاد وحدانية الله عز وجل من جميع الوجوه، فهو واحدٌ في ذاته لا ولد له ولا والد، وهو سبحانه واحدٌ في ربوبيته لا معاون له ولا ظهير ولا مساند ولا معين، لا في الخلق ولا في التدبير، وهو سبحانه واحد في صفاته، لا مثيل له في شيء من صفاته.
كما تضمن التعريفُ وجوبَ إخلاصِ العبادة له وحده لا شريك له؛ إذ لا
(1)
مقاييس اللغة (6/ 90)، وانظر: العين، للخليل (3/ 280)، تهذيب اللغة (5/ 192).
(2)
الصحاح، للجوهري (2/ 548).
معبود بحقٍ سواه.
وسمي دينُ الإسلام توحيدًا؛ لأن مبناه على أن الله واحدٌ في مُلكِهِ وأفعالِه لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته، لا ندّ له
(1)
.
المسألة الثانية: أقسام التوحيد.
لأهل العلم في تقسيم التوحيد طريقتان:
الطريقة الأولى: تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
1) توحيد الربوبية:
وهو توحيد الله بأفعاله، وذلك بالإقرار والاعتراف بأن الله هو: الخالق، الرازق، المدبر، وهو لا يكفي في إدخال الإسلام، حتى يقرّ العبد بتوحيد الألوهية، قال الشيخ عبد الله أبا بطين:«وأما الإقرار بتوحيد الربوبية: وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره، فهذا يقر به المسلم والكافر، ولابد منه، لكن لا يصير به الإنسان مسلمًا، حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم عن الشرك وأهل الجنة من أهل النار»
(2)
.
* ولهذا النوع أسماء أخرى: فيسمّى توحيد المعرفة والإثبات، والتوحيد العلمي، وغير ذلك.
* وهذا النوعُ أقرّ به كثيرٌ من المشركين، وإن كانوا قد يشركون في بعض
(1)
انظر: تيسير العزيز الحميد (ص: 17)، أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة للخلف (1/ 74).
(2)
الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين (ص: 30).
أموره، وقد وقع الإشراك به حتى في الأزمان المتأخرة، ومن الأمثلة على ذلك: ما حكاه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، عن الشيخ مصطفى البولاقي «أن بعض رؤساء الجامع الأزهر عاده لما اشتكى عينيه، وقال له: هلا ذهبت إلى مولد الشيخ أحمد البدوي، فقد حكي أن إنسانًا شكا إليه ذهاب بصره، فسمع قائلًا يقول من الضريح: أعطوه عين كذا وكذا.
وقال أيضًا: وقد حدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يُدَقُّ وتدٌ في القاهرة إلا بإذن أحمد البدوي، قال: فقلت له: هذا لا يكون إلا لله، أو كلامًا نحو هذا
…
فقال: حُبّي في سيدي أحمد اقتضى هذا»
(1)
.
وهذا كما لا يخفى إشراك في الربوبية، حيث اعتقد مدبرًا مع الله.
وعلى كل حالٍ فقد أقرّ بالربوبية كثير من الناس، إلّا من عاند وكابر، كفرعون وأضرابه، ممن نفوا بألسنتهم وجود الرب، وإن كانت قلوبهم تخالف ذلك، ولذا قال الله:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل، الآية (14)].
* وممن ينكره: الشيوعيون، بناء على عقيدتهم الفاسدة التي تقوم على الكفر بالغيب، والإيمان بالمادة وحدها.
2) توحيد الإلهية:
وهو إفراد الله بالعبادة، فلا يصرف أي عبادةٍ قولية أو فعلية أو قلبية، إلّا للمستحق وهو الله، ولا يشرك مع الله أحد في عبادته.
* ولهذا النوع أسماء: فيسمّى: توحيد الألوهية، ويسمّى: توحيد العبادة، ويسمى: توحيد الإرادة؛ لتضمنه الإخلاص، ويسمّى: توحيد القصد؛ لأنَّه
(1)
منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس (ص: 50 - 53).
مبنيٌّ على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده، ويسمّى: توحيد العمل؛ لأنَّه مبني على إخلاص العمل لله وحده.
* وهذا النوع هو أهمُّ أنواعِ التوحيد، فمن أجل تحقيقه أُرسِلَت الرسل وأُنزلت الكتب، وسُلَّتْ سيوفُ الجهاد، وفُرِّقَ بين المؤمنين والكافرين، وإذا أخلّ العبد به لم ينفعه توحيد الربوبية، ولا الأسماء والصفات، قال ابن تيمية:«وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزّهه عن كل ما ينزه عنه، وأقرّ بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحدًا، بل ولا مؤمنًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له»
(1)
.
3) توحيد الأسماء والصفات:
وهو أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل.
* وهذا التوحيد- أيضًا- شرط لتمام الإيمان، فلا يصح إيمان العبد حتى يعتقده، قال ابن القيم رحمه الله:«لا يستقر للعبد قدَمٌ في المعرفة، بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله، ويعرفها معرفةً تخرجه عن حدّ الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرّفها هو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان وثمرة شجرة الإحسان، فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان وثمرة شجرة الإحسان، فضلًا عن أن يكون من أهل العرفان»
(2)
.
الطريقة الثانية: تقسيم التوحيد إلى قسمين:
1.
توحيد المعرفة والإثبات: ويتضمن توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 226).
(2)
مدارج السالكين (3/ 324).
2.
توحيد الطلب والقصد: ويتضمن توحيد الإلهية والعبادة.
وهذا ما يذكره ابن تيمية وابن القيم في كتبهما، والمؤدَّى واحد.
(1)
.
المسألة الثالثة: التوحيدُ يكون بالقلبِ، وباللسانِ، وبالجوارحِ.
أما القلب: فبإقراره بوحدانية الله.
وأما اللسان: فبالنطق بكلمة التوحيد.
وأما الجوارح: فبأن يعمل بمقتضاها، قال المجدد رحمه الله:«لا خلاف بين الأمة، أن التوحيد: لا بد أن يكون بالقلب الذي هو العلم، واللسان الذي هو القول، والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، فإن أخلّ بشيء من هذا، لم يكن الرجل مسلمًا، فإن أقرّ بالتوحيد ولم يعمل به، فهو كافرٌ، معاندٌ، كفرعون وإبليس، وإن عمل بالتوحيد ظاهرًا، وهو لا يعتقده باطنًا، فهو: منافق خالصًا، أشرّ من الكافر»
(2)
.
المسألة الرابعة: التوحيد هو مدارُ رسالة الرسل،
وهو وصية الله لعباده، وهي الفارقة بين الكفر، والإسلام، قال ابن القيم: «وغالبُ سورِ القرآن، بل كل سورة في القرآن، فهي متضمنة لنوعي التوحيد.
(1)
مدارج السالكين (1/ 48).
(2)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 124).
بل نقول قولًا كليًا: إن كلّ آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدةٌ به، داعيةٌ إليه، فإن القرآن: إما خبرٌ عن الله، وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلعِ كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيدُ الإرادي الطلبي، وإما أمرٌ ونهيٌ، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبرٌ عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبرٌ عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم»
(1)
.
ومعلومٌ أن التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الآلهية لله وحده، ونفي الشرك، وهذا أمرٌ قد يخطيء فيه البعض، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:«التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم غريب في الناس جدًا، وأكثرهم لا يعرف حقيقته، ولا يعرف الشرك الأكبر المنافي له، وغاية ما عندهم هو أن يعرف أن الله تعالى ربه وخالقه وخالق جميع المخلوقات ورازقها، والمتصرف فيهم»
(2)
.
قال المؤلف رحمه الله:
(1)
مدارج السالكين (3/ 417).
(2)
المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن (ص: 119).
1 - كتاب التوحيد
وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات، الآية (56)].
وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل، الآية (36)]. وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء، الآية (23)].
وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء، الآية (36)].
وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام، الآيات (151)].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم اَلَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمِهِ، فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ، إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
…
} [الأنعام، الآية (151 - 153)]».
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: «كُنْتُ رَدِيفَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ لِي: يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اَللَّهِ عَلَى اَلْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ اَلْعِبَادِ عَلَى اَللَّهِ؟ قُلْتُ: اَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ اَللَّهِ عَلَى اَلْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ اَلْعِبَادِ عَلَى اَللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَفَلَا
أُبَشِّرُ اَلنَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2856)، ومسلم (30).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس. الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} .
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل. الخامسة: أن الرسالة عمّت كل أمة. السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} .
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن الآيات الثلاث المحكمات في سورة الأنعام عند السلف.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . وختمها بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} ، ونبهنا اللهُ على شأن هذه المسائل بقوله:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} .
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} .
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته. الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: «الله ورسوله أعلم» .
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم؛ لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل. الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
(الشرح)
هذا أوّل أبواب الكتاب، وذكر فيه المصنّف خمس آياتٍ، وحديثًا، وأثرًا في تبيين معنى التوحيد، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: ذكر المصنّف قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات الآية (56)]. وفيها بيّن الله وظيفة الأمّة التي لأجلها خلقهم، وأنَّ ذلك لأجل أن يتوجهوا له بالعبادة جِنّهم وإنسِهم، فلم يُرد الله منهم تكثرًا ولا استغناءً، وإنما أراد أن يصرفوا له العبادة، ولذلك قال:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون، الآية (115)]. {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة، الآية (36)]. قال الشافعي: «لا يؤمر ولا ينهى»
(1)
.
والعبادة: (اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة)
(2)
، فيدخل في العبادة أمران:
الأول: أداء كل أمرٍ يحبه الله، ويأمر به، سواء كان قولًا كقراءة القرآن،
(1)
انظر: أحكام القرآن (2/ 123). قلت: وهو أيضًا قول مجاهد. انظر: تفسير الطبري (24/ 83)، ولكنه من رواية ابن أبي نجيح، عنه، وهو منقطع، وقول أبي جعفر الترمذي انظر جزئه في تفسير القرآن (ص 65).
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 149).
والذكر، أو فعلًا كالصلاة والصوم، والبر، أو عملًا قلبيًا كالحبّ لله، والتوكل عليه، وهكذا.
الثاني: ترك كل معصيةٍ نهى الله عنها، سواء كانت شركًا أكبر، أو أصغر، أو معصية كبيرة، كالزنا والربا، أو صغيرة.
وتأمل كيف ذكر الله الآية بصيغة الحصر، فقال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات الآية (56)]. واللام في {لِيَعْبُدُونِ} هي لامُ التعليل؛ ليبيّن أنَّه ليس ثمة هدف آخر لخلقهم غير ذلك، فيا خسارة من أمضى حياته في غير عبادة الله.
وفي الآية بيان أنَّ ذلك للإنس والجنّ على حدٍّ سواء.
المسألة الثانية: ذكر المصنف في الباب قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل، الآية (36)]، وفيها يبين سبحانه أنَّه أرسل الرسل في الأمم، وكان الأمر المشترك في دعوتهم هو دعوتهم للتوحيد، فكلّ من أُرسِل منهم دعى قومه للتوحيد، وهذا يبيّن لك أهمية التوحيد، وأنَّه آكد الأمور، حيث تضافر عليه الأنبياء والرسل، الذين قد تختلف تفاصيل شرائعهم، ولكنهم يتفقون على التوحيد، وقد قال الله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، الآية (25)].
المسألة الثالثة: ذكر المصنّف في الباب قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء، الآية (23)]. فحينما ذكر الواجبات بدأ بالتوحيد، ولا شكّ أنَّ هذا يبين أنَّه أهم الأمور، فتقديمه للاحتفاء به والعناية به.
* فقوله: {وَقَضَى} ، أي: وصى وأمر، وقبلها قوله:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء، الآية (23)].
وفيه- أيضًا- عظم حق الوالدين، حيث قرنه مع الأمر بعبادته وحده سبحانه، ونظيرها قوله:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان، الآية (14)].
المسألة الرابعة: ذكر المصنف قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء، الآية (36)]، وهذه الآية تسمّى آية الحقوق العشرة؛ لأنَّ فيها أمرٌ بعشر وصايا ابتدأت بالأمر بالعبادة والنهي عن الشرك، ثم حق الوالدين، وذي القربى، وهكذا.
فتقديم حق الله دليل على: أنَّه أعظم الحقوق وآكدها، فالعبد مأمور بأن يعبد الله، والعبادة إنّما تصح إذا توافر فيها الإخلاص والمتابعة، ثم زاد ذلك تأكيدًا بالنهي عن أي شيء من الشرك.
المسألة الخامسة: ذكر المصنّف في الباب قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
…
} [النساء، الآية (151 - 153)].
ثم ذكر كلام ابن مسعود رضي الله عنه: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم اَلَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُه، فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [النساء، الآية (151 - 153)]» .
وهذه الآيات تدل على أهمية التوحيد، من وجهين:
1.
أنَّ الله تعالى ذكر في الآيات أمورًا، ذكر ابن مسعود بأنَّها وصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، والعادةُ: أنَّ الإنسان لا يوصي إلّا بأهم الأشياء، وختمُ الوصية دليلٌ على أنَّها لا تتغيّر، ولذلك قال ابن عباس: «هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء، وهن محرمات على بني آدم كلهم،
وهنّ أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار»
(1)
.
2.
أنَّ الله ابتدأ في الآيات بذكر النهي عن الشرك، والتقديم يفيد التأكيد، فكأنَّه قال: أوّل ما أتلو عليكم أن لا تشركوا بالله شيئًا.
المسألة السادسة: ذكر المصنّف حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي:«يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اَللَّهِ عَلَى اَلْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ اَلْعِبَادِ عَلَى اَللَّهِ؟ قُلْتُ: اَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ اَللَّهِ عَلَى اَلْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ اَلْعِبَادِ عَلَى اَللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ اَلنَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا» .
والحديث يدلّ على أهمية التوحيد من وجوه:
1 -
أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعله حقًا لله على العباد، وهو الحقّ الذي لأجله خلق الله الخلق.
2 -
أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل جزاء من قام به أنَّ الله لا يعذبه، وهذا تفضل من الله، وإلّا فليس للعباد على الله حقّ واجب، وإنّما هو تفضّل منه سبحانه.
3 -
أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ساق هذا الأمر بصيغة الاستفهام لتتشوّف النفس لما سيذكر، وهو أسلوب متّبع عند إرادة توكيد الكلام.
* الخلاصة: أنَّ هذه النصوص تدل بمجموعها على أهمية التوحيد وآكديته والاحتفاء به.
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (12/ 226)، وابن أبي حاتم في التفسير (8057) مختصرًا.
2 - بابُ فضلِ التوحيدِ وما يكفِّر من الذنوب
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام، الآية (82)].
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إله إلّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ»
(1)
.
ولهما في حديث عتبان: «فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إله إلّا الله، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ»
(2)
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ مُوسَى عليه السلام: يَا رَبِّ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى: لا إله إلّا الله، قَالَ: يَا رَبِّ! كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا؟ قَالَ: يَا مُوسَى! لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ وَ (لا إله إلّا الله) فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لا إله إلّا الله»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28).
(2)
جزء من حديث أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33).
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى (10602 - 10913)، وأبو يعلى في المسند (1393)، والطبراني في الدعاء (1480)، وابن حبان في صحيحه (6218)، والحاكم في المستدرك (1936)، وجميعهم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد به مرفوعًا.
وإسناده ضعيف: لضعف دراج، لا سيما في روايته عن أبي الهيثم، قال أبو داود في «سؤالاته» (259): سمعت أحمد بن حنبل، سئل عن دراج أبي السمح، قال: هذا روى مناكير كثيرة. «سؤالاته» (259). وانظر: «الضعفاء» للعقيلي (2/ 299).
وقال أبو داود: دراج، أحاديثه مستقيمة، إلا ما كان عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد. «سؤالات الآجري» لأبي داود (1492)، قلت: وهذا منها، لكن الحديث له شواهد يرتقي بها للاحتجاج، والله أعلم.
وللترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ آتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (3540)، والطبراني في الأوسط (4305)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قلت: فيه كثير بن فائد ليس بالقوي، والحديث اختلف في رفعه ووقفه، ولكن له شاهد من حديث أبي ذر الغفاري، أخرجه مسلم في صحيحه (2687) بلفظ:«وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» .
(2)
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله. الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله. الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام. الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: «لا إله إلا الله» ، وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان. الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل (لا إله إلا الله).
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه. العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسموات.
الحادية عشرة: أن لهن عمارًا. الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافًا للمعطلة.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان:«فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله» أن ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحًا منه. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: «على ما كان من العمل» . لا
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان. العشرون: معرفة ذكر الوجه.
(الشرح)
هذا هو الباب الثاني في الكتاب، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: ذِكرُ الفضائل التي تحصل لمن وحّد الله، ولذا قال:«فضل التوحيد» .
وقوله: «وما يكفر من الذنوب» : أي ماذا يُكفّر من الذنوب، وأنَّه يكفر الذنوب كلها، وبهذا تكون (ما) موصولة، أو يكون المعنى: بيان أن التوحيد يكفر الذنوب، فالمعنى: فضلُ التوحيد وتكفيرُه الذنوبَ، فيكون ذكر تكفير الذنوب مِنْ عطف الخاص على العام، لأهميته، وإلا فهو من الفضائل، وعليه
فيجوز في (ما) وجهان:
أ. أن تكون موصولة، ويكون العائدُ محذوفًا، أي: بابُ التوحيدِ والذي يكفِّرُه من الذنوب.
ب. ويجوز أن تكون مصدرية، أي: بابُ التوحيد، وتكفيره الذنوب.
ومناسبة الباب لما قبله: أنَّه لما ذكر معنى التوحيد، وكانت الأنفس لها تشوق وتشوف إلى معرفة المعاني، ونيلِ الفضائل وتحصيلها، ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب؛ ترغيبًا فيه، وتحذيرًا من الشرك.
المسألة الثانية: ذكر المصنّف في الباب آيةً وأربعة أحاديث، يتبيّن منها فضائل التوحيد.
أوّل الفضائل: أنَّ الله يجعلُ الأمنَ التامَّ لمن وحّد الله التوحيد التام، ويكون نقصُ الأمنِ عليه بقدر نقص التوحيد عنده.
* واستدل على هذا: بقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام، الآية (82)].
فأفادت الآية: أنَّه كلما نقص التوحيد بوقوع المرء في شيء من الظلمِ، نقصَ الأمنُ في حقّه في الدنيا وفي الآخرة، والظلم له صورٌ يجمعها ثلاثة:
1) ظلم العبد لنفسه بالشرك، وهو أعظمُ الظلم، وهو الذي ورد فيه حديث ابن مسعود رضي الله عنه:«أنَّ الصحابة استعظموا هذه الآية، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان، الآية (13)]»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (6937)، ومسلم (124).
2) ظلم العباد في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم.
3) ظلم النفس بما دون الشرك، كالمعاصي.
ثاني الفضائل: أنَّ الله يُدْخِل الموحِّدَ الجنّة وإنْ عمل ما عمل، فيدخل الجنة وإن عُذِب على بعض ذنوبه، إما أن يدخل الجنة دخولًا أوليًا من أوّل وهلة، أو يدخلها بعدما يمحص، فمآل الموحد إلى الجنة.
* واستدل على هذا: بحديث عبادة بن الصامت، وفي آخره:«أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ»
(1)
.
* وقوله: «عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» : أي وإن كان عنده ذنوبٌ وتقصير، ما لم يكن الشركَ الأكبر، فهذا أخرجته النصوص الأخرى، كقوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر، الآية (65)].
ثالث الفضائل: أنَّ الله يُحَرِّمُ الموحّدين على النار، واستدل بحديث عتبان رضي الله عنه:«فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لا إله إلّا الله يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ» .
وهذا الحديث له تتمة، وهو في خبر عتبان بن مالك رضي الله عنه: «حين سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته فيتخذه مصلى، فعلم مَنْ حول عتبان بقدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم عنده فاجتمعوا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ، أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، قَالَ: قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّمَا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصيحَتَهُ لِلْمُنَافِقِينَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، يَبْتَغِى بِذَلِكَ
(1)
أخرجه البخاري (3435).
وَجْهَ اللَّهِ»
(1)
.
تنبيه: واعلم أنَّ التحريم على النار لأهل التوحيد، يقال فيه أمران:
1.
مَنْ كان من أهل التوحيد وهو تائب من خطاياه، فيحرم على النار مطلقًا، وقد يلحق به من قالها ولم يُصِرَّ على معصيةٍ، فيُرجى أن يغفر الله ذنوبه.
2.
مَنْ كان من أهل التوحيد وهو مُصِرٌّ على الكبائر، فيحرم على النار حُرمةَ تأبيد، فلا يخلد فيها، وأما مجرد الدخول للنار فهو تحت المشيئة، وقد دلّت النصوص الأخرى على أنَّ الله قد يُعَذِّب الموحّد ببعض ذنوبه، لكن تعذيبه لا يدوم، بخلاف المشرك والكافر بالله تعالى.
وحينها يمكن القول بأن من يعذَّب ممن يقول: لا إله إلا الله، إما أنه لم يقلها بصدق ويقين تامّ، وإما أنه قالها واكتسب بعد ذلك سيئاتٍ رجحت على حسناته، وأضعفت صدقه ويقينه
(2)
.
رابع الفضائل: أنَّ الموحِّدَ يثقُل توحيده في الميزان، ويرجح بما عنده من سيئات إذا قوي توحيده.
* واستدل المصنف على هذا: بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ مُوسَى عليه السلام: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى: لا إله إلّا الله، قَالَ: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا، قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ وَ (لا إله إلّا الله) فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لا إله إلّا الله» ، وهذا يدلّ على عظم شأن هذه الكلمة.
(1)
جزء من حديث أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33).
(2)
انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 354).
(1)
.
وإذا كانت الأعمال تتفاضل، فإنَّ أشرفها كلمة التوحيد إذا قالها صاحبها صادقًا.
وفي هذا يقول ابن القيم: «الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنّما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرَّجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وتأمّل حديثَ البطاقة التي توضع في كفّة ويقابلها تسعة وتسعون سجلًّا، كل سجل منها مدّ البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات فلا يعذب، ومعلوم أنَّ كل موحِّدٍ له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السرّ الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات
(1)
أخرجه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (2/ 213)، وابن حبان (225)، والطبراني في الأوسط (4725)، والحاكم (9)، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم.
انفردت بطاقته بالثقل والرزانة»
(1)
.
خامس الفضائل: أنَّ التوحيد سبب لغفران الذنوب، وأسعد الناس بشفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم هم الموحدون.
* واستدل المصنف لهذا: بحديث أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ آتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» .
ولكنّ المغفرة هنا مشروطة بأن لا يكون مع الإنسان شيء من الشرك صغيره وكبيره، ولذا قال:«لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا» ، قال ابن قاسم:«فمغفرة الذنوب مشروطة بالسلامة من الشرك قليله وكثيره، فالذي لا يسلم من الأكبر لا تنفعه أصلًا، والذي مات ومعه الأصغر تضعف معه، فلا يقوى قولها على تكفير السيئات، والذي معه البدع والمعاصي ينقص ثوابها»
(2)
.
* الخلاصة: أن في توحيد الله عز وجل من الفضائل العظيمة، والمزايا الشريفة ما تبين ذكره في الباب، وكل هذا يدعو إلى العناية به، والحرص عليه، والحذر مما يناقضه.
(1)
(2)
حاشية كتاب التوحيد (36).
3 - باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل، الآية (120)]. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون، الآية (59)].
عن حصين بن عبد الرحمن قال: «كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى اَلْكَوْكَبَ اَلَّذِي اِنْقَضَّ اَلْبَارِحَةَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَّا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ، قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اِرْتَقَيْتُ، قَالَ: فَمَا حَمَلكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ اَلشَّعْبِيُّ، قَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمْ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ أَنَّهُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ، قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ اِنْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا اِبْنُ عَبَّاسٍ عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ اَلْأُمَمُ فَرَأَيْتُ اَلنَّبِيَّ وَمَعَهُ اَلرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ اَلرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ اَلنَّاسُ فِي أُولَئِكَ- فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمْ اَلَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمْ اَلَّذِينَ وُلِدُوا فِي اَلْإِسْلَامِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: هُمُ اَلَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مُحْصَنٍ، فَقَالَ: اُدْعُ اَللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: اُدْعُ اَللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (6541 مختصرًا)، ومسلم (220)، وأخرجه البخاري أيضًا (5705)، من طريق عامر الشعبي، فرواه عن عمران بن حصين، بدلًا من بريدة بن الحصيب، قال الحافظ في الفتح (10/ 156): والتحقيق أنه عنده عن عمران وعن بريدة جميعًا.
(2)
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد. الثانية: ما معنى تحقيقه؟
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يكن من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمّة بالكمية والكيفية. العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام. الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف؛ لقوله: «قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا» . فعُلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: «أنت منهم» علم من أعلام النبوة. العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
(الشرح)
هذا هو الباب الثالث في الكتاب، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب، ومناسبته للتوحيد ولما قبله.
حينما تكلم المصنّف رحمه الله في المقدمة عن التوحيد ومعناه، ثم تكلم في الباب الأوّل عن فضل التوحيد، ذكر هنا أمرًا له ارتباط بالباب قبله، وهو من فضائل التوحيد، يناله من حقق التوحيد، وهو أنَّه يدخل الجنة بغير حساب، وهذا فضلٌ يطمح إليه كل مسلم.
وليس يخفى على الموحد الحقّ أنه إذا ما أراد تحقيق التوحيد، والقيام به على أتمّ فسيؤذى، ويبتلى من الناس، ولكنّ كلَّ هذا العناء يهون إذا استشعر المسلم الموحدُ ثمرة تحقيق التوحيد.
فإن قيل: فما معنى تحقيق التوحيد، وبأي شيء يكون تحقيقه؟
* المراد بتحقيقه: تنقيتهُ وتصفيتهُ وتخليصه من الشوائب والخوارم التي تؤثر فيه، وإذا عرفت أنَّ التوحيد هو الشهادتان، فإنَّ أهل العلم يقررون أنَّ تحقيق الشهادتين يكون بأمور ثلاثة:
أولًا: تركُ الشركِ صغيره وكبيره، وهذا أهم الأمور التي يحقق بها المسلم توحيده.
ثانيًا: اجتنابُ البدع كلها.
ثالثًا: تركُ الذنوب والمعاصي؛ لأنَّ الوقوع في الذنب ينشأ من مرضٍ في
القلب كما قررّ ذلك ابن تيمية، وهذا ناشئ من ضعف تعظيم الله في القلب، إذ لو عظّم اللهَ لما عصاه، ولذا فبقدر تعظيم العبد لربّه تكون طاعته له، وقد أخبر الله أنَّ العلماء هم الذين يخشونه فقال (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، والمراد بهم العلماء به وبأوامره، حينما عرفوه عظموه فلم يعصوه.
إذا عرفت هذا، فإنَّ من أتى بهذه الأمور، فهو محققٌ للتوحيد.
وبعض أهل العلم يزيد أمرًا في تحقيق التوحيد، وهو أمرٌ يتفاضل فيه الناس، وهو أن يكون القلب متوجهًا إلى الله بكُلِّيته، ليس فيه التفاتٌ إلى غير الله، وهذه منزلةٌ يصل لها من كان عَمله وقوله، ونطقه وسكوته، وسائر أعماله يبغي بها الله سبحانه، وليس في قلبه التفاتٌ طرفةَ عينٍ إلى غيره جل جلاله.
المسألة الثانية: ذكر المصنّفُ في البابِ مُستدلًا على ما بوبّ عليه قولَه تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل، الآية (120)]. وهي في الثناء على إبراهيم عليهم السلام، حيث وُصِف بأنَّه كان أمّة، وأنَّه قانت، وأنَّه حنيف، وأنَّه لم يكن من المشركين.
* فأما كونه أمّةً: فالمعنى أنَّه كان قدوةً وإمامًا معلمًا للخير، فهو إمامٌ متبوع، وهو أمّةٌ في رجلٍ؛ لأنَّه حقق التوحيد.
* وأما كونه قانتًا: فالقانت هو الخاشع المطيع المداوم على الطاعة لا يفتر عنها.
* وأما كونه حنيفًا: فالحنيفُ قيل هو المائل عن الشرك.
وقال ابن القيم: «هو المقبل إلى الله المعرض عما سواه، ومَن فسره بالمائل
(1)
(1)
كالزجاج في معاني القرآن (3/ 222)، وابن فورك في تفسيره (3/ 255)، والقشيري في لطائف الإشارات (515).
فلم يفسره بنفس موضوع اللفظ، وإنما فسّره بلازم المعنى، فإنّ الحَنف: هو الإقبال، ومن أقبل على شيء مال عن غيره»
(1)
.
وإبراهيم عليهم السلام هو إمام الحنفاء، ودينه الحنيفيّة؛ لأنَّه حنف ومال عن الأديان وعبادة الأوثان إلى دين الله وحده، وحكى الله في القرآن قوله:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام، الآية (79)].
وأما كونه لم يكن من المشركين: فهي توكيد لما سبق قبلها، فإبراهيم لم يكن من المشركين، بل هو موحّدٌ خالصٌ من شوائب الشرك، وقد خالف المشركينَ وفارقهم بقوله وفعله وبدنه، حيث إنَّه أنكر على قومه شِركَهُم، وحين أبوا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله، وقال:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف، الآية (26)]، فتبرأ من العابد قبل المعبود، وهذه حقيقة التوحيد:(أن تتبرأ من كل معبود دون الله، وكلِ من عبد مع الله غيره) وإبراهيم عليهم السلام حين بعثه الله كان الناسُ على الشرك والوثنية بعيدين عن عبادة الله وإفراده بالعبادة، فاجتهد في دعوتهم بكل الوسائل، ومع ذلك اجتمعوا على حربه وأذيته، فصبر على ذلك، فضاقوا به ذرعًا، فألقوه في النار، فنجَّاه الله من كيدهم، ثم هاجر عن بلادهم، فهيأ الله له من يستجيب لدعوته.
والمقصود من الآية: أنَّ الله تعالى وصف إبراهيمَ خليله بهذه الصفات الجليلة، التي هي أعلى درجاتِ تحقيق التوحيد، وقد رغبنا في الاقتداء والتأسي به، كما قال:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة، الآية (4)]. فمن اقتدى به وحققّ التوحيد، فإنَّه يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.
(1)
جلاء الأفهام (ص 269).
ومعلومٌ أنَّه حينَ يُثني الله على عبدٍ من عباده، فإنَّ المقصود من ذلك أمران:
1 -
محبةُ الذي أثنى الله عليه.
2 -
الندب إلى الاقتداء بالصفات التي أثنى عليه بها.
المسألة الثالثة: استدل المصنّف للباب أيضًا بآية ثانية، وهي قوله:{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون، الآية (59)] وهي قد جاءت في مَعرِضِ آياتٍ وصفَ اللهُ فيها عباده الذين يسارعون إلى الخيرات وهم لها سابقون، فمن صفاتهم أنَّهم بربهم لا يشركون، فهم سالمون من الشرك صغيره وكبيره، وهذا هو تحقيق التوحيد.
المسألة الرابعة: استدل المصنّف للباب بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو ما رواه البخاري ومسلم، واللفظ له، من طريق حصين بن عبد الله بن عبد الرحمن قال: «كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى اَلْكَوْكَبَ اَلَّذِي اِنْقَضَّ اَلْبَارِحَةَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَّا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ
…
الحديث، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ».
* وقوله: «أَيُّكُمْ رَأَى اَلْكَوْكَبَ اَلَّذِي اِنْقَضَّ اَلْبَارِحَةَ؟» : الكوكبُ هو الشهابُ الذي يُرمى به الشياطين الذين يسترقون السمع، وانقضاض الكوكب: سقوطه، وهو أمرٌ مشاهدٌ.
* وقوله: «اَلْبَارِحَةَ» : هي أقربُ ليلةٍ مَضت، قال ثعلب، وغيره من أهل اللغة: يقال قبل الزوال: رأيتُ الليلة، ويقال بعد الزوال: رأيتُ البارحة، وهي مشتقة من برح إذا زال
(1)
.
(1)
انظر: المغرب لأبي الفتح المُطَرِّزِىّ (ص 39)، والمصباح المنير (1/ 42).
* وقوله: «فَقُلْتُ: أَنَا» : القائل حُصين، لأنه كان مستيقظًا في الليل.
* وقوله: «أَمَّا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ» : خاف أن يَظُنّ الحاضرون -وقد أخبر عن رؤيته للكوكب- أنَّه كان يصلي من الليل، فدفع ذلك بقوله: لم أكن إذ سهرت أتهجد، وفيه بُعد السلف عن الرياء وأن يثنى عليهم بما لم يعملوا.
* وقوله: «وَلَكِنِّي لُدِغْتُ» : ذكر السبب في كونه كان مستيقظًا أنَّه لدغته عقرب أو نحوها.
* وقوله: «قُلْتُ: ارْتَقَيْتُ» : أي طلبت من يرقيني.
* وقوله: «فَمَا حَمَلكَ عَلَى ذَلِكَ؟» : أي ما دليلك وما مستندك في هذا الفعل، وفيه عنايتهم بالدليل في كل أمورهم.
* وقوله: «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ»
(1)
: العين: هي إصابة العائن غيرَه بعينه، والحُمة: بالضمّ لدغةُ إحدى ذواتِ السموم، كالعقرب ونحوها.
@ومعنى الحديث، كما ذكر الخطابي:«أنَّه لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة» . ا. هـ
(2)
، وتجوز في غيرهما، لكنها فيهما أنفع.
(1)
لفظة «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ» موقوفة على بريدة كما في الصحيحين، وقد رواه ابن ماجه (3513) عنه مرفوعًا، ورواه أحمد (4/ 438)، وأبو داود (3884) والترمذي (2057)، عن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعًا، قال الهيثمي في المجمع (5/ 111):«رجال أحمد ثقات» ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7496).
وللحديث شواهد أخرى بلفظه عن أنس. علل الحديث لابن أبي حاتم (6/ 329) -، وميمونة -علل الحديث لابن أبي حاتم (6/ 199) -، بمجموعها يرتقي للاحتجاج به.
(2)
انظر: أعلام الحديث للخطابي (3/ 1112)، ونقله عنه: القاضي عياض في إكمال المعلم (1/ 606)، والنووي في شرح مسلم (3/ 93)، وابن قرقول في مطالع الأنوار (3/ 467).
وفيه إثبات العين، وفي حديث ابن عباس:«الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرَ، سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ»
(1)
، ولا يلزم أن يكون العائن حاسدًا، فقد يعين الإنسان نفسه وأولاده، وقد قال الله تعالى في شأن صاحب الجنتين:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الكهف، الآية (39)]. مع أنَّه يدخل جنته، ولذا قال بعض السلف:«من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده، فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله»
(2)
وروي عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة:«أنَّه كان إذا رأى شيئًا يعجبه أو دخل حائطًا من حيطانه قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله»
(3)
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (2188).
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (5/ 158)، وقال ابن كثير: هذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة، وقد روي فيه حديث مرفوع، أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، كما في الدر المنثور (5/ 391).
(4)
قرر العلماء أن دفع شرّ العائن له حالتان: أ- قبل وقوعه والإصابة بالعين، يكون بأمور:
1 -
التعوذ بالله من شرّه. 2 - الصبر عليه.
3 -
فراغ القلب من الاشتغال به. 4 - الإحسان إليه ما أمكن.
5 -
الصدقة.
6 -
تقوى الله، والتوكل عليه، ومعرفة أنَّ الأسباب كلها بيد الله.
ب- بعد الاصابة بالعين، يكون:
1.
بالرقية.
2.
الاستغسال: لحديث ابن عباس رضي الله عنه: «وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» أخرجه مسلم (2188)
وطريقته: أن يتوضأ العائن، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه ويصب على المصاب ويشرب منه، وهكذا صُنِع في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم لسهل بن حنيف رضي الله عنه (أخرجه مالك في الموطأ (2/ 939)، وعبد الرزاق في المصنف (19766)، وأحمد (3/ 486)، وابن ماجه (3509)، والنسائي في الكبرى (7618)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2895)، والطبراني في الكبير (6/ 78).
3.
أن يأخذ شيئًا مما يلي بشرته من ثيابه كاللباس على نصفه الأعلى، أو طاقيته ونحوها، ويصبّ عليها ماءً ويرش به المصاب أو يشربه.
* وقوله: «قَدْ أَحْسَنَ مَنِ اِنْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ» : لأنَّه أخذ بما بلغه من العلم، فهو محسن.
* وقوله: «عُرِضَتْ عَلَيَّ اَلْأُمَمُ» : في رواية الترمذي والنسائي أنَّ العرض كان ليلة الإسراء والمعراج، وقيل:«كان في المنام»
(1)
.
* وقوله: «اَلرَّهْطُ» : الجماعة دون العشرة، والمراد: أن بعض الأنبياء لا يتبعه إلا الرهط، وبعض الأنبياء وليس معه إلّا رجلٌ أو اثنان، وبعضهم ليس معه أحدٌ، فالأنبياء متفاوتون في الأتباع كثرةً وقِلّةً، وليست هي القياس في إصابة الحقّ.
* وقوله: «وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ» : في هذا أعظم عزاء للدعاة إلى الله، حين لا يستجب لهم الناس أو يقلّ المستجيبون، فلهم أسوة بالأنبياء ما دام منهجهم سليمًا.
* وقوله: «سَوَادٌ عَظِيمٌ» : رُفِع لي أشخاصٌ كثيرةٌ لا أدري من هم، ولم أميزهم لبعدهم.
* وقوله: «فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي» : إنما ظنّ ذلك لِما أوحي إليه، واطّلع عليه من كثرة أمّته.
(1)
الفتح (407/ 11).
وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف أمّته، وقد أخبر بأنَّه يعرفهم من أثار الوضوء: لأنَّ الذين رآهم كانوا من بُعد، فلم يميز أعيانَهم، فلو قربوا عرفهم.
* وقوله: «وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ» : من ضمن هذه الأمّة سبعون ألفًا يدخلون الجنّة بلا حساب ولا عذاب؛ لتحقيقهم التوحيد، وهؤلاء من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ورد زيادة على السبعين ألفًا، فقد ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«فَاسْتَزَدْتُ، فَزَادَنِي مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا»
(1)
.
* وقوله: «فَخَاضَ اَلنَّاسُ فِي أُولَئِكَ» : أي تباحثوا وتناقشوا في هؤلاء السبعين ألفًا، بأي شيء وصفةٍ نالوا هذه الدرجة والمنزلة.
وفيه: إباحة المناظرة في أمور العلم، ولو كان بغير علم مادام لم يجزم فيه بيقين.
* وقوله: «هُمُ اَلَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ» : أي لا يطلبون من أحدٍ أن يرقيهم، وهذا من تمام توكّلهم على الله، واستسلامِهم لقضائه، وصبرهم بل وتلذذهم بالبلاء.
وقد ورد عند مسلم في صحيحة لفظة: «لا يرقون» وهي خطأ من وجهين:
1 -
من جهة الإسناد: حيث إنَّها شاذة، تفرد بها سعيد بن منصور عن هشيم،
(1)
أخرجه أحمد (3/ 359)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 404): رجاله رجال الصحيح.
وقال ابن حجر: إسناده جيد، والحديث في إسناده ضعف، لكن له شواهد، وورد في المسند أيضًا «مع كل واحد سبعين ألفًا» ، لكنه ضعيف، فيه راويان، أحدهما ضعيف، والآخر لم يسم.
ورواه عن هشيمٍ جماعة غير سعيد، ولم يذكروا هذه اللفظة
(1)
.
2 -
من جهة المتن والمعنى: فإنّ معناها أنَّهم لا يرقون أنفسهم ولا غيرهم، وهذا خلاف ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من فعله، فإنَّه كان يرقي نفسه، ومن قوله، حيث قال:«مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ»
(2)
، «لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ»
(3)
، وقد رقى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه، ورقاه جبريل، بدون طلب منه
(4)
.
*فإن قيل: هل الرقية ممنوعة إذن؟ وهل يخرج صاحبها من السبعين ألفًا؟
أ- إن كانت بغير طلبٍ فجائزة، وقد رقى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولا تنافي كمال التوكل.
ب- إن كانت بطلبٍ فجائزةٌ، وهي تنافي كمال التوكل؛ لأنَّه غالبًا يلتفت القلب إلى الرقية مع أنَّها سبب، وهذا مُخِلٌّ بكمال التوكل.
وقد قيل: إنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نبَّه على الاسترقاء وكذا الاكتواء؛ لأنَّ القلوب غالبًا تتعلق بهما، ولكن إذا استرقى أو اكتوى وقلبه معلق بالله فإنَّه لا يخرج
(1)
انظر: كلام الألباني في الضعيفة (8/ 169).
(2)
أخرجه مسلم (2199) من حديث أَبي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: لَدَغَتْ رَجُلًا مِنَّا عَقْرَبٌ، وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرْقِي؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: فذكر.
(3)
أخرجه مسلم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.
(4)
أخرجه مسلم (2186) من حديث أبي سعيد، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، اشتكيت؟ فقال:«نعم» قال: «باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك» .
من السبعين ألفًا؛ لأنَّ الحديث معللٌ بِعلّةٍ وهي: «وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .
لكن عقّب على هذا بعض أفاضل أهل العلم بقوله: «هذا من مضائق الأمور، التي لا تكاد تحصل لأحدٍ إلّا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّه قلّما يُرقى شخصٌ أو يُكوى إلّا ويلتفتُ المرقي والمكوي لهذا الأمر» .
• أما ما يتعلق بالراقي نفسه: فإنه محسنٌ لغيره برقيته، وليس هو كالمسترقي الذي طلب من غيره والتفت قلبه لذلك، وعلى هذا فلا يخرج الراقي من السبعين ألفًا، وقد سبق التنبيهُ على شذوذ لفظة:«لا يرقون» .
* وقوله: «وَلَا يَكْتَوُونَ» : أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم، وكذا لا يكوون أنفسهم، وهذا من تمام توكلهم واستسلامهم لقضائه عز وجل.
وقد ورد في الاكتواء عدةُ أحاديثَ، منها: حديثُ جابر رضي الله عنه: «بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه طَبِيبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ»
(1)
.
وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ، فَفِي .. أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (2207).
(2)
أخرجه البخاري (5702)، ومسلم (2205).
(3)
زاد المعاد (4/ 66).
* وقوله: «وَلَا يَتَطَيَّرُونَ» : أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، وسيأتي الكلام على الطيرة في باب مستقل، وأصله من التشاؤم بالطير ولكنه أعمّ، فهو التشاؤم بالمرئيات أو المسموعات، أو الزمان أو المكان المعين، أو الطيور ونحوها، والطيرة كانت موجودة عند العرب، ويأتي بيانها في بابها.
* وقوله: «وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» : هذا الأصلُ الجامع الذي تفرّعتْ عنه هذه الأعمال والخصال، وهو التوكلُ على الله وصدق الالتجاء إليه.
وليس معنى الحديث أن الأخذَ بالأسبابِ يُنافي التوكل، بل إنَّ الأخذ بالأسباب أمَرَ اللهُ به، وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتداوي، وقال:«تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً»
(1)
، ولذلك فالتوكّل صدق اللجأ إلى الله بدفع الضرّ وجلب النفع مع فعل السبب.
فإن قيل: فكيف نجمع بين كون الأخذ بالأسباب مطلوب، وبين: أن ترك طلب الرقية والاكتواء من التوكل، وفعلهما ينافي كمال التوكل؟
* أما الاسترقاء: فإنْ سببه خفي، فيؤدي ذلك إلى التفات القلب إلى الراقي.
* وأما التداوي: فإنَّه يختلف عنه من وجهين.
1.
أنَّ التداوي سببه ظاهر، وهو الدواء المشاهَد، بخلاف الرقية.
2.
أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر بالتداوي، ولو كان قادحًا في التوكّل لما أمر به صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه أبو داود (2015 - 3855)، والترمذي (2159)، وأحمد (4/ 278)، والنسائي في الكبرى (7511 - 7512)، وابن حبان (6061)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
* وأما الكيّ: فسببه ظاهر كذلك، لكن لم يلحق بالتداوي؛ لأنَّ الشرع نهى عنه وكرهه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم أثنى على من تركه، وقال:«وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» .
* وقوله: «فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مُحْصَنٍ، فَقَالَ: اُدْعُ اَللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ» ، وفي رواية البخاري:«اللهم اجعله منهم» ويجمع بين الروايتين بأنَّه سأل الدعاء أولًا فدعا له، ثم استفهم هل أجيب؟ فأخبر.
* وقوله: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» : قال بعضهم: كأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم علم أنَّ هذا الرجلَ لا يصل إلى هذه المرتبة فعرّض له بالكلام، ولم يقل له: لست منهم، وقال ذلك أيضًا: سدًّا للذريعة؛ لئلا يتتابع الناس، فيسأل من ليس أهلًا فَيُرَدّ، فيعرفه الحاضرون.
ولا يصح القول بأنَّه منافق؛ لأنَّه قلَّ أن يصدُرَ هذا السؤال إلّا عن قصد صحيح، ويقين بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف يصدر ذلك من منافق؟
* والخلاصة: أنَّ من صفة هؤلاء الذين يدخلون الجنّة بلا حساب أنَّهم أهل توكل وتوحيد، ولذا فهم لا يسترقون ولا يكتوون، ولو كان قد وقع لهم شيء فإنَّهم يتوبون إلى الله من طلب مثل هذه الأمور، وقد أخبر سعيدُ بن جبير حصينًا بهذا الحديث -وقد كان يسترقي- ليتوب منه، فدل على أن من تاب من هذه الأمور يرجى له أن يدخل في زمرة السبعين ألفًا، والله أعلم.
*
4 - باب الخوف من الشرك
وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء الآية (48، 116)].
وقال الخليل عليهم السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم الآية: (35)].
وفي الحديث: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ: الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، فسئل عنه، فقال: الرِّيَاءُ»
(1)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (5/ 428 - 429)، والبيهقي في الشعب (6412)، والبغوي في شرح السنة (4135)، من حديث محمود بن لبيد، وجوّد إسناده المنذري، وحسنه ابن حجر، وصححه الألباني في الصحيحة (951).
(2)
أخرجه البخاري (4497).
ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
هذا الباب الذي عقده المصنّف هو بعنوان الخوف من الشرك، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب، ومناسبته لما قبله.
أراد المصنّفُ بالبابِ أن يذكر النصوصَ التي تُبيِّنُ وجوبَ الخوفِ من الشرك والتحذيرَ منه، وما يترتب على الوقوع فيه من الخسران الأبدي، والعذاب السرمدي؛ لأنَّه أعظم ذنبٍ عُصِيَ اللهُ به، فينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره، ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه؛ لئلا يقع فيه، فما خاف الشركَ إلا مؤمنٌ، وما أَمِنَهُ إلّا جاهل.
ومناسبة الباب للتوحيد ولما قبله: أنَّه لما ذكر المؤلف التوحيد ومعناه وفضله وثواب من حققه، ناسب أن يذكر الخوف من ضدّه وهو الشرك، وقد قال المتنبي:
(1)
أخرجه مسلم (93)، وله شاهد من حديث أنس أخرجه البخاري (129).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك. الثانية: أن الرياء من الشرك. الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يُخاف منه على الصالحين. الخامسة: قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أن من لقيه لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم، الآية (36)].
العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
وبضدها تتميز الأشياء
(1)
المسألة الثانية: الشركُ لغةً: بمعنى: الحصّةِ والنصيب، وكونِ أحد الشيئين فأكثر خليطًا مع آخرَ في أمرٍ ما، حسّيًا كان أو معنويًا.
والشركُ جمعه أشراك، كشبر وأشبار، والإشراك إفعالٌ، وهو جعل الشيء خليطًا مع آخر في حصة ونصيب
(2)
.
وأما في الشرع فله معنيان: عامٌ وخاصٌ.
1 -
المعنى العام: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائصه سبحانه، وبعبارة أخرى: هو تشبيه المخلوق بالخالق عز وجل
(3)
.
(1)
هذا عجز بيت، وصدره: ونذَيمهم وبهم عرفنا فضله. انظر: الحماسة المغربية (1/ 473)، والوساطة بين المتنبي وخصومه (ص: 278).
(2)
انظر: تهذيب اللغة (10/ 17 - 18)، لسان العرب (10/ 448 - 449)، القاموس المحيط (3/ 308).
(3)
ووجه هذا يتضح بما ذكره الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، حيث قال: من خصائص الألوهية: التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعلق الدّعاء والخوف والرّجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى، وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورا، فضلًا عن غيره شبيهًا لمن الأمر كله له.
ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب- كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلًا وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله.
ومن خصائص الألوهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه. منهاج التأسيس والتقديس، لعبد اللطيف بن عبد الرحمن (ص: 285).
ويندرج تحته ثلاثة أنواع:
الأول: الشرك في الربوبية: وهو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الربوبية، أو نسبةُ شيءٍ منها إلى غيره، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير لهذا الكون ونحو ذلك، قال تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر الآية: (3)]
(1)
.
(1)
وللشرك في الربوبية نوعان، ذكرهما ابن القيم، الأول: شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: وما رب العالمين؟ وقال لهامان: ابن لي صرحًا، لعلي أطلع إلى إله موسى، وإني لأظنه من الكاذبين، والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقرًّا بالخالق سبحانه وصفاته، ولكنه عطل حق التوحيد.
ومن هذا: شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، ولا ها هنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق.
ومن هذا: شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسمًا ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه؛ إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهًا اخر، ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهًا وأمه إلهًا، ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة.
ومن هذا: شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ولهذا كانوا أشباه المجوس. الداء والدواء (1/ 299).
الثاني: الشرك في الأسماء والصفات: وهو تسوية غير الله بالله في شيء منها، والله تعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى الآية: (11)]
(1)
.
الثالث: الشرك في الألوهية: وهو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الألوهية، كالصلاة والدعاء والاستغاثة والذبح ونحو ذلك، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة الآية: (165)].
2 -
المعنى الخاص: وهو أن يتخذ للهِ ندًا يدعوه كما يدعو الله، ويسأله الشفاعة كما يسأل الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويحبّه كما يحب الله، وهذا هو المعنى المتبادر من كلمة «الشرك» إذا أُطلِقت في القرآن أو السنة.
* وينقسم الشرك إلى قسمين: أكبر، وأصغر.
أ) الشرك الأكبر: وهو اتخاذ ندٍّ مع الله، يُعبد كما يُعبد الله، وهو ناقلٌ من ملة الإسلام محبطٌ للأعمال، فمثاله في الاعتقادات: اعتقاد أنَّ غير الله يستحق العبادة، ومثاله في الأعمال: الذبح لغير الله، ومثاله في الأقوال: دعاءُ غيرِ
(1)
وللشرك في الأسماء والصفات نوعان:
الأول: شرك مَنْ شبّه الله بخلقه، كمن يقول: له يدٌ كيدي، أو استواء كاستوائي، أو سمعٌ كسمعي أو نحو ذلك، وهذا هو شرك المشبهة.
وثانيهما: تسمية الآلهة بأسماء الله تعالى، كتسمية المشركين آلهتهم بأسماء مشتقة من أسماء الله تعالى، وهو معنى قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
الله فيما لا يقدر عليه إلّا الله
(1)
.
ب) الشرك الأصغر: وحدّه بعض العلماء بأنه كل ما كان ذريعةً إلى الأكبرِ
(1)
ومن أمثلة الشرك الأكبر وصوره:
1) شرك الدعوة -الدعاء-: قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
2) شرك النية والإرادة والقصد: وذلك أن ينوي بأعماله الدنيا أو الرياء أو السمعة، إرادة كلية كأهل النفاق الخُلَّص، ولم يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، فهو مشركٌ الشرك الأكبر، قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15 - 16].
3) شرك الطاعة: وهو مساواة غير الله بالله في التشريع والحكم، فالتشريع والحكم حق جعله الله لنفسه قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يُوسُف: 40]، وقال سبحانه في هذا النوع من الشرك:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشّورى: 21]، فمن ادعى أن لأحدٍ من الناس سواءً -علماء أو حكامًا أو غيرهم- حق التشريع من دون الله أو مع الله، فقد أشرك مع الله إلهًا آخر في حق الله وحده، وكفر بما أنزل من عند الله، قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
وروى ابن جرير في «تفسيره» من طريق أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ: «لَا، كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شيئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شيئًا حَرَّمُوهُ» وقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَابن عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُمَا فِي تَفْسيرِها:«إِنَّهُمُ اتَّبَعُوهُمْ فِيمَا حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا» .
4) شرك المحبة: والمراد محبة العبودية المستلزمة للإجلال والتعظيم والذل والخضوع، التي لا تنبغي إلا لله وحده لا شريك له، ومتى صرف العبد هذه المحبة لغير الله فقد أشرك به الشرك الأكبر، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، ويأتي ذكر ما يتعلق بالمحبة في بابٍ خاص.
ووسيلةً للوقوع فيه، ونهى عنه الشرع وسمّاه شركًا، ولا يُخرِجُ من المِلّة
(1)
.
وقد يكون في الأعمال، ومن ذلك يسير الرياء كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ: الشركُ الْأَصْغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشركُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ» .
وقد يكون في الأقوال: ومنه الحلف بغير الله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:«مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشركَ»
(2)
.
وقد يصيرُ الشركُ الأصغرُ شركًا أكبر، بحسب ما يقوم بقلب صاحبه
(3)
(4)
.
المسألة الثالثة: يجب على كل مسلمٍ أن يخافَ من الوقوع في الشرك،
(1)
وهذا تعريف أغلبي، وإلا فقد يندّ منه بعض المسائل مما يكون وسيلة للشرك الأكبر، ولكنه ليس بشرك، وذلك كالصلاة لله عند القبر، فهذا بدعة، ونحو ذلك.
(2)
أخرجه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) من حديث ابن عمر، وسيأتي تخريجه.
(3)
والشرك الأصغر على نوعين:
النوع الأول: الشرك الظاهر: وهو ما يقع في الأقوال والأفعال، فشرك الألفاظ كالحلف بغير الله تعالى، فقد سمع ابنُ عُمر رجلًا يحلفُ: لا والكعبة، فقال له ابنُ عمر: إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ حلَفَ بغيرِ الله فقد أشركَ» ، وشرك الأفعال كلبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه، فمن اعتقد أن هذه أسباب لرفع البلاءِ ودفعه فهو شرك أصغر، وأما إن اعتقد أنها تدفع البلاء بنفسها فهذا شرك أكبر.
النوع الثاني: الشرك الخفي: هو الشرك في النيات والمقاصد والإرادات، كالرياءِ والسمعة كمن يعمل عملًا مما يتقرب به إلى الله، فيُحسن عمله من صلاةٍ أو قراءةٍ؛ لأجل أن يمدح ويثنى عليه.
(4)
انظر: مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد. (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول)(ص: 295)، فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 516) نور التوحيد وظلمات الشرك في ضوء الكتاب والسنة للشيخ سعيد بن وهف القحطاني (ص: 44).
وأن لا يأمن من ذلك، وأورد المصنف قول الخليل عليهم السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم الآية: (35)]، أي: اجعلني وبَنيَّ في جانب، والأصنام في جانب، وباعد بيننا وبينها.
فإذا كان إبراهيم عليهم السلام وهو سيدُ الحنفاءِ، ومَن حارب الوثنية وأوذي في ذلك أذى كبيرًا، وهاجر من بلده إلى بلد آخر دعوة للتوحيد، ومع هذا يخاف على نفسه الوقوع في الشرك، ويسأل الله أن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره؟! لا شك أنَّه أولى بالخوف من الشرك وعدم الأمن من الوقوع فيه، ولهذا قال إبراهيم التيمي:«ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!»
(1)
.
وبهذا تعرف خطأ بعض الناس وجهلَهم حينما قالوا: إن الشرك بعيدٌ منا، ونحن أهلُ توحيد، فوقعوا في الشرك وهم غافلون.
فإن قيل: فما المراد بقوله (وبَنيّ) وهل استجاب الله دعاء إبراهيم عليهم السلام بذلك؟
* قيل: المراد بهم من كان مِنْ صُلبِه وهم إسماعيل وإسحاق، واختاره صاحب التيسير
(2)
، وعليه فإنَّ الله استجاب دعاءه.
* وقيل: المراد بهم من كان من ذريته وما توالد منهم، ورجحه العثيمين، وعليه فإنَّ الله استجاب في بعض ذريته دون بعض.
المسألة الرابعة: ساق المصنّف في الباب حديث محمود بن لبيد مرفوعًا:
(1)
تفسير الطبري (7/ 460).
(2)
هو الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، حفيد المؤلف، ولد عام (1200 هـ)، وقتله إبراهيم باشا عام (1233 هـ) حين استولى على الدرعية، وكتابه تيسير العزيز الحميد أول شرح لكتاب التوحيد.
«أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، فسئل عنه، فقال: الرِّيَاءُ» .
والمصنّف أورد الحديث مختصرًا، وتمامه:«قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عز وجل لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟» ، وفي هذا الحديث حذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّته من الشرك وخافه عليهم، مع أنَّ خطابه المباشر كان للصحابة وهم أفاضل الناس، ومع هذا خاف عليهم الشرك.
وأشدُّ ما خافه عليهم صلى الله عليه وسلم: الشرك الأصغر، الذي من صوره: الرياء.
والرياءُ: هو أن يأتي بالعبادة؛ ليراه الناس، فيمدحوه على عبادته.
وإنّما اشتد خوفُ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابِه من الشرك الأصغر وهو الرياء دون الأكبر؛ لأنَّ الداعي إلى الرياء أقوى، فهو أخوف ما يخاف على الصالحين، بخلاف الداعي إلى الشرك الأكبر؛ فإنَّه ضعيفٌ في قلوب المؤمنين الكاملين، وهذا لا يعني أن يأمن الإنسانُ على نفسِه من الشرك الأكبر، فقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه سيقع في أمته عبادة الأوثان
(1)
، فعلى المسلم أن يحذر من الشرك الأكبر والأصغر.
واعلم أنَّ الرياء أمره عظيم، ولا يأمن منه تمامًا إلّا الموفق، فالإخلاص عزيز، والنفس تحبّ العلو، ولا يتأتّى حجبها وترويضها إلّا بالعلم بالله والمجاهدة للنفس.
(1)
أخرجه البخاري (7116)، ومسلم (2906) من حديث أبي هريرة، قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الخَلَصَةِ» وَذُو الخَلَصَةِ: طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ.
وإذا كان حُبُّ الظهورِ داءً بُلي به الكثير، فإنَّ الرياء يقرب ممن أحبّ الظهور، وقد قال ابن القيم:«لَا يجْتَمع الْإِخْلَاص فِي الْقلب، ومحبة الْمَدْح وَالثنَاء والطمع فِيمَا عِنْد النَّاس، إِلَّا كَمَا يجْتَمع المَاء وَالنَّار، والضب والحوت»
(1)
.
والرياء: هو الشرك الخفي، وإنّما صار شركًا؛ لأنَّ فيه نوع إشراك في صرف العبادة، فالمرائي مراده من فعله نظر المخلوق إليه وثناؤه ومدحه، وإنّما صار خفيًا؛ لأنَّه يخفى عن الناس، وقد ورد عند مسلم:«أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
(2)
.
المسألة الخامسة: ساق المصنّف في الباب حديثي ابن مسعود، وجابر رضي الله عنهما، في بيان التحذير من الشرك والتخويف منه.
فأمّا حديث ابن مسعود فهو قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا، دَخَلَ النَّارَ» ، والنّد: هو النظيرُ والشبيهُ والمثيل.
واتخاذ النّدِ من دون الله نوعان:
1 -
شركٌ أكبر: بأن يجعل لله ندًا في أنواع العبادة، أو بعضها كالدعاء أو نحوه.
2 -
شركٌ أصغر: وهو ما يكون من نوع الشرك الأصغر، كيسير الرياء، وقول: ما شاء الله وشئت.
وأما حديث جابر رضي الله عنه، فهو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ» .
(1)
الفوائد (ص: 149)، وراجع بقية كلامه في هذا الفصل، فإنه في غاية النفاسة.
(2)
أخرجه مسلم (2985).
ومعنى الحديث: أنَّه من مات وعنده شيء من الشرك فإنَّه يدخل النار، وقد يكون دخولًا مطلقًا، وهذا لمن كان شركه أكبر، وقد يكون دخوله مقيدًا، وهذا لمن كان شركه أصغر، وأما من مات غير مشرك، بل موحد فإنَّه يُقطَعُ له بدخول الجنة، لكن إن كان صاحبَ كبائر مُصِّرًا عليها فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه ودخل الجنة مباشرة، وإلا عُذِّبَ في النار ثم دخل الجنة، وإن لم يكن صاحب كبائر ولا ذنوب فإنَّه يدخلها مباشرة، وقد ورد عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سرقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سرقَ، ثلاثًا، وقال في الرابعة: على رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ»
(1)
.
* ودلالة الحديثين متقاربة: فكلاهما دلّ على التخويف والتحذير من الشرك؛ لأنّ عقوبة من وقع فيه أن يدخل النار، ولو قلّ شركه؛ لأنَّه أطلق الشرك في الحديث، فيدخل فيه قليل الشرك وكثيره، وهذا يوجب الخوف منه.
* وخلاصة الباب: أنَّه يجب على الإنسان أن يكون على خوف من الوقوع في الشرك، صغيره وكبيره، وينبني على خوفه: أن يحذر من كل طرائق الشرك ووسائله، وأن يتعلم التوحيد وضده، كي يأمن من الوقوع في الشرك.
(1)
أخرجه البخاري (5827)، ومسلم (94).
5 - باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف، الآية (108)].
عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ له: إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنَّ لا إله إلّا الله» . وفي رواية: «إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ على فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإنَّه لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»
(1)
.
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يُفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ، فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاها، فَلَمَّا أَصْبَحوا غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: «أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» . فقيل: هو يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأْتي بِهِ، فبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ
(1)
أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19).
يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ:«انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تعالى فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرُ النَّعَمِ»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (3701)، ومسلم (2406).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرًا من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه. الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله سبحانه وتعالى عن المسبَّة. الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة -وهي من أهمها-: إبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم وإن لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب. الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى «أن يوحدوا الله» معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: «لأعطين الراية
…
» إلى آخره علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينه هو علم من أعلامها أيضًا. الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة، وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر؛ لحصولها لمن لم يسعَ إليها ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: «على رسلك» . الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة؛ لقوله: «أخبرهم بما يجب» . الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. الثلاثون: الحلف على الفُتيا.
يدوكون. أي: يخوضون.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة هذا الباب لما قبله:
لما بيّن المؤلف رحمه الله التوحيد وفضله وتحقيقه وذكر ضدّه، وهو الشرك ووجوب الخوف منه، نبّه بهذه الترجمة على أنَّه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، ويكتفي بها عن تصحيح اعتقاد غيره، بل يجبُ عليه أن يعمل بما علم، ويدعو إلى ما علم، والله تعالى قال:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت، الآية (33)]. قال الحسن لما تلا الآية: «هذا حبيبُ الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوةُ الله، هذا خِيرةُ الله، هذا أحبُّ أهلِ الأرض إلى الله- أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته»
(1)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2710)، وابن المبارك في الزهد (1446).
فلذلك ينبغي على المسلم أن يدعو الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهو أعظم أمرٍ يُدعى إليه، وهو الذي أرسلت الرسل لأجله، فيبدأ به في دعوته قبل كل شيء كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية: ساق المصنف في الباب آية فيها الأمر بالدعاء إلى التوحيد، وهي قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف، الآية (108)].
ومعنى الآية: أنَّ الله يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل -يا محمد-: هذه الدعوة والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان، هذه طريقتي وسبيلي ودعوتي، أدعو إلى الله على بصيرةٍ وعلمٍ ويقينٍ ومعرفةٍ أُمَيِّزُ بها بين الحقّ والباطل.
ويتولّى هذا العمل والدعوة أنا ومن اتبعني وصدقني وآمن بي.
* {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} : أنزّه الله وأجلّه وأعظمه من أن يكون له شريك تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
* {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : أنا بريء من أهل الشرك، لست منهم وليسوا مني.
ومناسبة الآية للباب: من جهة أنَّه بين فيها طريقة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أنَّه يدعو إلى توحيد الله بالعبادة، وأنَّ أتباعه يسلكون طريقته في هذا الأمر، وأنَّ من لم يدع إلى الله وهو يستطيع الدعوة فإنَّه لم يحقق اتباعه للرسول، بل اتباعه فيه نقص عظيم
(1)
.
(1)
وأفادت الآيةُ أمورًا، منها:
1 -
بيان طريقة النبيّ صلى الله عليه وسلم وطريقة أتباعه وهي الدعوة إلى الله.
2 -
التنبيه إلى أمر الإخلاص إلى الله، فلا يدعو المرء لنفسه ولا لحبّ الثناء بل مخلصًا لله.
3 -
أن يكون الداعي إلى الله على بصيرة وعلم، أما الداعي على غير بصيرة فقد ترد عليه شبهة فلا يقدر على ردها.
4 -
أنَّ الذي يدعو إلى الله لابدّ أن يبرأ من كل المشركين. انظر: إعانة المستفيد للفوزان (1/ 104).
المسألة الثالثة: ساق المصنّف في الباب حديث ابن عباس رضي الله عنهما في بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه داعيًا إلى الله في السنة العاشرة إلى اليمن، ولما أراد أن يذهب أوصاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية العظيمة، التي بيّن فيها منهجه الذي يسلكه في الدعوة، وكان مما قال له فيها قوله صلى الله عليه وسلم:
* «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» : ويعني بهم اليهود والنصارى، وكانوا متكاثرين في اليمن، وهم أهل كتاب وعندهم علمٌ، بخلاف سائر العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فنبهه بذلك ليستعدّ ويتهيأ لمناظرتهم ويأخذ أهبته لذلك.
* «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَة أَنْ لا إله إلّا الله» : وفي رواية: «إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ»
(1)
؛ لأنَّه أعظم أمرٍ دَعت إليه الرسل وخَلقَ اللهُ لأجلِه الخلق.
وفيه: التدرجُ في الدعوةِ، والبداءةُ بالأهمِ فالأهمِ، وهكذا كانت دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ بدأ بالدعوة إلى التوحيد.
* وعلى هذا: فمن الخطأ أن ينشغل الداعية بمعالجة بعض المعاصي، ويدع الدعوة لتصحيح التوحيد، ونبذ الشرك.
* وفي الرواية الثانية «يُوَحِّدُوا اللَّهَ» فائدة عظيمة: وهي بيانُ خطأِ وضلالِ مَنْ
(1)
البخاري (7372).
اعتقد أن (لا إله إلّا الله) يكفي فيها النطق باللسان ولو خالفتها الجوارح، أو أنَّ معنى (لا إله إلّا الله) أي: لا خالقَ ولا مدبر ولا مُصرّف إلّا الله، كما يقول كثير من الجهلة، فبيّن بهذه الرواية المختلفة لفظًا المتفقة معنى، أنَّ المراد بشهادة أن لا إله إلّا الله: توحيد الله وإفراده بالعبادة
(1)
.
* ثم قال له صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ» : بأن شهدوا وانقادوا لك.
* «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» : ثنّى بالأعمال بعد التوحيد؛ لأنَّها لا تصح بدونه، فالتوحيد شرط لصحة جميع الأعمال.
فإن قيل: لم ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم الشهادتين والصلاة والزكاة، ولم يذكر الصوم والحجّ؟
* ذكر ابن تيمية: «أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم اقتصر على الأركان العظيمة التي يقاتل من تركها، وهي هذه الثلاثة، قال تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة، الآية (5)].
المسألة الرابعة: ذكر المصنّفُ في البابِ حديثَ سهل بن سعد رضي الله عنه في خبر علي رضي الله عنه يوم خيبر، الذي فيه أعظمُ فضيلة لعلي رضي الله عنه وهي أنَّه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله
(2)
.
(1)
انظر: تيسير العزيز الحميد (98).
(2)
وفي الحديث فوائد عديدة متعلقة بالدعوة، من أبرزها:
1.
عِظمُ ثوابِ من هدى الله على يديه أحدًا من الضلالة، وأنَّ ما يناله خيرٌ من حُمر النعم، وهي الإبل الحمر، وهي أنفسُ أموال العرب، ويضربون بها المثل في نفاسة الشيء، قال النووي:«وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا، إنّما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلّا فذرّة من الآخرة خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معها»
(1)
.
2.
أنَّ من واجبات الإمام والحاكم إرسال الدعاة إلى الله، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
3.
أنَّ الدعوة للإسلام تكون قبل القتال، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
* خلاصة الباب: أنَّ الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك وتصحيح الاعتقاد هي من أوجب الواجبات، وهي مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، وورثة محمد صلى الله عليه وسلم، وحاجة المجتمعات للداعية للتوحيد أعظم من حاجتهم للطعام والشراب، فليكن لك نصيب من ذلك يا طالب العلم.
(1)
شرح مسلم (15/ 178).
6 - باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
…
} [الإسراء، الآية (57)].
وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي
…
} [الزخرف الآيات (26 - 27)].
وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
} [التوبة، الآية (31)].
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
…
} [البقرة، الآية (165)].
وفي الصحيح، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«مَنْ قَالَ: لا إله إلّا الله، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ، وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عز وجل»
(1)
.
وشرح هذا الترجمة: ما بعدها من الأبواب
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (23) من حديث طارق بن أشيم الأشجعي.
(2)
فيه أكبر المسائل، وأهمها، وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة، وبيَّنها بأمورٍ واضحة:
* منها: آية الإسراء بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
* ومنها: آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية (31)]. وبين أنهم لم يؤمروا إلا أن يعبدوا إلهًا واحدًا، مع أنّ تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعُباد في المعصية لا دعاؤهم إياهم.
* ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي
…
} [الزخرف الآية (26 - 27)]. فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة، وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف، الآية (28)].
* ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة، الآية (167)]. ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبًّا عظيمًا ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكثر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!
* ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» . وهذا من أعظم ما يبين معنى «لا إله إلاّ الله» ، فإنه لم يجعل التلفّظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله، فإن شك أو توقّف لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب، بعنوان:(تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلّا الله) وجعله لتفسير التوحيد، فأورد فيه الآيات والأحاديث التي تفسر التوحيد وتبين معناه، والمراد: توحيد الألوهية.
والعطف في قوله: «وشهادة أن لا إله إلّا الله» لتغاير اللفظتين، أي: من باب عطف المترادفين، وإلّا فالمعنى واحد.
والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة الباب لما قبله:
لمّا تكلم عن الدعوة إلى التوحيد وشهادة أن لا إله إلّا الله وفضيلتها، وبيّن أنَّ الداعي إليها لابدّ أن يكون على بصيرةٍ، ناسب أن يبيّن في هذا الباب المرادَ بالتوحيد، ومعنى لا إله إلّا الله التي يدعون إليها، وَمِنْ حسن صنيع المؤلف أن أخره بعد بيان فضل التوحيد وما بعده من الأبواب؛ لأنَّ النفوس كأنَّها اشتاقت إلى معرفة هذا الأمر الذي خُلِقوا لأجله وهو التوحيد.
والفرق بين هذا الباب، وبين الباب الأول الذي فيه معنى لا إله إلّا الله: أن هذا الباب فيه مزيد بيانٍ لمعنى لا إله إلّا الله، وما دلّت عليه من توحيد العبادة بالذات، وما ذكره في الباب الأوّل كان مُجمَلًا، ولا يكفي لاستمرار الدعوة إلى التوحيد، فذكر في هذا الباب معنى لا إله إلّا الله على التفصيل، والحجةَ على من تعلق بالأولياء والصالحين.
المسألة الثانية: ما هو تفسير التوحيد؟
* قال السعدي رحمه الله: «حقيقةُ تفسيرِ التوحيدِ العلمُ والاعترافُ بتفرد الربِّ بجميع صفات الكمال، وإخلاص العبادة له، وذلك يرجع إلى أمرين:
1 -
نفي الألوهية كلها عن غير الله: بأن يعتقد أنَّه لا يستحق الإلهية ولا شيئًا من العبودية أحدٌ من الخلق، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا غيرهما، وأنَّه ليس لأحدٍ من الخلق في ذلك حظٌ ولا نصيب.
2 -
إثبات الألوهية لله وحده لا شريك له: وتفرده بمعاني الألوهية كلها وهي نعوت الكمال كلها، ولا يكفي هذا الاعتقاد وحده حتى يحققه العبد، بإخلاص
الدين كله لله، ويعلم أنَّ من تمام تفسيرها وتحقيقها البراءة من عبادة غير الله»
(1)
.
المسألة الثالثة: ذكر المصنّف في الباب قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
…
} [الإسراء، الآية (57)].
وقد اختلف في سبب نزولها، فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء، الآية (56)]. قال: «كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ، وَاسْتَمْسَكَ الْإِنْسُ بِعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ هذه الآيات»
(2)
.
وقيل: إنَّها نزلت في قوم كانوا يعبدون المسيح وأمّه وعزيرًا، وقيل: غير ذلك
(3)
.
(4)
.
ومعنى الآية: يتبين بذكر الآية التي قبلها، وهي قوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} وهذا عامٌ يشمل كل مدعو من دون الله من الأنداد، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين، فإنَّه يدخل في الآية:{فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} أي إزالته بالكلية.
(1)
القول السديد (ص: 39).
(2)
أخرجه البخاري (4714)، ومسلم (3030).
(3)
انظر: تفسير الطبري (17/ 471)، وتفسير البغوي (3/ 139).
(4)
الاستغاثة في الرد على البكري لابن تيمية (2/ 538).
* {تَحْوِيلًا} : أي ولا يكشفونه عنكم ويحولونه إلى غيركم، فهم عاجزون عن كل هذا، والله سبحانه هو القادر على ذلك وحده لا شريك له.
* {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} : من الأنبياء وغيرهم من المعبودات.
* {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} : هم أنفسهم يطلبون من ربهم القربة والشيء الذي يوصلهم إلى الله وإلى ثوابه، فكيف يطلب ذلك منهم؟!
والوسيلةُ: الطاعة والعبادة.
* {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} : كلّ واحدٍ منهم يرجو أن يكون أقربَ إلى الله، فيتقربون إلى الله بطاعته، ويرجون رحمته ويخافون عذابه.
ومناسبةُ الآيةِ للباب: من جهة أنَّ التوحيد هو إفراد الله بالعبادة والدعاء وحده، ونفي الشريك عنه سبحانه، وهؤلاء الذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرءوا من الشرك، بل وقعوا فيه ودعوا من لا يملك ضرًا ولا نفعًا، فإذا عرفت هذا تبين لك أنَّ التوحيد لا يكون إلّا بنبذ كل الشرك، وإخلاص العبادة لله.
المسألة الرابعة: ذكر المصنّف في الباب قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي
…
} [الزخرف الآية (28)].
وهذه الآية يبين فيها الله سبحانه وتعالى موقف إبراهيم عليهم السلام من والده ومن قومه الذين أشركوا مع الله غيره، كيف دعاهم؟ فلما لم يستجيبوا تبرأ منهم، وهجرهم.
وقال عليهم السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} : أي متبرءٌ من كل ما تعبدون من دون الله من الأصنام والكواكب وغيرها.
* {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} : أي خلقني وأوجدني.
والفَطْرُ: ابتداء الخلق على غير مثال سابق، فالذي فطرني لست ببريء منه، بل أثبت له العبادة وحده.
قال ابن عثيمين: «وإنما قال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} ولم يقل: «إلّا الله» ؛ لفائدتين:
1.
ليشير إلى سبب إفراد الله بالعبادة، لأنَّه هو الخالق الرازق وحده، فكما أنَّه تفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة.
2.
ليشير إلى بطلان عبادتهم للأصنام؛ لأنَّها لم تخلق ولم تفطر، فلا تستحق العبادة»
(1)
.
* ثم قال الله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف الآيات (26 - 27)]. وعَقِبُه هم ذريته، والكلمة: لا إله إلّا الله، فلا تزال باقيةً في ذريته، فلا تخلو الأرض من موحدٍ لله، قلّ أو كثر.
ومناسبة الآية للباب: من جهة أن هذه الآية هي تفسير لا إله إلّا الله، فالجملة الأولى منها {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} هي معنى (لا إله)، والثانية وهي {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} هي معنى (إلّا الله)، ففيها تفسير التوحيد، وفيها -أيضًا- بيان موقف المسلم من أهل الشرك، وهو أن يتبرأ منهم ومن شركهم، ومن معبوداتهم كما فعل إبراهيم.
المسألة الخامسة: ذكر المصنّف قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة، الآية (31)]. وهذه فيها -أيضًا- تفسير للتوحيد.
(1)
القول المفيد (1/ 150).
* وبيان ذلك: أنَّ هؤلاء اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم -وهم العلماء- ورهبانهم- وهم العُبّاد- معبودات من دون الله، وهذه العبادة بيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفسّرها لعديّ بن حاتم حين قال: إنَّهم لم يعبدوهم فقال: «أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمُ الْحَرَامَ فَتُحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمُ الْحَلَالَ فَتُحَرِّمُونَهُ؟» قَالَ عديّ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:«فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ»
(1)
.
فعبادتهم هي من جهة أنَّهم أطاعوهم في التحليل والتحريم؛ إذ التحريم والتحليل حقٌ لا يكون إلّا لله، فمن أطاع غير الله في تحليل الحرام وتحريم الحلال فقد اتخذه ربًا ومعبودًا، وجعله شريكًا لله، وهذا ينافي التوحيد وشهادة أن لا إله إلّا الله، التي تقتضي إفرادَ الله بالطاعة، وإفرادَ الرسول بالمتابعة.
* وبهذا: تعرف أنَّ من أطاعوا البشر في تحليل الحرام -كما في القوانين - فهم قد اتخذوهم آلهة وقد عبدوهم، وهم قد وقعوا في الشرك الأكبر.
ولكن لابدّ أن يُعلم أنَّ ابن تيمية ذكر: أنَّ طاعة من حلل الحرام، وحرّم الحلال تكون على وجهين:
1 -
أن يعلموا أنَّهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرّم الله، وتحريم ما أحل الله؛ اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنَّهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر.
2 -
أن يكون إيمانهم واعتقادهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا،
(1)
أخرجه الترمذي (3095)، والطبري في التفسير (14/ 211)، والبيهقي في السنن الكبرى (20350)، وفي المدخل (261)، وحسنه ابن تيمية في كتاب (الإيمان ص: 64)، والألباني في غاية المرام (6).
لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعله المسلم من المعاصي التي يعتقد أنَّها معاصٍ، فهو يعلم أنَّ التحليل والتحريم حقٌ لله، ولكن فعله من باب الهوى أو تحصيل بعض المصالح، فهذه معصية عظيمة، لكن لاتصل إلى حدّ الشرك الأكبر
(1)
.
وبالمثال يتبيّن كلام شيخ الإسلام، فمن أطاع الحكام في تحليل الحرام، كالزنا والخمر ومساواة المرأة بالرجل في الميراث، ونحوه، أو في تحريم الحلال كمنع تعدد الزوجات مثلًا، فإن كان دافعه الرضا والاستحلال لما حلّلوه فذاك كفر أكبر، وإن كان دافعه الهوى، وهو يعلم أنَّ هذه محرمّة، فإن هذا ليس بكفر، وإنما معصية كبيرة، والله أعلم.
المسألة السادسة: ذكر المصنّف في الباب قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
…
} [البقرة، الآية (165)]. وهذه الآية لها ارتباط بتفسير (لا إله إلّا الله) كذلك.
* وبيان ذلك: أنّ الله ذكر فيها أنّ بعض الناس من المشركين يتّخذ من دون الله أندادًا ونظراء وأشباهًا، يحبّونهم كحبّ الله، وهذا هو شركهم، أنَّهم يسوّون معبوداتهم بالله في المحبة المقتضية الذلّ للمحبوب، فوقعوا في الشرك؛ إذ إنَّ المحبة المقتضية الذلّ للمحبوب والخضوع له، عبادةٌ لا تُصرَفُ إلّا لله، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك واتخذ من دون الله ندًا.
ولذلك فأمرُ المحبةِ عظيمٌ، وما يقع به البعض من كونه يحب معبوده، أو الوليَّ فلان، أو حتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كحبِّ الله أو أعظم، فهذا شركٌ، ولربما رأيت أنَّ بعضهم يقدِّم ويفضِّل زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم على زيارة الكعبة؛ لأنَّهم
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (7/ 70).
يجدون في نفوسهم حُبًّا للرسول صلى الله عليه وسلم كحب الله، أو أعظم، وهذا شركٌ في المحبة.
والله قال عن الكفار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء الآيات (97 - 98)]، ومعلومٌ أنَّهم ما ساووهم به في الخلق والملك والرزق، وإنما ساووهم به في المحبّة والتعظيم والطاعة.
• وعلى هذا: فمن قال: لا إله إلّا الله، وهو مشركٌ بالله في هذه المحبّة، فما قالها حقّ القول، وإن نطق بها.
وهؤلاء الذين ساووا محبّة الله بمحبّة غيره قد عدّهم الله مشركين جاعلين له أندادًا، وعليه فمن تفسير التوحيد إفراد الله بالمحبّة، فلا يحبّ معه غيره محبة عبادة.
• واعلم أنَّه قيل في معنى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة، الآية (165)]. قولان:
1.
أنهم يحبّون معبوداتهم كما يحبّ المؤمنون ربهم.
2.
أنهم يحبّون معبوداتهم كما يحبّون الله، فهم يحبّون الله لكن ساووا معبوداتهم بالله في المحبّة، وهذا هو الأقرب؛ ولذلك قال المصنف في مسائل الباب:«ذكر أنَّهم يحبّون أندادهم كحب الله، فدلّ على أنَّهم يحبّون الله حبًّا عظيمًا، ولم يُدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحبّ الندّ أكبر من حبّ الله؟! وكيف بمن لم يحبّ إلّا الندّ وحده ولم يحبّ الله؟!» .
المسألة السابعة: ذكر المصنّف في الباب حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» ، وهو -أيضًا- داخل في تفسير
التوحيد، وبيان معنى (لا إله إلّا الله).
* وبيان ذلك: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم علّق فيه عصمة الدم والمال على أمرين:
1 -
قول: (لا إله إلّا الله) عن علمٍ ويقين.
2 -
الكفر بما يعبد من دون الله.
فإذا تحقق هذان الأمران حَرُمَ دمُه وماله؛ لأنَّه صار مُسلِمًا، ولا يكفي أحدهما دون الآخر، وفي هذا قال المجدد رحمه الله:«والحديثُ يُفصِحُ أن (لا إله إلا الله)، لها لفظ ومعنى»
(1)
.
وبهذا تعلم: أنَّه لا يكفي النطق ب «لا إله إلّا الله» مجردةً عن العمل، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم هنا لم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لابد من قولها، والعمل بها، والبراءةِ مما ينافيها، وهو الشرك والكفر، فإذا تخلَّف العمل لم يعصم دم قائلها ولا ماله.
• وعلى هذا: فمن شهد أن لا إله إلّا الله ولم يكفر بما يعبد من دون الله، بأن كان يعبد القبور، أو يدعو الأولياء والأضرحة، فهذا لم يكفر بما يعبد من دون الله، ولم يحرم دمه وماله
(2)
.
ومناسبة الحديث للباب: من جهة أنَّ التوحيد الذي يعصم الدم والمال لا يتم إلا بالقولِ والعملِ، والعملُ هو الكفر بما يُعبَدُ من دون الله، وهذا من تفسير التوحيد.
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 112).
(2)
الدرر السنية (8/ 212).
ثم قال المصنف: (وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب): أي أن ما يأتي بعد هذا الباب من الأبواب كلها في شرح التوحيد، وشهادة أن لا إله إلّا الله، وبيان ما يناقضه وهو الشرك الأكبر والأصغر.
*
7 - باب من الشرك لبس الحلقة والخيط؛ لرفع البلاء أو دفعه
وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر، الآية (38)].
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ، فَقَالَ:«مَا هَذِهِ؟» قَالَ: هَذِهِ مِنَ الْوَاهِنَةِ، فقَالَ:«انْزِعْهَا؛ فَإنَّها لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا؛ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا»
(1)
.
وله عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً، فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ»
(2)
، وفي رواية:«مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (3031)، وابن حبان (6085)، والطبراني في الكبير (18/ 172) وإسناده ضعيف، وانظر: الضعيفة (1029).
(2)
أخرجه أحمد (4/ 154)، وابن حبان (6086)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 325)، وابن عدي في الكامل (6/ 2460)، والحاكم (4/ 216 و 417)، من طريق مشرح بن عاهان، عن عقبة بن عامر به، وفيه مشرح ضعيف، وانظر: الضعيفة (1266).
(3)
أخرجه أحمد (4/ 156)، والطبراني في الكبير (17/ 885)، والحاكم (4/ 384) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 103): ورجال أحمد ثقات، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6394).
ولابن أبي حاتم عن حذيفة: «أنَّه رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ خَيْطٌ مِنَ الْحُمَّى، فَقَطَعَهُ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}» [يوسف، الآية (106)]
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالترجمة: لما ذكر في الباب السابق تفسير التوحيد
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (8/ 473).
(2)
وفيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لُبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة: أنه لم يُعذر بالجهالة. الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر؛ لقوله: «لا تزيدك إلا وهنًا» .
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل ذلك. السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئًا وُكِل إليه.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك. الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليلٌ على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له. أي: لا ترك الله له.
ومعنى (لا إله إلّا الله)، بدأ هنا بذكر ما يُضادُّ ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر.
وقرّر في هذا الباب أنَّ من أنواع الشرك -الذي سبق التحذير منه في الأبواب السابقة- لبس الحلقة والخيط ونحوهما مما يعلق بالبدن، أو على الدابة أو السيارة، أو على الأبواب وغيرها من الأشياء التي يُعتقد أنَّها ترفعُ البلاء وتزيله بعد حصوله، أو تدفع البلاء والشرّ وتمنع وقوعه.
والحلقة: كل شيء استدار من حديد وذهب وفضة ونحوها، والخيط معروف.
ويلحق بهما ما كان نحوهما: كالودعة والتميمة والمسمار والخرزة، وجِلد التمساح يوضع على البيت أو المحل، وكذا من يلبس السوارة باعتقاد دفع الحسد، أو العينِ، ومن يلبس خاتمًا، أو يضع عند رأس المولود سكينًا، أو غير ذلك مما يعتقد فيه دفع الشر والبلاء أو الحسد، فكل هذه الأمور وضعها شرك؛ لأنَّه تعلق بغير بالله، والواجب أن تتعلق القلوب بالله، فهو الذي بيده دفع الضر ورفعه.
واعلم أنه ليس معنى هذا عدم الأخذ بالأسباب، بل إن الشريعة جاءت بإثبات الأسباب، وأنَّ لها تأثيرًا بقدرة الله تعالى وما وضعها فيها، ولكن مثل هذه الأمور ليست أسبابًا لرفع البلاء ودفعه.
• وعلى هذا: فما ثبت أنَّه سببٌ لرفع البلاء أو دفعه، إمّا من جهة الشرع، أو من جهة التجربة بما لا يخالف الشرع فإنَّه يعمل به، وما عدا ذلك فلا يعمل به.
•مثال ما ثبت من جهة الشرع أنَّه سبب: ماء زمزم والعسل، والحبة السوداء،
وغيرها مما ورد في الشرع أنَّه سببٌ للشفاء.
•مثال ما ثبت من جهة التجربة أنَّه سببٌ: بعضُ العلاجات والأدوية مما جُرِّب وثبت انتفاع المريض به بإذن الله، وليس بمحرّمٍ، كالخمر والسحر وغيرها.
فإذا أثبتت التجربة أنَّه ينفع بإذن الله، ولم يكن محرمًا فإنَّه يستعمل.
أمّا ما لم يثبت لا في الشرع ولا في التجربة أنَّه سببٌ لرفع البلاء أو دفعه فلا يستخدم، كتعليق الخيط على اليد أو الرقبة، أو وضع جلود الذئاب والتماسيح وغيرها في البيت أو السيارة ونحو ذلك، أو تعليق المصاحف ونحوها في السيارة أو الدكان، أو غير ذلك مما يكون مخلًا بالعقيدة.
المسألة الثانية: لبس الحلقة والخيط ونحوها؛ لرفع البلاء ودفعه قسمان:
1.
إذا علّقها معتقدًا أنَّها بذاتها تنفع وتدفع الضر: فشرك أكبر؛ لأنَّه اعتقد أنَّ هناك متصرفًا بالنفع والضرّ غير الله.
2.
أن يعتقد أنَّها سببٌ لرفع البلاء أو دفعه: فشرك أصغر.
المسألة الثالثة: ذكر المصنّف في الباب آية وثلاثة أحاديث.
* فأمّا الآية: فهي قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر، الآية (38)]. والخطابُ فيها موجّهٌ إلى محمد صلى الله عليه وسلم أنْ قُلْ للمشركين الذين توجهوا إلى غير الله: أخبروني عن الذين تدعون من دون الله وتعبدونهم، وتسألونهم من الأصنام والأوثان والأشجار والقبور والأضرحة، وكل ما يُعبد من دون الله، إن أراد الله إصابتي بضرٍّ مِنْ فقر أو شدةٍ أو بلاءٍ أو موتٍ أو غيره، هل تتمكن هذه من كشف الضرّ النازل عمن دعاها؟
وهذا سؤال استنكار ونفي، والمعنى: لا تقدر على كشف الضرّ عمن دعاها، ولذا فالمشركون يمرضون ويُقتلون، ولا تقدر معبوداتهم أن تدفع عنهم ذلك.
وكذلك لو أراد الله أن يأتي بخيرٍ من غنى أو صحة وغيرها من النعم، فهل يقدر أحد من المعبودات أو أحد من الخلق أن يمنع نزول الرحمة علي؟ والجواب: لا يقدر أحدٌ، بل لو اجتمع الخلق على أن يردوا نعمةً أراد إنفاذها ما قدروا.
قال مقاتل: «فسألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسكتوا ولم يقدروا على الإجابة» .
ولذلك قال الله بعد ذلك السؤال: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} هو كافيني فأفوض أمري إليه، وأتوكل عليه، فعليه يتوكل المتوكلون، ومتى ما صدق توكل العبد على ربه فلن يضره شيء، وفي الحديث:«وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ»
(1)
.
فإن قيل: إن المشركين لا يعتقدون هذا في معبوداتهم، وإنّما يعتقدون أنَّها وسائط وشفعاء عند الله، وأمّا كشف الضرّ وجلبُ النفعِ فهو من الله وحده؟
* الجواب: وحتى مع هذا فلماذا لا يدعون من بيده جلبُ النفع ودفعُ الضرّ،
(1)
أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293)، والحاكم (3/ 541 - 542)، من طرقٍ عن ابن عباس، قال الترمذي: حسن صحيح، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460): وقد روي هذا الحديثُ عن ابن عباس من طرق كثيرة، من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غُفْرة، وابن أبي مليكة، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).
أما هذه المعبودات فلا تقدر حتى على نفسها أن تجلب لها نفعًا أو تدفع عنها ضرًّا، فليست جديرة بأن تُعبد.
إذا تقرر هذا: فاعلم أنه إذا كانت الأصنام وغيرها مما يُعبد مِنْ دون الله لا تملك نفعًا ولا ضرًّا، فليست أسبابًا لرفع البلاء أو حصول المطالب؛ فيقاس عليها كل ما ليس بسببٍ شرعي أو قدري، فيعتبر اتخاذهُ شركًا بالله، ولا فرق بينه وبين اعتقاد المشركين بأصنامهم ومعبوداتهم.
* وأما الأحاديث:
فأولها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ: «مَا هَذِهِ؟» قَالَ: هَذِهِ مِنَ الْوَاهِنَةِ. فقَالَ: «انْزِعْهَا؛ فَإنَّها لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا، فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا» . والحديث إسناده ضعيف
(1)
، ولكن له شواهد، عن ثوبان وأبي أمامة عند الطبراني، وكلاهما ضعيف، إلّا أنّ النهي عن التمائم فيه أحاديث تقويه، ومنها ما ذكره المصنف بعد ذلك.
والحديث فيه النهي عن الخيط ونحوه، وبيان ذلك: أنَّ فيه أنَّه صلى الله عليه وسلم رأى
(1)
ووجه ضعفه: أن الحسن البصري -الراوي عن عمران بن حصين-، لم يسمع من عمران، ذكر هذا يحيى القطان، وابن المديني، وابن معين، وأبو حاتم، والدارقطني، وغيرهم، ثم إنَّه يرويه عنه مبارك بن فضالة، وهو ضعيفٌ عند جماعة، كالنسائي وابن معين، ومنهم من قوّاه، وقال أبو زرعة وأبو داود:«إذا قال: حدثنا فهو ثقة» ، وتوسط ابن حجر في حاله، فقال:«صدوق يدلس ويسوي» . انظر: تهذيب التهذيب (10/ 31)، وهو في هذا الحديث قد عنعن ولم يصرح بالسماع، ولأجل هذا فالحديث إسناده ضعيف؛ لأجل هاتين العلتين.
هذا الرجل وفي يده حلقةٌ من صُفْرٍ -والحلقة: الشيء المستدير يدار على العضد أو الذراع، والصُفر: نوع من المعدن معروف-، فاستفهم منه منكرًا، وقال: ما هذه؟! ويحتمل أنَّه استفهامٌ عن سببٍ لبسه لها، فأخبر الرجل: أنه لبسها لتقيه من الواهنة، والواهنة: عرقٌ يأخذ في المنكب، وفي اليد كلها فيرقى منها، قاله ابن الأثير
(1)
، فأمره أن ينزعها ويطرحها، وقال له: إنَّها لا تزيدك إلا وهنًا.
وهذا الإنكار منه صلى الله عليه وسلم يفيد: أن وضع الحلقة لرفع البلاء أو دفعه من الشرك؛ ولذا نفى الفلاح عمن فعل هذا.
فإن قيل: كيف قال له: «إنها لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا» أي: أنها تمرضه وتوهنه، وقد تقرر أنها ليس لها أثرٌ في رفع البلاء ودفعه؟
* أجيب عن هذا بجوابين:
1 -
أنَّ هذه الحلقة ليس لها تأثير بذاتها، وإنما يعاقب الله من وضعها على شِركه بنقيض قصده
(2)
.
2 -
أنَّ من علّق مثل هذه الأمور تجده يتعلق بها، ولا يتعلّق بالله، فيكون دائمًا في قلق وخوف يتخوف من كل شيء
(3)
(4)
.
(1)
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 234).
(2)
انظر: تيسير العزيز الحميد (121).
(3)
انظر: إعانة المستفيد (1/ 139).
(4)
فإن قيل: قوله في الحديث: «فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا» تفيد أنَّه لو مات وهو لم يتب منها ما أفلح أبدًا؛ لأنَّه مشرك، وظاهر هذا أنَّه لم يعذر بجهله، فكيف يجاب عن هذا مع ما تقرر من العذر بالجهل؟
* ثمة ثلاثة أجوبة قد تذكر:
1.
أنَّ الحديث ضعيف، وقد سبق تفصيل ذلك.
وأهل العلم يقررون أنَّ الجهل بالنسبة لكونه عذرًا هو على ضربين:
أ- جهلٌ يعذر فيه الإنسان: وهو الذي لا يكون ناشئًا عن تفريط وإهمال، كمن نشأ في بادية ولا يجد من يعلمه فهذا يعذر.
ب- جهلٌ لا يعذر فيه: وهو ما كان ناشئًا عن تفريط وإهمال مع وجود من يعلّمه، كمن يكون في مدينة أو قرية أو بادية وعنده من يعلّمه لكنّه فرَّط، فلا يعذر.
2.
ورد في رواية عند الخلاّل في السنة (1623) أن عمران رضي الله عنه قال له: «وَلَوْ مُتَّ وَأَنْتَ تَرَى أنَّها نَافِعَتُكَ، لَمِتَّ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ الْفِطْرَةِ» فيحمل الحديث على أنَّه يرى أنَّها تنفعه.
3.
أن يقال: إنَّ هذا من أحاديث الوعيد، والسلف يمّرون أحاديث الوعيد كما جاءت، ويكرهون أن تتأوّل بتآويل تخرجها عن مقصود النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وثاني الأحاديث: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً، فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ» .
وفي رواية: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ» .
فأما اللفظ الأول: فهو من طريق خالد بن عبيد المعافري، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة، وصحّح إسناده الحاكم، وقال المنذري: إسناده جيد.
ولكن هذا فيه نظر؛ إذ فيه خالد بن عبيد، محكوم عليه بالجهالة، لم يرو عنه غير حيوة بن شريح، ولم يوثّقه غيرُ ابن حبان، ولذا ففيه ضعفٌ
(1)
.
وأما اللفظ الثاني: فهو من طريق يزيد بن أبي منصور، عن دخين الحجري، عن عقبة، وإسناده حسن، فيه يزيد قال عنه أبو حاتم: ليس به بأس، وكذا قال
(1)
وقد ضعف الألباني الحديث كما في السلسة الضعيفة (3/ 268).
ابن حجر في التقريب، وقال الذهبي: صدوق، وبقيّة رجاله ثقات.
* واللفظان فيهما النهي عن تعليق التميمة معتقدًا فيها النفع، وأنَّ هذا من الشرك؛ لأنَّ جلب النفع ودفعَ الضُرِّ لا يقدر عليه إلّا الله.
* فقوله: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً» : أي علّقها على نفسه أو ولده، أو تعلّق بها قلبه.
والتميمة: خرزاتٌ كانت العرب تُعلِّقُها على أولادهم يتَّقون بها العين، ويُلحَقُ بها كلُ ما يُعَلَّق باعتقاد دفع العين ونحوه.
* وقوله: «فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ» : دعاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه بألّا يتم الله له أموره، قال بعض العلماء:«وهذه الدعوة أثرها واضحٌ، فأنت ترى من يُعَلِّقون مثل هذه الأمور من أكثر النَّاس خوفًا وحزنًا وهمًا، بعكس الموحدين المعتمدين على الله»
(1)
.
* وأما الوَدَعَةُ: فهي واحدة الودع، وهي أحجارٌ تستخرج من البحر تشبه الصدف، يعلّقونها على صدورهم يتقون بها العين.
* وقوله: «فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ» : أي لا جعله في دعةٍ وسكونٍ، وهذا دعاء عليه من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُعامَل بنقيضِ مقصوده.
* وقوله في اللفظ الآخر: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ» : إنّما كانت شركًا؛ لأنَّه أراد دفع القدر المكتوب عليه، وطلب دفع الأذى من غير الله الذي هو النافع الضار، وتعلق قلبه بغير الله، ومعلوم أنَّ المخلوق عاجز.
وأما كون هذا الشرك أصغر أو أكبر فقد سبق ذكره في المسألة الثانية.
(1)
إعانة المستفيد (1/ 141).
ثالث الأحاديث: حديث حذيفة رضي الله عنه: «أنَّه رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ خَيْطٌ مِنَ الْحُمَّى فَقَطَعَهُ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف، الآية (106)] «.
والحديث أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وعروة بن الزبير لم يثبت له سماعٌ من حذيفة، ولكن له متابع، وهو أبو ظبيان حصين بن جندب الكوفي، أخرج روايته الخلاّل في السنة، فقد يتقوى الأثر بالوجهين.
ومعناه كذلك له أصلٌ، فالنهي عن تعليق الخيوط، وكذا الإنكار على من وضع ذلك باليد ثابت، والأدلة دالة عليه.
* وقوله هنا: «خَيْطٌ مِنَ الْحُمَّى» : الحمّى: ارتفاعُ الحرارة في الجسم، فهذا الرجل ربط الخيط من أجل أن يتقي الحمى.
* وقوله: «فَقَطَعَهُ» : قال صاحب التيسير: وفيه إزالة المنكر باليد بغير إذن الفاعل، وإن كان يظنّ أنَّ الفاعل يزيله، وأنَّ إتلاف آلات اللهو والمنكر جائزة، وإن لم يأذن صاحبها
(1)
.
* وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف، الآية (106)]. المراد بهذا: المشركون الذين يؤمنون بتوحيد الربوبية، ويشركون بالألوهية، فلا يؤمن أكثرهم بالربوبية إلا وهم مشركون في الألوهية، قال ابن عباس:«تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ وَمَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُ، فَذَلِكَ إِيمَانهمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ»
(2)
.
(1)
تيسير العزيز الحميد (124).
(2)
أخرجه الطبري في التفسير (16/ 286)، وابن أبي حاتم في التفسير (12034 - 17417).
فهم جمعوا بين الإيمان بوجود الله وربوبيته، وبين الإشراك بعبادته، وكذلك بعض المسلمين جمع بين الإسلام، وبين الشرك في وضع هذه التمائم.
وأنت ترى أنَّ الآية هي في الشرك الأكبر، بينما وضع الخيط هو من الشرك الأصغر -على التفصيل السابق- ولكن هذا الصنيعَ من حذيفة رضي الله عنه في استدلاله بآيةٍ في الشرك الأكبر على أمرٍ من الشرك الأصغر استدلال صحيح، وقد قال المصنّف في مسائل الباب: فيه أنَّ الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر، وهذا يفعله المؤلّف في هذا الكتاب.
ومناسبة الحديث للباب: من جهة أنَّ حذيفة رضي الله عنه أنكر وضع الخيط، وعدّه من الشرك، وأزاله من اليد.
* خلاصة الباب: أنَّه يجب على الإنسان أن يعلِّق قلبه بالله، وأنَّ من علَّق شيئًا على بدنه أو متاعه من بيت أو سيَّارة أو دابَّة، أو لبس على يده أو عنقه باعتقاد أنَّ ما وضعه يدفع البلاء أو يرفعه، فإنَّ هذا من الشرك بالله على التفصيل المتقدم.
8 - باب ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه: «أنَّه كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَأَرْسَلَ رَسُولًا أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ»
(1)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال:«سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»
(2)
.
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعًا: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»
(3)
.
التمائم: شيء يُعَلّق على الأولادِ يتّقون به العين، ولكن إذا كان المعلّق
(1)
أخرجه البخاري (3005)، ومسلم (2115).
(2)
أخرجه أبو داود (3883)، وابن ماجه (3530)، وأحمد (1/ 381)، وأبو يعلى (5208)، وابن حبان (1412)، والبغوي (3240)، والحاكم (4/ 417)، وقد اختلف في رفعه ووقفه، والصواب: وقفه، فهي رواية الأكثر، ومع هذا فثبوته عن الصحابي مع كونه مما لا مجال للرأي فيه يجعلنا نحتج به، وله حكم الرفع، والله أعلم، والحديث صححه الألباني في الصحيحة (331).
(3)
أخرجه الترمذي (2072)، وأحمد (4/ 310 - 311)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 13)، والحاكم (7503)، والبيهقي (9/ 351)، وحسنه الألباني في غاية المرام (297).
من القرآن فرخّص فيه بعضُ السلف، وبعضُهم لم يُرخِّصْ فيه، ويجعله من المنهيّ عنه، منهم: ابن مسعود رضي الله عنه.
والرقى: هي التي تسمّى العزائم، وخصّ منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحُمة.
التولة: شيء يصنعونه، ويزعمون أنَّه يُحبِّبُ المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.
وروى أحمد عن رويفعٍ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا رُوَيْفِعُ، لَعَلَّ الْحَيَاةَ تَطُولُ بِكَ، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أنَّه مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْهُ بَرِيءٌ»
(1)
.
وعن سعيد بن جبير، قال:«مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً منْ إِنْسَانٍ، كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ»
(2)
.
وله عن إبراهيم قال: «كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا، مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ الْقُرْآنِ»
(3)
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (36)، والنسائي (5067)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 123)، والبغوي في شرح السنة (2680)، قال النووي: إسناده جيد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (27).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (23939).
(3)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص: 382)، وابن أبي شيبة في المصنف (23933).
(4)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقى والتمائم. الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين، والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن، فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدّواب عن العين، من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترًا. الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب: (باب الرقى والتمائم) وذكر فيه: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من الأحاديث والآثار في حكم الرقى والتمائم، والمقصود في الباب: ذكر الرقى المحرمة والتمائم.
وإنما لم يقل: (مِنْ الشرك) كما في الباب السابق؛ لأنَّ في الرقى ما ليس شركًا، والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الرقى والتمائم.
الرقى: جمع رقية، وهي العَوذةُ أو العزيمةُ التي يُرقى بها صاحب الآفة.
وفي الشرع: آياتٌ ودعاءٌ وتوسلٌ لله، تُقرأ على المريض بقصد الشفاءِ وذهابِ العلّة من بدنه
(1)
.
والتمائم: جمع تميمةٍ، وتقدم أنَّها خرزاتٌ كانت العرب تُعَلِّقُها على أولادها يتقون بها العين، ويدخل فيها كل ما عُلِّق لدفع ضرٍّ أو رفعه، ولم يثبت أنَّه سبب شرعي ولا قدري، من أي شيء كان، من خشب أو معدن أو قماش
(1)
أحكام الرقى والتمائم (ص 30).
أو غيرها.
ولهذا صور منها:
1.
أن يعلّق على يده أو على عنقه، أو على بيته، أو على سيارته آيات؛ باعتقاد أنَّها تدفع العين أو ترفع البلاء، وسيأتي الكلام على هذا في المسألة الخامسة.
2.
أن يضع تميمة مجردة عن الكتابة مع اعتقاد نفعها، أو دفعها.
3.
أن يضع تميمة فيها كتابات ليست من القرآن، كتوسلٍ بأحدٍ، أو طلاسمَ.
4.
أن يضع تميمة فيها دعاء لله أن يحفظ لابسها، ونحو ذلك.
ومناسبة الباب للتوحيد ولما قبله: أنَّه لما كانت التمائمُ شِركًا، ومِن الرقى ما هو شرك لما فيها من التعلق بغير الله في كشف الضرّ وجلب النفع، ناسب أن يذكر ذلك في كتاب التوحيد.
وهذا الباب مكمّل لما قبله، فقد ذكر فيه أنواعًا مكمّلة للباب السابق، لكنّه أفرد الرقى في هذا الباب؛ ليبيّن أنَّها ليست كلها شركًا كالذي تقدّم ذكره في الباب السابق.
المسألة الثانية: حكم الرقى.
أهلُ العلم يُقَرِّرون أنَّ الرُقى قسمان:
1 -
رقى جائزة: وهي الرقية الشرعية التي بالقرآن والأدعية والأذكار الواردة في الشرع، والأدلة على هذه كثيرة، منها رقية النبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه، وأمرُه أسماء بنت عميس أن ترقى أبناءها أبناء جعفر بن أبي طالب
(1)
، وحديث: «لَا
(1)
أخرجه مسلم (2198) من حديث جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: «مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ» قَالَتْ: لَا، وَلَكِنِ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ:«ارْقِيهِمْ» قَالَتْ: فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:«ارْقِيهِمْ» .
بَأْسَ بِالرُّقَى، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ»
(1)
.
وقد ذكر العلماء أنَّه يشترط لجواز الرقية الشرعية ثلاثة شروط:
1) أن تكون من القرآن أو الأذكار أو الأدعية الشرعية، أو بأسماء الله وصفاته.
2) أن تكون باللسان العربي، وبما يُعرَف ويُفهم معناه.
3) أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله
(2)
.
وقد ذكر العلماء أن الرقية تكون من خلال أربع صور:
1/ النفث والتفل على المرقي: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع من يرقيه، قالت عائشة «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي»
(3)
.
2/ الرقية بدون نفث ولا تفل: ودل لها حديث عائشة: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ، مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ
(1)
أخرجه مسلم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.
(2)
قال الحافظ في الفتح (10/ 195): وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط
…
وذكر الشروط الآنفة الذكر، ثم قال: واختلفوا في كونها شرطًا، والراجح: أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة.
(3)
أخرجه البخاري (5016)، ومسلم (2192) وهذا لفظه.
أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»
(1)
.
3/ خلط التراب بالريق: بأن ينفث على الإصبع بشيء من ريقه، ثم يوضع في التراب، ويمسح به المريض أثناء الرقية، ودل لها حديث عائشة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا «بِاسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا»
(2)
.
4/ الرُقية في الماء ثم شربه: وقد أجاز هذا كثير من أهل العلم، ونُقِل هذا عن الإمام أحمد، قال ابنه صالح: ربما اعتللت، فيأخذ أبي قدحًا فيه ماء، فيقرأ عليه، ويقول لي: اشرب منه، واغسل وجهك ويديك.
ونقل عبد الله، أنه رأى أباه يعوّذ في الماء، ويقرأ عليه، ويشربه، ويصب على نفسه منه
(3)
.
2 -
رقى ممنوعة: وهي ما تخلف فيها شرطٌ أو أكثر من شروط الرقى الجائزة، وقد تكون شركًا، إن كان فيها شرك، وهى التي تسمّى العزائم ويدل لها حديث:«مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» ، وحديث:«إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ» ، وقد تكون حرامًا، بحسب ما تشتمل عليه من ألفاظ، وبحسب اعتقاد الراقي والمرقي فيها.
المسألة الثالثة: ذكر المصنف خمسة أحاديث، وآثار متعلّقة بالرقى والتمائم.
أولها: حديث أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه: «أنَّه كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
(1)
أخرجه البخاري (5675)، ومسلم (2191) وهذا لفظه.
(2)
أخرجه البخاري (5745)، ومسلم (2194) وهذا لفظه.
(3)
الآداب الشرعية والمنح المرعية، لابن مفلح (2/ 456).
بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَأَرْسَلَ رَسُولًا أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ»، والحديث رواه الشيخان
(1)
، عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه، وقد اختلف في اسمه، قال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، كان مشهورًا بكنيته
(2)
.
* وقوله: «فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ» : لم يرد تعيين هذا السفر، كما ذكر ابن حجر.
* وقوله: «فَأَرْسَلَ رَسُولًا» : هو زيد بن حارثة، كما ورد في رواية، وقد بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم لينادي بهذه الكلمات.
* وقوله: «أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ» : الشكّ من الراوي، هل نهى عن كل قلادة، أو عن التي من أوتار القوس؟
قال صاحب التيسير: «والأوَّل -يعني: النهي عن القلادة من الوتر- أصحَّ، لاتفاق الشيخين عليها وللرخصة في القلائد إلّا الأوتار»
(3)
.
وعلى كلّ حال: فالحديث يراد به النهيّ عن كل ما يُعلَّقُ، ويراد به أمرًا شركيًا، مِنْ دفع العين أو رفع بلاء، سواء أكان من وترٍ أو من غيره، أما إذا عُلِّقَت القلائدُ ولم يُقصد بها أمرًا شركيًا، مثل تقليد الهدي الذي يُهدى للبيت العتيق فلا حرج فيها.
وقد نصّ الحديث على القلادة التي من وتر: لأنَّها كانت موجودة عند أهل الجاهلية، حيث إنَّهم إذا اخلولق الوترُ أبدلوه بغيره، وأخذوا القديم وعلّقوه بالدواب، اعتقادًا أنَّه يدفع العين والمكاره عن الدابة.
(1)
البخاري (3005)، ومسلم (2115).
(2)
الاستيعاب (4/ 1610).
(3)
تيسير العزيز الحميد (127).
• واعلم أنَّ النهي عامٌ، سواء كانت معلقة على الرقبة، أو على اليدِ أو الرِجل أو غيرها، وسواء أكانت على البعير أو الآدمي أو غيرهما، وإنّما نصّ على البعير؛ لأنَّه هو الذي كان منتشرًا عندهم.
وثاني الأحاديث: حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ» .
وقد دلّ الحديثُ على تحريم الرُقى الشركية والتمائم والتولة، وأنَّها من الشرك. فأمّا الرقى والتمائم فتقدّم بيانها.
وأما التِوَلَةُ: فقال عنها المصنّف: شيءٌ يصنعونه يزعمون أنَّه يُحبِّبُ المرأة إلى زوجها والزوجَ إلى امرأته، وبهذا فسّره ابن مسعود كما عند ابن أبي حاتم والحاكم، وهو ضربٌ من السحر، وإنّما كان شركًا؛ لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى
(1)
.
وهذه التمائم، والتولة، من حيث حكمها لها حالتان:
أ- تكون شركًا أصغر: إذا اعتقد أنَّ هذه الأمور سببٌ، وأنَّها لا تفعل بنفسها.
(1)
وألحق ابن عثيمين بالتِوَلة «دبلةُ الخطوبة والزواج» ، وهي خاتمٌ يوضع في يد الزوج عند الزواج، فما دام في يده فالعلاقة بينهما ثابتة، والعكس بالعكس، وعلى هذا فإذا لُبِست بقصد أن تكون سببًا للمحبة بين الزوجين، فهي محرمة؛ لأنَّها ليست سببًا للمحبّة لا شرعًا ولا قدرًا، ويمكن القول بأن: لبس الدبلة لا يخلو من حالات:
1.
إن اعتقد أنَّها بنفسها تأتي بالمودة بين الزوجين، فشرك أكبر.
2.
إن اعتقد أنَّها سبب لحصول المودة بين الزوجين، فهذا شرك أصغر.
3.
إن لبسها بدون اعتقاد كل هذا، فإنَّه تشبه بالكفار فتحرم من هذا الجانب. انظر: القول المفيد (1/ 181).
ب- تكون شركًا أكبر: إذا اعتقد أنَّ هذه الأمور تنفع وتضرّ من دون الله، وأنَّها تفعل بنفسها.
وثالث الأحاديث: حديث عبد الله بن عكيم مرفوعًا: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، وقال عنه الترمذي: حديث حسن غريب.
والحديث فيه ضعف، وعبد الله بن عكيم، يكنى أبا معبد الجهني، أدرك زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف له سماعٌ صحيحٌ، قاله البخاري وأبو زرعة وغيرهما، فهو مخضرم، وحديثه مرسل
(1)
، لكن الحديث له شواهد يتقوى بها.
* وقوله: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا» : شيئًا نكرة، فتشمل جميع الأشياء، والتعلق يكون بالقلب، بأن يعتمد عليه ويعتقد أنَّه سينفعه.
ويكون بالفعل، بأن يعلّق على نفسه شيئًا من التمائم والتعاويذ وأشباهها، ويكون بهما جميعًا.
* وقوله: «وُكِلَ إِلَيْهِ» : أي يكله الله إلى هذا الأمر ويخذله، وهذه قاعدة عظيمة، أنَّ كل شيء يُعَلِّق الإنسانُ به قلبه من دون الله من بشرٍ أو حجر أو شجر أو قبرٍ أو حلقةٍ أو خيطٍ أو تميمةٍ أو غير ذلك، فإنَّ الله يَكِلُه إليه، ومن توكَّل على الله فهو حسبه وكافيه.
وبهذا تَعرف ضلال من نسوا التعلّق بالله والتوكّل عليه، فلجئوا إلى أمورٍ لم ترد في الشرع، وهم بهذا وقعوا في الشرك، ووكلهم الله إلى أنفسهم وإلى ما جعلوه من أسباب، وهذا هو غاية الخذلان، وقد قال ابن القيم: «أجمعوا
(1)
انظر: تهذيب التهذيب (5/ 324).
على أنَّ التوفيق: أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأنَّ الخذلان: أن يخلي بينك وبين نفسك»
(1)
.
ومناسبة الحديث للباب: من جهة أنَّ الحديث دلَّ على أنَّ من علَّق قلبه بشيء دون الله، فإنَّ هذا من الشرك، ويكون جزاؤه من الله أن يكله إلى هذا الذي توكَّل عليه، ولن يجد فيه نفعًا ولا دفعًا.
ورابع الأحاديث: عن رويفع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا رُوَيْفِعُ، لَعَلَّ الْحَيَاةَ تَطُولُ بِكَ، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أنَّه مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْهُ بَرِيءٌ» .
ورويفع: هو ابن ثابت الأنصاري، طال عمره وتوفي سنة (56 هـ)
(2)
، فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:«لَعَلَّ الْحَيَاةَ تَطُولُ بِكَ» .
* وقوله: «فَأَخْبِرِ النَّاسَ» : فيها دليلٌ على وجوب إخبار الناس وتبليغ العلم والعقيدة الصحيحة، وهذا واجب وأمانة يتحمّلها القادرون.
* وقوله: «مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ» : عقدُ اللحية يُفَسّرُ على أحد أوجهٍ أربعة:
1.
ما كانوا يفعلونه في الحروب -في الجاهلية- مِنْ عقد لحاهم تكبرًا وافتخارًا وهذا من زِيّ الأعاجم.
2.
ما يفعله أهل الترف من تجعيد لحاهم وتحسينها وكدّها حتى تتجعّد، وهذا للتجمّل، وهذا فعل أهل التأنيث، مع أنَّ إصلاح اللحية ودهنها وإكرامها مطلوب، لكن ما لم يصل إلى الترف والإسراف.
(1)
الفوائد (90).
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 36)، البداية والنهاية (8/ 61).
3.
وإما خوفًا من العين؛ لأنَّها إذا كانت حسنة، أراد أن يشوهها ويشوه نفسه؛ خوفًا من العين.
4.
أن المراد عقد اللحية في الصلاة؛ لأنَّ هذا من العبث في الصلاة، وهو مكروه، ويدل على عدم الخشوع، قال ابن العراقي:«والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة» ، كما في رواية:«من عقد لحيته في الصلاة» .
(1)
(2)
.
* وقوله: «أو تقلّد وترًا» : تقدم بيانه، وأنَّه جعل قلادة من وتر على عنق الدابة وغيرها، وهذا الشاهد من الحديث.
* وقوله: «أَوْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ» : أي أزال الخارج من السبيلين بأيّ من هذه الأشياء؛ لأنَّها طعام الجنّ وعلف دوابهم، ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الاستجمار بها
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (5893)، ومسلم (259) من حديث ابن عمر.
(2)
حاشية كتاب التوحيد لابن قاسم ص (88).
(3)
فقد أخرج مسلم (450) من حديث عَلْقَمَة قال: أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ؟
…
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ» ، قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا، فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ، فَقَالَ:«لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ» ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا؛ فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ» .
* وقوله: «فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْهُ بَرِيءٌ» : وهذا وعيد شديد يدلّ على أنّ هذه الأمور من الكبائر.
والأولى في أحاديث الوعيد إجراؤها على ظاهرها، من دون تعرض لها بتفسير، فهذا أبلغ في الزجر ولا تصرف عن ظاهرها بالتأويل، إلّا إذا خشي أن يفهمها البعض على ظاهرها في التكفير، فيكفِّر بها أهل المعاصي، كما هو مذهب الخوارج.
ومناسبة الحديث والشاهد منه: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّه بريء ممن تقلد وترًا دفعًا للضرّ؛ لأنَّ هذا من الشرك كما تقدم.
فائدة: قال صاحب فتح المجيد: «فإذا كان هذا فيمن تقلد وترًا، فكيف بمن تعلّق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وما يترتب على ذلك من العبادة التي لا يستحقها إلّا ربُّ الأرض والسماوات، الذي جاء النهيّ عنه وتغليظه في الآيات المحكمات»
(1)
.
وخامس الآثار: عن سعيد بن جبير قال: «مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً منْ إِنْسَانٍ، كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ»
(2)
.
(1)
فتح المجيد (1/ 249).
(2)
قال صاحب التيسير (ص 135): وهذا الحديث
…
ظاهره الوقف، لكن له حكم الرفع عند العلماء؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون الحديث مرسلًا. ا. هـ
قلت: وفي هذا الكلام نظر لأمرين:
أولًا: أنَّ هذا إنما يقال في كلام الصحابي، الذي لا يقال مثله من قبيل الرأي، أما كلام التابعين فلا. انظر: فتح المغيث (1/ 150).
ثانيًا: أنه لا يقال في كلام التابعي أنّه مرفوع مرسل، إلا إذا كانت هناك قرينة تدلّ على رفعه كقول بعض الرواة - عند ذكر التابعي-: يرفعه مثلًا، أو كقول الراوي عن التابعي: من السنة كذا ونحوه، فيعتبر عندئذ له حكم المرفوع المرسل. والله أعلم.
* قوله «كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ» : أي كان له مثل ثواب من أعتق رقبة.
ووجه الشبه بين عتق الرقبة وقطع التميمة: أنَّ إعتاق العبد فيه إعتاقٌ له من الرقّ، وقطعُ التميمة منه فيه إعتاقٌ له من الشرك؛ إذ تسبب في فكاكه من النار.
وفي أثر ابن جبير: إزالة المنكر باليد لمن كان قادرًا عليه، وإلّا فباللسان، وإلّا فبالقلب.
المسألة الرابعة: أشار المصنف رحمه الله إلى تعليق التمائم إذا كان ما كتب فيها من القرآن، ونقل في المسألة قولين لأهل العلم، فقال: (لكن إذا كان المعلّق من القرآن، فرخصّ فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهيّ عنه منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
وعلى هذا ففي المسألة قولان:
القول الأول: أنَّ وضع التمائم من آيات القرآن جائز، وليس من التمائم المحرمة، وهذا نُقِلَ عن جماعة، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن المسيب، وابن عبد البر، والقرطبيّ، وهو رواية عن أحمد.
* وحجة هذا القول: عموم قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} ، وهذه التمائم التي فيها القرآن هي كالرقية بالقرآن.
وأما الأحاديث الواردة في النهي عن التمائم، فحملوها على التمائم من غير القرآن، والشركية.
القول الثاني: أنَّه محرَّم ولا يجوز، ولا فرق في ذلك بين كونها من القرآن أو من غيره، وهذا هو الأقرب.
وقد قال به جمع من الصحابة، منهم: ابن مسعود وتلاميذه، وابن عباس، وحذيفة، وغيرهم، وهو رواية عن أحمد، وهو قول أكثر العلماء، ومنهم النخعيّ، وابن العربيّ، وصاحب فتح المجيد، وصاحب التيسير، والسعدي، والحكمي، والألباني، وابن باز، والعثيمين، والفوزان، وغيرهم.
وذكر بعضهم لترجيح هذا القول عدة أوجه:
1 -
عموم النهي: ولا مخصص للعموم.
2 -
سدًا للذريعة: فإنَّه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
3 -
أنَّه إذا عُلِّق فلن يخلو من أن يمتهنه المعلّق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء، وغير ذلك
(1)
.
4 -
أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كان يرقي ويُرقى، فلو كان تعليق تمائم القرآن جائزًا لأمر به، قال ابن قاسم:«وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله ما يدل على إجازة تعليق شيء من القرآن، ولا ثبت عن أحد من الصحابة المقتدى بهم تجويزه، ولا فعله مع توفر الدواعي إليه، وما ذاك إلّا لأنَّه ينافي التوكّل والإخلاص، ولعلّ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يُعَلِّقه في الألواح لا أنَّه تميمة»
(2)
ا. هـ.
وقد نقل المصنّف عن إبراهيم النخعيّ قوله: «كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا، مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ الْقُرْآنِ» .
(1)
فتح المجيد (1/ 244).
(2)
حاشية كتاب التوحيد، لابن قاسم (86).
ويقصد بالذين يكرهون: أصحاب ابن مسعود، وهم قرناء إبراهيم، كعلقمة والأسود وأبي وائل ومسروق والربيع بن خثيم وعبيدة السلماني وغيرهم، وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم.
والمراد بالكراهة هنا: كراهة التحريم؛ إذ الكراهة عند السلف يريدون بها التحريم، وتقدمّ أنَّ التمائم محرّمة، أمّا من غير القرآن فبالإجماع، وأمّا من القرآن فعلى قول الأكثر كما تقدم.
* خلاصة الباب: أنّ الرقى ليست على حالٍ واحد، فربما كانت مشروعة، وربّما كانت شركيّة، فالواجب تبيين هذه من هذه، فليس كل راق رجلًا صالحًا، فربّما رقى بشرك.
وأمّا التمائم فالأقرب أنَّها ممنوعة مطلقًا كما تقدم.
*
9 - باب من تبّرك بشجر أو حجر أو نحوهما
وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم، الآية (19)].
عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اللهُ أَكْبَرُ، إنَّها السُّنَنُ، قُلْتُمْ -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف، الآية (138)]. لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ «
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (2180)، وأحمد (4/ 218)، والطيالسي (1346)، والحميدي (848)، وابن أبي شيبة في المصنف (15/ 101)، والطبري في التفسير (9/ 45)، وابن حبان (6702)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في ظلال الجنة (76).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم. الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوه. الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك؛ لظنهم أنه يحبه. الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله:«الله أكبر! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم» فغلَّظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} [الأعراف، الآية (138)].
التاسعة: أنّ نفي هذا معنى (لا إله إلا الله)، مع دقته وخفائه على أولئك. العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم: «ونحن حدثاء عهد بكفر» فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك. الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافًا لمن كرهه. الرابعة عشرة: سد الذرائع. الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية. السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: «إنها السنن» . الثامنة عشرة: أن هذا عَلم من أعلام النّبوة؛ لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما «من ربك» ؟ فواضح، وأما «من نبيك» ؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما «ما دينك»؟ فمن قولهم: «اجعل لنا
…
» إلخ.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يُؤمَن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة؛ لقوله: «ونحن حدثاء عهد بكفر» .
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب فيما يتعلّق بالبركة والتبرّك، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: أراد المصنّف رحمه الله بهذا الباب بيان حكم من تبرّك بالأشجار
والأحجار، ونحوها من القبور والبقع وغيرها، وبيان أنَّها من الشرك وأفعال المشركين.
والبركة لغة: النماء والزيادة
(1)
، وقيل: كثرة الخير وثبوته.
والتبرك: طلبُ البركةِ والخير من الغير، يقال: باركه الله، وبارك فيه، وبارك عليك، وبارك له
(2)
.
وأما مناسبة الباب لما قبله: فإنَّ هذا الباب مكمِّل للأبواب قبله؛ لأنَّ ما قبله في لبس الحلقة وفي التمائم وتعليقها وأنَّها من الشرك، فبيّن هنا أنَّ من الشرك التبرّك بالأشجار ونحوها؛ لما فيها كلّها من الاعتقاد بغير الله أنَّه ينفع ويضرّ، ومعلوم أنَّ الذي يقدر على جلب النفع ودفع الضرّ هو الله جل جلاله.
المسألة الثانية: يمكن أن يذكر في باب التبرّك ضوابط مهمة ينبغي التنبه لها:
1.
أنَّ البركة لا تثبت في شيء من الأشياء إلّا بدليل شرعيّ؛ لأنَّ الأصل النفي لها وعدم ثبوتها، وهي أمرٌ توقيفي لا اجتهادي.
2.
أنَّ ما يُتبَرَّكُ به من الأعيانِ والأقوالِ والأفعالِ والأزمانِ التي تثبت فيها البركة بطريق الشرع، إنّما هي سببٌ للبركة وليست بواهبةٍ لها.
•مثاله: ماء زمزم سبب للبركة وليس واهبًا للبركة بذاته، ومِثلُه بقيّة الأمور المباركة مِنْ مطعومٍ وموطنٍ وزمانٍ وغيره.
(1)
انظر: تهذيب اللغة (15/ 347)، ولسان العرب (10/ 395).
(2)
انظر: جلاء الأفهام لابن القيم (347).
3.
اعلم أنَّ التبرّك قسمان: أ- مشروع. ب- ممنوع.
أما التبرّك المشروع فتحته صور:
1 -
التبرّك بذات النبيّ صلى الله عليه وسلم وعَرَقِه وثيابِه: فهذه لا تكون إلّا للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهي منقطعة بوفاته، إلا ما نفصل منه فيصح ولو بعد وفاته، كشعره لو وُجِد.
2 -
التبرّك بالأقوال: كقراءة القرآن وقراءة البقرة، وقد ورد فيها:«أَخْذُهَا بَرَكَةٌ»
(1)
، والتبرك بكل شيء بحسبه، فالتبرك بالقرآن بتلاوته، وهكذا.
3 -
التبرّك بالأفعال: كأكلة السحر، ففيه بركة، وكذا الاجتماع على الطعام يباركه الله «اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»
(2)
، والتبرك بهذه الأطعمة يكون بأكلها.
4 -
التبرّك بالأمكنة: بالمساجد عمومًا، والمساجد الثلاثة-المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى- خصوصًا.
والتبرّك بالمساجد يكون: بالإكثار من الصلاة والتعبد فيها، ولا يكون بالتمسّح بترابها وجدرانها ونحو ذلك؛ لأنّ التبرّك عبادةٌ ويشترط فيها المتابعة.
5 -
التبرّك بالأزمنة: كليلة القدر {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان، الآية (3)] ويوم الجمعة وشهر رمضان، وعشر ذي الحجة، والتبرّك فيها يكون بالاجتهاد بالعبادة.
6 -
التبرّك بالأطعمة: كماء زمزم، والحبّة السوداء، والعسل واللبن.
(1)
أخرجه مسلم (804) من حديث أبي أمامة.
(2)
أخرجه أبو داود (3764)، وابن ماجه (3286)، وأحمد (16078) من حديث وحشي بن حرب، وإسناده حسن.
وأما التبرّك الممنوع فتحته أنواع:
1 -
التبرّك بالأمكنة المباركة على غير ما ورد في الشرع: كتقبيل جدران الكعبة، والتمسح بها وبتربة المسجد، أو بمقام إبراهيم، ونحو ذلك.
2 -
التبرّك بالقبور، والدعاء عندها للتبرك بها.
3 -
التبرّك بمقامات الأنبياء: كغار ثور وحراء، أو الطور الذي كلّم الله فيه موسى صلى الله عليه وسلم ونحوها، والسفر إليها والتعبد عندها، وكذلك الأمكنة التي صلّى فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع تتبعها؛ لأنَّها لم تقع منه تقصدًا.
4 -
التبرّك بأزمنةٍ معينة: كمولد النبيّ صلى الله عليه وسلم، والإسراء والمعراج، ويوم بدر، وفتح مكّة بنوع من التعظيم والعبادة.
5 -
التبرّك بذواتِ الصالحين وآثارهم: فهذا لم يشرع، ولم يؤثر عن أحد.
• وعلى هذا: فالتبرك بآثار الصالحين، والتمسّح بهم، وبثيابهم، وبعرقهم، ونحو ذلك قياسًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم خطأٌ من عدة أوجه:
1 -
عدم المقاربة فضلًا عن المساواة للنبيّ صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة.
2 -
عدم تحقق الصلاح، فإنَّه لا يتحقق الصلاح إلا بصلاح القلب، وهذا لا يطلع عليه.
3 -
أنَّ الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه
(1)
.
فإن قيل: ورد في الصحيح أن عتبان بن مالك رضي الله عنه دعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى
(1)
انظر: تيسير العزيز الحميد (143).
منزله ليصلي فيه، فيتخذه مصلى «فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلى في بيته»
(1)
أليس فيه دليل على جواز التبرك بآثار الصالحين؟
* فالجواب من أوجه:
أ- لم يقصد عتبانُ أن يتبرّك بموضع صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما قصدَ أن يُقِرَّهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم على الصلاة جماعةً في داره عند عدم استطاعته حضور الجماعة.
ب- لو كان القصد التبرّك بموضع صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لبقي هذا الموضع يتبرّك به الورثة فمن بعدهم، كما نقل عن بعض الصحابة في تبركهم بشعر النبيّ صلى الله عليه وسلم وقدَحه.
المسألة الثالثة: يقرّر أهل العلم أنَّ التبرك بالأشياء المحرمة، كذوات الصالحين أو المواضع التي لم يثبت فيها شيء ونحو ذلك، أنَّه محرَّم ومن الشرك، ثم يقولون:
* يكون شركًا أصغر: إن اعتقد أنَّه سببٌ للبركة والتمسها منه.
* ويكون شركًا أكبر: إن اعتقد أنَّ منه البركة، كما أنَّها من الله، كأن يقول: يا عبد القادر الجيلاني بارك لي في زوجتي، أو يا بدوي مُنَّ علي بكذا، فهذا صرف العبادة لغير الله.
المسألة الرابعة: ترد على ألسنة الناس عبارات عديدة في البركة، وهي تختلف في حكمها.
الأولى: قول (هذه من بركتك أو من بركاتك): وهي جائزة على الأقرب، ويدل
(1)
أخرجه البخاري (424)، ومسلم (33).
لها ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة التيمم وفيه: «أن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ»
(1)
، وقالت عائشة رضي الله عنها:«فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا»
(2)
، أي: جويرية أم المؤمنين.
لكن لا ينبغي أن تُقال لمن لا يُعرف منه خير وصلاح.
وكذا لا تقال عند حصول أمرٍ من الله لا علاقة للإنسان به، كالمطر مثلًا، فالمطر من الله وحده.
الثانية: قول: (تباركت علينا): فلا تجوز؛ لأنَّ (تبارك) من خصائص الله، فلا تقال لغيره، وقد أشار لهذه ابن القيم
(3)
.
وأجازها بعض العلماء، منهم الشيخ بكر أبو زيد
(4)
.
الثالثة: قول (كُلّك بركة): فالأولى أن لا تُقال؛ لأنَّها على خلاف الحقيقة؛ إذ فيها مبالغة، فالإنسان ليس كلّه بركة.
* ومنها: (أبرك الساعات أن نراك)، فهذه معلوم أنَّها تقال على سبيل الإكرام والاحتفاء، ومع هذا فالأولى أن لا تقال؛ لأنَّ أبرك الساعاتِ ساعةٌ تطيع فيها الله، ولئن كان اللقاءُ بالإخوان في الله طاعة، إلّا أنَّه قد لا يكون أبرك
(1)
أخرجه البخاري (3672)، ومسلم (367) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه أحمد (6/ 277)، وأبو داود (3931)، وابن الجارود في المنتقى (705)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4748)، وابن حبان في الصحيح (4054)، والحاكم (6781)، والبيهقي في الكبرى (9/ 74).
(3)
في بدائع الفوائد (1/ 187).
(4)
معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد ص (628).
الأوقات.
المسألة الخامسة: استدل المصنّف في الباب بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} [النجم، الآيات (19، 20، 21، 22)]. {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف، الآية (138)].
والمعنى: أنَّ الله يقول للمشركين الذين يعبدون الأصنام -وفي مقدمتها هذه الأصنام الثلاثة المشهورة- هل نفعتكم هذه الأصنام بشيء؟ هل دفعت عنكم الضرّ؟ هل جلبت لكم رزقًا أو نفعًا؟ ومعلوم أنَّهم لا يقدرون على الجواب.
قال القرطبي: «قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو صَالِحٍ (اللَّاتَّ) بِتَشْدِيدِ التَّاءِ
…
وَالْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ: (اللَّاتَ) بِالتَّخْفِيفِ»
(1)
(2)
.
* أما على القراءة الأولى: فقال الأعمش: «سمّوا اللات من الإله، والعزى من العزيز» ا. هـ. فقد اشتقّوها من اسم الله، قال ابن كثير:«كانت صخرة بيضاء يتبركون بها ويطلبون قضاء الحوائج، وكانت لأهل الطائف، وكانوا يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش»
(3)
ا. هـ.
ولم تزل موجودة حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة، فهدمها وحرقها بالنار، وذلك في السنة الثامنة.
(1)
وقال الطبري في تفسيره (22/ 48): وأولى القراءتين بالصواب عندنا في ذلك: قراءة من قرأه بتخفيف التاء.
(2)
تفسير القرطبي (17/ 100 - 101)، وانظر: تفسير الثعلبي (9/ 145)، وتفسير البغوي (4/ 308).
(3)
تفسير ابن كثير (7/ 455).
• وعلى هذا: يكون علاقة الآية بالباب من جهة التبرك بالأحجار.
* وأما على القراءة الثانية: فقد قال ابن عباس: «كَانَ رَجُلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ؛ فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ فَعَبَدُوهُ»
(1)
.
ومعنى اللتّ: أن يأتي بالسويق ويجعل فيه السمن فيطعمه الحجاج.
• وعلى هذا: فيكون من باب التبرّك بالأموات، وهو من شرك القبور.
قال صاحب التيسير: «ولا تخالف بين القولين، فإنَّ من قال: إنَّها صخرة لم ينف أن تكون صخرة على القبر أو حواليه، فعظمت وعبدت تبعًا لا قصدًا، فالعبادة إنّما أراد بها صاحب القبر» إلى أن قال رحمه الله: «فتأمَّل فعل المشركين مع هذا الوثن، ووازن بينه وبين بناء القباب على القبور، والعكوف عندها ودعائها وجعلها ملاذًا عند الشدائد»
(2)
.
* وأما العزى: فتقدم قول الأعمش أنَّها من اسم الله (العزيز).
قال ابن جرير: «كانت شجرة عليها بناءٌ وأشياءٌ بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش تعظمها» ا. هـ، ولذلك قال أبو سفيان يوم أُحد:«لَنَا العُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ»
(3)
، ولما فتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة أرسل خالد بن الوليد، فأتاها فقطع السمرات الثلاثة التي عندها، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئًا، فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة -وهم حجبتها- امتنعوا في الجبل، وهم يقولون: يا عزى يا عزى، فأتاها خالد،
(1)
أخرج البخاري (4859) شطره الأول، وأخرجه الطبري بتمامه في التفسير (22/ 48).
(2)
تيسير العزيز الحميد (137).
(3)
أخرجه البخاري (3039).
فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها، فعلاها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى
(1)
.
• وهذا: لأنّ الواقع أنَّ المشركين ليست عبادتهم لهذه الأصنام، وإنّما عبادتهم للشياطين فهي التي تدعوهم إلى عبادتها، وهى التي تكلمهم أحيانًا ويظنّون أنّ الصنم هو الذي يتكلم، أو أنّ الميّت هو الذي يتكلم
(2)
.
* وأما (مناة) فاختُلِف في اشتقاقها:
1.
فقيل: من اسم الله المنان.
2.
وقيل: سُمِّيت مناة؛ لكثرة ما يُمنى-أي يراق- عندها من الدماء للتبرك بها.
* وكان موضعها بالمُشلَّلِ عند قديد، بين مكة والمدينة، وكانت للأوس والخزرج، وكانوا يُهلّون منها للحج، فلما فتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة أرسل علي بن أبي طالب إليها فهدمها.
* وقوله: {الْأُخْرَى} : أي المتأخرة وضيعة القدر.
وإنما خُصّت هذه الثلاثة: لأنَّها أشهر الأصنام عند العرب وأعظمها، فبيّن الله لهم أنَّها لم تنفعهم ولم تضرهم هذه الأصنام.
* وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} : استفهام إنكاري للمشركين الذين إذا جاء أحدهم ولدٌ ذكر استبشر، وإذا جاءه أنثى ظل وجهه مسودًا، ومع ذلك
(1)
أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة (2/ 126)، والنسائي في الكبرى (11483)، وأبو يعلى في المسند (902)، وأبو نعيم في الدلائل (463)، والبيهقي في الدلائل (5/ 77).
(2)
انظر: إعانة المستفيد (1/ 158).
يقولون: الملائكة بنات الله.
وقيل: يجوز أن يراد أنَّ اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموها لله شركاء، ومن شأنكم أن تحقروا الإناث، وتستنكفون أن يولدن لكم أو ينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادًا لله وتسموهم آلهة؟
قال صاحب التيسير: «ما أقرب هذا القول إلى سياق الآية»
(1)
.
وقوله: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} : أي جائرةٌ باطلة، إذ نزَّهتم أنفسكم عن البنات، ونسبتموها لله.
• واعلم أنَّ مستند الكفار والمشركين في عبادتهم للأصنام أمران:
1 -
حُسْنُ ظنِّهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، والظنُّ لا يغني من الحق شيئًا.
2 -
حظُّ أنفسهم في رياستهم واتباع أهوائهم، وأضرُّ شيءٍ على الإنسان أن يتَّبع ما يهوى ويترك الهدى.
وإذا تقرر هذا فاعلم أن وجه مناسبة الآية للباب: هي أنَّ الذين يعبدون هذه الأصنام يعتقدون أنَّها تنفعهم وتضرهم، وهم يتبرَّكون بها ويتقربون إليها ويذبحون لها ويدعونها، فعدّ اللهُ عملهم شركًا.
• فيؤخذ من هذا: أن كُلَّ من تبرَّك بشجرٍ أو قبر أو حجرٍ أو غير ذلك، قاصدًا بذلك جلب النفع أو دفع الضر، فقد شابههم في شركهم.
• واعلم: أنَّ الذي يفعله بعضُ معظّمي القبورِ اليوم هو من جِنس ما كان يفعله
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص: 143).
أصحاب الأصنام، فقد ذكر ابن هشام:«أنَّ العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوتٌ تُعظَّمُ كتعظيم الكعبة، لها سدنةٌ وحُجَّابٌ، ويُهدى لها كما يُهدى للكعبة، ويُطاف بها ويُنحَرُ عندها، وهم يعرفون فضل الكعبة عليها؛ لأنَّهم كانوا يعرفون أنَّها بيت إبراهيم عليهم السلام ومسجده»
(1)
.
المسألة السادسة: ذكر المصنّف في الباب حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اللهُ أَكْبَرُ، إنَّها السُّنَنُ، قُلْتُمْ -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف، الآية (138)]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ «.
ومضمون الحديث: أنَّه لما فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكّة خرج إلى حنين، وهو وادٍ بين مكّة والطائف -وكانت غزوة حنين في السنة الثامنة في شهر شوال وقصتها معروفة-، وكان معه الصحابة، ومعه قومٌ قريبوا عهدٍ بكفر -كما قال أبو واقد رضي الله عنه وإنّما قال هذا ليعتذر عن طلبهم وسؤالهم، إذ إنَّ غيرهم لا يجهل ذلك، ولو وقر الإيمانُ في قلوبهم لما سألوا هذا، وكان للمشركين سدرةٌ يعكفون عندها ويلزمون مكانها تبركًا بها، وكانوا أيضًا يُعَلِّقون عليها أسلحتهم طلبًا للبركة.
فلما رأى هؤلاء القومُ حدثاءُ العهد بالإسلام تلكَ السدرةَ أعجبهم عملُ المشركين، وظنّوا أنَّ هذا الأمرَ سائغٌ، فطلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم
(1)
سيرة ابن هشام (1/ 83).
شجرة مثلها يُعَلِّقون عليها ويعكُفون حولها -وهم قصدوا بهذا التقرُّبَ إلى الله - فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ» تعجبًا واستعظامًا له وتنزيهًا لله عن هذا العمل، إذ كيف يقولون هذا وهم آمنوا بأنَّه لا إله إلّا الله؟! ولكن:«إنَّها السُّنَنُ» ، والسنن: الطرق، أي: أنَّ السبب الذي أوقعكم في هذا هو التشبُّه، فقاس الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله الصحابة على ما قالته بنو إسرائيل لموسى وطلبوه منه، حيث إنَّه لما نجاهم الله وأغرق فرعون وقومه مروا في طريقهم على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا: يا موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، فقال موسى;:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، أي: أنَّ الذي أوقعكم في هذا هو جهلكم بالتوحيد، وعلى هذا فالتشبه بالكفار في عبادتهم وتقاليدهم أمرٌ خطير.
بل إنَّ أوَّل حدوث الشركِ في جزيرة العرب إنما كان بسبب التشبّه بالكفار، حين ذهب عمرو بن لُحَيّ إلى الشام فوجدهم يعبدون الأصنام فأعجبه ذلك، فجلبها إلى الحجاز.
فإن قيل: الآية: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فيها طلبُ إله من دون الله، أمّا الصحابة فإنَّهم إنما طلبوا شجرة يعلقون عليها، فكيف يكونان سواء؟!
فالجواب: طلبُ هؤلاء الصحابة من النبيّ صلى الله عليه وسلم، هو من جنس مطلق المشابهة للكفار، لا أنَّها مماثلة في الشرك بعينه.
(1)
.
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 644).
وقال الشاطبي: «فإنَّ اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله، لا أنَّه هو بنفسه»
(1)
.
والمراد: أنَّ مجرد مطلق المشابهة بين الفريقين لا تُخرِجُ من الملة، فالصحابة طلبوا ولم يفعلوا، ثم إنهم كانوا حدثاء بكفر
(2)
.
ومناسبة الحديث للباب ووجه الشاهد منه: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنكر على هؤلاء طلبهم التبرك بالأشجار، وجعله مثلَ طلب بني إسرائيل أن يكون لهم إلهٌ، فهذا مثلُ هذا وإن اختلف اللفظ، فاختلاف الألفاظ لا يؤثر مع اتفاق المعنى، وحينها يقال: من طلب البركة من شيء ولم يثبت أنَّ فيه بركة، فإنَّ فعله محرم ولا يجوز.
* وإذا تقرر هذا فثمة فوائد تؤخذ من الحديث، أهمها اثنتان:
1) أنَّ تعظيم غير المعظم قد يوقع في الشرك، حينما يغلو المرء به.
(3)
.
وأهل القبور يقولون: إنَّ فعلهم هذا ليس بشرك، وإنّما هو توسلٌ ومحبة
(1)
الاعتصام (2/ 246).
(2)
انظر: التعليق على فتح المجيد للشيخ عبد العزيز العبد اللطيف (ص: 12).
(3)
تيسير العزيز الحميد (141).
للأولياء والصالحين!
فيقال لهم: وإن سمّيتموه توسلًا أو محبّة أو وفاءً للصالحين فإنَّه في الحقيقة شرك، فالذي يتبرَّك بالحجر أو الشجر أو القبر بالتوجه له بالدعاء، فقد اتخذه إلهًا وإن كان يزعم أنَّه ليس بإله.
2) أنَّ حسن المقاصد لا يغير من الحكم الشرعي شيئًا، فهؤلاء الصحابة قصدهم حسن، ومع هذا أنكر عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وغضب، وجعل مقالتهم مثل مقالة بني إسرائيل، فدلّ على أن المقاصد الحسنة لا تبرّر الغايات السيئة المبتكرة.
* خلاصة الباب: أن البركة توقيفيةٌ، فلا تثبت إلا بنص، وأن التبرك بما ثبت في البركة يكون على وفق الشرع، وأن من تبرك بشيء على خلاف مقتضى الشرع فقد وقع في المحذور، والله أعلم.
*
10 - باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ
…
} [الأنعام، الآيات (162 - 163)]. وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر، الآية (2)].
عن علي رضي الله عنه قال: «حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيه، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ»
(1)
.
وعن طارق بن شهاب
(2)
(3)
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (1978).
(2)
في كل مصادر التخريج: طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَلْمَانَ. به. وانظر: الضعيفة (12/ 723).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (33038)، وأحمد في الزهد (ص: 15)، والبيهقي في الشعب (6962)، والخطيب في الكفاية (ص: 185)، والصحيح وقفه على سلمان. انظر: العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد (1/ 240)، الضعيفة (5829).
(4)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي
…
}. الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} .
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله. الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدِثًا، وهو الرّجل يحدث شيئًا يجب فيه حق الله، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تُفرِّق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعيّن، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم. الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلُّصًا من شرهم.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل، ولم يوافقهم على طلبهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر؟
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافرًا لم يقل: «دَخَلَ اَلنَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ» .
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: «الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» . (البخاري 6488 من حديث ابن مسعود).
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
(الشرح)
الذبح لغة: الشقّ، وكل ما يُشق فقد ذُبِح، قال ابن فارس: الذال والباءُ والحاءُ أصلٌ واحد، وهو يدل على الشق، فالذبح: مصدر ذبحتُ الشاة ذبحًا
(1)
.
وشرعًا: إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص.
(1)
مقاييس اللغة (2/ 369)
والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بهذا الباب: بيانُ ما جاء من الوعيد على من ذبح شيئًا من البهائم قاصدًا بذبحه غير الله، وأنَّه شركٌ أكبر؛ لأنَّ الذبح عبادةٌ مِنْ أجَلِّ العباداتِ، وقربةٌ من أفضل القربات المالية، وإذا كان الذبحُ عبادةً، فلا يجوز أن تُصرف لغير الله، وصرفُها لغيره شرك أكبر.
والمؤلف نبّه على هذا لانتشاره عند أهل زمانه، وإلى الآن.
المسألة الثانية: ذكر أهل العلم أن الذبح له حالتان
(1)
:
الأولى: ذبح تقرّب وتعبّد: وهذا له صور ثلاث:
1 -
ذبح النُسك: بأن يتقرب إلى الله بالذبح تعظيمًا له، ويدخل فيه الأضحية والعقيقة والنذر والهدي وغيرها، وهو فيه مأجور.
2 -
الذبحُ البدعي: وهو أن يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله-وسيأتي بيانه في الباب الآتي-.
3 -
الذبحُ الشركي: وهو أن يذبح لغير الله تقربًا، وله صور:
1/ الذبح عند القبور تقربًا إليها، فهذا شرك أكبر.
2/ الذبحُ للجِنِّ دفعًا لأذاهم، كما لو ذبح عند نزول البيت أو غير ذلك: والأقرب أنه شركٌ أكبر؛ لأن الذبح عبادةٌ مستقلةٌ، فمتى ما صُرِفَتْ لغير الله صار ذلك شركًا أكبر.
(1)
انظر: موسوعة العقيدة (3/ 1274).
3/ الذبحُ للشياطين كي يستخدمهم، وهو شركٌ أكبر كذلك، لأنه صرف العبادة -وهي الذبح- لغير الله، قال ابن القيم:«مَنْ ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقدْ عَبَدَه، وإن لم يسمّ ذلك عبادة، بل يسمّيه استخدامًا»
(1)
.
4/ الذبحُ للقادم عند قدومه ووصوله المكان تقربًا له: وهذا شركٌ أكبر، وقد ذكر المروزي أن ما ذُبِحَ عند استقبال السلطان تقربًا إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله.
فأما لو كان ذبحُه للقادم تقربًا لله عند قدومه، ولكنه استقبله بذلك: فهذا بدعيٌ ومحرم
(2)
.
الثانية: الذبحُ المباح: وهو ما يُقصد فيه التمتع باللحم، أو الاتجار به، ونحو ذلك، وقد يكون مشروعًا إذا ذبح بقصد إكرام الغير، ما لم يصل إلى الإسراف.
المسألة الثالثة: حكم الأكل من الذبيحة التي ذبحت لغير الله.
لا يجوز؛ لأنَّها أُهِلَّ بها لغير الله، وقد قال الله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة، الآية (3)].
قال النووي: «لا تحلُّ هذه الذبيحة، سواء أكان الذابحُ مسلمًا أو نصرانيًا أو يهوديًا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله، والعبادةَ له، كان
(1)
بدائع الفوائد (2/ 235)، وانظر: الفتاوى للإمام محمد بن عبد الوهاب (ص: 66)، فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 209).
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن باز (1/ 442).
ذلك كفرًا، فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك صار بالذبح مرتدًا»
(1)
.
المسألة الرابعة: ذكر المصنف في الباب آيتين وحديثين:
* أما الآية الأولى: فهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام، الآيات (162 - 163)]، أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغيره، ولكل من بعدهم إلى قيام الساعة.
* {إِنَّ صَلَاتِي} : والصلاة لغة: الدعاء، وفي الشرع: العبادة المبتدأة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، وهي عبادةٌ تشتمل على عباداتٍ قلبية كالخشوع والخشية، وقوليةٍ: كالتكبير والتحميد وقراءة القرآن، وعمليةٍ: كالركوع والسجود.
* {وَنُسُكِي} : أي ذبحي، والمراد: ما يذبح من بهيمة الأنعام على وجه التقرب والعبادة، وقال الزجاج:«النسك كل ما تقرب به إلى الله، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح»
(2)
.
{وَمَحْيَايَ} : أي ما أحيا عليه في عمري من العبادة كلها لله خالصًا.
{وَمَمَاتِي} : أي ما أموت عليه، أي: أحيا وأموت على التوحيد.
فكل هذه الأمور لا تكون إلا لله، وغيره لا يستحق أن يصرف له شيء منها؛ لأنَّ كلَّ المخلوقات مربوبة لله وهو خالقها، فلا يستحق هذا إلا الله.
{وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} : أي بذلك الإخلاص في العبادة أمرني الله.
(1)
شرح مسلم (13/ 141) بتصرف يسير.
(2)
معاني القرآن (1/ 209)، (2/ 311).
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} : أي أول المسلمين من هذه الأمة. قاله قتادة
(1)
؛ لأنَّ إسلام كل نبي متقدمٌ على إسلام أمته، والأنبياء كانت دعوتهم للإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له.
* وفي قرن الصلاة بالنسك في الآية فائدة وهي: بيان فضل النسك لله، وأنَّه عبادة عظيمة، قال شيخ الإسلام:«أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عِدَتِه، وأمرِه وفضلِه وخلفه عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوءِ الظن منهم بربهم، ولهذا جمع الله بينهما»
(2)
.
ومناسبة الآية للباب: أنَّ الذبح لا يكون إلا خالصًا لله، وبذلك أمر الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وصرفُه لغير الله مخالفة؛ لأمر الله وأمر رسوله ووقوع في الشرك.
* وأما الآية الثانية: فهي قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر، الآية (2)].
وهذا أمر من الله لنبيِّه أن يخلص الصلاة لله، ويخلص له النحر سبحانه.
والمعنى: أنَّ الله لما امتن على محمدٍ صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر أمره أن يشكر النعمة، بأن يصلي له، وبأن يذبح وينحر له سبحانه.
قال صاحب التيسير في معنى الآية: «فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه،
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (22/ 285).
(2)
مجموع الفتاوى (16/ 531).
وشرفك وصانك من مِنَنِ الخلق، مراغمًا لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفًا لهم في النحر للأوثان»
(1)
.
ومناسبة الآية للباب: أن الله قرن في الآيةِ الذبحَ بالصلاة، وأمر بصرفهما كليهما لله، فدلَّ على أنَّ الذبح عبادة عظيمة لا تصرف إلا لله.
* وأما الأحاديث فأولها: حديث علي رضي الله عنه قال: «حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيه، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ» .
* وقوله: «بأربع كلمات» : أي بأربع جمل، إذ الكلمة في اللغة العربية تطلق على الجملة المفيدة، كقوله:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
* وقوله «لَعَنَ اللهُ» : اللعنُ: الطرد والإبعاد من رحمة الله، والمراد به إذا أضيف من المخلوق لله: اللهم أبعده واطرده عن رحمتك.
وقوله: «مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» : عامٌ يشمل ذبح أي شيء مما يُذبح لغير الله، من آدمي أو جني أو صنم أو غيره.
* وقوله: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيه» : الوالدان هما الأب والأم وإن عَلَو، وكلما قَرُبَ كان أشدّ؛ لأنَّه أولى بالبر.
ولعن الوالدين يأتي على أحد صورتين كلاهما محرم:
1 -
مباشرة لعنهما وسبهما: قال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} واللعن والشتم
(1)
تيسير العزيز الحميد (145).
أشدّ.
2 -
أن يتسبب في لعن والديه: بأن يلعن والدي رجلٍ، ثم يرد عليه ذلك بالمثل، فيكون متسببًا في لعن والديه، وفي الحديث:«إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ:«يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ»
(1)
.
* وقوله: «لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا» : المُحْدِثُ: بكسر الدال، وهذا يشمل:
1 -
الإحداث في الدين: كأن يؤوي مبتدعًا.
2 -
الإحداث في شؤون الأمة، والإيواء: الحماية والدفاع عنه، كأن يؤوي مجرمًا يستحق إقامة الحدّ، فيحول بينه وبين الناس بجاهه أو قوته أو جنوده وسلطانه.
والحديث يعمُّ المعنيين، وكلما كان الحدثُ أكبر كانت الكبيرة أعظم.
وقد ورد في بعض الروايات «مُحْدَثًا» بفتح الدال، والمُحْدَثُ: البدعة، ويكون إيواؤها بالرضى بها، فإذا رضي بالبدعة وأقرَّ عليها فاعلها، ولم ينكر عليه فقد أواها، إلا أنَّ ضبطها بكسر الدال أولى.
* وقوله: «لَعَنَ اَللَّهُ مِنْ غَيْرِ مَنَارَ اَلْأَرْضِ» : منار الأرض جمع منارة، واختلف في معناها على أقوال:
1.
المراسيم والعلامات التي تُفَرِّقُ بين الجيران، وتغييرها: بأن يقدمها أو يؤخرها ظلمًا؛ ليزيد في مسافة أرضه، وهذا أقرب الأقوال، وقد قال صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(1)
.
2.
العلامات التي على الطرق لتوضحه وتبينه، وقد يدخل فيها في عصرنا العلامات التي تضعها المواصلات في الطرق، فيأتي من يغيرها ليضلّ الناس.
ومناسبة الحديث للباب: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لعنَ من ذبح لغير الله، وهذا يدل على شدة الأمر؛ إذ لا يلعن إلا على أمر عظيم، وهذا عام - كما سبق- في كل من ذبح لغير الله، سواء أكان في نيته التقرب للمذبوح أو لدفع شرّه أو طلب الخير من المذبوح، فكلّه شرك أكبر، وسواء تلفظ بالنية بأن قال: هي لكذا، أو نوى ذلك بقلبه.
وفي هذا الحديث لعن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنواعًا من الفُسّاقِ، وأهل العلم يقررون بأن لعنَ الفاسقِ له حالتان:
أ- لعنٌ على العموم: كهذا الحديث، وقد ورد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لعن أنواعًا كثيرة من الفساق بعمومهم، كآكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه
(2)
، ولعنَ في الخمر عشرة
(3)
، والواصلة والمستوصلة
(4)
وغيرها، فهذا جائزٌ، فلو قال رجلٌ مثلًا: لعن الله آكل الربا، فيجوز.
(1)
أخرجه مسلم (1610) من حديث سعيد بن زيد.
(2)
أخرجه مسلم (1597) من حديث ابن مسعود، وله شاهد من حديث أبي جحيفة أخرجه البخاري (5347).
(3)
أخرجه أبو داود (367)، وابن ماجه (3380) وأحمد (2/ 25) من حديث ابن عمر، وصححه الألباني في الإرواء (2385).
(4)
أخرجه البخاري (5947)، ومسلم (2124) من حديث ابن عمر، ورووه أيضًا من حديث غيره.
ب- لعنُ الفاسقِ المعيّن: فالذي عليه أكثر العلماء، واختاره ابن تيمية
(1)
، أنَّه لا يجوز لعن الفاسق المعين، وإنما يُلعَنُ من اتصف بهذا الوصف، فلو رأيت من يشرب الخمر فليس لك أن تقول: لعنك الله، بل تقول: لعن الله شارب الخمر.
* ويدل لذلك: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر، ولما أُتي بأحد الصحابة يشرب الخمر قال رجل من الصحابة: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
(2)
، وقد كان الإمام أحمد يكره لعن المعيّن، كالحجاج ويزيد بن معاوية، ويقول:«ألا لعنة الله على الظالمين» .
* وأما الحديث الثاني: فهو حديث طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دَخَلَ اَلْجَنَّةَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ وَدَخَلَ اَلنَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ؟ قَالَ: مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ أُقَرِّبُهُ، قَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا، فَقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ اَلنَّارَ، وَقَالُوا لِلْآخَرِ: قَرِّبْ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اَللَّهِ عز وجل، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَدَخَلَ اَلْجَنَّةَ» ، وهذا الحديث عزاه المصنف لأحمد، وليس هو في المسند، وإنما أخرجه أحمد في الزهد.
وطارق بن شهاب: صحابيٌ على الصحيح وقول الأكثر، وقد قال عن نفسه:«رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وغزوت في خلافة أبي بكر» ، ومات سنة (83 هـ)، وقد رواه طارق عن سلمان رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بينتُ ذلك في تخريج
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (4/ 484)، (6/ 511)، ومنهاج السنة النبوية (4/ 570: 567).
(2)
أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر بن الخطاب.
الحديث آنفًا.
إلا أن الحديثَ أعلّه بعضُ العلماء بالوقفِ على سلمان الفارسي، وهو المحفوظ، فيحتمل أن سلمان أخذه من أهل الكتاب؛ لأنَّه كان نصرانيًا فأسلم.
ومضمونُ الحديثِ: أن هذين الرجلين مرّا على صنمٍ لا يتجاوزه أحدٌ حتى يقرب له شيئًا تعظيمًا له، فقيل للرجلين: قَرِّبا، فامتنع الأول، واعتذر الآخر بأنَّه ليس عنده ما يقربه، فهو موافقٌ على الذبح لهذا المعظم، فرضوا منه بأيسر شيء؛ لأنَّ قصدهم موافقتهم على ما هم عليه من الشرك، فقرَّب ذبابًا، ولو وجد بدنة لقربها، فلما قَرَّبَ الذبابَ استوجب دخول النار؛ لأنَّه قصد بهذا الذبحِ غيرَ الله، والعبرةُ بالنيةِ وعملِ القلب.
وقد اختلف أهل العلم في الحديث على رأيين:
الرأي الأول: من يرى ضعف الحديث، ويُعِلُّه بما سبق، ثم إنَّهم يستنكرونه بأن الرجل في الحديث لا يخلو حاله من أمرين:
1.
أنَّه لما قدَّم الذبابَ للصنم إنما قدمه عبادة له وتعظيمًا، فهو في هذه الحالة لا يكون مسلمًا، بل هو مشرك.
2.
أنَّه فعل ذلك خوفًا من القتل، وهو في هذه الحالة لا تجب له النار، وحينها فالحكم عليه بأنَّه مسلم دخل النار في ذبابٍ يأباه قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
…
}، وقد نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر به صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء معتذرًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
تفسير الطبري (17/ 304). أخرجه الحاكم في المستدرك (3362)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 140)، والبيهقي في الكبرى (8/ 208)، من طريق محمد بن عمار بن ياسر به، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الحافظ في الدراية (2/ 197): إسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه.
ذكر هذا الألباني رحمه الله
(1)
.
الرأي الثاني: من يرى صحة الحديث، ويجيب عن الإشكال الذي أورده الأولون -وأنَّ الرجل إما أن يكون مكرها أو مشركًا حقيقة- بجوابين:
الأول: أن كون الإكراه عذرٌ هو من خصوصيات هذه الأمة، أما من سبقها من الأمم فإنَّ الإكراه في حقهم ليس بعذر، وعليه فإنَّ هذا الرجل وقع في الشرك مكرهًا، ومع هذا فلم يُعْذَر.
قال الشنقيطي على قوله: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} : «أخذ بعض العلماء منها أنَّ العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة؛ لأنَّ قوله عن أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
…
} ظاهرٌ في إكراههم على ذلك، وعدم طواعيتهم، ومع هذا قال عنهم:{وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} ».
وقال أيضًا: «ومن أصرح الأدلة في أن من قبلنا ليس لهم عذرٌ بالإكراه، حديثُ طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه لصنم، مع أنَّه قرّبه ليتخلص من شرّ عَبَدَةِ الصنم، وصاحبُه الذي امتنع من ذلك قتلوه، فَعُلِم أنَّه لو لم يفعل لقتلوه كما قتلوا صاحبه، ولا إكراه أكبر من خوف القتل، ومع هذا دخل النار ولم ينفعه الإكراه، وظواهرُ الآيات تدل على ذلك، فقوله:{وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} ظاهر في عدم فلاحهم مع الإكراه؛
(1)
السلسة الضعيفة للألباني (12/ 717).
لأن قوله: {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} ، صريح في الإكراه»
(1)
.
الثاني: أنَّ الذي يظهر أنَّه غير مُكرَه؛ لأنَّه اعتذر بأنَّه لم يجد ما يذبحه ويقرِّبُه، ولو كان مُكرهًا لم يُعاقَب ما دام قلبه مطمئنًا بالإيمان؛ لقوله:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ}
وعلى كل حال، فالأقرب أنَّ الحديث إسناده ضعيف، والحديث وإن كان الأقرب ضعفه، إلا أنَّ ذلك لا يغيِّر من الحكم شيئًا، فالنهي عن الذبح لغير الله، وكون الذابح مشركًا، وردت فيه أدلّة أخرى غير هذا الحديث.
* خلاصة الباب: أنَّ الذبح بقصد تعظيم المذبوح له والتقربِ له عبادةٌ، فلا ينبغي أن تصرف لغير الله، وصرفُه لله قربةٌ مِنْ أشرف القربات، وصرفه لغير الله شرك أكبر.
(1)
أضواء البيان (3/ 251).
11 - باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة، الآية (108)].
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَسَأَلَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانٍ اَلْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟» قَالُوا: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اَللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ اِبْنُ آدَمَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3313)، ومن طريقه: البيهقي في الكبرى (10/ 77)
قال ابن عبد الهادي: حسن صحيح. الصارم المنكي (309)، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (1/ 490): أصلُ هذا الحديث في الصحيحين، وهذا إسناد على شرطهما ورجال إسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصل بلا عنعنة، وصححه ابن الملقن في البدر المنير (9/ 518) والحافظ في التلخيص (2/ 331)، وفي البلوغ (1/ 287)، والألباني في تحقيق المشكاة (3437)
وله شاهد من حديث ابن عباس عند ابن ماجه (2130) بسند حسن، ومن حديث ميمونة بنت كردم عن أبيها، عند أحمد (3/ 419) وابن ماجه (2131).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة، الآية (108)]. الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذا الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المُشْكلة إلى المسألة البيِّنة ليزول الإشكال. الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع. السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله. الثّامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده. العاشرة: لا نذر في معصية. الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
(الشرح)
عقد المصنف هذا الباب (بابٌ لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله)، والكلام عليه في عدة مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالترجمة: أن يبيّن ما يدلّ على أنَّ المسلم لا يجوزُ أن يذبح لله، أو يتعبد لله بأي عبادة في زمان أو في مكان قد اتخذه المشركون لعبادتهم.
أما المكان: فكما في هذا الحديث، وكما عند القبور.
وأما في الزمان فكما في يوم المولد النبوي، وغير ذلك من الأزمان التي يجعل البعض من الناس فيها عباداتٍ لم يرد الشرع بالأمر بها.
واعلم أنَّ الأمر لا يختص بالذبح -كما نص عليه المصنف-، بل يراد به النهي عن تحرّي العبادات في الأماكن والأزمان التي يوافق ويشابه بها المشركين، وذِكرُ الذبح في الباب إنما هو للمثال.
قال ابن تيمية: «ومن اعتقد أن الذبح عند القبر أفضل، أو الصلاة، أو الصدقة،
فهو ضالٌ مخالف لإجماع المسلمين»
(1)
.
ومناسبة الباب لما قبله: من جهة أنَّه لما قرر أن الذبح لغير الله شركٌ أكبر، إذ نفس الفعل لغير الله، ذكر هنا الذبح لله لكن في مكانٍ يُذبَح فيه لغير الله، فالأوّل من باب الشرك الأكبر، فناسب ذكره بعده.
ثم إنَّه ربما قلتَ لشخصٍ رأيته يذبح عند قبرٍ أو غيره، أن الذبح لغير الله شرك، فربما عارضك بأنَّه يذبح لله، فأراد المؤلف أن يبيّن أنَّه حتى ولو كان لله، فما دام أنَّه موضع يُتَعبَّدُ به لغير الله فينهى عنه.
المسألة الثانية: الحكمة من النهي عن الذبح لله بمكانٍ يذبح فيه لغير الله:
1.
أنَّه وسيلة إلى الشرك على مرّ الأزمان، فسدًّا للذريعة نهينا عن مشاركتهم.
2.
أنَّ فيه تشبهًا بالكفار، وموافقةُ المشركين الظاهرة تدعو إلى الموافقة الباطنة، وربما اعتقد -مع مرور الوقت- أنَّ الذبح في هذا المكان أفضل من غيره.
3.
أنَّه يؤدِّي إلى أن يغتر بك من يراك على هذا الفعل، فاعتقد أنك تذبح كما يذبح المشركون لغير الله.
4.
أنَّ فيه تقويةً للمشركين على فعلهم إذا رأوا من يفعل مثلهم.
المسألة الثالثة: ذكر المصنف في الباب آية وحديثًا مستدلًا بهما على ما بوب عليه.
* أما الآية: فقول الله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة، الآية (108)].
(1)
مختصر الفتاوى المصرية (522).
والضمير في الآية يعود إلى مسجد الضرار، وقصته: «أن أبا عامر الفاسق كان قد قرأ الكتب السابقة في الجاهلية، وتعبد حتى صار يسمى أبا عامر الراهب، وكان يعظمه الناس لما يظهر عليه من الدين، فلما هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حسده أبو عامر وكفر به وأبغضه، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق؛ لأنَّه خرج عن طاعة الله وكفر بالرسول، ثم إنَّه ذهب إلى الشام يؤلب النصارى على رسول الله، وكتب وهو في الشام إلى جماعة من المنافقين في المدينة أن ابنوا لنا مكانًا من أجل أن نجتمع فيه ونتشاور
(1)
، وهم يريدون بهذا المكان ما ورد في الآية:
1 -
مضارةً لمسجد قباء. 2 - التفريق بين المؤمنين.
3 -
الكفر بالله؛ لأنَّه يقرر فيه الكفر، والذي اتخذه المنافقون.
4 -
يكون إرصادًا لمن حارب الله ورسوله.
فأظهروه بصورة المسجد، وقالوا: بنيناه من أجل الضعيف والمريض والليلة المطيرة والشاتية، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه؛ كي يعطوه الصبغة الشرعية، فاعتذر بأنه على سفرٍ إلى تبوك، وإذا رجع سيصلي فيه، فلما رجع ولم يبق على المدينة إلا ليلة أو ليلتان أتاه الوحي من السماء بهذه الآيات، وفيها:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} ، ففيها تيئيس للمنافقين أنَّه لن يقوم فيه أبدًا.
ووجه الدلالة من الآية: أنَّ الله منع رسوله من الصلاة في مسجد الضرار؛ لأنَّه مؤسَسٌ لمقاصد خبيثة، مع أنَّ صلاة النبيّ فيه لله، فكذلك المواضع المعدّة للذبح لغير الله لا يذبح فيه الموحد لله؛ لأنَّها أسست على معصية
(1)
أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (1/ 52).
الله والشركِ به، فكلُّ مكان يُعصى الله ويشرك به فيه، فإن الإنسان لا يقوم فيه، ولهذا الأمر ساقه المصنف في الباب
(1)
.
* وقوله «بوَانَةَ» : بضم الباء هضبة وراء ينبع، قريبة من ساحل البحر الأحمر.
* وقوله: «وَثَنٌ» : الوثن: كل ما عبد من دون الله من حجر أو قبر أو غيره.
* وأما العيد: فهو اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد، إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحوه، قاله ابن تيمية
(2)
.
* وأما الجاهلية: فالمراد بها ما كان قبل الرسالة والإسلام، وهذه زالت ببعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم لكن قد يبقى أشياء منها في بعض الناس، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»
(3)
، فأما الجاهلية العامة فقد زالت بالبعثة.
* وقوله: «وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ اِبْنُ آدَمَ» : يدخل فيه أمران:
1 -
ما لا يملك فعله شرعًا: كما لو نذر إعتاق عبد فلان أو تزوّج زوجة فلان.
(1)
ذكر ابن تيمية أن مسجد الضرار من أمكنة العذاب، كما قال تعالى (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) وقد نهي الإنسان عن الصلاة في أمكنة العذاب، وندب إلى الصلاة في أماكن الرحمة كالمساجد الثلاثة. اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 231).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 496).
(3)
أخرجه مسلم (934) من حديث أبي مالك الأشعري.
2 -
ما لا يملك فعله حِسًّا: كما لو نذر أن يطير في الهواء، ونحوه مما يستحيل.
ومعنى الحديث: أنَّ هذا الرجلَ أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله في نذرٍ نذره على نفسه، أن ينحر إبلًا في بوانة، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسأله لِمَ خصص هذا الموضع؟ هل كان فيه وثن لأهل الجاهلية، ولو قبل مدة، أو فيها عيدٌ فاعتادوا أن يأتوا هذا المكان ويتخذوه عيدًا، ولو لم يكن فيه وثن، وفي حديث ابن عباس أنَّه صلى الله عليه وسلم قال له:«فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ؟»
(1)
فلما أجابه بالنفي، وتيقّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم من سلامة المكان من أمور الشرك ووسائله وشوائبه أذن له بالوفاء بنذره فيه.
ووجه الشاهد من الحديث: استفصال النبيّ صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل، فإنه يدل على أنَّه لو كان في البقعة مكان لعيدهم أو وثن من أوثانهم، فإنَّ هذا مانع من الذبح فيها، وإلا لما حسن الاستفصال.
فيؤخذ منه المنع من الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله، وإن كان الذين يذبحون فيه لغير الله قد أسلموا، وتركوا ذلك المكان والعيد، سدًّا للذريعة، حتى لا يكون الذبح هناك سببًا لإحياء تلك البقعة، وذريعةً لاتخاذها عيدًا.
المسألة الرابعة: كيف يُجابُ عن فعل الصحابة - كابن عمر وغيره -حين صلوا في الكنيسة، فهم تعبدوا لله في مكانٍ يتعبد فيه لغير الله؟
* الجواب على هذا الإيراد من وجوه أقواها اثنان:
1 -
أن الصلاة تخالف صلاة أهل الكنيسة، فلا يكون الإنسانُ متشبهًا بهم في العمل، فهم لهم صلاةٌ من نوعٍ يخالف صلاة المسلمين، بخلاف الذبح
(1)
أخرجه ابن ماجه (2130)، وقد سبق قريبًا.
في مكان يذبح لغير الله فيه، فالفعل واحد بنوعه وجنسه
(1)
.
2 -
أن الكنيسة مكان لعبادة الله، وجنس العبادة متفق عليها، ولكن اختلفت صفتها، بخلاف الحديث عن الذبح، فهم يتقربون لغير الله.
المسألة الخامسة: ورد في الحديث الإشارة إلى الوفاء بالنذر، واعلم أن النذر من حيث وجوب الوفاء به أقسام:
1.
نذر الطاعة: فيجب الوفاء به؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»
(2)
.
2.
نذر المعصية: فيحرم الوفاء به؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: «وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» . وحديث الباب.
والمذهب عند الحنابلة: أنَّ فيه الكفارة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «لا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»
(3)
.
وقيل: لا كفارة فيه، ولعل الأول أقرب، للحديث.
3.
نذر المكروه: كأن ينذر لله أن يفعل أمرًا مكروهًا؛ فيكره الوفاء به.
* خلاصة الباب: أن كل موطنٍ وكل زمانٍ اتخذه المشركون لعبادتهم وشركهم، فإنَّ الإنسان لا يجوز أن يتعبّد فيه لله، بل يتعبّد في غيره من الأماكن؛ لما تقدم من الحكم.
(1)
القول المفيد (1/ 241).
(2)
أخرجه البخاري (6696).
(3)
أخرجه أبو داود (3291)، والترمذي (1524)، والنسائي (3834)، وابن ماجه (2125)، وأحمد (6/ 443)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7547).
12 - بابٌ من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان، الآية (07)]، وقوله:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة، الآية (270)].
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
النذر لغة: الإيجاب والإلزام.
وشرعًا: إلزامُ المكلّفِ نفسه لله شيئًا لم يجب عليه بأصل الشرع.
والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مرادُ المصنف بالباب، ومناسبة الباب لكتاب التوحيد:
بيَّن المصنف في الباب الأدلة على أنَّ النذر عبادة، وإذا كان كذلك فصرفُه لغير الله شركٌ أكبر ينافي التوحيد، ومعلوم أنَّ ضابط الشرك الأكبر: أن يصرف
(1)
أخرجه البخاري (6696).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر. الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غيره شرك. الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
العبدُ نوعًا من أنواع العبادة لغير الله، وبهذا يتبيَّن ارتباط الباب بالتوحيد، فهو من جهة أنَّ النذر لغير الله شركٌ، وهو منافٍ للتوحيد.
وإنما صار النذرُ لغير الله شركًا أكبر: لأنَّه نذرٌ لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لأنَّه عبادة، والعبادة لا تكون للمخلوق.
ثم يقال: بأن المنذور له ميتٌ غالبًا، والميت لا يملك.
وهو ما نذر له إلا لأنَّه ظنَّ أن الميّت يتصرّف في الأمور من دون الله، واعتقاد هذا كفر، ولهذا قال الفقهاء: خمسةٌ لغير الله شرك: الركوع والسجود والنذر والذبح واليمين.
المسألة الثانية: الفرق بين النذر لغير الله ونذر المعصية:
النذر لغير الله: ليس لله أصلًا، بل لغيره، كأن يقول: عليَّ نذرٌ للوليِّ فلان، وهذا شرك أكبر.
أما نذر المعصية: فهو لله لكنَّه نذرٌ على معصية، كأن يقول: لله عليَّ نذرٌ أن أشرب الخمر، ونذُر المعصية محرمٌ، وأشدُ منه النذرُ لغير الله، وقريبٌ منه الحلف، فالحلف بغير الله -وإن كان المرء صادقًا فيما حلف به- أشنعُ جرمًا من أن يحلف بالله وهو كاذب، ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه:«لأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ وَأنَا صَادِقٌ»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 496)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 79)، والطبراني في الكبير (9/ 183) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 177)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 58): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في الإرواء (2562).
(2)
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: تشبيه النذر بالحلف من جهة الكفارة وعدمها لا من جهة أخرى. ا. هـ.
والمراد: أن النذر ليس كالحلف من كل وجه، فالنذر فيه قصد التقرب للمنذور له؛ رجاء نفعه وخوف ضرره، والحلف ليس فيه هذا. انظر: منهج التأسيس (244)، والتعليق على فتح المجيد للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف (ص: 19).
المسألة الثالثة: صور النذر لغير الله عديدة، ومنها:
1 -
من ينذر للقبور ابتداءً، كمن ينذر الزيت والشموع على القبر، باعتقادِ أن النذر لهذا الولي ينفع.
2 -
أن يعلق نذره للقبر على قضاء حاجته، كأن يأتي إلى القبر، ويقول: يا سيدي فلان، إن ردّ الله غائبي أو عُوفي مريضي أو قُضِيت حاجتي، فلك كذا من الذهب، أو من الطعام أو الماء ونحوه صدقة.
3 -
النذرُ للجن: كما لو قال: إن رددتم إليَّ مالي، فلكم عليّ نذرٌ كذا من الطعام أو نحوه أو من الأعمال المحرمة.
والجامع في ذلك أنَّه نذرٌ صُرِفَ لغير الله.
المسألة الرابعة: نصوص الباب: ذكر المصنف آيتين وحديثًا:
* أما الآية الأولى: فهي قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان، الآية (07)].
والمعنى: أنَّ الله مدح الأبرار بأنَّهم يوفون بالنذر إذا نذروا، وهذا يقتضي أنَّه عبادة، حيث مدحهم الله، ولا يمدح الله إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك محرم، ولا يمدح على الفعل المباح المجرد، وبهذا يتبين مناسبة الآية للباب:
فكون الله تعالى يثني على هؤلاء الأبرار، ويجعل هذا الفعلَ سببًا لدخولهم
الجنة يدل على أن النذر عبادة، فصرفُها لغيره شرك.
* وأما الآية الثانية: فقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة، الآية (270)].
والمعنى: أنَّ الله يُخبِرُ أنَّه يعلم جميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفى الجزاء للعاملين ابتغاء وجهه، إذ إنَّ تعليق الشيء بعلم الله دليلٌ على أنَّه محلُ جزاءٍ منه سبحانه.
* ووجه الدلالة من الآية، ومناسبتها للباب، من وجهين:
1.
أنَّ الله قرن النذر بالنفقة في سبيل الله، فدلَّ على أنَّ النذر طاعةٌ وعبادةٌ.
2.
أن الله قال {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} وهذا فيه الحث على الوفاء بالنذر، فدلَّ على أنَّه طاعة وأنَّه لا يضيع عند الله، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك
(1)
.
* وأما الحديث: فهو ما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» .
ومعنى الحديث: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر مَنْ صدر منه نذرٌ أن ينظر في نذره، فإن كان نذر طاعة فليوفِ به، وإن كان نذر معصيةٍ فليترك نذره، ولا يعصِ الله بالوفاء بالنذر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«وَاللَّهِ، لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ»
(2)
.
ووجه الشاهد من الحديث: أن كون النذر يكون طاعةً ويكون معصيةً دليلٌ
(1)
إعانة المستفيد (1/ 252).
(2)
أخرجه البخاري (6625)، ومسلم (1655) من حديث أبي هريرة.
على أنَّها عبادةٌ، وإذا كانت عبادةً فصرفُها لغير الله شرك.
المسألة الخامسة: كيف يكون النذر للقربة منهيًا عنه، ويكون عبادةً في نفس الوقت يُمدح الموفي به؟
=فقال بعض العلماء: أنَّ عقد النذر كلّه منهيّ عنه، وأما ثناء الله فهو على من وفى به، وفرقٌ بين عقدِه والوفاءِ به
(1)
.
القول الثاني: أن نذر القربة على نوعين:
1.
نذرٌ مقيدٌ: وهو ما عُلِّقَ على حصول نفعٍ، كقول: إن شفى الله مريضي فعلي لله كذا.
2.
نذرٌ مطلقٌ: وهو ما ليس معلقًا على نفع الناذر، كأن يتقرب إلى الله تقربًا خالصًا بنذر كذا من أنواع الطاعة بلا تقييد، كقوله: لله علي نذرٌ أن أصلي ركعتين، وهذا ليس في مقابلة شيء يحدث له.
أما الأول: فهو المنهي عنه؛ لأنَّه لم يقع خالصًا للتقرب إلى الله، وإنما بشرط حصول نفع الناذر، ولذا قرّر العلماء أنَّ مَنْ ظنَّ أنَّه لا تحصل له حاجةٌ من حاجاته إلا بالنذر، فإنَّه اعتقاد محرم؛ لأنَّه ظنَّ أنَّ الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوءُ ظنٍّ بالله وسوءُ اعتقادٍ فيه، بل هو المتفضل المنعم على خلقه
(2)
.
(1)
القول المفيد (1/ 248).
(2)
قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/ 204): إنَّ كثيرا من الناس ينذرون نذرًا لحاجة يطلبها، فيقضي الله حاجته، فيظن أن النذر كان السبب
…
فمن ظن أن حاجته إنما قضيت بالنذر، فقد كذب على الله ورسوله.
وأما الثاني: فهو الذي فيه الترغيبُ والثناءُ على الموفين.
وإنما قلنا هذا الجمع لأمرين:
1 -
أنَّ نفس الأحاديثِ فيها قرينةٌ واضحةٌ دالةٌ عليه، وهو ما تكرر منها أنَّ النذر لا يردُّ شيئًا مِنْ القدر ولا يُقدِّمُ ولا يؤخّر، فهذا دليلٌ أنَّه أراد بالنذر جلب نفع أو دفع ضرّ.
2 -
أنَّ الجمع بين النصوص واجبٌ ما أمكن، وهذا جمعٌ ممكن واضح
(1)
.
فإن قيل: النذر المعلق بشرط إذا ذكرتم أنَّه منهي عنه، فكيف يجب الوفاء به؟
* أجيب عن هذا: بأن الأحاديث دلت على النهي عنه، كما هو معلوم، ودلت على لزوم الوفاء به بعد الوقوع بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم:«وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ»
(2)
، فهذا نصٌ صريحٌ أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر على إخراجه.
كذا قيل، ولكن يبقى أنَّ في النذر المطلق إلزامٌ للنفس مالم يجب عليها، فالأولى عدم النذر؛ لأنَّه ربما ألزم الإنسان نفسه فعجز عن ذلك.
وقد أشار ابن تيمية إلى التفريق بين النذر المعلق، وبين أن ينذر قربة لله تعالى، فالأوّل منهي عنه، والثاني محبوبٌ مشروع، حيث قال رحمه الله:«وأما إذا نذر القُرَبَ فالقُرَبُ يحبها الله ورسوله، وإنما يُنهى عن النذر لاعتقاد أنَّه يقضي حاجته، لا كون المنذور مكروها»
(3)
، وقال أيضًا: «والنذر ما يُقصد
(1)
وهذا قرره الشنقيطي رحمه الله. انظر: أضواء البيان (5/ 462).
(2)
أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639) من حديث ابن عمر.
(3)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 653).
به التقرب إلى الله، ولهذا أوجب سبحانه الوفاء بالنذر؛ لأن صاحبه التزم طاعة لله، فأوجب على نفسه ما يحبه الله ويرضاه قصدًا للتقرب بذلك الفعل إلى الله»
(1)
.
* خلاصة الباب:
1 -
أن النذر عبادة.
2 -
أن صرفه لغير الله من الشرك الأكبر، فلا يصرف إلا لله.
(1)
مجموع الفتاوى (35/ 334).
13 - باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن، الآية (6)].
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتحلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على هذا الباب في عدة مسائل:
المسألة الأولى: معنى الترجمة والمراد بها:
الاستعاذة لغة: الالتجاءُ والاعتصامُ والتحرّز، وحقيقتها: الهربُ من شيء تخافه
(1)
أخرجه مسلم (2708).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن. الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأنّ العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأنّ الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به مصلحة دنيوية -من كف شر أو جلب نفع- لا يدل على أنه ليس من الشرك.
إلى شيء يعصمك منه، ولهذا سُمِّي المُستعاذ به مَعاذًا وملجأ
(1)
، وذكر العلماء أنَّ العياذ يكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب الخير
(2)
.
أما الاستعاذة بالله فقد عرَّفها ابن كثير بقوله: «هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر» . ا. هـ
(3)
.
فالعائذ بالله قد هرب ممن يؤذيه أو يُهلِكُه إلى ربّه ومالكه، وفرَّ إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، واستجار به، والتجأ إليه.
والاستعاذةُ بالله عبادةٌ من أجلِّ العبادات، أمر الله بها في آيات كثيرة، منها:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف، الآية (200)]، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون، الآية (97)]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس، الآية (1)]، {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر، الآية (56)].
وأما المراد بهذه الترجمة: فهي في الكلام على الاستعاذة بغير الله، وبيان
(1)
بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 200).
(2)
كما قال المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أؤمله
…
ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره
…
ولا يهيضون عظما أنت جابره
ذكر ابن كثير هذين البيتين في البداية والنهاية (11/ 275)، وقال: وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق، ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى وأخبرني العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو الله بما تضمناه من الذل والخضوع.
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 114).
أنَّها تكون شركًا إذا كانت في أمرٍ لا يقدر عليه إلّا الله، كما سيأتي تفصيله.
ومناسبة الباب للتوحيد: من جهة أنَّ الاستعاذة عبادة، وإذا كانت عبادة فصرفها لا يكون إلا لله، وصرفها لغيره شرك، وهذا موضوع كتاب التوحيد.
المسألة الثانية: نصوص الباب: ذكر المؤلف مستدلًا على الترجمة آيةً وحديثًا.
أما الآية: فقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن، الآية (06)].
* وقوله: {يَعُوذُونَ} : أي يلجئون إليهم ويعوذون بهم رهقًا وذُعرًا وإثمًا.
* {الْجِنِّ} : عالمٌ من عالم الغيب يعيشون في الأرض، أعطاهم الله القدرة على أن يتصوروا بصورٍ متشكلة، وهم مخلوقون من نارٍ، وسُموا جِنًّا؛ لاجتنانهم، أي: استتارهم عن الأنظار، ومنه سُمِّي الجنينُ في بطن أمِّه جنينًا؛ لأنَّه لا يُرى.
والآية: ذكر فيها الله خبر الجن الذين استمعوا للقرآن من النبيّ صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، وكان هذا في وادي نخلةَ بين مكة والطائف وهو يصلي الفجر
(1)
، فذكروا الانتقادات التي انتقدوها على قومهم من الجن، ومنها: أن الاستعاذة بهم من قِبَلِ بعض الإنس كانت تزيدهم رهقًا وعتوًا.
وسبب نزولها: أنَّ العرب كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلًا قال أحدهم: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فكانوا يستعيذون بهؤلاء الجن، فزادوهم رهقًا، وهذا مع أن الاستعاذة بالجن هنا هو في أمرٍ يقدرون عليه
(1)
أخرجه البخاري (773)، ومسلم (449)، من حديث ابن عباس.
وهو كفُّ سفهائهم من الإيذاء، ومع ذلك زادهم رهقًا
(1)
.
* ووجه الدلالة من الآية، ومناسبتها للباب من وجهين:
1.
أنَّ الله حكى عن مؤمني الجن أنَّهم لما تبين لهم دين محمد وآمنوا به، ذكروا أشياء من الشرك كانوا يفعلونها في الجاهلية، ومنها: الاستعاذة بغير الله.
2.
دلت الآية على تحريم الاستعاذة بغير الله، وهذا يدلّ على أنَّ الاستعاذة عبادةٌ، وصرفَ العبادةِ لغير الله شركٌ.
* وأما الحديث: فهو عن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتحلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» .
وراوية الحديث: خولة بنت حكيم بنت أمية السلمية، يقال لها: أم شريك، يقال: أنَّها هي الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، وكانت قبلُ تحتَ عثمان بن مظعون، وكانت صالحة فاضلة
(3)
.
* وقوله في الحديث «مَنْزِلًا» : يشمل أيَّ منزل، سواء كان على سبيل الإقامة الدائمة أو المؤقتة، في البنيان أو في الخلاء.
* وقوله: «بكَلِمَاتِ الله» : بكلماته الشرعية، وهي آيات القرآن.
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (23/ 322) من قول إبراهيم النخعي، وروي عن غيره أيضًا.
(2)
أي التي نزل فيها قوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ .. } (الأحزاب: 50).
(3)
الاستيعاب (4/ 1832).
* وقوله: «التَّامَّاتِ» :
- قيل معناه: الكاملاتُ التي لا يلحقها عيبٌ ولا نقصٌ كما يلحقُ كلام البشر.
- وقيل معناه: الشافية الكافية.
- وقيل المراد به: القرآن.
* وقوله: «مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» : أي من شَرِّ كلّ مخلوقٍ قام به الشرُّ مِنْ حيوانٍ أو إنسانٍ أو ريحٍ أو غيره، وفي المسند بسندٍ صحيح تكرار الدعاء ثلاث مرات
(1)
.
وهذه الاستعاذة تشمل الاستعاذة ممن شرّه محضٌ، كإبليس والنار، وهذا باعتبار ذاتهما، أمّا باعتبار الحكمة التي خلقها الله من أجلها فهي خير.
وتشملُ الاستعاذة من شرّ من فيه شرٌّ وخير، كالجن والإنس والحيوان وغيرهم.
وقوله: «لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتحلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» : شيء: نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فتعمُّ كل شيء فيه أذى وضرر.
وتأمل التعبير النبوي: «لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ» ، ولم يقل: لم يصبه شيء، والفرقُ: أنَّ عدمَ الإصابةِ تقتضي عدمَ البلاء مطلقًا، أما نفيُ الضرر فيقتضي أنَّه قد يقع البلاء، لكن لا يؤثر ولا يضره.
قال القرطبي عن الحديث: «هذا خبرٌ صحيحٌ وقولٌ صادقٌ، علمنا صدقه دليلًا وتجربة، فإني قد سمعت هذا الخبر فعملت به، فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقربٌ بالمهدية ليلًا، فتفكرت في نفسي، فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات»
(2)
.
(1)
المسند (6/ 409).
(2)
المفهم (7/ 36).
فمعنى هذا الحديث: أنَّ الإنسان إذا استعاذ بالله، فإنَّه يحفظه من كل ضرر ومكروه، فهو القادر سبحانه على هذا الأمر، وعلى كل أمر.
* ووجه الدلالة من الحديث، ومناسبته للباب: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن أنَّ الاستعاذة تكون بالله أو بصفة من صفاته، فدل على أنَّها عبادة، وإذا كانت عبادةً فلا يجوز أن تصرف إلا لله تعالى.
وفيه إرشادٌ إلى الاستعاذة النافعة المشروعة، بدلًا مِنْ الاستعاذة الشركية التي كان يستعملها المشركون.
المسألة الثالثة: ذكر العلماءُ أنَّ الاستعاذةَ بغيرِ الله نوعان:
أ. استعاذةٌ بغير الله جائزة.
ب. استعاذةٌ بغير الله ممنوعة.
أما الاستعاذة الجائزة فهي الاستعاذة بالحيّ الحاضرِ في أمرٍ يستطيعه في الظاهر، مع طمأنينة القلب وتوجهه إلى الله، وحسنِ الظن به، وأنَّ العبد إنما هو سببٌ.
* والأدلة على جوازها عديدة، منها: حديث أبي مسعود رضي الله عنه: «أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلَامَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللهِ، فَتَرَكَهُ»
(1)
، فالجائزة تكون:
1 -
بِحّيٍ لا ميّت. 2 - حاضرٍ لا غائب.
3 -
بالأسباب الظاهرة، كالنداء بالصوت ونحوه.
4 -
قادرٍ على ما يُطلب منه.
(1)
أخرجه مسلم (1659).
أما الاستعاذة بغير الله الممنوعة، فهي قسمان:
1 -
ما يكون شركًا: وهذا له صورتان:
أ- الاستعاذة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلّا الله، سواء أكان المخلوق جِنيًّا أو إنسيًا، حيًّا أو ميتًا، فهذا شرك أكبر.
ب- الاستعاذة بالمخلوق الحيّ الغائب، أو الميت، فيما يستطيعه المخلوق الحي الحاضر، فهذا شرك أكبر؛ لأنَّه لم يستعذ به إلا لاعتقاده أنَّ له تصرفًا في الكون، كأن يحيط به عدو، فيطلب من الميّت أن يعيذه.
2 -
ما يكون حرامًا: وهو ما إذا كان المستعاذ به جنيًّا في أمرٍ يقدر عليه الجنّي.
* ودليل التحريم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} دلت الآية على أنَّ الاستعاذة بالجنِّ حرام.
فإن قال قائل: فما الفرق بين الاستعاذة بالمخلوق الحيّ الحاضر فيما يستطيعه، والجنّ الحاضر فيما يستطيعه؟
* من وجوه:
1 -
أنَّ المخلوق الحيّ حاضر فعلًا، أما الجنّ فإنَّه غائبٌ مع حضوره، فلا تراه، فأشبه الغائب، والاستعاذة لا تكون غالبًا إلا لاعتقاده أنَّ له تصرفًا خفيًّا.
2 -
أنَّ الاستعاذة بالحيّ الحاضر مشروعة بالنصوص المتقدمة، أمّا الاستعاذة بالجنِّ الحيِّ الحاضر فليس عليه دليل، بل ورد النهيّ عنه كما تقدم في الآية.
* خلاصة الباب:
1 -
أنَّ الاستعاذة بالله عبادة من أجلِّ العبادات.
2 -
أنَّها إذا كانت عبادة فلا تصرف إلَّا لله، وصرفها لغير الله شرك.
3 -
أنَّ الاستعاذة المشروعة هي ما كان بالله، أو بصفة من صفاته، وإنما يستعاذ بالله؛ لأنَّه هو الذي بيده كل شيء دون غيره.
*
14 - باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس، الآيات (106 - 107)]. وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت، الآية (17)].
وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف، الآيات (5 - 6)]، وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل، الآية (62)].
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (5/ 317)، والطبراني -كما في جامع المسانيد لابن كثير (5780) -، واللفظ للطبراني، والحديث سنده ضعيف، مدار الحديث على ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(2)
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس، الآية (106)]. الثالثة: أنّ هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين. الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا، مع كونه كفرًا. السابعة: تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه. التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله. الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له. الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة. الخامسة عشرة: أن هذه الأمور سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان بأنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، والتأدب مع الله عز وجل.
(الشرح)
الكلام على الباب في ست مسائل:
المسألة الأولى: معنى الترجمة والمراد بها: ضمّن المؤلف هذا الباب أمرين، أحدهما أخص من الآخر، فذكر الخاص أولًا وهو الاستغاثة، ثم عطف عليه الدعاء، فهو من عطف العام على الخاص، فكل مستغيثٍ داعٍ وليس كلُ داعٍ مستغيثًا.
والاستغاثة: طلبُ الغوث، وهو إزالةُ الشدّة.
والفرق بين الاستغاثة والدعاء: أنَّ الاستغاثةَ لا تكونُ إلّا من الكرب، أي:
في وقت الشدّة، أما الدعاء فيكون من المكروب المهموم وغيره.
ومناسبة الترجمة للتوحيد: من جهة أنَّ الاستغاثة عبادة، وهي من أنواع الدعاء، وكذا الدعاء عبادة، فيكون صرفها لغير الله شركًا ينافي التوحيد.
المسألة الثانية: فرّق بعض العلماء بين الاستعاذة والاستغاثة من جهة: أن الاستعاذة: أن تطلب من الله أن يعصمك ويمنعك، وهذا قبل وقوع المكروه.
وأما الاستغاثة: فتطلب من الله أن يزيل ما بك من شرّ وكرب، وهذا بعد وقوع المكروه.
لكن ابن تيمية ذكر أنَّ الاستعاذة والاستغاثة ألفاظ متقاربة، وكلاهما يكون قبل وقوع الشيء وبعد وقوعه
(1)
.
المسألة الثالثة: اعلم أنَّه ليس كل استغاثة بغير الله محرمة، وإنما الاستغاثة بغير الله نوعان:
1.
استغاثة ممنوعة: وهي الاستغاثة بالأموات، أو بالحيّ الحاضر على أمر غائبٍ لا يقدر على مباشرته، أو بالحيّ الغائب، فهذا شرك أكبر؛ لأنَّه ما استغاث بهم، إلّا لأنَّه يعتقد أنّ لهم تصرفًا في الكون.
ويدخل فيه: الاستغاثة بالحيّ القادر فيما لا يقدر عليه، فهذا لغوٌ باطل، إلّا أنّ صحبه اعتقاد أن له تصرفًا في الكون فيكون شركًا
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (15/ 227).
(2)
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء فقال السائل: يقول الناس عند النوازل والشدائد: يا رسول الله، وغيره من الأولياء، ويذهبون إلى مقابر الصالحين في حالة المرض ويستغيثون بهم، ويقولون: إن الله يدفع البلاء بهم، نحن نستمدهم لكن نيتنا إلى الله؛ لأن المؤثر هو الله، هل هذا شرك أم لا، وهل يقال لهم: إنهم مشركون؟ والحال أنهم يصلون ويقرأون القرآن وغيره من العمل الصالح.
الجواب: ما يفعله هؤلاء هو الشرك الذي كان عليه أهل الجاهلية الأولى، فإنهم كانوا يدعون اللات والعزى ومناة وغيرهم ويستغيثون بهم؛ تعظيما لهم، ورجاء أن يقربوهم إلى الله ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر: 3]. ويقولون أيضًا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ لَا [يونس: 18]. فتاوى اللجنة الدائمة باختصار (1/ 85 - 86).
وسئلت اللجنة أيضًا فقال السائل: إذا كان إنسان إمام مسجد ويستغيث بالقبور ويقول: هذه قبور ناس أولياء ونستغيث بهم من أجل الواسطة بيننا وبين الله، هل يجوز لي أن أصلي خلفه وأنا إنسان أدعو إلى التوحيد؟ وأرجو منكم توضحوا لي كثيرًا في هذا مواضيع النذر والاستغاثة والتوسل.
الجواب: من ثبت لديك أنه يستغيث بأصحاب القبور أو ينذر لهم فلا يصح أن تصلي خلفه؛ لأنه مشرك، والمشرك لا تصح إمامته ولا صلاته، ولا يجوز للمسلم أن يصلي خلفه؛ لقول الله سبحانه:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقوله عز وجل:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزُّمَر: 65]{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزُّمَر: 66]. فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 63).
2.
استغاثة جائزة: وهي ما كانت بالحيّ القادر الحاضر، كما وقع للرجل من بني إسرائيل مع موسى عليهم السلام، لكن يجب الاعتقادُ أنّ المخلوق سبب، ولا تأثير له بذاته في إزالة الشدة.
المسألة الرابعة: بيّن المؤلف في هذا الباب: أنَّ من خصال الشرك الاستغاثة بغير الله أو دعاء غير الله، قال ابن القيم: ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم.
وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه
ضرًّا ولا نفعًا، فضلًا عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا مِنْ جهله بالشافع والمشفوع له عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببًا لإذنه، وإنما السببُ لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك
(1)
.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله: «العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك، ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وصلى، وصام؛ إذ شرطُ الإسلامِ مع التلفظِ بالشهادتين أن لا يَعْبُدَ إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبدَ غير الله فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما
…
ومجردُ التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعًا»
(2)
.
ومن نظر في واقع معظمي القبور وجد أنهم واقعون في هذا الأمر، فهم يستغيثون بأصحابها، ويطلبون منهم تفريج الكربات، وقضاءَ الحاجات، وهذا شركٌ في الألوهية، حيث صرفوا العبادةَ لغير الله، وشركٌ في الربوبية كذلك، حيث ظنّوا أن لهم تصريفًا في الكون وتدبيرًا، قال سليمان بن عبد الله: «وكثيرٌ منهم وأكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره، أنفعُ وأنجعُ من الاستغاثة بالله في المسجد، ويصرحون بذلك، والحكاياتُ عنهم بذلك فيها طول، وهذا أمرٌ ما بلغ إليه شرك الأولين، وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب، وهتفوا بأسمائهم، ودعوهم ليكشفوا
(1)
مدارج السالكين (1/ 353).
(2)
تيسير العزيز الحميد (ص: 186).
ضُرّ المصاب في البرّ والبحر والسفر والإياب، وهذا أمرٌ ما فعله الأولون، بل هُمْ في هذه الحال يُخلِصون ل {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، فاقرأ قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
…
} [العنكبوت: 65]، وكثيرٌ منهم قد عطّلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد، فإذا قصد أحدُهم القبرَ الذي يُعظِّمُه، أخذ في دعاء صاحبه باكيًا خاشعًا ذليلًا خاضعًا، بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات وقيامِ الليل وأدبارِ الصلوات، فيسألونهم مغفرةَ الذنوب، وتفريجَ الكروب والنجاةَ من النار، وأن يحطوا عنهم الأوزار، فكيف يظنُ عاقلٌ -فضلًا عن عالمٍ- أن التلفظ ب:"لا إله إلا الله" مع هذه الأمور تنفعهم؟! وهم إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم؟!»
(1)
.
المسألة الخامسة: أشار المصنف في التبويب إلى الدعاء، وأهل العلم يقولون بأن الدعاء نوعان:
1.
دعاء العبادة: وهو عبادة الله بجميع أنواع العبادة، كالصلاة وغيرها؛ لأنَّ الإنسان في هذه العبادات بلسان حاله يدعو الله المغفرة والرضوان والجنة.
2.
دعاء المسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي، من جلب نفعٍ أو دفع ضرّ، وهذا عبادة.
• وعلى هذا: فدعاء المخلوق فيما لا يقدر عليه إلّا الله -كمن يدعو الوليَّ أن يرزقه الولد أو يدعو ميتًا- فهذا شرك أكبر.
المسألة السادسة: نصوص الباب: ذكر المؤلف في الباب خمس آيات
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص: 85).
وحديثًا:
أول الآيات: قول الله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس، الآيات (106)].
ومعنى الآية: أنَّ الله نهى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم والخطابُ لجميع الأمة- أن لا يدعو من دون الله الذي خلقه أحدًا لا ينفعه ولا يضره في الدنيا ولا في الآخرة، والمراد بذلك كل معبود سوى الله تعالى فكلهم لا ينفعون ولا يضرون، وفي الحديث: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ
…
»
(1)
.
ثم قال الله: فإن فعلت ذلك يا محمد -وهذا من باب الافتراض وإلا فلن يقع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن لو قدر أنَّه فعله، وهو أكرم الخلق- فيكون حينها مشركًا ظالمًا، والشرك أظلم الظلم، ومثله قوله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر، الآية (65)].
ومناسبة الآية للباب: أنَّ فيها النهي عن دعاء غير الله، وأنَّ ذلك شركٌ، وفيها أنَّه لا يجلب النفع ويدفع الضر إلَّا الله، فمن طلب ذلك من غيره فقد أشرك؛ لأنَّه دعا غير الله.
وثاني الآيات: قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس، الآيات (107)]. أي: إن يُصبك الله بضرٍ وبلاءٍ كمرض وفقرٍ ونحوه، فلن يرفع
(1)
أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293)، والحاكم (3/ 541 - 542)، والبيهقي في شعب الإيمان (195) من طرقٍ عن ابن عباس، قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).
ضرك ويكشفه إلّا الله، وإن يُرِدْ أن يصيبك بخيرٍ ونعمةٍ فلا أحدَ يقدر على منعِ رزقه.
فالله هو المتصرف في الكون وفي أمور خلقه، فلا يكشف الضُرَّ ويجلبُ الخيرَ إلا هو، وهذا يجعله لمن شاء من عباده بحكمته وعلمه وتوفيقه.
ومناسبة الآية للتوحيد: أنَّها دلَّت على أنَّه إذا كان لا يجلبُ النفعَ ولا يدفعُ الضرَّ إلَّا الله، فلا ينبغي أن يُصرَفَ الدعاءُ لغيرِ الله الذي يملك هذه الأمور، ومن طلبها من غيره فقد أشرك؛ إذ كيف يتوجه إلى المخلوق بالدعاء، وهو يعلم أنَّ الضر والنفع ليس بأيديهم، ولذا قال الحسن رحمه الله: ثلاث آياتٍ وجدتُها في كتاب الله اكتفيتُ بها عن جميع الخلائق، ومنها هذه الآية:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}
(1)
.
وتأمل كيف فرّق الله في التعبير، فقال في الخير {يُرِدْكَ} وفي الشر {يَمْسَسْكَ}
والفرق بينهما: أنَّ الأشياء المكروهة لا تنسب إلى إرادة الله، بل إلى فعله أي مفعوله، فالمسُّ هو من فِعل الله، لكن الضرّ من مفعولاته، أي: وقع بإثر ذلك، فالله لا يريد الضرّ لذاته، وإنما يريده لغيره، لما يترتب عليه من الحكم البالغة، ولذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»
(2)
.
أما الخير: فهو مرادٌ لذاته، وقريبٌ من هذا قوله:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} ، وقريب منه قول الخضر:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} مع قوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} .
(1)
أورده السيوطي في الدر المنثور (3/ 394) وعزاه إلى أبي الشيخ.
(2)
أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب.
• ومثالُ ذلك: أنَّ الإنسان قد يُصاب بمرضٍ، فإنَّ الله لم يُرِد الضرَّ لذاته، وإنَّما أراد المرض لما فيه من الخير له أو لغيره، وقد تكون الحكمة عند المصاب ظاهرة، وقد لا تظهر.
وثالث الآيات: قوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت، الآية (17)].
ومعنى الآية: أنَّ الله لما تكلم عمّن يعبدون الأصنام والأوثان وغيرها مما يعبدون من دون الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت، الآية (17)]، فبين لهم أنَّ من يعبدون من دون الله لا يملكون لهم رزقًا ولا ضرًا ولا نفعًا، بل ولا يملكون كشف الضرّ ولا دفعه عن أنفسهم، فمن أين يطلب الرزق إذن؟ قال: ابتغوا واطلبوا الرزق من الله الرّزاق، وأخلصوا له العبادة وحده واشكروه على نعمه.
ومناسبة الآية للتوحيد: أنَّ فيها بيان أنَّه لا يطلب الرزق إلَّا من الله؛ لأنَّه القادر عليه، فمن طلبه من غيره فقد أشرك، ففيها وجوبُ إفرادِ الله بالدعاء والعبادة.
واعلم أن تقديم لفظ الجلالة على الرزق في الآية أبلغُ من تأخيره -كما لو قال فاطلبوا الرزق من عند الله- لأن التقديم يفيد الحصر، والمعنى: أنَّ الله هو الذي عنده الرزق لا غيرُه، فاطلبوه منه، ولو كانت كلمةُ الرزق مقدّمة لكان قد يُفهم منه أنَّ الرزق قد يكون من الله ومن غيره
(1)
(1)
فائدة: لماذا نكّر اللهُ الرزقَ {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} ، ثم عرّفه فقال:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} ؟
=أجاب الزمخشري عن هذا: «بأنَّه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئًا من الرزق، فابتغوا عند اللّه الرزق كله، فإنَّه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره» الكشاف (3/ 447).
ومعنى هذا أنَّ الأولى نكرةٌ منفيةٌ، والمراد: أنَّهم لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئًا وإن قلّ، والثاني معرفة مثبتة، أي: الرزقُ كُلُّه من الله، فاطلبوه منه وحده.
ويستفاد من الآية:
1.
أن طلب الرزق لا يكون إلَّا من الله.
2.
وجوب شكر الله على نعمه بالقلب واللسان والجوارح.
3.
فيها ردٌّ على المشركين الذين يدعون غير الله ليشفعوا لهم عنده في جلب الرزق، فما ظنك بمن دعاهم أنفسهم واستغاث بهم ليرزقوه وينصروه، كما هو الواقع من عباد القبور.
ورابع الآيات: قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف، الآيات (5 - 6)].
والضلال: التيه عن الطريق الصحيح، وقد حكم اللهُ بأنَّه ليس في الضلال أضلُّ مِنْ ضلال من يدعون غير الله، حيث يتركون دعاء السميع القريب المجيب، ويدعون أحدًا لا يستجيب لهم، ولا يقدر على إجابتهم، ولو دعوه إلى قيام الساعة، ولا بيده شيء من النفع والضر، ومع ذلك فهو غافلٌ عن دعاء من يدعوه؛ لأنَّه إما ميّتٌ، أو جمادٌ، أو مشغول بما خُلِقَ له، بل وإذا قامت القيامة كان أوّل من يعاديهم هو من دعوه وعبدوه، ويكفر بعبادتهم، فيكون قد لحق المشرك بهذا الدعاء لغير الله الضرر في الدنيا والآخرة.
ومناسبة الآية من ثلاثة أوجه:
أ- أنَّه إذا كان كل من سوى الله لا يستطيع أن يستجيب من دعاه، فكيف يليق بالإنسان أن يستغيث به ويدعوه من دون الله، كما يفعل عباد القبور
(1)
.
(1)
انظر: القول المفيد (1/ 270).
ب- أنَّ الله حكم على من دعا غيره بأنَّه أضل الضالين، وأنَّ الدعاء عبادة، وصرفها لغير الله شرك.
ج- كفر الداعي بصرفه الدعاء لغير الله، ولذا قال:{وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، ومنه قوله:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم، الآيات (81 - 82)]
(1)
.
* فإن قيل: لماذا أتى بقوله: ب {وَمَنْ} في قوله: {مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ} ، ولم يقل:(ما لا يستجيب له) مع أنَّهم يدعون الأصنام وهي جماد، و (من) تكون للعاقل؟
* لأمرين:
1.
أنَّهم لّما عبدوها فإنما هم نزَّلوها منزلة العاقل، وإلَّا فغيرُ العاقلِ محالٌ أن يُدعى، وعلى هذا خوطبوا بمقتضى ما يدعون؛ لأنَّه أبلغُ في إقامةِ الحجة عليهم.
2.
أنَّ ما يدعون قد يكونون ملائكة مسخرين، وقد يكونون أنبياء وصالحين، وقد يكونون أصنامًا، فغلّب جانب من يعقل.
وخامس الآيات: قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل، الآية (62)]. وهذه الآية راجعة إلى قوله في أوّل الآيات: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل، الآية (59)].
والمضطر: المكروب الذي مسّهُ الضر، والسوء: كل ما يسوء الإنسان.
(1)
فائدة: من بلاغة القرآن أن عبّر بقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ} فهي أبلغ من: لا أضل ممن يدعو؛ إذ الاستفهام المنفي أبلغ من النفي المجرد؛ لأنَّ الاستفهام فيه تحدي، أي: أوجدوا أحدًا أضل، أما النفي المجرد فلا يتضمن التحدي. القول المفيد (1/ 270).
والمعنى: أن كفّار قريش يؤمنون بتوحيد الربوبية، وهم إذا جدَّ الجِدُّ زالَ الشرك ودعوا الواحد الأحد سبحانه، فيبيّن الله لهم ويقول: من هو الذي حينما تصيبكم الشدائد تتوجهون إليه فيجيب دعاءكم، ويكشفُ الضُرَّ عنكم؟ فإذا كان معلومًا لديكم، فلماذا تدعون غيره؟!
ومناسبة الآية للباب: من جهة أنَّ الله هو وحده المدعوُ في الشدائد، مجيبُ المضطر، الكاشفُ للسوء، والمشركون يقرون بهذا، وحينها لا ينبغي أن يدعى أو يستغاث بغيره.
• وبهذا تعلم: أنَّ من اعتقد في غير الله من الأولياء وأصحاب القبور وغيرهم أنَّهم يكشفون السوء، أو يجيبون دعاء المضطر، ودعاهم لذلك، فإنَّه قد أشرك شركًا أكبر من شرك العرب في الجاهلية؛ لأنَّ المشركين الأوائل يعتقدون أنَّ كشف السوء وإجابة المضطر هي من عند الله، أما معبوداتهم فما هي إلا شافعة، فمن اعتقد أنَّ ما يعبده من دون الله هو من يكشف الضرَّ، فقد وقع في أغلظ من شرك الأوائل.
(1)
.
* وأما الحديث: فهو ما نقله عن الطبراني بإسناده: «أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ اَلنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مُنَافِقٌ يُؤْذِي اَلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَلله عز وجل» .
(1)
عقيدة الموحدين (ص: 392).
والحديث نسبه المصنف إلى الطبراني في المعجم الكبير عن عبادة بن الصامت، ولم أقف عليه في المطبوع من المعجم الكبير، إلا أنَّ ابن كثير ذكره بإسناده ومتنه في جامع المسانيد
(1)
، وعزاه للطبراني، وابنُ كثيرٍ إذا عزا للطبراني حديثًا في هذا الكتاب، فإنما يقصد أنه أخرجه في المعجم الكبير؛ إذ كتاب المعجم الكبير من الأصول العشرة التي جمعها ابن كثير في كتابه هذا
(2)
، وقد عزاه -أيضًا- للطبراني: الهيثميُّ
(3)
.
وقد رواه أحمد في المسند بنحوه، وليس فيه ذكر الاستغاثة، وإنما فيه قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يُقَامُ لِي، إِنَّمَا يُقَامُ لِلَّهِ» ، وهذا كما يظهر هو في ما يتعلق بالقيام، على أنَّ في إسناده عبد الله بن لهيعة، وكذا فيه رجلٌ مبهمٌ لم يسم، وهو الراوي عن عبادة بن الصامت، فالحديث إسناده ضعيف.
ولكن من أهل العلم من يُرَقِّي الحديث إلى الاعتضاد؛ لأن النصوص تؤيده.
ومعنى الحديث: أنَّ هؤلاء الصحابة حين استغاثوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في أمرٍ يقدر عليه، وهو كفُّ أذى هذا المنافق، بيّن لهم صلى الله عليه وسلم أنَّ الاستغاثة لا تطلب إلا من الله.
وسبب إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم يحتمل أمرين:
1 -
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن قادرًا على دفع ضرر ذلك المنافق، فأمرهم أن
(1)
جامع المسانيد (4/ 568 - رقم 5780)، قال الطبراني: حدثنا أحمد بن حماد بن زُغْبَة المصرى، حدثنا سعيد بن عُفَيْر، حدثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن على بن رباح، عن عبادة، قال: قال أبو بكر: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
انظر: مقدمة جامع المسانيد (1/ 60).
(3)
مجمع الزوائد (10/ 159).
يستغيثوا بالله.
2 -
أو أنَّه كان قادرًا، ولكنَّ أراد إرشادهم إلى التأدب مع الله في الألفاظ، فيكون هذا المنفي من باب التأدب في اللفظ وسدِّ الذريعة.
لكن يشكل على هذا قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} ، فكيف يجمع بين الآية والحديث؟
* على الاحتمال الأول: لا إشكال، وعلى الاحتمال الثاني: تحمل الآية على الجواز، والحديثُ على الأدبِ والأولى
(1)
.
وبهذا تعلم أنَّ دعاء الميت والغائب، وكذا الحاضر فيما لا يقدر عليه إلَّا الله، والاستغاثة بغير الله في كشف الضرّ أو تحويله هو الشرك الأكبر؛ لأنَّ الدعاء هو العبادة، ولأنَّ من خصائص الألوهية إفراد الله بسؤال ذلك منه.
ومناسبة الحديث الباب من جهتين:
1.
أنَّ فيه إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم الاستغاثة بغير الله؛ لأنَّ الاستغاثة عبادة لا تصرف إلا لله.
2.
أنَّه إذا كان هذا النهي منه صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه في حياته، فكيف يجوز أن يُستغاث به بعد وفاته، ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله؟! كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء، كالبوصيري
(2)
والبرعي من الاستغاثة بمن لا
(1)
انظر: تيسير العزيز الحميد (193).
(2)
كقوله في البردة:
يا أكرم الخلق مالى من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
وانظر: الرد على البردة ل أبا بطين (ص: 12).
يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا
(1)
.
* خلاصة الباب:
1 -
أنَّ الاستغاثة عبادة من العبادات، وكذا الدعاء بنوعيه.
2 -
أنَّ صرف الاستغاثة والدعاء لغير الله شرك، إلّا إذا كان ذلك لحيّ حاضر قادر مع الاعتقاد أنَّه سبب، فلا يكون شركًا.
(1)
فتح المجيد (1/ 324).
15 - باب قول الله تعالى {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
(191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} [الأعراف، الآيات (191 - 192)]، وقوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر، الآية (13)].
وفي الصحيح، عن أنس رضي الله عنه قال:«شُجَّ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهِمْ؟ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران، الآية (128)]»
(1)
.
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ فِي اَلرَّكْعَةِ اَلْأَخِيرَةِ مِنَ اَلْفَجْرِ: «اَللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا، بَعْدَمَا يَقُولُ: سَمِعَ اَلله لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ، فَأَنْزَلَ اَللَّهُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمِّيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}»
(2)
.
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً
(1)
علقه البخاري (5/ 99) بصيغة الجزم، ووصله مسلم (1791).
(2)
أخرجه البخاري (4069)، وأخرجه مسلم (1791) من حديث أنس بسياق آخر.
نَحْوَهَا- اِشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اَللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اَللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم! لَا أُغْنِكَ مِنْ اَللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اَللَّهِ شَيْئًا»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (206).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين. الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمِّنون في الصلاة. الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
السابعة: قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران، الآية (128)]. فتاب عليهم فآمنوا. الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم. العاشرة: لعن المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أُنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء، الآية (214)].
الثانية عشرة: جِده صلى الله عليه وسلم، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: «لا أغني عنك من الله شيئًا» ، حتى قال:«يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئًا» ، فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئًا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر في ما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب، وصدّره بقول الله:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالترجمة: بيان حال المدعوين من دون الله وأنَّهم لا ينفعون ولا يضرون، سواء أكانوا ملائكةً أو أنبياءَ أو صالحين أو أصنام، فكلُ من دُعي من دون الله فهذا حاله، ولذا قال الله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج، الآية (73)].
ومناسبةُ البابِ للتوحيد ولما قبله: أنَّ المؤلف لما ذكر أمورًا من الشرك، كالاستعاذة والاستغاثة بغير الله، ذكر براهين دالَّة على بطلان عبادة ما سوى الله، وأنَّ ما سوى الله لا يستحق أن يُصرَفَ له شيءٌ من أنواع العبادة.
ولما بيّن حال الداعي لغير الله، وأنَّه ليس هناك أضلّ منه، ناسب أن يذكر حال المدعو، وأنَّه لا يملك شيئًا.
المسألة الثانية: نصوص الباب:
ذكر في الباب خمسة نصوص مستدلًا بها للترجمة، آيتين وثلاثة أحاديث:
(1)
قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} [الأعراف، الآيات (191 - 192)].
وقد صُدِّرت الآيةُ بقوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهو استفهامٌ إنكاري على من يشرك في العبادة مع الله غيره من الخلق، والحال أنهم ليس لهم قدرة، بل هم مخلوقون مدبرّون.
* {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} : أي أنَّ معبوداتهم لا تقدر على نصر من استنصر بهم من عابديهم، بل هم قاصرون عن ذلك، بل ولا يقدرون على نصر أنفسهم والدفاع عنها وردِّ الضر عنها، فكيف يدفعونه عن غيرهم، وقد روي أن عمرو بن الجموح اتخذ صنمًا من خشب في داره يقال له: مناة -كما كان الأشراف يصنعون-، فلما أسلم فتيانُ بني سلمة -ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل- كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها عَذِرُ الناسِ منكسًا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال:«ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟» ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره، ثم قال:«أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه» .
فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، ففعلوا مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطيبه ويطهره، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يومًا، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له:«إني- والله- ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع، هذا السيف معك» .
فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبًا ميتًا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة، فيها عذر من عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكسًا مقرونًا بكلب ميت، فعلم حينها أنَّه لا يدفع عن نفسه، فهداه الله للإسلام
(1)
.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الدلائل (228)، والبيهقي في الدلائل (2/ 456).
فالمراد أنَّ هذه المعبودات من دون الله لا تصلح أن تكون معبودة من وجوه:
1 -
أنَّها لا تخلق. 2 - أنَّها مخلوقة.
3 -
لا تستطيع نصر الداعين. 4 - ولا نصر أنفسها.
ومناسبة الآية للباب: أنَّه إذا كانت هذه حال ما يُعبَدُ من دون الله، وأنَّه في غاية العجز، فكيف يليق بعاقل أن يدعو من هذا وصفه، ويدع من بيده كل الأمور سبحانه؟!
(2)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر، الآية (13 - 14)].
والقطمير: هو اللفافة تكون على نواة التمر.
والمعنى: أنَّ الله أخبر عن حال المدعوين من دونه أنَّهم عاجزون، وأنَّهم قد انتفت عنهم الشروط التي لابد أن تكون في المدعو، وهي ملك ما طلب منه، وسماع الدعاء والقدرة على إجابته، فمتى عُدِمَ شرطٌ بطل أن يكون مدعوًا، فكيف إذا عُدِمَت كلها؟!
وهؤلاء الذين يُدْعَون من دون الله إما أنَّهم لا يسمعون دعاء من يدعوهم؛ لأنَّهم إما ملائكةٌ مشغولون بما خُلِقوا له، وإما أمواتٌ لا يسمعون، ولو افترض أنَّهم سمعوا دعاءكم إيّاهم ما قدروا على ما تطلبونه منهم، ولا يقدر على هذا إلّا الله، بل إنَّهم يوم القيامة يتبرؤون ممن أشرك بهم مع الله، وهذا كقوله:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ (82)} [مريم، الآية (81 - 82)].
وبعد هذا البيان الذي لا يُبْقِي في القلبِ انصرافًا للمخلوق، ختم الله الآية بقوله:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} : أي لا يُخبِرُك بمآلات الأمورِ وعواقبها، مثلُ الخبيرِ العالم ببواطن الأمور، وهو الله سبحانه.
فمناسبة الآية للباب: أنَّ فيها الردَّ والبرهان القاطع على بطلان الشرك، والردَّ على المشركين بالله وبيان حال معبوداتهم، وإذا كانت هذه حالها، فكيف تدعى من دون الله؟!
واعلم أن هذا لا يتنافى مع كون الأموات قد يسمعون كلام الأحياء، فإن هذا فيه خلافٌ في ثبوته أولًا
(1)
، ولو ثبت فلا يلزم أنهم يسمعون كل شيء، وعلى فرض سماعهم لكل شيء، فالله أخبر أنَّهم لا يسمعون دعاء من دعاهم، وهذا كافٍ.
(3)
حديث أنس رضي الله عنه قال: «شُجَّ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهِمْ؟» .
والشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة
(2)
.
والرباعية: الأسنان في المقدمة التي تلي الثنايا، والإنسان له أربع رباعيات، والذي كسر رباعية النبيّ صلى الله عليه وسلم هو عتبة بن أبي وقاص، قال ابن حجر:«والمراد: أنَّها كُسِرت فذهب منها فلقة، ولم تُقْلَع من أصلها»
(3)
.
(1)
محموع الفتاوى (5/ 364).
(2)
والذي شجه صلى الله عليه وسلم في جبهته هو عبد الله بن شهاب الزهري، وأما عبد الله بن قمئة فقد جرح وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته. السيرة النبوية، لابن هشام (4/ 28)
(3)
فتح الباري (7/ 366).
* وقوله: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهِمْ؟» : استفهامٌ، معناه: ما أبعد هؤلاء عن الفلاح، وقد شجوا نبيهم.
والمعنى: أنَّ أنسًا رضي الله عنه في هذا الحديث بَيّنَ ما لحق النبيّ صلى الله عليه وسلم من أذى قومه يوم أحد، فكأنَّه لحقه من تلك الحالِ يأسٌ من فلاح كفار قريش، فقال:«كيف يفلحون» ، فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، فأمور الخلق وتدبيرهم وعقابهم أو رحمتهم ليست إليك بل إلى خالقهم سبحانه، أما أنت فعبدٌ مأمورٌ بإنذارهم وجهادهم، فامض لشأنك ودُم على الدعوة لدين ربك
(1)
.
ومناسبة الآية للباب ووجه الشاهد منها من جهتين:
1.
أنَّه إذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قد أوذي وكسرت رباعيته لم يعذره الله بكلمة: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ
…
» وبيّن أنَّه ليس له من الأمر شيء، فما بالك بمن سواه كالأولياء أو الأنبياء، وغيرهم ممن هم إما أموات أو جمادات، وهم لا يملكون من التدبير شيئًا.
2.
أنَّه لو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يملك جلبَ النفع ودفع الضر، لَدَفع الضُرّ عن نفسه، ولَما أصيب وأدمي وجهه وكسرت رباعيته، فكيف بمن هو دونه صلى الله عليه وسلم؟!
(4)
عن ابن عمر: «أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ فِي اَلرَّكْعَةِ اَلْأَخِيرَةِ مِنَ اَلْفَجْرِ: اَللَّهُمَّ اِلْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَمَا يَقُولُ: سَمِعَ اَلله لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ، فَأَنْزَلَ اَللَّهُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}» ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمِّيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} » أخرجه البخاري، وهو في قنوت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أُحُدٍ،
(1)
تيسير العزيز الحميد (203).
حين كُسرت رباعيته وأُدمي وجهُه، فقال:«اَللَّهُمَّ اِلْعَنْ فُلَانًا» لأناسٍ من رؤوس المشركين.
واللعنُ: «الطرد والإبعاد من الله، وهو من الخلقِ السبُّ والدعاء»
(1)
.
فيكون اللعن إذا صدر من الخلق: طلبُ طردِ الملعون وإبعادِه من الله بلفظ اللعن، وليس المراد مطلق السبّ والشتم.
والمعنى: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أوذي دعا على هؤلاء الكفار، فجاءه التأنيب والنهي {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، فإنَّ هؤلاء الثلاثة الذين سمّاهم أسلموا وحسُنَ إسلامهم، وكان الله عليمًا ببواطن الأمور حين لم يستجب للنبي صلى الله عليه وسلم دعاءه، فأين هذا مما يعتقده عبّاد القبور في الأولياء والصالحين، بل في الطواغيت أنَّهم ينفعون مَنْ دعاهم ويكشفون بلاءه وينصرون من لاذَ بجاههم، فيدعونهم برًّا وبحرًا، وفي كل حال، فإذا كان هذا في النبيّ، فما بالك بغيره؟!
ووجه الشاهد ومناسبة الحديث للباب: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، ويتبين ذلك بأمرين ذُكرا في الحديث السابق:
1.
أنَّه لما آذاه هؤلاء المشركون لم يستطع ردّ أذاهم بنفسه، بل لجأ إلى ربّه القادر على جلب النفع ودفع الضر.
2.
أنَّه لما دعا على هؤلاء أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
ولا تعارض بين هذا الحديث، وبين الذي قبله، كون الآية نزلت فيهما، بل يقال: إنَّ هذه القصة كانت في غزوة أحد، وأنَّه قنت بعد غزوة أحد،
(1)
النهاية في غريب الحديث (4/ 255).
فكلا القصتين في غزوة أحد
(1)
.
(5)
ومعنى الحديث: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قام خطيبًا على الصفا، وبدأ بالنصح للأقربين، وأمرهم بالتوحيد حتى ينقذوا أنفسهم من النّار، ولا يعتمدوا على شرفِ النسبِ وقرابته لهم، فهو صلى الله عليه وسلم لا يملك لأقربِ الناس إليه -وهم عمّه وعمته وابنته الصغرى- شيئًا، فمن أراد النّجاة فليوحد الله ولا يعتمدْ على الخلق، فالخلقُ ليس بأيديهم شيء من النفع أو الضر.
(1)
وفي الحديث غير ما تقدم:
1 -
جواز الدعاء على المشركين، وتسمية المدعو لهم أو عليهم بأسمائهم في الصلاة.
لكنَّ الدعاء على الكافر باللعنة إذا كان لعمومهم، فالذي يظهر جوازه لما ورد في الصحيحين أن أبا هريرة قال:«وَاللهِ لَأُقَرِّبَنَّ لكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ هـ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الظُّهْرِ، وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ» أخرجه البخاري (797)، ومسلم (676)، وأما لعنُ الكافر بعينه وخصوصه، فهذا الذي نهي عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
مشروعية القنوت في النوازل.
3 -
أنَّ التوبة تَجُبُّ ما قبلها، فهؤلاء الثلاثة لما تابوا تاب الله عليهم مع أنَّهم آذوا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومناسبة الحديث للباب: من جهة أنَّه لا يجوز أن يُطلَب من الرسول -ومِن غيره من باب أولى- إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا؛ وإذا كان هذا النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضلُ الخلق وسيدُ المرسلين يقول هذا، خصوصًا لأقرب الناس إليه، فما الظن بغيره من عامة الناس، وقد قال الله تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف، الآية (188)].
واعلم أن كونه صلى الله عليه وسلم لا يغني عنهم من الله شيئًا، لا ينافي شفاعته لهم يوم القيامة؛ إذ شفاعته صلى الله عليه وسلم هي أمرٌ من الله ابتداءً فضلًا عليه وعليهم، لا أنَّه صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن شاء، فشفاعته بأمر الله، ولهذا كان يُعَلِّم أصحابه أن يدعوا له أن يبعثه الله المقام المحمود.
* خلاصة الباب: أنَّه لا أحد يستحقّ أن تتوجه القلوب له بالعبادة إلا الله.
وأنَّه إذا كان أعظم خلق الله من الملائكة والأنبياء لا يملكون لأنفسهم دفعًا أو نفعًا، فغيرهم من باب أولى، فعلى المسلم أن يتوجه إلى الله وكفى.
*
16 - باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ، الآية (23)].
(1)
.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ بِالْأَمْرِ، تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ، أَخَذَتِ اَلسَّمَوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ -أَوْ قَالَ: رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ- خَوْفًا مِنْ اَللَّهِ عز وجل، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ اَلسَّمَوَاتِ، صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اَللَّهُ مِنْ وَحَيِّهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى اَلْمَلَائِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ، سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟
(1)
أخرجه البخاري (4800).
فَيَقُولُ: قَالَ اَلْحَقَّ، وَهُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اَلله عز وجل»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (515)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (216)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 348)، والطبراني في الشاميين (591)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 500)، والبيهقي في الأسماء والصفات (435).
وإسناده ضعيفٌ، فيه الوليد بن مسلم مدلسٌ يدلس تدليس تسوية، وقد عنعن في هذا الحديث، وقد عرض أبو زرعة الدمشقيُ، هذا الحديثَ على دحيم، فقال: لا أصل له. ا. هـ ولكن يشهد له الحديث الأول.
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصًا من تعلَّق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: «قال كذا وكذا» . السادسة: ذكر أن أوَّل من يرفع رأسه جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السموات كلهم؛ لأنهم يسألونه. الثامنة: أن الغشي يعم أهل السموات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السموات لكلام الله. العاشرة: أنَّ جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين. الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضًا.
الثالثة عشرة: إرسال الشهاب. الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان. السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يُصدَّق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟!
التاسعة عشرة: كونهم يلقي بعضهم إلى بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات، خلافًا للأشعرية المعطِّلة.
الحادية والعشرون: التصريح بأنَّ تلك الرجفة، والغشي خوفًا من الله عز وجل. الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدًا.
(الشرح)
عقد المصنف هذا الباب عن الملائكة، فالضمير في قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يرجع إلى الملائكة، والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: معنى الترجمة والمراد بها:
أراد المؤلف بالباب: أن يستدلَّ للتوحيد بشيء من دلائل عظمة الله، وهو حال الملائكة الذين هم أعظم المخلوقات وأقوى من عُبِد من دون الله، وقد ورد في الحديث شيء من وصفهم، كحديث جابر مرفوعًا:«أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ»
(1)
، وقال ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه:«إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4727)، والطبراني في الأوسط (1709 - 4421)، وأبو الشيخ في العظمة (476)، قال ابن كثير في التفسير:(8/ 239): إسناده جيد، وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 665).
(2)
أخرجه البخاري (3232)، ومسلم (174).
فإذا كانت هذه الملائكة الذين عَظُمَ خَلقُهم وقوي بأسُهم، وهذا حالهم مع الله، وهذا خوفهم منه وخشيتهم له، فكيف يتجهُ أحدٌ إليهم ويدعوهم من دون الله استقلالًا أو وساطةً طلبًا لشفاعتهم؟!
وإذا كان هذا في الملائكة مع جلالة قدرهم، وقربهم من ربّهم، لا يجوز أن يُدعون من دون الله، فغيرهم ممّن هو أضعف منهم وممن لا يقدر على شيءٍ من الأصنامِ والأمواتِ؟! أولى أن لا يُدعى ولا يعبدَ من دون الله.
المسألة الثانية: أورد المصنف في الباب حديثين مستدلًا بهما على الباب:
(1)
* وقوله: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ» : أي إذا تكلم بالأمر الذي شاء وقوعه، والذي قضاه في السماء مما يكون.
* وقوله: «خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ» : بفتح الخاء والضاد من الخضوع، وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه، بمعنى: خاضعين.
* وقوله: «كأنَّه سلْسِلَة عَلَى صَفْوَانٍ» : أي كأنَّ الصوت المسموع صوت
السلسلة على الصفوان، وهو الحجر الأملس، وهذا التشبيه اختلف في المراد به:
- فقيل: المرادُ صوتُ الملَكِ بالوحيّ، كما ورد أنَّ الوحيَّ كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم كصلصلة الجرس، وهذا فيه نظر.
- وقيل: هو تشبيه ما يحصل للملائكة من الفزع، أنَّه كفزعِ من يسمع سلسلةً على صفوان
(1)
.
- وقيل: إنَّه تشبيه سماع الملائكة لصوت الله تعالى بسماع من يسمع سلسلةً على صفوان، وهذا يفيد أنَّه كلام حقيقي، بصوتٍ، وأنَّه قوي، وهذا تشبيه للسماع بالسماع، وليس تشبيهًا للمسموع -وهو كلام الله- بالمسموع وهو صوت السلسلة تجر على الحجر، وفرق بينهما.
ونظير هذا حديث: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ»
(2)
هو تشبيه للرؤية بالرؤية، من حيث أنَّهم يرونه بوضوح، وظهور، وبلا تزاحم، وليس تشبيهًا لله تعالى بالبدر، فالله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
* والدليل: حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْي، سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً، كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا فَيُصْعَقُونَ
…
»، وفي لفظ:«تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ، سُمِعَ له صوتٌ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ»
(3)
.
(1)
القول المفيد (1/ 310).
(2)
أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله.
(3)
أخرجه أبو داود (4738)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 350)، وابن حبان (37)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص: 201)، وقال الألباني: إسناد صحيح على شرط الشيخين.
قلت: وقد روي موقوفًا على ابن مسعود، والموقوف فيه أصح، وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعًا نحوه.
(1)
.
والمراد: أنَّ هذا يدلّ على أنَّ الصوت مسموع حقيقةً، خلافًا لمن ينكر صفة الصوت لله عز وجل، ولكنه صوتٌ يليق بجلاله وعظمته.
* وقوله: «يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ» : هو بفتح الياء، وسكون النون، وضم الفاء والذال المعجمة: أي يَخْلُصُ ذلك القولُ ويمضي في قلوب الملائكة حتى يفزعوا منه.
* وقوله: «فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ» : أي يسمعُ الكلمةَ التي قضاها الله، وسمعتها الملائكة ثم تحدثوا بها.
ومسترقُ السمع: هم من الشياطين، يركب بعضهم بعضًا، فيسمعون أصوات الملائكة بالأمر مما يقضيه الله، فيتوجهون بما سمعوا إلى الكهان.
ومسترقو السمع يسمعون إمّا من الملائكة في السماء الدنيا، ولا يتعدونها؛ لأنَّها سقف محفوظ.
ويحتمل أنَّهم يسمعون من الملائكة في السحاب؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:
(1)
السنة، لعبد الله بن أحمد (1/ 280).
(1)
.
وقد وصف سفيان بن عيينة ركوب الشياطين بعضهم فوق بعض، بأن مَيّلَ يده وفرّق بين أصابعه.
* وقوله: «فَرُبَّمَا أَدْرَكَه الشِّهَابُ» : هو النجم الذي يرمى به ربما أدركه قبل إلقائها، وربما ألقاها قبل أن يدركه لحكمة يعلمها الله، وإلّا فالله لا يعجزه شيء، والرجمُ بالشُهُبِ كان موجودًا في الجاهلية، بدلالة حديث:«مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا كان مثْل هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قالوا: نَقُولُ: وُلِدَ عَظِيمٌ أوَمَاتَ عَظِيمٌ»
(2)
، فلما بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُنِعت، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن، الآية (9)].
وبعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم زال السبب الذي لأجله قُطِعوا، فعادوا وعادت الشهب.
* وقوله: «أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟» : أي أنَّ الذين يأتون الكهان يصدقونهم إذا ذكروا لهم أمرًا، بسبب أنَّهم ذكروا لهم مرةً أمرًا فوقع كما قالوا، فاعتقدوا أنَّ ما يقولونه حقٌ، وما هي إلّا كلمةٌ واحدة في مئات الكذبات.
ومعنى الحديث والشاهد منه: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن ما تكون عليه الملائكة من حالةٍ عند نزول الوحي وتكلُّمِ اللهِ به، أنَّهم يفرقون ويفزعون ويصعقون، بالرغم من عِظَمِ خلقهم، حتى يكون أولّ من يفيق منهم جبريل، فإذا كانت
(1)
أخرجه البخاري (3210).
(2)
أخرجه الترمذي (3224)، وعبد بن حميد (683)، والدارمي في الرد على الجهمية (307)، والبيهقي في الدلائل (2/ 238)، والحديث أصله في صحيح مسلم (2229).
هذه حالة الملائكة، فمَن دونهم أولى أن يخاف الله، وأنَّه لا يُدعى ولا يُستشفع إلا بالله.
(2)
ومعنى الحديث: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن فيه حالة الملائكة عند سماع الوحي، وأنَّهم كلهم يصعقون حتى جبريل، لكن هو يكون أول من يفيق، فهو الموكل بالوحي، فيكلمه الله بما أراد من الوحي، وكلما مرّ بسماءٍ من السماوات السبع يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا؟ فيقول: قال الحق وهو العلى الكبير.
ومناسبة الحديث: كالذي قبله، أنَّه إذا كانت هذه حالة الملائكة، فمن دونهم أضعف؛ لأنَّ الملائكة أقوى وأعظم عباد الله، وأعطاهم الله من القوة العظيمة ما أعطاهم، ومع هذا فهذه حالهم.
فكيف يدعو المشركُ مَلَكًا أو من هو دونه باعتقاده أنَّ له قدرة، أو تدبيرًا أو شفاعة عند الله؟!
* وخلاصة الباب: أن المرء ينبغي أن يعظّم ربه، ومِن تعظيمه لربه: أن يتوجه له بالعبادة، ولا يتوجه لأحدٍ، ولو كان ملَكًا مقرّبًا.
*
17 - باب الشفاعة
وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام، الآية (51)]. وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر، الآية (44)].
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة، الآية (255)].
وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم، الآية (26)].
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ
…
} [سبأ، الآيات (22 - 23)].
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (4476)، ومسلم (193) من حديث أنس، وأخرجه البخاري عن غيره أيضًا.
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 77).
وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قال: مَنْ قَالَ: لا إله إلّا الله، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»
(1)
، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته أنَّ الله سبحانه هو الذي يتفضَّل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذِنَ له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه
(2)
.
(الشرح)
باب الشفاعة من أهم الأبواب في كتاب التوحيد، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الشفاعة، والمراد بها:
في اللغة: اسمٌ مِنْ شفع يشفع إذا جعل الشيء بين اثنين، وهو ضدُّ الوتر.
واصطلاحًا: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، سميت بذلك لأنَّ
(1)
أخرجه البخاري (99).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات. الثانية: صفة الشفاعة المنفية. الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة أولًا، بل يسجد فإذا أذن الله له شفع.
السادسة: من أسعد الناس بها؟. السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله. الثامنة: بيان حقيقتها.
طالبَ الحاجة كان منفردًا في الأوَّل، ثم انضم إليه شافعٌ، فصارا شفعًا.
المسألة الثانية: مناسبة الباب:
لما كان المشركون قديمًا وحديثًا يعبدون من دون الله الأصنام والأضرحة ونحوها، فإذا أُنكِرَ عليهم قالوا:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وادَّعَوا أنَّ غرضهم بذلك طلب الشفاعة فقط، فبين المؤلف هنا أنَّ الله عدّ ذلك من الشرك، وأنَّ طلب الشفاعة منهم هي عبادة لغير الله، وإن ادِّعَوا أنَّ ذلك من تعظيم الله.
واعلم أنَّ أصل الشرك من قديمِ الزمان وحديثِه هو بطلب الشفاعة، وتعلُّق الناس بأذيالها، وذلك لأنَّ المشركين يقولون نحن نجعلهم شفعاء، فقاسوا الله بخلقه، وقال الله على لسانهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، الآية (3)].
المسألة الثالثة: كيف يقال: إنَّ من اتخذ الشفيع مشركٌ، وهو إنما اتخذه شفيعًا إلى الله بقصد تعظيم الرب، فإنَّه -على حدّ قولهم- لا يتوصل إليه إلا بالشفعاء، كملوك الدنيا؟
* الجواب: أنَّه وإن كان دافعه وقصده تعظيم الله، إلا أنَّه ليس كل من قصد التعظيم وُفِّق وأصاب؛ لأنَّ اتخاذ الشفعاءِ والأنداد من دون الله فيه هضمٌ للربوبية، وتنقّص لعظمة الله، وسوء ظنٍّ به سبحانه، ولذا قال الله عن المشركين، وهم يخاطبون معبوداتهم:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الصافات، الآية (97 - 98)]، وهذه التسوية منهم ليست تسويةً لمعبوداتهم بذات الله وصفاته وأفعاله، ولا ادّعوا أنَّها خلقت السماوات والأرض وغير ذلك، وإنما ساووهم في المحبّةِ والتعظيمِ والعبادة.
ووجه كون الاستشفاع بالأولياء فيه هضمٌ للربوبية وسوء ظنٍّ بالله؛ لأن المستشفع لا يخرج من أمور:
* إما أن يظنَّ أنَّ الله يحتاج إلى من يُدبِّر أمرَ العالم معه مِنْ وزيرٍ ومعين.
* وإما أن يظنَّ أنَّ الله إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع.
* أو يظنَّ أنَّ الله لا يعلم حتى يُعلمه الشفيع، أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم، أو لا يجيب دعاءه حتى يسألوا الشفيع، كحال ملوك الدنيا، وهذا نقص.
* أو يظنَّ أنَّ للشفيع حقًا على الله، فهو يُقسِمُ عليه بحقّه ويتوسل إليه بالشفيع كما يتوسل إلى الملوك بالناس الذين لهم عليهم حقٌ، وكل هذا نقص، وسوء ظن بالله.
فإن قيل: هذا فيمن عَبَدَ الشفعاء، أما من دعاهم فقط فلا يعد ذلك شركًا؟
* فالجواب: أنَّ مجرد اتخاذ الشفعاء شرك، ودعاؤهم للشفاعة عبادة لهم وإشراك لهم في عبادة الله، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
(1)
.
المسألة الرابعة: الشفاعة نوعان:
1) مثبتة: وهي ما كانت بشرطي الشفاعة:
1 -
إذنُ الله للشافع. 2 - رضاه عن الشافع والمشفوع له.
2) منفية: وهي ما كانت تُطلب من غير الله، أو يقال: أنَّها ما اختل فيها شرطٌ مِنْ شروط الشفاعة المثبتة.
(1)
أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (3372)، وابن ماجه (3828) والطبري في التفسير (24/ 78)، وابن حبان (890)، والحاكم في المستدرك (1/ 491)، وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في الصحيحة (1329).
والحكمة من جعل الله الشفاعة: إكرامُ الله للشافع من وجهين:
1.
ظهور فضل الشافع على المشفوع له.
2.
ظهور منزلة الشافع عند الله.
المسألة الخامسة: ذكر المصنف في الباب خمس آيات متعلقة بالشفاعة:
(1)
قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام، الآية (51)]. في هذه الآية خَوَّفَ اللهُ عباده يوم الحشر الذي ليس للإنسان فيه أحدٌ إلّا الله، فليس لهم هناك أحدٌ يدافع عنهم من معبوداتهم، وإذا كان الإنذار هنا هو للمؤمنين الذين يخافون يوم الحشر، وأنَّهم ليس لهم وليٌ ولا شفيع، فكيف بمن وقع في الشرك.
ففي الآية نفي الشفاعة التي لم تتوفر شروطها، ومفهوم هذا أنَّها ثابتةٌ بإذنه، كما قال:{لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} .
(2)
قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر، الآية (44)]، وهذه الآية يزيدها بيانًا ما قبلها، وهي قوله:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (44)} [الزمر، الآية (43 - 44)].
قال المفسرون: إنَّ (أم) بمعنى: (بل)، أي أنَّ الله أنكر عليهم طلب الشفاعة من دون الله حين قال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} ، وقال لهم:{أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} ، وهذه حقيقة الخلق كلهم، فهم إما أنَّهم لا يعقلون، فلا يعلمون شيئًا مما في نفوس الناس من حاجاتهم، ولو عقلوا فإنَّهم لا يملكون، ثم قال:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} ، ففُهم من هذا أمورٌ:
1.
أنَّ الشفاعة بجميع أنواعها ملك لله.
2.
إذا كانت له، فكيف تطلب ممن لا يملكها؟! بل ينبغي أن تطلب ممن يملكها.
(3)
قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . نفت الآيةُ الشفاعةَ عن المخلوق استقلالًا بلا إذن من الله، وقيّدت الشفاعة بإذن الله، فالمخلوق لا يبتدئ بالشفاعة دون أن يأذن الله له بها، ولا يأذن الله إلّا لمن رضي عمله، وهو الموحِّدُ غيرُ المشرِك، وعلى هذا آل الأمر إلى أنَّ المرء يوجه قلبه لله، فمن طلبها من المخلوق فقد أشرك، وقد أفادت الآية أمورًا:
1.
الردّ على الخوارج الذين ينكرون الشفاعة مطلقًا؛ إذ إنَّ الله أثبتها لمن شاء.
2.
الردّ على من اتخذوا الشفعاء من دون الله، فبين الله أنَّهم لا يشفعون إلّا بإذنه، وبدون إذنه لا يمكن لأحد أن يشفع.
(4)
قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم، الآية (26)].
* {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} : أي ما أكثر الملائكة الذين في السماء، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم إلّا من بعد إذن الله ورضاه.
* {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} : فيه بيان شرطي الشفاعة:
1 -
الإذن من الله. 2 - الرضى عن الشافع والمشفوع له.
والذي يرضى اللهُ عنه هو المؤمن الموحد، واستثني من ذلك أبو طالب، فإنَّ اللهَ أذن بالشفاعة له، ولم يرضَ الله عمله، إكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قال المشرك: أعلمُ أنَّهم لا يشفعون إلا بإذن الله، لكني أدعوهم ليأذن الله لهم في الشفاعة لي، فكيف يجاب عنه؟
* الجواب: أنَّ الله لم يجعل الشرك به ودعاءَ غيره سببًا لإذنه ورضاه، بل ذلك سببٌ لغضبه ومقته، ولذا نهى عنه فقال:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس، الآية (106)]. فدعاءُ الأولياءِ هو شركٌ لا يرضاه الله، وهو عين ما كان المشركون الأوّلون يفعلونه، فإنَّ الفارق بينهم وبين الموحد مسألة الشفاعة.
وإذا علمت أنَّ الله هو الذي بيده الأمور، وهؤلاء الأولياء بظنك أنَّهم يشفعون لك عند الله، فَلِمَ لا تدعو الله مباشرة؟ فالله يغضب إن تركت سؤاله.
وقد أفادتك الآية أنه إذا كان الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلّا بإذن الله ورضاه، فكيف تشفع الأصنام والأضرحةُ لمن عبدها؟!
(5)
قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (23)} [سبأ، الآية (22 - 23)].
{قُلِ ادْعُوا} : تُحمَلُ على أحد معنيين:
أ. أَحْضِرُوهم. ب. ادعوهم دعاء مسألة.
وهو أمر تعجيز؛ لأنَّ هؤلاء -كما بين الله بعد ذلك- لا يملكون، وليسوا شركاء ولا مظاهرين معاونين، والشفاعة لا يملكها إلَّا الله.
(ذرّة): الذرُّ صغار النمل، يضرب بها المثل في القِلَّة.
قال ابن القيم: «فالمشرك إنَّما يتخذ معبوده لما يعتقد أنَّه يحصل له به من
النفعِ، والنفعُ لا يكون إلّا ممن فيه خصلةٌ من هذه الأربع: إمّا مالكٌ لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا مترتبًا متنقلًا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعةً لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاةً وتجريدًا للتوحيد، وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها»
(1)
.
المسألة السادسة: ذكر المصنف كلام ابن تيمية في الشفاعة، وهو كلامٌ متين، حريٌ بالتأمل، وخلاصة كلامه ما سبق بيانه.
وتأمّل حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي ذكره ابن تيمية، حيث جعل أشرف أسباب نيل الشفاعة توحيد الله، ولذا قال ابن القيم:«تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تُنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أنَّ الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أنَّ سبب الشفاعةِ تجريدُ التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع والمشفوع»
(2)
.
ثم تأمّل قوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه لا يَسأل إلا حين يخرُّ ساجدًا ويدعو ثم يؤذن له بالشفاعة، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعظمُ الناس جاهًا عند الله لا يشفع، إلّا بعد أن يحمد الله ويثني عليه، ويتضرع ويطيل السجود ويفتح عليه من المحامد، فكيف بهذه الأصنام؟!
(1)
مدارج السالكين (1/ 351).
(2)
مدارج السالكين (1/ 349).
المسألة السابعة: ذكر أهل العلم أنَّ الشفاعة قسمان:
1) الشفاعة الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم: وهي أقسام:
1 -
الشفاعة العظمى: وتكون لتعجيل القضاء، وهي لكل أهل الموقف.
2 -
شفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها.
3 -
شفاعته لبعض الكفار أن يخفّف عذابهم، وهذه لأبي طالب خاصة.
2) العامة له، ولغيره من الأنبياء والصالحين، ويدخل فيها صور:
1.
الشفاعة فيمن استحقَّ دخول النار أن لا يدخلها.
2.
الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها: وهذه أجمع عليها الصحابة وأهل السنة.
3.
الشفاعة في رفع درجات المؤمنين وزيادة ثوابهم.
* خلاصة الباب: أنَّ الإنسان لا يجوز له أن يتعلق بغير الله عبر باب الشفاعة، فيعتقد أن تقرّبه لغير الله إنما هو لكي يشفعوا له عند الله، وإنما يجبُ أن يطلب الشفاعة، عبر بوابة التوحيد لله تعالى، فهو مالك الشفاعة، ولا يشفع أحد لأحد، إلّا وقد رضي الله عمله.
*
18 - باب قول الله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}
[القصص الآية (56)].
وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص، الآية (56)]
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (3884)، ومسلم (24).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص، الآية (56)].
الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة، الآية (113)].
الثالثة وهي المسألة الكبرى: تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: «قل: لا إله إلا الله» بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال للرجل:«قل: لا إله إلا الله» . فقبَّح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جِدُّه صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه. السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يُغفر له، بل نُهي عن ذلك. الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر. العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك؛ لاستدلال أبي جهل بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهما لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته هـ وتكريره، فلأجل عظمها ووضوحها عندهم، اقتصروا عليها.
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب بعد باب الشفاعة، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد بالباب: بيانُ حالِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفضلُ الخلقِ وأقربُهم لله، وأعظمهم جاهًا، ومع ذلك فحين حرص على هداية عمه أبي طالب الذي خدمه وحماه، لم يقدر صلى الله عليه وسلم على هدايته، بل إنَّه استغفر له بعد موته، فنهاه ربه.
وإذا تقرَّر هذا، عُلِمَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومن باب أولى من هم دونه من الأنبياء، أو الصالحين، فضلًا عن غيرهم، لا يملكون النفع والضرَّ، وأنَّ ذلك كله بيد الله؛ إذ لو كان هذا لأحدِ من الخلق؛ لكان لأفضلهم صلى الله عليه وسلم منه نصيبًا وافرًا.
المسألة الثانية: ذكر المصنف في الباب آية وحديثًا.
* أما الآية: فهي قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص، الآية (56)]، والمعنى: ليس إليك أن تهدي من أحببت هدايته، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء، وله الحكمة البالغة سبحانه.
ولا تنافي بين هذه الآية، وبين قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فإن الهداية نوعان:
1 -
هداية دلالة وإرشاد: بأن يَدُلَّ ويُرشِدَ إلى الحقّ، فهذه تتوجه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما في قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
2 -
هداية توفيق: بأن يوفّق صاحبه للخير والبر، فهذه هي المنفية في الآية، وهي ليست إلّا لله.
* وأما الحديث: فهو في خبر النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب.
* وقوله: «لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ اَلْوَفَاةُ» حضور الوفاة هنا تحتمل معنيين:
1.
حضرت علامات الوفاة: وإلّا لو انتهى إلى المعاينة لم تنفعه ولو قالها، قال الله:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء، الآية (18)]، ويدل لهذا المعنى أنَّهم تراجعوا الكلام، وهذا لا يكون لمن هو في النزع.
2.
حضرته الوفاة الحقيقية: لكن رجا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه إذا نطق بها -ولو في تلك الحال- أن تنفعه ويشفعُ هو صلى الله عليه وسلم فيه، ولذا قال:«أجادل لك بها» «أشفع لك» «أشهد لك بها» ، ولم يجزم أنَّها تنفعه لو قالها، فيكون هذا خاصًا بأبي طالب،
أما غيره فإذا وصل إلى هذا الحدِّ لا تُقبل منه توبة.
* وقوله: «يَا عَمِّ قُلْ: لا إله إلّا الله» أي: قُلها بلفظها، واعتقد معناها، ولا يكفي أحدهما عن الآخر، فمن قالها بلسانه ولم يعتقدها قلبه، حَقنت دمَهُ في الدنيا فقط، ومن اعتقدها بقلبه، ولم يلفظ بها، لم يدخل في الإسلام.
وإنما لم يقل له النبيّ صلى الله عليه وسلم: اعتقدها مع ذلك بقلبك؛ لأن العرب يعرفون هذه الكلمة ومعناها، ولذا أنكر عليه قولها أبو جهل وصاحبه.
ولأنَّ أبا طالب كان يعتقد بقلبه أنَّ الإسلام هو الحق، لكن هذا لا ينفعه؛ لأنَّه لم ينطق.
* وقوله: «كَلِمَةً» منصوبة، بناءً على أنَّها بدلٌ من «لا إله إلّا الله» ، والقاعدة: أنَّ البدل يتبع المبدل في إعرابه، ويجوزُ رفعُها على إضمار المبتدأ، أي: هي كلمةٌ،
(1)
، ومعلوم أنَّ الكلمة هنا يراد بها الجملة، لا الكلمة المفردة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ: كَلِمَةُ لَبِيدٍ (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ)»
(2)
.
* وقوله: «أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ؟» أتيا بالكلام على صيغة الاستفهام مبالغة في الإنكار عليه في مخالفة الآباء والكبراء، فهما لما خشيا أن يقولها ذكّراه بالحمية الجاهلية، وأنه لو قالها فسيخالف مِلَّة والده عبد المطلب، وهذه حجةٌ شيطانيةٌ لَبّس بها الشيطانُ على عددٍ من الكفار، ولذا أخبر الله أن فرعون قال لموسى:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} هل كلهم ضلوا،
(1)
المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، للقرطبي (1/ 110).
(2)
أخرجه البخاري (3841)، ومسلم (2256).
(1)
.
وتأمل هنا ضرر رُفقةِ السوء، كيف حرصا على إضلاله وثنيه عن الإسلام، والعجيب أنَّ عبد الله بن أبي أمية أسلم بعد ذلك.
* وقوله: «فَأَعَادَ عَلَيْهِ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» أعادهُ عليه لشدِّة حِرصه على هدايةِ عمّه، ولم ييأس صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي للداعية أن لا ييأس.
* وقوله: «فَأَعَادَا» : أي كررا عليه المقولة السابقة؛ خوفًا من إسلامه.
وعند مسلمٍ تتمة الحديث: «لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِى قُرَيْشٌ يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ، لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ»
(2)
، أي: سررْتُك بقولها، وأبلغتُكَ أُمْنيتك.
* وقوله: «هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ» هذا من تصرف الرواة، وإلّا فأبو طالب قال: «أنا
…
» ومثل هذه التصرفات مستحسنة، كما قال ابن حجر
(3)
.
وفي روايةٍ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد ذلك: «أمَا والله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» ، فأكدت بثلاث مؤكدات:
1 -
القسم. 2 - اللام. 3 - نون التوكيد الثقيلة.
وذلك تأكيدًا لعزمه صلى الله عليه وسلم، وهذا من مجازاته له على المعروف، لكن كأنَّه
(1)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 506).
(2)
صحيح مسلم (25).
(3)
فتح الباري (8/ 507).
خشي أن يُنهى فقال: «مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» وهذا ما وقع، إذ نُهِي عن ذلك.
* وقوله: فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة، الآية (113)]. هذا خبرٌ بمعنى النهي، أي: ما ينبغي لهم ذلك.
* فإن قيل: قوله في الحديث: «فَأَنْزَلَ الله» تفيد أنَّها نزلت بعد هذه القصة، وكانت في مكة، يشكل عليها أنه ورد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعتمر مرَّ على قبر أمّه، فاستأذن ربّه في أن يستغفر لها، فلم يؤذن له، فكيف استأذن بعد النهي؟ وكيف قيل: إنَّ الآية نزلت بعد استئذانه الاستغفار لأمه؟
* منهم من قال: يُحمل هذا على أنَّ الآية تأخر نزولها، فتكون نزلت إثر استئذانه في الاستغفار لأمه، وحينها يكون لها سببان:
1.
متقدم، وهو أمرُ أبي طالب.
2.
متأخر، وهو أمرُ أمّه صلى الله عليه وسلم وقد يؤيد هذا قولُ الراوي:«فأنزل الله في أبي طالب، فقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي}، فهذا يشعر أنَّ الأولى نزلت في أبي طالب وغيره، بينما قال في الثانية: «وأنزل في أبي طالب» .
وأقربُ منه أن يقال: إنَّ الآية هذه نزلت في قصة أبي طالب، ولذا حين أراد أن يستغفر لأُمّه استأذن ربه، والاستئذانُ يدل على وجود منع سابق، والله أعلم.
ومناسبة الحديث للباب: أنّ فيه نفي هداية التوفيق عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا انتفت عن أكرم الخلق فغيره من باب أولى، ويكون طلبها من غير الله شركًا.
ومما يؤخذ من الحديث غير ما سبق الإشارة إليه: تفسير كلمة لا إله إلا الله، وهو أمرٌ عرفه أبو جهل حين قال لأبي طالب:«أترغب عن ملة عبد المطلب؟» ،
وكم ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله، ولذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:«فلا خير في رجلٍ جُهّال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله»
(1)
.
(1)
الدرر السنية (1/ 70)، ويؤخذ من الحديث كذلك:
جواز عيادة المشرك إذا رُجِي إسلامه، والرد على من زعم إسلام أبي طالب وهم الرافضة.
19 - باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهِم دينَهم هو الغلو في الصالحين
وقول الله عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة، الآية (77)].
في الصحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح، الآية (23)]. قال: «هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى اَلشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصُبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ اَلَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَنُسِيَ اَلْعِلْمُ عُبِدَتْ»
(1)
.
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: «لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم»
(2)
.
وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْد، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ»
(3)
.
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ
(1)
أخرجه البخاري (4920).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 184).
(3)
أخرجه البخاري (3445)، وأخرج مسلم أصله وليس فيه هذا اللفظ. انظر رقم (1691).
قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ»
(1)
.
ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ- قَالَهَا ثَلَاثًا»
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه النسائي (3057)، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1/ 347)، وابن أبي عاصم في السنة (98)، وإسناده صحيح، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (ص 106): إسناده صحيح على شرط مسلم، وانظر: الصحيحة (1283).
(2)
أخرجه مسلم (2670).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبيَّن له غربةُ الإسلام، ورأى من قدرةِ الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث على وجه الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غُيِّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أنَّ الله أرسلهم؟
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردّها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل:
فالأول: محبة الصالحين.
والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئًا أرادوا به خيرًا، فظنَّ من بعدهم أنهم أرادوا غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح. السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.
الثامنة: أن فيه شاهدًا لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حَسُن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة -وهي أعجب وأعجب-: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» . فصلوات الله وسلامه على من بلَّغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح أنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم هو موت العلماء.
(الشرح)
هذا الباب متعلق بالغلوّ، وهو من أهم الأبواب، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: المقصود من الباب:
الغلو: مجاوزةُ الحدِّ في مدح الشيء أو ذمِّه، قال الراغب:«الغلو تجاوز الحدّ، يقال ذلك إذا كان في السعر غلاء، وإذا كان في القدر والمنزلة غلو»
(1)
.
وقال ابن تيمية: «الغلو مجاوزة الحدّ، بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك»
(2)
.
(1)
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (364).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 289)
وقد أراد المصنف في الباب أن يبيّن أنَّ سبب الوقوع في الشرك بالله تعالى، والباعثَ الأوَّل له هو الغلوُ في هؤلاء الصالحين الذين عُبِدوا من دون الله، فمن الغلو بدأت شرارة الضلالة، ودخل الشيطان على هؤلاء، فالناس إنما جرّهم إلى الشرك غلوهم في هؤلاء المعبودين.
ومناسبة الباب لما قبله: أنَّه لما ذكر بعض ما يقع من عباد القبور مع الأموات من الشرك، أعقب ذلك ببيان سببه وهو الغلو.
المسألة الثانية: نصوص الباب: ذكر في الباب خمسةَ نصوصٍ تبين أثر الغلو:
(1)
قول الله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ} [النساء، الآية (171)]. والمخاطَب هنا هم أهل الكتاب - اليهود والنصارى-، أن لا تغلوا في دينكم، وقد كان سبب ضلال النصارى أنَّهم غلوا في عيسى;، حتى ألَّهوه وعبدوه، وغلوا فيمن كان معه من أتباعه فادعوا فيهم العصمة، بينما كان ضلالُ اليهودِ في غلوهم في عيسى; قدحًا، وادعوا أنَّه ولد بغي.
ومناسبة الآية للباب: أنَّ من دعا نبيًّا أو وليًّا من دون الله وغلا فيه، فقد شابه النصارى و اليهود.
ولو تتبعت كلَّ مَنْ ضلّ من الفرق لوجدت أنَّه بسبب غلوهم في جانب، فالرافضة غلوا في حبّ آل البيت، والنواصب بضدّ ذلك، والجهمية غلوا في نفي التشبيه لله حتى نفوا عنه كل شيء، وهؤلاء الذين يعظّمون الأولياء ضلّوا حينما غلوا فيهم.
• ففي الآية: التحذير من الغلوّ في الصالحين والأنبياء، فإنَّه كان سبب ضلال النصارى واليهود
(1)
.
(1)
فائدة: أشار ابن القيم إلى أن الغلو نوعان:
1.
نوع يخرجه عن كونه مطيعًا، كمن زاد في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها في المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرًا، أو نحو ذلك عمدًا.
2.
وغلوٌ يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد، وكلاهما مذموم. مدارج السالكين (2/ 465).
(2)
حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح، الآية (23)] قال: «هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ» .
وكان الناسُ قبل نوحٍ صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فقد ورد عن ابن عباس:«كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»
(1)
، وكانت البداية منهم حينما غلوا في هؤلاء، فإنَّهم كانوا صالحين، ثم ماتوا في زمنٍ متقارب، فحزن الناس عليهم، فاستغلَّ الشيطان هذه العاطفة، وأشار عليهم أن ينصبوا في مواضعهم صورهم، ويسموها بأسمائهم؛ تخليدًا لذكرهم، ولينشطوا للعبادة كلما رأوهم، فلما هلك ذلك القرن وسوس الشيطان إلى من بعدهم أن من سبقوكم وضعوا هذه لأجل عبادتهم.
وهؤلاء الأشخاص الخمسة كانوا قبل نوح؛ لأنَّ نوحًا صلى الله عليه وسلم أتاهم ودعاهم إلى ترك عبادة هؤلاء الأصنام، وهذا الموافق لظاهر القرآن، وقاله جمع من
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 275)، والحاكم (2/ 546 - 547) وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (3/ 65): ثابت، وقال الألباني في الصحيحة (7/ 854): صحيح.
السلف.
ومناسبة الحديث للباب: أنَّه ما أوقع هؤلاء في الشرك إلّا الغلو في الصالحين ومحبتهم، حتى صوروهم، فدخل الشيطان عليهم من هذا المدخل، فالغلو مدخل شيطاني لإيقاع الناس في الشرك، ومنه دخل على كثير من الناس اليوم.
وتبين من الحديث أهمية نشر العلم، وغرس التوحيد؛ فإنَّ نسيان العلم كان مدخلًا للشيطان في نشر الشرك في قوم نوح.
ثم ذكر المصنف كلام ابن القيم مبيّنًا أنَّ أوّل الخلل وقع بسبب الغلو، فقال:(قال غير واحد من السلف: «لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم»).
فقد ذكر ابن القيم طريقَ الشيطان في تدرّجه بهم حتى أوصلهم إلى الشرك، سواء هم أو غيرهم من عباد الأصنام أو القبور، فقال: «ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلّا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبه وأوليائه، من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبِدَ أربابُها من دون الله، وعُبِدَت قبورهم، واتُخِذت أوثانًا وبُنِيت عليها الهياكل، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادًا لها ظل، ثم جعلت أصنامًا وعبدت مع الله تعالى، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)} [نوح، الآية (21 - 24)].
وبيّن في موضعٍ آخر أنّ تدرجه كان خطوةً خطوةً:
1 -
ألقى إليهم أنَّ البناء على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين
وتعظيمهم، وأنَّ الدعاء عندها أرجى في الإجابة، حتى تقرر ذلك عندهم.
2 -
بعد ذلك نقلهم إلى الإقسام على الله بها والدعاء بها، وهذا أعظم من الذي قبله؛ فإنَّ شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه.
3 -
ولما تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا يعبد ويعكف عليه ويطاف ويذبح عنده وغير ذلك.
4 -
ونقلهم إلى معاداة من نهى عن الشرك؛ بحجة أنَّهم حطّوا من منزلة هؤلاء الأولياء، فنفروا الناس عنهم وعادوهم، وهذا في السابق {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ
…
} وهو موجود إلى الآن
(1)
.
(3)
حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْد، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ» .
والإطراء: المبالغة في المدح ومجاوزة الحدّ فيه.
وسبق بيان غلو النصارى في إطراء عيسى عليهم السلام حتى ادعوا له الألوهية.
فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أتباعه عن إطرائه صلى الله عليه وسلم كما وقع من النصارى، وأعقب ذلك ببيان منزلته الحقيقة، حين قال: «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ
…
» ليس لي في الربوبية حقٌّ، بل أنا عبدٌ، والعبد من شأنَّه أنَّه لا يملك ولا يتصرف في أمر سيده، وكل الخلق عبادٌ لله.
ثم طلب منهم صلى الله عليه وسلم التوازنَ والتوسط في حقه، بلا إفراط ولا جفاء، فقال:«فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ» فيصفوه بالعبودية، ولا يرفعوه فوق ما جعله الله
(1)
انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم (1/ 217).
له، ولا يجفون في حقه، بل يجمعوا بين الوصفين: عبد الله، ورسوله.
ومناسبة الحديث للباب: أنَّه ما أوقعَ النصارى فيما وقعوا فيه إلّا الغلو في عيسى عليهم السلام، ولذا حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على التحذير مما وقعوا فيه من الغلوّ حتى لا نضلَّ كما ضلّوا.
والعجيب أنَّ عُبّاد القبور ناقضوا هذا، واعتقدوا أنَّ من اكتفى بوصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنَّه عبدُ الله، وأنَّه لا نفع بيده ولا ضرّ، فقد جفا في حقّه، وأنقص من قدره، ولذا فهم رفعوه فوق منزلته فَضَلّوا بذلك، كما هو مشهور في تعظيمهم لقبره وحلفهم به وتوسلهم به، بل ودعائهم إيّاه، وكم أفاض شعراء الصوفية في تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذاك باعتقادهم قربة، وهو عين ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الغلو فيه وإطرائه، وأمثل هنا بمثالين:
المثال الأول: محمد بن سعيد البوصيري (ت 695 هـ) في الاسكندرية، وله قصيدة شهيرة يحفظها كثير من المتصوفة تسمى البردة، يقول في بعض أبياتها:
فإن لي ذمةً منه بتسميتي
…
محمدًا وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي
…
فضلًا فقل يا زلة القدم
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به
وقال:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
سواك عند حلول الحادث العَمِمِ
ومن علومك علم اللوح والقلم
إلى أن قال:
ما سامني الدهرُ ضيمًا واستجرتُ به
…
إلا ونلت جوارًا منه لم يُضم
(1)
(1)
انظر: الرد على البردة، للعلامة أبا بطين (ص 12).
المثال الثاني: عبد الرحيم البرعي اليماني، له قصيدة، من أبياتها:
يا سيدي يا رسول الله، يا أملي
…
يا موئلي، يا ملاذي، يوم تلقاني
وقوله:
سيد السادات من مضر
…
غوث أهل البدو والحضر
وهذا من أثر الغلو، الذي وقع من هؤلاء في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس ذاك- واللهِ- بتعظيمٍ له، وإنما يتحقق تعظيمه بأن يسلك تجاهه ما سلكه أصحابه رضي الله عنهم.
(4)
قال صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ» .
والحديث جزء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند النسائي وغيره، ولفظه:«قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ جَمْعٍ هَلُمَّ الْقُطْ لِي، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصياتٍ هُنَّ حَصى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» .
والحديث فيه النهي عن الغلو والتحذير منه، وهو وإن كان قد ورد في سببٍ خاصٍ-وهي حصى الجمار-، إلا أنَّه عامٌ في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، قال ابن تيمية:«ودين الله وسطٌ بين الغالي والجافي»
(1)
.
5) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ- قَالَهَا ثَلَاثًا» .
التنطع: التعمق والتكلف، وهو مذمومٌ سواء في القول بالتقعر في إظهار الفصاحة، أو في الفعل بأن يزيد في العبادة على الحد المشروع، كما قال
(1)
الفتاوى الكبرى (1/ 115).
الصحابي: «
…
وأَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ
…
»
(1)
، ومن ذلك التنطع في حبّ الصالحين.
وعلى كل حال: فمناسبة الحديث للباب: أنَّ فيه النهيَّ عن الغلوّ من وجهين:
1.
التحذير منه والنهي عنه في قوله: «إِيَّاكُمْ» .
2.
بيان أنَّه سبب هلاك الأمم السابقة.
* خلاصة الباب: أنَّ الغلوَّ ومجاوزة الحد هي سبب الوقوع في الشرك؛ ولذا حذّر منه النبيّ عليه السلام، وأنَّ الدين وسط بين الغالي والجافي.
(1)
أخرجه البخاري (5063).
20 - باب ما جاء من التغليظ فيمن
عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟
(1)
، فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
(2)
.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اَلله أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ اِتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اِتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا
(1)
أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528).
(2)
أخرجه البخاري (1390)، ومسلم (529).
لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا اَلْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ»
(1)
.
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنَّه لعن -وهو في السياق- من فعله، والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد، وهو معنى قولها:«خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» ، فإنَّ الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، وكلُّ موضع قُصِدَت الصلاةُ فيه فقد اتُخِذَ مسجدًا، بل كل موضع يُصلى فيه يسمى مسجدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«جُعِلَتْ لِيَ اَلْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
(2)
.
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ اَلنَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ اَلسَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْقُبُورَ مَسَاجِدَ»
(3)
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (532).
(2)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر.
(3)
أخرجه أحمد (1/ 405)، وابن خزيمة (789)، وابن حبان (6847)، والطبراني (10/ 188)، والبزار (3420)، وعلق البخاري شطره الأول في الصحيح (7067) بصيغة الجزم، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (158): اسناده جيد.
(4)
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجدًا يُعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك، كيف بيَّن لهم هذا أولًا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لمَّا كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنُه إياهم على ذلك. السابعة: أن مراده صلى الله عليه وسلم تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره. التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدًا.
العاشرة: أنَّه قرَن بين من اتخذها وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبلَ موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعضُ أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية، وبسبب الرافِضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بُلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع. الثالثة عشرة: ما أُكرم به من الخلّة.
الرابعة عشرة: التصريح أن أبا بكر أفضل الصحابة. الخامسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
(الشرح)
الكلام على الباب في ستّ مسائل:
المسألة الأولى: المقصود بالباب والمراد منه: لمّا كان سبب كفر بني آدم هو غلوهم في الصالحين، وكان قد بيّن في الباب السابق ذمَّ الغلو، أراد أن يُنَوِّعَ التحذيرَ من الافتتان بالقبور، وأخرجه في بابٍ آخر ليكون أبلغ في الترهيب، فعقد هذا الباب، ليقرِّرَ أنَّه إذا كانت عبادةُ الله عند قبرٍ فيها تشديدٌ ونهيٌ، لِما في ذلك من الغلو، فما بالُكَ بمن يعبد نفسَ صاحبِ القبر ويدعوه، لا شك أنَّه أعظم.
المسألة الثانية: ورد في النصوص ما يدل على أنَّ بِناء الأبنية على القبور، واتخاذ مواضعها للعبادة مُحَرّمٌ، وهو صنيعُ شِرارِ الخلق، وقد جاء الشرع بالنهي عن ذلك سدًّا لذريعة تعظيمها التي توصل إلى الشرك بها وعبادتها.
* وقد ساق المصنف مستدلًا لهذا المعنى ثلاثة أحاديث:
(1)
حديث عائشة رضي الله عنها في ذكر الكنيسة التي رأتها أم سلمة بأرض الحبشة، ووصفتها بأنَّها كان فيها تصاوير لأناس، ويظهر أنَّ هذا التصاوير هي صورُ أقوامٍ صالحين، كما أفاد ذلك كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فجاء تعليقه صلى الله عليه وسلم بأنَّ الذين صنعوا هذا هم شرارُ الخلق عند الله، ووصْفُهُمْ بهذا الوصف يقتضي تحريمَ فعلهم، بل سيأتي في الحديث الآخر: «لَعْنَةُ اَللَّهُ عَلَى اَلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
…
» وهذا سدٌّ لذريعة الشرك.
ثم ذكر المصنف كلامًا لابن تيمية معلقًا على الحديث، وهو قوله:«فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل» ، ومضمون كلام الشيخ، أنَّ هؤلاء الذين بنوا على الكنيسة جمعوا بين فتنتين:
أ- فتنة القبور: بتعظيمهم لها وبناءِ المساجد عليها، وهي مبدأ الفتنة كما تقدم.
ب- فتنة التماثيل: أي الصور، وهي سبب وقوع قوم نوح في الشرك كما تقدم.
وإنما سمى ذلك فتنة: لأنَّها سببٌ لصدِّ الناس عن دينهم، وكل ما كان كذلك فهو من الفتنة، وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين.
• ومن هنا تعلم: العلّةَ من النهي عن اتخاذ المساجد والأبنية على القبور، وهو سدُّ ذريعة الشرك بعبادتها، فحسم الأمر، بل حرَّم الصلاة في المقبرة.
فإن قيل: إنَّ النهيَ الواردَ هو عن بناء المساجد على القبور، أي: فوقها، لكن لو بني المسجد بجوار قبر ولي، فلا حرج؛ لأنَّ النهي لا يشمله، إذ هو مقيد ب «على»
حيث قال في الحديث: «بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا» فيجوز بجنبها، فكيف الجواب؟
* الجواب من وجهين:
أ. أنَّ هذا كلام من لا يعرف العربية، فإن (على) تأتي على معانٍ، منها (عند) ويدل لها نصوص، كقوله:{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج، الآية (6)]. أي: عندها، {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة، الآية (84)]. وليس مراده لا تقم فوقه، وكذا:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة، الآية (259)]. إلى غيره من النصوص.
ب. جاءت ألفاظ أخرى فيها التحذير من اتخاذ الأبنية على القبور، كاللعن في الحديث القادم، وهذه تعضد حديث الباب.
(2)
حديث عائشة قالت: «لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اِغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اَللَّهُ عَلَى اَلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ
…
».
فلما لعنهم النبيّ صلى الله عليه وسلم علّل اللعن بقوله: «اتَّخَذُوا قُبُورَ
…
» أي: بنوا عليها أماكن يتعبدون عندها لله، وإن لم تُسَمَّ مساجد.
• وعلى هذا: فمن بنى على قبور الصالحين بناءً، وميّزه به عن غيره، فهو داخلٌ في هذا الأمر.
ومِثلُه من بنى مسجدًا على القبر، قال ابن تيمية:«فهذه المساجدُ المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، والملوكِ وغيرهم، يتعيّنُ إزالتها بهدمٍ أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين»
(1)
.
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 187).
والتغليظُ يؤخذ من الحديث من أوجه:
1.
لعنُ النبيّ صلى الله عليه وسلم من فعل هذا.
2.
أنَّه قال: «قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
…
» فإذا كان اللعنُ في حقّ مَنْ وضع البناء على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فلعن غيره -ممن وضع ذلك على قبور من دونهم- أولى.
3.
أنَّ هذا الكلام منه صلى الله عليه وسلم كان في شدة النزع وعند الموت، مع ما سبق من النهي عن ذلك تأكيدًا للأمر، والمرء عند الموت سيؤكد على أهم الأشياء عنده.
(3)
حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ اَلنَّاسِ: مَنْ تُدْرِكُهُمْ اَلسَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْقُبُورَ مَسَاجِدَ» .
وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الناس يتفاوتون في الشرّ، وأن من شِرار الناس صنفين:
أ- من تقوم عليهم الساعة، ولا يعارض هذا حديث: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي
…
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(1)
؛ لأن المراد به، أن الطائفة المنصورة تبقى إلى قرب قيام الساعة، ثم بعد ذلك يقبضهم الله، ويبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة.
ب- الذين يتخذون القبور مساجد.
المسألة الثالثة: النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المقبرة، بل دفن في حجرته، يدل لذلك قولها رضي الله عنها: «وَلَوْلَا ذَلِك؛ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ
(1)
أخرجه مسلم (1923) من حديث جابر، وأخرجه البخاري (3640)، ومسلم (1921) من حديث المغيرة نحوه.
مَسْجِدًا».
وفي هذه الجملة بيانُ سببِ دفنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجرته، وعدم إبرازه للناس، وأنَّ ذلك لأمرين:
أ) أنَّه أصْوَنُ له من دفنه مع الناس، حيث لو وقع ذلك لغلا البعضُ في قبره.
ب) لإخباره صلى الله عليه وسلم أنَّه ما قُبِضَ نبيٌ إلّا دُفِن حيث قُبِض.
وإذا كان النهيُ للمسجد الذي يصلى فيه لله، وعند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما بالك بمن يقيم حول القبور والأضرحة مساجد وقُببًا يصلي فيها، ويطوف عليها، ويدعو الميت مباشرة أن يشفع له أو يفرج عنه، والله المستعان.
فإن قيل: كيف يجاب عن وضع قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، وهذا كان منذ القدم ولم ينكره العلماء؟ أوليس هذا السكوتُ دليلًا على جواز جعل القبور في المساجد؟
* الجواب من أوجه:
1 -
أنَّ القبر جُعِلَ في بيته صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك لئلا يكون بارزًا للعوام، فيفتن به الجهال.
2 -
أنَّ المسجد كان موضوعًا قبل القبر، فلم يُبن المسجد على القبر.
3 -
أنَّ القبر لم يكن في المسجد، بل إنَّ الصحابة لما احتاجوا إلى توسعة المسجد في عهد عمر رضي الله عنه تحاشوا إدخال حجرات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخذوا بيت العباس وهو بجوارها، وكذا عثمان رضي الله عنه لم يدخل الحجرات في المسجد حين وسعه.
4 -
أنَّ إدخال حجرات أمهات المؤمنين في المسجد وقع في خلافة الوليد
بن عبد الملك، وقيل: إنَّ ذلك بعد التسعين، ولم يكن بقي من الصحابة بالمدينة أحد، وآخر من مات بالمدينة جابر بن عبد الله في خلافة عبد الملك.
5 -
أنَّه قد أنكر على الوليد بعضُ كبار التابعين، ومن أشهرهم: سعيد بن المسيب أفضل التابعين، وقد أخطأ الوليد في ذلك، وفعل ذلك من غير مشاورة للعلماء.
6 -
أنَّ وضعَ القبرِ الآنَ في حجرة مستقلة منعزلة عن المسجد، ومع ذلك بُنِيَ على طريقةٍ لا يقدر فيها أحدٌ أن يستقبله، إذ بُنِيَ على ثلاثةِ جُدران، وفي هذا قال ابن القيم: ودعا بأن لا يجعل القبر الذي قد ضمّه وثنًا من الأوثان
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران
(1)
.
المسألة الرابعة: ورد في الباب ما يدل على النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهو حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول:«إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اَلله أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ؛ فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ اِتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اِتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا اَلْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .
وقوله: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اَلله» : أي أمتنع من هذا وأُنْكِرُه، وأتخلى عن أن يكون لي منكم خليل.
والخليل: الذي يبلغ في الحبّ غايته؛ لأنَّ حُبَّهُ قد تخلّل الجسم كلّه، وهي أعلى درجات المحبة، كما عددها ابن القيم وغيره
(2)
.
(1)
القصيدة النونية، وشرحها لخليل هراس (2/ 215).
(2)
انظر: روضة المحبين (ص: 47).
(1)
.
* ويدل لذلك: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّه لم يتخذ خليلًا، ومع ذلك أخبر بحبه عائشة ولأبيها ولعمر، والله يحب التوابين، أما الخلّة فهي خاصةٌ بالخليلين.
• وعلى هذا: فمحمد خليل الله، وحبيب الله، وكليم الله.
والحكمة من عدم اتخاذ النبيّ خليلًا له من الخلق: «لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ بما تخلله من محبة الله تعالى وتعظيمه، فلا يسع لِمُخالَّةِ غيرِه»
(2)
.
والشاهد فيه قوله: «أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا اَلْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .
وفي هذا الحديث المنع من اتخاذ القبور مساجد، من ثلاثة أوجه:
أ- ذمُّ ما فعله أهل الكتاب.
ب- قوله: «لَا تَتَّخِذُوا» .
ج- «فإني أنهاكم عن ذلك» وهو توكيد.
وهذا النهى عن اتخاذ القبور مساجد يشمل:
أ. اتخاذها مصليات يصلى عندها، وإن لم يبن مسجدًا.
ب. أن يبني عليها مسجدًا كما فعل اليهود والنصارى، وكما وقع من
(1)
الداء والدواء (ص: 446).
(2)
المفهم، للقرطبي (5/ 60).
البعض الآن
(1)
.
المسألة الخامسة: أهل العلم يقررون أنَّ النهي عن اتخاذ القبور مساجدَ أوسعُ مِنْ البناء عليها، بل جعل هذه البقعة موضعًا للعبادة يدخل في اتخاذها مسجدًا، يُفهَمُ هذا من كلام ابن تيمية الذي ذكره المصنف، ونصّه:«فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم أنَّه لعن -وهو في السياق- مِنْ فعله، والصلاةُ عندها من ذلك وإن لم يبن مسجدًا»
(2)
، وهو معنى قولها:«خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» ، فإنَّ الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبرِه مسجدًا، وكل موضعٍ قُصِدت الصلاةُ فيه فقد اتُخِذَ مسجدًا، بل كل موضعٍ يُصلى فيه يسمى مسجدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«جُعِلَتْ لِيَ اَلْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» .
ومضمون كلام شيخ الإسلام: أن كل موضعٍ قَصدت أن تصلي فيه وتسجد فيصح أن يسمى مسجدًا، بل كل موضع صلّيت فيه فهو في حقيقة الأمر مسجدٌ، قال العثيمين:«وهذا يشهد له العرف، فإنّ الناس الذين لهم مساجد في أعمالهم كالوزارات والإدارات، لو سألت أحدهم أين المسجد؟ لأشار إلى المكان الذي اتخذه مصلى مع أنَّه لم يبنَ فيه»
(3)
.
ثم ساق ابن تيمية حديث: «جُعِلَتْ لِيَ اَلْأَرْضُ مَسْجِدًا
…
» ليستدل به على أنَّ المكان الذي يصلى فيه يسمّى مسجدًا، سواء قصد أو لم يقصد، بني عليه أو لا.
(1)
ذكر ابن القيم رحمه الله أكثر من عشر مفاسد تترتب على البناء على القبور، بكلام نفيس، فليراجع. إغاثة اللهفان (1/ 197).
(2)
انظر: الاقتضاء (2/ 189)، ومجموع الفتاوى (17/ 463).
(3)
القول المفيد (1/ 403).
المسألة السادسة: في حديث عائشة أنَّ أم سلمة ذكرت كنيسةً رأتها بأرض الحبشة، وقد اختلف العلماء في حكم دخول الكنائس.
* والخلاصة في دخول الكنيسة أن يقال:
1.
أما دخولها للعبادة: فإن كان لعبادة الله فيجوز، وقد صلى الصحابة في كنيسة، قال البخاري:«كان ابن عباس يصلي في بيعة إلا بيعة فيها تماثيل»
(1)
إلّا أنَّه يجب أن تخلو من المحاذير وهي الصور والقبور.
2.
وأما دخولها للدعوة: فهو جائز، بل مشروع.
3.
وأما دخولها لغير ما سبق: ففيه خلافٌ على أقوال ثلاثة:
القول الأول: التحريم، وهو قول الحنفية والشافعية، إلّا أنَّ الشافعية قيدوا التحريم بما إذا وجد فيها صور.
القول الثاني: الكراهة: وهو قولٌ في مذهب الحنابلة، وذكر ابن تيمية أنَّ الكراهة إذا كان فيها صورٌ؛ لِما رود عن عمر رضي الله عنه، أنَّه لما قدم الشام صنع له رجل من عظماء النصارى طعامًا، فقال:«إنا لا ندخل كنائسكم، من الصور التي فيها»
(2)
.
القول الثالث: الجواز، وهو المشهور من مذهب الحنابلة: واختاره ابن حزم.
وقالوا: تقع حرمة الصور على من صورها، وقد نقل ابن قدامة: «أن عمر
(1)
صحيح البخاري (1/ 94).
(2)
علقه البخاري في الصحيح (1/ 94) بصيغة الجزم، ووصله معمر بن راشد في جامعه (ص: 398)، والبخاري في الأدب المفرد (1248)، والبيهقي في الكبرى (14564)، وفي الصغرى (2588).
حين دعاه الرجل من النصارى للطعام في الكنيسة أبى أن يذهب، وقال لعلي رضي الله عنه امضِ بالناس فليتغدوا، فذهب علي رضي الله عنه بالناس، فدخل الكنسية وتغدوا هو والناس، وجعل ينظر إلى الصور، وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل»
(1)
.
والذي يظهر أن الأولى للإنسان أن لا يدخلها لما فيها من الصور التي تمنع من دخول الملائكة، ولقول عمر رضي الله عنه:«لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم، فإن السخطة تنزل عليهم»
(2)
، ولو قيل بالكراهة من غير حاجة فله وجه، والله أعلم.
* خلاصة الباب: تتبين بكلام الشيخ السعدي رحمه الله حيث قال: ما ذكر المصنف في البابين يتضح بذكر تفصيل القول، فيما يفعل عند قبور الصالحين وغيرهم، وذلك أنَّه نوعان:
1 -
مشروع. 2 - ممنوع.
فالمشروع: ما شرعه الشارع من زيارة القبور على الوجه الشرعي.
والممنوع نوعان:
أ- محرمٌ ووسيلة للشرك: كالتمسح بها والتوسل إلى الله بأهلها والصلاة عندها، وكإسراجها والبناء عليها والغلو فيها، وفى أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة.
ب- شركٌ أكبر: كدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم، وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم، وهو شرك أكبر وعين ما يفعله عباد الأصنام مع أصنامهم
(3)
.
(1)
المغني (7/ 283).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1609)، وابن أبي شيبة في المصنف (26281).
(3)
القول السديد (ص: 83).
21 - باب ما جاء أن الغلو في قبور
الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
روى مالكٌ في الموطأ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اَللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اَللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اِتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»
(1)
.
ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصور عن مجاهد:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم، الآية (19)]. قال: «كَانَ يَلُتُّ لَهُمْ اَلسَّوِيقَ، فَمَاتَ، فَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ»
(2)
.
وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: «كَانَ يَلُتُّ اَلسَّوِيقَ لِلْحَاجِّ»
(3)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ اَلْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ
(1)
أخرجه مالك في الموطأ (85)، وابن أبي شيبة في المصنف (7544 - 11819)، وعبد الرزاق في المصنف (1587) من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلًا.
وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد في المسند (2/ 246)، الحميدي (1025)، وابن سعد في الطبقات (2/ 241)، وابن عبد البر في التمهيد (5/ 43)، وسنده حسن.
(2)
أخرجه الطبري في التفسير (22/ 48).
(3)
أخرجه الطبري في التفسير (22/ 48).
عَلَيْهَا اَلْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: أراد المصنف بالباب أمورًا:
1 -
التحذير من الغلو في قبور الصالحين، وهي داخلةٌ فيما سبق، لكنها خُصَّتْ لأهميتها، وعِظَمِ خطرها وكثرةِ الضلال فيها.
2 -
بيان أنَّ الغلو فيها يؤول بالناس إلى عبادتها.
3 -
بيان أنَّها إذا عُبِدت سُمِّيت أوثانًا، ولو كانت قبور الصالحين؛ لأن الوثن كلُ ما عُبِدَ من دون الله من قبرٍ أو حجر أو شجر.
المسألة الثانية: ذكر المصنف في الباب ما يدل على أنَّ اتخاذ القبر مسجدًا يجعله وثنًا يُعبد، وفي الباب قوله صلى الله عليه وسلم:«اَللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اَللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اِتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .
(1)
أخرجه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وابن ماجه (1575)، وابن حبان (3179 - 3180)، والحاكم (1384)، وحسنه الترمذي.
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان. الثانية: تفسير العبادة. الثالثة: أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعَه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة -وهي من أهمها-: معرفة صفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح. الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذِكر معنى التّسمية.
التاسعة: لعنه زَوَّارَات القبور. العاشرة: لعنه من أسرجها.
فدل على أنَّ قبر الرسول لو عُبِد لكان وثنًا كما قال: «وَثَنًا يُعْبَدُ» وإذا كان هذا في قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بغيره من القبور التي يدعوها ويعبدها الناس، لا شك أنَّها صارت بذلك أوثانًا.
المسألة الثالثة: ورد في الباب ما يدل على أنَّ سبب عبادة أهل القبور لهؤلاء هو غلوهم فيهم، حتى أوصلهم ذلك لأن يعبدوهم من دون الله.
وقد ذكر في الباب كلام مجاهدٍ رحمه الله على قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم، الآية (19)]. قال: «كان يَلُتُّ لهم السويقَ فمات، فعكفوا على قبره» .
فسببُ عبادةِ اللاتِ هو الغلوُ في قبره حتى صار وثنًا يُعبد، وحتى صار ذلك هو السبب في وقوع الشرك في قوم نوح، واليوم ترى من الأمة من يغلو في الأموات ويبني عليهم القباب والمشاهد ونحوها.
المسألة الرابعة: أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ما يكون سببًا لتعظيم القبور، ومن ذلك جعلُ السُرُجِ عندها، وكذا تجصيصُها والبناءُ عليها؛ لِما يوقع ذلك من تعظيمها في نفوس بعض العامة.
وقد ساق في الباب حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ اَلْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا اَلْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» .
قال ابن قدامة: «لو أُبيح اتخاذُ السُرُجِ عليها لم يُلعَنْ مَنْ فَعله؛ لأن فيه تضييعًا للمال على غيره، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام»
(1)
.
وقال ابن تيمية: «بناء المسجد، وإسراج المصابيح على القبور، مما لم أعلم
(1)
المغني (2/ 379).
فيه خلافًا أنَّه معصية لله ورسوله «
(1)
، وقال:«إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقًا، لا يجوز بلا خلاف أعلمه، للنهي الوارد»
(2)
.
ومن تأمّل سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجد أنّه ضبط أمرَ القبورِ بسياجٍ منيعٍ؛ كي لا يقعَ الناسُ في الغلوّ فيها، ومع هذا فقد خالف كثيرٌ من الناس ما أُمِرَ به في هذا الباب، قال ابن القيم: «ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادًا للآخر، مناقضًا له، بحيث لا يجتمعان أبدًا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها.
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد، مضاهاةً لبيوت الله تعالى.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن تتخذ أعيادًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها، وهؤلاء يرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يتّخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره»
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى (31/ 45).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 189).
(3)
إغاثة اللهفان، لابن القيم، بتصرف (1/ 195).
المسألة الخامسة: دعى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: «اَللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» ، وقد استجاب الله دعاء نبيه في هذا.
(1)
.
* خلاصة الباب: أنَّ الغلوَ ومجاوزةَ الحدِّ تجاه القبور والأولياء قد يوصل الإنسان إلى أن يتخذها معبودةً من دون الله، والمشروع تجاه القبور هو أمور:
1.
زيارتها للاتعاظ والاعتبار، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2.
الدعاء للمسلم منهم، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أهل أحد، وغيرهم.
3.
عدم وضع أي شيء من شأنه تعظيم المقبور، كأنوار وسرج وبنيان وستور وقباب، ونحو ذلك.
(1)
مجموع الفتاوى (27/ 328).
22 - باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم
-
جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة، الآية (128)].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي، عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ»
(1)
.
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود (2042)، والطبراني في الأوسط (8026)، والبيهقي في الشعب (3865)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 283)، وصححه النووي في الأذكار (ص: 93)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7226).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7542)، والبزار (509)، وأبو يعلى في المسند (469)، والضياء في المختارة (428).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة. الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد. الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أنَّ زيارته من أفضل الأعمال. الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت. السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يُصلى في المقبرة.
الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بهذه الترجمة: ما سبق من الأبواب كلها في حماية النبيّ صلى الله عليه وسلم للتوحيد، لكنه في هذا الباب أراد أن يبيّن حمايته الخاصة للتوحيد، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التحذير من الشرك وحماية التوحيد، فذكر في الباب نصوصًا تبين هذا الهدي من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّه حريص على أن يحمي الأمة من كل أمرٍ قد يَدخلُ عليهم الشرك من قِبَله، وذلك ناشئ من تعظيمه لربه أن يُشْرَكَ به، ومِن رحمته بالأمة أن لا تزلّ بهم القدم في مهاوي الشرك.
المسألة الثانية: ذكر المصنف في الباب قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة، الآية (128)].
والمعنى: أنَّ الله يقول ممتنًّا على الأمة: إني أرسلتُ إليكم رسولًا عربيًا من جنسكم، يخاطبكم بلسانكم، وأيضًا هو من خالص العرب، فلم يُصِبهُ مِنْ ولادة الجاهلية شيء، يشقّ عليه ما يشقّ عليكم، ولهذا بُعِث بالحنيفية السمحة، وكانت شريعته أسمح الشرائع في العمل، وكان يترك أمورًا لئلا يشق على أمته.
• والشاهد: أن الله بين في الآية بعض أوصاف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومحاسنه التي تقتضي أنَّه ينصحُ لأمته، ويسدُّ الطُرُقَ الموصلة إلى الشركِ لئلا تقع الأمة في ذلك.
المسألة الثالثة: مِنْ حرصه صلى الله عليه وسلم على إغلاق بابِ الشرك نهيُه أن يُتَّخَذَ قبرُه عيدًا، وقد ورد في الباب حديثان يدلان على هذا:
1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» .
وقوله: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا» : ذكر ابن تيمية أنَّ في هذه الجملة فائدتين:
أ. النهي عن تعطيل الصلاة في البيوت؛ لئلا تشبه القبور، فأمر بتحري العبادة فيها.
ب. النهي عن الصلاة عند القبور، وبيان أنَّ القبور لا يتعبد فيها وعندها، فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم شبّه البيت الذي لا يصلى فيه بالقبر، ففيه أن القبر لا يتعبد عنده.
وقوله: «وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» : العيد: اسم لما يعود ويعتاد فعله، قال ابن القيم: «العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان
…
»
(1)
ا. هـ.
ففيه: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة قبره على وجه مخصوص، واجتماع كالعيد الذي يكون على وجه مخصوص، فيكون قبره مكانًا يجتمع فيه للعبادة.
قال العثيمين: «أي: لا تترددوا على قبري، ولا تعتادوا ذلك، سواء قيدوه
(1)
إغاثة اللهفان (1/ 190).
بالسنة أو الشهر أو الأسبوع، فإنَّه نهى عن ذلك، إنما يزار لسبب، كما لو قدم من سفر أو زاره ليتذكر الآخرة»
(1)
.
فأما زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بدون شدِّ رحل، وبدون غلوٍ فيه وعبادةٍ عنده فتجوز.
• والشاهد: أنَّ في الحديث حماية النبيّ صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد فيما يتعلق بقبره وغيره من جوانب:
1.
بيان أنَّ القبر موضع لا يتعبد لله عنده. 2. نهيه أن يجعل قبره عيدًا.
3.
بيان أنَّه ليس للصلاة عليه عند قبره خاصّية، بل إذا قصد القبر للصلاة عليه فهذا منهي عنه، إنما يقصد للسلام عليه بدون شدِّ رحلٍ، ويصلي عليه إذا قدم للمدينة بلا سفر؛ لأجل ذلك إذا صليت عليه في أي موضع بلغه.
وهذا الرجل كان يكرر المجيء إلى هذا الموضع، وذلك إما لاعتقاده أنَّ له فضلًا ومزية، أو بدون هذا الاعتقاد، ولكنه تردد على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ويدعو عنده ربه، لكن هذا من وسائل الشرك، ويفتح بابًا إلى الشرك، فنهاه علي بن الحسين، وبيّن له أنّ صلاته على النبيّ صلى الله عليه وسلم تبلغه أينما كان.
وفيه أيضًا: الإنكار على من يأتي ويدعو عند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
القول المفيد (1/ 447).
(2)
ذكر الشيخ صالح الفوزان جملةً من الوسائل القولية والفعلية، التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها تفضي إلى الشرك:
1 -
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل: "ما شاء الله وشئت"، "لولا الله وأنت"، وأمر بأن يقال بدل ذلك:(ما شاء الله ثم شئت)؛ لأن الواو تقتضي التسوية و"ثم" تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر. 2 - نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها وإسراجها وتحصيصها والكتابة عليها.
3 -
نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها.
4 -
نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك في التشبه بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات.
5 -
نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة؛ إلا إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
6 -
نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله"، والإطراء هو المبالغة في المدح.
7 -
نهى صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر إذا كان في مكان يعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية.
كل هذا حذر منه؛ صيانة للتوحيد، وحفاظًا عليه، وسدًا للوسائل والذرائع التي تفضي إليه. الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان (48).
23 - باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء، الآية (51)]. وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة، الآية (60)].
وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف، الآية (21)].
عن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ اَلْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! اَلْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟»
(1)
.
(2)
.
ورواه البرقاني في صحيحه، وزاد: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اَلْأَئِمَّةَ اَلْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ اَلسَّيْفُ، لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ اَلسَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي اَلْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ اَلنَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى اَلْحَقِّ مَنْصُورَةٌ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ
(1)
أخرجه البخاري (3456)، ومسلم (2669).
(2)
أخرجه مسلم (2889).
حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اَللَّهِ تبارك وتعالى»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه بهذه الزيادة: أحمد في المسند (5/ 284)، وأبو داود في السنن (4252)، والترمذي مقطعًا في (2176 - 2202 - 2219 - 2229)، وابن ماجه (3952)، وابن حبان (7238)، والحاكم (8390)، وإسناده حسن.
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء. الثانية: تفسير آية المائدة. الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: وهي أهمها، ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت، هل هو اعتقاد قلب؟ أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين.
السادسة -وهي المقصود بالترجمة-: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: التصريح بوقوعها، أعني: عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.
الثامنة: العجب العجاب خروج من يدعي النبوة مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق وفيه أن محمدًا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق بهذا كله مع التضاد الواضح.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالقوة كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أنّ ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيهن من الآيات العظيمة، منها إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبره، بخلاف الجنوب والشمال.
وإخباره بأنه أعطي الكنزين، وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة، وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها من أبعد ما يكون في العقول.
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين. الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة الباب للتوحيد: أراد المؤلف بهذا الباب أن يذكر ما ورد في النصوص أنَّ الشرك سيقع في الأمة، وسيعود بعضهم إلى عبادة الأوثان.
وهذا الأمر فيه ردٌّ على من زعم -من خصوم الشيخ وغيرهم- أنَّ الشرك لا يقع في هذه الأمة، وأنَّ ما يكون من عبّاد القبور ليس من الشرك؛ لأنَّ الأمة معصومةٌ منه بحديث:«إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»
(1)
.
المسألة الثانية: استدل المصنّف لهذا المعنى بآياتٍ وأحاديث:
(1)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء، الآية (51)].
* وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الِجبْتُ: عامٌ لكل صنمٍ أو سحرٍ أو كهانة ونحوها.
والطاغوت: ما تجاوز به العبدُ حدّه مِنْ معبودٍ كالأصنام، أو متبوعٍ كعلماء الضلال، أو مُطاعٍ كالأمراء إذا كانت طاعتُهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام.
ومناسبة الآية للباب: أنَّ اليهودَ والنصارى مع أنَّهم أوتوا نصيبًا من الكتاب آمنوا بالجبت والطاغوت، وهذه الأمةُ التي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عنهم «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ
(1)
أخرجه مسلم (2812) من حديث جابر.
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» سيكونُ فيهم من يَكفُر، ويتبعُ سَنن من قبلهم، ويؤمنُ بالجبت والطاغوت.
(2)
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة، الآية (60)].
* وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود -الذين ذمّوا دينكم، وقالوا: لم نَرَ أهل دين شرًّا منكم- هل أنبئكم بِشَرٍّ جزاءً وثوابًا عند الله مما تظنونه بنا؟ هم أنتم الموصفون بهذه الصفات المذمومة في الآية.
ومناسبة الآية للباب: أنَّه إذا كان في أهل الكتاب من عبد الطاغوت، فلابد أن يكون في هذه الأمة من يتشبه بهم ويعبد الطاغوت؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
…
».
(3)
قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف، الآية (21)].
أي: قال الذين اطلعوا على أمر أصحاب الكهف، وغلبوا على أمر القوم من السلاطين وأصحاب النفوذ: سنتخذ في موضع أصحاب الكهف مسجدًا نعبد الله فيه.
ومناسبة الآية للباب: كما في سابقتها، أنَّ الله بيّن أن من سبقنا بنوا على القبور مساجد، وهذه الأمّة ستفعل ما فعلوا، وقد وقع، فقد بُنِي على القبورِ مساجد ووقع الشرك في الأمة.
وأما الأحاديث فأولها: حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ اَلْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا يَا
رَسُولَ اَللَّهِ! اَلْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟».
وهذا إخبارٌ من النبيّ صلى الله عليه وسلم وهذه معجزةٌ من معجزاته، أنَّ الناس سيتبعون سَنن وطريقَ اليهود والنصارى، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلوه معهم.
وإنما شبّه بجحر الضب؛ لصعوبته وضيقه وتعرجه، ومع ذلك تحصل المتابعة لهم، وهذا لا يكون لجميع الأمّة، بل لأناس منها، لما تواتر أنَّ الأمة لا تجتمع على ضلالة.
ومناسبة الحديث للباب: كما في الآيات قبله، فقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ في هذه الأمة مَنْ سيتابع الأمم السابقة في كل شيء، وقد وقع الشرك في الأمم السابقة، وعلى هذا سيوجد هذا في هذه الأمّة.
وثاني الأحاديث: حديث ثوبان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اَللَّهَ زَوَى لِيَ اَلْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ اَلْكَنْزَيْنِ اَلْأَحْمَرَ، وَالْأَبْيَضَ» .
* وقوله: «إِنَّ اَللَّهَ زَوَى لِيَ اَلْأَرْضَ» : يحتمل أمرين:
أ- أنَّ الله قوّى له بصره حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها.
ب- أنّ الأرض جمعت له وطويت حتى رأى البعيدَ، وهذا أقربُ لظاهرِ اللفظ، وهو من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: «هذا الخبر وجد مخبره كما قال صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّ ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة، الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد السند والهند والصُغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال،
ولذلك لم يذكر أنَّه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه»
(1)
.
* وقوله: «وَأُعْطِيتُ اَلْكَنْزَيْنِ اَلْأَحْمَرَ، وَالْأَبْيَضَ» قال القرطبي: «يعني به كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنز قيصرَ وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما، وقد قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
(2)
وعبّر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأن الغالب عندهم الذهبُ، وبالأبيض عن كسرى؛ لأن الغالب عندهم الجوهر والفضة
(3)
.
* وقوله: «وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ» أي: الجدب الذي يكون به الهلاكُ العام، ويسمى الجدبُ والقحطُ سَنة، ويُجمع على سنين، ومنه قوله:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} ، أي: الجدب المتوالي.
* وقوله: «وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُّوا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ» . دعا ربّه أن لا يسلّط على المسلمين عدوًا من غيرهم من الكفار، فيستأصل جماعتهم ومعظمهم وإمامهم ما داموا بهذه الأوصاف، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض حتى يقع منهم ما ذكر -أن يهلك بعضهم بعضًا-، فقد يُسلَّطون عليهم حينها.
* وقوله: «وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ» أي: إذا حكمتُ حكما مُبرمًا نافذًا أو معلقًا؛ فإنَّه لا يُرَدُّ بشيء، ولا يَقدِرُ أحدٌ على ردِّه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ»
(4)
.
(1)
المفهم (22/ 66).
(2)
أخرجه البخاري (3120)، ومسلم (2918) من حديث أبي هريرة.
(3)
المفهم (22/ 66).
(4)
جزء من حديث أخرجه معمر في جامعه (ص: 440)، وعبد بن حميد في المنتخب (391)، والطبراني في الدعاء (686) من حديث المغيرة بن شعبة، والحديث أصله في البخاري (844)، ومسلم (471) بدون هذه اللفظة.
* وقوله: «وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُّوا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اِجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ، أي: إذا وقع ذلك من المسلمين، فإنَّه قد يسلط الله عليهم عدوهم من الكفار، فيستبيح معظمهم لا كل الأمة، ثم تكون العاقبة للأمة إن رجعوا عما هم فيه من الأسباب الموجبة للتسلط، وقد وقعت هذه العلامة مرات، منها أيام التتار.
* وقوله: وزاد: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اَلْأَئِمَّةَ اَلْمُضِلِّينَ» وهذا الأمر الذي خافه النبيّ صلى الله عليه وسلم على الأمّة، وهو وجودُ الأئمة المضلين من علماء متبعين لأهوائهم، أو جهّال ينتصبون للناس على أنَّهم علماء، قد وُجِد، إذ وُجِد من العلماء من يفتي بضلالٍ، ويجيز للناس الذهاب إلى القبور، وغير ذلك، فأوهموا العامة وفتنوهم.
* وقوله: «وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ اَلسَّيْفُ، لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ» لما وقع السيف بقتل عثمان رضي الله عنه لم يُرفَع، وكذلك يكونُ إلى يوم القيامة، ولكن يكثُر تارةً ويقلُّ أخرى، ويكون في جهةٍ دون أخرى.
* قوله: «وَلَا تَقُومُ اَلسَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ» يحتمل أن يلحقوا بهم ببلادهم، أو يبقوا ببلاد المسلمين ويوافقوا الكفار في أفعالهم وعقائدهم.
* قوله: «وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي اَلْأَوْثَانَ» فيه الإخبار أنَّ الشرك سيقع في الأمّة، وقد وقع.
* قوله: «وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ، ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ» والمراد: ممن تقوم لهم شوكة، وتبدو لأتباعهم شبهة، كما وقع لمسيلمة الكذاب في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما مطلقًا فلا يُحصون.
* قوله: «وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى اَلْحَقِّ مَنْصُورَةٌ» أي قائمةً بالعلم والجهاد والذبّ عن الدين، والمرادُ: العاملون بكتاب الله وسنّة نبيّهم صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم منه أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، ولا في قُطرٍ واحد، بل يجوز اجتماعهم في بلد وقُطرٍ وجهةٍ، وافتراقُهم في بلدان وأقطار وجهات من الأرض.
* خلاصة الباب: أنّ النصوص دلت على أنَّه سيقع أقوام من هذا الأمة في الشرك، وهذا يفيدنا أمرين:
الأول: الحذر من الشرك ومن الوقوع فيه.
الثاني: أنَّ وقوع الشرك في هذه الأمة وارد، خلافًا لمن قال بأنَّ الشرك انتهى ببعثة النبيّ عليهم السلام، وأنَّ الأمة معصومة منه.
*
24 - باب ما جاء في السحر
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة، الآية (102)]، وقوله:{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء، الآية (51)].
قال عمر رضي الله عنه: «اَلْجِبْتُ: اَلسِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ: اَلشَّيْطَانُ»
(1)
.
وقال جابر رضي الله عنه: «اَلطَّوَاغِيتُ: كُهَّانٌ، كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ اَلشَّيْطَانُ، فِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ»
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اِجْتَنِبُوا اَلسَّبْعَ اَلْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: اَلشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ اَلنَّفْسِ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ اَلرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اَلْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ اَلزَّحْفِ، وَقَذْفُ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْغَافِلَاتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ»
(3)
.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (4/ 1283)، والطبري في التفسير (7/ 135)، وابن المنذر في التفسير (1870)، وابن أبي حاتم في التفسير (3/ 974)، وعلّقه البخاري في الصحيح (6/ 45) بصيغة الجزم، وانظر: تغليق التعليق لابن حجر (4/ 195).
(2)
أخرجه الطبري في التفسير (4/ 558)، وابن أبي حاتم في التفسير (3/ 976)، وعلقه البخاري في الصحيح (6/ 45) بصيغة الجزم، وانظر: تغليق التعليق للحافظ ابن حجر (4/ 195).
(3)
أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
وعن جندب رضي الله عنه مرفوعًا: «حَدُّ اَلسَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ»
(1)
.
وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: «كَتَبَ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ»
(2)
.
وصحّ عن حفصة رضي الله عنها: «أَنَّهَا أَمَرَتْ بِقَتْلِ جَارِيَةٍ لَهَا سَحَرَتْهَا، فَقُتِلَتْ»
(3)
. وكذلك صحّ عن جندب، قال أحمد:«عن ثلاثة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم»
(4)
.
(الشرح)
هذا الباب من مهمات أبواب العقيدة، والكلام عليه في مسائل:
(1)
أخرجه الترمذي (1460)، والطبراني في الكبير (2/ 161)، والدارقطني في السنن (3204)، والحاكم في المستدرك (8073)، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، متفق على ضعفه، قال الترمذي: والصحيح عن جندب موقوفًا.
(2)
أخرج البخاري (3156) أصله مختصرًا، ليس فيه الأمر بقتل السحرة، أو قتل الساحرات الثلاث، وأخرجه كاملًا: أبو داود (3043)، والترمذي (1587) والنسائي في الكبرى (8768)، وابن الجارود (1105)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3)
أخرجه مالك (3247)، والشافعي في المسند (290)، والطبراني في الكبير (23/ 187)، والبيهقي في الكبرى (8/ 136).
(4)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية النساء. الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس. الخامسة: معرفة السّبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن السّاحر يكفر. السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب. الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر فكيف في ما بعده؟
المسألة الأولى: تعريف السحر.
السحر في اللغة: عبارةٌ عما خفي ولَطُفَ سببه، أي: صار سببُ ذلك الشيء لا يقع بظهور، بل بخفاء، ولذا سمي آخرُ الليل سَحَرًا، قال ابن فارس:«هو إخراج الباطل في صورة الحق، ويقال هو الخديعة، وسَحَرهُ بكلامِه استماله بِرِقَّته وحُسنِ تركيبه»
(1)
، وقال الرازي:«ولفظ السحر في عُرفِ الشرع مختصٌ بكل أمرٍ يخفى سببه ويُتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع»
(2)
وفي الاصطلاح: رقى أو عزائم وعقدٌ ينفث فيها، فتكون سحرًا له حقيقة، وحقيقة السحر: أنَّه استخدامٌ للشياطين في التأثير.
ومناسبة باب السحر للتوحيد: من جهة أنَّ السحر نوعٌ من الشرك، ففي الحديث:«من سحر فقد أشرك»
(3)
، وذلك لأنَّه لا يمكن أن يسحر إلّا بالتقرب إلى الشياطين، فهم لا يخدمونه إلّا إذا تقرّب لهم، وهذا شرك.
المسألة الثانية: ذكر أهل العلم أنَّ السحر نوعان:
1 -
عقدٌ ورقى وطلاسم: وهو ما يكون بواسطة الشياطين، وهذا شرك.
2 -
أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته: وهو ما يسمى عند البعض بالقُمْرَة، ومنه بعض صور الصرف والعطف، فهذا عدوان وليس بكفر وشرك؛ لأنَّه مجرد تخييل.
لكن نبه صاحب التيسير وغيره: «أن هذا ليس بسحرٍ، وإن سمي سحرًا فعلى
(1)
مقاييس اللغة (2/ 138)، وانظر: المصباح المنير (ص: 267).
(2)
تفسير الرازي (3/ 619).
(3)
أخرجه النسائي (4079) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف.
سبيل المجاز، وفي الحقيقة فاعله مشعوذٌ لا يَصدُق عليه اسمُ الساحرِ، وفِعلُه حرامٌ، لمضرّته وخِداعه وشعوذته، ويعزّر فاعله تعزيرًا بليغًا»
(1)
.
المسألة الثالثة: ما حكم الساحر؟
* المقرر عند أكثر العلماء: أن الساحر كافرٌ
(2)
، بأدلة كثيرة، ساق المصنف بعضها، ومنها قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ} [البقرة، الآية (102)]. والمعنى: أن الله قال فيمن اشترى السحر -أي: تعلّمه-، واستبدل السحر عن متابعة الرسول، أنَّه ليس له في الآخرة من نصيبٍ، وكلُ من لا نصيب له في الآخرة فعمله حابطٌ باطلٌ، فيؤخذ كفره من هذه الآية من مواضع:
أ- قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} .
ب- قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وعلى هذا يكفر من سحر، ومن تعلمه ولو لم يسحر، فمجرد تعلمه كفرٌ كما دلت عليه الآية.
ج- قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} قال الحكمي: «وهذا الوعيد لم يُطلَق إلا فيما هو كفرٌ، لا بقاء للإيمان معه، فإنَّه ما من مؤمن إلّا ويدخل الجنة، وكفى بدخول الجنة خلاقًا، ولا يدخل الجنة
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص: 327).
(2)
وذهب الشافعي إلى أنه يفصّل في حكم الساحر، فقال: يقال للساحر صف السحر الذي تسحر به، فإن كان ما يسحر به كلام كفر صريح استتيب منه فإن تاب، وإلا قتل، وإن كان ما يسحر به كلاما لا يكون كفرًا فإنه لا يكفر. الأم (1/ 293)
والحقيقة أن الخلاف ليس له أثر ظاهر، فإن السحر لا يكون إلا بشرك بالله، وحينها فنبقى على مذهب الجماهير بكفر الساحر مطلقًا.
إلا نفس مؤمنة»
(1)
.
المسألة الرابعة: أن مما ذمَّ الله به أهلَ الكتاب إيمانهم بالجبتِ والطاغوتِ، كما في الآية التي ذكرها المصنف، وهي قوله:{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء، الآية (51)].
والجبت: فسّره عمرُ بأنَّه السحر، والسحرُ من الجبت بلا شك.
وأما الطاغوت: فقد نقل فيه تفسيران:
1.
الشيطان، وهو تفسير عمر رضي الله عنه.
2.
الكهّان كان ينْزل عليهم الشيطان، في كل حيٍّ واحد، وهذا تفسير جابر، وهو تفسير بالمثال، ويأتي الكلام على الكهان.
وإذا تقرر أن مما ذُمَّ به الكفارُ إيمانهم بالسحر يتبين لك أن الإيمان به محرم، وأن تعاطيه والبحث عنه مذموم.
المسألة الخامسة: قد عدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم السحرَ من الموبقات، في الدنيا والآخرة.
وذكر في الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اجْتَنِبُوا اَلسَّبْعَ اَلْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: اَلشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ .. » ، فعدّ السحر من الموبقات في الدنيا والآخرة.
فإن قيل: كيف عطف السحر على الشرك، وقد تقدم أن السحر داخل في الشرك؟
* فالجواب: أنَّ السحر لا يمكن الوصول إليه إلَّا بالشرك، والعطفُ في الحديث، إمّا أن يقال: لأن فيه شيئًا من المغايرة، ففي السحر لم يَقصِد الشركَ، بل
(1)
معارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي (1/ 517).
دخل الشركُ تبعًا.
أو يقال: هو من عطفِ الخاصِّ على العام، فعطفُ السحر على الشرك للتنصيص عليه.
المسألة السادسة: هل يُقتَلُ الساحر؟
* ذكر المصنف رحمه الله عدة نصوص تفيد قتله:
1) حديث جندب مرفوعًا: «حَدُّ اَلسَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» .
وجندب: هو غير جندب بن عبد الله البجلي، وإنما يسمى جندب الخير، وقد روى أبو نعيم بسنده في معرفة الصحابة قال: جاء جندب وقومٌ يلعبون ويأخذون بأعين الناس يسحرون، قال: فضرب رجلًا منهم ضربةً بالسيف فقتله، فَرُفِع إلى السلطان، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حَدُّ اَلسَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ»
(1)
.
وقيل: إنَّه قاله حين كان في مجلس الوليد بن يزيد الخليفة، فجاء ساحر يوهم الناسَ أنَّه يَقطع رأسه ويُعيده، فقتله جندب، وقال:«إن كان صادقًا فَليُعد رأسه»
(2)
، وكلا الأثرين في سنده ضعفٌ كما تقدم.
وقد أفاد هذا الخبرُ أنَّ حدَّ الساحرِ أن يُضرَبَ بالسيف، وهو كنايةٌ عن القتل.
2) عن بجالة بن عبدة قال: «كَتَبَ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ» .
(1)
معرفة الصحابة (1589).
(2)
انظر: معرفة الصحابة، لأبي نعيم (1588).
3) عن حفصة رضي الله عنها: «أَنَّهَا أَمَرَتْ بِقَتْلِ جَارِيَةٍ لَهَا سَحَرَتْهَا، فَقُتِلَتْ» ونُقِل عن أحمد رحمه الله قوله: «عن ثلاثة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم» .
وعلى هذا يقال: إذا ثبت أنَّه ساحرٌ يستخدم في سحره ما يَصدُق عليه أنَّه سحرُ تأثيرٍ لا تخييلٍ، فهو ساحرٌ يجب قتله، وهذا قول الجمهور، ونقل هذا عن عمر وعثمان وابن عمر.
القول الثاني: أنَّ الساحر لا يُقتَل بمجرد السحر، إلّا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر، وهذا مذهب الشافعي، نقله عنه غير واحد، منهم الترمذي في سننه
(1)
.
والصواب: ما عليه الجمهور، والنصوص صريحةٌ في الأمر بقتله مطلقًا، ولو لم يَقتُل بسحره؛ لما فيه من الضرر على الناس.
ويقول أهل العلم: إنَّ الساحر إذا ثبت عليه السحر يُقتَلُ ولا يُستتاب؛ لأنَّه ربما كذب وأظهر التوبة وبقى على سحره.
* خلاصة الباب: أنَّ السحر حرام، يوقع الساحر في الكفر والقتل، ويوبق طالب السحر في العقوبة العظيمة.
(1)
انظر: الأم، للشافعي (1/ 293)، سنن الترمذي (4/ 60).
25 - باب بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنَّه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ الْعِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ مِنَ الْجِبْتِ»
(1)
.
قال عوف: «الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: الْخَطُّ يُخَطُّ بِالْأَرْضِ» .
والجبت: قال الحسن: «رَنَّةُ الشَّيْطَانِ» إسناده جيد، ولأبي داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" المسند منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اِقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ؛ فَقَدِ اِقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ مَا زَادَ» رواه أبو داود، وإسناده صحيح
(2)
.
وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا، فَقَدْ
(1)
أخرجه أبو داود (3907)، وأحمد (5/ 60)، والنسائي في الكبرى (11108)، وابن حبان (6131)، من طريق حيان، عن قطن بن قبيصة، عن أبيه، وحيان هذا فيه جهالة، وصحح إسناده ابن حبان، وحسنه النووي وابن تيمية، وجوّد إسناده ابن مفلح.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 227، 311)، وابن أبي شيبة في المصنف (8/ 602)، وأبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، والبيهقي في شعب الإيمان (5197)، وصحح إسناده النووي، والعراقي، ومحمد بن عبد الوهاب، والألباني. انظر: الصحيحة (793)
سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»
(1)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَلَا هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ، الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ»
(2)
، ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»
(3)
(4)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة الباب: لما ذكر المؤلف حكم السحر المعروف وحكم فاعله، ذكر أنَّ السحر قد يأتي في النصوص ولا يراد به السحر المعروف، بل يراد به أمورًا أخرى هي من أنواع السحر، أو أمورًا ليست من السحر، لكن فيها شبه به.
المسألة الثانية: من الأمور التي ذكرها في الباب العيافة والطرق والطيرة.
وقد أورد فيها حديث قبيصة العبدي أنَّه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْعِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ مِنَ الْجِبْتِ» .
(1)
أخرجه النسائي (4079)، والطبراني في الأوسط (1469) من طريق الحسن، عن أبي هريرة، والحسن لم يسمع من أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم (2606).
(3)
أخرجه البخاري (5146)، وأما مسلم فأخرجه (869) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه.
(4)
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. الثانية: تفسير العيافة والطرق. الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: أن العقد مع النفث من ذلك. الخامسة: أن النميمة من ذلك. السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
ونقل عن عوف بن أبي جميلة قوله: العيافةُ: زجرُ الطير، والطَرْقُ: الخطُّ يُخَطُّ بالأرض.
* أما العيافة: فهي زجرُ الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإذا أراد أن يُقدِمَ على شيء زجَر الطيرَ، فإذا ذهبت شمالًا تشاءم مما أقدم عليه، وإن ذهب يمينًا تفاءل.
* وأما الطَرْقُ: فهو نوع من الكهانة، والكهانة من السحر، وهو عبارة عن خطوط تُخطّ بالأرض بطريقة يزعم مَنْ خطّها أنَّه يعرف بذلك مكان المفقود أو غير ذلك، فتجد أنَّه يخط خطوطًا كثيرة، ثم يمسح منها بسرعةٍ خطين خطين ونحو ذلك، ثم يزعمُ أنَّه يتعرف على بعض الأمور، بما يبقى من الخطوط.
ومن صورها المعاصرة: ما يُعرف بالأبراج، التي يزعم أصحابها أنَّهم يعرفون عن طريقها بعض ما يقع على صاحبها من أمور الغيب، وكل هذا من الكهانة، وسيأتي الحديث عن الكهانة بأوسع من هذا.
* وأما ما ورد في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ»
(1)
فيجاب عنه بجوابين:
1 -
أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّقه بأمرٍ لا يتحقق الوصول إليه؛ لأنَّه قال: «فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ» وما يدرينا أنَّه وافق.
2 -
أنَّه إذا كان الخطُّ بالوحي من الله، فلا بأس به كما هي حال النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الله يجعل له علامةً ينزل الوحي بها بخطوطٍ يُعلِّمُه إياها، أما هذه الخطوط السحريةُ فهي من الشيطان.
(1)
أخرجه مسلم (537).
* وأما الطيرة: فهي مما نهي عنه، وسيأتي لها بابٌ مستقل.
المسألة الثالثة: مما يُلحَقُ بالسحرِ تعلُّم النجومِ؛ ليستدلَّ بها على الحوادث الأرضية من أمور الغيب.
وأورد المصنف في هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اِقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اِقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ مَا زَادَ» .
فبيّن أنَّ مِنْ أنواع السحر تعلّم النجوم؛ لأنَّ كلًا من المنجِّم والساحِر يَدّعي علم الغيب الذي اختص الله بعلمه.
المسألة الرابعة: أورد المصنف حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا، فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» .
وفيه بيان أنَّ من نفث في العُقَدِ فإنَّه ينطبق عليه أنَّه ساحر، وأنَّ من تعاطى السحر فقد وقع في الشرك، والساحرُ متعلقٌ بغير الله وهم الشياطين، ومن تعلق بغير الله وكِل إليه، فالساحر يوكَلُ إلى شياطينه، ومن ذهب إلى السحرة والكهان فإنَّه يوكل إليهم.
المسألة الخامسة: أورد المصنف حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَلَا هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ، الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ» .
ووجه المطابقة بين النمام والساحر: من جهة أنَّ تأثير النمام في تفريق المجتمعين مثل أثر السحر، فلكل منهما أثر قوي وخفي في التفريق، بل نقل عن يحيى بن كثير أنه قال:«يُفْسِدُ النَّمَّامُ فِي سَاعَةٍ مَا لَا يُفْسِدُ السَّاحِرُ فِي شَهْرٍ»
(1)
.
(1)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 70).
المسألة السادسة: أورد المصنف في الباب حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» .
والبيان: هو التبيين عما في النفس بالألفاظ الفصيحة التي تأخذ السامع والقلوب فتسحرها.
ووجه الشبه بين البيان وبين السحر بيّنه ابن قتيبة بقوله: «يريد أن منه -أي: البيان- ما يقرّب البعيد ويباعد القريب، ويزيّن القبيح، ويعظّم الصغير، فكأنَّه سحرٌ، وما قام مقام السحر أو أشبهه، أو ضارعه»
(1)
.
وقال ابن القيم: سحرُ البيانِ هو من أنواع التحيّل:
أ- إما لكونه بلغ في اللطف والحسن إلى حدّ استمالة القلوب، فأشبه السحر من هذا الوجه، وعلى هذا: لا يكون مذمومًا بإطلاق؛ لأنَّ استمالة القلوب لا تذمّ إلا إن كانت بالباطل.
ب- أو لكون القادر على البيان يكون قادرًا على تحسين القبيح وتقبيح الحسن، فهو -أيضًا- يشبه السحر من هذا الوجه
(2)
.
وهو على هذا المعنى يكون مذمومًا، لما فيه من جعلِ الحقِّ في قالب الباطل، والباطلِ في قالب الحق، فيستميل به قلوبَ الجهال حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق.
• واعلم أنَّ الحديث مختلفٌ فيه:
فقيل: جاء للذم.
(1)
تأويل مختلف الحديث (ص: 360).
(2)
إعلام الموقعين (297/ 5).
وقيل: جاء للمدح؛ لأنَّ الله مدح البيان، وعزى ابن عبد البر هذا إلى جمهور أهل الأدب والعلم بلسان العرب
(1)
، ومنه:«أن عمر بن عبد العزيز سأله رجل عن حاجة، فأحسن المسألة، فأعجبه قوله فقال: هذا والله السحر الحلال»
(2)
.
قلت: والذي يظهر أن دخول البيان في السحر هو من جهة التعريف اللغوي، فالبيان له أثرٌ دقيقٌ خفيٌ، وبعد هذا فقد يكون هذا الأثر يراد به أمرًا محرمًا، كتزيين باطل ونحوه، فيكون مذمومًا، وقد لا يكون كذلك، فلا يكون مذمومًا.
• وعلى هذا: ففي الحديث الذمّ لبعض البيان الذي فيه تصويب الباطل وتحسينه، حتى يتوهم السامع أنَّه حق، أو يكون فيه بلاغة زائدة عن الحدّ، أو قوة بالخصومة فيذهب بالحق، أما غيره من البيان فلا يذم.
* خلاصة الباب: أن ثمّة تصرفات محرمه تُلحَقُ بالسحر في حُرمتها وفي التأثير على النفوس، والتفريق، وإن كان السحرُ أعظم منها جرمًا، وأشنع جريرةً، وأبقى أثرًا.
(1)
التمهيد، لابن عبد البر (5/ 171).
(2)
انظر: التمهيد (5/ 174).
26 - باب ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلمٌ في صحيحه عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَصَدَّقَهُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(2)
.
وَلِلْأَرْبَعَةِ وَالْحَاكِمِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عن أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا، أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»
(3)
.
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مثله موقوفًا
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (2230) بدون لفظة (فصدقة) فهي لفظة شاذة، والحديث صحيح بدونها.
(2)
أخرجه أبو داود (3904)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639)، وأحمد (2/ 429)، والنسائي في الكبرى (8967 - 8968)، وابن الجارود في المنتقى (107)، والحاكم في المستدرك (15)، والحديث في إسناده ضعف، وقد صححه الحاكم، والألباني في صحيح الجامع (5942).
(3)
انظر سابقه.
(4)
أخرجه ابن وهب في الجامع (687)، والطيالسي (382)، والبغوي في الجعديات (425)، والبزار (1873 - 1931)، وأبو يعلى (5408) والطبراني في الكبير (10/ 76)، وفي الأوسط (1453).
قال البغوي: وقد روى هذا الحديث، من وجوه عن عبد الله بن مسعود، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 36): إسناده جيد، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/ 217).
وعن عمران بن حصين صلى الله عليه وسلم مرفوعًا: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ
(1)
، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، دُونَ قَوْلِهِ:«وَمَنْ أَتَى» إِلَى آخِرِهِ.
قال البغوي: «العرّاف: الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدماتٍ يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك»
(2)
.
وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس بن تيمية: «العرّاف: اسمٌ عام للكاهن والمنجّم والرّمّال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق»
(3)
.
وقال ابن عباس في قومٍ يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم: «مَا أَرَى
(1)
أخرجه البزار (3578)، والطبراني في الكبير (18/ 162)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 32): إسناده جيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5435).
(2)
شرح السنة (12/ 182).
(3)
الفتاوى الكبرى (1/ 63).
مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ خَلَاقٍ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالكهّان والكهانة، ومناسبة الباب للتوحيد.
الكُهّان: جمع كاهن، والكاهن: هو الذي يدّعي علمَ المغيّبات، ويخبر بها الناس ويأخذها من مسترقي السمع من الجن
(3)
.
ومناسبة الباب للتوحيد: من جهة أنَّ الكاهن لا يعلم الغيب إلّا باستخدام الجنّ، وهم لن يخدموه إلّا إذا تقرب لهم، وأشرك بالله.
* وقوله في التبويب: «ونحوهم» : تشمل كل من ادّعى علم شيء من الغيب، وكلَّ من مارس نوعًا من الكهانة: مثل: قراءة الفنجان أو الكف.
ومثل: ما يسمى بأبراج الحظ.
وصورتها: أن يُقال: إن كنتَ ولدتَ في بُرج كذا فسيحصل لك في هذا
(1)
أخرجه معمر بن راشد في جامعه (ص: 26)، وابن أبي شيبة في المصنف (26161)، والخرائطي في مساويء الأخلاق (739)، والطبراني في الكبير (11/ 41)، والبيهقي في الكبرى (8/ 239)، وفي الشعب (4831) وإسناده لا بأس به.
(2)
وفيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. الثانية: التصريح بأنه كفر. الثالثة: ذكر من تُكهن له.
الرابعة: ذكر من تُطير له. الخامسة: ذكر من سحر له. السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد. السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
(3)
انظر: معالم السنن، للخطابي (4/ 211)، المفردات، للراغب الأصفهاني (728).
العام كذا، أو أنَّ من وُلِد في هذا البرج، فإنَّ هذا الشهر عليهم شهر رزقٍ، وغير ذلك.
وإنك إن التمست ضابطًا في هذا، فيُقال: كُلُّ من ادّعى علمًا من الغيب واستخدم في ذلك وسيلة ظاهرة؛ ليوهم بها الناس، فهي من الكهانة، واستمدادُهم هذا من الشياطين، وهي لن تخدمهم إلّا إذا تقربوا لها، وأخطرُ ما في ذلك إذا توّلى مثل هذه الأمور أناسٌ يُظهِرونَ للعامَّةِ أنَّهم أولياء لله، وأنَّهم بقربهم لله نالوا ما نالوا، وهذا يزيد من افتتان الناس بهم، وتلبيسهم الباطل، ولا شك أنَّ هؤلاء أولياء، لكن للشيطان، لا للرحمن، عصمنا الله وإياك من الضلال.
المسألة الثانية: أورد المصنف رحمه الله نصوصًا تنهى عن الذهاب إلى الكهان، وتبيّن عقوبة من أتى إليهم:
(1)
عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَصَدَّقَهُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» .
والعرَّاف: بيّنه المؤلف بأنَّه يطلق على من يخبر عن الغائب عن الأعين مما حصل في الماضي، كمن يخبر عن مكان الشيء المسروق، ومن هو السارق، والدابّة الضالّة، ونحو ذلك، ويعرفه بواسطة الجنّ.
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا، أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .
(4)
عن ابن مسعود رضي الله عنه مثله موقوفًا.
(5)
عن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعًا: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .
وقد خلص أهل العلم من مجموع الأحاديث إلى أنَّ إتيان العرَّافين والكهنة والسحرة له حالات:
أ- إتيانهم لسؤالهم وكشف باطلهم والإنكار عليهم: فهذا جائزٌ، بل مستحب لمن كان أهلًا لذلك.
ب- مجرد إتيانهم وسؤالهم بدون هذا القصد: فالوعيد فيه أنَّه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة، ولو أنَّه لم يصدقهم أو شكّ في صدقهم.
ج- أن يسألهم ويصدقهم: فَيُحَمل عليه ما ورد في الحديث أنَّه كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ فيه إعانةً للكاهن على الشرك بالله، وفيه تصديقٌ لمن ادَّعى علم الغيب.
واختلف في هذا الكفر، هو أكبر أم أصغر؟
* القول الأول: أنَّه كفر أكبر، لأنه هو المتبادر من إطلاق الكفر في الحديث.
* القول الثاني: أنه كفر أصغر، وهذا رواية عن أحمد، صوّبها ابن مفلح
(1)
، وحجتهم في هذا أمران:
1 -
أنَّ حديث بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لفظه عند أحمد في المسند: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» ، فذكر التصديق وبيّن
(1)
الفروع (6/ 171).
العقوبة له، أنَّه «
…
لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا».
2 -
أنَّ هذا الذي صدَّق الكاهن والعرَّاف إنما صدَّق من أخذ العلم ممن استرق السمع، فهو ليس كمن صدّق من ادّعى علمًا من الغيب بلا أي مستند.
لكن لاشك أنَّ جرمه وذنبه أعظم ممن لم يصدّق، ويكفيك أنَّ جمعًا من العلماء حكموا بأنَّه كفرٌ أكبر.
* القول الثالث: أنَّه يتوقف في تحديده، فيقال بأنَّه يكفر، ولا يُقطع بأنَّه يَخرُج من الملّة، وهذا رواية عن أحمد، والعلَّة في هذا أنَّه أوقع لهيبته في القلوب.
المسألة الثالثة: ذكر المصنف رحمه الله قول ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم: «مَا أَرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ خَلَاقٍ» .
وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «يَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ وَفِي حُرُوفِ أَبِي جَادٍ، قَالَ: أَرَى أُولَئِكَ قَوْمًا لَا خَلَاقَ لَهُمْ» .
ورواه الطبراني بلفظ: «رُبَّ مُعَلِّمِ حُرُوفِ أَبِي جَادٍ دَارِسٍ فِي النُّجُومِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلَاقٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
والمراد بهذا الأثر: ذمُّ من يصنع هذا، وهو تعلّم الحروف الأبجدية، والاستدلال بكل حرف منها على أمور الغيب، ولهم في هذا طرق لا يدل عليها دليل، بل كل ذلك من ادعاء علم الغيب.
• وعلى هذا: فمن تعلم الحروف على وجه معرفة شيء من علم الغيب بها -وهو ما يسمى بعلم الحرف- فهذا محرّم لا يجوز، وأما تعلّمها للتهجي
(1)
قال الهيثمي في المجمع (5/ 117): فيه خالد بن يزيد العمري، وهو كذاب، وانظر: الضعيفة (417).
وحساب الجمل فلا بأس به.
وبهذا تعلم أنَّ كلَّ طريق يعتقد أنَّ فيها معرفة شيء من أمور الغيب لا تجوز.
(1)
.
* خلاصة الباب: أنَّ الكهانة محرمة بجميع صورها، وأنَّه يلحق بها كلّ وسيلة يدعي فيها صاحبها معرفة شيء من علم الغيب.
(1)
أضواء البيان (1/ 482).
27 - باب ما جاء في النُّشرة
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: «هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»
(1)
، وقال:«سئل أحمد عنها، فقال: ابن مسعود يكره هذا كله» .
وفي البخاري عن قتادة: قلت لابن المسيب: «رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ، أَوْ: يُؤَخَّذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ» »
(2)
ا. هـ.
وروي عن الحسن أنَّه قال: «لَا يَحِلُّ السِّحَرَ إِلَّا سَاحِرٌ» .
قال ابن القيم: النُشرة: حلّ السحر عن المسحور، وهي نوعان:
إحداهما: حلٌ بسحرٍ مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يُحمل قول الحسن، فيتقرب الناشرُ والمنتشر إلى الشيطان بما يحبّ، ويبطل عمله عن المسحور.
(1)
أخرجه أبو داود (3868)، وعبد الرزاق في المصنف (19762)، وأحمد في المسند (3/ 294)، وابن حبان في الثقات (8/ 315)، والبيهقي في الكبرى (9/ 351)، وحسنه ابن حجر في الفتح (10/ 233).
(2)
علقه البخاري في الصحيح (7/ 137)، ووصله أبو بكر الأثرم في كتاب السنن، والطبري في تهذيب الآثار. انظر: تغليق التعليق (5/ 49)، وفتح الباري (10/ 234).
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: تعريف النشرة والمراد بها:
النشرة: في اللغة: بضم النون: مِنْ النَشر، قال في تاج العروس: هي رُقْيَةٌ يُعالَج بها المجنونُ والمريضُ، ومن كان يُظَنُّ أنّ به مَسًّا من الجنّ
…
سُمِّيت نُشرةً لأنَّه يُنَشر بها عنه ما خامَرَه من الدَّاء، أي: يُكشَف ويُزال
(3)
.
وفي الاصطلاح: حلُّ السحرِ عن المسحور.
المسألة الثانية: النشرة أو حلُّ السحرِ عن المسحور قسمان:
1) جائزة: وهي حَلُّه بالرقية والدعاء، وقد رقى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه، ودعا حتى كشف عنه، وقد ورد في السنّة عدة أمور تعالج بها السحر، ومنها الدعاء والرقية والتصبّح بسبع تمرات، وكذا الحجامة لها أثر ظاهر، والإكثار من الطاعات كالقرآن والأذكار ونحوها نص عليها ابن القيم، وذكر ابن بطّال عن كتب وهب ابن منبه: «أن يأخذ سبع ورقاتٍ من سدرٍ أخضر، فيدقُّه بين
(1)
إعلام الموقعين (4/ 301).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النشرة. الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال.
(3)
تاج العروس (22/ 217).
حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ عليه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ويغتسل به، فإنَّه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى»
(1)
.
2) مختلف فيها: وهي حلّه بالسحر، وفيها قولان:
القول الأول: الجمهور: أنَّه لا يجوز، واستدلوا بأمور:
1.
النصوص الدالة على تحريم السحر، والذهاب إلى السحرة، وهذا الأمر سيترتب عليه ذهاب إلى السحرة.
2.
حديث جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة، فقال:«هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» ، وهذا الجواب هو على النوع المشهور من النشرة، وهو فكّ السحر بالسحر، ولا يحمل على الجائز؛ لأنَّ الأدلة دلت على جوازه والأمر به.
3.
ورد في الحديث: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا» .
4.
وهو المروي عن ابن مسعود، والحسن وغيرهم.
5.
ما يترتب على الذهاب للسحرة من مفاسد، كتصديق الساحر، والاستجابة له في بعض ما يطلب، وعدم الإنكار عليه فيما يفعل، وقد قال شيخ الإسلام:«من حضر إلى مكان فيه منكر، لم يستطع تغييره، لم يجز له الحضور» .
6.
أنَّ هذا فيه تنشيط للسحرة وترويج لهم.
القول الثاني: أنَّه يجوز للضرورة، روي ذلك عن بعض أهل العلم، وينسب إلى ابن المسيب، والإمام أحمد.
(1)
شرح البخاري، لابن بطال (9/ 446).
أما ابن المسيب، فهو ما نقل عنه المصنف هنا عن قتادة: قلت لابن المسيب: «رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنْشَرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ، فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ» .
وأما الإمام أحمد، فإنه سأله هنا عمن تأتيه مسحورة فيطلقه عنها، فقال:«لا بأس»
(1)
.
ولكن هذين ليسا بصريحين عن ابن المسيب ولا أحمد، وعلى هذا فيحمل كلام ابن المسيب على نوع من النشرة لا يُعلم أنَّه سحر، وهي الرقية أو النشرة الخالية من الشرك، وهذا هو الذي لا مفسدة فيه.
ولو صحّ عنه فهو مرجوح؛ لأنَّه خالفه غيره، بل هو خلاف النصوص.
وأما الإمام أحمد فلم ينصَّ على جوازه، بل إنَّه ورد في مسائل الأثرم عنه ما يدل على المنع منه، قال الأثرم:«سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل يزعم أنَّه يحل السحر، قال: قد رخص فيه بعض الناس» قيل: أنَّه يجعل في الطنجير ماءً ويغيب فيه، فنفض يده، وقال:«لا أدري ما هذا» ، قيل له: أترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال: «لا أدري ما هذا»
(2)
.
وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المحرم، وبهذا تعلم أنَّ ما ذهب إليه بعض فقهاء الحنابلة من الجواز عند الضرورة ضعيف، والله أعلم.
* خلاصة الباب: أنَّ حلّ السحر عن المسحور منه ما هو محرم وهو ما يكون بالسحر، ومنه ما هو جائز، وهو ما يكون بالرقى ونحوها.
(1)
الفروع وتصحيح الفروع (10/ 209)، الإنصاف، للمرداوي (27/ 193).
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، لابن قدامة (4/ 66)، الشرح الكبير على المقنع (27/ 190).
28 - باب ما جاء في التطير
وقول الله تعالى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف، الآية (131)].
وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس، الآية (19)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ»
(1)
، زاد مسلم:«وَلَا نَوْءَ وَلَا غُولَ» .
ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ، قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ»
(2)
.
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر
(3)
قال: «ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ
(1)
أخرجه البخاري (5757)، ومسلم (2220).
(2)
أخرجه البخاري (5776)، ومسلم (2224).
(3)
صوابه: عن عروة بن عامر، وهو تابعي ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 195) في التابعين.
وقال ابن قانع: عروة بن عامر عندي ليس له لقي، وقال قوم: له! وليس بصحيح.
وقال أبو أحمد العسكري: عروة بن عامر الجهني؛ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ذكرناه ليعرف. ا. هـ.
وقال العراقي: من حديث عروة بن عامر مرسلًا، ورجاله ثقات.
وقال المزي في تهذيب الكمال (20/ 26): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا في الطيرة. ا. هـ.
وقال الذهبي في تجريد أسماء الصحابة (1/ 379/ 4071)؛ تابعي أرسل. ا. هـ.
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»
(1)
.
عن ابن مسعود مرفوعًا: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (26392 - 29541)، وفي الأدب (162)، وأبو داود (3919)، والخلال في السنة (1405)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 262)، جميعهم من طريق حبيب بن أبي ثابتٍ، عن عروة بنِ عامر، قال أحمد بن حنبل هو: عروة بن عامر القرشي، مرسلًا، وضعفه البيهقي والمنذري والألباني.
هذا، وقد روى- أيضًا- عن عقبة بن عامر الجهني، كما أشار المصنف. أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (293)، واستظهر الألباني أنه تصحيف. انظر: الضعيفة (1619).
(2)
أخرجه أبو داود (3910)، والترمذي (1614)، وابن ماجه (3538)، وأحمد (1/ 389 - 440)، والبخاري في الأدب المفرد (909)، وأبو يعلى (5219 - 5092)، وابن حبان (6122).
قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال أيضًا: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: وما منا، ولكن الله يذهبه بالتوكل، قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود: وما منا. وانظر: علل الترمذي الكبير (2/ 690).
وقال الحافظ في الفتح: (10/ 213): وقوله: «وما منا إلا
…
» من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري، عنه.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ، فَقَدْ أَشْرَكَ، قَالُوا: فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَال: "أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»
(1)
.
وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنه «إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ»
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه ابن وهب في الجامع (658)، وأحمد (2/ 220)، والطبراني في الكبير (13/ 22) ومن طريق ابن وهبٍ أخرجه: أخرجه ابنُ السني في عمل اليوم والليلة (293) جميعهم من طريق ابن لهيعة، أخبرنا ابن هبيرة، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو به، قلت: ابن لهيعة، وإن كان ضعيفًا فقد رواه عنه عبد الله بن وهب- كما تقدم-، وهو صحيح السماع منه، نص على ذلك جماعة من الأئمة، وللحديث شاهد من حديث رويفع بن ثابت أخرجه ابن وهب في الجامع (657)، والبزار (2316)، وصححه الألباني في الصحيحة (1065).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 213) من طريق ابن علاثة، عن مسلمة الجهني، قال: سمعته يحدث، عن الفضل بن عباس، به، ومحمد بن عبد الله بن علاثة، قال البخاري: في حديثه نظر، ومسلمة الجهني ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/ 269) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
(3)
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ} [الأعراف، الآية (131)]. مع قوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس، الآية (19)].
الثانية: نفي العدوى. الثالثة: نفي الطيرة. الرابعة: نفي الهامة. الخامسة: نفي الصفر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب. السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده. العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الطيرة والتطير.
قال الراغب: «أصله التّفاؤل بالطَّيْرِ، ثمّ يُستَعمَلُ في كُلِّ ما يتفاءل به ويتشاءم»
(1)
.
وفي سبب تسميتها قال الخطابي: إنما أخذت من اسم الطير، وذلك أن العرب كانت تتشاءم ببروح الطير إذا كانوا في سفر أو مسير
(2)
.
المسألة الثانية: مناسبة ذكر التطيّر في كتاب التوحيد: أنَّ التطير فيه تعليق القلب بما يكون من أمور، وأنَّ ذلك علامة على خير أو شر، وهذا فيه منافاةٌ لكمال التوحيد الواجب، وفيه منافاةٌ لكمال التوكل على الله.
المسألة الثالثة: حكم التطيّر: الطيرة محرمة، وهي من الشرك، ولها حالتان:
1.
تكون شركًا أكبر: إذا اعتقد أنَّ الطير أو غيره هو الذي يجلب النفع ويدفع الضر.
2.
تكون شركًا أصغر: إذا اعتقد أنَّ هذا سبب، وأنَّ الله ربط النفع والضر بهذه الأسباب، فينهى عنه لما فيه مِنْ جعل الأسبابِ علامةَ خيرٍ أو شرٍّ، وهي لم ترد في الشرع.
(1)
المفردات (ص: 528).
(2)
معالم السنن (4/ 235).
* والأدلة على تحريم الطيرة مذكورة في الباب، ومنها:
(1)
قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف، الآية (131)].
وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس، الآية (19)]. بيّن الله فيها أنَّ التطير من أفعال وصفات أعداء الرسل، ومنهم قوم فرعون كما في الآية، أما عباد الله المؤمنين وأتباع الرسل فهم يعلقون قلوبهم بالله ويرضون بكل ما يصيبهم منه من تقدير.
(2)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ» .
والمراد هنا: النفيُ، وهو أبلغ، فيكون المراد أنَّه لا طيرة مؤثرة، وما يقع من الطيرة فهو شيء يتوهمه الإنسان، وليس لها في حقيقة الأمر تأثير، فالموفق من لم ينظر إلى ما يقع من أمور وأشياء، بل يتوكل على ربه ويمضي في دربه.
فإن قيل: ففي هذا الحديث قوله: «لَا عَدْوَى» ، وإذا قيل: إنَّ المراد هنا النفي، فالمعنى: لا يعدي شيء شيئًا، وقد ورد في الحديث:«فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ»
(1)
، وورد أيضًا «لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»
(2)
. فكيف الجمع؟
* اختلف في ذلك على أقوال، اختار ابن رجب وابن القيم وغيرهم أنَّ النفي هنا هو عن العدوى على الوجه الذي كان يعتقده أهل الجاهلية، من أنَّ الأمراض تعدي وتؤثر بطبعها ونفسها، من غير إضافة الفعل إلى الله، فأبطل الله هذا
(1)
أخرجه أحمد (2/ 443)، وابن أبي شيبة في المصنف (8/ 320)، وفي الأدب (179)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 139)، وأبو الشيخ في أمثال الحديث (163)، والبيهقي في الكبرى (7/ 218)، وانظر: الصحيحة (783).
(2)
أخرجه البخاري (5770)، ومسلم (2221).
الاعتقاد، ولا يمنع بعد ذلك أن يجعل الله بمشيئته مخالطةَ الصحيحِ مَنْ به عيب أو مرضٌ سببًا للعدوى بتدبير الله وتقديره.
* وأما قوله: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ» ونهيه أن يورَدَ مُمرِضٌ على مُصِحّ، ونهيه عن إتيان بلد الطاعون
(1)
؛ فيقال: إنَّ هذا كلّه من باب اجتناب الأسباب التي جعلها الله أسبابًا للهلاك والإصابة بالأذى، والعبدُ مأمورٌ باتقاء أسباب الشرِّ، كما أنَّه يُنهى أن يُلقِيَ نفسه في الماء أو في النار.
المسألة الرابعة: اعلم أنَّ المنهي عنه من التطير: ما أمضى وما ردّ، لا ما يقع في القلب، بل إذا كان ما تشاءم به ردّه عما يريد، أو ما تيامن به أمضاه إلى ما يريد، فهو التطير المحرم، وقد روى عكرمة: «أنَّهم كانوا عند ابن عمرو وعنده ابن عباس، فمر غراب يصيح
(2)
، فقال رجلٌ من القوم: خير، خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر»
(3)
، أي: ليس لهذه الأمور ارتباط بأي حادث، لا خيرَ ولا شرَّ.
• وعلى هذا: فضابط الطيرة التي تكون شركًا: أن تَرُدَّ المتطيّر عن حاجته، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ» ، فما دامت لم تردّ الإنسان، فلا اعتبار بما وقع في قلبه.
(1)
أخرجه البخاري (5728) من طريق إِبْرَاهِيمَ بْن سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، يُحَدِّثُ سَعْدًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا» .
(2)
وخص الغراب غالبًا بالتشاؤم منه؛ أخذًا من الاغتراب، حيث قالوا: غراب البين؛ لأنه بان عن نوح لما وجّهه لينظر إلى الماء، فذهب ولم يرجع؛ ولذا تشاءموا منه واستخرجوا من اسمه الغربة. انظر: كشف الخفا (1/ 447).
(3)
أخرجه الدينوري في المجالسة (937)، وانظر: التمهيد، لابن عبد البر (22/ 630).
المسألة الخامسة: التطير له صور كثيرة:
* فمنها: التطيّر بالطيور، وهو أصلُ التطيِّر عند أهل الجاهلية، فيزجرون الطير، فإن ذهب ذات اليمين أقدم، وإن كان للشمال تشاءم.
* ومنها: التطيّر بأشخاص معينين، أو بحوادث معينة كمن يركب سيارته فيتعرض لحادث بها فيتشاءم من سفره، أو يفتح دكانه، فيأتيه أول من يشترى أعور فيتشاءم، ونحو ذلك.
* ومنها: التطير بأزمنة معينة، كشهر صفر، أو أيامٍ كالثلاثاء، أو بأرقام محددة، كرقم (13)، وغيره، أو بألوان معينة كالأسود، أو غير ذلك.
المسألة الخامسة: ينبغي إذا وقع في القلب شيء من الالتفات لمثل هذه الأمور أن يدعو بما ورد، وذكر هنا دعائين:
* «اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» .
المسألة السادسة: ورد في الحديث نفي أمورٍ غير الطيرة، وهي:
1 -
الهامة: بتخفيف الميم، وقد تشدد: البومة، إذا وقعت إلى بيت أحدهم يقول: نعت إليَّ نفسي، أو أحدًا من أهل داري، أو يَخْرَبُ المنزل، وقيل: إنَّ العرب كانت تعتقد أنَّ عظام الميت -وقيل: روحه- تنقلب هامةً تطير، ولا تزال تنادي على قبره، للأخذ بثأره.
2 -
صَفَر: واختلف في المراد به:
* فقيل: المراد تأخيرهم المحرم إلى صفر، وكانوا يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنَّه
شهر مشؤوم، قال ابن رجب:«ولعل هذا القول أشبه الأقوال»
(1)
ا. هـ.
* وقيل: صفرُ حيةٌ في البطن، وهي دودٌ تصيب الماشية والناس، وربما قتلت صاحبها، وكانت أعدى من الجرب عند العرب، وهذا المشهور عند أكثر أهل العلم، منهم: سفيان وأحمد والبخاري، وجابر بن عبد الله وهو راوي الحديث،
ويجوز أن يكونا مرادين معًا، وأن الصفرين جميعًا باطلان.
3 -
النوء: وقد كانوا يعتقدون أنَّ المطر يكون بالأنواء، وأنَّ بعضها أنواءُ نحسٍ لا يأتي فيها خير، وبعضها محمودة، ولهذا كانوا يسمون بعضها: سعدًا أو سعد السعود، وبعضها يتشاءمون بها أشد التشاؤم كسعد الذابح، فيقولون: هذا نوءٌ غير محمود، أي: لا يحصل فيه المطر أو الخير.
(2)
.
4 -
الغُول: جمعه غيلان، قيل: هم سحرة الجن، وهم يتغولون المسافر يعني: يتراءون للمسافر ليضلوه، وقد يأتونه بنار أو يأتونه بأمور تزعجه وتخيفه.
وليس المعنى نفي وجود الغيلان، ولكن المعنى أنَّهم لا يستطيعون أن يضلوا أحدًا إلّا مَنْ تولى الشيطان، فإنَّ هذا قد تضله الجن والشياطين، وأما المؤمن الذاكر فإنَّ الله يحفظه بالذكر.
المسألة السابعة: أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يعجبه الفأل، وبيّنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّه
(1)
لطائف المعارف لابن رجب (ص: 74)
(2)
أخرجه البخاري (1038)، و مسلم (71) من حديث زيد بن خالد.
الكلمةُ الطيبةُ يسمعها، فينشرح صدرُه ويقوى عزمه على ما يريد، ويُحسِنُ الظنَّ بربّه، ويُزيل عن القلب ما يلقيه الشيطان من تخويف وتوهم
(1)
.
والفرق بين الفأل وبين الطيرة بيّنه السعدي بقوله: «الفرق بينهما: أنَّ الفأل الحسن لا يدخل بعقيدة الإنسان ولا بعقله، وليس فيه تعليق القلب بغير الله، بل فيه من المصلحة النشاط والسرور وتقوية النفوس على المطالب النافعة.
وصفة ذلك: أن يعزم العبدُ على سفرٍ أو زواج أو عقدة من العقود، أو على حالة من الأحوال المهمة، ثم يَرى في تلك الحال ما يسرّه، أو يسمعُ كلامًا يسرّه، مثل: يا راشد أو سالم أو غانم، فيتفائل، ويزداد طمعه في تيسير ذلك الأمر الذي عزم عليه، فهذا كله خير، وآثاره خير، وليس فيه من المحاذير شيء.
* وأما الطيرة: فإنَّه إذا عزم على فعل شيء من ذلك من الأمور النافعة في الدين وفي الدنيا، فيرى أو يسمع ما يكره أثّر في قلبه أحد أمرين، أحدهما أعظم من الآخر.
أحدهما: أن يستجيب لذلك الداعي، فيترُكَ ما كان عازمًا على فعله أو بالعكس، فيتطير بذلك وينكص عن الأمر الذي كان عازمًا عليه، فهذا كما ترى قد علّق قلبه بذلك المكروه غاية التعليق وعمل عليه، وتصرف ذلك المكروه في إرادته وعزمه وعمله.
الأمر الثاني: أن لا يستجيب لذلك الداعي، ولكنه يؤثر في قلبه حزنًا وهمًّا وغمًّا، فهذا وإن كان دون الأول، لكنه شر وضررٌ على العبد، وضعفٌ لقلبه
(1)
انظر: أدب الدنيا والدين (ص: 316).
وموهنٌ لتوكله، وربما أصابه مكروهٌ فظن أنَّه من ذلك الأمر فقوي تطيّره، وربما تدرج إلى الأمر الأول»
(1)
.
* خلاصة الباب: أنَّ المسلم يجب أن يعلق قلبه بالله وحده، وألّا يعلق القدر بشيء من مخلوقات الله، فليس للطير ولا غيرها دور في القدر، بل الأمر كله من الله.
وأنَّ الطيرة المحرمة هي المؤثرة إحجامًا أو إقبالًا، بيّن ذلك ما سبق من قول «إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ» .
(1)
القول السديد (ص: 106).
29 - باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: «خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ; أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ»
(1)
.
«وكره قتادةُ تعلُّم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه»
(2)
ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ»
(3)
(4)
.
(1)
علقه البخاري في (6/ 211)، ووصله الطبري في التفسير (14/ 193)، وابن أبي حاتم في التفسير (9/ 2913)، وأبو الشيخ في العظمة (4/ 1226). وانظر: تغليق التعليق (3/ 489).
(2)
فتح الباري، لابن رجب (2/ 296).
(3)
أخرجه أحمد (4/ 399)، وأبو يعلى (7248)، وابن حبان (5346)، والحاكم في المستدرك (7234) من طريق أبي حريز أن أبا بردة حدثه عن أبي موسى، وفي سنده ضعف، أبو حريز عبد الله بن الحسين الأزدي، أورده الذهبي في الضعفاء، وقال: قال أبو داود: ليس حديثه بشيء، وقال جماعة: ضعيف. وانظر الضعيفة (1463).
(4)
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم. الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدَّق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: تعريف التنجيم لغة: مصدر نجَّمَ، مشتقٌ من النجم، والمُنَجِّمُ هو الذي ينظر في النجوم، ويستدل بحركتها وسيرها.
والتنجيم شرعًا: الاستدلالُ بالأحوالِ الفلكية على الحوادث الأرضية، كالمطر والربيع والمحل وغير ذلك، قال الخطابي:«عِلمُ النجومِ المنهي عنه هو ما يدّعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنَّها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، يدّعون أن لها تأثيرًا في السفليات»
(1)
.
المسألة الثانية: مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
التنجيم ينافي التوحيد لما فيه من ادّعاء علم الغيب، ولما فيه من تعلق القلب بغير الله.
المسألة الثالثة: مصطلح التنجيم يدخل فيه ثلاثة أنواع:
1.
اعتقادُ أنَّ النجوم مؤثّرةٌ بنفسها ولها تصريف في الكون: وهذا كفرٌ أكبر، وهو ما كان يفعله الصابئة، وهو شرك قوم إبراهيم;.
(1)
معالم السنن (4/ 229).
2.
علم التسيير: وهو أن يتعلم منازل النجوم وحركاتها؛ ليستدل بها على أمور جائزة، كهبوب الرياح ووقته، والوقت الذي جرت فيه سنة الله في إنزال المطر، ودخول الفصول ونحو ذلك، فهذا جائز.
ويكون مشروعًا لو استدل بها على أمور مشروعة، كالاستدلال بالنجوم على معرفة جهة القبلة، أو الأوقات ونحوه.
(1)
.
3.
علم التأثير: وهو الاستدلالُ بحركةِ النجوم وطلوعها والتقائها ومواضعها على أمور غيبيةٍ مما يحدث في الكون والأرض من أحداث مستقبلة، وهو ما يراد هنا، وهو نوع من الكهانة؛ لأنَّ النجوم ليس لها أي علامة، ولكن الشياطين توحي إلى المنجِّم بما سيقع فيخبر به.
* ومما يدل على النهي عنه:
1) ما ذكره البخاري في صحيحه، عن قتادة:«خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ» .
(1)
فضل علم السلف، لابن رجب (ص: 12).
2) الأدلة الدالة على تحريم السحر والكهانة، فالتنجيم نوع من الكهانة والسحر، ولذا أتى في الباب بحديث:«ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ» .
المسألة الرابعة: من صوَّر التنجيم المحرم ما يسمى بالأبراج، إذا ولد فلان في البرج الفلاني أو الشهر الفلاني أو اليوم الفلاني، أو كان اسمه يبدأ بحرف كذا أو كذا فسيصيبه كذا وكذا، ويضعون عليها دعاياتٍ مِنْ مثل: مِنْ شهر ميلادك تعرف حظك، أو من اسمك تعرف حظك، وهذا كثير الآن.
وقد صار للتنجيم رواج في الأزمان المتأخرة، فأُلف فيه مؤلفاتٌ، بل وجدت معاهد تعطي شهادات في ذلك، وأُنشئ اتحادٌ للمنجمين ويضم هذا الاتحاد أكثر من خمسة وخمسين ألف عضو من جنسيات متنوعة، والغريب أنَّ رئيس ونائب الاتحاد كلاهما عربي، وهذا يدل على الخلل الموجود عند أعدادٍ من المسلمين، ووجوب التوعية بحرمة مثل هذا الأمر
(1)
.
المسألة الخامسة: من حرص السلف على إغلاق باب التنجيم، ما نقل عن قتادة أنَّه كره تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه.
والمراد بمنازل القمر: المنازل التي ينزلها القمر في الشهر، وهي ثمانية وعشرون منزلًا، ويستفاد من معرفتها: حساب الأيام، ومعرفة الفصول، وأوقات
(1)
انظر: التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام، د. عبد المجيد المشعبي (ص: 151).
الصلوات ونحو ذلك.
وعلّة الكراهة: أن ذلك وسيلة للاعتقاد فيها ما لا يجوز، فمنعوا منه؛ سدًّا للذريعة، لكن أكثر العلماء على جوازه بقدر الحاجة، وهذا ما يعرف بعلم التسيير كما سبق؛ لأنه لا شرك فيه.
* خلاصة الباب: أنَّ من أدعى أنَّ النّجوم لها أثر في تصريف القدر، أو زعم أنَّه يتعرّف على القدر بنظره في النجوم، فقد ادَّعى علم الغيب، وهذا المنهي عنه.
30 - باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة، الآية (82)].
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ» .
(1)
.
(2)
.
ولهما، من حديث ابن عباس رضي الله عنه بمعناه، وفيه: «قَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ
(1)
أخرجه مسلم (934).
(2)
أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71).
نَوْءَ كَذَا وَكَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة، الآية (75 - 82)]
(1)
(2)
.
(الشرح)
الأنواء: جمع نَوء بالهمز، وهي النجوم، والاستسقاء: طلب السقيا.
والمراد: طلب السقيا من الأنواء، أو نسبةُ السقيا والأمطار إليها.
وهذا الباب له اتصال بما سبق، وهو نوعٌ مما كان يصنعه أهل الجاهلية تجاه النجوم، من الاعتقادات المحرمة، والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: الاستسقاء بالنجوم قسمان:
(1)
أخرجه مسلم (73)، ولم يخرجه البخاري، وعدَّه الحميدي في الجمع بين الصحيحين (1226) من أفراد مسلم، وإنما الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس مما له علاقة بالباب قوله رضي الله عنه:«خِلَالٌ مِنْ خِلَالِ الجَاهِلِيَّةِ: الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ» وَنَسِيَ الثَّالِثَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَيَقُولُونَ إِنَّهَا الِاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ. البخاري (3850).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة. الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية. الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة. الخامسة: قوله: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر» بسبب نزول النعمة.
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع. السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: «لقد صدق نوء كذا وكذا» .
التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها؛ لقوله: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» . العاشرة: وعيد النائحة.
1 -
ما يكون شركًا أكبر، وذلك:
أ- أن يسأل الأنواء السقيا وإنزالَ المطر، فهذا شركٌ أكبر؛ لأنَّه دعاءٌ لغير الله.
ب- أو ينسبَ حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنَّها الفاعلة بنفسها من دون الله، فهذا شرك أكبر -وإن لم يَدْعُها- وهو شركٌ في الربوبية.
2 -
ما يكون شركا أصغر: وهو أن يَجعل هذه الأنواء سببًا في نزول المطر مع اعتقاده أنَّ الله هو المدبر الفاعل، فهذا شرك أصغر؛ لأنَّ كل شيء جُعِل سببًا لم يجعله الله سببًا فهو شرك.
المسألة الثانية: الاستسقاء بالنجوم ونسبة المطر لها كان موجودًا في الجاهلية، فكانوا يقولون مثلًا: مطرنا بنوء الثريا، وذلك أنَّه إذا سقط نجمٌ وطلع نجمٌ آخر قالوا: لابدّ من مطرٍ ورياحٍ، وينسبون كل مطرٍ إلى النجم الساقط، ولأجل ذلك جاءت النصوص محذرةً منه، ومبينةً بطلان من تعاطاه، ومنها:
(1)
قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} والمعنى: أنكم تجعلون شكركم لله على ما أنزل عليكم من المطر والرحمة أنكم تكذبون، أي: تنسبونه لغيره، وقيل غير ذلك
(2)
حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ
…
» فجاء الحديثُ على جهة الذمِّ نسبةً إلى الجهل، أي: ستفعلُها هذه الأمة إمّا مع العلم بتحريمها، أو مع الجهل بذلك، وهذا ما وقع.
(3)
حديث زيد بن خالد رضي الله عنه: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ» ففي الحديثِ
النهيُ عن هذا القول؛ لما فيه من الالتفات إلى السبب ونسيان المنعم الحقيقي، وهو الله، قال العثيمين:«وصار كافرًا بالله؛ لأنَّه أنكر نعمة الله، ونسبها إلى سببٍ لم يجعله الله سببًا، فتعلقت نفسه بهذا السبب، ونسي نعمة الله»
(1)
.
المسألة الثالثة: نسبة المطر إلى النوء تحتمل معانٍ:
1 -
نسبة إيجاد: بأن ينسب المطر إلى النوء، فهذا شركٌ أكبر، قال ابن رجب:«إضافة نزول الغيث إلى الأنواء، إن اعتقد أن الأنواء هي الفاعلة لذلك، المدبرة له دون الله عز وجل، فقد كفر بالله، وأشرك به كفرًا ينقله عن مِلَّة الإسلام، ويصير بذلك مرتدًا، حُكمه حكم المرتدين عن الإسلام، إن كان قبل ذلك مسلمًا»
(2)
.
2 -
نسبة سبب: بأن يعتقد أنَّ هذا النوء سبب وليس هو المسبب، وتكون الباء للسببية، فهذا شرك أصغر.
3 -
نسبة وقت: بأن يقوله ويريد أنَّ الله أنزل المطر في وقت هذا النوء، وتكون الباء للظرفية، فهذا من حيث المعنى صحيح، فالله أنزل المطر في وقت هذا النجم، ولكن لما في هذه اللفظة من مشابهة للفظة المنهي عنها اختلف العلماء في حكم قولها، على أقوال ثلاثة:
فقيل بالتحريم: قال ابن رجب: «وهو قول أكثر أصحابنا، والنصوص تدل عليه، لما فيها من إيهام المعنى المحرم «
(3)
.
(1)
القول المفيد (2/ 30).
(2)
فتح الباري (9/ 260).
(3)
فتح الباري (9/ 264).
وقيل بالكراهة: وهو قول الشافعي، وأصحابه، وبعض الحنابلة.
وقيل بالجواز: وهو منقول عن البغوي وغيره
(1)
.
• ومع هذا: فالأولى أن يتجنبه، وأن يقول:«في نوء كذا» .
* خلاصة الباب: أنْ تعلم أنَّ المطر نعمة من الله، وأنَّ نسبته لغيره سبحانه، أو طلبه من غيره سبحانه جرمٌ عظيم يوصل الإنسان إلى الشرك بالله تعالى.
(1)
قال البغوي: «فأما من قال: مطرنا بنوء كذا، وأراد سقانا الله تعالى بفضله في هذا الوقت، فذلك جائز» شرح السنة (4/ 421).
31 - باب قول الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}
[البقرة، الآية (165)].
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة، الآية (24)].
عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»
(1)
.
ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
(2)
. وفي رواية: «لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى
…
» إلى آخره
(3)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللَّهِ، وَوَالَى فِي اللَّهِ، وَعَادَى فِي اللَّهِ، فَإِنَّمَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ - وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ - حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ،
(1)
أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43).
(2)
أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19).
(3)
أخرجها البخاري (6041).
وَقَدْ صَارَتْ عَامَّةُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا»
(1)
.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة، الآية (166)]، قال:«الْمَوَدَّةُ»
(2)
(3)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: عقد المصنفُ هذا الباب للكلام على
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (353)، وابن أبي شيبة في المصنف (134)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1691).
(2)
أخرجه الطبري في التفسير (3/ 27)، وابن أبي حاتم في التفسير (1/ 278)، والحاكم في المستدرك (3076)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
(3)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. الخامسة: أن للإيمان حلاوةً قد يجدها الإنسان، وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تُنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحدٌ طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا. الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} .
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبًّا شديدًا. العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أنَّ من اتخذ ندًّا تساوي محبته محبة الله، فهو الشرك الأكبر.
المحبّة، وهي من أعمال القلوب، والمحبّةُ اختلف في تعريفها على أقوالٍ، هي في الحقيقة آثارٌ للمحبّة، وأما المحبّةُ نفسها فعرّفها بعضهم بأنَّها: وصفٌ قائمٌ بالقلبِ يؤدي إلى السرور وغيره من المقتضيات، كالطاعة والمؤانسة.
ولعل الأحسن أن يقال: إنَّ المحبة هي من المصطلحات التي لا تُعَرَّفُ بتعريف أوضح منها، فتركُها بلا تعريف أحسن، كالماءِ، والبغضِ ونحو ذلك، فهي شعورٌ قلبيٌ لا توجد عبارةٌ جامعةٌ مانعةٌ تعبّر عنه.
المسألة الثانية: مناسبة الباب للتوحيد: أنَّ المحبّة عبادة، وإذا كانت كذلك وجب صرفُها لله، وكان صرفُها لغير الله شركًا كما فعل المشركون الذين أشار إليهم في الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}
المسألة الثالثة: المحبّة أنواع، فهناك المحبّةُ الطبيعية، ومحبّةُ الزوج لزوجته ونحو ذلك، ولكن المراد بهذا الباب: المحبّة الخاصة، وهي محبّةُ العبادة التي تستلزم الذلّ والتعظيم والخضوع والتعظيم لله محبّة وذلًّا وإجلالًا، وتقتضي فعل أوامره وطاعته وإيثاره على غيره، فهذه المحبّة لا يجوز صرفها وتعلّقها بغير الله.
* ويدل على هذا ما يلي:
1) قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} فذمّ المشركين؛ لأنَّهم اتخذوا أناسًا يحبونهم كحب الله.
ومعنى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} : أنَّهم يساوونهم بالله في المحبّة والتعظيم، فيجعلون معبوداتهم شركاء لله في المحبّة، فتكون محبّة مشتركة
(1)
.
(1)
انظر: قاعدة في المحبة (ص: 69).
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} : الأرجح في معناها أنَّ الذين آمنوا أشدّ حبًّا لله من محبّةِ المشركين بالأنداد لله، فإنّ محبّةَ المؤمنين خالصة، ومحبّةَ هؤلاء مشتركة، فقد ذهب حُبّهم لأندادهم بقسطٍ منها.
2) قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة، الآية (24)]، فبيّن أنَّه يجب أن تكون محبّة العبد لربه مقدمة على كل شيء، فالمحبةُ الصادقة تستلزم تقديم ما يرضي الله على هذه الثمانية كلها.
3) حديث أنس رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والمراد: نفي كمال الإيمان عمّن قدّم محبّة غير الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وإذا كان هذا في محبّة رسول الله -وهي تابعةٌ لمحبّة الله، لا يكمل إيمان عبدٍ حتى يحققها- فمحبّة الله أعظم وأجلّ.
4) قوله: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ
…
» فحلاوةُ الإيمانِ المتضمنة لِلّذّة والفرح تكون بتحقيق المحبّة لله، وذلك بثلاثة أمور:
أ- تكميل هذه المحبّة. ب- تفريغها. ج- دفع ضدّها.
فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، فإنّ محبّة الله ورسوله لا يُكتفى فيها بأصلِ الحبّ، بل لا بدّ أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما.
وتفريغها: أن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله.
ودفع ضدّها: أن يكره ضدّ الإيمان كما يكره أن يقذف في النار.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنَّ محبّة غير الله محبّةً توازي محبّة الله شركٌ أكبر،
لأنّه صرف العبادة لغير الله
(1)
.
المسألة الرابعة: أنَّ من أحبّ الله، ولم يقدّم عليه غيره، فإنَّه ورد في النصوص في هذا الباب له فضائل:
1) أنَّه يحقق الإيمان بهذا؛ ولذا قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى
…
»
(1)
قال ابن القيم: «وأمّا الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلّا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندًّا، يحبّه كما يحبّ الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين بربّ العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 97 - 98]. مع إقرارهم بأنّ الله وحده خالق كل شيء، وربّه ومليكه، وأنَّ آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنّما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوداتهم ويعظّمونها ويوالونها من دون الله، وكثيرٌ منهم -بل أكثرهم- يحبّون آلهتهم أعظم من محبّة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم -من المشايخ- أعظم مما يغضبون إذا انتَقص أحدٌ ربَ العالمين، وإذا انتهكت حرمةٌ من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حُرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه، ولم تتنكر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنًا له إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن مرض وإن استوحش، فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنّه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، ووسيلته إليه.
وهكذا كان عبّاد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر وغيرهم اتخذوها من البشر». مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 348)
2) أنَّه ينال لذّة الإيمان؛ ولذا قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا
…
»، وقال ابن عباس:«وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ -وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ- حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ» .
3) أنَّه بهذا يكون من أولياء الله، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، ولذا قال ابن عباس:«مَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللَّهِ، وَوَالَى فِي اللَّهِ، وَعَادَى فِي اللَّهِ، فَإِنَّمَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ بِذَلِكَ» .
المسألة الخامسة: أنَّ كثيرًا من مؤاخاة الناس قد دخلها الخلل، ولم تصر لله حقًا، ولذا قال ابن عباس في زمنه:«وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا» ففتش عن نفسك، وعن محبتك، هل هي لله أو لغيره، قال يحيى بن معاذ:«الحب في الله لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء»
(1)
، وهذا ضابطٌ نافعٌ لمعرفة الحب هل هو لله أو لغيره.
واعلم أنَّه يجب أن يكون حبّ الإنسان لإخوانه لله تعالى، وهو حينها مأجور على حبّه، أما من أحب لأمر من أمور الدنيا فهي محبةٌ مذمومة، والدليل قوله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف، الآية (67)].
* خلاصة الباب: أنّ الحب المقتضي للتعظيم والذل والخضوع عبادة، فلا يجوز صرفه إلا لله تعالى.
(1)
فتح الباري، لابن حجر (1/ 62).
32 - باب قول الله تعالى {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
[آل عمران، الآية (175)].
وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة، الآية (18)].
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت، الآية (10)].
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ، إِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ»
(1)
.
وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رضي الله عنه وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ»
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 106)، (10/ 41)، والبيهقي في الشعب (203)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2009).
(2)
أخرجه الترمذي (2414)، وابن المبارك في الزهد (199)، وابن حبان في الصحيح (276)، والبغوي في شرح السنة (4213)، وصححه الألباني في الصحيحة (2311).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: تفسير آية العنكبوت.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى. الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض. السابعة: ذكر ثواب من فعله. الثامنة: ذكر عقاب من تركه.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: عقد المصنّف هذا الباب للحديث عن عبادة الخوفِ، وهي من العبادات القلبية، وهي وصفٌ يقوم بالقلب يحمل على فعل الأوامر وترك النواهي، وقد صدّر الباب بقوله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران، الآية (175)].
والشيطان: إبليس، ويدخل فيه كل شيطانٍ من الإنس والجنّ.
وقوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} : أي يخوّفكم بأولياءه.
والواجب عليكم حينها ألّا تخافوهم، وإنما تخافوا من الله، فهو الذي بيده كل شيء، ولا يحدث في الكون شيء إلا بإرادته.
والتخويف الذي حصل من الشيطان ما أورده الله تعالى في الآية {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران، الآية (173)].
ومناسبة الباب للتوحيد، ولما قبله: أنَّ الخوف نوع من أنواع العبادة، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك.
وإنما ذكر المصنف ما يتعلق بالخوف بعد ذكر المحبة:
1.
لأنَّ العبادة ترتكز على الحب والخوف والرجاء.
2.
لئلا يجنح أحد فيتمسك بالحب فقط دون الخوف، فالمؤمن يجمع بين الحبّ والخوف والرجاء.
المسألة الثانية: الخوف بالنسبة لمن يُخاف منه له حالتان:
1 -
خوفٌ من الله. 2 - خوف من غير الله.
فأما الخوفُ مِنْ غير الله فله صور:
أ. الخوف الشركي: وهو ما يسمى بخوف السرّ، بأن يخاف من غير الله، إما خوفًا من إضراره به، أو يعتقد أنَّه بخوفه منه ينفعه في الآخرة.
• مثاله: ما يقع من المشركين من خوفهم من الأولياء وأصحاب القبور، وخوفهم أن يضرّوهم إن تركوا عبادتهم ونحو ذلك، وهذا الذي كان المشركون يعتقدونه، ولذا يخوفون بهم أولياء الله كقوله:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود، الآية (54)]{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر، الآية (36)]. ولذا فهم يخافون الصالحين والطواغيت كما يخافون الله أو أشد.
ب. الخوف المحرم: وضابطه: الخوفُ من المخلوق؛ خوفًا يمنع من فعل الواجب أو ترك المحرم، كمن يترك صلاة الجماعة خوفًا من مخلوق، أو يحلق لحيته خوفًا من مخلوق، والواجب على المسلم ألّا يخشى أحدًا إلّا الله.
ج. الخوف الطبيعي: كما يخاف المرءُ من عدوٍ أو سَبُعٍ أو غَرَقٍ ونحوه، وهذا لا ذمّ فيه، ومنه قوله:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص، الآية (21)].
وأما الخوف من الله: فهو عبادةٌ مِنْ أجلّ العبادات، وهو خوف التعظيم والذلّ
والخضوع لله سبحانه، وقد أثنى الله على أهله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر، الآية (28)]. وأمر بالخوف منه في نصوص عدة، ومنها:
1) الآية التي ساقها المصنف هي قوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، فجعل الخوف منه شرطًا في الإيمان.
2) قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} ، والشاهد فيها: أنَّ الله حينما ذمّ المشركين ونفى عنهم عمارة المسجد الحرام بقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} أثبت ذلك للمؤمنين، وأثنى عليهم وبيّن أنَّ مِنْ أظهَرِ خصالهم أنَّهم لا يخشون إلّا الله، والمراد: خشية التعظيم والعبادة، وبه تعلم أنَّ من صفات المؤمنين خشيتهم لله، وهذا دليل على أنَّهم مهتدون؛ لقوله:{فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنه: «(عسى) من الله واجبة»
(1)
.
المسألة الثالثة: اعلم أنَّ العبد له مع الخوف من الله مقامان:
1) أن يكون مائلًا عن الاستقامة ومقصرًا: فيخاف أن يعاقبه الله، وذلك
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1766) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال بمثل قول ابن عباس: يحيى بن سلام في تفسيره (1/ 155)، والشافعي في الأم (4/ 169)، والأخفش في معاني القرآن (2/ 426)، والطبري في تفسيره (8/ 579)، (14/ 168)، والزجاج في إعراب القرآن (2/ 181).
وقال أبو عبيدة: (عَسَى اللهُ) هي إيجاب، وهي فِي القرآن كلها واجبة، فجاءت عَلَى إحدى لغتي العرب؛ لأن (عسى) فِي كلامهم رجاء ويقين. أخرجه ابن المنذر في تفسيره (2060).
الخوف ناشئ من ثلاثة أمور:
1.
معرفته بجنايته وقبحها.
2.
تصديق الوعيد، وأنَّ الله رتّب على المعصية عقوبتها.
3.
أنَّه لا يعلم لعله يُمنع من التوبة ويُحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب.
2) أن يكون مستقيمًا: فخوفه دائمًا يكون مصاحبًا له؛ لِعلمه أنَّ الله مقلّب القلوب، ويتأمل قوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} . فأي قرارٍ لمن هذه حاله؟ ومَن أحقُّ بالخوفِ منه؟ وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ»
(1)
(2)
.
• واعلم أنَّ نقصان الخوف من الله، إنما هو بسبب نقصان معرفة العبد بربه.
المسألة الرابعة: أورد المصنف قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} وعلاقتها بالخوف من جهة أنَّ كثيرًا من الناس يدّعي أنَّه يخاف من الله، ولكن عند المحكّات يتبين أنَّ خوفه هو من الناس لا من الله، والدليل: أنَّك تراه إذا أوذي على تمسّكه بدين الله، فإنَّه حينها لا يحتمل أذاهم، فيفرُّ مِنْ ذلك بأن يوافق هؤلاء في أهوائهم وما يريدون، فيكون قد خاف من هؤلاء كما يخاف من الله، والمؤمنُ يعلم أنَّه لابد أن يناله ما يناله في طريق الدين.
ويعلم أنَّ العباد ليس بيدهم جزاء ولا حساب، وحينها فلا ينبغي أن يخاف منهم خوفَ تعظيم، ولا أن يسألهم، ولذا قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
(1)
أخرجه البخاري (6617) من حديث ابن عمر.
(2)
انظر: طريق الهجرتين، لابن القيم (512).
بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت، الآية (10)].
المسألة الخامسة: أنَّ الخوف من الله ينشأ في القلب إذا قوي اليقينُ بالله ربًا خالقًا مدبرًا، وإذا ضَعُفَ اليقينُ بالله تعلّق بعباد الله، وحينها يخذله الله، ويكله إلى الناس، ولضعف اليقين علامات:
1.
أن يسعى العبدُ لإرضائهم ولو على حساب سخط الله.
2.
أنَّه إذا جاءه رزقٌ ظنَّ أنَّه من الناس فحمدهم، وإذا مُنِعَ من أمرٍ ظنّ أنَّه من الناس فسخطهم، وهذا نشأ من عدم معرفته بربه، ومن عدم خوفه من خالقه، ولو علم أنّ المتفرد بالعطاء والمنع هو الله، وأنَّ المخلوق لا يقدر على إعطائه شيئًا لم يقدّره الله له لما ذمهم.
* ويدل على هذا: ما ورد عن أبي سعيد رضي الله عنه الذي ساقه المصنف، وهذا الحديث إسناده ضعيف -كما سبق في التخريج-، لكن معناه صحيح كما قال صاحب التيسير
(1)
، ويروى موقوفًا عن ابن مسعود.
المسألة السادسة: أورد المصنف حديث عائشة رضي الله عنها: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ» ، وفيه أنَّ من بحث عن رضا الناس ولو كان ذلك بسخط الله، فإنّ العاقبة أنَّ الناس سيسخطون عليه، وسيسخط عليه رب العالمين، والعكس بالعكس، ولذا قال الشافعي:«رضى الناس غاية لا تدرك، فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه»
(2)
.
• فالعاقل هو من يبحث عن رضا الله، وإن سخط الناس.
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص: 422)
(2)
مناقب الشافعي، للأبري (ص: 90) مدارج السالكين (2/ 286)
* وعلاقة هذا بالخوف: من جهة أنَّه إذا بحث عن رضا الله، وكان في ذلك سخط الناس فربما خاف منهم، وهنا تذكير للإنسان ألّا يخاف إلّا الله.
* خلاصة الباب: أنّ الخوف المصحوب بالتعظيم والإجلال عبادة لا تصرف إلّا لله، فمن صرفها لغيره فقد وقع في الشرك بالله سبحانه.
*
33 - باب قول الله تعالى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
[المائدة، الآية (23)]، وقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال، الآية (2)]، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال، الآية (64)]، وقوله:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق، الآية (3)].
وعن ابن عباس رضي الله عنها قال: «{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عليهم السلام حِينَ أُلْقِيَ فِي اَلنَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران، الآية (173)]»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على هذا الباب في عدة مسائل:
المسألة الأولى: أورد المصنف هذا الباب للكلام على عبادةٍ من العبادات
(1)
أخرجه البخاري (4563).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض. الثانية: أنه من شروط الإيمان. الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها. الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عِظَمُ شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد.
القلبية العظيمة، وهي التوكل.
والتوكل هو: صدق اعتماد القلب على الله، بجلب النفع ودفع الضرّ مع فعل الأسباب
(1)
، فثمة أمران: فعلُ الأسباب، ثم التعلق بالله والاعتماد عليه.
والناس تجاه التوكل أصناف:
1 -
قومٌ تعلقوا بالأسباب، ونسوا التوكل على الله عز وجل.
2 -
قومٌ تعلقوا بالله، ولم يفعلوا الأسباب.
3 -
التوسط: بفعل الأسباب مع تعلق القلب بالله عز وجل.
وصدق التوكل يكون: بأن يوقن العبد أن كل ما في الكون، فهو بتدبير الله، وحينها يفوض الأمر إليه وينزل به حاجته، ثم يفعل الأسباب التي جعلها الله أسبابا لهذا الأمر.
وفي هذا يقول ابن القيم مبينًا أن التوكل يكون مع فعل الأسباب: «منعُ الأسبابِ أن تكون أسبابًا قدحٌ في العقل والشرع، وإثباتُها والوقوفُ معها وقطعُ النظر عن سببها قدحٌ في التوحيد والتوكل والقيام به، وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمعٌ بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر وهو الكمال»
(2)
.
* وعلى هذا: فلابد في التوكل من أمرين: تعلق القلب بالله، وفعل السبب، وإذا تخلف أحدهما لم يصح التوكل، فمن توكل على ربه ولم يبذر أرضه
(1)
انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 497).
(2)
طريق الهجرتين (466).
ولم يغرسها فهذا بطّال، ومن اعتمد على صنعه لنفسه فهذا مخذول، والموفق من فعل السبب ثم توكل، فبذر أرضه ثم توكل على ربه.
ولذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن أتى إليه ومعه ناقته، وقال: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أم أطلقها وأتوكل؟ قال «اعقلها وتوكل»
(1)
.
ومرّ الشعبيُّ بإبلٍ قد فشا فيها الجرب، فقال لصاحبها: أما تداوي إبلك؟ فقال: إن لنا عجوزًا نتكل على دعائها، فقال: اجعل مع دعائها شيئًا من القطران -وهو دواءٌ للجرب-
(2)
.
المسألة الثانية: اعلم أن التوكل على الله من أجل القربات، وآكد العبادات، وقد ورد الأمر به في نصوص عديدة، ومنها آيات ثلاث ساقها المصنف وهي:
1) قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قال ابن القيم: «جعلَ التوكلَ شرطًا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل»
(3)
.
2) قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فذكر في الآية أعظم صفات المؤمنين، والتي يدور عليها غيرها، وهي هذه الخمس، ومن أعظمها توكلهم على الله.
3) قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} ووجه الدلالة منها: أنَّه إذا كان الله هو
(1)
أخرجه الترمذي (2517) من حديث أنس بن مالك، وإسناده ضعيف، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (731) من حديث عمرو بن أمية الضمري، وإسناده لا بأس به.
(2)
محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصفهاني (1/ 37).
(3)
طريق الهجرتين (ص: 386)
حسبك، أي: كافيك وناصرك، فيتعين عليك أن تتوكل عليه، لا على غيره.
المسألة الثالثة: ورد في النصوص فضائل تُنال بالتوكل على الله، ومنها:
1.
أنَّه يدخل في زمرة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب، فقد ذكر الله صفاتهم، وهي ثلاثٌ ترجع إلى التوكل، ونص عليه في الصفة الرابعة.
2.
أن من توكّل على الله كان الله حسبه وكافيه، قال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق، الآية (3)]، وما ظنك بمن يكون الله حسبه!
3.
أن التوكل على الله منجاة، فالله أنجى إبراهيم; بتوكله على ربه، حين أرادوا إلقاءه في النار، ونجى موسى; حين قال:{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ، ونجى محمدًا صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي بكر:«ما ظنك باثنين الله ثالثهما» .
4.
أن في التوكل قوة القلب، وفي الاعتماد على الناس ضعف القلب، وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله:«من أحب أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله»
(1)
.
المسألة الرابعة: التوكل على غير الله قسمان:
1 -
شركٌ أكبر: بأن يتوكل على أحدٍ من الخلق، فيما لا يقدر عليه إلا الله.
2 -
شركٌ أصغر: بالتوكل على المخلوق، فيما يقدر عليه، وهو ما يسمى بالاعتماد على الأسباب، وله أمثلة كثيرة، ومنها:
أ. الاعتماد على السلاطين في الرزق وغيره.
(1)
الزهد، لأحمد بن حنبل (1/ 497).
ب. الاعتماد على المذاكرة في التفوق والنجاح.
ج. الاعتماد على الطبيب في حصول الشفاء.
فهذا النوعُ منهيٌ عنه، والواجبُ التعلّق والاعتماد على الله لا على الاسباب، والتوكل عبادةٌ لا دخل للمخلوق فيها.
المسألة الخامسة: ثمة عبارات متعلقة بالتوكل تحسنُ الإشارة إليها، ومنها:
* قول: (توكلت عليك): يحرم قولها؛ لأن التوكل عبادة قلبية لا تكون إلا لله تعالى.
* قول: (توكلت على الله وعليك)، لا تجوز، لما سبق.
* قول: (توكلت على الله ثم عليك)، اختلف فيها على قولين:
1 -
من أجازها، باعتبار أن التوكل على الله هو تفويض الأمر إليه والاعتماد عليه، والتوكل على العبد بعد التوكل على الله عز وجل تفويض العبد فيما يقدر عليه، فالمراد: توكلت على لله ثم وكلتك بهذا الأمر، أو اعتمدت عليك في إنجازه، ويشترطون هنا أن يكون فيما يقدر عليه المخلوق، وممن نقل عنه هذا القول: ابن باز، وبه أفتت اللجنة الدائمة.
2.
من منع من ذلك؛ لأن التوكل عبادةٌ قلبية، فلا يصلح إلا لله، ولا يجوز هذا القول، وممن قال بهذا: محمد بن إبراهيم
(1)
، ويفهم هذا من كلام ابن تيمية حيث قال: «والوكالة الجائزة أن يوكل الإنسان في فعل يقدر عليه
…
إلى أن قال: فليس له أن يتوكل عليه وإن وكله، بل يعتمد على
(1)
حاشية: فتاوى ابن إبراهيم (1/ 170).
الله في تيسير ما وكله فيه»
(1)
.
ولعل الأقرب المنع من هذا؛ لأن التوكل هو الاعتماد والتعلق والالتفات، وذلك لا يكون إلا بالله وحده
(2)
.
* قول: (وكلتك في كذا) لا بأس بها، وهذا من باب الوكالة لا من باب التوكل.
المسألة السادسة: أورد المصنف في الباب أثر ابن عباس رضي الله عنهما: «حسبنا الله ونعم الوكيل» وهو مما له حكم الرفع؛ لأن مثله لا يؤخذ بالرأي.
والمراد: أن الذي ينبغي للإنسان عند الملمات والشدائد أن يقول بلسانه وبقلبه: «حسبنا الله ونعم الوكيل» فهذه الكلمة فيها تفويض الأمر لله، والتجاء واعتصام به سبحانه، وهي كلمة نفع الله بها من قالها، وهما: إبراهيم عليهم السلام إذ قالها حين ألقي في النار، ومحمد عليهم السلام حيث تحزبت عليه الأحزاب.
*خلاصة الباب: أن المسلم يتقرب إلى الله بالتوكل، وأنَّه يكون باللجأ إليه في جلب النفع ودفع الضر مع فعل السبب، وأن من توكل على غيره سبحانه، فقد أشرك.
(1)
جامع الرسائل، لابن تيمية (1/ 89).
(2)
انظر: التعليق على فتح المجيد، للعبد اللطيف (ص: 37).
34 - باب قول الله تعالى {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
[الأعراف، الآية (99)]. وقوله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر، الآية (56)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: «اَلشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اَللَّهُ»
(1)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أَكْبَرُ اَلْكَبَائِرِ: اَلْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اَللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ»
(2)
(3)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
(1)
أخرجه البزار (كما في كشف الأستار 106)، وعزاه الهيثمي في المجمع (1/ 104) إلى الطبراني في الأوسط، وحسنه العراقي في تخريج الإحياء (4/ 17)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4479).
(2)
أخرجه معمر بن راشد في جامعه (ص: 459)، والطبري في التفسير (6/ 648)، والطبراني في الكبير (9/ 156)، وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 484)، وهو صحيح بلا شك، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 104):«إسناده صحيح» .
(3)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف. الثانية: تفسير آية الحجر. الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله. الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
المسألة الأولى: المقصود بالباب: التأكيد على وجوب أن يكون العبد معلقًا قلبه بين رجاء الله وعدم القنوط، وبين الخوف من الله وعدم الأمن من مكره، ولقد ضلَّ أقوام غلَّبوا الرجاء، وأقوام غلَّبوا الخوف.
فالمراد بالباب: التنبيه على أنَّ الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب، وأنَّه ينافي التوحيد، كما أنَّ القنوط من رحمة الله كذلك، ولذا قال بعض السلف:«من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن»
(1)
.
• واعلم أنَّ من صفات المكذبين للرسل أنَّهم يأمَنُون من مكر الله، فإذا رأوا النعم تأتيهم اطمأنوا وأمِنوا من عذاب الله مع أنَّهم مستحقون له، والواجب على المسلم أن يجعل في قلبه الخوف من الله، لاسيما عند فعل المعصية وكذا الطاعة، وهذا هو هدي المسارعين للخيرات، ولذا ورد في الحديث عن قوله:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون، الآية (60)]. قالت عائشة رضي الله عنها: «هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عز وجل»
(2)
.
المسألة الثانية: ورد في نصوص الباب أمورٌ من الكبائر، ولها ارتباط بالباب، وهي:
1.
القنوط من رحمة الله: وهو استبعاد الخير والإحسان منه، ومن ذلك
(1)
انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (10/ 81).
(2)
أخرجه أحمد (6/ 159)، والترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، والحاكم (3486)، وحسنه الألباني في الصحيحة (162).
استبعاد الفرج وتيسر الأمر المتعسّر، ومن ذلك ما يقع من بعض العصاة إذا كثرت ذنوبهم، فربما قنطوا من رحمة الله ومن توبته عليهم، والمسلم يسمع من النصوص ما يجعله لا يقنط، ومنها:
أ- {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر، الآية (53)].
(1)
.
• واعلم أنَّ أقرب الناس للقنوط هم الذين لا يعرفون الله، أما الذين يعرفونه فهم لا يقنطون، لعلمهم بسعة رحمته.
ولذا ورد أنَّ قدامة بن عبد الله رحمه الله شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة، الآية (93)]، فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنَّهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصرّوا على استحلالها قُتِلوا، وذلك أنَّ هذه الآية نزلت لما حرم الله الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد قال
(1)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 238)، والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 65)، وأبو يعلى (4226)، والطبراني في الدعاء (1805)، والضياء في المختارة (1544 - 1545).
وأخرجه الترمذي (3540)، عن أنس وحسنه من غير هذا الوجه، وبغير هذا اللفظ، والحديث أصله في صحيح مسلم (2749) من حديث أبي هريرة بلفظ قريب.
بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية؛ مبيّنًا فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يُحرّم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين
(1)
، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس.
ثم إنَّ أولئك الذين فعلوا ذلك يُذمّون على أنَّهم أخطأوا وأيسوا من التوبة، فكتب عمر إلى قدامة يقول له:{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ (3)} [غافر، الآيات (1 - 3)]. ما أدري أي ذنبيك أعظم؟ استحلالك المحرم أولًا؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيًا؟
2.
اليأس من روح الله: وقيل: هو بمعنى القنوط، وقيل: بينهما فرق، وهو أنَّ القنوطَ أشدُّ اليأس، وقيل: بل المراد هنا بالقنوط: القنوط من رحمة الله واستبعاد حصول المطلوب، وباليأس: أن يستبعد زوال المكروه.
3.
الأمن من مكر الله: ومكر الله هو أنَّه إذا عصاه عبده وأغضبه، أنعم عليه بأشياء يظن أنَّها من رضاه، وإنما هي استدراج. قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والمعنى: استدراجه بالنعم حتى يأخذه على غره.
وقال ابن تيمية: «هو إيصال الشر إلى الغير بطريق خفي»
(2)
.
وهذه الأمور وردت في حديث ابن عباس، وقد ورد في الآية أن من أمِنَ مكر الله، فهو من الخاسرين.
(1)
أخرجه الترمذي (3050)، وابن حبان (5350) من حديث البراء مختصرًا، وأخرجه سعيد بن منصور في التفسير (808) مطولًا، من طريق الحسن مرسلًا، وفي الباب عن أبي هريرة وغيره.
(2)
بيان الدليل (ص: 231)، وانظر: التعليق على فتح المجيد (ص: 38).
المسألة الثالثة: ورد في الباب قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} ، فهل يوصف الله بالمكر؟
* قال أهل العلم: المكرُ في محلِّه محمودٌ، وهو في مقابلة مكر الماكر يدل على القوة، ولذا لا يجوز أن تصف الله بالمكر على سبيل الإطلاق، وإنما في مقابلة المكر {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} فمكرُ الله ورد في النصوص في مقابلة من مكرَ بأنبيائه وأوليائه، وهذا من الصفات التي تثبت لله مقيدة، قال ابن القيم:«المكرُ: إيصال الشيء الي الغير بطريقٍ خفي، وكذلك الكيدُ والمخادعةُ، ولكنه نوعان: قبيحٌ وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه، وحسنٌ وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له، فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يُحمَد عليه عدلًا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباده»
(1)
.
المسألة الرابعة: ورد في الباب الأمر بالخوف من الله وعدم الأمن من مكره، وورد الأمر بالرجاء وعدم اليأس من رحمته، فبأيهما يعمل الإنسان وأيهما يقدم؟
* كلاهما مأمور به، فالخوف يقبض ويردع عن المعصية، والرجاء ينشِّط للطاعة، ولكل من الخوف والرجاء أحوالٌ يُغلَّبُ فيها ويقدّم:
* فيغلّب الخوف من الله على الرجاء:
عند المعصية، وعليه حينها أن يتذكر شدّة عقوبته سبحانه كي يرتدع ويتوب.
* ويغلّبُ الرجاء على الخوف:
1.
عند التوبة من الذنوب؛ كي يقوى قلبه لقبول التوبة ولا يقنط.
(1)
مختصر الصواعق المرسلة (2/ 33).
2.
عند قرب الأجل؛ كي يموت على حسن ظن بالله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ»
(1)
.
* وأما عند فعل الطاعات فعليه أن يجمع بين الخوف أن لا تقبل، والرجاء وحسن الظنّ بالقبول، وهذا ما عليه المسلم الحق.
وقد قال أبو علي الروذباري: «الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت»
(2)
.
* وثمة أحوالٌ خاطئة تقع في الخوف والرجاء ليست على الصواب وهي مذمومة ومنها:
1) الرجاءُ من المُصِرِّ على المعاصي، أو المفرِّط في الواجبات.
2) الخوفُ الذي يصل بصاحبه إلى القنوط من رحمة الله.
والمراد: أن لا تغلّب أحدهما، فمن الناس من يقول: أنا الرجل الصالح، صاحب الطاعات، فيفتنه الشيطان، ومنهم من يقول: أنا صاحب الذنوب التي لن يقبلها الله، فيغويه الشيطان، ويقنط.
* خلاصة الباب: أنَّ تعظيم الله يتم بالخوف منه وعدمِ الأمن من مكره، ومع هذا عدم القنوط من رحمته، والتوسط بين هذين هو هدي المسلم الحق، وكلا الطرفين مذموم.
(1)
أخرجه مسلم (2877) من حديث جابر.
(2)
مدارج السالكين (2/ 37).
35 - باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن، الآية (11)]. قال علقمة: «هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ»
(1)
.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اِثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»
(2)
.
ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»
(3)
.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ، عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَة فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(4)
.
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (23/ 12)، والبيهقي في الكبرى (4/ 66)، وفي الشعب (9503).
(2)
أخرجه مسلم (67).
(3)
أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (103).
(4)
أخرجه الترمذي (2396)، وأبو يعلى في المسند (4254)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2050)، والحاكم في المستدرك (8799)، والبغوي في شرح السنة (1435)، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.
وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن مغفل نحوه، أخرجه أحمد (4/ 87)، ابن حبان (2911)، والحاكم (1291).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا اِبْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
الأولى: مناسبة الباب للتوحيد:
* من جهة أنَّ الصبر على القدر مأمورٌ به وواجب، وبقوة الصبر على المكاره في مراد المعبود سبحانه تُعلَمُ صحة عبادة المرء ومحبته، فالصابر يتحمل المشاقّ لأجل الله، فأعظمهم محبةً وتوحيدًا أشدُّهم صبرًا
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي (2559)، وابن ماجه (4031)، وأبو يعلى في المسند (4253)، والبيهقي في الشعب (9325)، وقال الترمذي: حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2110).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن. الثانية: أن هذا من الإيمان بالله. الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد في من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير. السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد. الثامنة: تحريم السخط. التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء.
(3)
التعليق على فتح المجيد للعبد اللطيف (38 - 39)، ونقله عن مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 438) بتصرف.
* ومن جهة أخرى، فقد يتمادى به الأمر حتى يقع في الكفر، حينما يسبُّ ربه، لأجل قَدَره، ولذلك نبّه المؤلف على هذا.
المسألة الثانية: منزلة الصبر في دين الإسلام عظيمة، قال الإمام أحمد: ذكره الله في تسعين موضعًا من كتابه، وفي الحديث:«مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»
(1)
.
• واعلم أن الصبر ثلاثة أنواع:
1 -
على طاعة الله. 2 - عن معصية الله. 3 - على أقداره.
والمراد هنا الثالث، وتعريفه: حبسُ النفسِ عن الجزع، وحبسُ اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارحِ عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما.
المسألة الثالثة: للإنسان مع الصبر على الأقدار أربعة أحوال: السخط، الصبر، الرضا، الشكر.
فالصبر واجب، والرضا مستحب، وأرفع منه الشكر، وأما التسخط فمحرم، ودلّ على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«اِثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»
(2)
.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ» وقد ورد في الباب أفعالٌ من التسخط ومما لا يجوز عند المعصية، وهي:
1.
النياحة على الميت، والنَوح أصله التناوح وهو التقابل، ثم استعمل في
(1)
أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
أخرجه مسلم (67).
اجتماع النساء وتقابلهن في البكاء على الميت
(1)
.
ثم صارت النياحة تطلق على رفع الصوت بالبكاء والندب، وهو تعداد محاسن الميت وهذا من التسخط.
2.
ضرب الخدود: وخص الخدّ لكونه الغالب، وإلّا فضربُ بقيةِ الوجه مثله.
3.
شقّ الجيوب: والجيب ما يُفتَحُ من الثوب ليدخل فيه الرأس، وشَقُّه: إكمال فتحه إلى آخره، وهو من علامات التسخط
(2)
.
4.
الدعاء بدعوى الجاهلية: وهو «ندب الميت» قاله ابن تيمية
(3)
، وقال غيره:«هو الدعاء بالويل والثبور» ، وقال ابن القيم:«الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه»
(4)
، قال صاحب التيسير:«والصحيح أن دعوى الجاهلية تعم ذلك كله»
(5)
.
وهذه الأشياء المذكورة هي من التسخط، وقد ورد الذمُّ لها من وجهين:
1) أنَّها من الكفر: أي من خصال الكفر وشُعَبِه، فأطلق الكفرَ على من قامت به خصلة من هاتين الخصلتين، لكن ليس من قامت به شعبةٌ من شعب الكفر
(1)
هدي الساري، لابن حجر (ص: 199).
(2)
نيل الأوطار (7/ 486).
(3)
إقتضاء الصرط المستقيم (ص: 233).
(4)
زاد المعاد (2/ 431).
(5)
تيسير العزيز الحميد (ص: 444).
يصير كافرًا الكفر المطلق، حتى يقوم به حقيقةُ الكفرِ، كما أنَّه ليس من قامت به شعبةٌ من شُعَبِ الإيمان يصيرُ مؤمنًا الإيمان المطلق، حتى يقومَ به أصلُ الإيمان، وفرقٌ بين الكفر المعرف بأل، وذلك المخرج من الملة، كما في قوله:«إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ»
(1)
، وبين الكفر المُنَكَّرِ في الإثبات، فذلك يقتضي التشديد والزجر.
2) أنَّه ليس منا من فعل ذلك: وهي من نصوص الوعيد، ووردت في عدة أحاديث، واختلف الأئمة في تأويلها، وذهب الثوري وأحمد:«إلى كراهة تأويلها، لتكون أبلغ في الزجر وأوقع في النفوس»
(2)
.
المسألة الرابعة: أنَّ المؤمن يرضى عن الله في أقداره، ويصبر على قضائه، ويدعوه لذلك أمور:
1 -
أنَّه يعلم أنَّ ذلك بقدر الله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: بقدره وإرادته الكونية القدرية، وحكمته التامة {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد، الآية (22)].
2 -
أنَّ مَنْ صبر، واستسلم لقضاء الله، عوّضه عما فاته من الدنيا هُدىً في قلبه ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه، ولذا أورد المصنف قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن، الآية (11)]، قال علقمة:«هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ» .
3 -
أنَّ مثل هذه المصائب هي مكفرات ذنوب، ولذا أورد المصنّف في
(1)
أخرجه مسلم (82) من حديث جابر.
(2)
فتح الباري، لابن حجر (3/ 164).
الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ، عَجَّلَ لَهُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا
…
»، فكون التكفير يقع في الدنيا أهون، وقد نقل الشارح عن ابن تيمية قوله:«المصائب نعمة؛ لأنَّها مكفراتٌ للذنوب، وتدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، وتقتضي الإنابةَ إلى الله، والذلَّ له والإعراض عن الخلق»
(1)
.
4 -
أنَّ الله يوقع الابتلاء على من يحبهم، ليرفع درجاتهم، ويختبر صدق محبتهم، ولذا أورد المصنف قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا اِبْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» .
فأفاد الحديثُ أنَّ الرضا بالبلاء عبادة، وأنَّ السخطَ محرم، وأنَّ عاقبة الرضى الثواب، وطمأنينة القلب، وعاقبة السخط الحسرةُ، والتألم لأجل المصيبة، فلا هو كسب الأجر على المصيبة، ولا هو صبر واحتسب فهوَّنها الله عليه.
المسألة الخامسة: ذكر ابن تيمية أنَّ الصبر على الأقدار التي تقع على العبد بغير اختياره من المصائب نوعان:
النوع الأول: نوعٌ لا اختيار للخلق فيه: كالأمراض وغيرها من المصائب لا السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها؛ لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره، وأنَّه لا مدخل للناس فيها، فيصبر، إما اضطرارًا، وإما اختيارًا.
النوع الثاني: ما يحصل بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه، فهذا النوع يصعب الصبر عليه جدًا؛ لأن النفس تستشعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوع إلا الانبياء والصديقون، وكان
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص: 446)، ولم أجد هذا الكلام في المطبوع من كتب ابن تيمية، فلعله بالمعنى.
نبينا عليهم السلام إذا أوذي يقول: «رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»
(1)
، وأخبر عن نبيّ من الأنبياء أنَّه ضربه قومه فجعل يقول:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»
(2)
فجمع في هذه ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون.
وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والهدى والسرور، والأمن والقوة في ذات الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له وزيادة العلم
(3)
.
* خلاصة الباب: أنَّ الصبر على قدر الله وعدم التسخط منه، طاعة من الطاعات، وأنَّ التسخط على قدر الله نقص في التوحيد؛ لأنَّ مدبر الأقدار هو الله، والاعتراض على قدره هو اعتراض على حكمته، ومن وقع في هذا فهو لم يحقق الرضا بالله ربًا.
(1)
أخرجه البخاري (3150)، ومسلم (1062) من حديث ابن مسعود.
(2)
أخرجه البخاري (3477)، ومسلم (1792) من حديث ابن مسعود.
(3)
جامع المسائل، لابن تيمية (1/ 167).
36 - باب ما جاء في الرياء
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف، الآية (110)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «قَالَ تَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» ، رواه مسلم
(1)
.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ مَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيْهِ» رواه أحمد
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (2985).
(2)
أخرجه أحمد (3/ 30)، وابن ماجه (4204)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (1781)، والحاكم (4/ 329)، والبيهقي في الشعب (6832)، وفي إسناده ضعف، تفرد به من تُكُلِّمَ فيه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2607).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف. الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى. الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء. السادسة: أنه فسر ذلك بأن المرء يصلِّي لله، لكن يزينها لما يرى من نظر الرجل إليه.
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب فيما يتعلق بالرياء، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة الباب: لمّا كان العمل والعبادة إنّما يقصد بها وجه الله، كان من التفت قلبُه لغيره، وقَصد بالعبادة وجه غيره، واقعًا في الشرك، وهو ما يسمى بالرياء، ولذا نبه المصنّف على هذا في كتاب التوحيد.
المسألة الثانية: تعريف الرياء وحكمه وبواعثه:
الرياء: مصدر راءى يرائي، أي: عمل عملًا ليراه الناس، فهو فعل الخير لإرادة الغير، قال ابن حجر:«الرياء إظهار العبادة؛ لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها»
(1)
.
والفرق بين الرياء وبين السمعة: أنَّ الرياء لأجل رؤية الناس، والسمعة هي العمل لإسماع الناس.
والرياء من أخطر أدواء القلوب، وباعثه في النفس ثلاثة أشياء، ذكرها ابن قدامة، وذكرها الحارث المحاسبي حين قال: «فالذي يبعث على الرياء وقبول خطرات العدو هذه الثلاث خِلال: حبُّ المحمدة، وخوفُ المذمّة والضعة، والطمعُ للدنيا، ولما في أيدي الناس جميعًا، ويجمع ذلك كلّه: حبُّ المحمدة وخوفُ المذمة؛ لأنَّ العبد قد يعلم أنَّه لا ينال ما عند الناس بطاعة ربّه إلّا أن يحمدوه عليها فتبذل له أموالهم، وأنَّه إنما جزع من الذم
(1)
فتح الباري (11/ 336).
للمحمدة كراهية أن يزول عنه حمدهم، فتؤول هذه الخلال الثلاث إلى حبّ المحمدة، إلّا أنَّها تشعبت وتفرقت على أقدارِ الناس وقدرِ مراتبهم»
(1)
.
وأما حكمه: فهو شركٌ، ثم قد يكون شركًا أكبر إذا كان القصدُ لغير الله خالصًا، وليس في قلبه إرادة الله أبدًا، ويكون أصغر إذا قصد الله وغير الله.
وقد ورد النهي عنه في نصوصٍ أشار لها المؤلف، وهي:
(1)
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، فذكر الله أنَّ قبول العمل يكون بأن لا يشرك به أحدًا، وهذا ميزان الأعمال الباطنة، ويكون صالحًا، وهذا ميزان الأعمال الظاهرة.
(2)
قوله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ تَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» .
وفيه أنَّ الله يردّ عمل من أشرك في القصد معه غيره، وقد ورد في الحديث:«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشركُ الأَصْغَرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الشركُ الأَصْغَرُ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ يُجَازِي الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إلى الَّذِينَ كُنْتُم تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟»
(2)
.
(1)
الرعاية لحقوق الله، للحارث المحاسبي (168).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 428)، وابن أبي شيبة (2/ 481)، وابن خزيمة (937)، والطبراني في الكبير (4/ 253)، والبيهقي في الشعب (6412)، قال الهيثمي في المجمع (1/ 102): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1555).
(3)
وسمّاه خفيًا؛ لأنَّه عملُ قلبٍ لا يعلمه إلّا الله، ولأنّ صاحبه يُظهِرُ أنّ عملَه لله، وقد قَصد به غيره، أو أشركه فيه بتزيين صلاته لأجله.
(4)
(1)
، ولفظ الترمذي:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(2)
.
فلأجل رياءهم أحبط الله أعمالهم مع أنَّها أشدَّ الأعمال: الجهاد والإنفاق والعلم.
(1)
أخرجه مسلم (1905).
(2)
سنن الترمذي (2382)، وقال: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
المسألة الثالثة: ذكر بعض أهل العلم أن للرياء أنواعًا:
1) الرياءُ البدني: وهو أنَّ يُظهِرُ المرائي النُّحُولَ والصفار على جسمه؛ ليوهم الناس شدّة اجتهاده في العبادة، وخوفَه من الله والدار الآخرة.
2) الرياءُ من جهة اللباس والزي: وهو أنَّ يلبس على خلاف ما يلبسه الناس من الثياب، التي يزعم أنَّه لا يلبسها إلّا العلماء وأهل الله وخاصته؛ لأجل أن يقال: إنَّه عالمٌ أو عابدٌ أو زاهدٌ.
3) الرياء بالقول: وهو الرياء بالنطق والكلام، كإظهار أنَّه حافظٌ للحديث، وإظهارِ الذكر لله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام جمع من الناس، ومنه رياء أهل الوعظ والإرشاد الذين يُظهِرون للناس أنَّهم يحفظون الأخبار والآثار؛ لأجل مجاراة العلماء وإظهار غزارة العلم، ومنه خفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن؛ ليظهر للناس الحزن والخوف ونحو ذلك.
4 -
الرياء بالعمل: ومنه المراءاةُ بطول الصلاة والقيام والركوع والسجود وإظهار الخشوع، والمراءاة بكثرة الصدقة والحج وغيرها من الأعمال التي يراها الناس ويحمدونه عليها.
5 -
الرياء بكثرة الأصحاب والزوار: وهذا كالذي يتكلّف بدعوة العلماء والعبّاد؛ ليراه الناس ويقولوا: إنّ أهل العلم والدِّين يتردّدون عليه ويزورونه، فيحمدونه لأجل ذلك.
كلّ هذه الأنواع يقع فيها الرياء، ولذلك يجب على المسلم البعد عن الرياء والحذر منه، والحرص على إخلاص العمل لله عز وجل؛ لتكون أعماله مقبولة عند الله.
المسألة الرابعة: للعمل مع الرياء أحوال أشار إليها ابن رجب بما خلاصته:
1 -
عملُ المرائي الذي دخله الرياء من أساسه، بحيث أنَّه لم يعمل العملَ إلّا من أجل الناس، وهو ما يسمى بالرياء المحض، فهذا العملُ باطلٌ مردودٌ على صاحبه، وهو كحال المنافقين، قال تعالى:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء، الآية (143)]، وهذا لا يكاد يصدر من مسلم.
2 -
أن يكون العملُ لله ويشاركه الرياء:
أ. فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، قال ابن القيم عن هذا النوع:«أن يبتدئها -أي: العبادة- مُريدًا بها الله والناس، فيريد أداء فرضه، والجزاءَ والشكورَ من الناس، وهذا كمن يصلي بالأُجرة، فهو لو لم يأخذ الأجرة صلّى، ولكن يُصلي لله وللأجرة، وكمن يحجّ ليُسقِط الفرضَ عنه، ويقال: فلان حجّ، أو يعطي الزكاة كذلك، فهذا لا يُقبل منه العمل»
(1)
.
ب- إن كان أصلُه لله ثم طرأ عليه نيّة الرياء، قال ابن رجب:«فإن كان خاطرًا، ثم دفعه فلا يضره، بغير خلاف»
(2)
.
وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟
* في ذلك خلافٌ بين العلماء، فمنهم من يرى أن العمل إذا كان أوله مرتبطًا بآخره بطل، وإن كان غير متصل أُجِرَ على أوله.
ومنهم من يرى أنَّه يثاب، وأنَّه يجازى بنيته الأولى.
(1)
إعلام الموقعين (2/ 125).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 83).
(1)
.
* فأما إذا عمل العمل لله خالصًا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضله ورحمته واستبشر بذلك، لم يضره ذلك، وفي هذا المعنى حديث أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»
(2)
.
المسألة الخامسة: يجب على الإنسان أن يسعى لجعل أعماله لله، وينقّي قلبه من الرياء والسمعة، ومما يعين على ذلك عدة أمور:
1.
أن يدافع بواعث الرياء، وهي ثلاثة -سبق ذكرها- حب المحمدة-، والفرار من ألم الذم والنقد، والطمع فيما بأيدي الناس.
فجاهد نفسك على مدافعة هذه الأشياء من القلب، باستشعار أنَّ مدح الناس وذمهم لا يغير من منزلتك عند الله شيئًا، وإنَّما ترتفع عند الله أو تنزل بإخلاصك أو رياءك، وبأن تستشعر أنَّ الخلق إلى زوال قريب ماضون، فكم كان في الأرض من أقوام أرادوا بأعمالهم مدح الناس وثنائهم، فأثنى الناس عليهم، والآن قد مضى المادح والممدوح، ولا يبقى للعبد في قبره إلّا ما أخلص لله من عمله!
وبأن يستشعر أنَّ ما في أيدي الناس هو من الله، فهو الرازق لا سواه،
(1)
إعلام الموقعين (2/ 124).
(2)
أخرجه مسلم (2642).
فعلّق القلب بالله ولا تذلّ لأحد سواه.
2.
أن يُعَوِّدَ نفسه إخفاء العبادات، كما يخفي السيئات، بأن يغلق الأبواب، ويجاهد على عدم إظهارها للناس، كي يعوّد نفسه الإخلاص، ويروّضها أن لا تطلب المدح من المخلوق
(1)
.
3.
أن يتذكر أنَّ طلب المحمدة والرياء، قد يبطل العمل فيصير من أخسر الناس عملًا، فلا هو كسب بطاعته الثواب، ولا هو ارتاح من عناء الطاعة.
المسألة السادسة: قد يتعبد الإنسان لله بعبادة أكثر مما يفعله في العادة حين يكون مع الناس، وذلك وقع منه لا لأجل طلب المدح، وإنما لأنَّه نشط للخير مع الجماعة.
• مثاله: رجلٌ له عادة أن يوتر بثلاث ركعات، وحين كان مع أصحابه ورأى نشاطهم زاد من عبادته، أو أنَّه صام معهم حين صاموا، فهل هذا من الرياء؟
* العبرة بما في القلب، فإن كان قصده طلب المدح فذلك رياء، وإن كان قد نشط حين رآهم وليس لأجل حبّ المدح فهو جائز، وذلك لأنَّ الإنسان قد يغلبه الشيطان على نفسه، فإن كان مع الجماعة نشط.
قال ابن قدامة: «ففي مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصدّ عن الطاعة، ويقول: إذا عملت على غير عادتك كنت مرائيًا، فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وإنما ينبغي أن ينظر إلى قصده الباطن، ولا يلتفت إلى وسواس الشيطان.
ويختبر أمره بأن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه، فإن رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله، وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم رياءً، وقس على
(1)
انظر: مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة (ص 241).
هذا»
(1)
.
* خلاصة الباب: أنَّ العبادة لله، فلا يجوز أن يقصد بها العبد غير وجهه سبحانه، ولا أن يطلب من وراءها مدح الناس وثنائهم، وأن يحذر المسلم من الرياء فهو من أخطر الأدواء على العمل الصالح.
(1)
مختصر منهاج القاصدين (245).
37 - باب من الشرك: إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود، الآيات (15 - 16)].
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِي، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنْ اِسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2887).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة. الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم: عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط.
الخامسة: قوله: «تعس وانتكس» . السادسة: قوله: «وإذا شيك فلا انتقش» . السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مراد المصنّف من الترجمة بيانُ أمرين:
1 -
أنَّ أداء العبادة لأجل نيل حظٍّ من الدنيا، شركٌ ينافي كمال التوحيد الواجب.
2 -
وأنَّ الواجب على الإنسان أن يخلص أعماله لله، ولا يخلط ذلك بشيء من أمور الدنيا، وذلك لأنَّ العبادة إنّما طلبها الله، وهو الذي يجازي ويحاسب، ويعلم ما في الضمائر، فمن الغبن أن ينصب المرء في العبادة، وينوي بذلك دنيا زائلة.
قال سفيان الثوري: «إنَّ أقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة»
(1)
.
فإن قيل: فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟
* فالجواب: بينهما عموم وخصوص، فيجتمعان في أنَّ كلًا منهما عملٌ لغير الله، ويختلفان في قصدهما، فذاك أراد الثناء، وهذا أراد الدنيا، وكلاهما خاسر، لكن الثاني أهون.
المسألة الثانية: اعلم أنَّ الأصل أنَّ المرء تكون أعماله لله، لا يريد بها أمرًا من أمور الدنيا، وقد جاء ذم من عمل الطاعة وأراد بها أمرًا دنيويًا، في نصوصٍ ذكر المصنف منها آيةً وحديثًا.
* أما الآية: فقوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 54)، والبيهقي في الشعب (6538).
وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}، والمعنى: أنَّ من أرادوا الدنيا، فإننا نعطيهم ونوفّر لهم ثواب أَعْمَالِهم في دنياهم، في الصحة والسرور في المال والأهل والولد، وَهُمْ لا يُنقَصون.
وقد فُسِّرت الآيةُ بتفسيراتٍ، لعل من أحسنها تفسير قتادة رحمه الله حيث قال:«من كانت الدنيا همّه وطِلبته ونيّته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يُفضِي إلى الآخرة وليس له حسنةٌ يُعطى بها جزاءً، وأما المؤمنُ فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة»
(1)
.
وهذه الآية وإن كانت في الكفار، إلّا أنَّه لما كان من يعمل لغير الله، وإنما للدنيا قد شاركهم في القصد لغير الله صار حكمهما واحدًا
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (12/ 348)، وابن أبي حاتم في التفسير (2/ 358).
(2)
وقد سئل الإمام محمد بن عبد الوهاب عن الآية، فذكر أنها يدخل فيها أنواع مما يفعله الناس، وخلاصة كلامه:
1 -
العمل الصالح من صلاة وصدقة وصلة وإحسان وترك ظلم ونحو ذلك، لكن لا يريد به ثواب الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همّ له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا قد يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، وهذا النوع ذكره ابن عباس.
2 -
وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة، وهذا ورد في الباب الذي قبله.
3 -
أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالًا، مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر- أيضًا- هذا النوع في تفسير هذه الآية، وكما يتعلم الرجل القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد فقط، لا لأجل الله.
4 -
أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك، لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، إذ أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام، وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع- أيضًا- قد ذكر في هذه الآية عن أنس وغيره.
* وأما الحديث: فقوله: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ
…
».
وعبدُ الدينار: طالِبُه الحريصُ على جمعه، القائمُ على حفظه، لا يرضى ولا يغضب ولا يحبّ ولا يُبغِض إلّا لأجله، سمّاه عبدًا له لشدّة شغفه وحرصه عليه، ولكونه هو المقصود بعمله، وكلُّ من توجه بقصده لغير الله، فقد جعله شريكًا له في عبوديته.
ووصفهُ بأنَّه عبدٌ ولم يقل مالك ولا جامع المال؛ لأنَّه منغمس في محبة الدنيا وشهواتها.
فدعى النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه بأن ينتكس، وإذا أصيب بشوكة فلا أخرجها، وقد ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث علامة من يريد الدنيا فقط قال صلى الله عليه وسلم:«إِنْ أُعْطِيَ رَضِي، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ» .
فمن كانت هذه حاله، فإنَّه يستحق أن يُدعى عليه بما يسوءه في العواقب.
المسألة الثالثة: الأعمال الصالحة إذا وقع معها نيّةُ أمرٍ دنيوي لا تخلو من حالات ثلاث:
أولًا: مَنْ قصد الدنيا فقط، وليس في قلبه شيء من قصدِ التعبّد؛ فحكمه
أن عمله حابط، وليس له من الأجر شيء، وقد وقع في الشرك.
* والدليل: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بَشِّر هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ، وَالنَّصر، وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصيبٌ»
(1)
.
ولأنَّ الله أخبر عن حبوط عمله كما في الآية: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} [هود، الآية (16)].
وقال أيضًا: «من كانت الدنيا مُرادَه ولها يعمل في غاية سعيه، لم يكن له في الأخرة نصيب»
(2)
.
• مثاله: من يصلي أو يصوم، أو يحج، وليس في قلبه شيء من التعبد، بل يريد بذلك أمرًا دنيويًا من مال أو منصب أو نحوه.
لكن قال العلماء: «هذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن، فإنَّ
(1)
أخرجه أحمد (5/ 134)، والحاكم (7862)، والبيهقي في شعب الإيمان (6833 - 6834)، وفي الدلائل (6/ 317)، والبغوي في شرح السنة (4145)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2825).
(2)
عدة الصابرين (137).
المؤمن ولو كان ضعيف الإيمان، لابد أن يريد الله والدار الآخرة».
ثانيًا: من قصد بالعمل الصالح وجه الله، وقصد الدنيا، وهو: المُخَلِّط.
• وله أمثلة: منها من جاهد لإعلاء كلمة الله، ولنيل الغنيمة، ومن توَّلى الأذان للأجر، وللراتب، أو درّس العلوم الشرعية يريد العلم والفائدة، ويريد المال، ونحو ذلك؛ فهذا له حالات ثلاث:
أ- أن يكون الغالبُ عليه إرادة وجه الله، ويريد الدنيا في نفس العمل، فيجوز، ولكن يكتب له من الأجر بقدر ما نوى.
* والدليل على الجواز:
1.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة، الآية (198)].
2.
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: «مَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سريَّةٍ تَغْزُو، فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ إِلاَّ كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورِهِمْ، وَمَا مِنْ غَازِيَةٍ أَوْ سريَّةٍ تُخْفِقُ وَتُصَابُ، إِلاَّ تَمَّ أُجُورُهُمْ»
(1)
.
ب- أن يتساوى القصدان: فهذا ينقص أجرُه بقدرِ ما نوى من الدنيا.
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (1906).
(2)
القول السديد (ص: 132).
ج- أن يكون الغالب عليه إرادة الدنيا، فهذا محرم، وعدّه بعض العلماء من الشرك الأصغر.
ثالثًا: من عمل العمل الصالح، وقصد به وجه الله وحده، وأخذ في مقابل عمله الديني جُعلًا ماليًا؛ كالمجاهد الذي يترتب على جهاده غنيمةٌ أو رَزقٌ، وكما لو أخذ من الأوقاف التي تُجعَل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها، فهذا لا تثريب عليه، ولا يضرّ أخذه هذا المال في إيمانه وتوحيده، لكونه لم يُرِد بعمله الدنيا، وإنّما أراد الدين، وقصد أن يكون ما حصل له معينًا له على قيام الدين.
* خلاصة الباب: أنَّ العمل الصالح يجب أن يراد به وجه الله، ولا يقصد به شيئًا من أمور الدنيا، فالدنيا كلها أحقر وأقلّ من أن تنويها في عبادةٍ تتقرب بها لله.
38 - باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ، أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟!» .
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (3095)، والطبري في التفسير (14/ 209)، والبيهقي في الكبرى (10/ 116) وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث، وحسنه ابن تيمية في الفتاوى (7/ 67)، والألباني في غاية المرام (ص: 20).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الأحوال إلى أن عُبِدَ من دون الله من ليس من الصالحين، وعُبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب للكلام على طاعة العلماء والأمراء، أحكامها، وأقسامها، والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة الباب للتوحيد:
هذا الباب من مقتضى التوحيد، إذ أنَّه معلوم أنَّ العبادة تكون بطاعة الله، فإذا عُلِم أنَّ الطاعة بامتثال أمر الله هي العبادة، نبّه المصنف بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الله بهذه الطاعة التي فيها تحليل أو تحريم، وأنَّه لا يطاع في هذا الأمر سواه إلّا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله.
المسألة الثانية: يدخل في الباب طاعة كل مخلوق في تحريم حلال أو تحليل حرام، وإنما ذكر في الباب العلماء والأمراء؛ لأنَّهم أولى من يطاع في مثل هذا، إذ هم أولوا الأمر، وحث الله على طاعتهم بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء، الآية (59)]. لكن طاعتهم تبعًا لطاعة الله.
فلو أطاع أحدٌ عالم ضلالة، أو أميرًا على تحليل محرمٍ أو تحريم حلال،
فهو داخل في هذا الباب.
المسألة الثالثة: من أطاع هؤلاء في التحليل والتحريم فقد اتخذهم أربابًا، وهذا يتبين من وجهين:
1 -
لأنَّه عدّهم مُشَرِّعين مع الله، والتشريعُ حقٌّ لله سبحانه.
2 -
لأنَّه قدّم طاعتهم على طاعة الله.
وهذا الأمرُ له أمثلة، ومنها: أنَّ بعض الناسِ يطيع علماء السوء، ويقدم أمرهم على ما ورد عن الرسول.
• ومن ذلك: أنَّ من الناس من يسمع من النصوص الدالة على تحريم تعظيم القبور ونحو ذلك، ثم هو يخالف ذلك؛ لأجل هوى في نفسه، أو يقول: إنَّ علماءنا يفعلون هذا، وهذا خللٌ كبير، وجِماعُ هذا: أن يطيعهم في تحليل حرامٍ وعكسه.
المسألة الرابعة: ساق المصنف للدلالة على الترجمة نصوصًا:
1) قول ابن عباس رضي الله عنهما: «يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ، أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟!» .
وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف ليس له وجود في كتب السنة، ولعله ساقه بالمعنى، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال:«تَمَتَّعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سيهْلِكُونَ، أَقُولُ: قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَيَقُولُون: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (1/ 337)، وابن حزم في حجة الوداع (391)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2378)، والضياء في المختارة (10/ 331).
وفي لفظٍ ذكره ابن عبد البر فقال ابن عباس: «وَاللَّهِ مَا أَرَاكُمْ مُنْتَهِينَ حَتَّى يُعَذَّبَكُمُ اللَّهُ، نُحَدِّثُكُمْ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُونَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»
(1)
.
ومراد ابن عباس: أنَّ النص لا يعارض بقول أحدٍ كائنًا من كان، والشاهد: مقالة ابن عباس، وإلّا فمسألة التمتع في الحج فيها خلاف.
فإذا كان هذا قول ابن عباس في الخليفتين الراشدين، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دونهم؟! قال الشافعي:«أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ»
(2)
.
(3)
.
2) استشهد بإنكار الإمام أحمد على أقوامٍ ثبت عندهم الحديث بسند صحيح، ثم هم يخالفونه إلى قول الثوري أو غيره مما يكون فيه مخالفة للحديث، إما لعدم علم الإمام به أو عدم ثبوته عندهم أو لغير ذلك، فيأتي من يأتي من الأتباع، ويوافق هذا الإمام، مع أنَّه يرى نصًا وحديثًا صريحًا يخالف مذهبه، فالإمام معذور إذا لم يبلغه أو لم يصح عنده الخبر، إنّما الإشكال فيمن صحّ عنده ثم خالفه لقول بشر، وإذا نوقش في هذا ربّما قال:
(1)
جامع بيان العلم (2377).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 6).
(3)
زاد المعاد (2/ 196).
لم يكن هذا الحديثُ ليخفى على الإمام، وإنما له توجيه، فربما أنَّه منسوخ أو متأول أو غير ذلك، وقال قائلهم: كل حديثٍ لم يأخذ به إمامنا، فهو مؤول أو منسوخ.
فهؤلاء يُخشى عليهم من أمرين:
1.
الفتنة، وهي الشرك كما ورد في الآية، ويكون هذا بأن يتدرج بهم الأمر حتى يقعوا فيه.
2.
أن يصيبهم عذاب أليم؛ لمخالفتهم أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتقديم قول أحد من الأمة على أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وورد عن الأئمة الأربعة وغيرهم أنَّهم نهوا عن تقليدهم إذا خالف قولهم الدليل والآية، وعن بعضهم: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي، وقد قال أحمد:«لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي، وخُذ من حيث أخذوا»
(1)
.
3) حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنَّ الله ذكر أنَّ اليهود والنصارى قد اتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، وهذا الأمر يحتاج لبيان، وبيانه في:
المسألة الخامسة: طاعة العلماء والكبراء في تحليل الحرام ثلاث صور:
1.
أن يعلموا أنَّهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ، اتّباعا لرؤسائهم، مع علمهم بأنَّهم خالفوا دين الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا كفر، وقد جعلوهم أربابًا مع الله، وإن لم يكونوا يصلّون لهم ويسجدون.
(1)
انظر: أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، للألباني (1/ 24) للأهمية، فقد نقل عن الأئمة الأربعة أقوالهم في تقديم الحديث على قولهم، رحمهم الله جميعًا.
2.
أن يكون اعتقادُهم وإيمانُهم بتحريمِ الحرامِ وتحليل الحلال ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلمُ ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنَّها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.
3.
أن يتابعوهم جهلًا فيظنّوا أن ذلك حكم الله، فهذا:
أ- إن لم يمكنه التعلم فلا شيء عليه؛ لحديث: «مَنْ أُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَانَ إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ»
(1)
.
ب- وإن أمكنه معرفة الحق بنفسه، فهذا مفرط آثم.
* خلاصة الباب: أنَّ التشريعَ والأمرَ كلَّه لله، فهو المطاعُ بإطلاق، وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عداه فطاعتهم مقيدة بحدود الشرع، مع اعتقادنا أنَّهم غير معصومين، وأن الميزان هو الشرع.
(1)
أخرجه أحمد (2/ 321)، والدارمي (159)، والبخاري في الأدب المفرد (259)، وأبو داود (3657)، وابن ماجه (53)، والطحاوي في شرح المشكل (410)، والحاكم (350)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6068).
39 - باب قول الله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا
(60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)} [النساء، الآية (60 - 62)].
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة، الآية (11)].
(1)
.
وقيل: «نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافعُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (8/ 508)، وابن المنذر في التفسير (1942)، والواحدي في «أسباب النزول» (330).
القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله»
(1)
.
وقوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف، الآية (56)].
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة، الآية (50)].
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»
(2)
(3)
.
(الشرح)
هذا الباب في الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله، وبيانِ
(1)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول (331) من طريق الكلبي عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم (3/ 991)، وابن المنذر (1943) عن مجاهد مرسلًا نحوه.
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (15)، وابن بطة في الإبانة (279)، والبيهقي في المدخل (209)، والبغوي في شرح السنة (1/ 213)، وسيأتي الحكم عليه في الشرح.
(3)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء، وما فيها من الإعانة على فَهْم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة، الآية (11)].
الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف، الآية (56)].
الرابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ بَيْنَ [المائدة، الآية (50)]. الخامسة: ما قاله الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب. السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
أنَّ التحاكم يكون إلى رسول الله، وذلك من لوازم شهادة أنَّه رسول الله، والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة الباب للتوحيد:
أ- إمّا أن يقال: أنَّ من مقتضى التوحيدِ التحاكمَ إلى شرع الله، والتحاكمُ إلى غيرِ شرعه سبحانه قدحٌ في التوحيد.
ب- أو يقال: إنَّ التوحيد مبني على الشهادتين، وما مضى من الأبواب هو في معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فنبه في هذا الباب على شيء مما يتعلق بشهادة «أنَّ محمدًا رسول الله» ، وأنَّها تتضمن تحكيم شرعه وطاعته.
المسألة الثانية: هذا الباب هو فيما يتعلق بالتحاكم إلى الله ورسوله، والتحاكم إليهما هو التحاكم إلى الشرع كما لا يخفى، وخلاف ذلك التحاكم إلى غير الشرع.
واعلم أنَّ الكلام في الحكم بغير ما أنزل الله يتناول ثلاثة أطراف:
1 -
المشرِّع. 2 - الحاكم بذلك التشريع. 3 - المتحاكمون إليه.
أولًا: المشرِّع: ويراد به من شرَّع القوانين وخالف الشرع: فمن شرّع أمرًا خلاف الشرع فقد كفر؛ لأنَّه ناقض الشرع وخالفه، ولأن التشريع حقٌ إلهيٌ، فمن نازع الله فيه فقد كفر.
ثانيًا: الحاكم بغير ما أنزل الله: فهذا له حالتان:
1.
أن يكون هذا الأمرُ منه على الدوام، فهو يحكم بغير شرع الله، كالذي يأتي بالقوانين ويجعلها محلّ الحُكمِ بما أنزل الله، فالمقرر عند أكثر العلماء أنَّ هذا كفرٌ ورِدَّةٌ، وأنَّ حكمَه حكم من سنَّ القوانين، بل حُكِيَ الإجماعُ على
هذا، قال ابن كثير معلّقًا على قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} : «ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَمِ المشتملِ على كل خير، الناهي عن كل شرٍّ وعدل، إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستندٍ من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان، الذي وضع لهم اليَساق -وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه-، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافرٌ يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله»
(1)
.
(2)
.
وهذا الأمر كان موجودًا في الجزيرة في زمن دعوة المجدد، وكانوا يسمون ذلك: السُلُوم، أو سوالف البادية، أو شرع قبيلة كذا، ويتحاكمون إليها، وقد أنكر العلماء هذا الأمر، قال ابن سحمان: «فإن كثيرًا من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم، ويسمون ذلك
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 131).
(2)
أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 259).
الحق بشرع الرفاقة، كقولهم شرع عجمان، وشرع قحطان، وغير ذلك، وهذا هو الطاغوت بعينه، الذي أمر الله باجتنابه»
(1)
.
2.
أن يكون ذلك في قضيةٍ أو قضايا قليلةٍ وليست دائمة، وهو يعلم أنَّه عاصٍ بتحكيم غير شرع الله، إنما ارتكبه لهوى أو ظلمٍ ونحوه، فهذا لا يَكفُر، بل حكمه أنَّه مرتكبٌ للذنب، قال ابن القيم:«إن اعتقد وجوبَ الحكمِ بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانًا، مع اعترافه بأنَّه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر»
(2)
، فيكون كفرًا أصغر بقيود ثلاثة:
1 -
أن يكون في قضية أو قضايا قليلة.
2 -
أن يعلم أنَّه مخطئٌ عاصٍ مستحقٌ للعقوبة.
3 -
أن يكون الدافع لذلك الهوى والعدوان ونحوهما، لا الاستخفاف أو الاستحلال، أو اعتقاد أنَّ غيرَ شرعِ الله أفضل أو مساوٍ، أو يجوز الحكم به.
ثالثًا: المتحاكم لغير شرع الله: فمن تحاكم إلى من يحكِّمُ غير شرع الله له أحوال:
1) أن يكون مُجبرًا ملزمًا بذلك، فليس عليه شيء، كمن رُفع به عند محكمة تحكم بالقوانين.
2) أن يذهب باختياره ورغبته، ويرى أن الحكم بذلك جائز سائغ، فهذا كفر.
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 503).
(2)
مدارج السالكين (1/ 346).
3) أن يرى أنَّ الحكم بذلك لا يجوز، ومع هذا يذهب برغبته واختياره، فهذا ليس بكفر، لكنه على خطر عظيم، ومن هذا من يذهب ويرفع عند محكمة تحكم بالقوانين، وهو يرى أنه عاصٍ بذلك.
ويدخل في التحاكم إلى القوانين التحاكم إلى كل جهة وإدارةٍ شرعت أحكامًا مخالفة لشرع الله.
والجامع لذلك: هو أنَّ من شرع أمرًا مخالفًا للشرع فهو من هذا، وما لم يدخل فالأصل أنَّ لولي الأمر أن يجعل من الأمور التي لا تخالف الشرع وتضبط الناس.
ومن صور التحاكم إلى غير شرع الله تعالى ما يلي:
1.
ما وقع في زمن التتار، كما ذكر ابن كثير في تفسيره
(1)
، حيث إنَّهم حكموا بكتاب ودستور صنعه جنكيز خان، ويسمى (الياسق) أو (الياسه) وفيه مجموعة من أحكامٍ اقتبسه من شرائع شتى، وفيه أحكام أخذها عن مجرد نظره، وصار في بنيه شرعًا، يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة.
2.
التحاكم إلى الهيئات الدولية التي تحكم بقوانين البشر، وتخالف شرع الله.
3.
التحاكم إلى محاكم الكفار في بلادهم، وهو غير ملزم بذلك، ويستطيع التحاكم لغيرهم.
فأما إن اضطر للتحاكم لمحاكم البلاد الكافرة، فيجوز- والله أعلم- بقيود ثلاثة:
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 131).
1) كراهة التحاكم إليهم.
2) أن لا يأخذ المتحاكم إليهم أكثر من حقه.
3) أن يكون ما يطالب به من حقٍ تقرّه الشريعة.
وحينها لا يُعتبر هذا من التحاكم إلى الطاغوت؛ لأنَّ المتقدّم إنما يأخذ حقّه الذي أقرّته الشريعة فقط، وهذا من شريعة الله، ومحكمةُ البلد وسيلةٌ لتنفيذ ما أقرّته الشريعة، وهو مضطر لهم.
4.
العمل ببعض الأنظمة واللوائح التي فيها مخالفة لشرع الله، كما يحصل في بعض الجهات في بعض الدول أن تسنّ قوانين وأنظمة مخالفة لشرع الله، فمن علم بها فليس له التحاكم إليها؛ لأنَّها مخالفة لشرع الله تعالى.
المسألة الثالثة: وردت نصوص عديدة تدل على وجوب التحاكم إلى شرع الله وحكمه، وساق المصنف بعضًا منها:
1) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} وقد ذكر المؤلف للآية سببي نزول:
1.
ما ورد عن الشعبي في تحاكم يهودي ومنافق، وطلبِ المنافق من اليهودي التحاكم إلى اليهود؛ لأنَّهم يأخذون الرشوة.
2.
أنَّها نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما:«نترافع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله» .
وهي نماذجُ تعطي صورًا للتحاكم الذي ذمّه الله، ولذا قال ابن كثير بعد ذكر سبب النزول:«والآيةُ أعمُّ من ذلك كله، فإنَّها ذامّةٌ لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ها هنا»
(1)
.
واعلم أنَّ الآية دليلٌ على كفر التحاكم لغير شرع الله، فالله تعجّب من زعمهم أنهم مؤمنون، مع أنهم يحكمون بغير شرع الله، وما ذلك إلّا لأنَّ دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب.
ثم أُتْبِعت هذه الآية بآية في الموضوع، وهي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . ثم علقه وقال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، وفيها:
1 -
أنَّه لا يجوز للمسلم التحاكم إلى غير الكتاب والسنة.
2 -
أنَّه عدّ التحاكم إليه من تحقيق الإيمان، فلا يتمّ إيمان امرئٍ إلّا بذلك.
2) قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء، الآية (65)].
وسبب نزولها قصة الأنصاري مع الزبير رضي الله عنه، وقيل: بل نزلت في اليهودي والمنافق الذين تحاكما إلى الطاغوت، ورجح الطبري الثاني
(2)
.
وعلى القول بأنَّه في قصة الزبير -وهو ثابت عند البخاري
(3)
-، فإذا كان
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 346).
(2)
تفسير الطبري (8/ 524).
(3)
صحيح البخاري (2708).
هذا الأمر نزل في مخاصمةٍ في سيل ماء، فما بالك بمن لم يرض بقضاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وحكمه في أصول الدين وفروعه، وصدَّ الناس عن ذلك.
قال ابن القيم: «فأقسم سبحانه بأجلِّ مُقسَمٍ به -وهو نفسه عز وجل على أنّه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يُحَكِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع، في جميع أبواب الدين، فإنّ لفظة «ما» من صيغ العموم .. ولم يقتصر على هذا حتى ضمّ إليه انشراح صدورهم بحكمه، حيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا -وهو الضيق والحَصَر- من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم، لا أنّهم يأخدونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإنَّ هذا مناف للإيمان، بل لابدّ أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر.
ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضمّ إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فذكر الفعل مؤكدًا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع له والإنقياد لما حكم به طوعًا ورضًا، وتسليمًا لا قهرًا ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحبّ شئ إليه، يعلم أنَّ سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بأنه أولى به من نفسه وأبرّ به منها وأقدر على تخليصها، فمتى علم العبد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلم له، وسلم إليه، انقادت له كل علّة في قلبه، ورأى أن لا سعادة له إلّا بهذا التسليم والانقياد»
(1)
.
3) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» .
(1)
الرسالة التبوكية (ص: 25).
والحديث أخرجه البيهقي وأبو الشيخ في كتاب الحجة، وأبو نعيم في الأربعين من رواية نعيم بن حماد، عن عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو به، وصححه النووي رحمه الله.
ولكن ضعفه طائفة من أهل العلم، منهم ابن عساكر
(1)
، وابن رجب
(2)
، حيث قال: تصحيح هذا الحديث بعيد جدًا، من وجوه منها:
1 -
أنَّه تفرد به نعيم بن حماد المروزي، وقد ضعفه طائفة وقالوا:«عنده مناكير» ، وقال ابن معين:«ليس بشيء ولكنه صاحب سنة» .
2 -
أنَّه اختلف فيه على نُعيم.
3 -
وفي إسناد عقبة بن أوس متكلم في روايته عن ابن عمرو.
فالصواب ضعف الحديث، لكن مع هذا فمعناه صحيح، وأصله في القرآن
(3)
.
والشاهد في الحديث: أنَّ العبد لا يكون مؤمنًا كامل الإيمان الواجب، حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه، ولا يجد في نفسه حرجًا من أوامر الدين، ويعتقد أن المشرع هو الله.
المسألة الرابعة: قد عدّ الله التحاكم إلى غيره إفسادًا في الأرض، وتحاكمًا إلى حكم الجاهلية، وساق المصنف في هذا آيتين:
(1)
طرق الأربعين، لأبي القاسم بن عساكر (2/ 59).
(2)
جامع العلوم والحكم (2/ 395).
(3)
انظر: تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ (ص: 505).
1.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
2.
قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} .
ووجه الشاهد من الآيتين: أنَّ التحاكم إلى غير الله ورسوله هو من أعمال المنافقين، وهو من أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح للأرض إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله وهو سبيل المؤمنين.
واعلم أنَّ الإفساد المعنوي الذي يحصل بتحكيم غير شرع الله أعظمُ من الإفسادِ الحسيّ الذي يترتب عليه الإيذاء للناس في دنياهم، بل لا مقارنة بينهما.
المسألة الخامسة: التحاكم إلى غير شرع الله هو من اتباع أهل الجاهلية في ضلالهم، وقد ساق المصنف قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة، الآية (50)].
وخلاصة القول في تفسيرها: أنَّ الله أنكر على كل من خرج عن حكم الله، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، وترك الحكم بشرع الله في كل القضايا كفر بالله سبحانه كما تقدم.
المسألة السادسة: أورد المؤلّف في الباب ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قتل من أراد التحاكم إلى غيره، وهذا الأثر أتى به الشيخ بصيغة التمريض (قيل)، وقد ذكره الواحدي في أسباب النزول معلقًا عن الكلبي عن أبي صالح، وهذا مع تعليقه إسنادٌ ضعيف، لكن ورد له شاهد ذكره ابن تيمية في الصارم المسلول، ومع هذا فهو ضعيف؛ لأنَّه مرسل، ومن رواية ابن لهيعة
(1)
،
(1)
الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية (ص: 38).
نعم ساق صاحب التيسير له شاهدًا ثم قال: «فهذه القصة مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولًا يغني عن الإسناد، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها»
(1)
.
لكن هذا فيه نظر والله أعلم، فليس للقصة طرق يعتمد عليها، ولذا قال ابن باز رحمه الله:«القصة فيها نظر، وإنما يقال: القصة وقعت بسبب يهودي ومنافق، قال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال المنافق: نتحاكم إلى حكامكم، وقيل: إنَّه كعب بن الأشرف، لعلمه أنَّه يأخذ الرشوة، فنزلت الآية، هذا أصح ما قيل، والله أعلم»
(2)
.
* خلاصة الباب: أنَّ التشريع مما يختص به الله تعالى، وعلى هذا فمن جعل مشرّعًا غير الله، أو شرَّع هو شيئًا يخالف ما شرعه الله، أو تحاكم إلى من يحكم بغير شرع الله فقد وقع في المحذور.
(1)
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص: 510).
(2)
شرح كتاب التوحيد (ص: 197).
40 - باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات
وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد، الآية (30)].
وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟»
(1)
.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه، عن ابن عباس:«أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا اِنْتَفَضَ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّفَاتِ اِسْتِنْكَارًا لِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا فَرَقُ هَؤُلَاءِ؟ يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ؟!»
(2)
.
«ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر «الرحمن» أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} » [الرعد، الآية (30)]
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (127).
(2)
أخرجه معمر بن راشد في جامعه (ص: 422)، وعنه عبد الرزاق في التفسير (2960)، وابن أبي عاصم في السنة (485).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. الرابعة: ذكر العلة: أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئًا من ذلك، وأنه أهلكه.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مرادُ المؤلف بهذا الباب: بيان حكم من جحد شيئًا من الأسماء والصفات، إمّا بتكذيبٍ أو تأويلٍ، وما جزاؤه.
وعلاقة الباب بالتوحيد: من جهة أنَّ التوحيد من أنواعه: توحيد الأسماء والصفات، فلا يَتِمُّ توحيدُ العبدِ حتى يؤمن بتوحيد الأسماء والصفات، فمن جحدها أو شيئًا منها، فإنَّه لم يكمل توحيده.
المسألة الثانية: توحيد الأسماء والصفات عند أهل السنة يكون بأن يُثبِتَ المرءُ لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فمذهبُ أهل السنة بريء من التعطيل والتكييف والتمثيل والتحريف.
المسألة الثالثة: استدل المصنف للباب بقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد، الآية (30)] وقد اختلف في سبب نزولها، فنقل عن ابن عباس:«أنَّها نزلت لما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: اسجدوا للرحمن، قالوا: وما الرحمن؟ فنزلت»
(1)
.
وقيل: إنَّها نزلت لما أراد المشركون كتابة الصلح يوم الحديبية، كتب عليّ رضي الله عنه:«بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف
(1)
أخرجه الواحدي في أسباب النزول (549)، من طريق الضحاك عن ابن عباس، وهو منقطع.
الرحمن
(1)
.
* والشاهد في الآية: أنَّ الله سمى إنكارهم لاسم الرحمن كفرًا، ومَن كفر باسمٍ من أسماء الله أو جحده فقد كفر بالله.
المسألة الرابعة: ورد في الباب أثر علي رضي الله عنه في البخاري: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟» وهذا قاله حين كثر القُصّاصُ في خلافته وصاروا يذكرون أحاديث ليست من الأحاديث المعروفة، ولهذا كثر الوضع بهذا السبب.
ويدخل فيما لا يعرفه الناس نوعان من الكلام:
1.
ما يُستنكر من جهة عدم ثبوته.
2.
ما لا تستوعبه عقولهم؛ لئلا يُفتنوا، وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال:«مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»
(2)
، وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فمنها ما يسيء بعض الناس فهمه، كما نُقِل عن الحسن البصري أنَّه أنكر تحديث أنس رضي الله عنه للحَجّاج بقصة العرنيين؛ لأنَّه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وكما يحصل من البعض أنَّه يحدِّثُ بأحاديث عند ناسٍ، فتكون سببًا لأن يتركوا طاعةً أو يقويهم على بدعة، ولذا كان بعضُ السلفِ لا يحدِّثُ في ديار الخوارج بمثل حديث:«وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ»
(3)
ونحوه، ولذلك يقول بعض أهل العلم:
(1)
أخرجه البخاري (2731)، وليس فيه ذكر سبب النزول.
(2)
أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح (ص: 11).
(3)
أخرجه الشافعي في مسنده (322)، ومن طريقه البيهقي (8/ 26)، والحديث أصله في الصحيحين.
إنَّه لا ينبغي أن تحدث العصاة بنصوص الرجاء، ونحو ذلك، قال ابن حجر:«وضابط ذلك: أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب»
(1)
.
• إذا تقرر هذا: فنصوص الصفات نُقل عن مالك أنَّها من هذا الباب، أي: لا ينبغي أن يُحَدَّثَ بها العامةُ؛ لأنَّها لا تستوعبها عقولهم، فقد يفهمون منها التشبيه.
وأجاب صاحب التيسير عن هذا بما معناه: «ما أظنّ ذلك يثبت عن مالك، والقرآنُ مملوءٌ من آيات الصفات فماذا يقال؟ بل يقال: إنَّ أحاديث وآيات الصفات مازالت تُقرأ على العوام، بل من شرط الإيمان بالله الإيمان بالأسماء والصفات»
(2)
.
• وعلى هذا: فيحمل كلام مالك رحمه الله على بعض نصوص الصفات مما قد يلتبس فهمها على العوام، أو ما يتعلق بدقائق البحث في مسائل الأسماء والصفات مما لا يتصوره العوام، وقد ورد أن مالكًا رحمه الله قال ذلك عندما حدّث بحديث الصورة «إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»
(3)
.
وقد ذكر المصنف عن ابن عباس: «أنَّه رأى رجلًا انتفض لما سمع حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفات -استنكارًا لذلك- فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه» .
وقد قال الذهبي: حدّث وكيعٌ عن إسرائيل بحديث: «إذا جلس الربُّ على
(1)
فتح الباري (1/ 225).
(2)
تيسير العزيز الحميد (ص: 500).
(3)
أخرجه البخاري (6227)، ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة.
الكرسي، فاقشعرّ رجلٌ عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها»
(1)
.
المسألة الخامسة: أورد المصنف أثر ابن عباس: «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا اِنْتَفَضَ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّفَاتِ اِسْتِنْكَارًا لِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا فَرَقُ هَؤُلَاءِ؟ يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ؟!» .
وفيه أن هذا الرجل انتفض جسمه إنكارًا حين سمع أحاديث في الصفات، فأنكر ابن عباس صنيعه، وقال:«مَا فَرَقُ هَؤُلَاءِ؟! يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ؟!» .
وها هنا يرِدُ على كلام ابن عباسٍ سؤال وهو: هل نصوص الصفات من المتشابه؟ وإذا قلنا: إنَّها من المتشابه، فمعلوم أنَّ منهم من قال: المتشابه لا يعلمه إلا الله؟!
* نصوص الصفات من المحكم -وإن قال السيوطي: إنَّها من المتشابه
(2)
- وأما أثر ابن عباس فيقال فيه: التشابه أمرٌ نسبي، فقد يكون متشابهًا عند قوم، وبيِّنًا جليًا عند آخرين، وبعض الناس يقصر فهمه عن إدراك المعنى، أو يفهمه على معنى خطأ فيما يتعلق بالصفات، فهو من المتشابه في حقّه، فيكون التشابه من حيث فهم بعض الناس وقصوره، أما من حيث المعنى فليست نصوص الصفات من المتشابه.
* خلاصة الباب: وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته، على وفق مذهب السلف الصالح، وعدم جحد شيء منها.
(1)
العرش للذهبي (2/ 155)، (2/ 253).
(2)
الإتقان في علوم القرآن (3/ 14).
41 - باب قول الله تعالى {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}
[النحل، الآية (83)].
قال مجاهد ما معناه: «هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي»
(1)
.
وقال عون بن عبد الله: «يقولون: لولا فلان لم يكن كذا»
(2)
.
وقال ابن قتيبة: «يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا» .
وقال أبو العباس، بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه:«إن الله تعالى قال: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ»
(3)
-الحديث وقد تقدم-: «وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، قال بعض السلف: «هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير»
(4)
(5)
.
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (17/ 273).
(2)
أخرجه الطبري في التفسير (17/ 273).
(3)
أخرجه البخاري (1038)، ومسلم (71).
(4)
مجموع الفتاوى (8/ 33).
(5)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها. الثانية: معرفة أن هذا جارٍ على ألسنة كثير.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارًا للنعمة. الرابعة: اجتماع الضّدين في القلب.
(الشرح)
هذا الباب هو في حكم إضافة نعم الله لغيره، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب وعلاقته بالتوحيد.
المراد بالترجمة: التأدّب مع الله في الألفاظ، وأن تنسب النعم إلى الله، فهو المسبّب الحقيقي.
وعلاقة الباب بالتوحيد: من جهة أنَّ إضافة النعم إلى غير الله:
أ- إن كان أضافها على أنَّ المنعم بها غير الله، فهذا شركٌ في الربوبية؛ لأنَّه أضافها إلى السبب على أنَّه فاعل.
ب- وإن كان أضافها لغير الله على أنَّه سببٌ -كما ورد من الألفاظ في هذا الباب والذي بعده-، فهذا نوعٌ من الشرك في الألفاظ.
المسألة الثانية: اعلم أنَّ الواجب على العبد تجاه النعم من الله:
1.
أن يشكر نعم الله عليه بلسانه، فيلهج بالحمدِ والثناء على الله، وأن ينسبها ويضيفها إلى المنعم الحقيقي وهو الله.
2.
أن يحبّ الله على ما أعطاه، ويعترف بقلبه أنَّه المنعم الحقّ، وأنَّه محض تفضّلٍ منه، وليس للعبدِ استحقاق على الله.
3.
أن يشكره بأفعاله، بأن يستخدم النعم في طاعة الله.
وبهذه الأمور تدوم النعم بإذن الله، وذاك شكرها الذي قال الله فيه:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} .
المسألة الثالثة: نسبةُ النعمِ لغير الله له حالات بعضها أشدُ من بعض:
الحالة الأولى: أن ينسب النعم لغير الله نسبة إيجادٍ وخَلقٍ، فيعتقد أن غير الله هو من أوجدَ النعمة؛ وهذا كفرٌ بالله، حيث جعلَ المنعم غيره سبحانه، والله هو وحده الرازق {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر، الآية (3)].
الحالة الثانية: أن يضيف النعم للمخلوق، باعتقاد أنَّ المخلوق سببٌ، والمنعم هو الله، فهذا له حالتان:
أ-إن كان المخلوقُ سببًا: فلا يجوز؛ لأنَّه أضاف النعمة له، ولم يضفها إلى الله.
وقد يدخل هذا فيما ورد عن أبي سعيد رضي الله عنه: «إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ
…
»
(1)
.
ب- أن لا يكون المخلوق سببًا، كما لو أضاف النعمة للولي فلان، أو للأمير، وليس له فيها أي تسبّب، فهذا أشنع، وقد يصل إلى الشرك، إن اعتقد أنَّه له تصرفًا في الأمور، وسيأتي لهذا أمثلة في المسألة الرابعة.
الحالة الثالثة: أن ينسب النعمة لله، ومع هذا يشكر المخلوق؛ لأنَّه تسبب في هذا، وثبت أنَّ له سببًا، فهذا جائز، بل مشروع، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ»
(2)
.
(1)
سبق إيراد المصنف له في الباب (32).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 295 - ومواضع)، والبخاري في الأدب المفرد (218)، وأبو داود (4811)، والترمذي (1954)، وابن حبان (3407)، والبيهقي في الكبرى (6/ 182)، وفي الشعب (9117)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
المسألة الرابعة: ذكر المصنف في الباب قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل، الآية (83)]. وهي دالّةٌ على ذمِّ من أنكر نعمة الله ولم ينسبها له بعدما عرفها.
وذكر في الباب ثلاثة أقوالٍ للسلف فيما يدخل في الآية، وكيف تنكر النعم.
الأول: ما ورد عن مجاهد، وساقه بمعناه، ولفظه:«هي المساكنُ والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، يعرف هذا كفار قريشٍ ثم ينكرونه، بأن يقولوا هذا كان لآبائنا فورّثونا إياه» وهذا فيه تناسٍ للمسبب وهو الله، وفي هذا يقول ابن القيم ما معناه:«لما أضافوا النعم إلى غير الله، فقد أنكروا نعمة الله بنسبتها إلى غيره، فإن الذي يقول هذا جاحد لنعمة الله غير معترف بها، وهو كالأبرص والأقرع اللذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما، فأنكراها، وقالا: إنما ورثنا هذا كابرًا عن كابر، وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم، إذ أنعم بها على آبائهم، ثم ورثهما إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه»
(1)
.
الثاني: أن يقول: لولا فلان ما حصل كذا، ومثله قول: لولا فلان قائد السيارة لهلكنا، أو لولا فلان ما نجحت في تجارتي، ومنه قول عون بن عبد الله:«يقولون: لولا فلان لم يكن كذا» ، فمثل هذه الألفاظ:
أ- إن أراد بها السبب: فلا ينبغي له قولها، سواء كان السببُ خفيًا، أو لا اعتبار له، أو كان السببُ ظاهرًا، ولو أراد الإخبار وكان الخبرُ صدقًا مطابقًا للواقع، فالأولى أن لا يقولها، وأجازه بعضهم للإخبار.
(1)
شفاء العليل (82).
ب- إن أراد أن هذا هو المسبب: فلا يجوز؛ لأنَّه نسب النعم لغير الله، وهو المنعم الحقيقي والمدبر.
الثالث: ما ورد عن ابن قتيبة: «أنَّهم إذا حصلت لهم نعمةٌ أو مطر أو مال أو غيره، قالوا: إنَّ الآلهة شفعت لنا، أو الولي بشفاعته حصل لنا كذا» .
وهذه العبارة شركٌ بالله تعالى، قال ابن القيم:«أما قول القائل: (بشفاعة آلهتنا) فتتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها، فالآلهة التي تعبد من دون الله أحقر وأذلُّ من أن تشفع عند الله، وهي مُحضَرةٌ في الهوان والعذاب مع عابديها»
(1)
.
واختار ابن جرير التفسير الأول
(2)
، وذكر غيرُ واحد أن الآية تعم الثلاثة، وهذا أقرب.
* خلاصة الباب: أنَّه يجب التحري في الألفاظ والتأدب، وأن لا يصدر منه لفظ فيه نسبة النعم لغير المنعم الحقيقي وهو الله تعالى.
(1)
شفاء العليل (82).
(2)
انظر: تفسير الطبري (17/ 273).
42 - باب قول الله تعالى {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
[البقرة، الآية (22)].
(1)
.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(2)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (229).
(2)
الحديث مرويٌ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ: وَأَبِي، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ
…
فذكره، وإن كان لعمر بن الخطاب ذكرٌ في الحديث، فإن هذا لا يخرج الحديث عن كونه من مسند ابن عمر، ومن ثمَّ رواه أحمد، وغيره، في مسند ابن عمر.
(3)
أخرجه أبو داود (3251)، والترمذي (1535)، وأحمد (2/ 69)، وابن حبان (4358) والحاكم في المستدرك (297)، والبيهقي في الكبرى (10/ 29)، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «لِأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا»
(1)
.
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ»
(2)
.
وجاء عن إبراهيم النخعي: «أنَّه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك، قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا لولا الله وفلان»
(3)
(4)
.
(الشرح)
هذا الباب قريب من الباب السابق، إلّا أنَّ الأول في وجوب إفراد الله
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 468)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 79)، والطبراني في الكبير (8/ 468)، وقال الهيثمي في المجمع (4/ 177): رجاله رجال الصحيح.
(2)
أخرجه أبو داود (4980)، وأحمد (5/ 284)، والنسائي في الكبرى (10755)، الطحاوي في شرح المشكل (236)، والبيهقي في الكبرى (3/ 216)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (137).
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (344).
(4)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد. الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعمّ الأصغر.
الثالثة: أنَّ الحلف بغير الله شرك. الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقًا، فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ.
بالنعم، وهذا في إفراد الله بالمشيئة والحلف والاستعاذة ونحو ذلك، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: مراد المؤلف بالباب ذِكرُ صورةٍ مِنْ صور جعل الندِّ مع لله تعالى، ومعلومٌ أنَّ الندَّ هو المِثلُ والنظير، وجعلُ الندِّ لله: صرفُ أنواعِ العبادة أو شيء منها لغير الله، واتخاذُ الأنداد نوعان:
1 -
شركٌ أكبر: كمن يدعو غير الله، ونحو ذلك من العبادات.
2 -
شركٌ أصغر: وهو ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول: ما شاء الله وشئت ونحو ذلك، وهو المراد هنا؛ حيث ساق ألفاظًا يجب لمن أراد تحقيق التوحيد التحرز منها، ولو لم يقصد بها معناها، إذ هي من الشرك في الألفاظ.
وعلاقة الباب بالتوحيد: أنَّ المرء ينبغي أن يحقق توحيده، وأن يتحرز من كل لفظٍ يخالف التوحيد، ومن ذلك ما ذكره في هذا الباب.
المسألة الثانية: ذكر المصنف عدّة عباراتٍ فيها إشكال، وهي:
1) قول: «والله وحياتك يا فلان، وحياتي» : وهذه فيها حلفٌ بغير الله، وتسويةٌ لغير الله بالله في هذا، والصواب أن يحلف بالله وحده.
وقد ورد النهي عن الحلف بغير الله في الحديث الذي ذكره المصنف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ» .
ولذا يرى جمهور العلماء -بل حكى ابن عبد البر الإجماع-: «أن الحلف بغير الله لا يجوز»
(1)
، خلافًا لمن رأى أنَّه مكروه؛ لأنَّ الحلف عبادة، وفيها
(1)
التمهيد (14/ 366).
تعظيم للمحلوف به، فلا تصرف لغير الله؛ لأنَّه هو المعظَّمُ، ولا شك أن الحالف بغير الله ما حمله على ذلك إلا تعظيمه للمحلوف به، وهذا يقع من بعض من يعظمون الأولياء، قال الشيخ سليمان بن عبد الله:«ولهذا إذا توجهتْ على أحدهم اليمينُ بالله تعالى أعطاك ما شِئتَ من الأيمان صادقًا أو كاذبًا، ولو قيل له: احلف بحياة الشيخ فلان، أو بتربته ونحو ذلك، لم يحلف إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظمُ في قلبه من ربِّ الأرباب، وما كان الأولون هكذا، بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا بالله تعالى، كما في قصة القسامة التي وقعت في الجاهلية»
(1)
.
وإذا كان الحلف بغير الله شركًا -كما ورد في الحديث- فإن حكمه يختلف، حيث يقول أهل العلم:
أ- إن اعتقد أنَّ المحلوف به مساوٍ لله في التعظيم والحق: فهو شرك أكبر.
ب- إن لم يعتقد ذلك: فهو شرك أصغر.
* ولأجل خطورة الحلف بغير الله، قال ابن مسعود رضي الله عنه:«لأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا» . وذلك لأنَّ الحلف بالله كاذبًا كبيرة، والحلف بغير الله شرك وكفر، وإن كان أصغر فهو أكبر من الكبائر بإجماع السلف، قال ابن تيمية معلّقًا على كلام ابن مسعود رضي الله عنه:«لأنَّ حسنةَ التوحيدِ أعظمُ من حسنةِ الصدق، وسيئةَ الكذبِ أسهلُ من سيئة الشرك»
(2)
.
2) قول: «لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص» وهذه فيها نسبة عدم وقوع السرقة للكلب حين نبح، وللبطّ حين صوّت، وهذا
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص: 186)
(2)
الفتاوى الكبرى (5/ 552).
خللٌ، فالله هو المسبب، ولو شاء لما نبح الكلب، وما انتبه البط، فالصواب هنا أن يقول:«لولا الله وحده» ، أو يقول:» لولا الله ثم كذا»؛ لأن (ثم) تفيد التراخي في المرتبة، وأما التشريك بالواو فلا يجوز، فالمراتب ثلاث:
1.
لولا الله وحده، فهذا الكمال.
2.
لولا الله ثم فلان: فيجوز إذا كان سببًا.
3.
لولا الله وكذا: فلا يجوز.
3) قول: «ما شاء الله وشئت» : وقد ورد عن حذيفة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» . والإشكال في هذه الكلمة أنَّه عَطفَ بالواو، والعطفُ بالواو يقتضي المساواة؛ لأنَّها لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا، وتسويةُ المخلوقِ بالخالقِ في نوعٍ من أنواع العبادة شرك.
4) قوله: «لولا الله وفلان» : وهذه فيها جعلُ المخلوقِ مساويًا لله في السببية، وقد قال في الأثر:«لا تجعل فيها فلانًا، هذا كله به شرك» .
5) قول: «أعوذ بالله وبك» وفيها ما في سابقتها من تسوية غير الله في الاستعاذة، والواجبُ أن يقول:«أعوذ بالله وحده» ، أو يقول:«أعوذ بالله ثم بك» ، إذا كان فيما يقدر المخلوق عليه.
وقد نقل المصنف عن إبراهيم النخعي: «أنَّه كان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، حتى يقول: ثم بك» .
والسلف يطلقون الكراهة ويريدون بها التحريم غالبًا، كما هنا، وكما ورد في أول الكتاب:«كانوا يكرهون التمائم كلها» وقد ورد في القرآن الكراهة
وأريد بها التحريم: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
* خلاصة الباب: أنَّه لا يجوز للإنسان أن يتخذ مع الله نِدًا، لا في العبادة، ولا في الحلف، ولا في الألفاظ من استعاذة واستغاثة ونحوه.
43 - باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ، فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
مراد المؤلف بالباب: أنَّ الإنسان إذا حُلف له بالله فليقنع وليرضَ؛ لأنَّ الحالف أكدَّ حلفه بالله، فمن تعظيم الله أن تقنع بمن حلف لك بالله، وسيأتي بيان هذا في الباب.
وقد أورد المصنف حديث ابن عمر، وفي الحديث إشارةٌ إلى عدة مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء، ويدخل فيه الحلف بغير الله مطلقًا، وقد وردت أحاديث عديدة فيها النهي عن الحلف بغير الله، ومنها:
1.
حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ
(1)
أخرجه ابن ماجه (2101)، والبيهقي في الكبري (10/ 181)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 133): إِسْنَاد صَحِيح رِجَاله ثِقَات، وقال ابن حجر في الفتح (11/ 536): إسناده حسن، وصححه الألباني في الإرواء (2698).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء. الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى. الثالثة: وعيد من لم يرضَ.
بِاللَّهِ»
(1)
(2)
.
2.
حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِيت وَلَا بِآبَائِكُمْ»
(3)
.
3.
(4)
.
ولأجل هذا نهى العلماءُ عن الحلفِ بغير الله، وسبق أنه محرمٌ عند الجمهور.
* ومن صور الحلف بغير الله: الحلفُ بالآباء، وكان موجودًا عند العرب، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه كما في هذه الأحاديث.
فإن قيل: كيف نجيب عما ورد في حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» أَوْ «دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» ؟
(5)
.
* أجيب عنها بأجوبة عديدة، لعل أقواها ثلاثة أجوبة:
1 -
أنَّ هذا منسوخ، وذلك لأن الذي يظهر أنَّه وقع في أول الأمر، ثم نُسِخَ بأحاديث النهي عن الحلف بالآباء.
(1)
أخرجه البخاري (3836)، ومسلم (1646).
(2)
أخرجه البخاري (2679)، ومسلم (1646).
(3)
أخرجه مسلم (1648).
(4)
سبق تخريجه في الباب، رقم (42).
(5)
أخرجه مسلم (11)، والحديث أصله في البخاري (46) بدون لفظة: وأبيه.
2 -
أنَّه جارٍ على عادة العرب في قولهم ألفاظًا ولا يريدون حقيقتها، كما يقولون: ثكلتك أمك، أو تربت يمينه، ونحوها.
3 -
أن لفظة: «وَأَبِيهِ» شاذة، تفرد بها إسماعيل بن جعفر في رواية بعض الرواة عنه، وقد اختلف عليه هو أيضًا، فقد وردت روايته عند البخاري بدونها، وأكثر الذين رووا الحديث ذكروه بدونها، وإنما بلفظ:«أفلح إن صدق» ، ولذا أعرض البخاري عنها، وأوردها مسلم بطريقةٍ توحي بأنَّه يريد إعلالها لا الاحتجاج بها، وقد ذكر مسلم في مقدمته أنَّه قد يورد ألفاظًا يريد إعلالها، فلعل هذا منها، ومن له دُربة في صحيح مسلم يدرك هذا من طريقة سوقه للمتابعات والأسانيد
(1)
.
الثانية: أنَّه ينبغي لمن حلف بالله أن يصدُقَ في يمينه، ولا يجوزُ له الكذب في اليمين، فإن ذلك استخفافٌ بالله الذي حلف به كاذبًا، فإنْ ترتب على حَلِفِه أكلٌ لمالٍ أو ظلمٌ لحقٍ فهي اليمين الغموس.
الثالثة: أنَّه ينبغي لمن حُلِف له بالله أن يرضى، وذلك تعظيمًا لمن حُلف له به، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«رَأَى عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسرقُ، فَقَالَ لَهُ: أَسرقْتَ؟ قَالَ: كَلاَّ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، فَقَالَ عِيسى: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي»
(2)
، وهذا لتعظيمه لله سبحانه.
وقد توعد في الحديث من لم يرض بمن حلف له بالله، بأنَّه ليس من الله فقال:«وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ» ، وهذا من ألفاظ الوعيد التي تبقى على ظاهرها؛ ليكون ذلك أوقع لهيبتها في القلوب.
(1)
وانظر: شرح مسلم، للنووي (1/ 168).
(2)
أخرجه البخاري (3444)، ومسلم (2368).
لكن هل هذا -أي: الرضا بمن حلف بالله- على إطلاقه؟
* للعلماء في الحديث أقوال، والظاهر والله أعلم: أن الأمر لا يخلو من حالين:
أ- أن يكون الحالف بالله هو في حالة الدعاوى والخصام والتحاكم: فمن حُلِفَ له عند القاضي إذا توجهت اليمين عليه، فإنّ على المحلوفِ له أن يرضى باليمين ويلتزمَ بمقتضاها.
ب- أن يكون في غير ذلك: أي في عامة أمور الناس وأحوالِهم، فإذا حلف لك أحدٌ بالله فالأصل أنَّه يجب أن ترضى، إلا إن علمت أو غلب على ظنِّكَ وترجح عندك أنَّه كاذب، إما للقرائن، أو لأنَّه معروف بالكذب ونحو ذلك، فلا يجب حينها أن تصدقه وترضى، ولا تأثم بذلك، والله أعلم.
• مثاله: قال لك خادمك: والله ما سرقتُ، والقرائن تدل على أنَّه هو السارق، فلا تأثم بعدم تصديقه بحلفه.
* خلاصة الباب: أن من تعظيمك لله، وإجلالك له ولاسمه سبحانه، أن إذا حلف لك أحدٌ بالله، وأنت لا تدري أصادقٌ هو أم كاذب، فإنك تصدقه، إلا إن تبين لك خلاف ما حلف عليه.
44 - باب قول: ما شاء الله وشئت
(1)
.
وله أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ»
(2)
.
ولابن ماجه عن الطفيل -أخي عائشة لأمها- قال: «رَأَيْتُ كَأَنِّي أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، قُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، قَالُوا: وَأَنْتُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِنَفَرٍ مِنْ النَّصَارَى فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، قَالُوا: وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ
(1)
أخرجه النسائي (3773)، وأحمد (6/ 371)، والطبراني (25/ 14)، والحاكم (7815)، والبيهقي (3/ 216)، والطحاوي في شرح المشكل (238 - 239) قال الحاكم: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في الصحيحة (136).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2117)، وأحمد (1/ 214)، والبخاري في الأدب المفرد (783)، والنسائي في الكبرى (4696)، والطحاوي في شرح المشكل (235)، والطبراني في الكبير (13006)، والبيهقي في الكبرى (3/ 217).
مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ بِهَا مَنْ أَخْبَرْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: هَلْ أَخْبَرْتَ بِهَا أَحَدًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإنَّكُمْ قُلْتُمْ كَلِمَةً يَمْنَعُنِي كَذَا وَكَذَا أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا، فَلَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2117)، وابن أبي شيبة، في مسنده (652)، والدارمي في المسند (2741)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2743)، والضياء في المختارة (155) من طريق عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن الطفيل بن سخبرة.
وقد اختلف على عبد الملك بن عمير، فروري عنه، عن ربعي بن حراش، عن الطفيل بن سخبرة، كما سبق.
وروي عنه، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان. رواه ابن ماجه (2118) وغيره، بلفظ فيه بعض الاختلاف، (أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْرِفُهَا لَكُمْ، قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ») والأول هو المحفوظ الذي رجحه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 363)، والبزار في مسنده (7/ 253)، والحديث من وجهه الراجح إسناده حسن.
(2)
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر. الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله هـ: «أجعلتني لله ندًّا؟» فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك
…
والبيتين بعده.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر؛ لقوله: «يمنعني كذا وكذا» .
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي. السادسة: أنها قد تكون سببًا لشرع بعض الأحكام.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: مراد المؤلف بهذا الباب بيان حكم قول القائل: «ما شاء الله وشئت» ونحوها من الألفاظ، وبيان أنَّ قولها لا يجوز وأنَّها من الشرك، كما أقر النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهودي على قوله:«إنكم تشركون» .
وعلاقة الباب بالتوحيد: من جهة أنَّ المرء مأمورٌ بأن يوحِّدَ الله في أفعاله وأقوالِه، وهذا اللفظ فيه إشراك كما سبق، وهذا يعني أنَّ من الشركِ شركُ الألفاظ.
المسألة الثانية: ذكر المصنّف هذه الأحاديث، وفيها النهي عن لفظين:
1.
قول: «ما شاء الله وشئت» ورد هذا في حديث قتيلة أنَّ اليهودي عدّه من الشرك، وأقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا، وورد في حديث ابن عباس، وجعله النبيّ صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الندّ لله، وورد في حديث الطفيل.
• وعلة النهي: أنَّ المشيئة لله وحده، فلا يشرك معه أحدٌ، لا نبيٌ ولا غيرُه.
* فإن قيل: فما وجه التفريق بين الطاعة والمشيئة، فإنَّ الله قد قرن طاعته بطاعة الرسول، كما في قوله:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، وأمّا في المشيئة، فقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن القرن بينه وبين الله فيها؟
* قال ابن تيمية: «لأنَّ طاعة الرسول طاعة لله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة الرسول، بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحدٍ من العِباد مشيئةٌ لله، ولا مشيئةُ الله مستلزمةٌ لمشيئة العِباد، بل ما شاء الله كان وإن
لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله»
(1)
.
وإذا كان قد ورد في الحديث النهي عن قرن مشيئة العبد بمشيئة الله وأنَّها من الشرك، مع أنَّ الله أثبت للعبد في القرآن مشيئة، فما بالك بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك ونحوها، أو يقول: أنا في حسب الله وحسبك، ومالي إلّا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، واللهُ لي في السماء وأنت لي في الأرض، ونحوها من الألفاظ، فلا شك أنَّها أفحشُ من قولِ ما شاء الله وشئت
(2)
.
2.
قوله: «والكعبة» وهذا حلفٌ بغير الله، وسبق الإشارة لتحريم الحلف بغير الله، وبالكعبة، وأنَّه من الشرك بالله.
فإن قيل: حديث قتيلة ورد النهي من اليهودي، فكيف لنا أن نتخذ ذلك تشريعًا؟
* الجواب:
1 -
أنَّ كون الأمر ورد من يهودي لا يمنع أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم نبه على النهي عن ذلك قبل كلامه.
2 -
أنَّ كلام اليهودي اكتسب المشروعية بإقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم له، فصار اتباعنا لسنة النبيّ صلى الله عليه وسلم لا لقول اليهودي.
المسألة الثالثة: ذكر المصنّف حديث الطفيل
(3)
، والشاهد أنَّ فيه بيانًا
(1)
مجموع الفتاوى- الرسالة التدمرية (3/ 109).
(2)
انظر: تيسير العزيز الحميد (522).
(3)
سبق تخريج الحديث، وابن ماجه -الذي عزى المؤلف له الحديث- لم يسق لفظ حديث الطفيل، وإنما ساق سنده فقط، وساق متن حديث حذيفة بن اليمان، وهو مقارب له، وسبق إعلال حديث حذيفة رضي الله عنه.
لما سبق أنَّ قول: «ما شاء الله وشئت» شرك لأنَّها تقتضي التسوية.
* فإن قيل: هل يمكن أن يمنع النبيّ صلى الله عليه وسلم الحياء من إقرار الحكم؟
* الحياء لا يمنعه، وإنّما ما ورد عن الله ما يقتضي المنع وأراد أن ينهى عنها لما فيها من المبالغة في تعظيمه الذي لم يرد في الشرع النهي عنه، والإنسان السوي لا يرتاح لتعظيمه والمبالغة في هذا، لكن لمّا كان الدافع لهذه الكلمة تعظيمه لم يقدم صلى الله عليه وسلم على ردّهم، فلما سمع الرؤيا جاءه الخبر بالتحريم فجزم ولم يتردد.
* خلاصة الباب: أنه لا يجوز قول: «ما شاء الله وشئت» ؛ لأن في اللفظ تشريك في المشيئة، فوجب التحرز منه.
45 - باب من سب الدهر فقد آذى الله
وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية، الآية (24)].
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ»
(1)
.
وفي رواية: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فِإنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (4826)، ومسلم (2246).
(2)
أخرجه مسلم (2246).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر. الثانية: تسميته أذًى لله.
الثالثة: التأمل في قوله: «فإن الله هو الدهر» . الرابعة: أنه قد يكون سابًّا ولو لم يقصده بقلبه.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: بوب المصنّف للباب بمن سبّ الدهر فقد آذى الله، ومتقررٌ أنَّ العباد لا يملكون أن يضرّوا الله بشيء، وفي الصحيح: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّوني
…
»
(1)
.
ولفظ الأذى في اللغة: هو لِما خفَّ أَمْرُه وضَعُفَ أثرُه من الشرِّ والمكروه، وهو بخلاف الضُرّ، فقد أخبر سبحانه أنَّ العباد لا يضرّونه، لكن يؤذونه إذا سبوا مقلب الأمور.
والمراد بهذا الباب: النهي عن سبِّ الدهر، وهذا أمرٌ كان موجودًا عند أهل الجاهلية، يقول أحدهم: أصابتهُ قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، ويا خيبة الدهر، ويقع نحو هذا كثيرًا على ألسنة الشعراء.
والدهر: هو الزمنُ والوقت، وسَبُّهُ: بتنقّصه وشتمِه ولعنِه ونسبةِ الشرِّ إليه، وهو درجاتٌ، أعلاها لعنُ الدهر.
فإن قيل: ما هو السبُّ، وما حدّه؟
* فالجواب: أنَّه يرجع فيه إلى العرف، قال ابن تيمية:«يُرجع في الأذى والشتم إلى العرف، فما عدّه أهلُ العُرفِ سَبًّا أو انتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا، ونحو ذلك، فهو من السبّ»
(2)
.
المسألة الثانية: علاقة الباب بالتوحيد: أنَّ سبّ الدهر ينافي كمال التوحيد؛ لأنَّ فيه أذيّة لله، حيث أنَّه في الحقيقة سب للمتصرف في الدهر وهو الله.
المسألة الثالثة: سبُّ الدهرِ له ثلاث حالات:
1) أن يسبّ الدهر على أنَّه هو الفاعل: فهذا شرك أكبر؛ لأنَّه اعتقد أنَّ مع
(1)
أخرجه مسلم (2577).
(2)
الصارم المسلول، لابن تيمية (531).
الله متصرفًا، فنسب الحوادث لغير الله، وهذا مذهب من يسمون بالدهرية.
2) أن يسبّ الدهر لا على أنَّه الفاعل، بل يعتقد أنَّ الله هو المدبّر المصرّف، لكنه سبّ الدهر لأنَّه كان محلًا وزمنًا للأمر المكروه عنده: فهذا حرام.
• والعلة: أنَّ هذا سفهٌ في العقل، فقد سبَّ ما ليس محلًا للسبِّ، وهو ضلال وتنقص لله؛ لأنّ السبَّ يعود إلى المتصرّف بالدهر وهو الله، فالدهرُ لا يُقَدِّرُ شيئًا بل الله هو الذي يُقَدِّر.
ونظير هذا لو أنَّ رجلًا حكم عليه القاضي بأمرٍ، أو أفتاه مُفْتٍ بفتوى، فجعل يسبّه، وهو إنّما قضى أو أفتى بكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون كأنَّه سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك قول: الزمانُ غدّارٌ، يومٌ أسود، شهرٌ نحس، ونحوه.
* ولذلك ذكر ابن القيم أنَّ سبّ الدهر فيه ثلاث مفاسد:
1 -
سبُّ من ليس أهلًا للسبّ، فإنَّ الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّر.
2 -
أنَّ سبّه متضمن للشرك، فإنّما سبّه لظنه أنَّه يضرّ وينفع، وأنَّه مع ذلك ظالم.
3 -
أنَّ السبّ إنّما يقع على من فعل هذه الأفعال، وربُّ الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع، والدهرُ ليس له من الأمر شيء، فمسبّته مسبّة لله عز وجل.
3) أن يقصدَ الخبر المحض دون اللوم والسبِّ: فهذا جائز، كما ورد عن قوم لوط:{هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود، الآية (77)]. {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت، الآية (16)]. فالمراد هنا: أنَّ الأيام التي أوقع الله فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أيامًا نحسات عليهم؛ لأنَّ النحس أصابهم فيها، فأرادوا وصف ما وقع لهم، وإن كانت أيامَ
خيرٍ لأوليائه المؤمنين، فهي نحسٌ على المكذبين، سعدٌ للمؤمنين، وهذا كيوم القيامة، فإنَّه عسيرٌ على الكافرين، يوم نحسٍ عليهم، يسيرٌ على المؤمنين، فالمتكلم قَصَد الإخبار، لا السبَّ والتسخّط.
ونظير هذا قول: تعبنا من شدة البرد أو الحرّ ونحوه، وقول يوسف صلى الله عليه وسلم:{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف، الآية (48)].
وكذا قول: هذه سنة جوع، أو قحط، ومنه تسمية الناس لبعض السنين بسنة المجاعة.
المسألة الرابعة: أتى المصنف بقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية، الآية (24)].
ووجه الشاهد فيها: أنَّ الله أخبر عن المشركين أنَّهم قالوا: ليس هلاكنا إلّا بمرور الزمن، وما يهلكنا إلّا الدهر، فنسبوا الإهلاك إلى الدهر، فمن سبَّ الدهر أو نسب التصرف إليه، فقد شابههم أو شاركهم في هذا السبّ.
المسألة الخامسة: ورد في الحديث: «وَأَنَا الدَّهْرُ» والمقرر عند أكثر أهل العلم أنَّ الدهر ليس من أسماء الله، لأمرين:
1.
أنَّ سياق الحديث يأبى ذلك؛ لأنَّه قال: «أُقَلِّبُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ، والليل والنهار هما الدهر، فكيف يمكن أن يكون المقلَّبُ، هو المقلِّب؟!
2.
أنَّ أسماءه سبحانه وتعالى حسنى، أي: بالغة في الحسن أكمله، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلّا أنَّه اسم للأوقات، فلا يحوي صفة من صفات الكمال.
فإن قيل: فما معنى ما ورد في الحديث «وَأَنَا الدَّهْرُ؟» .
* قال ابن تيمية: «أكثر العلماء أنَّ هذا الحديث خرج الكلام فيه؛ لردّ ما يقوله
أهلُ الجاهلية ومن أشبههم، فإنَّهم إذا أصابتهم مصيبةٌ أو مُنِعوا أغراضهم أخذوا يسبونَ الدهر والزمان، يقول أحدهم: قبّحَ اللهُ الدهرَ الذي شتّت شملنا، ولعنَ اللهُ الزمانَ الذي جرى فيه كذا وكذا، وكثيرًا ما جرى من كلام الشعراء وأمثالهم نحو هذا، كقولهم: يا دهرُ فعلتَ كذا، وهم يقصدون سبَّ من فعل تلك الأمور ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السبّ على الله تعالى؛ لأنَّه هو فاعل تلك الأمور ومحدثها، والدهر مخلوق له هو الذي يقلّبه ويصرّفه، والتقدير: أنَّ ابن آدم يسبّ من فعل هذه الأمور وأنا فعلتها، فإذا سبّ الدهر فمقصوده سبّ الفاعل، وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فالدهرُ لا فعلَ له، وإنّما الفاعلُ هو الله وحده»
(1)
.
* خلاصة الباب: أنَّ الزمان والدهر وقتٌ لحلولِ قدر الله، فلا يجوز أن يسبّه ابن آدم؛ لأنَّه لا تأثير له، وإنّما سبّه يؤول إلى سبّ الله الذي قدّره.
(1)
مجموع الفتاوى (2/ 493).
46 - باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَخْنَعَ اِسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ: رَجُلٌ تَسَمَّى مَلَكَ الْأَمْلَاكِ؛ لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهَ»
(1)
قال سفيان مثل: «شاهان شاه» .
وفي رواية: «أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ»
(2)
(3)
.
قوله: «أَخْنَعَ» يعني: أوضع.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بهذا الباب: بيان النهي عن التسمّي بالأسماء التي حوت أوصافًا لا تكون إلّا لله، كقاضي القضاة، أو سلطان السلاطين، وملك
(1)
أخرجه البخاري (6206)، ومسلم (2143).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 315).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك. الثانية: أن ما في معناه مثله، كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه. الرابعة: التفطن أن هذا لإجلال الله تعالى سبحانه.
الأملاك، وشاهان شاه، أي: قاضي القضاة، ومثل حاكم الحكّام ونحوها.
• وعلة النهي: منافاة ذلك لكمال التوحيد؛ إذ التوحيد يقتضي أن لا يُعَظَّمَ مخلوقٌ ويُجعل في منزلة الله فيما يختص به.
قال ابن القيم: «لما كان المُلك الحقُّ لله وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه كان أخنع اسم، وأوضعه عند الله، وأغضبه له اسم: شاهان شاه، أي: ملك الملوك وسلطان السلاطين، فإنّ ذلك ليس لأحدٍ غير الله، فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحبّ الباطل.
وقد ألحق بعضُ العلماء بهذا «قاضي القضاة» ، وقال:«ليس قاضي القضاة إلّا من يقضي الحق، وهو خيرُ الفاصلين، الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون»
(1)
.
المسألة الثانية: دلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه على النهي عن التسمّي بمثل هذه التسميات، وأنّ من تسمّى وتلقّب بهذه الألقاب، فإنَّه قد تسمّى بأوضع اسمٍ عند الله، واتّصف بأوضع وصفٍ، وهو أغيظُ وأخبثُ رجلٍ.
• والعلة:
1 -
أنَّه قد كذب حين تسمّى بما ليس له، بل هو حقيقٌ بربّ العالمين.
2 -
أنَّه رجى العزّ والشرف والتعظيم بهذا الاسم، فعومل بنقيض قصده، فصار أوضع اسمٍ عند الله.
3 -
ذكر بعض العلماء: أنّ التسمّي بمثل هذه الألقاب من شعائر الفرس
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 340).
المجوس
(1)
.
فإن قال قائل: إنّ المقصود بهذه التسمية ما يستحقه المخلوق: فقولنا: ملك الأملاك، أي: ملكٌ على ملوك الأرض، وهذا قاضٍ على قضاة الدولة، ونحو ذلك، فهل يجوز بهذا القصد؟
* قال ابن أبي جمرة ما ملخصه: «الوعيد على هذه التسمية يقتضي المنع مطلقًا، سواء أراد من تسمى بذلك أنَّه ملك على ملوك الأرض، أم على بعضها، وسواء أكان محقًا في ذلك أم مبطلًا، مع أنَّه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقًا، ومن قصده وكان فيه كاذبًا»
(2)
.
المسألة الثالثة: قال ابن القيم: «ويلي هذا الاسم في القبح والكراهة والكذب: سيّدُ الناس وسيدُ الكُلّ، وليس ذلك إلّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره: إنَّه سيدُ الناس، وسيدُ الكلّ، كما لا يجوز أن يقول: إنَّه سيد ولد آدم»
(3)
.
المسألة الرابعة: هل يُلحق بهذا قول المفتي الأكبر، أو الإمام الأعظم؟
= سُئِلَ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(4)
عن هذا، وكان بعضهم يلقبه بهذا اللقب، فقال السائل: هل يجوز أَنْ يقال لأَحد من العلماء «المفتي الأَكبر» مع أَنَّ الله هو المفتي الأَكبر؟
(1)
ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (1/ 84).
(2)
فتح الباري، لابن حجر (10/ 591).
(3)
زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 341).
(4)
مفتي المملكة العربية السعودية سابقًا، توفي عام (1389 هـ).
* فأجاب الشيخ بقوله: هذه المسأَلة ذات شقين.
الشق الأول: وهو تلقيب الشخص بالمفتي الأَكبر، فله اعتباران.
الاعتبار الأَول: أَنْ يكون هذا الشخص هو الذي يسمي نفسه بهذا الاسم ويحبّه، ويطلب من الناس أَنْ يسموه به.
والاعتبار الثاني: كون الناس يسمّونه بهذا الاسم، بدون تشوّق منه، ولا طلب ولا رغبة فيه.
فأمّا بالنسبة للاعتبار الأَوّل: فأَنا شخصيًا لا أُسمي نفسي بهذا الاسم لا شفهيًا ولا كتابيًا، ولا أَرغب أَنْ يسمّيني به أَحد، بل أَكرهه، وقد نبّهت على هذا مرارًا في عدة مناسبات.
وأَمّا بالنسبة للاعتبار الثاني: وهو كون الناس يسمون الشخص بهذا الاسم، فلا يظهر لي أن في هذا مانعًا شرعيًا؛ لأنَّه وإن كان بلفظ أَفعل التفضيل، فليس القصدُ منه التفضيل المطلق ومنازعة الربّ في الأَكبرية، وإنّما القصد أنَّه أكبر الموجودين من المفتين ومرجع لهم، كما أَنَّ تلقيب غير الرسول صلى الله عليه وسلم بلقب الإمام الأَعظم ليس القصد منه التهجم على منصب الرسول، وإنّما القصد أَنَّ هذا الشخص هو أَعظم الأَئمة الموجودين، ومرجعهم الذي يرجعون إليه في أُمورهم، ولهذا صرح الفقهاءُ في كتاب الجنائز بأَنَّ الإمام الأَعظم لا يصلي على الغالّ، ولا على قاتل نفسه، وكما أطلقت لفظة المفتي الأَعظم على بعض العلماء ولم نسمع بأَحدٍ أَنكرها أَوْ حملها على ما حملتَها عليه
(1)
.
(1)
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1/ 173).
المسألة الخامسة: حكم قول صاحب الجلالة، أو صاحب السمو؟
سُئل عنها الشيخ ابن عثيمين، فقال السائل: ما رأي فضيلتكم في هذه الألفاظ: جلالة وصاحب الجلالة، وصاحب السمو؟
* فأجاب الشيخ رحمه الله بقوله: «لا بأس بها إذا كانت المقولة فيه أهلًا لذلك، ولم يخش منه الترفع والإعجاب بالنفس، وكذلك أرجو وآمل»
(1)
.
* خلاصة الباب: أنه لا يجوز للعبد أن يتسمى بالأسماء التي تحوي أوصافًا لا تليق إلا بالله، تعظيمًا لله سبحانه، فالله لا يشبهه أحد في أفعاله، ولا أسماءه، ولا صفاته، فكذلك كل اسم مشعر بالتعظيم الذي لا يليق إلا به سبحانه لا يجوز للمخلوق التسمي به.
(1)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 70).
47 - باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
عن أبي شريح رضي الله عنه أنَّه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اِخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِي كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بهذا الباب: بيان وجوب احترام أسماء الله والحذر من امتهانها أو احتقارها، أو تسمية غير الله بها، فهذه الأسماء مختصة بالله، ولذا شُرِع تغيير الاسم لاحترامها وتعظيمها.
(1)
أخرجه أبو داود (4955)، والبخاري في الأدب المفرد (811)، والنسائي في الكبرى (5907)، وابن حبان في (504)، والحاكم في المستدرك (62)، وصححه الألباني في الإرواء (2615).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: احترام صفات الله وأسماء الله ولو لم يقصد معناه. الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك. الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
وأسماء الله نوعان:
1 -
خاصة بالله لا يصحّ أن يسمى بها غيره: فهذه لا يجوز تسمّي غيرِه بها، ويجب تغييره لو وجد، مثاله: الله - الرحمن - رب العالمين.
2 -
ما يصحّ أن يسمى به غيرُ الله: وهي ما دلّت على صفةٍ للمخلوق فيها نصيب، فيصح التسمّي بها لكن بدون التعريف ب (ال)، وأن يقصد به التسمّي على أنَّه علم محض، مثاله: سميع- حكيم، ونحوها.
المسألة الثانية: في الباب النهيُ عن التسمّي بأبي الحكَم، وقد غيّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم اسم أبي شريح، وسببُ التغيير: أنّ الحَكَمَ هو اللهُ، وهذا من أسمائه، فإذا قيل: أبو الحكم كأنَّه قيل: أبو الله.
قال البغوي: الحَكَمُ: هو الحاكم الذي إذا حكم لا يُرَدُّ حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله عز وجل، ومن أسماءه الحكم
(1)
.
فإن قيل: فهل يلزم تغيير اسم من تسمى بالحَكم؟ وكيف يجمع بينها وبين تغيير النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الكنية؟
* الجواب: أنَّ هذا الاسم الذي كُنّي به الرجل لُحِظَتْ فيه الصفةُ وقُصدت، وهي الحُكْم، فصارت بذلك مطابقةً للاسم.
أما الاسم فإنَّه يراد به العلمية، من دون قصد للصفة، وحينها يجوز، ومِثلُه: كامل، وخالد، ونحوها، فإنَّها أريد بها العلمية، ولم يقصد بها أنَّه له صفة الكمال المطلق، أو الخلود، ونحو ذلك.
(1)
شرح السنة، للبغوي (12/ 343).
المسألة الثالثة: ومن التسمّي المنهيّ عنه: التعبيدُ لغير الله تعالى، كعبد حسين، وهذا حرام؛ لأنَّ التعبيد لا يكون إلّا لله.
وكذا التسمي ب (بخش) وهي كلمة هندية معناها الهِبة والرزق، وكان هذا مشهورًا في بلاد الهند، يذكرون اسم مركبًا، فيقولون مثلًا: علي بخش، أو حسين بخش، ونحوه، ويقصدون بها أنَّه هبةٌ ورزق من علي أو من حسين، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ الواهب هو الله
(1)
.
أما مناداة من تسمّى بذلك فهي جائزة، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنَّه ابن عبد المطلب.
(1)
معجم المناهي اللفظية (ص: 119)
48 - باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة، الآية (65)].
عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم وقتادة -دخل حديث بعضهم في بعض- أنَّه: «قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ - يَعْنِي: رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ الْقُرَّاءَ- فَقَالَ لَهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَوْفٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَهُ، فَوَجَدَ الْقُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ، فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اِرْتَحَلَ وَرَكِبَ نَاقَتَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ، وَنَتَحَدَّثُ حَدِيثَ الرَّكْبِ، نَقْطَعُ بِهِ عَنَاءَ الطَّرِيقِ.
قَالَ اِبْنُ عُمَرَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقًا بِنِسْعَةِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الْحِجَارَةَ تَنْكُبُ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (66)} [التوبة، الآية (65 - 66)].
مَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَمَا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: أنَّ من هزل بشيء من الدين أو القرآن أو بالله أو برسوله عليهم السلام فإنَّه يكفر بذلك، ولو قال: إني هازلٌ لا أقصد الحقيقة.
وعلاقة الباب بالتوحيد: مِنْ جهة أنَّ الهزلَ بشيء من ذلك فيه انتقاصٌ لله الذي أتى بهذا الدين، واستخفافٌ بجناب الربوبية والرسالة.
المسألة الثانية: ذكر أهل العلم أنَّ الاستهزاء بالله أو دينه أو نبيه كفر مخرج من الدين، وذكر الإمام المجدد من ضمن النواقض العشرة: من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر، وهذا ظاهرٌ من الآية، حيث عدّهم كفارًا بعدما كانوا مؤمنين.
قال السعدي معلّقًا على الآية: «الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفرٌ مخرجٌ عن الدين؛ لأنَّ أصلَ الدينِ مبنيٌ على تعظيم الله وتعظيمِ دينه ورسله، والاستهزاءُ
(1)
رواه ابن جرير (10/ 119 - 120)، وابن أبي حاتم (4/ 64)، وحسن إسناده الوادعي في الصحيح المسند (71).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة: أنَّ من هزل بهذا فإنه كافر. الثانية: أن هذا تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنًا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله. الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يُقبَل.
بشيءٍ من ذلك منافٍ لهذا الأصل، ومناقضٌ له أشدّ المناقضة»
(1)
.
المسألة الثالثة: هل يشترط في حكم المستهزيء أن يكون مُستحلًا للاستهزاء، أم أنه قد يحكم بكفره وإن كان قال ذلك لمجرد الهزل؟
* ظاهر الآية أنَّه يحكم بالكفر ولو لم يستحل ذلك، وهذا ظاهر من كلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال:«قال سبحانه وتعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، الآية (66)]، ولم يقل: قد كذبتم في قولكم: (إنّما كنّا نخوض ونلعب) فلم يكذبهم في هذا العذر، كما كذّبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر كما لو كانوا صادقين، بل بيّن أنَّهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب»
(2)
.
وقال في موضعٍ آخر معلقًا على الآية: «وقد دلَّت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جادًا أو هازلًا، فقد كفر»
(3)
.
المسألة الرابعة: الاستهزاء له صور:
1 -
الاستهزاء أو الهزل به سبحانه: فكفرٌ ظاهر.
2 -
الاستهزاء بأحكام دين الإسلام: فهذا كفرٌ سواء هزل واستهزأ، أو سبّ الدين أو لعنه.
وهذا له صورٌ عديدة، لكن الجامع لها أنَّ من جعل الشرع سببًا للإضحاك والاستهزاء، فهو داخل في هذا.
(1)
تيسير الكريم الرحمن (3/ 295).
(2)
الصارم المسلول (ص: 517).
(3)
الصارم المسلول (ص: 31).
• مثاله: من سخر باللحية، أو بالثوب القصير، أو تندّر بآية من آيات القرآن.
3 -
الاستهزاء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم: فهذا كفر وردة.
4 -
الاستهزاء بأهل الدين والصلاح والعلم: فهذا له حالتان:
أ. إن كان لأجل صلاحهم، أو لأجل علمهم: فهذا كفر؛ لأنَّه يرجع إلى دينهم وصلاحهم لا إلى أشخاصهم.
ب. إن كان الاستهزاء بصفاتهم الخَلقية أو الخُلُقية، لا لأجل ما هم عليه من الدين: فهذا حرام وليس بكفر.
المسألة الخامسة: ذكر العلماء أنَّ الاستهزاء نوعان:
1) صريح: وهو الذي لا يلتبس، كما قال المنافقون: ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء.
2) غير صريح: كالغمز باليد وإخراج اللسان عند ذكر القرآن، أو شعائر الدين وغير ذلك.
المسألة السادسة: ذكر المصنفُ الأحاديثَ في خبرِ مقال الرجل في غزوة تبوك، وفيه إنكار عوف بن مالك رضي الله عنه على القائل، وقوله «كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ» ، وفيه: أ- المبادرة بالإنكار.
ب- الشدة على المنافقين.
ج- جواز وصف الرجل بالنفاق إذا ظَهر منه ما يدلُّ عليه.
المسألة السابعة: أنَّ الرجل اعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَتَحَدَّثُ حَدِيثَ الرَّكْبِ، نَقْطَعُ بِهِ عَنَاءَ الطَّرِيقِ» ولم يعبأ النبيّ صلى الله عليه وسلم
باعتذارهم، إما لأنَّهم كانوا كاذبين فيه، أو لأنَّ الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورًا.
* خلاصة الباب: أنّ من تعظيم الله احترامَ دينه، وأنَّ من هزل بشيء من دينه فقد عرض نفسه للكفر.
49 - باب قول الله تعالى {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت، الآية (50)]. قال مجاهد: «هذا بعملي، وأنا محقوق به» ، وقال ابن عباس:«يريد من عندي» .
وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص، الآية (78)]. قال قتادة: «على علم مني بوجوه المكاسب» .
وقال آخرون: «على علمٍ من الله أني له أهل» ، وهذا معنى قول مجاهد:«أوتيته على شرف» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنَّ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرَهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ أَوْ الْبَقَرُ -شَكَّ إِسْحَاقُ- فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، وَقَالَ: بَارِكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ بِهِ، فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ
إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ أَوْ الْإِبِلُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، قَالَ: بَارِكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا.
فَأَتَى الْأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأَنْتَجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ قَدْ اِنْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي؛ فَلَا بَلَاغِ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجَلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ: لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ! أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ عز وجل الْمَالَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا؛ فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قَالَ: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ قَدْ اِنْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي؛ فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؛ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ»
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (3463)، ومسلم (2964).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية. الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ؟
الثالثة: ما معنى قوله: {أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ؟ الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
(الشرح)
مراد المصنّف بهذا الباب: التأكيد على أن من المتقرر أنّ النعم على العباد كلها من الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} والعباد منهم من يشكر النعم وينسبها لربه، ومنهم من يزعُم أنَّ النعمة حصلت له لمعرفته، أو لأنَّ له على الله حقًّا، فأراد المصنف أن يبين أنَّ الناس تجاه النعم من الله ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: من يزعُم أنَّ ما أوتيه من النعم والرزق، فهو بِكَدِّه وفِطنته لا من الله، أو أنَّه مستحقٌ لذلك لِما يظنُّ له على الله من الحق، وهذا كحال الأقرع والأبرص، فهذا منافٍ للتوحيد، لما فيه من جحد النعم، ونسبتها للنفس.
قال ابن القيم: «وهذا حال أكثر الناس؛ لا يعترف بما كان عليه أولا من نقص أو جهل وفقر وذنوب، وأنَّ الله نقله من ذلك إلى ضدِّ ما كان عليه وأنعم بذلك عليه»
(1)
.
وحكم هذا الصنيع -أي: نسبة النعم لنفسه وعمله-: قال العثيمين: «إن أضاف النعمة إلى عمله وكسبه، ففيه نوع شرك في الربوبية، وإن أضافها إلى الله لكنه زعم أنَّه مستحق لذلك، وأنَّ ما أعطاه الله فليس محض تفضل، لكن لأنَّه أهل فهذا ترفع في جانب العبودية»
(2)
.
(1)
شفاء العليل (12/ 16).
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 280) بتصرف.
القسم الثاني: من يعترف بنعم الله ويعتقد أنَّها من فضله سبحانه، ويتذكر ما عليه من قصور، ويشكر الله على عطائه، فهذا هو المشروع، وهذا كحال الأعمى في الحديث.
والحديث المذكور ظاهر في أنَّ مَنْ نسب النعم لغير الله فقد كفر بها، ففيه وعيدٌ لمن أنكر نعم الله أو أضافها لغيره.
* خلاصة الباب: أنَّه يجب على المسلم التحرز في أقوال اللسان، فربما أودت إلى مهاوٍ، ومن ذلك أن لا ينسب النعم لنفسه، بل ينسبها للمنعم الحقيقي وهو الله.
50 - باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف، الآية (190)].
قال ابن حزم: «اتفقوا على تحريم كل اسمٍ معبّدٍ لغير الله كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشى عبد المطلب» .
(1)
.
وله بسند صحيح عن قتادة، قال:«شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته» .
وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} قال: «أشفقا
(1)
رواه ابن أبي حاتم في التفسير (8654)، والحديث اختلف في صحته، وقد ضعفه ابن كثير في تفسيره (2/ 274)، والألباني في الضعيفة (342)، وراجع تعليق الشيخ أحمد شاكر على تفسير الطبري (13/ 209)، والإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة (209)، وسيأتي زيادة كلام في المسألة الثالثة.
أن لا يكون إنسانًا»، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: أنَّ من شكر نعمة الله على عبده إذا أنعم عليه بالأولاد وأصلح أبدانهم، أن لا يعبّدوهم لغير الله في التسمية، فإنَّ ذلك كفران للنعم، مناف للتوحيد.
• وعلى هذا يقال: بأنَّ تعبيد الأسماء لغير الله:
1.
إن كان المقصود تعبيد التأله لغير الله: فهو شرك أكبر.
2.
وإن كان المقصود مجرد التسمية: فهذا شركٍ لكنّه ليس بأكبر، وهو كفرٌ بالنعمة التي أنعمها الله على عبده.
المسألة الثانية: قال ابن حزم: «اتفقوا على تحريم كل اسمٍ معبّدٍ لغير الله، كعبد عمرو، وعبدِ الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشى عبد المطلب» . وهذا الكلام يشتمل على أمرين:
1 -
اتفاق العلماء على أنَّه لا يجوز التسمّي بما عبّد لغير الله، كعبد الحسين
(1)
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (5/ 1633)، وتفسير الطبري (13/ 306).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم مُعَبَّدٍ لغير الله. الثانية: تفسير الآية. الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسميةٍ لم تُقصَد حقيقتُها.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنتَ السوية من النِعَم. الخامسة: ذِكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.
وعبد الكعبة، وعبد النبيّ، وغير ذلك.
وأما حديث: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ»
(1)
فإنه ليس المراد به التسمي، وإنما أريد به الوصف والدعاء على من يتعلق قلبه بالدينار والدرهم، فرضي بعبوديتها عن عبودية الله.
2 -
قرّر بعد ذلك أنَّ العلماء لم يتفقوا على تحريم التسمّي بعبد المطلب، بل اختلف العلماء في ذلك، فكرهه بعض العلماء.
والصواب: أنَّه لا يجوز؛ لأنَّه تعبيد لغير الله.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»
(2)
فليس هذا من إنشاء التسمية بذلك، بل من باب الإخبار بالاسم الذي عُرِفَ المسمّى به دونَ غيره، والإخبار على وجه تعريف المسمّى لا يحرم، فباب الإخبار أوسع من الإنشاء فيجوز منه ما لا يجوز في الإنشاء، وقد قال العلماء: إن حاكي الكفر لا يُعَدّ كافرًا بذلك إن لم يعتقده.
فالتسمي بعبد المطلب حرام من وجوه:
1 -
الإجماع منعقد على تحريم التسمي بعبد محمد وعبد النبيّ وعبد المسيح وعبد علي وعبد الكعبة، وهي أولى بالجواز من عبد المطلب لو جازت التسمية به.
2 -
نصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنَّ التسمي بعبد الحارث من وحي الشيطان
(3)
،
(1)
أخرجه البخاري (2887).
(2)
أخرجه البخاري (2864)، ومسلم (1776) من حديث البراء بن عازب.
(3)
أخرجه أحمد (5/ 11)، والترمذي (3077)، والطبري في تفسيره (9/ 146)، والحاكم (4003) من طريق الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ: سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّوْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ، وَأَمْرِهِ. قلت: وسنده ضعيف، الحسن مدلس، ولم يصرح بسماعه من سمرة.
وأمرُ عبد المطلب كأمر عبد الحارث، لا فرق بينهما.
المسألة الثالثة: ذكر في الباب قصة آدم وحواء، وقد اختُلِف في ثبوتها على قولين:
القول الأول: أنَّها قصة باطلة ولا تصح، وممن قال بذلك الحسن البصري وابن كثير، وعلل بعض العلماء لهذا بعلل منها:
1 -
أنَّ مثل هذه الأخبار لا تتلقى إلّا بالوحي، وليس لهذه القصة إسناد صحيح.
2 -
أنَّ الأنبياء معصومون من الشرك.
3 -
لو كانت ثابتة فلماذا لم يذكر الله توبتهما من الشرك، والله إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ذكر توبتهم.
4 -
أنَّ فيها أنَّ إبليس جاء إليهما، وقال: أنا صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، وليس هذا بمدخلٍ لمن يريد الإغواء.
5 -
أنَّ الناس حين يأتون آدم للشفاعة يعتذر بذكر ذنبه حين أكل من الشجرة، ولو ثبت وقوعه في هذا الشرك لكان أعظم، فلِمَ لم يذكره!
6 -
قال إبليس: «لا جعلن له قرني أيل
…
» فإن كانا صدّقاه في أنَّه قادر فهذا شرك في الربوبية، وإن كانا لم يصدقاه فلا يمكن أن يقبلا قوله.
7 -
قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} بضمير الجمع، ولو كان آدم وحواء لقال:(عما يشركان).
وهؤلاء يوجهون الآية بأن المراد: تعالى الله عما يشركون أي: ذرية آدم وحواء.
قال الشنقيطي -وقد ذكر في الآية وجهين-: «معنى الآية أنَّه لما آتى آدم وحواء صالحًا كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء; لأنَّه ما أصل لذريتهما، كما قال:(ولقد خلقناكم ثم صورناكم) أي: بتصويرنا لأبيكم آدم؛ لأنَّه أصلهم، بدليل قوله بعده:{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، ويدل لهذا الوجه الأخير أنَّه تعالى قال بعده {
…
فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} [الأعراف، الآية (190، 191)]، وهذا نص قرآني صريح في أنَّ المراد المشركون من بني آدم، لا آدم وحواء، واختار هذا الوجه غير واحد؛ لدلالة القرآن عليه، وممن ذهب إليه الحسن، وابن كثير، والعلم عند الله
(1)
.
القول الثاني: أنَّ القصةَ ثابتةٌ بتعدد أسانيدها، وهؤلاء وجّهوا ما وقع من آدم وحواء: بأنَّه تشريك في الطاعة، وكل طاعة للشيطان أو للهوى، ففيهما نوع من التشريك، ولم يقع منهما شرك أكبر ولا أصغر وليس في القصة نقص في مقام آدم وحواء، ويشهد له تفسير قتادة:«شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته» .
* وأما قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهذا عائد إلى المشركين من القدرية حيث استطرد من ذكر الشخص إلى الجنس، ولهذا نظائر في القرآن.
(1)
أضواء البيان، للشنقيطي (2/ 46).
51 - باب قول الله تعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف، الآية (180)].
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: «{يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: يُشْرِكُونَ»
(1)
.
وَعَنْهُ: «سَمُّوا اَللَّاتَ مِنَ اَلْإِلَهِ، وَالْعُزَّى مِنَ اَلْعَزِيزِ»
(2)
.
وعن الأعمش: «يُدخلون فيها ما ليس منها»
(3)
.
(الشرح)
هذا الباب مرتبط بالأسماء والصفات لله تعالى، والكلام عليه في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: بيان أنَّ المشروع هو التوسل بالله بأسمائه
(1)
الذي أخرجه الطبري (13/ 282)، وابن أبي حاتم (8583) عن ابن عباس أنه قال: الإلحاد: التكذيب، وأما الذي فسرها ب «يشركون» فهو قتادة، انظر: تفسير الطبري (13/ 282)، وابن أبي حاتم (8586).
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 282).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء. الثانية: كونها حسنى. الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك مَنْ عارض من الجاهلين الملحدين. الخامسة: تفسير الإلحاد فيها. السادسة: وعيد من ألحد.
الحسنى وصفاته العليا، والردّ على من توسل بعباده أحياءً وأمواتًا، وبيان أنّ أسماء الله حسنى، أي: بالغة في الحسن كماله، فيجب تعظيمها والإيمان بها.
وعلاقة الباب بالتوحيد: من جهة توحيد الأسماء والصفات، وكذا من جهة توحيد العبادة، فإنَّ من سمّى الأصنام بأسماءِه فقد أشرك بالله سبحانه.
المسألة الثانية: ذكر المصنّف في الباب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف، الآية (180)]. وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة:
1.
لله عز وجل الأسماء الحسنى: وهذا متفق عليه، وعبّر ب:(الحسنى) ولم يقل: الحسنة، وذلك لأنَّ الحُسن من صفات المعاني، فكل لفظ له معنيان: حَسَنٌ وأحسن، فالمراد: الأحسن منها، وهو الذي يجمع على (حسنى).
وضابط الأسماء الحسنى: «كل اسم دالّ على صفة كمال عظيمة» .
2.
الأمر بدعاء الله بأسمائه الحسنى: وذكر ابن القيم أنَّ الدعاء بها على مرتبتين:
أ) دعاء ثناء وعبادة: فلا يثنى على الله إلّا بأسمائه وصفاته.
ب) دعاء طلب ومسألة: فلا يسأل الله إلّا بها، وينبغي أن يكون ما يثنى به على الله من أسماءٍ موافقٌ لما يدعو به ويطلبه، فلا يقل مثلًا: يا رحيمُ أهلك أعداء الدين، وهكذا
(1)
.
3.
النهي عن الإلحاد في أسماء الله: والإلحاد في أسماء الله هو العدول
(1)
بدائع الفوائد (1/ 164) بتصرف.
بها عن حقائقها إلى ما لا يليق بالله، وله صور:
1 -
أن يسمِّيَ الأصنامَ بها كتسمية اللات من الإله، وقد نقل المصنف عن ابن عباس قوله عن المشركين:«سموا اللات من الإله، والعُزّى من العزيز» .
2 -
تسميته بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أبًا، والفلاسفة له موجبًا بذاته أو علّة فاعلة.
3 -
وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول اليهود:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران، الآية (181)]. وقولهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة، الآية (64)].
4 -
تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها، وجحد حقائقها، كقول الجهمية: إنَّها ألفاظٌ مجردة، لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون اسم السميع، ويقولون: لا سمع له، ونحو ذلك.
5 -
تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله وتقدس عن قولهم علوًّا كبيرًا، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرقه
(1)
.
(1)
انظر: مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 53).
52 - بابٌ: لا يقال السلام على الله في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اَلصَّلَاةِ، قُلْنَا: اَلسَّلَامُ عَلَى اَللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، اَلسَّلَام عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُولُوا: اَلسَّلَام عَلَى اَللَّهِ؛ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلسَّلَامُ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: أراد المصنف بالباب: النهي عن قول: السلام على الله.
* ووجه ذلك: أنَّ «السلام» من أسماء الله، وله معنيان:
1 -
السالم من كل نقص وعيب: فله الكمال المطلق من جميع الوجوه.
2 -
المسلِّم لعباده من كل الآفات: أي: منه السلام، ولذا قال:«ومنه السلام» .
وعلى هذا: فلا يقال: (السلامُ على الله)؛ لأنَّ هذه صيغةُ دعاءٍ، وهذا فيه تنقصٌ له سبحانه، فهو غنيّ عن كل أحد، وهو الذي يُدعى، وليس بحاجة
(1)
أخرجه البخاري (835)، ومسلم (402).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير السلام. الثانية: أنه تحية. الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك. الخامسة: تعليمُهم التحيةَ التي تصلح لله.
إلى دعاء الناس له بأن يَسلم من الآفات والنقائص.
ويقال للمخلوق: «السلام عليك» لأنَّه محتاج، ولذا فأهل الجنة حين يسلِّمُ عليهم اللهُ يقولون:«اللهم أنت السلام، ومنك السلام» .
قال ابن تيمية: «السلام إنّما يُطلَبُ لمن يحتاج إليه، والله هو السلام، فالسلام يُطلب منه لا يُطلب له»
(1)
.
المسألة الثانية: علاقة الباب بالتوحيد من جهتين:
1.
من جهة أنَّ الأدب مع أسماء الله وصفاتِه ألّا يخاطَبَ اللهُ بهذا الخطاب، فهو الغني عن عباده، وفي هذا اللفظ تنقص في تحقيق التوحيد.
2.
من جهة أنَّ أسماءه سبحانه وصفاته كاملة، فليس بحاجة إلى من يسلِّمُه من النقائص، وأعقبه للباب السابق، والمناسبة فيهما ظاهرة.
المسألة الثالثة: مما يتبع هذا أنَّ الناس عند التقائهم نُدِبَ لهم أن يقولوا: «السلام عليكم» ، وفي معنى السلام في التحية قولان:
الأول: السلام هنا هو الله عز وجل، ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم، ونحو ذلك، فاختير هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء.
الثاني: السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية.
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 555).
(2)
بدائع الفوائد (2/ 143) بتصرف.
53 - باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اَللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ اَلْمَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّ اَللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ»
(1)
.
ولمسلم: «وَلْيُعَظِّمْ اَلرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اَللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ»
(2)
(3)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: أنَّ المرء ينبغي له إذا أراد تحقيق التوحيد أن يتضرع لله بتمام الذلّ والخضوع والتعظيم لله، ومن ذلك أن لا يقول في دعائه: اغفر لي إن شئت، وعِلّةُ النهي مِنْ وجهين:
1.
أنَّ العبد لا غنى له عن الله، وتعليقهُ الدعاءَ بالمشيئةِ فيه إيهامٌ بالاستغناءِ
(1)
أخرجه البخاري (6339)، ومسلم (2679).
(2)
أخرجه مسلم (2679).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء. الثانية: بيان العلة في ذلك.
الثالثة: قوله: «ليعزم المسألة» . الرابعة: إعظام الرغبة. الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
عن ذلك، فكأنَّه يقول: إن شئت فافعل وإلّا فلا تفعل.
2.
وأنَّه يُشْعِرُ بأنَّ هناك من يُكرِهُ اللهَ على ذلك، فقال:«إِنْ شِئْتَ» .
المسألة الثانية: علاقة الباب بالتوحيد من جهة:
1 -
أنَّ تعليقَ الدعاءِ بالمشيئةِ سوءُ أدبٍ مع الله، حيث يوهم الاستغناءَ عن المغفرة، وهذا ينافي كمال التوحيد.
2 -
وأيضًا: فإنَّ من أتى بما يُشعِرُ بأنَّ الله له مكرهٌ لم يقم بتمام الربوبية؛ لأنَّ تمام الربوبيةِ أنَّه لا مكره له، بل لا يُسأل عما يفعل.
المسألة الثالثة: ورد في الحديث النهيُ عن هذه الكلمة، واختُلِفَ في الحُكمِ، فظاهر كلام ابن عبد البر:«أنَّه للتحريم»
(1)
، وذهب النووي:«إلى أنَّه للتنزيه»
(2)
، والصارف من التحريم للكراهة ما ورد في حديث زيارة المقابر:«وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ»
(3)
، قال ابن حجر:«وهو أولى»
(4)
.
ولعل الأقرب أنَّه يحرم قولها؛ لصراحة الحديث، والأصلُ في النهي إذا تجرّد أنَّه للتحريم.
وأما ما ورد في حديث زيارة المقابر، فيحمل على أنَّه على وجه الإخبار، والمنهي عنه حال الدعاء، وفرق بينهما.
(1)
التمهيد لابن عبد البر (19/ 49).
(2)
شرح النووي على مسلم (7/ 17).
(3)
أخرجه مسلم (249) من حديث أبي هريرة.
(4)
فتح الباري (11/ 144).
وأما ما ورد في السنّة في زيارة المريض من قول: «طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»
(1)
فليست من تعليق الدعاء بالمشيئة، وإنما لها توجيهان:
1) أنَّها من باب مخاطبة العائد للعليل بما يُسلّيه من ألمه، ويذكّره بالكفارة لذنوبه والتطهير لآثامه
(2)
.
2) أنَّ هذا ليس من باب الدعاء، وإنّما من باب الخبر والرجاء. مال إليه ابن حجر، حيث قال حين تكلم عن قول:«يرحمك الله» للعاطس: «ويحتمل أن يكون إخبارًا على طريق البشارة، كما قال في الحديث الآخر «طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» أي: هي طهر لك»
(3)
، وكذا قاله ابن عثيمين
(4)
.
فإن قيل: كيف يُجابُ عن بعض الأدعية التي لم يعزم فيها الداعي، كما في دعاء الاستخارة
(5)
، وكما في قوله:«فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي .. » ؟
(6)
.
* أجاب السعدي رحمه الله بما خلاصته: أن الأدعية نوعان:
1.
أدعيةٌ فيها مطالب دينيةٌ كسؤال المغفرة، أو فيها مطالب دنيويةٌ معينة على الدين، كالعافية والرزق ونحوه، فهذه يَطلُبها العبدُ طلبًا مُلِحًّا جازمًا.
(1)
أخرجه البخاري (3616) من حديث ابن عباس.
(2)
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني (8/ 350).
(3)
فتح الباري (10/ 608).
(4)
المجموع الثمين، لابن عثمين (1/ 121).
(5)
أخرجه البخاري (6382) من حديث جابر.
(6)
أخرجه البخاري (5671)، ومسلم (2680) من حديث أنس.
2.
بعض المطالب المعيّنة التي لا يُتحقق مصلحتها ومنفعتها، ولا يجزم أنَّ حصولها خير للعبد، فالعبد يسأل ربَّه ويعلقه على اختيار ربه له أصلح الأمرين، كما ذكرنا من الأدعية.
(1)
.
المسألة الرابعة: أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الداعي أن يَعزِم المسألةَ، وأن يُعَظِّمَ الرغبة، والعزمُ في المسألة: الجزمُ فيها، مع الإلحاح، وتيقن الإجابة، وهذا دليل على اهتمامه بما يطلب، قال القرطبي:«نهى عن هذا القول؛ لأنَّه يدل على فتور الرغبة وقلة الاهتمام بالمطلوب»
(2)
.
وأما تعظيم الرغبة: فهي الطِّلبَةُ والحاجةُ التي يريد في سؤاله ربه؛ لأن الله عنده خزائن السماوات والأرض، ولا يعجزه شيء، ولا مُكرِهَ له، وهذا من أدب الدعاء.
(1)
القول السديد (ص: 41).
(2)
المفهم (22/ 87).
54 - باب لا يقول: عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: معلومٌ أنَّ الإنسان ينبغي أن يوحِّدَ الربوبية لله بقلبه، وأن يتحرز من الألفاظ التي توهم جعل شيء من الربوبية بلسانه.
فالمراد بالباب: النهي عن هذه الألفاظ، وبيانُ أنَّ تحقيق التوحيد وكمالَه يكون بالتحرز منها، وتركُ قولها هو أدبٌ مع الله، وحمايةٌ لجناب التوحيد.
(1)
أخرجه البخاري (2552)، ومسلم (2249).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: «عبدي وأمتي» .
الثانية: لا يقول العبد لسيده: «ربي» ، ولا يُقال له:«أطعم ربك» .
الثالثة: تعليم الأول قول: «فتاي وفتاتي وغلامي» .
الرابعة: تعليم الثاني قول: «سيدي ومولاي» .
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ.
المسألة الثانية: نهى في الحديث عن قول: «أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ» ؛ لما فيها من إضافة الربِّ لغير الله، والربُّ هو المالكُ المدبِّرُ القائمُ بأمور العباد، وهذا لا يكون حقيقةً إلّا في الله سبحانه، وهذه أمثلة، وإنّما ذُكِرَت دونَ غيرها لكثرة استعمالها في المخاطبات، وقد ذكر أهل العلم أنَّ لهذه الإضافة حالات:
1.
إضافة الربِّ إلى ضمير المخاطب، كقول: أطعم ربك، ونحوها، فينهى عن ذلك؛ لأنَّ الإنسانَ -العبدَ أو الأمةَ- مربوبٌ له، وإطلاقُ هذا اللفظِ على المخلوقِ فيه مضاهاةٌ بالاسم لله.
* والنهي هنا: منهم من حمله على التحريم أخذًا من ظاهر اللفظ، ولكن الأكثر على أن النهي للتنزيه، ورجحه السعدي والعثيمين
(1)
.
وقيل: النهي في حقّ من استعمل هذه اللفظة واتخذها عادةً شائعةً، بخلاف من نطق بها نادرًا، وذلك جمعًا بين الحديث، وبين ما ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في أشراط الساعة «أن تلد الأمةُ ربتها، أو ربها»
(2)
.
فإن قيل: أليس هذا اللفظ صحيحًا لغةً، فهو ربُّهُ أي سيِّدُه؟
* الجواب: أنَّه وإن صحّ لغة، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه تحقيقًا للتوحيد، وسدًّا لذرائع الشرك، أمّا لو قاله معتقدًا الربوبية، فهذا شرك أكبر.
2.
إضافة الربِّ إلى الاسم الظاهر: فإن كان لغير آدمي فيجوز، ك (ربّ الدار، ربّ السيارة، ربّ السفينة)، وإن كان لآدمي، كقول: هذا ربّ الغلام، فظاهر الحديث الجواز، مالم يوجد محذور، فيمنع، كما لو ظنّ السامعُ أنَّ السيدَ
(1)
انظر: القول السديد، للسعدي (ص: 166)، القول المفيد، للعثيمين (2/ 339).
(2)
انظر: شرح النووي على مسلم (15/ 6)، والآداب الشرعية، لابن مفلح (1/ 363)
ربّ حقيقيّ خالق، ونحو ذلك
(1)
.
المسألة الثالثة: حكم قول: «سيدي» ؟
أولًا: قولها من قِبَلِ السيد لمملوكه، أو من المملوك لمالكه، تجوز، والدليل: حديث الباب: «وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ» .
فإن قيل: كيف جاز أن يقول: «سيدي ومولاي» ، ولم يجز قول:«ربك» ونحوها، مع أنَّه ورد في الحديث:«السَّيِّدُ اللهُ»
(2)
؟
أ- أنَّ المراد بقول: «السَّيِّدُ اللهُ» أي أنَّه الأحقُ بهذا الاسم، ولا يعني أنَّ غيره لا يطلق عليه ذلك.
ب- أننا إن قلنا: إن السيدّ ليس من أسماء الله فلا إشكال، وإن قلنا: إنَّه من أسماء الله فهو ليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الربِّ، فيحصل الفرق.
ج- أنَّ السيدَ يُطلَق على معانٍ، منها الزوجُ والشريفُ المطاع والمالكُ، والسيادةُ هنا ليست مطلقةً، بل مضافة لياء المتكلم فجاز.
ثانيًا: قولها في مخاطبات الناس فيما بينهم، وهذه فيها خلاف:
القول الأول: المنع من ذلك، والدليل: ما سبق أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنكر على من قال له: سيدنا.
(1)
القول المفيد (2/ 340).
(2)
أخرجه أبو داود (4806)، وأحمد (4/ 25)، والبخاري في الأدب المفرد (211)، والنسائي في الكبرى (10076)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1484)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (389)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3700).
وقد سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية، فقال السائل: هل يجوز أن أقول للضابط في الشرطة أو القوات المسلحة: حاضر يا سيدي؟
* فأجابت: يجوز أن تقول له: حاضر، ولا يجوز أن تقول له: يا سيدي؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض الصحابة: «أنت سيدُنا، قال: السيّد الله تبارك وتعالى»
(1)
(2)
، وبالحديث نفسه استدل الشيخ محمد بن إبراهيم على المنع من قول:«يا سيدي»
(3)
.
القول الثاني: جواز ذلك، واستدلوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصار:«قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»
(4)
، وهذا أصح من حديث المنع منها
(5)
.
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان عمر رضي الله عنه يقول: «أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا، يَعْنِي: بِلَالًا»
(6)
.
ثالثًا: قول الرجل للمرأة: «سيدتي» :
هذا من الخطأ الشائع، بل الرجالُ هم الأسياد لا النساء، وفي الآية قال تعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«فإنَّهن عوان عندكم»
(1)
أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة (2/ 157).
(3)
فتاوى ابن إبراهيم (1/ 196).
(4)
أخرجه البخاري (3043)، ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري.
(5)
بدائع الفوائد، لابن القيم (3/ 729).
(6)
صحيح البخاري (3754).
(1)
أي: أسيرات.
وقد قال ابن عثيمين رحمه الله: «إطلاقُ السيدةِ على المرأة، والسيداتِ على النساء متلقاة فيما أظن من الغرب، حيث يسمّون كل امرأة سيدة وإن كانت من أوضع النساء؛ لأنَّهم يسوِّدون النساء، أي: يجعلونهن سيّدات مطلقًا، والحقيقة أنّ المرأة امرأة، وأنَّ الرجل رجلٌ، وتسميةُ المرأة بالسيدةِ على الإطلاق ليس بصحيح، نعم من كانت منهن سيدةً لشرفها في دينها أو جاهها أو غير ذلك من الأمور المقصودة فلنا أن نسميها سيدة، ولكن ليس مقتضى ذلك أننا نسمي كل امرأة سيدة.
ولا شك أنّ تسمية كل امرأة: سيدة، مسلمة كانت أم كافرة، صالحة أم فاسقة، هذا لا يجوز؛ لأنّ تسويد الفاسق والكافر مما نهى عنه الشرع المطهر.
وأما التعبير بالسيدة عائشة، والسيدة خديجة، والسيدة فاطمة، وما أشبه ذلك، فقال: لم يكن معروفًا عند السلف، بل كانوا يقولون: أم المؤمنين عائشة أم المؤمنين خديجة، فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك»
(2)
.
رابعًا: إطلاق الأسياد، أو السادة؛ على آل البيت.
لم أجد لهذه التسمية أصلًا عن الصحابة، ولذا فالأولى أن لا تطلق، لأمرين:
1 -
عدم وجود دليل عليها، بل إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُقِرّ من سمّاه سيدًا.
2 -
أنَّ آل البيت ليس لهم سيادةٌ على الناس.
(1)
أخرجه الترمذي (1163)، وابن أبي شيبة في المسند (562)، والنسائي في الكبرى (9124) من حديث عمرو ابن الأحوص، وأصله في مسلم (1218) من حديث جابر، وانظر: الإرواء (2030).
(2)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (3/ 112)، ومعجم المناهي اللفظية، للشيخ بكر أبو زيد (ص: 295).
وقد نص ابن تيمية، وابن حجر أن هذه التسمية حادثةٌ لا أصل لها، ولم تكن في الزمن الأول
(1)
.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ .. »
(2)
يقصد الحسن، ألا تكون دليلًا؟
* أثبت النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك للحسن رضي الله عنه، ولا يلزم أن تثبت لأبنائه، ولذا لم يكن السلف يُلَقِّبون أبناء الحسن رضي الله عنه بالسادة.
ثم أنَّه ليس الحديث عن النهي عن إطلاقها مطلقًا، وإنّما الكلام أن تكون شعارًا تُذكَر مع أسمائهم مطلقًا، فهذا الذي ليس له أصل فيما أعلم، والله أعلم.
خامسًا: إطلاقها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه يأتي حكمها في الباب قبل الأخير، عند ذكر حديث: «أنت سيدنا
…
».
المسألة الرابعة: في الحديث النهي عن قول: «عَبْدِي وَأَمَتِي» ، والاستغناء عنها بقول:«فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي» ، والنهي هو للتنزيه بإجماع العلماء
(3)
.
وقد ورد في القرآن: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وقد بوّب البخاري على الحديث: (باب كراهة التطاول على الرقيق، وقولِه عبدي وأمتي)
(4)
، فلا يُخاطب الرقيق بهذا، ولا ينادى؛ والعلة:
1.
أنَّ هذه الألفاظ فيها إشعارٌ بالعبودية لغير الله، والأصلُ أنَّ العبودية
(1)
نقل ذلك عنهما الشيخ بكر أبو زيد في معجم المناهي اللفظية (309 - 310).
(2)
أخرجه البخاري (3629) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3)
حكاه ابن حجر في الفتح (5/ 178).
(4)
صحيح البخاري (3/ 149).
يستحقها الله، ولأنَّ فيها تعظيمًا لا يليق بالمخلوق، ولأنَّ فيها تشبّهًا بالله، فهو سبحانه يقول: «اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ
…
»
(1)
فسدًّا لذريعة التشبّه، ولكي يبعد السيدُ عن التعاظم نُهي عنها، قال الخطابي:«المعنى في ذلك كلِّه راجعٌ إلى البراءة من الكبر، والتزام الذلّ والخضوع لله، وهو الذي يليق بالمربوب»
(2)
.
2.
مراعاةً لنفس الرقيق، وبُعدًا عن كسر خاطره.
* وله أن يقول: «فتاي، وغلامي، وجاريتي» ؛ لأنَّها ليست دالةً على الملك كدلالة (عبدي وأمتي)، وإن كان قد ملكه امتحانًا وابتلاءً من الله لخلقه.
المسألة الخامسة: ما سبق هو في نهي الإنسان أن يقول مثل هذه الألفاظ، فما حكم قول الغير:«هذا عبد فلان» ؟
* قال صاحب مصابيح الجامع: «قول الله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» ؛ تنبيهٌ على أن النهيَ إنما جاء متوجِّهًا على السيد؛ إذ هو في مَظِنة الاستطالة، وأن قول الغير: هذا عبدُ زيد، وهذه أَمَةُ خالدٍ جائزٌ؛ لأنه يقوله إخبارًا وتعريفًا، وليس في مظنة الاستطالة، والآيةُ والحديثُ مما يؤيد هذا الفرقَ»
(3)
، قال صاحب التيسير:«وهو حسن»
(4)
.
* خلاصة الباب: أنَّه يجب على المسلم أن يتحرّز في ألفاظه، ويصون لسانه عن كل لفظ يشعر بانتقاص ربوبية الله، أو تعظيم المخلوق فوق منزلته.
(1)
أخرجه مسلم (2569) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (5/ 180).
(3)
مصابيح الجامع (5/ 435) للدماميني.
(4)
تيسير العزيز الحميد (ص: 590).
55 - بابٌ لا يرد من سأل بالله
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ، فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ، فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: أنّ من تعظيم الله وإجلاله أنَّ السائل إذا
(1)
أخرجه أبو داود (5109)، والطيالسي (1895)، وأحمد (2/ 127)، والبخاري في الأدب المفرد (216)،، والنسائي في الكبرى (2359)، وابن حبان (3408)، والحديث مروي من طريق الأعمش وليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.
وقد ذكر في بعض طرقه إبراهيم التيمي بين مجاهد والأعمش، لكن صوب الدارقطني-في علله (12/ 374) - الحديث بإسقاط التيمي، والحديث صححه ابن حبان، والألباني في الصحيحة (254).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله. الثانية: إعطاء من سأل بالله. الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة. الخامسة: أنّ الدّعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه. السادسة: قوله: «حتى تُرَوا أنكم قد كافأتموه» .
سأل بالله أن يجاب إلى طلبه ولا يردّ؛ لأنَّ ردَّه -وقد سأل بالله- فيه منافاةٌ لكمال التوحيد، مِنْ جهة أنَّ هذا دليل على عدمِ تعظيم الله تعالى.
• ومن هنا نقول: بأنَّ من سأل بالله فإنَّه تجب إجابته، وإن لم يكن مستحقًا؛ لأنَّه سأل بعظيم، فإجابته من تعظيم الله، إلّا إذا سأل إثمًا أو ما في إجابته ضررٌ على المسؤول فلا يجاب.
وهذا الوجوب ليس على إطلاقه: وإنما قيّده ابن تيمية بما إذا سأل معينًا في معين، أي: توجه بالسؤال لإنسان معين، ولم يتجه لعموم الناس، وسأله أمرًا معينًا، وكان المسئول قادرًا، فتجب إجابته
(1)
.
فإن لم يُجب من سأل بالله فإنَّه ليس عليه كفارة؛ لأنَّ هذا الكلام سؤال، وليس بقسم، كما قرر ذلك ابن تيمية
(2)
.
المسألة الثانية: ذكر في الحديث أمورًا أخرى غير داخلة في الباب، وهي:
1.
قوله: «وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ» أي: من دعاكم إلى طعام فأجيبوه، والحديث أعمّ من الوليمة وغيرها، وهو يدل على الوجوب إلى وليمة العرس وغيرها، وإن كانت وليمة العرس آكد وأوجب، ومن أهل العلم من أوجب الإجابة في وليمة العرس دون غيرها.
2.
قوله: «وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ» . المعروف: اسمٌ جامعٌ لأمور الخير، أي: من أحسن إليكم أيَّ إحسانٍ، فكافئوه على إحسانه بمثله أو خيرٍ منه، كي تكافئ المعروف، وتردَّ الإحسان بمثله، وتزيل عنك ذلّ الحاجة لغيرك،
(1)
الفروع، لابن مفلح (2/ 592)، وتيسير العزيز الحميد (562).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (1/ 206).
وقد كان هديُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يَقبلُ الهديةَ ويثيبُ عليها.
3.
قوله: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» . أي بالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المكافأة، ولعل ذلك لأنَّه لما عجز عن مباشرة مجازاته أحالها إلى الله، وهو نعم المجازي سبحانه، وقد ورد عن أسامة ابن زيد رضي الله عنه مرفوعًا:«مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ»
(1)
.
(1)
أخرجه الترمذي (2035)، والنسائي في الكبرى (9937)، والبزار في المسند (2601)، وابن حبان في الصحيح (3413)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (276)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (969).
56 - باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنةُ
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ، إِلَّا الْجَنَّةُ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: أراد المصنف بالباب: أن يبين أن مِنْ كمال التوحيد، وتعظيم الله، ألا يُسأل بوجه الله العظيم إلا عظيم، وهي الجنةُ وما يُقرِّبُ لها، فلا يُسأل بوجهه سبحانه أمرٌ دنيويٌ ونحو ذلك، بل يُنزَّهُ اللهُ عن ذلك.
المسألة الثانية: أورد المصنف حديث جابر بن عبد الله، وهو من طريق سليمان ابن قرم بن معاذ، حدثنا ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا.
والحديث إسناده ضعيف؛ لأن مداره على سليمان بن قرم بن معاذ التميمي، وهو ضعيف، ضعفه ابن معين، والنسائي، وقال أبوحاتم:«ليس بالمتين» ، وقال أبوزرعة:«ليس بذاك» ، وقد تفرد به، قال ابن عدي: «وهذا الحديثُ لا
(1)
أخرجه أبو داود (1671)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (3/ 362)، والبيهقي في الكبرى (4/ 199)، والبيهقي في الشعب (3259)، وفي الأسماء والصفات (661)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6351).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يُسأل بوجه الله إلا غاية المطالب. الثانية: إثبات صفة الوجه.
أعرفه عن محمد بن المنكدر إلا من رواية سليمان بن قرم»
(1)
.
المسألة الثالثة: قرر العلماء أن السؤال بوجه الله له حالتان:
أ- أن يتوجه به للمخلوق: كأن يقول: أسألك بوجه الله أن تعطيني كذا، أو أعطني كذا بوجه الله، فهذا منهي عنه؛ لأنَّ المخلوق ليس بيده إلّا الدنيا، والله أعظم من أن يُسأَلَ به الدنيا.
ب- أن يتوجه به للخالق: فيجوز إذا سأل اللهَ الجنة، أما ما عداها فلا.
فإن قيل: ما المراد بالجنة التي يجوز أن يسأل الله بها، ولماذا أجيز السؤال بها دون غيرها؟
* الأقرب: أنَّ المراد الجنة، وما يقرب إليها، وما هو وسيلةٌ لها، وحينها فيجوز السؤالُ بوجه الله الجنة وما يقرب لها، ومنه الاستعاذة بوجه الله من غضبه، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ .. أن يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ»
(2)
.
وإنّما أُجِيزَ الجنةُ دون غيرها؛ لأنَّ الجنةَ هي أعلى المطالب وفيها النظرُ لوجه الله، والنعيمُ المقيم، ووجه الله له شرفه العظيم، فلا يُسأل به إلّا الجنة، وما يقرب إليها، كالإخلاص، والتوفيق للخير، والاستقامة على الطاعة، ونحوه.
(1)
انظر: الكامل، لابن عدي (3/ 1107).
(2)
أخرجه ابن إسحاق في السيرة (كما في سيرة ابن هشام (2/ 47) عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، مرسلًا.
وأخرجه الطبراني في الكبير (13/ 47)، وفي الدعاء (1036) من طريق ابن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، هكذا معنعنًا، والحديث مداره على ابن إسحاق.
57 - باب ما جاء في ال"لو"
وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران، الآية (154)]. وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران، الآية (168)].
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا، لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ اَلشَّيْطَانِ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: أراد المصنّف بالباب: أن يبين ما جاء في قول: «لو» عند
(1)
أخرجه مسلم (2664).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران. الثانية: النهي الصريح عن قول: «لو» إذا أصابك شيء.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان. الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله. السادسة: النهي عن ضد ذلك وهو العجز.
الأمور المكروهة، والمصائب ونحوها من النهي.
ومناسبة الباب للتوحيد: من جهة أنَّ كمال التوحيد يكون باستسلام المؤمن لقضاء الله وقدره ورضاه به، ويقينه أنَّ ما أصابه فهو بقضاء الله وقدره، ولن يعجز على ردّ أمرٍ قدّره ربُّه.
وأيضًا: لأنَّه ربما فُهم من قوله: «لو» اعتراض على القدر، ومن اعترض على القدر، فهو لم يرض بالله ربًا، ولم يحقق توحيد الربوبية.
المسألة الثانية: ذكر بعض العلماء أنَّ استعمال «لو» له حالاتٌ ثلاث:
الأولى: مذمومٌ، وهذا له صور:
أ- أن تُستَعمل في الندم: وذلك كما لو عَرض له مصيبةٌ، أو وقع في بليةٍ، فقال: لو فعلتُ كذا لما وقع لي كذا، فهذا منهي عنه، وفيه محذوران:
1.
أنَّها تفتح عليه باب الندم والسخط والحزن، الذي ينبغي إغلاقُه، وليس فيه نفع.
2.
أنَّ في ذلك سوء أدبٍ مع الله وعلى قدَره، فإنَّ الأمورَ والحوادث كلها بقضاء الله وقدره.
قال ابن القيم: «لأنَّ قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا، لم يفتني ما فاتني، أو لم أقع فيما وقعت فيه كلام لا يجدي عليه فائدة البتة، فإنَّه غير مستقبل لما استدبر من أمره وغير مستقيل عثرته ب «لو» ، وفي ضمن «لو» ادّعاء، أنَّ الأمر لو كان كما قدّره في نفسه، لكان غير ما قضاه الله وقدّره وشاءه، فإنَّ ما وقع مما يتمنى خلافه إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته، فإذا قال: لو أنّي فعلتُ كذا لكان خلاف ما وقع فهو محالٌ؛ إذ خلاف المقدَّرِ المقضي
محالٌ، فقد تضمّن كلامه كذبًا وجهلًا ومحالًا، وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله: لو أني فعلت كذا، لدفعت ما قدَّر الله علي»
(1)
.
ب- أن يقولها متمنيًا الشر: كقوله: لو أنَّ لي مال فلان لفعلت به فِعْلَ فلان، فهو بنيته فهما في الوزر سواء، كما ورد هذا في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه.
الثانية: محمود: وذلك بأن يقولها متمنيًا الخير، كما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه مرفوعًا: «إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ
…
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ
…
»
(2)
، وحديث: «لَوْ صَبَرَ مُوسَى لَقَصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ نَبَأِهِمَا
(3)
»
(4)
.
الثالثة: جائز: وذلك:
1.
إذا استعملها على سبيل الإخبار المحض، وليس في قصده تندم أو تحسّرٌ أو تمني أو غيره: فهذا جائز، ومنه قول الإنسان: لو أني وصلت قبلك لهيأت المكان، أو لو حضرت الدرس لاستفدت، وليس في قلبه ندمٌ وتحسرٌ ونحوه، فالفارقُ بين هذا وبين المذموم ما يقع في القلب من الندم والاعتراض على القدر ونحوه.
2.
قولها على أمر مستقبل، ومنه: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ
(1)
زاد المعاد (2/ 325).
(2)
أخرجه الترمذي (2325)، وأحمد (4/ 231)، والطبراني في الكبير (22/ 345). وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (16).
(3)
أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380) من حديث ابن عباس.
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (18/ 347).
حَتَّى أَزِيدَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ»
(1)
، وحديث: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي
…
»
(2)
.، فهذا أمرٌ مستقبلٌ لا اعتراض فيه على قدر؛ لأنَّه أخبر عما يعتقد ويريد، لولا المانع.
المسألة الثالثة: أنَّ الله ذمّ في النصوص من تحسّر على الماضي، أو اعترض على القدر، بقول:«لو» ، وساق المصنف في الباب بعض النصوص:
1) قول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} فذمّ الله المنافقين على الاعتراض على القدر ب «لو» ورد الله عليهم بأنَّ هذا قدرٌ لا يمكن التخلف عنه.
2) قوله: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} وهذه الآية قالها المنافقون ومن رجع من المؤمنين معهم من الجيش يوم أحد؛ تحسرًا على الماضي، فرد الله عليهم بقوله:{قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} .
3) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا، لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ اَلشَّيْطَانِ» :
فقوله: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» أمر صلى الله عليه وسلم بالحرص، مع الاستعانة بالله؛ لأنَّه لا يحصل له ذلك إلّا إذا كان مستعينا بالله، فإذا كان حريصًا على ما ينفعه، وكان مستعينًا بالله وحده، معتمدًا عليه، تم مراده بإذن الله.
وقوله: «وَلَا تَعْجَزَنْ» والعجز هنا هو التفريط والتضييع، وليس المراد به
(1)
أخرجه البخاري (1583)، ومسلم (1333) من حديث عائشة.
(2)
وردت هذه الصيغة في عدة أحاديث في الصحيحين، انظر: صحيح البخاري (887)، وصحيح مسلم (638).
ضدّ القدرة. قاله ابن تيمية
(1)
.
وقوله: «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ» : أي وإن غلبك أمر، ولم يحصل المقصود بعد بذل الجهد والاستطاعة، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، فإنَّه لا يجدي عليك شيئًا.
وقوله: «وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اَللَّهُ» : لأنَّ ما قدّره لا بد أن يكون، والواجب: التسليم للمقدور.
وقوله: «وَمَا شَاءَ فَعَلَ» : لأنَّ أفعاله لا تصدر إلّا عن حكمة.
والحديث دلّ على تحريم الاعتراض على القدر، والنهي عن قول:«لو» والأمر بالاستسلام للقدر؛ لأنَّه من تمام التوحيد.
قال ابن القيم معلقًا على الحديث: «والعبد إذا فاته المقدور» ، له حالتان:
* حالة عجز: وهي عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى «لو» ، ولا فائدة فيها، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والحزن، وهذا من عمل الشيطان، فنهاه عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح.
* وأمره بالحالة الثانية: وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنَّه لو قدر لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فقال: «وإن أصابك
…
إلخ»، فأرشده إلى ما ينفعه حال حصول مطلوبة وحال فواته، ونهاه عن قول:«لو» ، وأخبره أنَّها تفتح عمل الشيطان، لما فيها من التأسف على ما فات، والتحسر والحزن ولوم القدر، فيأثم بذلك، وذلك من عمل الشيطان.
وما ذاك لمجرد لفظ: «لو» ، بل لِما قارنها من الأمور القائمة بقلبه، المنافية
(1)
جامع الرسائل، لابن تيمية (2/ 136).
لكمال الإيمان، الفاتحةِ لعمل الشيطان، وأرشده إلى الإيمانِ بالقدر، والتفويضِ والتسليم للمشيئة، فهذا الحديثُ مما لا يستغني عنه العبد، وهو يتضمن إثبات القدر، وإثبات الكسب، والقيام بالعبودية»
(1)
.
* خلاصة الباب: أن «لو» تختلف بحسب مقصد قائلها، فإن قصد بقولها اعتراضًا على القدر وتسخطًا له وندمًا فإنَّها لا تجوز؛ لما فيه من السخط، ولأنَّها لا فائدة منها بعد الفوات إلّا الحسرة على ما فات.
(1)
شفاء العليل (ص: 19).
58 - باب النهي عن سب الريح
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَسُبُّوا اَلرِّيحَ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَقُولُوا: اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ اَلرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اَلرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: بيان ما ورد من النهي عن سبِّ الريح، ويدخل فيها سبّ غيرها مما يقدّره الله، ومن جنود الله.
ومناسبة الباب للتوحيد: من جهة أنَّ سبّ الريح وغيرها من المخلوقات نقصٌ
(1)
أخرجه الترمذي (2252)، والنسائي في الكبرى (10704)، والطحاوي في شرح المشكل (918)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (298) وقال الترمذي:«حسن صحيح» ، وصححه الألباني في الصحيحة (2756).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح. الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة. الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.
في الإيمان، وقدحٌ في التوحيد، فسبُّها اعتراضٌ على الله، إذ هي مُدَبَّرةٌ من الله سبحانه، فهو الفاعل.
المسألة الثانية: الأصل في حكم سبِّ الريح: التحريمُ؛ لأنَّه سبٌّ للفاعل وهو الله، ويدخل في سَبِّها لعنُها كذلك.
وهو كذلك نقصٌ في التوحيد وفي العقل، فهي مأمورة، ولهذا ورد في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:«أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ حين نَازَعَتْهُ رِدَاءَهُ عَلَى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فلعنها، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَلْعَنْهَا فَإنَّها مَأْمُورَةٌ، وَأنَّه مَنْ لَعَنَ شيئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ»
(1)
.
قال الشافعي: «لا ينبغي شتمُ الريحِ، فإنَّها خلقٌ مطيعٌ لله، وجندٌ من أجناده، يجعلها الله رحمةً إذا شاء، ونقمةً إذا شاء»
(2)
.
• واعلم أنَّ سبَّ الريحِ يأتي على وجهين:
أ. أن يسبّها باعتقاد أنَّها مأمورةٌ مخلوقة، فهذا حرامٌ، وعليه يحمل النهي في حديث الباب:«لَا تَسُبُّوا اَلرِّيحَ» ، والأصل في النهي إذا تجرد عن القرائن التحريم.
ب. أن يسبّها باعتقاد أنَّها هي الفاعلةُ، فهذا شركٌ في الربوبية؛ لأنَّه اعتقد لمخلوقٍ من مخلوقات الله -وهي الريح- تصريفٌ وتدبيرٌ في الكون.
(1)
أخرجه أبو داود (4908)، والترمذي (2093)، وابن حبان في الصحيح (5745)، والطبراني في الكبير (22/ 160)، وفي الصغير (957)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2800).
(2)
الأم (1/ 253).
المسألة الثالثة: ساق المصنّف في الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا اَلرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَقُولُوا: اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ اَلرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اَلرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ» .
وفي الحديث النهي عن سبِّ الريح؛ لما سبق من أنَّها مأمورةٌ لا تدبير لها إلّا بأمر الله، فسبُّها سبٌّ للمدبّر وهو الله.
ثانيًا: ماذا يفعل عند هبوبها؟
1) الدعاء الوارد في حديث الباب: «اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ اَلرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اَلرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ» وفيه من الحكمة: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى خالق الريح، فهو الذي بيده كل شيء.
وفي حديث أبي هريرة: «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا، فَلَا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا»
(1)
.
2) التعوذ بالمعوذتين وغيرها: لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: «أنَّهم غشيتهم رِيحٌ، وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما، وَيَقُولُ: «يَا عُقْبَةُ، تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا»
(2)
.
المسألة الرابعة: الريح لا تأتي بالشرِّ فقط، بل فيها من المصالح للعباد والأرض ما لا يحيط به إلّا الله، ولو ركد الجوُ لَلَحِقَ العبادَ من المشقةِ والبلاءِ ما لا يعلمه إلا الله، فسبحانَ مَنْ جعل هبوب الرياح تأتي بِرَوحِه ورحمته ونعمته.
ومع هذا فينبغي على المرءِ عند تغيير الأجواء والحوادث أن يخاف، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا تخيلت السماء، فربما أتت الريح بأمر الله بعذابٍ من الله للعباد، وقد قال الله عن قوم {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ
…
} [الأحقاف، الآية (24)].
* خلاصة الباب: أنَّ الريح من عند الله، وما هو من عند الله لا يجوز سبه، بل تدعو الله عند حلوله، وكم في الرياح من خير وأرباح.
(1)
أخرجه أبو داود (5097)، وأحمد (2/ 268)، والبخاري في الأدب المفرد (720)، والنسائي في الكبري (10699)، وابن ماجه (3727)، وابن حبان (1007)، والطبراني في الدعاء (971)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3564).
(2)
أخرجه أبو داود (1463)، والطحاوي في شرح المشكل (127)، والطبراني في الدعاء (978)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7949).
59 - باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران، الآية (154)].
وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح، الآية (6)].
قال ابن القيم في الآية الأولى: «فُسِّر هذا الظنُّ بأنَّه سبحانه لا ينصر رسوله، وأنَّ أمره سيضمحل، وفُسِّرَ بأنَّ ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتمّ أمرُ رسوله، وأن يُظهِره الله على الدين كله، وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّ المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا الظنّ السوء؛ لأنَّه ظنّ غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظنّ أنَّه يُدِيلُ الباطل على الحق إدالةً مستقرةً يضمحل معها الحقُّ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
وأكثرُ الناسِ يظنّون بالله ظنّ السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم،
ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتّشت من فتّشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامةً له، وأنَّه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا؛ فمستقلٌ ومستكثرٌ، وفتِّش نفسك، هل أنت سالم.
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
…
وإلا فإني لا إخالك ناجيًا»
(1)
(2)
.
(الشرح)
عقد المصنّف هذا الباب في الكلام على الظنّ الحسن والظنّ السيء بالله تعالى، والكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: تنبيه المؤمنين إلى وجوب حسن الظن بالله، وأنَّ ذلك من واجبات التوحيد، فالموحِّدُ هو الذي يعتقدُ أنَّ الله كاملٌ في أسمائه، وفي أفعاله، ولازِمُ ذلك أن يحسن الظنَّ بالله سبحانه، ويعتقد أنَّ أفعاله تامّة الحسن.
وعلاقة الباب بالتوحيد: من جهة أنَّ ظنّ السوء بالله ينافي كمال التوحيد له والتسليم له، وينافي الإيمانَ بأسمائِه وصفاته.
(1)
زاد المعاد (3/ 205) بتصرف.
(2)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية الفتح. الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تُحصر.
الرابعة: أنه لا يَسْلَم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
المسألة الثانية: ساق المصنفُ قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران، الآية (154)].
وظنُّ الجاهلية: هو الظنُّ المنسوبُ إلى أهلِ الجهل، الذين يعترضون على القدر ويسيئون الظنّ به، ويزعمون أنَّ الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، ولما قُتِلوا.
وسبب نزول الآية: ما نقل عن ابن عباس قال: «إن معتّب قال يوم أحدٍ لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتِلنا هنا، فأنزل الله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران، الآية (154)]»
(1)
.
المسألة الثالثة: ساق المصنّف كلام ابن القيم، وقد اختصره، وهو مذكور بأطول من هذا في زاد المعاد.
والشاهد: أنَّه رحمه الله ذكر في ظنِّ السوء وظنِّ الجاهليةِ ثلاث تفسيراتٍ وصور:
1.
أن يظن أن الله يُديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحِلّ معها الحق، وهذا ظنُّ المشركين والمنافقين:{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح، الآية (12)].
2.
إنكارُ القدر: بأن ينكر أنَّ ما وقع هو بقضاء الله، وهذا يتضمن أن يكون في ملكه مالا يريد.
3.
إنكار الحكمة: بأن ينكر أنَّ يكون ما قدّره، قدّره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد؛ لأنَّ هذا يقتضي أن يكون تقديره عبثًا بلا حكمة، وقد قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم (4366).
الْحَقُّ} [المؤمنون، الآية (115 - 116)]. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} [الدخان، الآية (38)].
وقد ذكر ابن القيم صورًا عديدة من سوء الظنّ بالله تقع عند بعض الناس، ثم قال:«وبالجملة فمن ظنّ به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسله، أو عطّل حقائق ما وصف به نفسه ووصفه به رسله، فقد ظنّ به ظنّ السوء» .
ثم ذكر البيت من كلام الفرزدق:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
…
وإلا فإني لا إخالك ناجيًا
(1)
.
أي: لا أظنك ناجيًا من الاعتراض على القدر، بل أكثرُ الخلق إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحقّ ظنّ السوء، بلسان الحال أو المقال.
المسألة الرابعة: وردت آيتان توعد الله بهما من أساء الظنّ به بأعظم وعيد.
1.
2.
قوله تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ (23)} [فصلت، الآية (22 - 23)].
قال ابن القيم: «ولم يجئ في القرآن وعيدٌ أعظم من وعيدِ من ظنَّ به ظنّ السوء»
(2)
.
(1)
زاد المعاد (3/ 209) وهو كلام نفيس لابن القيم، وذكر فيه صور الظن السيء بالله، فراجعه لزامًا.
(2)
الصواعق المرسلة (4/ 1356).
المسألة الخامسة: الطريقُ للسلامةِ من الظنِّ السيء بالله تعالى يكون بمعرفة الله بأسمائه وصفاته، فإنَّ هذا يقوي القلب، ومن عرف الله سبحانه لم يظنَّ به إلّا الخير، ومن لم يتعرف على الله فقد يسيئ به الظن، قال ابن القيم:«ولا يَسلم عن ذلك -أي: الظنّ السيء بالله- إلّا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته»
(1)
.
* خلاصة الباب: أنَّه يجب على المؤمن الموحد أمور:
1 -
حسن الظنّ بالله: وفي الخبر: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»
(2)
.
2 -
عدم الاعتراض على قدرٍ يقدره الله، وأن يرضى ويسلم، وأن لا يسخط شيئًا قدره الله عليه.
3 -
أن يعتقد أنَّ جميع ما يفعله الله، يفعله لحكمة ربما علمناها وربما لم تبلغها عقولنا.
4 -
أن يتعاهد المرء نفسه وقلبه فكم من صالح وقع في سوء ظن بالله، فإذا وقع في شيء فعليه بالاستغفار والتوبة إليه سبحانه مما وقع في قلبه.
(1)
زاد المعاد (3/ 229).
(2)
أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة.
60 - باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر رضي الله عنه: «وَاَلَّذِي نَفْسُ اِبْنِ عُمَرَ بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ مَا قَبِلَهُ اَللَّهُ مِنْهُ، حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» .
ثم استدل بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اَلْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
(1)
.
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (8).
(2)
أخرجه أبو داود (4700)، والترمذي (2155 - 3319، وابن أبي شيبة في المصنف (14/ 114)، وأحمد (5/ 317) والفريابي في القدر (72)، وابن أبي عاصم في السنة (107)، والآجري في الشريعة (180)، والبيهقي في القضاء والقدر (209).
(3)
مسند أحمد (5/ 317).
وفي رواية لابن وهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَحْرَقَهُ اَللَّهُ بِالنَّارِ»
(1)
.
(2)
(3)
.
(1)
القدر (26).
(2)
أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وأحمد في المسند (5/ 182)، وعبد بن حميد في مسنده (247)، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة (844)، وابن أبي عاصم في السنة (245)، وابن حبان (727)، وصححه الألباني في ظلال الجنة.
(3)
فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر. الثانية: بيان كيفية الإيمان به. الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار بأن أحدًا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به. الخامسة: ذِكْرُ أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة. السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشُّبْهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يُزيل الشبهة، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
(الشرح)
عقد المصنّف الباب في الكلام على القدر، والكلام عليه في عدة مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: بيان ما ورد في النصوص من الوعيد الشديد على من أنكر القدر الذي قدره الله، وحكم من أنكره.
وعلاقة الباب بالتوحيد: من جهة أنَّ الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، وإنكارُه منافٍ للتوحيد، ومِن جهة أنَّ تعظيم الله يكون بالتسليم له، والإيمان بربوبيته يقتضي عدم إنكار ما يقدِّرُه، ومن أنكرَ القدَر فقد تنقّص ربوبيته.
المسألة الثانية: القدَرُ لغة: له عدة معانٍ ترجع إلى التقدير.
وشرعًا: تقدير الله الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنَّها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك، ومشيئته له ووقوعها على حسب ما قدرها.
وقد حوى التعريفُ مراتبَ القدر الأربع: العلم، والكتابة، والخلق، والمشيئة، التي وردت في القرآن والسنة، وقد بيّنها العلماء، وهي:
1 -
علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم.
2 -
كتابة ذلك في اللوح المحفوظ عنده قبل خلق السموات والأرض.
3 -
مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه.
4 -
خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء
(1)
.
(1)
انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: 90).
المسألة الثالثة: أقسام منكري القدر، وحكم من أنكر القدر.
* ذكر أهل العلم أن منكري القدر يدخل فيهم صنفان من الناس:
الأول: غلاة القدرية الذين ينكرون علم الله عن الأشياء قبل وقوعها، وينكرون كتابته سبحانه ما يقع على العباد، ويرون أنَّ الأمر لا يعلمه الله إلّا بعد وقوعه.
وهؤلاء الغلاة كفَّرهم العلماء كمالك والشافعي وأحمد
(1)
، وهو الذي دلّ له كلام ابن عمر رضي الله عنه في الحديث.
• والعلة: أنَّهم أنكروا علم الله سبحانه، ونسبوه إلى الجهل بالأشياء.
الثاني: من أثبت علم الله وكتابته، لكنّه أنكر مشيئة الله لما يقع من العبد، وخلقه له، وذلك لكي ينزهوا الله -كما يزعمون- من أن يعذب من فعل شيئًا قد شاء الله وقوعه، وهذا خطأ؛ لأنَّ ثمة فرقًا بين المشيئة الشرعية، وبين المشيئة الكونية القدرية، وتفصيل هذا يطول، فليراجع له شرح الطحاوية
(2)
.
والقائلون بهذا هم القدرية المعتزلة، وقد حكم العلماء عليهم بالبدعة، ولم يكفروهم.
المسألة الرابعة: وردت عن السلف أقوالٌ عديدة في الكلام على القدر ووجوب إثباته.
قال زيد بن أسلم قال: «القدَرُ قُدرة الله تعالى، فمن كذّب بالقدر فقد جحد قدرة الله تعالى» ، وقال أيضًا: «ما أعلمُ قومًا أبعد من الله تعالى من قوم يخرجونه
(1)
انظر: الردّ على الجهمية، للدارمي (ص: 212)
(2)
شرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 80).
من مشيئته، وينكرونه من قدرته»، وقال مالك بن أنس:«ما أضل من كذب بالقدر، لو لم يكن عليهم فيه حجة، إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن، الآية (2)] لكفى به حجة» .
وقال البغوي: «القدر سرٌّ من أسرار الله لم يُطلِع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلًا، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق العقل، بل يُعتقد أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، فجعلهم فريقين: أهلُ يمينٍ خلقهم للنعيم فضلًا، وأهلُ شمالٍ خلقهم للجحيم عدلًا
(1)
.
وقد ساق الآجري في الشريعة أقوالًا عديدة للسلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في ذم القدرية
(2)
.
وأما ما ورد من الأحاديث في ذمِّ القدرية، كحديث: «القدرية مجوس هذه الأمة
…
» ونحوها؛ فكلها ضعيفة لا تثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، وقد تكلم عنها بتفاصيلها وبيّن ضعفَها ابنُ الجوزي رحمه الله
(3)
.
المسألة الخامسة: ذكر المصنّف في أول الباب كلام ابن عمر، وقد أخرجه مسلم عن يحيى بن يعمر قال: «كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ: مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ -أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ- فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ
(1)
شرح السنة، للبغوي (1/ 144).
(2)
الشريعة، للآجري (2/ 895).
(3)
انظر: العلل المتناهية (1/ 147).
الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ:«فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي» ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» .
ثم ذكر ابن عمر حديث عمر رضي الله عنه في قدوم جبريل المشهور، وفيه قال: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ
…
».
والشاهد منه: أنَّه ذكر أنَّ الإيمان بالقدر خيره وشره من أصول الإيمان الستة، فمن أنكره وجحد به لم يكن مؤمنًا؛ لأنَّ الكافر بالبعض كافر بالكل.
المسألة السادسة: ذكر المصنف حديث عبادة بن الصامت، وقد بيّن فيه عُبادة رضي الله عنه لابنه: أنَّ الإيمان له طعمٌ حلوٌ لا يناله كل أحد، بل يناله من حققوا الإيمان الحق، وذلك بخصالٍ، من أعظمها: الإيمان والتسليم لقضاء الله وقدره، ولازِمُ ذلكَ: أن تعلم أنّ ما أصابك فلا يمكن أن يخطئك، بل لابد أن تجري المقادير ليقع عليك، وما أخطأك ولم يتحصل لك فلا يمكن مهما فعلت من أسباب أن يقع لك، وهذا الإيمان يريح المرء ويجعله راضيًا بتقدير الله، ويغلق عليه باب «لو» وتسويل الشيطان وتأسيفه.
ولذا ورد عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه مرفوعًا: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضى بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»
(1)
.
المسألة السابعة: ورد في حديث عبادة رضي الله عنه أنَّ الله لما خلق القلم، وكان
(1)
أخرجه مسلم (34).
ذلك قبل خلق الناس جرى بتقدير الله، وأمره بكتابة كل ما سيكون، فالقدر متقدم على خلق الناس، وقد اختلف أيهما خُلِقَ أولًا العرش أم القلم؟
* والجمهور: أنَّ العرش خُلِق أولًا، ويدل له حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه مرفوعًا:«كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»
(1)
، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش والتقدير وقع عند أول خلق القلم.
وأما حديث: «أول ما خلق الله القلم» فإما أن يقال بأن المراد أن أول ما خلق الله القلم قال الله له: اكتب، ولا يلزم من ذلك أنَّه أول المخلوقات، فتكون كلمة (القلم) منصوبة، لا مرفوعة.
وإما أن يحمل على أنَّه أول المخلوقات من هذا العالَم، قال ابن القيم:
والناس مختلفون في القلم الذي
…
كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده
…
قولان عند أبى العلا الهمداني
والحق أن العرش قبل لأنَّه
…
عند الكتابة كان ذا أركان
(2)
المسألة الثامنة: أفاد حديث عبادة رضي الله عنه أنَّ في القدر خيرًا وشرًا، وهذا بالنسبة للعبد، أما الربّ سبحانه، فأفعاله خير محض لا شرّ فيه، ولا يقدِّر على عباده إلا خيرًا إما عاجلًا وإما آجلًا، ولذا ورد في الآية: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ
…
} فظهور الفساد شرّ لكنه بالنسبة لتقدير الله خير؛ لأنَّه يترتب عليه تكفير الذنوب، ولعل الناس يرجعون، قال ابن القيم: «فالشر راجع
(1)
أخرجه مسلم (2653).
(2)
النونية (ص: 65).
إلى مفعولاته، لا إلى ذاته وصفاته»
(1)
.
(2)
.
المسألة التاسعة: في حديث عبادة رضي الله عنه قوله: «لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا قَبِلَهُ اَللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» ، وهذا فيه تمثيل على سبيل الافتراض، أي: لو فرض أنّك أنفقت مثل أحد فلن يقبل منك، ففيه مبالغة في البيان، وإنما لا يقبل الله منه؛ لأنَّ من أنكر القدر فهو كافر، والله لا يقبل من الكفار:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة، الآية (54)].
المسألة العاشرة: لفظ الحديث عند ابن ماجه فيه زيادة: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ» .
وقد توارد على هذا المعنى رأي ثلاثة من الصحابة، فقد أخرج ابن ماجه الحديث عن ابن الديلمي بلفظ «وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ، خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ دِينِي وَأَمْرِي، فَأَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ، فَخَشِيتُ عَلَى دِينِي وَأَمْرِي، فَحَدِّثْنِي مِنْ
(1)
مفتاح دار السعادة (2/ 112).
(2)
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد (ص: 602).
ذَلِكَ بِشَيْءٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ، فَقَالَ:«لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ» وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ أَخِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَتَسْأَلَهُ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ، فَسَأَلْتُهُ، فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَيٌّ، وَقَالَ لِي: وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ حُذَيْفَةَ، فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا، وَقَالَ: ائْتِ زيْدَ بْنَ ثابتٍ، فَاسْأَلْهُ، فَأَتَيْتُ زيْدَ بْنَ ثابتٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لوْ أَنَّ اللَّهَ عذَّبَ أهْلَ سَمَاوَاتِهِ وأهْلَ أرْضِهِ
…
الحديث».
ولابن القيم كلامٌ نفيس على هذه الجملة، حيث قال:«وليس المراد به لو عذبهم لتصرف في ملكه، والمتصرف في ملكه غير ظالم، كما يظنه كثير من الناس، فإن هذا يتضمن مدحًا، والحديث إنما سيق للمدح بغير استحقاق، فإن حقه سبحانه عليهم أضعاف اضعاف ما أتوا، ولهذا قال بعده: «وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ» يعني: أنّ رحمته لهم ليست على قدر أعمالهم إذ أعمالهم لا تستقبل باقتضاء الرحمة وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم يقوموا بها، فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيبًا لحقه وهو غير ظالم لهم فيه، ولا سيما فإنَّ أعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذبهم على ترك شكرهم وأداء حقه الذي ينبغي له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالمًا لهم»
(1)
.
(1)
طريق الهجرتين، لابن القيم (428).
* خلاصة الباب: أنَّ الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، وإنكارُه منافٍ لتوحيد الله، وتنقصٌ لله، إذ نفى عنه ما أثبته لنفسه من العلم والمشيئة والخلق والكتابة، فلزامٌ على المسلم أن يؤمن بالقدر، وأنَّه ما يقع في الكون شيء إلّا والله يعلمه وكتبه وقد خلقه وشاءه كونًا وقدرًا.
61 - باب ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؛ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيْرَةً»
(1)
.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ: الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ»
(2)
.
ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ»
(3)
.
ولهما عنه مرفوعًا: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا، كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ»
(4)
.
ولمسلم عن أبي الهياج قال: «قال لي علي رضي الله عنه: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَّا تَدَعَ صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا؛
(1)
أخرجه البخاري (5953)، ومسلم (2111).
(2)
أخرجه البخاري (5954)، ومسلم (2107).
(3)
أخرجه البخاري (2225)، ومسلم (2110) واللفظ لمسلم.
(4)
أخرجه البخاري (5963)، ومسلم (2110).
إِلَّا سَوَّيْتَهُ»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في أربع مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب:
التصوير: هو جعل شيء على صورة شيء، والمراد هنا: من يُصَوِّرُ شيئًا على هيئة ما خلق الله تعالى من ذوات الأرواح.
فأراد المصنّف هنا أن يبيّن ما ورد من الوعيد والعقوبة للمصورين، وأنَّهم من أشدّ الناس عذابًا.
وعلاقة البابِ بالتوحيد من جهاتٍ ثلاث:
1 -
أنّ التصويرَ فيه مضاهاةٌ لخلق الله، فالمصوِّرُ جَعل فِعله ندًا لفعل الله فشاركه في ذلك، وإذا كان هذا فيما صُوِّرَ على شكل ما خلق الله، فكيف بحال من سوّى المخلوقَ بالله وشَبَّهه بخلقه؟!
(1)
أخرجه مسلم (969).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة، وهي تَرْكُ الأدب مع الله؛ لقوله تعالى:«ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟» .
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم؛ لقوله: «فليخلقوا ذرةً أو شعيرةً» . الرابعة: التصريح بأنهم أشدُّ الناس عذابًا.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسًا يعذِّب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يُكلَّف أن يَنفخ فيها الروح. السابعة: الأمر بطمسها إذا وُجِدَت.
2 -
أنَّ التصويرَ وسيلةٌ للوقوع في الشرك، والوسائلُ للمحرم يجب سدُّها.
3 -
أنَّ التصوير من الكبائر؛ لأنَّه توعّد عليها، والكبائر تقدح في كمال التوحيد، لا أصلِه، وتُعرِّضُ صاحبه للوعيد.
المسألة الثانية: حينما يُطلَق التصوير فإنَّه يدخل فيه صورتان:
1.
النحت: بأن يصنع تمثالًا أو صورة مجسّمة، على شكل صورة ذات روح.
2.
أن يرسم بيده شيئًا من ذوات الأرواح.
والخلافُ في الآلات الحديثة مشهورٌ هل تُلحَقُ بالتصوير أم لا؟ وهذا محله كتب الفقه
(1)
.
* المراد أنَّه رحمه الله استدل على حرمة التصوير بأحاديث:
1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؛ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيْرَةً» ، وفي الحديث أمران:
أ- بيان عظم ظلم المرء حين يذهب ليخلق خلق الله، وأنَّه من أعظم الظلم.
ب- فيه تحدي الله لخلقه أن يخلقوا كخلقه، فتحداهم أن يخلقوا ذرّةً وهي صغار النمل، أو يخلقوا حبة ينفلق منها النبات، وهذا في أقل الأشياء، فما هو أكبر منها هم أعجز عن خلق مثله.
ووجه الشاهد من الحديث: أنَّ المصور بتصويره شيئًا كخلق الله، صار
(1)
انظر: أحكام التصوير في الفقه الإسلامي، د. محمد علي واصل (ص: 312 وما بعدها).
مضاهيًا لله في خلقه.
2) حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ» .
وفي الحديث: بيان أنَّ أشد الناس عذابًا هم الذين يضاهئون بخلق الله، أي: يشابهون بخلق الله، وهم المصورون.
لكن المضاهاة التي يكفر صاحبها، وتُوُعِّدَ بأشدِّ العذاب نوعان:
1 -
أن يصوِّر شيئًا من صنم وغيره ليعبد، فهذا شركٌ أكبر.
2 -
أن يصور صورة ويزعم أنَّها أحسن من خلق الله، فهذا كفر.
* أما كونُ الإنسانِ يصور بيده وينحت ونحوه، فهذا لاشك أنَّه ارتكب كبيرةً ومتوعّدٌ بالعقوبة، لكنه لا يخرج من الدين.
3) حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ» .
وفي الحديث: بيان أنَّ كل من صور ما له روحٌ ونفس فإنَّه يدخل النار، ويجعل له بكل صورة صورها نفس، ويقال له: انفخ فيها الروح ويعذّب لذلك، وهذا الدخول في النار ليس مؤبدًا؛ لأنَّ فاعل الكبيرة لا يخلّد في النار، بل هو تحت المشيئة، والحديث يدل على طول تعذيبه، وإظهارِ عجزه عما كان تعاطاه، ومبالغة في تحريمه، وبيان قبح فعله.
4) حديث أبي الهياج قال: «قال لي علي رضي الله عنه: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَّا تَدَعَ صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا؛ إِلَّا سَوَّيْتَهُ» ،
وفي هذا الحديث أمران:
1 -
أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بأن لا يدع صورة إلّا طمسها، والطمسُ: إزالة معالم الوجه، وسواءٌ كان هذا بقطعِها أو حفرِها أو لونها بلونٍ آخر يزيل معالمها.
2 -
أن لا يدع قبرًا مشرفًا مرتفعًا -والإشراف هو الارتفاع- إلّا سوّاه بالأرض على وفق الشرع، وليس المرادُ تسويته بالأرض، وإنما تسويته على سمت القبور المشروعة، وذلك بأن لا يرتفع أكثر من شبر، وأن يردّ إليه ترابه، كما قال بعض الفقهاء، وذلك يرفعه قدر شبر.
ومعلوم أنَّ رفع القبور أوقع البعض في الفتنة بها وتعظيمها، وتطور الأمر بهؤلاء إلى بناء الأبنية عليها، ثم تزيينها بالأنوار والأطياب والسرج والزخارف، وهذا كله -كما لا يخفى- قد يوقع في نفوس الضعفاء من العامة تعظيمها، فلذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًا بأن لا يدع قبرًا مشرفًا إلّا سوّاه على سمت الشرع، وفيه الإنكار باليد للقادر على ذلك.
المسألة الثالثة: ذكر العلماءُ أنَّ العِلَّةَ من النهي عن التصوير: كونه ذريعةً إلى الشرك، حين يُعَظَّمُ أصحابها مع طول الزمن.
وأصحابُ الأصنامِ -ومنهم قومُ نوحٍ; - كان مبتدأ أمرهم التصوير، حين عظّموا الأموات فصوروهم، ثم جاء مَنْ بعدهم فعبدوهم، ولأجل مثل هذا نُهِيَ عن زيارة القبور في أول الأمرِ سدًّا للذريعة في تعظيمهم، ثم لما تمكن التوحيد في القلوب أذن لهم.
قال ابن تيمية: «من أعظم أسبابِ عبادة الأصنام تصويرُ الصور وتعظيم القبور،
قال: وهل كان أصل عبادة الأصنام في بني آدم من عهد نوح; إلا هذا»
(1)
.
المسألة الرابعة: يستثنى من تحريم التصوير أمران:
1.
ما لا روح فيه، كالأشجار والزروع والصحراء ونحوه: وهذا وقع فيه خلاف بين العلماء؛ فاستدل بعض السلف بقوله صلى الله عليه وسلم: «أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً .. » على تحريم تصوير ما فيه حياةٌ ولكن لا روح فيه من خلق الله كالزروع والأشجار.
* لكن الجمهور على خلاف ذلك، وأنَّ التحريم إنما هو لما فيه روح، ويشهد له قوله: «كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ
…
». «أحيوا ما خلقتم» .
* وأما هذا الحديث، فهو على سبيل التحدي والتعجيز.
وقد ورد في الصحيح قول ابن عباس رضي الله عنهما: «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ»
(2)
، وهذا دليل على الجواز.
2.
ذوات الروح إذا طمس منها ما لا تبقى فيه الحياة بإزالته؛ كالبدن لوحده.
* والدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «أَتَانِي جِبْرِيلُ;، فَقَالَ لِي: أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلاَّ أنَّه كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِى فِي الْبَيْتِ يُقْطَعُ فَيَصيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مَنْبُوذَتَيْنِ تُوطَآنِ
…
»
(3)
.
(1)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 347 - 349).
(2)
أخرجه البخاري (2225)، ومسلم (2110).
(3)
أخرجه أبو داود (4158)، والترمذي (2806)، والطحاوي (4/ 287)، وابن حبان (5854)، والبيهقي (7/ 270)، وفي الشعب (5901)، وصححه الألباني في الصحيحة (356).
وقال ابن عباس: «الصورة الرأس، فإذا قُطِعَ الرأسُ فليس بصورة»
(1)
(2)
.
* خلاصة الباب: أنَّ التصوير فيه مضاهاة لخلق الله، وهو ذريعة للوقوع في تعظيم المصور، وقد يلج الشيطان منه إلى إيقاع الناس بالشرك بالله، ولذا نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه.
(1)
أخرجه البيهقي في الكبرى (7/ 441)، وقد روي عن ابن عباس مرفوعًا، أخرجه الإسماعيلي في معجم شيوخه (291)، وصححه الألباني في الصحيحة (1921).
(2)
ويرى ابن قدامة أنَّه حتى لو بقي الرأس وحده فلا يُعَدُّ صورةً، ما دام لا يعيش برأس فقط، حيث قال: «إنَّ قُطِعَ منه ما لا يبقى الحيوان بعد ذهابه، كصدره أو بطنه، أو جُعِل له رأسٌ منفصلٌ عن بدنه، لم يدخل تحت النهي؛ لأن الصورة لا تبقى بعد ذهابه، فهو كقطع الرأس، وإن كان الذاهِبُ يبقى الحيوانُ بعده، كالعين واليد والرجل، فهو صورة داخلة تحت النهي.
وكذلك إذا كان في ابتداء التصوير صورة بدن بلا رأس، أو رأس بلا بدن، أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان، لم يدخل في النهي؛ لأن ذلك ليس بصورة حيوان». المغني، لابن قدامة (7/ 201).
62 - باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة، الآية (89)].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اَلْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ»
(1)
.
وعن سلمان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اَللَّهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أُشَيمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اَللَّهَ بِضَاعَتَهُ، لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ»
(2)
.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ اَلسِّمَنُ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (2087)، ومسلم (1606).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (6/ 246)، وفي الأوسط (5577)، والصغير (821)، والبيهقي في الشعب (4511)، وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 78)، وقال:«رواته محتج بهم في الصحيح» ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3067).
(3)
أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535).
وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ اَلنَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»
(1)
.
وقال إبراهيم: «كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار»
(2)
(3)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: ذمُّ إكثارِ الإنسانِ من الحلف.
وعلاقته بالتوحيد: من جهة أنَّ الإنسان لا يحلف إلّا بمعظم وهو الله، والمعظِّمُ لله كمالَ التعظيم لا يكثر الحلف به سبحانه؛ لأنَّ كثرة الحلف يترتب عليها أن يتساهل المرء فيها فيكذب أو يقع فيها حنثٌ، وهذا فيه عدم تعظيمٍ لله، وهو منافٍ
(1)
أخرجه البخاري (3651)، ومسلم (2533).
(2)
أخرجه البخاري (2652).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان. الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد في من لا يبيع إلا بيمينه، ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي. الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون. الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
لكمال التوحيد، ولأجل ذلك ذكر في الباب ما يدل على أنَّه ينبغي حفظ اليمين، وأن لا يحلف إلّا عند الحاجة لذلك.
المسألة الثانية: ذكر المصنف في الباب عدّةَ نصوصٍ في الأمر بحفظ اليمين، وهي:
1) قول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وللمفسرين في تفسير الآية أقوال: والأولى أن يقال حِفْظُ اليمين يكون بأمورٍ ثلاثة:
1.
حفظها قبل الحلف بأن لا يحلف إلّا على أمر شرعي بيّن، ولا يكثر من الحلف.
2.
حفظها بعد الحلف بأن لا يحنث، ما لم يحلف على معصية.
3.
حفظها بعد الحنث بعدم تركها بلا تكفير.
2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «اَلْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ»
والمراد: أنَّه إذا حلف على سلعة أنَّه أعطي فيها كذا، أو أنَّه اشتراها بكذا، وقد يظنه المشتري صادقًا فيما حلف عليه، فيأخذها بزيادةٍ على قيمتها، والبائع إمّا أن يكون كاذبًا في ذلك، وإنما حلف طمعًا في الزيادة، فيكون قد عصى الله، وإمّا أن يكون صادقًا فالإشكال من جري الحلف على اللسان، وهذا ينافي كمال التعظيم، ونتيجةً لكثرة الحلف إمّا صادقًا أو كاذبًا، فالسلعة قد تنفق وتباع، لكن يعاقبه الله بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة.
3) حديث سلمان رضي الله عنه: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اَللَّهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
…
وَرَجُلٌ جَعَلَ اَللَّهَ بِضَاعَتَهُ، لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ».
وفيه توعُّدُ من تَعامُلُه لا يتم إلّا بالحلف، فهو لا يشتري ولا يبيع ولا يتعامل إلّا بحلف، وإنما ذُمَّ هذا لأنَّه لا يخلو -كما سبق- من حالين:
أ- أن يكون كاذبًا: فلكذبه وأكل أموال الناس بالباطل واستخفافه باليمين.
ب- أن يكون صادقًا: فلأنَّ كثرة الحلف تُشعِرُ -كما سبق- باستخفافه بالله.
ولأنَّه إذا تعوّد كثرة الحلف في الدنيا -ولو صادقًا- ربما استمرأ فحلف كاذبًا.
وإنما ذُكِرَ هؤلاء الثلاثةُ في الحديث؛ لأنَّ داعي المعصية في حقِّهم ضعيفٌ، ومع هذا فعلوها، فاستحقوا تغليظ العقوبة.
4) حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وفيه: «ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ اَلسِّمَنُ» .
والشاهد فيه: أنَّ القرون المفضولة -وهي التي بعد القرون الثلاثة- يكون فيهم من يستخفُّ بالشهادة، والشهادة يقترن بها الحلف غالبًا.
أو يقال: بأنَّ من سِمات هؤلاء استخفافهم بأوامر الشرع، ولذا فهم يستخفون بالشهادة وبالأمانة وبالنذر، وقد يدخل في ذلك الحلف، ولذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بعده قوله:«ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» ، فيخفُّ أمرُ اليمينِ والشهادةِ عندهم تحملًا وأداءً، لقلّة خوفهم من الله، وعدم مبالاتهم بذلك.
فإن قيل: كيف يجمع بين قوله: «يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ» وبين قوله صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ الشُّهَدَاءِ مَنْ أَدَّى شَهَادَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا؟»
(1)
.
(1)
أخرجه الترمذي (2297)، وابن ماجه (2364)، وأحمد (5/ 193)، والبزار (3778)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2551)، والطبراني في الكبير (5/ 232)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3277).
لعل أقوى الأجوبة في الجمع بينهما: أن الثناء في خير الشهداء هو في حق من أُشْهِدَ، بأن لا يكتم الشهادة، وأما الذم فهو في حق من يشهد بالباطل.
قال الترمذي: «ومعنى حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الشُّهَدَاءِ مَنْ أَدَّى شَهَادَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» هو عندنا إذا أشهد الرجل على الشيء أن يؤدي شهادته، ولا يمتنع من الشهادة»
(1)
.
وقال ابن تيمية: «قوله في هذه الأحاديث «يشهدون قبل أن يستشهدوا» قد فهم منه طائفة من العلماء أن المراد به أداءُ الشهادة بالحقّ قبل أن يطلبها المشهود له، وحملوا ذلك على ما إذا كان عالمًا؛ جمعًا بين هذا وبين قوله:«ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» .
وحملوا الثاني على أن يأتي بها المشهود له فيعرفه بها.
والصحيح أنَّ الذم في هذه الأحاديث لمن يشهد بالباطل، كما جاء في بعض ألفاظ الحديث:«ثم يفشو فيهم الكذب، حتى يشهد الرجل ولا يستشهد» ، ولهذا قرن ذلك بالخيانة وبترك الوفاء بالنذر، وهذه الخصال الثلاثة هي آية المنافق»
(2)
.
* وقوله: «وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ» : وهذا لا ينافي حديث النهي عن النذر، وأنَّه لا يأتي بخير، وإنما هو تأكيدٌ لأمره، وتحذير من التهاون به بعد إيجابه.
(1)
السنن (4/ 125).
(2)
مجموع الفتاوى (20/ 296).
* وقوله: «وَيَظْهَرُ فِيهِمْ اَلسِّمَنُ» والسِمن إنما يذمّ منه ما كان بسبب الإكثار من المآكل والمشارب، والاشتغال بإصلاح الأبدان والغفلة عن الآخرة، فهذا هو المذموم، وأما إذا حدث السِمَنُ لا عن قصدٍ واختيارٍ، ولا عن انشغال بالمتع الدنيوية عن الآخرة فلا يذمّ.
المسألة الثالثة: ذكر في الباب قول إبراهيم النخعي رحمه الله: «كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار» لأن الصغير إذا تعود الإقدام على الشيء استهان به، وإذا غرس فيه منذ الصغر التحرز والاحتياط من هذا الشيء كبر عليه.
والسلف كانوا يحرصون أن يربوا أبناءهم على فضائل الأمور منذ صغرهم، فلا يتركون شيئًا مما يكره إلا أنكروه، وما يحب إلا أمروا به، وفيه تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم.
* خلاصة الباب: أنَّه لا يُحلف إلا بعظيم وهو الله، وحينها فلا ينبغي الإكثار من الحلف بالعظيم سبحانه، فإن هذا يترتب عليه أنَّه ربما كذب في يمينه فاستخف هو بالله، ولبّس على من سمع يمينه، ولو صدق فإنَّ الإكثار من الحلف ليس من فعل أهل الكمالات، ومن تأمّل حال النبيّ صلى الله عليه وسلم وجد أنَّه لم يكن كثير الحلف، بل إن أيمانه تعدّ عدًّا، لقلّتها.
*
63 - باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل، الآية (91)].
وعن بريدة رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سريَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تمثلوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشركِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أنَّهمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أنَّهمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شيءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ.
وَإِذَا حَاصرتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ
أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ.
وَإِذَا حَاصرتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِى أَتُصيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا»
(1)
(2)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بذمّة الله ضمانه وعهده، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ»
(3)
.
فالذمّة: هي العهد، وذمَّة الله؛ عهده، وإخفار الذمّة: نقضها وعدم حفظها.
فأراد المصنّف بالباب: أن يبين أنَّه يجب على المسلم حفظُ ذمَّةِ الله وذمَّةِ نبيّه والوفاء بهما، والتحذير من إخفارها أو جعلها للناس، وأنَّ ذلك عدم تعظيم لهما، وأنَّ ولي الأمر لا ينبغي أن يجعل للناس ذمّة الله وذمّة نبيّه، بل يجعل لهم ذمّته وذمم أصحابه؛ لأنَّ في انتهاكهم وإخفارهم لذمّة الله
(1)
أخرجه مسلم (1731).
(2)
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه، وذمة المسلمين. الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرًا.
الثالثة: قوله: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله» . الرابعة: قوله: «قاتلوا من كفر بالله» .
الخامسة: قوله: «استعن بالله وقاتلهم» . السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا.
(3)
أخرجه مسلم (657) من حديث جندب.
وذمّة نبيّه؛ تهوينًا للإسلام في نفوس الكفار وتزهيدًا به من جهة، وقرينة على استخفاف مَنْ نقضه من المسلمين بربّه من جهة أخرى، إذ لو عظّمه لما نقض عهده، إلّا أنَّ نقض عهد الله لا يصدر ممن تمكن الإيمان من قلبه، ولكن قد يقع من بعض الأعراب أو من لم يتمكن الدين من قلبه.
ومناسبة الباب للتوحيد: أنَّ عدم الوفاء بعهد الله تنقص له، وهو دليل على عدم تعظيمه، وهو قادح في التوحيد.
المسألة الثانية: ذكر المصنف في الباب قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل، الآية (91)].
وفي الآية: أمرٌ من الله بالوفاء بالعهود والمواثيق التي يجعلها المسلم على نفسه، سواءٌ كان فردًا كما يحصل في العقود ونحوها، أو كان عن جماعة المسلمين وهذا أشدّ، كما يحصل من المعاهدات بين المسلمين وبين الكفار، فإذا عاهدوهم على شيء فلا يجوز أن ينقضوه إلّا بموجب معتبر، فالمسلم ليس بخوّانٍ ولا ناقض للعهود.
وفي الآية أيضًا: الأمرُ بالمحافظة على الأَيمان المؤكدة وتحريمُ نقضها، والوفاء بالعهود، وعدم نقض الأيمان المؤكدة يدلّ على تعظيم الله.
المسألة الثالثة: ذكر المصنّفُ في البابِ حديث بريدة رضي الله عنه، والشاهد فيه قوله:«وَإِذَا حَاصرتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّه، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ» .
والمراد: أنَّه إذا حاصر المسلمون عدوهم فطلبهم العدو أن يُنزِلوهم على عهد الله ورسوله فإنَّه لا يجوز لهم ذلك؛ لأنَّهم إذا فعلوا ذلك فحصل من
المسلمين إخفار للذمة فكونها لذمّة الله ورسوله عظيمة عليهم، ولها أثر على عدوهم كونهم أخفروا ذمة ربهم وذمة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهذا قد يرجع على الإسلام بالنقص.
وليس معنى هذا أن إخفار الذمّة يجوز، بل كله لا يجوز، لكنه لو حصل فأن تخفر ذمّة المجاهدين أهون من أن تخفر ذمّة الله ورسوله، فبعض الشر أهون من بعض.
وذلك لأنَّه إذا حصل غلط فيكون الغلط منسوبًا إلى حكم البشر، لا إلى حكم الله، فيصد الناس عن دين الله.
64 - باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ»
(1)
، وفي حديث أبي هريرة: أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة:«تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ، أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ»
(2)
(3)
.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: الإقسام على الله: هو الحلف على الله أن يفعل كذا، كأن يقول: أقسمتُ عليك يا ربِّ أن تفعل لي كذا، ونحو ذلك، والمصنّف ذكر في
(1)
أخرجه مسلم (2621).
(2)
أخرجه أبو داود (4901)، وأحمد (2/ 323)، والبزار (9418)، وابن حبان (5712)، والبيهقي في الشعب (6689)، وصححه الألباني في تحقيق المشكاة (2347).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: التّحذير من التألي على الله. الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله. الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» إلى آخره. الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
الباب ما جاء من الأدلة على تحريم الحلف على الله؛ لأنَّ من تألى وحلف على الله، فقد أساء الأدب معه سبحانه وتجرأ عليه.
وعلاقة الباب بالتوحيد: من جهة: «أنّ الإقسام على الله غالبًا يقع من باب العجب بالنفس والإدلال على الله وسوء الأدب معه، ولا يتمُ الإيمانُ حتى يَسلم من ذلك كله» . قاله السعدي
(1)
.
ولما فيه من التحجير على الله، كما فعل الذي قال:«وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ»
المسألة الثانية: الإقسام على الله تعالى لا يخلو من حالات:
الحالة الأولى: يكون جائزًا، إذا كان الإقسام على الله هو على جهة حسن الظنِّ به، وباعثُه الطمعُ في رحمة الله وقوةِ الرجاء به، وصادرٌ من عبدٍ من أولياء الله، وفي أمر طاعةٍ ومصلحة لا في معصية فيجوز، وقد يجيب الله قسمه لكرامته عليه، وسابقة طاعاته، وخبيئة من صالحاته.
ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ»
(2)
، وحديث حارثة بن وهب رضي الله عنه مرفوعًا:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»
(3)
.
قال ابن تيمية: «وأما الذين يُقسِمون على الله فيبرّ قسمهم، فإنَّهم ناسٌ مخصوصون»
(4)
.
(1)
القول السديد (ص: 187).
(2)
أخرجه البخاري (2703)، ومسلم (1675) من حديث أنس.
(3)
أخرجه البخاري (4918)، ومسلم (2853) من حديث حارثة بن وهب.
(4)
مجموع الفتاوى (1/ 206).
ومن هذا ما وقع للبراء بن مالك رضي الله عنه حين أقسم على الله لينصرهم، وليجعلنه شهيدًا، فأجاب الله دعاءه.
ومنه قول ابن تيمية رحمه الله في بعض مغازيه: «لَنُنْصرنَّ، فقيل له: قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا»
(1)
.
الحالة الثانية: يكون ممنوعًا؛ إذا صدر:
1 -
على وجه التحجير على الله في فضله، كمن يقول: والله لا يغفر الله لفلان، أو والله لا يرزق فلانًا.
2 -
أو يقع من غير أهله -وهم أهل الصلاح-.
3 -
أو يقع ودافعه العجب بالنفس، والكِبر، ونحو ذلك.
قال السعدي رحمه الله: «أما الإقسام على الله، فهو في الغالب من باب العجب بالنفس والإدلال على الله، وسوء الأدب معه، ولا يتم الإيمان حتى يسلم من ذلك كله»
(2)
.
الحالة الثالثة: الإقسام على الله بحق شخصٍ من الناس، كمن يقول: أقسمتُ عليك يا رب بحق الولي فلان ونحو ذلك، فهذا منهيٌ عنه باتفاق العلماء.
المسألة الثالثة: ذكر المصنف في الباب قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» .
والحديث يظهر منه: أنَّ هذا الذي حلف على الله حلف متحجرًا نعمة الله
(1)
انظر: البداية والنهاية لابن كثير (18/ 23)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 187).
(2)
القول السديد (ص: 187).
وفضله ومغفرته، ففيه تحجيرٌ على الله، ولا يصدر ذلك من قلب معظِّم لله كمال التعظيم فعاقبه الله بما ذكر، وهو إحباط عمله، وهذا الإحباط يحتمل أنَّه إحباطٌ لجميع العمل، وذلك لأنَّه لم يذل لله.
ويحتمل أن المراد: أحبطت عملك الذي كنت تفتخر به على هذا الرجل، لكن ظاهر الحديث الأول.
*
65 - باب لا يستشفع بالله على خلقه
(1)
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4726)، وابن خزيمة في التوحيد (103)، والبزار (3432)، وابن أبي عاصم في السنة (576)، والطبراني في الكبير (2/ 128)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 417)، والآجري في الشريعة (667) من طريق محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، وإسناده ضعيف.
قال البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، ولم يقل فيه محمد بن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة.
(2)
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليك. الثانية: تَغَيُّره تغيرًا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم يُنْكِر عليه قوله: «نستشفع بك على الله» .
الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله. الخامسة: أنَّ المسلمين يسألونه الاستسقاء.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب:
الاستشفاع: طلبُ الشفاعةِ، والأصلُ أنَّ الشفاعةَ تكون من الأسفلِ للأعلى، فالإنسانُ قد يتمكن مثلًا من الوصول إلى الوزير، لكنه لا يملك أن يصل إلى الملك، فيطلب من الوزير أن يشفع له عند الملك، وملوكُ الدنيا يُشَفِّعونَ من له عليهم حقٌ، أو من يحتاجون له.
ومَن عرف ربّه وقَدَره حقّ قدرِه علم أنَّ شأن الله عظيم، فالخلق كلهم بيده، وكلهم محتاجون له، وليس لأحدٍ عليه حق.
فالمراد بهذا الباب: بيان أنَّه لا يجوز أن يَجْعل أحدٌ اللهَ شفيعًا على الخلق، يشفع له عندهم؛ لأنَّ شأن الله أعظم وأجل من أن يستشفع به على أحد من خلقه.
وعلاقة الباب بالتوحيد: من جهة أن هذا الفعل فيه تنقص لله، وسوء أدب معه سبحانه وهذا ينافي كمال التوحيد.
المسألة الثانية: ذكر المصنّف في الباب حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وقد أخرجه أبو داود وغيره من طريق مُحَمَّد بن إِسْحَاق عن يَعْقُوب بن عُتْبَة، عن جُبَيْر بن مُحَمَّد بن جُبَيْر بن مُطْعِم، عن أبيه، عن جبير رضي الله عنه، وقد أُعل الحديث بأن مداره على ابن إسحاق، وهو مشهور بالتدليس، وقد عنعن.
وفيه جبير بن محمد بن جبير؛ لم يُذكَر بجرحٍ ولا تعديلٍ، فهو مجهول الحال، وقد أورده ابن حبان في الثقات على قاعدته في إيراد المجاهيل
في ثقاته
(1)
.
لكن مع ضعف الحديث إلّا أن معناه صحيح، فالعلماء يمنعون من الاستشفاع بالله على خلقه؛ لما يأتي:
المسألة الثالثة: حديث جبيرٍ رضي الله عنه فيه: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ اَللَّهِ! سُبْحَانَ اَللَّهِ! فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ وَيْحَكَ! أَتَدْرِي مَا اَللَّهُ؟ إِنَّ شَأْنَ اَللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاَللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ» .
حيث أنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا الرجلِ قولَه: «نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْكَ» ، وعاتبه في ذلك، وسبّح حتى عُرِفَ كراهةُ ذلك في وجوه أصحابه، وذلك لشناعة الكلمة، ثم قال: «إِنَّ شَأْنَ اَللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ
…
» فالمراد:
أ- أنّ كون الإنسان يجعلُ اللهَ شفيعًا له على أحدٍ من الناس: لا يجوز، لأمرين:
1.
أنَّه سوء أدبٍ مع الله وتنقّص له، فالله أعظم شأنًا من أن يتوسل به إلى خلقه؛ إذ رتبة المتوسل به غالبًا دون رتبة المتوسل إليه، والمخلوق داعٍ وسائل.
2.
أنَّ الشافع لا تجب طاعته، والله منزّه عن ذلك، فالأمر كلّه بيده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن
(2)
.
ب- أما التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم أو الاستشفاع به عند الله: ففي حياته يجوز ذلك، وتكون شفاعته بطلب الدعاء منه.
(1)
والحديث ضعفه الألباني كما في السلسة الضعيفة (6/ 145).
(2)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (1/ 316)، والتعليقات على فتح المجيد، للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف (72).
وأما بعد حياته فلا يجوز، ولو كان جائزًا لفعله الصحابة حين اشتدت بهم الأمور، وعمر رضي الله عنه حين أراد الاستسقاء توسل بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذات العباس، ولو كان الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم جائزًا بعد وفاته لفعلوه، وهم في تلك الحالة الشديدة، ولذا فما يقع من بعض الناس اليوم من الاستشفاع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والطلبِ منه أن يشفع لهم عند ربهم كل هذا من الخطأ الفادح التي انحرف فيه فئام من المسلمين اليوم، والله المستعان.
66 - باب ما جاء في حماية النبيّ صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: «اِنْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: اَلسَّيِّدُ اَللَّهُ تبارك وتعالى، قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَولًا، فَقَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمْ اَلشَّيْطَانُ»
(1)
.
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4806)، وأحمد في المسند (4/ 25)، والبخاري في الأدب المفرد (211)، والنسائي في الكبرى (10076)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1484)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (389)، وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه عبد بن حميد (1309)، والنسائي في الكبرى (10006)، وابن حبان (6240)، والبيهقي في الدلائل (5/ 498)، والضياء (1626)، وإسناده صحيح.
(3)
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو. الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: «أنت سيدنا» .
الثالثة: قوله: «لا يستجرينكم الشيطان» ، مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. الرابعة:«ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي» .
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: مَنْ تأمّل في سنة محمد صلى الله عليه وسلم وجد من النصوص الشيء الكثير، التي تدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على حماية حمى التوحيد، والسعي لصدّ طرق الشرك وإغلاق منافذه، وأنَّه ربما منعَ من أشياء سدًّا لذريعة الوقوع في الشرك، وما ذاك إلّا لنصحه للأمة، ولعلمه أنَّ الشركَ إذا وقع فهو ذو أثرٍ شنيع، وفي هذا الباب ذكر المصنّف بعض النصوص الدالّة على حرصه على حماية حمى التوحيد، وهكذا ينبغي أن يكون عليه أتباع الأنبياء وورثتهم.
المسألة الثانية: ذكر المصنّف في الباب حديث عبد الله بن الشخير، والحديث مداره على مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، وفيه قوله:«فقلنا: أَنْتَ سَيِّدُنَا فَقَالَ: اَلسَّيِّدُ اَللَّهُ تبارك وتعالى، قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَولًا، فَقَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمْ اَلشَّيْطَانُ» . وفي هذا الحديث أمور:
1.
إثبات أنَّ السيادة المطلقة الكاملة إنما هي لله سبحانه.
2.
حكم قول: «سيدنا» للنبي صلى الله عليه وسلم؟
* منع من ذلك بعضُ أهل العلم، لظاهر الحديث.
* وأجازه بعضهم، وقد نُقِل الجوازُ عن السخاوي والقاسمي
(1)
.
فإن قيل: لماذا لم يقرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على قولهم: «سيدنا «مع أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَا
(1)
القول البديع، للسخاوي (107)، والفضل المبين، للقاسمي (70).
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»
(1)
؟
* أجيب عن هذا بأجوبة:
1 -
من باب التواضع.
2 -
خوفًا عليهم من الغلو، وتطور الأمر واستجراء الشيطان لهم حتى يقعوا فيما هو محرم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ
…
».
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: «المنع من أجلِ حماية حمى التوحيد، والثاني -أي: سيد ولد آدم-: قاله على وجه التحدث بنعمة الله تعالى»
(2)
.
3 -
أنَّ الذي نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أنَّ السيادة بلفظ السيد لفظ مطلق، يدل على السيادة المطلقة العامة، وهي لا تكون إلّا لله، أمّا إذا أضيفت وخصصت، كسيد ولد آدم، أو سيد الخلق أو سيد بني فلان فهذا جائز، فنهاهم صلى الله عليه وسلم؛ لئلا ينسبوا له السيادة المطلقة
(3)
.
3.
وفي الحديث تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من أن يستجرينهم الشيطان ويوقعهم في الضلال، عبر بوابة تعظيم الصالحين والمرسلين.
4.
أنَّه ينبغي لمن قيل له: «سيدنا» أن يقول: السيّدُ الله.
المسألة الثالثة: ذكر المصنف في الباب حديث أنس رضي الله عنه: «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! يَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا، وَسَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا! فَقَالَ: يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ! قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ اَلشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اَللَّهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ
(1)
أخرجه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة.
(2)
فتاوى ابن إبراهيم (1/ 196)، والتعليقات على فتح المجيد، للعبد اللطيف (73).
(3)
مجموعة فتاوى العثيمين (3/ 110).
تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي اَلَّتِي أَنْزَلَنِي اَللَّهُ عز وجل».
وهذا الأمر الذي ذكره هؤلاء في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو به، ومستحق له، لكنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يتدرّج بهم الشيطان حتى يقعوا في الغلو، ولربما صُرِفَ مثلُ هذا المدح لأحدٍ فافتتن.
وبيّن لهم الميزان الذي يجب عند التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا يُرفع فوق ما جعل الله له من المنزلة، ولا يجفى فيه صلى الله عليه وسلم، ويكون ذلك باعتقاد أنَّه عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت هذه الأحاديثُ منه صلى الله عليه وسلم لسدِّ ذريعةِ الشرك في الأقوال، فإن في الشريعة نهيًا عن أفعال عديدة؛ سدًا لذريعة الوقوع في الشرك، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقابر، وعن تجصيص القبر وعن اتخاذ السرج على القبور، ونهى عن التصوير، وكل هذا ليسد على المسلم كل باب قد يلج فيه الشيطان إلى قلوب العباد بالشرك بالله سبحانه.
67 - باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر، الآية (67)].
وفي رواية لمسلم: «وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، فَيَقُولُ: أَنَا اَلْمَلِكُ، أَنَا اَللَّهُ» .
وفي رواية للبخاري: «وَيَجْعَلُ اَلسَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ اَلْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ»
(1)
.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا: «يَطْوِي اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اَلْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا اَلْمَلِكُ أَيْنَ اَلْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ اَلْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ
(1)
صحيح البخاري (4811).
يَطْوِي اَلْأَرْضِينَ اَلسَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا اَلْمَلِكُ، أَيْنَ اَلْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ اَلْمُتَكَبِّرُونَ؟»
(1)
.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «مَا اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ اَلسَّبْعُ فِي كَفِّ اَلرَّحْمَنِ، إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ»
(2)
.
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ فِي اَلْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ»
(3)
.
وقال: قال أبو ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا اَلْكُرْسِيِّ فِي اَلْعَرْشِ، إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ اَلْأَرْضِ»
(4)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «بَيْنَ اَلسَّمَاءِ اَلدُّنْيَا وَاَلَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ اَلسَّمَاءِ اَلسَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ اَلْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ اَلْمَاءِ، وَاَللَّهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ» ، أخرجه ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر عن عبد الله، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم، عن
(1)
صحيح مسلم (2788).
(2)
أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1090).
(3)
أخرجه ابن جرير في التفسير (4/ 539) مرسلًا.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش (58)، وأبو الشيخ في العظمة (569)، والبيهقي في الأسماء والصفات (861)، وابن حبان (361 - مطولًا جدًا)، وصححه الألباني في الصحيحة (109).
أبي وائل عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-. قال: «وله طرق»
(1)
.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْنَا: اَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ اَلسَّمَاءِ اَلسَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ»
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه الدرامي في الرد على الجهمية (81)، ابن خريمة في التوحيد (105، 106)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 565)، وابن بطة في الإبانة (128)، والبيهقي في الأسماء والصفات (851) وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 100).
(2)
أخرجه أبو داود (4723 - 4724 - 4725)، والترمذي (3217)، وابن ماجه (193)، وابن أبي عاصم في السنة (577)، وابن خزيمة في التوحيد (ص: 101)، والبزار (1310)، واللالكائي في شرح أصول الاعتْقاد (3/ 389)، والآجري في الشريعة (ص: 292)، والجورقاني في الأباطيل والمناكير (1/ 77)، وضعفه الذهبي في العلو (49، 50)، والألباني في ضعيف الجامع (6093).
(3)
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود في زَمَنِه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضَّحِك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشِّمال. السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: «كخردله في كف أحدكم» . التاسعة: عِظَم الكرسي بالنسبة إلى السموات.
العاشرة: عِظَم العرش بالنسبة إلى الكرسي. الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء. الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش. السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشرة: كِثَف كل سماء خمسمائة عام. التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السموات بين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة سنة.
(الشرح)
الكلام على الباب في مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالباب: جَعَلَ المصنّفُ رحمه الله هذا البابَ خاتمًا للكتاب، وهو من أجلِّ الأبواب؛ إذ فيه بيان شيء من عظمة الله وقدرته ومُلكه، وأنَّ كثيرًا من العباد ما قدروه حقَّ قدره، وما عظّموه حقَّ تعظيمه، وإلّا فلو أنَّ العباد عظّموه وخضعوا له وذلّوا له حقًا، لما وقعوا في شيء من الشرك به سبحانه.
المسألة الثانية: اعلم أنّ هذه الآية التي بوّب عليها الشيخ رحمه الله وهي قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} - أصلٌ يدخل تحته صورٌ عديدة تقع من العباد، والأصل في هذا أن تعلم أنَّ الرب عز وجل وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتألّه والخضوع والذلّ، وهذا خالص حقّه، فمن أقبح الظلم أن يُعطى حقُّهُ لغيره، أو يشرك بينه وبينه فيه، ولا سيّما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه، وذكر ابن القيم صورًا عديدة في هذا، ومنها:
1 -
ما قدر الله حق قدره مَنْ عبد معه غيره، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73 - 74]. فما قدر الله من أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتّة، بل هو أعجز شيء وأضعفه.
2 -
ما قدره حق قدره من قال: إنّه لم يرسل إلى خلقه رسولًا، ولا أنزل كتابًا، بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه، من إهمال خلقه، وتضييعهم، وتركهم سدى، وخلقهم باطلًا عبثًا.
3 -
ما قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فنفى سمعه وبصره، وإرادته واختياره، وعلوه فوق خلقه، وكلامه، وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد؛ أو نفى عموم قدرته، وتعلقها بأفعال عباده من طاعاتهم ومعاصيهم، فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاؤون بدون مشيئة الرب؛ فيكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون! تعالى الله عن قول أشباه المجوس علوا كبيرًا.
4 -
ما قدره حق قدره من قال: إنّه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد، ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيه البتّة، بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله، وهو سبحانه الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق، ولم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولدًا، أو جعله يحلُّ في مخلوقاته، أو جعله عين هذا الوجود.
5 -
ما قدره حق قدره من زعم أنّه لا يحيى الموتى، ولا يبعث من في القبور،
ولا يجمع خلقه ليوم يجازي المحسن فيه بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم عباده المؤمنين.
6 -
ما قدره حق قدره من قال: إنّه يجوز أن يعذب أولياءه، ومن لم يعصه طرفة عين ويدخلهم دار الجحيم، وينَعِّمُ أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وإن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء.
7 -
ما قدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعته
(1)
.
المسألة الثالثة: ذكر في الباب حديث ابن مسعود رضي الله عنه في خبر الحبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أن الله يجعل السماوات على إصبع والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: «أَنَا اَلْمَلِكُ
…
».
وهذا الحديث فيه شاهدٌ لعظمة الله، حيث كانت هذه المخلوقات العظيمة كل واحدٍ منها على إصبع، أو على كفه وفي قبضته، وإذا كانت هذه الأشياء على كبرها في كفه وقبضته فغيرها أقلُّ وأحقر.
وفيه إثبات الأصابع لله سبحانه، وقد أقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهوديَ على هذا، وأهل السنة يعتقدون أنَّها أصابع حقيقية، وأنَّها كفٌّ حقيقية، لكن لا يعلم صفتها إلا الله، وهي لا تشابه كفّ المخلوق.
وكذلك الأحاديث الأخرى يظهر فيها عظمة الله وقدرته، وأنَّ كل شيء ضعيف أمام قدرة الله، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر رضي الله عنه: «أُذِنَ لِي
(1)
الداء والدواء، لابن القيم (1/ 320).
أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ: إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ»
(1)
.
وعند الطبراني في الأوسط زيادة: «خَفَقَانُ الطَّيْرِ سَبْعمِائَةِ سَنَةٍ
…
»
(2)
، فهذا ملك من الملائكة، فكيف بالعرش؟! وكل هذا يدل على عظمة الله.
فأين يغيب العبدُ عن سمعِ السميع، وعن بصرِ البصير، وعن رقابةِ الرقيب، ومن الذي يقف أمام قوة الله وقدرته، وقد قالت عائشة، كما في قصة المجادلة:«الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة، الآية (1)]»
(3)
.
والمراد: أنَّ العبد إذا عرف نفسه بضعفها، وعرف ربَّه بعظمته فلن يقع في الشرك، ولا في المعصية، فما أشرك من أشرك إلا حين جهل بربه، وما عصى من عصى إلّا بجهالة، وقد قال مجاهد وغيره:«كُلُّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ»
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4727)، والطبراني في الأوسط (1709 - 4421)، وأبو الشيخ في العظمة (476)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص: 398)، قال ابن كثير في التفسير (8/ 239) إسناده جيد، وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 665)، والألباني في الصحيحة (151).
(2)
الأوسط (6503) وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك إلا ابنه منكدر، تفرد به ولده عنه.
وقال الهيثمي في المجمع (1/ 80): تفرد به عبد الله بن المنكدر، قلت: هو وأبوه ضعيفان.
(3)
رواه البخاري (2226).
(4)
رواه البيهقي في «الشعب» (9/ 289).
هذا ما تيسر ذكره، أسأل الله أن ينفع بهذا الكلام، وأن يجعله خالصًا لوجهه، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح. والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.