الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على إمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ:
فإنَّ كتاب: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لأبي الوليد، محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، كتابٌ فريدٌ في بابه، عزَّ وجود نظيره ومثيله، أجادَ مؤلِّفه في ترتيبه وتقسيمه، وأحسن في عرضه وأسلوبه، ووُفِّق في اختيار مسائله وانتقاء مباحثه، وأبدع في توجيه أسباب الخلاف بين العلماء، وتحرير النزاع بين الفقهاء؛ فكان ذلك سببًا في ذيوعه في الأقطار، وانتشاره في الأمصار، وتلقِّي العلماء له بالثناء والاستحسان، حتى قال عنه الذهبي في "تاريخ الإسلام":
"كتاب بداية المجتهد، ونهاية المقتصد، في الفقه، عَلَّل فيه وَوَجَّه، ولا نعلمُ في فنِّه أنفع منه، ولا أحسن مساقًا".
ولا غَرْوَ بعدَ ذلك أن تُقرِّر الجامعةُ الإسلامية بالمدينة المنورة تدريس هذا الكتاب لطلَّابها فى المرحلة الجامعية؛ لأن مؤلِّفَه اعتنى بتطبيق القواعد الأصوليَّة، والفقهية، على المسائل الفرعية، واهتمَّ بالتنبيه على نكت الخلاف بين العلماء، ولا ريبَ أنَّ ذلك يساعِدُ على تنمية المَلَكة الفقهية، التي تُعين الطَّالب على حُسن الاجتهاد، وسلامة الاختيار، كما أنه يُربِّي فيه احترام الدليل واتِّباعه، وعدم تقديم القياس والرأي عليه، قال ابن رشد في كتاب الصرف: (فإنَّ هذا الكتاب إنما وضعناه؛ ليبلغ به المجتهدُ في
هذه الصناعة رُتْبة الاجتهاد، إذا حصَّل ما يجمبُ له أن يحصِّلَ قبله من القَدْر الكافي له في علم: النحو، واللُّغة، وصناعة أصول الفقه
…
، وبهذه الرُّتبة يُسمَّى فقيهًا، لا بحفظ مسائل الفقه).
وقد كثُرَت طبعات الكتاب، وتعدَّدت إصداراته، إلَّا أنني مع ذلك كلِّه، لم أقف -حسب علمي- على مَن قام بالتعليق على مسائله، وتحرير أقواله، في كتاب مطبوع متداول، إلا ما كتبه الشيخ الفاضل، والمدرس بالمسجد النبوي محمد بن ناصر السحيباني، في تحقيقه لكتاب الطهارة.
وقد قام شيخنا أ. د. محمد بن حَمُّود الوائلي رحمه الله بشرحه في المسجد النبوي، وهو العالم الجليل، والفقيه النحرير، قد خبر الكتاب، وعرف أسراره وخفاياه؛ حيثُ قرأه سنين عديدة دارسًا ومدرِّسًا، فأجاد وأفاد، وزانه بكثير من القواعد الفقهية، والتنبيهات المهمَّة.
وكانت الرغبة من بعض أبناء الشيخ، وكثير من طلَّابه في تفريغ الكتاب وطباعته، ليعمَّ نفعُه، ويسهلَ الاطِّلاع عليه، إلَّا أنَّ ذلك يتطلَّب جهودًا كبيرة، قَصُرَتْ عنها الهِمَم، فانبَرَتْ لتلك المهمَّة الشاقَّة، الأخت الفاضلة:"كاملة الكواري". فكفتهم المؤونة، وقامت بتفريغ التسجيلات الصوتية، وحذفت ما كان الشيخ يستطرد به أثناء الدرس من النُّصح والتوجيه، حيثُ يحضر مجلسه مع طلاب العلم كثيرٌ من العوام، ولم تقتصر على ذلك، بل زانت عملها بتخريج الأحاديث سواء مما أوردها ابن رشد، أو أوردها الشيخ الوائلي في شرحه، إضافةً إلى توثيق أقوال المذاهب الفقهية بالنقل عن المصادر المعتمدة لكلِّ مذهب. إلى غير ذلك من المزايا التي احتواها هذا العمل المبارك.
سائلًا الله للجميع العِلْم النافع، والعمل الصالح.
كتبه
الفقير إلى عفو ربه
أ. د عبد الله بن إبراهيم الزاحم
المُدرِّس بالمسجد النبوي،
وأستاذ الفقه بالجامعة الإسلامية
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعدُ:
فإنَّ كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) للفقيه الأصولي أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد (ت: 595 هـ)، من أعلى المصنَّفات في علم الخلاف العالي الَّتي سارت مسير الشمس في العلياء؛ لما حواه من أقوال الصحابة، وأئمة المذاهب الفقهية المتبوعة وغيرها، وقد سلك فيه مسلك التقعيد والتعليل للفروع الفقهية، واحتلَّ مكانة كبيرة بين الكتب الَّتي عنيت بالخلاف والترجيح، مثل "المغني" لابن قدامة، و"المجموع" للنووي، و"المحلى" لابن حزم
…
إلخ.
وقد قام الشيخ محمد بن حمود الوائلي رحمه الله بشرح كتاب "بداية المجتهد"، بالمسجد النبوي مدة ثماني سنين متواصلة، وقد أبان في شرحه هذا عن مَلَكَةِ فقهية عالية.
ومن مميزات هذا الشرح ما يلي:
- تقريره بعض القواعد الفقهية لتوضيح كلام ابن رشد، كما عند ذكره القاعدة المعروفة:"أنَّه إذا اجتمع حدثان (أصغر وأكبر)، هل يدخل الأصغر في الأكبر أو لا! ".
- ذِكْرُ ما فات ابن رشد من أقوال الإمام أحمد، مما يَدُلُّ على تمكُّنِهِ من تحرير مذهب الإمام أحمد.
- سَعةُ علمه ومعرفته بصحيح الأحاديث وضعيفها وعللها، وكذلك الآثار الموقوفة وما له حكم الرفع، وتمييزه في الفرق بين "الحديث" و"الأثر"، و"الخبر"، فيُبَيِّنُهُ ويوضِّحه.
- التنبيه على صحَّة الحديث أو ضعفه، وإذا استدلَّ ابن رشد بحديث ضعيف يُنَبِّه على ضعفه، ويعتذر لابن رشد بذلك؛ لأن الحديث ليس صناعته.
- التنبيه على بعض الأوهام التي حصلت لابن رشد في عزو الحديث.
- تبيين بعض المصطلحات الخاصَّة بالمذهب المالكي أثناء الشرح.
- اختصار العبارات بأوضح الكلمات؛ تيسيرًا للطلبة على فَهم الكتاب، وعدم حشو الشرح بما لا فائدة منه.
- تأكيده على بعض الجوانب الأخلاقية والسلوكية، وحثُّ الطلبة عليها، والالتزام بها، وهو مما يزيد طالب العلم رِفْعَةً وشأنًا.
- تقريره العقيدة السلفية في كثير من المسائل، والمنافحة عنها، ويُبَيِّن أن عقيدة السلف أسْلَم وأحكم وأعلم، ويُحَذِّرُ من منهج الخلف عمومًا، ومنهج الفلاسفة كابن رشد الذي ينحو منحى الفلاسفة.
- توضيح الكلمات الغريبة التي يذكرها ابن رشد في كتابه، كالجَوزة، والمُدْيَة، أو الكلمات التي تكون خاصَّةً بمذهب المالكية، ونراه يَشْرَح غريب الكلمات إذا ذكرت في حديث، أو يوضِّح معنى حديث يُقَرب له المسألة للأفهام.
- أنه لا يُسَلِّم للجمهور بقولهم، بل يناقش أدلَّتهم، وأيضًا أدلة المخالف، ويرجِّح الشيخ بما يراه موافقًا للدليل الصحيح والعقل الصريح. وأحيانًا يخالف الجمهور في بعض المسائل إذا كان ما استدلُّوا به ضعيفًا، فتراه يرجِّح قول المخالف لقوَّة استدلاله.
- حثه لطلَّابه على عدم التشدُّد في مسائل الفقه، بل الذي ينبغي أن نتَشَدَّد فيه مسائل العقيدة؛ لأنها توقيفيةٌ.
- تعقُّبُه ابن رشد في كتابه؛ إذ ينصُّ ابن رشد أن كتابه لكُبرى مسائل العلم وقواعده، فتراه يخرم قاعدته، ويدخل في الفروع والتفصيلات في مذهب مالك حتى ينسى أن يذكر آراء بقية الفقهاء.
- تَعْرِيجُهُ على بعض مسائل الأصول التي يذكرها ابن رشد، وتوضيحها، مثل قاعدة: هل النهي تعبُّدِيّ غير معقول المعنى أو مُعَلَّل؟ وتعريفه ببعض القواعد الفقهية كقاعدة: "العَادَة مُحَكَّمَةٌ"، و"تأخير البيان عن وقت الحاجة
…
"، وغيرها من القواعد.
- تقريب المسألة للطلبة، بذكر أمثلة عملية؛ لتُفْهَمَ المسألة وتُوضَح، ويعيها طالب العلم.
وغير ذلك من النفائس والدرر والدقائق التي سيطالعها العلماء وطلاب العلم بأنفسهم.
وقد بذلتُ غاية جهدي ونفيس وقتي في تحويل هذا الكنز العلمي من شرح صوتي، إلى كتاب مُحَرَّر مَقْرُوء، فطالب العلم في نهاية الأمر لا يستغني عن الكتاب الذي يمسكه بين يديه، ويطالعه بعينية، وقد اجتهدت أن يكون التحرير والصياغة معبِّرَة عن قول الشارح قَدْرَ المستطاع، حتى يكون نقلي للمادة العلمية نقلًا محرَّرًا أمينًا مُعَبِّرًا عن مذهب الشارح ومنهجه، وقد استفرغت وسعي في تحقيق هذا الشرح على هذا النحو الذي بين أيديكم، راجية من الله تعالى أن ينفع به أهل العلم وطلابه، فهذه بغيتي لا أبتغي غيرها.
وقد جاء منهجي في تحرير وتحقيق هذا الشرح على النحو التالي:
* الجزء الأول والأهم من منهج بداية المجتهد:
من المعلوم أن ابن رشد ينقل من المذاهب المتبوعة وغيرها، واعتماده في النقل على "الاستذكار" و"التمهيد" وغيرهما، وقد يكون النقل من المذاهب المتبوعة على خلاف المعتمد في المذهب.
وقد عزونا الأقوال إلى مذاهب الفقهاء نصًّا لينتفع الباحث والقارئ:
- ففي المذهب الحنفي: رجعنا إلى "مختصر القدوري"، و"رد المحتار"، و"الكنز"، و"الوقاية"، و"الدر".
- وفي المذهب المالكي: إلى "شرح الدردير على خليل"، وعلى كتابه:"أقرب المسالك".
- وفي الشافعي: على "المنهاج"، واختصاره لزكريا وكتبه، وشروح الهيتمي والشربيني، والرملي.
- وفي المذهب الحنبلي: على "شرح المنتهى"، و"الإقناع"، و"مطالب أُولي النُّهَى"، وإذا لم يذكر ابن رشد مذهب أحمد، فإننا نذكر المذهب من كتب الحنابلة.
2 -
وإذا كان العزو لكتب المذاهب، فإننا نكتفي غالبًا بالنقل عن كتاب واحد يقرِّر المذهب.
* الجزء الثاني لبداية المجتهد:
1 -
مراجعة المتن وضبطه بلون مغاير عن الشرح.
2 -
حذف التكرار، والحشو، وما لا يخدم الشرح والمتن المشروح.
3 -
التصحيح اللُّغوي، والعناية بعلامات الترقيم.
4 -
تخريج الآيات والأحاديث والآثار.
5 -
عنونة الفقرات التي تحتاج إلى عنوان.
6 -
شرح ما لم يشرحْهُ ويكون بلون مغاير، وهو كالآتي:
1 -
من كتاب الطهارة من قوله: (الباب الرابع في نواقض الوضوء، والباب الخامس في معرفة الأفعال التي تشترط الطهارة في فعلها).
2 -
من كتاب الحج، من قوله:(وأجمعوا على أنه يعيد الرمي إذا لم تقع الحصاة في العقبة) إلى آخر كتاب الحج.
3 -
من كتاب الطلاق من قوله: (وإذا لم يدلَّ النهي على فساد عقد النكاح فأحرى ألا يدل على بطلان التحليل) إلى آخر كتاب الطلاق.
4 -
من كتاب السرقة (من أوله) إلى قوله: (واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليمنى
…
).
7 -
إعادة الصياغة التي تحتاج إلى تحرير.
2 -
المنهج العام للتحقيق والتوثيق والعزو:
وبالنسبة لتخريج الأحاديت والآثار:
ما ورد في "الصحيحين" يقال فيه: أخرجه البخاري (رقم)، ومسلم (رقم).
ما ورد في أحد "الصحيحين"، فإن كان في البخاري فقط، يقال فيه: أخرجه البخاري (رقم). فإن كان في مسلم فقط، يقال فيه: أخرجه مسلم (رقم).
فإن لم يكن في "الصحيحين" أو أحدهما يتمُّ العزو إلى أحد السنن الأربعة.
[أبو داود، ثم الترمذي، ثم النسائي، ثم ابن ماجه]. [مصدر واحد فقط، ثم تصحيح أحد العلماء
…
].
فإن لم يكن فيما سبق يتم العَزْوُ إلى بقية الكتب التسعة. مع التصحيح أو التضعيف ما أمكن.
فإن لم يكن الحديث في الكتب التسعة، يتم تخريجه من بقية دواوين السُّنة. مع التصحيح أو التضعيف ما أمْكَن.
وقد انتفعت من الكتب التي اعتنت ببداية المجتهد؛ كالشيخ ماجد الحموي، ود. عبد الله العبادي، والشيخ صالح الشمراني، ود. عبد الكريم
حامدي، ود. أحمد العمراني، والشيخ محمد السحيباني، و. أ. د. عبد الله بن إبراهيم الزاحم، وكتابه أنفع هذه الكتب، ويليه كتاب الشيخ السحيباني، ولو قدَّر الله لهما أن يكملا الكتاب على نحو ما خرج من المطبوع لكان نفعًا عظيمًا لطلاب العلم، وأسأل الله أن يعينهما على ذلك.
وأتَوَجَّهُ بالشكر الجزيل لفريق العمل الذي بذل جهده وأعانَنَا على إخراج العمل بهذه الصورة الممكنة في هذا النوع من صناعة التأليف المعاصرة؛ لينتفع طلاب العلم به، لا سيما في الجامعات التي تُدرِّس الكتاب.
ونظرًا لعظم حجم هذه الأعمال التي تُعَدُّ من الموسوعات الكبرى، فلا شكَّ أن حجم الخطأ الذي يعتريه سيكون أكثر من خطأ غيره من الأعمال المفردة، سواء كانت في الطباعة أم في غيرها من الأوهام، ولهذا أرجو من كل من يَجِدُ خطَأً أن يراسلني على البريد الإلكتروني لتصحيحه، وأسأل الله له الأجر والثواب.
خادمة العلم الشريف
كاملة الكواري
alkuwaril 439@gmail.com
ترجمةُ الشارح
اسمُهُ، ونسبُه:
هو محمَّد بن حَمُّود بن عبد الرحمنِ بن منيع بن حمد بن محمَّد بن حمد بن عثمان بن ناصر بن حمد بن إبراهيم بن حسين بن مدلج الوائلي، أبو خالد، من آل مدلج، من الحسنة، من المنابهة، من بني وهب، من ضنا مسلم، من قبيلة عنزة
(1)
، المدرس بالمسجد النبوي، وأحد أعلام الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
قال أستاذه الشيخُ محمَّدُ بن ناصر العبودي: "الوايلي على صيغة النِّسبة إلى وايل. أسرة من عنزة، قدمت إلى بُرَيدة من الحريق.
ولم أعرفْ نسبة (الوايلي) هذه، ولم أجِدْ مَن يعرف أصلها من الذين سألتهم عنها من هذه الأسرة، وربما كانت النِّسبة إلى وايل، أو بني وائل الذين هم من قبيلة عنزة.
(1)
يُنظر: مجلة ذرية الجد حسين بن مدلج الوائلي، العدد السادس، جمادى الأُولى: 1435 هـ، الموافق مارس 2014 م، (ص 41)، ومعجم أسر بريدة (22/ 281)، تأليف: محمد بن ناصر العبودي، ومدونة سيرة الدكتور محمد بن حمود الوائلي، ونبذة عن أسرة الوائلي من آل مدلج، ومجلة العرب، العدد السابع (ص 450)، بحث الشيخ الجاسر بعنوان: بنو وائل ونسب آل مدلج، وموسوعة الأسر، أنساب أون لاين، وتاريخ حمد بن محمد بن لعبون الوائلي الحنبلي النجدي.
أوَّل مَن جاء منهم إلى بُرَيدة: عبد الرحمن الوايلي، وهو جَدُّ والد ناصر بن راشد بن عبد الرحمن الوايلي، وهو تاجر في بُرَيدة، عرفته وتعاملتُ معه في دكَّانه في أسفل (قبة الرشيد).
منهم زميلنا في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكان من تلاميذي قبل ذلك، الدكتور محمد بن حَمُّود الوايلي، الذي شغل (عمادة كلية) في الجامعة الإسلامية أكثر من مرة"
(1)
.
مولِدُه، ونشأتُه العلميَّة، ورحلاتُه:
وُلِد الشيخُ رحمه الله في مدينة بُرَيدة عام (1359 هـ - 1940 م)، وهي من منطقة القصيم، وهي منطقة تخرِّج العلماءَ الكبارَ منذ زمن دعوة الشيخ المجدد المصلح محمد بن عبد الوهَّاب، وكثير من علماء المملكة من تلك المنطقة" ويُرْجِع الشيخ الوائلي السببَ في ذلك إلى أنَّ أهلها معروفون بالجدِّية في أمور الدين والدنيا، وأن في زمنهمِ لم تكن فيه الملهيات التي انتشرت في هذا الزمان، إلى جانب الفقر وقلَّة ذات اليد، والتي أشعلت في نفوس أبناء نجد العزيمة والهمَّة العالية
(2)
.
وقد نشأ فيها الشيخُ نشأةً علمية منذُ صِغره؛ فقد كان يرتاد حلْقات القرآنِ في المسجد، ويحفظ القرآن الكريم على يدي المحفظين المتقنين، وقد كان ذا حافظة قوية، فقد حفظ القرآن في الصِّغر، وحفظ البقرة بين المغرب إلى ما بعد العشاء بزمن يسير
(3)
.
ثمَّ انتقلَ مع والده وأُسرته من مدينة بُرَيدة إلى مدينة الرياض، وقد مضى من عُمُره آنذاك ست سنوات؛ فقد كان والده يمتهن التجارة ويكتسب منها، وقد ألحقه فيها بالمرحلة الابتدائية.
(1)
يُنظر: معجم أسر بريدة (22/ 281 - 282).
(2)
مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، لتلميذه: عبد الرحمن المغربي، منتدى تراجم أهل العلم المعاصرين، ملتقى أهل الحديث.
(3)
المصدر السابق.
ويَحْكي الشيخُ عن نفسه في هذه المرحلة فيقول: "كنتُ أحصلُ على المرتبة الأولى أو الثانية، وكان ينافسني شاب من نجد، والذي أعاقني هو اشتغالي في دكان الوالد، ولكن بعد الابتدائي إلى الجامعة انقطعت عن الاشتغال فيه، فكنت دائمًا المتفوِّق بحمد الله، وكانوا إذا أدخلوا الطفل إلى المدرسة قالوا لمعلمه: لك اللحم ولنا العظم، أي: أباحوا له الضرب، ثم قال: أنا -والحمد لله- سلمت؛ لأني كنت مهتمًّا بالدروس"
(1)
.
وبعدَ أن أكملَ دراسته الابتدائية التحقَ بالمعهد العلمي بالرياض، ودرَس فيه المرحلة المتوسطة، وفي هذه المرحلة أتمَّ حفظ القرآنِ الكريم، وكان متفوِّقًا في دراسته، وهناك طرأ عليه ما غيَّر مسار حياته العلميةَ؛ فأخذ طابعًا آخرَ؛ فقد التقى بفقيه الزمان، وحَسنة الأيَّام، الشيخ العلامة: محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- صاحب التفسير المشهور "أضواء البيان"، وقد كان رجلًا مهيبًا، ومن شدَّة مهابته كان لا يجرؤ أحد على قراءة الدرس عليه، خشية أن يوبِّخه، خاصَّة عند اللَّحن والخطإ، وحتى الشَّناقطة منهم، فكان يقرأ على الشيخ وتعجِبُه قراءته، وزكَّاه الشيخ أمام الطلاب حينما سأل عن النتائج ومَن نجح ومن رسَب، فقالوا: الذي حاز الرُّتبة الأولى هو محمد بن حمود الوائلي فقال الشيخ: "لا أنا أسأل عن غيره، هذا طالب علم معروف".
وكان من أعظم الأمور التي يكرِّرها الشيخ هذه التزكية من الشيخ محمد الأمين على رؤوس الطلاب، وكان يقول:"ففرحت يومها فرحًا شديدًا، وكانت كلمةً أوقدت الهمَّة في قلبي، وزادتني حرصًا على حرصٍ، والله ما تطلعت بعد تزكية الشيخ الأمين إلى أيِّ تزكية أُخرى"
(2)
.
ثمَّ شدَّ الشيخ الرِّحالَ إلى طيبة الطيبة، والتحق بمعهد الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية في المرحلة الثانوية، وهناك التقى بقامة أُخرى من
(1)
مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، مصدر سابق.
(2)
المصدر السابق.
قامات العلم، وهو محدِّث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله تعالى-، وكان أن وضع الشيخ الألباني في مادة الفرائض سؤالًا في المسألة العُمُرية، ولم يُجِبْ على السؤال إلا الشيخ الوائلي؛ وذلك لأنه كان يحفظ "متن الرحبية". فتعجب الشيخ الألباني وطلب رؤيته. وكان الشيخ دائمًا يقول:"الشيخ الألباني أسد السُّنة والله، رأيته يومًا وأنا خارج من الجامعة الإسلامية، والطلبة حوله قد احتفوا به من كلِّ جانب، فتذكرت عبد الله بن المبارك يوم دخل العراق في زمن هارون الرشيد"
(1)
. وقد تخرَّج في معهد الجامعة الإسلامية عام (1383 هـ)، وحاز على الترتيب الأول.
ثم واصل -رحمه الله تعالى- التعليم وتحصَّل على شهادة الليسانس من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية في العام الدراسي (1387 هـ/ 1388 هـ).
وكان -رحمه الله تعالى- بعد تخرُّجه من المعهد قد وُكِل إليه التدريس بمعهد الجامعة لمدة أربع سنوات، من عام (1387 هـ) إلى (1388 هـ).
ثم هفَّت نفسه للرحلة في طلب العلم، فسافر من بلده قِبْلة النُّساك والحُجَّاج، إلى مِصْر قِبْلة العلم والحِجَاج؛ وذلك لكرع العلم من معين جامعة الأزهر، فالتحق بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، وحصل على درجة الماجستير في الفقه المقارن عام (1392 هـ).
وعند حصوله على الماجستير انتُدِبَ إلى كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية؛ حيثُ صار مدرِّسًا فيها للعام الدراسي (1392 هـ/ 1393 هـ).
ولكن همَّتُه العالية لم تقف إلى هذا الحدِّ، فقد رجع قافلًا إلى مصر لإكمال مرحلة الدكتوراه، وحصل عليها من جامعة الأزهر في الفقه المقارن عام (1395 هـ) بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، مع التوصية بطبع الرسالة، وكانت دراسته تحت عنوان:"ابن رجب وأثره في الفقه"
(2)
.
(1)
مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، مصدر سابق.
(2)
يُنظر: المصدر السابق.
وبعدما حصل على الدكتوراه، عاد إلى المملكة وتقلَّد عدَّة وظائف علمية وإدارية كان أهلًا لها، حريصًا على خدمة ما وُكِل إليه بجِدٍّ وإخلاص، ففي عام (1395 هـ) عُيِّن عميدًا لكلية الشريعة إلى عام (1403 هـ)، وفي عام (1397 هـ) عيِّن أستاذًا مساعدًا بكلية الشريعة فأستاذًا مشاركًا عام (1401 هـ)، ثم رئيسًا لقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية عام (1403 هـ)، ثم أمينًا عامًّا للجامعة الإسلامية من آخر عام (1403 هـ) إلى (1406 هـ)، ثم أستاذًا في الدراسات العليا عام (1408 هـ)، ثم وكيلًا للجامعة الإسلامية للدراسات العليا والبحث العلمي من عام (1416 هـ) حتى (1422 هـ)، وكان قد تقلَّد لعدَّة مرات رئاسة قسم الفقه، وتقلَّد مرة واحدة رئاسة قسم أصول الفقه بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، إلى جانب إشرافه رحمه الله تعالى على الرسائل العلمية في درجة الماجستير والدكتوراه، كرسالة الدكتوراه للشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي الموسومة بـ:"أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها"، وهي مسجَّلة يمكن سماعها
(1)
.
صفاتُه الخَلْقِية والخُلُقِية:
كان الشيخُ ربعة إلى القِصَر أميلَ، أبيضَ شامِخَ الأنفِ، قليلَ اللِّحية يصبغ بالكتم كأنه السواد، يأخذ شاربه من أسفله على مذهب مالك، حاذِقَ النَّظر، صبيحَ الوجْهِ مع طولٍ فيه، إذا أعجبه الشيءُ ابتسمَ، وكان جُلُّ ضَحِكِه التَّبسُّم، يتهلَّهلُ وجهُهُ عند رؤية الأحِبَّة، إذا مشى قبضَ يده كأنَّه في صلاة يمسك المشلح، تعلوه الهيبةُ والسكينةُ، تعرف أنَّه من العلماءِ رحمه الله تعالى.
أمَّا عن صفاته الخُلُقِيَّة؛ فقد كان منخفضَ الجَناح ليِّنًا، خاصَّة مع الطُّلاب، وخاصَّة الصِّغار منهم، ينصحُهم ويوجِّهُهم ويسألُ عن حالهم
(1)
مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، مصدر سابق.
كثيرًا، كأنما يتذكَّر يومَ أن كان صغيرًا، عزيزَ النَّفسِ لا يسأل أحدًا حتى في أمور سهلة، كأن يطلب من طلَّابه كأس ماءٍ، أو صَحن تمْرٍ بجانبهم، بل هو يأتي به، وإذا حضر الغريب سألَهُ عن حاجته وبدأ به، بعيد عن الشهرة والمدح، يحبُّ مَن يسأل ليستفيد، وقد كان فتح باب النِّقاش في القواعد قبل المغرب بنصف ساعة تقريبًا، فيحتف حوله الطلابُ، ويسألونه عمَّا أُشكِلَ عليهم، وهو معهم في أخْذٍ ورَدِّ، لا يتذمَّر ولا يتضجَّر أبدًا، مثالٌ للعالم المربِّي حقًّا، الذي جمع بين العلم والرحمة بالمتعلمين
(1)
.
تدريسُهُ بالمسجدِ النبويِّ:
بدأ الشيخُ الوائلي -رحمه الله تعالى- عام (1416 هـ) التدريسَ بالمسجد النبوي الشريف، وقد طُلِب منه قبل ذلك الوقت، ولكنَّه اعتذرَ بضيق الوقت وكثرة الأشغال في الجامعة الإسلامية، إلى أنْ يسَّر اللهُ له الأمر؛ فعقَدَ مجلسَه بعدما قفل الناس من حجِّهم، واختار أن يكون درسُه في كتاب طالما درسه في الجامعة وتمعَّن فيه، ألا وهو كتاب:"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد، وكان هذا الدرس فتحًا على طلاب الجامعة الذين استفادوا منه غاية الاستفادة، فبسط ما كان موجزًا، وسهل ما استصعب منه، وفكَّ رموزه بأسلوب فقهيٍّ متميز، يعرف هذا كلُّ مَن سمع درسَه، حتى أمضى في الكتاب ثمان سنوات كاملة وهو يشرح ويوضِّح، وكان دائمًا يذكر أنه لولا خشية الإطالة لبسط الدرس، ولزادت سنواته.
ثم بعدما يسَّر اللهُ تعالى إتمام الكتاب، استأنف في تدريس كتاب:"الكافي" لابن قدامة المقدسي في الفقه الحنبلي، هذا الكتاب الذي أمضى فيه قرابة ست سنوات ونصف، وهو دليل واضح على عُمق فِقْهه، وقوَّته العلمية، وهو يعد فتحًا مبينًا، فلم يسبق أحدٌ -والله أعلم- أن شرحَ الكتاب بأكمله.
(1)
مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، مصدر سابق.
وبعدما أتمَّ اللهُ سبحانه وتعالى عليه النِّعمةَ، قرَّر الشيخ أن يكون الكتاب الذي يليه هو كتاب:"تقرير القواعد وتحرير الفوائد" لابن رجب الحنبلي، هذا الكتاب الذي كان يقول عنه:"هو أُعجوبة"، وكان دائمًا يُعلي بكاتبه، ويردِّد قواعده، بلْهَ كان يحفظه.
وقدِ استبشر الطلَّابُ بهذا الدرس الممتع الذي بلغ فيه إلى القاعدة الثالثة والعشرين، وكان قد عقد مجلسين أيضًا في كتاب "سنن أبي داود" حتى:"يجمع الطالب بين المسائل الفقهية وأدلتها؛ لأن أبا داود اعتنى بجمع أحاديث الأحكام، فيجمع الطالب بين المسألة وأصلها"، كما كان يقول رحمه الله
(1)
.
ثناءُ العلماء والطلبة عليه:
عرفنا فيما مضى ثناء الشيخين محمد الأمين الشنقيطي، ومحمد ناصر الدين الألباني، وقد كان شيخه الشيخ عبد المحسن العبَّاد يثني عليه، ويحضّ طلاب العلم على الحضور لدروسه.
وقد أثنى الشيخُ ابن باز على قوَّته في العربية، فقد حكى الشيخ مرَّة فقال:"كنت أدرِّس الطلاب، فإذا بالشيخ ابن باز يستأذن في الدخول والجلوس للاستماع، قال: فتأهَّبْت ورحبت به، وأكملت درسي والشيخ يستمع ولا يتكلم، حتى إذا انقضت ساعة الدرس ذهبت إليه. وقلت: هل من ملاحظات يا شيخنا، فأجاب الشيخ: لا، ولكن مستواك في النحو قوي، فحاول أن تسهل على الطلاب أكثر، وشكر سعيي ثم انصرف رحمه الله تعالى".
وهكذا كان الشيخُ ابن باز -رحمه الله تعالى- يتفقَّد رعيته حتى قال الشيخ الوائلي: "كانت مجالس الشيخ ابن باز كلها مذاكرة، وما أذكر أني جلست معه إلَّا ومجالسه فيها الذكر"، بهذا الجيل الفريد تأثَّر الشيخ
(1)
مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، مصدر سابق.
الوائلي، وكان دائمًا يُثني عليهم ثناءً حسنًا، كيف وهم مربُّوه ومعلِّموه، رحمة الله على الجميع
(1)
.
أولئِكَ آبائي فجِئْني بمِثْلِهم
…
إذا جمَعَتْنا يا جريرُ المجامِعُ
وقال عنه أستاذُه الشيخُ محمد بن ناصر العبودي: "وكنتُ اخترته للذَّهاب معي في جولة على باكستان وأفغانستان وإيران، وهي جولة وافق عليها الملك فيصل، وكلُّنا قلنا في الاستئذان منه أن أذهب وأختار معي أحد الأشخاص إلى الدول الثلاث، وذلك عام (1390 هـ)، وكنت أشغل آنذاك وظيفة (الأمين العام) للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكان الدكتور محمد بن حمُّود الوائلي يدرِّس في المعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية، لأنه لم يكن حصل على شهادة الدكتوراه.
وكان الغرض من رحلتي إليها هو زيارة لكليَّة الشريعة بجامعة البنجاب بمناسبة مرور مائة عام على إنشائها، وحضور احتفالها بذلك الذي سيجري في مدينة لاهور، ولكننا ذكرنا للملك فيصل إلى جانب ذلك، الاطلاع على الكليات والمعاهد التي ترد إلينا منها شهادات لا نعرف مستواها، فوافق الملك فيصل على ذلك، وأبرق لوزارة الخارجية بأن فلانًا يقصدني، سوف يتوجَّه إلى باكستان وأفغانستان وإيران في المهمة الفلانية، ويأمرهم بأن يخبروا السفارات السعودية في الدول الثلاثة بذلك، حتى تبذل لي التسهيلات اللَّازمة، ومن ذلك إخبار حكومات تلك الدول؛ وهكذا كان إذ أخبرت السفارة السعودية الدول الثلاث التي استقبلتنا ضيوفًا عليها.
وفي تلك الرحلة طرائف وعجائب، ليس هذا موضع ذكرها، منها أن زلزالًا حصل في كابل عاصمة أفغانستان ونحن فيها، وكان الأخ محمد بن حمُّود (الوايلي) نِعْمَ الرفيق في السفر"
(2)
.
(1)
يُنظر: كلمة حق في العالم الفقيه محمد بن حمود الوائلي (مادة صوتية)، لتلميذه الدكتور سليمان بن سليم الله الرحيلي.
(2)
يُنظر: معجم أسر بريدة (22/ 281 - 282).
وقال عنه تلميذه الشيخ الدكتور سليمان بن سليم الله الرحيلي: "فضيلة الشيخ الفقيه محمد بن حمُّود الوائلي رحمه الله رحمة واسعة، هذا الرجل وهذا العالم من أساتذة الجامعة الإسلامية القُدامى ومن الفقهاء العجيبين جدًّا، يتدفَّق فقهًا، من أحسن مَن سمعته يتكلَّم في الفقه في الجامعة الإسلامية
…
، ودروسه نافعة جدًّا، وأنا أوصي الطلاب باقتناء الأشرطة، أشرطة شروح الشيخ في المسجد النبوي، من الناحية الفقهية ما شاء الله تبارك الله، قد درسني القواعد الفقهية، أول من أخذت عنه حب القواعد الفقهية قبل 29 سنة"
(1)
.
وقال تلميذه الشيخ عبد الرحمن المغربي: "أوَّل لقائي مع الشيخ - رحمه الله تعالى- كان في شهر شوال من عام ثمان وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ضمن دروسه الأسبوعية التي يلقيها بالمسجد النبوي في كتاب الإمام المبجل ابن قدامة المقدسي الموسوم: بـ: "الكافي" على فقه الإمام الهمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين. كان أول درس حضوته بعد الإجازة الصيفية والرمضانية من كتاب الشفعة، وتحديدًا من فصل: فإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن .... لقد تعجبْتُ غاية العجَبِ من قوَّة الشيخ وفقهه وتعليقه على المسائل وسرد الأقوال، بل كان جلوسي هذا أول مجلس عند عالم بأتمِّ معنى الكلمة، وسررت وأنا بين يدي عالم، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الرجاء الذي كنت أطلبه منذ أن ذُقْتُ حلاوةَ الإيمان، وعرفت طريق العلم. بعدما أتمَّ الشيخ الدرس وقد خرجت منه بتعليقات من ذهب، هرعت أنا وأخي عبد الكريم جباري لشراء كتاب "الكافي"، والعزم على مواظبة الدروس التي والله قد تركت فيَّ أثرًا بالغًا، رأيتُ في شخص الشيخ الرجل الناصح الشفيق على الأُمَّة، الحريص على النفع، الجامع بين العلم والخُلق، ولا ينكر أيّ أحد ممن جلس مجلسه، أو سمع دروسه، كيف جمع الله له بين
(1)
يُنظر مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، لتلميذه: عبد الرحمن المغربي، منتدى تراجم أهل العلم المعاصرين، ملتقى أهل الحديث.
العلم والوعظ، ورُبَّ موضوع خاض الشيخ فيه قد ربطه بأمر العقيدة، وذكّر فيه بأمور الآخرة، وزانه بالفوائد وحلَّاه بأبيات من الشعر، ونمَّقه بمثال من أمثلة العرب، حتى يصير الدرس مجمعًا لمختلف أصناف الفوائد من شتَّى الفنون؛ وكان الشيخ يُسوِّغ فعله هذا دائمًا بقوله:"حتى أعطي كل الناس حقَّهم من الفائدة؛ لأن هناك مَن تَصْعب عليه المسائل الفقهية، وتسهل عليه مسائل أُخرى، فلا يخرج الحاضرون إلا وقد أخذ كلُّ واحد فائدة على حسب مستواه العلمي"
(1)
.
دروسه العلمية:
- شرح كتاب: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد في الفقه المالكي، وأمضى في شرحه ثمان سنوات كاملة، عدد الدروس المسجلة (849)
(2)
، وهو كتابنا هذا.
- شرح كتاب: "الكافي" لابن قدامة المقدسي في الفقه الحنبلي، وأمضى في شرحه ست سنوات ونصف، عدد الدروس المسجلة (184)
(3)
.
- شرح كتاب: "تقرير القواعد وتحرير الفوائد" لابن رجب الحنبلي، حتى بلغ القاعدة الثالثة والعشرين عدد الدروس المسجلة (27)
(4)
.
- عقد مجلسين في شرح كتاب: "سنن أبي داود"؛ وذلك ليجمع
(1)
مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، مصدر سابق.
(2)
يُنظر: موقع بوابة الحرمين الشريفين، الدروس المسجلة، صفحة محمد بن حمود الوائلي، محاضر بالجامعة الإسلامية، ووكيلها للدراسات العليا والبحث العلمي، ومُدرس بالمسجد النبوي.
(3)
يُنظر: منتدى الصوتيات والمرئيات الملقاة بالحرمين الشريفين، مكتبة المسجد النبوي الشريف.
(4)
كلمة حق في العالم الفقيه محمد بن حمود الوائلي (مادة صوتية)، لتلميذه الدكتور سليمان بن سليم الله الرحيلي، وموقع بوابة الحرمين الشريفين، الدروس المسجلة صفحة محمد بن حمود الوائلي، محاضر بالجامعة الإسلامية، ووكيلها للدراسات العليا والبحث العلمي، ومُدرِّس بالمسجد النبوي.
الطالب بين المسائل الفقهية وأدلتها، عدد الدروس المسجلة (31)
(1)
.
مقالاته ومحاضراته:
لم يُعرَف الشيخُ بالتآليف؛ لأنه كان -رحمه الله تعالى- قليل الكتابة، بعيدًا عن هذا الباب، وإنما جعل همَّتَه في التعليم والتدريس لتأليف الرجال، إلى جانب ارتباطاته الإدارية في الجامعة الإسلامية، ولكن كانت له مشاركات بالمقالات أو المحاضرات التي كان يلقيها فى الجامعة الإسلامية أو في الندوات، ومن بين ما هو مطبوع:
1 -
رسالة بعنوان: "القواعد الفقهية تاريخها وأثرها في الفقه" الطبعة الأُولى عام 1407 هـ/ 1987 م، مطابع الرحاب بالمدينة المنورة، في (90) صفحة
(2)
.
2 -
رسالة بعنوان: "حكم الشريعة الإسلامية في المُسْكِرات وطرق مكافحتها وآثارها الضارة صحيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا".
وهي عبارة عن موضوع تقدَّم الشيخ به إلى المؤتمر العالمي الإسلامي الثاني لمكافحة المسكرات والمخدرات المنعقد في إسلام آباد بباكستان، والرسالة من مطبوعات مركز شؤون الدعوة، مطبوعة عام 1410 هـ وتقع في (47) صفحة
(3)
.
(1)
يُنظر: الدروس المسجلة في موقع بوابة الحرمين الشريفين صفحة محمد بن حمود الوائلي، محاضر بالجامعة الإسلامية، ووكيلها للدراسات العليا والبحث العلمي، ومدرس بالمسجد النبوي.
(2)
يُنظر مقال: كلمة حق في العالم الفقيه محمد بن حمود الوائلي لتلميذه الدكتور سليمان بن سليم الله الرحيلي، ومقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، لتلميذه: عبد الرحمن المغربي، منتدى تراجم أهل العلم المعاصرين، ملتقى أهل الحديث.
(3)
يُنظر مقال: كلمة حق في العالم الفقيه محمد بن حمود الوائلي لتلميذه الدكتور سليمان بن سليم الله الرحيلي، ومقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمُّود الوائلي، لتلميذه: عبد الرحمن المغربي، منتدى تراجم أهل العلم المعاصرين، ملتقى أهل الحديث.
3 -
محاضرة بعنوان: "قبسٌ من تاريخ الفقه الإسلامي" ألقيت مساء الأربعاء 1/ 3/ 1398 هـ، وهي موجودة في كتاب:(محاضرات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة للموسم الثقافي للعام الدراسي (1397 هـ/ 1398 هـ)، تبدأ من الصفحة (197) إلى (226)
(1)
.
4 -
مقال بعنوان: "مكانة المسجد في الإسلام" في العدد الثاني للسَّنة الثالثة عام (1390 هـ) لمجلة الجامعة الإسلامية، من صفحة (110) إلى (114)
(2)
.
وللشيخ مقالات وتعليقات على بعض الكتب ككتاب: "القواعد" لابن رجب إبان تدريسه في الجامعة، لا تزال في مكتبته رحمه الله تعالى.
5 -
"الحج المبرور"، عدد التسجيلات (1)
(3)
.
6 -
"صحيح مسلم"، عدد التسجيلات (12)
(4)
.
7 -
"مواعظ وفتاوى"، عدد التسجيلات (253)
(5)
.
(1)
يُنظر مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، لتلميذه: عبد الرحمن المغربي، منتدى تراجم أهل العلم المعاصرين، ملتقى أهل الحديث.
(2)
يُنظر مقال: حتى لا ننسى الشيخ الفقيه محمّد بن حمود الوائلي، لتلميذه: عبد الرحمن المغربي، منتدى تراجم أهل العلم المعاصرين، ملتقى أهل الحديث.
(3)
يُنظر: موقع بوابة الحرمين الشريفين، الدروس المسجلة، صفحة محمد بن حمود الوائلي محاضر بالجامعة الإسلامية ووكيلها للدراسات العليا والبحث العلمى ومُدرِّس بالمسجد النبوي.
(4)
يُنظر: موقع بوابة الحرمين الشريفين، الدروس المسجلة، صفحة محمد بن حمود الوائلي محاضر بالجامعة الإسلامية ووكيلها للدراسات العليا والبحث العلمى ومُدرِّس بالمسجد النبوي.
(5)
يُنظر: موقع بوابة الحرمين الشريفين، الدروس المسجلة، صفحة محمد بن حمود الوائلي محاضر بالجامعة الإسلامية ووكيلها للدراسات العليا والبحث العلمي ومدرس بالمسجد النبوي.
وفاته:
في آخر رمضان من عام (1431 هـ) أُجْرِيت له عملية في القلب في المستشفى السعودي الألماني، وكانت حالته على ما يرام، إلى أن قدَّر الله عليه أن يصاب بجلطة فنُقِل إلى مستشفى الملك فهد في المدينة النبوية فتمَّت معالجته، فتحسَّن نسبيًّا، ولكن أَذِنَ اللهُ لروحه ففاضت إلى بارئها ليلة الخميس 28 شوال 1431 هـ -2010 م.
وقد صُلِّي عليه ظهر يوم الخميس 28 - 10 - 1431 هـ في المسجد النبوي، ودُفِن رحمه الله في مقبرة البقيع
(1)
.
(1)
يُنظر: جريدة الجزيرة السعودية، عدد السبت: 1 ذو القعدة سنة 1431 هجري، 9 أكتوبر 2010 ميلادي، جريدة الرياض السعودية، عدد الأحد: 2 ذو القعدة، سنة 1431 هجري، 10 أكتوبر 2010 ميلادي.
ترجمةٌ موجزة لابن رشد الحفيد رحمه الله تعالى
(1)
اسمُه ونسَبُه:
هو العلَّامة، فيلسوف الوقت، أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي. واحد آحادِ عصوه ذكاءً وعلمًا واجتهادًا.
مولدُهُ:
وُلِد سنة 514 هـ، وقيل: 520 هـ، في بيت فقْهٍ وقضاء قديم، قبل وفاة جَدِّه أبي الوليد بشهر واحد. وعرض "الموطأ" على والده أبي القاسم.
شيوخُهُ وعلمُه:
أخذ الأدبَ عن جماعة، واشتغل بالفقه والعربية، ودأبَ، ثُمَّ رأى
(1)
يُنظر في ترجمته: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (21/ 307)، "تاريخ الإسلام" للذهبي (12/ 1039)، "الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب" لابن فرحون، (2/ 257)، "التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول" لصديق حسن خان (ص: 290).
من نفسه ارتياحًا إلى الحكمة، فطلبها، واشتغل بها، ولزم ابنَ العربي وغيرَه، ولم يزل مُجِدًّا في الاشتغال بها حتى صار ابنَ بَجْدَتها، وأبا عذرَتِها.
تفقَّه على الحافظ أَبِي مُحَمَّد بْن رزق.
وأخذ عن أبي مروان بن مسرة، وأبي القاسم ابن بشكوال، وأبي بكر ابن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز وأبي عبد الله المازري.
وأخذ علم الطِّب وبرع فيه عن أبي مروان بن جزيول البلنسي، وكان يفزع إلى فتياه فيه، كما يفزع إلى فتياه في الفقه، وألَّف كتاب الكلِّيَّات في الطِّبِّ أجاد فيه، وكان بينه وبين أبي مروان مودةٌ.
ودرس الفقه حتى برع فيه، وأقبل على علم الكلام، والفلسفة، وعلوم الأوائل، حتى صار يُضرَب به المثل فيها. ولم يأتِ في الإسلام من بعده مَنْ يضاهيه في الفلسفة كما قيل.
وكان كثيرَ الدرس والمطالعة، لا يشغلُه عن البحث والنظر شاغل، وتشهد بذلك كثرةُ مؤلَّفاته.
وقال ابن أَبِي أُصَيْبَعَة: "هُوَ أوحد أهل زمانه في علم الفقه والخلاف".
ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا، وكان على شرفه أشدّ الناس تواضعًا وأخفضهم جناحًا، وعُنِيَ بالعلم من صِغَره إلى كبره، حتى حُكِي: إنه ما ترك الاشتغال مذ عَقِل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وإنه سوَّد فيما ألَّف وقيَّد نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء؛ فكانت له فيها الإمامة، مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب والحكمة، وحُكِي عنه: أنه كان يحفظ (ديوان أبي تمام)، و (المتنبي).
مؤلفاته وتصانيفه:
له من التصانيف الكثير؛ فمن تصانيفه ما ذكره ابن أَبِي أُصَيْبَعَة:
كتاب "التّحصيل"، جمع فِيهِ اختلافات العلماء، كتاب "المقدمات في الفقه"، كتاب "بداية المجتهد" في الفقه، علَّل فيه ووجَّه، ولا نعلم فِي فنِّه أنفع منه، ولا أحسن مساقًا، كتاب "الكُليّات في الطبّ" وكتاب "مختصر المستصفى فِي الأصول"، كتاب "شرح أُرجوزة ابن سينا فِي الطِّبِّ"، كتاب "الحيوان"، كتاب "جوامع كتب أرسطوطاليس فِي الطَّبيعيَّات والإلهيّات"، كتاب فِي "المنطق"، كتاب "تلخيص الإلهيات" لنيقولاوس، كتاب "تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطوطاليس"، "شرح كتاب السماء والعالم لأرسطوطاليس"، "شرح كتاب النفس لأرسطوطاليس"، "تلخيص كتاب الأسطقسات لجالينوس"، وله كتاب "تهافت التَّهافت"، يردُّ فِيهِ على الغزاليِّ، وأنه بمعزل عن مرتبة اليقين والبرهان، وقال في آخره:"لا شكَّ أن هذا الرجل أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة"، وقد أوصل ابن رشد الفلسفةَ العربية إلى غاية بعيدة. وكتاب "منهاج الأدِلَّة فِي الأصول"، كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتِّصال"، كتاب "شرح كتاب القياس لأرسطو، مقالة فِي العقل"، "مقالة فِي القياس"، كتاب "الفحص في أمر العقل"، كتاب "الفحص عن مسائل وقعت في الإلهيات من الشفاء لابن سينا"، مسألة فِي الزَّمان، "مقالة فِي أنَ ما يعتقده المشاؤون وما يعتقده المتكلِّمون من أَهْل ملَّتنا فِي كيفيَّة وجود العالم متقارب فِي المعنى"، وغير ذلك.
تلامذته:
حدَّث وسمِع منه طائفةٌ؛ منهم: أبو بكر ابن جهور، وأبو محمد ابن حوط الله، وأبو الحسن: سهل بن مالك، وغيرهم.
صفاتُه، وبعض مناصبِه ووفاتُه:
وكان أبو الوَلِيد ابن رُشْد ذكيًّا، رثَّ البزَّة، قويَّ النَّفس، اشتغل بالطِّبِّ على أَبِي جَعْفَر ابْن هارون، ولازمه مدَّةً.
وولي قضاء قرطبة، بعد أَبِي مُحَمَّد بْن مغيث، فَحُمِدت سيرته وعظُم قدره.
ولما كان المنصور بقُرطُبة وقت غزْو الفُنْش استدعى أَبَا الْوَلِيد واحترمه وقرَّبه، حتى تعدَّى به الموضع الّذي كان يجلس فِيهِ الشَّيْخ عَبْد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي، ثُمَّ بعد ذلك نَقَمَ عليه لأجل الحكمة، يعني الفلسفة.
قال شيخ الشيوخ ابن حمويه: "لما دخلتُ البلادَ، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يوسف بن يعقوب، لا يدخل إليه أحد، لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسًا بداره بمراكش، سنة خمسة وتسعين وخمسمائة".
عقيدتُه:
كثُر الجدلُ عن حقيقة عقائد ابن رشد، وكثرت المؤلفات ما بين مؤيِّد ومعارض، واضطربت الأفهام في تحديد عقائده ومذاهبه.
وفيما يلي ذكر بعض
المآخذ المجملة التي كانت مثار جدل في مؤلفاته:
1 - تأويل الشريعة لتوافق الفلسفة الأرسطية:
لعلَّ الاطِّلاع على ترجمة ابن رشد الموجزة السابقة كافٍ للدلالة على هذه التوجهات الفكرية لدى ابن رشد، فقد أُخِذَ بفكر أرسطو، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"هو من أتبع الناس لأقوال أرسطو". "بيان تلبيس الجهمية"(1/ 120).
2 - اعتقاده بالظاهر والباطن في الشريعة:
يقول ابن رشد في كتابه "كشف عن مناهج الأدلة"(ص/ 99) طبعة مركز دراسات الوحدة العربية:
"الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، والظاهر منها هو فرض الجمهور، والمؤول هو فرض العلماء، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره
وترك تأويله، وأنه لا يحلُّ للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، كما قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله".
وقد استغرق ابن رشد في تقرير هذه الفكرة الباطنية في كتبه، حتى إنه جعل من أبرز سمات الفرقة الناجية من أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم أنها هي "التي سلكت ظاهر الشرع، ولم تؤوله تأويلًا صرحت به للناس". ينظر: "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"(ص: 150).
ولذلك توسَّع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرَّدِّ على خصوص كلام ابن رشد في هذا الكتاب، وبيان بطلان التفسير الباطني لنصوص الشريعة، وذلك في كتابيه العظيمين:"بيان تلبيس الجهمية"، و"درء تعارض العقل والنقل".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(19/ 157): "وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية؛ بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب: سلك مسلك التخييل، وقال: إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم؛ مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك. فهؤلاء يقولون: إن الرسل كذبوا للمصلحة. وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية".
3 - مال في باب "البعث والجزاء" إلى قول الفلاسفة أنه بعث روحاني فقط،
بل وقع هنا في ضلالة أعظم من مجرَّد اعتقاده مذهب الفلاسفة في البعث الروحاني؛ حيثُ جعل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد، وأن فرض كل ناظر فيها هو ما توصل إليه قال:"والحقُّ في هذه المسألة أنَّ فرض كلِّ إنسان فيها هو ما أدَّى إليه نظره فيها". انظر: "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"(ص: 204).
4 - ولعلَّ من أبرز سمات منهج ابن رشد في كتبه،
وفي الوقت نفسه من أبرز أسباب أخطائه: هو عدم العناية بالسُّنَّة النبوية مصدرًا من مصادر التشريع.
يقول الدكتور خالد كبير علال حفظه الله: "ابن رشد لم يُعطِ للسُّنة
النبوية مكانتها اللائقة بها كمصدر أساسي للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم، ولم يتوسَّعْ في استخدامها في كُتُبه الكلامية والفلسفية، ففاتته أحاديث كثيرة ذات علاقة مباشرة بكثير من المواضيع الفكرية التي تطرق إليها، كما أن الأحاديث التي استخدمها في تلك المصنفات كثير منها لم يفهمه فهمًا صحيحًا، وأخضعه للتأويل التحريفي خدمة لفكره وأرسطيته" انتهى. "نقد فكر الفيلسوف ابن رشد" (ص: 97).
5 - وللشيخ محمد أمان عليّ الجامي بحثٌ في مجلة الجامعة الإسلامية اسمه: "العقل والنقل عند ابن رشد" أتى فيه على كلِّ سمات ابن رشد.
عن حياته، عن فلسفته، لكي نعرف الظروف التي نشأ فيها حتى صار أحد أساطين الفلسفة، وما الذي عرضه لذلك الاضطهاد والعسف والتشريد، والاتهام بالإلحاد والزندقة أحيانًا.
وهو منشور على موقع ملتقى أهل الحديث:
http://ahlalhadeeth.com/vb/showthread.php?p=169055#post169055
مقدمة الشيخ العلامة محمد بن حمود الوائلي
الحَمْد لله ربِّ العَالَمين، وأصلِّي وأُسلِّم على خير خَلْق الله أجمعين، نبينا مُحمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من توفيق الله سبحانه وتعالى لعبده أن يرزقه العلم النافع، وأن يُتْبع ذلك بالعمل به {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وما أجملَ أن يُتَلَقَّى العلم في المكان الطيب! في بيت من بيوت الله، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول جامعةٍ أُقيمَتْ في الإسلام، هذه المدرسة التي نشأ فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا العلم من مشكاة النبوة صافيًا نقيًّا، لم تَشُبْه شائبةٌ، لا سيما بعد هذه المناسبة العظيمة، وبعد أن انقضى موسم عظيم، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام (حج بيت الله الحرام) الذي أرشد الله سبحانه وتعالى إليه بقوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وقوله سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} [الحج: 27].
وقَدْ كانت الآية تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقَّاها عنه الصحابة رضي الله عنهم،
ثم يُطبقِّونها قولًا وعملًا، فكانوا قدوةً بأعمالهم قبل أن يكونوا قدوةً بأقوالهم، وقد جَمَعوا بين الأمرين معًا.
وَهَكذا نجد أن الذين جاؤوا بعد الصحابة -رضوان الله عليهم- ساروا في نفس هذا المسلك فيما يتعلق بعناية الصحابة -رضوان الله عليهم - في تعلم العلم، وطلبه، والرحلة في ذلك، فنجد أن جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابيَّ الجليل يَشُدُّ رَحْله، وبتجه صوب الشام، يُسافر مسيرة شهر لِيَلْتَقِيَ بعبد الله بن أُنيس، إذ بلغه أنه روى حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذهب إلى هناك، وبجد غلامه، ويسأله عن عبد الله، فيَدُله ويرشده إليه، ثم يذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يُحْشَر الناس يوم القيامة عراةً"
(1)
.
وكذلك نجد أن عقبة بن الحارث يتزوج امرأةً بمكة، ثم تأتيه امرأة وتقول: قد أرضعتكما، فيتردد في الأمر ويحاورها:"ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني"، ثم بعد ذلك يعقد العزم، فيركب راحلته من مكة إلى المدينة، ويأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان الطاهر، فيسأله عن ذلك الأمر، فيقول لَه الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم:"كَيْفَ وَقَدْ قيلَ"، ثمَّ يُطَلِّقُها، وتتزوَّج غيره
(2)
.
(1)
أخرج أحمد (16042)، عَنْ جابر بن عبد الله يَقُولُ: بلغني حديث عن رجلٍ سَمعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلتُ للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني، واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سَمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة -أو قال: العباد- عراةً غرلًا بُهْمًا"، قال: قلنا: وما بُهْمًا؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوتٍ يسمعُهُ من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحدٍ من أهل الجنة حق حتى أقصَّه منه، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحدٍ من أهل النار عنده حقٌّ حتى أقصَّه منه، حتى اللطمة"، قال: قلنا: كيف وأنا إنما نأتي الله عز وجل عُرَاةً غرلًا بُهْمًا؟ (قال: "بالحسنات والسيئات".
(2)
أخرج البخاري (88): عقبة بن الحارث، أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتته =
وإذَا ما رَجَعنا قليلًا إلى عصر العلماء الأعلام من التابعين، ثم الأئمة الأربعة الذين اشتهروا وذاع صيتهم في الآفاق، نجد أنهم قد سلكوا هذا المسلك
…
فهذا الإمام الشافعي يتردد بين العراق ومكة، ثم يُلْقي في آخر أيامه عصا التسيار في مصر، ويلقي دروسه في مكة، ويحضر لديه أكابر طلاب العلم أمثال الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه.
ونجد كذلك الإمام أحمد بن حنبل إمام دار الإسلام، قد سافر إلى مكة واليمن، ورافقه في بعض رحلاته إسحاق بن راهويه.
ولا شكَّ أن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على العلماء بقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
هذا توجيهٌ من الله سبحانه وتعالى.
وَبيَّنَ سبحانه وتعالى أن مِمَّا يعين على طَلَب العلم، وَيُوَفِّق صاحبه، ويُهيِّئ له العلم النافع هو أن يتَّقي الله سبحانه وتعالى في طلب ذلك العلم، بَلْ في كلِّ أموره في هذه الحياة، فاللهُ تَعالَى يقول:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ} [البقرة: 282].
ولا بدَّ في طلَب العلم أيضًا من الإخلاص، يَقُولُ الرسول عليه الصلاة والسلام:"مَنْ سَلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة"(1).
ومَنْ يُرد أن يُفقِّهه ربُّه سبحانه وتعالى في الدِّين، فعليه أن يُخلص في طلبه،
===
= امرأةٌ، فَقَالت: إنِّي قد أَرْضَعتُ عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فسأله، فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"كيف وقَدْ قيلَ؟! "، ففارقها عقبة، ونكحت زوجًا غيره.
(1)
أخرجه مسلم (2699).
وأن يصبر، وأن يتحمل في سبيل طلب العلم، فلا نتصور أن العلم يأتي بـ "التي" و"اللُّتيَّا"، ولا بـ"ليت""ولو أني"، فلا يمكن أن يتعلم الإنسان بمجرد الأمنيات، أو أن يأتي للحظاتٍ قصيرةٍ ليحضرَ بعض الدروس، أو ربما يقرأ بعض الكتب، لا، العلم لا يَناله إلا مَنْ شَمَّر عن ساعد الجدِّ، وطَرَق الأبواب في الليل الداجي، يصل كَلَال الليل بكَلَال النهار لعله يصل إلى هذا العلم.
أُولَئك العُلَماء الَّذين تَحدَّثنا عنهم سابقًا كانوا يركبون السهل والوعر، فيُسَافرون راكبين إن أَسْعَفهم الحال، وماشين إن ضاقت بهم النفقة، وكان غرضهم من ذلك أن يَسْتفيدوا ولو مسألةً واحدةً من مسائل العلم، ونحن - بحمد الله- في هذا الزمان أصبح العلم ميسَّرًا بين أيدينا، فالجامعات مُفَتَّحةٌ، والمدارس مُشَرَّعةٌ، والمساجد فيها دروسٌ عظيمةٌ هي دروس هذه الشريعة، وفي مقدمتها بيت الله الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلينا جميعًا أن نستفيد من ذلك، ونستعين بالله سبحانه وتعالى على طلب العلم.
والعلم الذي معنا في هذا الكتاب هو علم الفقه، وعلم الفقه قد عرَّفه العلماء بقولهم:"هُوَ العِلْمُ بالأحكام الشرعية المستمدة من أدلتها التفصيلية"
(1)
.
وقَبْلَ أن ندخلَ في لُبِّ هذا العلم، نَوَدُّ أن نُلْقِيَ نظرةً فاحصةً على الأحكام الَّتي نجد أنه تضمَّنها كتاب الله عز وجل، وَسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فأولًا: نجد أن الكتابَ والسُّنةَ يلتقيان في أمورٍ ثلاثةٍ، هذه الأمور لا يخرج عنها ما في كتاب الله عز وجل، وما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالأحْكَامُ التي جاء بها كتاب اللهِ عز وجل:
* إما أن تكون أحكامًا صريحة الدلالة مُبَسَّطَة.
(1)
يُنظر: "الإبهاج شرح المنهاج" للسبكي (1/ 28)؛ حيث قال: "والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".
* وإما أن تكون أحكامًا مُجْمَلة.
* وإمَّا أن تكون هذه الأحكام قَدْ جاءت بها السُّنَّة، وَسَكت عنه القرآن.
أمَّا الأَحْكَامُ الَّتي نجد أن الله سبحانه تعالى قَدْ ذكَرها نَصًّا في كتابِهِ، وَكَذلك جاءت سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم مُقَرِّرةً لذلك، وهي كثيرةٌ جدًّا، ومن ذَلكَ ما جاء من الأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، والنهي عن الإشراك بالله سبحانه وتعالى، وعن عقوق الوالدين، وعن التولي يوم الزحف، وعن الزنا، وكذلك النهي عن القذف، وغير ذلك من أمور كثيرة، نجد أن القرآن والسُّنَّة قد نصَّا تنصيصًا ظاهرًا على حكمها، فالتقى فيها الكتاب والسُّنة، وبذلك يكون دليل هذه المسائل إنما هو نصٌّ في الكتاب والسُّنة.
وهُنَاك أمورٌ مجملةٌ جاء بها كتاب الله عز وجل؛ كالحال بالنسبة لمَا يتعلق بأحكام الصلاة من شرائطها وأركانها وواجباتها وسننها، وكذلك الزكاة فيما يتعلق بأنصبتها ومقاديرها، وكذلك ما يتعلَّق بالصيام والحجِّ إلى غير ذلك من المسائل التي جاءت مُجْمَلةً في كتاب الله عز وجل، فنجد أن السُّنة قد جاءت لتُفصِّل تلك الأحكام، فنجد أن الله أمر بالصلاة، وأمر بالزكاة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
وقال في الصيام: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].
وقال في الحجِّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
جَاءَتْ هذه الأحكامُ مجملةً، وجاءت سُنَّةُ الرسول صلى الله عليه وسلم لتُبَيِّن هذه الأحكام، وبيان السُّنة ليس خارجًا عن كتاب الله عز وجل، فالله تعالى قد أرشد إلى ذلك في قوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
فالرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام يُبَيِّنُ ما أُجْمل في الكتاب، ويُفسِّرُ ويُوَضِّحُ للنَّاس، وهو القائل:"ألا إنِّي أُوتِيتُ القرآن ومثله معه"
(1)
.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
ويقول عز وجل: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ انفردت بها سُنَّة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:
فَنَجد أحكامًا سَكَتَ عنها الكتابُ العزيزُ، فتَأْتِي سُنَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم لتُبيِّن وجوب أو تحريم هذه الأحكام.
فمثلًا: نصَّ الله سبحانه وتعالى على المحرماتِ في النكاح: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} [النساء: 22].
فَنَصَّ في هذه الآيات الكريمات على أربع عشرة من المحرمات في النكاح، فهل هذه هي المحرمات فقط؟
نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه قوله: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها"
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (17174)، وصَحَّحه الأرناؤوط.
(2)
أخرجه البخاري (5109).
إذن، جاءت السُّنَّة بأحكامِ أيضًا أضافتها إلى كتاب الله عز وجل، ولا يُعْتبر ذلك تعارضًا بين كِتاب اللهَ عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكتاب إنما هو من عند الله، وسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"تَركتُ فيكُمْ ما إن تَمسَّكتم به لن تَضلُّوا بعدي أبدًا: كتاب الله عز وجل وسُنَّتي"
(1)
.
نظرةٌ مجملةٌ إلى ما في الكتاب والسُّنَّة من أحكام:
إن الأحكام التي جاء بها القرآن الكريم والسُّنة النبوية إنما هي تأتي في الأمور الآتية:
أوَّلها: الأحكام المتعلقة بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
وكذلك الأحكام المتعلقة بتفصيل ذلك؛ كالإيمان بالغيب والبعث والجزاء والنشور والجنة والنار، وما في الجنة من نعيمٍ أعدَّه الله سبحانه وتعالى لأوليائِهِ، وما في النار من عَذَابٍ أعدَّه الله سبحانه وتعالى للخارجين عن أَوَامره ونَوَاهيه
…
وهذه مَوْضوعها علم العقيدة، أي: ما يُعْرف بعلم التوحيد، إلَّا أننا نتعرض إليه عندما نجد مناسبةً لنُبيِّن أهمية هذا الأمر.
ولا شكَّ أن التوحيدَ هو الأصل الأصيل، وهو الذي إذا انتفى، فسائر الأعمال لا تفيد صاحبَها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يَقُولُ:"بُنِيَ الإسلامُ على خَمْسٍ: شَهَادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، هاقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام"
(2)
.
فَالأَصْلُ إنَّما هو هذه العقيدة، وإذا فَسَدت فسدت سائر الأعمال، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول عن أعمال المشركين الكافرين: {وَقَدِمْنَا إِلَى
(1)
أخرجه مسلم (1218) في حديث طويل.
(2)
أخرجه البخاري (8).
مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، فمهما عَمِلُوا من الأعمال في الفروع، فإنها لن تُقدِّم لهم خيرًا، كما سنفصل ذلك -إن شاء الله- عندما ندخل في موضوعِ دراستنا.
الأمر الثاني: المتعلِّق بالأمور الاجتماعية، وهي تلكم التي تُربِّي المجتمع الإسلامي، من الأخلاق الفاضلة فيما يتعلق بالصدق والأمانة، وكذلك البر وإكرام الضيف، وإكرام الجار، والإحسان إلى المحتاج، والصدق في المعاملات، وغير ذلك من الأحكام الكثيرة، وكذلك الأمور التي تُحَذِّر من الرَّذَائل، من الكَذِب، والغشِّ والنَّميمة، وغير ذَلكَ .. وهَذِهِ مَوْضوعُهَا: عِلْمُ الأخلاق، وهو أيضًا علمٌ مستقلٌّ.
أقسام علم الفقه:
للعُلَماء تَقْسيماتٌ لعلم الفقه:
القسم الأوَّل: الأحكام التي تُنظِّم علاقة العبد بربِّه، وهذه الأحكامُ التي تُنَظِّم علاقة العبد برئه، وهي أحكام العبادات؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحجِّ، وما يتبع ذلك من أحكام مفصَّلة، وهذه تأتي في مُقَدِّمة علم الفقه.
القسم الثاني: الأحكام المتعلِّقة بالمعاملات؛ من بيعٍ وشراءٍ، وإجارةٍ، وشُفْعةٍ، وغير ذلك .. والمعاملاتُ لها أهميةٌ كبيرةٌ في الفقه الإسلامي، وهي تمثل الشطر الثاني من أقسام الفقه.
القسم الثالث: الأحكام المتعلقة بالأسرة، من نكاحٍ، وطلاقٍ، وخلعٍ، ونفقاتٍ، ومواريثَ، وغير ذلك من الأحكام الكثيرة، ويُعْرف ذلك بنظامً الأسرة.
القسم الرابع: الأحكام المتعلِّقة بنظام الحكم، وهي من الأحكام التي عُنِيَ بها الفقهاء، وفصَّلوها وبيَّنوا أهميتها ومكانتها في الفقه الإسلامي، وما يَتَرتب عليها من تثبيت الدَّولة الإسلاميَّة، ومَكَانَتِهَا وحفظ
الأمن، والمحافظة على حقوق الناس، وكذلك على أموالهم ودمائهم، وهذا يعتبر قسمًا من أقسام الفقه.
وَلَكنَّه بعد أن ظهرت التخصُّصات الفقهية في الإسلام، أخرج بَعْضُ الفقهاء من أقسام الفقه علمًا يُسمَّى بـ"علم السِّياسَة الشرعيَّة"، فَجَعلوا ما يتعلَّق بنظام الحكم، وما يتعلق بنظام الحسبة، وما يتعلَّق بالعلاقات الدُّوَلِيَّة، وما يتعلق بالنواحي الإدارية، جعلوها تتعلق بالسياسة الشرعية، ويلحق بذلك نظام القضاء، وبعض الأمور الأخرى، لكنها وَإن أَخْرَجوها، فهي في الواقع تُمثِّل جُزءًا كبيرًا في الفقه الإسلامي، ودارس الفقه لا بدَّ أن يدرسها، ولا يَسْتغني عنها.
القسم الخامس: ما يَتَعلقُ بمؤاخذة الخارجين على حدود اللهِ، والمخالفين لها، وهو ما يُعْرف بالعقوبات في الفقه الإسلامي والجنايات، من القِصاصِ أو الحدود، وَكَذلك التعزيرات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، والتي نجد أن خلفاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا منها الكثيرَ من الأُمُور.
ثمَّ بَعْد ذلك ما يتعلَّق بالدِّيات.
القسم السادس: ما يتعلق بأحكام المآكل والمشارب واللباس؛ فَاللهُ سبحانه وتعالى بيَّن جملة ما يَحِلُّ وما يَحْرُم مما يُؤكل، ومما لا يُؤكل، ومما يُلْبس وممَّا لا يُلْبس، ثم نجد أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما تَرَك أمرًا من تلك الأمور إلا وَفَصَّله وَبيَّنه غايةَ البَيَان، وقَدْ أَرْشَدَ الله سبحانه وتعالى إلى ذَلكَ بقَوْله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
مَكَانة علم الفقه الإسلامي من بين العلوم:
لا شَكَّ أن الفقهَ الإسلاميَّ من أَجَلِّ العلوم قَدْرًا، ومن أكثرها فائدةً؛ ولذَلكَ ترى أن جهابذةَ العُلَماء رحمهم الله قَدْ أَفْنَوا أعمارهم، وَوَقفوا
حياتَهم في تعلم هذا العلم وتعليمه، فنجد أنه يجتمع لديهم الطلاب من كل مكانٍ، فيأخذون عنهم العلم، ويدرسونه، ويبينونه للناس.
تاريخ علم الفقه الإسلامي:
والفقه لم تكن بدايتُهُ كنهايتِهِ، فلم تكن بداية العلم كنهايته التي نجدها، فالفقه -كما هو معلومٌ- إنما هو مستمدٌّ من كتاب الله عز وجل الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، فهو قطب هذه الشريعة الذي تدور حوله.
ثمَّ بعد ذلك هو مستمدٌّ من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك استُمِدَّ من أُمُورٍ تَرْجع إلى الكتاب والسُّنة، فنحن نجد أنَّ الصَّحابةَ -رضوان الله عليهم- بعد أن تُوفِّيَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وَجَدَّتْ أمورٌ لَمْ تكن مَوْجودةً في زمن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فَبَحثوا عن أحكامها أَوَّلًا في كتَاب الله عز وجل، كَمَا هو مَنْهج أبي بَكْرٍ رضوان الله عليه، فَكَان إذا حَدَثت حَادثةٌ، بَحَث عنها في كتاب الله عز وجل، فَإِنْ لَمْ يجدها في الكتاب، عَادَ فَبحَث عنها في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لم يجدها، فإنَّه يجمع الصَّحابة - رضوان الله عليهم- ويسألهم: أبَلَغهم شيءٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وقد حصل ذلك في توريث السدس عندما سأل، فوجد أن أحد الصحابة قد بلَغه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وَرَّث السدس
…
إلى غير ذلك
(1)
.
(1)
أخرج أبو داود (2894)، عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكرٍ الصديق تسأله ميراثها، فقال: ما لكِ في كتاب الله تعالى شيء، وما علمتُ لكِ في سُنَّة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فَقَال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكرٍ: هل معَكَ غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكرٍ، ثم جاءت الجدة الأُخرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسأله ميراثها، فقال: ما لكِ في كتاب الله تعالى شيءٌ، وما كان القضاء الذي قُضِيَ به إلا لغيرك، وما أنا بزائدٍ في الفرائض، ولكن فو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه، فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها
…
وقد صحَّحه الأرناؤوط.
وَكَذَلكَ كان شأن عمرَ رضي الله عنه، والرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قال:"اقْتَدوا باللَّذَين من بَعْدي: أبي بكرٍ وعُمَر"
(1)
.
فَجَميعُ الأحكام الفقهيَّة إنَّما هي مُسْتَمدَّةٌ من كتاب الله عز وجل، ومن سُنَّة رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، أو من أَمْرٍ يعود إليهما، أو إلى مَقَاصدهما، ولا شكَّ أنَّ في مقدمة تلك الأحكام: الفتاوى التي أفتى بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتلك الفتاوى لم تَصْدر عن الصحابة -رضوان الله عليهم- عَنْ هوًى، ولا عن جهلٍ، فالصَّحَابةُ -رضوان الله عليهم- أبعد الناس عن الهَوَى، بَلْ كانوا يَحْرصون غايةَ الحرص على أن يتبعوا منهج كتاب الله عز وجل، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أيضًا يتحرجون من الفتوى، ونجد كثيرًا منهم يُحِيلُ الفتوى علَى أَخِيهِ حتى تعَيَّنَ أمامَه، فَيَجد أنَّ الأمرَ لا بدَّ أن يُبَيَّنَ حكم الله فيه، لأنَّه "مَنْ سُئِلَ عن علمٍ، فكَتَمه، ألجمه الله بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة"
(2)
.
فهل وقفت المسائل عند زمن الصحابة؟
لا، فنجد أن البلاد الإسلامية قد اتَّسعتْ، وأن الفتح الإسلامي امتدَّ في زمن الصحابة -رضوان الله عليهم- في زمن الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم امتدَّت أيضًا رقعة الدولة الإسلامية في زمن الدولة الأموية، ثم في زمن الدولة العباسية، وَجَدَّت حوادثُ ووقائعُ نتيجة اختلاط المسلمين بأمم غيرهم في أُمُورٍ لم تكن معروفةً بين المسلمين، فلا بدَّ أن ينصبَ أئمَّة المسلمين أنفسهم، وأن يُشَمِّرُوا عن ساعد الجد، وأن يبحثوا عن حَلٍّ لتلك الأحداث في كتاب الله عز وجل، وفي سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وجدوا في ذلك فنِعِمَّا هي، دان لم يجدوا فإنهم يجتهدون ويُلْحقون ما ليس في الكتاب ولا في السُّنَّة بما في كتاب الله عز وجل وفي سُنَّة
(1)
أخرجه أبو داود (97)، وصححه الأرناؤوط.
(2)
أخرجه أبو داود (3658)، وصححه الأرناؤوط.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما نعرفه بـ"القياس" الذي يُعْتبر أصلًا من أصول الشريعة الإسلامية، فالقياس -كَمَا هو معلومٌ - في الشريعة:"إلحاقُ أَصْلٍ بفرعٍ في حُكْمِ لعِلَّةٍ تجمع بينهما"
(1)
، وهناك ما يُعْرف بـ"المصالحَ المرسلة".
والمجموعة الفقهيَّة تقوم على أمورٍ ثلاثةٍ:
1 -
أصول الفقه.
2 -
القواعد الفقهية.
3 -
الفروع الفقهية التي سنَدْرسها تفصيلًا إن شاء الله.
طريقة الصحابة والعلماء في استنباط المسائل، والاجتهاد فيها:
كان العلماء -رضوان الله عليهم- يَجْتهدون في المسألة إذا لم يجدوا دليلها في الكتاب، ولا في السُّنَّة، فألحقوها عن طريق القياس، أو عن طريق المصالح المرسلة، أو وَقَفوا في بعض الأمور عن طريق سدِّ الذرائع، أو ما يُعْرف بـ"الاستحسان"، إلى غير ذلك ممَّا بينه علماء أصول الفقه، وبيَّنوا أنها أصول الاستنباط في هذه الشريعة الإسلامية.
مكانة الأئمة الأربعة:
أولئك الأئمة الأعلام لهم مكانةٌ عظيمةٌ، فقَدْ خَدموا الشريعة الإسلامية عمومًا، وخدموا الفقه الإسلامي، وتخرَّج عليهم تلاميذ، وهم داخلون -إن شاء الله- في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا مَاتَ ابن آدم انقطع عملُهُ إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له"
(2)
، فلَا شكَّ أنهم خلَّفوا تلاميذَ علماءَ، وأولئك التلاميذ خلَّفوا بعدهم
(1)
يُنظر: "تحرير المنقول" للمرداوي (ص 271)؛ حيث قال: "حمل فرعٍ على أصلٍ في حكمٍ بجامعٍ".
(2)
أخرجه مسلم (1631).
علماء، وتركوا لنا تلك المؤلفات العظيمة التي لا نَزَال نغرف من نهرها وينبوعها.
لماذا انتشر فقه الأئمة الأربعة؟
لأنه وُجِدَ لهم تلاميذ عُنُوا بذلك الفقه، وَنَشروه في الآفاق بخلاف الآخرين، فإن تلاميذهم لم يُقدِّمُوا لهم ما قدَّمه تلاميذ الأئمة.
هل هذا الفقه الذي بين أيدينا هو ذلك الفقه الذي كان في عصر الأئمة؟ أو بمعنًى آخر: هَذَا الفقه الذي بين أيدينا الآن نرَاه في موسوعاتٍ ضخمةٍ، هل وُضِعَ من أصلِهِ على هذا الشكل؟
لَا شكَّ أن ثوابتَ الفقه ثابتة في كتاب الله عز وجل، وفي سُنَّة رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، وفي تلك الفتاوى الكثيرة التي صدرت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن التابعين الذين تبعوهم بإحسانٍ، وعَمَّن جاء بعدهم من العلماء الأعلام، هذا كلُّه منهج العلماء، لكننا عندما ننظر إلى هَذَا الفقه -وخُصوصًا الذي نَعْني به المسائل الجزئيَّة، أو الفروع الفقهيَّة- نجد أنه بدأ على مراحلَ؛ فلم يكن متوسعًا؛ لأن الناس في ذلك الوقت كانوا علماء، وكانوا في الغالب يستمدون الأحكام من كتاب الله عز وجل.
ولذَلكَ نجد أن التأليفَ في الفقه وغيره بدأ في القرن الثاني الهجري، وهناك مَنْ كَتَبَ في الحديث، وعندما جاءت الدولة العباسية اهتمت بالفقهاء اهتمامًا كثيرًا، ووضعت لهم الحوافز وشَجَّعتهم؛ فانطلق الفقه انطلاقةً كبيرةً.
ولكنَّ الفقه في بدايته كانت مسائلُهُ قليلةً، ومن باب المثال لا التفصيل والحصر نذكر أنهم كانوا يقولون: لا يجوز بيع السمك في الماء؛ لأنه أمز مجهولٌ لا يمكن الوصول إليه، ولا الطير في الهواء، ولا الشارد، يعني: العبد الشارد
…
إلى غير ذلك من الأحكام، فجاء العلماء بعد ذلك، فَوَضعوا مقياسًا وَحدًّا ضابطًا لتلك الأمور، فَقَالوا: يُشْتَرط في المبيع أن يكونَ مالًا متقوَّمًا مقدورًا على تسليمه.
وَمن العُلَماء الأوائل الَّذين كتبوا في ذلك: إمام دار الهجرة، الإمام مالك رحمه الله، والذي كانت تضرب إليه أكباد الإبل من كل مكان، وممن ضرب إليه أكباد الإبل الإمام الشافعي الإمام الثالث رحمهما الله، جاء إلى الإمام مالكٍ رحمه الله، وقرَأ علَيه كتابه المشهور:"الموطأ"، وَأخَذه عنه، ثم تَنقَّل الشَّافعيُّ إلى غير ذلك.
ثمَّ أخذ الفقهُ يتَّسع بعد الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم.
وإذا قلنا: "الأئمة"، فينصرف اللفظ عند بعض أهل العلم إلى الأربعة (أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد).
وهُنَاك من العُلَماء الأعلام مَنْ لا يقلّ أهميةً ومكانةً علميَّةً عن أولئك، فَهُنَاك الإمام الثوري في العراق، والإمام الأوزاعيُّ في الشام، والإمام الليث بن سعد في مصر، وعلاقته بالإمام مالك مشهورة، والرَّسَائلُ المُتَبادلةُ بينهما قد سُجِّلت ودُوِّنَتْ في كُتُبٍ مسطورةٍ.
وهناك من الأئمة -رضوان الله عليهم- من دَوَّن فقهه بقلمه، فنجد الإمام أبا حنيفة وهو الإمام الجليل الذي كان يَتَردد بين الكوفة والبصرة يُنَافح فرقَ المعتزلة، ويُدَافع عن عقيدة السلف -رضوان الله عليهم- قَدْ كَتَب كتابه المعروف "الفقه الأكبر"، ولم يُقْصد بـ"الفقه الأكبر" الفقه في مصطلحنا الآن، لأن الفقهَ كان فيما مَضَى يُطْلق على ما يُرَادف الدِّين، ويُرَادف الشريعة، فلم يَكُنْ مَقْصورًا على التَّعريف الذي نَعْرفه الآن، ألَا وهو العِلْمُ بالأحكام الشَّرعيَّة العمليَّة المستمدَّة من أدلَّتها التفصيليَّة، ذَلكم التَّعريف الَّذي نُقِلَ عن الإمَام الشَّافعيِّ، وَالَّذي اختارَه أَهْلُ الأُصُول والفقه بَعْده.
لَكنَّ الإمامَ أبا حنيفة لم يُنْقل عنه أنه دَوَّن الفقه، وإنما دَوَّن كتابَه المعروف "الفقه الأكبر"، والَّذي يُعْنَى بأمور العقيدة.
ثمَّ جاء الإمامُ مالكٌ، فَدوَّن كتابَه المشهور كتاب الحديث "المُوطَّأ"، وهو يجمع إلى جانب الحديث أيضًا مسائل فقهية، وكذلك "المدونة" المعروفة، التي هي مدونة سحنون رواية ابن القاسم عن مالك، وهذه
"المدوَّنة" لم يكن كل ما فيها هو رأيٌ لمالكٍ، لَكن كَانَ ابن القاسم أحد تلاميذ الإمام مالكٍ وأشهرهم يسأل الإمامَ مالكًا عن بَعْض المسائل، وكان الإمامُ مَالِكٌ يتوقَّف في المَسَائل التقديريَّة التي تُعْرف بـ"الفقه الافتراضي"، وقَدْ يجيب عن بعضها أحيانًا، فنجد أن ابن القاسم يُجيب عن تلك المَسْألة التي سُئِلَ عنها الإمام مالك وتوقف فيها، لا لأنَّ الإمام مالكًا لا يعلم، وإنما قد يتوقف، وليس بعيدًا أن يكون أحد الأئمة الأربعة لا يعلم، فَالإمَامُ مَالكٌ -رحمه الله تعالى- توقَّف عن مسائلَ، وقال:"ما منا إلا رادٌّ ومردود إلا صاحب هذا القبر"
(1)
، وهَكَذا الشأن في بقيَّة الأئمَّة رضوان الله عليهم.
ثمَّ جاء الإمام الشافعي أيضًا رحمه الله بعد ذلك وهو ممن دَوَّن بتوسعٍ الفقهَ، فدوَّن رسالته العظيمة التي في أصول الفقه "الرسالة"، والتي كانت أول نواةٍ ظهرت في علم أصول الفقه، والحنفية يدَّعون أنهم سَبَقوا إلى هذا العلم، ولكننا نقول: إن علم أصول الفقه لم يكن مجهولًا في الحقيقة، بَلْ كان مركوزًا في النُّفُوس، فالصَّحابةُ -رضوان الله عليهم- كانوا يعرفون الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيَّد، والأمر والنهي، لكن أول من اشتهر بتدوين هذا العلم العظيم وأظهره إنما هو الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله.
أما الإمام أحمد، فإنه دوَّن كتابه في الحديث الَّذي هو هذا "المسند" العظيم، الذي يجمع ما بين ثلاثين إلى أربعين ألف حَدِيثٍ، وله أيضًا مسائلُهُ العظيمةُ الكبيرةُ الَّتي نقلها عنه بعض أصحابه وتلاميذه، ويأتي في مقدمتها مسائله التي نقلها عنه ابنه عبد الله، وابنه صالح، ومسائل إسحاق بن منصور.
وليس كما يقول بعضهم بأن الإمام أحمد لم يكن فقيهًا، وإنما كان
(1)
يُنظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 307)؛ حيث قال: "وقال مالكٌ: ما من أحدٍ إلا يُؤْخذ من قوله ويترك إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
مُحَدِّثًا، لا، وإنما قد ظهر في علم الحديث، وبرز فيه واشتهر، لكنه كان فقيهًا مُتَقصِّيًا متمكنًا من علم الفقه، وَسنُبيِّن ذَلكَ -إن شَاءَ الله- عندما ندخل في دراسة المسائل.
جَاءَ بعد ذلك التلاميذ، وعُنُوا بهذه الثروة العظيمة، ثمَّ جاء بعد ذلك تَلَاميذ التلاميذ، فَوَجدوا أمامهم هذه الثروة الهائلة العظيمة، ووقفوا حَيارَى أمامها ماذا يفعلون؟ فَبَدؤوا يبحثون عن علل الأحكام، لماذا قال أبو حنيفة كذا؟ ولماذا قال مالك؟ ولماذا قال الشافعي وأحمد والثوري وغير هؤلاء؟ أخذوا يبحثون عن العلل التي علَّل بها الأئمة، وَحَكموا وَقَاسوا، أَو اصطلحوا على هَذِهِ المسألة.
فَبَحثوا حتَّى وقفوا على تلك العلل، فأخذوا يُخَرِّجون على أقوال أولئك الأئمَّة حتى اتسعت دائرة الفقه الإسلامي، ودُوِّن وسُجِّل في موسوعاتٍ ضخْمَةٍ.
ثمَّ بعد ذلك جاء التلاميذ، وانتقلوا إلى طورٍ آخر من أطوار الفقه الإسلامي، فبدؤوا يُدوِّنون كتبًا تتعلق بالخلاف بين المذاهب، كَمَا الخلاف بين الحنفيَّة والشافعيَّة في بعض كتب الحنفية، وفي بعض كُتُب الشَّافعيَّة، ومن تلك الكُتُب كتاب "الأسرار" للدَّبوسي.
ثمَّ بَعْدَ ذَلكَ انتقلَ العُلَماءُ إلى طورٍ مهمٍّ جدًّا، وهو العناية بالدَّليل، وهَذَا في الحقيقَة هو الذي يُعْطي الفقه الإسلامي رَوْنقه، ويحافظ على أهميَّته ومكَانته، وهو الذي سنُعْنى به -إن شاء الله- في دِرَاسَتنا للفِقْهِ.
لَا شكَّ أنَّ الفقهَ إنَّما تظهر قيمتُهُ، وتَعْلو مكانتُهُ عندما يُدْرَس على ضَوْء كتاب الله عز وجل، وَسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه في الأصل مَأخوذٌ من هَذَين المصدرين والينبوعين اللَّذين لا ينضبان، وهو أيضًا إنْ لَمْ يؤخذ منهما مباشرةً، فإنه يُؤْخذ منهما بواسطةٍ، أو من مَقَاصد هذين المصدرين العظيمين.
أساليب التأليف الفقهي:
ولَمْ يَكن تأليفُ العُلُوم فيما مَضَى على ما نجده الآن، فلم تكن العلومُ مُؤلَّفةً منفصلًا بعضها عن بعض، بل كان الحديث مرتبطًا بالفقه، والفقه مرتبطًا بالحديث، كما رأينا في "موطإ مالكٍ"، ثم أَخذ العلماء يهتمُّون بالحديث، وَرَأوا أن العنايةَ في أمر الجرح والتعديل والحديث، وفي العناية برواية الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبَيَان صحيحها من سَقِيمِها وضَعِيفِها، والوقوف عند تلك الأحاديث، وكتابتها، وتدوينها، والتنبيه عليها.
ولَا تَزَال العنايةُ -بفَضْل الله- بهذا العلم إلى هذَا اليوم حتَّى صَدَرت المُدوَّنات الكبيرة؛ ككتاب "المغني" لابن قدامة الحنبلي، وهو حَقيقَةً ليس في فقه الحنابلة فَقَط، وإنما يَحْوي فقه الأئمة الأربعة عمومًا، وفي "المجموع" للنووي، وهو أيضًا وإنْ ركز على فقه الشافعية، وفَصَّل القول في فُرُوعه، وفي أقواله، وروايته وتخريجاته، فإنه أيضًا يعرض لأقوال العلماء، ويُبين الأدلة، ويبين الصحيح منها، وخصوصًا القسم الذي ألَّفه الإمام النووي رحمه الله، والذي أيضًا تلَاه وأتمَّه السبكي ثم المطيعي، وغيرهما؛ كـ"المحلَّى" لابن حزم، إلا أنَّ هذا الكتاب مَع ما فيه من مسائلَ عظيمةٍ، وعنايةٍ بالآيات وبالأحاديث، وفيه أيضًا آراء قوية إلا أنه ينبغي ألا يطلع على هذا الكتاب إلا طالب علمٍ متمكن؛ لأن صاحبه له شطحات، ولَه كَلامٌ في بعض الأئمة، وَفِي بَعْضَ العلماء، وَلَه أيضًا شُذُوذٌ في بعض المَسَائل المعروفة لا نريد أن نَعْرضَ لهَا، وقَدْ نعرض لبَعْضها عندما تُقَابلنا، لكن طالب العلم -وخصوصًا الذي لا يزال في أول الطريق- لا ينبغي أن يُقْدمَ على التعمُّق في الاطلاع على مثل هذه الكتب، فربما تُولِّد عنده بعض البلبلة، أو ربما التَّخوف، أو تُولِّد عنده بعض الأمور التي يخرج فيها عن بعض المسائل التي ينبغي أن يكون وَقَّافًا فيها، وخصوصًا ما يتعلق بكلامِهِ عن الأئمة، وبعض المسائل التي شذَّ بها، لكنه مع ذلك عالمٌ جليلٌ، خدَم الفقهَ الإسلاميَّ عمومًا، بَلْ أحيانًا قَدْ لا نجد بعضَ الأحَاديث والمرويَّات إلا في ذَلكَ الكتاب.
وما أُرِيدُ الوصول إليه ألَّا يتسرع طلاب العلم -الذين هم في أول الطريق- في إصدار بعض الأحكام التي لا ينبغي أن تصدر إلا من طلاب العلم الذين ذَكَرهم الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بالفقه بالدين، فقال:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وقد بَيَّنهم الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه؛ من حديث مُعَاويةَ: "مَنْ يُرِدِ الله به خيرًا، يُفقِّهه في الدِّين"
(1)
.
وَكَمْ قرَأنا ووَقَفنا على عَدَدٍ ممَّن كَانَ فِي عَهْد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فيَأْتيه وفد عبد القيس، وَيأْتيه غَيْرُهُ من الَّذين يأتون إلى هذا المسجد، فَيَحْملون عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم علمًا.
وَيَقُولُ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحَدِّثوا عَنْ بني إسرائيل ولا حَرَج"
(2)
، لكنَّه قيَّد ذلك في الأخير بقوله:"ومَنْ كَذَب عَليَّ متعمدًا، فَلْيتبوَّأ مقعدَه من النَّار"
(3)
، ولا شكَّ أن الذي يَكْذب حديثًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَدْخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَذَب عليَّ
…
".
ومَنْ يَفْترِ على كتاب الله عز وجل، وعلى سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يدَّعي من العلم ما ليس عنده، أو يُصْدر من الأحكام ما يُنْسَب إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون على عِلْمٍ -وأخطر من ذلك أن يكون عن جهلٍ، أو أن يكون عن هوًى- فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيِّه داود عليه السلام:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، يُخَاطِبُ اللهُ تَعالَى نبيَّه داود عليه السلام، محذِّرًا إياه من اتِّباع الهوى، والقصد من ذلك: أن نستفيدَ نحن المسلمين من مثل هذا الموقف.
(1)
أخرجه البخاري (71).
(2)
أخرجه البخاري (3461).
(3)
أخرجه البخاري (110).
ويقول سبحانه وتعالى في حقِّ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
ويقول عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
وقال أيضًا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
فإذَا قيلَ لَكَ: هَذَا قَوْلُ الله سبحانه وتعالى، وقَوْل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَعَليك أن تُسلِّم إلى هذا الأمر، ولا تُقَدِّم قَوْلَ أَحَدٍ على قول الله سبحانه وتعالى، ولا علَى قول رسوله صلى الله عليه وسلم، مَهْمَا كَانَ هذَا الإنسان الذي تَقْتدي به، لا ينبغي أن تقدِّمه على قول الله تعالى، ولَا علَى قَوْل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى وَإنْ كان من الصَّحابة رضوان الله عليهم.
وإذا كنَّا لا نُقَدِّمُ قولَ الصَّحابة الذين زكَّاهم الله تعالى، وأثنى عليهم، وأيضًا زكَّاهم رسولُهُ صلى الله عليه وسلم، فما بالك بأقوال غيرهم، فلا يَنْبغي لطالب العلم أن يحملَه اتِّباع الهوى، أو التعصب لبعض العلماء أن يقولَ: فلان أَعْلَمُ منِّي فآخُذُ بقوله، وإلَّا لأَخَذنا بالاطِّراد فنقول: وفلانٌ أعلم من فلان
…
نحن دائمًا لدينا مقياس، طالب العلم - بل المُسْلم عمومًا - ينبغي أن يضع أمامَه مقياسًا لا ينبغي أن يشذَّ عنه، فكل أمرٍ ينبغي أن يَعْرضَه على كتاب الله عز وجل، وسُنَّة رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فإن وَجَده فيهما فنِعِمَّا هي، وإنْ لم يجد، رَجَع إلى أقوال العلماء الَّذين وَهَبهم الله بسطةً في العِلْمِ، ورَزَقهم فيه، وهُمُ الَّذينَ قَالَ الله سبحانه وتعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
وقال سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1].
إذًا، تَقْوى الله مَطْلوبةٌ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، فَالعُلَماءُ
هُمُ الَّذين يخشون الله حقَّ خشيتِهِ، وهم الذين - كما قلنا - شَمَّروا عن ساعد الجدِّ، وأفْنَوا أعمَارَهم، وعَكَفوا عند الدروس، واستفادوا من العلماء، ونهلوا من هذا العلم، حتى شذى كل واحدٍ منهم، هؤلاء هم الذين يُقْتدَى بهم.
وأيضًا نقصد بأولئك العلماء الَّذين التزَموا أيضًا منهجَ كتاب عز وجل، ومنهجَ رسوله صلى الله عليه وسلم، فكَمْ مَنْ يدَّعي العلمَ وهُوَ وَبالٌ على العلم، فهناك مَنْ يدَّعون العلمَ وهم يُحَاربون العِلْمَ، فيما يَتَعلَّق بالخُرَافات، ونَشْر البدَع، وصَرْف النَّاس عن دين الله، هؤلاء لا يَنْبغي أن يُقْتدى بهم، فهم الذين حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم منهم.
وإذا كان عليه الصلاة والسلام يقول في وَصْف الخوارج: "تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كمَا يَمْرُق السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"
(1)
، فأُولَئك الخوارجُ كانوا يُقَاتلونَ، وَيَظنُّون أنَّهمْ على حقٍّ، لَكنَّهم في الحقيقة {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
يَنْبغي لطَالِبِ العِلْمِ دائمًا أن يَسْترشدَ بما في الكتاب والسُّنَّة، وأن يأخُذَ أيضًا بأقوال العُلَماء الأعلام الذين يَدْعون إلى منهج السلف الصالح، الذي أرشد إليه الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بقوله:"افْترقَت النَّصارى على إحْدَى وسَبْعين فرقةً، وافترقت اليهود على اثنتين وسبعين فرقةً، وستَفْترق هذه الأُمَّة على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً، كلّها في النار إلا واحدة". قيلَ: مَنْ هي يا رسول الله؟ قال: "مَنْ كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (5058).
(2)
أخرجه ابن ماجه رقم (3992)، وقال الأرناؤوط: صحيحٌ لغيره.
فَمَنْ هم الذين على ما كَانَ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هُمُ الذين نَهَجوا منهج الكتاب العزيز، وسُنَّة رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فاقتدوا بذلك، وَطَبَّقوه تطبيقًا عمليًّا.
طريقة دراسة الفقه:
وأنا أرى ألَّا يُدرس الفقه بـ "قال فلان وقال فلان"، وأختلفوا، نعم؛ نُركِّز على هذا الجانب، وهو مهمٌّ، لكن لا مانع أن نتعلم الحكمةَ من تشريع هذا الحكم، ونُبَيِّن بعض المسائل، ونُعلِّق عليها، فنحن بحاجةٍ إلى ذلك، وسنحاول أن نسدد ونقارب في هذا الأمر.
وسَوْفَ تكون دراستُنَا - إنْ شاء الله - قائمةً على الدليل والتعيين، وليست على مجرَّد ذِكْرٍ للخلَافات دون أن نَبْني ذلك على أُسُسٍ وأُصُولٍ يُعْتمد عليها.
الغاية من دراسة الفِقْهِ الإسلاميِّ:
إنَّنا عندما ندرس الفقه الإسلامي نريد أن نطبِّقه قولًا وفعلًا، فَهَذا هو الغرض حقيقةً من دراسة الفقه الإسلامي، لا نريد فقط أن نتعلمه ونُطبِّقه على أنفسنا، وَلَكن نريد أن نطبقه قولًا وعملًا، تشريعًا وَتَحْكِيمًا، وإننا عندما ننظر إلى أحوال المسلمين اليوم في كثيرٍ من البلاد، تلكم البلاد التي انصرفت عن الشريعة الإسلامية، واتَّجَهتْ إلى القوانين الوضعية التي ما أنزلَ اللهُ بها من سُلْطانٍ، فَلْنَنْظر إلى ما هيَ فيه من القَلَق والاضطراب وعَدَم الاستقرار، ولنَنْظر إلى هَذِهِ البلاد الَّتي نحن الآن نقيم فيها، فإنَّ فيها - بفضل الله - من الأمن والاستقرار ورَغَد العيش ما يغني الحال عن ذكره، كل ذلك بسببٍ واحدٍ، هو تطبيق شريعة الله سبحانه وتعالى التي لا يأتيها الباطل من بين يديها، ولا من خلفها؛ لأنها مُنَزَّلة من حَكِيمِ حَمِيدٍ، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].
ولَوْ أنَّنا رجعنا إلى الوراء قليلًا، لَوَجدنا أن هذه البلاد كان يوجد فيها من الخَوْفِ، وعَدَم الاستقرار، وَعدَم الأمن؛ كان الحاج يَخْشى على
نفسه، وهُوَ يَنْتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، ثمَّ تَحوَّل ذَلكَ الخَوْفُ إلى أمنٍ واستقرارٍ وخيرٍ وأُلفةٍ ومحبةٍ.
ثمَّ نتذكر أيضًا - ولا نذكر ذلك حقيقةً للدعاية في هذه المناسبة، وليس ذلك بتوجيهٍ من أحدٍ، ولكنَّنا نقولها كلمة حقٍّ في هذه المناسبة ونحن نريد أن ندخل في علمٍ جليل - فلنتذكَّر جميعًا سيرة ذلكم الإمام العظيم الملك عبد العزيز الَّذيَ أسس هذه الدولة في دورها الثالث، نتذكر كيف خرج بعددٍ قليلٍ من الرجال، كان له هدفٌ واحدٌ يسعى إليه، ويريد تحقيقه، ألا وهو نُصْرة دين الله، وإقامة العدل في هذه البلاد، يخرج بعددٍ قليلٍ من الرجال، ويجد أمامه خصمًا عنيدًا، وتمضي الأيام وتنتهي إلى أن ينصره الله سبحانه وتعالى، ويُصبح الأمر في يديه.
ثم نقف وقفةً بسيطةً لنرى هَلْ طبَّق ما كان يقول، نعم، لقد طبَّق ذلك فعلًا، فإنه كان يسعى إلى نصرة دين الله، وإلى العناية بعلم الشريعة الإسلامية، كان يَهُبُّ لنُصْرة كل مسلمٍ في كل مكانٍ، كانت هذه البلاد مَأوًى يؤوي إليها أيُّ مسلمٍ يُضْطهد في كل مكانٍ، وكان إذا سمع صرخةَ مسلمٍ، كان مَنْ أول من يَهُبّ.
وهكَذا صارت هذه البلاد على هذا المنهج الرشيد، وهذا المسلك الحميد منذ أن قامت هذه الدولة في طورها الأول عندما تعاهد الإمام محمد بن سعود مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب على العناية بهذه العقيدة السَّلفيَّة الطَّاهرة، فوقف السيف إلى جانب الكتاب، ونصر اللهُ الحقَّ، ولا نزال ننهل من آثار هذه الدعوة السَّلفيَّة التي قَادَها الشيخ مُحمَّد بن عبد الوهاب، والَّتي انتهت إلى هذه الدولة الكريمة.
فَنَسْأل اللَّهَ سبحانه وتعالى أن يُدِيمَ الأمنَ والاستقرارَ في هذه البلاد، وفي سائر بلاد المسلمين عمومًا.
وَإنَّما أَقُولُ هَذَا؛ لأُريَك درسًا حيًّا عمليًّا عن تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة، ولو أنَّ المسلمين رجعوا إليها، وطبَّقوها في كل أحوالهم،
لوجدوا السعادة كلَّ السعادة، وهي التي بها انتصرت القرون الأُولى وفازت.
سببُ اختيار كتاب: "بداية المجتهد":
قُمْنا باختيار هذا الكتاب، لأنه إنما يُعْنى بالمسائل الكبرى، ونعني بالمسائل الكبرى: أمهات المسائل، وهي المسائل التي تقرب من القواعد الفقهية.
والقواعد الفقهية هي واسطةٌ بين "أصول الفقه"، وبين "الفروع الفقهية".
فالأصول: هي الموازين التي يحتاج إليها المجتهد حتى لا يَتِيهَ ولا يضلَّ.
والقواعد الفقهية: هي حكمٌ كليّ ينطبق على جزئياته أو معظمها لتُعْرف أحكامها منه، فأنتَ عندما تَعْرف الأَحْكَام الكبرى، تجد أنَّ ذلك مدخلًا سَيَقُودُك إلى أن تَعْرف تلك الجزئيات، لأنَّك إذا أَلْمَمْتَ بتلك الأُصُول، وتلك الأحكام الكبرى، فإنَّ ذلك سيقرب عليك المسائل الصغرى، وسَتَرى نماذج من ذلك - إن شاء الله - عند التطبيق، وخاصةً عندما ندرس المسألة المتعلقة بالنِّيَّة، لنرى أن المؤلفَ أشار إلى جزءٍ واحدٍ منها فقط، ألَا وهُوَ أصل هذه المسألة، لكن ما يتفرَّع عنها من مسائل هو لم يتعرض له، وهكذا
…
منهج كتاب: "بداية المجتهد":
لهذا الكتاب مناهج عِدَّة أُنبِّه عليها حتى نكون على طريقٍ واضح:
المؤلف في غالب كتابه يتفق مع غيره من المؤلفين، ولكنه اختار لنفسه منهجًا انفرد به.
الاصطلاح الأول: يقول: أقصد بالحديث الثابت ما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، أو ما رَوَاه أحدهما.
والمعروف أن الحديث الثابت هو ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون في "الصحيحين"، أو في غيرهما؛ كأحد السنن، أو المسانيد أو كتب الصِّحاح الأُخرى، أو في غير ذلك من كتب السُّنَّة الكثيرة المنتشرة المعروفة.
وهَكَذا اصطلح عليه، ولا مشاحَّة في الاصطلاح، ولكن لا يَلْزم من هذا أن غير هذه الأحَاديث غير صَحيحَةٍ.
الاصطلاح الثاني: يقول: إذا قلت: "الجمهور"، فأقصد بذلك الأئمة الثلاثة أو في مقدمتهم الأئمة الثلاثة.
يَرِدُ هنا سؤال، لماذا لا يذكر المؤلف الإمام أحمد؟ هل هناك سببٌ من الأسباب؟
للعلماء آراء، والعلةُ واضحةٌ نبَّه عليها المؤلف، ولا ينبغي أن تتلمس علةً من العلل أو سببًا من الأسباب في غير كلام المؤلف أو فعله، فإنه يقول: وقد عَوَّلْتُ على نقل المذاهب على آراء العلماء من كتاب "الاستذكار" لابن عبد البَر، وكتاب "الاستذكار" من المدونات الضخمة، وقد أصبح مطبوعًا منذ سنة تقريبًا، فالمُؤلِّف هنا يُعَوِّلُ في نَقْل المَذَاهب على هذا الكتاب.
وكتاب "الاستذكار" كثيرًا ما يَتْرك ذِكْرَ الإمام أحمد، فهل ابن عبد البر ممَّن يعدُّون الإمام أحمد من المحدِّثين وليس من الفقهاء؟
هكذا يصطلح البعض، وأنا أُخَالفهم في هذه المسألة، لا أقول: إن أولئك لا يعتبرون الإمامَ أحمدَ من الفقهاء؛ لأنهم لو اعتبروا ذلك لكان زورًا من القول، لكنهم يعتبرون أن الإمام أحمد اشتهر بعلم الحديث، فَكَان من أكابر علمائه، وكان من أوائل مَنْ يُرْجع إليهم فيه؛ ولذلك قالوا: هو مُقدَّمٌ في علم الحديث، فَجَعلوا الفقه مرحلةً ثانيةً.
وهذا نُقِلَ عن ابن جريرٍ الطبري رحمه الله؛ فهو في كتابه "اختلاف الفقهاء" المعروف، وهو كتابٌ مطبوع، لم يذكر الإمام أحمد رحمه الله.
وابن عبد البر رحمه الله في كتابه: "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء مالك والشافعي وأبي حنيفة"، فسماهم: مالكًا والشافعي وأبا حنيفة؛ ولم يذكر الإمام أحمد رحمه الله.
والمؤلف لم يصرح بأنه يرى هذا الرأي، ولكنه يقول: عَوَّلْتُ في نقلي المذاهب على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البَر، ومَنْ أراد أن يعرف حقيقة الأمر، وأن المؤلف لا يقصد أن الإمام أحمد رحمه الله ليس من الفقهاء، فَلْيَنظر إلى هذَا الكتاب؛ فإنَّ المؤلِّف يَذْكره في مواضعَ كثيرةٍ، إذا وجد رأي الإمام أحمد رحمه الله، دَوَّنه في كتابِهِ.
إذًا؛ هو لا يرَى هذا الرأي، فلماذا نُلْزمه رأيًا يعمل على خلافِهِ؟
وهَذِهِ أيضًا مسألةٌ مهمةٌ جدًّا من مسائل هذا الكتاب.
وَأَهَمُّ ما أريد أن أُنبِّه علَيه:
أنَّ هذا الكتابَ لا يفهم طُلَّاب العلم أنهم إذا دَرَسوه كانوا من حُفَّاظ الفقه؛ فإنَّ من أوسع كتب الفقه ومن أهمها كتاب: "المغني" لابن قدامة، ومع ذلك فإنَّ كتاب ابن قدامة لم يَسْتقصِ كل مسائل الفقه، وإنْ كان قد حوى أكثرها، لكنه ما شملها جميعًا.
وكذلك كتاب: "المجموع" للنووي بِتَتِمَّاته، لم يحوِ كُلَّ الفقه.
وعليه، لا تَسْتطيع أن تقول بأنَّ كتابًا واحدًا قد حوَى كل مسائل الفقه.
نعم، أقول لك: لو قرأت كتاب: "المغني" لابن قدامة، لألممتَ بالفقه؛ فهذا كلامٌ صحيحٌ؛ لأنك أخذتَ أهمَّ أصولِهِ، وأهمَّ فروعِهِ، ولم يفتك إلا القليل، وكَذَلك "المجموع".
وَلَكن ليسَ مَعْنى هذا التقليل من شأن كتاب ابن رشد الذي معنا؛ فهو يمتاز بميزةٍ يَنْدُرُ وُجُودها في بعض الكتب، بل إنَّه اصطلح بعض
العلماء على تسميته بكتاب: "القواعد الفقهية"؛ لأنه يُعْنَى بأُمَّهات المسائل.
والآن نبدأ في هذا الكتاب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا.
* * *
[مُقَدِّمَةُ المُؤَلِّفِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
" مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهه فِي الدِّينِ"
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّ غَرَضِي فِي هَذَا الكِتَابِ أَنْ أُثْبِتَ فِيهِ لِنَفْسِي عَلَى جِهَةِ التَّذْكِرَةِ مِنْ مَسَائِلِ الأَحْكَامِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَالمُخْتَلَفِ فِيهَا بِأَدِلَّتِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى نُكَتِ الخِلَافِ فِيهَا، مَا يَجْرِي مَجْرَى الأُصُولِ وَالقَوَاعِدِ لِمَا عَسَى أَنْ يَرِدَ عَلَى المُجْتَهِدِ مِنَ المَسَائِلِ المَسْكُوتِ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ، وَهَذِهِ المَسَائِلُ فِي الأَكْثَرِ هِيَ المَسَائِلُ المَنْطُوق بِهَا فِي الشَّرْعِ، أَوْ تَتَعَلَّقُ بِالمَنْطُوقِ بِهِ تَعَلُّقًا قَرِيبًا، وَهِيَ المَسَائِلُ الَّتِي وَقَعَ الاتِّفَاقُ عَلَيْهَا، أَوِ اشْتَهَرَ الخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ الفُقَهَاءِ الإِسْلَامِيِّينَ مِنْ لَدُن الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إِلَى أَنْ فَشَا التَّقْلِيدُ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ فَلْنَذْكُرْ كَمْ أَصْنَافُ الطُّرُقِ الَّتِي تُتَلَقَّى مِنْهَا الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَكَمْ أَصْنَافُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَمْ أَصْنَافُ الأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ الاخْتِلَافَ بِأَوْجَزِ مَا يُمْكِنُنَا فِي ذَلِكَ، فَنَقُولُ:
إِنَّ الطُّرُقَ الَّتِي مِنْهَا تُلُقِّيَتِ الأَحْكَامُ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِالجِنْسِ ثَلَاثَةٌ: إِمَّا لَفْظٌ، وإمَّا فِعْلٌ، وإمَّا إِقْرَارٌ. وَأَمَّا مَا سَكَتَ
عَنْهُ الشَّارعُ مِنَ الأَحْكَامِ فَقَالَ الجُمْهُورُ: إِنَّ طَرِيقَ الوُقُوفِ عَلَيْهِ هُوَ القِيَاسُ.
وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: القِيَاسُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارعُ فَلَا حُكْمَ لَهُ وَدَلِيلُ العَقْلِ يَشْهَدُ بِثُبُوتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الوَقَائِعَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الأَنَاسِيِّ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالنُّصُوصَ، وَالأَفْعَالَ وَالإِقْرَارَاتِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يُقَابَلَ مَا لَا يَتَنَاهَى بِمَا يَتَنَاهَى.
وَأَصْنَافُ الأَلْفَاظِ الَّتِي تُتَلَقَّى مِنْهَا الأَحْكَامُ مِنَ السَّمْعِ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَرَابعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَمَّا الثَّلَاثَةُ المُتَّفَقُ عَلَيْهَا: فَلَفْظٌ عَامّ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ، أَوْ خَاصّ يُحْمَلُ عَلَى خُصُوصِهِ، أَوْ لَفْظٌ عَامّ يُرَادُ بِهِ الخُصوصُ، أَوْ لَفْظ خَاصّ يُرَادُ بِهِ العُمُومُ، وَفِي هَذَا يَدْخُلُ التَّنْبِيهُ بِالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى، وَبِالأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى، وَبِالمُسَاوِي عَلَى المُسَاوِي؛ فَمِثَالُ الأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].
فَإِنَّ المُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الخِنْزِيرِ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الخَنَازِيرِ مَا لَمْ يَكُنْ يُقَالُ عَلَيْهِ الاسْمُ بِالاشْتِرَاكِ، مِثْلَ خِنْزِيرِ المَاءِ.
وَمِثَالُ العَامِّ يُرَادُ بِهِ الخَاصُّ: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]؛ فَإِنَّ المُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَيْسَتِ الزَّكَاةُ وَاجِبَةً فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ المَالِ.
وَمِثَالُ الخَاصِّ يُرَادُ بِهِ العَامُّ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالأَدْنَى إِلَى الأَعْلَى، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا تَحْرِيمُ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ إِمَّا أَنْ يَأتِيَ المُسْتَدْعَى بِهَا فِعْلُهُ بِصِيغَةِ الأَمْرِ، وإمَّا أَنْ يَأتِيَ بِصِيغَةِ الخَبَرِ يُرَادُ بِهِ الأَمْرُ، وَكَذَلِكَ المُسْتَدْعَى تَرْكُهُ، إِمَّا أَنْ يَأتِيَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَإِمَّا أَنْ يَأتِيَ بِصِيغَةِ الخَبَرِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَإذَا أَتَتْ هَذِهِ الأَلْفَاظُ بِهَذِهِ الصِّيَغِ، فَهَلْ يُحْمَلُ اسْتِدْعَاءُ الفِعْلِ
بِهَا عَلَى الوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ - عَلَى مَا سَيُقَالُ فِي حَدِّ الوَاجِبِ وَالمَنْدُوبِ إِلَيْهِ - أَوْ يُتَوَقَّفُ حَتَّى يَدُلًّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا؟ فِيهِ بَيْنَ العُلَمَاءِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الفِقْهِ، وَكَذَلِكَ الحَالُ فِي صِيَغِ النَّهْي، هَلْ تَدُلُّ عَلَى الكَرَاهِيَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ، أَوْ لَا تَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؟ فِيهِ الَخِلَافُ المَذْكُورُ أَيْضًا.
وَالأَعْيَانُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الحُكْمُ إِمَّا أَنْ يُدَلَّ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَقَطْ وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ فِي صِنَاعَةِ أُصُولِ الفِقْهِ بِالنَّصِّ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ العَمَلِ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُدَلَّ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا قِسْمَانِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى تِلْكَ المَعَانِي بِالسَّوَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الفِقْهِ بِالمُجْمَلِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُكْمًا، وإمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ المَعَانِي أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا يُسَمَّى بِالإِضَافَةِ إِلَى المَعَانِي الَّتِي دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ ظَاهِرًا، وَيُسَمَّى بِالإِضَافَةِ إِلَى المَعَانِي الَّتِي دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا أَقَلُّ مُحْتَمِلًا. وَإذَا وَرَدَ مُطْلَقًا حُمِلَ عَلَى تِلْكَ المَعَانِي الَّتِي هُوَ أَظْهَرُ فِيهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى المُحْتَمِلِ، فَيَعْرِضُ الخِلَافُ لِلْفُقَهَاءِ فِي أَقَاوِيلِ الشَّارعِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: مِنْ قِبَلِ الاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ العَيْنِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الحُكْمُ، وَمِنْ قِبَلِ الاشْتِرَاكِ فِي الأَلِفِ وَاللَّامِ المَقْرُونَةِ بِجِنْسِ تِلْكَ العَيْنِ، هَلْ أرِيدَ بِهَا الكُلُّ أَوِ البَعْضُ؟ وَمِنْ قِبَلِ الاشْتِرَاكِ الَّذِي فِي أَلْفَاظِ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الرَّابعُ فَهُوَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ إِيجَابِ الحُكْمِ لِشَيءٍ مَا نَفْيُ ذَلِكَ الحُكْمِ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ الشَّيْءَ، أَوْ مَا نَفْيُ الحُكْمِ عَنْ شَيءٍ مَا إِيجَابُهُ لِمَا عَدَا ذَلِكَ الشَّيءَ الَّذِي نُفِيَ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِدَلِيلِ الخِطَابِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، مِثْلَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ"؛ فَإِنَّ قَوْمًا فَهِمُوا مِنْهُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ، وَأَمَّا القِيَاسُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ إِلْحَاقُ الحُكْمِ الوَاجِبِ لِشَيءٍ مَا بِالشَّرْعِ بِالشَّيءِ
المَسْكُوتِ عَنْهُ لِشَبَهِهِ بِالشَّيءِ الَّذِي أَوْجَبَ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ الحُكْمَ، أَوْ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا، وَلِذَلِكَ كَانَ القِيَاسُ الشَّرْعِيُّ صِنْفَيْنِ: قِيَاسَ شَبَهٍ، وَقِيَاسَ عِلَّةٍ، وَالفَرْقُ بَيْنَ القِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَاللَّفْظِ الخَاصِّ يُرَادُ بِهِ العَامُّ: أَنَّ القِيَاسَ يَكُونُ عَلَى الخَاصِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ، فَيُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، أَعْنِي: أَنَّ المَسْكُوتَ عَنْهُ يُلْحَقُ بِالمَنْطُوقِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّبَهِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، لَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ إِلْحَاقَ المَسْكُوتِ عَنْهُ بِالمَنْطُوقِ بِهِ مِنْ جِهَةِ تَنْبِيهِ اللَّفْظِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ يَتَقَارَبَانِ جِدًّا؛ لِأَنَّهُمَا إِلْحَاق مَسْكُوت عَنْهُ بِمَنْطُوقٍ بِهِ، وَهُمَا يَلْتَبِسَانِ عَلَى الفُقَهَاءِ كَثِيرًا جِدًّا.
فَمِثَال القِيَاسِ: إِلْحَاقُ شَارِبِ الخَمْرِ بِالقَاذِفِ فِي الحَدِّ، وَالصَّدَاقِ بِالنِّصابِ فِي القَطْعِ، وَأَمَّا إِلْحَاقُ الرِّبَوِيَّاتِ بِالمُقْتَاتِ أَوْ بِالمَكِيلِ أَوْ بِالمَطْعُومِ، فَمِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، فَتَأَمَّلْ هَذَا، فَإِنَّ فِيهِ غُمُوضًا.
وَالجِنْسُ الأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي لِلظَّاهِرِيَّةِ أَنْ تُنَازعَ فِيهِ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُنَازعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّمْعِ، وَالَّذِي يَرُدُّ ذَلِكَ يَرُدُّ نَوْعًا مِنْ خِطَابِ العَرَبِ.
وَأَمَّا الفِعْلُ: فَإِنَّهُ عِنْدَ الأَكْثَرِ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي تُتَلَقَّى مِنْهَا الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَقَالَ قَوْمٌ: الأَفْعَالُ لَيْسَتْ تُفِيدُ حُكْمًا؛ إِذْ لَيْسَ لَهَا صِيَغٌ، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا تُتَلَقَّى مِنْهَا الأَحْكَامُ اخْتَلَفُوا فِي نَوْعِ الحُكْمِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: تَدُلُّ عَلَى الوُجُوبِ، وَقَالَ قَوْمٌ: تَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ، وَالمُخْتَارُ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ أَنَّهَا إِنْ أَتَتْ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ وَاجِبٍ دَلَّتْ عَلَى الوُجُوبِ، وَإِنْ أَتَتْ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ دَلَّتْ عَلَى النَّدْبِ؛ وَإنْ لَمْ تَأتِ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الًقُرْبَةِ دَلَّتْ عَلَى النَّدْبِ، وَإِنْ كَانتْ مِنْ جِنْسِ المُبَاحَاتِ دَلَّتْ عَلَى الإِبَاحَةِ.
وَأَمَّا الإِقْرَارُ: فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الجَوَازِ.
فَهَذِهِ أَصْنَافُ الطُّرُقِ الَّتِي تُتَلَقَّى مِنْهَا الأَحْكَامُ أَوْ تُسْتَنْبَطُ.
وَأَمَّا الإِجْمَاعُ فَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الأَرْبَعَةِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا، نَقَلَ الحُكْمَ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ إِلَى القَطْعِ. وَلَيْسَ الإِجْمَاعُ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ شَرْعٍ زَائِدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ لَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَأَمَّا المَعَانِي المُتَدَاوَلَةُ المُتَأَدِّيَةُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ اللَّفْظِيَّةِ لِلْمُكَلَّفِينَ، فَهِيَ بِالجُمْلَةِ: إِمَّا أَمْر بِشَيْءٍ، وإمَّا نَهْي عَنْهُ، وإمَّا تَخْيِيرٌ فِيهِ. وَالأَمْرُ إِنْ فُهِمَ مِنْهُ الجَزْمُ وَتَعَلَّقَ العِقَابُ بِتَرْكِهِ سُمِّيَ وَاجِبًا، وإنْ فُهِمَ مِنْهُ الثَّوَابُ عَلَى الفِعْلِ وَانْتَفَى العِقَابُ مَعَ التَّرْكِ سُمِّيَ نَدْبًا، وَالنَّهْيُ أَيْضًا إِنْ فُهِمَ مِنْهُ الجَزْمُ وَتَعَلَّقَ العِقَابُ بِالفِعْلِ سُمِّيَ مُحَرَّمًا وَمَحْظُورًا، وإنْ فُهِمَ مِنْهُ الحَثُّ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ عِقَابٍ بِفِعْلِهِ سُمِّيَ مَكْرُوهًا، فَتَكُونُ أَصْنَافُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ المُتَلَقَّاةُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ خَمْسَةً: وَاجِبٌ، وَمَنْدُوبٌ، وَمَحْظُورٌ، وَمَكْرُوهٌ وَمُخَيَّرٌ فِيهِ وَهُوَ المُبَاحُ.
وَأَمَّا أَسْبَابُ الاخْتِلَافِ بِالجِنْسِ فَسِتَّةٌ:
أَحَدُهَا: تَرَدُّدُ الأَلْفَاظِ بَيْنَ هَذِهِ الطُّرُقِ الأَرْبَعِ، أَعْنِي: بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الخَاصُّ، أَوْ خَاصًّا يُرَادُ بِهِ العَامُّ، أَوْ عَامًّا يُرَادُ بِهِ العَامُّ، أَوْ خَاصًّا يُرَادُ بِهِ الخَاصُّ، أَوْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ خِطَابٍ، أَوْ لَا يَكُونَ لَهُ.
وَالثَّانِي: الاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي الأَلْفَاظِ، وَذَلِكَ إِمَّا فِي اللَّفْظِ المُفْرَدِ كَلَفْظِ القُرْءِ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَى الأَطْهَارِ وَعَلَى الحَيْضِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الأَمْرِ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، وَلَفْظُ النَّهْيِ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ عَلَى الكَرَاهِيَةِ؟
وَأَمَّا فِي اللَّفْظِ المُرَكَّبِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160]؛ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الفَاسِقِ فَقَطْ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الفَاسِقِ وَالشَّاهِدِ، فَتَكُونَ التَّوْبَةُ رَافِعَةً لِلْفِسْقِ وَمُجِيزَةً شَهَادَةَ القَاذِفِ.
وَالثَّالِثُ: اخْتِلَافُ الإِعْرَابِ.
وَالرَّابِعُ: تَرَدُّدُ اللَّفْظِ بَيْنَ حَمْلِهِ عَلَى الحَقِيقَةِ أَوْ حَمْلِهِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ المَجَازِ، الَّتِي هِيَ: إِمَّا الحَذْفُ، وَإِمَّا الزِّيَادَةُ، وَإمَّا التَّقْدِيمُ، وَإِمَّا التَّأخِيرُ، وَإِمَّا تَرَدُّدُهُ عَلَى الحَقِيقَةِ أَوْ الاسْتِعَارَةِ.
وَالخَامِسُ: إِطْلَاقُ اللَّفْظِ تَارَةً، وَتَقْيِيدُهُ تَارَةً أُخْرَى، مِثْلَ: إِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي العِتْقِ تَارَةً، وَتَقْيِيدِهَا بِالإِيمَانِ تَارَةً.
وَالسَّادِسُ: التَّعَارُضُ فِي الشَّيْئَيْنِ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَلَقَّى مِنْهَا الشَّرْعُ الأَحْكَامَ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ التَّعَارُضُ الَّذِي يَأتِي فِي الأَفْعَالِ أَوْ فِي الإِقْرَارَاتِ، أَوْ تَعَارُضُ القِيَاسَاتِ أَنْفُسِهَا، أَوِ التَّعَارُضُ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ: أَعْنِي مُعَارَضَةَ القَوْلِ لِلْفِعْلِ أَوْ لِلْإِقْرَارِ أَوْ لِلْقِيَاسِ، وَمُعَارَضَةَ الفِعْلِ لِلْإِقْرَارِ أَوْ لِلْقِيَاسِ، وَمُعَارَضَةَ الإِقْرَارِ لِلْقِيَاسِ.
قَالَ القَاضِي رضي الله عنه: وَإذْ قَدْ ذَكَرْنَا بِالجُمْلَةِ هَذِهِ الأَشْيَاءَ، فَلْنَشْرَعْ فِيمَا قَصَدْنَا لَهُ، مُسْتَعِينِينَ بِاللَّهِ، وَلْنَبْدَأْ مِنْ ذَلِكَ بِكِتَابِ الطَّهَارَةِ عَلَى عَادَاتِهِمْ.
* * *
قال الشيخ الإمام محمد بن أحمد بن رشد الحفيد في كتابه: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد":
(كِتَابُ الطَّهَارَةِ مِنَ الحَدَثِ)
قول المؤلف: "كِتَابُ الطَّهَارَة": مرادُهُ أن هذا كتابٌ تُذْكر فيه الأحكام التي يُبْحث فيها ما يتعلق بالطهارة.
قوله: "كِتَاب": المادة اللُّغوية: (كَتَبَ)، جمَعت حروفًا ثلاثةً:(الكاف، والتاء، والباء)، وهذه الحروف جمعت من الحروف الهجائية المعروفة، فالكاف من الحروف المتأخرة، والباء هي الحرف الثاني، ثم يليها بعد ذلك التاء، فنجد مادتها:"كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابًا وكِتَابةً"، و (كتابة) مصدر، و (كتابٌ) مصدر أيضًا.
والكتابة: مأخوذةٌ من الكَتْبِ، وهو الجمعُ والضَّمُّ، فأنتَ عندما تُرِيدُ كتابة رسالة، فإنَّك تأتي بحروفٍ عدةٍ، فتَجْمعها، ثمَّ تضم بعضها إلى بعضٍ، ومن ذلك: الكتيبة، كتيبة الخيل، ويقال: تَكَتَّبَ القوم إذا اجتمعوا.
والكتاب اصطلاحًا: هو الموضع الذي يُذْكر فيه جملة من الأحكام.
وليس ذلك خاصًا بالطهارة؛ فهناك كتاب الصلاة و
…
و
…
، والكتاب يَحْوي جملةً من الأبواب، والبابُ هو المدخلُ إلى الشيء، فيُقَالُ: باب المسجد؛ أي: المنفذ الذي يُوصلك إلَى المسجد، وباب الدَّار الذي يوصلك إلَيْها، وهكَذا
…
وَكلّ منهما يَشْتمل على جُمْلةٍ من المَسَائل العلميَّة.
تعريف الطهارة:
الطهارةُ لها معنيان:
* معنى لُغَوي.
* ومعنى شرعي.
فأمَّا معناها اللُّغوي: فهي النظافة والنَّزَاهة، يقال: فلان تَطَهَّرَ
(1)
.
وَأمَّا مَعْناها الشرعي، فهو على قسمين:
1 -
معنًى حسِّي.
2 -
ومعنًى معنوي.
فَالمَعْنى المَعنوي: هو تَطْهير القُلُوب من أجناس الشِّرك والمعاصي وغَيْرهما، وهذا علَى أحد تفسيرات حديث:"الطهور شطر الإيمان"
(2)
، وقَوْل الله سبحانه وتعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]
(3)
.
وأمَّا المَعْنى الحسِّي: فهناك تَعْريفاتٌ مختلفةٌ للعلماء، ونحن لا نريد أن نَسْتقصي الأقوال، ولا أن ندخلَ في تفصيلاتها، أَوْ في التعليق عليها، أو نَقْدها، أو في ذِكْرِ ما يرد عليها من اعتراضاتٍ، لكننا نختار شيئًا من
(1)
يُنظر: "حلية الفقهاء" لابن فارس (ص 33)؛ حيث قال: "الطَّهارةُ: التَّنزيه عن الأدناس، تقول: طهرت الثوب والأرض".
(2)
يُنظر: "الاقتضاب في غريب الموطأ" لليفرني (1/ 447)؛ حيث قال "الطهور شطر الإيمان"، نصفه، واختلف في كيفية هذا التشطير؛ والأليق ما أشار إليه أبو حامدٍ، وهو أن الغايةَ القصوى عمران القلب بالأخلاق المحمودة، والعقائد المشروعة، ولن يتصف بها ما لم يتنظف عن نَقَائصها من العَقَائد الفاسدة، والرذائل المذمومة، فتطهيرُهُ أحد الشطرين؛ وهو الشطر الأول الذي هو شرطٌ في الثَّانِي، فكأنَّ الطهورَ شطرُ الإيمان بهذا المعنى، وكَذَلك تطهير الجوارح عن المناهي أحَد الشطرين، وعمارتها بالطاعات الشطر الثاني".
(3)
يُنظر: "تفسير الطبري"(23/ 10)؛ حيث قال: "عَن ابن عبَّاس: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}، قال: من الذنوب".
التعريفات، فمنهم مَنْ يقتصر على تعريفٍ موجزٍ، كالإمام النووي في كتابه:"المجموع"؟ فيقول: "رَفْع حدثٍ، أو إزالة نجسٍ، أو ما في معناهما أو على صورتهما"
(1)
.
ومنهم مَنْ يقول: "رَفْعُ ما يمنع الصلاة، وَمَا في معناها من حَدَثٍ أو نجاسةٍ بالماء، أو رَفْع حكمه بالتُّراب"
(2)
.
• وقوله: (كِتَابُ الطَّهَارَةِ):
اعْتَاد الفُقَهاءُ أَوْ جُلُّهم أن يَبْدؤوا بكتاب الطهارة؛ لأنه لَمَّا كانت الطَّهارةُ شرطًا في صحة الصَّلاة، وهي مقدَّمةٌ عليها في الترتيب العملي؛ قدَّمها العلماء رحمهم الله، فقُدَّمت الطهارة؛ لأنها مدخل وطريق ومقدمة لكتاب الصلاة.
أهمية الطهارة في الإسلام:
أَثنَي الله سبحانه وتعالى على المتطهرين، قال الله سبحانه:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108].
وقال عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وفي الحديث الذي رَوَاه مسلمٌ في "صحيحِهِ" أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "الطهور شطر الإيمان"
(3)
، فالطهارة لها مكانة عظيمة.
(1)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 79)؛ حيث قال: "رفع حدثٍ، أو إزالة نجسٍ، أو ما في معناهما وعلى صورتهما. وقولنا: "في معناهما"، أردنا به التيمم والأغسال المسنونة، كالجمعة وتجديد الوضوء والغسلة الثانية والثالثة في الحدث والنجسن، أو مسح الأذن والمضمضة ونحوها من نوافلِ الطهارة، وطهارة المستحاضة، وسلس البول، فهذه كلها طهارات، ولا ترفع حدثًا، ولا نجسًا".
(2)
وهَذَا التعريف تتابعت عليه كثيرٌ من كتب الحنابلة؛ يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 29)؛ حيث قال: "رفع ما يمنع الصلاة من حدثٍ أو نجاسةٍ بالماء، أو رفع حكمه بالتراب".
(3)
أخرجه مسلم (223).
• قوله: (فَنَقُولُ: إِنَّهُ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ طَهَارَتَانِ: طَهَارَةٌ مِنَ الحَدَثِ، وَطَهَارَةٌ مِنَ الخَبَثِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الحَدَثِ ثَلاثَةُ أَصْنَافٍ: وُضُوءٍ، وَغُسْلٌ، وَبَدَلٌ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَذَلِكَ لِتَضَمُّنِ ذَلِكَ آيَةَ الوُضُوءِ الوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، فَلْنَبْدَأْ مِنْ ذَلِكَ بِالقَوْلِ فِي الوُضُوءِ).
وقوله: "اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ": سَنَرى خلافًا في أكثر المسائل بين العلماء؛ لأن ما هو مجمعٌ أو متفقٌ عليه قليلٌ، وليس هذا لتقصير العلماء، بل إنَّ العلماءَ يُمحِّصون تلك المسائل، ولكلٍّ منهم وجهة هو موليها، فقد يبلغ هذا نصٌّ ولا يبلغ الآخر، وقد يبلغهم جميعًا هذا الحديث، فيفهمه هذا على فهمٍ، ويفهمه الآخر على فهمٍ، وقد يكون هذا الحديث قد نسخه ناسخٌ ولا يعَلم عنه هذا، وقد يكون هَذا الحديث فيه ضعفٌ، فيُدْركه أحد العلماء، ولا يدركه الآخر، وقد يصح عند بعضهم، ولا يصح عند الآخر، لكن ما نريد أن نحققه في هذه الدراسة أن نسعى إلى الحقِّ من أقرب طريقٍ وأهداه، فلا ينبغي أن يدفعنا الميل إلى إمامٍ من الأئمة أن نُؤيِّد رأيه دائمًا، وأن نقول: هذا هو الحق، ولا ينبغي أن نخرج عن قولِهِ، بَلْ هذا هو الخطأ في الحقيقة؛ لأن هذا الاندفاع هو الذي قد يُوقع بعض العلماء، والرسول عليه الصلاة والسلام أشَار إلى فرقةٍ من هذه الأمة، ألا وهم الخوارج، وهُمُ الذين قال فيهم:"تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَؤونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"
(1)
؛ لأنهم لَمْ تكن دراستُهُم للعلم دراسةً فقهيةً، ولكن غلب عليهم الغُلُو والاندفاع، فوقعوا فيما وقعوا فيه حتى وصل بهم الأمر وبغيرهم أيضًا إلى أن أنْكَروا جوانبَ من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام قَدْ توقع هذا الأمر، وَحذَّر منه، قال: "لا ألفينَّ أَحَدكم متكئًا على أريكته -يعني: جالسًا على
(1)
البخاري حديث (5058).
سريره - يأتيه الأَمْرُ من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وَجَدنا في كتاب الله اتبعناه"
(1)
.
وأليسَ مَا في سُنَّةِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إنَّما هو مُتَمِّمٌ ومُوَافقٌ لِمَا في كتاب الله عز وجل؟!
إذًا، لماذا يُؤْخذ بهذا، ولترك هذَا، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟
فالعِصْمةُ للمؤمن، ولطالب العلم في مقدمة ذلك أن يكون طريقُهُ واضحًا، ملتزمًا قول الله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
قوله: "أَنَّ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ طَهَارَتَانِ":
إحداهما: "طَّهَارَة مِنَ الحَدَثِ": وَهي المَعْروفة فقهًا بـ"الطهارَة الحكميَّة"؛ لأنَّ الإنسانَ إذا طهَّر نفسَه من بولٍ أو ريحٍ؛ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام في الحديث: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا"
(2)
.
فإذا ما انتقض وضوء الإنسان، فإنه حِينَئذٍ يجب عليه إذا أراد أن يؤدي عبادةً من العبادات التي تَكُونُ الطهارةُ شرطًا فيها؛ يجب عليه أن يرفعَ ذلك الحدث
…
هذه نُسمِّيها طهارةً حكميةً؛ لأننا نرفع ذلك الحدث حكمًا، وهذا هو معنى الحدث.
و"الطَّهَارَة مِنَ الحَدَثِ" خَاصَّةٌ بالأبدان فَقَط، نَعْني بذَلكَ أنَّ السَّببَ الذي يُوجب الطَّهارة هو انتقاض الطَّهارة، هذَا نُسمِّيه سببًا موجبًا.
ثم هذَا السَّبب الذي أوجب الطهارةَ، ترتَّب عليه أمرٌ آخر: وهو المانع الذي يَمْنع المسلم من أن يؤدي ما تشترط الطهارة له من العبادات.
(1)
أخرجه أبو داود (4605)، وصحَّح إسناده الأرناؤوط.
(2)
أخرجه البخاري (177).
وعليه؛ فإنَّ الحدثَ لا يخرج عن واحدٍ من أمرين:
الأول: سبب الموجب، أي: ما يوجب الطهارة.
الثاني: مانع؛ أي: ما يمنع المسلم من أداء هذه الصلاة إلا أن يتطهر، وهو الذي أشار الله سبحانه وتعالى إليه في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ
…
} إلى آخر الآية [المائدة: 6].
الطهارة الثانية: "وَطَهَارَةٌ مِنَ الخَبَثِ"، وَالخبث هو المستقذر، أعني: الأعْيَان المُسْتقذرة التي تَسْتقذرها النُّفُوس؛ كالفضلة التي تخرج من الإنسان، وهَذِهِ الطهارة تُعْرف بالطهارة من النجاسة.
والطهارة من الخبث لا تقتصر على البدن، فقَدْ تكون في البدن كبَوْلٍ، وقَدْ تكون في الثياب.
والدليل على ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه عندما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم: إحدانا يُصيب ثوبها دم الحيض، ما تصنع فيه؟ فقال عليه الصلاة والسلام:"تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثمَّ تُصَلِّي فِيهِ"
(1)
، فهذا في طهارة الثوب.
وأما طهارة البقعة، فدَليلُهَا حديث الأعرابي المتفق عليه:"دَعُوه، وَهَريقوا على بوله سجلًا من ماء"، أو:"ذَنوبًا من مَاءٍ"
(2)
.
* * *
(1)
هذا لفظ مسلم (291)، وأخرجه البخاري (227).
(2)
أخرجه البخاري (220).
[كتاب الوضوء]
• قوله: (فَنَقُولُ: كِتَابُ الوُضُوءِ).
المؤلف رحمه الله قد تحدث عن الطهارة في الأصل، فقال:"كتَاب الطَّهَارَةِ"، ولم يقل:"كتاب الوُضُوء"؛ لأنَّ الوُضُوءَ يمثل جانبًا واحدًا من الطهارة، فهناك الغسل، وهناك ما هو بدلٌ منهما ألا وهو التيمُّم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} .
وفي الحديث الصحيح: "الصَّعيد الطيب وضوء المسلم ولَوْ إلى عشر سنين، فإذا وجدتَ الماءَ، فأمسَّه جلدَك، فإنَّ ذلك خيرٌ"
(1)
.
ومن مصطلحات كتاب الطهارة:
1 -
الطُّهور؛ فالفقهاء اصطلحوا في الغَالب على أنَّ الطَّهور - بفتح الطاء - يُقْصد به ما يُتَطَهَّر به، وهو المَاء، وَالطُّهور - بضم الطَّاء - إنَّما يُقْصد به الفعل، أَيْ: فعل الطهارة.
فالمتوضئ إذا أراد الوضوء، يُحْضر الماء، فهذا الماء الذي بين يديه يسمَّى بالطَّهُور، لأنه الماء الذي سوف يستخدمه في طهارته.
2 -
وكذلك مثل الطَّهور تمامًا: الوَضوء - بالفتح - وهو ما يُتَوَضَّأ به، أي: الماء، والوُضوء - بالضَّمِّ - إنَّما هو فعل الوُضُوء، وقَدْ يطلق
(1)
أخرجه أبو داود (332)، وقال الأرناؤوط: صحيحٌ لغيره.
العكس على ذلك، وقَدْ يكون الطهور صالحًا للأمرين، كلُّ ذَلكَ ورَد في اللُّغة.
وَالوَضُوء إنَّما سُمِّي بالوَضوء، لما فيه من الوَضاءة، لأنه ينظف أعضاء الجسم إلى جانب تطهيرها، والعناية بها.
• قوله: (إِنَّ القَوْلَ المُحِيطَ بِأُصُولِ هَذِهِ العِبَادَةِ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةِ أَبْوَابٍ).
يَهْدُفُ المؤلف بقوله هذا أمرًا مهمًّا؛ فإنَّ المؤلفَ لا يقصد في هذا الكتاب أن يدرسَ الجزئيات، وإنما يريد أن يدرس - كما ذكر في مَوَاضعَ مُتَفرقةٍ من الكتاب - المسائلَ التي نَطَق بها النصُّ التي جَاءَتْ منطوقًا بها في آيةٍ أو حديثٍ، أو فيما هو قريبٌ من النصِّ؛ أي: أن المسائل الاجتهادية لا يذكرها المؤلف إلا استطرادًا بأن تأتي ضمن هذه المسائل.
وقوله: "بِأُصُولِ هَذهِ العِبَادَةِ".
يقصد بها الطهارة، فهو لا يذكر إلا القليل من المسائل.
وأنا أقول: لو أن أحدًا مَارَس دراسة الفروع الفقهية، وضَمَّ إلى ذلك القواعد الفقهية؛ لاستطاع - بحَول الله وقوَّته - أن تَقْرُب أمامه تلك المسائل، وأن تَنْدرج - إن لم تكن جميعها فأكثرها - تحت تلك الأصول أو تلك الأحكام الكليَّة الَّتي هي القواعد الفقهية، وقد جرَّبنا ذلك وعرفناه تمامًا.
ولذلك، اهتمَّ العُلَماءُ بالقواعد الفقهية" لأنهم قالوا: تضبط للفقيه أصول المذهب، وتُطْلِعه من مآخِذِ الفِقْهِ على ما كان عنه قد تغيَّب، وتنظم له منثور المسائل في سلكٍ واحدٍ، وتقرب له ما شرد منها
(1)
، فَهِيَ
(1)
يُنظر: "القواعد الفقهية" لابن رجب (ص 3)؛ حيث قال: "فهَذِهِ قَوَاعدُ مهمةٌ، وَفَوائدُ جمةٌ، تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيب، وتنظم له منثور المسائل في سلكٍ واحدٍ، وتقيد له الشواردَ، وتقرب عليه كل متباعدٍ".
تَجْمعها، وتُقرِّبها إليك، وهذا التقريب إنما يَلْتقي تحت لوَاء هذِهِ المسائل الكُبْرى.
ولَا يَنْبغي أَنْ يملَّ طَالِبُ العِلْمِ من هذا التوسُّع الذي أسلكه؛ لأنَّنا نريد أن نُبَيِّن هذا الكتاب؛ لأن غالبَ الَّذين أرادوا دراسة هذا الكتاب أَرَادوا أن يعرفوا ما في هذا الكتاب من معانٍ وألفاظٍ، وهذا ما نسعى إليه.
• قوله: (البَابُ الأَوَّلُ: فِي الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِهَا، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ، وَمَتَى تَجِبُ، الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ أَفْعَالِهَا. الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا بِهِ تُفْعَلُ وَهُوَ المَاءُ. الرَّابِعُ: فِي مَعْرِفَةِ نَوَاقِضِهَا. الخَامِسُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَشْيَاءِ الَّتِي تُفْعَلُ مِنْ أَجْلِهَا).
فـ"البَابُ الأَوَّلُ"، ينحصر في أمورٍ ثلاثةٍ:
الأول: فِي الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَة.
والثاني: عَلَى مَنْ تَجِبُ هَذِهِ الطَّهَارة؟
والثالث: مَتَى تَجِبُ؟
نَقُولُ: إنَّ الطهارةَ واجبة، وأنَّ الوضوء يمثل قسمًا منها، وهو واجبٌ.
* * *
[الباب الأول: في ذكر أدلة وجوب الوضوء]
قوله: (البَابُ الأَوَّلُ: فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِا: فَالكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الآية [المائدة: 6]، فَإِنَّهُ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ امْتِثَالَ هَذَا الخِطَاب وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ إِذَا دَخَلَ وَقْتُهَا).
ذكر المؤلف الأدلة؛ فاستدل بقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، فنجد أن هذه الآية ذكرت أنواع الطهارة الثلاثة: الوضوء والغسل، وذكرت البدل منهما:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، وهو التراب الطيب.
وهَذِهِ الآيةُ ذَكرَتْ جملةً من فَرَائض الوُضُوء في أوَّلها، وَجَاءت بصِيغَةِ الأَمْر، والأَمْرُ يَقْتضي الوجوبَ.
والمُؤلِّفُ لم يُبيِّن هنا وجه الدلالة منها، ووجه الدلالة مهمٌّ، وإنما يعتني بذكر سبب الخلاف.
ووجه الدلالة منها: أن هذه الآية أمرت بالوضوء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، وأمرَتْ بذَلكَ أمرًا جازمًا، ولا يُوجَد ما يَصْرف عن ذَلكَ؛ هذه الآية تدلُّ على وُجُوب الوضوء.
وهناك مسألةٌ مهمةٌ تكلَّم عنها العلماء، ولم يتكلَّم عنها المؤلف؛ هي: هَلْ هذِهِ الآية تبقى على ظاهرها؟
فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} : الظاهر منها أن الإنسانَ إذا أرَاد القيام إلى الصلاة، فَعَليه أن يتوضَّأ في أيِّ حَالٍ من الأحوال، يَعْني: يجب عليه أن يتطهَّر؛ سواء كان متطهرًا أوْ غير مُتَطهرٍ، فهَلْ هَذَا هو المراد فى الآية، أو أن هناك مقدرًا محذوفًا، أو أن هناك أمرًا آخر؟ هذه أمورٌ ثلاثةٌ لم يُنبِّه عليها المؤلف.
بَعْض العلماء قالوا: إن الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ، ليست على إطلاقها، بَلْ هناك مقدرٌ محذوفٌ هو:"مُحْدثين"؛ (إذا قُمْتم إلى الصَّلاة مُحْدثين)، هَذَا هو القولُ الأولُ، وهَذَا قول أكثر العلماء
(1)
.
ومن العلماء مَنْ قال: إنَّ الآيةَ باقيةٌ على عُمُومها، ولا نَحْتَاج إلى تَقْديرٍ فيها، أَيْ: لا نحتاج إلى تقديرٍ محذوفٍ، لأنَّ هذه زيادة، ولكن نُبْقيها على أصلها، وَينْبغي أن نفرِّق بين القائم يقوم محدثًا، وبين القائم يقوم متطهرًا، فالأولُ المُحْدثُ يجب علَيه أن يتطهَّر، والثَّانِي: لا يجب عليه، وإنَّما يُشْرع له أو يُنْدب؛ لأنه يستحبُّ للإنسان أن يجدِّد الوضوء، ولا يلزمه
(2)
.
هناك قول ثالث: إن الوضوء عند القيام والصلاة كان واجبًا" أي: كانت الطهارة عند القيام إلى الصلاة واجبة، ولكن ذلك نُسِخَ
(3)
، ثم يستدلُّون على ذلك بعدة أدلة، منها قولهم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاةٍ، فلمَّا شقَّ علَيه الأمر، وُضِعَ عنه
(4)
، أَيْ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(10/ 7)؛ حيث قال: "يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق
…
سئل عكرمة عن قول الله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، فكلَّ ساعةٍ يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلا من حَدَثٍ".
(2)
يُنظر: "تفسير الطبري"(10/ 12)؛ حيث قال: "وقال آخَرون: بل ذلك معنيٌّ به كل حال قيام المرء إلى صلاته، أن يجدِّد لها طُهرًا
…
عكرمة يقول: كان عليّ رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاةٍ، ويقرأ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ
…
(6)} ".
(3)
يُنظر: "تفسير الطبري"(10/ 14)؛ حيث قال: "وقال آخرون: بل كان هذا أمرًا من الله - عز ذكرُهُ - نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به أن يَتَوضَّؤوا لكل صلاةٍ، ثم نُسِخَ ذلك بالتخفيف".
(4)
أخرج أحمد (21960)، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: قلت له: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاةٍ؛ طاهرًا كان أو غير طاهرٍ، عمَّ هو؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب، أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل، حدثها: =
لكل صَلَاةٍ؛ محدثًا أو غير محدثٍ، فلمَّا شقَّ عليه ذلك، وُضِعَ عنه الوضوء، أعني: خُفِّف عنه الوضوء إلا من حَدَثٍ.
وكَذَلك يستدلُّون بحديث بُرَيدة الذي أخرجه مسلمٌ في: "صحيحه"، وهو حديثٌ معروفٌ مشهورٌ: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوضَّأ لكلِّ صلاةٍ، فلمَّا كان يوم الفتح (يعني: يَوْم فتح مكة)، توضأ وضوءًا واحدًا، فاستغرب عمر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، إنك فعلتَ شيئًا لم تكن تفعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ"
(1)
؛ أَيْ: لبَيَان الجَوَاز
(2)
.
فقالوا: إنَّ الأمر كان واجبًا (يعني: كان الوضوء واجبًا) عند القيام إلى الصلاة، ثم نُسِخَ ذلك الحكم.
نَقُولُ: الآيةُ تَدلُّ على أنه يتوضَّأ المسلم عندما يريد القيام إلى الصَّلاة، وقَدْ دلَّت أدلةٌ أُخرى على أنَّ هذا الوجوبَ إنما ينصرف على المحدث، "أما غير المحدث، فلا يَلْزمه.
إذًا، هَذَا هو الدليل الأول، وهو الدليل من الكتاب.
• قوله: (وَإمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ"
(3)
).
وبعضهم يرويه: "بِغَيْرِ طُهُورٍ"، بِضَمِّ الطاء.
هَذَا الحديثُ بيَّن أنه لا بدَّ من الوضوء للصلاة، بل التطهُّر لها
= "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمَرَ بالوضوء لكل صلاةٍ؛ طاهرًا كان أو غير طاهرٍ، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرَ بالسواك عند كل صلاةٍ، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث"، وحسَّن إسنادَه الأرناؤوط.
(1)
أخرجه مسلم (277).
(2)
يُنظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 97)؛ حيث قال: "وقوله: (عمدًا فعلتُه يا عُمَر)، أي: قصدًا؛ ليبين للناس الإباحة والرخصة في ذلك؛ لئلَّا يقتدوا بفعله، ويظنوا ذلك فرضًا".
(3)
أخرجه مسلم (224).
عمومًا؛ سَوَاء كان ذَلكَ في الطهارة الصُّغرى الَّتي هي الوضوء، أو الطهارة الكُبْرى التي هي الغسل، وإن فقد ذلك، فالتيمُّم بدل منهما.
"وَلا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ": الغالُّ هو الخائن الذي يسرق من الغنيمة قبل قسمتها، وقد تَوعَّده اللهُ سبحانه وتعالى، وتوعَّده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قَوْله: (وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ"
(1)
).
"لَا" نافية للجنس، و"يقبل" فعل مضارع؛ فجملة "لا يَقْبل الله": تَنْفي الصِّحَّة والإجزاء؛ أَيْ: نَفَتْ صحَّة صلَاة المحدث حتَّى يَتَوضَّأ، "إذا أحْدَثَ"، أيْ: إذا وُجِدَ منه الحدث "حتَّى يتوضأ"؛ حتى يقع منه الوضوء.
فَدلَّ ذَلكُمُ الحَديث المتفق عليه على أنَّ الصَّلاة لا تصحُّ إلا بالطهارة.
• قوله: (وَهَذَانِ الحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ عِنْدَ أَئِمَّةِ النَّقْلِ، وَأَمَّا الإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ خِلَافٌ لَنُقِلَ، إِذِ العَادَاتُ تَقْتَضِي ذَلِكَ).
أَجْمَع العُلَماءُ علَى وُجُوب الطهارة، ولم يُنْقَل عن أَحَدٍ منهم خلافٌ في ذلك، لكن شَذَّ بعض العُلَماء فيما يتعلق بصلاة الجنازة، وسيأتي الكلام عنها - إن شاء الله - في موضعِهِ.
نقول: الدَّليل على وجوب الوضوء من الكتاب والسُّنة والإجماع، وبعضُ العلماء يسلك مسلكًا آخر، فيقول: الدليل على وجوب الوضوء هو النقلُ والعقلُ.
فيعتبرون النقل: ما جاء في الكتاب والسُّنة، ويُلْحقون بِهِما الإجماع، ثمَّ بعد ذلك يلحقون بهما العقليَّات والأقيسة، ولكنَّ المسألة لا تحتاج إلى
(1)
أخرجه البخاري (6954).
قياسٍ؛ لأن المسألةَ وَرَدتْ نصًّا في كتاب الله عز وجل؛ أَعْني: الآية المذكورة، ثمَّ الأحاديث.
مسألة: الوضوء على الوضوء:
تَجْديدُ الوُضُوء مُسْتحبٌّ ليس واجبًا، فلا يجب على المسلم أن يتوضأ لكل صلاة، لكن إذا أراد أن يتوضأ، فهذا من باب الطاعات، والله تعالى يقول:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)} [آل عمران: 133]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
• قَوْله: (وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، فَهُوَ البَالِغُ العَاقِلُ، وَذَلِكَ أَيْضًا ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ. أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ
…
فَذَكرَ الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَالمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ"
(1)
، وَأَمَّا الإِجْمَاعُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ).
البالغِ العاقل؛ لأنَّ الرَّسول عليه الصلاة والسلام قال: "رُفِعَ القَلمُ عن ثلَاثةٍ: عن النائم حتَّى يستيقظَ، وعن الصبيِّ حتى يَحْتلم، وعن المَجْنون حتى يعقلَ"، فالرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام أخبر برَفْع القلم عن هؤلاء الثلاثة؛ ولو أنها أُوجبَت عليهم لكان في ذلك وَضْع القلم عليهم، وهذا خلاف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ: هَلْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهَا الإِسْلَامُ أَمْ لَا؟).
قَدْ يَرِدُ هنا سؤالٌ، فيُقَال: كيف يُشْترط في الطهارة الإسلام، والله تعالى يقول عن الكفار:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].
فلَا خلَافَ بَيْن العلَماء بأنها تَجبُ على المسلم البالغ العاقل، وَقَضيَّة الإسلام سيُنبِّه المُؤلِّف على أَمْرٍ مهمّ فيها، وسنُفَصِّل القولَ إنْ شَاءَ الله.
(1)
أخرجه أبو داود (4403)، وصححه الأرناؤوط.
إذن؛ تجب على كل مسلمٍ؛ لأن الكافرَ لا تصحُّ منه.
• قوله: (وَهِيَ مَسْأَلَةٌ قَلِيلَة الغَنَاءِ فِي الفِقْهِ؛ لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الحُكْمِ الأُخْرَوِيِّ).
معنى "قَلِيلَة الغَنَاءِ": قليلة الفائدة في الفقه، وهو لا يريد أن هذه القضية التي تكلم عنها العلماء، وَفصَّلوا القولَ فيها، لا فائدة منها، لكنه يريد أن يقول: إنَّ فائدتها في الفقه غير ظاهرةٍ؛ لأنَّ العلماء يذكرون قاعدةً مهمةً: "هَل الكُفَّار مُخَاطبون بفُرُوع الشَّريعة؟ ".
فالكُفَّار - لا شكَّ - مخاطبون بالإيمان؛ لأنَّ كل مخلوق مخاطب بهذا الإيمان، فالإنسانُ إنما خُلِقَ في هذا الكون ليؤمنَ بالله سبحانه وتعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 56، 57]، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه
…
فَالكَافرُ مُطَالبٌ بأُصُول هذِهِ الشَّريعة، لَكن الله تَعالَى يَقُولُ:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، فَهَلْ يُطَالَب بفُرُوع هذه الشَّريعة؛ كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والحجِّ، والصيام، وغَيْر ذلك من الأمور الأُخرى، أو أنه لا يُطَالب بذلك؟
هَذِهِ المسألةُ يَذْكرها الأُصُوليُّون في كُتُبهم، والفقهاء في علم القواعد الفقهية؛ فإذا نظرنا إليها من ناحية الحكم قلنا: هي قاعدةٌ أصوليةٌ، ولَوْ نَظَرنا من حيث أفعال المُكلَّفين لقلنا: هي قاعدةٌ فقهيةٌ.
ومن أدقِّ الأمور أن يفرق الإنسان بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية.
إذًا، متى تكون قاعدةً فقهيةً؟
تكون قَاعدةً فقهيَّةً عند طَائِفَةٍ من العلماء الذين يَقُولون بأن الكفَّار مخاطبون بفروع الشريعة، فإذا قلنا بأنهم مخاطبون بفروع الشريعة، معنى هذا أننا نطالبهم بالفروع، وليس معنى قول الفقهاء: إنَّ الكفار مخاطبون
بفروع الشريعة أنه إذا أسلم الكافر نقول له: تعالَ فتطهر، وصلِّ ما فاتك، لا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن أنه قد تجاوز عن هذا الأمر، والرسول عليه الصلاة والسلام بيَّن أن الإسلامَ يَجبُّ ما قبله:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وهذا مما يرغب في الإسلام بخلاف ما لو طلب من الكافر أنه إذا أسلم يُطَالب بمثل هذه الأمور، هذا قد يكون حاجزًا وسدًّا في سبيل وُصُوله إلى الإسلام، لَكن هَذَا لَا يُطْلب منه.
وجُمْهور العلماء يقولون بأن الكفارَ مُخَاطبون بفُرُوع الشريعة، والحنفية يقولون: غير مخاطبين.
ومن العلماء مَنْ يقول بأنهم مخاطبون بالنواهي، ومنهم مَنْ يقول: مخاطبون بالأوامر، ومنهم مَنْ يقول: مخاطبون بالأوامر إلا الجهاد، ومنهم مَنْ يتوقف في هذه المسألة، لَكِنِ القولان المشهوران هما: الأوَّل: قول الجمهور بأنَّهم مخاطبون، والآخر: أنهم غير مُخَاطبين.
•
قوله: (لأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الحُكْمِ الأُخْرَوِيِّ).
قَصْد الفقهاء رحمهم الله الذين يقولون بأنَّ الكافرين مُخَاطبون بفُرُوع الشَّريعة؛ أي: من الناحية الأُخروَّية، ولذلك قال المؤلف رحمه الله:"لأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الحُكْمِ الأُخْرَوِيِّ".
والمراد بـ"الأَمْر الأُخْرَوي": أن الكافرَ يُضَاف إليه إلى جانب تعذيبه عن تَرْك الإيمان أنه يُعذَّب كذلك على ترك ما أوجبه الله عليه من صلواتٍ وزكواتٍ وغيرها، وَيسْتَندون إلى قول الله سبحانه وتعالى:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} [المدثر: 42 - 46]، فَجَعل من أسباب تعذيبهم أنهم تَرَكوا بعض الواجبَات.
إذَنْ، قَالُوا: نحن نَقُولُ بأنهم مُكلَّفون، ولا نُطَالبهم بعد الإسلام بأن يأتوا بمثل هذه الأعمال، أو بما يَتَرتب عليها، ولكنَّنا نريد أن نقول بأنه
يُضَاف إلى عَذَابهم الأصلي الذي هو عَنْ تركهم الإيمان عذابٌ آخر.
• قوله: (وَأَمَّا مَتَى تَجِبُ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلاةِ، أَوْ أَرَادَ الإِنْسَانُ الفِعْلَ الَّذِي الوُضُوءُ شَرْطٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِوَقْتٍ).
و"الفِعْل": مسُّ المُصحف والطَّواف.
• قوله: (أَمَّا وُجُوبُهُ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَلَى المُحْدِثِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآيَةَ [المائدة: 6]، فَأَوْجَبَ الوُضُوءَ عِنْدَ القِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ دُخُولُ الوَقْتِ، وَأَمَّا دَلِيلُ وُجُوبِهِ عِنْدَ إِرَادَةِ الأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِيهَا، فَسَيَأْتِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكرِ الأَشْيَاءِ الَّتِي يُفْعَلُ الوُضُوءُ مِنْ أَجْلِهَا، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ).
هَذَا سَيَأتي الكلام عنه.
[الباب الثاني: في معرفة أفعال الوضوء من الكتاب والسُّنة]
قَالَ المُصنِّف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّانِي، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ فِعْلِ الوُضُوءِ، فَالأَصْلُ فِيهِ مَا وَرَدَ مِنْ صِفَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الآثَارِ الثَّابِتَةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَسَائِلُ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَشْهُورَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الأمَّهَاتِ،
وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ وَالأَرْكَانِ، وَصِفَةِ الأَفْعَالِ، وَأَعْدَادِهَا، وَتَعْيِينِهَا، وَتَحْدِيدِ مَحَالِّ أَنْوَاعِ أَحْكَامِ جَمِيعِ ذَلِكَ.
غَالبُ الفُقَهاء عند الحديث عن الأمور المتعلقة بالطهارة إنَّما يبدؤون بالوضوء، وبعضهم يبدأ بالمياه، وبعضهم يُقدِّم الآنية، وهذا الترتيب غير مؤثِّرٍ، ولا ينبني عليه شيءٌ، وإنما هو اصطلاح لا مساحَّة
(1)
فيه بينهم.
أمَّا الطهارة، فَإنَّها واجبةٌ ومتعينةٌ في حق كل مُصَلِّ بإجماع العلماء
(2)
.
أَمَّا دَليلُ وُجُوبها، فَهُوَ من الكتَاب - كَمَا ذَكَرْنَا - قَوْله تَعالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} .
ومن السُّنَّة أحاديثُ كثيرةٌ، منها قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ"
(3)
.
وقَوْله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأ"
(4)
، وسَبَق أن ذَكَرْنَا كَذَلك علَى مَنْ تَجِبُ الطَّهَارةُ.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى مِنَ الشُّرُوطِ: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الأَمْصَارِ، هَلِ النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الوُضُوءِ أَمْ لَا؟).
وهُنَا لا بدَّ من الإشَارَة إلَى أنَّ أيَّ خِلَافٍ من حَيْث الإجْمَال هو أَحَدُ نَوْعَيْنِ:
1 -
خلافٌ يُقْصَد منه الوُصُولُ إلى الحقِّ، كالَّذي نرَاه بين الأئمَّة
(1)
"مشاحَّة"، أَيْ: لا مضايقة، ولا مُنَازعة. انظر:"الكليات" للكفوي (ص 970).
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 107) حيث قال: "ودلَّت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب فرض الطهارة للصلاة، واتفق علماء الأمة أن الصلاة لا تجزئ إلا بها إذا وجد السبيل إليها".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
الأربعة رضوان الله عليهم، ومَن تَبِعَهم مِنَ العُلَماء، ومَنْ سَبَقَهم مِنَ الصحابةِ والتابِعِين.
2 -
وخلافٌ لا يُقْصَد منه الوصولُ إلى الحقِّ، وإنما يَكُون لِغَرَضٍ من الأغْرَاض، كأن يكونَ في نفس صَاحِبهِ مِن الهوى أو الجَهْل أو الحَسَد ما يَدفَعُه إلى الميل إلى أَمْرٍ من الأُمُور، وهَذِهِ مِنَ المَصائب التي قَدْ يَقَعُ فيها مَنْ يَنْتَسِبُون إلى العِلْمِ.
فأَئمَّتنا رحمهم الله يُريدُون من هذا الخلاف أن يَصِلُوا إلَى الحق، ولذا فإنَّنا لا نجدهم يختلفون - على سبيل المثال - في مبحث السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَميعُهُم يَتَّفقون في كيفيَّة السلام
(1)
، وكذلك يتفقون جميعًا على أن الجهة الصحيحة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلم حين الدعاء إنما هي جهة القِبْلَةِ
(2)
، ويتَّفقون أنه ينبغي أن يتوجَّه في دعائِهِ إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يجيب المضطرَّ إذا دَعَاه، ويَكْشف السُّوء.
معنى "النيَّة" لُغَةً وَاصْطِلَاحًا:
أَصْلُ اشتقاقها في اللُّغة: وأصلها "نَوَى يَنْوِي نِيَّةً"
(3)
، وأَصْلُها في الميزان الصرفي:"نِوْيَة"، فَنَجد أن الواو والياء اجتمَعَتا في كلمةٍ واحدةٍ، حيث سُكَنَت الوَاوُ، وَتَلَتْهَا الياءُ
…
والواوُ والياءُ مِنَ الحُرُوف الصَّرفيَّة، والقاعدة الصَّرفية أن الواو والياء إذا اجتمَعَتَا في كلمةٍ واحدةٍ، وسبقت
(1)
للحديث الذي أَخْرَجه البخاري (4797) من حديث كعب بن عُجْرة، ومسلم (405) من حديث بشير بن سعد: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال:"قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
(2)
يُنظر: "الأذكار" للنووي (ص 396) حيث قال في آداب الدعاء: "الثالث: استقبالُ القبلة".
(3)
"نوى نويت نية ونواة"، أي: عزمت. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2516).
إحداهما بالسكون، فإنها تُقلَب ياءً
(1)
، ولذلك قُلِبَتِ الوَاوُ ياءً، فَصَارت "نيْيَة"، ثم أُدْخِلَتْ إحدى الياءَين في الأُخرى، فَصَارت (نيَّة)، وهناك عِلَّةٌ صرفيةٌ أُخرى
(2)
، وَهِيَ أنَّ الوَاوَ قَدْ وَقَعَتْ سَاكنةً بعد كَسْرٍ، فَقُلِبَتْ ياءً، ومثالها كَذَلك:"مِيقَات، وميزان"، أَصلُهَا:"مِوْقَات، ومِوْزَان"، قُلِبَت الواوُ ياءً، لوُقُوعها سَاكنةً بعد كَسْرٍ، فَصَارت:"مِيقَات، ومِيزَان".
مَعْناها اللُّغوي:
والنِّيَّة في اللغة تعني: القصد
(3)
، تقول:"نَوَيْتُ السَّفَرَ"، أي: قَصَدْتُ، ومنه المثلُ المشهورُ:"نَوَاكَ اللهُ بِخَيْرٍ".
وهناك مِنَ العلماء مَنْ يذهب إلى أنها تَعْني: العزم
(4)
، وهناك مَنْ يذهب إلى أنها تَعْني: التَّوجُّه
(5)
، وغَيْر ذَلكَ من المرادفات.
مَعْناها الاصطلاحي الشرعي:
النيَّة في الاصطلاح الشَّرعي لها معنيان:
1 -
معنًى خاصٌّ بالعبادات: أنها هي قَصْدُ الطاعَة والتَّقرُّب إلى الله بإيجاد الفعل أو التَّرْك
(6)
…
على خِلَافٍ في كلمة "الترك"
(1)
يُنظر: "شرح المفصل" لابن يعيش (4/ 309) حيث قال: "متى اجتمعت الواو والياء، وقد سبق الأول منهما بالسكون، فإن الواو تقلب ياءً، ويدغم الأول في الثاني". وانظر: "شرح كتاب سيبويه" لأبي سعيد السيرافي (5/ 272).
(2)
يُنظر: "الممتع الكبير في التصريف" لابن عصفور (ص 285)، حيث قال:"إلا أن تَقعَ ساكنةً بعد كسرةٍ، فإنها تُقْلب ياءً، نحو: ميزان وميعاد، الأصل فيهما "موزان" و"موعاد"، لأنهما من الوزن والوعد، فقلبت الواو ياءً لسُكُونها، وانكسار ما قبلها".
(3)
"النية": ما ينوي الإنسان بقلبه من خيرٍ أو شرٍّ، ومعناها: القصد. انظر: "العين" للخليل (8/ 394).
(4)
"نوى ينوي نية ونواة": عزم. انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص 322).
(5)
"النية والنوى": الوَجْه الذي تريده وتنويه. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 348).
(6)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 25) حيث قال: "وهي لغةً: عزم القلب على الشيء. واصطلاحًا كما في "التلويح": قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل". =
فيما إذَا كان تَرْكُ المنهيِّ عنه تُشتَرَط فيه النيَّة أم لا، وسيأتي الكلام فيه لاحقًا إن شاء الله.
2 -
معنى عامٌّ عند الأصوليِّين: أنها هي انبعاثُ القَلْب نَحو مَا يرَاه مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِن جَلْبِ نَفْعٍ، أو دَفْعِ ضُرٍّ، حالًا أو مآلًا
(1)
.
مَحَلُّهَا:
وهَذِهِ قَضيَّةٌ جوهريَّة، فالعلماء - جملةً - مُتَّفقون على أن النيةَ مَحَلُّهَا القلبُ
(2)
، لَكنَّهم يَنْقَسمون في التَّلفُّظ بها على ثَلَاثةِ أقوالٍ:
= مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (2/ 206) حيث قال: "ومن صفتها على الكمال أن يستشعر الناوي الإيمان بقلبه، فيقرن بذلك اعتقاد القربة لله بأداء ما افترض عليه من تلك الصلاة بعينها، وذلك يحتوي على أربع نيات، وهي: اعتقاد القربة، واعتقاد الوجوب، واعتقاد القصد إلى الأداء، وتعين الصلاة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 158) حيث قال: "فحقيقتها لغةً: القصد. وشرعًا: قصد الشيء مقترنًا بفعله".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (1/ 143) حيث قال: "قوله: "وهو أن يقصد رفع الحدث، أو الطهارة لمَا لا يُبَاح إلا بها"، هَذَا المذهب، قاله الأصحاب. وقال في "المستوعب"، و"شرح ابن عبيدان"، وغيرهما: النية هي قصد المنوي. وقيل: العزم على المنوي".
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 24)، حيث قال:"في الشرع كما في "التلويح": قصد الطاعة، والتقرُّب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل
…
وعرفها القاضي البيضاوي بأنها شرعًا: الإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاءً لوجه الله تعالى، وامتثالًا لحكمه. ولغةً: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرضِ من جلب نفع، أو دفع ضرٍّ؛ حالًا أو مآلًا".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 292) حيث قال: "والحق أنهم إنما ذكروا العلم بالقلب لإفادة أن النية إنَّما هي عمل القلب، وأنه لا يعتبر باللسان". مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 266) حيث قال: "لأن النيِّة محلها القلب، فلا مدخل للسان فيها".
مذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوَهَّاج" للدميري (1/ 313) حيث قال: "ومحلها القلب
…
فالاعتبار بما في القلب بلا خِلَافٍ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 86) حيث قال: " (ومحلها) أي: النية (القلب)؛ لأنَّها من عمله".
الفريق الأول: أنَّ التَّلفُّظَ بها مُتَعيِّنٌ
(1)
.
الفريق الثاني: أن التلفُّظَ بها أفْضَل من الاقتصار عليها قلبًا، بمعنى أنَّ الأفضلَ للإنسان أن يَنْوِيَهَا بقلبه، ويَتلَفظ بها
(2)
.
الفريق الثالث: أن التلفُّظ بها بدعةٌ
(3)
إلا في الحجِّ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لبَّى في الحج مُعلِنًا بقوله: "لبَّيك حجةً، لبَّيك عمرةً"
(4)
.
ونَخْلُصُ من هذِهِ الأقوال إلى أن التَّلفُّظَ بالنيَّة في الحَجِّ أو عند نية النُّسُك لا خلافَ فيه بين العُلَماء؛ لأنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام صَرَّح به نَصًّا، وَلَكن يَبْقى الخلاف في باقي العبَادَات، هل يتلفَّظ المتعبِّد بالنيَّة أَمْ يَقْتصر على انبعاثها من قلبِهِ.
وَالصَّحيحُ: أن التلفُّظ بها بدعةٌ؛ لأنَّ التَّلفُّظ لم يُنقَل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولَا عن أحدٍ من أصحابه، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
ويقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
(1)
يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (1/ 313) حيث قال: "ويندب التلفُّظ بالمنوي. وقال الزبيري: يجب أن يساعدَ القلب اللسان".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق" لفَخْر الدين الزيلعي (1/ 99) حيث قال: "وأما التلفُّظ بها، فليس بشَرْطٍ، ولكن يحسن لاجتماع عزيمته".
وبُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 266) حيث قال: "فينبغي ألا يتلفظ بقصده بأن يقول: قد نويت فرض الوقت مثلًا، لأن النية محلها القلب، فلا مدخل للسان فيها، فإن تلفظ فواسع، وقد خالف الأَوْلَى".
(3)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 24) حيث قال: "والتلفُّظ بها وبما نَوَاه هنا، وفي سائر العبادات بدعة".
(4)
أخرجه أبو داود (1795)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود".
ولقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"
(1)
.
ولَا شكَّ أنَّ المؤمنَ يَنْبغى عليه أن يَقْتَصِرَ فى أمر عبادتِهِ على ما وَرَدَ النَّصُّ به.
• قوله: (بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي العِبَادَاتِ).
والعِبَادَاتُ هَاهنا لا يُقْصَد بها أمر التَّوحيد الَّذي هو رُكْنُ الدِّين وأصلُهُ، وإنَّما يُقْصَد بها العبادات العمليَّة التي يُؤدِّيها المسلم كالصَّلاة والزَّكاة والصِّيام والحج.
فَالصَّلاةُ عبادةٌ، والوُضُوءُ إنَّما هو مقدِّمةٌ من مُقدِّماتها، ولذَا فَالعُلَماءُ يُجْمِعُون على أنَّه عبادةٌ؟ لكَوْنه من مقدِّمات إحْدَى العبَادَات علَى خِلَافٍ فيما إذَا كان الوُضُوِءُ عبادةً محضةً أَمْ غير مَحْضةٍ
(2)
، وعَلَى خِلَافٍ كَذَلكَ في النيَّة فيما إذا كَانت شرطًا من شُرُوط صحَّة الوُضُوء أم لا
(3)
.
أمَّا ما ذَكَره المؤلِّف من الاتفاق على اشْتِرَاطِ النية في العبادات، فَهَذا الكلام ليس على إطلاقه، وإنَّما فيه تفصيلٌ.
(1)
أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وقال: حسنٌ صحيحٌ
…
وابن ماجه (42)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(2455).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 160) حيث قال: "وأما الوضوء فطهارة مخصوصةٌ شرطت لاستباحة الصلاة، وليس بعبادةٍ محضةٍ، لكنه يصير عبادةً بالنية". مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 167) حيث قال: "ولأنَّ الوضوءَ عبادةٌ محضةٌ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (1/ 55) حيث قال: "النيَّة: وهي شَرطٌ لطهارة الأحدث كلها، الغسل، والوضوء، والتيمم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى"، متفق عليه، ولأنها عبادة محضة، فلم تصحَّ من غير نِيَّةٍ، كالصلاة".
(3)
سبق التنبيه على هذه المسألة.
وهاهنا تجدُرُ الإشارة إلى أن مسألة النية مسألة خطيرةٌ، ولا جدالَ في أهميتها وعِظَمِها، ومن دلائل خطورتها أنها تنبني عليها مسائلُ مهمةٌ عِدَّةٌ، منها على سبيل المثال:
* لَوْ أن إنسانًا توضأ الوضوءَ المعروفَ دون أن يَنْوِيَ به أيَّ شيءٍ، لا الطهارة الشرعيَّة، ولا التبَرُّد، ولا غيرهما، فالعلماء
(1)
على أنَ هذَا الوضوءَ المطلَقَ لا يرفع حَدَثه؛ لأنه افتَقَرَ إلى نية رَفْعِ الحدث.
* ولَوْ أنَّ إنسانًا نوَى تجديدَ الوُضُوء، فتوضَّأ الوضوءَ المعروفَ، ثمَّ تَبيَّن بعد ذلك أنه مُحدِثٌ، فبَعْضُ العلماء
(2)
قال بعَدَم كفاية هذا الوضوء،
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 107) حيث قال: " (قوله: وصرَّحوا بأنه بدونها)، أَيْ: الوضوء بدون النية ليس عبادةً، وذلك كأن دخل الماء مدفوعًا أو مختارًا لقصد التبَرُّد، أو لمجرد إزالة الوسخ كما في "الفتح".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 235): "ص (وإن مع تبرد)، ش: يعني أن النية المذكورة إذا صَحبَها قصد التبرد، فإنها صحيحةٌ، ولا يضرُّها ما صحبها، وبذلك صدر في "الذخيرة" ناقلًا له عن المازري وهو مفهوم قَوْله في "المدونة": ومَنْ توضأ لحرٍّ يجده لا ينوي به غيره، لم تجزه لصلاة فريضةٍ، ولا نافلةٍ، ولا مس مصحفٍ. انتهى".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 170) حيث قال: "فإن فقد النية المعتجرة كأن نوَى التَّبرُّد أو نحوه، وقد غفل عنها، لم يصحَّ غسل ما غسله بنية التبَرُّد ونحوه، وللزمه إعادته دون استئناف الطهارة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (1/ 148) حيث قال: "ومنها: لو نوى طهارةً مطلقةً، أو وضوءًا مطلقًا عليه، لم يصحَّ على الصَّحيح".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" لابن عابدين (1/ 107) حيث قال: "بقي هنا شيء، وهو أنه إذا أراد تجديد الوضوء لا ينوي إزالة الحدث، ولا إباحة الصلاة، ويمكن دفعه بأن ينوي التجديد، فإنه مندوبٌ إليه، فيكون عبادة".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 239) حيث قال: "مَن اعتقد أنه علَى وضوءٍ، فتوضَّأ بنية التجديد، ثم تبيَّن أنه محدثٌ، فالمشهور أنه لا يجزئه؛ لكونه لم يقصد بوضوئه رفع الحدث، وإنما قصد به الفضيلة. وقيل: يُجْزئه؛ لأن نيَّته أن تكونَ على أكمل الحالات، وذلك مُسْتلزمٌ رفع الحدث". =
وإنما لا بد من أن يَنْوي بقلبه رَفْعَ الحَدَث، وبعضهمِ قَالَ بارتفاع حدثِهِ؛ لِتَحَقُّقِ الطهارةِ الشَّرعيةِ بصورَتها، وتَحَقُّقِ نية الطَّهارة كَذَلك.
* ولَوْ أنَّ إنسانًا تَطَهَّرَ من أجل القيام بِعَمَلٍ مشروعٍ، لكنه من الأعمَال الَّتي لا تُشتَرَط فيها الطهارة - كالوضوء قبل النوَم مثلًا، أو الوضوء لقراءة القرآن، أو لِذِكْرِ الله سبحانه وتعالى، أو من أَجْل المُكْث في المسجد - فَهَذا قَد اختلف العلماء
(1)
في حقِّه فيما إذا كَانَ ما فَعَلَهُ يُعْتبر رافعًا للحدث بحيث يُمْكنه أن يُصَلِّيَ به أم لا.
* وَلَوْ أنَّ إنسانًا نوَى أن يَتَوَضَّأَ الوُضُوءَ المشروعَ لِيَرفَعَ الحدثَ، وَلِيَتبَرَّدَ في الوقت ذاتِهِ، فَالعُلَماءُ على أنَّ نِيَّةَ التَّبَرُّد لن تَضُرَّهُ في
=ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب للشربيني (1/ 170) حيث قال: "فإن فقد النية المعتبرة كَأَنْ نوَى التَّبرُّد أو نحوه، وقد غفلَ عَنْها، لَمْ يصحَّ غسل ما غسله بنية التَّبرُّد ونحوه، ويلزمه إعادته دون استئناف الطهارة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 24) حيث قال: "وإن غسل بعض أعضائه بنية الوضوء، وبعضها بنية التبَرُّد، ثم أعاد ما نوى به التبرد بنية الوضوء قبل طول الفصل، أجزأ".
(1)
لم أقف على مذهب الحنفية.
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (الم 342) حيث قال: "إن نوَى ما يستحبُّ له الطهارة مثل أن يتوضأ لدُخُول مَسْجِدٍ، أو لقراءهٍّ عن ظهرِ قلب، فَحَكى أبو الفرج أنه يصلي بوضوءِ قراءةِ القرآن. وقال ابن حبيب: لم يَخْتلف أصًحابنا أنه يُصلِّي بوضوء النوم. الباجي. ومثله يلزم في الوضوء لدخول المسجد .... وقال عبد الوهَّاب: يجوز شيءٌ من ذلك".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (1/ 318) حيث قال: "قال: (أو ما يندب له وضوء كقراءة .. فلا في الأصحِّ)؛ لأنه مباحٌ مع الحدث، فلا يتضمَّن قصده قصد رفع الحدث، فكان كزيارة الوالدين والصديق وعيادة المريض، وكلُّ ذَلكَ لا يصحُّ الوضوء بنيَّته. والثاني: يصحُّ؛ لأنَّ مقصودَه تحصيل المستحبِّ، وهو لا يَحْصل بدون رفع الحدث، فَكَانت نيَّته مُتضَمِّنةً له".
ومَذْهب الحنابلة: يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتِي (1/ 88) حيث قال: " (فَإِنْ نوَى) المتوضئ بوضوئِهِ (ما تُسَن له الطهارة كـ) إن نوَى الوضوء لـ (قراءة وذكر وأذان ونوم ورفع شك) في حَدَثٍ أصغرء
…
فإن الطهارةَ تجب له كالصلاة".
شَيْءٍ
(1)
؛ لأنَّ الغَرضَ قد تَحَقَّقَ هنا عندما نَوَى رَفْعَ الحَدَثِ.
* وكَذَلكَ لَوْ أنَّ إنسانًا عاجزًا عن الوُضُوء جَاء إنسان آخَرُ لِيُوَضِّئَهُ، فالعُلَماءُ علَى أن النيَّة هاهنا تُطلَب من المُوَضَّإ لا من المُوَضِّئِ
(2)
، لأنه هو المُخاطَب في قَوْل الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ، ولأنَّ المُوَضَّأَ هو الَّذي سيُؤدَي عبادة الصَّلاة بهذا الوُضُوء.
* ولَوْ أنَّ إنسانًا نوَى الطهارَة، ثمَّ نَوَى قَطْعَهَا، فَهَذا تبطل طهارتُهُ عند أَهْل العِلْمِ
(3)
.
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 235) حيث قال: "يعني أن النيَّة المذكورة (أي: نية رفع الحدث) إذا صحبها قصد التبَرد، فإنها صحيحة، ولا يضرُّها ما صحبها".
وِمذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (1/ 316) حيث قال: "قال: (ومَنْ نوَى تبردًا مع نيةٍ معتبرةٍ، جاز على الصحيح)؛ لأن التبَرد حاصلٌ وإن لم ينوه، وقصد العبادة لا تضره مشاركته لذلك".
ومذهب الحنابلة: "كشاف القناع عن متن الإقناع"(1/ 88) حيث قال: "قال: ومَنْ نَوَى مع) رفع (الحدث) إزالة (النجاسة أو التبرد أو التنظيف أو التعليم)، فإنه لا يُؤثِّر في النية".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 129) حيث قال: "والمعتبر نية المتوضئ دون مَنْ يُوضِّئه".
ومَذْهب الحنابلة: يُنظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (1/ 166) حيث قال: "لو وَضَّأه غيره بإذنِهِ، ونواه المتوضئ فقط
…
صحَّ على الصحيح".
(3)
مذهب المالكية: "مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (1/ 240) حيث قال: "أمَّا إذا رفض النية في أثنائِهِ، ثم لم يكمله، أو كمله بنية التَّبرُّد أو التنظف أو نية رفع الحدث بعد طولٍ، فلا إشكالَ في بطلانه، وأما إذا كمله بالقرب، فالذي جزم به عبد الحق في "نكته" أن ذلك لا يضر، ويظهر من كلام المصنف في "التوضيح" أنه المعتمد هنا".
مذهب الشافعية: يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 170) حيث قال: "ولو نوى قطع الوضوء، انقطعت النية، فيعيدها للباقي".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 86) حيث قال: " (ولا) يضر (إبطالها)، أَيْ: النيَّة بعد فراغِهِ؛ لأنه قد تم صحيحًا، ولم يوجد ما يفسده مما عدَّ مفسدًا (ولا) يضر (إبطال الطهارة بعد فراغه) منها لما تقدم".
* ولَوْ أنَّ إنسانًا بدَأ في الطهارة، ثمَّ قَطَعَهَا بعد أن غَسَلَ بعضَ أعضائِهِ، فَهذَا لا يؤثر في طهارتِهِ، بحيث يَبْقَى له ما فَعَلَهُ قَبْلَ قَطْعِ الطَّهارة، ثمَّ عليه أن يستأنفَ النِّيَّةَ مرةً أُخْرَى
(1)
.
وَلَوْ أنَّ إنسانًا شَكَّ في النيَّة بَعْد أن أتَمَّ طهارَتَهُ، فَهذَا يَبْقى على حُكْم طَهَارتِهِ
(2)
؛ لأنَّ القاعدةَ الفقهيةَ تَقُول: "اليقينُ لا يَزُول بالشَّكِّ"
(3)
، وهذا لا خلافَ فيه، فَمَنْ تَيَقَّنَ الطهارةَ - مثلًا - ثمَّ شَكَّ هل أَحْدَثَ أم لا، فهَذَا الأصلُ فيه أنَّ طهارتَهُ ثابتة بيَقِينٍ، وأنَّ حَدَثَهُ ثابت بالشَّكِّ، فيَبْقى على الأَصْل الَّذي معه (الطَّهارَة)، وَيرفَعُ الشَّكَّ، وأمَّا لَوْ كَانَ مُتَيَقِّنًا أنه مُحدِث، ثمَّ شَكَّ هل تَطَهَّرَ أم لَا، فحِينَئذٍ يَكُونُ على غير طَهَارةٍ
(4)
.
(1)
يُنظر: "المجموع" للنووي (1/ 320) حيث قال: "إذا نوى عند غسل الكف أو المضمضة أو الاستنشاق، وعزبت نيته قبل غسل شيءٍ من الوجه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجزئه، ويصح وضوؤه، قاله أبو حفص بن الوكيل.
والثاني: لا يجزئه، قاله أبو العباس ابن سريج.
والثالث: إن عزبت عند الكف لا يجزئه، وإن عزبت عند المضمضة أو الاستنشاق يجزئه".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 86) حيث قال: " (ولا) يضر (شكه فيها)، أَيْ: في النية بعد فراغ الطهارة، كَسَائر العبادات (أو) شكه (في الطهارة)، أي: في غسل عضوٍ أو مَسْحه (بعده)، أَيْ: بعد الفراغ من الطهارة (نصًّا) كشكِّه في وجود الحدث مع تيقن الطهارة".
(3)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 47).
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (1/ 54) حيث قال: "فرع: شك في الوضوء أو الحدث، وتيقن سبق أحدهما، بَنى على السابق إلا إنْ تأيَّد اللاحق".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (1/ 156) حيث قال: " (ومن تيقن طهرًا أو حدثًا وشكَّ)، أي: تردد باستواء أو رجحان (في ضده)، أطرأ عليه أم لا (عمل بيقينه) باعتبار الاستصحاب، فلا ينافي اجتماع الشك معه". ومَذْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 132) حيث قال: " (ومَنْ تيقَّن الطهارة، وشكَّ في الحدث)، وشك، (أو تيقن الحدث، وشكَّ في الطهارة، بنَى على اليقين)، وهو الطهارة في الأولى، والحدث في الثانية".
وهَذِهِ المسألةُ لم يُخَالِفْ فيها إلا المالكيَّةُ
(1)
في روايةٍ لهم؛ لأنَّ الشَّكَّ في الشَّرطِ - عندَهُم - يَمنَع تَحَقُّقَ المشروطِ
(2)
، والمُتَأمِّل في هذا الرأي يجده معارِضًا لقَوْل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي يُخيَّل إليه أنه يجد الشيءَ في الصلاة:"لَا يَنْصرف حتَّى يسمعَ صوتًا، أَوْ يَجد ريحًا"
(3)
.
• قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"
(4)
، الحَدِيث المَشْهُور، فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ، وَذَهَبَ فَرِيقٌ آخَرُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ).
أَمَّا اشترَاط النِّيَّة في الوُضُوء، فالعُلَمَاء فيه عَلَى قَوْلين:
الفَريق الأوَّل: يرَى أن النِّيَّة شرطٌ في الوضوء، وهم جماهير العلماء؛ كَمَالكٍ
(5)
والشافعي
(6)
، وأحمد
(7)
، والزُّهري، وأَبِي عُبَيدٍ، وأبي ثورٍ
(8)
،
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (1/ 437) حيث قال: "إن مالكًا قال: مَنْ أيقن بالوضوء، وشكَّ في الحدث، ابتدأ الوضوء
…
ولم يتابعه على هذا غيره، وخالفه ابن نافع وقال: لا وضوء عليه
…
وهو قول سائر الفقهاء".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (6/ 268) حيث قال: "والشكُّ في الشرط شك فى المشروط".
(3)
أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).
(4)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(5)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (1/ 331): " (ونية رفع الحدث) ابن عرفة: من فرائض الوضوء النية".
(6)
يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (1/ 312) حيث قال: "قال: (أحدها: نية رفع حدث)، أما وُجُوب النيَّة، فلقَوْله تَعالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، والوضوء عبادة، وقال صلى الله عليه وسلم: "الأعْمَالُ بالنيَّات".
(7)
يُنظر: "الإقناع" للججاوي (1/ 23) حيث قال: "والنيَّة شرطٌ لطهَارة الحدث".
(8)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَرِّ (1/ 264) حيث قال: "قال ربيعة والليث والشافعي =
وابن المنذر
(1)
، ونُقِلَ ذلك عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.
والفريق الآخر: يرَى أنَّها ليست شرطًا في الوضوء، وهُمْ: أبو حنيفة
(2)
، والثوري
(3)
.
استدلَالَات الجُمْهور:
القَائلُون بِاشْتِرَاطِ النيَّة في الوضوء - وهُمُ الفَريقُ الأوَّل - استدلُّوا على قَوْلهم هَذا بالكتَاب والسُّنَّة والقيَاس، أي أنَّهم استدلُّوا بالمَنْقول والمَعْقول.
أمَّا الكتَاب، فقَوْله تَعالَى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، فجُمْهورُ العلَماء على أنَّ الوضوءَ عبادةٌ تَفْتقر إلى نِيَّةٍ.
وفي قَوْله تَعالَى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، جَاءَت الحَالُ شرطًا في العبَادة؛ لِتُفِيدَ الآيةُ أنَّ العِبَادةَ الصَّحيحةَ يُشْترط فيها أَنْ تَكُونَ خَالصةً لله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الإخلاصَ هو عَملُ القَلْب، وَعَملُ القَلْب هو النيَّة، فالنيَّة - إذًا - شرطٌ في صحَّة الوضوء.
وأمَّا السُّنَّة، فَحَديث:"إنَّما الأعْمَال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى"، وهَذَا حديثٌ مُتَّفَقٌ عليه
(4)
، أَخرَجَه الأئمةُ السِّتَّةُ
(5)
، وأثنَى علَيه
= وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأبو عبيدة وداود والطبري: لا تجزئ الطهارة للصَّلاة والغسل من الجنابة، ولا التيمم إلا بنِيَّةٍ".
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 368) حيث قال: "ذكر إيجاب النيَّة في الطَّهَارات والاغتسال والوضوء والتيمم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأعمال بالنيَّة".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 17) حيث قال: "وأما النية، فلَيْسَتْ من الشرائط". وانظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 32).
(3)
أخْرَجه عبد الرزَّاق في "مصنفه"(1232)، قال سفيان:"إذا علمت الرجل التيمم، فلا يجزيك ذلك التيمم أن تُصلِّي به إلا إن نويتَ به أنك تيمم لنفسك، وإذا علَّمته الوضوء، أجزأك". وانظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 368).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، والنسائي (75)، وابن ماجه (4227).
أَكَابر العُلَماء، وبَيَّنوا أهميَّته، كالشَّافعيِّ وأحمد وأبي داود والتِّرمذي وابن مهدي وعلي بن المديني والدارقطني وغيرهم، بَلْ إن الإمام البخاري رحمه الله قد افتتح كتابه به.
وبَلَغ الأمر من الاهتمام بهذا الحديث إلى أن قال بعض العلماء: "إنه ثُلُث الإسلَام"
(1)
، وقَالَ آخَرُون:"إنَّه رُبُع الإسلَام"
(2)
، وقَالَ آخَرُون:"إنَّه أكثَر الأَحَاديث وأغنَاها فائدةً، وأَعظَمُها أثرًا".
وَمِنَ العُلَماء مَنْ قال: "إنَّ قَوَاعدَ الإسلام تَدُورُ على أحاديثَ ثَلَاثَةٍ
(3)
، حديث:"إنَّما الأعمال بالنيات"، وحديث:"مَنْ عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ"
(4)
، وحديث:"إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ، وإن الحرام بَيِّن"
(5)
.
ومنهم مَنْ قال: "إن هذا الحديثَ يدخل في ثلاثين بابًا من أبواب الفقه"
(6)
، بل نُقِلَ عن الإمام الشافعي رحمه الله أنَّه قال:"حديث النيَّة يَدْخل في سَبْعين بابًا من أبواب الفِقْهِ"
(7)
.
وَقَد استغرب بَعْضُ العلماء هذا القولَ من الإمام الشافعي، وعَدَّهُ من قَبِيلِ المُبَالَغة إلا أنَّ الإمامَ السُّيوطيَّ دَقَّقَ هذه المسألةَ في كتاب "الأَشْبَاه
(1)
يُنظر: "البدر المنير" لابن الملقن (1/ 661، 662) حيث قال: "قال الحافظ حمزة بن محمد الكناني: سمعت أهل العلم يقولون: هذه الثلاثة أحاديث هي الإسلام، وكل حديثٍ منها ثُلث الإسلام".
(2)
يُنظر: "البدر المنير" لابن الملقن (1/ 662)، حيث عزا القول لأبي داود والدارقطني.
(3)
أخرجه أبو الطاهر السِّلفي في "أحاديث منتخبة من أجزاء أبي منصور الخوجاني"(ص 89)، عَنْ أبي حامد أحمد بن سهل النيسابوري قال: سَمعْتُ أحمد بن حنبل رضي الله عنه يَقُولُ: "أصول الإسلام ثلاثة أحاديث: حديث: "إنَّمَا الأعمالُ بالنيات"، وحديث: "مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فَهُوَ ردّ"، وحديث: "الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرام بَيِّنٌ".
(4)
أخرجه مسلم (1718).
(5)
أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
(6)
يُنظر: "البدر المنير" لابن الملقن (1/ 663)، حيث عزاه لابن مهدي.
(7)
يُنظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (1/ 136).
والنَّظائر"
(1)
، وَوَصَلَ بها إلى دخول النيَّة في أكثر من سَبْعين بابًا من أبواب الفقه.
وبالرَّغم من وُجُود أحَاديث أُخرى أشَارت إلى النيَّة، كقَوْله عليه الصلاة والسلام:"لا هجرةَ بَعْد الفتح، وَلَكن جهاد ونيَّة"
(2)
.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "يُبْعث الناس على نيَّاتهم"
(3)
. وقوله: "إنَّك لن تُنْفق نفقةً تَبْتغي بها وَجْهَ الله إلا أُجِرْتَ عَلَيها حتَّى اللقمة تَضَعها في فِيِّ امرأتك"
(4)
، إلا أن هذه الأحاديث كلها إنما وَرَدَت في النيَّة على إطلاقها، أمَّا حديث:"إنما الأعمال بالنيات"، فهو حديثٌ خاصٌّ بالنية في الأعمال، ولذلك ركَّزَ العلماء عليه، وَجَعَلوه أصلًا، واستخرَجوا منه القاعدةَ الفقهيةَ العظيمةَ:"الأُمُورُ بمَقَاصدها"
(5)
، وجَعَلوها أوَّلَ القَوَاعد الفقهيَّة الأساسيَّة الخمسة التي تُرَدُّ إليها الفروع الفقهية، ف:
القاعدة الأولى: "الأمور بمقاصدها".
القاعدة الثانية: "اليقين لا يزول بالشك"
(6)
، وهذه القاعدة تنبني على أصولٍ كثيرةٍ، منها حديث:"لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أَوْ يجد ريحًا"
(7)
.
القاعدة الثالثة: "الضرر يُزَال"
(8)
، وأصلها قوله عليه الصلاة
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 9).
(2)
أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1353).
(3)
أخرجه البخاري (1295)، ومسلم (1628).
(4)
أخرجه ابن ماجه (4229)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع الصغير"(1/ 468).
(5)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 54) حيث قال: "القاعدة الخامسة: "الأمور بمقاصدها"، وأرشق وأحسن من هذه العبارة قول من أُوتِيَ جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". وانظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 23).
(6)
سبق تخريجه.
(7)
سبق تخريجه.
(8)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 41)، و"الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 72).
والسلام: "لا ضرر، ولا ضرار"
(1)
.
القاعدة الرابعة: "المَشقَّة تجلب التيسير"
(2)
، ودليلُها قَوْله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وقَوله صلى الله عليه وسلم: "يَسِّروا، ولا تُعَسروا"
(3)
.
والقاعدة الخامسة: "العَادَةُ مُحَكَّمَةٌ"
(4)
، وتَنْبني على ما وَرَدَ في الأثَر عَنْ عَبْد الله بن مسعودٍ في قولِهِ:"ما رَآه المُسْلمُون حسنًا فهو عند الله حسنٌ، ومَا رَآه المسلمون سَيِّئًا، فَهو عند الله سيئٌ"
(5)
.
والمَقْصود من تحكيم العادة أنها تكون مُحَكَّمَةً عندما تَطَّرِدُ وتَشْتهر بين الناس، ولا تَتعَارض مع نصٍّ من النُّصُوص، أما لو تَعَارضَتْ مَعَ آيَةٍ من كتاب الله، أو حَدِيثٍ من أحَاديث الرَّسُول عليه الصلاة والسلام فيما صحَّ عنه، فحِينَئذٍ لا يُنْظر إليها" سواء كانت عادةً، أو عُرفًا، أو مصلحةً مرسَلةً، أو استحسانًا.
قَوْله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمال بالنيات":
"إنما": أداة حصرٍ، أفادت حَصْرَ الأعمال فيما كان مصحوبًا بالنيَّة، ثمَّ جاء تأكيد ذَلكَ في قَوْله:"وَإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى"، أي: لا بدَّ من تعين المنويِّ.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2345)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(3/ 408).
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 49) حيث قال: "القاعدة الثالثة: "المشقَّة تجلب التيسير"، وإن شئت قلت: السَّادسة: المشقة تجلب التيسير، وإن شئتَ قلتَ: إذا ضَاق الأمر اتَّسع)]. ويُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 64).
(3)
أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734).
(4)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 79) حيث قال: "القاعدة السادسة: "العادةُ مُحكَّمةٌ"، وأصلها قوله عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن".
(5)
أخرجه أحمد (6/ 84)، وصحح إسناده الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الضعيفة"(533).
وجمهور العلماء
(1)
على أن قوله: "إنما الأعمال بالنيَّات"، لَيْسَ المَقْصُودُ به نَفْيَ صورة الأعمال، وَإنَّما يُقْصَد بها نَفْيُ صحَّتها إذا لم تَصْحَبْها النيَّة، فالأَعْمَالُ مُعتبَرة بالنيَّات، ولَا تَصحُّ إلَّا بِهَا، أمَّا صُورَة الأعمَال، فَهي مَوْجُودةٌ؛ سواء صَحِبَتْهَا النِّيَّة، أَوْ لَمْ تَصْحَبْهَا.
أمَّا الأَحْنَافُ، فَيُقَدِّرُونَهَا بكَمَال الأَعْمَال
(2)
، وَعَلَى هَذَا التَّقدير يَسْتندُونَ في قَوْلهم باستحباب النيَّة في الوُضُوء لا اشتراطها.
إذن: لماذا انفردَ الحَنفيَّة عَنْ غَيْرهم من الفُقَهاء في ذَهَابهم إلى عدَم اشتراط النيَّة؟
الجَوابُ: الحنفيَّة يَقُولون
(3)
: إنَّ صورةَ الفعل كَافيةٌ في الوُضُوء، فالمكلَّف إذا قَامَ فَتَوَضَّأَ، وأتَى بأَفْعَال الوُضُوء علَى وَجْهها، حِينَئذٍ يَكُون
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 418) حيث قال: " (وصحته مطلقًا بنية مبيتة، أو مع الفجر)، ش: يعني أن شرط صحة الصوم مطلقًا
…
أن يكون بنِيةٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنّما الأعْمَالُ بالنيَّات".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (1/ 195) حيث قال: "والأصل في وجوب النية الحديث المتفق عليه: "إنما الأعمال"، أي: إنما صحَّتها لإكمالها".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (51/ 1) حيث قال: "إنَّما الأعْمَالُ بالنيَّات"، أيْ: لا عمل جائز، ولا فاضل إلا بها".
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 26) حيث قال: "فالتقدير: حكم الأعمال بالنيَّات من إطلاق اسم السَّبب على المسبب، أو من حَذْف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والحُكْمُ نَوْعَان مختلفان:
أحدهما: أُخرويٌّ، وهو الثواب والإثم، وهو بناء على صدق العزيمة وعدمه.
والثاني: دنيويٌّ، وهو الجواز والفساد هو بناء على وجود الأركان والشرائط وعدمها".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال بن الهمام (1/ 32) حيث قال: "وأما الوجه فمنه أن الوضوءَ لا يقَع بلا نِيَّةٍ إلا بالفعل مع الغفلة والذهُول؛ إذ الفعل الاختياري لا بدَّ في تحقيقِهِ من القصد إليه، وهو إذا قصد الوضوء، أَوْ رفع الحدث، أو استباحة مَا لا يحلُّ إلا به، كان منويًّا".
قد أدَّى الوضوءَ الذي أمَره الله سبحانه وتعالى فيه، فالصُّورة عندهم كَافيةٌ في هذا الأدَاء دون الحاجة إلى النِّيَّة.
أمَّا الجُمْهورُ فيَقُولونَ
(1)
: الصورة بمُجرَّدها لا تكفى، ولَا يُسْتَغْنَى بها عن النيَّة؟ لوجود لَبْسٍ بين هذه العبادة وبين غَيْرها.
وأمَّا القياس: فهناك جُمْلةٌ من الأَقْيِسَةِ، منها على سَبيل المثال:
القياس الأول: قيَاس الوُضُوء على التيمُّم
(2)
، حَيْثُ قَالَ الجُمْهورُ: الوُضُوءُ طَهارةٌ تُستَبَاح بها الصَّلاةُ، فاشتُرطَت فيها النِّيةُ قياسًا على التيمُّم؛ لأن الحنفيَّة يتَّفقون مع جُمْهور العلماء بأن التيمُّم تُشترَط فيه النية.
وَيجيب الحنفيَّة عن هَذَا بأنَّهمْ يُعلِّلون مَذْهبَهم في التيمُّم بقَوْل الله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وأن التيمُّم معناه: القَصْد
(3)
، والقَصْد هو النيَّة، فكأنَّ النيَّة مَذْكورةٌ نَصًّا في التيمُّم، ثمَّ يَقُولون: إنَّ اِلِتيمُّمَ بدلٌ، والبدلُ أضعفُ من المُبدَل، فيحتاج إلى ما يُقَوِّيه، فلا بد من نِيَّةٍ.
أمَّا الجُمْهورُ، فيردُّون عَلَيهم بأنَّ هذا غير مُسلَّمٍ، لأنَّ الوُضُوءَ
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 232) حيث قال: "فإن الوضوء سببٌ في رفع الحدث، فإذا نوى رفع الحدث، ارتفع وصح الوضوء، ولما كانت حكمة مشروعيتها ما ذكر، كانت القرب التي لا لبسَ فيها لا تحتاج إلى نِيَّةٍ".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات" لأبي الوليد ابن رشد (1/ 75)، حيث قَالَ:"ومن طريق القياس على مَنْ فرَّق في ذلك بين الوضوء والتيمم أن الوضوءَ طهارةٌ تَتَعدَّى محل موجبها، فافتقرت إلى النيَّة كالتيمُّم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 169)، حيث قَالَ:"وجه الاكتفاء فيه بنِيَّةِ الاستباحة القياس على التيمم بجامع بقاء الحدث".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 90) حيث قَالَ: " (ويجب الإتيان بها)، أي: بالنيَّة (عند أَوَّلِ وَاجِبٍ) في الوضوء أو الغسل أو التيمم أو غيرها من العبَادَات".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال بن الهمام (1/ 135) حيث قال: "وَإنَّما المقصود أن لفظَ التيمُّم وهو الاسم الشرعي يُنْبئ عن القصد".
أنواعٌ، فقَدْ يَكُون الوُضُوءُ لصَلَاةٍ وَاجِبَةٍ، أو صلاةٍ غير واجبةٍ
(1)
.
القياس الثَّانِي: قياس الطَّهارة على الصَّلاة: حيث قال الجُمْهور: إذا كانت الصلاة تقوم على أركانٍ وشروطٍ، وتُشْتَرَط فيها النيَّة، فإنَّ الطَّهارةَ كَذَلك تقوم على أركانٍ وشروطٍ، ولذا فإنها تُشْتَرَط فيها النيَّة كالصَّلاة
(2)
.
استدلالات الحنفيَّة: وَقَد استدل الحنفيَّة أيضًا على مذهبهم بالكتاب والسُّنَّة والقياس.
أما الكتاب، فاستدلُّوا بأنَّ الله تَعالَى لم يَذكُر النيَّة بين فَرَائض الوُضُوء في قَوْله تَعالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، وقالوا: لو كانت النية شرطًا في صحة الوضوء لَذَكَرَهَا الله تعالى في الآية التي جمعَت فرائض الوضوء.
وقد ردَّ الجُمْهُورُ على استدلال الأحناف بهذه الآية، فَقَالوا: نَحْن لا نُسَلِّمُ لَكم هذا الاستدلالَ، لأنَّ الآيةَ بها ما يُشْعِرُ بِذِكْرِ النيَّة، فقَوْل اللهِ تَعالَى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} يَعْني: للصَّلاة، ومعنى "للصَّلاة"، أن هذا هو معنى النيَّة
(3)
.
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 121) حيث قال: "لو نوى صلاةً بعينها، ثم عزبت عنه نية الصلاة الَّتي قام لها بعينها، وثبتت نيته على أداء صلاة عليه في ذلك الوقت؛ إما صلاة في وقتها، وإما صلاة فائتة، لم تجز هذه الصلاة".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 116)، حيث قال:"ولأنها عبادةٌ منفردةٌ بها؛ كالصلاة والصوم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (1/ 315) حيث قال: "فيصح فيها الوضوء قياسًا على الصلاة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (1/ 191) حيث قال: "الخلاف مبنيٌّ على أن الطهارةَ لا تتبعَّض في النقض، وإن تبعَّضت في الثبوت، كالصلاة والصيام".
(3)
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 230) حيث قال: "واستدل أيضًا بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} لأنه وجه الاستدلال، وأن الله تعالى أَمرَ بالوضوء لأجل الصلاة، ولا معنى للنيَّة إلا فحل أمر لأجل فعل أمرٍ آخر". =
وأمَّا السُّنَّة: فَمَا وَرَدَ عن أُمِّ سَلَمة رضي الله عنها أنَّها قالت: قُلْتُ: يا رَسُولُ الله، إنِّي امرأةٌ أشدُّ ضفرَ رأسي، فأنقضُهُ لغسل الجنابة، فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لَا، إنما يَكْفِيكِ أن تحثي على رأسك ثَلَاث حثياتٍ، ثمَّ تفيضي عَلَيك المَاء فتطهري"
(1)
.
وَقَالُوا: إنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام لم يَذكُر النيَّة هاهنا بالرَّغم من أنَّ أُمَّ سلمة كانت بحَاجَةٍ للبيان؛ حيث إنها كانت تجهل ما يتعلق بنقض الضَّفائر، فَذَكَرَ لها كيفية الغُسْل، ولم يَذكُر النيَّة، ولو كانت النيَّة شرطًا لبيَّنَها لها
(2)
.
وقد ردَّ الجمهور على الاستدلال بهذا الحديث، فقالوا
(3)
: إنَّ أُمَّ سلمة لم تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن نقض ضفائر رأسها، ولذلك أجابها
= ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي" للماوردي (1/ 88) حيث قال: "وقَالَ تَعالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، ومنها دَليلَان:
أحدهما: أنَّ قولَه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، يَعْني: للصَّلاة، فحذف ذكرها اكتفاءً بما تقدَّم منه كما يُقَال: إذا رأيت الأمير فقُمْ، يعني: للأمير، وإذا رأيت الأسد فتأهب، يعني: للأسد، ومثله قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، يعني: للسرقة.
والثاني: أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} ، يعني: قبل قيامكم، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكم لإرَادة الصلاة".
ومَذْهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 83) حيث قال: "والآية حجةٌ لنا؛ فإن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، أي: للصلاة".
(1)
أخرجه مسلم (335).
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (1/ 313)، حيث قال:"واحتجَّ لهؤلاء بقَوْل الله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية، وبقوله صلى الله عليه وسلم لأُمِّ سلَمَة رضي الله عنها: "إنَّما يَكْفيك أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثياتٍ من مَاءٍ، ثمَّ تفيضي علَيك الماء، فإذا أنتِ قد طهرت"، وبأحاديثَ كَثِيرَةٍ في الأمر بالغسل من غير ذِكْرٍ للنيَّة، ولو وجبت لذكرت".
(3)
يُنظر: "المجموع" للنووي (1/ 315)، حَيْثُ قَالَ:"الثالث عن حديث أُمِّ سلَمة أنَّ السؤال عن نقض الضفائر فقط هل هو واجبٌ أم لا، وليس فيه تعرضٌ للنية".
الرسولُ صلى الله عليه وسلم بأنَّ الأمرَ لا يحتاج إلى ذَلكَ، وإنَّما يكفيها أن تحثي الماء على رأسها ثلاث مرات، ثمَّ تفيض الماء على سائر بدنها، وهناك أمورٌ أُخرى معروفةٌ في الغسل لم يَشْمَلها هذا الحديث، فَعَدَمُ ذِكْرِ النيَّة في إجابة النبي عليه الصلاة والسلام لا يعني عَدَم اشتراطها.
وأما القيَاس، فمن ذلك:
القياس الأول: قياس الوضوء على إزالة النجاسة: حيث قالوا: إنَّ الوضوء طهارةٌ بمائعٍ كإزالة النجاسة، وإزالَةُ النجاسة لا تُشتَرَط فيها النيَّة، ولهذا لم تُشتَرَط النيَّة في الوضوء
(1)
.
القياس الثاني: قياس الذميَّة التي تحت مسلم
(2)
: أن الذمية إذا حاضت ثمَّ انقطع حيضها، كان عليها - على مذهب الجمهور - أَنْ تنوي الطهارة، وتَغْتسل من هذا الحيض، ثمَّ يَجُوز لزوجها المسلم حِينَئذٍ أن يطأَهَا، بالرُّغم من أن النيَّة في الأصل لا تَصحُّ من غير المُسْلم.
ردُّ الجمهور على القياس الأول
(3)
: أن هناك فرقًا بين الأمرين،
(1)
يُنظر: "المبسوط " للسرخسي (1/ 72) حيث قال: "ولأنَّها طهارة بالماء، فكانت كغسل النجاسة، وتأثير ما قلنا: إنَّ الماءَ مطهرٌ في نفسه، والحدث الحكمي دون النجاسة العينيَّة، فإذا عمل الماء في إزالة النجاسة العينية بدون النية، ففي إزَالَة الحدث الحكمي أَوْلَى ".
(2)
يُنظر: " الحاوي " للماوردي (1/ 88)، حَيْثُ قال:" قالوا: ولأن النيَّة لو كانت من شروط صحة الطهارة، لمَا صحَّ غسل الذميَّة من الحيض، ولما استباح الزوج المسلم وَطْأَها، وفي إجْمَاعهم على صحَّة غَسْلها، وجواز وطئها، دليلٌ على أن النية ليست شرطًا في صحة طهارتها ".
يُنظر: " كشاف القناع " للبهوتي (5/ 190) حيث قال: " (ولَا تَجب النيَّة) في غسل الذميَّة للعذر، (ولا) تجب أيضًا (التسمية في غسل ذمية) كالنية، هَذَا أحد الوجهين، وصوبه في " الإنصاف " و" تصحيح الفروع ".
(3)
يُنظر: " الحاوي " للماوردي (1/ 90) حيث قال: " وأمَّا الجواب عن قياسهم على إزالة النجاسة، فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ قوله: طهارة بالماء، لا تأثيرَ له في الأصل
…
وإذا لم يكن له تأثير في الأصل، سقط اعتباره، وانتقضت النية بالتيمم.=
فالوضوءُ فِعلٌ، وإزالةُ النَّجاسة تَرْكٌ، فنحن مأمورون بالوضوء كَمَا في قول الله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، أمَّا إزالة النجاسة فمن المتفَق عليه بين الأحناف والجمهور أن النَّوَاهي لا تُشترَط فيها النيَّة، ولذلك ضَعَّفُوا الاستدلالَ بهذا القياس.
رَدُّ الجمهور على القيَاس الثاني
(1)
: أن إباحَةَ وطء المسلم لامرأتِهِ الذميَّة بعد مطالبتها بالنيَّة وبالاغتسال إنَّما هو من قَبِيلِ الضرورة؛ لأنَّ " الضرورات تبيح المحظورات "
(2)
، فلو لم نُبِحْ له ذلك، لَتَعَذَّرَ عليه وَطؤُها، والله سبحانه وتعالى أبَاح للمسلم أن يطأَ الذميَّة، فهَذِهِ حَالَة ضَرُورةٍ بدليل أن هذه الذميَّة لو أسلَمَت بعد ذلك، فإنها لا يجوز لها أن تصلي بهذه الطهارة.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ الوُضُوءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً مَحْضَةً، أَعْنِي: غَيْرَ مَعْقُولَةِ المَعْنَى).
وَالعبَادَة المَحْضة هي العبادة التَّوقيفيَّة غير المعلَّلة، فهي تَوْقيفيَّةٌ غير
= والثاني: أنَّا نقلبه عليهم، فنَقُول: فَوَجب أن يستوي الطهارة بالمائع والجامد في اعتبار النية قياسًا على إزالة الأنجاس.
وَالثَّالث: أنَّ إزالَةَ الأنجاس طريقها التَّرْك، والتُّرُوكُ لا تَفْتقر إلى نِيَّةٍ ".
(1)
يُنظر: " الحاوي " للماوردي (1/ 90)، حيث قال: " وأما الجَوابُ عن استدلالهم بطهارة الذميَّة، فَهو أنَّ طهارَتها غير مجزئة
…
وإنما أَجَزْنَا غسلها في حق الزوج
…
وفي منعِهِ من وَطْئها إلا بعد إسلامها تفويت لحقِّه، ومنع من تزويج أهل الذمَّة، فَصَارتْ كالمجنونة الَّتي يستبيح زوجها وَطْأها إذا اغتسلت
…
كَذَلك الذمية يجوز وَطْؤها إذا اغتسلت من حَيْضها بغير نِيَّةٍ ".
ويُنظر: " المجموع " للنووي (1/ 315)، حيث قال:" وأمَّا الجواب عن طهارة الذميَّة، فَهو أنها لا تصحُّ طهارتها في حقِّ الله تعالى، وليسَ لها أن تصلي بتلك الطَّهارة إذا أسلمت .. هذا نصُّ الشافعيِّ رحمه الله، وهو المذهب الصحيح ".
(2)
يُنظر: " الأشباه والنظائر " لابن نجيم (ص 73) حيث قال: " الضرورات تبيح المحظورات، ومن ثَمَّ جاز أَكْلُ الميتة عند المخمصة، وإساغة اللُّقمة بالخمر، والتلفُّظ بكلمة الكفر للإكراه، وكذا إتلاف المال، وأَخْذ مال الممتنع الأداء من الدَّيْن بغير إذنه، ودفع الصائل، ولو أدَّى إلى قتله ". وانظر: " الأشباه والنظائر " للسبكي (1/ 45).
مَعْقولة المَعْنى؛ لأنها لا مَجالَ للرَّأي فيها، ولا للبَحْث عن تَعْليلاتها.
والأعمال الَّتي وَرَدت بها الشريعة الإسلامية نوعان:
* مباحةٌ
(1)
.
* وَمَطْلوبةٌ.
أوَّلًا: الأعْمَالُ المُبَاحة: والأصلُ في هذا النَّوع من الأعمال أنه لا تُشْترَط فيه النية؛ لأن المباحات ليس فيها قُرْبة إلى الله إلا أن فاعلَها سيُثَاب إذا نوى بها التعبُّد، كأن يفعلَها قاصدًا بها وجه الله، أو التَّأسِّي فيها بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كمَنْ قصد بنكاحه - مثلًا - غض بصره، وتحصين فرجِهِ؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" يا معشرَ الشَّباب، مَن استطاعَ منكم الباءةَ، فليَتزوَّجْ، فإنَّه أغضُّ للبَصَر، وأحْصَن للفَرْج"
(2)
، أو قصد به تكثير الأُمَّة؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" تزوَّجوا الودودَ الولودَ، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة"
(3)
، فهاهنا لا شكَّ أنه سيُثَاب؛ لأن نيَّته نقلت الفعلَ من دائرة المباح إلى دائرة التعبُّد بسبب تحقُّق النية في الفعل.
ثانيًا: الأعمال المطلوبة: وهذه إما أن تكون نواهِيَ، وإما أن تكون أوامرَ.
أمَّا النَّواهي: كالكَذِب والسَّرقَةِ والغَصب والزِّنا وشُرْب الخمر، إنما يكفي المكلَّف مجرَّد الابتعَاد عنها، ولا تُشتَرَط فيها النيَّة، والنَّفقَات على الأقَارب، وعلَى الزَّوجات، وأدَاء الأمانات إلى أهلها، وَرَد الأموال المغصوبة، كل هذه أمور لا تحتاج إلى نِيَّةٍ؛ لأن المقصودَ منها هو الخروج من عهدة هذا الأمر بأدائها إلى أصحابها، فالنَّوَاهي في جملتها لا يفتقر تَرْكها إلى نِيَّةٍ إلا أن يَتْركها الإنسان بنِيَّةِ طَاعَة الله، وابتغاء مرضاتِهِ،
(1)
" المباح ": ما أَذِنَ الله في فعلِهِ وتركِهِ، غير مقترن بذم فاعلِهِ وتاركِهِ، ولا مدحه. يُنظر:" روضة الناظر " لابن قدامة (1/ 128).
(2)
أخرجه البخاري (5065)، ومسلم (1400).
(3)
أخرجه أبو داود (2050)، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في " إرواء الغليل "(1784).
فحِينَئذٍ تُخْرِجه نيَّته إلى دائرة التعبُّد لله بِتَرْكِ ما نَهَى عنه، ومثل هذا نجدُهُ في قصَّة الثلاثة الذين انطبَقَت عليهم الصَّخْرةُ
(1)
، فأغلَقَتْ مَدْخَلَ الغَارِ، فهؤلاء تَوسَّلُوا إلى الله سبحانه وتعالى بصَالح أعْمَالهم، وَكَانَ مِنْ بينهم مَنْ تَوسَّلَ إلى الله سبحانه وتعالى بأنه هَمَّ أن يرتكب معصيةً من المعاصي، وأوشك أن يقع فيها، فخُوِّفَ باللهِ فَخَافَ، وذُكِّرَ به فَتَذَكَّر، فلما كَفَّ عن معصيتِهِ قاصدًا بذلك وجه الله، مبتغيًا مرضاته، أثَابَه الله على ذلك العَمل كأَخَويه، وانفَتَحَتْ عنهم الصَّخرة.
الأوَامر: وهذه على ضربين:
* عبادات لا تَلْتبس بغيرها: وهي إما أقوالٌ، وإما أعمالٌ، وبعض العلماء لا يفرق بين الأقوال والأعمال، وبعضهم يفرق بينها.
وهذه الأوامر منها ما يتعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، ومنها ما يتعلق بالذِّكر والدعاء وقراءة القرآن.
والعلماء يقولون
(2)
: هذه أمور لا تحتاج إلى نِيَّةٍ؛ لأن الأصلَ فيها
(1)
أخرجه البخاري (2272)، ومسلم (100)، ولفظه: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سَمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " انطلق ثلاثة رهط ممَّن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غارٍ، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل، فَسدَّتْ علَيهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنْجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللَّهمَّ كان لي أبوان شَيْخان كبيران، وكُنْتُ لا أغبق قبلهما أهلًا، ولا مالًا، فنأى بي في طلب شيءٍ يومًا، فلَمْ أرح عليهما حتى نامَا، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتُهُما نائمين، وكرهت أن أغبقَ قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقَدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتَّى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وَجْهك، ففرِّج عنَّا ما نحن فيه من هذه الصَّخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج
…
".
(2)
يُنظر: " الأشباه والنظائر " لابن نجيم (ص 25) حيث قال: "
…
أنَّ ما لا يكون عبادةً أو ما لا يلتبس بغيره لا تشترط فيه (أي: النية)؛ كالإيمان بالله تعالى كما قدَّمناه، والمعرفة والخوف والرجاء والنية وقراءة القرآن ".
ويُنظر: " مواهب الجليل " للحطاب (1/ 232)، حيث قال: " القرب التي لا لبسَ فيها لا تحتاج إلى نِيَّةٍ؛ كالإيمان بالله، وتعظيمه وجلاله، والخوف من عذابه، والرجاء =
أنها خالصةٌ لله سبحانه وتعالى، ولا تَلْتبس بغيرها من الأعمال، أمَّا مَنْ نَذَرَ - مثلًا - أن يقرأ القرآنَ، فإنَّه حِينَئذٍ لا بد أن ينوي؛ وذلك حتى يفرقَ بين القراءة الواجبة بالنَّذر والقراءة غير الواجبة، فهاهنا تتعيَّن النية.
* عبادات قَدْ تَلْتبس بغيرها: فَتَأْتِي النيَّة لتُحدِّد الغرض الَّذي قَامَ الفعل لأجلِهِ، والعلماء على أنَّ هناك سببين لمشروعيَّة النية:
السَّبب الأول: تَمْييز العبادات عن العَادات
(1)
.
فَمِنَ العبادَات ما يَلْتبس بغير العبادة صورةً وشكلًا، كالوُضُوء مثلًا، والأصلُ في الوضوء والطهارة أنه عبادةٌ، لَكن الإنسان قد يتوضَّأ بقَصْد التبرُّد أو النَّظافة، وكذلك الصَّوم، فقَدْ يصوم الإنسان تَعَبُّدًا، وقَدْ يصوم حميةً، وقَدْ يَدْفع الإنسانُ لإنسانٍ آخَرَ مبلغًا من المال بنِيَّةِ الصَّدقة الواجبَة الَّتي هي الزَّكاة، امتثالًا لقَوْل الله تَعالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وقَوْله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، وقَدْ يَدْفعها إليه تَطَوُّعًا كَمَا في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام:" والصَّدقة برهان"
(2)
، وقَدْ يدفعها هبةً أو قرضًا، وقد يقصد به غرضًا دُنْيَوِيًّا مذمومًا، وَفِي كلِّ هذه الحالات قَدْ تَلتبس العبادة بغيرها، فالنيَّة هاهنا هي الموكَّلة بتحديد الغرض من هذا العمل فيما إذا كان المكلَّف قام به على سبيل العادة أم العبادة.
= لثوابه، والتوكُّل عليه، والمحبة لجماله، وكالتسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن، وَسَائر الأذكار، فإنها متميزة لجنابه سبحانه وتعالى ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:" الأشباه والنظائر " لابن نجيم (ص 25) حيث قال: " المقصود منها تمييز العبادات من العادات ".
مذهب المالكية، يُنظر:" مواهب الجليل " للحطاب (1/ 232) حيث قال: " في حِكْمَةِ مشروعيَّتها، وَحكمَة ذلك - وَاللهُ تَعالَى أَعْلَم - تمييز العبادات عن العادات ليتميَّز ما هو لله تعالى عمَّا ليس له ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" مغني المحتاج " للخطيب الشربيني (1/ 341)، حَيْثُ قَالَ:" لأنَّ المقصودَ منها شيئان: تمييز العبادات عن العادات ".
(2)
سبق تخريجه.
السَّبب الثَّانِي: تَمْييز العبَادَات بعضها عن بَعْضٍ من حَيث رُتْبة كل عِبَادةٍ
(1)
.
فالعبَادَاتُ ليست على رتبةٍ واحدةٍ، فالصلاة - مثلًا - قد تكون واجبةً كالصَّلوات المفروضة؛ سواء أَدَّاهَا المكلَّف في وقتها، أو أَدَّاهَا قضاءً، وقَدْ تكون غير وَاجِبَةٍ، كالسُّنن بأنواعها مؤكَّدة وغير مؤكَّدة، فَهَذا الالتباس الَّذي قَدْ يَحدث بين هذه العبادات مختلفة الرُّتبة، إنما النية هي التي تَفصِلُ فيه، وتقوم بتمييزه، فَتَرفَع كلَّ إِشْكَالٍ، وتُحَقِّق الغرضَ والهدفَ من هذه العبادة.
قوله: (وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا القُرْبَةُ فَقَطْ؛ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا).
وَ" القُرْبَةُ ": هي الطَّاعة والتقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى بإيجاد فِعْلٍ أو تَرْكٍ.
قوله: (وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً مَعْقُولَةَ المَعْنَى كَغَسْلِ النَّجَاسَةِ).
فَغَسْلُ النَّجاسة عبادةٌ يُدْرِكُ المكلَّف عِلَّتَهَا، ويعلم أنَّه مطالبٌ بالتطهُّر منها إذَا أصَابَت بدنه أو ثوبه أو موضع صلاته، ويُفْهم هذا من أدلَّتها، كحديث عائشة رضي الله عنها: إنَّ إحدَانا يصيب ثوبَها دَمُ الحيض، كَيْف تَصنع؟ قال عليه الصلاة والسلام:" تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرصُهُ بِالمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ "
(2)
، وكذلك قصَّة الأعرابي الذي بَالَ في المَسْجد
(3)
، وَغَيْر ذَلكَ.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:" مواهب الجليل " للحطاب (1/ 232) حيث قال: " وحكمة ذلك والله تعالى أعلم
…
أو تتميز مراتب العبادات في أنفسها لتمييز مكافأة العبد على فعله، ويظهر قدر تعظيمه لربه ".
ويُنظر: " مغني المحتاج " للخطيب الشربيني (1/ 341)، حيث قال: " لأن المقصود منها شيئان
…
وتمييز رتب العبادات ".
(2)
أخرجه البخاري (220)، ومسلم (284).
(3)
أخرجه البخاري (227)، ومسلم (291)، ولفظه: قال أنس بن مالك: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ. قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لا تُزْرموه، دَعُوه "، فَتَركوه حتى بال، ثمَّ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعَاه، فَقَالَ لَه:" إنَّ هذِهِ المساجدَ لا تصلح لشيءٍ من هذا البول، ولا القَذَر، إنَّما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن ".
قوله: (فَإِنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ العِبَادَةَ المَحْضَةَ مُفْتَقِرَة إِلَى النِّيَّةِ).
نَعَمْ، هُمْ لا يَخْتلفون في افتقَار العبَادة المَحضة إلى نِيَّةٍ، وَلَكن الخلاف بَيْنهم إنَّما هو فيما لا يحتاج إلى نِيَّةٍ، وهو مَا لا يَلْتبس بغيره من العبَادات، أما كُلُّ عِبَادةٍ تلتبس بغيرها، فَالنيَّة مطلوبةٌ فيها.
قوله: (وَالعِبَادَةَ المَفْهُومَةَ المَعْنَى غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إِلَى النِّيَّةِ، وَالوُضُوءُ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ العِبَادَتَيْنِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الخِلَافُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجْمَعُ عِبَادَةً وَنَظَافَةً، وَالفِقْهُ أَنْ يُنْظَرَ بِأَيِّهِمَا هُوَ أَقْوَى شَبَهًا، فَيُلْحَقَ بِهِ).
بمَعْنى؛ أنَّ الفقيهَ في هذا المقَام لا بدَّ أن ينظرَ في المسألة، فَإذَا ترجَّح عنده أنَّ الوضوءَ أكثر شَبَهًا بالعبادة المحضة غير مَعْقولة المعنى، فَحِينَئذٍ تَكُون النيَّة شرطًا فيه كَمَا هُوَ الحَال عند جُمْهور العلمَاء، وإذا كان أكثر شَبَهًا بالعبادة مَفْهومة المَعْنى، فَحينها لا تَكُونُ النيَّة شرطًا في صحتِهِ كمَا هُوَ عند الأحناف.
وَالبَاحثُ عندما يَتأمَّل المسألةَ وأدلَّتها بنظرةٍ فاحصةٍ دقيقةٍ، فلا شَكَّ أنَّه سَيَجد مَذْهبَ جمهور العلماء أقوى دليلًا، وأصْرَح دلالةً في هذه المسألة، فالآيةُ صريحة في اشتراط النيَّة:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وحديث:" إنَّما الأعمال بالنيَّات "
(1)
، إنَّما هو صريح الدلالة في هَذَا.
المَنْوِيُّ وأقْسَامه:
و" المَنْوِيُّ ": هُوَ العَمَل الَّذي يَنوِيهِ المكلَّفُ، وهُوَ يَنْقسم إلى قِسْمَيْن:
القسم الأوَّل: أمرٌ مَقْصودٌ لنفسِهِ، كالصَّلاة مثلًا، وهَذَا النَّوعُ لَا خلافَ بين العُلَماء في أنَّ النيةَ شرطٌ من شروطِهِ.
(1)
سبق تخريجه.
القسم الثاني: أمرٌ مقصودٌ لغَيره، وهُوَ على نَوْعين:
النوع الأول: ما يُقْصد لغيره فقط، بمعنى أنه يكون وسيلةً محضةً، ولا يُقْصَد لذاتِهِ أبدًا.
النوع الثاني: ما يُقْصَد لغَيره، وهُوَ في نفس الوقت مَقْصودٌ بنفسِهِ، كالوُضُوء الَّذي هو وَسيلةٌ إلى الصَّلاة، وشرطٌ من شُرُوط صحَّتها بدَلِيل قَوْل الله تَعَالَى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقَوْل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:" لا تُقْبَل صلَاةٌ بغير طهورٍ "
(1)
.
والوُضُوءُ لا شكَّ أنه مُقَدِّمةٌ لعبادة الصَّلاة، وَوَسيلةٌ إليها، هَذَا ممَّا لا خلافَ فيه، لَكن الخلَاف القَائم فيه بين الحنفيَّة والجُمْهور يتمثَّل فيما إذا كان الوُضُوءُ مجرَّد وسيلةٍ محضةٍ مقصودةٍ لغيرها (أي: للصلاة)، أم أنها عبادةٌ مقصودةٌ لذاتها كذلك.
قول الأحناف: إن الوضوءَ مقصود لغيره لا لنفسه
(2)
، فهو عبادةٌ غير محضةٍ، ووسيلةٌ إلى الصَّلاة لَا تُشْترَط فيها النِّيَّةُ، بخلاف الصَّلاة الَّتي لا بدَّ فيها من الإتيان بالنية؛ لأنها عبادةٌ مَقْصودةٌ بنفسها.
قَوْل الجُمْهور: إنَّ الوضوءَ مقصود لغيره، وَوَسيلة إلى الصلاة - كما قال الأحناف - لكنه مَقْصودٌ بنفسِهِ، كذلك لأنَّه عبادةٌ
(3)
؛ ولأن الرَّسُولَ -
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: " الدر المختار " لعلاء الدين الحصكفي (ص 284) حيث قال: " وهو عبادةٌ مقصودةٌ "، خرج الوضوء وتكفين الميت ". وانظر:" المبسوط " للسرخسي (1/ 72).
(3)
يُنظر: " مغني المحتاج " للخطيب الشربيني (1/ 170)، حَيْثُ قال:" وَمِنْ أَصْحَابنا مَنْ قال: لا ثوابَ له بِحَالٍ؛ لأنه يُرَاد لغَيره بخلاف الصلاة. اهـ ".
" مواهب الجليل " للحطاب (1/ 233)، حيث قال:" والثاني مقصود لغيره، وهو قسمان، أحدهما: مع كونه مقصودًا لغيره، فهو أيضًا مقصود لنفسه كالوضوء، فإنه نظافةٌ مشتملةٌ على المصلحة، وهو مطلوبٌ للصلاة، مكملٌ لحسن هيئاتها ".
علَيه الصَّلاة والسَّلام - قال: " الطهور شَطر الإيمان "
(1)
، وشَطر الإيمان، أَيْ: نصف الإيمان.
وهُنَاك كَلَامٌ كثيرٌ للعُلَماء حَول هذا الحديث فيما إذا كَانَ مُرَاده الإيمان الَّذي يَتحَتَّم أن يَقَرَّ في قَلْب الإنسان، وأن يُعْلِنَهُ بلسانِهِ، ويُصَدِّقَه بِعَمَلِ جَوارِحِهِ، أم أنَّ المرادَ بالإيمانَ أمرٌ آخرُ.
فقال بعضهم
(2)
: إنَّ الوضوءَ شطرُ الإيمان؛ لأنَّ الإيمانَ يَجُبُّ الكبائرَ، والوُضُوء يَرفَع الصَّغائرَ كَمَا جَاء في الأحَاديث.
وبَعْضُ العُلَمَاءِ
(3)
اعْتَرض علَى هَذَا القَوْل بأَنَّ الشَّطرَ لَا يلزم منه أن يكون نصفًا، بَل المُرَاد بالشَّطر هاهنا إنَّما هو الجزء.
وقَدْ أُجِيبَ عَنْ هذا الاعتراض بأنَّ هناكَ أحاديثَ أُخرى وَرَدَ فيها: " الوُضُوءُ نصفُ الإيمَان "
(4)
، فَفي هَذَا زَوَالٌ للإشكال.
وَاجْتَهَد بَعْضُهُمْ، فَقَالَ
(5)
: إنَّ المرادَ بالإيمَان هنا إنَّما هو الصَّلاة؛ لقَوْل الله تَعَالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أَيْ: تَوَجُّهكم إلى بيت المَقْدِسِ.
فخُلَاصةُ القول: إنَّ هذا الحديث وإنْ كانت تدور حوله نقاشاتٌ إلا أنه يَبْقى في نهاية الأمر حديثًا صحيحًا ثابتًا.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: " المعلم بفوائد مسلم " للمازري (1/ 347)، حيث قال: " والوجه الثاني: أن يكونَ معنى شطر الإِيمان: أن الإِيمانَ يَجُبُّ ما قبله من الآثام
…
ولما كان الإِيمان يمحو الآثام المتقدمة عليه بانفراده، صَار الطهور في التشبيه كأنه على الشطر منه ".
(3)
يُنظر: " شرح مسلم " للنووي (3/ 100) حيث قال: " وليس يلزم في الشطر أن يكون نصفًا حقيقيًّا ".
(4)
أخرجه الترمذي (3519)، وضعَّفه الأَلْبَانيُّ في " ضعيف الترمذي ".
(5)
يُنظر: " إكمال المعلم بفوائد مسلم " للقاضي عياض (2/ 7) حيث قال: " وقد يقال: المراد بالإيمان هنا الصلاة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ".
اختلاف العلماء حول النِّيَّة فيما إذا كانت شرطًا من شروط العبادة، أو ركنًا من أركانها:
وَالعُلَماءُ في هذا الأمر على قَوْلَين:
الأوَّل: أنَّها رُكْنٌ
(1)
، وأصْحَاب هذَا الرَّأي يُعلِّلونه بأن الرُّكْنَ يُلازِمُ العبَادةَ، ويَكُون معَها، بينما الشَّرط يَكُون مُتَقدِّمًا على العبادة.
الثَّانِي: أنَّ النيَّة ركنٌ في أوَّل العبادة، شرطٌ في أثنائها
(2)
، بمعنى أنَّ استمرار أحكام النيَّة أثناء العبادة إنما هو شرطٌ في العبادة، فالمكلَّف يقدم النيَّة على العبادة، ثمَّ يَسْتصحب حُكمَها معه أثناء عبادته، وقد يَغْفل الإنسان أو يسهو في صلاتِهِ، كما حدث من الصحابي عمر رضي الله عنه الذي قال:" وَافَقَني ربِّي في ثلاثٍ "
(3)
، فقد كان يَذكُر أنه أحيانًا في صلاتِهِ يُجَهِّزُ الجيوشَ، فما بالنا بغَيْره!
شروط النية:
الشَّرْط الأوَّل: الإسلام
(4)
، فبعض العلماء يَجْعل الإسلامَ شرطًا من شُرُوط النيَّة، وهذا يجرُّنا لقضيَّة اشتراط الإسلام في الفُرُوع، وَمَا إذَا كان
(1)
يُنظر: " النجم الوهاج " للدميري (1/ 311) حيث قال: " وهو في الشرع (أي: الوضوء): غسل أعضاء مخصوصة مفتتحة بالنية. قال: (فرضه ستة). الفرض والواجب بمعنًى وَاحِدٍ، والمراد هنا: الركن ".
(2)
يُنظر: " الإنصاف " للمرداوي (2/ 19)، حَيْثُ قَالَ:" قَوْله: (وهي الشَّرط السادس)، الصحيح من المذهب، وعلَيه أكثر الأصحاب، وقطع به كَثيرٌ منهم: أن النيَّة شَرطٌ لصحة الصَّلاة، وعنه فرضٌ، وهو قولٌ في " الفروع "، ووجه في المذهب وغيره
…
قال في " المستوعب ": وقال القاضي وغيرُهُ من أصحابنا: شرائطها خمسةٌ، فنقصوا منها النيَّة، وعدوها ركنًا. وقال الشيخ عبد القادر: وهي قبل الصلاة شرط، وفيها ركنٌ. قال في " مجمع البحرين ": فيَلْزمهم مثله في بقيَّة الشروط، ذكَره في أركان الصلاة ".
(3)
أخرجه البخاري (4483).
(4)
يُنظر: " الأشباه والنظائر " لابن نجيم (ص 42) حيث قال: " العاشر في شروط النية: الأول: الإسلام؛ ولذا لم تصحَّ العبادات من كافرٍ ".
الكُفَّارُ سيُؤَاخَذون على أُصُول الدِّين فقط أم أنهم سيؤاخَذون أيضًا على فُرُوعِهِ
(1)
، فالقائلون بمؤاخَذَتهم على الأصول وَحْدها يقولون بأنَّ الكفارَ سيُعَذَّبون على تَرْكهم لأُصُول الدِّين، ولا حسابَ على الفروع، أما الآخرون فيقولون بأنهم سيعذَّبون على تَرْكهم لفُرُوع الدِّين عذابًا زائدًا على تَرْكهم لأصوله
(2)
، فثَمَرة هذَا الخلَاف إنَّما هي أمرٌ أُخرَوِيٌّ، بَلْ إنَّ العلَماء قَالوا بأن ذِكْرَ هذا الخلَاف في العقيدة وأُصُول الفِقْهِ يُغْني عن ذِكْرِهِ في الفقه.
قَضيَّة التَّميُّز أيضًا، النيَّة يُطْلب فيها التميُّز، ومن أهم شروط النيَّة إنَّما هو تعيُّن المنويِّ.
الشَّرط الثَّانِي: تمييز المنوي
(3)
، فَيَجب تعيين المنوي؛ حتَّى لا يأتي المكلَّف بما ينافيه، فلو أن إنسانًا نوَى الصَّلاة، ودَخَل فيها، ثمَّ بعد ذلك ارتدَّ، فإن ردَّته هاهنا أبطلَت صلاتَه، وكَذَلك لو أن إنسانًا نوَى الوُضُوء، ثمَّ نوى قَطْعَه، فحِينَئذٍ يَكُون قد أفسَدَ هذه النيَّة.
(1)
يُنظر: " شرح تنقيح الفصول " للقرافي (ص 162) حيث قال: " أجمعت الأُمَّة على أنَّهم مُخَاطبون بالإيمان، واختلفوا في خطابهم بالفروع. قال الباجي: وظاهر مذهب مالكٍ خِطَابهم بها خلافًا لجمهور الحنفية وأبي حامد الإسفراييني ".
(2)
يُنظر: " شرح الكوكب المنير " لابن النجار (1/ 503)، حيث قال:" والفائدة (أَيْ: فائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام) كثرة عقابهم في الآخرة، لا المطالبة بفعل الفروع في الدُّنيا، ولا قضاء ما فات منها ". وانظر: " شرح تنقيح الفصول " للقرافي (ص 165).
(3)
يُنظر: " الأشباه والنظائر " لابن نجيم (ص 43) حيث قال في شروط النية:
" الثَّانِي: التَّمييز: فلا تَصحُّ عبادة صبيٍّ مميزٍ ولا مجنونٍ، ومن فروعه: عمل الصبي، والمجنون خطأ، ولكنه أعمُّ من كون الصبي مميزًا، أو لا، وينتقض وضوء السكران لعَدَم تمييزه، وتبطل صلاته بالسكر كما في " شرح منظومة ابن وهبان ".
الثالث: العلم بالمنويِّ، فمَنْ جهل فرضيَّة الصلاة، لم تصحَّ منه
…
الرابع: ألَّا يأتي بمُنَافٍ بين النيَّة والمنويِّ، قالوا: إن النيِّة المتقدمة على التحريمة جائزة بشرط ألا يأتي بعدها بمنافٍ ليس منها، وعلى هذا تبطل العبادة بالارتداد في أثنائها، وتبطل صحبة النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم - بالردة إذا مات عليها
…
ومن المنافي نية القطع: فإذا نوى قطع الإيمان، صار مرتدًّا للحال ".
ما يَتَعلَّق بوقت نيَّة الوضوء: والعلماء في هَذَا على أقوالٍ:
* مَذْهب الأحناف
(1)
: أنَّ الأَوْلَى والمستحبَّ في حقِّ المتوضِّئ أن يستصحبَ النيَّة من حين استنجائِهِ حتى تشمل النِّيةُ الوُضُوءَ، وما يتعلَّق به.
* مَذْهب الحَنَابلة
(2)
: أنها تَبْدأ مع الوُضُوء مُبَاشَرةً، ولا مانعَ عندَهم كَذَلك من أن تتقدَّم النيَّة على الوضوء بزمنٍ يسيرٍ.
* مذهب الشافعيَّة
(3)
: عند دُخُول المتوضِّئ في الطهارة.
* مذهب المالكيَّة: ولهم قَوْلَان في هذا:
القَوْل الأوَّل
(4)
: الإتيان بها في أوَّل الوُضُوء عند غسل الوجه.
القَوْلُ الثَّانِي
(5)
: الإتيان بها في أوَّل الطهارة.
ولعلَّ الأَحْوَط للمكلَّف من هذِهِ الأقوال هو أن يَسْتَصحبها معه في أوَّل الطهارة.
(1)
يُنظر: " فتح القدير " للكمال بن الهمام (1/ 36) حيث قال بعد أن سَرَد الاستنجاء وأفعال الوضوء: " واستصحاب النية في جميع أفعاله ".
(2)
يُنظر: " المغني " لابن قدامة (1/ 84)، حيث قال:" ويجب تقديم النيَّة على الطَّهَارة كلها؛ لأنها شرطٌ لها، فيُعْتَبر وُجُودها في جميعها، فإن وُجِدَ شيءٌ من واجبات الطَّهارة قبل النيَّة، لم يعتدَّ به، ويستحب أن ينوي قبل غسل كفَّيه، لتَشمل النيَّة مسنون الطهارة ومَفْروضها، فإن غسل كفَّيه قبل النية، كان كمَنْ لم يغسلهما، ويجوز تقديم النية على الطهارة بالزمن اليسير ".
(3)
يُنظر: " نهاية المحتاج " للرملي (1/ 165)، حَيْثُ قال:" لأنَّ القاعدة أنه يُشْتَرط اقتران النية بأوَّل الواجبات؛ كَالصَّلاة وغيرها من العبادات ".
(4)
يُنظر: " التاج والإكليل " لأبي عبد الله المواق (1/ 331)، حَيْث قال:" وظاهر قول ابن القصار أن محلَّها عند ابتدائِهِ بفرض الطهارة، ثم قال أثناء كلامِهِ: لأنَّ الطهارة تفتتح بنوافلها، فلو قارنت النية الفرض، لعَرَى غسل اليَدَين والمضمضة والاستنشاق عن النيَّة ".
(5)
يُنظر: " التاج والإكليل " لأبي عبد الله المواق (1/ 331) حيث قال: " مقتضى قول عبد الوهاب أن محل النية من الطهارة في أول طهره عند التلبُّس به ".
الفَرْقُ بَيْنَ الإخْلَاص والنيَّة:
وَالمَقْصودُ بالنيَّة هاهنا إنَّما هي النيَّة في العبادَات، والَّتي يَنْبغي أن يَصحَبها الإخلاصُ، وَهِيَ الَّتي أشَارَ إليه الله سبحانه وتعالى بقَوْله:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، فقَوْله:{مُخْلِصِينَ} حال من قَوْله تَعالَي: {لِيَعْبُدُوا} ، والأحوال - كما يقول العلماء - إنما هي بمثابة الشروط، فالنيَّة في العبادات يتعيَّن فيها أن يصاحبها الإخلاص.
التسمية في الوضوء:
والمؤلف هاهنا لم يَذكُر التسمية في الوضوء مع أنها محلُّ خِلَافٍ بين العلماء، بَلْ إنَّ منهم مَنْ قال بوُجُوبها، وببطلان وضوء مَنْ ترَكَهَا عَامدًا، وقَدْ ذَكَرْنَا آنفًا أنَّ هذَا الكتابَ لا يتعرَّض للفُرُوع الكثيرة، وإنما يُعنَى بأُمَّهات المَسَائل التي تُؤْخذ مباشرةً من منطوق النَّصِّ أو مَفْهومه، ولذَا فإنَّنا سنَتنَاول هاهنا التَّسمية، وأقْوَال العُلَماء فيها؛ لِمَا لهَا من أهمِّيَّةٍ لا يَنْبغي إغْفَالُها، فهي مسألة متعلقة بالطَّهارة، والطَّهارة شرطٌ في صحَّة الصَّلاة الَّتي هي الرُّكن الثَّانِي من أركان الإسلام بعد الشَّهَادتين.
والتَّسمية يَدُورُ كلَامُ العُلَماء فيها على ثلَاثة أقوالٍ:
القول الأوَّل: أن التَّسمية مُسْتحَبَّة في الوضوء، وهو مذهب جماهير العلماء من الحنفيَّة
(1)
، والمالكيَّة
(2)
، والشافعيَّة
(3)
، وأحمد في أظهر الروايتين عنه
(4)
.
(1)
يُنظر: " البحر الرائق " لابن نجيم (1/ 19) حيث قال: " (قوله: كالتسمية)، أي: كما أن التسمية سُنَّة في الابتداء مطلقًا، كذلك غسل اليدين سنة في الابتداء مطلقًا ".
(2)
يُنظر: " مواهب الجليل " للحطاب الرعيني (1/ 266) حيث قال: " ص.
(وتسمية). ش: قال ابن المنير في " تيسير المقاصد ": وفضائله ست: التسمية مكملة بخلاف الذبيحة ".
(3)
يُنظر: " تحفة المحتاج " لابن حجر الهيتمي (1/ 224)، حيث قال في " سنن الوضوء ":" (والتسمية أوله)، أَيْ: الوضوء للاتباع، ولخَبَر: " لَا وُضُوءَ لمَنْ لم يسمِّ ".
(4)
يُنظر: " الإنصاف " للمرداوي (1/ 128)، حيث قال: " قوله: (وسُنَن الوضوء عشرٌ: السِّواك بلا نِزَاعٍ، والتَّسمية)، وهَذَا إحدى الروايات. قال المصنف والشارح: هذا =
القول الثَّانِي: أنَّها وَاجبةٌ في الوضوء، وهو قول داود الظاهري
(1)
، والرواية الأُخرى عن الإمام أحمد
(2)
، وهو كذلك قول إسحاق بن راهويه، لكنَّه ذَهَب إلى التَّفريق في تركها بين العمد والنِّسيان، فكَما أنه يبطل وضوء مَنْ تَرَكها عامدًا، فَكَذلك يُعْفَى عَمَّن تَرَكَها ناسيًا أو جاهلًا بحُكْمها
(3)
؛ لحديث: " عُفِيَ عن أُمَّتي الخَطَأ، والنِّسْيان، وَمَا استُكْرِهُوا عَلَيه "
(4)
.
ومَنْ يَقْرأ " مسَائل الإمَام أَحمد " يجد التقاءً كثيرًا بينه وبين إسحَاق بن رَاهَويه، فقَدْ كَانَا قرينين وَصَاحبين في السَّفر، حيث سافَرا إلى مكَّة، وسمعا دروس الشافعي، وسافرا إلى اليمن، وغير ذلك، ولكلٍّ منهما مكانته في الإسلام والجهاد والحديث.
سبب الخلاف في المسألة:
والخلافُ بَيْن العُلَماء في مسألة التَّسمية إنما مَرَدُّهُ إلى الأحاديث الواردة فيها، وهذه الأحاديث قَدْ جَمَعها الإمام البيهقيُّ في كتابه " مَعْرفة الآثَار والسُّنن "
(5)
، وانتهَى إلى أنَّها في جملتها لَا تَسْلَم من المقَال عدَا
= ظاهر المذهب. قال الخلَّال: الذي استقرَّت عليه الرِّوايات عنه أنه لَا بأسَ إذا ترك التسمية ".
(1)
يُنظر: " الإقناع في مسائل الإجماع " لأبي الحسن ابن القطان (1/ 82)، حيث قال:" وكافة أهل العلم على أن التسمية عند الوضوء مستحبة إلا داود؛ فإنه قال: هي واجبة، لا يجوز الوضوء إلا بها؛ تركها ناسيًا أو عامدًا ".
(2)
يُنظر: " الإنصاف " للمرداوي (1/ 128)، حيث قال:" وعنه (أي: عن أحمد) أنها واجبةٌ، وهي المذهب. قال صاحب " الهداية "، و" الفصول "، و" المذهب "، و" النهاية "، و" الخلاصة "، و" مجمع البحرين "، والمجد في " شرحه ": التَّسمية واجبة في أصحِّ الرِّوَايتين، في طهارة الحدث كلها: الوضوء، والغسل، والتيمم ".
(3)
يُنظر: " الأوسط " لابن المنذر (1/ 368)، حَيْثُ قال:" وكان إسحاق بن راهويه يقول في التَّسمية إذا نسي: أجزأه، وإذا تعمَّد أعاد، لما يصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وَحَكَى آخر عن إسحاق أنه قال: الاحتياطُ الإعادةُ من غير أن يبين إيجاب الإعادة ".
(4)
سبق تخريجه.
(5)
يُنظر: " السنن الكبرى " للبيهقي (1/ 71)، وقَدْ جمع البيهقي فيها الكلام على أحاديث التسمية على الوُضُوء، وليس في كتاب " معرفة السنن والآثار ".
قوله صلى الله عليه وسلم: " لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ "
(1)
.
وفي روايةٍ: " لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللهَ "
(2)
، فإنه حَسَّنَ إسنادَه.
وقَدْ نقَل التِّرمذيُّ أن الإمامَ أحمدَ رحمه الله لَمَّا سُئِلَ عن الأحاديث الواردة في التَّسمية في الوضوء، أجاب بأنَّه لم يثبت في ذلك شَيءٌ
(3)
، فَوَافق الجُمْهور في قَوْلهم بالاستحباب في أظهَر الرِّوَايتين عنه، ومع ذَلكَ نجده قَدْ قال في الرِّواية الأُخرى بوُجُوب التَّسْمية.
وَهُنَاك حَديث آخَرُ لا يَذْكره الفقهاء كثيرًا، وهو ما رُوِيَ عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّه قال: نَظَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَضُوءًا، فَلَمْ يَجِدُوا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " هَاهُنَا مَاءٌ ". قَالَ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ الَّذِي فِيهِ المَاءُ، ثُمَّ قَالَ:" تَوَضَّؤُوا بِاسْمِ اللهِ "، فَرَأَيْتُ المَاءَ يَفُورُ من بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَالقَوْمُ يَتَوَضَّؤُونَ، حَتَّى تَوَضَّؤُوا عَنْ آخِرِهِمْ
(4)
…
لكنه حديث عامٌّ.
استدلال القائلين بالوُجُوب بالحديث الأول:
أمَّا حَديثُ: " لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَم يُسَمِّ اللهَ "، فَقَد استدلَّ هَذَا الفريقُ بِهِ علَى وُجُوب التَّسمية، من حيث إنَّ قَوْله: " لا وُضُوءَ
…
"، إنَّما أُتِيَ فيه بـ " لَا " النَّافية، ثمَّ جاءت لفظة " وضوء " نكرة في سيَاق النَّفي، فأَفَادَت العُمُومَ
(5)
؛
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
تقدم.
(4)
أخرجه أحمد في " مسنده "(20/ 121)، وصَحَّحه ابن الملقن في " البدر المنير "(2/ 90).
(5)
يُنظر: " إرشاد الفحول " للشَّوكاني (1/ 308)، حيث قال:" النكرة في سياق النفي نحو: لم أر رجلًا، وذلك يعم؛ لضرورة صحة الكلام، وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع بصيغتِهِ، فالعموم فيه من القرينة، فلهَذَا لم يختلفوا فيه "، وانظر:" روضة الناظر " لابن قدامة (2/ 13).
ليكون المَعْنى: أنه ليس يَصحُّ أيُّ وضوءٍ لم يُذكَر فيه اسمُ الله
(1)
.
استدلال الجُمْهُور:
استدلُّوا بقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، فالله سبحانه وتعالى لَمْ يَذْكُر التَّسمية في شيءٍ من الطهارات، لا في الوضوء، ولا في الغسل، ولا في التيمم، وقد أرشدنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:" تَوضَّأ كلمَا أمَرَك الله "
(2)
، وحيث إنَّ أَمْرَ الله لم يرد به وُجُوب التَّسمية، فهي - إذًا - ليست واجبةً في الوضوء
(3)
.
أمَّا حديث: " لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ "
(4)
، فَقَدْ قَدَح فيه الجُمْهور بالضَّعف، بَلْ قالوا: إنَّه حتى لو ثبت، فإنَّه ليس فيه دلالة على وُجُوب التَّسمية؛ لأن قوله: " لا وُضُوءَ
…
" إنما يعني: لا وضوءَ كاملًا، ومنهم كذلك مَنْ فسَّره بأن " لَمْ يَذْكرِ
…
" إنَّما تعني: لم يَنْوِ، فمعناها النية لا التسمية.
(1)
يُنظر: " المغني " لابن قدامة (1/ 76)، حيث قال:" وهَذَا نَفْيٌ في نكرةٍ يقتضي ألَّا يصح وضوؤه بدون التسمية ".
(2)
أخرجه أبو داود (861)، وغيره، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في " صحيح أبي داود "(4/ 11).
(3)
مذهب الحنفية: يُنظر: " فتح القدير " للكمال بن الهمام (1/ 23) حيث قال: " وإن قلنا: إنه حديث المسيء صلاته، فإن في بعض طرقه أنه صلى الله عليه وسلم قال له " إذا قمتَ إلى الصلاة، فتوضَّأ كما أمَرَك الله
…
". الحديث حسنه الترمذي، ولم يذكر فيه تسميةً في مقام التعليم ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" المجموع " للنووي (1/ 346)، حيث قال:" واحتجَّ أصحابنا عليهم بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: " توضَّأ كما أَمَرَك الله "، وأشباه ذلك من النصوص الواردة في بيان الوُضُوء، وليس فيها إيجاب التَّسْمية ".
(4)
يُنظر: " المجموع " للنووي (1/ 343)، حَيْثُ قَالَ:" وروى أبو داود من حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه، عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: " لا وضوء لمَنْ لم يَذْكر اسم الله عليه "، وكذا رَوَاه الترمذي من رواية سعيد بن زيد، ورَوَاه ابن ماجه من رواية سعيد بن زيد وأبي سعيد الخدري، قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وأبي سعيد وسهل بن سعد وأنس، وأسانيد هذه الأحاديث كلها ضعيفة ".
محل التَّسْمية:
تَأْتِي بعد النِّيَّة مباشرةً.
كيفيَّة التَّسْمية:
عند الحنابلة: يَكْتفي المكلَّف بقَوْل: " بِسْمِ الله "
(1)
.
عند الشَّافعيَّة: يَقُولُ المكلَّف: " بسم الله الرَّحمن الرَّحيم "
(2)
.
وتجدُرُ الإشارة هاهنا إلى أن الشافعيَّة والحنابلة ممَّن يَقُولون بمذهب الجمهور في استحباب التَّسمية، وعدَم وجوبها. وعَلَيه، فالمكلَّف عند الشافعيَّة
(3)
حتى لو قال: " بسم الله "، يَبْقى الأمر هَيِّنًا لا إشكال فيه.
*
فائدة:
بعد أن تحدَّثنا في مسألة التَّسمية، وَاطَّلَعْنا على قَولَي العُلَماء فيها، بَقِيَ أن نُنبِّه على أنَّ الإنسانَ عندما تُقَابله قضيةٌ، يَكُون أداؤها سهلًا لا مشقَّة فيه؛ كقضيَّة التَّسمية، لكنها من الأهميَّة بمكانٍ بحيث إنَّها تتعلَّق بشَرْطٍ يرتبط بركنٍ من أركان الإسلام، فحِينَئذٍ يَجْدر به أن يَتَبيَّن الدَّليل لا أن يَركَنَ إلى قول أكثر العُلَماء؛ لأنَّ رأي الأكثرين ليس بالضَّرورة أَنْ يكون راجحًا، بَلْ ربَّما يكون مرجوحًا، كَمَا هو الحَال - مثلًا - في مَسْألة زَكَاة الحليِّ التي يَتَرجَّح فيها مَذْهب الأحناف بأنَّ في الحلي زكاةً
(4)
، بالرَّغْم من
(1)
يُنظر: " الإنصاف " للمرداوي (1/ 129)، حيث قال:" فائدة: صفة التسمية: أن يقول: " بسم الله ".
(2)
يُنظر: " نهاية المحتاج " للرملي (1/ 184) حيث قال: " وأقلها: بسم الله، وأكملها: بسم الله الرحمن الرحيم ".
(3)
ينظر الحاشية السابقة.
(4)
ذَهَب المالكية والحنابلة والشافعي في القديم، وأحد القولين في الجديد - وهو المُفْتَى به في المذهب - إلى عَدَم وجوب الزكاة في الحلي المباح المستعمل .. وذهب الحنفية والشافعي في القول الآخر في الجديد إلى وجوب الزكاة.
مذهب الحنفية، يُنظر:" تبيين الحقائق " للزيلعي (1/ 277)، حيث قال: " قال رحمه الله: =
انفراد الأحناف بهذا الرَّأي، بَلْ أحيانًا تَكُونُ القوَّة ظاهرةً للفَقِيهِ في رأي من الآرَاء، لكنَّه يُخَالفه إلَى الرَّأي الآخَر، ويَسْلك مَسْلك الاحتياط؛ عملًا بقَوْل الرَّسُول عليه الصلاة والسلام:" دَعْ ما يَريبك إلى ما لَا يَريبكَ "
(1)
.
وَكَذَلك الحَال هاهنا في مَسْألة التَّسمية، فَإنَّ مَنْ يتأمَّل المسألَةَ، يجد الخلافَ فيها، إنَّما هو في شيءٍ يسيرٍ لا مشقَّة في فعلِهِ، لكن بفعلِهِ تطمئنُّ النفس، ولا يَتَسرَّب إليها الشكُّ والحيرةُ، والطُّمانينة تتحقَّق في هذه المسألة عند الأخذ بقول مَنْ يقولون بأن التسمية مطلوبةٌ؛ لأن هذَا هُوَ الأحوط.
= (ولو تِبْرًا أو حليًّا أو آنية)، أَيْ: ولو كانت الفضة أو الذَّهب حليًّا أو غيره تجب فيها الزكاة ". وانظر: " حاشية ابن عابدين " " رد المحتار " (2/ 298).
ومذهب المالكية، يُنظر:" المدونة " للإمام مالكٍ (1/ 305)، حَيْثُ قَالَ:" في كلِّ حُليٍّ هو للنساء اتخذته للبس، فلا زَكاةَ عليهنَّ فيه ". وانظر: " الشرح الكبير " للشيخ الدردير، و" حاشية الدسوقي "(1/ 460).
ومذهب الشافعية، يُنظر:" مغني المحتاج " للشربيني (2/ 95)، حيث قال: " (لا) الحلي (المباح في الأظهر) كخلخالٍ لامرأةٍ؛ لأنه معدُّ لاستعمالٍ مباحٍ، فأَشْبَه العوامل من النعم. والثاني: يزكى؛ لأنَّ زكاة النقد تُنَاط بجوهره، ورد بأن زَكاته إنما تُنَاط بالاستغناء عن الانتفاع به لا بجوهره، إِذْ لا غرض في ذاته، ويُسْتثنى من إطلاقه أنه لا زكَاة في الحلي المباح ما لو مات عن حليٍّ مباح، ولم يعلم به وارثه إلَّا بعد الحول، فإنه تجب زكاته؛ لأن الوارثَ لم ينوِ إمساكه لاستعمال مباحٍ، ذَكَره الروياني، ثمَّ ذكر عن والده احتمال وجهٍ فيه إقامة نية مورثه مقام نيته
…
واستشكل الأول بالحلي الذي اتخذه بلا قصد شيء بأنه لا زكاة فيه ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:" كشاف القناع " للبهوتي (2/ 234) حيث قال: " ولا زكاة في حليٍّ مباح لرجل وامرأة من ذهب وفضةٍ معدٍّ لاستعمال مباح أو إعارة، ولو لم يعر أو يلبس حيث أعد لذلك (أو ممَّن يحرم عليه كرجلٍ يتخذ حلي النساء لإعارتهن، وامرأة تتخذ حلي الرجال لإعارتهم)؛ لمَا رَوَىَ جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ليس في الحليِّ زكاةٌ "، روَاه الطبرانيُّ، وهو قول ابن عمر وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، ولأنه مرصد للاستعمال المباح، فلم يجب فيه الزكاة؛ كالعوامل وثياب القنية.
(1)
سبق تخريجه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الأحْكَامِ: اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ فِي غَسْلِ اليَدِ قَبْلَ إِدْخَالِهَا فِي إِنَاءِ الوُضُوءِ).
" اليد "، أرَاد بها الجنس، وإلَّا فالقَصد غَسل اليدين وليس يدًا واحدةً.
قوله: (فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الوُضُوءِ بِإِطْلَاقٍ، وَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةَ اليَدِ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِلشَّاكِّ فِي طَهَارَةِ يَدِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ. وَقِيلَ: إِنَّ غَسْلَ اليَدِ وَاجِبٌ عَلَى المُنْتَبِهِ مِنَ النَّوْمِ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْلِ وَنَوْمِ النَّهَارِ، فَأَوْجَبُوا ذَلِكَ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ وَلَمْ يُوجِبُوهُ فِي نَوْمِ النَّهَارِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ).
ذكر المؤلف رحمه الله مذهب أحمد، إذًا دعوى الذين يَقُولُون بأنَّ الإمام أحمد رحمه الله ليس فقيهًا - دعوى باطلة، ولكن - كَمَا قُلْت - المؤلف رحمه الله قد اعتمدَ وعَوَّل في نَقْل المَذَاهب على كتاب "الاستذكَار" لابْن عَبْد البَر، وابن عبد البَر قيل عنه: إنه - إلى جانب ابن جريرٍ الطَّبري - يرَى أن الحديث غلب على الإمام أحمد، وهَذَا أيضًا يحتاج إلى تَحْقِيقٍ.
قوله: (فَتَحَصَّلَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: إِنَّهُ سُنَّةٌ بِإِطْلَاقٍ)، هَذَا أمرٌ جَيِّدٌ، انْظُرُوا بعد أن ذكر المُؤلِّف الأقوال عادَ ليُلخِّصها.
قوله: (وَقَوْلٌ: إِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لِلشَّاكِّ. وَقَوْلٌ: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى المُنْتَبِهِ مِنَ النَوْمِ، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى المُنْتَبِهِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ دُونَ نَوْمِ النَّهَارِ).
" الثابت ": المقصود به ما في البخاريِّ ومسلمٍ، أو ما في أحدهما،
وقَدْ يكون الحديث ثابتًا وليس فيهما، لكن هذا مصطلح خاصٌّ بالمؤلف رحمه الله، ليس هذا مصطلح المُحدِّثين، يَعْني: ليسَ هذا اصطلاحًا للمحدثين إنَّما هو مصطلح اختارَه لنفسِهِ، وسَار عليه.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الثَّابِتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الإِنَاءَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ". وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: " فَلْيَغْسِلْهَا ثَلَاثًا ").
وَيرِدُ سؤالٌ آخَر: بعد غَسْل الكَفَّين، هل إذا جئتَ لتَغْسلَ اليد بعد ذلك، هَلْ تَقْتصر على ما بعد الكفَّين أو لَا بُدَّ من غَسْلهما؟ الصَّحيحُ أن اليدَ تُغْسل جميعًا، فلننتبه لهَذَا.
قوله: (فَمَنْ لَمْ يَرَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ الوَارِدَةِ فِي هَذَا الحَدِيثِ عَلَى مَا فِي آيَةِ الوُضُوءِ مُعَارَضَةً، وَبَيْنَ آيَةِ الوُضُوءِ - حَمَلَ لَفْظَ الأَمْرِ هَاهُنَا عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الوُجُوبِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الوُضُوءِ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ لَفْظِ البَيَاتِ نَوْمَ اللَّيْلِ، أَوْجَبَ ذَلِكَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ فَقَطْ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَهِمَ مِنْهُ النَّوْمَ فَقَطْ، أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى كلِّ مُسْتَيْقِظٍ مِنَ النَّوْمِ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا، وَمَنْ رَأَى أَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الزّيَادَةِ وَالآيَةِ تَعَارُضًا، إِذْ كَانَ ظَاهِرُ الآيَةِ المَقْصُودُ مِنْهُ حَصْرُ فُرُوضِ الوُضُوءِ - كَانَ وَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ أَنْ يُخْرِجَ لَفْظَ الأَمْرِ عَنْ ظَاهِرِهِ الَّذِي هُوَ الوُجُوبُ إِلَى النَّدْبِ).
المؤلفُ رحمه الله اعْتَبر أن سببَ الخلاف هو المعارضة بين الحديث وبين الآية، فهناك من العلماء مَنْ يرى تعارضًا، فما وجه المعارضة؟ يقولون: إن الآية دْكرت أمورًا أربعةً {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، هل ذكرت الآيةُ غسلَ اليَدَين قبل إدخال الإناء؟
الحَديثُ فيه زيادةٌ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ "، " فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الإنَاءَ "، إذًا هذه هناك من يقول: إنها زيادة على ما في الكتاب، ورأى أن الأَمر محمولٌ على الاستحباب، وأنه مندوبٌ، فلا وجوبَ هنا، ومن رأى أنه لا تعارضَ بين الكتاب والسُّنة، بل الآيات جاءت مجملةً، فجاءت السُّنة لتبيينها.
إذًا، الذين يقولون بأنها سنةٌ، يقولون: لم تذكر في آية الوضوء، فلو كانت واجبةً لذُكِرَتْ، لكنها لم تُذْكر، فدلَّ علَى عدَم وجوبها.
ويقول الآخرون: لا، هي وإن لم تُذْكر، فالسُّنة بيانٌ لكتاب الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرَ بذلك، وأكد عليه " فَلْيَغْسِلْ "، " فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ ".
* قوله: (وَمَنْ تَأَكَّدَ عِنْدَهُ هَذَا النَّدْبُ لِمُثَابَرَتِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ السُّنَنِ، وَمَنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ عِنْدَهُ هَذَا النَّدْبُ، قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ المَنْدُوبِ المُسْتَحَبِّ).
" هَذَا النَّدْبُ "، كلُّ اسمٍ محلى بـ " أَلْ " يقَع بعد اسم إشارةٍ يكون بدلًا أو عطفَ بيانٍ، فتُعْطيه حكم الأول، فـ " هَذَا " في محلِّ رفعٍ، فالَّذي بعده يَنْبغي أن ترفعَه.
* قوله: (وَهَؤُلَاءِ غَسْلُ اليَدِ عِنْدَهُمْ بِهَذِهِ الحَالِ إِذَا تُيُقِّنَتْ طَهَارَتُهَا، أَعْنِي مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ نَدْبٌ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ عِلَّةً تُوجِبُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، كانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَنْدُوبًا لِلْمُسْتَيْقِظِ مِنَ النَّوْمِ فَقَطْ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ عِلَّةَ الشَّكِّ، وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ لِلشَّاكِّ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّائِمِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ حُكْمُ اليَد فِي الوُضُوءِ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ حُكْمُ المَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، إِذْ كَانَ المَاءُ مُشْتَرَطًا فِيهِ الطَّهَارَةُ، أَمَّا مَنْ نَقَلَ مِنْ غَسْلِهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ
قَبْلَ إِدْخَالِهَا فِي الإِنَاءِ فِي أَكْثَرِ أَحْيَانِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُكْمِ اليَدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ غَسْلُهَا فِي الابْتِدَاءِ مِنْ أَفْعَالِ الوُضُوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُكْمِ المَاءِ، أَعْنِي أَلَّا يَنْجُسَ أَوْ يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ إِنْ قُلْنَا إِنَّ الشَّكَّ مُؤَثَرٌ).
الحديث هنا يتعلق بمسألة مهمةٍ، ألا وهي غَسْلُ اليدين قبل إدخالهما في الإناء.
أولًا: أخَذنا النية التي هي عَقْد العزم، ثمَّ بعد ذلك انتقلنا إلى التسمية، والآن نبدأ في الشُّرُوع في الوضوء، ولا شَكَّ أن المدخلَ إلى هذَا الوضوء من الناحية العملية لا القولية إنما هو غَسْل اليدين، فنَحْن أخَذنا ما يتعلق بالناحية القولية (النية)، وَهي عَزْم القَلب، وإنْ كنَّا لا نرى أن يُصرح بها، ثمَّ يأتي بعد ذلك التسمية.
وَهُنَا الحَديثُ عن غسل اليَدَين قبل إدْخَالهما في الإناء، فأَكْثَرُ العُلَماءِ يَذْهبون إلى أنَّ غسلَ اليدين قبل إدْخَالِهِما في الإناء إنَّما هو مُسْتحبُّ، أَيْ: سُنَّة، وهَذَا هو مَذْهب جَمَاهير العُلَماء كما ذكَر المؤلف، ومن هؤلاء الحنفية والمالكية.
ملحوظة: ليس شرطًا عندما نقول: هذا مذهب المالكية أو الحنابلة أو الشافعية
…
أنه لا يوجد قولٌ آخر في المذهب، فلو أننا أردنا أن نتتبع الأقوال أو الروايات والأوجه لمَا استطعنا، لكنَّنا دائمًا نأخذ بمُجْمل المذهب، أو المشهور في المذهب.
إذًا، الأئمَّة أبو حنيفَة ومالك والشافعي، وهي إحدى الروايتين أيضًا عن الإمام أحمد، يَذْهبون إلى أن غسلَ اليدين قبل إدْخَالهما في الإناء إنما هو سُنَّة، هذا هو القول الأول، وهو القول المشهور، ولا يلزم من أن يكون القول مشهورًا أن يكون هو الصحيح كما قلنا، فلا يلزم أن يكون الحقُّ مع الكثرة، كذلك أيضًا لا يلزم أن يكون القول المشهور هو الصحيح، قد يكون القول المشهور في المذهب وهو غير صحيحٍ، مثلًا:
مذهب الحنابلة والقول المشهور والمعروف بالنسبة لجلد الميتة " كل جلد ميتةٍ دُبغَ أَوْ لم يُدْبَغْ فهو نجسٌ "، لكن الرِّواية التي تُرَى مرجوحةً أو ضعيفةً هي التي تلتقي مع جماهير العلماء وهي الصحيحة؛ لوُرُود الأحاديث:" أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُرَ "
(1)
، " إِذَا دُبغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ "
(2)
، " هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا "
(3)
.
إذن، لا يلزم من أن يكون القول المشهور في أي مذهب من المذهب أن يكون هو الصحيح.
إذًا، القول الأول وهو قول جمهور العلماء (الأئمة الثلاثة، وهي رواية عن الإمام أحمد)، أن غسلَ اليدين قبل إدخالهما في الإناء سُنَّة.
القَوْلُ الثَّانِي: إنَّ غسلَ اليَدَين قبل إدخَالهما في الإناء واجبٌ حالَة القيَام من النوم مطلقًا، وهذا قول داود، ومعه أيضًا غيره من العلماء وإن كانوا قلةً.
القول الثالث: أنَّ غسلَ اليدين يجب على المُنْتبه من نوم الليل دون نوم النهار
…
وهذه هي الرواية القوية في مذهب أحمد، وهذا أيضًا قد رُوِيَ عن بعض الصحابة، عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنه، وعن الحسن البصري من التابعين.
القول الرابع الذي أشَار إليه المؤلف: هي قضية الشك، والمالكية لهم رأيٌ في هذه المسألة في قضيَّة غسل اليدَين قبل الغمس فيه، رواية فِي المَذْهب على أنَّ الأمرَ بالغسل تعبديٌّ، ولذَلكَ لا يُفرِّقون بين الشَّكِّ من النجاسة، وبين غيرها، يرون أن الأمر مستحبٌّ، لكن لا يرونه واجبًا.
إذًا، الأقوالُ الَّتي تَهمُّنا هنا أقوالٌ ثلاثةٌ:
القَوْلُ الأوَّل: أنَّ غسل اليدين قبل إدْخَالهما في الإناء سُنَّة.
(1)
" مسند أحمد "(ح 3198).
(2)
مسلم (ح 366).
(3)
البخاري (ح 1492)، ومسلم (ح 363).
القَوْل الثَّانِي: أنَّ ذلكَ وَاجبٌ على القائم من النوم مطلقًا، سواء كان نوم ليل أو نوم نهار، وهو قول داود الظاهري، بَلْ هو مذهب الظاهريَّة.
القَوْل الثَّالث: أنه يجب على المنتبه من نوم الليل دون غيره.
وكلُّ اختلَاف العُلَماء يَدُور حول الحديث الذي أورَده المؤلف بجميع رواياته، فإنَّه في هذا الحديث المتفق عليه، وهناك رواياتٌ قد ينفرد بها مسلمٌ أو غيره:" إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الإِنَاءَ ". فيِ بعض الرِّوايات: " ثَلَاثًا "، وَفِي بَعْضها:" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ "، وَفِي لفظة " ثَلَاثَا "، و" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " نكتة فقهية، فَالنَّجَاسَة في هذا المقام ليست النجاسة التي نُسمِّيها الخبث، لكن النجاسة هنا إنما هي نجاسة معنويةٌ، لا نشاهدها، فيقولون: إذا جاء العدد في نجاسةٍ غير عينيةٍ، فإنه يشير إلى أن هذا الحكمَ غير واجبٍ، وإنما هو مندوبٌ .. هذا رأيٌ لبعض العلماء استنبطوه من عدة أحاديث، ومنها هذا الحَديث.
إذًا، الخلاف - كما قلنا - يدور حول هذا الحديث:" فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الإِنَاءَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، وَهَذا هُوَ سِرُّ الخلَاف، هذه جملةٌ نُسَمِّيها في النحو جملةً تعليليةً، وهي التي عُلِّل بها الحكم، " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ".
إذًا، الحُكْمُ هو الأَمْرُ بالغسل، وعندنا علَّة الحكم، هِيَ:" فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ".
جَاءَ في رواية مُسْلمٍ: " فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدهُ "، فاجتمع في هذا الحديث شيئان:
1 -
أمر: " فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ ".
2 -
ونهيٌ " فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ "
(1)
، وهُمَا متمسَّك الذين قالوا بأن غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء واجب، ثم انقسموا إلى قسمين:
(1)
مسلم حديث (278).
1 -
منهم مَنْ فهم مِنْ لفظ البيات أن المراد بالنوم الذي يجب غسل اليدين منه هو نوم اللَّيل؛ لأنَّ البياتَ لغةً لا يُطْلق إلَّا عليه.
2 -
ومنهم مَنْ فَهِمَ من ذلك النوم مطلقًا، وهما أهل الظاهر، فقالوا: كل مَنْ قام من النوم يجب عليه أن يغسل يديه.
إذًا، الخلاف يدور حول " فَلْيَغْسِلْ "، و" فَلَا يَغْمِسْ "، فيقولون:" فَلْيَغْسِلْ " هذا أمر، والأَمْرُ يَقْتضي الوُجُوبَ، ولا صارفَ له، ويُعَارضهم الفريق الآخر فى هَذِهِ القضية، فيقولون: هذا أمر، والأمرُ يقتضي الوجوبَ، ورواية مسلم:" فَلَا يَغْمِسْ "، هذا نهي، والنهي يقتضي تحريمَ المنهي عنه، إذن، يحرمُ أن يُدْخِلَ الإنسان يدَه في الإناء قبل أن يغسلها.
إذًا، هذَا هو رأيُهُم من حيث الجملة الذين قالوا بالوجوب، ثم انقسم هؤلاء الذين قالوا بالوجوب - كما قلنا - إلى قسمين:
1 -
فمنهم مَنْ قال: هذا خاصٌّ بنوم الليل، وزَادُوا على ذلك حديثًا آخر لم يَتَعرَّض له المؤلف، وهو حديث:" إذا اسْتَيْقَظَ أحدُكُم من النوم ليلًا "
(1)
، إذًا " من النَّوْم ليلًا "، دلَّ على أن المقصودَ بالنوم إنما هو نوم الليل. وفي روايةٍ:" إذا استيقظ أحدُكم من نوم الليل "، إذًا نوم الليل هو المقصود، وهذا الذي يُقوِّيه رواية الإمام أحمد الأُخرى التي أخذوها عن الإمام رحمه الله.
إذًا، هناك مَنْ يَقُولُ: هذه اليد مأمورٌ بغسلها، ونُهِينَا عن غمسها في الإناء عند القيام من النوم، والأصل في النوم أن يُطْلق ولا يخص، فالنوم يطلق على نوم الليل ونوم النهار.
وَرَأينا أنَّ الَّذين أوجَبوا غسلَ اليدين قبل إدخالهما في الإناء استدلوا بقوله: " فَلْيَغْسِلْ "، وكذلك:" فَلَا يَغْمِسْ "، فَقَالوا: هذا أمرٌ، والأمرُ يقتضي الوجوبَ، أَيْ: يجب على كل مُتَوضئٍ ألَّا يدخلَ يدَه في الإناء حتى
(1)
في الترمذي (ح 24): " إِذَا اسْتَيقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يُفرِغَ عَلَيْهَا مَرَّتَينِ أَوْ ثَلَاثًا، فَإِنهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ".
يغسلَها ثلاثًا، إذا قام من نوم الليل أو إذا قام من النوم مطلقًا، الأول: عند الحنابلة في روايةٍ، والآخر: عند أهل الظاهر.
إذًا، لماذا اتَّجَه جمهور العلماء إلى أن الحديث لا يدل على الوجوب، وأن النهي في رواية مسلمٍ أيضًا ليست دليلًا على التحريم؟
قالوا: لأنَّ الجملةَ التعليلية التي جاءت بعد ذلك تدلُّ على عدم الوجوب، قالوا: لأن الذي ورد فيها العلة لم تأتِ مقطوعًا بها، وإنما جاءت بصيغة الشَّكِّ:" فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، معنى هذا أن علَّة المنع هو الشكُّ. قالوا: والشكُّ لا يقتضي وجوبًا في الحكم استصحابًا لأصل الطهارة.
وأريد أن أُنبِّه أنَّ العلماءَ مجمعون من حيث الجملة على أن غسلَ اليدين قبل إدخالهما الإناء مستحبٌّ مطلقًا وإنْ لم يكن من النوم، هذا من حيث الجملة، لكن من حيث التفصيل فقَدْ رأيتم الخلاف، وكل الَّذين وصفوا وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عثمان بن عفان المتفق عليه، وفي حديث عبد الله بن زيد، وفي حديث عليٍّ الذي في السُّنن وهو صحيح، كلها ذكرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعَا بإِنَاءٍ، فأفرغَ على يدَيه، فغَسل كفَّيه ثلاث مراتٍ، ثمَّ أَدْخَلهما في الإناء
…
ولم يكن صلى الله عليه وسلم قائمًا من نومه.
قَالَ الجُمْهور: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ". قالوا: التَّعليلُ هنا مَشْكوكٌ فيه، والشَّكُّ هنا ينقل الحُكْمَ من الوُجُوب إلى غَيْره، قَالوا: لأنَّ الشَّكَّ لا يَقْتضي وُجُوبًا في الحكم، يَعْني: لا يَقْتضي وُجُوبَ الحكم؛ استصحابًا لأصل الطهارة، فالأصل في المؤمن أنه طاهر، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:" إنَّ المؤمن لا ينجس "، وكَوْنه قام من النَّوم فَهَذا لا يدلُّ على نجاستِهِ.
يَقُولُ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله في تعليل هذا الحديث: إن أهل الحجاز بلادهم حارةٌ، وكانوا يقتصرون على الاستجمار. يعني: كانوا يستنجون بالحِجَارَةِ -يعني: يُطْلق الاستنجاء على الاستنجاء بالماء، وعلى الاستنجاء بالحجارة، وبعضهم يغلف فيقول: الاستجمار بالحجارة، وهذا
هو المقصود - يقول: بلادهم حارة، ويقتصرون على الاستنجاءِ بالحجارة، فربما لو نامَ أحدهم، وَقَعتْ يده على موضع نجاسةٍ، وَنُنبِّه على بعض النُّكَت التي وَرَدتْ في هذا الحديث في قضية الكناية التي كنى بها، حَيْث قَالَ:" فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، ولم يَقُلْ: وَقَعتْ على ذَكَره أو على دُبُره، فهَذَا من الأساليب التي تسلكها الشريعة الإسلامية في أمر الكنايات، فإن الشريعة الإسلامية لا تُصرِّح في الأمور التي لا تحتاج إلى تَصْرِيحٍ إلا إذا اقتضى الأمر ذلك، إذا لم يفهم السَّامعُ ذَلكَ، فَإنَّ الشَّريعةَ الإسلَاميَّة حِينَئذٍ تُنبِّه، ولو أردنا أن نستعرضَ بعضًا من نُصُوص الكتاب والسُّنة لوجدنا أمثلةً كثيرةً من ذلك، فالله تعالى يقول:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، وهذه كنايةٌ.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [البقرة: 237].
ويقول عز وجل بعد ذلك أيضًا: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} ، كَمَا ورد في الآية:{الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} .
ويقول سبحانه وتعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]، إلى غير ذلك من الأدلة.
أيضًا ورَد في السُّنة قوله عليه الصلاة والسلام: " لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَبَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ "، عندما أرادت المرأة أن ترجع إلى رفاعة، قال صلى الله عليه وسلم:" لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ "، لكنه في مقام التصريح نجد أن الشَّريعة الإسلامية تصرح بذلك.
وهُنَاك قصَّة مَاعِزٍ عندما جاء إلى الرَّسُول عليه الصلاة والسلام معترفًا بالذَّنب الذي ارتكب، وطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يُطهِّره، والرسول صلى الله عليه وسلم يُعْرض عنه، فينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ ويقول:" لعَلَّك قبَّلتَ "، " لعلَّك غَمزتَ "
…
إلى آخره إلى أن رأى أن الرجل مقبل، وأنه يريد التطهيرَ، وأن قلبَه قد عذَّبه، وأن ضميره صحا، وأن خشية الله سبحانه وتعالى دفعته إلى طلب ذلك، وهناك قاعدةٌ فقهيَّة معروفةٌ هي:" الضَّرر يُزَال "، وهذه القاعدة تَتفرَّع عنها قواعد عدة، منها: " الضرورة تُقدَّر
بقدرها "، فمثلًا: قد يأتي إليك إنسان ليخطب منك أختًا أو ابنةً أو قريبةً أنت وليُّ أمرها، فتحتاج إلى أن تتحرَّى عن هذا الإنسان، فتذهب إلى شخصٍ لتسأله عن هذا الخاطب، هذا الذي تذهب إليه لتسأله ينبغي أن يكون دقيقًا في إجابتِهِ، فإنه يكتفي بالإشارة، فإن كان يعرف عيبًا في هذا المسلم، فلا يَنْبغي أن يجلسَ يذكر عيوبَه منذ أَنْ كان صغيرًا، وعَلَيْه أَنْ يَقُولَ: هُوَ لَا يصلح لَكَ إلَّا إذا اضطرَّ إلَى ذَلكَ في هذا المقام، فإنه حِينَئذٍ يُنِّبه إلى ذلك.
إذن، نجد أن هذا الحديث فيه كنايةٌ " فَإِنَّ أَحَدَكمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، ما ذَكَر المواضعَ التي تترفع عنها الشريعة الإسلامية.
وهناك قضيةٌ معروفةٌ في الفقه في قصة عمر بن عبد العزيز - تَعْلمون أن العلماء يضمُّونه للخلفاء، فيجعلونه الخليفة الخامس عندما تولى الخلافة، وتعلمون مواقف الخوارج وخروجهم على الأئمة، ومقاتلتهم للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخروجهم عليه، وتكفيرهم للمسلمين، وما فعلوه من سفك الدماء وغير ذلك - ذهب اثنان من الخوارج إلى عمر بن عبد العزيز، وناقشاه في بعض القضايا، ومما ناقشاه قالوا: إنَّكمْ تَقُولون برجم الزانيين، وتقولون بتحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها، وبين المرأة وخالتها، ولا نجد ذلك في كتاب الله!
وهَذَا ممَّا يفيدنا في أدب البحث، يعني: إذا أردتَ أن تناقش إنسانًا جدليًّا، فلا ينبغي أن تنتزع الحجة من جوابه، فعُمَر بن عبد العزيز يَسْتطيع أن يرد عليهم، لكنه وجَّه إليهم سؤالًا معاكسًا، فَقَال لهم: الله سبحانه وتعالى فرض الصلوات؟ قالوا: بلى. قال: أين نجد عدد الصلوات وفرائضها وشروطها وأركانها؟ وأين نجد أنصبة الزكاة؟ وما يتعلق بالصيام والحج؟ أين محل ذلك في كِتَابِ الله، أرشداني إليه؟
قالوا: ليس ذلك في كِتَابِ الله.
قال: أين هو؟
قالوا: فعل ذلك رسول الله، وفَعَله المسلمون.
قال: وما سألتم عنه فَعلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفَعَله المسلمون.
هُنَاك آيةٌ خطَب فيها عمر رضي الله عنه على المنبر وهي: {الشَّيخ والشَّيخة إذا زنيَا فَارْجُمُوهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم} ، هذه كانت في سورة الأحزاب، وهذا مما يُنْسخ لفظًا، ويبقى حكمًا.
فالخوارج وقفوا عند آية: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وقالوا: هذا غير مَوْجُودٍ في كِتاب الله (الرجم)، إذًا أنتم خرجتم على كِتَابِ الله، إذًا أنتم خالفتم، فيَنْبغي أن نُقَاتلكُمْ.
ومنَ المصَائب التي وقَع فيها الخوارجُ أنَهمْ كانوا يستحلون دماء المسلمين، يعني: كانوا يستحلُّون دماء المسلمين، ولا يستحلون دماء الوثنيين؛ لأنهم يرون أن الوثني كافرٌ أصليٌّ، وأن هذا المسلم مرتدٌّ في نظرهم، وهذه من المصائب التي جرَّتهم إلى الويلات، وجروها إلى المسلمين.
نقول ونحن في هذه المناسبة: ينبغي أن يُدرَّس العلم كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122]، والرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أشارَ أيضًا إلى هذا الأمر (قضية الفقه) في حديث معاوية المتفق عليه:" مَنْ يُرِدِ الله به خيرًا، يفقهه في الدِّين "، وقال في قصة الصغير الذين تعرفونه في الصلاة:" وليؤمكم أكبرهما "، وفي روايةٍ:" أكثركما "، وَذَهَب العُلَمَاءُ إلى أنَّ الأَوْلَى في قضيَّة الإمام أن يكونَ أكثر فقهًا، وكان أفقههم صغيرًا في السنِّ، كان يقف في طريق الركبان، فيَسْألهم عن المسائل، ولذَلكَ كانوا يُقدِّمونه في الصلاة، واشْتَروا له ثوبًا يَسْتُرُ به عورتَه.
أقول: إنَّ جمهور العلماء قالوا بعد اتفاق الكل على أن غسل اليدين مستحبٌّ: هي سُنَّةٌ.
وأحمد رحمه الله في روايةٍ قال: هي واجبةٌ من نوم الليل.
وأَهْلُ الظَّاهر قالوا: واجبة من النوم مطلقًا.
فالذين قالوا: واجبة من قيام الليل، ذَكَر المؤلف أن دليله هو لفظ:" البيات "، والصحيح أنه بالإضافة إلى هذا أنه ورد حديث أيضًا:" إذَا استيقظَ أحدُكُم من النوم ليلًا "، فنصَّ على نوم الليل، والآخرون أهل الظاهر أخذوا بلفظ:" الليل ".
فالجُمْهورُ قالوا: هناك ما يَصْرف الأمرَ والنهيَ عن وجهيهما، وهو الجملة التعليلية " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، فيقولون: دائمًا الحكم يُبْنى على علةٍ، فالحكمُ يُقرَّر لوجود عِلَّةٍ، هذه العلَّة غير مَقْطوعٍ فيها، إذًا الحكم هنا مشكوكٌ، فيه، إذن لا ينبغي أن نَقُولَ بوجوبه؛ لأن القول بالوجوب يحتاج إلى دليلٍ قاطعٍ، والدليلُ هنا غير قاطعٍ؛ لأنَّ العلَّة هنا مترددةٌ، ولذلك قال الشافعي رحمه الله:" إن بلاد الحجاز كَانت حارة "، فعلَّل ذلك التعليلَ المعروفَ.
إذًا، الأقوالُ ثلاثةٌ:
1 -
قولٌ يرى أنها سُنَّة، يعني: غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء سُنَّةٌ.
2 -
وقولٌ يرى وُجُوبَ ذلك مطلقًا، عملًا بروايات هذا الحديث:" فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الإِنَاءَ ".
3 -
ومنهم مَنْ فَهم من ذلك أن المقصودَ هو نوم الليل، أولًا: من لفظ " البيات "، وثانيًا: لوُجُود بعض الروايات وإن لم تكن في " الصحيحين ": " إذا استيقظَ أحدُكُم من النوم ليلًا ".
أيهم الأحوط للمسلم في هذا؟
لا شكَّ أن الأحوط أيضًا في هذا المقام هو أن يغسل يديه، فحتى لو قلنا بأنها مستحبةٌ، فقد يُتَسامح أيضًا في هذا الأَمْر، ويُتَساهل فيه، وخصوصًا أنه ورد حديث:" إذا استيقظ أحدكم من النوم ليلًا "، وفي روايةٍ أُخرى:" إذا استيقظ أحدُكُم من نوم الليل "، إذًا: معناه نوم الليل، كما ورد التصريح في بعض الروايات، وفي رواياتٍ حسَّنها بعض العلماء.
إذًا، الأَوْلَى في هذا المقام أن نقولَ بأنه يَنْبغي العناية بغسل اليدين عمومًا، وينبغي أن يتأكد ذلك، ويُقَال بوجوبِهِ عند القيام من النوم، وخاصةً نوم الليل؛ لوجود الحديث القائم في ذلك.
ونحن حَقيقةً في هذا المقام لا نُرجِّح مذهبًا؛ لكَوْننا نميل إليه أو كذا، وستمر بنا مسائل سنُرجِّح فيها مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، لكن هنا في هذا المقام وجدنا أن الأمر مترددٌ، وكونهم يقولون: إن العلةَ هنا مبنيةٌ على الشك غير مقطوعٍ بها، أيضًا نحن نخرج من هذا الشك إلى أمرٍ مقطوعٍ فيه.
ولو أنَّ إنسانًا بعدَ هذه الأقوال غَمسَ يدَه في إناءٍ قبل أن يغسلَها، فَعَلى مَذْهَبِ جمهور العلماء هذا لا يضرُّ، لكن على مذهب الآخرين يُفَصِّلون القَول في ذلك أيضًا، لا نظن أن المسألة فيها إجمالٌ، فالذين يقولون بوُجُوب غسلهما قبل إدخالهما يقولون: إنْ كان المَاءُ كثيرًا، فلا تأثير؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:" إذا بلَغ المَاءُ قُلَّتين لَمْ يحمل خبثًا "، فإذا كانت النجاسة التي هي أكبر من غسل اليدين لا تؤثر في الماء الكثير، فما بالك بغمس اليدين!
إذًا، إذا كان الماء كثيرًا، فلا يتأثر بالنجاسة، فإن كانت قليلة، فلا يتأثر بها عند الجمهور، ويتأثر بها عند غيرهم.
هل يُرَاق الماء أو لا يُرَاق؟
هذه أيضًا مسألةٌ أُخرى فرعيةٌ، بعضهم يقول: يُرَاق الماء؛ لأنه ورَد في حديثٍ الأمر بإراقته، لكن الحقيقة أن هذا الحديث ضعيفٌ.
إذًا، غَمْسُ اليدِ أو اليدين في الإناء قبل غسلهما في حقِّ القائم من النوم منهيٌّ عنه، أما غَيْر القائمين من النوم، فالعُلَماء مُجْمِعُونَ على أنَّ غَسْلَهما مستحبٌّ، لكن الكلام في القيام من النوم.
فجمهور العلماء يَرَون أن غمسهما لا يؤثر؛ سواءٌ كان الماء قليلًا أو كثيرًا.
الذين قالوا بالوجوب يقولون: يؤثر، بل هو ينجس الماء، بل هناك من قال بأنه لو غمس يديه في الإناء وتوضأ، لبطلت صلاته، وهذا نُقِلَ عن بعض العلماء، منهم إسحاق والحسن.
يَرِدُ سؤالٌ أيضًا: الحديثُ وَرَد فيه: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ".
إذًا: هذَا الحكمُ جاء مقرونًا بعفَته، فـ " لا يدري " هذه كما قلنا كنايةٌ لم يصرح بها، فإذا كان على درايةٍ أين باتت يده، فلو قُدِّر أن إنسانًا - مثلًا - لفَّ يديه في كيسٍ أو في خرقةٍ أو في منديلٍ، فحفظه من أن يقع فيهما أي شيء، واطمأن على أنهما لم يقربا نجاسةً، سواء كانت في الجسم أو في غيره، فهل يتغير الحكم أو لا؟
جُمْهورُ العلَماء يرون استحبابَ غسل اليدين، فلا إشكالَ عندهم، لَكن بالنسبة للفريق الآخر يقول: لا يتغير الحكم؛ لأن قوله: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، هو عامٌّ، فلا ينبغي أن نقصرهُ على أمرٍ فيما لو حفظت اليد أو ما حفظت، أصلًا غسل اليَدَين مستحبٌ، فالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم كان يغسلهما، أو يلازم ذلك، إذن يقولون: هذا لا تأثير له.
لَكن لمَّا تذهب إلى الفريق الآخر كالشافعية - مثلًا - يقولون: لا، إذا حفظ -يعني: لفَّ يديه - تبقى طهارتهما متيقَّنةً، والآخرون يقولون: لا، وإن كانت متيقَّنةً، فالعلة هنا تعبديةٌ، وهنا يأتي السِّرُّ الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله هنا، فقال: إن من العلماء مَنْ يرى أن في الأمر تعبدًا، وهذا علَّل به بَعْضُ المالكيَّة وبَعْضُ الحنابلة.
مَسْألةٌ أُخرى: لَوْ أنَّ إنسانًا - مثلًا - وجد ماءً في إناءٍ كبيرٍ، أو في صخرةٍ، يعني: هي مدورةٌ معمولةٌ ليجمع فيه الماء، يعني: حوض من الماء لا يستطيع أن يميلَه فيغسل يديه، أو هذه صخرة وسطها الماء، فما الحكم هنا؟ يغمس يديه أم لا؟
هُنَاك مَنْ يمنع ذَلكَ، يَقُولُ: لا يغمس يدَيه في الإناء، قالوا: يأخذ بفمِهِ، فالفم ليس فيه نجاسةٌ، فهو طاهرٌ، والتعليل جاء مرتبطًا باليد " فَإِنَّ
أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، فهو يأخُذُ بفمِهِ، أو يأخذ بطرف ثوبِهِ، أو أي شيءٍ.
إذا لم يجد ذلك، فما الحكم؟
قالوا: يستعين بغيره، فيأخذ له الماء، المهم أنه لا بدَّ من أن يغسل يديه " ليلتزم توجيه الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد ذَلكَ يَزْداد الخِلَافُ فيما إذا لم يجد ما يغرف به الماء، أو لم يجد مَنْ يعينُهُ في هذا المقام ماذا يفعل؟ هل يغمس يديه وبعد ذلك يصلي، أو أنه يتيمم، وهذه فروع كثيرة لا نريد أن نتعرض لها.
ومن الفوائد التي أيضًا في هذا الحديث كما ترون: " فَلْيَغْسِلْ يدَيه ثلاثًا ".
غسل اليدين جاء أحيانًا مقيدًا بأمرٍ، وورَدَ في الإناء الذي يلغ فيه الكلب أنه يُغْسل سبعًا آخرهن بالتراب، هذا أمرٌ مقيَّد، وألحق به بعض العلماء الخنزير، وقالوا: يأخذ حكمه، لكن هنا " فَلْيَغْسِلْهَا ثلاثًا "، هذا يفهم منه فائدةٌ أُخرى، وهي أن الإنسان يغسل يديه ثلاثًا بالنسبة للنجاسة المتحقَّقة والمتوهمة، فالنَّجَاسةُ هنا غير متحقق وقوعها، يعني: غير مقطوع بها في هذا المقام " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يدُهُ "، إلا إذا قلنا: إنَّ الأمرَ تعبديٌّ، فلعلَّ اليدَ وَقَعتْ على نَجَاسةٍ، ففي هذا المقام أخذ العلماء أيضًا من هذا " فليغسلها ثلاثًا " أن النجاسة وإن لم يكن مقطوع بها، فإنَّه ينبغي أن تُغْسل في مثل هذه الحال.
وأَكْثَرُ العلماء يذهبون إلى أن النجاسة المتوهمة (يعني: غير المقطوع بها) إنما هي تغسل، وخالف في ذلك المالكية وقالوا: يُكْتفى بالرش في مثل هذه المسائل.
ورد في الحديث: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، يعني: بعض العلماء فَهِمَ من هذا أن المراد أن القصد باتت يدُهُ فقط في المحل الذي هو محل النجاسة المعروف، لكن جاء في بعض الروايات: " فَإِنَّهُ لَا
يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ مِنْهُ "
(1)
، فلا يلزم أن تكون في هذا المقام.
قَدْ نَظنُّ نحن أن ما يتعلَّق بغسل اليدين إنما هو أمرٌ سهل (يعني: غَسْل اليدين قبل إدخالهما في الإناء)، لكن الأمر أكثر من ذلك في الواقع، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام أكَّد ذلك الأمر، وأرشد إليه، وقال:" فَلْيَغْسل يدَه ثلاثًا "، " فَلْيَغْسل يدَه ثلَاث مرَّات "، " فَلَا يَغْمس يدَه في الإنَاء "، " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ".
وقد علمنا أن العلماءَ أخذوا منه عدة نكت، منها: أن المستحب في بعض الأمور التي لا يُوجَد فيها لَبْسٌ، أي: إذا كانت واضحةً للمخاطب ولا للسامع، فإنه يُكنَّى في تلك الأمور التي يكون المقام مناسبًا فيها، فهنا لم يرد في الحديث تنصيصٌ على موضعي النجاسة، وقلنا: هذا هو أسلوب القرآن كما ذكرنا {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ، إذًا، هذا دليلٌ، وأيضًا الحديث الذي أوردناه.
نقول: إنَّ العُلَماء قد اختلفوا في هذه المسألة:
* جماهير العلماء على أن غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء إنما هو مستحبٌّ، وليس واجبًا.
* ومنهم مَنْ أوجب ذلك من نوم الليل.
* ومنهم من عمَّم ذلك في النوم مطلقًا.
* ومنهم من استحبَّ ذلك للشاكِّ لا لغير الشاكِّ.
والواقع أن الأحاديثَ لم تفرق بين شاكٍّ وغير شاكٍّ، فإن الوارد في الأحاديث التي وصفت لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فيها أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل يديه قبل أن يُدْخلهما في الإناء.
* ما المراد باليد في قوله: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "؟
(1)
بزيادةٍ منه، ورد الحديث في مسند أحمد (ح 9869).
ليسَ في الأحاديث ذكرٌ لمَوْضع اليد، فاليد قد تُطْلق ويقصد بها الكفُّ، وقد تكون أكثر من ذلك، فهل اليد إذا أُطْلقَت تنصرف إلى الكفِّ فقط؟
الواقع أن اليدَ عندما تُطْلق إنما هي تنصرف إلى الكفِّ الذي ينتهي إلى المفصل، والأدلة على ذلك كثيرةٌ:
* منها قول الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وفي التيمم يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6].
إذن، وَرَد ذِكْرُ اليد، ولم يُحدِّد الموضعَ الذي تُمْسح فيه اليد، وتَعْلَمون أن الوضوءَ إنما هو إلى المرفق، بل إن العلماء دققوا في ذلك، وسيأتي الخلاف في غسل اليدين إلى المرفقين كما في الآية، هل الغاية داخلةٌ في المغيَّا، بمعنى: هل يدخل المرفق أو أننا نقف عند الحدِّ، وأن الصحيح أنه إدخال المرفقين، ثم يرد بعد ذلك لو قُطعت يد إنسان من المرفق من المفصل، فهل ينتقل الحكم إلى الطرف الآخر، لأنه ملاصقٌ لمَحلِّ الواجب، وسوف يأتي أن هَذَا هو الصحيح.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، والسارق إنما تُقْطع يده من مفصل الكف، والتيمم إنَّما هو كما ورد في الحديث:" فَضَرب بيديه على الأرض، فمسح بهما وجهه وكفيه ".
إذًا، يقيننا أنَّ الكتابَ والسُّنةَ متلازمان، وأن السُّنةَ إنَّما جَاءَتْ لأُمُورٍ، منها بيان تلكم الأحكام، وتفسير ما جاء مجملًا في كتاب الله عز وجل، وإننا قد نبَّهنا إلى ذلك عدة مرات، وسنكرر التنبيه على ذلك كلما جاءت مناسبة؛ لنردَّ على أولئك الذين يدعون أنه لا حاجة للسُّنَّة، وأن ما في كتاب الله سبحانه وتعالى إنما هو كَافٍ، وأن الأحكام فيه واضحةٌ، وقد رأيتم ما دار من حوارٍ يسيرٍ بين عمر بن عبد العزيز وبين الخارجِيَّين
اللذين أتيا إليه، فألزمهما عن طريق اعترافهما، وَجَعلهما يعترفان بما وقعا فيه، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يجادلَ بالتي هي أحسن، يَعْني: أن يكون حكيمًا {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، والبصيرةُ أن يكونَ الإنسانُ عالمًا بما يتكلم به، وأن يكون أيضًا حكيمًا فيما يتكلم فيه، يَقُولُ سبحانه وتعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، ويقول الله تعالى في آخر سورة الأعراف:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199].
إذًا، " اليَدُ " جَاءَتْ مُجْملةً:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فَالَّذي حَدَّدها إنما هي سُنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام " لأنه طبَّق ذَلكَ تطبيقًا عمليًّا، فإنه قطعَ اليد من المفصل، وسُنَّة الرسول قد تكون قولًا، وقد تكون فعلًا، وقد تكون تقريرًا.
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، الأَمْرُ بالنسبة للوجه واضحٌ، وهُوَ أن يأتي الإنسان ويمسح وجهه، لكن الوضوء بالنسبة لليدين إنما يغسلهما إلى المرفقين، فهل ما في التيمم هو كالذي في الوضوء؟ لا، ونعرف ذلك عن طريق سُنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام، فالسُّنَّة هي لتي بَيَّنت وَحدَّدت لنا الموضعَ الذي يُنْتهى إليه في حالة غمس اليدين، ولَا يَقْصد أن يدخل الذراع، لَا، إنما القصد في ذلك الكفان " لأن الكفين هما اللذان يتوضأ بهما.
" فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، يَعْني: ليسَ لَه أن يَغْمِسَ هذه اليد الَّتي سيتوضَّأ بها، ونحن نعلم أن الإنسان يتناول وضوءه بيده اليُمْنى.
إذن، عَرَفنا أن المرادَ باليد إذا أُطْلقَتْ: الكف الذي يَنْتهي عند المفصل، لكنه إذا أُرِيدَ أكثر من ذلك، فإنه يُنَصُّ عليه، ولذلك نجد في قول الله سبحانه وتعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، فهنا لمَّا خَرَجت اليد عن المعروف، جاء تَقْييدها ووَصْفها بأنها إلى المرفقين، ولم تأتِ مطلقةً، وفعلُ الرسول عليه الصلاة والسلام جاء موافقًا لذلك.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الأَرْكَانِ: اخْتَلَفُوا فِي المَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ فِي الوُضُوءِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ).
" المضمضة ": إدخال الماء في الفم.
و" الاستنشاق ": جذب الماء إلى الأنف.
والعلماء رحمهم الله يُكْثرون من كلمة: المبالغة في المضمضة والاستنشاق؛ فالمضمضة هي إدارةُ المَاء في الفم، هذه هي المضمضة، وعند المبالغة فيها إنَّما يُتَجاوز ذلك إلى ما قبل الحَلْق، هذه هي المبالغة، ويُدَار الماءُ في الفم.
أمَّا " الاستنشاق "، فهو كما قلنا: جَذْبُ الماء إلى الأنف، والمبالغة في ذلك كَمَا ورد في الحديث:" وَبَالغ في الاسْتنشَاق إلَّا أن تَكُونَ صائمًا "، إنَّما هو إيصالُ المَاء إلى الخياشيم، والخياشيمُ هِيَ جَمْعُ خيشومٍ، هذَا فيما يتعلَّق بصِفَتِهِمَا.
هل المضمضة والاستنشاق من حيث الحكم محل اتفاقٍ بين العلماء أو لا؟
للعلماء فيهما أقوالٌ.
* قوله: (قَوْلٌ: إِنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الوُضُوءِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
(1)
، وَالشَّافِعِيِّ
(2)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ)
(3)
.
(1)
يُنظر: " الشرح الكبير " للدردير (1/ 97)؛ حيث قال: " ثمَّ شرع في بيان سننه، فَقَال:(وسننه) ثمان
…
(و) ثانيها: (مضمضة)، وَهِيَ إدخال الماء في الفم وخضخضته ومجه " أَيْ: طرحه
…
(و) ثالثها: (استنشاق)، وهو جَذْب الماء بالنفس إلى داخل أنفه ".
(2)
يُنظر: " مغني المحتاج " للشربيني (1/ 187)؛ حيث قال: " (و) من سننه (المضمضة و) بعدها (الاستنشاق) ".
(3)
يُنظر: " الدر المختار " للحصكفي (1/ 116)؛ حيث قال: " (وغسل الفم) أي: استيعابه، ولذا عبر بالغسل؛ أو للاختصار (بمياه) ثلاثة (والأنف) ببلوغ الماء المارن (بمياه)، وهما سُنَّتان مُؤكَّدتان ".
فَمِنَ العُلَماء وهُمُ الأكثر: مَنْ يذهب إلى أن المضمضةَ والاستنشاقَ إنَّما هما سُنَّتان، وليستا بوَاجبَتَين، وأَصحَابُ هذا القول هم الحنفية والمالكية والشافعية، يذهبون إلى أنهما سُنَّةٌ، وفي هذا المقام ينبغي أن نُنَبِّه إلى أمرٍ مهمٍّ؛ وهو أن الحديث هنا عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء، فلو خرجنا إلى الغسل لَوَجدنا أن الحنفيةَ ينفصلون عن المالكية والشافعية فيوجبونهما.
ولهذا الرأي أدلة، فهل هذه الأدلة محل تسليمٍ أو لا؟
يقولون: الله سبحانه وتعالى أمَرَ بأمورٍ أربعةٍ هي فرائض الوضوء، فقال:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، ولم نجد في الآية ذِكْرًا للمضمضة والاستنشاق، فلو كانت المضمضة والاستنشاق واجبتين لذُكرتَا في الآية، لكنهما غير مَذْكُورَتين فيها، فدلَّ ذَلكَ على عدَم الوجوب.
قالوا: وأمَّا ما وَرَد في سُنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنها محمولةٌ على الاستحباب، ثم يُسْندون أو يُعضِّدون دليلهم الأول بقول الرسول عليه الصلاة والسلام لذلك الأعرابيِّ الذي لم يُحْسن صلاته، قال له:" توضَّأ كما أمَرك الله "
(1)
، فَقَالوا: ذَلكم الرَّجل في أمسِّ الحاجة لأنْ يعرف الوضوء، والوضوء شرطٌ من شرائط الصلاة، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يَذْكر في هذا المقام الذي يحتاج إلى بيانٍ المضمضةَ والاستنشاقَ، بل ردَّ ذلك الرجل إلى الآية، فقال له:" تَوضَّأ كما أمَرك الله ". والله لم يَأمر في الآية بالمضمضة والاستنشاق. وعليه " فإنَّ المضمضة والاستنشاق ليستا وَاجبَتَين.
وبَعْضُهُم يضيف إلى ذَلكَ دليلًا آخر فيَقُول: ولأنَّ المضمضمة والاستنشاق ليستا محل اتفاقٍ بين العلماء على وجوبهما، بل أكثرهم يذهبون إلى عَدَم الوجوب، فعدمُ الاتفاق على وجوبهما دليلٌ على أنهما غير واجبتين.
(1)
أخرجه أبو داود (861)، وحسَّنه لغيره الأرناؤوط.
* قوله: (وَقَوْلٌ: إِنَّهُمَا فَرْضٌ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِى لَيْلَى
(1)
، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ دَاوُدَ)
(2)
.
وَمنهم: مَنْ يوجب المضمضة والاستنشاق
(3)
.
وبَسْتدلُّون بأَدلَّةٍ: يَقُولُونَ: إنَّ الله تَعَالَى قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ؛ والوجه في اللغة مأخوذٌ من المواجهة، والمضمضة محلها الفم، وهو في وَجْهه، والاستنشاق محلُّه الأنف، وهو في الوجه.
وهناك خلافٌ بين العُلَماء في أمر المواجهة، فالجمهورُ يَقُولون: لم تحصل مواجهة؛ لأن الفم والأنف عضوان داخلان فيما يتعلق بغسلهما؛ لأن الذي يمضمض ويغسل إنما هو داخل الفم وداخل الأنف، وهذان لا تحصل بهما المواجهة، ويستدلُّون بقوله عليه الصلاة والسلام:" إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْثُرْ "
(4)
.
" فَلْيَجْعَلْ "، هذا أمرٌ، والفعل المضارع حينما تقترن به لام الأمر يكون أحد صور الأمر، فقالوا: هذا أمرٌ، والله تعالى يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، والرسول عليه الصلاة والسلام طبَّق المضمضة والاستنشاق فعلًا.
واعتُرِضَ على هذا الاستدلال بأنَّ الاستنثار ليس واجبًا.
(1)
يُنظر: " الاستذكار " لابْن عَبْد البَر (1/ 123)؛ حيث قال: " وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سُلَيمان: هما فرضٌ في الغسل والوضوء جميعًا ".
(2)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البَر (1/ 124)؛ حيث قال: " وكذلك اختلف أصحاب دواد، فمنهم مَنْ قال: هما فرضٌ في الغسل والوضوء جميعًا، ومنهم مَنْ قال: إنَّ المضمضةَ سُنَّة، والاستنشاق فرض ".
(3)
وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (1/ 55)؛ حيث قال: " (ويصح أن يسميا)، أَيْ: المضمضة والاستنشاق (فرضين)، إِذِ الفرض والواجب واحد، وهما واجبان في الوضوء والغسل ".
(4)
أخرجه مسلم (237).
ورُدَّ هذا الاعتراض: من العلماء مَنْ يوجبه، ومنهم الحنابلة في روايةٍ لهم، ويَسْتدلُّون بحَدِيثٍ آخَر بالنسبة للمضمضة - والمُؤلِّف رحمه الله لم يعرض له - وهو حديث صحيح في " سنن أبي داود ":" إذا توضَّأت فمَضْمِضْ "
(1)
، قالوا: وهذا أمرٌ، والأمر يقتضي الوجوب، وهذا حديث صحيح ينبغي التسليم له، والأخذ به.
ويَسْتدلُّون بحديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: " المَضْمَضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه "
(2)
.
وفي حديث أبي هريرة: " تمضمضوا واستنشقوا "
(3)
، وهذا أيضًا أمرٌ، والأمرُ يَقْتضي الوجوب.
ويستدلُّون بقوله صلى الله عليه وسلم: " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا "
(4)
، قالوا: هذا أمرٌ، وأمرٌ بالمبالغة، فإذا كانت المبالغة قد أُمِرَ بها، والعلماء مجمعون على أنها غير واجبةٍ، فما بالك بالاستنشاق؟!
وسننبه على قضية المبالغة إن شاء الله، وسنربطها بقاعدة فقهية.
*
فائدة: للإمام أحمد ثلاث روايات في هذه المسألة:
* رواية مع الجمهور: أن المضمضة والاستنشاق سُنَّتان، وهذه ليست مشهورةً.
* رواية قوية، أو إحْدَى الروايتين المشهورتين أو المعروفتين أنهما واجبتان.
(1)
أخرجه أبو داود (144)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(2)
أخرجه البيهقي في " الكبرى "(239)، قال ابن عبد الهادي في:" تنقيح التحقيق "(1/ 185): " فِي هذا الحديث مقالٌ؛ لأَنَّه تفرد به سليمان عن الزُّهري، وتفرَّد به عصام عن ابن المبارك ".
(3)
أخرجه الدارقطني (334)، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في " صحيح الجامع "(2999).
(4)
تقدم تخريجه.
* رواية بوُجُوب الاستنشاق دون المضمضة
(1)
.
* قوله: (وَقَوْلٌ: إِنَّ الاسْتِنْشَاقَ فَرْضٌ، وَالمَضْمَضَةَ سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ
(2)
، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ)
(3)
.
ومنهم مَنْ يُفَرِّقُ بينهما، فيُوجب الاستنشاق دون المضمضة، ويعلِّلون بأنَّ ما وَرَد في الاستنشاق إنَّما هو أكثر، أو أنه من أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وما يتعلق بالمضمضة إنما هو من الفعل، وسنبين القول الصحيح في ذلك، وأنَّ هَذَا رأي غير مُسَلَّمٍ.
قالوا: فُرِّقَ بينهما؛ لأنَّ الاستنشاقَ وردت فيه أحاديثُ كثيرةٌ، منها حديث:" فلينثر "، والحديث الذي ذَكَرناه:" إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْثُرْ "، " وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إلَّا أنْ تكونَ صَائمًا "، وهُنَاك أدلةٌ كثيرةٌ وردت في الاستنشاق، فقالوا: إن الاستنشاقَ وَرَد من قوله عليه الصلاة والسلام، والمضمضة وَرَدتْ من فعلِهِ عليه الصلاة والسلام، وَيعْتبرون أن ما جاء قولًا أقوى مما جاء فعلًا؛ لأن القول إنما يأتي أحيانًا بصيغة الأمر، والأصل في الأمر إنما هو الوجوب ما لم يوجد صارفٌ.
(1)
يُنظر: " الإنصاف " للمرداوي (1/ 152، 153)؛ حيث قال: " (وهُمَا واجبان في الطهارتين) يعني: المضمضة والاستنشاق، وهذا المذهب مطلقًا؛ وعليه الأصحاب، ونصروه، وهو من مفردات المذهب. وعنه: أن الاستنشاق وحده واجب. وعنه: أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى. وعنه: أنهما واجبان في الصغرى دون الكبرى، عكس التي قبلها، نقلها الميموني. وعنه: يجب الاستنشاق في الوضوء وحده، ذكرها صاحب " الهداية " و" المحرر "، وغيرهما. وعنه: عكسها، ذكرها ابن الجوزي. وعنه: هما سُنَّة مطلقًا ".
(2)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (1/ 124)؛ حيث قال: " ولم يختلف قول أبي ثورٍ وأبي عبيد أن المضمضة سُنَّة، والاستنشاق واجب، قالا: مَنْ ترك الاستنشاق وصلى أعاد، ومن ترك المضمضة لم يعد ".
(3)
سبق توثيقه، انظر الحاشية السابقة.
مناقشة الجمهور:
ما وَجدتُ الجمهورَ عَرَضُوا لحديث: " إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْثُرْ " - فيما اطَّلعتُ عليه من كتبهم - وإنما يُركِّزون على حديثين؛ حديث عائشة رضي الله عنها: " المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه "، ولقولون بأن هذا الحديثَ فيه ضعفٌ.
ويقولون في حديث أبي هريرة: " تمضمضوا واستنشقوا ": إنه حديثٌ ضعيفٌ.
نقول: نُسَلِّمُ ضعفَ الدليلين، بل هذا أمرٌ لا خلاف فيه، وَلَكن ما بالُكُم بالأحاديث الأُخرى التي بعضها في " الصحيحَين ":" إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْثُرْ "، وَحَديث فِي المَضْمَضة:" إذَا تَوضَّأت، فَمَضْمض "، وهو في " سنن أبي داود "، وهو حديثٌ صحيحٌ.
وهذِهِ الأحاديثُ إنما جاءت بيانًا لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، والسُّنَّة إنما جاءت بيانًا لما وَرَد مُجْمَلًا في كتاب الله عز وجل، والله تعالى هو الذي أرشد إلى هَذَا الأمر بقوله في آياتٍ متعددةٍ؛ كقول الله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، والبيان إنما يكون قولًا وفعلًا.
وقد تُخصِّص السُّنَّة بعضَ الآيات العامة أو تفصلها، ومَنْ أراد أن يعرف ذلك مفصلًا فليرجع إلى ما يُعْرَف بـ " تاريخ التشريع "؛ فإن الذي كتبوا في هذا الموضوع قد فَصَّلُوا القول فيه.
القَوْلُ الأَوْلَى:
ننتهي إلى أن الأَوْلَى هو أنه ينبغي الأخذ بقول مَنْ يقول بوجوب المضمضة والاستنشاق؛ لوجود الأدلة التي تدعم هذا القول، ولا نرى ما يبطلها؛ ولأنه الأحوط، والرسول عليه الصلاة والسلام يَقُول:" دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك "
(1)
، وهذا من المقام الذي يَشُكُّ فيه الإنسان، فهو
(1)
أخرجه الترمذي (2518)، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ (3194).
إذا لم يتمضمض أو يستنشق، فإنه في هذه الحالة حِينَئذٍ لا يطمئن إلى وضوئِهِ، وبالتَّالي يشكُّ في صَلَاتِهِ، ولا ننسَى أن من العلماء مَنْ قال بأنَّ مَنْ ترك الاستنشاق، بطل وضوؤه، وإذا بطل وضوؤُهُ، لم تصحَّ صلاتُهُ، وأي مسلمٍ يُقْدم على مثل هذا الأمر؟!
إذًا، الأَوْلَى ألا نتوقَّف، ولم يُنْقل ولَا في حديثٍ واحدٍ من أقوال الرَّسُول عليه الصلاة والسلام، ولا من أفعالِهِ أنه ترك المضمضة والاستنشاق.
ألا يكفينا أن نَقْتدي بفِعْلِ الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
فيَنْبغي أن نقفَ عند هذا الأمر، ولا نَتسَامح أو نتساهل فيه، وهذا أيضًا ليس هناك ما يُبْعده من أن يكون داخلًا في عُمُوم قَوْل الله تَعَالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .
* قَوْله: (وَسَبَبُ اخْتِلافِهِمْ فِي كَوْنِهَا فَرْضًا أَوْ سُنَّةً: اخْتِلافُهُمْ فِي السُّنَنِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، هَلْ هِيَ زِيَادَةٌ تَقْتَضِي مُعَارَضَةَ آيَةِ الوُضُوءِ أَوْ لا تَقْتَضِي ذَلِكَ؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذ الزِّيَادَةَ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى الوُجُوبِ، اقْتَضَتْ مُعَارَضَةَ الآيَةِ، إِذِ المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ تَأْصِيلُ هَذَا الحُكْمِ).
عندما نَقِفُ عند قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ولا نتجاوز هذا الحدَّ، نقول: زائدة، لكن الوجه هو ما تَحْصل به المواجهة من حيث اللغة، فما المانع أن نخرج من ذلك المضمضة والاستنشاق، الخلاف إنما هو في داخل الأنفِ وداخل الفم.
* وقوله: (وَتَبْيِينُهُ، أَخْرَجَهَا مِنْ بَابِ الوُجُوبِ إِلَى بَابِ النَّدْبِ).
يُرِيدُ المؤلِّف رحمه الله أن يَقُولَ: المُرَادُ من هذه الآية تأصيلُ الحُكْمِ، أي: بيان الفروض التي هي أُصُولٌ في هذه المسألة، والأصول هنا إنما هي أربعةٌ: غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، على خلافٍ فيه سيأتي، وغسل الرِّجْلين إلى الكعبين، والخلاف فيهما شاذٌّ لا يعتدُّ به.
فَمَنْ يَقُولُ بأنَّه ينبغي أن نقصرَ ما في الآيَةِ على الفرائض ولا نتجاوزه، فما زاد عن هذه الأمور الأربعة إنَّما هي تدخل في أبواب السُّنَن، ولا يَنْبغي أن نلْحقها في الفرائض، فهو يتخذ هذا القول له.
* قوله: (وَمَنْ لَمْ يَرَ أَنَّهَا تَقْتَضِي مُعَارَضَةً، حَمَلَهَا عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الوُجُوبِ).
والواقعُ أنها لا تَقْتضى معارضةً؛ لأنَّ هذه سُنَّةٌ، وهذا كتابٌ، والسُّنَّة بتَوْجِيهٍ من الله، وهي بيان للكتاب، والبيانُ جَاء عن طريق قول وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأي معارضةٍ بينهما؟ لا معارضةَ، بَلْ هو بيانٌ وتفصيلٌ، وقد رَأَيْنا ذلك في أحكامٍ كثيرةٍ جدًّا.
* قوله: (وَمَنِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الأَقْوَالُ وَالأَفْعَالُ فِي حَمْلِهَا عَلَى الوُجُوبِ، لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ المَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ).
مراد المؤلف رحمه الله أن يقول: مَنْ تساوت عنده الأقوال والأفعال؛ يعني: أقوال الرَّسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي ذكرنا، كقوله:" فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْثُرْ "، وقَوْله:" إذا تَوضَّأت فمَضْمِضْ "، وبَيْن ما ورد أو نُقِلَ إلينا من وَصف وضوئِهِ صلى الله عليه وسلم، والَّذي وَرَدتْ فيه ملازمتُهُ للمَضْمضة والاستنشاق، ولم يُفرِّق بينهما، فهو يَرَى وُجُوبَهما.
قلنا: إنَّنا لا نجد فرقًا، فلا إشكالَ، ولا معارضة في كون الأحاديث التي وردت في الاستنشاق أكثر من التي وردت في المضمضة، خصوصًا الأحاديث التي وردت قولًا، لكن كونها أكثر لا يُخْرج المضمضة من أن تكون أيضًا متعينةً.
* قوله: (وَمَنْ كانَ عِنْدَهُ القَوْلُ مَحْمُولًا عَلَى الوُجُوبِ، وَالفِعْلُ مَحْمُولًا عَلَى النَّدْبِ، فَرَّقَ بَيْنَ المَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ).
ولعلَّ المؤلف رحمه الله وغيره من بعض الفقهاء لَمْ يقفوا على الحديث الذي أوردته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:" إذا تَوضَّأت فمَضْمِضْ "، فهذا أمرٌ، وليس فعلًا، وبه يترجَّح قول القائلين بوُجُوبهما معًا، ولو انضمَّ
هذا الحديثُ إلى أدلة الفريق الثالث الذي يوجبهما، لتَقوَّى هذا المذهب، وهو أيضًا أسلم المذاهب الثلاثة وأحوطها.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ المَضْمَضَةَ نُقِلَتْ مِنْ فِعْلِةِ عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ تُنْقَلْ مِنْ أَمْرِهِ).
وهذا غير صحيحٍ كما قلنا؛ لحديث: " إذا تَوضَّأت فَمَضْمِضْ "، وحديث:" تَمَضْمَضوا وَاسْتَنْشقوا "، وحديث:" المَضْمَضة والاستنشاق من الوُضُوء الذي لا بدَّ منه ".
وهناك كلامٌ وجدالٌ للعُلَماء في حديث: " تَمَضْمَضُوا واسْتَنْشقُوا "، وحديث أبي هريرة - كما ذكرنا - للعلماء كلامٌ فيه من حيث ضَعْف السَّند، وحديث عائشة رضي الله عنها أيضًا الذي فيه:" المضمضة والاستنشاق من الوُضُوء الذي لا بدَّ منه "، لكن حديث:" إذا توضأت فمضمض " يبقى ثابتًا صحيحًا لا اعتراضَ عليه.
* قوله: (وَأَمَّا الاسْتِنْشَاقُ، فَمِنْ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام وَفِعْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: " إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْثُرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ).
أَوْرَد المؤلف رحمه الله الحديثَ المتفقَ عليه، وجاء في صحيحي البخاري ومسلم بعدة رواياتٍ، اختار المؤلف رحمه الله منها هذه الرواية.
* قوله: (خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ "
(1)
، وَالبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " من حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ "
(2)
.
وخرَّجه مسلمٌ أيضًا
(3)
؛ فهُوَ حَديثٌ متفقٌ عليه، وفي كُتُب السُّنن أيضًا، لكننا نكتفي بعَزْوه إلى " الصَّحيحَين ".
(1)
أخرجه مالك (1/ 19).
(2)
أخرجه البخاري (162).
(3)
ليس هذا الحديث في " صحيح مسلم "، وسبب الإشكال أنَّ البخاريَّ روى هذا =
كيفية المضمضة والاستنشاق:
وَصْفُ المضمضة: هُوَ إدخَال الماء إلى الفم وإدارته، والمبالغة: أن تقدم ذلك إلى جهة الحلق دون أن يصلَ إليه.
والاستنشاق: جَذْبُ الماء بالهواء عن طريق النَّفَس، فإن بالغت، فتوصل ذلك إلى الخياشيم، وقد ورد في الحديث:" وبَالِغْ في الاستنشاق إلَّا أن تكون صائمًا ".
يبقى هنا فيما يتعلق بالمضمضة والاستنشاق مسألتان:
المسألة الأولى: ما يتعلق بكيفية المضمضة والاستنشاق.
وعندما نعود إلى أَحَاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في وَصْفِ وضوئِهِ، نجد أنه تمضمضَ واستنشقَ، ففي بعضها أنه غرف غرفةً واحدةً، وبَعْضها أنها أكثر من ذلك، فهل يقتصر على غرفةٍ واحدةٍ، فَيُكْتَفى بها أيضًا في المضمضة والاستنشاق؟
ثمَّ هَلْ يُؤْخذ للمَضْمضة جزءٌ، ثمَّ بعد ذلك يمجُّهُ ويطرحه، ثم بعد ذلك يستنشق، وهكذا، .. فيتمها بغرفةٍ واحدةٍ مشتركةٍ بينهما؟
مع أن العلماءَ متفقون من حيث الجملة على أن المضمضة تقدم، أو أنه يأخُذ لهما ثلاث غرفاتٍ، يُشركُ بينهما في كل غرفةٍ، أو أنه يفصل بينهما، فيتمضمض ثلاثًا، ثم يستنشق ثلاثًا، فيكون ذَلكَ ست غرفاتٍ، فِي هذا تفصيل للعُلَماء، ولا خلافَ بَيْنهم في أنَّ أيَّ طريقةٍ سَلَكها المسلم فهي صحيحةٌ.
المسألة الثانية: قضيةٌ مهمةٌ تتعلَّق بالقواعد الفقهية، ويجب دائمًا أن نربط الفقه بها.
= الحديث بلفظه المذكور مع تتمةٍ له لم يذكرها ابن رشد، هكذا:" إذا تَوضَّأ أحدُكُم، فَلْيَجْعل في أنفِهِ، ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ". وهذه الزيادة - أعني قوله: " وإذا استيقظ أحدكم
…
" - قَدْ أخرجها مسلم رحمه الله في حديث مفرد (278).
مرَّ في أثناء كلامنا حديث: " وَبَالغ في الاستنشاق إلَّا أَنْ تكونَ صائمًا "، والحديث فيه الحضُّ على المُبَالغة في الاستنشاق، وفي حديثٍ آخر الحضُّ على المَضْمَضة والمبالغة فيها، ولا خلاف بين العلماء في أنه يُسْتحبُّ المُبَالغةُ في المضمضة والاستنشاق إلا للصَّائم، فلماذا مُنِعَ الصائم من ذلك؟ مُنِعَ خشيةَ أن يتسرب الماء إلى جوفه فيفطر؛ فهذه هي العلة.
وأَخَذ العلماءُ قاعدةً معروفةً من مثل هذا الحديث - وليس من هذا الحديث وحده - بل من عدة نُصُوصٍ، فَقَالوا:" دَرْءُ المَفَاسد مقدمٌ علَى جَلْب المَصَالح ".
فالمَضمَضَةُ والاستنشاقُ أُمِرْنَا بأن نبالغَ فيهما إلَّا أن يكونَ أحدُنَا صائمًا، فلا يفعل ذلك، والسَّبب: درءًا للمفسدة الَّتي هي أكبر من المصلحة، فالمبالغةُ مصلحةٌ، لكن المفسدة المُتَرتبة على ذلك أكبر، فيَنْبغي تَرْكها.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ تَحْدِيدِ المَحَالِّ).
ومسألة تحديد المحالِّ مهمةٌ جدًّا، وقَدْ يكون خفاؤها على بعض الناس أكثر من المَضْمَضة والاستنشاق.
* قوله: (اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الوَجْهِ بِالجُمْلَةِ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وَاخْتَلَفُوا مِنْهُ فِي ثَلاثَةِ مَوَاضِعَ).
وكَأنَّ المؤلِّف يميل إلى أن المضمضة والاستنشاق غير واجبتين، ولذلك فصلهما عن الوجه، وبعض العلماء يُدْخلهما ضمن الحديث عن الوجه، فيَجْعلهما مقدمةً للحديث عنه، فهنا تكلم عن المضمضة والاستنشاق، ثم بعد ذلك انتقل إلى الوجه.
إذًا، لا خلَافَ بين العُلَماء - رَحمَهم الله تَعالَى - على أن غسلَ الوجه فرضٌ، بَلْ إنَّهمْ أَجْمَعوا على ذَلكَ، ودليل ذَلكَ أمورٌ ثلاثةٌ:
أولًا: قوله الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم} .
ثانيًا: مَا وَرَدَ من الأحَاديث عن الرَّسُول عليه الصلاة والسلام التي وصفت لنا فعلَه.
ثالثًا: إجمَاعُ العُلَماء علَى ذَلكَ، فالمَسْألةُ مُجْمعٌ علَيها، وليست محل نقاشٍ، ولا جدالٍ، ولا محل تفصيلٍ
(1)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْهُ فِي ثَلاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي غَسْلِ البَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ العِذَارِ
(2)
وَالأُذنِ).
و" العِذَارُ ": هُوَ الشعر الَّذي علَى العظم النائي الذي هو سمت
(3)
صماخ
(4)
الأذن، فهذا البياض وَاجبٌ غسله عند أكثر العُلَماء؛ كالحنفية
(5)
، والشَّافعيَّة
(6)
، والحنابلة
(7)
، وذكر المؤلِّف رحمه الله أنَّ مذهبَ
(1)
يُنظر: " الإقناع في مسائل الإجماع " لابن القطان (1/ 83)؛ حيث قال: " واتفقوا على أن غسل الوجه من أصول منابت الشعر في الحاجبين إلى أصول الأذنين إلى آخر الذقن، فرض على مَنْ لا لحيةَ له ".
(2)
" العِذَار "، بكَسْر العَين: جانبا اللِّحْيَة؛ مَوْضع الشعر الذي يُحَاذي الأُذُنَ، ومعقد العذار خلف الناصية، وما بين العِذَارِ والأذُن من البياض، يُسَمَّى: الشَّاكل، والجمع: شُكُلٌ. انظر: " المحكم " لابن سيده (2/ 73)، و" الصحاح " للجوهري (5/ 1736)، و" معجم لغة الفقهاء " للقلعجي (ص 307).
(3)
" المُسَامَتَةُ " بِمَعْنَى: المُقَابَلَةِ وَالمُوَازَاةِ، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلاسْتِقْبَالِ عِنْدَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الاسْتِقْبَالَ بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ بِلَا انْحِرَافٍ يَمْنَةً وَلا يَسْرَةً. انظر:" الموسوعة الفقهية الكويتية "(4/ 61).
(4)
" الصِّمَاخُ ": خَرْق الأذن، وبالسين لغة؛ (السماخ)، ويقال: هو الأذُن نفسها. انظر: " الصحاح " للجوهري (1/ 426).
(5)
يُنظر: " الدر المختار " للحصكفي (1/ 97)؛ حيث قال: " وحينئذ (فيجب غسل المياقي)
…
(وما بين العذار والأذن)؛ لدخوله في الحد، وبه يفتى ".
(6)
يُنظر: " مغني المحتاج " للشربيني (1/ 173)؛ حيث قال: " (ويجب غسل كل هدب)
…
(وعذار)، وهو بالذال المعجمة: الشعر النابت المحاذي للأذن بين الصدغ والعارض. وقيل: هو ما على العظم الناتئ بإزاء الأذن، وهو أول ما ينبت للأمرد غالبًا ".
(7)
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (1/ 56)؛ حيث قال: " (و) حد الوجه (من =
المالكيَّة فيه روايتان
(1)
، والذي أعرفه أنَّ الصحيحَ من مذهبهم إنَّما هو روايتهم مع جمهور العلماء
(2)
.
* قوله: (وَفِي غَسْلِ مَا انْسَدَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ، وَفِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ).
والمراد بـ " مَا انْسَدَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ ": اللحية الطويلة؛ لأن اللحية على نوعين، والمؤلف هنا لم يفصلها:
1 -
لحيةٌ خفيفةٌ.
2 -
ولحيةٌ كثيفةٌ.
ولكل واحدةٍ منهما حكمٌ، وقد يظن الإنسان أن الحديث عن اللحية لا يختلف، لا، فاللحية الخفيفة سنبين حدَّها، وكيف وَصَفها العُلَماء، فقَدْ ذكروا لها أمورًا ثلاثةً سَنعُودُ إلى شَرْحها.
* قوله: (فَالمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ البَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ العِذَارِ وَالأُذُنِ مِنَ الوَجْهِ).
ممَّا ينبغي أن يلتفتَ إليه: أنه لا يلزم من كلمة " المشهور " في أي مذهبٍ من المذاهب أن يكون هذا المذهب المشهور هو الصحيح، بَلْ قد تجدَ رواية ضعيفة في مذهبٍ من المذاهب وتكون هي الصحيحة، وهي التي تلتقي مع الأدلة، فلا يلزم أن تكون رواية اشتهرت في مَذْهبٍ،
= الأذن إلى الأذن عرضًا)
…
(فيدخل) فيه (عذار، وهو شعر نابت على عظم ناتئ يسامت)، أي: يحاذي (صماخ) بكسر الصاد (الأذن)، أي: خرقها ".
(1)
لَمْ أَرَ مَنْ قد نصَّ على ذَلكَ من المالكية غير أنَّ كتبهم قد اختلفت نصوصها في هذه المسألة؛ يُنظر: " الشرح الكبير " للدردير (1/ 85)؛ حيث قال: " (غسل ما بين) وتدي (الأذنين)، فكلامه على حَذْف مضافٍ، فَخَرج: شعر الصدغين، والبياض الذي بينه وبين الأذن "، وانظر:" التاج والإكليل " للمواق (1/ 260)؛ حيث قال: " فرائض الوضوء: غسل الوجه، وهو من منبت شعر الرأس المعتاد حتى الذقن، والعذاران منه. وفي " المبسوط ": وكَذَلك البياض بينه وبين الأذنين ".
(2)
المَشْهُورُ في كُتُب المتأخرين من المالكية خروجها عن حدِّ الوَاجب، والله أعلم.
وعُرِفَتْ، وأخَذ بها كَثيرٌ من الأصحاب أن تكون هي الصحيحة، لا، ففَرْقٌ بين " الصحيح " وبين " المشهور ".
* قوله: (وَقَدْ قِيلَ فِي المَذْهَبِ بِالفَرْقِ بَيْنَ الأَمْرَدِ وَالمُلْتَحِي
(1)
، فَيَكُونُ فِي المَذْهَبِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ).
" قِيلَ في المذهب "، تعني أنه قولٌ ضعيفٌ، وهذا المذهب الذي يقول عنه:" قِيلَ "، هو الصحيح في نظري، وهو الذي أخذ به جماهير العلماء.
وأنا لم أقف على أحدٍ فيما أعرف من أهل الفقه - خلال دراستي واطلاعي على كثيرٍ من كتب الفقه - فرَّق بينهما إلا هذه الرواية عن مالكٍ رحمه الله، وهُوَ قولٌ لأَبي يُوسُف صاحب أبي حنيفة الإمام القاضي المعروف
(2)
.
وَسَببُ تَفْريقهما بين الأمرد والملتحي: هو المواجهة؛ فإن الأمردَ لا يوجد عنده فاصلٌ؛ فتحصل المواجهة، وغير الأمرد لا تحصل له مواجهةٌ؛ لوجودِ فاصلٍ
…
وهذا التعليل في نظري فاسدٌ وضعيفٌ، والصَّحيحُ هو مذهب جماهير العلماء في هذه المسألة.
* قوله: (فَيَكُونُ فِي المَذْهَبِ فِي ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ).
الجمهور (الحنفية، والشافعية، والحنابلة): البياض الذي بين العِذار وبين الأذن يجب غسله.
رواية للمالكية: خالفوا فيها، وفي نظري ضعيفة، لا أعني: ضعيفة في المذهب، وإنما أعني من الناحية الفقهية.
(1)
يُنظر: " الجامع لمسائل المدونة "(1/ 56)؛ حيث قال: " قال أبو إسحاق في البياض الذي بين الصدغ والأذن: قد اختلف فيه؛ فقيل: لا يغسل؛ سواء كان من أمرد أو ملتحٍ. وقيل: يغسل. وقيل: تغسله المرأة والأمرد، ولا يغسله الملتحي ".
(2)
يُنظر: " المبسوط " للسرخسي (1/ 6)؛ حيث قال: " إلَّا في رواية أبي يوسف رحمه الله، قال في حق الملتحي: لا يلزمه إيصال الماء إلى البياض الذي بين العذار وبين شحمة الأذن ".
رواية عن مالك ورأي أبي يوسف: التفريق بين الملتحي والأمرد.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ مِنَ الوَجْهِ).
وأحمد أيضًا، فَتنبَّهْ
(1)
؛ لأنه لا يذكر مذهب أحمد إلا قليلًا.
• قوله: (وَأَمَّا مَا انْسَدَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى وُجُوبِ إِمْرَارِ المَاءِ عَلَيْهِ
(2)
، وَلَمْ يُوجِبْهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَلَا الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ)
(4)
.
" في أحَد قَوْليه": يُفْهم منه أنَّ هناك قولًا آخر للشافعي، وَهُوَ الَّذي صحَّحه أكابر علماء المذهب
(5)
، وهو أيضًا مذهب الإمام أحمد
(6)
.
فعَاد الشافعيَّة والحنابلة، واتَّفقوا مع المالكيَّة فيما يتعلَّق بإمرار الماء على ما انسدلَ من اللِّحية.
(1)
سبق توثيق المذاهب في بداية المسألة.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 86)؛ حيث قال: " (و) منتهى (ظاهر اللحية) فيمن له لحيةٌ
…
فبتقدير منتهى يدخل الذقن وظاهر اللحية؛ لأنهما من الوجه، فَيَجب غَسْلهما، والمراد بغسل ظاهرها إمرار اليد عليها مع الماء، وتحريكها، وَهَذا التحريك خلاف التخليل".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (1/ 97)؛ حيث قال: " (فيجب غسل المياقي)
…
(لا غسل باطن العينين) والأنف والفم وأصول شعر الحاجبين واللحية والشارب".
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 173، 174)؛ حيث قال: " (وقيل: لا يجب) غسل
…
(واللِّحية) من الرجل - وهي بكسر اللام، وحكي فتحها: الشعر النابت على الذقن خاصة، وهي مجمع اللحيين".
(5)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 52)؛ حيث قال: "الخارجة عن حدِّ الوجه من اللحية، والعارض، والعذار، والسبال طولًا وعرضًا، والأظهر وجوب إفاضة الماء عليها، وهو غسل ظاهرها. والثاني: لا يجب شيء. وقيل: يجب غسل الوجه الباطن من الطبقة العليا. وقيل: يَجب غسل السبال قطعًا. والمذهبُ الأولُ".
(6)
يُنظر: "شرح مُنْتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 56)؛ حيث قال: "فَيَجب غسل ذلك (مع مسترسل) شعر (اللِّحية) بكسر اللام طولًا، وما خرج عن حد الوجه عرضًا؛ لأن اللحية تُشَارك الوجه في معنى التوجُّه والمواجهة".
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلافِهِمْ فِي هَاتَيْنِ المَسْأَلَتَيْنِ: هُوَ خَفَاءُ تَنَاوُلِ اسْمِ الوَجْهِ لِهَذَيْنِ المَوْضِعَيْنِ، أَعْنِي: هَلْ يَتَنَاوَلُهُمَا أَوْ لا يَتَنَاوَلُهُمَا؟ وَأَمَّا تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا
(1)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ فِي الوُضُوءِ)
(3)
.
وأحمد أيضًا
(4)
.
• قوله: (وَأَوْجَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(5)
.
والتفصيل أن اللحية على نوعين:
1 -
لحيةٌ خفيفةٌ.
2 -
ولحيةٌ كثيفةٌ؛ يعني: غير خفيفةٍ.
(1)
حقيقة مذهب المالكية: التفريق بين اللحية الخفيفة والكثيفة؛ فأما الخفيفة، فَيَجب تخليلها، وأما الكثيفة فيُكْره تخليلها على الراجح عندهم، وفيها ثلاثة أقوال
…
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 86)؛ حيث قال: "فيغسل ما ذكر (بتخليل)؛ أي: مع تخليل (شعر) من لحيةٍ أو حاجبٍ أو شارب أو عنفقةٍ أو هدب (تظهر البشرة)؛ أي: الجلدة (تحته) في مجلس المخاطبة. والتخليل: إيصال الماء للبشرة، وخرج بـ (تظهر البشرة تحته، وهو الخفيف): الكثيفُ؛ فلا يخلله، بَلْ يُكْره على ظاهرها".
وانظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 86)؛ حيث قال: " (قَوْله: بل يُكْره)، أي: لمَا في ذلك من التعمُّق (قوله: على ظاهرها)؛ أي: وهو الراجح، خلافًا لمَنْ قال: يُندَب تخليله، ولمَنْ قال بوجوب تخليله".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (1/ 102)؛ حيث قال: "وسننه
…
(وتخليل اللحية) لغير المحرم بعد التثليث".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج"(1/ 190)؛ حيث قال في سنن الوضوء: " (و) من سننه (تخليل اللِّحية الكثَّة) ".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 106)؛ حيث قال: " (و) من سنن الوضوء (تخليل الشعور)، أي: شعور اللحية "الكثيفة في الوجه
…
".
(5)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيدٍ (1/ 34)؛ حيث قال: "ومحمد بن عبد الحكم يرى تخليلها في الوضوء".
فكيفَ نُفرِّق بينهما؟
إذا عرفنا ضابط اللحية الخفيفة، تبيَّن لنا ضابط اللحية الكثيفة، وهُنَاك أقوالٌ للعُلَماء في وَصْف اللحية الخفيفة، ولكنَّها كلها تلتقي حول أمرٍ واحدٍ
…
فبَعْضُهُم يقول: اللِّحيةُ الخفيفةُ هي ما اصطلح الناس على أنها خفيفةٌ، بناءً على قاعدةٍ معروفةٍ:"العادة مُحَكَّمَة"
(1)
التي بُنِيَتْ على أثر عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: "مَا رَاَه المُسْلمونَ حسنًا فهو عندَ الله حَسن، وما رَأَوْه سيئًا فهو عند الله سيِّئٌ"
(2)
.
فما رآه الناس لحيةً خفيفةً، فهي خفيفةٌ، وما رَأوها غير خفيفةٍ، فهي اللحية الكثيفة.
وبعضهم يقول: اللحية الخفيفة هي التي يصل الماء إلى أعماقها دون مَشقَّةٍ
(3)
.
وبعضهم يقول: هي التي تصف البشرة، أَيْ: التي تستطيع أن ترى البشرة من خلالها، فهذه اللحية الخفيفة إنما يجب غَسْلها عند كافة العلماء
(4)
.
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 89)؛ حيث قال: "القاعدة السادسة: العادة محكمة. قال القاضي: أصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ".
(2)
أخرجه أحمد (3600)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
(3)
يُنظر: "المجموع" للنووي (1/ 375)؛ حيث قال: "في ضبط اللحية الكثيفة والخفيفة أوجه:
أحدها: ما عدَّه الناس خفيفًا فخفيف، وما عدوه كثيفًا فهو كثيفٌ، ذكره القاضي حسين في تعليقه، وهو غريب.
والثاني: ما وصل الماء إلى ما تحته بلا مشقةٍ، فهو خفيف، وما لا فكثيف، حكاه الخراسانيون.
والثالث: وهو الصحيح، وبه قطع العراقيون والبغوي وآخرون، وصححه الباقون، وهو ظاهر نص الشافعي
…
".
(4)
وهذا تعريف الأحناف؛ يُنظر: "البحر الرائق"(1/ 12)؛ حيث قال: "والمراد بالخفيفة: التي لا ترى بشرتها". =
وفي نظري: أنَّ أصلحَ الأقوال وأبينها هو القول الثالث.
وعلى ذلك: إن كانت اللحية خفيفةً، فيجب غسلها؛ لأنها حلت محل البشرة فغطتها، ولم تغط البشرة تغطية تداريب البشرة، فالبشرة أصبحت بائنةً وظاهرةً، والوصول إليها سهلٌ.
أما اللحية الكثيفة التي لا تُرَى من خلالها البشرة، أَوْ لَا تُوصَف البشرة بسببها:
فالأئمة الأربعة متفقون على أن تخليلها مستحبٌّ، وليس بواجبٍ
(1)
.
وهناك رواية تُنْقل عن إسحاق بن راهويه رحمه الله أنه لو ترك الإنسان تخليلَ لحيته عامدًا، لا يصحُّ وضوؤه، لكن هذا قول ضعيف
(2)
.
وَقَدْ وَرَد في تخليل اللِّحية أحاديث، وإن كان المؤلف وغيره قالوا: إن كُلَّ الأحَاديث التي وَرَدتْ في تخليل اللحية ضَعِيفَةٌ
(3)
، فَالوَاقعُ خلاف
= والمالكية، يُنظر:"التنبيه على مبادئ التوجيه"(1/ 219)؛ حيث قال: "الشعور النابتة على الوجه إن كانت خفيفةً؛ بحيث تظهر منها البَشَرَةُ عند التخاطب".
والشافعية، يُنظر:"المجموع" للنووي (1/ 375)؛ حيث قال: "ظاهر نص الشافعي أن ما ستر البشرة عن الناظر في مجلس التخاطب، فهو كثيفٌ، وما لا فخفيفٌ".
(1)
سبق توثيق ذلك إلى الأحناف والشافعية، وتبيَّن أنَّ المالكية يستثنون اللحية الكثيفة؛ فيُكْره تخليلها على الراجح عندهم.
(2)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (2/ 269)؛ حيث قال: "قال إسحاق: ذلك إذا سها عن التخليل، أو كان متأولًا، فأما إذا ترك عمدًا، أعاد".
(3)
يُنظر: "علل الحديث" لابن أبي حاتم (1/ 553)؛ حيث قال: "وَسَمعتُ أَبِي يَقُولُ: لا يَثبُتُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في تَخليلِ اللِّحْيَة حديثٌ"، وانظر:"نصب الراية" للزيلعي (1/ 23)؛ حيث قال: "روى تخليل اللحية عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من الصحابة: عثمان بن عفان، وأنس بن مالك، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وعائشة، وأبو أيوب، وابن عمر، وأبو أمامة، وعبد اللّه بن أبي أوفَي، وأبو الدرداء، وكعب بن عمرو، وأبو بكرة، وجابر بن عبد الله، وأم سلمة، وكلّها مدخولةٌ، وأمثلها حديث عثمان".
ذلك
(1)
، بَلْ فِي "سنن الترمذي ": حسن صحيح
(2)
، ورَوَاه الحاكم، وَصَحَّحه، وَوَافقه الذهبيُّ عليه
(3)
.
وهُنَاك حديثٌ حسَّنه الحافظ ابن حجر رحمه الله
(4)
.
ونجد بعض طلاب العلم يَتسَاهلون في الأحاديث التي يَذْكرها الحاكم، فيَقُولون: وهو على شرط الشيخين، أَوْ على شرط مسلم، أو على شرط البخاري، بينما قَدْ يكون الحديث ضعيفًا.
وهناك قضية مهمةٌ جدًّا ينبغي أن ينتبه لها طالب العلم: وَهِيَ مُوَافقة الإمام الذَّهبيِّ للحاكم في تصحيحه، فَمُوَافقة الذهبيِّ للحاكم في تصحيحه إنَّما هي تسند وتعضد ذلك التصحيح، والإمام الذهبي أحد العلماء، وهو من أخصِّ أصدقاء شيخ الإسلام ابن تيمية، ويُعْتبر بمَثَابة تلاميذه، وهو من الأئمة الذي كَتَبوا في علوم الحديث فيما يتعلق بطبقات الرِّجال والجرح والتعديل، وله كتابه المعروف الشهير "تاريخ الإسلام" الذي طبع أكثره، وكَذَلك كتابه:"سير أعلام النبلاء".
(1)
يُنظر: "العلل الكبير" للترمذي (ص 33)؛ حيث قال: "قال محمد (يعني: البخاري): أصح شيءٍ عندي في التخليل حديث عثمان. قُلْتُ: إنهم يتكلَّمون في هذا الحديث، فقال: هو حسن".
(2)
أخرج الترمذي (ص 31)، عن عثمان بن عفان:"أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُخلِّل لحيته"، ثم قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
(3)
أخرجه الحاكم (527)، ثمَّ قال: "وهذا إسنادٌ صحيحٌ
…
وله في تخليل اللحية شاهدٌ صحيحٌ عن عمار بن ياسر، وأنس بن مالك، وعائشة رضي الله عنها".
(4)
يُنظر: "النكت على ابن الصلاح" لابن حجر (1/ 421، 422)؛ حيث قال: "تفرَّد به عامر بن شقيق، وقد قَوَّاه البخاريُّ والنسائيُّ وابن حبان، وليَّنه ابن معين وأبو حاتم، وحكم البخاري فيما حكَاه الترمذي في "العلل" بأن حديثه هذا حسن، وكذا قال أحمد فيما حكَاه عنه أبو داود: أحسن شيءٍ في هذا الباب حديث عثمان رضي الله تعالى عنه، وصَحَّحه مطلقًا الترمذي والدارقطني وابن خزيمة والحاكم وغيرهم، وذَلكَ لمَا عضَّده من الشواهد؛ كحديث أبي المليح الرقي عن الوليد بن زوران عن أنسٍ رضي الله عنه".
وعليه: فالتخليلُ مندوبٌ.
وقَدْ يسأل سَائلٌ فيَقُولُ: قلتم هناك بوُجُوب المضضة والاستنشاق، فلماذا - ما دَام قَدْ صحَّت فيه أحاديثُ - لا تَقُولون بوُجُوب تخليل اللحية؟
الجواب: هذه المسألةُ تَخْتلف عن سَابِقَاتِهَا؛ لأنَّ تخليلَ اللحية في الأحاديث التي وردت في "الصَّحيحَين"، وَفِي أَحَدهما؛ لم يَرِدْ فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام خلَّل لحيته، فلو كان التخليلُ واجبًا، لَمَا تركَه الرسول عليه الصلاة والسلام، والتخليلُ بيانٌ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذه قاعدة أصولية معروفة، فكون الرسول عليه الصلاة والسلام ترك التخليل في كَثِيرٍ من الأحاديث، وَوَرَد في بعضها، صار دليلًا على أن التخليل غير واجبٍ، لكن ينبغي أن يَعْتني به الإنسان.
ما هي طريقة التخليل؟ أو كيف يخلل الإنسان لحيته؟
وَرَد في أحاديثَ أن الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام أخذ مَاءً بكفِّه، ثمَّ بدأ بلِحْيتِهِ من جهة الحنك، فأَخَذ يُخلِّلها
(1)
.
وقَدْ فصَّل الإمام أحمد رحمه الله التخليلَ فيما نُقِلَ عنه في "مسائلِهِ"
(2)
؛ (مسائل بعض العلماء الذين نقلوا عنه): أنه يبدأ - كما وَرَد في الحديث - من جهة الحنك، ثم يخلل ذلك بأصابعه، هذا هو معنى التخليل.
(1)
أَخْرَج أبو داود (145)، عن أنس بن مالكٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفًّا من ماءٍ، فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال:"هكَذا أَمرَنِي ربي". قال الأرناؤوط: حسنٌ لغيره دون قوله: "هكذا أمرني ربي"؛ فلم تُرْوَ إلا من طرقٍ شديدة الضعف، وهذا إسناد ضعيفٌ لانقطاعه.
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 79)؛ حيث قال: "قال يعقوب: سألتُ أحمدَ عن التخليل؟ فأراني من تحت لحيته، فخلل بالأصابع. وقال حنبل: من تحت ذقنه من أسفل الذقن، يخلل جانبي لحيته جميعًا بالماء، ويَمْسح جانبيها وباطنها. وقال أبو الحارث: قال أحمد: إنْ شَاءَ خلَّلها مع وجهه، وإنْ شاء إذا مسح رأسه"، وانظر:"الجامع لعلوم الإمام أحمد"(5/ 212).
كيف نغسل الوجه؟
هل نأخذ الماء بالكفين معًا ثم نغسله، وإذا فعلنا ذلك فمن أين نبدأ؟
غَسْلُ الوَجْه يُبْدأ من أعلَاه، وقد ذكر العلماء لذلك أسبابًا ثلاثةً:
السبب الأول: أن الذين حَكَوا لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّنوا أنه بدأ بأعلى وجهه.
والسبب الثاني: هذا هو الطريق السليم، لأن الماءَ ينزل، ولا يصعد، فإذا بدأتَ من الأعلى، ساعدك الماء، وصار معك، فنزل إلى أسفل الوجه.
والسبب الثالث: إن أشرفَ ما في الوجه أعلاه، والذي في أعلى الوجه إنما هو الجبهة والأنف، وهُمَا موضع السجود، وقَدْ ورَد في الحَديث الصَّحيح:"أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ من ربِّه وهُوَ سَاجدٌ"
(1)
، ففِيهِ بَيانٌ على أهميَّة السُّجود، ولا شكَّ أن من أعظم المواقف التي يظهر فيها ذُلُّ العبد وخضوعه لله سبحانه وتعالى هو أن يَطَّرِحَ بين يديه، وأن يضع أشرفَ عضوٍ في بدنِهِ على الأرض، هذا لا شك أنه غايةٌ في الذل والخضوع والانقياد والطاعة لله سبحانه وتعالى، وهذا الذي ينبغي دائمًا أن يكون عليه المؤمن {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
وأَخْذ الماء إنَّما يكون في اليدين، لأنَّ هذا أضمن للتعميم.
وهُنَاك مَنْ يرى الاقتصارَ على يدٍ واحدةٍ: وهذا رأيٌ صحيحٌ عند
(1)
أخرجه مسلم (482).
العلماء أن تأخذَ الماء بيدٍ واحدةٍ، ثمَّ بعد ذلك تغسل وجهك
(1)
.
وبَعْضُهُم يرى: أن تأخذَه بنفس اليد، وَلَكن تضع ظاهر الكف اليمين في باطن الكف اليسار؛ لتعينها، ثم بعد ذلك تغسل الوجه
(2)
.
ولكن لا شك أن أولاها وأشملها وأحوطها والذي تطمئن إليه النفس هو أَخْذُ الماء بكفَّين، ولا شكَّ أن الواجب في غسل الوجه إنما هو مرة واحدة، وأن المرتين والثلاث أفضل؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام:"توضأ، فَغَسل وَجْهه مرةً مرةً"
(3)
، وغسله مرَّتين
(4)
، وغسله ثلاثًا
(5)
، ولا شك أن في الثانية أحوط من الأولى، فقد يبقى شيءٌ مثلًا من وجه الإنسان فتتمه الثانية، وتأتي الثالثة زيادةً في ذلك.
هل تُغْسل العينان؟
نُقِلَ عَنْ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما الصَّحابي الجليل، وهُوَ من أشدِّ الصَّحابة عنايةً بآثار الرَّسول عليه الصلاة والسلام، وبتتبُّع حَرَكاتِهِ وسكناتِهِ يقف في الموقف الذي وقف فيه، ويستظل فيما استظل فيه، ويجلس فيما جلدس فيه، وهكذا .. نقل عنه أنه كان يغسل عينيه
(6)
، فهل غَسْلُ العَيْنين من السُّنَّة أو لا؟ وهل يَنْبغي غَسْلهما أو لا؟
(1)
المالكية، ينظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 191)؛ حيث قال: " (قوله: وتعميم وجهه) لم يقيد المصنف تعميم وجهه بمسحه بيديه جميعًا، فلو مسح بيد واحدة، أجزأه".
(2)
الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع عن متن الإقناع" ابن القطان (1/ 95)؛ حيث قال: " (ثم يغسل وجهه) للنص، فيأخذ الماء بيَدَيه جميعًا، أو يغترف بيمينه، ويضم إليها الُأخرى، ويغسل بهما (ثلاثًا)؛ لأن السُّنَّة قد استفاضت به".
(3)
أخرجه البخاري (157).
(4)
أخرجه البخاري (158).
(5)
أخرجه البخاري (164).
(6)
أخرج مالكٌ في "الموطإ"(69)، عن نافعٍ، أنَّ عبد الله بن عمر كان إذا اغتسلَ من الجنابة، "بدَأ فأفرغَ على يده اليمنى، فَغَسلها، ثم غسل فرجه، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه، ونضح في عينيه
…
".
الصَّحيحُ أن غسلَهما ليس من السُّنَّة
(1)
، أقصد إدخال الماء فيهما، وليس غسل العينين وهي مغمضة، فَهَذا واجبٌ؛ لأنَّ غسل الوجه كله واجبٌ ومتعينٌ، لَكنَّ الكَلَام في إدخال الماء في العَيْنين، هل يُسَنُّ أو لا؟ الصَّحيح أنَّ ذلك غير مُسَنٍّ، والفقهاء أيضًا نَصُّوا على أنَّ العينَ تتضرَّر، وهَذَا ظاهرٌ بلا شكٍّ.
مسألة الدَّلك:
المالكيَّة ينفردون بالدَّلك؛ فيرونه مُتعَين في غسل الوجه
(2)
، ولا شكَّ أن هذا أَوْلَى وأتمُّ، ولكن لو تركه لم يلزمه.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلافِهِمْ فِي ذَلِكَ: اخْتِلافُهُمْ فِي صِحَّةِ الآثَارِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الَأمْرُ بِتَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ، وَالأكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ).
هُنَاكَ كلامٌ نَسْمعه كثيرًا: أنَّ الأحاديثَ التي وردت في التخليل كلها غير صحيحةٍ، وهذا غير مُسَلَّمٍ، نعم أكثرها غير صحيحٍ، ولكن يُوجد فيها ما هو حسنٌ أو صحيحٌ كما ذكرنا، ونحن لا نقوله بَالوجوب؛ لأنَّ أكثرَ الأحاديث الصحيحة ترك فيها الرسول عليه الصلاة والسلام تخليل لحيتِهِ؛ فلا يُقَال بالوجوب هنا، وإنما بالاستحباب.
• قوله: (مَعَ أَنَّ الآثَارَ الصِّحَاحَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا صِفَةُ وُضِوئِهِ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ فِي شَيءٍ مِنْهَا التَّخْلِيلُ).
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 39)؛ حيث قال: "لم أعلم مخالفًا في أن الوجه المفروض غسله في الوضوء ما ظهر دون ما بطن، وأن ليس على الرجل أن يغسل عينيه، ولا أن ينضح فيهما".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 120)؛ حيث قال: "واعلم أن الناسَ اختلفوا في عَدِّ فرائض الوضوء، ومحصل ذلك أن منها فرضًا بإجماعٍ، وهي الأعضاء الأربعة، وعلى مشهور المذهب، وهو النية والدلك والفور". وقال (1/ 126): " (والدلك)؛ أَيْ: والفَريضة الخامسة الدلك، وهو واجبٌ لنفسه، وهو المشهور".
هذا صحيحٌ؛ وأَكْثَرها ليس فيه التخليل، ولذلك لا يُقَال بالوجوب كما قدَّمنا.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ مِنَ التَّحْدِيدِ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ اليَدَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الوُضُوءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]).
بَدَأ المُؤلِّفُ فذَكَر أنَّ هذه المسألة متعلقةٌ بالمحال، وأنه لا خلاف بين العلماء في وجوب غسل اليدينِ، وأن ذلك أيضًا فرضٌ من فرائض الوضوء، ولذَلكَ ذكر غسل اليد، فَذكر الكفَّ والذِّراع، وسيأتي الخلاف في إدخَال المِرْفَقين، وإدنْ كالن الذين خالفوا في ذلك قلةً (أي: في إيجابهما) إلا أن الخلاف قائمٌ ومعروفٌ، ولكلٍّ أيضًا وجهةٌ ودليلٌ يتمسك به.
إذًا، لا خلاف بين العلماء في وُجُوب غسل اليدين، وإنما الخلاف في إدخَال المِرْفَقَين
(1)
.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي إِدْخَالِ المَرَافِقِ فِيهَا؛ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ وَمَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، إِلَى وُجُوبِ إِدْخَالِهَا).
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 84)؛ حيث قال: "واتفقوا على أن غسل الذراعين إلى مبتدإ المرفقين فرض في الوضوء".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 87)؛ حيث قال: "الفريضة الثانية: غسل اليدين إلى المرفقين، وإليه أشار بقوله: (و) غسل (يديه بمرفقيه)؛ أي: معهما".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 174)؛ حيث قال: " (الثالث) من الفُرُوض (غسل يديه) من كفَّيه وذراعيه؛ للآية والإجماع (مع)
…
(مرفقيه)؛ لمَا روى مسلمٌ عن أبي هُرَيرة
…
ثمَّ غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرعَ في العضد إلَى آخِرِه"، وللإجماع، ولقَوْله تَعالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ".
(4)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (1/ 98)؛ حيث قال: " "أركان الوضوء أربعة
…
(وغسل اليدين)
…
(مع المرفقين
…
) ".
الأئمَّة الأربعة رحمهم الله على وُجُوب إدخالها
(1)
.
والسَّببُ في هذا الخلاف هو حرف الجر "إِلَى" في قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، هل هي بمعنى "مع"؟
فَذَهب الجُمْهورُ إلى أنَّ "إِلَى" بمعنى "مع"
(2)
؛ فَقَالوا بوُجُوب إدخَال المِرْفَقَين.
وَاستدلُّوا عَلَى أنَّ "إلَى" بمَعْنى "مَعَ " بوُرُودها في القُرْآن الكَريم في آيَاتٍ، منها قول الله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ؛ يعني: مع أموَالكم، {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي} [آل عمران: 52]؛ يعني: مع الله، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]؛ يَعْني: مع قُوَّتكم.
إذًا، ورد لفظ "إلى" بمعنى "مع" في القرآن الكريم.
ثمَّ استدلُّوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ، أدار الماء على مِرْفَقَيه"
(3)
، لكنَّ هذا الحديث ضعيفٌ
(4)
.
واستدلوا أيضًا بما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه توضأ، ثمَّ غَسَل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى
(1)
في مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"(1/ 49)؛ حيث قال: " (وفُرُوضه)، أي: الوضوء
…
(و) الثاني (غسل اليدين مع المرفقين) ".
(2)
يُنظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (15/ 307)؛ حيث قال: "قول الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، فإن أبا العباس وغيره من النحويين جعلوا "إلى" بمعنى "مع" هاهنا، وأوجبوا غسل المرافق والكعبين".
(3)
أخرجه البيهقي (256).
(4)
يُنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 194)؛ حيث قال: "عن جابر بن عبد الله قال: كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا توضَّأ، أدَار الماء على مرفقيه إلا أنَّ هذا الحديثَ ضعيفٌ. قال أحمد: القاسم بن محمد ليس بشيءٍ. وقَالَ أبو حَاتِم: متروك الحديث"، وانظر:"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 221).
حتى أشرع في العضد
…
ثمَّ قال: هكَذا رأيتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ
(1)
.
وَذَهَب بَعْضُهُم إلَى أنَّ "إِلَى" للغَاية
(2)
، استدلُّوا بقَوْل الله تَعالَى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
قالوا: وهي أشهر لغةً، وهذه الآية دليلٌ على اشتهارها.
وقالوا: إنَّ الليلَ غير النهار، والصَّائمُ لا يصوم جزءًا من الليل، كَمَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقبلَ اللَّيل من هاهنا، وأدبرَ النَّهارُ من هاهنا، وَغَربت الشَّمْس، فقَدْ أفْطَرَ الصَّائم"
(3)
؛ فبانتهاء النَّهار يُفْطِرُ الصَّائم.
ومعنى قولهم بأنَّ "إلى" للغاية؛ أي: أن المرفق غايةٌ للوقوف عنده، فقوله:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ؛ يَعْني: المَرَافق لا تَدْخل ضمن الغَسْل، ف {إِلَى} يَرَون أنها قد أَخْرَجت المِرْفَقَين وأَبْعَدتهما من الوُجُوب، فهُمَا خارجان عن ذلك، فَلَا يجب غسلهما؛ أَيْ: الواجب إنَّما هو ما دون المِرْفَقَين، أما ما بعد {إِلَى} ، فَخَارجٌ عنها.
• قوله: (وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(4)
، وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ
(1)
أخرجه مسلم (246).
(2)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 434)؛ حيث قال: "إلى": حرف خافض، وهو منتهى لابتداء الغاية، تقول: خرجت من الكوفة إلى مكة، وجائز أن تكون دخلتها، وجائز أن تكون بلغتها ولم تدخلها؛ لأن النهاية تشمل أول الحد وآخره، وإنما تمنع من مجاوزته".
(3)
أخرجه البخاري (1954).
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 297)؛ حيث قال: "وأما المرافق فإنَّ "إلى" في لغة العرب التي بها نزل القرآن تَقَع على معنيين، تكون بمعنى الغاية، وتكون بمعنى "مع"، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، بمعنى: مع أموالكم، فلما كانت تقع "إلى" على هذين المعنيين وقوعًا صحيحًا مستويًا؛ لم يجز أن يقتصرَ بها على أحدهما دون الآخر، فيكون ذلك تخصيصًا لما تقع عليه بلا بُرْهَانٍ، فَوَجب أن يُجْزئ غسل الذراعين إلى أول المرفقين بأحد المعنيين، فيُجْزئ، فإن غسل المرافق فلا بأس أيضًا".
مَالِكٍ
(1)
، وَالطَّبَرِيِّ
(2)
إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِدْخَالُهَا فِي الغَسْلِ).
قال: "وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ": الَّذي أعلمه هو واحد من أهل الظاهر (داود الظاهري)، فقد يكون قوله:"بعض" يريد به أكثر من واحدٍ
(3)
.
قال: "وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَاب مَالِكٍ": فعندما تُقلِّب صَفَحات كُتُب المذاهب، لَا تجد أن أحدًا أخَذ بهَذا القول، وإنما انفرَد به من أصحاب المذاهب الأربعة بعضُ متأخري المالكية، وأمَّا رأي الإمام وأصحابه المتقدمين، فَمَع جماهير العلماء في هذه المسألة.
قال: "والطَّبَريِّ": ابْن جَرِيرٍ الطَّبري المفسر المعروف، وهُوَ الَّذي يقول عنه بعض العلماء: إنَّ الاجتهادَ وقف عنده؛ فهناك بَحْث أصوليٌّ مشهورٌ فيما يتعلق بالاجتهاد، هل الاجتهاد قائم أو أنه توقف عند فترة؟
فيَقُولون: إنَّ الاجتهاد انتهى عند ابن جرير الطبري المتوفَّى سنة عشر وثلاثمائة
(4)
.
(1)
يُنظر: "التبصرة" للخمي (1/ 22)؛ حيث قال: "واختلف في المرفقين، فَذَهب مالكٌ وأصحابه إلى أنهما داخلان في فرض اليدين، وذهب أبو الفرج وغيره إلى أنهما غير دَاخلَين في الفرض".
(2)
يُنظر: "تفسير الطبري"(10/ 47)؛ حيث قال: "والصَّواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إنْ تركه أو شيئًا منه تارك، لم تجزه الصلاة مع تركه غسلَه، فأما المرفقان وما وَرَاءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندبَ إليه صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه بقولِهِ: "أُمَّتي الغرُّ المُحجَّلون من آثَار الوُضُوء، فمَن استطاعَ منكم أن يُطيلَ غُرَّته، فَلْيَفْعل".
(3)
لم أَرَ نصًّا يُثْبتُ هذَا عن داود رحمه الله إلا عَنْ بعض أصحابه؛ يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (1/ 128)؛ حيث قال: "إلَّا زفر، فإنه اخْتُلِفَ عنه في ذلك؛ فرُوِيَ عنه أنه يجب غسل المَرَافق مع الذِّراعين، ورُوِيَ عنه أنه لا يجب ذلك، وبه قال الطبريُّ، وبعض أصحاب مَالِكٍ المتأخرين، وبعض أصحاب داود".
(4)
يُنظر: "تاريخ مولد العلماء ووفياتهم" للربعي (2/ 639)؛ حيث قال: "سنة عشر وثلاثمائة
…
وفي شوال من هذه السَّنة تُوفِّي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري".
والصحيح: أن بابَ الاجتهاد لم يُغْلق، وأنَّ الأئمة لا تزال بحاجةٍ إلى ذلك؛ لأن هذا الفقه الإسلامي بابه واسع، والحوادث تتجدَّد، والوقائعُ تحصل في كلِّ زَمَانٍ ومكانٍ، والفقه في الحقيقة يسير مع الإنسان في كلِّ فترةٍ من فَتَرات حياته يصحبه حضزا وسفزا، فهو دائمًا لا يَسْتغني عن هذا الفقه، وقد جدَّت مسائلُ في عصرنا الحاضر لَمْ تكن معروفةً فيما مَضَى.
فبَعْد ابن جريرٍ الطَّبري حصلت أمورٌ جديدةٌ؛ كمسألة الحشيشة المحرمة، فإن تفصيل العلماء فيها إنما جَاء في القرن الثامن أيامَ شيخ الإسلام ابن تيمية، وَكَانت له فَتَاوى معروفة ومتفرقة في كُتُبه، وكذلك لغيره، ثمَّ بعده ابن حجرٍ الهيثمي، وغير هؤلاء.
فَالوَاقعُ أنَّ الفقهَ الإسلاميَّ فقهٌ خصبٌ، وشاملٌ، يسير مع الحياة أينما كانت، وفي أي مكانٍ كان، والمسلم يحتاج إلى هذا الفقه، ولا يَنْبغي أن يُقَالَ بأنَّ بابَ الفقه أُغْلق.
وهناك أسبابٌ ذَكَرهَا العلماءُ دَعَتْ بعضَهم إلى أن يقول بأن بابَ الاجتهاد قد أُغْلق، وهي معروفةٌ في "تاريخ التشريع الإسلامي".
وَالحنابلةُ ممَّن لم يُوَافقوا أو لم يقولوا بغَلْق باب الاجتهاد، ومَنْ أراد أن يعرف هذا، فليقرأ في، "أصول الفقه".
• قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: الاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي حَرْفِ "إِلَى" وَفِي اسْمِ اليَدِ فِي كَلَامِ العَرَبِ).
حرف "إلى"، حرفٌ من حروف الجر، يدلُّ على الغاية، لكنَّ الاشتراك الذي فيه يَدُورُ بين أمرين:
- الغاية: وهي الكثيرة في لغة العرب، لكن لا يمنع أَنْ تكون في الآية بمعنى:"مع"؛ لأننا وَجَدنا ذلك في أسلوب القرآن، فاليد إذا أُطلقت إطلاقًا عامًّا، فإنها تنصرف إلى الكفِّ، ولذَلكَ يَقُولُ الله سبحانه وتعالى في سورة
المائدة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]
(1)
.
والعُلَماء مُجْمعونَ على أن يد السارق تُقْطع من مفصل الكف، ولم يقل أحَدٌ بأكثر من ذلك
(2)
، وكذلك في التيمُّم في قول الله تعالى في سورة آل عمران:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، والمسح بالنسبة إلى التيمم يقتصر على الوجه والكفين؛ فدلَّ على أنَّ اليد في الأصل إذا أُطْلقت، تَنْصرف إلى الكَفِّ، لكنَّها قَدْ تُقَيَّد بأكثرَ من ذَلكَ.
• قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ حَرْفَ "إِلَى" مَرَّةً يَدُلُّ فِي كَلَامِ العَرَبِ عَلَى الغَايَةِ، وَمَرَّةً يَكُونُ بِمَعْنَى "مَعَ"
(3)
).
كما ذكرنا الآية: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وهذا من أدلة الفريق الذين خالفوا.
• قوله: (وَاليَدُ أَيْضًا فِي كَلَامِ العَرَبِ تُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: عَلَى الكَفِّ فَقَطْ، وَعَلَى الكَفِّ وَالذِّرَاعِ، وَعَلَى الكَفِّ وَالذِّرَاعِ وَالعَضُدِ).
ويقولون أيضًا: إن اليد في لغة العرب تطلق على:
1 -
الكف.
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(7/ 85)؛ حيث قال: "فإنما تُقْطع يد السارق من مفصل الكوع".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان؛ حيث قال: "وأجمعوا أن القطعَ من الكوع
…
ولا تمانع بين الجميع أن اليد إذا قطعت من المفصل أن قاطعها يقال: إنه قد قطع يد فلان
…
ولا أعلم عالمًا سلف، ولا من بعدهم خلف، أوجب قطع الأصابع على انفرادها دون الكف".
(3)
يُنظر: "تهذيب اللغة"(15/ 307)؛ حيث قال: "وقَدْ تكون إلى انتهاء غايةٍ؛ كقَوْلِهِ تَعالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وتكون "إلى" بمعنى "مع"؛ كقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}؛ معناه: مع أموالكم، وأما قول الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، فإنَّ أبا العباس وغيره من النحويين جعلوا "إلى" بمعنى "مع" هاهنا، وأَوْجَبوا غسل المرافق والكعبين".
2 -
الكف والذراع.
3 -
الكف والذراع والعضد.
قالوا: وهذه كلها مطلقةٌ، فلما قال:(إلى المرفقين)، قَصَد من ذلك إخراج المرفقين فَمَا بعدهما
…
وهذا كلام صحيحٌ.
وقد رأينا شواهدَ وأمثلةً ذكرنا بعضًا منها في القرآن الكريم: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} يعني: "مع"، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} يعني:"مَعَ الله"، وغير ذلك من الايات الكثيرة
(1)
.
• قوله: (فَمَنْ جَعَلَ "إِلَى" بِمَعْنَى"مَعَ"، أَوْ فَهِمَ مِنَ اليَدِ مَجْمُوعَ الثَّلاثَةِ الَأعْضَاءِ، أَوْجَبَ دُخُولَهَا فِي الغَسْلِ).
فمَنْ فَهِمَ من اليد في هذا الموقف أنها تَشْمل الأمورَ الثلاثةَ (الكَف والسَّاعد والعضد)، وهُمُ الجمهور قالوا بوُجُوب إدخال المرفقين، لَكنَّ المرفقين وُضِعَا حدًّا لإخراج العضد، وهذا هو الظاهر.
• قوله: (وَمَنْ فَهِمَ مِنْ "إِلَى" الغَايَةَ، وَمِنَ اليَدِ مَا دُونَ المِرْفَقِ).
يَعْني: مَنْ فهم أن "إلى" تدلُّ على الغاية، يَعْني: ما بعدها خارجٌ عمَّا قبلها يَقُولُون: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، فقد وقفت الآية بنا عند المرافق، فيَنْبغي أن نخرجَ المرفقين.
وجَماهيرُ العلماء فصلوا في أثناء ردِّهم على الفَريق الآخر وقالوا: فَرقٌ بين أَنْ تكونَ الغَايةُ من جنس ذي الغاية أَوْ لَا، فإذا كانت الغاية من جِنْسِ ذي الغاية، دَخَلت كَمَا في هذه الآية:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} .
(1)
يُنظر: "اللباب في علل البناء والإعراب"(1/ 356) للعكبري؛ حيث قال: "وقال قَوْم: تكون "إلى" بمعنى "مع"؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} .
• قوله: (وَلَمْ يَكُنِ الحَدُّ عِنْدَهُ دَاخِلًا فِي المَحْدُودِ لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الغَسْلِ).
فَالآخرون لا يَرَون الحدَّ الذي هو المرفقان، والمرفقان هُمَا المنطقة الفاصلة بين الذراع والعضد، وسيأتي الكلام فيها إذا قطعت اليد من المرفق، هل يغسل الجانب الاخر أو لا.
• قوله: (وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهُ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي العَضُدِ، ثُمَّ اليُسْرَى كَذَلِكَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ اليُسْرَى كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ").
فَعَلَ أَبو هُرَيرةَ رضي الله عنه هذا الفعلَ، ثمَّ نسب ذَلكَ الفعل إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وقد وَجَدنا من الصحابة مَزْ توضأ وضوءًا ثم قال: هكذا رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كما في حديث عثمان المتفق عليه، وفي حديث عبد الله بن زيد، وفي حديث علي بن أبي طالب الذي هو صحيح وَإِنْ لم يكن في "الصَّحيحَين"، أو في أحدهما.
• قوله: (وَهُوَ حُجَّةٌ لِقَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ إِدْخَالَهَا فِي الغَسْلِ).
إذًا، هَذَا دليلٌ يدعم ويقوي مذهب جُمْهور العلماء، وهم العلماء قاطبةً إلا مَنْ شذَّ، وهو نصٌّ في المدَّعَى أي: رفع كل إِشْكَالٍ وأزَالَه.
• قوله: (لِأَنَّهُ إِذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، وَجَبَ أَلَّا يُصَارَ إِلَى أَحَدِ المَعْنييْنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ).
يَقُولُ المؤلف رحمه الله: إذا قلنا: إنَّ "إلَى" مُتَرددةٌ بين مَعْنَيين: الغاية و"مع"، فلا ينبغي أن نرجِّح أحدهما على الآخر إلا بمرجحٍ خارجيٍّ،
والمرجح هنا هو هذا الفعل الذي فَعَله أبو هريرة رضي الله عنه، ثم نَسَبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• قوله: (وَإِنْ كانَتْ "إِلَى" فِي كلَامِ العَرَبِ أَظَهَرَ فِي مَعْنَى الغَايَةِ مِنْهَا فِي مَعْنَى "مَعَ").
ولا يَمْنع قَوْله: "أَظَهَرَ فِي مَعْنَى الغَايَةِ" ألا يكون المرفقان داخلين؛ لأن كونها أكثر، لا يمنع أن يكون الأقل هو الصحيح.
• قوله: (وكذَلِكَ اسْمُ اليَدِ أَظَهَرُ فِيمَا دُونَ العَضُدِ مِنْهُ فِيمَا فَوْقَ العَضُدِ، فَقَوْلُ مَنْ لَمْ يُدْخِلْهَا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَرَجَحُ).
وَهَذا الكَلامُ يُرَدُّ عليه بأن يُقَال: اليد بالنِّسبة للكفِّ أظهر في اليد عند إطلَاقها على الكفِّ والذِّراع.
• قوله: (وَقَوْلُ مَنْ أَدْخَلَهَا مِنْ جِهَةِ هَذَا الَأثَرِ أَبْيَنُ).
أي: وقول مَنْ أدخل المرفقين من جهة هذا الحديث أظهر وأبين، وقد نَبَّهت أن المؤلف له منهجٌ مستقلٌّ خالفَ فيه غيره، فهو يُطْلق على الأحاديث الآثارَ، فيقول: الأثر، وهو يقصد به الحديث، وهذا الحديث قد ورد في "صحيح مسلم"؛ لأنَّ أبا هريرة هانْ توضأ إلا أنه نسب ذلك الفعل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: هكذا رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
• قوله: (إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الَأثَرُ عَلَى النَّدْبِ، وَالمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَة كَمَا تَرَى، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الغَايَةَ إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ ذِي الغَايَةِ، دَخَلَتْ فِيهِ).
كَمَا ذكَرنا الغاية هنا من جنس ذي الغاية، فَمَا قبل المرفقين هو من جنس ما بعدها، لأن هذه يدٌ، وهذه يدٌ.
• قوله: (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ، لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ).
كَمَا في قَوْله تَعالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وبذَلك تضعف حُجَّة الذين خَالفوا.
الخلَاصةُ: أنَّ كافَّة العلَماء - وفِيهِم الأئمَّة الأربعة - قَالُوا بدُخُول المِرْفَقَين في اليدين، ولم يقل بإخراج المرفقين إلا مَنْ نَدُر من العلماء، كبعض المتأخرين من أصحاب مالكٍ وابن داود الظاهري، ونسبة هذا الرأي أيضًا إلى ابن جرير الطبري رحمه الله تحتاج إلى تحقيقٍ.
وهنا عدَّة أسئلة، لو أن إنسانًا قُطعَتْ يده من قِبَلِ المرفق، فلا خلافَ بين العلماء في وجوب غسل ما تبقَّى، وإذا قطعت يده من المرفق (أي: من المفصل)، وبَقِيَ العظم الآخر المقابل للعظم الذي قُطِعَ، فهذه مسألةٌ فيها خلافٌ، ولكن الصحيح فيها هو وُجُوب غسل المقابل.
بَلْ إنَّ بعضَ العُلَماء يَتَعدَّى ذلك ويقول: لو قطعت اليد من الإبط، فإنه ينبغي إمرار الماء على ذلك حتى لا يعدم ذلك العضو الطهارة.
والقطعُ راجعٌ لليد أو الرِّجل أيضًا، فهذا الذي قطعت بعض أطرافه إن استطاع أن يتطهَّر، فذلك أمرٌ مطلوبٌ منه، وإن لم يستطع، فيَنْبغي أن يبحث له عن أحدٍ ليطهِّره، سواء كان متبرعًا أو بأجرةٍ، وَإِنْ لم يجد مَنْ يُوضِّئه، أو وجد ولكنه استغلَّ الموقف، وزاد عليه في الأجرة، فإنه حِينَئذٍ يصلي بغير طهارةٍ، وإن لم يستطع أن يتيمم قالوا: يصلي؛ لحُرْمة الوقت، لكن عليه أن يعيد.
يبقى هنا أيضًا مسائلُ مهمةٌ جدًّا، فالذي تحدَّثنا عنه (الذي قُطعَتْ يده) لا يخلو من أمورٍ:
1 -
إما أن يستطيع أن يتطهر بنفسه، وهذا مطلوبٌ.
2 -
وإمَّا ألَّا يستطيعَ، فلا بدَّ من طُرُقٍ عدَّة ليصلَ بها إلى الطهارة، فهو إن استطاع أن يتطهَّر، فَنِعِمَّا هي حتى ولو بيدٍ واحدةٍ؛ لأن الأفضل بالنسبة لغسل اليدين أن يأخذ الماء، فيبدأ بأطراف أصابعه فيغسلها، فيدير
يده الأُخرى على عضده، يعني: على ذراعه، إذن يغسل يده، فيَبْدأ من أطرَاف الأصابع، ثمَّ ينزل بعد ذلك إلى الذراع، أما العضد فلا يدخل
…
هذا بالنسبة للغسل.
والدَّلك ليس واجبًا هنا على الصحيح من مذاهب العلماء، لكن بعض العلماء يُفرِّق بين أن يغسل الإنسان بيده هو، فيحمل الماء بيده اليمنى، ثمَّ بعد ذلك يبدأ فيغسلها هكذا حتَّى يصل إلى المرفقين، فيَرَون أنه يبدأ من أطراف الأصابع.
وبعضهم يقول: إذا صبَّ عليه إنسان الماء، فإنه يبدأ من المرفقين، عكس الطريقة، وهذه كلها جائزةٌ عند العلماء، وليس فيها إشكال، ولم يقل أحذ منهم بأنَّ ذلك غير صحيحٍ.
قد يُشْكل على البعض فيقول: نحن أول ما نبدأ نغسل الكفين، وهذا مُجْمعٌ عليه استحبابًا بين العلماء، ولكنَّ الخلاف في وُجُوب غسل اليدين في حق القائم من النوم، والتفريق بين نوم الليل وبين غيره عند بَعْضهم.
والصحيح: أن غسلَ الكفَّين أمرٌ منفصل، ولا يتعلق بغسل اليد، فإذا غسلتَ يديك قبل أن تضعهما في الإناء، فلا بدَّ أن تعود فتغسل ذَلكَ من أطراف الأصابع، والغسلُ السابقُ خاصٌّ بالكَفَّين قبل إدْخَالهما الإناء، إما استحبابًا أو وجوبًا في حق القائم من نوم الليل.
وهُنَاك بعض المسائل يذكرها العلماء فيما يتعلق باليد، فيقولون: لو أن إنسانًا خَرجتْ له في أي جزءٍ من أجزاء الوجوب إصبع سادسة أو إصبعان، أو خرجت له يد، فَيَجب عليه غسلها مع أجزاء الوجوب، بل إنَّ العلماء رحمهم الله يقولون: لو انقطعت جلدةٌ، فدخلت في موضع الفرض، فأصبحت محاذيةً له، فإنه يجب غَسْلها.
وقالوا أيضًا: إذا قطعت جلدةٌ من أعلى موضع الفرض، ثم تدلت، فأصبحت ملاصقةً لمحل الفرض، يجب غسلها.
وقد توسَّع العلماء في مثل هذه المسائل، وعُنُوا بها عنايةً بالغةً،
ليجعلوا أحكام هذا الدين واضحةً جليَّةً لا لبس فيها، ولا غموض، وقد نبَّهنا من قبل إلى أن الفقه الإسلامي اشتمل على مميزات كثيرة، منها: الشمول، فهو يتَّسع لكل ما جَدَّ وَوَقع، وفيه الحل لكل مشكلة، والجواب عن كل معضلة مهما تعدَّدت المسائل وتنوعت الوقائع، فإذا لم يكن ثمة نصّ في كتاب الله عز وجل، ولا في سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهناك طرقٌ أُخرى من طُرُق الاستدلال؛ كالقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، وسدِّ الذرائع، وغير ذلك من الأمور التي يذكرها العلماء في أصول الفقه.
• قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ مِنَ التَّحْدِيدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مِنْ فُرُوضِ الوُضُوءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي القَدْرِ المُجْزِئِ مِنْهُ)
(1)
.
قال المؤلف: "اتفق العلماء"، وهذا كلامٌ فيه ضعفٌ في نظري؛ لأنَّ العلماء أجمعوا على أن مسحَ الرأس فرضٌ من فُرُوض الوضوء، فهَذَا محلُّ إجماعِ في الواقع، وليس محل اتفاق؛ لأن الاتفاق درجته أضعف من الإجماَع، لكنَّ المسألة مجمعٌ عليها، والآية اشتملت على فرائض أربعة، قال الله عز وجل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فهَذِهِ الأمور الأربعة مجمعٌ عليها من حَيْث الجُمْلة، لكن الخلاف بين الفقهاء في بعض الجزئيات؛ كاختلافهم في البياض الَّذي بين العذار في الوجه، وفي تخليل اللحية، وفيما انسدل من اللحية، واختلافهم بالنسبة لليدين في إدخال المرافق وغيرها.
• قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الوَاجِبَ مَسْحُهُ كلُّهُ).
يَدُورُ الخلافُ حول البَاء الَّتي في الآية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} .
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 85)؛ حَيْث قال: "واتفقوا أن مسحَ بعض الرأس بالماء - غير معين ذلك البعض - فرض".
* فَمِنَ العلماء مَنْ قال: إنَّ الباء هنا للإلصاق، وقد جاءت بمزيدٍ من الحكم.
* وقال بعضهم: إن الباء إنَّما هي للتبعيض.
* وقال بَعْضهم: إن الباء زائدةٌ.
وسواءٌ قلنا: إن الباء للإلصاق، أو بأنها زائدةٌ، فَهَذا هو مذهب الذين قالوا بتعميم مسح الرأس.
فائدتان:
الفائدة الأولى: نجد بعض المُفسِّرين أو بعض الفقهاء أحيانًا يقولون: (زائد)، هل يجوز أن يقال: في كِتَاب الله عز وجل بأن هذا حرف زائد، والله تعالى يقول:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]؟ فنقول: إن قصدَهم بالزيادة هنا زيادة إِفَادَةٍ، فإن الباءَ هنا جاءت لزيادة التأكيد، والذين درسوا البلاغة يعرفون أن المؤكِّدات كثيرة، منها الجملة الاسمية، إذا اقترنت بها اللام والقسم، ومعلوم أيضًا أن المخاطب على أنواعٍ، ولكلٍّ أسلوب في المُخَاطبة، فالمنكِر له صفةٌ يُخَاطب بها، والمتردِّد له طريقةٌ يُخَاطب بهًا، وغير المتردِّد له وسيلةٌ يخاطب بها، فهو لا يحتاج إلى تأكيدٍ، وأمَّا المتردد فلا بدَّ أن تُعْطيه من التَّوكيدات ما يحتاج إليه، وأمَّا المنكِر، فإنَّك تقرع ذهنَه وأجراسه بالمُؤكِّدات القويَّة حتى ترفعَ ما يدور في ذهنه من وهمٍ وخيالٍ.
الفائدة الثانية: مِنَ العلماء مَنْ أشار إلى نكتةٍ مهمةٍ، وهي أن الله سبحانه وتعالى قال في الأيدي:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، أي: فاغسلوا وُجُوهَكم، واغسلوا أيديكم، والغسلُ يكون بالماء كما هو معروفٌ، فلم يؤت بالباء، أما مسح الرأس فجيء بالباء التي تفيد الإلصاق على بعض الأقوال؛ لأن المقام يَسْتدعي ذلك.
ومن العلماء الذين تكلموا في ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه: "الفتاوى"، قال: إن الباء للإلصاق؛ لأنه لو جاءت الآية:
(فامسحوا رؤوسكم) دون الباء، ربما يفهم أن القصد هو مجرد المسح فقط، فجاءت الباء لتضيف حكمًا جديدًا يتطلّبه المقام، ألا وهو أن المسح لا بدَّ من إضافة الماء إليه، فتبلُّ اليد أو اليدان على المشهور والأفضل، فيُمْسح بِهِما مع الرأس، هذا على مذهب مَنْ قالوا: إن الباء هنا للإلصاق، وهذا أَوْلَى.
أمَّا الذين قالوا بأن الباء للتبعيض، فقالوا: إنها هنا تدلُّ على أن الواجب إنما هو مسح بعض الرأس، وهؤلاء تعددت أقوالهم حتى أوصلها بعض العلماء إلى ما يَزيد على ثلاثة عشر قولًا، ترجع كلُّها إلى قولين:
القول الأوَّل: وهو المشهور عن الإمامين مالكٍ وأحمد: أن الواجب هو مسح جميع الرأس.
وَالقَوْل الثَّانِي: أنَّ الواجبَ هو مَسْح بعض الرأس.
ثمَّ يَخْتلفون، فَتَجد في المذهب الحنفيِّ ثلاثةَ أَقْوَالٍ، وتجد في المذهب الشافعيِّ قولين، وحتَّى المذهب المالكي فيه خمسة أو ستة أقوال بالنسبة لغير المشهور من مذهب مالكٍ.
دليل مَنْ قالوا بوجوب تعميم مسح الرأس:
قالوا: إن الباء هنا إمَّا أنها زائدةٌ للتوكيد، أو أنها للإلصاق، وهذا أقرب، والقصد من ذلك هو إلصاق اليد على الرأس، ويستدلُّون بقول الله سبحانه وتعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وهذا في الحديث عن التيمم.
يقولون: أنتم تَشْترطون في التيمم أن يستوعبَ مسحَ جميع الوجه، وكذلك اليدين، وقلتم: إنَّ مسح الوجه شاملٌ، وكذلك مسح الكفَّين، وهنا قلتم: إن الباء للتبعيض، فلماذا فرقتم بينهما بلا داعٍ؟!
أما الذين قالوا: إن الباء للتبعيض، فقد استدلوا بحديث المغيرة، وهو حديث صحيح، يبيِّن فيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام مسح
بناصيته وعلى العمامة - والناصية هو الشعر الذي يتدلى على الوجه، وما هو على الطرفين إنما هو النَّزْعتان والنَّزَعتان وهو الأشهر - قالوا: كونه مسح بناصيته، والناصية إنما هي جزءٌ من الرأس، فَدلَّ ذلك على أن المسحَ على قَدْرٍ من الرأس إنَّما هو كافٍ، ولا يتطلب المقام استيعابه، لَكن يردُّ عليهم أنه بعد ذلك مَسَح على العمامة، والَّذين يَقُولون بالمسح على العمامة إنما هم الحنابلة، فهم يَرَوْنَ أن المسحَ على العمامة إنما هو تَتْميم للمسح على الناصية، وأن المسحَ انتقل من الرأس إلى العمامة.
• قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الوَاجِبَ مَسْحُهُ كلُّهُ)
(1)
؛ لأن الواجب مسح الرأس كله، وهذا هو المشهور على الصحيح من مذهب مالكٍ، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد
(2)
.
• قوله: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٌ
(4)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(5)
إِلَى أَنَّ مَسْحَ بَعْضِهِ هُوَ الفَرْضُ، وَمِنْ أَصْحَابِ مَالِك مَنْ حَدَّ
(1)
يُنظر: "الدر المختار"، وحاشية الدسوقي (1/ 88)؛ حيث قال:"الفريضة الثالثة: مسح جميع الرأس".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 98)؛ حيث قال: " (ثم يمسح جميع ظاهر رأسه)
…
لأنَّه تعالى أمَرَ بمسح الرأس".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 176)، حيث قال:" (الرابع) من الفُرُوض (مسمى مسح لـ) بعض (بشرة رأسه أو) بعض (شعر)، ولو واحدة أو بعضها (في حده)، أي: الرأس".
(4)
يُنظر: "مَوَاهب الجليل" للحطاب (1/ 202)؛ حيث قال: "والمَشْهور من المَذْهب أن مسحَ جميعِهِ واجبٌ، فإن ترك بعضه لم يجزه. وقال ابن مسلمة: يجزئ الثلثان. وقال أبو الفرج: الثلث. وقال أشهب: تجزئ الناصية، ورُوِيَ عنه أنه قال: إن لم يعم رأسه، أجزأه، وأطلق ولم يبين قدره".
(5)
يُنظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(1/ 99)؛ حيث قال: " (أركان الوضوء أربعة)
…
(ومسح ربع الرأس مرة) فوق الأذنين ولو بإصابة مطرٍ، أو بلل باقٍ بعد غسلٍ على المشهور".
هَذَا البَعْضَ بِالثُّلُثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّهُ بِالثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَحَدَّهُ بِالرُّبُعِ، وَحَدَّ مَعَ هَذَا القَدْرَ مِنَ اليَدِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ المَسْحُ، فَقَالَ: إِنْ مَسَحَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَاجَ، لَمْ يُجْزِهِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَحُدَّ فِي المَاسِحِ وَلَا فِي المَمْسُوحِ حَدًّا)
(1)
.
لكن مَنْ قالوا: إنَّ بعضَ الرَّأس هو الفرض، يَخْتلفون اختلافًا كثيرًا، فنجد أن أصحاب مالكٍ منهم مَنْ قال: يُقْتصر على الثُّلُثين. ومنهم مَنْ قال: الثُّلُث. ومنهم مَنْ قال غير ذلك، والحنفية منهم مَنْ قال: الرُّبُع. ومنهم مَنْ قال دون ذلك، والشافعية منهم مَنْ قال: ثلاث شعرات. ومنهم مَنْ قال: يكفي شعرة واحدة، ثمَّ يَخْتلفون في الماسح أيضًا، فالشافعيَّة يقولون: أقل ما يُجْزئ هو ثلاثة أصابع أو إصبع واحدة، ولكنَّها كل جزئياتٍ، اختلفوا فيها داخل المذهب، وكل العلماء الذين رأيتهم يخالفون في مسألة المقدار الواجب من مسح الرأس يرون أن الأفضلَ إنما هو مسح جميع الرأس خروجًا من الخلاف.
• قوله: (وَأَصْلُ هَذَا الاخْتِلَافِ فِي الاشْتِرَاكِ الَّذِي فِي البَاءِ فِي كلَامِ العَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَرَّةً تَكُونُ زَائِدَةً، مِتْلَ قَوْله تَعَالَى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ {تَنْبُتُ} بِضَمِّ التَّاءِ وَكسْرِ البَاءِ مِنْ (أَنْبَتَ)
(2)
، وَمَرَّةً تَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ مِثْلَ قَوْلِ القَائِلِ: أَخَذْتُ بِثَوْبِهِ وَبِعَضُدِهِ)
(3)
.
(1)
قَوْله: "وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَحُدَّ فِي المَاسِحِ وَلَا فِي المَمْسُوحِ حَدًّا": فيه نظرٌ، ولعلَّ الشارح رحمه الله قَدْ أجاب عنه.
(2)
يُنظر: "جمهرة اللُّغة" لابن دريد (3/ 1236)؛ حيث قال: "الباء هاهنا زَائدةٌ، وهي باء التَّعْليق، كَمَا قال الله عز وجل: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ".
(3)
يُنظر: "فقه اللغة وسر العربية" للثعالبي (ص 242)؛ حيث قال: "الفصل الثالث والأربعون: في الباءات، منها باء زائدة، وقد تقدَّم ذِكْرُهَا، ويُقَال لبعضها: باء التبعيض، كما قال عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} أيْ: بعضها".
* فائدة:
والقرَاءة المَعْروفة المشهورة {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ، بفَتْح التَّاء وضمِّ الباء من نَبَتَ يَنْبُتُ فعلٌ لازمٌ، وهنا لا استدلال فيها؛ لأن الفعل هنا قاصرٌ غير متعدٍّ، لكن (تُنْبِتُ) بضمِّ التاء، وكَسْر البَاء من "أنبَت" متعدِّية، دخلت عليها الهمزة.
• قوله: (وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ هَذَا فِي كلَامِ العَرَبِ، أَعْنِي كوْنَ البَاءِ مُبَعِّضَةً).
هذا ليس منكرًا، أي: كون الباء مبعَّضة، لكن كما قال في المسألة السابقة: إنَّنا نحتاج إلى مُرجِّحاتٍ، وهَذِهِ المُرَجِّحات إنَّما هي ظاهرةٌ، ومن المُرَجِّحات لماذا تفرق بين آية التيمم وبين هذه، مع أنَّ هذه فيها الباء، وهذه فيها الباء، ولماذا قلنا هناك بالاستيعاب، وهنا قلنا بالبعض؟
• قوله: (وَهُوَ قَوْلُ الكُوفِيِّينَ مِنَ النَّحْوِّيَينَ)
(1)
.
هناك مدرستان معروفتان في اللغة بالنسبة للنحو:
1 -
مدرسة البصريين، وهي المشهورة.
2 -
ومدرسة الكوفيين، وهي أيضًا مشهورة، ولكنها دون ذلك.
لَكن لا يلزم كمَا هو الحال بالنسبة للقول المشهور في المذاهب الفقهية أن يكون الحقُّ دائمًا مع البصريين، قَدْ يكون مع غيرهم، لكن الكلَّ صحيحٌ، فاللغة تدل على أن الباءَ تكون للإلصاق وهي ظاهرةٌ هنا، وتكون للتبعيض أيضًا.
(1)
يُنظر: "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك"(1/ 7)؛ حيث قال: "كما وافق الكوفيين في نيابة حروف الجر بعضها عن بعضٍ، وفي مجيء الباء بمعنى: "مِنْ"، التي تفيد التبعيض، مثل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ".
• قوله: (فَمَنْ رَآهَا زَائِدةً، أَوْجَبَ مَسْحَ الرَّأْسِ كُلِّهِ).
مَنْ رأى الباء زائدةً أو للإلصاق، أوجب مسح الرأس كله، وهذا هو الأظهر.
• قوله: (وَمَعْنَى الزَّائِدَةِ هَاهُنَا كَوْنُهَا مُؤَكِّدَةً، وَمَنْ رَآهَا مُبَعِّضةً، أَوْجَبَ مَسْحَ بَعْضِهِ).
العُلَماء لا يختلفون في وُجُوب مسح الرأس، لكنَّ الخلاف في القدر الواجب مَسْحه.
• قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ هَذَا المَفْهُومَ بِحَدِيثِ المُغِيرَةِ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام تَوَضَّأَ، فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى العِمَامَةِ)، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ)
(1)
.
" الناصية"، هو الشعر الذي يأتي في وسط الرأس مُتَدَلِّيًا إلى الوجه، وما يَأْتِي بَعْدها من فراغِ عند كثيرٍ من الناس يُعْرفان بالنَّزَعتين، والمَشْهور من مَذَاهب العلماء أنَّهَم لا يُمْسحان مع الرأس، وأمَّا الصدغان اللذان فوق الأذن، وفوق البياض الَّذي بين العذار، فَهُمَا محلُّ خلافٍ، هل هما مع الرأس أو الوجه؟
• قوله: (وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ البَاءَ زَائِدَةٌ، بَقِيَ هَاهُنَا أَيْضًا احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ هَلِ الوَاجِبُ الأَخْذُ بِأَوَائِلِ الأَسْمَاءِ أَوْ بِأَوَاخِرِهَا).
هناك مسائلُ تتعلَّق بالرأس تحتاج إلى مزيدِ بيانٍ:
1 -
قد يتوضأ الإنسان، ثمَّ يحلق رأسه قبل أن يذهب إلى الصلاة؟
الجواب: الوضوءُ صحيحٌ، ويبقى متطهرًا.
2 -
لو أن إنسانًا قُطِعَتْ يده أو رجله بعد أن توضَّأ؟
(1)
أخرجه مسلم (247).
الجواب: ما دام في هذا الوضوء، فإن وضوءه صحيحٌ وتامٌّ.
3 -
لو أن إنسانًا غسل رأسه بالماء، وخرج عما في الآية:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، فهل لا بد من المسح، وأنَّ الغسل لا يجزي، أو أنَّه قدر زائدٌ يشتمل على المسح، وعلى الزِّيادة عليه؟
لَا شكَّ أن الأَوْلَى هو الوُقُوف عند النَّصِّ، فالله سبحانه وتعالى -يَقُول:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، هذا الذي ورد، لكنه أيضًا لو غسل رأسه، فإن ذلك يكفي ويجزئه، لكنه خلاف الأَوْلَى، وإنْ كان هناك مَنْ يخالف في هذه المسألة، لكن الصَّحيح أنَّ ذلك جائزٌ، ويرى بعض العلماء أن ذلك فيه زيادةٌ، وبعضهم أيضًا يقول: لو صبَّ عليه المطر ونوى الطهارة، فإنهم يقولون: إن هذا كافٍ، يعني: لو كان يمشي، فنزل المطر عليه، فعمَّم رأسه، أو أَخَذ قدرًا منه كرأي الشَّافعية والحنفيَّة، قالوا: يُعْتَبر ذلك مسحًا، لكن لا بدَّ من أمرٍ هامٍّ، ألَا وهي النيَّة:"إنَّما الأَعْمَالُ بالنيَّات".
كيفية مسح الرأس:
المعروف أن المسحَ إنما هو أن يَبُل الإنسان يديه (يضعهما في الماء)، ثمَّ يأتي بَعْد ذلك، فَيَضع الإبهامَ على الإبهام، ثمَّ يمسح، يبدأ من مقدم رأسه إلى مؤخره، ثم يردهما إلى المكان الذي بدَأ منه، هَذَا هو الصَّحيح من أقوال العلماء، لَكن هُنَاك قولٌ للحسن بن حي أن يعكس ذلك، فيبدأ من مُؤخِّرة الرأس، ثمَّ بعد ذلك يأتي للمقدمة.
حُكْمُ مَسْح الرَّأس ثلاثًا:
جاءت الآية مجملةً، وهي قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، فلم تحدد عددًا، وعند إطلاقها تنصرف إلى أقل العدد، وهو واحد، وثبت أن الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام تَوضَّأ مرةً مرةً، وتوضأ مرَّتين مرَّتين، وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وأن الاثنتين أفضل وأكمل من الواحدة؛ لأن فيها زيادة استيعابٍ، وأن
الثلاثة أيضًا أكمل، وهذا لا خلافَ فيه بين العلماء بالنسبة لليدين والوجه والرِّجْلين، لكن الخلاف هنا في المسح، فالرسول صلى الله عليه وسلم تَوضَّأ مرةً مرةً، واثنتين اثنتين، وثلاثًا ثلاثًا، أليسَ الرأس داخلًا في وضوئه عليه الصلاة والسلام؟ هل يشمل الرأس المسح؟
بل قد جاء في حديثٍ صحيحِ في "سنن أبي داود" عند البيهقي وغيرهما أن الرسول عليه الصلاة والسلام مَسَح رأسه ثلاثًا، لكنَّنا عندما نَعُودُ إلى الأَحَاديث الَّتي في "الصَّحيحين"، بَلْ أكثر الأحاديث، وَهي أصحُّ من هَذِهِ، نجد أنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام ترَك التَّكرار، وإنما مَسَح رأسه مرةً واحدةً كَمَا في حديث عثمان، وعبد الله بن زيدٍ.
اختلفَ العُلَماءُ في هذه المسألة، فَجَماهيرُ العُلَماء من الحنفيَّة والمالكية، وهي الرواية المشهوره عن الإمام أحمد قالوا بأنه لا تكرار في مسح الرأس، وأما الشافعية - وهي روايةٌ أُخرى عن الإمام أحمد، وليست كقوة الرواية الُأولى - يقولون بتكرار المسح.
قَالَ أصحابُ المَذْهب: لأنَّ ذلك ثبت من فِعْلِ الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه مسح رأسه ثلاثًا، ثمَّ إن عموم قول الذين نقلوا لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا يدخل في ذلك الرأس، فلماذا نخرجه؟!
قَالَ جَماهيرُ العُلَماء: إنَّ الأحاديثَ الَّتي ورَد فيه أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، أحاديث مجملة، فَجَاءت الأحاديث الأُخرى ففصلتها، ولذلك نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام يَقُول:"إذا سَمعتُمُ المُؤذِّن، فقُولُوا مثلما يَقُول".
ولَا نَقُول كما يَقُول المؤذن في كل شيءٍ، بدليل أن المؤذن إذا وصل إلى قوله:"حي على الصلاة، حي على الفلاح"، نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فالحديث الذي فيه:"إذا سمعتم المؤذن، فقُولُوا مثلما يقول"، جاء حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فبيَّن لنا ما نقول، وأننا نتابع المؤذن في كل شيءٍ إلا في الحيعلة، فإننا نقوله: لا قوة إلا بالله.
الخلاصة: أنه صحَّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه مسح رأسه ثلاثًا، فيقال في هَذَا: إنَّما هو دليلٌ على الجواز، وإنما الذي وَاظَب عليه الرسول عليه الصلاة والسلام هُوَ أنَّه مسح رأسَه في الأكثر، وفي الأحاديث الأصح أنه مسح رأسه عليه الصلاة والسلام مرةً واحدةً.
• قَوْلهُ: (المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ مِنَ الَأعْدَادِ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الوَاجِبَ مِنْ طَهَارَةِ الَأعْضَاءِ المَغْسُولَةِ مَرَّةً مَرَّةً إذَا أَسْبَغَ، وَأَنَّ الاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِمَا
(1)
؛ لِمَا صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم (تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا)
(2)
، وَلَأنَّ الأَمْرَ لَيْسَ يَقْتَضِي إِلَّا الفِعْلَ مَرَّةً مَرَّةً - أَعْنِي الَأمْرَ الوَارِدَ فِي الغَسْلِ فِي آيةِ الوُضُوءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَكَرُّرِ مَسْحِ الرَّأْسِ، هَلْ هُوَ فَضِيلَةٌ أَمْ لَيْسَ فِي تَكْرِيرِهِ فَضِيلَةٌ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(3)
إِلَى أَنَّهُ مَنْ تَوَضَّاَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، يَمْسَحُ رَأْسَهُ أَيْضا ثَلَاثًا).
هَذَا مذهب الشافعي، وهي رواية ليست بقويةٍ في مذهب أحمد، أما
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 19)؛ حيث قال: "واتفقوا على أنَّ الوضوء مرة مرة مسبغة في الوجه والذراعين والرِّجلين يجزئ، واتفقوا على أنَّ الزيادة على الثلاث لا معنى لها".
(2)
أخرج البخاري (157)، عن ابن عباس، قال:"توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرةً مرةً".
ثم أخرج البخاري (158)، عَنْ عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم "توضأ مرتين مرتين".
ثمَّ أخرج البخاري أيضًا (159)، عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد أخبره أن حمران مولى عثمان أخْبَره أنه رأى عثمان بن عفان دعًا بإِنَاءٍ، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما، ثم أدخلَ يمينه في الإناء، فمضمض، واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويَدَيه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثمَّ قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ توضَّأ نحو وضوئي هذَا، ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسَه، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 188)؛ حيث قال: " (و) من سننه (تثليث الغسل والمسح) المفروض والمندوب للاتباع".
الرواية المشهورة المعروفة الصحيحة هي التي وافق فيها بقية العلماء
(1)
.
• قَوْله: (وَأَكثَرُ الفُقَهَاءِ
(2)
يَرَوْنَ أَنَّ المَسْحَ لَا فَضِيلَةَ فِي تَكْرِيرِهِ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَبُولِ الزِّيَادَةِ الوَارِدَةِ فِي الحَدِيثِ الوَاحِدِ إِذَا أَتَتْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَرَهَا الَأكثَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكثَرَ الأَحَادِيثِ الَّتِي رُوِيَ فِيهَا أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا إِلَّا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا)
(3)
.
وعثمان رضي الله عنه إنما نُقِلَ عنه حديثان:
1 -
الحديث المتفق عليه أنه توضأ مرةً مرةً، أي أن الرسول عليه الصلاة والسلام مَسَح رأسَه في حديث عثمان المتفق عليه مرةً واحدةً.
2 -
وفي رواية ليست في "الصحيحين" أنه مسح رأسه ثلاث مرات.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 94)؛ حيث قال: "ولا يسن تكرار مسح الرأس في الصحيح من المذهب
…
وعن أحمد أنه يسن تكراره".
(2)
مذهب أبي حنيفة، يُنظر:"تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وحاشية الشلبي"(1/ 6)؛ حيث قال: " (وسنته)؛ أَيْ: سنة الوضوء (غسل يديه إلى رسغيه ابتداء كالتسمية)
…
(ومسح كل رأسه مرة)، وقوله:(مرة) مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله: ثلاثًا كالمغسول، ولنا "أن عثمان حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح مرةً"، ولأن التكرارَ في الغسل لأجل المبالغة في التنظيف، ولا يحصل ذلك بالمسح، فلا يفيد التكرار، فَصَار كَمَسْح الخف والجبيرة والتيمم".
ومذهب مالك، يُنظر:"الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي"(1/ 101)؛ حيث قال: " (قَوْله: وشفع غسله)، فهم من إضافة شفع للغسل أن تكرارَ اليسح للأذنين والرأس ليس بفَضِيلَةٍ، وهُوَ كذلك؛ لأنَّ المسحَ مبنيٌّ على التخفيف، والتكرار ينافيه".
(3)
أخرج أحمد (436): عن مُحمَّد بن عبد الله بن أبي مريم، قال: دخلت على ابن دارة مولى عثمان، قال: فسمعني أمضمض، قال: فقال: يا محمد.
قال: قلت: لبيك. قال: ألا أخبرك عن وضوء رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رأيت عثمان وهو بالمقاعد دعا بوضوءٍ، فمضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا ثلاثًا، ومسح برأسه ثلاثًا
…
وصححه العلامة أحمد شاكر.
• قوله: (وَعَضَّدَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ قَبُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِظَاهِرِ عُمُومِ مَا رُوِيَ "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا"
(1)
).
قلنا: الذي عضَّد به الشافعي قولَه إنما هو مجمل وجاءت الأحاديث الُأخرى فكانت تفصيلًا له.
ثم ذكرنا ما يتعلق بقوله: "إذا سمعتم المؤذن" وقلنا: إن هذا مجمل، وجاء حديث عبد الله بن عمر - وهو حديث صحيح - ففصّل ذلك الحديث وبيّن أن الحيعلتين إنما تخرجان، وأنه لا يُقال كما يقول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح، وإنما يقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا ردّ جميل أذكر أن شيخ الإسلام رحمه الله ردّ به.
• قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ المَفْهُومَ مِنْ عُمُومِ هَذَا اللَّفْظِ وَإِنْ كلانَ مِنْ لَفْظِ الصَّحَابِيِّ، هُوَ حَمْلُهُ عَلَى سَائِرِ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ).
فهو (مِنْ لَفْظِ الصحَابِيِّ)، ولكنه ردّه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، والرّدّ إلى الله إنما هو إلى كتابه، والرد إلى الرسول فإليه عليه الصلاة والسلام في وقت حياته، أما بعد موته فالرد إلى سنته عليه الصلاة والسلام.
• قوله: (إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، فَإِنْ صَحَّتْ يجِبُ المَصِيرُ إِلَيْهَا).
فهي صحيحة، لكن قوله:"يجِبُ المَصِيرُ إِلَيْهَا" نقول: لا يلزم المصير إليها؛ لأننا لو قلنا بذلك لأوجبنا التكرار، وطرحنا الأحاديث التي هي أصح، ففرق بين أن يقول: يجب، وبين أن يقول: إن ذلك جائز.
(1)
سبق تخريجه.
• قوله: (لِأَنَّ مَنْ سَكَتَ عَنْ شَيْءٍ لَيْسَ هُوَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ ذَكَرَهُ).
لا يمكن أن يُظَنّ هذا في الصحابة رضي الله عنهم لا سيّما وأن من بين الذين وصفوا وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم هم: عثمان، وعليّ، وعبد الله بن زيد، ولو كان مسح الرأس ثلاثًا واجبًا لما تركوه، فهم عندما أحضروا الماء وأفرغوا وغسلوا الكفين ثم مضمضوا واستنشقوا لم يتركوا السنن، فكيف يتركون مثل هذا الأمر!
• قوله: (وَأَكْثَرُ العُلَمَاءِ أَوْجَبَ تَجْدِيدَ المَاءِ لِمَسْحِ الرَّأْسِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الأَعْضَاءِ)
(1)
.
جماهير العلماء على أنه يجب تجديد الماء إلى الرأس؛ لأن الرأس إنما سُمِّيَتْ رأسًا لأنها أعلى مكان في البدن، ولذلك يقولون: رأس الجبل
(1)
في مذهب الحنفية، خلافٌ في هذه المسألة، ومشهور المذهب جواز مسح الرأس من غير تجديدٍ؛ يُنظر:"الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(1/ 99)؛ حيث قال صاحب "الدر": " (ومسح ربع الرأس مرة) فوق الأذنين ولو بإصابة مطر أو بلل باقٍ بعد غسل على المشهور لا بعد مسح"، وعلَّق عليه صاحب الحاشية:" (قوله: على المشهور) مقابله قول الحاكم بالمنع، وخطأه عامة المشايخ، وانتصر له المحقق ابن الكمال وقال: الصحيح ما قاله الحاكم، فقد نص الكرخي في "جامعه الكبير" على الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إذا مسح رأسه بفضل غسل ذراعيه لم يجز إلا بماءٍ جديدٍ؛ لأنه قد تطهر به مرة. اهـ. وأقره في النهر. (قوله: إلا أن يتقاطر)، كذا ذكره في الغرر؛ لأنه كأخذ ماء جديد".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 88)؛ حيث قال: "ويندب تجديد الماء لمسح الرأس، ويكره بغيره كبلل لحيته إن وجد غيره، وإلا فلا".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 177)؛ حيث قال: " (و) جواز (وضع اليد) عليه (بلا مدٍّ) لحصول المقصود من وصول البلل إليه، وأشار بالجَوَاز إلى عدم استحباب ذلك، وإلى عدم كراهته. والثاني: لا يجزئه فيهما؛ لأنه لا يُسمَّى مسحًا، وعلى الأول لو قطر الماء على رأسه أو تعرض للمطر، وإن لم ينو المسح خلافًا لابن المقري في اشتراط النية أجزأه لما ذكر".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 99)؛ حيث قال: "ويكون مسح رأس (بماء جديد غير ما فضل عن ذراعيه)؛ لأنَّ الرأسَ مغاير لليدين".
يُسمَّى رأسًا لأنه أعلى شيءٍ فيه، ولأن الرأس عضو مستقل، فينبغي أن يأخذ له ماءٌ جديد يمسح به.
وهناك من قال بأنه لا مانع من مسح الرأس بما تبقى من غسل اليدين، ولكن الصحيح هو رأي الذين قالوا بتجديد الماء، وما نقل من أنه يمسح بما يتبقى من بلل اللحية فهذا أيضًا رأيٌ ضعيف؛ لأن الذي في الأحاديث المعروفة التي وصفت لنا وضوء الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أخذ بذلك ماءً جديدًا.
• قوله: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ المَاجِشُون أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَفَدَ المَاءُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَبِيبٍ، وَمَالِكٍ
(1)
، وَالشَّافِعِيِّ)
(2)
.
وابن الماجشون من علماء المالكية.
وهذا أيضًا قولٌ ضعيف إذا ما قورن بمذهب جمهور العلماء.
هناك مسألة يثيرها العلماء؛ إذا كان الإنسان في الصلاة فتذكر بعد ذلك أنه لم يمسح رأسه وكان في لحيته بلل، فالصحيح من أقوال العلماء أنه لا يجوز له أن يمسح رأسه بالبلل الذي في لحيته؛ لأن هذا عضوٌ من أعضاء الوضوء فلا يجوز، وبعضهم يقول: يأخذ ما في لحيته من بلل ولغسله؛ لأن هذا أسقط الترتيب، وأسقط الموالاة، وأسقط حق هذا العضو أيضًا
(1)
يُنظر: "اختلاف قول مالك وأصحابه" لابن عبد البَر؛ حيث قال: "وذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه قال: إذا نفد الماء عنه، مسح رأسه ببلل لحيته. قال ابن حبيب: وقول ابن الماجشون أحب إليَّ".
(2)
هذا خلاف ما نصَّ عليه؛ يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 44) حيث قال: "ويأخذ لكل عضوٍ منه ماءً غير الماء الذي أخذ للآخر، ولَوْ مسح رأسه بفضل بلل وضوء يديه أو مسح رأسه ببلل لحيته لم يجزه، ولا يجزئه إلا ماء جديد".
• قوله: (وَيُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ المَسْحِ أَنْ يَبْدَأَ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ فَيُمِرُّ يَدَيْهِ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى حَيْثُ بَدَأَ
(1)
عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زيدٍ الثَّابِتِ)
(2)
.
أي: يضع السبابتين بعضهما على بعض، ثم يبدأ فيمسح حتى ينتهي، وهناك جزئياتٌ أُخرى ينبه لها العلماء خصوصًا الذين يقولون بمسح البعض. لو أن ذؤابة تدلَّت من الرأس، حتى تجاوزت محل الفرض فوصلت إلى العنق ومسحها، هل يكفي؟ الصحيح أن ذلك لا يكفي، لكن لو نزل الشعر ولا يزال في حد الفرض، فإنه جائزٌ عند هؤلاء العلماء.
• قوله: (وَبَعْضُ العُلَمَاءِ يَخْتَارُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ)
(3)
.
فقوله: (بعض العلماء) قد يفهم منه أنهم كثر، والذي أعرفه أن الحسن بن حَيٍّ فقط هو الذي انفرد بهذا القول.
(1)
وهو مذهب الأحناف، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(1/ 121)؛ حيث قال: "وتكلموا في كيفية المسح، والأظهر أن يضع كفيه وأصابعه على مقدم رأسه، ويمدهما إلى القفا على وجهٍ يَسْتَوعب جميع الرأس، ثم يمسح أُذُنيه بأصبعيه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 189)؛ حيث قال: "والسُّنَّة في كيفيته أن يضعَ يديه على مقدم رأسه، ويلصق سبَّابته بالأخرى، هابهاميه على صدغيه، ثمَّ يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي ذهب منه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 99)؛ حيث قال: " (والمسنون في مسحه)، أي: الرأس (أن يبدأ بيديه مبلولتين من مقدم رأسه، فيضع طرف إحدى سبابتيه على طرف الأُخرى، ويضع الإبهامين على الصدغين، ثم يمرهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى مقدمه) ".
(2)
أخرج البخاري (185)، ومسلم (235): أن رجلًا قال لعبد الله بن زيدٍ وهو جد عمرو بن يحيى: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد رضي الله عنه: "
…
ثمَّ مسح رأسه بيديه، فأقبلَ بهما وأدبرَ، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه".
(3)
وهو مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي"(1/ 98)؛ حيث قال: "ورد مسح رأسه؛ أي: إلى حيث بدأ، فيرد من المؤخر إلى المقدم أو عكسه، أو من أحد الفَوْدَين".
• قوله: (وَذَلِكَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ مِنْ صِفَةِ وُضُوئِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يثْبُتْ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(1)
).
لكنه صحيح في بعض الروايات.
• قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ تَعْيِينِ المَحَالِّ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي المَسْحِ عَلَى العِمَامَةِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
(2)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(3)
، وَالقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ
(5)
، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَمَاعَة، مِنْهُمْ:
(1)
أخرجه الحميدي في "مسنده"(345)، والدارقطني في "سننه"(320)، عن عبد اللِّه بن محمد بن عقيل ابن أبي طالب قال: أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت معوذ ابن عفراء أسألها عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتوضأ عندها، فأتيتها، فأخرجت إليَّ إناءً يكون مدًّا أو مدًّا وربعًا بمُدِّ بني هاشم، فَقَالت:"بهذا كنت أخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء، فيبدأ فيغسل يديه ثلاثًا قبل أن يُدْخلهما الإناء، ثم يتمضمض وششنثر ثلاثًا ثلاثًا، ويغسل وجهه ثلاثًا، ثم يغسل يديه ثلاثًا ثلاثًا، ثم يمسح برأسه مقبلًا ومدبرًا، ويغسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا"، قالت: وقَدْ جَاءَنِي ابن عمتك، فسألني عنه، فأخبرته، فقال: ما علمنا في كتاب الله إلا غسلين ومسحتين، يعني: ابن عباس، قال أبو بكرٍ: ووصف لنا سفيان المسح، فوضع يديه على قرنيه، ثم مسح بهما إلى جبهته، ثم رفعهما ووضعهما على قرنيه من وسط رأسه، ثم مسح إلى قفاه.
(2)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق"(2/ 288)؛ "قلت: يمسح على العمامة؟ قال: نعم".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 122)؛ حيث قال: "وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (1/ 211)؛ حيث قال: "أَجَازوا المسحَ على العمامة، وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد القاسم بن سلام".
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 120)؛ حيث قال: "واختلفوا في المَسْح على العمامة، فأَجَازت طائفة المسحَ على العمامة، وممَّن فعل ذلك أبو بكرٍ الصِّدِّيق، وعمر، وأنس، وأبو أمامة، ورُوِيَ ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأبي الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والحسن، وقتادة".
مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ)
(3)
.
ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي إلى عدم جواز المسح على العمامة.
وذهب الإمام أحمد، والأوزاعي، وأبو ثور، والقاسم بن سلام، وداود الظاهري
(4)
، - وغير هؤلاء إلى جواز المسح على العمامة، وهو منقول عن عدد من الصحابة، فقد نُقل عن أبي بكر رضي الله عنه أنه مسح على العمامة
(5)
، وروي
(1)
يُنظر: "التفريع في فقه مالك" لابن الجلاب (1/ 18)؛ حيث قال: "ولا يجوز المسح على الخمار، ولا على العمامة"، ومع ذلك قال في:"الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي"(1/ 203): "يمسح على
…
عمامة خيف بنزعها، إذا لم يقدر على مسح ما تَحْتها من عرقية ونحوها، فإن قدرَ على مسح بعض الرأس، أتى به، وكمل على العمامة"، ومقصود ما في "الشرح الكبير": أنَّ المسح عند المالكية لا يكون إلا بعذرٍ؛ ولذلك قال ابن القصار المالكي في: "عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار" (1/ 171): "يُصْرف مسحه على العمامة إلى العذر".
(2)
ليس المنع على إطلاقه؛ يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 41)؛ حيث قال: "وأحب لو مسح على العمامة مع الرأس، وإن ترك ذلك لم يضره، وإن مسح على العمامة دون الرأس لم يجزئه ذلك"، "مغني المحتاج" (1/ 190) للشربيني؛ حيث قال:" (فإن عسر رفع) نحو (العمامة) كالخمار والقلنسوة، أو لم يرد رفع ذلك (كمل بالمسح عليها)، وإن لبسها على حدث لخبر مسلم "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته، وعلى عمامته"، وسواء أعسر عليه تنحيتها أم لا كما قررته تبعًا للشارح، وصرح به في "المجموع"، وإن اقتضت عبارة المصنف خلافه، وأفهم قوله: كمل، أنه لا يكفي الاقتصار على العمامة، وهو كذلك، وهل يشترط لتحصيل السُّنَّة أن يكون التكميل بعد أو يكفي ولو قبل؟ لم أرَ مَنْ تعرض له، وظاهر التعبير بالتكميل يقتضي التأخُّر، والذي يظهر أنه لا فرق كما في غسل الرجل مع الساق، وظاهر التكميل يقتضي أيضًا أنه يمسح ما عدا مقابل الممسوح من الرأس، فيكون محصلًا للسُّنَّة بذلك، وهو الظاهر".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 18)؛ حيث قال: "ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة".
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 304)؛ حيث قال: "وهو قول الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وغيرهم".
(5)
أخرجه ابن حزم في "المحلى"(1/ 305)، عَنْ عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي قال: رَأَيْتُ أبا بكرٍ الصِّدِّيق يمسح على الخمار، يعني: في الوضوء.
عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من لم يُطهره المسح على العمامة فلا طهره الله
(1)
، كذا هو منقول عن أنس بن مالك، وأبي الدرداء، وأبي أمامة
(2)
، ونقل عن جمع غفير من التابعين كالحسن البصري، ومكحول، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز
(3)
.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ).
والمؤلف هنا بحث المسألة بحثًا مذهبيًّا وليس بحثًا مقارنًا، فقد بحثها نظرًا إلى المذهب المالكيّ، لكن الخلاف الواقع بخلاف ذلك.
أدلة القائلين بجواز المسح على العمامة:
1 -
أخرج مسلم عن بلال رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار"
(4)
.
والمراد بالخمار العمامة
(5)
.
2 -
أخرج البخاري عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفَّيه"
(6)
.
3 -
عن ثوبان، قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين"، رواه أبو داود، وإسناده صحيح
(7)
.
(1)
أخرجه ابن حزم في "المحلى"(1/ 305).
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 305)؛ حيث قال: "فهؤلاء ستةٌ من الصحابة رضي الله عنهم: المغيرة بن شعبة، وبلال، وسلمان، وعمرو بن أمية، وكعب بن عُجْرة، وأبو ذرٍّ، كلهم يروي ذلك عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيدَ لا معارض لها، ولا مطعن فيها".
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 305)؛ حيث قال: "وبهذا القول يقول جمهور الصحابة والتابعين".
(4)
أخرجه مسلم (275).
(5)
يُنظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 93)؛ حيث قال: "يريد بالخمار - والله أعلم - العمامة، لتخمير الرأس بها لشبهها بخمار المرأة".
(6)
أخرجه البخاري (205).
(7)
أخرجه أبو داود (146).
والمراد بالعصائب العمائم. والتساخين هي الخِفافُ.
4 -
حديث المغيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم "مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى العِمَامَةِ"
(1)
.
أما حديث المغيرة رضي الله عنه الذي أشار إليه المؤلف فمدار الخلاف عليه، فكلٌّ من الجانبين يحاول أن يجعله حجةً له؛ فالذين يقولون بجواز المسح على العمامة يقولون: حديث المغيرة فيه دلالة على ذلك، أنه مسح بناصيته وأتم على العمامة، ولو لم يكن المسح عليها جائزًا لما أَتَمّ، بل ورد في بعض رواياته في "صحيح مسلم" أنه مسح على العمامة وحدها.
أدلة الذين قالوا بعدم جواز المسح على العمامة:
1 -
قول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، قالوا: الآية فيها دلالة واضحة على أن المسح يقتصر على الرأس، وأن من مسح على عمامته لم يكن ماسحًا على رأسه؛ لأن العمامة حائل، فمن مسح عليها لا يكون ماسحًا على الرأس.
2 -
يقولون المسح على العمامة أو المسح على حائل دون الرأس ينبغي أن يكون له سبب وهو المشقة، ولا مشقة في مسح الرأس، بخلاف غسل الرجلين؛ فإن غسلهما قد يسبب مشقة في وقت البرد والسفر ونحوهما، أما الرأس ففرضه المسح، ولا ينبغي أن ينتقل المسح إلى مسح آخر.
3 -
يقولون أيضًا: وجدنا تعارضًا بين الأحاديث التي ورد فيها المسح على العمامة وبين الآية وحديث المغيرة الآخر، ونتخلص من هذا التعارض بالقول أن ثَمَّ حذفًا في الأحاديث التي أوردها القائلين بجواز المسح، قالوا: لعل الرواة تصرفوا في ذلك فأسقطوا المسح على الناصية؛ لأنه معلوم.
لكن رُدّ عليهم بأن هذا طعن في الرواة، فلا يجوز القول به.
(1)
سبق.
قالوا: لا سبيل إلا القول بتقدير الحذف رفعًا للتعارض وجمعًا بين الأحاديث التي ورد فيها المسح على العمامة مع الآية وحديث المغيرة الآخر، فيكون المطلوب هو المسح على الناصية مع العمامة.
فإذا قُدر وجود محذوفٍ ارتفع التعارض وحصل اتفاق الأدلة، وإلا بقي التعارض بين أحاديث من قالوا الجواز وبين ما ذهبنا إليه، فالمخرج ما صاروا إليه.
لكن كما يظهر هذه دعوى تحتاج إلى دليل، وفي المسألة أحاديث صحيحة، وهي أقوى مما تمسكوا به، وأيضًا يشكل عليه بأنه مسوغ للطعن في الراوي، إذ حذف ذلك مع علمه به مطعن عليه، وليس بصحيح، ثم إن صح أن يُقدَّر ذلك في حديثٍ واحدٍ، فكيف يكون في أربعة أحاديث أو أكثر! لا سيما أن حديث المغيرة الذي استدلوا به ورد في بعض الروايات أن الرسول عليه الصلاة والسلام مسح على العمامة، ولم يرد ذكرٌ للناصية.
إذن غالب الأدلة - كما ظهر لنا - هي دليل للذين يقولون بجواز المسح على العمامة.
لكن قد يقال: لماذا يختلف العلماء هذا الاختلاف مع أن القضية قضية جواز بين المسح وعدمه؟
الجواب: هذه رخصة من الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يُحِبّ أن تُؤْتَى رُخَصُهُ كما يكره أن تُؤتى معاصيه.
كذلك قد تجد النفس أحيانًا مشقة في أن تترك تكليفًا واجبًا وتنتقل منه إلى أمر أخف منه، مثاله ما ورفى في شأن قصر الصلاة، في قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)} [النساء: 101]. فقد ورد أن يعلى بن أمية توقف في هذه الآية وسأل عمر رضي الله عنه: أليس قد أمن الناس؟ فقال له عمر رضي الله عنه: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"صدقةٌ تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه"، فلذلك لا ينبغي للمسلم عندما يجد الرخص أن يتركها ويأخذ بالعزائم، فكونها رخصة لا يخرجها عن كونها شريعة،
ومعلوم أن الشريعة الإسلامية بُنِيَتْ على أصول منها: التيسير والتخفيف، ولذا وضع العلماء هذه القاعدة العظيمة:[المشقة تجلب التيسير]. والتي هي إحدى القواعد الكبرى الخمس للشريعة، ورتَّبوا عليها أن أسباب التخفيف ترد في أمورٍ بعينها، وذكر تفصيل ذلك يطول به الكلام.
لكننا نقول: قد وردت في جواز المسح على العمامة أحاديث صحيحة صريحة، ودعوى أن الرواة قد حذفوا تحتاج إلى دليلٍ وبينة، ولا دليل عليها، لا سيما أنه قد ورد عن أكابر الصحابة رضوان الله عليهم، فأبو بكر يمسح على عمامته، وهو الذي لو وُزِنَ إيمانه بإيمان الأمة لرجح، وعمر يقوله: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهّره الله. بل ونقل ذلك عن جمعٍ من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.
إذن فلا شك أن المسح على العمامة جائز، والمؤمن مُخَيَّر في ذلك، ومن أراد أن يخرج من الخلاف فليفعل، لكن الأمر تقرير حكم، وإنما يكون ذلك في ضوء الأدلة من الكتاب والسُّنة.
فالخلاصة:
أن العلماء في هذه المسألة انقسموا إلى قسمين؛ فمنهم من قال بعدم جواز المسح على العمامة، وهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ووافقهم بعض الفقهاء.
ومنهم من قال بجواز المسح، وهو مذهب الإمام أحمد، ووافقه جمع من الصحابة والتابعين.
* فائدة:
في هذا الكتاب مزايا كثيرة ذكرتها في المقدمة ويحتاج إليه طالب العلم وهو يقوب مسائل الفقه، لكن من الأمور التي تؤخذ عليه قلة العناية بالناحية الحديثية، فلم يحررها تحريرًا دقيقًا؛ لأنه لم يعرض الأحاديث التي وردت في المسائل، وإنما فقط اقتصر على دليل يتجاذبه الفريقان.
وهذه المسألة مثال، فالذين يجيزون المسح يقولون: حديث المغيرة دليل لنا"؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مسح على الناصية وأتم على العمامة، ولو لم يكن جائزًا لَمَا مسح عليها. والآخرون يقولون: لم يجز المسح على العمامة إلا لوجود المسح على الناصية، فلا مانع لدينا أن يمسح المصلي على ناصيته ويتم على عمامته. على خلاف بينهم في تفصيل ذلك.
• قوله: (فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي وُجُوبِ العَمَلِ بِالَأثَرِ الوَارِدِ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ المُغِيرَةِ وَغَيْرِهِ: "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى العِمَامَةِ"
(1)
، وَقِيَاسًا عَلَى الخُفِّ)
(2)
.
وحديث المغيرة المذكور في "صحيح مسلم" وقد أشار إلى أنه معلول، وقد تكلم بعض العلماء على بعض ألفاظه، لكنه ليس معلولًا، وتشهد له الأدلة الأُخرى التي ذكرنا.
• قوله: (وَلذَلِكَ اشْتَرَطَ أَكْثَرُهُمْ لُبْسَهَا عَلَى طَهَارَةٍ).
هذه مسألة أُخرى، فقد اشترط بعضهم أن تُلْبَس على طهارة، وبعضهم لم يشترط ذلك، وبعضهم اشترط أن أن تكون محنكة، أي: تُلَفّ ثم تدخل تحت الحنك، لكي تكون مُثَبَّتَة حتى لا تخرج من الرأس، واشترط بعضهم أن تكون ساترةً للرأس إلا ما يخرج أحيانًا مما عُرِفَ وَيسُر، كما في أطراف الرأس اليسيرة والأذنين، وسيأتي الخلاف فيهما، هما من الرأس أو من غيرها.
• قوله: (وَهَذَا الحَدِيثُ إِنَّمَا رَدَّهُ مَنْ رَدَّهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ).
وهذا غير صحيح؛ لأن الحديث في "صحيح مسلم" وهو حديث صحيح قد تلقَّاه العلماء بالقبول.
(1)
أخرجه مسلم (247).
(2)
يُنظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 57)؛ حيث قال: "ومَنْ قاسه على مسح الخفين فقَدْ أبعد؛ لأن الخفَّ يشق نزعه، ونزع العمامة لا يشق".
• قوله: (وَإِمَّا لِأَنَّ ظَاهِرَ الكِتَابِ عَارَضَهُ عِنْدَهُ. أَعْنِي: الأَمْرَ فِيهِ بِمَسْحِ الرَأْسِ)
(1)
.
العجيب أننا لو قرأنا في كتب الشافعية لوجدنا أن حديث المغيرة هو عمدتهم بعد الآية، فقد أقاموه مقياسًا، وردوا من أجله كلَّ الأحاديث الصحيحة الواردة، كحديث بلال الذي أوردنا، وحديث عمرو بن أمية في البخاري، وحديث ثوبان الذي في (سنن أبي داود)، وحديث بلال الآخر الذي في السنن. هم يردونها لهذا الحديث، بمعنى: أنه سقط منها المسح على الناصية. مما يقوي القوله بأن المؤلف رحمه الله لم يستوعب هذه المسألة ولم يبحثها بحثًا دقيقًا.
وكثيرٌ منهم يرى - خصوصًا الشافعية والمالكية - بروايتهم الأُخرى، أن الكتاب لا يُعارض، بل يجب أنه يلتقي معه، لأن الكتاب قال:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، وقالوا: الباء للتبعيض، وأن الواجب هو مسح بعض الرأس، وهذا فيه مسح لبعض الرأس وهي الناصية، فكان هذا هو وجه الجمع الذي صاروا إليه ورفعوا به التعارض.
• قوله: (وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرِ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ اشْتِهَارَ العَمَلِ فِيمَا نُقِلَ مِنْ طَرِيقِ الآحَادِ، وَبِخَاصَّةٍ فِي المَدِينَةِ عَلَى المَعْلُومِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَرَى اشْتِهَارَ العَمَلِ، وَهُوَ حَدِيث خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ).
أما مذهب مالك ففيه تفصيل في هذه المسألة؛ فالمالكية يعتبرون إجماع أهل المدينة، وهو رأي انفردوا به، ويرون أن الحديث لم يشتهر العمل به، وأنه كان يُمسح على الرأس عند أهل المدينة دون العمامة، ولذلك توقفوا في هذه المسألة.
فيقال ردًّا: لماذا لا يكون مشهورًا وقد نُقل عن أبي بكرٍ، وعمر،
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 101)؛ حيث قال: "وكأنه رضي الله عنه كان بعيدًا منه، فظنَّ أنه مَسَح على العمامة".
وأبي الدرداء، وأنس، وأبي أمامة، وعن غير هؤلاء من الصحابة، وعن جمعٍ كثير من كبار التابعين: كالحسن البصري، وقتادة، ومكحول، وعن صِغار التابعين كعمر بن عبد العزيز، وغيرهم.
• قوله: (وَقَالَ فِيهِ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ
(1)
، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى العِمَامَةِ، وَلَمْ يَذْكرِ النَّاصِيَةَ)
(2)
.
وابن عبد البرّ هو صاحب كتاب "الاستذكار" في شرح موطأ الإمام مالك، وصاحب كتاب "التمهيد".
وكتاب الاستذكار من أحسن المراجع لكتاب بداية المجتهد، خصوصًا في نقل المذاهب؛ لأن المؤلف نفسَه ذكر أنه عوَّل على كتاب "الاستذكار" في نقل المذاهب ونسبتها إلى أصحابها.
قوله: "في بعض طرقه أنه مسح على العِمامة".
فتكون هذه الرواية دليلًا صريحًا وحجةً للذين قالوا بجواز المسح.
• قوله: (وَلذَلِكَ، لَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُ العُلَمَاءِ فِي المَسْحِ عَلَى العِمَامَةِ المَسْحَ عَلَى النَّاصِيَةِ، إِذْ لَا يَجْتَمِعُ الَأصْلُ وَالبَدَلُ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (1/ 112)؛ حيث قال: "وأمَّا المسح على العمامة: فاختلف أهل العلم في ذلك، واختلفت فيه الآثار؛ فروي عن النبي عليه السلام أنه مسح على عمامته من حديث عمرو بن أمية الضمري، وحديث بلال، وحديث المغيرة بن شعبة، وحديث أنسٍ، وكلها معلولة، وقد خَرَّج البخاري في الصحيح عنده عَنْ عمرو بن أُمَية الضمري، وقَدْ ذكرنا إسناده والعلة فيه ببيانٍ واضحٍ في كتاب: "الأجوبة عن المسائل المستغربة من كتاب البخاري"، فمن أرَاد الوقوف على ذلك، تأمله هناك، والحمد لله".
(2)
أخرج ابن ماجه (562)، عَنْ جعفر بن عمرٍو، عن أبيه قال: رَأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "يمسح على الخُفَّين والعمامة".
(3)
يُنظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 57)؛ حيث قال: "وأبى المسح على العمامة أكثرُ =
ينتقل المؤلف هاهنا إلى مسألة مهمّة جدًّا - وإن لم يوردها مفصلة، كغيره من الكتب - والخِلاف فيها يسير لأن العلماء كادوا أن يجمعوا على أن مسح الأذنين مستحق، لكن عندما تُدقِّق المسألة فقد نُورِدُ إشكالًا على المالكية والحنابلة؛ فهم قالوا بوجوب تعميم مسح الرأس، وهم يرون - ومعهم الحنفية - أن الأذنين من الرأس، فقياس المذهب أن يكون الواجب مسحهما، لكن بالرجوع إلى أقوالهم في كتب الفروع لا تجد أحدًا قال بذلك، بل إن كل الروايات التي رويت عن الإمام أحمد قد اتفقت على أن المتوضئ لو ترك مسح أذنيه فإنه يُجزئه وضوؤه
(1)
، وكذلك عند المالكية، وإن حاول بعض المالكية كما ذكر المؤلف أن يجعلوا ذلك رأيًا للإمام مالك، نعم هي أقوالٌ أو روايات لبعض العلماء لكنها ليست قوية في المذهبين، لكن الذي نَقل عنه ذلك - فيما أعلم - هو إسحاق بن راهويه، فقد نقل عنه أنه قال: من ترك مسح أذنيه عامدًا لم تصح طهارته
(2)
. وهناك
= الفقهاء، وتأوِّلوا الخبَر في المسح على العمامة على معنى: أنه كان يقتصر على مسح بعض الرأس، فلا يمسحه كله مقدمه ومؤخره، ولا ينزع عمامته من رأسه، ولا ينقضها، وجعلوا خبَر المغيرة بن شعبة كالمفسر له، وهو أنه وصف وضوءه، ثم قال:"ومسح بناصيته، وعلى عمامته"، فَوَصل مسح الناصية بالعمامة، وإنما وَقَع أداء الواجب من مسح الرأس بمسح الناصية؛ إِذْ هي جزءٌ من الرأس، وصارت العمامة تبعًا له؛ كما روي أنه مسح أسفل الخف وأعلاه، ثمَّ كان الواجب في ذلك مسح أعلاه، وَصَار مسح أسفله كالتبع له، والأصل أن الله تعالى فرض مسح الرأس، وحديث ثوبان محتمل للتأويل، فلا يترك الأصل المتيقن وجوبُهُ بالحديث المحتمل".
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 162)؛ حيث قال: "إذا قلنا يجزئ مسح بعض الرأس: لم يكف مسح الأذنين عنه على المشهور من المذهب، قال في الفروع: ولا يكفي أذنيه في الأشهر، قال الزركشي: واتفق الجمهور أنه لا يجزئ مسح الأذنين عن ذلك البعض. وللقاضي في شرحه الصغير وجه بالإجزاء. قال في الرعاية: وهو بعيد. قال ابن تميم: وقطع غيره بعدم الإجزاء. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز الاقتصار على البياض الذي فوق الأذنين دون الشعر، إذا قلنا يجزئ مسح بعض الرأس".
(2)
"المجموع شرح المهذب"(1/ 416)، وفي "التمهيد" لابن عبد البَر (4/ 37)، قال:"إنْ تَرَك مسح أذنيه عامدًا، لم يجزه".
نقل أنه قال: لا يستحب مسحهما. ولم يقل به أحد، بل العلماء أجمعوا على استحباب مسحهما.
لكن قد يُوجد خلافٌ يسير ويعتبره بعض العلماء خلافًا نادرًا في وجوب المسح، أما العلماء الذين يُعتَدّ بخلافهم وإجماعهم فإنهم قد أجمعوا على استحباب مسحهما وعدم وجوبه، لذا عندما يرد قوله إسحاق بن راهويه يرد بأن الإجماع على عدم وجوب مسحهما، وأنه منعقد قبل إسحاق، فخلافه إذن لا يُعْتَدّ به في مثل هذا المقام، فعدوه خلافًا شاذًّا.
وهناك كلمة طيبة ذكرها الإمام النووي
(1)
عندما ذكر استحباب مسح الأذنين، ثم ذكر رأي الشيعة وأنهم لا يستحبون ذلك ويقولون: إن هذه زيادة على ما في الكتاب، إذ الله تعالى يقول:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ولم يَرِد ذكر للأذنين. إذن هو غير مستحب.
قال: لو تطوعنا في الردّ عليهم لرددنا عليهم بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام الكثيرة جدًّا، كحديث عبد الله بن زيد، وحديث عثمان، وحديث عليّ، وحديث الربيع التي نقلت لنا صفة وضوء الرسول عليه الصلاة والسلام؛ كلُّها ورد فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام مسح أذنيه أو مسح بأذنيه، كل ذلك ثبت. والأحاديث هي بيان لكتاب الله عز وجل وتفسير لمجمله. فهذا خلاف شاذّ لا ينظر إليه.
• قوله: (المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ مِنَ الأَرْكَانِ: اخْتَلَفُوا فِي مَسْحِ الأُذُنَيْنِ، هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ).
لا نستطيع أن نعرف كيف سَوَّى المؤلف بين القولين بقوله: "هل هو
(1)
يُنظر: "المجموع" للنووي (1/ 416)؛ حيث قال: "وحكى القاضي أبو الطيب وغيره عن الشيعة أنهم قالوا: لا يستحب مسح الأذنين؛ لأنه لا ذكر لهما في القرآن، ولكنَّ الشيعة لا يُعتد بهم في الإجماع، وإن تبرَّعنا بالرد عليهم فدليله الأحاديث الصحيحة، والله أعلم".
سُنَّة أو فريضة"؛ لأنه لا معادلةَ بين القولين، لأنها آراء نادرة جدًّا في مذهب مالك، فَجَعلها موازنةً لمسألةٍ مجمعِ عليها، وكأنَّ المؤلف لم يقف على الإجماع، فلا يحسن أن نقول: انقَسموا إلى قسمين: فريق يرى الوجوب، وفريق لا يرى الوجوب.
اختلف العلماء إلى أي جهةٍ تنتسب الأذنان على أربعة أقوال:
1 -
يذهب جماهير العلماء: إلى أن الأذنين من الرأس، وهم الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
2 -
ومنهم من قال: إنَّ الأذنين عضوان مستقلان، وهم الشافعية.
3 -
ومنهم من قال: بأنَّ الأذنين تابعان للوجه، وهذا نُقِلَ عن الزهري.
4 -
ومنهم مَنْ قال: ما أقبل منهما فهو مع الوجه، وما أدبر فهو مع الرأس، وهذا هو قول الشَّعبي والحسن بن صالح.
أدلة المذهب الأول:
الذين قالوا بأن الأذنين من الرأس استدلوا بعدة أدلة:
* أما من القرآن: يستدلون بقول الله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ، فيقولون: إنَّ المراد بقوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} ، أي: بأُذُنه.
* واستدلوا بأدلة من السُّنة:
منها: حديث الربيع، وهو حديث صحيح، أنها ذكرت وضوء رسول صلى الله عليه وسلم إلى أن قالت:"ومسح رأسه" ما أقبل منه، وما أدبرَ، ثم مسح صدغيه وأُذُنيه مرةً واحدةً"
(1)
.
فَهَذا الحديث فيه دلالةٌ على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم مسح الأذنين مع الرأس.
(1)
أخرَجه أبو داود (129)، وحَسَّنه الَألْبَانيُّ.
قالوا: فَمَسْحهما مع الرأس دليلٌ على أنَّهما عضوٌ واحدٌ؛ إذ لو كانت الأذنان عضوين مستقلين لَمَا مُسِحَا مع الرأس، فَكَان مسحهما مع الرأس دليل على أنهما عضوٌ واحدٌ.
الدليل الثاني: حديث عبد الله بن عباس، وهو أيضًا حديث صحيحٌ:"أن رسول الله عليه الصلاة والسلام مسح رأسَه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما"
(1)
.
قالوا: فذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام مسح رأسه وأُذُنيه .. وهذا دليلٌ على أنَّ المسح كان واحدًا، ثم بيَّن وفصَّل ذلك، فقال:"ظاهرهما وباطنهما".
الدليل الثالث: حديث المقدام بن معدي كرب: "أن الرَّسُول عليه الصلاة والسلام مَسَح برأسه وأُذُنيه، ثم أدخل إصبعيه في صماختي أذنيه"
(2)
، فَحَديث المقدام زادنا تفصيلًا.
أدلة المذهب الثاني (الشافعية) الذين قالوا: إنَّ الأذنين ليستا من الرأس؛ لما ورد في الحديث الصحيح من بعض روايات حديث عبد الله بن زيدٍ وغَيْره: "أنَّ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام أخَذ لهما ماءً جديدًا".
وَجْهُ الدلالة: أنَّ كونه صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماءً جديدًا، دليل على أنهما عضوان مستقلان لا يرتبطان بالرأس؛ لأنهما لو كانتا تابعتين للرأس لَمَا كُرِّرَ أَخْذُ الماء لهما لمسحهما مع الرأس.
ولهم تعليلٌ معروفٌ قد يكون فيه غرابة، بأنهم يجيبون عن الأحاديث التي استدل بها الجمهور، والتي فيها:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأُذُنيه مرةً واحدةً"، ويقولون: لعلَّه أخذ الماء بيديه.
ويرون المسح ببعض الأصابع، فيقولون: مسح بأصبعين، وترك
(1)
أخرجه الترمذي (36)، وصححه الأَلْبَانيُّ.
(2)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(305).
الثلاثة الباقية، ثم يقولون: مسح بالثلاثة، ثم بعد ذلك ترك الإبهام والسبابة لمسح الأذنين، فيقولون: هكذا يَبُلُّ يديه، ثم بعد ذلك يمسك رأسه، ثم يترك الإبهام والسبابة لمسح ما تبقَّى، هذا مخرج يذهبون إليه، لكنَّه مخرج بعيد.
أدلة المذهب الثالث: القائل بأنَّ الأذنين تابعان للوجه، وهذا نُقِلَ عن الزهري كما ذكرنا.
أدلته:
أولًا: أنه تحصل بهما المواجهة.
ثانيًا: الحديث الذي ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول في سُجُوده: "سَجدَ وجهي لله الذي خلَقه وصوَّره وشقَّ سمعه وبصره".
قالوا: جَمْعُهُ بين السمع والبصر دَليلٌ على أنهما في مكانٍ واحدٍ، وعلى أنَّ الأذنين من الوجه؛ لأن البصرَ من الوجه، وهُمَا العينان اللتان تبصران، فضمُّ السَّمْعِ إليهم دليل على أنهما تابعان أيضًا للوجه.
أدلة المذهب الرابع: القائل: ما أقبل كان من الوجه، وما كان من الخلف فهو من الرأس.
ودَليلُهُم: ما نُقِلَ عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "أنه مسح خلف أذنيه".
ويردُّ عليهم: هذا الأثر ضعيف.
الاعتراضات الواردة: على مذهب الجمهور: يُعْترض عليهم بعدَّة اعْتِرَاضَاتٍ:
الاعتراض الأوَّل:
أمَّا استدلالُكُم بقول الله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي: بأُذُنه، فَهَذا استدلالٌ في محلٍّ غير مُسَلَّمٍ؛ لأنه يتطرق إليه احتمالٌ، وإذا قام
الاحتمال، بطل الاستدلال؛ لأنه ليس هناك اتفاقٌ على أن المراد بالرأس هنا هو الأذنان؛ فقد قيل: هو الرأس حقيقةً، أمسك برأسه، وقيل: بذُؤابتِهِ، وقيل: إنَّه أمسك بأذنه.
الاعتراض الثاني:
إذا كان الأذنان من الرأس كما تقولون، فما رأيكم بمَنْ مسح الأذنين، أيكفي ذلك عن مسح الرأس؟ فيقولون: لا، لأن الإجماع قَائمٌ على أن مَنْ مسح أُذُنيه لا يكفيه عن مسح رأسه.
فَيُقَال لهم: إذن، يلزم على هذَا أن يكون مَنْ يمسح الأذنين ماسحًا لبعض الرأس، فيكون مؤديًا للواجب، وهذا موضع إجماع بين العلماء على أن مَنْ مسح أذنيه لا يُعْتبر ماسحًا لرأسه، وأنَّ وضعه لم يتم، ولم يقل بذلك أحدٌ.
الاعتراض الثالث:
قالوا: الأذنانِ قد ينبت عليهما شعر - عند بعض الناس - وقد لا ينبت، والمُحْرِمُ مُطالبٌ بأن يقصر شعر رأسه، ولا يكفيه أن يقصر شيئًا من هذا الشعر الذي ينبت على الأذنين في إحرامه، ولأنَّ المجمعَ علَيه أنَّ مَنْ فعل ذلك لا يُعْتبر مُقصِّرًا، فهذا إجماعٌ آخر يُضعِّف ما ذهبتم إليه من أنَّ الأذنين من الرأس.
الاعتراض الرابع:
يَقُولون: البياض الذي يُحيط بالأُذُنين ليس من الرأس كما هو معلوم، وهو أقرب للرأس من الشعر، فإذا كان البياض بالإجماع ليس من الرأس، فلماذا تدخلون الأذنين من الرأس؟!
ردود الجمهور على الاعتراضات السابقة:
أمَّا الحديث الذي استدلَّ به الزهري، فهو حديث صحيح، لكن المراد بالوجه أكثر مما يُتَصور، فالمراد بالوجه هنا إنما هو جملة البدن يعني: المراد به الذات بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في
الحديث الصحيح: "أُمرت أن أسجد على سبعة أعظمٍ"، فهل السجود يقتصر على الوجه، أو أنه يشمل الوجه، والجبهة، والأنف، وكذلك الكفَّين، ويشمل الركبتين، وأطراف القدمين، هذه الأمور السبعة يشملها.
إذًا، هذا يقوي أنه ليس المراد بالوجه في الحديث هو الوجه المعروف الذي تَحْصل به المواجهة، وإنما عُبِّرَ به عن الذات؛ لأنَّ المواجهةَ وإنْ كانت تحصل بالوجه، لَكن المقصود بذلك الذات؛ لأنَّ السجودَ لا يقتصر عليه، وإنما هو يكون في أمورٍ.
2 -
يقولون من الناحية اللُّغوية: إنَّ لغة العرب دائمًا تأخذ بالمقاربة، فنسبة السَّمْعِ إلى الوجه لوُجُود القرب بين الأذن وبين الوجه.
أما الذين قالوا بأنه ما أقبل منهما يُمْسَح من الوجه لوُجُود المواجهة.
ويرد عليهم: استدلوا بأثر عليٍّ رضي الله عنه أنه مسح خلف أذنيه، وأثر عليٍّ رضي الله عنه إنما هو ضعيف.
الخُلَاصة: الخلاف بين العلماء ينحصر في نقاطٍ أربعٍ:
أ- مِنَ العُلَماء منْ ذَهَب إِلى أنَّهما مِنَ الرأس؛ بمعنى أنهما غير عضوين مستقلين، لكن بعد التفصيل يرى هؤلاء (الحنفية، والمالكية، والحنابلة) أنهما من الرأس تبعًا لا استقلالًا، ولذلك ناقشنا الأمور التي أوردت عليهم في ذلك فيما يتعلق بمَنْ مسح الأذنين أنَّ ذلك لا يكفيه عن مسح الرأس، ومَنْ قصَّر من شعرهما، والبياض الذي يَدُورُ حَوْلهما، إلى غير ذَلكَ من التعليلات الكثيرة الذي يَذْكرها العلماء.
إذن، رأينا أنَّ هناك مَنْ جعلهما من الرأس، واختلف هؤلاء في أَخْذ الماء لهما في تجديدِهِ:
* فمنهم من رأى تجديد الماء.
* ومنهم من رأى أن الماء لا يجدد.
2 -
وهو مذهب الشافعية: يرون أنهما عضوان مستقلان، ويجدد لهما الماء.
3 -
ومنهم مَنْ قال: إنهما من الوجه، وقد رأيتم أن ذلك قول الزهري.
4 -
ومنهم مَنْ قال: ما أقبلَ منهما من الوجه، وظاهرهما إنما هو من الرأس.
يقولون: نَعَمْ، نحن نقول بأنهم من الرأس، لكن فرقٌ بين أن تقول: من الرأس تأصيلًا، وبين أن يكون تبعًا، فنحن نقول: هما مِنَ الرأس تبعًا، أي أنهما تابعان للرأس، فنحن لما نقول: الأذنان من الرأس تبعًا لا استقلالًا، هكذا يقول الجمهور، وهذا هو جَوابُهُم.
أمَّا مَسْألة تجديد الماء لهما:
نجد أنه وقع خلافٌ في هذه المسألة بين الجمهور، فنجد أن المالكية والحنابلة ظلوا عند رأيهم الأول أنهما من الرأس، وأنه يُجَدَّد لهما الماء، لكن الحنفية يقولون: لا يُجدَّد لهما الماء، وبذلك نجد أن المالكية والحنابلة التَقَوْا مع الشافعية في قضية استحباب تجديد الماء لهما؛ لأن المسألة أصلها ليست لازمةً.
إذًا، هناك خلاف في تحديد تبعية العضوية، وفي تجديد الماء لهما، فالأئمة الثلاثة (أبو حنيفة ومالكٌ وأحمد) يلتقون على أنهما من الرأس، لكن في تجديد الماء لهما ينفرد أبو حنيفة عن المالكية والحنابلة، ويرى أن الماء لا يُجَدَّد، وينضم الشافعي إلى الإمامين مالك وأحمد، فيرون جميعًا أنه يُجَدَّد لهما الماء، الشافعية يرون أن دليلهم صريح في المُدَّعَى، وأن أخذ ماءٍ جديدٍ لهما دليلٌ على أنهما عُضوان مستقلان، والآخرون يَقُولُون: لَا، لَيْسَا عُضْوين مستقلَّين، ودليلنا رَدٌّ على أولئك الَّذين يقولون بأنهما من الرأس؛ لأن أخذ الماء لهما دليل على انفصالهما، وهو ردٌّ على الذين يقولون بأنهما من الوجه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مَسَحهما
بعد الرأس، فلو كانتا من الوجه لمسحتا بعد الوجه مباشرةً أو معه، فهذا دليلٌ على أنَّ ذلك ليس منهما.
فائدتان:
1 -
العلماء رحمهم الله يريدون الوصول إلى الحق، فكلٌّ له دليلٌ، وكلٌّ يرى أنَّ دليله هو الحق فيما ظهر له، ويرى أنَّ دليل غيره قد يَرِدُ إليه شيء، وأنَّ فيه ضعفًا، وأنَّ له تأويلًا عنده، ولذلك نجد أن أحدهم قد يكون على قولٍ يخالف فيه الأئمة كما في مسألة المسح على العمامة، فإن الإمام أحمد انفرد من بين الأئمة الأربعة، وأمَّا هنا في مسألة مَسْح الأُذُنين وَجَدناه الْتقَى مع الحنفية والمالكية فيما يتعلق بالأذنين، وأنَّهما من الرأس، وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على إخلاص هؤلاء العلماء، ونشدانهم للصواب.
2 -
أن هذه المسألة مع صغرها سَتَرون أهميتها، وأهمية النقاش فيها، وفي عرض هذه الخلافات، تبيِّن أهمية الفقه الإسلامي، ورد دَعْوى مَنْ يقول بأنَّ هذه الخلافات والنقاشات الَّتي أفنى فيها الأئمة أعمارَهم وأوقا تَهم، وكتبوا، ودوَّنوا، ودرسوا، وعلَّموا؛ لا حاجة لها.
كيف ذلك؟ وهم الأئمة الأجلَّة الذين أَمْضَوا جميع حياتهم في خدمة هذا الدِّين، وهذه الاجتهادات الفقهية، وهذا النضح العقلي لم يصلوا إليه إلا بعد جَهْدٍ وطولِ زَمَانٍ.
* قوله: (وَهَلْ يُجَدَّدُ لَهُمَا المَاءُ أَمْ لَا؟).
لَا أَرَى مُوَازنةً فيما ذَكَره المؤلف، فالمسألةُ -كما قُلْتُ- مجمعٌ فيها على أن مسحَ الأُذُنين مُستحبٌّ، والأقوالُ التي وَرَدت في ذلك اعتبرها العلماء أقوالًا شاذةً؛ لأنه بالنظر إلى أصل الأئمة فالإجْمَاعُ قائمٌ. وقد قُلْتُ: من قياس مذهب الحنابلة والمالكية أن يُقَال بوجوب مَسْحهما على أساس أنهما من الرأس، لكن الواقع أنها تَكُون من الرأس تبعًا، وليس استقلالًا، ولذلك، فإنَّ كُلَّ الذين نَقَلوا مسائلَ الإمام أحمد، وذَكَروا ذلك عنه بمَسح الأذنين لم يَنْقُل أحدٌ منهم رحمهم الله جميعًا- أنه قال
بوُجُوب ذلك، ولم يقل بوجوب ذلك إلا إسحاق بن راهويه، وهو من أقران الإمام أحمد، والإمام أحمد قد أثنى عليه، ونبَّه على أنه يختلف معه في بعض المسائل.
فَهَذا الَّذي ذكَره المؤلف خطأٌ في نظري؛ لأنَّه لا مُوَازنة بين القَوْلين، ولا ينبغي أن نقولَ: ذَهَب بعضهم إلى الفَرْضيَّة، وبَعْضُهم إلى الاستحباب، ولعلَّ المؤلف رحمه الله لم يقف على الإجماع، ومِمَّا يُؤْخذ على هذا الكتاب أنه لا يُدقِّق في المَذَاهب الأُخرى، وليسَ هذَا دليلًا أننا ننقص من قيمة الكتاب أو قدره، لَا، بل لَه فيه فوائدُ كثيرةٌ، وهي أيضًا وإن وجدت فهي قليلة بالنسبة للمحاسن.
* قوله: (فَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهُ فَرِيضَةٌ، وَأَنَّهُ يُجَدَّدُ لَهُمَا المَاءُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَيَتَأَوَّلُونَ مَعَ هَذَا أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِمَا: إِنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ)
(1)
.
هَذَا تأويلٌ من المالكية، وإلَّا فالعلماء رحمهم الله قد حكوا الإجماع، ولو رجعنا إلى الكتب التي تُعْنى بالإجماع ككتب ابن المنذر ("الأوسط"، و"الإشراف")، و"المغني" لا بن قدا مة، وكتاب "المجموع" للنووي، وكتاب:"البناية" للإمام العينيِّ شارح البخاري صاحب "عمدة القاري"، وهو كتاب قيِّم، ويعدُّ من كتب الحنفية المتأخرة، وهذا الكتاب وإن لم يشتهر عند عددٍ من طلاب العلم، لوُجُود أخطاءٍ كثيرةٍ في طباعته، وتعصبه لمذهبه، وقد يكون تعصبه في "عمدة القاري" أكثر منه في ذلك الكتاب، وإلا فهو شَرَحَ أهم كتاب من كتب الحنفية، وهو كتاب:"الهداية"، وَعُنِيَ بالجانب الحديثيِّ، وَكَذلك الناحية اللُّغوية، وهو يعتمد كثيرًا فيما يَتَعلَّق بنقل المذاهب، والأدلَّة على كتاب "المغني" لابن قدامة.
(1)
يُنظر. "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 249)؛ حيث قال: "ومسح الأُذُنين مع تجديد الماء لهما، والمنصوص لمالكٍ أنهما من الرأس، وإنما السُّنَّة في تجديد الماء لهما".
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(1)
: مَسْحُهُمَا فَرْضق كَذَلِكَ).
هَذِهِ من الأخطاء الكبيرة التي يرتكبها المؤلف رحمه الله، أن ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله هذا القول، وهو لم يثبت عن أبي حنيفة رحمه الله، ولا حتى في قول شاذٍّ، ولذا يجب أن يصحح هذا عن أبي حنيفة رحمه الله.
* قوله: (إِلَّا أَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ
(2)
.
هَذَا هو الصحيح عن أبي حنيفة، فأبو حنيفة يقول بأنهما يمسحان مع الرأس بماءٍ واحدٍ، لكن لم يقل بفرضيتهما، وإذا كان أبو حنيفة نفسه يرى أن مسحَ قدرٍ من الرأس يُجْزي، وهو يرَى أنهما من الرأس، فكيف يَقُولُ بوُجُوبهما؟!
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَسْحُهُمَا سُنَّةٌ، وَيُجَدَّدُ لَهُمَا المَاءُ)
(3)
.
كلامه صحيح بالنسبة للشافعي، وهو مذهب كافة العلماء، أقصد: استحباب مسح الأُذُنين.
* قوله: (وَقَالَ بِهَذَا القَوْلِ جَمَاعَة أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَيَتَأَوَّلُونَ أَيْضًا أَنَّهُ قَوْلُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حُكْمُ مَسْحِهِمَا حُكْمُ المَضْمَضَةِ)
(4)
.
فحُكْمُ مسحهما حكم المضمضة، والمضمضة ليست واجبة في
(1)
بَلْ هي سُنَّة عند أبي حنيفة" يُنظر: "مختصر القدوري" (ص 11)؛ حيث قال: "وسنن الطهارة
…
ومسح الأذنين".
(2)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 7)؛ حيث قال: " (ثم يمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة)، وتمام السُّنَّة في أن يستوعب جميع الرأس بالمسح
…
والمسنون في المسح مرة واحدة بماءٍ واحدٍ عندنا".
(3)
يُنظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 120)؛ حيث قال: "قال الشافعي رحمه الله: ويمسح أُذُنيه ظاهرهما وباطنهما بماءٍ جديدٍ، ويدخل أصبعيه في صماخي أذنيه. قال الماوردي: وهذا صَحيحٌ، مسح الأذنين سُنَّة".
(4)
وهَذَا هو المشهور في كُتُب المالكية، يُنظر:"الرسالة" لابن أبي زيد القيرواني (ص 15)؛ حيث قال: "ومَسْح الأُذُنين سُنَّة".
المشهور عندهم، وبهذا يوافقون الجمهور، وأكثر العلماء يرون أنهما سُنَّة لعدم ذكرهما في الآية، وهناك من يرى وجوبهما، وهناك من يرى وجوب الاستنشاق دون المضمضة، هذه كلها أقوالٌ مرت بنا وناقشناها، وبيَّنَّا أن الصحيح هو الميل إلى وُجُوبهما، وإن لم يَرِدَا في الكِتَابِ، فهناك أحاديث.
ودعوى المؤلف وغيره فيما مضى أن الاستنشاق ورَد من أمره عليه الصلاة والسلام، وأن المضمضة وردت من فعلِهِ، غير صحيح، بل هي أيضًا وردت من فعلِهِ ومن قولِهِ عليه الصلاة والسلام، وذكرنا الحديث الصحيح وفيه: "
…
وبالغ في المضمضة"، وفيه أيضًا: "إذا توضأت فمضمض"، رواه أبو داود، وهو صحيح
(1)
.
فَهَذا أمرٌ من الرسول عليه الصلاة والسلام، إِذَنْ لم تكن المَضمَضة قاصرةً على فعلِهِ عليه الصلاة والسلام، بل إن فعلَه وقولَه مبينٌ لكتاب الله عز وجل، فهو بيان له، ولا يخرج عنه.
* قوله: (وَأَصْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَوْنِ مَسْحِهِمَا سُنَّةً أَوْ فَرْضًا: اخْتِلَافُهُمْ فِي الآثَارِ الوَارِدَةِ بِذَلِكَ، (أَعْنِي: مَسْحَهُ عليه الصلاة والسلام أُذُنَيْهِ)
(2)
.
هَذَا الحَديث هو حديث شهر بن حوشب: "الأُذُنان من الرأس"، وهو حديثٌ ضعيفٌ، وهو من الأدلة التي يستدلُّ بها الجمهور على أنهما
(1)
أخرجه أبو داود (144).
(2)
منها: ما أخرجه أبو داود (108)، عَنْ عثمان بن عبد الرحمن التيمي، قال: سُئِلَ ابن أبي مليكة عن الوضوء، فقال: رأيت عثمان بن عفان سئل عن الوضوء: "فدعا بماءٍ، فأُتِيَ بميضأةٍ، فأَصْغَاها على يده اليمنى، ثم أدخلها في الماء، فتَمَضْمَض ثلاثًا، واستنثر ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يده اليمنى ثلاثًا، وغسل يده اليسرى ثلاثًا، ثم أدخل يده، فأَخَذ ماءً فَمَسح برأسه وأُذُنيه
…
"، وأخرج ابن ماجه (439)، عن ابن عباسٍ "أنَّ رسولَ الله رحمه الله مسح أُذُنيه دَاخلَهما بالسبَّابتين، وخالف إبهاميه إلى ظاهر أذنيه، فمسح ظاهرهما وباطنهما".
من الرأس، وأنا لم أذكر هذا الحديث؛ لأنه ضعيفٌ، ولذلك اقتصرت على الأحاديث الصحيحة، وهي كافية في ذلك.
* قوله: (هَلْ هِيَ زِيَادَة عَلَى مَا فِي الكِتَابِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّدْبِ لِمَكَان التَّعَارُضِ الَّذِي يُتَخَيَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الآيَةِ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى الوُجُوبِ، أَمْ هِيَ مُبَيِّنَة لِلْمُجْمَلِ الَّذِي فِي الكِتَابِ، فَيَكُونَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الرَّأْسِ فِي الوُجُوبِ، فَمَنْ أَوْجَبَهُمَا جَعَلَهَا مُبَيِّنَةً لِمُجْمَلِ الكِتَابِ، وَمَنْ لَم يُوجِبْهَا، جَعَلَهَا زَائِدَةً كالمَضْمَضَةِ، وَالآثَارُ الوَارِدَةُ بِذَلِكَ كثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانتْ لَمْ تَثْبُتْ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، فَهُوَ قَدِ اشْتُهِرَ العَمَلُ بِهَا، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي تَجْدِيدِ المَاءِ لَهُمَا، فَسَبَبُهُ تَرَدُّدُ الأُذُنَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا عُضْوًا مُفْرَدًا بِذَاتِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ، أَوْ يَكُونَا جُزْءًا مِنَ الرَّأْسِ).
سَببُ الخلَاف: أنه وَرَد في الأحاديث تجديد الماء، وعدَم تجديده، وقَدْ بسطنا القول في هذه المسألة، وفصلنا القولَ فيها مع بحث المؤلف لها بحثًا إجماليًّا.
فائدة مهمة:
لماذا يُطيل العلماءُ الكَلَامَ وذِكْرَ الخلاف في قَضيَّة المسح على العِمَامَةِ؟
فهل يترتَّب على مسح الرأس مشقةٌ فيمسح على العِمَامَةِ؟
أو بعِبَارةٍ أُخرى: هل التخفيفات التي جاءت في الشريعة الإسلامية إنما هي بُنِيَتْ يقينًا على وجود المشقة أو لمظنة المشقة؟
أَسْبَاب التَّخفيف في الشريعة الإسلامية سبعةٌ،
هي:
1 -
السفر. 2 - المرض. 3 - الإكراه 4 - النقص. 5 - النسيان. 6 - الجهل. 7 - العسر.
السبب الأول: السفر، ولا يَلزم أن يكونَ السَّفر فيه مشقة، فليمس كُلُّ مسافرٍ تَلحَقُه مشقَّة، حتى ولو كان كثيرًا من الذين يُسَافرون تَلحَقُهم مشقة، وقد تخفُّ كما في زمننا الحاضر، وقد نجد مَنْ هو في الحاضرة تلحقه مشقة أكثر من المسافر، فلو قُدِّر أن إنسانًا وقَف على فرنٍ يخبز من بعد صلاة الفجر إلى قُرْب المغرب لا يَتَوقَّف إلا وَقْتَ الصلاة، ومع اشتداد القَيظ
(1)
، لا شكَّ أنه تلحقه مشقة عظيمةٌ أعظم من إنسانٍ سَافَرَ في سيارةٍ مكيفةٍ ومريحةٍ، أو سافر في طائرةٍ أو في غير ذلك، أو حتى سافر على دابةٍ.
وَمِنْ هنا كان العلماء فيما مضى يذكرون بعض المسائل، فيقولون: لو أن إنسانًا قُطِعَتْ به مسافة القصر في دقائقَ مَعْدُودَةٍ، هل يقصر الصلاة؟
هذه مسائلُ تَعرَّض لها العلماء، وربما جعلت من باب الفقه التقديري أو الفرضي، وقد وُجِدَتْ في زماننا، فإنك قد تقطع مسافة القصر بالإنسان في وقت قليل، ويجوز له أن يقصر؛ لأن الله أباح له ذلك.
إذَنْ، تَرَون الحكمة في دراسة بعض المسائل، وفي تدقيق العلماء في بعضها، وفي تفصيلاتهم، وفي تفريعاتهم، وفي تعليلاتهم، فها نحن ننهل من مَعِين تلك الآراء القديمة، ولذلك نجد أن كلَّ مسألةٍ لنا فيها خلفٌ، ونأنس بةَ قوال أولئك العلماء، ونتَّكئ عليها، ونجعلها من الأدلة التي نُقَوِّي بها آراءنا في بحث المسائل التي جدَّت لدينا في هذا الوقت.
السبب الثاني: المرض، فالمريض قد يفطر ولا يصوم، وإذا لحقته مشقةٌ في الصلاة قائمًا، صلَّى قاعدًا، فَفِي الحديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"صَلِّ قائمًا، فإن لَمْ تَسْتطع فقاعدًا، فإن لم تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ"، وكَذَلك ما وَرَد في شأن الحامل والمرضع من التخفيف، وَكَلامُ الفُقَهاء كثيرٌ في هذه المسألة، لا نَسْتَطيع أن نعرض له تفصيلًا.
(1)
"القَيْظُ": حَمَّارةُ الصيفِ. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1178).
السبب الثالث: الإكراه: وهو من المسائل المهمة، ولكن الإكراه ليس على إطلاقِهِ، فليس كل مَنْ أُكْرِهَ له أن يفعل ذلك، فَمَثلًا يأتي إنسانٌ فيضع سيفًا على رقبة أخيه ويقول: اقتل فلانًا وإلا قتلتك، لا يجوز له ذلك، لأن حرمة أخيك كحرمة مهجتك، وإذا أُكْرِهَ إنسانٌ ليشهدَ شهادة زُورٍ يَتَرتَّب عليها قَتْل مسلمِ، أو انتهاك حرمته، أو إقَامة حَدٍّ علَيه، فلَا يحلُّ لَه ذلك.
إذًا، الإكراه على أنواعٍ، فلو أكره شخص على أن يقذف إنسانًا، فقَدْ يفعل ذلك ويرجع عنه، ولوَ أُكْره على أن يسرق، يفعل ذلك ثمَّ يرد الحق إلى أصحابه، وقد يُكْرَه الإنسان على أن ينطق بكلمة الكفر، فيُبَاح له ذلك لكن بشرط أن يثقَ من نفسه ويطمئنَّ بأن الإيمان مستقرٌّ بنفسه، وقد علمنا أن مِنَ الصحابة مَنْ كان يعذب في الرمضاء، وتُوضَع عليه الصخرة، ويقول: أَحَدٌ أَحَدٌ.
ومع ذلك نَجد أن العلماءَ فَصَّلُوا وقَالوا: أيهما أَوْلَى في حَقِّ المُسْلم إذا أُكْرِهَ أن ينطقَ بكَلمَة الكفر، أَمْ يُقدِّم نفسه؟
الأَفْضَلُ له أن يصمد، وقد رأينا نماذج من الصحابة صمدوا أمام طغيان الكافرين، وقد كان المؤمنون ممَّن سبقونا يُنْشَرُ أحدُهُم بالمنشار وبظل على حاله، ومنهم مَنْ فصَّل القول في ذلك وقال: إذا كان الذي أُكْرِهَ يترتب على تقديمه نفسه ومهجته رفعة لشأن الإسلام، وشجاعة للمسلم ولإقدامه، وعدم ذُلِّه وخضوعه، فَالأَوْلَى أن يُقَدِّم ذلك، وإن ترتَّب على نطقه بها وجود مصالح أو مصلحة من بقائه داعيةً وناصحًا وموجهًا، وفيه خيرٌ لهذه الأمة، وقد لا يوجد مَنْ يقوم مقامه، فلَه أن ينطق بها، ومع ذَلكَ فَقَدْ أباح الله له ذلك شريطةَ أن يكون قلبُهُ مطمئنًّا بالإيمان، هذا في حق الله سبحانه وتعالى.
السبب الرابع: النسيان، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
وفي الحديث: "رُفِعَ عن أمتي الخطأ والنسيان
…
".
السبب الخامس: الجهل، فالجَهَلَة مخففٌ عنهم، ولعلكم تذكرون حديث أمية بن الحكم السلمي عندما عطس شخصٌ فشمَّته، فأخذ الصحابة يحاولون إسكاته، ويضربون بأيديهم على أفخاذهم يصمتونه، لكنه ظل كذلك ثم صمت
…
إلى أن قال: فما وَجَدتُ معلمًا أحسن من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ما كَهَرنِي، ولا ضَرَبني، ولا شتمني، ثمَّ قَالَ:"إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ"
(1)
.
إذًا، الجهل له حكمٌ، وهل الجهل أيضًا يمتد أو لا؟ أو أنه في أول الأمر، هذا فيها تفصيلٌ أيضًا للعلماء رحمهم الله.
السبب السادس: النقص: والنقص أيضًا لاحظته الشريعة الإسلامية، فالمجنون والصغير رُفِعَ عنهم القلم، وكذلك النائم، قال عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ القلمُ عن ثلاثٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفِيقَ، وعن الصبي حتى يبلغ"
(2)
.
وكذلك المرأة خُفِّفت عنها بعض الأحكام، فلَا تَجب عليها جماعةٌ، ولا جمعة
…
إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة، ورُخِّصَ لها في استعمال بعض الأمور كالذهب وغيره، كذلك نجد المملوك قَدْ خَفَّفت الشريعة الإسلامية عنه، فجعلت الحدَّ إلى نصفِهِ، وكذلك العدة.
السبب السابع: العُسْر: فبعض القُرُوح التي تُوجَد في بدن الإنسان، والطين الذي يصيب ثيابك وأنت تمشي في الشوارع، والدَّواب التي توجد في الطعام، قد خَفَّفت الشريعة عنَّا هذه الأمور، وهذا تَيْسير من الله سبحانه وتعالى، وهو دليل على سماحة هذه الشريعة.
هذه قضايا هامة جدًّا، لا نستطيع تفصيلها، كلها ترجع إلى قضية "المشقَّة تجلب التيسيرَ"، وهي مَسَائلُ مهمةٌ في هذه الشريعة الإسلامية.
(1)
أخرجه مسلم (537).
(2)
أخرجه أبو داود (4398).
* قوله: (وَقَدْ شَذَّ قَوْمٌ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُمَا يُغْسَلَانِ مَعَ الوَجْهِ)
(1)
.
الذي قال بأن الأذنين تغسلان مع الوجه إنما هو الزهري، وأوردنا دليله في ذلك، وهو غير موجودٍ في الكتاب، وهو يستدل بأحاديث:"سَجَد وجهي لله الذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعه وبصره"، وبأنَّ الوجه تَحصُلُ به المواجهة، والأذنين تحصل بهما المواجهة، هذا هو تعليله.
الرد عليه: إنَّ الجوابَ عن ذلك أنَّ هذا الحديث صحيح، لكن الجواب عنه أن المراد بالوجه هنا الذات أو جملة الجسم، ولذلك نجد أن السُّجُودَ لا يقتصر على الوجه، وإنما كما ورد في الحديث الصحيح:"أُمِرْتُ أن أسجدَ على سبعة أعضاء"، وقد فصَّلنا القول في ذلك.
وأما الَّذين قالوا بأن ما أقبل منهما مع الوجه، وما كان في ظاهر الأُذُن، فهو من الرأس، فهو قول الشعبي والحسن بن صالح، واستدلا بأثرٍ عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وبيَّنَّا أنه ضعيفٌ.
* قوله: (وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنْ يُمْسَحَ بَاطِنُهُمَا مَعَ الرَّأْسِ، وَيُغْسَلَ ظَاهِرُهُمَا مَعَ الوَجْهِ
(2)
، وَذَلِكَ لِتَرَدُّدِ هَذَا العُضْوِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنَ الوَجْهِ، أَوْ جُزْءًا مِنَ الرَّأْسِ).
الَّذين قالوا بأنه جزءٌ من الوجه وِجْهَتُهُم: أنه تحصل به المواجهة، والحديث الذي أوردنا أنه لما جاء الحديث:"سَجَد وجهي لله الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره"
(3)
، فقال: أضاف السمع إلى الوجه كما أُضِيفَ إليه البصر، فدلَّ على استوائِهِما وانتسابهما إلى الوجه مما يدلُّ على
(1)
يُنظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 120)؛ حيث قال: "وهو قول ابن سيرين والزهري أنهما من الوجه يُغْسلان معه".
(2)
يُنظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 120)؛ حيث قال: "وهو قول الشعبي أنَّ ما أقبل منهما من الوجه يُغْسل معه، وما أدبرَ منهما من الرأس يُمْسَح معه".
(3)
أخرجه مسلم (201).
أن الأذنين من الوجه، وهو قول ضعيفٌ، وقد رأينا أن الأدلة الصحيحة تبعد ذلك.
* قوله: (وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ مَعَ اشْتِهَارِ الآثَارِ فِي ذَلِكَ بِالمَسْحِ، وَاشْتِهَارِ العَمَلِ بِهِ. وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَحِبُّ فِيهِمَا التَّكْرَارَ كَمَا يَسْتَحِبُّهُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ)
(1)
.
انفردَ الإمام الإمام الشافعي رحمه الله في تكرار مسح الرأس، وهي أيضًا رواية للإمام أحمد، وفي مسح الأذنين هو يأخذ بعموم الأدلة التي وَرَدت في وَصْف وُضُوءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأنَّه تَوضَّأ ثلاثًا ثلاثًا، ولقول: من وضوء الرسول عليه الصلاة والسلام أنه مَسَح على الأذنين، فينبغي أن يكون ذلك كذلك.
(المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ مِنَ الصِّفَاتِ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّجْلَيْنِ مِنْ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي نَوْعِ طَهَارَتِهِمَا، فَقَالَ قَوْمٌ: طَهَارَتُهُمَا الغَسْلُ، وَهُمُ الجُمْهُورُ. وَقَالَ قَوْمٌ: فَرْضُهُمَا المَسْحُ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ طَهَارَتُهُمَا تَجُوزُ بِالنَّوْعَيْنِ (الغَسْلِ وَالمَسْحِ)، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِيَارِ المُكَلَّفِ).
حيث لا خلاف بين العلماء في أن الرِّجلَين من أعضاء الوضوء، وأن طهارتهما واجبةٌ، إنما الخلاف في نوع الطهارة، وما إذا كانت طهارة الرِّجلين تحصل بالغَسل أم بالمسح.
(1)
يُنظر: "النجم الوهاج في شرح المنهاج"(1/ 349)، و"مغني المحتاج" (1/ 188)؛ حيث فيهما:" (و) من سننه (تثليث الغسل والمسح) المفروض والمندوب، قال: (والمسح)، المراد: مسح الرأس والأذنين والصماخين".
(2)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 31) حيث قال: "إلا أن العلماء أجمعوا على أن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، والرِّجلين إلى الكعبين، ومسح الرأس، فرض ذلك كله". وانظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 19).
وهذا الخلاف في حقيقة الأمر إنما هو خلافٌ شاذٌّ، والأمر فيه دائرٌ بين قول جماهير أهل العلم وأقوالٍ أُخرى ضعيفةٍ جدًّا لا يُعتَدُّ بها، ولكننا نُورِدُ الخلاف هاهنا حتى تكتمل لنا دراسة المسألة دراسةً علميَّةً وافيةً.
وجملة الأقوال في هذه المسألة أربعة أقوال:
القول الأول: أنها تحصل بالغَسل، وهو قول عامة أهل العلم.
ويمكننا أن نَصِفَ هذا القول بأنه إجماع أهل العلم، فهذا الإمام النووي رحمه الله حينما ذَكَرَ هذه المسألةَ، صَدَّرَها بقوله:"أَجْمَعَ العلماءُ"
(1)
، وهذا الإمام التابعي المعروف عبد الرحمن بن أبي ليلى قال فيها:"اجتمع أصحاب رسول الله على غسل القدمين"
(2)
.
ويُعَاب على المؤلِّف هاهنا قوله: "فقال قوم: طهارتهما الغسل"، فهذا لا شكَّ يُتَوَهَّمُ منه أن في المسألة خلافًا سائغًا أو ما شابه، بينما الخلاف شاذٌّ كما ذَكَرْنَا، فكان ينبغي أن يُصَدِّرها بما يدلُّ على ذلك، مثل: "قال أكثر العلماء، قال عامَّة العلماء
…
"، وَمثل هذه الألفاظ التي تُوَضِّح رُجْحان هذا القول، وقوة مستند القائلين به.
القول الثاني: أنها تحصل بالمسح: وهو قول الشيعة، وهو قولٌ ضعيفٌ واهٍ، لا يمكن الاعتداد به.
وقد ردَّ العلماء على ما تشبثوا به من آثارٍ نُقِلَت عن الصحابة كما
(1)
يُنظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 107) حيث قال: "وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه واليدين والرجلين، واستيعاب جميعهما بالغسل".
(2)
عزاه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 266) لسعيد بن منصور في "سننه" حيث قال: "وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه غسل رجليه
…
ولم يثبت عن أحدٍ من الصحابة خلاف ذلك إلا عن عليٍّ وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قَالَ عبد الرحمن بن أبي ليلى: أَجْمَع أصحاب رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين
…
رواه سعيد بن منصور".
بَيَّنَّا، ورَدُّوا كذلك استدلالهم بحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى كِظَامَة
(1)
قومٍ، فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه"
(2)
، بأن هذا إنما كان في أول الإسلام، وقد فصَّلنا الكلام في هذا.
وكذلك رد العلماء
(3)
قولهم هذا بردودٍ كثيرةٍ جليَّةٍ، منها على سبيل المثال:
* أنَّ غسل الرأس فيه مشقةٌ؛ فالماء حينئذٍ يسيل على البدن، وربما يؤذي الإنسان، أما غسل القدمين فلا مشقة فيه، ولا ضرر.
* وأن الرِّجلين حُدَّتَا بالكعبين كما حُدَّت اليدان بالمرفقين، فكان هذا دليلًا على أن المطلوبَ فِيهِما إنما هو الغَسل، أما الرأس فلم يُذْكَر فيه حدٌّ، كما قال تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
* وأنَّ الرَّأسَ إنما هو في أعلى البدن، كما أنه مستورٌ مُغَطًّى، أما الرِّجلان فإن الإنسان يسير عليهما، وقد تَعْلَقُ بهما القاذوراتُ والنجاسات، فتتأثر بذلك، فكان الغَسل هو المناسِبَ لهما لا المسح.
* أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُخَلِّلُ بين أصابعه، ويُفرِّق بعضها، وهذا إنَّما هو من شأن الغَسل، أما المسح فلا يحتاج إلى ذلك، إنَّمَا المسحُ هو إمْرَارُ اليَد على الشيء بَعْدَ بَلِّها بالماء.
القول الثالث: جَوَاز الغسل والمسح: وهو ما ذَهَب إليه ابن جريرٍ الطَّبري.
(1)
"الكظامة": كالقَناة وجمعها: كظائم، وهي آبار تحفر في الأرض متناسقة، ويخرق بعضها إلى بعض تحت الأرض، فتجتمع مياهها جاريةً. يُنظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 177).
(2)
أخرجه أبو داود (160)، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(150).
(3)
ينظر: "المجموع" للنووي (1/ 417، 418) حيث قال: "واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه غسل رجليه، منها حديث عثمان، وحديث علي، وحديث ابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد والربيع بنت معوذ وعمرو بن عبسة، وغيرها من الأحاديث المشهورة في "الصحيحين"، وغيرهما".
والحقيقة أن الإمام الطبري إنما قال بالتخيير حينما تساوت عنده القراءتان، قراءة النصب الدالة على الغَسل، وقراءة الخفض الدالة على المسح، فصارتا عنده بمثابة روايتين مُتَساويتين في الصحة، فقال:"يُخَيَّرُ الإنسانُ بينهما"
(1)
.
وَقَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَري يَرُدُّهُ كثيرٌ من الأحَاديث، منها قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ"
(2)
.
وكذلك يَرُدُّه أنَّ هذا التخيير من شأنِهِ أن يُبقِيَ الإنسانَ مُتَرَدِّدًا في أَمْرِ من أمورِ دِينِهِ، بَلْ في مَدخَلٍ إلى أدَاء فَرِيضَةٍ كفريضة الصلاة، فإنَّ العبَادات قَدْ تكون مقصودةً لذاتها؛ كالصلاة والزكاة، وقَدْ تكون مقصودةً لغيرها كالوُضُوء والتيمُّم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ"
(3)
، ولا يوجد ما يحمل الإنسان على الدخول في الحيرة والتردد بحيث يبقى لا يدري هل أجزأه مسح قدميه أم لا، في حين أنه يمكنه الأخذ بالأحوط، هاراحة نفسه من هذا التخبُّط، لا سيما ووجوب غسل الرِّجلَين قال به عامَّة أهل العلم، وأكثرهم على عَدَم صِحَّة وضوء مَنْ مَسَحَ عليهما.
القَوْل الرَّابع: وُجُوبُ الإتيان بالغَسل والمسح جميعًا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْض الظَّاهريَّة
(4)
، وهذا يَنْبني على منهج الظاهريَّة أنَّهم يقفون عند
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(10/ 63) حيث قال: "وجه صواب قراءة مَنْ قرأ ذلك نصبًا لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما. ووَجْهُ صواب قراءة مَنْ قرأه خفضًا، لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد، مسحا بهما، غير أنَّ ذلك وإن كان كذلك، وكانت القراءتان كلتاهما حسنًا صوابًا، فأعجب القراءتين إليَّ أن أقرأها، قراءة من قرأ ذلك خفضًا، لما وصفت من جمع "المسح" المعنيين اللذين وصفت".
(2)
أخرجه البخاري (60)، ومسلم (241).
(3)
أخرجه الترمذي (2518)، وَصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1/ 44).
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 301) حيث قال: "مسألة: وأما قولنا في الرِّجْلين، فإن القرآن نزل بالمسح، قال الله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} ، وسواء=
الظواهر، ويريدون ألا يَتجَاوزوها، فلمَّا رأوا أن القِرَاءَتين مُتَساويتان، أَوْجَبوا الأَمْرَين جميعًا خروجًا من الخلاف.
ولبَيَان غلطهم فيما ذهبوا إليه نقول: إنَّ المسح داخلٌ في الغَسل، فإن الغَسل إذا حصل، فقد حصل المسح تبعًا له، وإذا كان الأمر كذلك، فليس ثَمَّ سبمث يحملنا على الأخذ بوجوب الأمرين، بل يكفينا وجوب الغَسل.
والصحيح أن الخروج من الخلاف يكون في اتباع رسول الله والتَّأَسِّي به، وقد فسَّرَ لنا آية الوضوء تفصيلًا شاملًا لا يتطرق إليه شكٌّ ولا احتمالٌ في الأَحَاديث التي تَنَاولَت صفة وضوئِهِ.
وتَجْدر الإشَارة هاهنا إلى أن داودَ الظاهري لم يقل بهذا الذي قاله بعض الظاهريَّة، وإنَّما هو على وجوب الغَسل كَجَماهير العلماء.
(وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: القِرَاءَتَانِ المَشْهُورَتَانِ فِي اصدةِ الوُضُوءِ: أَعْنِي قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى المَغْسُولِ، وَقِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: (وَأَرْجُلِكُمْ) بِالخَفْضِ عَطْفًا عَلَى المَمْسُوحِ).
إذًا، هناك قراءتان:
1 -
قراءة النصب
(1)
: {وَأَرْجُلَكُمْ} : وهي نصٌّ في العطف على
= قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حَالٍ عطف على الرؤوس: إما على اللفظ، وإمَّا على الموضع، لا يجوز غير ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يُحَال بين المعطوف والمعطوف عليه بقَضيَّةٍ مُبْتدأةٍ.
وهكذا جاء عن ابن عباس: نزل القرآن بالمسح -يَعْني: في الرجلين في الوضوء-
…
وهُوَ قول الطبري، ورويت في ذلك آثار
…
وإنما قلنا بالغسل فيهما لما حدثنا عَنْ عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "تخلف النبي صلى الله عليه وسلم في سفرِ، فأَدْرَكنا، وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادَى بأَعْلَى صوته: "وَيْلٌ للأعقاب من النار"، مرتين أو ثلاثًا.
(1)
يُنظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة (ص 221) حيث قال: "قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالفتح".
الوجه واليدين المغسولَين، ولذلك عندما يتحدث المفسرون والفقهاء عن تقديرها الإعرابي بعد العطف يقولون: إن التقدير: "اغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق، وأرجُلَكم وامسحوا برؤوسكم"، ويعللون مجيئها متأخرةً بأن وجود الرأس فَصَلَ بين اليدين والرِّجلين في الترتيب.
2 -
قراءة الخفض
(1)
: (وأرجلِكم): وكافة العلماء بَيَّنُوا أنَّ الخفض هنا للمجاورة، وقد ذَكَرْنَا هذا من قبل، وَسُقْنَا عليه شواهدَ كثيرةً موجودةً في كلام العرب.
(وَذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ ظَاهِرَةٌ فِي الغَسْلِ، وَقِرَاءَةَ الخَفْضِ ظَاهِرَةٌ فِي المَسْحِ كظُهُورِ تِلْكَ فِي الغَسْلِ).
وَكَون القراءتَين مشهورتَين، هذا لا يُنازَع فيه، لكن قراءة النَّصب لها تأويلات معروفة عند العلماء، منها أنها عطفٌ.
أمَّا الخفض، فإنما جاء للمجاورة، وإلا فمحله النصب؛ لأن الرِّجلَ مغسولة، والأحاديث الواردة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أَمْره لأصحابِهِ تعضض هذا، وخاصة حديث عمرو بن عبسة
(2)
، وتعضضه كذلك الآثار الواردة عن الصحابة كعمر
(3)
وغيره.
(1)
يُنظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة (ص 223) حيث قال: "وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر {وَأَرْجُلَكُمْ} خفضًا عطفًا على الرُّؤوس".
(2)
أخرجه مسلم (832)، ولفظه:"ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرَّت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خَرَّت خطايا وجهه من أطراف لحيتِهِ مع الماء، ثمَّ يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرَّت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرَّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قَدَميه إلى الكعبين إلَّا خرَّت خطايا رِجْلَيه من أنامله مع الماء".
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 136)، ولفظه:"رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلًا يتوضَّأ، فبقي في رجله لمعةٌ، فقال: أعد الوضوء".
(فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ فَرْضَهُمَا وَاحِدٌ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّهَارَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، إِمَّا الغَسْلُ، وَإِمَّا المَسْحُ، ذَهَبَ إِلَى تَرْجِيحِ ظَاهِرِ إِحْدَى القِرَاءَتَيْنِ عَلَى القِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، وَصَرَفَ بِالتَّأْوِيلِ ظَاهِرَ القِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى مَعْنَى ظَاهِرِ القِرَاءَةِ الَّتِي تَرَجَّحَتْ عِنْدَهُ).
وَالمؤلِّف هاهنا يُجْهِدُ نَفْسه بلا طَائِلٍ في محاولةٍ منه لإيجاد موازنةٍ بين القولين، ولكنَّا لا نرى للموازنة وجهًا في المسألة، وإنما الأمر كما قال الشاعر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرَهُ
…
إِذَا قِيلَ إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ العَصَا
(1)
فنحن نُفَرِّقُ بين القراءتين والحُكم، أما القراءتان فكلاهما قراءةٌ صحيحةٌ مشهورةٌ، وَكِلَاهُمَا قراءةٌ سبعيَّةٌ قرَأ بها عَددٌ، ليسَ في هاتين القراءتين فَحَسب، بَلْ هناك قراءةٌ ثالثةٌ بالرَّفع
(2)
، هي:{وَأَرْجُلَكُمْ} ، وهذه يُقَدِّرُهَا العلماء بـ:"وأَرْجُلُكم مَغْسولةٌ"
(3)
، فلا خلافَ في صحة هذه القراءات، أما الحُكْم فإنَّما ينبني على تقدير هذه القراءات، وقد فَصَّلْنَا الكلَام في هذا.
(وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ دَلَالَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ القِرَاءَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى ظَاهِرِهَا أَدَلَّ مِنَ الثَّانِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا أَيْضًا، جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الوَاجِبِ المُخَيَّرِ ككَفَّارَةِ اليَمِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَدَاوُدُ).
(1)
البيت للكميت بن زيد، يُنظر:"الدر الفريد" للمستعصمي (4/ 157).
(2)
يُنظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 208)، حيث قال:" (ومن ذلك ما رواه عمرو عن الحسن: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالرَّفع". وانظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري (1/ 422).
(3)
يُنظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 208)"حيث قال: "ينبغي أن يكون رفعُهُ بالابتداء، والخبر محذوف دل عليه ما تقدمه من قوله سبحانه:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، أي: وأرجلُكم واجبٌ غسلُها، أو مفروض غسلُها، أو مغسولة كغيرها، ونحو ذلك". وانظر:"التبيان في إعراب القرآن" للعكبري (1/ 422).
أما التخيير في كفارة اليمين، فقد وَرَدَ نصًّا في قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، حيث خُيِّرَ المُكَلَّف بين الإطعام والكسوة وتحرير رقبةٍ، فأَيُّ صِنْفٍ من هذه الأصناف الثلاثة قام به المكلَّف، أَجْزَأه عن كفارة يمينِهِ.
وهَذَا في الحقيقة -كما أَسْلَفْنَا- إنَّما هو ما ذهب إليه ابن جرير الطبري، فابن جَرِيرٍ لما تساوت عنده القراءتان، حَمَلَ المسألة على التخيير كمَا هو الحال في كفارة اليمين.
أمَّا الظاهريَّة، فليسَ الأمر عندهم مماثلًا لهذا كما يوحي كلام المؤلِّف، وإما بعض الظاهرية لمَّا حملوا القراءتين على ظاهرهما، ورأوا قراءة النصب نصًّا في الغسل، وقراءة الخفض نصًّا في المسح، فحِينَئذٍ لم يَقُولوا بالتخيير، وإنما قالوا بوُجُوب الأمرين جميعًا خروجًا من الخلاف.
فَالتَّخْييرُ هُوَ مَسلَكُ ابن جريرٍ الطَّبري، ووجوب الأمرين هو مَسلَكُ بعض أهل الظاهر.
(وَللْجُمْهُورِ تَأْوِيلَاتٌ فِي قِرَاءَةِ الخَفْضِ، أَجْوَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى المَعْنَى).
فالجُمْهُورُ في تأويل قراءة الخفض على أنَّ العطف هنا لا يختصُّ بالمعنى، وإنما اختصاصه باللفظ فقط، ففي قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} لما كان لفظ (برؤوسِكم) مخفوضًا، خُفِضَ لفظ (أرجلِكم) تبعًا له؛ مراعاةً للفظ، ويبقى المعنى على خلاف ذلك
(1)
.
(1)
يُنظر: "التبيان" للعكبري (1/ 422) حيث قال: "ويقرأ بالجر، وهو مشهور أيضًا كشهرة النصب، فيها وجهان، أحدهما: أنها معطوفة على الرؤوس في الإعراب، والحكم مختلف، فالرءوس ممسوحة، والأرجل مغسولة، وهو الأعراب الذي يُقَال: هو على الجوار، وليس بممتنعٍ أن يقع في القرآن لكثرتِهِ، فقد جاء في القرآن والشعر". وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 259).
(إِذْ كانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي كَلَامِ العَرَبِ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا
…
بَعْدِي سَوَافِي
(1)
المُورِ
(2)
وَالقَطْرِ
(3)
بِالخَفْضِ، وَلَوْ عُطِفَ عَلَى المَعْنَى لَرَفَعَ القَطْرَ).
وهذا البيت للشاعر المعروف زهير بن أبي سُلْمَى، يتحدث فيه عن الآثار، وعن تَغَيُّرِها نتيجة السوافي.
و"السوافي" إنما هي الرياح، ومفردها سافية؛ لأنها تسفي التراب على تلك الأماكن، فبسبب كثرة ما سفت الرياح على تلك الآثار، تراكم عليها التراب، ثم جاء المطر، فلبَّد تلك الأتربة حتى تَغيَّرَت معالِمُهَا بذلك.
والشاهد في البيتِ: قولُهُ: (سَوَافِي المُورِ وَالقَطْرِ)، فالقياس أن يقول:(والقطرُ) بالرفع؛ لأنه معطوفٌ على (سوافي) التي تقع في السياق فاعلًا يستحق الرفع.
ومثل هذا البيت الذي ذكرنا عن امرئ القيس:
كأنَّ ثبيرًا في عرانينِ
(4)
وَبْلِهِ
…
كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ
(5)
مُزَمَّلِ
(6)
و"ثبير": هذا اسمٌ لجبلٍ معروفٍ بمكةَ.
(1)
"السَّوافي مِنَ الرِّياحِ": الفَواتي يَسْفِين الترابَ. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 389).
(2)
"مارَ": جَرَى. وَمَارَ يَمُور مورًا إذا جَعَل يذهب، ويجيء، ويتردد. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (5/ 186).
(3)
يُنظر: "ديوان زهير بن أبي سلمى"(ص 18).
(4)
"عَرَانين السحاب": أَوائل مطره. انظر: "تهذيب اللغة"(2/ 204).
(5)
"البجاد": الكساء المخطَّط. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (3/ 77).
(6)
يُنظر: "ديوان امرئ القيس"(ص 67).
وامرؤ القيس في هذا البيت يُشَبِّهُ هذا الجَبلَ وَقْت انحدَار أوَّل السَّيل بالشَّيخ المُلْتَفِّ في بِجَادٍ، أيْ: في كِسَاءٍ
(1)
.
وَالشَّاهد هاهنا قولُهُ: (مُزَمَّل)؛ حيث جاء مجرورًا، بينما القياس أن يأتي بالرفع (مُزَمَّلُ)، فهو صفة لقوله:(كبيرُ) الذي يستحق الرفع؛ لوقوعه في الجملة خبرًا لـ (كأنَّ).
وفي هذا البيت كذلك، والذي يقول فيه الشاعر:
وظل طهاة اللحم من بين منضجٍ
…
صفيفَ شواءٍ
(2)
أو قديرٍ معجلِ
(3)
حيث جاءت (قديرٍ) مجرورةً، وكان القياس أن يقول:(صفيفَ شواءٍ أو قديرًا) بالنصب؛ لأن الطبخَ معطوفٌ على الشَّيِّ.
(وَأَمَّا الفَرِيقُ الثَّانِي وَهُمُ الَّذِينَ أَوْجَبُوا المَسْحَ، فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا قِرَاءَةَ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى المَوْضِعِ كلمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلَا الحَدِيدَا
(4)
).
فالقياس في قول الشاعر أن يقول: (ولسنا بالجِبَالِ ولا الحديدِ)، ولكنه عَطَفَ على المحل، والمحل إنما هو منصوب.
وفي قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، نجد المحل في قوله:(رؤوسكم) منصوبًا؛ فلو أن الباءَ محذوفة، لَكَانَ قوله:(رؤوسكم) معطوفًا على المنصوبات.
(1)
قال ابن الشجري في "الأمالي"(1/ 355): "شبَّه الجبل في أوائل الوبل، وهو المطر الشديد الوقع، العظيم القطر، بكبير قوم متلفِّف بكساء".
(2)
صف اللحم يصفه صفا، فهو صفيف: شرَّحه عراضًا. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (9/ 195).
(3)
يُنظر: "ديوان امرئ القيس"(ص 62).
(4)
البيت لعقيبة بن هبيرة الأسدي. انظر: "المقتضب" للمبرد (2/ 602).
والعلماء في هذه الباء على أنها للإلصاق
(1)
، وبعضهم على أنها زائدة
(2)
، وعلى كلا التقديرين يكون محلها النصب.
(وَقَدْ رَجَّحَ الجُمْهُورُ قِرَاءَتَهُمْ هَذ بِالثَّابِتِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام إِذْ قَالَ فِي قَوْمٍ لَمْ يَسْتَوْفُوا غَسْلَ أَقْدَامِهِمْ فِي الوُضُوءِ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ").
وَهَذا الحديث من جُمْلة الأحاديث التي ثَبَتَت في "الصحيحين"
(3)
، وقد رُويَ هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص
(4)
، وَكَذا عن أبي هُرَيرة
(5)
، وكذلك اتفقت معهم أمُّ المؤمنين عائشة
(6)
رضي الله عنهم جميعًا في اللفظ، فيما رواه عنها الإمام مسلمٌ في "صَحِيحِهِ".
(قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الغَسْلَ هُوَ الفَرْضُ؛ لِأَنَّ الوَاجِبَ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهِ العِقَابُ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ الوَعِيدُ عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَعْقَابَهُمْ دُونَ غَسْلٍ).
ويُحَاول المؤلِّف هاهنا أن يستنبطَ من هذه الأحاديث ما يكون حُجَّةً للَّذين يقولون بالمسح؛ فيعلل بأن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى أقوامًا تَوَضَّؤُوا، تَلْمَعُ أقدامُهُم بياضًا، فقال:"وَيْلٌ لِلأعْقَاب مِنَ النَّارِ"، وأنَّه صلى الله عليه وسلم أوقع الوعيد على ترك الأعقاب بسبب ما رآه منَ لمعةٍ فيها، لا على ترك الغَسل.
(1)
يُنظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص 143) حيث قال: "قيل: ومنه -أي: التبعيض - {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، والظاهر أن الباء فيهن للإلصاق".
(2)
يُنظر: "التبيان فىِ إعراب القرآن" للعُكْبَري (1/ 422) حيث قال: "الباء زائدة، وقال مَنْ لا خبرة له بالعربية: الباء في مثل هذا للتبعيض، وليس بشيءٍ يعرفه أهل النحو، ووجه دخولها أنها تدل على إلصاق المسح بالرأس".
(3)
أخرجه البخاري (60)، ومسلم (241).
(4)
أخرجه البخاري (60)، ومسلم (241).
(5)
أخرجه البخاري (165)، ومسلم (242).
(6)
أخرجه مسلم (240).
وَهَذا يَرُدُّه أن المسحَ إنَّما هو الذي يمكن فيه حصول اللمعة، وعَدم استيعابه للمحل كاملًا، أما الغَسل فمن شأنه ألا تجد بعد تمامه مثل هذه اللُّمْعة، فهذا يعضد قول جمهور العلماء لا القول الآخر.
ولذا، ففي حديث عُمَرَ رضي الله عنه لما رأى الرجل يصلي وفي قدمه قدر لمعةٍ لم يُصِبْهَا الماء، أَمَرَهُ بالإعادة، وَفِي بَعْض الرِّوايات في "صحيح مسلمٍ" أنها كانت قَدْرَ ظُفْرٍ، فَأَمَرَهُ أن يَتَوَضَّأَ، وقال له:"أَحْسِنْ وُضُوءَكَ"
(1)
، فَذَهَبَ وَتَوَضَّاَ، فالإنكار هاهنا إنَّما هو على المسح لا الغَسل.
(وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي الغَسْلِ، فَفَرْضُهُ الغَسْلُ فِي جَمِيعِ القَدَمِ، كمَا أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي المَسْحِ، فَفَرْضُهُ المَسْحُ عِنْدَ مَنْ يُخَيِّرُ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا جَاءَ فِي أَثَرٍ آخَرَ خَرَّجَهُ أَيْضًا مُسْلِئم أَنَّهُ قَالَ: فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى: "ويلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ"، وَهَذَا الأَثَرُ وإنْ كَانَتِ العَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِالاحْتِجَاجِ بِهِ فِي مَنْعِ المَسْحِ، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى جَوَازِهِ مِنْهُ عَلَى مَنْعِهِ، لِأَنَّ الوَعِيدَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ فِيهِ بِتَرْكِ التَّعْمِيمِ لَا بِنَوْعِ الطَّهَارَةِ، بَلْ سَكَتَ عَنْ نَوْعِهَا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهَا).
ولا شك أن هذا الأثر لا يؤيد ما ذهب المؤلِّف إليه، وإنما هو حُجَّةٌ لمذهب الجمهور، ولا يؤيد ما ذَهَب إليه؛ لأنَّه قال: هذه الأحاديث تدلُّ للمذهب الآخر.
وممَّا يُضْعف القولَ بالمسح أن المسحَ في اللُّغة يُطلَق على الغَسل
(2)
، فالغَسل يُسمَّى غَسلًا إذا بُولِغَ فيه، وقد يُسَمَّى مسحًا، وهذا
(1)
أخرجه مسلم (243).
(2)
قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر"(4/ 327): "والمَسْحُ يكون مسحًا باليد وغسلًا".
معروفٌ ومشهورٌ في لغة العرب، وأكابر علماء اللغة كالأزهريِّ
(1)
يَذكُرُون ذَلكَ، ويَقُولون: إنَّ الإنسان يُقَال له: (تَمَسَّحْتَ) بمعنى (تَوَضَّأْتَ)، و:(تَمَسَّحْ) بمعنى (تَوَضَّأْ).
* قوله: (وَجَوَازُ الْمَسْحِ هُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى).
روي مسح الرجلين عن بعض الصحابة؛ كأنس، وابن عباس، ومن التابعين الشعبي وتعلَّق به بعض المتأخرين
(2)
.
ولو كان مسح الرجلين يجزئ ما أتى الوعيد بالنار على من لم يغسل عقبيه وعرقوبيه أو فاته شيء من بطون قدميه، لأنه معلوم أنه لا يعذب بالنار إلا على ترك الواجب.
وقد أجمع المسلمون أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه من قال منهم بالمسح ومن قال بالغسل فاليقين ما أجمعوا عليه.
* قوله: (وَالْغَسْلُ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْقَدَمَيْنِ مِنَ الْمَسْحِ كمَا أَنَّ الْمَسْحَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلرَّأْسِ مِنَ الْغَسْلِ، إِذْ كانَتِ الْقَدَمَانِ لَا يُنْفَى دَنَسُهُمَا غَالِبًا إِلَّا بِالْغَسْلِ، وَيُنْفَى دَنَسُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ، وَذَلِكَ أَيْضًا غَالِبٌ، وَالْمَصَالِحُ الْمَعْقُولَةُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا لِلْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ حَتَّى يَكُونَ الشَّرْعُ لَاحَظَ فِيهِمَا مَعْنَيَيْنِ: مَعْنًى مَصْلَحِيًّا، وَمَعْنًى عِبَادِيًّا (وَأَعْنِي بِالْمَصْلَحِيِّ: مَا رَجَعَ إِلَى الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ، وَبِالْعِبَادِيِّ: مَا رَجَعَ إِلَى زَكَاةِ النَّفْسِ).
معلوم أن الغسل مخالف للمسح وغير جائز أن تبطل إحدى القراءتين
(1)
لَمْ أَجِدْهُ في "تَهْذيب اللُّغة" للأزهري، ولكن نص عليه الفيومي في "المصباح المنير"(2/ 571)، فَقَال:"قال أبو زيدٍ: المسح في كلام العرب يكون مسحًا، وهو إصابة الماء، ويكون غسلًا، يقال: مسحت يدي بالماء إذا غسلتها، وتمسحت بالماء إذا اغتسلت".
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 98).
بالأخرى فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل أو العطف على اللفظ، وهذا التأويل تعضده سنة رسول الله المجتمع عليها بأنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة ومرتين وثلاثًا.
وجاء أمره في ذلك موافقًا لفعله فقال: "وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ"
(1)
.
وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار والإتباع على اللفظ بخلاف المعنى والمراد عندها المعنى كما قال امرؤ القيس
(2)
:
كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍّ مُزَمَّلِ
فخفض بالجوار وإنما المزمل الرجل والإعراب فيه الرفع.
ومن هذا قراءة ابن كثير وأبي عمرو
(3)
: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٍ) بالجر؛ لأن النحاس هو الدخان.
* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْكَعْبَيْنِ هَلْ يَدْخُلَانِ فِي الْمَسْحِ أَوْ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ الْمَسْحَ؟).
الكعبان: هما اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم.
وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: هما في مشط القدم، وهو معقد الشراك من الرجل، بدليل أنه قال:{إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. فيدل على أن في الرجلين كعبين لا غير، ولو أراد ما ذكرتموه كانت كعاب الرجلين أربعة، فإن لكل قدم كعبين.
والصواب أنَّ محمَّدًا رحمه الله لم يُرد تفسير الكعب بهذا في الطهارة، وإنما أراد في المحرم إذا لم يجد نعلين أنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين وفسر الكعب بهذا، فأما في الطهارة، فلا شك أنه العظم الناتئ.
* قوله: (وَأَصْلُ اخْتِلَافِهِمْ الاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي حَرْفِ "إِلَى" أَعْنِي:
(1)
أخرجه مسلم (242).
(2)
"ديوان امرئ القيس"(ص 67).
(3)
"المبسوط في القراءات العشر" لابن مهران (ص 424).
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي اشْتِرَاكِ هَذَا الْحَرْفِ فِي قَوْله تَعَالَى:{إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، لَكِنَّ الاشْتِرَاكَ وَقَعَ هُنَالِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ مَنِ اشْتِرَاكِ اسْمِ الْيَدِ، وَمِن اشْتِرَاكِ حَرْفِ "إِلَى"، وَهُنَا مِنْ قِبَلِ اشْتِرَاكِ حَرْفِ "إِلَى" فَقَطْ).
قول الله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، أي حد الغسل إلى الكعبين، وهذا يوهم أنه لا يجب إدخالهما في الغسل، وليس كذلك، بل حكمهما حكم اليدين، وقد قيل: إن الرجل من أصل الفخذ إلى القدم.
(وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْكَعْبِ مَا هُوَ، وَذَلِكَ لاشْتِرَاكِ اسْمِ الْكَعْبِ وَاخْتِلَافِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي دَلَالَتِهِ، فَقِيلَ: هُمَا العَظْمَانِ اللَّذَانِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَقِيلَ: هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي طَرَفِ السَّاقِ، وَلَا خِلَافَ فِيمَا أَحْسَبُ فِي دُخُولِهِمَا فِي الْغَسْلِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُمَا عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ إِذْ كَانَا جُزْءًا مِنَ الْقَدَمِ، لِذَلِكَ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَدُّ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ، دَخَلَتِ الْغَايَةُ فِيهِ -أَعْنِي: الشَّيْءَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ حَرْفُ "إِلَى" - وإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]).
لفظة (إلى) في قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، هَلْ هي بمَعْنى الغَاية، فلا يَدْخل الكعبان في الأمر بالغَسل، أَمْ هي بمعنى (مَعَ)، فيَدْخل الكعبان.
هنا خلافٌ
(1)
، والصحيح أن الأمر بالغَسل يشمل الكعبين كذلك، والكلام في هذه الآية هو نفسه الكلام في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
(1)
يُنظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 25): "فأَمَّا مَعْنى قوله: {إِلَى} في قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} و {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فقد أخبرني المنذري عن أبي العباس أحمد بن يحيى أنه قال: "إلى" هاهنا بمعنى "من"، واحتج بقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}. وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج (2/ 153).
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، والعُلَماءُ يَخْتلفون بعد ذلك فيما إذا كان ما بعدها داخلًا فيما قبلها أم لا، وهناك رأيٌ وَسَطٌ لبعض العلماء أن الغاية إذا كانت من جنس المغيَّا دَخَلَت، وإلا فلَا.
ما المراد بالكعبين في قوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ؟ هل هما العَظمان النَّاتئان عند أسفل الساق؟ أم هما العَظْمان الموجودان على مشط القدم؟
على قولين:
القول الأول: أنَّ المراد بالكعبين إنما هما العظمان الناتئان الواقعان في مُلتَقَى الساق على جانبي القدم
(1)
، وأنَّ المراد إدخالهما، وجماهير العلماء على هذا القول.
القول الثاني: هُمَا العظمان الموجودان على مشط القدم، وقد نُقِلَ هذا القول عن بعض المالكية كابن القاسم
(2)
، ونُقِلَ كَذَلك عن محمد بن الحسن
(3)
صاحب أبي حنيفة، وإن كان بعض العلماء يُضَعِّفُ نسبة هذا القول إليه.
والقول الأول المنقول عن جماهير أهل العلم هو الصحيح في هذا، وتشهد له الأدلة المتنوعة:
أولًا: من حيث اللغة: فعامة أهل اللغة على أن المراد بالكعبين هما العظمان الناتئان على جانبي القدم.
ثانيًا: الروايات والآثار:
منها الأثر المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه: "غَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ
(1)
"الكعبان": هما العظمان النائتان في منتهى الساق مع القدم، وهما ناتئان عن يمنة القدم وشمرتها. انظر:"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 24).
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 192) حيث قال: "قال ابن القاسم: قال تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، والكعبان اللذان إليهما حد الوضوء هما اللذان في الساقين".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 7) حيث قال: "وما رَوَى هشام عن محمد أنه المُفصَّل الذي عند معقد الشراك على ظهر القدم، فغير صحيح".
فِي العَضُدِ، وَرِجْلَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ"
(1)
، فهذا يدل على أن الكعبين يُرَاد بهما العظمان الناتئان.
ومنها كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا"
(2)
.
وقوله: "لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ"
(3)
.
وَحَديث النُّعْمَان بن بشيرٍ الذي جاء فيه: "فَكَانَ الرَّجُلُ يُمْسِكُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَرُكْبَتَيْهِ بِرُكْبَتَيْهِ، وَكعْبَيْهِ بِكَعْبَيْهِ"
(4)
.
وهذا كله لا يُتَصَوَّرُ وقوعه إلا إن أُرِيدَ بالكعب العظمان الواقعان على جانبي القدم، ولا يُتَصَوَّرُ أن يكون المقصود العظم الموجود في مَعْقِل شِرَاك النعل
(5)
الذي فيه عُشْرُ القدم.
وكذلك ما رُوِيَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يَسجُدُ في مكةَ، كان المشركون يؤذونه بإلقاء الحجارة عليه حتى يُدْمُوا
(6)
كَعْبَيْهِ عليه الصلاة والسلام
(7)
، وهذا لا يَحصُلُ إلا في الكَعبَيْن الموجودَيْن في أسفل الساق.
فالصحيح والراجح أنهما العظمان الناتئان، والأمر في هذا ظاهرٌ وبَيِّنٌ.
(1)
أخرجه مسلم (246).
(2)
أخرجه البخاري (719) بلفظ: "أَقِيمُوا صُفُوفَكم، وتَرَاصوا، فإنِّي أرَاكُمْ من ورَاء ظهري".
(3)
أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436).
(4)
أخرجه البخاري (725).
(5)
"شراك النعل": سيرها الذي على ظهر القدم. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 311).
(6)
ضربوه حتى خرج منه الدم. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 269).
(7)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(14/ 518)، وغيره، عن طارق بن عبد الله المحاربي قال:"رأيتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بسوق ذي المجاز، وأنا في بياعة لي، فمر وعليه حلة حمراء، فسمعته يقول: "يَا أيُّها النَّاسُ، قُولُوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، ورجل يتبعه يَرْميه بالحجارة، قد أدمى كعبيه (يعني: أبا لهب) "، وصححه الأَلْبَانيُّ في "التعليقات الحسان"(6528).
(المَسْأَلَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الشُّرُوطِ:
اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ تَرْتِيبِ أَفْعَالِ الوُضُوءِ عَلَى نَسَقِ الآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ سُنَّةٌ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنِ المَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَدَاوُدُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ فَرِيضَةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ).
إذا أُطْلِقَ (أَبُو عُبَيْدٍ) في كُتُب الفقه، فإنما يُرادُ به (أبو عبيد القاسم بن سلام)
(1)
.
(وَهَذَا كُلُّهُ فِي تَرْتِيبِ المَفْرُوضِ مَعَ المَفْرُوض، وَأَمَّا تَرْتِيبُ الأَفْعَالِ المَفْرُوضَةِ مَعَ الأَفْعَالِ المَسْنُونَةِ، فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ مُسْتَحَبٌّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ سُنَّةٌ .. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ، أَحَدُهُمَا: الاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي وَاوِ العَطْفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُعْطَفُ بِهَا الأَشْيَاءُ المُرَتَّبَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ يُعْطَفُ بِهَا غَيْرُ المُرَتَّبَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِ العَرَبِ، وَلِذَلِكَ انْقَسَمَ النَّحْويُّونَ فِيهَا قِسْمَيْنِ
(2)
، فَقَالَ نُحَاةُ البَصْرَةِ: لَيْسَ تَقْتَضِي نَسَقًا، وَلَا تَرْتِيبًا، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الجَمْعَ فَقَطْ. وَقَالَ الكُوفِيُّونَ: بَلْ تَقْتَضِي النَّسَقَ وَالتَّرْتِيبَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الوَاوَ فِي آيَةِ الوُضُوءِ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ قَالَ بِإِيجَابِ التَّرْتِيبِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، لَمْ يَقُلْ بِإِيجَابِهِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ
(1)
هو القاسم بن سلام البغدادي، أبو عبيد الفقيه القاضي الأديب المشهور صاحب التصانيف المشهورة، والعلوم المذكورة، تُوفِّي سَنَة أربعٍ وعشرينَ وَمِئتَين. انظر ترجمته في:"تاريخ بغداد"(12/ 401)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (23/ 354).
(2)
يُنظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص 463) حيث قال: "معناها مطلق الجمع، فتعطف الشيء على مصاحبه نحو:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} ، وعلى سابقه نحو:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} ، وعلى لاحقه نحو:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ}
…
قال ابن مالك: وكونها للمعية راجح، وللترتيب كثير، ولعكسه قليل". اهـ.
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، هَلْ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟ فَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى الوُجُوبِ، قَالَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ؛ لأنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ تَوَضَّأَ قَطُّ إِلَّا مُرَتِّبًا، وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى النَّدْبِ قَالَ: إِنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ).
وَالكَلَامُ هاهنا يختصُّ بتَرْتيب الواجبَات من أفعال الوضوء، فالأئمة الأربعة انقسموا إلى فريقين في وجوب العمل بالترتيب الوارد في الآية بالنسبة لواجبات الوضوء:
الفريق الأول: الأحناف
(1)
والمالكية
(2)
: فهؤلاء على عدم وجوب الترتيب، ويروون هذا عن عليٍّ وابن مسعودٍ رضي الله عنهما.
الفريق الثاني: الشافعية
(3)
والحنابلة
(4)
: وهؤلاء على وجوب العمل بالترتيب الوارد في الآية، ويروون هذا عن عثمان
(5)
وابن عباس
(6)
رضي الله عنهم،
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 28) حيث قال: "وهو سنة مؤكدة عندنا على الصحيح
…
ومنهم من بنى الخلاف على الاختلاف في معنى الواو، وليس بصحيح، فإن الصحيح عندنا وعنده كما هو قول الأكثر أن الواوَ لمطلق الجمع، ولا تفيد الترتيب، ومَنْ زعم من أئمتنا بأنها له لمسائل استدل بها، فقَدْ أجيب عنها في الأصول".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 250) حيث قال: "والمشهور في المذهب أن الترتيب سنة".
(3)
يُنظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 16) حيث قال: "وَ (سَادسها)، أَيْ: سَادس فَرَائض الوضوء، ترتيبه هكَذا"، أي: كما ذكر من البداءة بالوجه، ثمَّ اليَدَين، ثم الرأس، ثم الرِّجلين للاتباع".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 83) حيث قال: " (والترتيب) بين الأعضاء المذكورة كما ذكر الله؛ لأنه تعالى أدخل الممسوح بين المغسولات، ولا يعلم لهذا فائدة غير الترتيب: والآية سيقت لبيان الواجب، والنبي صلى الله عليه وسلم رتب الوضوء، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، ولأنه عبادة تبطل بالحدث، فكان الترتيب معتبرًا فيه".
(5)
أخرجه البخاري (159)، ومسلم (226).
(6)
أخرجه البخاري (140)، ومسلم (763).
وهذا القول إنما هو المشهور عن أحمد والشافعي، وإلا فهناك قولٌ آخَر بعَدَم الوجوب في كلا المذهبين
(1)
، ولكننا هاهنا نقتصر على بحث القول المشهور حتى لا نخالِفَ منهج الكتاب.
وأما أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام فيما إذا كانت تُحْمَل على الوجوب
(2)
، أو على الندب
(3)
، فالأحناف والمالكية يحملونها على الندب، ولذا قالوا باستحباب الترتيب، وأمَّا الشَّافعيَّة والحنابلة، فيَحْملونها على الوُجُوب؛ ولهذا فَهُمْ على وجوب الترتيب، وهذه قضيَّةٌ أصوليَّةٌ معروفةٌ.
ونَحْن نَقُول بأن فِعْلَ الرَّسول عليه الصلاة والسلام إنَّما جاءَ مُوَافِقًا للآية.
أدلة الأحناف والمالكية:
الدليل الأول: الواو التي عَطَفَت أعضاء الوضوء بعضها على بعضِ في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
(1)
يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 42) حيث قال: "حكى أبو العباس بن القاص قولًا آخر أنه إن نسي الترتيب جاز، والمشهور هو الأول".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (1/ 138) حيث قال: "وعن أحمد رواية بعدم وُجُوب الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، وبين بقية أعضاء الوضوء
…
فأخذ منها أبو الخطاب في "الانتصار"، وابن عقيل في "الفصول": رواية بعدم وجوب الترتيب رأسًا، وتبعهما بَعْضُ المتأخرين، منهم صاحب "التلخيص"، و"المحرر"، و"الفروع" فيه وغيرهم. فال الزركشي: وأبي ذلك عامة الأصحاب؛ متقدمهم ومتأخرهم".
(2)
يُنظر: "قواطع الأدلة" للسمعاني (1/ 23) حيث قال: "الواجب ما يُثَاب على فعلِهِ، ويُعَاقب على تَرْكه".
(3)
يُنظر: "قواطع الأدلة" للسمعاني (1/ 24) حيث قال: "الندب: فهو ما فيه ثناءٌ على فعلِهِ، ولا يُعَاقب على تركه".
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، فقد ذهبَ البصريون من النُّحاة إلى أن هذه الواو لا تفيد الترتيبَ والتنسيقَ عادةً في لغة العرب، وإنما تفيد مُطلَقَ الجَمْعِ، مما يُدخِلُ الترتيبَ في دائرة الاستحباب لا الوجوب.
الدليل الثاني: رواية عن ابن عباسٍ رضي الله عنه جاء فيها: "أن الرسول تَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ، وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ"
(1)
، فاستدلوا من هذه الرِّواية على عَدَم وجوب الترتيب.
الدليل الثالث: ما نُقِلَ عن علي بن أبي طالب
(2)
وعبد الله بن مسعود
(3)
رضي الله عنهما أنهما قالا: "لَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَاء بَدَأْتُ".
الدَّليل الرَّابع: قياس الوضوء على غُسْل الجنابة، وأن غسل الجنابة لا يُشْترَط فيه الترتيب، بل إنَّ الإنسان في غسل الجنابة إذا غمس نفسه في الماء لأجزأه عن الغُسْل دون تَرْتِيب، فاستدلوا بهذا القياس على أن الوضوءَ كذلك لا يُشْترَط فيه الترتيب مثله في ذلك مثل غسل الجنابة، إذ إن كلًّا منهما طَهَارةٌ من حَدَثٍ.
الدَّليل الخامس: أن هناك اتفاقًا على أن التَّرتيب لا يُشترَط بين العضوين المتماثلين، فلو أن إنسانًا غَسَلَ يده اليسرى قبل اليمنى لم يكن في هذا ما يبطل طهارته، بل إنَّ طهارته تبقى على صحتها رغم عُدُوله عن الأفضل إلى المفضول، وعليه فإنَّهمْ يَرَوْنَ عدم الترتيب في أعضاء الوضوء عدولًا عن الأفضل إلى المفضول لا يؤثر في صحة الوضوء.
(1)
لم أجده .. وقال ابن الجوزي في "التحقيق في مسائل الخلاف"(1/ 163) بعد أن ساق الحديث: "هذا لا يصحُّ، ومن الجائز أن يكون شكَّ، هل مسح رأسه أم لا، فمسح احتياطًا".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 43)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 140)، وقال البيهقي: منقطع.
(3)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(1/ 153)، عن مجاهد، قال: قال عبد الله: "لا بأس أن تبدأ برِجْلَيْك قبل يديك في الوضوء". وقال الدارقطني: هذا مرسلٌ، ولا يثبت.
أدلة الشافعية والحنابلة:
الدليل الأول: أن مجيء الآية على هذا النسق والترتيب هو في حد ذاته دليل يجب اتِّباعه.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم عندما صَعدَ الصَّفَا: "ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ"
(1)
، ورغم عَدَم ورود هذا الحديث في الوضوء إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيجب البدء بما بدأ الله سبحانه وتعالى به.
الدليل الثالث: أنه من المعلوم في لغة العرب أنهم إذا ذَكَرُوا أشياءَ متجانِسَةً، فإنهم يذكرونها مُتَوَالِيَةً، ولا يُدخِلُونَ بين النَّظيرَيْن غيرَ مُجَانِسٍ لهما إلا لِسَبَب، والله سبحانه تعالى في هذه الآية ذَكَرَ غَسْلَ الوجه، ثم غَسْلَ اليدَيْن، ثم ذَكَرَ بعد ذلك مَسْحَ الرَّأْسِ قبل أن يَذكُرَ غَسْلَ الرِّجلَين، فهاهنا جاء ذِكْرُ ممسوحٍ بين مَغسُولَيْنِ، وهذا الفصل بين النَّظيرَين بغير مُجَانِسٍ لهما لا يأتي في لغة العرب إلا لغايةٍ وغَرَضٍ، فلا نرى غايةً في مثل هذا الأمر إلا الترتيب مما يدلُّ على تَعَيُّنِ الترتيب ووجوبه.
الدليل الرابع: أن من عادة العرب أنهم إذا ذَكَرُوا الأشياء المتقاربة، فإنهم يَذكُرون الأقربَ فالأقربَ، ولا يضعون أَبْعَدَ بين أَقْرَبَيْنِ إلا لغايةٍ وفائدةٍ لُغَويَّةٍ، والله سبحانه وتعالى قال:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، ثمَّ قَالَ:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، فَذِكْرُ اللهِ تَعَالى لليدين بين الوجه والرأس إنما هو من بَاب ذِكْرِ الأبَعْدِ بين الأَقْرَبَين؛ لأنَّ الرأسَ أَقْرَبُ إلى الوجه من اليدين، فلا بد مِنْ وجود علَّةٍ لُغَويَّةٍ وغايةٍ شرعيةٍ في هذا، هذه العلة والغاية إنما هى وجوب التَّرتيب الوارد في الآية.
الدليل الخامس: أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم لم يُنْقَل عنه في صفة وضوئه أنه تَوَضَّأَ بغير هذا الترتيب، هذا مع تَعَدُّدِ مَنْ نقلوا صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم وكثرتهم، بَلْ إن كل الأحاديث التي وردَت في هذا الشأن اتفقَت على ترتيبه صلى الله عليه وسلم على
(1)
أخرجه النسائي (2962)، وهذا اللفظ بصيغة الأمر شاذ. وانظر:"إرواء الغليل" للأَلْبَانيِّ (1120).
وَفْقِ الترتيب الوارد في الآية، كأحاديث عثمانَ
(1)
وعليِّ
(2)
وعبد الله بن زيدٍ
(3)
رضي الله عنه، والله تعالى يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فعليه وَجَبَ اتباع هذا الترتيب، لكونه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية المبيِّنَة لأمر الله سبحانه وتعالى.
وَكَذلك لم يُنقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجَاز لأحدِ العدولَ عن هذا الترتيب، ولا نُقِلَ عن أَحَدٍ من الصحابة أيضًا أنه لم يَأْتِ بالوضوء مرتَّبًا، فهذا كلُّه يدلُّ على تَعَيّنِ الترتيب ووُجُوبه.
النقاش بين الفريقين:
أما استدلال الأحناف والمالكية بما هو منسوب لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد ردَّه الفريق الآخر بجهالته، وعدم ثبوته.
وأما استدلالهم بقياس الوضوء على غُسل الجنابة، فقد ردَّه الشافعية
(4)
والحنابلة
(5)
بأنه قياس مع الفارق؛ لأن بَدَنَ الجنب يُعتَبَر بمثابة العضو الواحد، أما أعضاء الوضوء، فإنها مُجَزَّأَةٌ مُقَسَّمَةٌ، لا بد أن تأتي عُضْوًا عُضْوًا، ولا ينبغي أن نقيسَ أعضاء متعددة على عضو واحد.
وَرَدُّوا كذلك ما ذَهَبَ إليه الأحناف والمالكية من القول باستحباب الترتيب لا وجوبه بأن الآية اقتَصَرَتْ على ذِكْرِ الفرائض، ولم تتطرق إلى
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (185)، ومسلم (235).
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 142) حيث قال: "وأما الجواب عن قياسهم على الغسل من الجنابة، فهو أن جميع البدن في الجنابة بمنزلة العضو الواحد في الوضوء، وليس في العضو الواحد ترتيب، فكذلك في بدن الجنب، وإنما الترتيب في الأشياء المتغايرة".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 36) حيث قال: "لأن بدن الجنب كالعضو الواحد، فانتقال الماء من عضوٍ إلى آخَرَ كتردده على عضو واحد بخلاف أعضاء المحدث، فإنها متغايرة، ولذلك اعتبر لغسلها الترتيب".
المُستَحَبَّاتِ، بَلْ إنَّ الآية قد وَردَتْ بصيغة الأمر، والأصلُ في الأمر اقتضاؤُهُ الوجوبَ، وإذا كان حكم هذه الأعضاء الأربعة الواردة في الآية محل اتفاق بين الفريقين، فلا وجه حِينَئذٍ للقول باستحباب الترتيب.
وأمَّا رواية عليٍّ وابن مسعود: "لَا أُبَالِي بأَيِّ أَعْضَاءٍ بَدَأتُ"، قَدْ فَسَّرَها الإمامُ أحمدُ
(1)
وغيرُهُ من العلماء
(2)
بأنَّ المَراد بذلك أنهم كانوا لا يبالون هل بدؤوا باليسرى أم باليمنى، وإن كان الأفضل إنما هو تَقْديم اليمنى.
القول الراجح من هذين القولين:
لا شك أن القول بوجوب الترتيب أَوْلَى وَأَقْرَبُ، لِظُهُورِ أدلته وقوتها، ولاتفاقه مع نَسَقِ النَّصِّ القرآني، وَلِكَوْنِهِ فِعْلَ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دَاوَمَ عليه، فبالرغم من وُجُود أَحَاديث كثيرة نَقَلَتْ صفة وُضُوء الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وبالرَّغم من اختلاف بعض الرِّوايات فيما بينها في بعض الصفات، كما وَرَدَ في وُضُوئه:"مرةً مرةً"
(3)
، وَوَرَدَ في مُقَابِلِهِ "مَرَّتَين مَرَّتَين"
(4)
، و"ثَلَاثًا ثَلَاثًا"
(5)
، وكذلك ما وَرَدَ أنه أَمَرَ بِأَخْذِ ماءٍ لِلأُذُنَين
(6)
وَوَرَدَ خلافُ ذلك، وبالرغم من كل هذا، لكن لَمْ يَرِدْ حديثٌ صحيحٌ واحدٌ في أنه تَرَكَ الترتيبَ في وضوئِهِ، وهذا لا شَكَّ يَدُلُّ على ملازمتِهِ له.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 101)، حيث قال:"قال أحمد: إنما عنيا به اليسرى قبل اليمنى؛ لأن مخرجهما من الكتاب واحد".
(2)
يُنظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 143) حيث قال: "فإن خالف السُّنَّة فيهما (أي: في اليدين)، وقَدَّم اليسرى على اليمنى، أجزأه؛ للأثر المروي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قدم اليسرى على اليمنى، وقال: "لا أبالي بأقيَ أعضائي بدأت"، ولأنَّ الاسمَ يَتنَاولهما على سواء؛ فكان التَّرتيب فيهما مستحبًّا لا واجبًا".
(3)
أخرجه البخاري (157).
(4)
أخرجه البخاري (158).
(5)
أخرجه البخاري (159)، ومسلم (230).
(6)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 107)، وصحح إسناده، وحسنه النووي في "المجموع"(1/ 412).
كَمَا أنَّ التَّرْتيبَ هو المَنْقول من فِعْلِ الصَّحابة رضوان الله عليهم، مما يحملنا على اتباعه والوقوف عنده.
بَلْ إن في اتباع هذا القول اتباعًا للأحوط، وخروجًا من الخلاف، عملًا بقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ"
(1)
، فَتَارِكُ الترتيبِ لا رَيْبَ أنه يَبْقَى في شَكٍّ مِن أَمْرِهِ، والمؤمن يَنْبغي له أن يبتعد دائمًا عن مَظَانِّ الخلاف.
مَسَائل متعلِّقة بقضيَّة الترتيب:
وَفِي هَذِهِ المسائل يَتَبيَّن لنا مدى دقَّة الفقهاء في تناول المسائل وبَحْثها، ولا شكَّ أن هذا من أهمِّ النتائج التي يخرج بها الدارس من دراسة المسائل الفقهية المقارَنة.
المسألة الأولى: لو أن إنسانًا تَوَضَّأَ دون ترتيب وَفْقَ المذهب الأول، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ أَوَّلًا، ثم مَسَحَ رَأْسَهُ، ثم غَسَلَ يَدَيْهِ إلى المِرْفَقَيْنِ، ثم بعد هذا غَسَلَ وَجْهَهُ، فهل يَبْطُلُ بذلك وضوؤُهُ أم لا؟
فالقائلون بوجوب الترتيب من فقهاء الشافعية والحنابلة لا يقولون ببطلان وضوئِهِ في هذه المسألة، ولكن يَحكُمون بإلغاء ما يتعلق بغَسلِ الرِّجلين ومَسحِ الرأس وغَسلِ اليدين، لِيَبْقَى غَسلُ الوجه ثابتًا مستقرًّا شريطة أن يكون مصحوبًا بالنيَّة، والنيَّة -كَمَا هو معلومٌ - إنَّما هي شرطٌ من شروط صحَّة الوضوء عند جمهور العلماء عدا الحنفية، وقد فَصَّلْنَا القَوْلَ في هذا الأمر سابقًا
(2)
.
وقالوا
(3)
: إنَّه لو كَرَّرَ ذلك مرةً ثانيةً، فَحِينَئذٍ يُضَافُ إلى الوجه غَسْلُ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق الكلام عليه في المسألة الحادية عشرة من الشروط، وهي الترتيب في الوضوء.
(3)
مذهب الشافعية يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 181) حيث قال: "حتى لو استعان بأربعة غسلوا أعضاءه دفعة واحدة ونوى، صح وضوؤه، وعلى الأول يحصل له في هذه الحالة غسل الوجه فقط كما لو نكس وضوءه ولو ساهيًا، فلو وَضَّؤوه بعد=
اليدين، ثمَّ لو كرَّرَهُ ثالثةً، يَثبُتُ مَسْحُ الرَّأْسِ، ثمَّ لو كَرَّرَهُ الرابعة، فقَدْ أَتَمَّ وُضوءَ.
المَسْألة الثانية: لو أنَّ إنسانًا علَيه حَدَثَانِ فَاغْتَسَلَ، هل يجزئه غُسْلُهُ عن الحَدَثَيْنِ أم لا؟
المشهور مِن مذاهب العلماء
(1)
أن هذا مجزئٌ عن الحدثين، وأنه
= ذلك ثلاث مرات أُخَر، أجزأه، كما لو نكس وضوءه أربع مرات، فإنه يجزئه لحصول غسل كل عضو في مرة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 104) حيث قال: " (وإن توضأ منكوسًا) يختم بوجهه، ويبدأ برجليه (أربع مرات صح وضوؤه إذا كان متقاربًا، يحصل له في كل مرة غسل عضو)، فيحصل له من المرة الأولى: غسل الوجه، ومن الثانية: غسل اليدين، ومن الثالثة: مسح الرأس، ومن الرابعة غسل الرجلين".
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"الدر المختار" لابن عابدين (1/ 248) حيث قال: " (قوله: بنية الوضوء)، يريد به طهارة الوضوء، لما علمت من اشتراط نية التطهير. بحر
…
وأشار إلى أنه لا تشترط نية التمييز بين الحدثين خلافًا للجصاص كما مر، فيصح التيمم عن الجنابة بنية رفع الحدث الأصغر كما في العكس تأمل، لكن رأيت في شرح المصنف على "زاد الفقير" ما نصه: وقال في "الوقاية": إذا كان به حدثان كالجنابة وحدث يوجب الوضوء، يَنْبغي أن ينوي عنهما، فإن نَوَى عن أحدهما لا يقع عن الآخر".
مَذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 129) حيث قال: "إذا أحدث أحدأثًا، فنوى حدثًا منها ناسيًا غيره أو ذاكرًا له، ولم يخرجه؛ سواء كان المنوي هو الذي حصل منه أولًا أو آخرًا، أجزأه؛ لأن الأحداث إذا كان موجبها واحدًا، واجتمعت، تداخل حكمها، وناب موجب أحدها عن الآخر".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 141) حيث قال: "لو كان عليه حدث أصغر، وغسل جنابةً، فاغتسل للجنابة، ففي صحة صلاته خلافٌ، فهاهنا تصح قطعًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 90) حيث قال: " (وإن اجتمعت أحداث متنوعة ولو) كانت (متفرقة) في أوقات (توجب وضوءًا) كالبول والغائط والريح والنوم (أو) توجب (غسلًا) كالجماع وخروج المني والحيض (فنوى بطهارته أحدها، ارتفع هو) أي: الذي نوى رفعه. (و) ارتفع (سائرها)؛ لأن الأحداث تتداخل، فإذا نوى بعضها غير مقيد، ارتفع جميعها كما لو نوى رفع الحدث وأطلق".
يندرج تحت القاعدة الفقهيَّة التي تقول: "إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَقْصُودُهُمَا، دَخَلَ أَحَدُهُمَا فِي الآخَرِ غَالِبًا"
(1)
.
فَهَذِهِ قاعدةٌ فقهيَّةٌ مشهورةٌ، وبعض الفقهاء يُقرِّرُها بأسلوبٍ آخَرَ، فيقول:"إِذَا اجْتَمَعَتْ عِبَادَتَان مِنْ جِنْسٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا مَفْعُولَةً عَلَى جِهَةِ القَضَاءِ، وَلَا عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِلأُخْرَى، تَدَاخَلَتْ أَفْعَالُهُمَا، وَاكْتُفِيَ فِيهِمَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ"
(2)
.
فَلَوْ أنَّ إنسانًا نسي صلاة ظهر الأمس، ثم تذكرها في وقت صلاة ظهر اليوم، فصلاة الظهر لهذا اليوم لا لكفيه لأداء الحاضرة وقضاء الفائتة، لأنه كما في الحديث الصحيح:"مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ"
(3)
، ولأن الصَّلاة ركنٌ لا يَسقُطُ بالنِّسْيان، ولذلك تجد العلماء قد قَيَّدوا ذلك بعَدَم كون إحدى العبادتين مَفعُولَةً على جهة القضاء.
وكَذَلكَ على سبيل المثال: السنن الرواتب لا تتداخل مع الصلوات المفروضة.
لكن تحية المسجد -مثلًا- تتداخل مع صلاة الفريضة، فلو أنَّكَ جئتَ، فَوَجدْتَ الصلاة قَدْ أقيمت، ولم تُدْرِك تحيةَ المسجد، فَكَثيرٌ من العلماء نَصَّ
(4)
على أنَّ صلاة الفريضه حِينَئذٍ تُغْنِيكَ عن تحية المسجد،
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 112) حيث قال: "القاعدة الثامنة: إذا اجتمع أمران من جنسٍ واحدٍ، ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالبًا". وانظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 95).
(2)
يُنظر: "قواعد ابن رجب"(1/ 142) حيث قال: "إذا اجتمعت عبادتان من جنسٍ في وقتٍ واحدٍ ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء، ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت؛ تداخلت أفعالهما، واكتُفِيَ فيهما بفعلٍ واحدٍ".
(3)
أخرجه مسلم (680).
(4)
مذهب الحنفية: يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 133) حيث قال: "فالفرض ينوب عن تحية المسجد".
بمعنى أن تحيَّة المسجد تدخل فيها، ومن المعلوم أن الداخل إلى المسجد مُطالَمب بأداء رَكعَتَيْن؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكعَتَيْنِ"
(1)
.
وكَذَلك تَتدَاخلُ تكبيرة الإحرام، فلو دخلتَ في الصلاة، وَكَان الإمامُ قَدْ رَكَعَ، وَفَاتَتْكَ تَكْبيرة الإحْرَام، فنويت بتكبيرتك تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع، تداخَلَت وأجزَأَتْكَ.
فَهَذا الكلامُ يَنْطبق على قياس الأحناف والمالكية الوضوءَ على غُسْل الجَنابة في قَوْلهم بعَدَم وُجُوب الترتيب، لأنَّ هناك فرقًا ظاهرًا بين العبادتين، فلو أن الجُنُبَ صَبَّ الماءَ على رأسه، فسال على بدنه، كان ذلك مُعتَبَرًا، بخلاف المتوضئ أنه لو سال الماء من وجهه على يده لم يُعتَبَر هذا؛ ولهذا قال الشافعية والحنابلة: إن هذا قياسٌ مع الفارق
(2)
.
(وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ المَسْنُونِ وَالمَفْرُوضِ مِنَ الأَفْعَالِ قَالَ: إِنَّ التَّرْتِيبَ
= ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 5) حيث قال: "إذا صلى صلاةً، أجزأته عن تحية المسجد في القيام مقامها".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 456) حيث قال: "وتحية المسجد ركعتان، وتحصل بفرضٍ أو نفلٍ آخر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 46) حيث قال: " (وتجزئ راتبة وفريضة، ولو) كانتا (فائتتين عنها)، أَيْ: عن تحية المسجد لا عكسه".
(1)
أخرجه البخاري (433)، ومسلم (714).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 123) حيث قال: "وترتيب الوضوء مستحبٌّ غير مستحقٍّ خلافًا للشافعي؛ لقَوْله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وواو النسق للجمع دون الترتيب، ولأنها طهارة شرعية كالغسل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي" للماوردي (1/ 142) حيث قال: "وأما الجواب عن قياسهم على الغسل من الجنابة، فَهو أن جميع البدن في الجنابة بمنزلة العضو الواحد في الوضوء، وليس في العضو الواحد ترتيب، فكذلك في بدن الجنب، وإنما الترتيب في الأشياء المتغايرة". وانظر: "المجموع" للنووي (1/ 446).
الوَاجِبَ إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الأَفْعَالِ الوَاجِبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ قَالَ: إِنَّ الشُّرُوطَ الوَاجِبَةَ قَدْ يَكُونُ فِي الأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً).
أمَّا الترتيب بين سُنَنِ الوضوء، كتقديم المَضْمَضة على الاستنشاق، ومثل ذلك، هَلْ هُوَ على الوُجُوب أم لا؟ وهل يجوز للإنسان مثلًا أن يَتَمَضْمَضَ قبل أن يغسلَ يديه أم لا؟
الجواب: أمَّا مَنْ قالوا بعَدَم وجوب التَّرْتيبِ بين الواجبات، فهؤلاء قالوا كذلك بعدم وجوبه بين السُّنن، ولا خلاف بينهم في هذا
(1)
.
وأمَّا الذين قالوا بوجوبه بين الواجبات، فمنهم مَن أَوْجَبَ كذلك الترتيبَ بين السُّنَنِ، وجَعَلَهُ مما لا ينبغي العدول عنه
(2)
.
ولَا شَكَّ أن سُنَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إنَّما هي بيان لكتاب الله عز وجل، وقَدْ بَيَّنَ الله تَعالَى هذا في كتابه غايةَ البيان في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فهذه السُّنَّة قد أيَّدَت بعض هذه الأحكام، والتقت مع القرآن فيها جملةً وتفصيلًا، إلى جانب أنَّها قد
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 263) حيث قال: "ترتيب سنن الوضوء في أنفسها مستحب بأن يقدم غسل يديه على المضمضة، ويقدم المضمضة على الاستنشاق، ويقدم هذه السنن على مسح الأذنين، وكذلك ترتيب السنن مع الفرائض بأن يقدم السنن الأول على غسل الوجه، ويقدم الفرائض الثلاث على مسح الأذنين".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج " للخطيب الشربيني (1/ 187) حيث قال: "وبما سيشير إليه بعد ذلك بقوله: ثم الأصح
…
إلخ. أن الترتيب مستحق لا مستحب، عكس تقدم اليمنى على اليسرى، وفرق الروياني بأن اليدين مثلًا عضوان متفقان اسمًا وصورةً، بخلاف الفم والأنف، فَوَجَب الترتيب بينهما كاليد والوجه، فلو أتى بالاستنشاق مع المضمضة حسبت دونه، أو أتى به فقط حسب له دونها، أو قدمه عليها". وانظر:"المجموع" للنووي (1/ 448).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 94) حيث قال: " (وتجب الموالاة بينهما وبين بقية الأعضاء)؛ لأنهما من الوجه، أشبها سائره (وكذا) يجب (الترتيب) بينهما وبين بقية الأعضاء كما سبق، و (لا) يجب الترتيب (بينهما وبين الوجه)؛ لأنهما منه كما تقدم".
أضَافت لنا أحكامًا جديدةً لم تكن موجودةً في كتاب الله عز وجل، كمَا هو الحال في تَحْريم الجمع بين المرأة وعمَّتها، وبين المرأة وخالتها
(1)
، فهذا الكلام حُجَّة على القائلين بالوقوف عند كتاب الله، وَعَدم الاحتجاج بالسُّنة، ويستدلُّون على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، بَلْ إنَّ هناكَ زيادةً في سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تَتعَارض مع كتاب الله عز وجل؛ لأنهما مصدران جاءا عن طريقٍ واحدٍ.
فهناك من الأحكام ما لم يرد في كتاب الله تعالى، وإنما علمناه عن طريق السنة النبوية المطهَّرة، كالمضمضة والاستنشاق، والبياض الذي بين العِذَارِ
(2)
والأذن، وتحديد الرأس طولًا وعرضًا، كل هذا إنما ورد في السنة
(3)
لا الكتاب، فينبغي أن نتنبَّه لهذا الأمر؛ لأننا نسعى إلى أن تكون أفعالنا متوافقةً قَدْرَ الإمكان مع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم لا سيما في الوضوء الذي هو شرظ من شروط صحة الصلاة، والذي قال عنه الرسول عليه الصلاة والسلام:"لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ"
(4)
.
وقال أيضًا: "لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ"
(5)
.
وقال كَذَلك: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ"
(6)
.
(المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الشُّرُوطِ: اخْتَلَفُوا فِي المُوَالَاةِ فِي أَفْعَالِ الوُضُوءِ).
(1)
أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408).
(2)
"العذار": الخد. يُنظر: "تاج العروس"(12/ 549).
(3)
منها ما أخرجه أبو داود (129)، وغيره عن الرُّبَيِّع بنت معوذ أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، قالت:"مسح رأسه، ومسح ما أقبل منه، وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة"، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود".
(4)
أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225).
(5)
أخرجه مسلم (224).
(6)
أخرجه مسلم (223).
وَ"المُوَالَاة"
(1)
: هي عدَم التفريق، بمَعْنى ألَّا يُفَرِّقَ المتوضِّئُ أثناء وضوئِهِ بين عَمَلَيْنِ إلا بِجُزْءٍ يَسِيرٍ لا تأثيرَ له، والبحث في هَذ المسألة يَخْتصُّ بما إذا كان المُتَوضِّئُ يَجب عليه غَسْلُ هذه الأعضاء متواليةً عضوًا بعد آخَر أم لا.
فالعلماء مُجمِعُون على أن التفريقَ اليسيرَ لا أثر له
(2)
، ولكن الخلاف إنَّما هو في التَّفْريق غير اليسير.
وَحَدُّ القِلَّةِ والكَثرَةِ في هذا محلُّ خِلَافٍ بين العلماء، وأشهر الأقوال فيه هو:"ألَّا تَتَأَخَّرَ في غَسْلِ عُضوٍ حتى يَجِفَّ الآخرُ في الجَوِّ المُعتَدِلِ"
(3)
، كأن يؤخر المتوضئُ غسل اليدين حتى يجفَّ الوجه.
(1)
"الموالاة": المتا بعة. يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 672).
(2)
حكى الإجماع النووي في "المجموع"(1/ 452) حيث قال: "أما حكم المسألة: فالتفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضرُّ بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما". وانظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 194).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" لابن عابدين (1/ 122) حيث قال: "عرفه الزيلعي بغسل العضو الثاني قبل جَفَاف الأول. زاد الحدادي مع اعتدال الهواء والبدن وعدم العذر، وعرفه الأكمل في التقرير بالتتابع في الأفعال من غير أن يتخللها جفاف عضو مع اعتدال الهواء".
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 128) حيث قال: "والطول المذكور المانع في صور العجز قيل: يحد بالعرف. وقيل: بجفاف الأعضاء المعتدلة في الزمن المعتدل .. وهو المشهور، وهو مذهب المدونة، فاعتدال الأعضاء في المزاج لا كون الشخص بين الشبوبة والشيوخة، وإنما ذَلكَ من صور اعتدال المزاج غالبًا، واعتدال الزمن بين الحرارة والبُرُودة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 194) حيث قال: "وهي التتابع بحيث يغسل العضو الثاني قبل جفاف الأول مع اعتدال الزمان والمزاج والهواء".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 105) حيث قال: " (والموالاة) مصدر وَالَى الشيء يواليه إذا تابعه، والمراد هنا:(ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف) العضو (الذي قبله يليه) بألا يؤخر غسل اليدين حتى يجف الوجه، ولا مسحٍ الرأس حتى تجف اليدان، ولا غسل الرجلين حتى تجف الرأس لو كانت مغسولة، وعلم=
وَإنَّما قَيَّدُوهُ باعتدال الجَوِّ؛ لأنَّ الأجواءَ تَخْتلف فيما بينها، بحيث تجفُّ الأعضاء بسرعةٍ في الجو الحارِّ، وتجفُّ ببطءٍ في الجو البارد، فقيَّدوه بالمعتدل.
ومنهم مَنْ ضَبَطَ حَدَّ القِلَّةِ والكَثرة بالعادة
(1)
، بمعنى أن ما اعتَبَرَته العَادةُ تفريقًا فاحشًا ظاهرًا، فهذا هو عَدمُ المُوَالاة، وما اعْتُبِرَ عَادةً غَيْرَ فاحشٍ، فإنَّه هو التَّفريقُ اليسيرُ، استنادًا لمَا جاء في الحديث:"اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ وَأَفْتَوْكَ وَأَفْتَوْكَ"
(2)
، كمَا هو الحال في مسألة التَّفْريق بين الدم القليل والكثير.
وممَّا تجدُرُ الإشارة إليه هاهنا أنَّ الَّذين قالوا بوجوب الموالاة من العلماء وببُطْلان وضوء مَنْ يُفَرِّقُهَا تفريقًا فاحشًا، إنَّما يَقْصدون بكَلَامهم هذا مَنْ يُفرِّقها عبثًا وتساهلًا
(3)
، لا مَنْ يُفَرِّقُها لِكَوْنِهِ مُنشَغِلًا بالطهارة، فلو
= منه أنه لو أخَّر مسح الرأس حتى جف الوجه دون اليدين لم يؤثر، ويتمه صحيحًا (في زمن معتدل) الحرارة والبُرُودة (أو قَدْره)، أَيْ: قدر المعتدل من غَيْره، أَيْ: غير المعتدل، من زمنٍ حارٍّ أو باردٍ".
(1)
مذهب المالكية: يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 227) حيث قال: "وقيل: بل الطول محدد بالعرف حكَاه القابسي وعياض".
وَمَذْهب الشَّافعيَّة: يُنظر: "النجم الوهاج" للدميري (1/ 354) حيث قال: "والأصحُّ في ضابط الكثير: أن يجف المغسول مع اعتدال الزمان ومزاج الإنسان. والقليل: دون ذلك. والمعتبر: آخر غسلة -ويقدر مسح الرأس غسلًا- وقيل: يرجع فيه إلى العادة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (1/ 140) حيث قال: "وقيل: هو ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الكل، وأطلقهما في المذهب. وقيل: هو ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف أي عضو كان
…
حكاه ابن عقيل. وعنه: يعتبر طول المكث عرفا. قال الخلال: هو الأشبه بقوله، والعمل عليه".
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(29/ 528) بلفظ: "يا وابصة، استفت نفسك، البِرُّ ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صفة الفتوى"(ص 55).
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 223) حيث قال: "وأما الفور ففيه ثلاثة أقوال:
1 -
فرض على الإطلاق، وهو قول عبد العزيز بن أبي مسلمة.=
أن إنسانًا غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ وَجَدَ في يديه ما يَمنَع وُصُولَ الماء إلى البشرة، فَاشْتَغَل في إزالته من يديه حتى جَفَّ وَجْهُهُ، فالعُلَمَاءُ هنا لم يَقُولوا ببطلان وضوئه، وإنما قالوا: هو مُشتَغِلٌ في حُكْم الطهارة، وما دام مُشتَغِلًا بحكم الطهارة، فلا تزال، ومثل ذلك ينطبق على المُصَاب بالوسواس، الذي يُكَرِّر الغسل ويَتمَادى في دَلْكِ الأعضاءِ، فالعُلَماءُ علَى أنَّ هذَا أيضًا مَعفُوٌّ عنه.
(فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ المُوَالَاةَ فَرْضٌ مَعَ الذِّكرِ وَمَعَ القُدْرَةِ، سَاقِطَة مَعَ النِّسْيَافي وَمَعَ الذّكْرِ عِنْدَ العُذْرِ).
فَالمَالكيَّةُ يُفَصِّلُون في حُكْم المُوَالَاة، ويُفَرِّقُون بين الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، فمَشْهور مَذْهب المالكية
(1)
أن الموالاةَ واجبةٌ مع الذِّكر، ساقطة مع النِّسيان، بما يتفق معِ ما ذَكَره العلماء من مُرَاعاة أصول الشريعة لِمَا يتعلق بالنسيان، بحيث جَعَلتْهُ الشريعةُ أحد أسباب التخفيف، كَمَا قال صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ"
(2)
.
= 2 - وسنة على الإطلاق، وهو المشهور في المذهب.
3 -
والثالث: فرض فيما يغسل، سنة فيما يمسح، وهو أضعف الأقوال، فعلى الأول يجب إعادة الوضوء والصلاة على مَنْ فرقه ناسيًا أو عامدًا، وعلى الثاني إن فرقه ناسيًا فلا شيء عليه، وإن فرقه عامدًا ففي ذلك قولان؛ أحدهما: أنه لا شيء عليه، وهو قَوْل محمد بن عبد الحكم. والثاني: أنَّه يعيد الوضوء والصلاة لتَرْك سُنَّةٍ من سُنَنها عامدًا؛ لأنه كاللاعب المتهاون، وهذا مَذْهب ابن القاسم، وَمِنْ أَصْحَابنا من يعبر على مذهبه هذا في الفور أنه فرضٌ بالذِّكْر، يسقط بالنسيان. انتهى". يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 105) حيث قال: " (ويضر) أيْ: يفوت الموالاة إن جفَّ العضو لـ (إسراف) ".
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (1/ 322)، حيث قال:" (وهل الموالاة واجبة إن ذكر وقدر، وبنى بنية إن نسي مطلقًا، وإن عجز ما لم يطل جفاف أعضاء بزمن اعتدل، أو سنة خلاف)، ابن يونس: الظاهر من قول مالك أن الموالاة مع الذكر واجبة".
(2)
أخْرَجه الطبراني في "المعجم الكبير"(2/ 97) وفي "مسند الشاميين"(2/ 152)، وصححه الأَلْبَانى في "إرواء الغليل"(1/ 123).
وقَالَ أيضًا صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنِ الخَطَإِ وَالنِّسْيَان"
(1)
.
وقال كذلك صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(2)
.
والرِّواية المشهورة عن المالكية هاهنا تلتقي مع الرواية المشهورة عن الحنابلة
(3)
، بخلاف المسألة السابقة التي التقى فيها قول الحنابلة والشافعية، وهذه من مزايا دراسة الفقه المقارَن، فالباحثُ فيه يَلْمس حقيقة مَنهَج هؤلاء الفقهاء، ويتبيَّن بجلاء أن الغاية التي يَرُومُون
(4)
الوصول إليها إنما هي الوصول إلى الحق لا لشيءٍ سواه.
(مَا لَمْ يَتَفَاحَشِ التَّفَاوُتُ).
وتَفاحُشُ التفاوت هذا كأن يَغسِلَ الإنسانُ وَجْهَهُ، ثمَّ يَخرُج إلى مكانٍ آخَرَ، وينشغل بأُمُورٍ أُخرى كالتِّجارة مثلًا، فهذا قد انْصَرَفَ عن الوضوء، فَحَدَثَ تفاوتٌ كبيرٌ في أثناء وضوئه، بينما الوضوء لا بد من الموالاة فيه عند مَنْ يقول بوجوبها.
(وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ المُوَالَاةَ لَيْسَتْ مِنْ وَاجِبَاتِ الوُضُوءِ).
فهذه المسألة -إذن- على ثلاثة أقوالٍ:
الرأي الأول: أن الموالاة ليست واجبةً، وهذا هو رأي الأكثرين،
(1)
أخرجه ابن ماجه (2043)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(1/ 358).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2045)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1/ 123).
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 140) حيث قال: "لا يسقط الترتيب والموالاة بالنسيان على الصحيح من المذهب، وعليه جمهور الأصحاب، وجزم به ناظم المفردات وغيره، وهو منها، وقدمه ابن عبيدان وغيره. وقيل: يسقطان. وقيل: يَسْقط الترتيب وَحْده. قال ابن تميمٍ: قال بعض أصحابنا: تسقط الموالاة بالعذر، والجهل كذلك في الحكم. قاله في "القواعد الأصولية". قال الشيخ تقي الدين: تسقط الموالاة بالعذر، وقال: هو أشبه بأصول الشريعة".
(4)
"رام الشيء يرومه رومًا ومرامًا": طلبه. يُنظر: "لسان العرب"(12/ 258).
منهم: الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، وبعض المالكية
(3)
، ورواية للحنابلة
(4)
.
الرأي الآخر: أنَّ الموالاةَ واجبةٌ، وهو المشهورُ في مذهب الحنابلة
(5)
.
الرأي الثالث: التفريق بين الناسي والجاهل، فالناسي يُعذَر، وغير الناسي لا يُعْذَر، وهذا هو مشهور مذهب المالكية
(6)
.
فَائدَةٌ: عَدَمُ ذِكْرِ المُؤلِّفِ لمَذْهب الإمام أحمد هاهنا إنَّما هو من المَآخِذِ على هذا الكتاب.
وَمُؤَلِّفُ الكتَاب قَدْ نَصَّ على أنه نَقَلَ آرَاء العلماء من كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر، فقال:"وإنَّما عوَّلتُ في نَقْلِ آراء العلماء على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر".
وكتَاب "الاستذكار" لابن عبد البر كان في السابق من المُشْكلات التي تواجه طلاب العلم؛ لأنه لَمْ يكن متوفرًا من هذا الكتاب في الماضي إلا جزآن، أما الآن فقد صار الكتاب -بحمد الله- موجودًا ومطبوعًا بكامله طباعةً جيدةً، وأحاديثه مُخَرَّجة، بل صار خَيْرَ مَرْجِعٍ لهذا الكتاب فيما
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 18) حيث قال: "كذلك الموالاة ليست بشرطٍ عند عامة المشايخ، وعند مالك شرط، وسنذكر هذه المسائل عند بيان سنن الوضوء؛ لأنها من السُّنَن عندنا لا من الفرائض".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 192) حيث قال: " (و) من سننه (الموالاة) بين الأعضاء في التطهير بحيث لا يجف الأول قبل الشروع في الثاني مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص نفسه والزمان والمكان".
(3)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 69) حيث قال: "ومن أصحاب مالكٍ مَنْ قال: الموالاة مستحبة".
(4)
يُنظر: "المغنى" لابن قدامة (1/ 102) حيث قال: "قال القاضى: ونقل حنبل عن أحمد أنها غير واجبة".
(5)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 102) حيث قال: "قال القاضي: ونقل حنبل عن أحمد أنها غير واجبة".
(6)
سبق بيانه.
يتعلق بِنَقْلِ المذاهب، فابن عبد البر يَذكُر آراءَ العلماء، وَربَّما يزيد فيها أحيانًا، فلننتبه لهذا إذن، فربما احْتَجْنَا للرُّجُوع إليه في بَعْض المَسَائل.
وقد نجد أحيانًا أن بعض العلماء -كابن جرير وابن عبد البر- لم يَذْكُرَا مذهب أحمد، فمثلًا ابن عبد البَر لم يَذْكُر الإمامَ أحمدَ في كتاب "الانتقاء"، فهل يُفْهَم من هذا أنه لا يَعْتبره من الفقهاء أم لا؟ والكَلَامُ في هذا يَطُولُ، ويَحْتاج مزيدًا من التفصيل، أمَّا ابنُ رُشْدٍ، فَلَا نَسْتطيع أن نقول: إنه لا يعتبر الإمامَ أحمدَ من الفقهاء، بل هو عنده فقيهٌ مُعتبَرٌ؛ لأنه يذكر رأيَهُ كثيرًا، لكنه يُصَنِّفُ وهو في الأندلس، فمتى ما وَجَدَ رأي الإمام أحمد نَقَلَهُ، وإن لم يجده لم يَنقلْهُ، فلا ينبغي أن نُحَمِّلَ ابنَ رُشدٍ هذه المسألة، لا سيما وقد ذَكَرَ آراءَهُ، وفَصَّلَ فيها في مواضعَ كثيرةٍ.
(وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي الوَاوِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُعْطَفُ بِهَا الأَشْيَاءُ المُتَرَاخِيَةُ بَعْضُهَا عن بَعْضٍ).
وَالحَقيقةُ أنَّ هذا كلامٌ غير مُقنِعٍ، فالمؤلف أحيانًا يَخرُجُ إلى الأدلَّة العقليَّة، وقضية (الواو) التي ذَكَرَهَا هاهنا إنما هي استدلالٌ ليس بالقَوِيِّ، فَعُمْدَة القائلين بعَدَم وجوب الموالاة هو الأثر الثابت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والذي جاء فيه:"أن عبد الله بن عمر كان في السُّوق، فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ دُعِيَ إلى جنازةٍ فَدَخَلَ المَسْجِدَ، ثم قَامَ فَمَسَحَ على خُفَّيْهِ بعد أَنْ جَفَّتْ أَعْضَاؤُهُ"
(1)
، هَذَا هو الأثر الذي اعْتَمَدُوا علَيه، وَدعَّموا به مَذهَبَهُمْ كأقوى دَلِيلٍ لهم في المسألة، فهم يقولون: إن عبد الله بن عمر لَمَّا دُعِيَ إلى الجنازة، مَسَحَ على خُفَّيْهِ بعد فَتْرةٍ من الانقطاع عن الوضوء، وبَعْدَ أن جَفَّت أَعْضَاؤُهُ، ولو كانت الموالاةُ واجبةً، لَمَا فَعَلَ ذَلكَ، فابْنُ عُمَرَ صحابيٌّ، ولا شكَّ أنه يُدْرِكُ
(1)
أخرجه مالك في "الموطإ"(3611)، وصححه النووي في "خلاصة الأحكام"(1/ 206)، وقال ابن الملقن في "البدر المنير" (2/ 268):"وهذا الإسناد لا يَشْتبه على أحدٍ صحَّته".
هذا الأمرَ، ولا شكَّ أنه مِنْ أحْرَص النَّاس على فِعْلِ الرَّسول، وَعَلى الاقتداء به، ولأننا لو افترَضْنَا أن عبد الله بن عمر سَهَا عن ذلك، لأنكرَ علَيه باقي الصَّحابة قطعًا، وحيث لم يُنْكَر على عبد الله بن عمر ذلك الفعل، فَهَذا إنَّما يَدُلُّ على عدَم وُجُوب المُوَالاة.
(وَقَدِ احْتَجَّ قَوْمٌ لِسُقُوطِ المُوَالَاةِ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: "أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي أَوَّلِ طَهُورِهِ، وَبُؤَخّرُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ إِلَى آخِرِ الطُّهْرِ"
(1)
).
والقَائلُونَ بوُجُوب المُوَالاة
(2)
إنَّما يردون هذا الدَّليل بأنَّ هذَا إنَّما يَكُونُ في الغُسْل، والعلَّة في تأخيرِهِ صلى الله عليه وسلم غَسْلَ رِجْلَيْهِ، إنَّما هي نظافَة المكَان، أما هنا فالمَسْألة مُتَّصلة لاشْتِرَاكِ الوضوء وَالغُسْل فِي كَوْنِ كلٍّ منهما طَهَارةً، وَهَذَا الاشتراكُ يَقْتضي عدَم الفَصل بينهما في هَذَا المقام، فهذه قضيةٌ خاصَّة، بمعنى أن هذا ليس فيه دليلٌ قاطعٌ على جفاف الأعضاء، فلم يرد فيه إلا أنه يؤخرها، والماء ما زال يفيض على البدن كما هو معلوم:"ثُمَّ أَفَاضَ المَاءَ عَلَى بَدَنِهِ"، فَأَصْرَحُ أدلَّة القائلين بعَدَم الوجوب -إذن- هو أثر ابن عمر رضي الله عنهما.
أما القائلون بالوجوب، فلهم أدلةٌ اعتمدوا عليها فيما ذهبوا إليه، وَمِنْ أَصْرَحِهَا: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في "صحيح مسلم": أن
(1)
أخرجه البخاري (260)، عَنْ ميمونة "أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دَلكَ بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله، غسل رجليه".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 224) حيث قال: "المذهب أن اليسير الذي لا يحرم الموالاة، وحكم الفور لا يفسد
…
وقال ابن الجلاب في "تفريعه": لا يجوز تفريق الطهارة
…
واستدل للأول بحديث البخاري، (أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل ثم تنحى فغسل قدميه". ويُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 51) حيث قال: " (ويسقطان) أي: الترتيب والموالاة (مع غسل) عن حدث أكبر؛ لاندراج الوضوء فيه، كاندراج العمرة في الحج".
الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا تَوَضَّأَ، فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ في قَدَمِهِ، فَأَمَرَهُ قائلًا:"أَحْسِنْ وُضُوءَكَ"
(1)
، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى، فلو لَمْ تكن المُوَالاةُ وَاجِبَةً، لَمَا أَمَرَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بقَوْله هَذَا، وَلَمَا فَهِمَ الرَّجُلُ الأمرَ بإحسَان الوُضُوء.
وقَدْ أجَابَ القَائلُونَ بعَدَم وُجُوب الموالاة على هذا الحديث بأنَّ الأمرَ بإعَادة الوضوء هاهنا لَمْ يكن بسبب تَرْكِ المُوَالاة، ولكن لأنَّه تَرَكَ جزءًا يسيرًا من القَدَم لم يَغْسِلْهُ، فأُمِرَ بِغَسْلِهِ.
وَكَذَلك استدلَّ القائلون بوُجُوب المُوَالاة بأحاديثَ أُخْرَى، ومنها الأَحَاديثُ الَّتي فيها إجمالٌ في الدلالةِ، وَهِيَ أَحَاديثُ صحيحةٌ من طريق عائشة وميمونة وغَيْرهما، بَعْضها مُتَّفَقٌ عليه، وبَعْضها رُوِيَ في "صحيح مسلمٍ"، وبعضها كَذَلك رُوِيَ في كتب السُّنن، كحديث:"وَيْلٌ لِلْأَعْقَاب مِنَ النَّارِ"
(2)
، وأجَاب عَنْها القائلون بعَدم وجوب المُوَالاة أيضًا بأنَّ هَذا لا يدلُّ على وُجُوب المُوَالاة، وإنَّما يُفْهَم منه أنَّ مَن تَرَكَ غَسْلَ جزءٍ من العُضو -حتَّى ولو كان بقدر اللمعة- لم يَتِمَّ وضوؤُه بذلك، وَصَار كأنَّه لم يتوضأ.
(وَقَدْ يَدْخُلُ الخِلَافُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَيْضًا فِي الاخْتِلَافِ فِي حَمْلِ الأَفْعَالِ عَلَى الوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ).
وَالخلَافُ فِي حَمْل أفعَال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم علَى الوُجُوب أم النَّدْب
(3)
،
(1)
أخرجه مسلم (243).
(2)
أخرجه البخاري (60)، ومسلم (241).
(3)
يُنظر: "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (1/ 350) حيث قال: "إن كان فعل قربةً، فلا يخلو من أن يكون بيانًا لغيره، أو ابتداء من غير سبب، فإن كان بيانًا لغيره، فحكمه مأخوذ من المبين، فإن كان المبين واجبًا، كان البيان واجبًا، وإن كان المبين ندبًا، كان البيان ندبًا، وإن كان فعلًا مبتدأً من غير سبب، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على الوجوب إلا أن يدل الدليل على غيره.
والثاني: أنَّه على الندب إلا أن يدل الدليل أنه على الوجوب.
والثالث: أنه على الوقف، فلا يحمل على الوجوب، ولا على الندب إلا بدليل، وهو الأصح". وانظر:"قواطع الأدلة" للسمعاني (1/ 303).
إنَّما أرَاد به المؤلِّفُ أنَّه صلى الله عليه وسلم كمَا تَوَضَّأَ مُرتِّبًا، فإنَّه كَذَلك كان يُوَالِي بين أعضائِهِ في الوضوء، وهَذِهِ هي حُجَّة القَائِلِين بوُجُوب المُوَالاة.
(وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ العَمْدِ وَالنِّسْيَان، لِأَنَّ النَّاسِيَ الأَصْلُ فِيهِ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ مَعْفُوّ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ"
(1)
).
ولا شكَّ أنَّ النِّسيانَ من أسباب التخفيف التي ذَكَرَهَا العلماءُ
(2)
إلى جانب السفر والمرض والقصور والإكراه، فالناسي معفوّ عنه، وليس العفو هاهنا على إطلاقه قطعًا، فلا يَسقُط ركنٌ من أركان الصلاة بالنسيان، فالقضية فيها تفصيلٌ، ولكن من حيث العموم معلومٌ أن الأصل في الناسي أنه معفوٌّ عنه، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(3)
.
وهذا الحديث قد وَرَدَ بِعِدَّةِ ألفاظٍ، منها أيضًا:"إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنِ الأُمَّةِ الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ"
(4)
، وَ"إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي"
(5)
، وله عِدَّةُ طُرقٍ وشواهدُ كثيرةٌ ومتعددةٌ، قد جَمَعَها العلماءُ واستَوْفوها في كتب الحديث، وانْتَهَوْا إلى أنَّ الحديثَ صحيح أو حَسَنٌ.
(وَكَذَلِكَ العُذْرُ يَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ أَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي التَّخْفِيفِ).
العُذْر قد يكون مرضًا، وقَدْ يكون سفرًا، وَمثل ذَلكَ، والإنسان إذا كان
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 64) حيث قال: "واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة:
الأول: السفر
…
الرابع: النسيان".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
ذا عُذْرٍ لا شكَّ أن هذا يكون سببًا من أسباب التخفيف عنه في أصل الشرع.
(وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ فُرُوضِ الوُضُوءِ
(1)
، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِالحَدِيثِ المَرْفُوعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ"
(2)
، وَهَذَا الحَدِيثُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النِّيَّةُ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ فِيمَا أَحْسَبُ)
(3)
.
والقائلون بوُجُوب التَّسْمية من العلماء إنما يقولون بوجوبها حال الذكر، وبسُقُوطها عَمَّنْ نَسِيَهَا، وقد ذكرنا هذا الكلام مُفَصَّلًا فيما مَضَى.
والسَّبَبُ في قَوْلهم بوُجُوب التَّسمية إنَّما هو حديث: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللهَ"، فبعض العلماء استدلَّ بهذا الحديث على وجوب التَّسمية، وأكثرهم لا يَقُول بالوُجُوب
(4)
، بل إنَّ بَعْضَهم فَسَّرَ ذَلكَ بأن التَّسميةَ إنَّما
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 90، 91) حيث قال: "وهو (أي: أول واجب في الوضوء والغسل والتيمم) (التسمية) لحديث: "لا وضوء لمَنْ لم يذكر اسم الله عليه"؛ لأنَّ مَنْ ذَكَرها في الأثناء إنما ذكرها على البعض لا على الكل
…
فوجب كما لو ذكرها في أوله (فإن تركها)، أي: التسمية (عمدًا) لم تصح طهارته". وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 128).
(2)
أخرجه أبو داود (101)، والترمذي (25)، وابن ماجه (397)، وصححه الأَلْبَاني في "صحيح سنن أبي داود"(1/ 168).
(3)
نقل الترمذي في "سننه" قول أحمد بن حنبل: "لا أعلم في هذا الباب (التسمية) حديثًا له إسناد جيد". انظر: "السنن"(1/ 38).
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 19) حيث قال: " (قوله: كالتسمية) أي: كما أن التسمية سُنَة في الابتداء مطلقًا كذلك غسل اليدين سُنَّة في الابتداء مطلقًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (1/ 383) حيث قال: " (وتسمية) روى عليٌّ: أنكر مالك التسمية على الوضوء، وقال: ما سمعت بهذا، أيريد أن يذبح أبو عمر يستحب ذكر اسم الله على كل وضوءٍ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 185) حيث قال: "من سننه (التسمية أوله)، أي: أول الوضوء".
يُرادُ بها النيَّة هاهنا
(1)
، وَسَببُ اخْتلَافهم حول هذا الحديث أنَّ مَدَارَهُ على ابن حَبِيب المالكيِّ، لكن الحديث له عِدَّة طُرُقٍ وشواهد، وقد حسَّنَه كثيرٌ من العلمًاء، منهم الإمام النوويُّ رحمه الله
(2)
، فينبغي للإنسان ألا يَغفَلَ عن ذلك.
* قوله: (فَهَذِهِ مَشْهُورَاتُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَجْرِي مِنْ هَذَا الْبَابِ مَجْرَى الْأُصُولِ، وَهِيَ كَمَا قُلْنَا مُتَعَلِّقَةٌ إِمَّا بِصِفَاتِ أَفْعَالِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ، وَإِمَّا بِتَحْدِيدِ مَوَاضِعِهَا، وَإِمَّا بِتَعْرِيفِ شُرُوطِهَا، وَأَرْكَانِهَا، وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ. وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَسْحُ الْخُفَّيْنِ إِذْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ).
ممَّا سبق يتبيَّن لنا مدَى عناية الفقهاء واهتمامهم بهَذِهِ المسائل الفقهيَّة المرتبطة بدين المسلم، فآيةُ الوُضُوءِ إنَّما ذَكَرَت لنا أُمُورًا أربعةً، لَكن العُلَماء انْتَهوا إلى هذه النتائج المفيدة لكل مُسْلمٍ بسَبَب عنَايتهم بالمَسَائل المتعلِّقة بالوُضُوء، وتَدْقيقهم فيها، وهذا كلُّه لا شكَّ إنما يَتَأتَّى من دراسة هذا الفقه العظيم، الذي لا يَبْلَى علَى طول الزَّمان عِزُّهُ، ولا يَفنَى بكثرة ما يُنفَقُ منه، فَكَمْ مَرَّ مِن العصور والدُّهُور علَى هَذِهِ الشَّريعة إلَّا أنَّها تَظَلُّ بَاقيةً ما بقي اللَّيل والنَّهار، صالحةً لكل زمانٍ ومكانٍ.
أن الَّذينَ يَجْهلون قدرَ هذه الشريعة من الحاقدين عليها من غير المسلمين عندما أرادوا القدحَ فيها، لم يحاولوا التعرضَ للعقيدة الإسلامية؛
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 266) حيث قال: "قال عبد الملك (يعني: ابن حبيب): يَعْني بالتسمية أن ينوي الصلاة".
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (1/ 343) حيث قال: "وهو حَديثٌ ضعيفٌ عند أئمة الحديث، وقد بَيَّن البيهقيُّ وجوه ضَعْفه
…
وروى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، وكذا رواه الترمذي من رواية سعيد بن زيد، ورواه ابن ماجه من رواية سعيد بن زيد وأبي سعيد الخدري. قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وأبي سعيد وسهل بن سعد وأنس، وأسانيد هذه الأحاديث كلها ضعيفة". وانظر:"البدر المنير" لابن الملقن (2/ 75).
لأنها عقيدةٌ صافيةٌ نقيةٌ، تختلف عمَّا هم عليه من عقائدَ فاسدةٍ، فتَرَكوها لَمَّا لم يجدوا فيها مكانًا للطعن، والتجأوا إلى الفقه الإسلامي، فأَخَذوا يَقْدحون في هذا الفقه، ويتكلَّمون عنه، ويَتَّهمونه بأنه لا يعدو أن يكون حلولًا جزئيةً مفكَّكةً ليس بينها ترابطٌ، ويُقَدِّمُون عليه القانون، وَيرَوْنَه قد وُضِعَ لَه أُصُولٌ وأُسُسٌ.
وقَدْ خَرَج من بين هؤلاء نَفرٌ كان قولُهُم قولَ صدقٍ، فأَنْصَفوا هذا الفقه، وعرفوا قيمتَه، وبَعْضهم قد وَجَّهَ اللومَ لبعض المُسْلمين، وقال: إنَّ على المسلمين أن يُظْهروا هذا الفقه.
وقَدْ حَدث هذا الإنصاف من بعضهم عندما اطَّلعوا على مباحث العلماء، وظهر لهم ما في الفقه الإسلامي من خصوبةٍ
(1)
وشمولٍ، وقواعد ثابتة مستقرة صالحة لكل زمانٍ ومكانٍ.
بَلْ إنَّه حينما وُجِدَ من بعض الناس مَنْ يدَّعي أنَّ الفقه الإسلامي استفاد من القانون الروماني -حِينَئذٍ وَجَدْنَا منهم مَنْ خرج ليدحض هذه الشبهة، ويُفنِّدها، ويبين عدم صحتها؛ لأن القانون الروماني في الأصل لم يُتَرجَم للعربية إلا في القرن الثالث، بمعنى أن القانون الروماني حينما تُرجِمَ كان الفقه الإسلامي قد نَضَجَ، وعُرِفَ، وتَنَاقَلَتْهُ الأجيالُ، وكَانَ الأئمَّة الأربعة قَدْ وَضَعُوا أصُولَهم، وَدَرَّسُوا مَذَاهبَهم الفقهيَّةَ، وَمَحَّصوها، بَلْ كَانَ تلاميذهم قَدْ بَحَثوا في عِلَلِ الأحْكَام، وخَرَّجُوا على مَسَائِلِ أصْحَاب المَذَاهب، واستَدَلُّوا علَيها، وَكَانت المَوْسوعاتُ قد دُوِّنَت.
وَمَن له اطلاعٌ ومعرفة بتاريخ المذاهب والأدب العربي والتاريخ الإسلامي يجد أن غالب الكتب التي تُرجِمَت من اليونانية وغَيْرها إنَّما عُنِيَتْ في الأَصْل بالفلسفة والمنطق، وهذا قَدْ لا يفيد الإسلامَ، بَلْ قد يكون فيه ضررٌ على الإسلام، أما الفقه، فَهُوَ الَّذي أفادَ غَيْره، حتى إننا لَنَجِدُ أن القانون الفرنسي استفاد كثيرًا من الفقه المغربيِّ؛ لأنه كان موجودًا
(1)
"الخصب": النَّماء والبَرَكة. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 170).
في الأندلس، ومن يَقْرأ في كُتُب القانون يُدرِك أهمية ذلك، ومن هنا يتبيَّن لنا مدى خصوبة الفقه الإسلامي.
وَمَن الجدير بالذِّكْرِ أنَّ تَجَدُّدَ الحوادثِ والوقائعِ يَسْتَلزم على الدوام أن يكون هناك مَنْ يُعْنَى بهذا الفقه ويُمَحِّصُهُ، ولذا فإننا ننبه دائمًا على أنَّ دراسة الفقه إنما تكون دراسةً مقارنةً فاحصةً لا تَهْدُفُ إلى نُصْرة مَذهبٍ بعينه من المَذَاهب، بَلْ يجب أن تكونَ الغاية من دراسة الفقه هي معرفة الحق من أجل اتباعه كائنًا مَن كان صَاحِبُهُ، فلو أن إنسانًا يتبع مذهبًا من المذاهب، ثمَّ ظهر له بالدليل أن الحقَّ في غيره، فإنما يَتوجَّب عليه الرُّجوع إلى الحق، بل إن هذا هو تمام الاقتداء بأئمة المذاهب الذين كانوا يقولون:"إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ، فَهُوَ مَذْهَبِي"
(1)
.
والأَخْطَرُ من ذَلكَ أن نجدَ من المسلمين مَنْ يتعصَّب لإمامه في بعض الفروع، أو يتعصب له في مسائلَ ضعيفةٍ، ثم إذا به يترك الأخذَ برأيه في أمور العقيدة التي هي أساس هذه الشريعة ولُبُّهَا، والأصل أن يُعْنَى الإنسان أَوَّلًا بأمر العقيدة، حتى إذا ثَبَتَتْ في قلبه واستَقَرَّتْ، فَحِينَئذٍ له أن يُفَرِّعَ علَيها، ولذَلكَ أمْضَى الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم في مكَّة ثلاثةَ عَشَرَ عامًا، وهُوَ يُعْنَى بأمر العقيدة، لم يَكلَّ ولم يَملَّ حتى أرساها وَثبَّتَها، ثم لَمَّا انتَقَلَ إلى المدينة، زادت العناية بالأحكام لَمَّا بدأَت هذه الأحكام تزداد كثوةً.
ونخلص من هذا كله إلى أهمية الاهتمام بدراسة الفقه دراسةً مقارَنةً وافيةً، وهذه الدراسة لها مَيْزَةٌ تنفرد بها عن دراسة المذهب الواحد، وهي الوقوف على آراء باقي أصحاب المذاهب، ومعرفة دليل كلٍّ منهم، ولا شكَّ أن الدارس حِينَئذٍ قَدْ يجد في تلك المذاهب ما لَنْ يجده في دراسة المذهب الواحد، فالذي يدرس مذهبًا بعينِهِ من المَذَاهب إنَّما يَدُورُ في فَلَك ذلك المذهب لا يخرج عنه.
(1)
هو قول الإمام الشافعي، أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (2/ 454) بلفظ:"إذا صح عندكم الحديث، فقولوا لنا حتى نذهب إليه".
قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة:
(المسح على الخفين)
* قوله: (وَالكَلَامُ المُحِيطُ بِأُصُولِهِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ).
قد يسمع -الإخوةُ- كثيرًا هذه المسألةَ في أصول أمَّهات المسائل، ومن أسباب اختياري لهذا الكتاب أنه كتابٌ يعنى بأمَّهاتِ المسائل، فهو أقرب إلى القواعد الفقهية، وفي شرحنا للمسح على الخفين سيضطرنا المقام أن نعرضَ لقاعدةٍ أو قاعدتين فقهيتين من حيثُ الإيجازِ لا الإطناب
(1)
، لما لهما من عَلاقَةٍ بالمسح على الخفين من حيث التخفيف؛ لأنَّ المسحَ على الخفَّين مبنيٌّ على التخفيف، فهو إنما وُضِعَ تيسيرًا في هذه الشريعةِ السمحةِ.
إذًا قوله: (بِأُصُولِهِ) يعني: أصولَ هذا الباب، وليس معنى ذلك أنَّ كلَّ ما يتعلق بالمسحِ على الخفين إنَّما يذكره المؤلف في هذا الكتاب، بل هو يذكرُ أصولَ المسائلِ، وإذا ضَبَطَ الإنسانُ أصولَ المسائل سَهُلَ عليه أن يَعْرِفَ فروعَهَا وجزئيَّاتِها.
* قوله: (فِي سَبْعِ مَسَائِلَ).
في العادةِ أنَّ الفقهاء يضعون عُنوانًا مستقلًّا فيقولون مثلًا: بابُ المسح على الخفين، لكنَّ المؤلف أدخله هنا ضمن هذه المسائل؛ لأنه يربط الأبوابَ بعضَها ببعضٍ، فهو لصلته بباب الوضوء لم يفصله عنه، غير أنَّ بعض الفقهاء يعنونونَ للمسح على الخفينَ بباب مستقلٍّ فيقولون: باب المسح على الخفين، على أساس أن الوضوء إنَّما هو كتاب، وكذلك الطهارة، فيقال: كتاب الوضوء، أو كتاب الطهارة.
إذًا هنا باب المسح على الخفين، فما معنى المسح على الخفين؟
(1)
الإطناب: اجتهد في الوصف، وبالغ في النعت. انظر:"الزاهر في معاني كلمات الناس" للأنباري (1/ 502).
المراد بكلمةِ: (المسح) إنَّما هو: إمرارُ اليد
(1)
، يعني: عندما يلبس الإنسانُ الخفَّ يُمِرُّ يده عليه، وليس المقصود إمرارَ اليد مجردةً، وإنما: تُبَلّ اليَدُ وُيمِرُّ بها على الخفين.
وسنرى في مسألةٍ قادمةٍ اختلافَ العلماء، هل المطلوب في مسح الخفين هو مسحُ أعلى الخف فقط؟ أو مسح أسفله وأعلاه؟ أو: أنَّ المراد هو مسحُ أسفلِ الخفِّ فقط، وهو رأيٌ ضعيفٌ باطلٌ؟ كلُّ هذا سيأتي الكلام عنه -إن شاء الله-.
*
فائدة:
كلمة "مسائلَ" مجرورة بالفتحة، لأنها ممنوعةٌ من الصرف.
* قوله: (بِالنَّظَرِ فِي جَوَازِهِ).
المراد بقوله: (فِي جَوَازِهِ) يعني: في حكمه، يعني: ما حكم المسح على الخفين؟ هل هو جائز أو غير جائز؟ والأحاديث في ذلك كثيرة
(2)
، ولن نقتصر على كلام المؤلفِ؛ لأننا نرى في مثل هذه المسائل المهمَّة، أنه ينبغي أن نُجَلِّيَها
(3)
ونبيِّنَها تفصيلًا، لكن قد تمرُّ منها مسائلُ بسيطة واضحةٌ لا نحتاج إلى أن نقف عندها طويلًا.
* قوله: (وَفِي تَحْدِيدِ مَحَلِّهِ، وَفِي تَعْيِينِ مَحَلِّهِ، وَفِي صِفَتِهِ: (أَعْنِي: صِفَةَ المَحَلِّ، وَفِي تَوْقِيتِهِ، وَيي شُرُوطِهِ، وَفِي نَوَاقِضِهِ).
هذه سبعُ مسائلَ سيذكرها المؤلِّف، وهي أمَّهاتُ هذا الباب، لكنْ هناك مسائل أُخرى لنبدأ بها، وهو الكلام في حكم المسح على الخفين.
(1)
المسح: مسحك الشيء بيدك. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 201).
(2)
سيأتي تخريجها.
(3)
الجلي: نقيض الخفي. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2303).
* قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: فَأَمَّا الجَوَازُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: القَوْلُ المَشْهُورُ: أَنَّهُ جَائِز عَلَى الإِطْلَاقِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(1)
، وَالقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الحَضَرِ)
(2)
.
المؤلف لَخَّص لنا الأقوال في أقوالٍ ثلاثةٍ:
القول الأول: جوازه مطلقًا، يعني: يجوز المسح على الخفين مطلقًا سواء كان المسح في سفرٍ أو حضرٍ، وهذا قول عامَّة العلماء، بل إنَّ ابن المنذر رحمه الله حكى في كتابه:"الإجماع": إجماعَ العلماء على هذه المسألة
(3)
، ولم يعتدَّ بذلك الخلاف الذي سيذكره المؤلف.
ومن الأمور التي ينبغي أن نشير إليها: أنَّ في مذهب الإمام مالك في حكم المسحِ على الخفين ستَّ رواياتٍ
(4)
، المؤلف لم يعرض لها، ونحن
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 17) حيث قال: "المسح على الخفين جائز بالسنة من كل حدت موجب للوضوء إذا لبس الخفين على طهارة كاملة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (1/ 152) حيث قال: "المسح على الخف ونحوه جاز بدلا عن غسل الرجلين بحضر وسفر، ولو سفر معصية".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 197) حيث قال: "يجوز المسح على الخفين".
ومذهب الحنابلة يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 110) حيث قال: "وهو أي: مسح الخفين وسائر الحوائل غير الجبيرة، كما يعلم مما يأتي رخصة".
(2)
وهو قول عند المالكية: يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (1/ 295) حيث قال: "والمحصول من هذه الأقوال عن مالك
…
وقول: إنه يمسح في السفر خاصة".
(3)
قال ابن المنذر في "الإجماع"(ص: 35): وأجمعوا على أنه كل من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين وأحدث، أن له أن يمسح عليهما.
(4)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (1/ 295) حيث قال: "والمحصول من هذه الأقوال عن مالك: قول: إنه يمسح في الحضر، والسفر. وقول: لا يمسح فيهما. وقول: إنه يمسح في السفر خاصة".
لا نريد أن ندخل في تفريعات المذاهب، وخصوصًا أنها آراؤها واهية، لكنَّ المشهور الصحيح من مذهب الإمام مالك أنه يلتقي مع جماهير العلماء، في جواز المسح على الخفين.
ومما يدلُّ على ذلك ما حكاه ابن المنذر عن الحسن البصريِّ أنه قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين"
(1)
.
ونُقل عن عبد الله بن المبارك أنه قال: ليس في المسح على الخفين أنه جائزٌ خلاف، أي: لا خلاف في جوازه
(2)
.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس في قلبي شيٌ من المسح على الخفين
(3)
. مراده: أنه لا يرتاب في جواز ذلك ولا يتوقف، بل نفسه مطمئنةٌ وفؤاده مستقِرٌّ، وعلَّل ذلك بأنه: بلغهُ أربعون حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
، ما بين مرفوعٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقوف على الصحابة.
إذًا رأينا أنَّ القولَ الأولَ هو قول عامة العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة على أساس الرواية المشهورة عن الإمام مالك، لأنَّ الإمام مالكًا له ثلاتُ رواياتٍ
(5)
كلها تلتقي حول هذا:
(1)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 82 - 83).
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 83 - 84) حيث قال: "وقد روينا عن ابن المبارك أنه قال: ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز، قال: وذلك أن كل من روي عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره المسح على الخفين فقد روي عنه غير ذلك".
(3)
يُنظر: "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" لأبي يعلى الفراء (1/ 98) حيث قال: "ونقل مهنا عنه أنه سئل: أيما أعجب إليك اليسح على الخفين أو الغسل فقال: كله جائز ليس في قلبي من المسح ولا من الغسل شيء".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 61) حيث قال: "وقال أحمد: ليس في قلبي من المسح على الخفين شيء فيه أربعون حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
(5)
تقدم ذكر هذه الأقوال عنه.
الرواية الأولى: القول بجوازه مطلقًا، وهو قول عامة العلماء.
الرواية الثانية: القول بمنع جوازه في السفر دون الحضر.
الرواية الثالثة: جوازه في الحضر دون السفر.
لكنَّ الصحيحَ المشهورَ الذي تلقاه المالكيةُ بالقبولِ، وأخذوا به ودوَّنوهُ في مذهبهم هو قولُ عامةِ العلماءِ، وهذا هو القول الأول
(1)
.
- القول الثاني: يرى أصحابه جواز المسح على الخفين في السفرِ دون الحضر، وسنبين العلة في ذلك، وهذه رواية في مذهب مالك كما ذكرنا
(2)
.
القول الثالث: يرى أصحابه منع المسح على الخفين، وهذا قول الشيعة والخوارج
(3)
.
وسيأتي أن ذلك القول نُسب إلى ثلاثةٍ من الصحابة، إلى علي بن أبي طالب
(4)
، وعائشة
(5)
، وعبد اللّه بن عباس
(6)
رضي الله عنهم، وسنحقق القول في هذه المسألة، ونبين أنَّ ما ورد عن عليٍ رضي الله عنه إنما هو على خلاف ذلك، وأن ما نُقل عن عائشة وابن عباس في كراهة ذلك إنما هو قبل أن
(1)
تقدم ذكر قولهم قريبًا.
(2)
تقدم ذكرها قريبًا.
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 90) حيث قال: "وقالت طائفة: المسح على الخفين أفضل من غسل الرجلين، وذلك أنها من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طعن فيها طوائف من أهل البدع، فكان إحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من إماتته".
وذكره ابن حجر "فتح الباري"(1/ 305) عنه وفيه: "والذي أختاره أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 169) عن علي: "سبق الكتاب الخفين".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 221) وغيره عن عائشة أنها قالت: "لأن يقطع قدمي أحب إلي من أن أمسح على الخفين".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 169) عن ابن عباس، قال:"سبق الكتاب الخفين".
يبلغهما جواز المسح، فلما بلغهما ذلك ثبت عنهما القول بالجواز، ولذلك نقل ابن المنذر وغيره: اتفاق الصحابة على ذلك
(1)
، وسنجعل ذلك واحدًا من أدلة جماهير العلماء الذين يرون المسح على الخفين.
* قوله: (وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: مَنْعُ جَوَازِهِ بِإِطْلَاقٍ
(2)
، وَهُوَ [أَشَذُّهَا])
(3)
.
وهذا قول شاذٌّ مردودٌ، وقد اعتبر بعض العلماء: أن هذا الخلاف لا يُعتد به، وأن الروايات الموجودة في مذهب مالك رواياتٌ ضعيفةٌ، ولا يؤخذ إلا بقوله المشهور.
* قوله: (وَالأقَاوِيلُ الثَّلاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الصَّدْرِ الأَوَّلِ)
(4)
.
نعم كان هناك خلاف في الصدر الأول لكنَّ هذا الخلاف انتهى إلى وفاقٍ، ولذلك سنبين تفصيلًا ما يتعلق بما نُسب إلى الصحابة الثلاثة الذين أشرنا إليهم.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مَا يُظَنُّ مِنْ مُعَارَضَةِ آيَةِ الوُضُوءِ الوَارِدِ فِيهَا الأَمْرُ بِغَسْلِ الأَرْجُلِ)
(5)
.
(1)
قال ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 77): "وممن روينا عنه، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين، وأمر بالمسح عليهما عمر، وعلي، وسعد، وابن مسعود، وأبو أيوب وابن عباس، وجرير، وأنس، وعمرو بن العاص، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وقيس بن سعد، وأبو موسى، وجابر، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وأبو سعيد، وعمار، وأبو زيد الأنصاري، وجابر بن سمرة، وأبو مسعود الأنصاري، وحذيفة، والمغيرة، والبراء بن عازب، وروي ذلك عن معقل بن يسار، وخارجة بن حذافة، وعبد الله بن عمرو، وبلال.
(2)
تقدم أنه قول لمالك، وقول الخوارج والروافض.
(3)
كذا في نسخة صبيح (1/ 14)، ونسخة دار السلام (1/ 49)، ونسخة المعرفة (1/ 18) قالا:[أشدها].
(4)
تقدم أقول أهل العلم في هذه المسألة.
(5)
قال الطبري في "التفسير"(10/ 52 - 58): اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه=
الوارد في آية الوضوء إنما هو الغسل، وفي الآية قراءتان، القراءة الأولى بفتح اللام قال تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، والقراءة الثانية بكسر اللام قال تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ} ، وهما قراءتان مشهورتان، وفي هذه المسألة خلاف بين بعض العلماء، وبذلك أخذ الشيعة، وانتهينا إلى ترجيح: أنَّ الصحيحَ الواجبَ المتعينَ إنما هو غسلُ الأرجل.
فالذين يقولون بعدم المسح يقولون: إنَّ الَايةَ ليس فيها ذكر للمسح، وإنَّما الآية جاءت بالفرائضِ ولم تذكر إلا غسلًا، والمسح ليس بغسلٍ، ولذلك الآية تَردُّ المسح.
ومن أدلة الذين يقولون بعدم جواز المسح على الخفين، بل هي من أدلة بعضهم -في الواقع- فهناك من يرى: أنَّ الأرجل لا تُغسل وإنَّما تمسح، ولكن من يقول بالغسل من هؤلاء يرى: أنَّ الآية اقتصرت على الغسل، وأنه ليس فيها ذكر للمسح، فيرون: أن ما وردَ معارضٌ لما في الآيةِ.
وقد ذكر المؤلف هنا كلمة طيبة فقال: (مَا يُظَنُّ)، والظن ليس يقينًا
(1)
، وهذا هو الواقع، بل نقول: ما يُتَوهَّم في الواقع؛ لأنَّ الظنَّ يقرب من اليقين، فهناك يقينٌ واعتقادٌ وظنٌّ، ثم بعد ذلك شكٌّ ووهمٌ، ولذلك نقول: توهم هؤلاء، وإلا فالواقع أنَّ الآية لَا تتعارض مع ما ورد من أحاديثَ في ذلك، وإنَّما الآية جاءت في المغسولات، وهي لا تتحدث عن لابس الخفين، إنَّما تتحدث عن غير لابس الخُفِّ.
= جماعة من قرأة الحجاز والعراق: (وأرجلكم إلى الكعبين)، نصبا فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤوسكم
…
وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} بخفض "الأرجل"، وتأول قارئو ذلك كذلك: أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها، وجعلوا "الأرجل" عطفًا على "الرأس"، فخفضوها لذلك.
(1)
الظن: مصدر من باب قتل وهو خلاف اليقين؛ قاله الأزهري وغيره، وقد يستعمل بمعنى اليقين. انظر:"المصباح المنير" للفيومي (2/ 386).
* قوله: (لِلْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي المَسْحِ مَعَ تَأَخُّرِ آيَةِ الوُضُوءِ، وَهَذَا الخِلَافُ كلانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ آيَةَ الوُضُوءِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ الآثَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
، وَاحْتَجَّ القَائِلُونَ بِجَوَازِهِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ"
(2)
).
المؤلف أوجز الكلام في هذه المسألة، وهي أهمُّ من أن نُمرَّها كما في الكتاب، فهي مسألة هامَّة، ونحن كما قلنا في دراستنا للفقه: إننا ينبغي أن نحرر المسائل ونحقق القول فيها، لا سيَّما المسائلُ التي يحتدم فيها الخلاف، ويكون الخلافُ فيها ضعيفًا أو ساقطًا، فنحن لا نرى من بين هذه الآراء إلا رأيًا واحدًا، وهو رأي الذين يقولون: بجواز المسح على الخفين مطلقًا، حضرًا كان ذلك أو سفرًا، أمَّا دعوى: أن الآية لم يرد فيها ذكرٌ للمسح، فهذا تعليل مردود عليه، وأمَّا تعليلُ الذين يقولون: بجوازه في السفر دون الحضر، لأن أكثرَ الأحاديث إنما جاءت في السفر، فلا يمنع أيضًا أن يكون ذلك في الحضر لورود أحاديثَ صحيحةٍ منها ما ورد في صحيح مسلم، ومنها ما ورد في غيره كما سنذكره
(3)
.
إذًا قول عامة العلماء هو جواز المسح على الخفين، وكما ذكرنا سابقًا فقد حكى فيه ابن المنذر الإجماع
(4)
؛ لأنه لا يعتد بآراء المخالفين ويرى أنها ساقطةٌ، ولذلك عندما يقرأ الإنسان في بعض الكتب المبسوطة نجد أن بعضهم لا يُلقِي بالًا لمثل هذه الآراء الشاذة والضعيفة الساقطة.
ومن الأحاديث الصحيحة الصَّريحة التي وردت في المسح على
(1)
تقدم ذكر مذهبه قريبًا.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
سيأتي ذكرها قريبًا.
(4)
تقدم نقل الإجماع.
الخفين حديثِ المغيرة بن شعبة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسحَ على الخفين في غزوة تبوك)
(1)
.
وغزوةُ تبوك كانت في آخر أيامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت بعد نزول آية المائدة التي نتكلم عنها، إذًا جاءت متأخرة
(2)
.
ومن الأدلة الذي يستدل بها هؤلاء: ما ورد في الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين)
(3)
. زاد أبو داود في روايته: فسئل عن ذلك: هل كان ذلك قبل نزول المائدة؟ فقال: وما أسلمتُ إلا بعد نزول المائدة
(4)
.
فهو برده هذا قطع كل احتمال، كما قيل:(قطعت جهيزة قول كل خطيب)
(5)
.
إذًا جريرٌ رضي الله عنه كان أحد الذين رووا لنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في
(1)
أخرجه بتسمية الغزوة النسائي (79) عن المغيرة بن شعبة قال: "سكبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توضأ في غزوة تبوك فمسح على الخفين".
وهو في الصحيحين؛ البخاري (182)، ومسلم (274/ 77) قال: في سفر، لم يسم غزوة.
(2)
غزوة تبوك كانت في رجب سنة تسع. انظر: "سيرة ابن هشام"(2/ 515)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (5/ 5).
وسورة المائدة مدنية.
(3)
أخرجه البخاري (387)، ومسلم (272/ 72) عن همام بن الحارث، قال: رأيت جرير بن عبد الله "بال، ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى" فسئل، فقال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا".
(4)
وفي سنن أبي داود ح (154)(أَنَّ جَرِيرًا بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ وَقَالَ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَمْسَحَ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ قَالُوا: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ المَائِدَةِ؟ قَالَ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ المَائِدَةِ).
(5)
أصله أن قومًا اجتمعوا يخطبون في صلح بين حيَّين قتل أحدهما من الآخر قتيلًا، ويسألون أن يرضوا بالدية، فبيناهم في ذلك إذ جاءت أمة يقال لها:"جهيزة" فقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض أولياء المقتول فقتله، فقالوا عند ذلك "قطعت جهيزة قول كل خطيب" أي قد استغنى عن الخطب. انظر:"مجمع الأمثال" للميداني (2/ 91).
المسح على الخفين، فهو قال مرةً:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين) وهذه الرواية في الصحيحين، ومرةً هو مسح على الخفين وهي عند أبي داود، ورواية أبي داود هذه قد تلقاها العلماء بالقبول وسُرُّوا بها، ولما سئل رضي الله عنه عن ذلك قال: وهل أسلمتُ إلا بعد نزول المائدة، يعني: كأنَّ ذلك أشكل على بعض الصحابة فسألوه: إنما ذلك كان قبل نزول المائدة، يعني: أن المسح على الخفين كان موجودًا فلما نزلت آية المائدة وهي قول الله سبحانه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، وهذه الآية ليس فيها ذكرٌ إلا لمسح الرأس.
إذًا هناك من ظنّ أنَّ ذلك كان قبل نزول المائدة، وأنَّ آية المائدة إنَّما جاءت بالغَسل وكفى، فبيَّن أنه إنما أسلم بعد نزول المائدة، ولذلك قال: وما أسلمت إلا بعد نزول المائدة، وقد كان إسلامه رضي الله عنه في السنة العاشرة، إذًا إسلام جرير كان متأخرًا
(1)
.
ومن الأحاديث التي يذكرها العلماء في ذلك أيضًا: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث سعد بن مالك
(2)
، والمغيرة بن شعبة
(3)
، وعمرو بن أمية
(4)
: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين).
وقد استقصى كثير من العلماء هذه الأحاديث وجمعوها، فبعضهم: أوصلها إلى خمسين حديثًا، وبعضهم: أوصلها إلى ستين، وبعضهم:
(1)
أسلم جرير بن عبد الله في السنة التي قبض فيها النبي صلى الله عليه وسلم. يُنظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 22).
(2)
أخرجه البخاري (252) عن سعد بن أبي وقاص عن "النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين".
(3)
أخرجه البخاري (203) عن المغيرة بن شعبة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه خرج لحاجته، فاتبعه المغيرة بإداوة فيها ماء، فصب عليه حين فرغ من حاجته فتوضأ ومسح على الخفين".
(4)
أخرجه البخاري (204) عن عمرو بن أمية الضمري أنه "رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين".
أوصلها إلى ثمان وستين، وبعضهم: أوصلها إلى ما يقرب من سبعين حديثًا وردت في ذلك، ما بين مرفوعٍ وموقوف
(1)
.
إذًا تبيَّن من هذا أنَّ قول عامة العلماء هو جواز المسح على الخفين، لأدلة منها:
أولًا: ثبوت الأحاديث الصحيحة الصريحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواز المسح على الخفين سفرًا وحَضَرًا
(2)
.
ثانيًا: أنَّ الرسول عليه -الصلاة والسلام- أمر بالمسح على الخفين كما في حديث صَفوانَ رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن لا ننزع خفافنا)
(3)
.
ثالثًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص في مسح الخفين، للمسافر ثلاثة أيامٍ بلياليهنّ وللمقيم يومًا وليلة
(4)
.
رابعًا: اتفاق الصحابة -رضوان الله عليهم- على جواز المسح على الخفين
(5)
.
(1)
قال ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 306): وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين ومنهم العشرة.
(2)
وتقدم تخريج بعضها، وسيأتي بعضًا آخر.
(3)
أخرجه الترمذي (96)، والنسائي (126) عن صفوان بن عسال، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(104).
(4)
أخرجه أبو داود (157)، والترمذي (95) عن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5189).
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7712) حيث قال: "وممن روينا عنه، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين، وأمر بالمسح عليهما عمر، وعلي، وسعد، وابن مسعود، وأبو أيوب، وابن عباس، وجرير، وأنس، وعمرو بن العاص، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وقيس بن سعد، وأبو موسى وجابر، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وأبو سعيد، وعمار، وأبو زيد الأنصاري، وجابر بن سمرة، وأبو مسعود الأنصاري، وحذيفة، والمغيرة، والبراء بن عازب، وروي ذلك عن معقل بن يسار، وخارجة بن حذافة، وعبد الله بن عمرو، وبلال".
الخلاصة: ننتهي من ذلك إلى أنَّه قد وردت أحاديثُ صحيحة صريحة، تلقَّاها العلماء بالقبولِ، منذ زمنِ الصَّحابة -رضوان الله عليهم- حتى عصرِ الأئمة، ومن جاء بعدهم، وهي أحاديث صحيحة وصريحة لا تحتمل تأويلًا ولا تبديلًا ولا تغييرًا، وهي تلتقي مع الآية التي في سورة المائدة، إذ الآية ليس فيها ردٌّ للمسح على الخُفَّين، وإنما الذي ورد في الآية هو غسل القدمين، وهي خاصَّةٌ في غيرِ لابِسِ الخُفِّ، أمَّا لابِسُ الخفِّ فإنَّ السنةَ هي التي بيّنت ذلك، والسنَّةُ إنَّما هي بيان لكتاب الله عز وجل، والله تعالى يقول:{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام:"ألا إنِّي أوتيت القرآن ومثله معه"
(1)
.
إذًا القول الأول: هو جواز المسح على الخفين، وهو رأي عامَّةِ العلماء الذين يُعتدُّ برأيهم، ومن يقول بغير ذلك فرأيه باطل.
القول الثاني: جواز المسح على الخفين في السفر دون الحضر.
ومن قالوا بهذا القول ذكروا لتوجيه مذهبهم:
السبب الأول: ما ذكره المؤلف، أنهم قالوا: إن المسح على الخفين إنما هو من باب التيسير والتخفيف، بمعنى آخر: إن المسحَ على الخفين رخصة، فقد رُخِّص للإنسان أن يمسح على الخفين، ومظِنّة المشقة إنما هو السفر، فالحاضر لا يلحقه مشقة، ولا يتأذى بغسل قدميه في كل صلاة، ولذلك قالوا: هذا أمرٌ مقصورٌ على السفر.
(1)
أخرجه أبو داود (3804)، وأحمد (28/ 410) عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2643).
السبب الثاني: قالوا: إنَّ غالبَ الأحاديثِ وأكثرَها إنَّما ورد في المسح في السفر.
ونجيب على ذلك: فنقول: نعم، غالب الأحاديث إنَّما ورد في المسح على السفر، لشدة الحاجة إلى المسح في السفر، لكنَّ ورودَ أحاديث أقل في الحضر، لا يمنع من كون المسح جائزًا في الحضر، وقد وردت أحاديثُ صحيحةٌ منها: حديث حذيفة الذي أخرجه مسلمٌ في صحيحه قال: (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال فتوضأ فمسح على خفيه).
وهذا نصّ صحيح صريح، وهو حديث في صحيح مسلم
(1)
وفي غيره
(2)
، لكنَّنا أحيانًا نقتصر على الصحيحين؛ لأنَّ ذكرَهما كافٍ في هذا المقام فأحاديثُهما صحيحة.
إذًا وردتْ أحاديثُ عِدَّةٌ في المسح على الخفين في الحضر ومنها: حديث حذيفة الذي يحكي فيه هذا الصحابيُّ الجليلُ أنَّه كان ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فانتهى إلى سُبَاطة قومٍ) يعني: مالَ إلى سُباطة القوم، والسُّباطة: هو المكان الذي يجمع فيه التراب، وغالبًا يكون مما يجمع من المنازل
(3)
، (فبال الرسول عليه الصلاة والسلام فتوضأ ومسح على خفيه).
إذًا هذا نصٌّ في أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام مسح على الخُفَّين، بل ورد في روايةٍ في غير صحيح مسلمٍ أنَّ ذلك كان بالمدينة
(4)
.
إذًا هذا دليلٌ قطعيٌّ، وهناك أدلَّة كثيرةٌ صريحةٌ، في أنَّ الرسولَ
(1)
أخرجه مسلم (273/ 73) عن حذيفة، قال:"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم، فبال قائما" فتنحيت فقال: "ادنه" فدنوت حتى قمت عند عقبيه "فتوضأ فمسح على خفيه".
(2)
أخرجه أبو داود (23) والنسائي (18).
(3)
السباطة والكناسة: الموضع الذي يرمى فيه التراب والأوساخ وما يكنس من المنازل. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 335).
(4)
أخرجها الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 179)، والبيهقي في "الكبير"(1/ 413).
-عليه الصلاة والسلام إنَّما مسح على الخفين في الحضر كما فعل ذلك في السفر، وكون أحاديث السفر أكثر لشدة الحاجة إلى ذلك، ولذلك نحن لا ننكر أنَّ المقصود من المسح إنما هو التيسير فهذا أمرٌ مُسَلَّم به، وهو رخصة، والله تعالى يحبُّ أن تؤتى رخصُه كما يكره أن تؤتى معاصيه
(1)
، ولذلك عندما أراد المغيرةُ أن ينزع خُفَّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"دعهما، بهذا أمرني ربي" فمسح عليهما
(2)
.
إذًا بهذا يتبين أن المسح على الخفين ثابت.
أمَّا تعليل: أنَّ المسح إنما هو في السفر خاصّة؛ لأنَّ السفر هو مظنة المشقة، وهذا هو الذي يقتضي التخفيف، فهذا لا يَرِدُ؛ لأنَّ شريعة الله سبحانه وتعالى إنما تؤخذ عن طريق الكتاب والسُّنة، وهذه الشريعة عندما ننظر إلى أصولها نجد أنها بُنيت على التيسير ورفع الحرج، وأنَّ الفقهاء رحمهم الله أخذوا من ذلك قاعدة فقهيةً جليلة عنونوها بقولهم:[المشقة تجلب التيسير]
(3)
. وسنعرض لها -إن شاء الله- في آخر هذه المسألة لأهميتها ولما لها من ارتباطٍ في هذا المقام.
إذًا رأينا من هذا أنَّ الأحاديثَ الصحيحةَ الصريحةَ المستفيضةَ قد ثبت فيها عن الرسول عليه الصلاة والسلام قولًا وفعلًا، أنَّه مسح على الخفين في الحضر والسفر.
وجاءت أيضًا: آثار عن الصحابة -رضوان الله عليهم- كلُّها تدلُّ
(1)
أخرجه أحمد (5866)، وابن خزيمة في "صحيحه" (7312) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(564).
(2)
وفى سنن أبي داود ح 156 (عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخُفَّيْنِ. فقلت: يا رسول الله أَنَسِيتَ؟ قال: "بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ بِهَذا أَمَرَنِي رَبِّي").
(3)
هذه من القواعد الأصولية المعتبرة، ويعبر عنها أيضًا بقولهم: إذا ضاق الأمر اتسع. انظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/ 49)، و"تشنيف المسامع" للزركشي (3/ 466).
على جواز المسح على الخفين، ومن هذه الآثار ما جاء فعلًا
(1)
، ومنها ما جاء عن طريق الأمر
(2)
، ومنها ما جاء عن طريق الرخصة
(3)
.
نأتي بعد ذلك إلى ما حُكِيَ عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كعليٍّ وعائشةَ وعبدِالَّلِه بن عباسٍ، أنهم قالوا: بكراهة المسح على الخفين.
ولنأخذ أولًا: ما حكي عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه
(4)
.
عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، هو أحدُ الصَّحابة الذين نقلوا لنا أحاديثَ المسح على الخفين، ومن الأحاديث التي نقلها لنا، ما ورد في صحيح مسلم أنه قال:"جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين ثلاثة أيامٍ ولياليهن للمسافر وبومًا وليلةً للمقيم"
(5)
، وأيضًا حديثه المعروف الذي سيعرض له المؤلف عندما يتكلم عن مسألة ما هو الواجب؟ هل هو مسح أعلى الخف أو أسفله أو هما معًا، ونصُّ حديثه:"لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على أعلى خفه أو خفيه"
(6)
.
(1)
منها ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 197) وغيره، عن مطرف بن عبد الله، أنه دخل على عمار بن ياسر "وقد خرج من الخلاء فتوضأ ومسح على خفيه".
(2)
منها ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(19711) عن ابن عمر قال: "إذا أدخل الرجل رجليه في الخفين وهما طاهرتان، ثم ذهب للحاجة، ثم توضأ للصلاة مسح على خفيه". وإن كان يقول: أمر بذلك عمر.
(3)
منها ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 195 رقم 760) وغيره أن ابن عمر، رأى سعد بن أبي وقاص، يمسح على خفيه، فأنكر ذلك عبد الله، فقال سعد: إن عبد الله أنكر علي أن أمسح على خفي، فقال عمر:"لا يتخلجن في نفس رجل مسلم أن يتوضأ على خفيه وإن كان جاء من الغائط".
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
أخرجه مسلم (276/ 85) عن شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال:"جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ودومًا وليلة للمقيم".
(6)
أخرجه أبو داود (162). وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(153).
إذًا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قد ثبت عنه أنَّه روى لنا أحاديث عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بل ذكر هذا الحديث:"أنه لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه، وهذا أمر ظاهر، ولذلك أمور الدين لا تؤخذ بالرأي؛ لأن الأقرب إلى الأرض إنما هو أسفل القدم وليس أعلاه، فلو فكر الإنسان بعقله لذهب إلى أنَّ الأولى هو أسفل القدم، ولكنَّ الدِّين لا يؤخذ بالرأي، وإنما هو يُتَلَقَّى عن كتاب الله عز وجل وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الذي نُقل عن أصحابه -رضوان الله عليهم- وما هو من قياسٍ وغيره، فهو مما يردّ إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قصة معاذ حين بعثه إلى اليمن: "بِمَ تقضي"؟ قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد"؟ قال: بسنة رسوله. قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأي ولا آلو جهدًا
(1)
.
يعني: يحاول قدر الإمكان أن يُصيب الصَّواب، فضرب رسول الله بيده على صدره وقال:"الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي رسول الله".
إذًا من هؤلاء الصحابة الذين نُقل عنهم عليٌّ رضي الله عنه، ونقله للأحاديث دليلٌ لنا، إذًا فلا إشكال في هذا المقال.
وأمَّا ما نقل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه من منعه للمسح على الخفين
(2)
، فمد نقل عنه الإمام البيهقي رحمه الله أيضًا ما يدلُّ على أنَّه رجَع عن ذلك الأمر
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3592)، والترمذي (1327) عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال:"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ "، قال: أقضي بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كتاب الله؟ " قال: أجتهد رأيي، ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال:"الحمد للِّه الذي وفق رسول، رسول الله لما يرضي رسول الله" وضعفه الألباني في "الضعيفة"(881).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرج البيهقي في "الكبرى"(1/ 410 - 411 رقم 1291) عن ابن عباس، قال: إنا=
وعائشة أيضًا نُقل عنها القولُ بمنع المسح على الخفين، وقد ذكر العلماء: أن ما نقل عن ابن عباسٍ وعائشةَ، إنَّما ذلك قبل بلوغهما جواز المسح والخفين، فلما بلغهما كغيرهما ممن لم يبلغه جواز المسح رجعا إلى ذلك القول وأخذا به
(1)
.
إذًا ننتهي من هذا إلى أنَّ الخلاف في هذه المسألة إنما هو خلافٌ ضعيفٌ ساقطٌ، وأنَّ المسحَ على الخفين إنما هو ثابت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وعن أصحابه -رضوان الله عليهم-، وأنَّ العلماء قد تلقَّوْا ذلك بالقبول، وأن الأئمة الثَّلاثة أَخذوه إجماعًا، وأنَّ الصحيح من مذهب مالك وهو الذي تلقاه أصحابه بالقبول، والذي اشتهر بينهم، هو القول الذي يلتقي مع بقية الأئمة في جواز المسح على الخفين.
وقد رأينا من ذلك أن هناك أحاديث كثيرة جدًّا، وهي موجودة في كتب الأحاديث، ولكننا أخذنا خلاصتها واكتفينا بذلك؛ لأن المقام لا يستدعي أن نعرض كثيرًا من الأحاديث، فقد عرضنا ما ورد في البخاري: من حديث سعد بن مالك، والمغيرة، وعمرو بن أمية
(2)
، وما في صحيح مسلم: من حديث رواه المغيرة وغيره
(3)
، وحديث علي الذي ذكرنا قبل
= عند عمر حين اختصم إليه سعد وابن عمر في المسح على الخفين فقضى لسعد فقلت: "لو قلتم بهذا في السفر البعيد والبرد الشديد"، قال: فهذا تجويز منه للمسح في السفر البعيد والبرد الشديد بعد أن كان ينكره على الإطلاق، وقد روي عنه أنه أفتى به للعقيم والمسافر جميعًا.
وفي (1292) عن موسى بن سلمة، قال: سألت ابن عباس عن المسح على الخفين فقال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة"، قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح.
(1)
قال البيهقي في "الكبرى"(1/ 409): وإنما بلغنا كراهية ذلك عن علي وعائشة وابن عباس
…
وأما عائشة فإنها كرهت ذلك، ثم ثبت عنها أنها أحالت بعلم ذلك على علي رضي الله عنه وعلي أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة فيه.
(2)
تقدم تخريج هذه الأحاديث كلها.
(3)
تقدم تخريج هذه الأحاديث كلها.
قليل
(1)
، وكذلك ما ورد في الصحيحين من حديث المغيرة، ومن حديث جرير بن عبد الله إلا ما ورد في زيادة أبي داود وهي زيادة صحيحة
(2)
.
أما الذين قالوا: بعدم جواز المسح فهو كما ذكر المؤلف قوله: رأوا أن ذلك يتعارض مع الآية، وأن الآية اقتصرت على الغسل، فتكون الآيةُ ناسخةً للأحاديث، والنسخ دائمًا له شروط
(3)
:
أولًا: لأنَّه لا يُلْجأ للنسخ إلا عندما تتعارَضُ المسائل، فينظر أيها المتقدم وأيها المتأخر، هذا بالنسبة للأحاديث، وقد ظهر لنا: أنَّ حديثَ جريرٍ إنما كان بعد نزول آية المائدة، فقضى على كل خلاف، ولذلك استقر رأي الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن جاء بعدهم على جواز المسح.
ومن هنا تفرَّع عن هذه المسألة مسألةٌ أُخرى لم يعرض لها المؤلِّفُ، ونعرضها لأهميتها لعلاقتها بهذا الباب، أيهما أفضل هل هو المسح أو الغسل؟
قد بينَّا أقوال العلماء في حكم المسح على الخفين، وانتهينا إلى أنَّ جوازَ المسحِ على الخفَّين أمرٌ ثابتٌ، وأنَّه أمر لا نزاعَ فيه، وأنَّ المخالِفَ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريج هذه الأحاديث كلها.
(3)
شروط النسخ بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه:
أما المتفق عليه: فأن يكون الحكم المنسوخ شرعيًّا، أو أن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم شرعيًّا متراخيًا عن الخطاب المنسوخ حكمه، وأن لا يكون الخطاب المنسوخ حكمه مقيدًا بوقت معين.
وأما المختلف فيها: فأن يكون قد ورد الخطاب الدال على ارتفاع الحكم بعد دخول وقت التمكن من الامتثال، وأن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء والتخصيص، وأن يكون نسخ القرآن بالقرآن، والسُّنة بالسُّنة، وأن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين، وأن يكون الناسخ مقابلًا للمنسوخ مقابلة الأمر بالنهي، والمضيق بالموسع، وأن يكون النسخ ببدل. انظر:"الأحكام" للآمدي (3/ 114)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 55).
في ذلك رأيُهُ ضعيفٌ، وأنَّ الأدلةَ صريحةٌ، وأنَّها لا تتعارض مع الآية، وأنَّ الآية إنما وردتْ في الغَسْل وليس في المسح.
إذًا نأتي بعد ذلك أيهما أفضل الغسل أم المسح؟
القول الأول: من العلماء من فضّل المسح على الغسل: وهو قول الشعبي والحكم وحمادٌ من التابعين
(1)
، وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد
(2)
.
والقول الثاني: وهو قول أكثر العلماء
(3)
، وهي رواية للإمام أحمد
(4)
: أنَّ الغَسلَ أفضلُ.
دليل القول الأول:
قالوا: إنَّ المسح رخصةٌ، والرخصةُ إنما هي تخفيفٌ، والشريعة الإسلامية إنما بُنيت على التيسير والتخفيف، ولذلك نجد أن الرسول -عليه
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 91) حيث قال: وممن رأى أن المسح على الخفين أفضل من غسل الرجلين الشعبي، والحكم، وإسحاق، وكان ابن أبي ليلى والنعمان يقولان: إنا لنريد الوضوء فنلبس الخفين حتى نمسح عليهما، وروينا عن النخعي أنه قال: من رغب عن المسح على الخفين فقد رغب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 60) حيث قال: "والمسح أفضل من غسل ".
(3)
مذهب الحنفية: يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (1/ 264) حيث قال: "فالغسل أفضل إلا لتهمة فهو أفضل، بل ينبغي وجوبه على من ليس معه إلا ما يكفيه، أو خاف فوت وقت أو وقوف عرفة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 141) حيث قال: "رخص جوازًا بمعنى خلاف الأفضل إذ الأفضل الغسل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 243) حيث قال: "وأفهم يجوز أن الغسل أفضل منه نعم إن تركه رغبة عن السنة أي لإيثاره الغسل عليه لا من حيث كونه أفضل منه سواء أوجد في نفسه كراهته لما فيه من عدم النظافة مثلًا أم لا".
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 169) حيث قال: "وقيل: إن لم يداوم المسح فهو أفضل؛ اختاره القاضي".
الصلاة والسلام- عندما أهوى المغيرة أن ينزع خفّه قال: "دعهما، بهذا أمرني ربي"
(1)
، وفي الحديث الآخر:"إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه"
(2)
.
وفي الحديث المتفق عليه: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا)
(3)
.
ويقول عليه الصلاة والسلام: "بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ"
(4)
.
والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، وهي ذات ارتباطٍ وثيقٍ بالقاعدة المعروفة [المشقة تجلب التيسير]
(5)
.
إذًا من العلماء من قال: بأن المسح أفضل، ودليلهم: أنَّ هذه رخصةٌ، والله سبحانه وتعالى تفضل بها علينا، ولذلك يذكر العلماء في حكم قصر الصلاة، أن قصرَ الصلاةِ إنما هو رخصة
(6)
، وأكثر العلماء على: أنَّ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (6786)، ومسلم (2327/ 78) عن عائشة قالت:"ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله".
(4)
جزء من حديث طويل؛ أخرجه أحمد (36/ 624)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8/ 216 رقم 7868) عن أبي أمامة وفيه:"إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة". وصححه الألباني في "الصحيحة"(2924).
(5)
تقدم الكلام على هذه القاعدة.
(6)
وهو مذهب الشافعية والحنابلة، بينما ذهب الحنفية أنه فرض، والمالكية أنه سنة مؤكدة:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 38) حيث قال: "وفرض المسافر عندنا: في كل صلاة رباعية ركعتان لا تجوز له الزيادة عليهم".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 358) حيث قال: "صلاة السفر سن سنة مؤكدة لمسافر رجل أو امرأة".=
القصرَ أفضلُ من الإتمام
(1)
، وأنَّ آية القصر وهي قول الله سبحانه وتعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وقد أشكل ذلك على يعلى بن أمية رضي الله عنه فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: أليس قد أمِنَ الناس؟ يعني: الآية نزلت وقت الخوف، وقد زال الخوف، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الملهم الذي كثيرًا ما ينزل القرآنُ مؤيِّدًا لرأيه قال: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"
(2)
.
إذًا هذه مِنْحَةٌ وعطيةٌ من الله سبحانه وتعالى، فلماذا نرد هذا الفضل ونتوقف فيه.
ومن الملاحظ أننا نجد -بعض الإخوة- ربما يضيِّق فيقول: لماذا آخذ بالرخصة والعزيمة موجودة لديّ؟
نقول له: أنت عندما تأخذ بالرخصة إنما تمتثل أمرًا من
= ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 368) حيث قال: "الأصل في القصر قبل الإجماع آية النساء ونصوص السنة المصرحة بجوازه عند الأمن أيضًا". ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 292) حيث قال: "وهو جائز إجماعا".
(1)
وهو مذهب الجمهور:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 38) حيث قال: "وفرض المسافر عندنا: في كل صلاة رباعية ركعتان لا تجوز له الزيادة عليهما".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الفروق وحاشيته" للقرافي (2/ 215) حيث قال: "صلاة القصر أفضل من صلاة الإتمام، وإن كانت أكثر عملًا من وجوه؛ أحدها: شرف الموصوف".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 392) حيث قال: "والقصر أفضل من الإتمام على المشهور".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 294) حيث قال: "والقصر أفضل من الإتمام نصا".
(2)
أخرجه مسلم (686/ 4)، وغيره.
أوامر الله سبحانه وتعالى، أو أمرًا من أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام، والله تعالى يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
والذين قالوا بأن الغَسل أفضل قالوا: لأنَّ هذا هو الفرض الذي أمر الله سبحانه وتعالى به في الآية، فينبغي أن نقدِّم ذلك.
والقضية كلها -بفضل الله- جائزةٌ، يعني: هذه رخصةٌ، وهذه عزيمةٌ، فإن أخذت بالعزيمة فَنِعِمَّا هِي، وإن أخذتْ بالرخصة فذلك أيضًا خير كثيرٌ، وهذه شريعة الله سبحانه وتعالى، وقد بُنيت على التيسير والتَّخفيف.
قوله: "فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ الَةَ الوُضُوءِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ الآثَارِ
(1)
، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ
(2)
"، هذا كان في أول الأمر.
* قوله: (أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُمْ حَدِيثُ جَرِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام يَمْسَحُ عَلَى الخُفَّيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ المَائِدَةِ، فَقَالَ: (مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ المَائِدَةِ).
وقد ذكرنا حديث جريرٍ؛ لأنّ أصله ورد في "الصحيحين"
(3)
"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين"، لكنَّ محل الشاهد الذي يستشهد به العلماء هو ما جاء في رواية أبي داود وغيره
(4)
، وهي رواية صحيحة، وهي التي ذكرها المؤلف وهي قوله:"إنما كان قبل نزول المائدة فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة".
(1)
قال القرطبي في "التفسير"(6/ 93): فإن قيل: إن المسح على الخفين منسوخ بسورة (المائدة) - وقد قاله ابن عباس، ورد المسح أبو هريرة وعائشة، وأنكره مالك في رواية عنه، فالجواب أن من نفى شيئًا وأثبته غيره فلا حجة للنافي، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم.
(2)
تقدم قوله في هذه المسألة.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
إذًا عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين كان ذلك بعد نزول المائدة، إذًا لا ناسخ ولا منسوخ في هذا المقام.
* قوله: (وَقَالَ المُتَأَخِّرُونَ القَائِلُونَ بِجَوَازِهِ: لَيْسَ بَيْنَ الآيَةِ وَالآثَارِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّ الأَمْرَ بِالغَسْلِ إِنَّمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ لَا خُفَّ لَهُ).
هذا تعليلٌ جيدٌ، وتعليلُ جماهيرِ العلماء قالوا: لا نرى تعارضًا؛ لأنَّ الآيةَ جاءت لتبيِّن المغسولات، وقد نصَّت على الممسوح وهو مسح الرأس، فالاية قالت:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} ، وقد ذكرنا فيما مضى الخلاف فيما يتعلق بالرجلين، وأنَّ الصحيح من ذلك هو الغسل، وأنَّ رأي الذين قالوا: بالمسح إنما هو رأيٌ باطلٌ، وبينَّا أنَّ الغَسل قد يُطلق في لغة العرب على المسح، فيقول فلانٌ تمسَّحت للصلاة، أي: اغتسلت أو توضأت للصلاة
(1)
.
* قوله: (وَالرُّخْصَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلابِسِ الخُفِّ).
يقصد المؤلف بقوله: "إِنَّمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ لَا خُفَّ لَهُ" يعني: الغسل متوجه إلى غير لابس الخف، وليس مراده: الذي لا يوجد عنده خفّ.
وهناك قضية هامة فيما يتعلق بالتخفيف، بعد أن تبيَّن لنا أنَّ العلةَ في المسح على الخفين إنما هي التخفيف والرخصة، ولذلك نجد أن الفقهاء ينصُّون على أن الجنبَ لا يمسح على الخفين
(2)
؛ لأنَّ المتوضأ يكرر ذلك
(1)
تمسحت للصلاة إذأ توضأت لها، وإنما سمي الغسل مسحًا؛ لأن الغسل للشيء تطهير له بإفراغ الماء، والمسح تطهير له بإمرار الماء، فالمسح خفيف الغسل. انظر:"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 153 - 154).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 46) حيث قال: (لا جنبًا)، أي: لا يجوز للجنب المسح لحديث صفوان بن عسال أنه قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط أو بول أو نوم"؛ ولأن الرخصة للحرج فيما يتكرر ولا حرج في الجنابة لعدم التكرار وصورة ما يكون جنبًا أن يلبس خفيه وهو على وضوء، ثم يجنب وهو في مدة المسح فإنه ينزع خفيه ويغسل رجليه.=
خمس مرات في اليوم والليلة، وفي ذلك مشقةٌ كبيرةٌ عليه، أمَّا الجنب المغتسل من الجنابة وغيرها فالغسل لا يتكرر في حقه كثيرًا كالمتوضئ، ولذلك قالوا: لا يمسح المغتسلُ على الخفين، وإنما المسح على الخفين خاصٌّ بالوضوء
(1)
.
* قوله: (وَقِيلَ: إِنَّ تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ الأَرْجُلِ بِالخَفْضِ هُوَ المَسْحُ عَلَى الخُفَّينِ)
(2)
.
= ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 145) حيث قال: (وبطل) المسح، أي: حكمه، أي: انتهى حكمه (بغسل وجب) دان لم يغتسل بالفعل فلا يمسح إذا أراد الوضوء للنوم وهو جنب
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 255) حيث قال: (فإن أجنب) أو حاض أو نفس لابسه في أثناء المدة (وجب) عليه إن أراد المسح (تجديد لبس) بأن ينزعه ويتطهر ثم يلبس ولا يجزئه لمسح بقية المدة الغسل في الخف؛ لأن نحو الجنابة قاطع للمدة للأمر بالنزع منها الدال على عدم إجزاء غيره.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 114) حيث قال: (أو نوى جنب ونحوه) كحائض ونفساء انقطع دمهما (رفع حدثه، ثم غسلهما، وأدخلهما فيه) أي: في الخف ونحوه (ثم تمم طهارته لم يجز) له (المسح)؛ لأنه لم يلبسه بعد كمال الطهارة.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 17) حيث قال: "ولا يجوز المسح على الخفين لمن وجب عليه الغسل".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 145) حيث قال: "وبطل المسح، أي: حكمه، أي: انتهى حكمه بغسل وجب، دان لم يغتسل بالفعل، فلا يمسح إذا أراد الوضوء للنوم وهو جنب".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 243) حيث قال: "يجوز في الوضوء، ولو وضوء سلس لما تقرر لا في غسل واجب أو مندوب، ولا في إزالة نجس بل لا بد من الغسل إذ لا مشقة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 207) حيث قال: "ولا يجزئ المسح في جنابة، ولا غسل واجب، ولا مستحب، لا نعلم في هذا خلافًا".
(2)
قال القرطبي في "التفسير"(6/ 92): قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه، أن المسح والغسل واجبان جميعًا، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين.
يرى البعض: أنَّ قراءةَ {وَأَرْجُلَكُمْ}
(1)
فيها إشارة إلى المسح على الخفين.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالحَضَرِ؛ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ لآثَارِ الصِّحَاحِ الوَارِدَةِ فِي مَسْحِهِ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا كانَتْ فِي السَّفَرِ، مَعَ أَنَّ السَّفَرَ مُشْعِرٌ بِالرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ).
وعلى فرض أنَّ أكثرَ الأحاديث التي وردت في ذلك وردت في السفر، فنجيب على ذلك: بأنَّ المسح في الحضر وردت فيه أيضًا أحاديثُ صحيحةٌ، وآثارٌ عن الصحابة -رضوان الله عليهم-
(2)
، يعني: هذا لا يمنع أن تكون أحاديثُ السفر أكثرَ لشدة الحاجة إلى المسح على الخفين في السفر؛ لأنَّ السفر إنما هو مظِنَّةٌ للمشقة، وليس معنى هذا أنَّ الحاضر لا تلحقه مشقة، لا، بل قد يلحق بعض الحاضرين من المشقة ما لا تلحق المسافر، فلو فرضنا أننا في أيام الصيف، وفي شدة القيظ
(3)
، فقام إنسان بعد صلاة الصبح فوقف على الفرن، يخبز للناس حتى وقت الظهر، ثم يواصل بعد الظهر، وإنسانٌ آخر يَسافر بسيارةٍ مكيفة، أو حتى على راحلةٍ، ولكنَّه لا يجد مشقةً، كذلك قد يشتغل إنسان في تكسير الحجارة وفي البناء وفي غيرها، فيلحقه من المشقة ما لا يلحق بعض المسافرين، لكنَّ الغالب في السفر أنَّه مظنةُ المشقة، ولذلك لم يقل العلماءُ: إن المشقةَ في السفر متيقنة، بل قالوا: هو مظنة المشقة.
ولذلك وضع العلماء لنا مسائل قديمة، لم تكن متحققة في ذلك العصر لكنها وقعت في هذا الزمن، فقد كان العلماء يأتون بما يعرف بالفقه التقديري أو الفقه الفرضي، كانوا يفترضون بعض المسائل، أو يقدرون
(1)
قَرَأَ: {وَأَرْجُلَكُمْ} خفضًا: ابْن كثير وَحَمْزَة وَأَبُو عَمْرو. انظر: "السبعة في القراءات" لابن مجاهد (ص: 242).
(2)
تقدم تخريج بعضًا منها.
(3)
القيظ: حمَّارة الصيف. انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1178)
بعض المسائل، فيقولون: هَبْ أنَّه قد حدث كذا، فالجواب فيها يكون كذا وكذا، فيقدرون، وهذه من المسائل التي أخذت على بعض العلماء، وأكثر من توسَّع في ذلك الحنفية والشافعية، وقد توسعوا في ذلك عندما بدأ الإمام الشافعي تأصيله أصول الفقه، فاحتاج أن يفرض بعض المسائل، وكذلك أتباع أبي حنيفة توسعوا شيئًا فشيئًا في هذا المجال.
ومن المسائل التي افترضها العلماء: لو أنَّ إنسانًا ركب سفينة فقطعت به مسافة القصر في لحظات أيقصر الصلاة أم لا؟
في زماننا أصبحنا نرى الإنسانَ قد يركب الطائرة فتقطع به مسافة القصر في لحظاتٍ، وقد يركب سفينةً سريعة أو يركب السيارة، فلو أن إنسانًا أراد السفر من مكة إلى عسفان، ومن مكة إلى جدة، المسافة بين مكة وجدة بالبرد ثلاثة
(1)
برد، وهذا على مذهب جماهير العلماء
(2)
خلافًا للحنفية
(3)
، يعني: ثمان وأربعين ميلًا، كانت تقطع الراحلة في أيام، صارت تقطع في أقل من ساعة، فهل يتغير الحكم بتقريب المسافات؟
الجواب: لا؛ لأنَّ الشريعة في أصلها شريعة عامة، فهي شريعة شاملة، وضعت لتناسب مصالح الناس جميعًا، لأن الشرائع السابقة جاءت لتعالج ما يتعلقُ بحاجة أهلها، فنجد أن الشرائع اتفقت فيما يتعلق بالعقيدة قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
(1)
الصواب أربعة، وليس ثلاثة.
(2)
فمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 361) حيث قال: "وبدخوله لبلد أُخرى لا أقل من أربعة برد فلا يقصر".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 379) حيث قال: "وطويل السفر ثمانية وأربعون ميلًا ذهابًا فقط تحديدًا ولو ظنًّا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 504) حيث قال: "وذلك أربعة برد
…
والبريد أربعة فراسخ
…
والفرسخ ثلاثة أميال هاشمية".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 38) حيث قال: "أن يقصد الإنسان موضعًا بينه وبين ذلك اليوضع مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام ولا يعتبر ذلك بالسير في الماء".
الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، وكل نبي من الأنبياء يأتي فيدعو قومه فيقول:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وفي الأخلاق كذلك، لكنها فيما يتعلق بالمعاملات تختلف؛ لأن تلك شرائع نزلت في أماكنَ محددةٍ وفي أوقاتٍ محدَّدَةٍ، أما الشريعة الإسلامية الخالدة فهي شريعة باقية، ولذلك أحكامها لا تقدر بزمنٍ مضى ولا بزمنٍ حاضر، بل هي تمتد ما دامت هذه الدنيا قائمة.
* قوله: (وَالمَسْحُ عَلَى الخُفَّيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ، فَإِنَّ نَزْعَهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى المُسَافِرِ).
لا شك أنَّ هذا أمر مُسَلّمٌ به، وهو أنَّ المسح على الخفين من باب التخفيف، وهذا أيضًا من مزايا هذه الشريعة ومن محاسنها، ولا شكَّ أنَّ العلماءَ قد استخلصوا من مثل هذا الموضوع الدروس الكثيرة، فيما يتعلقُ بقصر الصلاة في السفر، وفي التخفيف على المريض، وفيما يتعلقُ بعدم تكليف الصغير والمجنون، وفي التخفيف عن المكره والناسي والجاهل في بعض الأحكام، وكذلك التخفيف عن من فيه قصور، هذه أمور درسها العلماء وفصَّلوا القول فيها، ووضعوا لها قاعدةً عظيمة معروفة ألا وهي قاعدة:[المشقة تجلبُ التيسير]
(1)
، وهذه من القواعد الفقهية المعروفة.
مراحل وضع القواعد الفقهية:
أولًا: الفقه الإسلامي لم يأتِ دفعة واحدة، وإنما كانت آيات القرآن تنزل، فمنها ما ينزل جوابًا على سؤال كقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقد تأتي استفتاءً كقوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وغالب الأحكام إنما تنزل هكذا إما لبيان أمر العقيدة، أو الأخلاق، أو
(1)
تقدم الكلام عليها.
المعاملات، أو قيام الدولة الإسلامية، أو حقوق الوالي على الرعية، أو حقوق الرعية، أو صلة العبد بربه أي: ما يجبُ على العبد نحو ربه، وأيضًا حقوق العباد على ربهم، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة.
ثم بدأ الفقهُ يتسع شيئًا فشيئًا، وأخذ العلماء يستنبطون من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكثرت الفروع الفقهية كثرةً ضخمة بعد عصر الأئمة، بسبب كثرة التلاميذ الذين أخذوا عن الأئمة، وأيضًا قد وُجد أئمةٌ آخرون غيرَ الأئمة الأربعة كانوا في نفس منزلتهم كالإمام الثوري والليث والأوزاعي، لكنَّ الأئمةَ الأربعةَ يسَّر الله لهم من التلاميذ المخلصين الذين سهروا الليالي، ووصلوا كلال الليل بكلال النهار، فجمعوا ما أفتى به أولئك العلماء وما قرروه وما اجتهدوا فيه من مسائل فدونوه في كتب مسطورةٍ كما نجد ذلك في كتب الإمام محمد بن حسن الشيباني عندمًا جمع فقه الإمام أبي حنيفة، وكما نجد في:"مدونة" سحنون رواية ابن القاسم عن الإمام مالك، وكما نجد أيضًا في:"الأم" الإمام الشافعي، وأيضًا في:"مختصر المُزَنِيّ"، وكذلك في مسائل الإمام أحمد التي تنوَّعت كمسائل إسحاق بن منصور، وابنيه عبد الله وصالح، وغير ذلك من المسائل الكثيرة، فجاء التلاميذ فخدموا هذه الثَّروة الفقهية، ثم جاء تلاميذ التلاميذ فبدؤوا يدوِّنونها، ثم جاء بعد ذلك الفقه المقارن الذي ندرسه الآن، وهو أن تُعرض آراءُ العلماء وتُناقش، وأول ما بدأت مسائل الاختلاف بين الحنفية والشافعية، ثم تُوسِّع فيها فانتشرت وانتقلت إلى المذاهب الأربعة، ثم دُوِّنت، ثم جاءت الكتب التي تُعنى بأدلة المذاهب للاستدلال على المسائل ومناقشتها وبيان أسباب الخلاف إلى غير ذلك، فلما جاء العلماء بعد ذلك في القرن الثالث وجدوا هذه الثروة العظيمة، وهذا الكنز الجليل، وهذا الفقه الكثير، ففكروا كيف يستطيعون الإلمام بأطراف هذا الفقه؛ لأنَّ الفقه واسعٌ ومسائله متشعبةٌ، ولذا نجد أن كتابًا ككتاب:"المغني" في عشرة مجلدات، وآخر طبعة له وصلت إلى خمسة عشر مجلدًا، وكتاب:"المجموع" للنووي في عشرين مجلدًا، بدأه الإمام النووي، ثم أتم جزءًا منه السبكي، ثم أتمه بعد ذلك الشيخ
المطيعي وهو من المعاصرين، ونجد كذلك كتبًا مخطوطة أكبر من هذه الكتب، فكتاب ككتاب:"المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي" لابن الرفعة، هذا أكبر من الكتب السابقة، ولكنه لم يطبع.
إذًا كتب الفقه أصبحت موسوعات، فلما جاء تلاميذ الفقهاء فوجدوا هذه الثروة العظيمة المبعثرة المنتشرة ففكروا في وسيلةٍ لجمع هذه المسائل، فأخذوا يدرسون ويدققون في علل الأحكام، ويبحثون ويحاولون أن يأتوا بأحكامٍ كليّةٍ عظمى، ليربطوا بها كثيرًا من الأحكام، فانتهوا إلى القواعد الفقهيَّة، فأول ما بدؤوا في القواعد الفقهية وضعوا لنا مجموعة من القواعد، ثم بعد ذلك ركزوا على القواعد الفقهية العظيمة الخمس التي هي:
1 -
القاعدة الأولى: [الأمور بمقاصدها]
(1)
: وقد بنيت هذه القاعدة على حديث النية، وقد تكلمنا عنها إيجازًا في ما مضى، عندما تحدثنا عن المسائل الأولى ألا وهي: مسألة وجوب النية، أو اشتراط النية في الوضوء.
2 -
القاعدة الثانية: [اليقين لا يزول بالشك]
(2)
: فلو أن إنسانًا توضأ فغسل وجهه ويديه ثم مسح رأسه ثم غسل رجليه، وشكّ هل مسح رأسه أم ماذا يفعل؟ القاعدة عندنا:[اليقين لا يزول بالشك]، هذه القاعدة بناها الفقهاءُ على أدلةٍ ثابتةٍ صحيحةٍ؛ لأنَّه قد ورد في الحديث الصحيح المتفق
(1)
قال السبكي في "الأشباه والنظائر"(1/ 54 - 55): القاعدة الخامسة: الأمور بمقاصدها، وأرشق وأحسن من هذه العبارة: قول من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" ومن ثم وجوب النية حيث تجب. ويُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص:8).
(2)
ويقال فيها أيضًا: اليقين لا يزال بالشك، قال ابن نجيم "الأشباه والنظائر" (ص: 47): القاعدة الثالثة: اليقين لا يزول بالشك، ودليلها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا". ويُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 50).
عليه: أنَّه شُكِيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"
(1)
.
إذًا؛ هذا الذي غسل وجهه ولديه ثم مسح رأسه وغسل رجليه، وشكّ في مسح الرأس، عليه أن يطرحَ الشك ودبني على اليمين، أي: يلغي مسح الرأس ويمسح عليه من جديد، ثم بعد ذلك يغسل الرجلين.
أيضًا: لو أنَّ إنسانًا توضأ للظهر وكان متيقِّنًا أنه توضأ، خرج من بيته وهو متوضئٌ للظهر، ثم بدأ الشكّ يدبّ إليه، وأخذ الشيطان يوسوس له، هل توضأ أو لا؟ هو متيقن أنه تطهر، لكنه يشك في الحدث فماذا يفعل؟
الصحيح: أنه يبقى على طهارته، لأنَّ [اليقين لا يزول بالشك]"لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"
(2)
، وليس هذا الحديث على منطوقه فقط، يعني قوله:"لا ينصرف حتى يسمع صوتًا"، فقد يخرج منه شيءٌ لا يسمع صوته، ولا يشمُّ له رائحة، فليس معنى هذا أنه على إطلاقه، وإنما هذا بالنسبة للغالب، وإلا فقد يخرج منه بولٌ أو غائطٌ، ولكنَّ الحديث نبّه على هذه الأشياء ترفُّعًا عن ذكر هذه الأمور.
وأيضًا لو حصل العكسُ بأنْ تيقَّن من الحدث وشكَّ في الطهارة فهو غير متطهرٌ، ولم يخالفْ في ذلك إلا المالكية؛ لأنَّ المالكية عندهم قاعدة معروفة:(الشك في الشرط مانع من تحقق المشروط)
(3)
.
أي: إذا شككت في الشرط فمعنى هذا أنك شككت في المشروط فينبغي أن تبطله، هذه رواية في مذهب المالكية، ولهم رواية أُخرى
(4)
،
(1)
أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361/ 98) عن عبد اللِّه بن زيد.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
قال الونشريسي في "إيضاح المسالك"(ص: 78): قاعدة: الشك في الشرط مانع من ترتب المشروط: ومن ثم وجوب الوضوء على من تيقن الطهارة وشك في الحدث، وامتنع القصاص من الأب في قتل ابنه. ويُنظر:"الفروق" للقرافي (4/ 276).
(4)
قال القرافي "الفروق" وهوامشه (1/ 111): كل مشكوك فيه ملغى في الشريعة، فإذا=
يتفقون فيها مع الجمهور
(1)
، وهو الصحيح.
ودليل هذه القاعدة أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "إذا شكّ أحدكم في صلاة فلم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك، وليبْنِ على ما استيقن"
(2)
.
وهذا نصٌّ صحيح صريح؛ لأنه بذلك يطرح الشك ولبن على اليقين، فإذا شك أصلى ثلاثًا أو أربعًا، يلغي الرابعة ويقتصر على ثلاثة، وإذا شك أصلى أربعًا أو خمسًا فليطرح الشك وليبن على اليقين؛ لأنه إن كان قد صلى أربعًا فهذه الخامسة إنما هي شفاعة له، وإن كان لم يزد فيكون ذلك إرغامًا
(3)
للشيطان؛ لأن الشيطان دائمًا يسعى إلى أن يفسد على المؤمن عبادته، فما بالكم بالركن الثاني من أركان الإسلام، وهو عمود هذه الشريعة وقطبها الذي تدور عليه ألا وهي الصلاة، هذه الصلاة التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إليها
(4)
، وكان يقول:"أرحنا يا بلال بالصلاة"
(5)
، فالشيطان يحرصُ كلَّ الحرصِ أن يُشَوِّش على المؤمن صلاته، ولذلك وضع الرسول عليه الصلاة والسلام منهجًا وطريقًا يُغلقُ به على الشيطان ذلك المنفذ.
= شككنا في السبب لم نرتب عليه حكمًا أو في الشرط لم نرتب الحكم أيضًا أو في المانع رتبنا الحكم.
(1)
وهو أن اليقين لا يزول بالشك، أو الأصل اليقين لا يزيله شك طارئ عليه، وقد تقدم ذكرها. وانظر:"غمز عيون البصائر" للحموي (1/ 193) وما بعدها.
(2)
أخرجه مسلم (571/ 88) وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلَّى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان".
(3)
إرغامًا: ذل وانقاد. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 239).
(4)
أخرجه أبو داود (1319) وغيره عن حذيفة، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، صلى". وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(4703).
(5)
أخرجه أبو داود (4986) وغيره عن عبد الله بن محمد ابن الحنفية، قال: انطلقت أنا وأبي، إلى صهر لنا من الأنصار نعوده فحضرت الصلاة فقال لبعض أهله: يا جارية=
هناك قضية أُخرى وهي ألصق بهذه المسألة، وهي قضية التخفيف وهي القاعدة الثالثة من القواعد الخمس، والقواعد الخمس يسميها الفقهاء: القواعد الأساسية، وبعضهم يسميها: القواعد الفقهية الكبرى وهي:
أ-[الأمور بمقاصدها]
(1)
.
2 -
[اليقين لا يزول بالشك]
(2)
.
3 -
[المشقة تجحلب التيسير]
(3)
.
4 -
[الضرر يزال]
(4)
.
5 -
[العادة محكمة]
(5)
.
وهنا قد يسأل سائل فيقول: هل للعادة تأثيرٌ في الشرع؟
الجواب: نعم، أحيانًا يُحتاج إلى العادة، وطلبةُ العلم الذين درسوا
= ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح، قال: فأنكرنا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"قم يا بلال فأرحنا بالصلاة". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7892).
(1)
تقدم الكلام عليها.
(2)
تقدم الكلام عليها.
(3)
تقدم الكلام عليها.
(4)
قال السبكي في "الأشباه والنظائر"(1/ 41): القاعدة الثانية: الضرر يزال
…
ويدخل فيها: الضرر لا يزال بالضرر وهو كعائد لعود على قولهم: الضرر يزال -أي: يزال ولكن لا يضرر- فشأنهما شأن الأخص مع الأعم في الحقيقة. بل هم سواء. ويُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 7).
(5)
قال ابن نجيم في "الأشباه والنظائر"(ص: 79): واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة. ويُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 7).
أحكام الحيض وما يتعلق ببعض الصناعات، يجد أنَّ بعض الفقهاء كانوا يسألون النساء عن عادتهن.
إذًا [العادة محكمة]، وهي تُسمَّى قاعدةُ العادة أو العرف، وهي قاعدة معروفة أصوليًّا وفقهيًّا.
أما قاعدة [المشقة تجلب التيسير]، وهي قاعدة لها علاقة بالمسح على الخفين وما فيه من التخفيف.
ولنا أن نسأل لماذا انتهى العلماء إلى وضع هذه القاعدة، ومن أين استنبطوها وكيف جاؤوا بها؟
استخلص العلماء هذه القاعدة من كتاب الله عز وجل ومن السُّنة المطهرة، أي: من بعض نصوص القرآن ومن بعض نصوص السُّنة المطهَّرة، فالله سبحانه وتعالى يقول:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ويقوله سبحانه وتعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ولقوله عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28].
والرسول عليه الصلاة والسلام: (ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا)
(1)
.
ومن هذه الأدلة من الكتاب والسُّنة استنبط العلماء هذه القاعدة وقالوا: [المشقة تجلب التيسير]. ما معنى هذا؟
هذه القاعدة تلتقي أيضًا مع قاعدة الحرج، ومعنى هذا: أنه إذا لحق الإنسان مشقةٌ في هذه الشريعة، فإن الشريعة الإسلامية تُخفِّف عنه، وليس أدلَّ على ذلك من قصة عمرو بن العاص رضي الله عنه في غزوة ذات السلاسل عندما احتلم ليلتها فقام فتيمم فصلى بأصحابه، كان جنبًا فتيمم وكان الماء موجودًا بين يديه، ولكنه خشي من الضرر فقام فصلى بأصحابه متيممًا،
(1)
تقدم تخريجه.
فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أفعلت ذلك يا عمرو"؟ فذكر الآية: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم وأقَّره على ذلك
(1)
، وهذا يعد إقرارًا منه عليه الصلاة والسلام.
إذًا؛ [المشقة تجلب التيسير]، فكل أمر فيه مشقةٌ نجد أنَّ الشريعة تخفف فيه، فالسفر مظنة المشقة، فأُبيح للإنسان أن يقصر الصلاة، وأن يجمع بين الصلاتين، وكذلك خُفِّفَ عنه ما يتعلق بالجمعة وأحكام كثيرة جدًّا، ومن هنا انتهى العلماء إلى أن أسباب التخفيف في الشريعة الإسلامية إنما هي أمور سبعة
(2)
.
الأمر الأول: السفر، والسبب الثاني: هو المرض، والسبب الثالث: هو الإكراه، والسبب الرابع: هو النسيان، والسبب الخامس: هو الجهل، والسبب السادس: هو العسر وعموم البلوى، والسبب السابع: هو النقص.
قد يُشكل على -بعض الإخوة- ما معنى أن الشريعة تخفِّف بسبب النقص؟
(1)
أخرجه أبو داود (334) وغيره، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(154).
(2)
قال السيوطي في "الأشباه والنظائر"(ص: 77 - 80): واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة:
الأول: السفر. الثاني: المرض. الثالث: الإكراه. الرابع: النسيان. الخاص: الجهل. السادس: العسر وعموم البلوى. السابع: النقص فإنه نوع من المشقة إذ النفوس مجبولة على حب الكمال، فناسبه التخفيف في التكليفات. ويُنظر:"الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص: 64 - 70).
في الحديث الصحيح الذي رُوِيَ عن طريق عليٍّ
(1)
وعائشة
(2)
أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "رُفِعَ القلم عن ثلاثةٍ عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ". بروايات متعددة فيها تقديمٌ وتأخير.
من الثلاثة الذين خفف عنهم اثنان؛ وهما: المجنون والصغير، خُفِّف عنهما بمعنى: أنه وضع عنهما التكليف، والعلة في ذلك: وجود نقصٍ فيهما، فالمجنون ذهب عقله، فكيف يُنَزّل منزلة العاقل، والصغيرُ لم يصل سنَّ البلوغ الذي يُصبحُ فيه مكلَّفًا يُدرك ما يدركه الكبير.
ولا يَرِدُ على هذا اعتراض قضية غير المرشد وما يتعلق بالحجر عليه، فإنه يحجر على الصغير وعلى السفيه أيضًا، والسفيه قد يكون كبيرًا، قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ} [النساء: 5]، لكنَّ السفيه إنما هو سفيهٌ فيما يتعلق بالمال، وأعتقد أنَّ كل واحد منا في حياته مرَّ به من الناس من يسرف في إنفاق الأموال، فتجد الإنسان في سن الثلاثين والأربعين والخمسين وينفق كل الذي في جيبه سرفًا، وقد يكون هو وأولاده بحاجةٍ إلى هذا المال، لكنه تعود على الإسراف، وعلى هذا فالمسرف الذي يفرِّط في المال إنما يُحْجَرُ عليه ولا يمنعه كبر السن عن الحجر عليه، فإذا عاد إلى رُشده وعقله يُرفَعُ الحجر عليه، لكنَّ الصغير والمجنون رُفع عنهما التكليف، ولذلك لو كلِّف الصغير والمجنون لكان ذلك خلافَ حديثِ الرسول عليه الصلاة والسلام: "رُفع القلم عن
(1)
أخرجه أبو داود (4401)، وغيره عن ابن عباس، قال: مر على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمعنى عثمان، قال: أوَما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة، عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم"، قال: صدقت، قال: فخلى عنها. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(297).
(2)
أخرجه أبو داود (4398)، وغيره عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(297).
ثلاثة"، لأنَّ رفعَ القلم هو رفع التكليف، فلو كُلِّفَ لكان ذلك وضعًا للقلم عليهما، وهو خلاف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا تَحْدِيدُ المَحَلِّ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَيْضًا فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ).
المراد: هو المسح على الخفين، والخفُّ له أعلى وأسفل، وله جانبان، وله عقر، فيريد بالتحديد ما هو الموضع الذي يُمسح عليه؟ هذا هو المقصود.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ مَسْحُ أَعْلَى الخُفِّ، وَإِنْ مَسَحَ البَاطِنَ -أَعْنِي أَسْفَلَ الخُفِّ- مُسْتَحَبٌّ، وَمَالِكٌ أَحَدُ مَنْ رَأَى هَذَا
(1)
، والشَّافِعِيُّ).
يقصد بأعلى الخف الذي هو ظاهر القدم، ويقصد بباطنه الذي هو أسفل القدمين، فهناك من العلماء من يرى: الجَمَعَ بين الأمرين، ولكنهم يوجبون مسح أعلاه ويستحبون مسح أسفله.
قوله: (وَمَالِكٌ أَحَدُ مَنْ رَأَى هَذَا وَالشَّافِعِيُّ)
(2)
أي: مالكٌ والشافعي من العلماء الذين قالوا: بمسح أعلى الخفّ وجوبًا وباستحباب أسفله.
لكن هناك تفصيلات كثيرة في المذاهب.
فالمالكية عندهم: لو مَسَحَ اقتصر على أَعْلى الخفّ فبذلك قام بالواجب، فلا بدَّ من مسحِ أعلاه، فبذلك يلتقون مع غيرهم من الفقهاء،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 146) حيث قال: "وندب مسح أعلاه وأسفله أي ندب الجمع بينهما وإلا فمسح الأعلى واجب".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 254) حيث قال: "ويسن مسح ظاهر أعلاه الساتر لظهر القدم، وأسفله وعقبه وحرفه".
ويُستحَبُّ إلى جانب مسح الأعلى وهو الواجب، أن يُمسح الأسفل.
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(1)
.
والمالكية عمدتهم هو إمامهم، ولكنهم لا يتعصبون لرأيهم، والإمام مالك له عدة روايات في جواز المسح على الخفين، ويا ليت المالكية أخذوا بروايته التي تلتقي مع العلماء وردُّوا باقي الروايات التي نقلت عن الإمام مالك رحمه الله، ويقال: بأن الإمام مالكًا رحمه الله له كتاب يعرف بكتاب: "السر" وقد ذكر فيه: أنّه يرى المسحَ على الخفين في الفتوى، وهو الصحيح عن الإمام مالك، وبذلك يلتقي مع كافة العلماء في جواز المسح على الخفين.
إذًا هذا رأيٌ في داخل المذهب، ولما كان المؤلف مالكيًّا، نجد أنّه يذكر بعض الأقوال أو الروايات في المذهب، بل أحيانًا يذكر رأيًا لأحد المالكية وليس للإمام.
وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا) يعني: يوجب الجمع بين الأمرين، فالمسح هو بدل من الغَسل في الوضوء، والغَسل إنما يُعَمَّمُ به القدمان، وينبغي أن يشمل ذلك المسح.
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ الظُّهُورِ فَقَطْ، وَلَمْ يَسْتَحِبَّ مَسْحَ البُطُوفي، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
، وَدَاوُدَ
(3)
، وَسُفْيَانَ
(4)
، وَجَمَاعَةٍ).
(1)
يُنظر: "التبصرة" للخمي (1/ 165) حيث قال: "وقال ابن نافع: إن أقتصر على الأعلى لم يجزه وأعاد أبدًا".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 17) حيث قال: "والمسح على الخفين على ظاهرهما خطوطًا بالأصابع يبدأ من رؤوس أصابع الرجل إلى الساق".
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 111) حيث قال: "والمسح على الخفين وما لبس على الرجلين إنما هو على ظاهرهما فقط، ولا يصح معنى لمسح باطنهما الأسفل تحت القدم، ولا لاستيعاب ظاهرهما، وما مسح من ظاهرهما بأصبع أو أكثر أجزأ".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 105) حيث قال: "وقالت طائفة: يمسح على ظهورهما
…
وبه قال سفيان".
وفي الحقيقة أنّ هذا الرأيَ إن لم يكن أشهر الآراء في هذه المسألة فهو لا يَقِلّ شهرةً عن القول الأول: الذي قال به المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، فالقول الأول: هو وجوب مسح أعلى الخف، وأنّ مسح أسفله مستحب.
والقول الثاني: وهو الرأي الذي يقابل هذا القول بالنسبة للعلماء من حيث الكثرة هو قول الحنفية
(3)
والحنابلة
(4)
ومن معهم
(5)
، وهم جمعٌ غفيرٌ من العلماء، يرون: الاقتصار على ظاهر الخف، أي: أن الواجب هو مسح أعلى الخف، ولا يُسْتَحبُّ مسحَ أسفله، وسنعرف أدلة كل فريق.
* قوله: (وَشَذَّ أَشْهَبُ، فَقَالَ: إِنَّ الوَاجِبَ مَسْحُ البَاطِنِ، أَوِ الأَعْلَى أَيُّهُمَا مَسَحَ)
(6)
.
قال أشهب: إنَّ الواجب مسحُ الأسفل ويُستحبُّ مسح أعلاه، وعلى كلا الأمرين هو يوجب مسح الأسفل، وهذا يعتبر رأيًا شاذًا، وأنّه لا وجهة له، لكنَّ الصحيحَ أنَّ له وجهةَ نَظَرٍ نُبيّنها إن شاء الله.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ لآثَارِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ،
(1)
تقدم نقل مذهبهم.
(2)
تقدم نقل مذهبهم.
(3)
تقدم نقل مذهبهم.
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (11811) حيث قال: "ويجب مسح أكثر أعلى خف ونحوه كجورب وجرموق
…
دون أسفله، أي: الخف وعقبه، فلا يجزي مسحهما عن مسح ظاهره، بل ولا يسن مسحهما مع مسح ظاهره".
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 105) حيث قال: "وقالت طائفة: يمسح على ظهورهما، روي هذا القول عن قيس بن سعد، وأنس، وبه قال الحسن، وعروة، والنخعي، وعطاء، والشعبي
…
وبه قال
…
والأوزاعي".
(6)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (1/ 99) حيث قال: "وقال سحنون، وابن حبيب: ولو مسح أسفله فقط، أعاد أبدًا، وحكى محمد بن عبد الحكم، أن أشهب قال: يجزئه ذلك".
وَتَشْبِيهُ المَسْحِ بِالغَسْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَثَرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ).
في الحقيقة أنّ المؤلف اقتصر فقط على المحل الذي يُمسح، هل هو أعلى الخف فنقتصر عليه أم أسفله؟ لكنّه لم يُبَينَ لنا كيفية المسح؟ من أين نبدأ وإلى أي حد ننتهي؟ وما هو الشيء الذي نمسح به؟ وهل ذلك متعينٌ باليد بمعنى الأصابع أو يجوز بالكف؟ وهل لو مَسحَ بخِرقَةٍ أو خَشَبةٍ أو مِنشَفةٍ أو غير ذلك هل يجوز أم لا؟
وهذه كلُّها مسائلُ كثيرةٌ جدًّا سنتعرض لها، لأنها ذاتُ أهميةٍ وصلةٍ بالناس، والذي ورد في الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما مسح على ظاهر الخف
(1)
، فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن، واليسرى على خفه الأيسر، ثم بعد ذلك أقبل بهما إلى الساقين أي: إلى آخر محل الفرض، فبدأ من أطراف الأصابع حتى وصل إلى النهاية
(2)
، والحديث فيه كلائم للعلماء، فبعضهم قال: هذا هو الأولى وهو السنَّة.
ولو عكس وبدأ من قِبل الساقِ، أي: من أسفل الساق ووصل إلى الأصابع لجاز ذلك، هذا عند من يقول بالاقتصار على الأعلى
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود (162) وغيره عن علي قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(103).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 170)، والبيهقي في "الكبرى"(1/ 436) عن المغيرة بن شعبة، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم جاء حتى توضأ ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 17) حيث قال: "والمسح على الخفين على ظاهرهما خطوطا بالأصابع يبدأ من رؤوس أصابع الرجل إلى الساق، وفرض ذلك مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 118) حيث قال: "فيضع يديه مفرجتي الأصابع على أطراف أصابع رجليه ثم يمرهما على مشطي قدميه إلى ساقيه هذا صفة المسح المسنون
…
فإن بدأ في المسح من ساقه إلى أصابعه أجزأه".
أما من يرى المسح على الأعلى والأسفل، كما نُقل عن الإمام مالك ورواه في الموطأ من طريق الزهري وأخذ به
(1)
، ونُقل عن عروة: أنه اقتصر على مسح أعلى الخف
(2)
، وهو ممن تأثر بهم الإمام مالك رحمه الله أنه مسح أعلى الخف وأسفله، فجعل إحدى يديه أعلى الخف، والأُخرى أسفله فمسحهما يعني: فمسح أعلى الخف وأسفله، ومالك يرى هذا ويرجِّحه وهو المذهب في هذه المسألة
(3)
.
وهنا يكون سبب الخلاف أمرين:
أولهما: الأحاديث والآثار التي وردت في ذلك.
وثانيهما: قياس المسح على الغَسل.
يعني: هل يقاس مسح الخفين على الغَسل أم لا؟
ولا ننسى أنَّ المسح على الخفين رخصةٌ، وأنه بدل، وأنَّ الأصل في ذلك هو غَسل القدمين، فهل يأخذ البدلُ صفة المُبْدل عنه، أو أنَّ ذلك يختلف؟
سيأتي الجواب على ذلك إن شاء الله.
(1)
أخرجه في "الموطأ"(3811) عن مالك، أنه سأل ابن شهاب عن المسح على الخفين كيف هو؟ فأدخل ابن شهاب "إحدى يديه تحت الخف، والأُخرى فوقه ثم أمرهما"، قال يحيى: قال مالك: "وقول ابن شهاب أحب ما سمعت إلي في ذلك".
(2)
أخرجه في "الموطأ"(1/ 38) عن هشام بن عروة، أنه رأى أباه "يمسح على الخفين". قال: وكان لا يزيد إذا مسح على الخفين، على أن يمسح ظهورهما، ولا يمسح بطونهما.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 146) حيث قال: "وندب وضع يمناه، أي: يده اليمنى على أطراف أصابعه من ظاهر قدمه اليمنى، ووضع يسراه تحتها أي تحت أصابعه من باطن خفه ويمرهما يضم حرف المضارعة؛ لأنه من أمر لكعبيه ويعطف اليسرى على العقب حتى يجاوز الكعب وهو منتهى حد الوضوء".
* قوله: (أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَفِيهِ: "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ [أَعْلَى]
(1)
الخُفِّ وَبَاطِنَهُ"
(2)
).
والرواية المشهورة: (أنه مسح أعلى الخف وأسفله) أي: جمع بينهما.
فهو عليه الصلاة والسلام لم يمسح على الخفّ، إنَّما مسح أعلى الخفِ وباطنه، والأشهر في الروايات:(مسح أعلى الخف وأسفله).
* قوله: (وَالآخَرُ حَدِيتُ عَلِيٍّ: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ، لَكَانَ أَسْفَلُ الخُفِّ أَوْلَى بِالمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ"
(3)
).
وهذا الحديث مما يتمسك به أهل الظاهر في قضية ردِّ القياس، وهي مسألة أصولية، فهم يرون: أنّ القياس مبنيٌّ على الرأي، ولا ينبغي أن تقرر به الأحكام، وهذا سبب ردّهم للقياس
(4)
.
(1)
كذا في نسخة صبيح (1/ 15)، ونسخة دار السلام (1/ 50)، وفي نسخة المعرفة (1/ 19) قال:[على].
(2)
أخرجه أبو داود (165)، والترمذي (97) عن المغيرة بن شعبة، قال:"وضأت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، مسح أعلى الخفين وأسفلهما". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(1/ 54).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
قال ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام"(7/ 53) وما بعدها: ذهب طوائف من المتأخرين من أهل الفتيا إلى القول بالقياس في الدين وذكروا أن مسائل ونوأزل ترد لا ذكر لها في نص كلام الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجمع الناس عليها، قالوا: فننظر إلى ما يشبهها مما ذكر في القرآن أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم الوارد في نظيره في النص والإجماع
…
قال علي: وهذا كلام لا يعقل وهو أشبه بكلام المرورين منه بكلام غيرهم وكله خبط وتخليط ثم لو تحصل منه شيء وهو لا يتحصل لكان دعوى كاذبة بلا برهان.
وهنا ذكر المؤلف حديثين:
الأول: (حَدِيثُ عَلِيٍّ: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْي لَكَانَ أَسْفَلُ الخُفِّ أَوْلَى بِالمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ"
(1)
). لكنّه زاد، وقال: وقد رَأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظاهر خفيه.
إذًا؛ هنا زال الإشكال، وقال: لو كان الدِّين بالرأي، فالذي يظهر للعقل أن الذي يتعرض للأوساخ والنجاسات هو أسفل الخفّ، أما أعلاه فهو مرتقٍ ومرتفعٌ، لكنّه مع ذلك بيَّن لنا أنَّ الدين لا يُؤخذ بالرأي، وإنما يؤخذ من كتاب الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، ويؤخذ عن سنته الصحيحة الصريحة الثابتة
(2)
.
إذًا فدل هذا على أنَّ المسح يكون أعلى الخفين، وهو حديثٌ صحيح
(3)
.
والحديث الآخر: أنّه مَسَحَ أعلى الخف وأسفله، وهو حديث ضعيفٌ
(4)
.
* قوله: (وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ).
وهذه قضية أُخرى لم يتعرض لها المؤلف، وأحيانًا تأتي قضية الترجيحات عند العلماء، فنجد مثلًا: أنه نُقل عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو أحد الذين رووا أحاديث الخفين، في صحيح البخاري
(5)
، ورُوِيَ عن
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
هذه من الأصول المتفق عليها بين الفقهاء، الكتاب والسنة الصحيحة.
قال الغزالي في "المستصفى"(ص: 80): أدلة الأحكام وهي أربعة: الكتاب، والسُّنة، والإجماع، ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي. ويُنظر:"روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 194).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
ابن عمر
(1)
، وعن بعض الصحابة، وعن بعض التابعين
(2)
، المَسح أعلى
الخفِّ وأسفله، ونُقل عن بعض الفقهاء
(3)
: أنّه يقتصر المسح على أعلى
الخفِّ.
إذًا لدينا الآن قولان:
القول الأول: هو قول المالكية والشافعية
(4)
: وهو أنَّ الواجب هو مسح أعلى الخف، وأنه يضاف إلى ذلك مسح أسفله استحبابًا بالنسبة للأسفل.
القول الثاني: قول الحنفية والحنابلة
(5)
: الذين يرون الاقتصار على أعلى الخف دون استحباب أسفله، وقوفًا عند هذا النص وعند غيره من الأحاديث، وإن كان بعضها لا تخلو من مقال في صفة مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وضع أصابعه، وفي أحاديث المغيرة وغيره إن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع يديه على أطراف الأصابع فمسح فقال الراوي: كأني انظر إلى أثر أصابم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين
(6)
.
إذًا حديث عليّ رضي الله عنه نصٌّ صريحٌ في أنَّ المسح يقتصر على أعلى الخف، وهذا دليل لمن قال: بتجاوز ذلك إلى أسفل الخفّ.
ثم يأتون إلى القياس فالذين يقولون بالتعميم يقولون: مسح الخف بدلٌ من الوضوء، والوضوء الذي هو غسل القدمين إنما يُعمَّم فيه ذلك.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 220) قال عطاء: رأيت ابن عمر يمسح عليهما -يعني خفيه- مسحة واحدة بيديه كلتيهما بطونهما وظهورهما، وقد أهراق قبل ذلك الماء فتوضأ هكذا لجنازة دعي إليها.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 219) عن الزهري، أنه قال:"إذا توضأ على خفيه يضع إحدى يديه، فوق الخف، والاخر تحت الخف".
(3)
تقدم نقل مذاهب أهل العلم في ذلك.
(4)
تقدم نقل مذاهبهم في هذه المسألة.
(5)
تقدم نقل مذاهبهم في هذه المسألة.
(6)
تقدم تخريجه.
وهذا يُعترض عليهم، بأنهم لا يرون: مسح العقبين ولا الطرفين، فهناك مواضع لا يمسح فيها في الخفين، بل إنّ الشافعية يرون
(1)
: الواجب أن يُمسحَ على جزء أقل ما يُسمّى بمسح.
ولكن ما هو القدر الذي يُمسح؟ والجواب: هذا محلُّ خلاف بين العلماء.
إذًا الرأي الأول: وجوب المسح على أعلى الخف مع استحباب أسفله، ودليلهم هذا الحديث الضعيف.
ويُضاف إلى ذلك قياس مسح الخفين على الوضوء من حيث التعميم.
والاخرون استدلوا بحديث عليّ رضي الله عنه وقالوا: هو حديث صحيح، وهو نصّ في المُدْعَى فينبغي الوقوف عنده.
ثم يقولون: تلتقي الآراء في أنّ من مسح على بعض الخفّ أجزأه، ولا يَلزم القول بمسح جميعه، فالشافعية يرون
(2)
: أنّ المسح هو أقلُّ ما يطلق عليه مسح، يعني: لو مسح بعض أعلى الخفّ لكفاه هذا، والحنابلة لا يرون
(3)
: أن الواجب في ذلك مسح أكثره، والمالكية يرون
(4)
: تعميم مسح الأعلى، والحنفية
(5)
يحدونه بثلاثة أصابع، وسبب ذلك عند الحنفية:
(1)
سيأتي ذكر مذهبهم فيها.
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 254) حيث قال: "ويكفي مسمى مسح كما في الرأس
…
يحاذي الفرض إلا باطن ما يحاذي الفرض اتفاقًا، وإلا ظاهر ما يحاذي أسفل الرجل وعقبها وهو مؤخر القدم، فلا يكفي مسح ذلك على المذهب؛ لأنه لم يرد الاقتصار عليهما وثبت على الأعلى".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 67) حيث قال: "ويجب مسح أكثر أعلى خف ونحوه كجرموق وجورب، جعلا للأكثر كالكل، ولا يسن استيعابه".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (14611) حيث قال: "ويمرهما بضم حرف المضارعة لأنه من أمر لكعبيه ويعطف اليسرى على العقب حتى يجاوز الكعب وهو منتهى حد الوضوء".
(5)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 17) حيث قال: "وفرض ذلك مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد".
(أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام مسح بأصابعه)
(1)
، ودليلهم: أنّ أقل الجمع ثلاثة.
وهذه مسألة أُخرى مختلف فيها وهي ذات ارتباط وثيق، وهي تقوي مذهب الذين قالوا: بأن الاقتصار على الأعلى هو المطلوب؛ لأنهم متَّفقون جميعًا على أنَّ المسح لا يشمل جميع الخفّ وإنَّما بعضه، لكنَّ بعضهم يضيف إلى ذلك أسفل الخف استحبابًا، وبعضهم يقف عند هذا الحديث.
* قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، حَمَلَ حَدِيثَ المُغِيرَةِ عَلَى الاسْتِحْبَابِ).
وبعترض على هذا ويقال: كيف يُجمع بين حديثين؛ أحدهما: صححه العلماء، والآخر: ضعيفٌ، وحتى الذين يحتجون به يعترفون بضعفه، ويَدْعَمُون هذا بما نُقل عن بعض الصحابة وغيرهم أنه اقتصر على مسح الخف، ومنهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي رواه لنا.
* قوله: (وَحَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَى الوُجُوبِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ).
هذه طريقةٌ حسنة لو كان الحديث الثاني صحيحًا، لقلنا: هذا هو الأحوط، ولو قيل: بأن المسألة فيها خلافٌ، والأخذ بوجوب مسح أعلى الخف واستحباب مسح أسفله خروجٌ من الخلاف، هذا مخرجٌ يقول به بعض العلماء، لكَن بعضهم يقولون: لا، نحن نقف عند النص، فالحديث الذي صحّ هو مسحُ أعلى الخف، وأما مسح أسفله فلم يصحّ فيه شيء، فلماذا نقف عنده؟
أما ما ورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وغيره من الصحابة فقد نقل عنه هذا، ونقل عنه غيره أيضًا
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريج هذه الأحاديث.
* قوله: (وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، أَخَذَ إِمَّا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَإِمَّا بِحَدِيثِ المُغِيرَةِ).
وهذا ترجيح في غير موازنة، لأنك عندما تُرجِّح، فإنَّك تُرجِّح بين حديثين استويا من حيث الصحة والدلالة، وهذه الموازنة غير مستوية؛ لأنك تُرجح بين حديثين؛ أحدهما: صحيحٌ، والآخر: ضعيفٌ، فكيف يأتي الترجيح في مثل هذا المقام.
* قوله: (فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ المُغِيرَةِ عَلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ، رَجَّحَهُ مِنْ قِبَلِ القِيَاسِ، أَعْنِي: قِيَاسَ المَسْحِ عَلَى الغَسْلِ).
وهذا قياس مع الفارق؛ لأنَّنا لو قلنا بالقياس على الوضوء لقلنا: بمسح جميع الخف، فكيف نأخذ جزءًا ونقيسه عليه؟
وحين نقرأ في مذهب الشافعية نجد أنَّ الحنفية والحنابلة يحتجون عليهم فيقولون: لو كان في أسفل الخف نجاسة هل ترون مسحه؟ يقولون: لا.
قالوا: لماذا؟ فيجيبون: هو عرضة لأن يكون في أسفل الخف نجاسة؛ لأنه معرض لذلك، فيقولون: إن كان فيه نجاسة فلا يُمسح عليه
(1)
.
* قوله: (وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيتَ عَلِيِّ رَجَّحَهُ مِنْ قِبَلِ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ أَوْ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ، وَالأَسْعَدُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ هُوَ مَالِكٌ).
ليست القضية قضية أنَّ حديث عليّ رضي الله عنه مخالف للقياس، إنما هذا مسح، والمسح يختلف عن ذلك.
ومن الأدلة العقلية عند الشافعية أنهم
(2)
: يقيسون المسح على الخفين
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 206) حيث قال: "نعم لو كان على الخف نجاسة معفو عنها ومسح من أعلاه ما لا نجاسة عليه صح مسحه، فإن مسح على النجاسة زاد التلويث ولزم حينئذ غسله وغسل يده".
(2)
تقدم ذكر مذهبهم في ذلك.
على مسح الرأس، فهم لا يرون مسح جميع الرأس، وإنما يحددونه بجزء يسير، ويقولون: السنّة هي: استيعاب مسح جميع الرأس، فينبغي أن نمسح أكثر أعلى الخف وأسفله.
*
فائدة:
كلمة (الأَسْعَدُ) مبهمة، ولكن قد يأتي آخر ويقول: والأسعد في ذلك هم الذين وقفوا عند النص وهم الحنفية والحنابلة، لكننا نحن في هذا المقام نقول: لا شك أن المذهب الرابع الذي يظهر لنا رُجحَانه بكل تجرد هو المذهب الذي يقول: بالاقتصار على أعلى الخف.
لكن إذا أراد الإنسان أن يحتاط مثلًا فليأخذ بمسح الأسفل، وليس كلُّ ما يَرِدُ عن بعض الصحابة، من وجهات نظر، وغير ذلك، ينبغي أن يُعمل به " لأنَّنا قد نجد من يخالفه، وقد يرد عن الصحابي في المسألة قولان، ولعلنا قد تحدثنا عن الموالاة، وقلنا: إن حجة الذين يقولون: بأن التفريق في الموالاة لا يُؤثَر في الوضوء، بمعنى: أنَّ الموالاة ليست واجبةً، والذين يقولون بذلك يستدلون: بأثر عبد الله بن عمر، عندما توضأ في السوق فَغَسل وجهه ويديه ومَسح رأسه، ثم دُعِيَ إلى جنازة، ثم دخل المسجد فمضى وقت، فبعد أن جف وضوؤه مسح على خُفّيْه ثم صلى صلاة الجنازة
(1)
، والعلماء لهم تأويلان في هذا:
* فمنهم من يقول: إن ابن عمر نَسِيَ لانشغاله بذاك الأمر.
* ومنهم: من يحمل ذلك على العذر.
وعندما نتحدث عما يتعلق بالخفّ المُخَرَّقِ، نرى أن الشريعة الإسلامية بنيت على التيسير، وهناك فرقٌ بين إنسانٍ يترك الموالاة تَساهلًا
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(3611) وغيره عن نافع، أن عبد الله بن عمر "بال في السوق. ثم توضأ، فغسل وجهه، ولديه، ومسح رأسه". ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد، "فمسح على خفيه، ثم صلى عليها".
أو عبثًا، وبين إنسان يترك الموالاة لانشغاله بأمرٍ هامٍّ كالوضوء، وقد فصلنا الكلام في ذلك.
والأسعد في أي أمرٍ من الأمور هو من يقف عند النصوص، وكلُّ الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم- يقع بينهم اختلافٌ في مسائلَ كثيرة، ولكن يحرصون أشد الحرص في أنّهم يقفون عند النصوص، فقد يظهر لهذا دليلٌ ولا يظهر للآخر، ويتبين لهذا دليل ومفهوم، ما لم يتبين للآخر.
والصحابة -رضوان الله عليهم-، قد اختلف بعضهم في حكم المسحِ على الخفين، وقد فهم بعضهم وهم قلة: أنّ آيةَ المائدة كانت ناسخةَ للمسح على الخفين، فأُشكل ذلك عليهم، ومنهم ابن عباس رضي الله عنه
(1)
، ثم لمّا تبين لهم ذلك الأمر وقفوا عنده ورجعوا إلى الحق، وسنتعرض لسبب اختلاف الصحابة -رضوان الله عليهم- فيما يتعلق بتوقيت المسح، يَمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن والمقيم يومٌ وليلة، فنجد أن المالكية
(2)
ينفردون في هذه المسألة عن الأئمة الأربعة
(3)
، ولهم أدلةٌ عن الصحابة وآثارٌ، والجمهور لهم أدلةٌ وآثارٌ.
ولذلك نقول: الأَوْلى في هذه المسألة هو الوقوف عند النصوص،
(1)
تقدم ذكر هذا والإجابة عليه.
(2)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير وحاشية الصاوي (1/ 154) حيث قال: "ولا حد في مدة المسح فلا يتقيد بيوم وليلة، ولا بأكثر ولا أقل خلافًا لمن ذهب إلى التحديد".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 17) حيث قال: "فإن كان مقيمًا مسح يوما وليلة وإن كان مسافرًا مسح ثلاثة أيام ولياليها وابتداؤها عقيب الحدث".
ومدْهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 251) حيث قال: "في المدة التي يريد المسح لها وهي يوم وليلة للمقيم ونحوه وثلاثة أيام للمسافر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 114) حيث قال: "ويمسح عاص بسفره بعيدا كان أو قريبا يوما وليلة وكذا مسافر دون المسافة؛ لأنه في حكم المقيم، ويمسح مسافر سفر قصر ثلاثة أيام بلياليهن".
وهذا هو الذي يَتَرجَّحُ عندنا، وهو قول القائلين: بالاقتصار على أعلى الخف، لأنّ الحديث الذي ورد في ذلك هو حديث عليّ رضي الله عنه.
وأما دعوى أولئك في حديث عليٍّ رضي الله عنه: أنه لو كان الدِّين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، أنه ليس القصد من ذلك تعيُّن مسح الأعلى، وإنما المراد من ذلك أنه لو كان الدِّين بالرأي
…
، ولكن ما كان الدِّين بالرأي، فينبغي كذلك أن نمسح الأمرين، وهناك تعليلات كثيرة للعلماء، لكن على العموم هذا نصٌّ صريح؛ لأنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما روى الحديث قال: لو كان الدِّين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولم يتوقف عند هذا بل قال: وقد رأيت رسول اللّه مسح على ظاهر الخف.
إذًا بَيَّن أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المَسح اقتصر على ظاهر الخف ولم يتعرض لباطنه.
> قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ الاقْتِصَارَ عَلَى مَسْحِ البَاطِنِ فَقَطْ، فَلَا أَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً).
قوله: (لَا أَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً) والحقيقة أنّ لهم حُجَّتين:
الحجة الأولى: قالوا: أنّ الواجب هو مسح جزء من الخف.
ونرى: أن المتعين هنا إنما هو مسح أسفله؛ لأنه هو الذي يُعرف بالأذى، فعكسوا مفهوم حديث عليّ رضي الله عنه.
الحُجَّة الثانية: قالوا: إن في هذا مجازاةٌ للفرض فوقفوا عنده، وهذا تعليلٌ ضعيفٌ.
قوله: (لِأَنَّهُ لَا هَذَا الأَثَرَ اتَّبَعَ، وَلَا هَذَا القِيَاسَ اسْتَعْمَلَ، أَعْنِي: قِيَاسَ المَسْحِ عَلَى الغَسْلِ).
مسح الخف: هو أن يضع الإنسان يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم يبدأ من أطراف الأصابع فيمسح إلى أن
ينتهي إلى محل الفرض، هذا هو الرأي المشهور وهذه هي السُّنة، ولو عكس ذلك وبدأ من جهة الساق ومسح، فهذا جائز عند عامة العلماء.
ومن الناحية الأُخرى: لو مسح بغير اليد مثلًا بأصبعٍ - واحد، أو بخرقة، أو بخشبة، أو بغير ذلك، هل يجوز؟
والجواب: من العلماء من يُجيز ذلك وهم كثر، وخاصةً الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
على تفصيل عندهم في ذلك، هذا ما يتعلقُ بالمسح.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ).
أولًا: ما هما الجوربان؟
لم يتعرض المؤلف للحديث عن المسح على الجرموقين، والجُرْمُوق: هو الخفّ الذي يُلبس على الخف
(3)
، وقد اصطلح الفقهاء على تسميته خفًّا، والصحيح عند كثير الفقهاء أنهم اصطلحوا عليه لكونه يُلبس على الخف الآخر، وهناك من يقول: هو الجرموق المنعَّل وغير ذلك.
الجورب كما يقول العلماء: هو ما يصنع من صوفٍ أو قُطْنٍ أو كَتَّان
(4)
، ولكن إذا صنع من خِرَقٍ رقيقِةٍ فهذا يرده بعض العلماء
(1)
يُنظر: "البيان في مذهب الشافعي" للعمراني (1/ 165) حيث قال: "وكيفما أتى بالمسح على الخف، أجزأه، سواء كان بيده، أو ببعضها، أو بخشبة، أو بخرقة. وسواء مسح قليلًا أو كثيرًا فإنه يجزئه".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 67) حيث قال: "وحكمه أي مسح الخف بإصبع فأكثر أو بحائل كخرقة وخشبة مبلولتين
…
وتقدم أنه يجزي مسح الواجب كيف فعل وكذا الغسل مع إمرار يده، وكذا إصابة ماء، ولو مسح من ساق الخف إلى أصابعه أجزأ".
(3)
الجرموق: الذي يلبس فوق الخف. انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1454).
(4)
الجورب: أكبر من الخف يبلغ إلى الساق، يقصد به الستر من البرد، يعمل من قطن أو صوف بالإبر، أو يخاط من الخرق. يُنظر:"النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب" لبطال الرَّكْبي (1/ 32).
ولا يعتبره، وبعض العلماء يَعتَدُّ به، ومن العلماء الذين حقَّقوا في هذه المسائل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فله كلام طيب فيما يتعلق بالخفين في كتابه الفتاوى
(1)
.
والجورب يختلف عن الخفِّ؛ لأنَّه يمتد إلى جزءٍ كبير من الساق، وانتشر ذلك في العهد الإسلامي وخاصةً في بلاد الشام فقد كانوا يلبسون الجوارب كثيرًا؛ لأنها تقيهم من شدة البرد.
والجورب يشترط العلماء فيه شرطين إلى جنب الطهارة، الأول: أن يكون صفيقًا، أي: سميكًا لا يشف، ولا يُرى العضو من ورائه
(2)
، والثاني: يمكن متابعة المشي فيه، بمعنى أن الإنسان لا يمسكه ويربطه بنفسه وإنما هو يبقى ثابتًا في نفسه
(3)
.
(1)
يُنظر: "مجموع الفتاوى"(21/ 213) وما بعدها.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 17) حيث قال: "ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير يبين منه مقدار ثلاث أصابع من أصابع الرجل وإن كان أقل من ذلك جاز".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 142) حيث قال: "وستر محل الفرض بذاته لا ما نقص عنه ولو خيط في سراويل لعدم ستره بذاته".
ومذهب الشافعية: يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 205 - 206) حيث قال: "ساترًا محل فرضه وهو القدم بكعبيه من سائر الجوانب لا من الأعلى، فلو رئي القدم من أعلاه كأن كان واسع الرأس لم يضر عكس ساتر العورة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 64) حيث قال: "ولشترط ستر محل فرض وهو ثاني الشروط، فلو ظهر منه شيء وجب الغسل".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (1/ 263 - 264) حيث قال: "والثالث كونه مما يمكن متابعة المشى المعتاد فيه فرسخًا فأكثر، فلم يجز على متخذ من زجاج وخشب أو حديد".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 142) حيث قال: "وأمكن تتابع المشي به".
ومذهب الشافعية: يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 206) حيث قال: "يمكن لقوته اتباع المشي فيه لتردد مسافر لحاجاته عند الحط والترحال وغيرهما مما جرت =
قوله: (وَأَمَّا نَوْعُ مَحَلِّ المَسْحِ فَإِنَّ الفُقَهَاءَ القَائِلِينَ بِالمَسْحِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي المَسْحِ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَمِمَّنْ مَنَعَ ذَلِكَ: مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَة)
(3)
.
نجد هنا أنَّ المالكية والشافعية بجميع آرائهم ينضمون إلى بقية العلماء في جواز المسح على الجوربين، وهذه المسائل يحتاج المقام منا أن ندقق فيها جيدًا.
وهنا الخف يُلبس على طَهارة، وإذا لُبس خُفٌّ على خُفٍّ وكان بعد الحاجة أو قبل الحاجة، وإذا لَبِسَ خُفًّا مُخَرَّمًا على خُفٍّ صحيحٍ، هذه مسائل كثيرة جدًّا تعرض لها العلماء.
ولكن من مزايا هذا الكتاب أنّه ينتقى المسائلَ الأمهات، ليكون الدارس لها عنده القدرة أن يَبني عليها، ويُلْحِق الفروع بهذه الأصول.
فالأصلُ في الجورب أنّه إذا أُطلق لا يَشمل المُنعَّل، لكنه قد يُنعل.
= به العادة، ولو كان لابسه مقعدًا، واختلف في قدر المدة المتردد فيها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 65) حيث قال: "وبشرط إمكان مشي عرفا بممسوح وهو الرابع، لا كونه يمنع نفوذ الماء أو معتادا، فيصح على خف من جلد ولبد وخشب وحديد وزجاج، لا يصف البشرة ونحوه، حيث أمكن المشي فيه".
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (1/ 153) حيث قال: "ومثل الخف الجورب، بفتح الجيم وسكون -الواو- وهو ما كان من قطن أو كتان أو صوف جلد ظاهره، أي: كسي بالجلد بشرطه الآتي. فإن لم يجلد فلا يصح المسح عليه".
(2)
يُنظر: "البيان في مذهب الشافعي" للعمراني (1/ 156) حيث قال: "لا يمسح على جوربين، إلا أن يكون الجوربان مجلدي القدمين إلى الكعبين، حتى يقوم مقام الخف ".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 17 - 18) حيث قال: "ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يكونا منعلين أو مجلدين".
وتحقيق مذهب المالكية أنهم لا يرون المسح على الجوربين إلّا في حالةٍ واحدة وهي: إذا كان الجورب مُنعلًا أي: أسفله من الجلد، وإلّا فلا يجوز المسح عليه، وبذلك يلتقون مع الشافعية في روايتهم الأخرى.
وتحقيق مذهب الشافعية -ليس كما قال المؤلف- أن يربطهم مع مذهب المالكية، فهذا كلام غير مُسَلمٌ به، بل فيه نظر.
فالصحيح في مذهب الشافعية أن الجورب يجوز المسح عليه، إذا كان صفيقًا -يعني متينًا لا يشف البدن- يمكن متابعة المشي فيه
(1)
.
فبعض الشُّرّاب يكون سميكًا، كالشُّرّاب الذي من صوفٍ أو غيره، فيدخل في حكم الجورب، لأنَّه على شكله، إذا كان ماسكًا لا ينزل وأنت ترتديه أي: ماسكًا في محله مستقرًّا، فإذا انطبق هذا عليه، وأمكن متابعة المشي عليه، وبالتأكيد أنّه لا يمشى فيه وحده، فإما يلبس مع جزمة، أو مع حذاء، أو غير ذلك.
وهم بذلك يلتقون مع الحنابلة في مذهبهم
(2)
، والحنابلة يشترطون أن يكون الخف طاهرًا
(3)
، فلا يجوز أن يمسح على خف من جلد كلبٍ أو
(1)
للشافعية تفصيل في هذه المسألة: يُنظر: "البيان في مذهب الشافعي" للعمراني (1/ 156) حيث قال: "قال أصحابنا: والجوارب على ضربين؛ فالأول: منه ما يمكن متابعة المشي عليه، بأن يكون ساترًا لمحل الفرض صفيقًا، ويكون له نعل، فيجوز المسح عليه
…
والثاني: إن كان الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه، مثل: أن لا يكون منعل الأسفل، أو كان منعلًا، لكنه من خرق رقيقة، بحيث إذا مشى فيه تخرق، لم يجز المسح عليه".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 111) حيث قال: "ويصح المسح أيضا على جورب صفيق من صوف أو غيره
…
وإن كان الجورب غير مجلد أو منعل أو كان الجورب من خرق وأمكنت متابعة المشي فيه".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 65) حيث قال: "وبشرط طهارة عينه أي الممسوح وهو السادس، ولو في ضرورة، فلا يصح على نجس العين خفًّا كان أو جبيرة، أو غيرهما".
جلد خنزير، وإذا كان من جلد ميتةٍ ودُبغ فلهم فيه رأي، وإن لم يدبغ ففيه رأي آخر
(1)
، وهذا من المسائل الجزئية.
وهناك شروط مستقرة ينقلها لنا العلماء مسألةً مسألةً، فمن مسائل المسح على الخفين هاتان المسألتان؛ أولًا: الخفّ ينبغي أن يكون ساترًا للفرض، وهذا محل اتفاق بين العلماء؛ لأنه إذا لم يستر الفرض، فكيف يُمسح عليه؟
(2)
.
قوله: (وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ
(3)
، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ)
(4)
.
هذا رأيُ كثيرٍ من العُلماء؛ لأنَّ المسحَ على الجوربين ثبت عنْ تسعةٍ من الصحابة، كما ذكر ذلك ابن المنذر في كتبه المعتبرة
(5)
، إلى جانب الحديث الذي سيذكره المؤلف، وسيأتي أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين
(6)
، ومن هؤلاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 181) حيث قال: "ومنها: طهارة عينه، إن لم تكن ضرورة بلا نزاع، فإن كان ثم ضرورة فيشترط طهارة عينه، على الصحيح من المذهب، فلا يصح المسح على جلد الكلب والخنزير والميتة قبل الدبغ في بلاد الثلوج إذا خشي سقوط أصابعه بخلعه ونحو ذلك، بل يتيمم للرجلين
…
وقيل: لا يشترط إباحته والحالة هذه. فيجزيه المسح عليه".
(2)
تقدم نقل أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 18) حيث قال: "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين لا يشفان الماء".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 117) حيث قال: "إذا كانا صفيقين وبه قال النخعي، وابن جبير، والأعمش، وسفيان، وابن حي، وابن المبارك، وزفر، وإسحاق".
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 115) حيث قال: "اختلف أهل العلم في المسح على الجوربين؛ فقالت طائفة: يمسح على الجوربين، روي إباحة المسح عليهما عن تسعة من أصحاب النبي عليه السلام: علي، وعمار، وأبي مسعود، وأنس، وابن عمر، والبراء بن عازب، وبلال، وأبي أمامة، وسهل بن سعد".
(6)
سيأتي تخريجه.
مسعود رضي الله عنه الذي كان يقول: ما نزلت آية من كتاب الله عز وجل إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيما نزلت، ولو أعلم أنَّ أحدًا أعلم مني بكتاب اللّه تصل إليه أكباد الإبل لركبتها إليه
(1)
.
ونُقل كذلك عن البراء
(2)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
(3)
، وعبد الله بن عمر من أكثر الصحابة متابعةً لآثار الرسول- عليه الصلاة والسلام واقتفائه وتتبع هديه، ونُقل ذلك عن سهل بن سعد
(4)
، وعمار
(5)
، وبلال
(6)
، وعن أبي أمامة
(7)
رضي الله عنهم، ونُقل عن تسعة من الصحابة أنّهم مسحوا على الجوربين، وعددٍ كبير من التابعين
(8)
، وهذا مذهب
(1)
أخرجه البخاري (5002)، ومسلم (2463/ 115) عن مسروق، قال: قال عبد الله رضي الله عنه: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب اللّه إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 200 رقم 778)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 172 رقم 1984) عن رجاء بن ربيعة قال: رأيت البراء بن عازب "يمسح على جوربيه ونعليه".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 201 رقم 782)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 173 رقم 1994) عن يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقول: "المسح على الجوربين كالمسح على الخفين".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 173 رقم 1990) وغيره عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، "أنه مسح على الجوربين".
(5)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 117) عن مطرف، قال: دخلت على عمار فرأيته يتوضأ ويمسح على الجوربين.
(6)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 116) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: رأيت بلالًا قضى حاجته، ثم توضأ ومسح على جوربيه وخماره.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 721 رقم 1979) وغيره عن أبي غالب، قال:"رأيت أبا أمامة، يمسح على الجوربين".
(8)
منهم: إبراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، والحسن، والضحاك، وسعيد بن جبير، وعطاء.
فأخرج عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 199) وغيره عن إبراهيم النخعي قال: "بال ونحن عنده، فمسح على جوربيه ونعليه، ثم صلى". =
الإمام أحمد رحمه الله
(1)
.
والمؤلف لم يتعرض له كما ذكرت، وَبنَى كتابه على رواية المذاهب على كتاب:"الاستذكار" لابن عبد البر، ولا يُفهم من هذا أنّ ابنَ عبد البرِّ كان لا يرى أنَّ الإمام أحمد رحمه الله من الفقهاء؛ لأنّه لم يذكره في كتابه:"الانتقاء"، ولكن حين ننظر في كتابه:"الاستذكار"، نجد أنه كثيرًا ما يذكر رأي الإمام أحمد رحمه الله ويعده من الفقهاء وليس من المحدثين فقط، وكذلك المؤلف هو متابع له.
هذا هو قول: إسحاق
(2)
وابن المنذر
(3)
، إلى جانب أنه قول: الإمام أحمد، وكذلك قول: صاحبا أبي حنيفة رَحِمهُما اللهُ
(4)
، ورأيهما كرأي الإمام أحمد رحمه الله في المسح على الجوربين.
وبالتحقيق في قول أبي حنيفة رحمه الله أن له روايتان:
الرواية الأولى: بالمنع مطلقًا
(5)
.
= وابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 171) وغيره عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، والحسن أنهما قالا:"يمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين".
وابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 172) عن الضحاك، أنه كان يقول في المسح على الجوربين:"لا بأس به".
مصنف ابن أبي شيبة (1/ 173) عن فرات، قال:"رأيت سعيد بن جبير، توضأ ومسح على الجوربين والنعلين".
وابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 173) وغيره عن عطاء، قال:"المسح على الجوربين بمنزلة المسح على الخفين".
(1)
تقدم ذكر مذهبه قريبًا.
(2)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق" للكوسج (2/ 287) قلت: يمسح على الجوربين بغير نعلين؟
…
قال إسحاق: شديدًا. ويُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 117).
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 115 - 119).
(4)
تقدم نقل قولهما في هذه المسألة.
(5)
تقدم نقل هذا القول قريبًا.
والرواية الثانية: أنّه أجاز المسح على الجوربين
(1)
.
وقد ثبت أنّ أبا حنيفة رحمه الله تحيَّر زمنًا في المسح على الخفين، فلمَّا تجمعتْ لديه الأدلَّة وتكاثرت ونُقلتْ النصوص واستقرت عنده، وأصَبَحَ منَ الأمور الظَّاهرة البيِّنة المستفيضةِ المشتهرةِ قال: ما قلت بالمسح على الخُفَّين إلا عندما صار عندي كضوء النهار
(2)
، وفي رواية: أضوأ من الشمس.
قوله: (وَمِمَّنْ مَنَعَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ)، وقد حققنا قول الشافعي، وبينَّا أنَّ أبا حنيفة له قولان المشهور منهما عنه أنّه قال: بالمنع وَأَخَذَه المؤلف، ولكن نُقِل عنه أنّه رجع عن ذلك، وقال: بالإباحة، وهو قول صاحبيه
(3)
.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي صِحَّةِ الآثَارِ الوَارِدَةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ)
(4)
.
بعض العلماء يقف عند هذا ويقول: المسح على الجوربين والنعلين، يقصد أنّهما مجتمعان، لكي يفهم الذين قالوا: بعدم جواز المسح على الجوربين، يقولون: في الحديث (أنّه مسح على الجوربين والنعلين) بمعنى: أنهما مجتمعان، ونحن لا نعارض المسح على الجورب المنعل.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع " للكاساني (1/ 10) حيث قال: "وروي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه، ثم قال لعواده: "فعلت ما كنت أمنع الناس عنه".
(2)
وفي "البحر الرائق شرح كنز الرقائق"(1/ 173): قال أبو حنيفة: ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار وعنه أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين؛ لأن الآثار التي جاءت فيه فى حيز التواتر.
(3)
تقدم نقل كل هذه الأقوال.
(4)
أخرجه أبو داود (159)، والترمذي (99) عن المغيرة بن شعبة، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين، والنعلين". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(101).
قوله: (وَاخْتِلَافُهُمْ أيضًا فِي: هَلْ يُقَاسُ عَلَى الخُفِّ غَيْرُهُ، أَمْ هِيَ عِبَادَةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَلَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَلُّهَا؟ فَمَنْ لَمْ يَصحَّ عِنْدَهُ الحَدِيثُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَمْ يَرَ القِيَاسَ عَلَى الخُفِّ، قَصَرَ المَسْحَ عَلَيْهِ، وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ الأَثَرُ، أَوْ جَوَّزَ القِيَاسَ عَلَى الخُفِّ، أَجَازَ المَسْحَ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ، وَهَذَا الأثَرُ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ (أَعْنِي البُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا)، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
، وَلتَرَدُّدِ الجَوْرَبَيْنِ المُجَلَّدَيْنِ بَيْنَ الخُفِّ وَالجَوْرَبِ غَيْرِ المُجَلَّدِ عَنْ مَالِكٍ فِي المَسْحِ عَلَيْهِمَا رِوَايَتَان؛ إِحْدَاهُمَا: بِالمَنْعِ، وَالأُخْرَى: بِالجَوَازِ).
هذا أيضًا هو قول الشافعية، لأن الشافعية لهم قول واحدٌ في هذه المسألة وهو: الجواز
(2)
، وهذا لا خلاف فيه، إلّا الرواية التي أشار إليها عند المالكية، أما عند عامة العلماء، فإنه يجوز المسح على الجورب المنعَّل؛ لأنَّ السبب في ذلك قول الذين منعوا المسح على الجوربين يقولون: إن الحديث في سنده مقال.
والذين مسحوا وجوّزوا ذلك صححوا الحديث، وممن صححه الترمذي
(3)
، وسيذكر المؤلف أمرًا آخر وهو قضية أنّه ساتر أم لا.
ومن العلماء من أجاز المسح على الخِرَقِ، بمعنى: لوْ لَفَّ الإنسان على رجليه خِرَقًا وثبتت على قدميه وسترت محل الفرض، ويُسَمُّونها:
(1)
يُنظر: سنن الترمذي (1/ 167) حيث قال: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
تقدم نقل قولهم في هذه المسألة.
(3)
ففي سنن الترمذي ح 99 (عن المغيرة بن شعبة، قال: (توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين). هذا حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، قالوا: يمسح على الجوربين وإن لم تكن نعلين إذا كانا ثخينين).
باللفَائفِ والخِرَق جاز ذلك
(1)
، ومن العلماء من يمنع ذلك
(2)
.
وبعضهم ممن تعمق في هذه المسائل ودقَّق في روح الشريعة الإسلامية، وَتَبَّين له أنّ الغرض من المسح على الخفين هو الرخصة، وَما شُرِعَت الرخصة إلّا لسبب، وهو الحاجة الموجودةُ عند الناس، فالقصد هو: التخفيف على الناس والتيسير، وما دام محل الفرض قد غطي واستقر فلماذا يُمْنَعُ المسح.
قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا صِفَةُ الخُفِّ).
المؤلف أراد أن يُبيِّن الأحاديث الكثيرة التى ثبتت عن الرسول عليه الصلاة والسلام:
(1)
وهو قول للشافعية، ومذهب الحنابلة.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 209) حيث قال: "ويجوز مشقوق قدم شد بالشرج، وهي العرى بحيث لا يظهر شيء من محل الفرض إذا مشى، أي: فيكفي المسح عليه في الأصح؛ لحصول الستر وتيسر المشي فيه. والثاني: لا يجوز فلا يكفي المسح عليه كما لو لف على قدمه قطعة أدم وأحكمها بالشد فإنه لا يمسح عليها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 64) حيث قال: " (ولو كان الستر بمخرق أو مفتق ولنضم بلبسه فلا يشترط في الساتر كونه صحيحا، أو كان القدم يبدو بعضه من الملبوس لولا شده، أي: ربطه أو شرجه
…
كالزربول له ساق وعرى يدخل بعضها في بعض، فيستر محل الفرض. فيصح المسح عليه".
(2)
وهو مذهب الحنفية والمالكية وهو الأصح عند الشافعية:
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 17) حيث قال: "ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير يبين منه مقدار ثلاث أصابع من أصابع الرجل وإن كان أقل من ذلك جاز".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 143) حيث قال: "ولا يمسح مخرق أي مقطع قدر ثلث القدم فأكثر ولو التصق بحيث لم يظهر منه القدم، ولا عبرة بتقطيع ما فوق الكعب من ساق الخف، ولو كثر هذا إذا كان الخرق قدر الثلث مع يقين، بل وإن كان بشك في أن الخرق قدر الثلث أو لا فلا يمسح
…
بل يمسح دونه أي دون الثلث إن التصق بعضه ببعض عند المشي وعدمه كالشق".
- إما عن طريق الأمر.
- أو عن طريق الترخيص.
- أو عن طريق فعلِهِ عليه الصلاة والسلام أنَّه مسح، وكذلك الآثار الموقوفة على الصحابة- رضوان الله عليهم- كلُّها ذكرت الخفين وأطلقت.
فهل ورد فيها صفةٌ معينَّة للخفّ، كأن يكون خفًّا سليمًا، أو جديدًا، أو ليس به خرق، ولا فيه فتق، ولا شقٌّ، وإن كان فيه شقٌّ ويمكن ضمه فهل يتجاوز عنه؟ وإن كان فيه شقٌّ فهل هناك فرقٌ بين القليل وبين الفاحش.
أمَّا الأحاديث فقد جاءت بالمسح على الخفين وسكتت، ولم تبين، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما سئل في الحج ما يلبس المحرم، بيّن أنه لا يلبس القُمُصَ ولا العمائمَ ولا السراويلاتِ ولا الخفافَ ولا البرانسَ، ثم قال:"فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين"
(1)
.
هناك من العلماءِ من يقول: بأن الخفّ إذا أُطلق ينصرف إلى العهد، لكننَّا نقول: والمعهود هو الخفّ السليم، هكذا بعضهم يُعلَل، لكننا نعود وننقد هذا الرأي ونقول: ولكن المسح على الخفين إنما هو رخصة، والرخصة بُنِيَتْ على التيسير، والتيسير يقتضي ألا يكون الأمر كذلك، بل إننا نجد أنَّ من الثياب ما يكون فيها خرقٌ يسيرٌ، وفيها شق، وقد كانوا يتسامحون في مثل ذلك.
قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ المَسْحِ عَلَى الخُفِّ الصَّحِيحِ)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (134)، ومسلم (1177).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 89)؛ حيث قال: "واتفق العلماء على جواز المسح على الخفين".
يُقصَد بالخفِّ الصحيح: الذي لا توجد فيه خروقٌ، ولا شقوقٌ في أي جهةٍ من جهاته.
واعلمْ أنَّ الذين منعوا المسح على الخفّ المخرَّق يقولون: إذا تخرّق الخفّ ظهرت بعض أجزاء القدم، فيوجد لدينا في هذا المقام أصلٌ وبدلٌ، هذا الذي ظهر من القدم فرضُه الغسل، والذي هو مغطّى فرضُه المسح، فكأننا في هذا المقام نجمع بين الأصل والبدل وهذا لا يجوز، وهذه هي أقوى حجة للذين منعوا المسح على الخفِّ المخرَّق، هذا تعليلهم، وهو غير مُسلَّم؛ لأنَّ الخفَّ لا يُمسح جميعُه حتى يقال هذا الكلام.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي المُخَرَّقِ).
وسترى -أيها القارئ- في دراستنا لهذا الكتاب أننا لا ننظر إلى المذهب ولا إلى صاحبه، ولكننا دائمًا ندور مع النصوص أينما ذهبت، فمتى ما وجدنا أنَّ النَّص صحيح وصريح أخذنا به، وقد لا نجدُ نصًّا في المسألة، لكنَّنا نجد أنَّ رأي هذا المذهب يلتقي مع روح الشريعة الإسلامية وسماحتها وعدالتها، ومع رفع الحرج فيها، تجد أننا نميل إليه، وستجدون أننا نتجه إلى مذهب المالكية والحنفية في هذه المسألة، وإن كنَّا نأخذ على الحنفية أنَّهم حدَّدوا ذلك، لكننا سنأخذ بهذا الرأي في قضية التجاوز في الخرق اليسير.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
(1)
: يَمْسَحُ عَلَيْهِ إِذَا كانَ الخَرْقُ يَسِيرًا).
لا شكَّ أن هذا القول قول بديعٌ، وأنه يلتقي مع روح الشريعة الإسلامية، وما فيها من سماحةٍ وتيسيرٍ، وهذا القول قال به الإمام مالك
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 143)، حيث قال:" (و) لا يمسح (مخرق)، أي: مقطع: الخف المقطع لا يمسح عليه إذا انقطع منه ثلث القدم سواء كان القطع منفتحا أو كان ملتصقًا فإن كان القطع أقل من ثلث القدم مسح إن كان ملتصقًا أو كان منفتحًا صغيرًا لا إن كان كبيرًا".
بعد أن فكَّر فيه ودرسه وطبَّقه على أصول هذه الشريعة، بل سترون أننا سنحتجُّ على الشافعية والحنابلة بأن أصول مذهبهم ينبغي أن تلتقي مع هذا القول، وأرجو لو فصَّلنا القول في هذه المسألة، فهي مسألة جوهرية ومهمة، ولها علاقةٌ وثيقةٌ بربط هذه الأقوال بروحِ الشَّريعةِ الإسلاميةِ.
> قوله: (وَحَدَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا يَكُونُ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابعَ)
(1)
.
هنا يأتي المأخذ على مذهب أبي حنيفة أنه حدَّد ذلك، دالا فهو على القول بالتجاوز عن اليسير مع الإمام مالكٍ، ولكنَّه حدَّده بما يكون الظاهر منه أقلَّ من ثلاثة أصابع؛ على أساس أنه ورد المسح بالأصابع، وكما ذكرنا أن المسح بخمسة أصابع، وأنَّ أقلَّ الجمع يطلق على ثلاثةٍ، فدار كلامُ أبي حنيفة حول هذه المسألة، وهذا التعريف.
> قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ بِجَوَازِ المَسْحِ عَلَى الخُفِّ المُنْخَرِقِ مَا دَامَ يُسَمَّى خُفًّا، وَإِنْ تَفَاحَشَ خَرْقُهُ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ)
(2)
.
قالوا بجواز المسح مطلقًا، فهذا الخف إذا تشقق من عدة جوانب وبقي ماسكًا للخف، نرجع إلى الأصل في لغة العرب، فهل يُسمّى هذا الخف خفّا أو لا يسمى؟ فإن كان العرب لا يسمونه خفًّا انتهى الأمر، وإن كان لا يزال اسم الخُفِّ يُطلق عليه فينبغي أن نمسَحَ عليه، لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام مسح على الخفَّين، ورخَّص في المسح عليهما، ولم يمنعْ من المسح على الخفِّ المخرَّقِّ.
(1)
يُنظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(1/ 262)؛ حيث قال: "شرط مسحه" ثلاثة أمور: الأول (كونه ساتر) محل فرض الغسل (القدم مع الكعب) أو يكون نقصانه أقل من الخرق المانع، فيجوز على الزربول لو مشدودًا إلا أن يظهر قدر ثلاثة أصابع".
(2)
أخرج عبد الرزاق في: "مصنفه"(1/ 194): قال الثوري: "امسح عليها ما تعلقت به رجلك، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة مرقعة".
> قوله: (وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَدَّمِ الخُفِّ خَرْقٌ يَظْهَرُ مِنْهُ القَدَمُ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ عَنْهُ)
(1)
.
الشافعي وأحمد
(2)
مذهبهما متقاربٌ في هذه المسألة، وهو أنهما يريان: عدم جواز المسح على الخفِّ المخرَّق، وأقوى دليل لهم في ذلك:
هو أنه لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولا يجمع بين الأصل وبين الفرع.
قالوا: فالأصل هو الغسل، وغير الأصل الذي هو البدل إنما هو المسح، فيقولون: إذا وُجد مثلًا ظهور بعض القدم فهذا الظاهر يجب أن يُغسل، والمستتر يمسح، فكأننا بذلك نجمع بين الأمرين.
إذًا ينبغي أن نخلع الخف وأن نغسل القدم ويزولَ المسح هنا لتعذره، أو لزوال سببِهِ، وهو عدمُ استتارُ القدم.
> قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي انْتِقَالِ الفَرْضِ
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 206)؛ حيث قال: "أن يكون كل منهما (ساترا محل فرضه) وهو القدم بكعبيه من سائر الجوانب لا من الأعلى، فلو رئي القدم من أعلاه كأن كان واسع الرأس يضر عكس ساتر العورة فإنه من الأعلى والجوانب لا من الأسفل؛ لأن القميص في ستر العورة يتخذ لستر أعلى البدن، والخف يتخذ لستر أسفل الرجل، فإن قصر عن محل الفرض أو كان به تخرق في محل الفرض ضر، ولو تخرقت البطانة بكسر الباء أو الظهارة بكسر الظاء والباقي صفيق لم يضر وإلا ضر، ولو تخرقتا من موضعين غير متحاذيين لم يضر. والمراد بالستر هنا الحيلولة لا ما يمنع الرفلة، فيكفي الشفاف عكس ساتر العورة؛ لأن القصد هنا منع نفوذ الماء وثم منع الرؤية".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 117)؛ حيث قال: " (وإن كانا)، أي: الخفان (مخرقين) وليس أحدهما فوق الآخر (وسترا) محل الفرض (لم يجز المسح) عليهما ولا على أحدهما؛ لأن كل واحد منهما غير صالح للمسح على انفراده كما لو لبس مخرقًا فوق لفافة".
مِنَ الغَسْلِ إِلَى المَسْحِ هَلْ هُوَ لِمَوْضِعِ السِّتْرِ (أَعْنِي سِتْرَ خُفِّ القَدَمَيْنِ)، أَمْ هُوَ لِمَوْضِعِ المَشَقَّةِ فِي نَوْعِ الخُفَّيْنِ؟).
سبب اختلاف الفقهاء في ذلك: هل المسح على الخفِّ وضع لستر القدم الذي يستره الخفان، لأن القدم لا يُستر إلا إذ! كان الخفان سليمين، أما إذا كان الخفان غيرَ سليمين فلا يستتر، فهل المقصود هنا هو قضية أنه جاز المسح ورُخّص تخفيفًا لأنَّنا سترنا القدم، أو أنَّ العلة أكبر من ذلك وأسمى وأبعد، ألا وهو التخفيف على الناس، وإذا كانت القضيةُ قضيةَ التَّخفيف فلا ينبغي أن يفرّق بين خف فيه خرق يسير وبين خفٍّ صحيح؛ لأنَّ القصدَ هو التيسير على الناس والتسامح؛ لأنَّ هذه الشريعة فيها سماحةٌ ويسرٌ، وهذا يلتقي مع أهداف وأصول هذه الشريعة.
قوله: (فَمَنْ رَآهُ لِمَوْضِعِ السِّتْرِ لَمْ يُجِزِ المَسْحَ عَلَى الخُفِّ المُنْخَرِقِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْكَشَفَ مِنَ القَدَمِ شَيْءٌ، انْتَقَلَ فَرْضُهَا مِنَ المَسْحِ إِلَى الغَسْلِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ العِلَّةَ فِي ذَلِكَ المَشَقَّةُ، لَمْ يَعْتَبِرِ الخَرْقَ مَا دَامَ يُسَمَّى خُفًّا).
ولذلك ذُكر عن بعض العلماء أنهم قالوا: وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار تخلو من خروق؟
فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يضربون في الأرض، فمنهم من كان يجاهد لقتال الأعداء، ومنهم من كان يشتغل في أرضه، ومنهم من كان يجاهد للدعوةٍ في سبيل الله، وإما لخدمة هذا الدين، ولا شكَّ أنَّ هذه الخفاف تمرُّ بالحجارة والصخور والطرق الوعرة وغير الوعرة، وبالشوك وغير ذلك، ويندر أن تسلم هذه الخفاف، وقد عرفنا ما كان من أحوال الصحابة رضوان الله عليهم، وما هو حال كثير منهم من قلة المال، ولكن كانت لديهم العزيمة التي استقرت في نفوسهم واستنارت بها بصيرتهم، ولا شكَّ أنَّ الله سبحانه وتعالى قد وهبهم الإخلاص، ذلكم النور العظيم الذي إذا أُلقي في قلب عبد مسلم فأنار له طريق الخير والرشاد، وهكذا
كان الصحابة رضوان الله عليهم في نفس هذا المنهج، إذًا لم تكن أمور الدنيا تشغلهم كثيرًا.
ولهذا نجد أنَّ الذين قالوا بجواز المسح على الخفّ المخرَّق إنَّما أخذوا ذلك من لبّ هذه الشريعة وأصولها.
وقد بيَّنا سابقًا: أنَّ أصولَ المذهبين -الشافعي والحنبلي- عندما يُدقّق فيهما نجد أنها يلتقيان في الحقيقة مع قول المالكية والحنفية، لأنَّ هذين المذهبين بُنِيا على التيسير والتخفيف.
قوله: (وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الخَرْقِ الكَثِيرِ وَاليَسِيرِ، فَاسْتِحْسَانٌ وَرَفْعٌ لِلْحَرَجِ).
هذه قضيةٌ أُخرى: وهي الفرق بين الخرق اليسير والكثير، وفي العادة أنَّ العلماء يقولون: اليسير يُتسامح به، فالنجاسات مثلًا مع أهميتها ووجوب التنزُّه منها والتأكيد على ذلك، نجد أنَّ هناك ما يُعفى عنه من قليل النجاسات، كذلك فيما يتعلق بستر العورة قد يبدو من عورة الإنسان شيءٌ قليل فيُعفى عنه، إلى غير ذلك ممَّا تعمُّ به البلوى كما ذكرنا.
قوله: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
(1)
: كَانَتْ خِفَافُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لَا تَسْلَمُ مِنَ الخُرُوقِ كَخِفَافِ النَّاسِ).
هذا كلامٌ صحيح، والإمام الثوري: هو إمام من كبار الأئمة، يقول: إنَّ خفاف المهاجرين والأنصار من الصحابة رضي الله عنهم، لا تخلو من الخروق؛ لأنَّهم يقطعون الفيافي والقفار، ويركبون السَّهل والوعر، ويشتغلون في الأسواق وفي المزارع، إلى غير ذلك من الأمور، فمن يضمن أن تكون خفافهم سليمةً، لا سيما وأنَّ الإنسان يُسافر ولا يوجد معه ما يستطيع أن يرقع به ذلك الخفّ في الغالب، إذًا هذه أمور لا تسلم، ولكن قلنا: الرأي الوسط هو أن يُعفى عن اليسير دون الكثير.
(1)
سبق تخريجه.
قوله: (فَلَوْ كانَ فِي ذَلِكَ حَظْرٌ لَوَرَدَ وَنُقِلَ عَنْهُمْ).
الذين يقولون بالتيسير، يقولون: لو كانَ المسح على الخفّ المخرَّق لا يجوز لبيَّنه الرسول- عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، لكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبيِّنه وأطلق الأحاديث، فدلَّ ذلك على أنه أمرٌ معفوٌّ عنه، وهو قول يلتقي مع أصول هذه الشريعةِ وقواعدِها.
قوله: (قُلْتُ: هَذ المَسْأَلَةُ هِيَ مَسْكُوتٌ عَنْهَا، فَلَوْ كَانَ فِيهَا حُكْمٌ مَعَ عُمُومِ الابْتِلَاءِ بِهِ لَبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]).
هذه من التعليقات الجيّدة التي يذكرها ابن رشد رحمه الله، يقول: هذا أمرٌ تعمُّ به البلوى، فالناس يلبسون الخفاف، ويكثر لبسها في الشتاء، فلو كان هناك حظرٌ أو منعٌ لبُيّن في هذا المقام، لكنه سُكِتَ عنه، فينبغي أن يُطلق الأمر في ذلك.
وليس هناك شكّ في ذلك؛ لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام هو المأمور بالبيان، والله تعالى يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، والرسول عليه الصلاة والسلام أطلق فلماذا نقيده ونضيق على الناس ونحرجهم.
قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَأَمَّا التَّوْقِيتُ).
توقيتُ مدَّة المسح على الخفين.
يقصد بالتوقيت: هل للمسح على الخفين وقتٌ محدَّدٌ، وهل يختلف في ذلك المسافر عن الحاضر أو لا؟
للعلماءِ قولين في ذلك:
- فمنهم من يُطلق ويقول: لا قيدَ في ذلك، ولهم أدلَّة.
- وهناك آخرون يقولون: بل إنَّ ذلك مقيدٌ، وهو يختلفُ من الحاضر إلى المسافر؛ لأنه لمَّا كانت حالةُ المسافر تستدعي التخفيف أكثر خُفّف عنه في ذلك، وأعطيَ مسافةً أكثر، ولما كانت حالة الحاضر تقتضي أن يكون التخفيف أقل كان الذى قُدِّر له أقل من المسافر.
قوله: (فَإِنَّ الفُقَهَاءَ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَرَأَى مَالِكٌ)
(1)
.
المؤلف لأنَّه مالكيُّ المذهب عادةً يبدأ بمذهب مالك، ولا ضير في هذا، ولكن قد جرت عادة الفقهاء أنهم يقدِّمون الأئمةَ حسب الترتيب الزمني، فعادةً يُذكر أبو حنيفة ثم مالك ثم الشافعي ثم أحمد، وهذا لا ضير فيه بأننا نقدم هؤلاء حسب الزمن، فهذا أولهم، ثم يليه الإمام مالك، وهكذا.
قوله: (أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَأَنَّ لَابِسَ الخُفَّيْنِ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يَنْزِعْهُمَا أَوْ تُصِبْهُ جَنَابَةٌ).
المؤلف أجمل القول ولم يفصِّل، لأنَّ الكتاب مجملٌ، وإلا فمذهب مالك فيه أقوال ثلاثة، وإن كانَ أشهرها وأصحُّها عندهم هو القول الذي ذكر: أنه لا توقيت في المسح على الخفين، أي: أنَّ المسح على الخفين مُطلقٌ، فمتى ما لبس الإنسان خفيه على طهارة وظلَّا في قدميه، فإنه يمسح عليهما إلى ما شاء الله، سواءٌ كان حاضرًا أو مسافرًا، هذا هو الرأي المشهور، وهو الذي وقف عنده المؤلف وذكره.
القول الثاني: أنَّ المسح على الخفين مؤقتٌ، وبهذه الرواية انضم إلى عامة العلماء.
القول الثالث: التفريق بين الحاضر والمسافر، فهو مؤقتٌ في حقِّ
(1)
يُنظر: "عيون الأدلة" لابن القصار المالكي (3/ 1259)؛ حيث قال: "وليس للمسح على الخفين عند مالك رحمه الله حد محدود، لا للمقيم ولا لمسافر، يمسح ما لم ينزعهما أو تصبه جنابة".
الحاضر دودن المسافر؛ لأنَّ المسافرَ يحتاجُ إلى التَّخفيف أكثر من الحاضر، ولذلك أُطْلِقَ في حقِّهِ.
قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مُؤَقَّتٌ).
وذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد
(3)
، ونُقل ذلك عن عددٍ من الصحابة؛ منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأبو زيد الأنصاري، هؤلاء الخمسة من الصحابة نُقِلَ عنهم أنهم قالوا بالتوقيت
(4)
، وسيأتي من أدلة المالكية ومن معهم إلى أنَّ عمر رضي الله عنه قال: بعدم التوقيت، وبذلك يتبيَّن أن لمالكٍ رأيين أو قولين في المسألة، ثم ننظر أي القولين ينبغي أن يؤخذ به.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ).
قد يُفهم من هذا أنَّ الذي ورد في ذلك ثلاثةُ أحاديث، مع أنَّ بعض العلماء ومنهم الإمام الطحاوي وابن حزم ذكرا أنَّ الأحاديث التي وردت في التحديد وصلت إلى حد التواتر، يعني قالوا: بتنوُّع طرقها وتعددها بلغت درجت التواتر، فليست القضية كما ذكر ثلاثة أحاديث، وإنما هي
(1)
يُنظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(1/ 278)؛ حيث قال: " (مسح مقيم) بعد حدثه (فسافر قبل تمام يوم وليلة) فلو بعده نزع (مسح ثلاثًا، ولو أقام مسافر بعد مضي مدة مقيم نزع وإلا أتمها)؛ لأنه صار مقيمًا".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 199، 200)؛ حيث قال: "كل سفر يمتنع فيه القصر (يومًا وليلة) فيستبيح بالمسح ما يستبيحه بالوضوء في هذه المدة، (وللمسافر) سفر قصر (ثلاثة) من الأيام (بلياليها) ".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 114)؛ حيث قال: (و) يمسح (عاص بسفره) بعيدًا كان أو قريبا (يومًا وليلة) وكذا مسافر دون المسافة؛ لأنه في حكم المقيم. (و) يمسح (مسافر سفر قصر ثلاثة أيام بلياليهن) ".
(4)
يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 421)؛ حيث قال: "وقد روينا عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس التوقيت وقولهم يوافق السنة التي هي أشهر وأكثر والأصل وجوب غسل الرجلين فالمصير إليه أولى وبالله التوفيق".
أحاديثٌ كثيرةٌ، وحتى الذين قالوا: بأنَّ المسحَ غير مؤقت أدلتهم أكثر مما ذكر المؤلف، فليست أدلة ثلاثة فقط، لكن قد يكون هذا هو الذي وقف عليه المؤلف، أو ربما هو أراد أن يقتصر على هذه الأحاديث، لكنَّ مفهوم كلامه يفهم منه أن الذي ورد في المسألة هي الأحاديث الثلاثة فقط، والأمر على خلاف ذلك.
قوله: (أَحَدُهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ "، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ"
(1)
).
هذا الحديث هو دليل للذين يقولون بالتوقيت.
قوله: (وَالثَّانِي: حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَأَمْسَحُ عَلَى الخُفِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَوْمَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَثَلَاثَةً؟ قَالَ: نَعَمْ حَتَّى بَلَغَ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَ: امْسَحْ مَا بَدَا لَكَ"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّحَاوِيُّ)
(2)
.
هذا هو الدليل الثاني للذين يقولون بعدم التوقيت؛ لأنه قال: "امْسَحْ مَا بَدَا لَكَ"، وهذا دليلٌ يقابل الحديث الأول.
قوله: (الثَّالِثُ: حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: "كُنَّا فِي سَفَرٍ، فَأُمِرْنَا أَلَّا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ نَوْمٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ غَائِطٍ"
(3)
).
وهذا الحديث حجة للذين قالوا بالتوقيت.
(1)
أخرجه مسلم (276).
(2)
أخرجه أبو داود (158)، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف، وأخرجه الطحاوي في:"شرح معاني الآثار"(495).
(3)
أخرجه الترمذي (96)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح".
ومن الأدلة التي يستدل بها القائلون بعدم التوقيت حديث أنس رضي الله عنه، وفيه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، وَلْيَمْسَحْ عَلَيْهَا، ثُمَّ لَا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ"
(1)
؛ أي: لا تخلع إلا من جنابة.
قالوا: وهو نصٌّ في عدم التوقيت؛ لأنَّ الرسول- عليه الصلاة والسلام بعد أن قال: وليمسحْ على خفَّيه، قال: ثم إنْ شاء أن لَّا يخلعهما إلا من جنابة فليفعل.
وهذا الحديثُ؛ - أعني: حديثَ أنسٍ - حديث ضعيف.
وهذه الأدلة قد أجملها المؤلِّف، وإلا فهي كثيرةٌ جدًّا، وقد استقصاها الطحاوي في كتابه:"شرح معاني الآثار"، وابنُ حزمِ في كِتابه:"المحلَّى بالآثار"، وكذلك الذي حقق وخرَّج أحاديث "بداية المَجتهد" ذكر منها أدلةً كثيرةً.
قوله: (قُلْتُ: أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ، فَصَحِيحٌ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ).
حديث عليّ الذي رخّص فيه الرسول- عليه الصلاة والسلام المسح على الخفين للمسافر أن يمسحَ ثلاثة أيَّام ولياليهن، وللمقيم أن يمسح يومًا وليلةً، وهو حديثٌ صحيح لَا نزاع ولا إشكال فيه، فقد خرّجه مسلم وغيره، وبعض أصحاب السنن.
قوله: (وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ، فَقَالَ فِيهِ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ قَائِمٌ، وَيذَلِكَ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَارَضَ بِهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ).
حديث أُبَيّ بن عمارة حديثٌ ضعيف، وفي هذا الحديث عدَّةُ عللِ، ولذلك ضعَّفَه العلماء.
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" ح 643، والبيهقي في "السنن الكبرى" ح 1329.
ومع ذلك فإنَّ هذا الحديثَ هو أقوى أدلَّتهم؛ لأنه قال: "امسح ما بدا لك".
قالوا: السائل في هذا المقام سأل عن المسح، ولم يسأل عن التوقيت، فقالوا: هذا أشبه ما يكون بقول الرسول- عليه الصلاة والسلام: "الصعيد الطيِّبُ وضوء المسلم، وإن لم يجد الماءَ عشر سنين"، فهل معنى هذا أنَّ الإنسان إذا تيمَّم يستمر على تيمُّمه عشر سنين إذا لم يجد الماء؟ أو أنَّ القصد أنه يكرر ذلك؟
قالوا: القصد أنَّه يكرر المسح.
قيل: فكذلك القصد هنا: امسح ما شئت؛ يعني: في كل مرة.
قوله: (وَأَمَّا حَدِيتُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْرِجْهُ البُخَارِيُّ وَلَا مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّحَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالحَدِيثِ التِّرْمِذِيُّ
(1)
، وَأَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ حَزْمٍ
(2)
، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ مُعَارِضٌ بِدَلِيلِ الخِطَابِ لِحَدِيثِ أُبَيٍّ كَحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَدِيثَ صَفْوَانَ وَحَدِيثَ عَلِيٍّ خَرَجَا مَخْرَجَ السُّؤَالِ عَنِ التَّوْقِيتِ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ نَصٌّ فِي تَرْكِ التَّوْقِيتِ، لَكِنَّ حَدِيتَ أُبَيٍّ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ).
حديث صفوان: "أمرنا رسول الله
…
"، وهو حديثٌ إسناده صحيحٌ أو حسنٌ.
ومن الذين صحَّحُوا هذا الحديث من الأئمة -كما ذكر المؤلف- الإمام الترمذيُّ وغيره، فهناك من العلماء الذين كتبوا في تصحيح الأحاديث
(1)
سبق.
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 322)؛ حيث قال: "ورويناه أيضًا من طريق معمر وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، كلهم عن عاصم عن زر عن صفوان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله. وهذا نقل تواتر يوجب العلم".
في هذا الوقت وقبل هذا الوقت، من صحَّح هذا الحديث.
ومن الأدلة أيضًا: حديث عوف بن مالك الأشجعيِّ، وقد أخرجه أحمد في مسنده وحسّنه العلماء المختصون بهذا المجال.
كذلك أيضًا رواية حديث خزيمة الأُخرى حسَّنها العلماء.
وبعد بحث المسألة ظهر لنا أنَّ أدلةَ جماهير العلماء صحيحة، وهي صريحةٌ في توقيت المسح.
وأمَّا ما أُثر عن عمر رضي الله عنه، عندما قدم عليه عقبة بن عامر، أنه قال: بتوقيت المسح
(1)
.
يجاب على ذلك:
أنَّ لعمر رضي الله عنه عنه قولان، ولذلك حقّق البيهقي رحمه الله هذه المسألة وقال: إما أن يكون عمر رضي الله عنه لم يبلغه الأمر فرجع إلى القول بتوقيت المسح، وإن قدِّر أنه لم يرجع فقوله الموافق للسنَّة يُقدَّم
(2)
.
وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه كان لا يوقِّت فيه وقتًا
(3)
، وهذا إما لأنه لم يبلغه، أو أنه قول صحابي فلا ينبغي أن نعارض به الأدلة.
قوله: (فَعَلَى هَذَا، يجِبُ العَمَلُ بِحَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَصَفْوَانَ).
هذا كلائم صحيح، وهناك عبارات للفقهاء ينبغي أن ننتبه لها، فأحيانًا
(1)
أخرج البيهقي (1332): عن عقبة بن عامر الجهني، قال: خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة فدخلت على عمر بن الخطاب فقال: "متى أولجت خفيك في رجليك؟ "، قلت: يوم الجمعة قال: "فهل نزعتهما؟ " قلت: لا، قال:"أصبت السنة".
(2)
يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 421)؛ حيث قال: "وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التوقيت فإما أن يكون رجع إليه حين جاءه التثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التوقيت وإما أن يكون قوله الذي يوافق السنة المشهورة أولى".
(3)
أخرج البيهقي (1335): عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان لا يوقت في المسح على الخفين وقتًا".
يقولون: يجب. ويُطلقون هذه العبارة في مواضع السنن، وإن كان المقام ليس فيه الوجوب والتعين، لكنَّها عبارة إذا أُطلقت في هذا المقام فإنَّها تحمل معنى:(ينبغي).
قوله: (وَهُوَ الأَظْهَرُ إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ الخِطَابِ فِيهِمَا يُعَارِضُهُ القِيَاسُ، وَهُوَ كَوْنُ التَّوْقِيتِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ النَّوَاقِضَ هِيَ الأَحْدَاثُ).
لا قياس مع النص، فنحن نأخذ بالقياس، ولكنَّ القياس الذي يُعمل به هو الذي لا يعارض النصوص الصحيحة، وذلك كما ذكر العلماء الذين نصُّوا على ذلك وبيَّنوا أنه يستحيل أن يوجد قياسٌ صحيح يمكن أن يعارض نقلًا صحيحًا، والعلماء دقَّقوا في هذه المسألة ومحَّصوها، فأحيانًا تقرأ في كتب الفقه: الإجارة جاءت على خلاف القياس، المضاربة على خلاف القياس، السَّلَم على خلاف القياس، الجعالة على خلاف القياس، وهذه المسألة من أكثر من دقّق فيها ومحَّصها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلاه تلميذه ابن القيم في كتابه العظيم الجليل القدر:"إعلام الموقعين" في مطلع جزء من أجزائه تكلم عن هذه المسألة فذكر كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في: "الفتاوى"، وزاد عليه تعليلاتٍ وفهمًا أضافه إلى فهمِ وبيانِ شيخهِ شيخِ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله.
ولا شكَّ أن تحقيق المقال في هذه المسألة أن قول عامة العلماء هو أقوى من حيث الأدلة، وهو أصرح من حيث الدلالة، وهو القول الراجح في هذه المسألة.
وأمَّا دعوى أنَّ التوقيتَ لا مفهوم له، وأنه لا أثر له في الطهارة؛ لأن الذي يؤثر في الطهارة إنما هو الحدث.
فالجواب عن ذلك: أنَّ الأصلَ في المسح على الخفين أنه رِخصة، والرخصة جاءت بسبب، وهذا السبب هو الحاجة، وهذه الحاجة خُفف عنا فيها في وقت محددٍ، فأُعْطِيَ الحاضرُ يومًا وليلةً، وأُذِنَ للمسافر أنْ يمسحَ
ثلاثةَ أيام بلياليهن، فهذه رخصة وتفضُّلٌ من الله سبحانه وتعالى، وهي صدقةٌ تصدَّق الله بها على عباده، فلا مانعَ أن تكونَ الرخصةُ مقيَّدة، وهذا موجودٌ كثيرًا في أحكام الشريعة الإسلامية، وليس في باب المسح على الخفين فقط.
هذا هو تحرير هذه المسألة، وتحقيق المقام فيها، ولا شكَّ أنَّ الإنسان يأخذ برأي جماهيرِ العلماء وهو مطمئنُّ النَّفس مرتاح الفؤاد.
قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَأَمَّا شَرْطُ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ).
سيدخل المؤلف في أمور مهمةٍ، وهذه الشروط كثيرة ليست هي التي سيذكرها المؤلف فقط، لكنني قلت سابقًا: إنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- يختار مسائلَ واضحةً، ولذلك قال:(أقف عند المسائل التي نَطَقَ بها النص، وما هو قريب من النص).
يعني: المسائل التي تأتي منصوصًا عليها في آيةٍ أو حديث أو قريبة من النص الذي نطق به، ونسميها نحن في القواعد: أصول المسائل أو أمهات المسائل.
ولذلك ذكرت مرارًا أنّ من العلماء من عدَّ كتاب: "بداية المجتهد" من كتب القواعد الفقهية بالمصطلح العام، قد لا نجد أن تعريف القاعدة بالمعنى الدقيق ينطبق عليه، لكن ينطبق عليه من حيث إنَّ أحكامَه كليّة، فهذه الأحكام الكليّة تُلحق بها فروع فمن هنا قالوا ذلك.
قوله: (فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الرِّجْلَان طَاهِرَتَيْنِ بِطُهْرِ الوُضُوءِ، وَذَلِكَ شَيءٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا
(1)
".
نعم؛ وهذا مما أجمع عليه العلماء، وقد ورد في الحديث:"دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" أو: "أدخلتهما طاهرتين".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 207)؛ حيث قال: "لا نعلم في اشتراط تقدم الطهارة لجواز المسح خلافًا".
قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ذَكَرَهُ ابْنُ لُبَابَةَ فِي المُنْتَخَبِ)
(1)
.
ابن القاسم رحمه الله هو أحد تلاميذ الإمام مالك، وهو من العلماء الأجلاء، وهو الواسطة بين الإمام سحنون وبين الإمام مالكٍ؛ لأنَّ "المدونة" التي هي المرجع الأصلي للمالكية في فقههم هي من رواية سحنون عن ابن القاسم عن مالك.
قوله: (وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ الأَكْثَرُ؛ لِثُبُوتِهِ فِي حَدِيثِ المُغِيرَةِ وَغَيْرِهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْزِعَ الخُفَّ عَنْهُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "دَعْهُمَا" فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ")
(2)
.
هنا وقع الخلاف بين العلماء، وهذا هو الفقه، فلا تتصور أنه عندما يحصل خلافٌ في الفهم أن هذا توسيع لرقعة الخلاف، لا، إنما هؤلاء عندما اختلفوا فلأن غايتهم جميعًا أن يصلوا إلى مراد -الرسول عليه الصلاة والسلام أو أن يقتربوا منه.
المراد من قوله: ("أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ") معنى هذا: أنَّ الرجلين عندما أدخلتا في القدمين كانتا طاهرتين، وهذا لا يتم إلا بغسلهما معًا، إلا على قول من يقول: بأنَّ كلَّ عضو يأخذ نصيبه من الطهارة، لكنَّ الطهارةَ لا تكتملُ اكتمالًا صحيحًا إلا بغسلِ آخرِ عضوٍ.
قوله: (وَالمُخَالِفُ حَمَلَ هَذ الطَّهَارَةَ عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ)
(3)
.
(1)
لم أقف عليه.
(2)
أخرجه البخاري (206)، ومسلم (274).
(3)
يُنظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازري (1/ 358)؛ حيث قال: "وسبب الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" هل ذلك محمول على أن الطهارة اللغوية أو الشرعية. وهذا المعنى قد اختلف أهل الأصول فيه، وهو تقدمة الاسم العرفي على اللغوي، أو تقدمة اللغوي على العرفي، والخلاف فيما ذكرنا كالخلاف في قوله: "توضؤوا مما مست النار"، هل يحمل ذلك على الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليد أو على الوضوء الشرعي".
المخالف الذي قال: بأنه لا يُشترط أن يدخلهما معًا، يعني: لو أدخل اليمنى ثم اليسرى لا يضر.
والمراد بالطهارةِ الطهارة اللغويةُ: التي هي النظافة.
قوله: (وَاخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا البَابِ فِيمَنْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَتَمَّ وُضُوءَهُ، هَلْ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟).
هذه مسألة دقيقةٌ لها علاقةٌ بالترتيب، وقد عكسَ المؤلفُ المسألة، فهو أراد أن يأتي بالوضوء غير مرتَّب، فلو أنَّه غسل قدميه ثم أدخلهما في الخفِّ ثم بعد ذلك مسح رأسه، أوً حتى غسل وجهه ثم يديه ثم رأسه هنا لم يُرتِّب.
والترتيب مختلفٌ فيه، فهناك من العلماء من لا يراه، وهناك من العلماء من يرى الترتيب، وهم الشافعية والحنابلة على تفصيل في المذهبين، يعني: ليس هذا قولًا مطلقًا في المذهبين.
وقوله: (ثُمَّ أَتَمَّ وُضُوءَهُ): لا يمكن أن يتصور هذا إلا بعكس الوضوء هذا أمرٌ ظاهر، فلا يمكن أن يكون هذا إلا أنه قدَّم غسل الرجلين ثم لبس الخفين، ثم بعد ذلك استكمل الوضوء، وهو في استكماله الوضوء قد يكون بدأ بالوجه ثم بعد ذلك رتب، وقد يكون جاء من الأسفل فمسح الرأس بعد الرجلين، ثم غسل اليدين.
قوله: (فَمَنْ لَمْ يَرَ أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ وَرَأَى أَنَّ الطَّهَارَةَ تَصِحُّ لِكُلِّ عُضْوٍ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ الطَّهَارَةُ لِجَمِيعِ الأَعْضَاءِ، قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ).
هناك من العلماء من يرى أنَّ الطهارة تَصِحُّ وتثبت لكل عضو، لكن ليس معنى هذا أنه لو غسل عضوًا أصبح متطهرًا، لا، ولكنَّ مراده أنَّ كل عضو منفصل عن الآخر بعكس غسل الجنابة، ولذلك يقولون في غُسل الجنابة: الجُنُبُ بَدَنُهُ بمثابة عُضْوٍ واحدٍ.
قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ طَهَارَةُ العُضْوِ إِلَّا بَعْدَ طَهَارَةِ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ).
لم يجز ذلك؛ لأنه نكَّس الوضوء؛ أي: عكسه.
قوله: (وَبِالقَوْلِ الأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(1)
.
القول الأول؛ الذي هو عدم وجوب الترتيب هو قول أبي حنيفة ومالك، لكنَّ مالكًا هنا انفصل عن الإمام أبي حنيفة لأمرٍ آخر لا للترتيب، ولكن لأنه لا يرى أنَّ طهارة كل عضوٍ تصحُّ وحدها، فالطهارة لا بدَّ أن تأتي مجتمعةً، وهنا حصل الفصل بين رأي الإمامين في هذه المسألة، وإلا فكلاهما لا يرى الترتيب.
قوله: (وَبِالقَوْلِ الثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَمَالِكٌ).
وهو قول أحمد أيضًا
(3)
.
قوله: (إِلَّا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّرْتِيبِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تُوجَدُ لِلْعُضْوِ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ جَمِيعِ الطَّهَارَةِ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم (1/ 178)؛ حيث قال: "قوله: (إن لبسهما على وضوء تام وقت الحدث)
…
، وشمل كلام المصنف صورًا، منها: أن يبدأ بغسل رجليه ثم يلبسهما ثم يكمل الوضوء".
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (1/ 512)؛ حيث قال: "فلا يصح المسح عندنا إلا أن يلبسه على طهارة كاملة فلو غمس أعضاء وضوئه إلا رجليه ثم لبس الخف أو لبسه قبل غسل شيء ثم أكمل الوضوء وغسل رجليه في الخف صحت طهارته لكن لا يجوز المسح إذا أحدث فطريقه أن يخلع الخفين، ثم يلبسهما".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 113)؛ حيث قال: " (ولو لبس الأولى طاهرة) قبل غسل الأُخرى (ثم غسل) الرجل (الأُخرى وأدخلها) خفها (لم يمسح)؛ لأن لبسه للخفين لم يكن بعد كمال الطهارة".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي"(1/ 143)؛ حيث قال: "وأشار إلى شروط =
لأنَّ المالكية لو قالوا من جهة الترتيب لاحتُجّ عليهم ونقض قولهم، فيقال لهم: أنتم لا ترون وجوب الترتيب فكيف قلتم بهذا؟ هل هذا تراجع عن رأيكم في الترتيب؟
لكنهم قالوا: المنع هنا، لأنَّ طهارة كلَّ عضوٍ لا تتمُّ وحدها، بل لا بدّ أن تأتي الأعضاءُ مكتملة جميعًا وبهذا تحصل الطهارة، وهذا هو الظاهر والبيِّن.
قوله: (وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَهُمَا طَاهِرَتَان"، فَأَخْبَرَ عَنِ الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ المُغِيرَةِ:"إِذَا أَدْخَلْتَ رِجْلَيْكَ فِي الخُفِّ وَهُمَا طَاهِرَتَان، فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا"
(1)
، وَعَلَى هَذِهِ الأُصُولِ يَتَفَرَّعُ الجَوَابُ).
مقصود المؤلف: هذه المسائل الكبرى -الأمهات- يتفرع عنها الجواب في الصورة التالية.
قوله: (فِيمَنْ لَبِسَ أَحَدَ خُفَّيْهِ بَعْدَ أَنْ غَسَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ الأُخْرَى).
ورد في الحديث: "دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" أو "طاهرتين" ومفهوم هذا الحديث وظاهره، أنه أدخل رجليه بعد طهارتهما،
= الماسح بقوله (بطهارة ماء) لا غير متطهر ولا طهارة ترابية (كملت) حسًّا بأن تمم أعضاء الوضوء قبل لبسه احترازًا عما إذا ابتدأ برجليه ثم لبسهما وكمل طهارته أو رجلًا فأدخلها".
(1)
لم أره في رواية للمغيرة، وإنما أخرجه مالك (1/ 63)، ومن طريقه الشافعي (ص 222): عن نافع، وعبد اللّه بن دينار، أنهما أخبراه أن عبد الله بن عمر قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص، وهو أميرها، فرآه عبد الله بن عمر يمسح على الخفين. فأنكر ذلك عليه، فقال له سعد: سل أباك إذا قدمت عليه. فقدم عبد الله، فنسي أن يسأل عمر عن ذلك، حتى قدم سعد. فقال: أسألت أباك؟ فقال: لا. فسأله عبد الله، فقال عمر:"إذا أدخلت رجليك في الخفين، وهما طاهرتان، فامسح عليهما"، قال عبد اللّه: وإن جاء أحدنا من الغائط؟ فقال عمر: "نعم. وإن جاء أحدكم من الغائط".
فلو أنَّ إنسانًا غسل اليُمنى وأدخلها في الخف أو العكس، فعند المالكية والشافعية والحنابلة: لم تتمَّ طهارتُهُ، وعند الحنفية: تمت طهارته.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: لَا يَمْسَحُ عَلَى الخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَابِسٌ لِلْخُفِّ قَبْلَ تَمَامِ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
(2)
، وَأَحْمَدَ
(3)
، وَإِسْحَاقَ
(4)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَالثَّوْرِيُّ وَالمِزِّيُّ
(6)
، وَالطَّبَرِيُّ
(7)
، وَدَاوُدُ
(8)
: يَجُوزُ لَهُ المَسْحُ).
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير، وحاشية الصاوي"(1/ 156)؛ حيث قال: "لو غسل إحدى الرجلين ولبس فيها الخف ثم غسل الثانية ولبس الأُخرى، لم يجز له مسح حتى ينزع الأولى ثم يلبسها وهو متطهر".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج " للشربيني (1/ 205)؛ حيث قال: "ولو أدخل إحداهما بعد غسلها ثم غسل الأُخرى وأدخلها لم يجز المسح إلا أن ينزع الأُولى من موضع القدم ثم يدخلها فيه".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 113)؛ حيث قال: " (ولو لبس الأُولى طاهرة) قبل غسل الأُخرى (ثم غسل) الرجل (الأُخرى وأدخلها) خفها (لم يمسح)؛ لأن لبسه للخفين لم يكن بعد كمال الطهارة".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 207)؛ حيث قال: "فأما إن غسل إحدى رجليه، فأدخلها الخف، ثم غسل الأُخرى وأدخلها الخف، لم يجز المسح أيضًا. وهو قول الشافعي وإسحاق".
(5)
يُنظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم (1/ 178)؛ حيث قال: "يعني المسح جائز بشرط أن يكون اللبس على طهارة كاملة وقت الحدث وذكره التمام لدفع توهم النقصان الذاتي له
…
وشمل كلام المصنف صورًا منها
…
، ومنها أن يتوضأ إلا رجليه ثم يغسل واحدة ويلبس خفها ثم يغسل الأُخرى ويلبسه
…
وفي جميع هذه الصور يجوز له المسح إذا أحدث لتمام الطهارة وقت الحدث، وإن لم يوجد وقت اللبس".
(6)
الصواب: (المُزنيُّ)؛ يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 310)؛ حيث قال: "وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني: يجوز له المسح عليهما".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 225)؛ حيث قال: "وقال أبو حنيفة والثوري والمزني والطبري وداود: يجوز له أن يمسح".
(8)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 333)؛ حيث قال: " (ومن توضأ فلبس أحد خفيه بعد أن غسل تلك الرجل ثم إنه غسل الأُخرى بعد لباسه الخف على المغسولة، ثم لبس =
لا يمكن أن يكون المقصود هو الإمام: (المزي)، لأنَّ المزيَّ رحمه الله كان في القرن الثامن، وقد تُوفِّي سنة سبع مائة واثنين وأربعين، ومن أقرانه شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي، وعلى ذلك فإنَّ ابن رشد قبله؛ لأن ابن رشدٍ قد تُوفي سنة خمسمائة وخمسة وتسعين.
قوله: (وَبِهِ قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، مِنْهُمْ مُطَرِّفٌ وَغَيْرُهُ)
(1)
.
وهذا مذكورٌ في، المذهب الحنبلي، وعند الشافعية من يقول بهذا، لكنَّ الأحوط والأسلم لدين الإنسان، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام:"دع ما يريبك إلى ما لا يربيك"
(2)
، فالأمر الذي تشك فيه دعه واطرحه واذهب إلى الأمر الذي تتيقن صحته ولا إشكال ولا غبار فيه، فالذي لا إشكال فيه أن يغسلَ الإنسانُ القدمين ويدخلَهما.
قوله: (وَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ الخُفَّ الأَوَّلَ بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ لَبِسَهَا، جَازَ لَهُ المَسْحُ).
لأنه زال الإشكال؛ يعني: لو نَزَعَ الخفَّ الأوَّلَ وعاد ولبسه يكون: لبسهما على طهارة، فزال الإشكال.
قوله: (وَهَلْ مِنْ شَرْطِ المَسْحِ عَلَى الخُفِّ أَلَّا يَكُونَ عَلَى خُفٍّ آخَرَ، عَنْ مَالِكٍ فِيهِ قَوْلَانِ)
(3)
.
= الخف الآخر ثم أحدث فالمسح له جائز كما لو ابتدأ لباسهما بعد غسل كلتي رجليه، وبه يقول أبو حنيفة وداود وأصحابهما".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 225)؛ حيث قال: "وهو قول طائفة من أصحابنا منهم مُطرِّف".
(2)
أخرجه الترمذي (2518)، وصححه الألباني.
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" للحطاب (1/ 319)؛ حيث قال: "يجوز أن يمسح على الخفين، ولو كانا فوق خفين، وقيل: لا يجوز المسح على الأعليين".
وهذه المسألة أيضًا فيها خلافٌ في كل المذاهب، وهي تُعدُّ من جزئيات المسائل، ولذلك لم يذكر فيها إلا مذهب مالك.
ومع ذلك فهي مسألةٌ طويلةٌ، وفيها تفصيلٌ، وفيها تفريعاتٌ، فهذا الخفُّ الذي يُلبس على الخفِّ يسمونه بالجُرْمُوقِ، وقد اختلف العلماء ما المراد بالجُرْمُوقِ؟
اصطلح الفقهاء أن يسموه خفًّا، وقال بعضهم: هو ليس بخفّ في الحقيقة، وإنما هو أشبه ما يكون بالجورب المنعَّل الضخم، يعني: جورب وُضِع عليه جلد وهو واسع، فيدخل فيه الخف الملبوس.
والخفُّ الملبوس لا يخلو: إما أن يكون مخرَّقًا، أو غير مخرَّقٍ، فإن كان مخرقًا فيأخذ حكمَ ما لُبِسَ عليه.
فالشاهد هنا أنه لبس خفًّا على خفّ، فانتقل الحكم إلى الخفّ، ولو لبس آخر هل ينتقل الحكم أو يقف عند الأول؟
قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ كمَا تَنْتَقِلُ طَهَارَةُ القَدَمِ إِلَى الخُفِّ إِذَا سَتَرَهُ الخُفُّ، كَذَلِكَ تَنْتَقِلُ طَهَارَةُ الخُفِّ الأَسْفَلِ الوَاجِبَةُ إِلَى الخُفِّ الأَعْلَى؟ فَمَنْ شَبَّهَ النَّقْلَةَ الثَّانِيَةَ بِالأُولَى، أَجَازَ المَسْحَ عَلَى الخُفِّ الأَعْلَى، وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهَا بِهَا، وَظَهَرَ لَهُ الفَرْقُ، لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ).
يريد أن يقول: هل هناك نقلة واحدة أو هي أكثر، فالحكم انتقل من الفرض، أي: الغسل إلى المسح فهنا حصل انتقال، كان الفرض غسل القدم، ثم بعد ذلك انتقل إلى المسح، فالنقل قد ثبت ولا شك، فهل ينتقل مرة أُخرى؟
الأصل هو كما قلنا: الفرض الذي هو الغسل، هذا نسميه أصل، والمسح على الخفين بدل، فهل لدى البدل من القوة ما يعطي الأصل فينتقل الحكم إلى آخر أو لا؟ فهذه المسائل يذكرها الفقهاء ويعرضون لها.
وهذه المسألة من المسائل التي تُبنى على الفهم، والمسائل التي لا يكون لها نصّ صريح أو لا تتسع رُقعة الخلاف فيها، وقد تتعدد
الأقوال وتكثر وتختلف وجهات النظر وتزداد الأقيسة العقلية التي نسميها بالقياس إلى غير ذلك.
قوله: (المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَأَمَّا نَوَاقِضُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا نَوَاقِضُ الوُضُوءِ بِعَيْنِهَا
(1)
، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ نَزْعُ الخُفِّ نَاقِضٌ لِهَذ الطَّهَارَةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ نَزَعَهُ وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، فَطَهَارَتُهُ بَاقِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا وَصَلَّى، أَعَادَ الصَّلَاةَ بَعْدَ غَسْلِ قَدَمَيْهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا رَأَى أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ، اسْتَأْنَفَ الوُضُوءَ عَلَى رَأْيِهِ فِي وُجُوبِ المُوَالَاةِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمَ).
(1)
سيأتي بيان هذا من ظاهر نصوص المذاهب.
(2)
يُنظر: "الشرح الصغير، وحاشية الصاوي"(1/ 158)؛ حيث قال: " (فإن نزعهما أو أعلييه أو أحدهما، وكان على طهر، بادر للأسفل كالموالاة)، أي: إذا نزع المتوضئ خفيه بعد المسح عليهما، أو نزع الأعليين بعد المسح عليهما، وكان قد لبسهما على طهارة فوق الأسفلين، ونزع أحد الخفين الأعليين أو أحد المنفردين؛ فإنه يجب عليه أن يبادر إلى الأسفل في كل من المسائل الأربعة. فيبادر لغسل الرجلين في الأُولى، ولمسح الأسفلين في الثانية، ولمسح الأسفل في الثالثة، ولنزع الآخر وغسل الرجلين في الرابعة. وإنما وجب نزع الثاني لأنه لا يجمع بين غسل ومسح. والمبادرة هنا كالمبادرة التي تقدمت في الموالاة، فإن طال الزمن عمدًا بطل وضوءه واستأنفه وبنى بنية إن نسى مطلقًا. ويعد الطول بجفاف أعضاء بزمن اعتدل".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 211)؛ حيث قال: " (ومن نزع) في المدة خفيه أو أحدهما أو خرجا أو أحدهما عن صلاحية المسح، أو انقضت المدة، أو شك في بقائها أو ظهر بعض الرجل بتخرق أو غيره كانحلال شرج أو نحو ذلك (وهو بطهر المسح) في جميع ذلك (غسل قدميه) لبطلان طهرهما بما ذكر؛ لأن الأصل غسلهما، والمسح بدل، فإذا زال حكم البدل رجع إلى الأصل كالتيمم بعد وجود الماء (وفي قول يتوضأ)؛ لأن الوضوء عبادة يبطلها الحدث فتبطل كلها ببطلان بعضها كالصلاة".
(4)
يُنظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(1/ 276)؛ حيث قال: " (ونزع خف) ولو واحدًا (ومضي) المدة وإن لم يمسح (وبعدهما) أي النزع والمضي (غسل المتوضئ رجليه لا غير) لحلول الحدث السابق قدميه إلا لمانع كبرد فيتيمم حينئذ".
مالك يقول: إذا خلع خفيه، غسل قدميه مكانه، وصحت طهارته. وإن أخَّره، استأنف الطهارة؛ لأن الطهارة كانت صحيحة في جميع الأعضاء إلى حين نزع الخفين، أو انقضاء المدة، وإنما بطلت في القدمين خاصة، فإذا غسلهما عقيب النزع، لم تفت الموالاة؛ لقرب غسلهما من الطهارة الصحيحة في بقية الأعضاء، بخلاف ما إذا تراخى غسلهما.
قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: طَهَارَتُهُ بَاقِيَةٌ حَتَّى يُحْدِثَ حَدَثًا يَنْقُضُ الوُضُوءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ دَاوُدُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى).
هؤلاء قالوا: لا يتوضأ ولا يغسل قدميه، لأنه أزال الممسوح عليه بعد كمال الطهارة، فأشبه ما لو حلق رأسه بعد المسح عليه، أو قلَّم أظفاره بعد غسلها؛ ولأن النزع ليس بحدث، والطهارة لا تبطل إلا بالحدث.
قوله: (وَقَالَ الحَسَنُ بْنُ حَيٍّ
(1)
: إِذَا نَزَعَ خُفَّيْهِ فَقَدْ بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ).
لأن الوضوء بطل في بعض الأعضاء، فبطل في جميعها، كما لو أحدث.
قوله: (وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ هِيَ مَسْكُوتٌ عَنْهَا. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ المَسْحُ عَلَى الخُفَّيْنِ هُوَ أَصْلٌ بِذَاتِهِ فِي الطَّهَارَةِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ غَسْلِ القَدَمَيْنِ عِنْدَ غَيْبُوبَتِهِمَا فِي الخُفَّيْنِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ أَصْلٌ بِذَاتِهِ، فَالطَّهَارَةُ بَاقِيَةٌ وَإِنْ نَزَعَ الخُفَّيْنِ كَمَنْ قُطِعَتْ رِجْلَاهُ بَعْدَ غَسْلِهِمَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 223)؛ حيث قال: "وقال الحسن بن حي إذا خلع نعليه أعاد الوضوء من أوله ولم يفرق بين تراخي الغسل وغيره، وقال ابن أبي ليلى وداود: إذا نزع خفيه بعد المسح صلى كما هو وليس عليه غسل رجليه ولا استئناف الوضوء قياسًا على مسح شعر الرأس".
بَدَلٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا نَزَعَ الخُفَّ بَطَلَتِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ كنَّا نَشْتَرِطُ الفَوْرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ غَسَلَهُمَا أَجَزَأَتِ الطَّهَارَةُ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الفَوْرُ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الفَوْرِ مِنْ حِينِ نَزْعِ الخُفِّ فَضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُتَخَيَّلُ، فَهَذَا مَا رَأَيْنَا أَنَّ نُثْبِتَهُ فِي هَذَا البَابِ).
وهذا الاختلاف مبني أيضًا على وجوب الموالاة في الوضوء؛
فمن أجاز التفريق: جوَّز غسل القدمين؛ لأن سائر أعضائه مغسولة، ولم يبق إلا غسل قدميه، فإذا غسلهما كمل وضوءه.
ومن منع التفريق: أبطل وضوءه؛ لفوات الموالاة، فعلى هذا، لو خلع الخفين قبل جفاف الماء عن يديه، أجزأه غسل قدميه، وصار كأنه خلعهما قبل مسحه عليهما.
[الباب الثالث: في الأحكام المتعلقة بالمياه]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّالِثُ فِي المِيَاهِ)
الفقهاء يختلفون في ترتيب كتبهم، فبعضهم يقدم باب المياه على غيره؛ لأنَّه هو الوسيلة إلى الطهارة، والتيمم بدل منه، وبعض العلماء يذكر الوضوء أولًا وما يتعلق به، ثم بعد ذلك يتبعه بباب المياه، وهذا مصطلحٌ يختلف فيه الفقهاء ولا مشاحَّة في الاصطلاح.
هنا ذكر باب المياه، ولدينا مصطلحات في هذا الباب كثيرة؛ كلمة باب، ومياه، والآجل، والقُلّة.
والبابُ: في الأصل المدخل إلى الشيء، والطريق الموصل إليه.
فمثلًا: أبواب المسجد: هي الطرق والمنافذ التي توصل إليه. وكذلك أبواب الدور والمدارس وغيرها، هذا هو الأصل في الباب.
لكنَّ المرادَ به من الناحية الاصطلاحية: ما يشتمل على جملة من الأحكام يندرج تحتهُ فصولٌ ومسائلُ متعددةٌ.
وهذه مصطلحاتٌ يختلفُ فيها الفقهاء، فنجد منهم من يذكرون في البابِ فصولًا، وبعضهم يجعل بعد الفصول فروعًا، ولتبعها بمسائل، وبعضهم يجعلها مسائل وهذا في نظري أولى، فهناك بابٌ، ثم فصل وهو أشمل، ثم مسألة، لأنَّ من العلماءِ من يرى أنَّ المسألة هي مقاربة أو مساولة لكلمة قاعدة.
وكلمة (المياه): هي جمع ماء، وهذا الجمع جمع كثرة، وأصل كلمة (ماء) هو (مَوَهٌ)، فالهمزة منقلبة عن حرفٍ آخر وهو الهاء، والألف منقلبة عن أصل وهو الواو، وهناك قاعدة صرفية معروفة عند النحاة والصرفيين يقولون فيها:"إذا تحركت الواو أو الياء وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفًا".
فمثلًا كلمة (بَاعَ) أصل كلمة باعَ بَيَعَ، تحركت الياءُ وانفتحَ ما قبلها فبعد ذلك قلبت ألفًا فصارت (بَاعَ).
لو جئنا إلى قلب الواو ألفًا مثل: (قَالَ): أصلها قَوَلَ، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا فصارت:(قَالَ).
إذن: (قال) أصلها قَوَلَ، و (باع) أصلها بَيَعَ، وماءٌ أصلها (مَوَهَ).
قد يسأل سائل فيقول: كيف نعرف أن هذه الهمزة أصلها هاء؟
والجواب: عندما نردُّ المفرد إلى الجمع، فعندما نأتي بجمع القلة فنقول:(أمواه) أو بجمع الكثرة فنقول: (مياه)، فنجد أن الهاء قد عادت إلى أصلها، وبذلك نعرف أن هذه الهمزة إنما أصلها هاء، أي: حرفٌ أُبدلَ بحرفٍ آخرَ.
وهنا يرد سؤال أيضًا، لماذا المؤلف وغيره من عامَّةِ الفقهاء لا يقولون: باب (الأمواه) وإنما يقولون: باب المياه، فلماذا جاؤوا بجمع الكثرة وعَدَلوا عن جمع القلَّة؟
قالوا: ذلك بالنظر إلى أنواع المعنى، فنحن لو أردنا أن نبسط الكلام بسطًا جزئيًّا في الماء وجدنا أنه ينقسم أولًا لأقسام، فهناك ماء طهور، وماءٌ طاهرٌ، وماء نجسٌ، وماء متغيِّرٌ، وماءٌ باقٍ على أصل خلقته، وهناك ماء قد تغير بطول مكثه، وأيضًا لو جئنا إلى أنواع المياه لوجدنا أن هناك مياه نزلت من السماء وهي التي سنتحدث عنها، ومياهٌ نبعتْ من الأرض، وماءٌ نزلَ من السماء إمَّا مطر، وإما بردٌ، وقد ينزل ثلجٌ أيضًا، وكذلك بالنسبة لما ينبعُ من الأرض فهناك مياه البحار، ومياه الأنهار، ومياه العيون، ومياه الأودية
…
إلى غير ذلك من الأجزاء، ومن المعلوم أنَّ جمع القلة ينتهي عند العشرة فما دونها، وما زاد على ذلك يُسمى بجمع الكثرة، فلهذه الأنواع ولغيرها من أمورٍ أُخرى تتعلق بالماء من تنويعاته ذكر المؤلفون ذلك المصطلح فقالوا: باب المياه، ولم يقولوا:(باب الأمواه).
قوله: (وَالأَصْلُ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِالمِيَاهِ).
هذا الماء الذي سنتحدث عنه منه ما يُعرف بالماء المطلق.
والماء المطلق: هو الماء الباقي على خلقته.
أي: الذي لم يتطرق إليه أي شيءٍ فغيَّره أو بدَّله.
وبعضهم يُعَرِّفه بتعريفٍ آخر فيقول: هو العاري عن الإضافة.
لأنَّ الماء قد تضيف إليه شيئًا، وهذا الذي يُضاف إليه قد يكون طاهرًا، وهذا الطاهر لا يخلو إما أن يكونَ قليلًا فلا ينقله عن اسم الماء، وقد يكون كثيرًا فيحوله من اسمِهِ فيضاف إلى اسم ذلك المضاف، فيقال: ماء الورد، أو ماء البَقْلَة، والحِمِّص، أو ماء الزعفران، أو غير ذلك من الأمور الكثيرة المعروفة.
إذًا الماء المطلق هو الذي بَقِيَ على خلقته، أو هو: الخالي من الإضافة.
أمَّا الماء اللازم الذي سيتكلم عنه المؤلف فهوالماءُ الذي تَغَيَّرَ بطول مكثه دون أنْ يُغَيِّره شيءٌ آخر.
والماء الطاهر أيضًا قد يكون المغيِّر فيه مما لا يُمكن أن ينفكُّ عنه، أو يصعب أن ينفك عنه، كالأشجار التي تنبت فيه، وكالطحلب وغيرها، وهناك ما يمكن الانفكاك عنه.
نعود مرة أُخرى ونقول: الماء لا يخلو من أمرين:
- إما أن يكون ماءً طاهرًا.
- أو ماءً غيرَ طاهرٍ.
فالماء الطاهر هو الذي بَقِيَ على خلقته، وهذا الماء لا يخلو:
- إمَّا أنْ يكونَ مجرَّدًا من أيّ إضافة، وهو الماء المطلق.
- وإما أن يكون أضيف إليه شيء، وهذه الإضافة قد تكون قليلةً فلا تنقله عن اسمه، وقد تكون كثيرةً فيتحول من اسم الماء إلى اسم المضاف إليه.
القسم الآخر: هو الماء النجس، وهذا الماء الذي لحقته النجاسة، وهو لا يخلو من أمرين؛ إما أن تكون هذه النجاسة الذي لحقت به قد غيَّرت وصفًا أو أكثرَ من أوصافه، وإمَّا أنْ تكونَ هذه النجاسة قد استحالت فيه فلم تُغَيِّر وصفًا من أوصافه، ومن هنا وقع خلاف العلماء في النجاسة.
أولًا: من المجمع عليه بين العلماء أنَّ الماء إذا خالطته النجاسة فغيَّرت طعمه أو لونه أو ريحه، على أنه ماءٌ نجس، وإن تكلم العلماء على الحديث الذي ورد فيه: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيَّر لونه أو
طعمه أو ريحه"
(1)
، فجزء "الماء طهور لا ينجسه شيء". هذا الحديث صحيح، لكن كلمة "إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" هذه الزيادة عند ابن ماجه وهي ضعيفة.
إذًا لماذا حصل اتفاق بين العلماء؟
لأنه قد حصل إجماعٌ على أنَّ الماء إذا اختلطت به نجاسة فبقي جِرْمها فيه بمعنى لونًا أو طعمًا أو كانت الرائحة موجودة، فإنها قد نقلته من صفة الطهورية والطهارة إلى أن أصبح نجسًا.
والماء كما هو معلوم طهورٌ، وهو الطاهر في نفسه المطهِّرُ لغيره، وطاهر وهو الطاهر غير المطهِّر، ثم نجس، وبعض العلماء يقصرهما على نو عين: طا هرٌ، ونجس.
والحنفية لهم خلافٌ مع جمهور العلماء لأنهم يرون أنَّ صيغة فعول (طهور) كصيغة فاعل لا تتعدى، والجمهور يردون عليهم بقول الله سبحانه وتعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] فيقولون: هنا تعدَّى.
والخلاف هنا أقرب ما يكون إلى أنه لفظي، لأننا سواء قلنا: هو طاهر، يعني قسمنا الماء إلى طاهر ونجس، فالطاهر هنا سيقوم مقام الاثنين، أو قلنا: هما ثلاثة فهذا على أساس أنَّ الماء طهور وطاهر ونجسٌ، وقضية التقسيم ليست موجودةً فقط في مذهب الحنفية، وإنما هناك من العلماء في المذاهب الأُخرى من يأخذ بها.
قوله: (قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]
(2)
، وَقَوْلُهُ:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]).
(1)
وفي معرفة السنن والآثار (1846): عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "المَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَيْهِ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ".
(2)
يُنظر: "تفسير مقاتل بن سليمان"(2/ 104)؛ حيث قال: " {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}؛ أي: من الأحداث، والجنابة".
يعني: أنَّ الأساس في طهورية الماء هو قول الله سبحانه وتعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} يعني: ماء المطر {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ، وقوله تعالى:{وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} ، إلى آخر الآية [11] التي في سورة الأنفال.
وَقَوْلُهُ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت في الماء، لكنَّ المؤلف وغيره من الفقهاء يقتصرون على الآيتين؛ لأنه ورد فيهما ذكر التطهير، قال تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ، وقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 48، 49].
إذًا الآيتان اقتُصِر عليهما عند كثيرٍ من الفقهاء للتنصيص على الطهورية، لكن بعضهم يضيف إلى ذلك الآية التي هي آية الوضوء التي في آخرها:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، وسيأتي ذكر الحديث الذي سيورده المؤلف.
من الأدلة من السنة:
قوله- عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن البحر: (إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال- عليه الصلاة والسلام:"هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته".
فترى أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتصر في إجابته على سؤال السائل، بل أجابه عن ما أشكل واستشكل وسأل عنه، وأضاف إلى ذلك أمرًا إن لم يكن أهمَّ منه فلا يقلُّ أهمية عن ذلك من حيث الجهل به؛ لأنَّ الإنسان إذا جهل حكم ماء البحر فأولى به أن يجهل حكمَ ميْتَةِ البحر، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام رفع عنه هذا الإشكال وقال:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
قوله: (وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ المِيَاهِ طَاهِرَةٌ فِي نَفْسِهَا، مُطَهِّرَةٌ لِغَيْرِهَا إِلَّا مَاءَ البَحْرِ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ شَاذًّا)
(1)
.
هذا الذي أشار إليه نُقل عن الصحابيَّيْنِ عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فإنه نُقل عنهما أنهما كرها الوضوء بماء البحر، ونقل أيضًا عن سعيد بن المسيب وهو من كِبار التابعين، والدليل على ذلك ما جاء عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يركب البحر إلا حاجٌّ، أو معتمرٌ، أو غازٍ في سبيل الله، فإنَّ تحت البحر نارًا، وتحت النار بحرًا"
(2)
، فذكر سبعة أبحر وسبعة نيران. وهذا الحديث حديثٌ ضعيف.
وأيضًا ناقشه العلماء من ناحية الحسِّ وقالوا: المحسوس أننا نشاهد الماء والرسول عليه الصلاة والسلام نصّ في الحديث الصحيح فقال: "هو الطهور ماؤه" فبيَّن أنَّ ماءَه طاهرٌ، فلا يمكن أن نترك ذلك الحديثَ الصحيحَ الصريحَ الذي عمل به الصحابة -رضوان الله عليهم- والمسلمون بعد ذلك.
قوله: (وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِتَنَاوُلِ اسْمِ المَاءِ المُطْلَقِ لَهُ).
ذكر الماء المطلق: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} هنا الماء، {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} ، {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} هنا الإطلاق، ثم جاء التنصيص على البحر فقال:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته". فهذا رفع كل إشكال وأزاله.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 74)؛ حيث قال: "وأجمع فقهاء الأمصار أن مياه البحر عذبها و (أجاجها) بمنزلة واحدة في الطهارة والتطهير، إلا ما حكي عن قوم أنهم لا يجيزون التوضؤ بماء البحر".
(2)
أخرجه أبو داود (2489)، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف جدًّا.
قوله: (وَبِالأَثَرِ الَّذِي خَرَّجَهُ مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ"
(1)
).
المصطلح عليه أنَّ ما رُفع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يُسمّى حديثًا، وما وقف إليه عند الصحابة يُسمى أثرًا، ولكنْ قد يُسمَّى الحديثُ أثرًا، وقد يُسمَّى الأثر حديثًا، ومصطلح المؤلف هنا أنه يقصد بالأثر هنا الحديث المرفوع.
قوله: (وَهُوَ وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا مُخْتَلَفًا فِي صِحَّتِهِ، فَظَاهِرُ الشَّرْعِ يُعَضِّدُهُ).
هذا الحديث صحيح، وصححه جمعٌ من أكابر العلماء، والمؤلف متأثر بابن عبد البر، فهو في كثير فيما يتعلق بالمذاهب وبالأحاديث والآثار ينقل عن كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر، وكذلك كتاب "التمهيد"، فهو ينقل عن هذين الكتابين كثيرًا، فالذي ذكر المؤلف أنه ضعَّفه من حيث السند هو ابن عبد البر، لكنه أخذ به من حيث المعنى، وليس معنى هذا أنَّ ابن عبد البر عندما يضعف حديثًا نعتبر هذا الحديث ضعيفًا ولا ننظر فيه، فالحديث قد صححه أكابر العلماء كالإمام النووي وابن حجر العسقلاني وغير هؤلاء، وقبلهم الإمام البخاري، والترمذي، وغير هؤلاء، فالحديث صحيح كما بينَّا.
قوله: (وَكذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كلَّ مَا يُغَيِّرُ المَاءَ مِمَّا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا أَنَّهُ لَا يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ).
هناك فرق بين ما لا ينفك عن الماء غالبًا، كالطحلب والنبت الذي يخرج في السواقي على جانب البرك وغيرها، هذا يصعب انفكاكه عن الماء، قد تستطيع أن تتخلص منه لكن بعد مشقَّةٍ بالغةٍ.
(1)
أخرجه مالك (1/ 22)، وأبو داود (83)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح.
لكن نقول ونكرر: الشريعة بنيت على التيسير، وستجدون أن من العلماء من احتج لمذهبهم في التقييد بالقلتين في مسألة التيسير ورفع المشقة في الشريعة الإسلامية، ليقوى حديث القلتين الذي كثر النزاع الوارد فيه.
إذًا الذي ينفك عنه غالبًا: هي الأمور التي يستطيع الإنسان أن يتخلص عنها، أما الأمور التي يشق التخلص منها فهذه هي التي يقصدها المؤلف، وهذه أمورٌ لا تؤثر علينا وهو يتحدث عن الطاهرات.
قوله: (إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا رُوِيَ فِي المَاءِ الآجِنِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ)
(1)
.
ابن سيرين هو تابعي كبير، وله رأيٌ في الماء الآجن، ولا شك أن الماء في عصرنا يتغير، يعني: لو وضع ماؤه في بركة أو في خزان أو في إناء كبير أو في قلة ومضى عليه زمن طويل، لو أن أحدنا وضع ماءً في مكانٍ ما ثم سافر إذا عاد يجده يخضرُّ، لا شكَّ أنه حصلَ تغيرٌ في لونه، لكن هذا التغير لم يحصل بسبب النجاسة، إنما حصل بسبب طول المكث، وهذا قد يحصل في الآبار المعطلة التي تُتْركُ زمنًا طويلًا، يعني: البئر المعطلة قد يحصل فيها الذي يحصل في الخزانات التي تُهجر زمنًا طويلًا، فالعلماء يقولون: كونه تغير بطول مكثٍ لا يخرجه عن كونه ماءً مطلقًا، فهو كغيره من المياه، وهذا القول انفرد به، وهو قولٌ ضعيف، وعامة العلماء يخالفونه في ذلك.
قوله: (وَهُوَ أَيْضًا مَحْجُوجٌ بِتَنَاوُلِ اسْمِ المَاءِ المُطْلَقِ لَهُ).
لا شكَّ أنَّ الماء المطلق لم يستثن منه الماء الآجن، فنحن عندما نقول ماء يدخل فيه الآجن، فهو لا يخرج عن كلمة ماء، لكن عندما نقول: ماءُ الزعفران، أو نقول: النبيذ، يعني: عندما يُؤتى بماءٍ فيُعصر فيه
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 34)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن الوضوء بالماء الآجن من غير نجاسة حلَّت فيه جائز، وانفرد ابن سيرين، فقال: لا يجوز".
تمرٌ هذا نُسمِّيه زبيبًا، وسيأتي الكلام في حكم الوضوء بالنبيذ، وخلاف الحنفية في ذلك، لكن الماء الآجنَ هو ماءٌ مطلقٌ تغيَّر بطول مُكثه، يعني مضى عليه زمنٌ فتغير بطول هذه المدة التي مرت عليه.
لكنْ هل هذه المدة التي مرت عليه نقلته من الماء المطلق إلى غيره أم لا؟ الجواب: لا، الصحيح أنه كغيره من المياه.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ المَاءَ الَّذِي غَيَّرَتِ النَّجَاسَةُ إِمَّا طَعْمَهُ، أَوْ لَوْنَهُ، أَوْ رِيحَهُ، أَوْ أَكثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذ الأَوْصَافِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِهِ الوُضُوءُ، وَلَا الطُّهُورُ).
في حقيقة الأمر أن العلماء لم يتفقوا، وخلاصة أقوالهم ما يلي:
الماء إذا خالطته نجاسة فلا يخلو من أمرين:
- إمَّا أن تغيِّر أوصافه أو واحدًا منها.
- أو لا تغيرها.
فإن غيَّرت وصفًا أو أكثرَ فالعلماء مجمعون على أنه ماءٌ نجس، وإن لم تغير وصفًا من أوصافه كأن تكون خالطته ثم استحالت به، أي: يعني ذابت ولم يُصبح له أثرٌ فهي لم تغير لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا، حتى صار لا يظهر شيءٌ من أثر النجاسة، فهنا يقع الخلاف بين العلماء على أقوالٍ عدَّة، ذكر المؤلف بعضها، وبعضهم أوصلها إلى سبعة أقوال، والمشهور منها ثلاثةٌ، وهي التي سنعرض لها في الغالبِ.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ المَاءَ الكَثِيرَ المُسْتبْحِرَ لَا تَضُرُّهُ النَّجَاسَةُ الَّتِي لَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، وَأَنَّهُ طَاهِرٌ)
(1)
.
لماذا قال: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ المَاءَ الكَثِيرَ المُسْتَبْحِرَ). يعني: بالنسبة
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 35)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن الماء الكثير من النيل والبحر، ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسة، فلم تغير له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا: أنه بحاله، ويتطهر منه".
إلى ماء البحر الماء كثير، ولا تضره النجاسة إذا لم تغير أحد أوصافه، وقد خالف في ذلك الحنفية؛ لأنَّ الحنفية -كما تعلمون- يرون أنَّ النجاسة تُؤثر، وسنعرفُ أدلتهم، لكنهم عارضتهم أدلة أُخرى، ولا بد من مخرج لذلك، فوضعوا ميزانًا ومقياسًا لذلك، فقالوا: الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه لا مانع أن يبقى طاهرًا، لكن بشرط أن يكون من الكثرة بحيث إنك لو حرَّكت طرفًا من طرفيه لما سرى في الحركة إلى الطرف الآخر، أو على التفسير الآخر وهو قوله محمد بن الحسن: عشرةُ أذرع في عشرةِ أذرُعٍ وقال: إنه قاس ذلك في مسجده، أي: عمل موازنة في ذً لك فوجد أنه إذا حرك من هذا القدر لا يصل.
لكننا نقول: أولًا: الرياح تختلف سرعتها واتجاهها، وقد تُنقل من حيث السرعة وغيرها.
ثانيًا: وقد يأتي -كما ذكر العلماء- أن يكون هذا الجدول الممتد، وقد يوقع فيه من النجاسة وغيرها مما يؤثر فيه أيضًا.
إذًا الحنفية أرادوا أن يخرجوا من جملة الأحاديث التي تنهى عن البول في الماء، أو عن غمس اليد قبل إدخالها في الإناء، وعن حديث الأعرابي، وعن حديث القلتين، وإن كانوا يضعفون ذلك أو أكثرهم يضعفه وسيأتي الكلام فيه، وحتى يخرجوا من ذلك وضعوا مقياسًا للحدّ عندهم.
والمؤلف حين قال: "اتفقوا" حتى يدخل الحنفية مع جمهور العلماء، ولذلك عبارات المؤلف هنا فيها دقة؛ لأنه عندما أخبر بذلك أراد أن يوجد موضعًا يلتقي فيه الحنفية مع بقية العلماء؛ لأن أشهر الأقوال في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
- قولٌ يرى: أنَّ الماء إذا حلّت بنجاسة ولم تغيره فهو طاهر.
- وقول آخر: يُقيّده بالقلتين، ويجعلها هي المقياس وهي الحدّ، فإذا وصل الماء إلى قلتين لا يُؤثَر عليه شيءٌ، إلا إذا غيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، فما دون القلتين يتغيَّر، فهم يأخذون بمفهوم المخالفة.
قوله: "ما لم تغير" هنا قيّده فقال: ما لم تغير، وهذا هو الصحيح، أمَّا إذا غيَّرت أحدَ أوصافه، فلا فرق بين أن يكون قليلًا أو كثيرًا.
قوله: (فَهَذَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا البَابِ).
إذًا، المؤلف هنا يُريد أن يحكي لنا مواضع الإجماع، أحيانًا تجدون بعض الفقهاء له مصطلحان، أحيانًا يقول: أجمع العلماء. وأحيانًا يقول: اتفقوا. والإجماع الذي لا يوجد فيه من خالف، لكن قد نجد من يخالف كالأصم وابن عُلَيّة ومثل هؤلاء لا يُعتدُّ بهم، وقد نجد خلافًا للشيعة لا ننظر إليهم، وقد نجد خلاف للخوارج في بعض المسائل لا نعتدُّ به، القصد من هذا أن يكون هذا العالم ممن يُعتبر خلافه، وهو معدودٌ في مسائل الإجماع كما هو معدود في مسائل الخلاف، ولا يشترط أن يكون أحد الأئمة الأربعة، فقد يكون من الأئمة الأربعة أو غيرهم، المهم أن يكون من العلماء الذين لهم وزنهم وقيمتهم وأثرهم ومكانتهم في العلم.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي سِتِّ مَسَائِلَ تَجْرِي مَجْرَى القَوَاعِدِ وَالأُصُولِ لِهَذَا البَابِ).
" تجري مجرى القواعد" ذكرنا سابقًا أنَّ هذا الكتاب قال عنه مؤلفه كتاب قواعد، لأنه فعلًا شبيه بالقواعد، وهذه المسألة التي ذكرها المؤلف لو قُرئت في بعض الكتب الموسعة لوُجدت فروعٌ كثيرةٌ تتفرع عنها، وكم من الجزئيات تُلْحَق بها، لكنك عندما تضبط أصل المسألة سهل عليك أن تضبط فروعها وجزئياتها، وهذا أهم ما في الفقيه، الفقيه كلَّما أمكنَهَ أن يضبط أصول المسائل سهُل عليه بعد ذلك أن يُلْحِقَ بها الفروع، لأنَّه أصبحت عنده أصولٌ وقواعدُ ثابتةٌ يستطيع أن تدور حولها البقية.
قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي المَاءِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ، وَلَمْ تُغَيِّوْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ طَاهِرٌ؛ سَوَاءٌ أَكانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ
(1)
، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ)
(2)
.
القول الأول: (فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ طَاهِرٌ) انتبهوا الآن أخذنا تغير الأوصاف، ماءٌ اختلطت به نجاسة فلم تغير أحد أوصافه، يعني: انحلت فيه النجاسة فذابت في الماء ولا نجد لها أثرًا، يعني: إذا كان عندك إناءٌ فيه ماء، فوقعت فيه نجاسة، ولا تجد أثرًا لهذه النجاسة، تشم الماء فلا تجد أثرًا، تأخذ الماء لتتذوق هذا الماء لا تجد طعمًا للنجاسة، ولا ترى أنَّ اللون قد تغير.
إذًا هذه النجاسة ذابت في هذا الماء واستحالت فيه بمعنى أنها أصبحت جزءًا من هذا الماء، فهل هذا الماء الذي أخذ هذه النجاسة وأذابها وأمضاها، هل نعتبرها مؤثرة في الماء أو لا؟
هذا هو القول الأول، أن الماء لا يزال على طهوريته.
وعندما تقرأ هذا الكتاب قد ترى أنَّ هذا القول ليس من المكانة بشيءٍ كثير، لكن عندما نعرف أن هذا قول لبعض الصحابة منهم. حذيفة وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، ونُقل عن كثير من التابعين: كسعيد بن المسيب والحسن وعطاء، ومجاهد، ونُقل عن جمع غفير من الفقهاء، ولا نقتصر على الأئمة منهم الإمام مالك في روايته المعروفة، وكذلك الثوري
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي"(1/ 35)؛ حيث قال: "يرفع الحدث وحكم الخبث بالمطلق وهو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد وإن جمع من ندى
…
(أو) كان المطلق (كثيرًا) بأن زاد عن آنية غسل وكذا يسير على الراجح (خلط بنجس)
…
(لم يغيره) أحد أوصافه، وإلا سلب الطهورية".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 142)؛ حيث قال: "لو أحدث في الماء أو بال خارجًا منه ثم جرى البول فيه فهو طاهر، يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره، إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئًا من أوصاف الماء
…
، وصح بهذا يقينًا أن الطاهر لا ينجس بملاقاة النجس".
والأوزاعي وإسحاق وهي أيضًا رواية للإمام أحمد، وعددٌ من أكابر علماء الشافعي أخذوا بذاك عندما تقرأ في كتب الشافعي الأُخرى، كالغزالي وغيوه تجدهم يأخذون بهذه الرواية، وأخذ بها من الحنابلة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من علماء الحنابلة، فهم يرون: أنَّ الأدلة الأخرى غير صريحة في الدلالة على المُدَّعى، وأنه لا يوجد نصٌّ قطعي صريح يمنع أن يتطهر بهذا الماء، وسيأتي تفصيل ذلك.
إذًا القول الأول: الماء الذي اختلطت به نجاسة فاستحالت بهذا الماء ولم تغير أوصافه، يقولون: هو لا يزال يحمل اسم الطهورية ولا فردتى بينه وبين غيوه، وهي رواية كما ترون بالنسبة للمذاهب للإمام مالك وهي مشهورة، وهي الرواية غير المشهورة للإمام أحمد.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ القَلِيلِ وَالكَثِيرِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ قَلِيلًا كَانَ نَجِسًا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا).
هنا سيدخل في تفصيلات المذاهب (وَقَالَ قَوْمٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ القَلِيلِ وَالكَثِيرِ)، هؤلاء الذين قالوا بالفرق بين القليل والكثير لم يتفقوا، فمنهم من حدّه بالقلتين، ومنهم مذهب الحنفية: عشرة أذرع في عشرة أذرع، أو إذا حركت أحد الطرفين لم تنتقل الحركة إلى الطرف الآخر، أو أنه باربعين قُلة، أو بأربعين دلوًا، أو بذنوبين، أو بغير ذلك من الأقوال الكثيرة جدًّا التي ذكرت، وهذه كلها أقوالٌ متعددة، لكنَّ أشهر الأقوال ثلاثة:
القولُ الأوَّل: أنه لا يتغير بملاقاة النجاسة لأنها استحالت.
القول الثاني: أن الحدَّ في ذلك هو القلتان، وهذا هو مذهب الشافعية وأحمد في المشهور عنه، لأنَّه وُجِدَ من الشَّافعية والحنابلة من يأخذ بالرأي الآخر.
القول الثالث: هو ما قال به الحنفية.
إذًا القول الأول: أنه لا فرق بين القليل والكثير فما دامت النجاسة
لم تغيره فهو باقٍ على طهارته، وقد ذكرنا أنه أخذ به جمعٌ من الصحابة وبعض فقهاء المذاهب المالكية وبعض الحنابلة وهي رواية في مذهب أحمد ليست مشهورة، وهو قول لبعض الشافعية وليس الإمام الشافعي.
القول الثاني: هو قول الحنفية.
والقول الثالث: هو قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه، وهو الحدّ بالقلتين.
* قوله: (إِنْ كَانَ قَلِيلًا كَانَ نَجِسًا، وَإِنْ كَانَ كثِيرًا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا).
وقد اختلف الفقهاء في حد الكثرة:
بعضهم يرى: أنَّ حدَّ الكثير هو أن يبلغ قلتين، ومذهب الحنفية كما بيَّناه سابقًا.
وقبل أن ندخل في قضية القلتين، ما المراد بالقلتين؟
القلة كما هو معلوم إنما هي جرة، وهذه القلة نُسبت إلى هَجَر فقيل: قُلَّةٌ من قِلال هَجَر.
أولًا: القلة في الأصل تطلق على الكبيرة والصغيرة، لكنها في اصطلاح الفقهاء تطلق على القُلَّة من قِلال هَجَر، وهَجَر هذه مدينة في البحرين معروفةٌ بذلك، لكنْ هناك نزاعٌ بين العلماء هل هي التي اشتهرت بصنع هذه القلال؟ أو أنها كما يقول بعضهم: هي قرية قريبة من المدينة تُعرفُ بهَجَر، أو أنَّ الأصل في صنع هذه القلال هو مدينة هَجَر، ثم أصبحت تصنع في المدينة، ونُسِبتْ إلى تلك البلد؛ لأنَّ أصل الصنعة كانت فيها.
والقلة -كما ترون- وردت في الحديث عندما سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا"، وفي رواية:"لم ينجُس".
وكلمة: "لم يحمل خبثًا" فيها مناقشة للحنفية فهم يعكسون القضية، فيقولون: لم يحمل خبثًا معناه: أنه ضعيفٌ لا يتحمَّل النجاسةَ.
ويردُّ عليهم الشافعية والحنابلة بالرواية الأُخرى: "لم يحمل خبثًا"، والروية الأُخرى ورد فيها:"لم ينجس".
لكن كيف نستطيع أن نقدر هنا حد الكثرة؟
سيأتي معنا أن الإمام الطحاوي وهو صاحب العقيدة الطحاوية والمُحدِّث المعروف، وهو من المدافعين عن مذهب الحنفية، وهو ممن انتهى إلى أنَّ حديث القلتين صحيحٌ، لكنه يقول مع صحته وقع خلاف في عدد القلال، فورد في حديث قلتين:"إذا بلغ الماء قلتين"، وفي رواية ثلاث:"أو ثلاث قلال"
(1)
. أيضًا يقول: القلة غير معروفة.
لكنَّ الفقهاء قالوا: القلة معروفة، وحقيقة تقديرها تقريبي، فهم يقولون: ورد في أثرٍ مرسل عن ابن جريج أنَّ القلةَ تبلغُ قربتين وشيئًا.
قالوا: والشيء أقصى ما يوصل به إلى النِّصف، فمعنى هذا أنَّ القلتين تبلغان خمسةَ قرب، ونجدُ أنَّ غالبَ الفقهاء يقول: وهي خمسمائة رطل بالعراقي، ومائة وثمان قنطار بالدمشقي، لكننا نجد أنَّ بعض الشافعية من حدّ حدًّا مكعَّبًا فجعلها مترًا وربعًا عمقًا في متر وربع عرضًا وطولًا، ولذلك جاء بعض الذين كتبوا في الفقه حديثًا ودقّقوا في الأمر وقالوا: إنَّ القلتين ثلاثة وتسعون صاعًا أو أربعة وتسعون إلا ربعًا، أو مائة وستون ونصف لتر، هكذا حددوها، والأمر كلُّه تقريبي.
إذًا" القلة كما قالوا تبلغ قربتين ونصف، فإذا جمعت بلغت خمسَ قربٍ.
يقول العلماء: كلمة قلة إذا طلقت إنما تنصرف إلى قلال هجر، قالوا: لأنَّ العرب يعرفونها، وقد اشتهرت بينهم، ولذلك الرسول -عليه
(1)
وفي مصنف ابن أبي شيبة ح 1530 عن سعيد بن جبير، قال: الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال.
الصلاة والسلام- عندما أُسْرِيَ به ورأى سدرة المنتهى ذكر أنه من نبت تلك الشجرة أنها كانت على قدر قلال هجر.
إذًا وصف الرسول لها وهو يحكي ذلك للصحابة، وهم من العرب الخلَّص، وهذا دليل على أنهم يعرفونها، وإلا كيف يصف لهم أمرًا لا يعرفونه، ولذلك تجدون أن الله سبحانه وتعالى عندما يقيم الأدلة كان يضرب لهم أمثالًا مشاهدة قال عز وجل:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق: 6، 7]، وقال عز وجل:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} [الغاشية: 1]، كذلك الرسول يذكر لهم أمورًا محسوسة معروفة لديهم.
إذًا الأقوال كما ترون ثلاثة:
القول الأول: أن النجاسة التي لا تغير لونًا ولا طعمًا، لا أثر لها في الماء، فهو طاهر.
القول الثاني: إذا بلغ الماء قلتين لا تؤثر فيه، وما دون القلتين تؤثر فيه
القول الثالث: هو الماء الكثير الذي إذا حركت أحد طرفيه لا تنتقل النجاسة إلى الطرف الآخر، من باب الاحتياط.
وهذا القول الأخير لا دليل عليه في الواقع، ولا يوجد نصٌّ للحنفية في هذا القياس، ولذلك هم وضعوا هذا قياسًا يعني: طبّقوه تطبيقًا قياسيًا، وإلا فليس لهم دليل على ما ذهبوا إليه، نعم، هم يستدلون على ما يتعلق بالنجاسة بعموم أدلة، لكنْ هذا الذي وضعوه لا دليلَ عليه.
* قوله: (وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي الحَدِّ بَيْنَ القَلِيلِ وَالكَثِيرِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
إِلَى أَنَّ الحَدَّ فِي هَذَا هُوَ أَنْ يَكُونَ المَاءُ مِنَ الكَثْرَةِ بِحَيْثُ إِذَا
(1)
يُنظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم (1/ 78)؛ حيث قال: "وقال أبو حنيفة: في ظاهر الرواية عنه يعتبر فيه أكبر رأي المبتلى به إن غلب على ظنه أنه=
حَرَّكهُ آدَمِيٌّ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، لَمْ تَسْرِ الحَرَكةُ إِلَى الطَّرَفِ الثَّانِي مِنْهُ).
ذهب الحنفية إلى هذا القول؛ لأنهم يستدلون بالحديث المتفق عليه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه". وهو حديث متفق عليه، وفي رواية للبخاري:"لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ "
(1)
الذي لا يجري بيان للدائم "ثم يغتسل فيه". فيقولون: هذا نصٌّ في النهي على أن لا يبولَ الإنسان في الماء الدائم، فدلَّ ذلك على أنَّ الماء يتأثر بالنجاسة، ولا يخرجنا من ذلك إلا أن نخص من ذلك الماء الكثير الذي وصفوه.
إذًا؛ قالوا: هذا دليل يدلُّ على أنَّ البول يؤثر في الماء؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه "، قالوا: فهذا نهي، والنهي يقتضي الفساد، ولا مانع هنا إلا النجاسة.
إذًا الذي يخرج من هذا هو الماءُ الكثير الذي لا تسري به النجاسة إلى أطرافه الأخرى.
* قول: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(2)
إِلَى أَنَّ الحَدَّ فِي ذَلِكَ هُوَ قُلَّتَانَ مِنْ قِلال هَجَرَ، وَذَلِكَ نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ رِطْلٍ).
مذهب الشَّافِعِيُّ وأحمدُ في المشهور عنه، ومعهم جماعة كثيرون إلى
= بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر لا يجوز الوضوء وإلا جاز وممن نص على أنه ظاهر المذهب شمس الأئمة السرخسي في المبسوط وقال: إنه الأصح وقال الإمام الرازي في أحكام القرآن في سورة الفرقان: إن مذهب أصحابنا أن كل ما تيقنا فيه جزءًا من النجاسة أو غلب على الظن ذلك لا يجوز الوضوء به سواء كان جاريًا أو لا. اهـ ".
(1)
البخاري ح 239.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 123)؛ حيث قال: " (ولا تنجس قلتا الماء) الصرف (بملاقاة نجس) جامد أو مائع
…
وفارق كثير الماء كثير غيره فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة".
أنَّ الحد في ذلك هو القلتين، ودليلهم في ذلك قال:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث". وفي رواية: "لم ينجس".
قالوا: فهذا نصّ في أنَّ الماء إذا بلغ قلتين لا تلحقه النجاسة.
ويرد عليهم بعض العلماء بعدة ردود ويقولون: إذا كنتم تقولون بأنه إذا بلغ الماء قلتين لا ينجس، فمعنى هذا أنه حتى إذا غير أحد أوصافه لا ينجس.
يقولون: لا، هذا مخصوص؛ لأنَّ الإجماع قد خصّ هذا الحديث، يعني: إذا وصل الماء قلتين لا ينجسه شيء إلا الذي يغير اللون أو الطعم والريح، فاعتبروا حديثهم هذا عامًّا يخصّصه هذا الحديث.
إذًا، هم يقولون:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه" فهم يرون: أن حديثهم يُخَصِّص حديث بئر بضاعة الذي سيأتي.
وحديث بئر بضاعة عندما سئل الرسول عليه الصلاة والسلام أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يُرمى فيها لحومْ الكِلَابِ والحَيْضِ والنَّتنْ، فقال:"الماء طهور لا ينجسه شيء".
وهذا الحديث سنرى أنه عمدة الفريق الأول الذين قالوا: لا يتأثر لأنَّ: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، وهذا يتعارض مع حديث القلتين، ويتعارض مع حديث:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم"، ويتعارض أيضًا مع حديث:"إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء"، وقد يعارضه في الظاهر أيضًا حديث الأعرابي:"صبوا على بول الأعرابي ذنوبًا من الماء".
وهذه الأحاديث كلُّها ظاهرها التعارض، لكنَّها تحتاج إلى أن يُجمعَ بينها، فكل فريقٍ حاول أن يصرف بعض الأدلة لقوله، وأن يدعم بها رأيه.
* قول: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الحَدَّ فِي ذَلِكَ هُوَ قُلَّتَان مِنْ قلال هَجَرَ).
وذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، [أضيف].
* قول: (وَذَلِكَ نَحْوُ)[قلال]
(1)
(مِنْ خَمْسمَائة رطل).
الكلام فيه تقديم وتأخير وتقديره: وذلك نحو خمسمائة رطل من قلال هجر.
* قول: (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا، وَلَكِنْ قَالَ: إِنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُ قَلِيلَ المَاءِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ
(2)
، وَهَذَا أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ
(3)
، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا المَاءَ مَكْرُوهٌ
(4)
، فَيَتَحَصَّلُ عَنْ مَالِكٍ فِي المَاءِ اليَسِيرِ تَحُلُّهُ النَّجَاسَةُ اليَسِيرَةُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: إِنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُهُ، وَقَوْلٌ: إِنَّهَا لَا تُفْسِدُهُ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ مَكْرُوةٌ).
(1)
مثبت من نسخة المعرفة وحدها (1/ 24)، وقد استغربها الشيخ وخطأها، وهو الصواب، ففي نسختي صبيح (1/ 18)، ونسخة دار السلام (1/ 60) الكلام بدونها.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 123)؛ حيث قال: " (ودونهما) أي والماء دون القلتين (ينجس) هو ورطب غيره كزيت وإن كثر (بالملاقاة) للنجاسة المؤثرة وإن لم يتغير".
(3)
يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" لخليل بن إسحاق (1/ 14)؛ حيث قال: "اختُلف في مقدار القليل، فوقع لمالك أنه آنية الوضوء والغسل. وفي كلام عبد الوهاب أنه الحب والجرة، وقال بعض المتأخرين: إنه القلتان، على ما جاء في الحديث".
(4)
يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" لخليل بن إسحاق (1/ 14)؛ حيث قال: "والقليل بنجاسة: المشهور: مكروه. وقيل: نجس".
الخلاصة:
الفريق الأول: وهي رواية للإمام مالك التي صدّر بها المؤلف كلامه، ورواية غير مشهورة للإمام أحمد، وأخذ بها بعض الحنابلة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وأخذ بها بعض علماء الشافعية، بل لو قرأتم في كتب النووي تجدون أنه يقول: وهذه أصح الأقوال بعد مذهبنا، يعني هو يقدم القول الأول في القلتين، ويجعل هذا القول الثاني هو الصحيح، لكن هذا رأي له بلا شك، وقد يأتي غيره ويخالفه.
أما الذين قالوا: بأن الماء إذا خالطته نجاسة فاستحالت فيه ولم تغيره يستدلون أولًا:
- بحديث بئر بضاعة، يقولون: هذه بئرٌ ذُكِرَ للرسول عليه الصلاة والسلام حتى بعضهم يقرأها، أنتوضأ، أتتوضأ، وورد في بعض ألفاظه:"يا رسول الله أنه يُسْتَقَى لك من بئر بضاعة وهي بئر يُلْقَى فيها لحوم الكلاب والحيض يعني: الخرق التي يمسح فيها دم الحيض، والنتن يعني: الشيء العفن يلقى فيها". لكن هنا يرد سؤالًا أيضًا، هل هذه الأمور تُلْقَى في هذه البئر، ويعرف أنه يستقى منها؟
أجاب العلماء عن ذلك وقالوا: هي كانت تقع في مكانٍ منحدرٍ، وكانتْ إذا جاءت السيول نقلت هذه الأمور فنزلت فيها.
وبعضهم يقول: كانت إذا جفت هذه الخرق تأتي العواصف فتنقلها فتطرحها فيها.
*
فائدة:
وبئر بضاعة هذه تكلم عنها العلماء، وكلمة بضاعة هل هي اسم لصاحبها أو للبئر نفسه، منهم من قال: بضاعة هي اسم للبئر، ومنهم من قال: هي اسمٌ لصاحبها، وهذا لا يؤثر.
بئر بضاعة هذه سيحصل النزاع فيها، وهي من أقوى الأدلة التي يعارض بها مذهب الحنفية، أي: يأتي العلماء الآخرون فيبطلون بهذا
الحديث مذهب الحنفية، ويقولون: هذا الحديث نصٌّ في أن هذه البئر تُلقى فيها لحوم الكلاب، ويلقى فيها خرق الحيض، وكذلك النتن، كل هذا يُجمع فيها، وهذه أمور لا شك أنها نجسة، فكيف تقولون بقولكم، والحديث يقول: ولما سئل الرسول عن ذلك قال: "الماء طهورٌ لا ينجسه شيء"، أول الحديث أنها يُستقى لك من بئر بضاعة، وفي رواية وهي بئر يلقى فيها الحيض
…
قال: "الماء طهورٌ لا ينجسه شيء".
إذًا، هذا نصٌّ في أنَّ الماء طهورٌ لا ينجِّسه شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في هذه البئر هل ماؤها كثيرٌ أو غير كثير، غير أنه بعد المعاينة تبين أن هذه البئر ليس مائها بكثيرٍ؛ لأنَّ أبا داود المحدث من العلماء الذين اهتموا بذلك وقال: إنه ذهب إلى قيِّمها وسأله أن ينزلَ فيها، وقد وجد أنَّ عرضها ستةُ أذرعٍ وأنّ عمقها إذا زاد ماؤها تصل إلى العانة، وإذا نقص دون العورة، فهي بهذا القدر لا تتجاوز ما يقرب من قلتين أو تزيد قليلًا أو تنقص.
إذًا، ماؤها ليس كما يقول الحنفية ماء كثير يشبه المستبحر، وهذا الحديث دليلٌ يُعارَض به مذهب الحنفية، فاضطر الحنفية إلى القول بأن البئر كانت جاريةً.
ما دليلكم على ما ذهبتم إليه؟
قالوا: لأنَّ الواقديَّ المؤرخَ المعروفَ قال: كانت تُسْقى منها البساتين والمزارع المجاورة لها، وفهموا من هذا أنَّها كانتْ جاريةً.
وقد رُدّ عليهم: بأنَّه لا مانعَ أن يُسقى منها البساتينُ والمزارعُ المجاورةُ، كعادةِ العرب إلى وقتٍ قريبٍ، فإنهم يخرجون الماء إما بالدَّلو أو عن طريق الناضحةَ، وهذا أمر معروف إذا كانت هناك مكائن تخرج الماء.
ولكن قال عدد من العلماء: بأنَّ المدينة في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن فيها عيونٌ جاريةٌ، فالعين الزرقاء بعده صلى الله عليه وسلم،
وكذلك العيون التي في حمزة هذه، قالوا: لم تكن جاريةً وإنما نبعتْ بعد ذلك.
والذي دعا الحنفية بأن يقولوا بأنَّها جارية حتى يقوُّوا مذهبهم، لأنَّ هذا أقوى دليلِ يعارضهم، وهو أيضًا أقوى دليلِ يعارض مذهب الشافعية والحنابلة في رأَيهم المشهور.
إذًا؛ هذا الحديث نصٌّ في أنَّ: "الماء طهورٌ لا ينجِّسُه شيءٌ"، ويؤيده أيضًا إطلاقُ الماءِ، فإنَّ اللهَ تعالى عندما نقلنا من الوضوء إلى التيمم قال:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6]، وماءٌ نكرةٌ، ولم يقيد هذا الماء بنوع من المياه، فإنما يُخرج من ذلك الماء المجمع عليه وهو النجاسة، وبذلك أكون أعطيتكم جزءًا مبسَّطًا من دليلِ واحتجاجِ الفَريقِ الأوَّلِ.
من ناحية أُخرى، العلماء ردُّوا على الحنفية وقالوا: إن الواقديَّ ضعيفٌ فيما يرفعه، فما بالك بما يُرسله، وإذا كان ذلك قولٌ خاص له فهو أضعف كذلك، ولذلك ضعَّفوا هذا القول.
وهذه عبارة أنا أعطيتك إياها مجملة، لأنها غير موجودة في الكتاب.
الذين قالوا بحديث القلتين قالوا: حديثنا مخصص لحديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، قالوا: ذاك عامٌ مخصوص، الذي خصَّصه هو حديث القلتين؟ وهو حديثٌ صحيح، فنسمي هذا الحديث عائم مخصوص بحديث القلتين، هكذا يقولون.
لكنِ الآخرون لهم أيضًا اعتراضات عليهم كثير في هذا القول.
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا، وَلَكِنْ قَالَ: إِنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُ قَلِيلَ المَاءِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، وَهَذَا أيضًا مَرْوِيّ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ أيضًا أَنَّ هَذَا المَاءَ مَكْرُوة. فَيَتَحَصَّلُ عَنْ مَالِكٍ فِي المَاءِ اليَسِيرِ تَحُلُّهُ النَّجَاسَةُ اليَسِيرَةُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْذ إِنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُهُ، وَقَوْلٌ إِنَّهَا لَا تُفْسِدُهُ).
(قَوْلٌ إِنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُهُ) هذا القول عن مالك.
(وَقَوْلٌ إِنَّهَا لَا تُفْسِدُهُ) وهو القول المشهور عن مالك، وهو الذي علّق عليه أصحابه وأيَّده جمع من العلماء، وهي الرواية الأُخرى للحنابلة، وهي أقوال في مذهب الشافعي، ومن أكابر الشافعية الذين أخذوا بهذا القول الإمام النووي، بل هو من محقّقي علماء الشافعية.
قوله: (وإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ).
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ هُوَ تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَقَدِّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ
…
"
(1)
الحَدِيثَ، يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ قَلِيلَ المَاءِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:"لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ"
(2)
، فَإِنَّهُ يُوهِمُ بِظَاهِرِهِ أَيْضًا أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ قَلِيلَ المَاءِ، وَكَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْي عَنِ اغْتِسَالِ الجُنُبِ فِي المَاءِ الدَّائِمِ
(3)
. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ الثَّابِتُ: "أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَبَالَ فِيهَا، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبِ مَاءٍ، فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ "
(4)
، فَظَاهِرُهُ أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ لَا يُفْسِدُ قَلِيلَ المَاءِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ المَوْضِعَ
(1)
أخرجه البخاري (162)، ومسلم (238).
(2)
أخرجه البخاري (239)، ومسلم (282).
(3)
أخرج مسلم (283): عن أبي هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة، قال:"يتناوله تناولًا".
(4)
أخرجه البخاري (220).
قَدْ طُهِّرَ مِنَ الذَّنُوبِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ كذَلِكَ أَيْضًا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، قَالَ:"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ يُستَقَى مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا لُحُومُ الكِلَابِ وَالمَحَائِضُ وَعَفَرَةُ النَّاسِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ المَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ"
(1)
).
القول الأول دليلهم: حديث بئر بضاعة، وهي بئر تُلقى فيه الكلاب، وفيه الخرق التي فيها دم الحيض، وفيها النتن بمعنى: أن الأوساخ النجسة تُلقى في هذه البئر، ومع ذلك لم نجد أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام استفصل، ولا قال: هل حصل أو يحصل، إنما جاءنا إجماعٌ على أنه إذا تغير الطعم أو اللون أو الريح، معنا هذا، وقال أيضًا:"الماء طهور لا ينجسه شيء"، فلو كان شرط ذلك القلتان لبيَّنه، والعلماء يقولون: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والذين سألوا الرسول قالوا: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، وقيل له في السؤال في الرواية الأخرى: إنه يُستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها كذا وكذا فقال:"الماء طهورٌ لا ينجِّسه شيءٌ"، وهذا هو أقوى دليل للفريق الأول.
وأيضا من أدلتهم إطلاق الماء في الآيات وفي الأحاديث، ومن ذلك قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} .
وجوابهم عن حديث القلتين كثيرٌ جدًّا سيأتي أثناء المناقشات.
وجوابهم عن حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا" الرواية المتفق عليها، ورواية مسلم:"فلا يغمس يده في الإناء".
من العلماء من يقول: إن العلة هنا غيرُ معقولة المعنى، لأنَّ هذا أمرٌ تعبدي.
(1)
أخرجه أبو داود (66)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح بطرقه وشواهده.
ومنهم من يقول: العلة معقولة المعنى؛ لأنَّ الإنسان إذا نام قد تطوف يده في جسمه، وقد يكون نامَ مستجمرًا، ومع العرق يسيل شيءٌ من محل النجو، الذي استنجى فيه وقد تمسه يده، فتكون يده وقعت على نجاسة، ولذلك عليه أن يغسلها، وهذا ما علَّل به الشافعي وبعض العلماء.
لكنَّ هذا الحديث -كما تعلمون- لا يصلح دليلًا للشافعية ولا للحنفية ولا للمالكية، وإن كان المالكية في هذه الرواية يرون أن الماء لا يتأثر، وإنما هو يصلح دليلٌ للحنابلة الذين سبق -أن رأيتم- في رواية أنهم قالوا: إنه لا تدخل اليدان في الماء قبل أن تُغسلا خارج الماء.
إذًا، إما لأنها عبادة معقولة المعنى، وإما لأنَّ النجاسة مظنونة، أي: ليست متيقنة هنا، قالوا: والنجاسة هنا مظنونة فهي غير متيقنة، أي: أن النجاسة مشكوكٌ فيها.
قالوا: فلا نأتي بهذا الحديث فنعارض به الأدلة الصريحة، وهذا الحديث يحتمل أنه غير معقول المعنى، وهناك احتمال آخر: أن النجاسةَ قد تكون مظنونة، وهناك احتمال ثالث: أنه كما ورد في الخياشيم للاستنشاق والاستنثار: "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ"
(1)
، فيقول: لا مانع أن يكون التعليل كذلك.
إذًا، هناك ثلاث عِلَل توجه إلى هذا الحديث، قالوا: فلا يعارض به الحديث الصريح في هذا المقام: "الماء طهور لا ينجسه شيء". هذه من أدلتهم.
أما أدلة حديث القلتين ففيه كلامٌ كثير، فهناك كلامٌ في أنَّ سنده مضطرب، وهذا الكلام حقيقةً غير مُسَلّم لأن سنده قد صحّ.
الأمر الآخر، أنه ورد فيه: قلتان، وورد فيه: ثلاث قلال، وهذه محل نزاع مما يُضعّف به الاحتجاج على الشافعية والحنابلة في هذا.
(1)
البخاري ح 3295.
فيه آخر: أنه ورد أربعون قلة، ولكن هؤلاء أجابوا بأنهم قالوا: هذا قول لعبد الله بن عمر، هو الذي قال: أربعون قلة، وهناك من قال بأنها: أربعون دلوًا. وهذا قول لعبد الله بن عمرو، وهناك من قال بأن القول بأن قوله:(إذا بلغ الماء قلتين) هو موقوفٌ على عبد الله بن عمر راوي الحديث.
إذًا هناك تعليلٌ آخر: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث".
هنا الاستدلال بمفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة محل خلاف بين العلماء، وإن كان الذين استدلوا بالحديث يأخذون به، وهنا جاءت المناسبة أن نُذَكِّر الإخوة الذين سألوا عن دليل الخطاب، وقالوا: ما معنى دليل الخطاب؟ تعلمون عندما يأتي النص يكون له منطوقٌ ومفهوم، فمنطوقه هو لفظ هذه الآية والحديث، فمثلًا الله سبحانه وتعالى يقول بالنسبة لحق الوالدين:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] هذا منطوق، وله مفهوم، المفهوم نوعان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.
مفهوم الموافقة قد يكون مفهوم أولى، يعني: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به كما في هذه الآية: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فلا يجوز ضرب الوالدين؛ لأنه إذا كان لا يجوز أن يُقال لهما: أُفٍّ فما بالك بالضرب وغيره.
إذًا؛ هذا لا يجوز من باب أولى، وهذا يسمونه مفهوم موافقة أولى، وشمميه الأصوليون بفحوى الخطاب.
هناك مفهومٌ مساوٍ: الله سبحانه وتعالى حرم أكل أموال اليتامى فقال عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].
* قول: (فَرَامَ العُلَمَاءُ الجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ الجَمْعِ، فَاخْتَلَفَتْ لِذَلِكَ مَذَاهِبُهُمْ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى القَوْلِ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الأعْرَابِيِّ وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: إِنَّ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ مَعْقُولَيِ المَعْنَى، وَامْتِثَالُ مَا تَضَمَّنَاهُ عِبَادَةٌ، لَا لِأَنَّ ذَلِكَ المَاءَ يَنْجُسُ، حَتَّى إِنَّ الظَّاهِرِيَّةَ أَفْرَطَتْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ: لَوْ صَبَّ البَوْلَ إِنْسَانٌ فِي
ذَلِكَ المَاءِ مِنْ قَدَحٍ لَمَا كُرِهَ الغُسْلُ بِهِ وَالوُضُوءُ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الوَجْهِ مَنْ قَالَ هَذَا القَوْلَ، وَمَنْ كرِهَ المَاءَ القَلِيلَ تَحُلُّهُ النَّجَاسَةُ اليَسِيرَةُ جَمَعَ بَيْنَ الأَحَادِيثِ، فَإِنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ على الكَرَاهِيَةِ، وَحَمَلَ حَدِيثَ الأَعْرَابِيِّ وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى ظَاهِرِهِمَا (أَعْنِي: عَلَى الإِجْزَاءِ). وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَجَمَعَا بَيْنَ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ بِأَنْ حَمَلَا حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى المَاءِ القَلِيلِ، وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى المَاءِ الكَثِيرِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الحَدَّ فِي ذَلِكَ الَّذِي يَجْمَعُ الأَحَادِيثَ هُوَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ
(1)
، وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ حَزْمٍ
(2)
، قَالَ:"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المَاءِ، وَمَا يَنُوبْهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ؟ فَقَالَ إِنْ كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا"، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الحَدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ القِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ سَرَيَانَ النَّجَاسَةِ فِي جَمِيعِ المَاءِ بِسَرَيَان الحَرَكَةِ، فَإِذَا كَانَ المَاءُ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا أَنْ تَسْرِيَ فِي جَمِيعِهِ، فَالمَاءُ طَاهِرٌ، لَكِنْ مَنْ ذَهَبَ هَذَيْنِ المَذْهَبَيْنِ، فَحَدِيثُ الأَعْرَابِيِّ المَشْهُورُ مُعَارِضٌ لَهُ وَلَا بُدَّ، فَلِذَلِكَ لَجَأَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنْ فَرَّقَتْ بَيْنَ وُرُودِ المَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَوُرُودِهَا عَلَى المَاءِ، فَقَالُوا: إِنْ وَرَدَ عَلَيْهَا المَاءُ كَمَا فِي حَدِيثِ الأَعْرَابِيِّ لَمْ يَنْجُسْ، وَإِنْ وَرَدَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى المَاءِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَجُسَ. وَقَالَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ: هَذَا تَحَكُّمٌ، وَلَهُ إِذَا تُؤُمِّلَ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
(1)
أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67).
(2)
لم أقف على شيء من ذلك إلا قول ابن حزم في: "الإحكام في أصول الأحكام "(7/ 21): "قوله سبحانه وتعالى: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث أو لم ينجس) على أنه أصح من حديث بئر بضاعة
…
".
إِنَّمَا صَارُوا إِلَى الإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ اليَسِيرَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي المَاءِ الكَثِيرِ إِذَا كَانَ المَاءُ الكَثِيرُ بِحَيْثُ يُتَوَهَّمُ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَسْرِي فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَيْنُهَا عَنِ المَاءِ الكَثِيرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ قَدْرًا مَا مِنَ المَاءِ لَوْ حَلَّهُ قَدْرٌ مَا مِنَ النَّجَاسَةِ لَسَرَتْ فِيهِ وَلَكَانَ نَجِسًا، فَإِذَا وَرَدَ ذَلِكَ المَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ جُزْءًا فَجُزْءًا، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَفْنَى عَيْنُ تِلْكَ النَّجَاسَةِ، وَتَذْهَبُ قَبْلَ فَنَاءِ ذَلِكَ المَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ آخِرُ جُزْءٍ وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ قَدْ طَهَّرَ المَحَلَّ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِمَّا بَقِيَ مِنَ النَّجَاسَةِ نِسْبَةُ المَاءِ الكَثِيرِ إِلَى القَلِيلِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَيذَلِكَ كَانَ العِلْمُ يَقَعُ فِي هَذِهِ الحَالِ بِذَهَابِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ (أَعْنِي: فِي وُقُوعِ الجُزْءِ الأَخِيرِ الطَّاهِرِ عَلَى آخِرِ جُزْءٍ يَبْقَى مِنْ عَيْنِ النَّجَاسَةِ)، وَلهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ يُطَهِّرُ قَطْرَةَ البَوْلِ الوَاقِعَةَ فِي الثَّوْبِ أَوِ البَدَن. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَتِ القَطْرَةُ مِنَ البَوْلِ فِي ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ المَاءِ، وَأَوْلَى المَذَاهِبِ عِنْدِي وَأَحْسَنُهَا طَرِيقَةً فِي الجَمْعِ هُوَ أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ عَلَى الكَرَاهِيَةِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَنَسٍ عَلَى الجَوَازِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُبْقِي مَفْهُومَ الأَحَادِيثِ عَلَى ظَاهِرِهَا (أَعْنِي: حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ المَقْصُودَ بِهَا تَأْثِيرُ النَّجَاسَةِ فِي المَاءِ. وَحَدُّ الكَرَاهِيَةِ عِنْدِي هُوَ مَا تَعَافُهُ النَّفْسُ، وَتَرَى أَنَّهُ خَبِيثٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَعَافُ الإِنْسَانُ شُرْبَهُ يَجِبُ أَنْ يَجْتَنِبَ اسْتِعْمَالَهُ فِي القُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَعَافَ وُرُودَهُ عَلَى ظَاهِرِ بَدَنِهِ كَمَا يَعَافُ وُرُودَهُ عَلَى دَاخِلِهِ، وَأَمَّا مَنِ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ قَلِيلَ المَاءِ، لَمَا كَانَ المَاءُ يُطَهِّرُ أَحَدًا أَبَدًا، إِذْ كانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ المُنْفَصِلُ مِنَ المَاءِ عَنِ الشَّيْءِ النَّجِسِ المَقْصُودِ تَطْهِيرُهُ أَبَدًا نَجِسًا؛ فَقَوْلٌ لَا مَعْنًى لَهُ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ نِسْبَةَ آخِرِ جُزْءٍ يَرِدُ مِنَ المَاءِ عَلَى آخِرِ جُزْءٍ يَبْقَى مِنَ النَّجَاسَةِ فِي
المَحَلِّ نِسْبَةُ المَاءِ الكَثِيرِ إِلَى النَّجَاسَةِ القَلِيلَةِ، وَإِنْ كانَ يُعْجَبُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ المُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ المَاءَ الكَثِيرَ لَا تُفْسِدُهُ النَّجَاسَةُ القَلِيلَةُ، فَإِذَا تَابَعَ الغَاسِلُ صَبَّ المَاءِ عَلَى المَكَان النَّجِسِ أَوِ العُضْوِ النَّجِسِ).
المؤلف يتحدث عن النجاسة إذا صُبَّ عليها الماء وليس النجاسة إذا وقعت فيه، لذلك انتهينا منه وشرحناه وقرأناه.
* قول: (فَيُحِيلُ المَاءُ ضَرُورَةً عَيْنَ النَّجَاسَةِ بِكَثْرَتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ المَاءِ الكَثِيرِ أَنْ يَرِدَ عَلَى النَّجَاسَةِ الوَاحِدَةِ بِعَيْنِهَا دُفْعَةً، أَوْ يَرِدَ عَلَيْهَا جُزْءًا بَعْدَ جُزْءٍ، فَإِذَنْ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا احْتَجُّوا بِمَوْضِعِ الإِجْمَاعِ عَلَى مَوْضِعِ الخِلَافِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، وَالمَوْضِعَانِ فِي كَايَةِ التَّبَايُنِ، فَهَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ مِنْ سَبَب اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، وَتَرْجِيحِ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا، وَلَوَدِدْنَا لَوْ سَلَكْنَا فِي كُلًّ مَسْأَلَةٍ هَذَا المَسْلَكَ، لَكِنْ رَأَيْنَا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي طُولًا، وَرُبَّمَا عَاقَ الزَّمَانُ عَنْهُ، وَأَنَّ الأحْوَطَ هُوَ أَنْ نَؤُمَّ الغَرَضَ الأَوَّلَ الَّذِي قَصَدْنَاهُ، فَإِنْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَكَانَ لَنَا انْفِسَاحٌ مِنَ العُمُرِ، فَسَيَتِمُّ هَذَا الغَرَضُ).
يقول المؤلف: نودُّ أننا في كل مسألة نبسط القول ونفصّل ونذكر آراء العلماء، وهو كما ترون مع بسطه وتفصيله لم يتناول كل الذي ورد في المسألة، لأنَّ مسائل الفقه موسَّعة، والخلاف فيها منتشر ودقيق ومبسوط، لكنه هو من حيث الجملة لا شك أنه استوفى هذه المسألة الكبرى.
* قول: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: المَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ زَعْفَرَانٌ).
الماء الذي خالطه زعفران، أو وَرْدٌ أو قرنفل أو ماءُ باقلاء أو حمص أو غير ذلك من الأمور، هذه الأشياء إذا خالطت الماء لا يخلو الحال من أمورٍ؛ لأنه إمَّا أن يكون اختلاط هذه الأشياء الطاهرة اختلاطٌ
يسير، بحيث أنه لا يؤثر على أوصاف الماء الثلاثة التي هي الطعم أو الريح أو اللون، وهذا محل اتفاقٍ بين العلماء أنه باقٍ على طهوريته، لكنَّ الكلام هنا عن الماء إذا خالطه طاهرٌ فغيَّر صفةً من صفاته، إما غير طعمه، فإذا شرب الإنسانُ أحسَّ بتغيّر الطعم، أو غيَّر لونَهُ، فتغير من لون الماء الأبيض إلى غيره، أصبح داكنًا أو غير ذلك، أو غيَّر طعمه، بأن تغير إذا شرب الإنسان أحس بتغيّر الطعم، أو تغيرت رائحته بأن خرجت فيه رائحة بيّنة، مع أن قضية الرائحة محل خلاف بين العلماء، لكن الخلافَ فيها يسيرٌ في المذاهب، فهم يدخلونها ضمن الصفات الثلاث.
هذا هو الماء الطاهر، وهذا الذي يتحدث عنه إذا خالطه طاهرٌ مما ينفك عنه غالبًا، لأنه قد يأتي طاهرٌ لا ينفك عن الماء غالبًا إمَّا لمجاورته، أو لأنَّه يعيش في وسط الماء، فهذا لا تأثيرَ له لأنَّه معفوٌّ عنه.
* قول: (أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي تَنْفَكُّ مِنْهُ غَالِبًا مَتَى غَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ).
يعني بقوله: "التي تنفك منه غالبًا"، أي: التي يمكن الاحتراز منها، لكن التي لا تنفك منه غالبًا مثل الطحلب الذي يخرج في الماء، وكذلك الأوراق التي تنبت فيه أو تتساقط، وكذلك مما يكون في مجاورة الماء من الأشياء ذات الروائح كالعنبر والكافور والعود، وكذلك شجر الأدهان هذه قد تؤثر على رائحة الماء أو على طعمه، لكنَّها لا تسلبه الطهورية؛ لأنها أثَّرت عليه بالمجاورة لا بالاختلاط.
وهنا نعطي تفصيلًا يسيرًا: الطاهرات أنواعٌ: فهناك ما يُعرف بالطاهر المُعْتَصَر، أي: الذي يُعْتَصَرُ من الأشجارِ، وما يُعْرَفُ بماء الورد، أو كذلك الذي يُعتصَر من الفواكه، هذه كلُّها لا تُطهّر، يعني: هذه ليست محلًّا للطهارة، هذه التي تعصر من الأشجار أو من بعض النباتات أو الورود أو من الفواكه التي ترون، أو غيرها، هذه لا أثر لها في الطهارة، كذلك الماء إذا خالطته غيره من الطاهراتِ فسلبته اسمه، بمعنى: غُيِّر الاسم، فصار يُسمّى ماء الورد، أو ماء الزعفران، أو ماءَ القرنفل، أو ماءَ
الباقلاء والحمّصِ أو غير ذلك حينئذٍ هذا لا يُطهّر، إلا خلاف شاذّ في ماء الباقلاء، وهو وجهٌ ضعيف عند بعض علماء الشافعية، وكذلك نُقِلَ أيضًا عن ابن أبي ليلى والأصَمِّ أنهما قالا: بأنّ ما اعْتُصِرَ من النبات فإنه يُطهِّر، وهذه كلها آراءٌ شاذَّةٌ.
إذًا رأينا من هذا أن ما يُعْتَصرُ من نباتٍ أو شجرٍ، فإنه لا يُطهِّر قولًا واحدًا، كذلك ما خالط الماء فغيَّره لا يطهِّر أيضًا.
كذلك ما طُبِخَ في الماء من الطَّاهرات -كما ترون- في أنواع المرق من الكوسة والبامية وغير ذلك، والباقلاء والفول وغير ذلك، فهذه لا تُطهّر، وهذا هو النوعُ الأوَّلُ.
يأتي بعد ذلك قسمٌ آخر وهو يتنوعُ: أنواع الذي لا يؤثر على الماء، وهو الذي لا ينفكُّ عنه غالبًا كالطحلب وغيره مما يخرج في الماء، أو مما يجاور الماء من أشجار العنبر والعود وغير ذلك من التي تؤثر في ريحه.
كذلك أيضًا مما لا تأثير له في الماء مما يشرك الماء في صفة الطهورية والتطهير وهو التراب، إلَّا أن يكثر التراب بحيث يتحول الماء إلى طينٍ، فإنه حينئذٍ لا يصلح للطهارةِ به.
المحل الذي هو موضع خلاف هو الذي ذكره المؤلف، وهو الذي فيه تفصيل، الماء إذا خالطه زعفرانٌ أو ماء ورد أو قرنفل أو حمص أو باقلاء أو صابون أو أشنان أو غير ذلك من الطاهرات، فغيرت صفةً من صفاتِهِ، سيذكر المؤلف أن العلماء قد انقسموا إلى قسمين:
- جمهور الفقهاء: وهم المالكية والشافعية، وهي الرواية المشهورة عند الحنابلة، أنه يبقى طاهرًا وليس مطهِّرًا.
- القول الثاني: أنَّ هذه الأشياء التي خالطت الماءَ من الطَّاهرات فغيَّرت صفةً أو أكثر من صفاته، لا تسلبه صفة الطهورية، بل يبقى طهورًا يُتطَهَّر به كغيره، وهو مذهب الحنفية والرواية الأُخرى عن الحنابلة.
وهذه هي التي يدعمها كثيرٌ من العلماء.
* قول: (فَإِنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ العُلَمَاءِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
وَالشَّافِعِيِّ)
(2)
.
انظروا هنا المؤلف كيف عبَّر، قال:"فإنه طاهر عند جميع العلماء"، وهذا لا خلاف فيه، يريد المؤلف أن يقول: هذه الطاهرات إذا اختلطت بالماء فغيرت صفةً أو أكثرَ من صفاته، يظل هذا الماء طاهرًا إجماعًا، لكن هل يبقى طهورًا كما كان كالحال في الماء المطلق أو لا، هذا هو محل الخلاف.
* قوله: (وَمُطَهِّرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
(3)
.
ومطهر عند أبي حنيفة، وهي الرواية الأُخرى عند الإمام أحمد.
* قوله: (مَا لَمْ يَكُنِ التَّغَيُّرُ عَنْ طَبْخٍ).
فإن كان التغير عن طبخ انضم إلى الثلاثة التي هي المعتصرات من
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 58، 59)؛ حيث قال: "والمعنى: أن الحدث وحكم الخبث يرتفع بالماء المطلق، ولا يرتفع شيء من ذلك إلا بالماء المتغير؛ سواء كان تغيره في اللون، أو في الطعم، أو في الريح، إذا كان المغير للماء ينفك عنه الماء غالبًا، وسواء كان ذلك المغير طاهرًا أو نجسًا، وذلك كالدهن الذي يخالط الماء؛ أي: يمازجه، وكاللبن، والزعفران والخل وغير ذلك ".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 117)، حيث قال:" (فالمتغير) بشيء (مستغنى) بفتح النون وكسرها (عنه) طاهر مخالط (كزعفران) وماء شجر ومني وملح جبلي (تغيرًا يمنع) لكثرته (إطلاق اسم الماء) عليه (غير طهور) سواء أكان قليلًا أم كثيرًا؛ لأنه لا يُسمَّى ماء".
(3)
يُنظر: "ملتقى الأبحر" لإبراهيم الحنفي (ص 48)؛ حيث قال: "وإن غيَّر طاهر بعض أوصافه؛ كالتراب والزعفران والصابون،
…
، فإنه كالجاري وهو ما يذهب بتبنة فيجوز الطهارة به ما لم ير أثر النجاسة وهو لون أو طعم أو ريح ".
وهو مذهب أحمد؛ يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 30، 31)؛ حيث قال: (و) إن كان التغير (في محله)، أي: التطهير فهو طهور، كما لو تغير الماء بزعفران في محل الوضوء أو الغسل فهو طهور ما دام في محل التطهير؛ لمشقة التحرز".
النبات أو الشجر، أو الذي يطبخ في الماء، أو الذي خالط الماء فسلبه اسمه، فصار لا يُسمّى ماءً، وإنما يُسمَّى غير الماء ماء ورد أو نحو ذلك.
* قول: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ خَفَاءُ تَنَاوُلِ اسْمِ المَاءِ المُطْلَقِ لِلْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ أَمْثَالُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ، أَعْنِي: هَلْ يَتَنَاوَلُهُ أَوْ لَا يَتَنَاوَلُهُ؟).
المؤلف هنا ذكر سبب الخلاف: وهو هل الماء المطلق يتناول هذا الماء الذي خالطه زعفران أو غيره من الطاهرات؟ وهل يظلُّ هذا الماءُ يحمل اسم الماء المطلق أو لا؟
إن قلنا: هو يحملُ اسمَ الماء المطلق فهو لم يتغيّر، فينبغي أن يكونَ طهورًا.
وإن قلنا: لا يحمله، لأنه تغير بهذه المخالطة، وأصبح غير ماءٍ مطلقٍ فينبغي أن لا يكون مُطَهِّرًا.
والذين يقولون بأنه لا يزال طهورًا يستدلون:
1 -
بقول الله سبحانه وتعالى في آخر آية الوضوء: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6] فيقولون: (ماءً) نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم.
2 -
والله سبحانه وتعالى أباح التيمم في حالة عدم وجود الماء، وهذا ماءٌ طاهرٌ فينبغي أن يُتَطَهّر به، لأنَّه وإن خالطه غيره فهو ماء، والاية أُطلقت ولم تفرق بين الماءِ المطلق وبين ما يُضاف إليه؛ لأنه ما دام يحمل اسم الماء فهو ماء، ولا ينبغي أن نفرِّق بينه وبين غيره، لأننا نسميه ماء، ولا نسميه ماء ورد ولا ماء زعفران ولا ماء باقلاء ولا حمص ولا نسميه مثلًا من أنواع الغازات، الآن الأشربة الغازية التي تشرب، هذه كلها خارجة عنها.
قالوا: ما دمنا نسميه ماءً فينبغي أن يبقى على حالته الأولى، والرسول عليه الصلاة والسلام قال:"التراب كافيك ما لم تجد الماء"،
وقال عليه الصلاة والسلام: "الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ".
قالوا: وهذا واجد للماء، إذًا الماء موجود.
3 -
قالوا: ولأنَّ هذا الطاهر لا يحمل نجاسة فلا تأثير له في الماء فيبقى طهورًا. هذه وجهة هؤلاء.
يقولون الآخرون: هذا الذي خالطه سلبه صفة الماء المطلق فتغيّر، فأصبح غير صالحٍ لأن يكون طهورًا.
* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي خَالَطَهُ، فَيُقَالُ مَاءُ كذَا لَا مَاءٌ مُطْلَقٌ، لَمْ يُجِزِ الوُضُوءَ بِهِ، إِذْ كانَ الوُضُوءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالمَاءِ المُطْلَقِ).
هو يريد أن يقول، لكن نحن لا نقول: ماء الورد.
إذا زاد الاختلاط خرج إلى الصفات الأولى، لكن إذا خالطه وهو لا
يزال يحمل اسم الماء، أما إذا أضيف إلى الشيء الاخر بكثرة المخالطة
تغيّر الأمر.
والخلاف كله هنا يسير في هذه المسألة ويدور حول قضية واحدة، هل هذا الماء الذي خالطه طاهز فغيّر صفةً من صفاته هل هو ماء مطلق أو لا؟
إن قلنا: هو ما: مطلق، لأنه داخلٌ في عموم الآية:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فينبغي أن يُتَطَهّر به، وهو حجة الذين قالوا بأنه طهور.
وإن قلنا: سُلِبَ عنه اسم المطلق أصبح ماءً طاهرًا لا ينبغي أن يُتَطَهّر به.
كل هذه المسألة تدور حول هذه القضية، والمؤلف لم يذكر الآياتِ ولا الأحاديثَ، لكنَّ كلامَه هو خلاصة ذلك.
* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ، أَجَازَ بِهِ الوُضُوءَ، وَلظُهُورِ عَدَمِ تَنَاوُلِ اسْمِ المَاءِ لِلْمَاءِ المَطْبُوخِ مَعَ شَيْءٍ طَاهِرٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الوُضُوءُ بِهِ).
الآن عندما يغلي الماء وتضع فيه الشاي فإنه لا يُسمى ماء، وإنما يُسمَّى شايًا، وعندما تطبخ فيه أيَّ نوعٍ من الخضروات تسميه باسمه تقول: البامية، والفاصوليا، أو الكوسة، أو الفول، أو غير ذلك.
إذًا؛ تغيّر ونُقل من اسمه المعروف إلى اسمٍ آخر، وتغير حتى شكله، كالماء مثلًا لو جئت به فوضعت به الحبر أو الصبغة أو غير ذلك فغيّرته فأصبح يُسمى حبرًا أو يُسمَّى صبغًا، فلا يسميه أحدٌ ماءً، وهذا يدخل في النوع الأول الذي لا يُتَطَهّر به.
* قوله: (وَكَذَلِكَ فِي مِيَاهِ النَّبَّاتِ المُسْتَخْرَجَةِ مِنْهُ).
يقولون: الشجرة إذا قُصَّت يكون فيها رطوبة، قد يُعتصر منها، وأنتم ترون أنه يوجد من الأشجار ما يُعتصر منه، والفاكهة أيضًا تُعتصر، إذًا هناك أنواع الفواكه كالتفاح والبرتقال وغير ذلك يُستخرج منها العصير.
* قوله: (إِلَّا مَا فِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ مِنْ إِجَازَةِ طُهْرِ الجُمُعَةِ بِمَاءِ الوَرْدِ، وَالحَقُّ أَنَّ الاخْتِلَاطَ يَخْتَلِفُ بِالكَثْرَةِ وَالقِلَّةِ، فَقَدْ يَبْلُغُ مِنَ الكَثْرَةِ إِلَى حَدٍّ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ، مِثْلَ مَا يُقَالُ: مَاءُ الغُسْلِ، وَقَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى ذَلِكَ الحَدِّ).
أنا لا أدري وجهة الذين أجازوه، لأنهم يرون أنه ماء، ولكن خصّ به طهر الجمعة، لعله نظر إلى الرائحة ونحو ذلك.
* فائدة:
أما ابن شعبانَ فهو من علماء المالكية المشهورين في القرن الرابع الهجريِّ: اسمه: محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة،
المصري، الفقيه، الأخباري، المتفنن، المعروف بابن القرطي، وبابن شعبان.
وفاته: توفي لأربع عشرة بقيت من جمادى الأُولى سنة خمس وخمسين وثلاثمئة، وقد جاوز الثمانين سنة.
* قوله: (وَبِخَاصَّةٍ مَتَى تَغَيَّرَتْ مِنْهُ الرِّيحُ فَقَطْ، وَلذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرِ الرِّيحَ قَوْمٌ مِمَّنْ مَنَعُوا المَاءَ المُضَافَ).
الذين لم يعتبروا الريح لأنهم يقولون: توجد أحيانًا أشياء بجوار الماء فتغير ريحه، كَعُود الطيب، لو نبت بجوار الماء، وكذلك العنبر، وبعض الأدهان، هذه كلها لها روائح، ما دامت منفكة عن الماء فلا تأثير لها، وإن غيَّرت حتى أثرت في رائحة هذا الماء.
وأما من قال: إنَّ بعض العلماء لا يعتبرون تغيُّر الرائحة، وهذا قول ضعيف في بعض المذاهب، وهو قول في مذهب الحنابلة لكنه ضعيف، وأظنُّه في مذهب الشافعية أيضًا.
* قوله: (وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام لِأُمِّ عَطِيَّةَ عِنْدَ أَمْرِهِ إِيَّاهَا بِغَسْلِ ابْنَتِهِ: "اغْسِلْنَهَا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الأَخِيرَةِ كافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كافُورٍ" (1)، فَهَذَا مَاءٌ مُخْتَلِطٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ الاخْتِلَاطِ بِحَيْثُ يُسْلَبُ عَنْهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ اعْتِبَارُ الكَثْرَةِ فِي المُخَالَطَةِ وَالقِلَّةِ، وَالفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَأَجَازَهُ مَعَ القِلَّةِ وَإِنْ ظَهَرَتِ الأَوْصَافُ، وَلَمْ يُجِزْهُ مَعَ الكَثْرَةِ) (2).
===
(1)
أخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939).
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 59)؛ حيث قال: "ظاهر كلام المصنف: أنه إذا تغير أحد أوصاف الماء بما ينفك عنه سلبه ذلك التغير الطهورية؛ سواء كان التغير ظاهرًا أو خفيًّا، وهذا هو المعروف في المذهب إلا ما نبه المصنف على أنه إنما=
يستدلُّ الذين يقولون: بأنه لا يتأثر بحديث أم عطية؛ لأنَّه عندما يوضع في الماء كافورٌ أو سدرٌ لا شكَّ أنه سيُؤثِّر عليه، ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لأم عطية في الحديث المتفق عليه:("اغْسِلْنَهَا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الأخِيرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ").
وكذلك يغسل المحرم بماءٍ وسدر، وكذلك الذي أسلم أيضًا. إذًا؛ هذا كله ورد.
هناك تعليلات لبعض الفقهاء يقولون: فرقٌ بين أن يوضعَ الشيء في الماء ويؤثِّر عليه، وبين أن يوضعَ على الوضوء فيدلكَ عليه ثم يُتْبَعَ بالماء.
وفي نظري أنَّ وجهة الذين يقولون: بأنَّ هذه الطاهرات إذا خالطت الماءَ ولم تسلبه اسمه المعروف يعني: ظلّ يُسمَّى ماءً، فأنا أرى قوَّة هذا المذهب.
(المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: المَاءُ المُسْتَعْمَلُ فِي الطَّهَارَةِ)
الماء المستعمل هو الماء المتساقط من الأعضاء بعد غسلها، وهو بهذا المعنى يختلف عن مسألة أُخرى مشابهة لهذه المسألة، وتُسمَّى سؤرًا
(1)
، وقد جرت عادة جل الفقهاء على إدراجهما في مسألة واحدة إلا أن المؤلف هنا فصل بينهما.
* قول: (اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ).
وهذا الماء المستعمل المتساقط من الأعضاء إما أن المتطهر استعملهُ في الوضوء عُضْوًا فعُضوًا، أو أنه اغتسلَ فيه، واختلفَ العُلَماء فِيهِ على ثلاثة أقوالٍ:
= يضر فيه التغير البين كما سيأتي، وذلك مما يبين أنه أراد الإطلاق في كلامه هنا، وحكى ابن فرحون وصاحب الجمع قولًا باغتفار التغير اليسير، وقال ابن هارون: إنه غير معروف في المذهب".
(1)
سيأتي تعريفه.
* قوله: (فَقَوْمٌ لَمْ يُجِيزُوا الطَّهَارَةَ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
(1)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ)
(2)
.
ومالك في روايةٍ
(3)
، وكذلك أحمد في رواية
(4)
.
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 120، 121)، حيث قال:" (و) الماء القليل (المستعمل في فرض الطهارة) عن حدث كالغسلة الأولى فيه (قيل: ونفلها) كالغسلة الثانية والثالثة، والغسل المسنون والوضوء المجدد طاهر (غير طهور في الجديد)؛ لأنَّ السَّلف الصالح كانوا لا يَحْترزون عن ذلك، ولا عما يتقاطر عليهم منه، وفي "الصحيحين" "أنه صلى الله عليه وسلم عاد جابرًا في مرضٍ، فتوضأ وصب عليه من وضوئه "
…
والقديم أنه طهور لوصف الماء في الآية السابقة بلفظ: "طهور" المقتضي تكرر الطهارة به، كضروب لمَنْ يتكرر منه الضرب
…
واختلف في علة منع استعمال الماء المستعمل، فَقيلَ وهُوَ الأصح: إنه غير مطلقٍ كما صحَّحه المصنف في تحقيقه وغيره، وقيل: مطلق، ولكن منع من استعماله تعبدًا كما جزم به الرافعي. وقال المصنف في "شرح التنبيه": إنه الصحيح عند الأكثرين.
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (1/ 201)، حيث قال: " (و) حكمه أنه (ليس بطهور) لحدث، بل لخبث على الراجح المعتمد.
قال ابن عابدين في "رد المحتار": (قوله: ليس بطهور) أي: ليس بمطهرٍ.
(قوله: على الراجح) مرتبطٌ بقوله: "بل لخبث"، أي: نجاسة حقيقية، فإنه يَجُوز إزالتها بغير الماء المطلق من المائعات خلافًا لمحمد". وانظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 66، 67).
(3)
يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 37) حيث قال: "الماء اليسير الذي هو قدر آنية الغسل فأقل، المستعمل في حدثٍ، يكره استعماله في حدث بشروط ثلاثة: أن يكون يسيرًا، وأن يكون استعمل في رفع حدث لا حكم خبث، وأن يكون الاستعمال الثاني في رفع حدث، فصار المأخوذ من المتن والشرح أن الماء المستعمل في حكم خبث لا يكره له استعماله، وأن الماء المستعمل في حدث لا يكره استعماله في حكم خبث
…
وحاصل ما ذكره: أن الماء اليسير المستعمل في حدثٍ متوقف على طهور".
(4)
يُنظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (1/ 35) حيث قال: "قوله: (أو استعمل في رفع حدث)، فهل يسلب طهوريته؟ على روايتين، وأطلقهما في "المستوعب"، و"الكافي"، و"الشرح"، و"نهاية ابن رزين". إحداهما: يسلبه الطهورية، فيصير طاهرًا، وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب"، وانظر:"المغن" لابن قدامة (1/ 18).
قال: "فَقَوْمٌ لَمْ يُجِيزُوا الطَّهَارَةَ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ".
بمَعْنى أنَّ هذا الماءَ المتساقط من الأعضاء المستعمل لا يرفع الحدث؛ سواء أكان الحدث أصغر أم أكبر.
* قول: (وَقَوْمٌ كَرِهُوهُ، وَلَمْ يُجِيزُوا التَّيَمُّمَ مَعَ وُجُودِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
(1)
، وَقَوْمٌ لَمْ يَرَوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَاءِ المُطْلَقِ فَرْقًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(2)
، وَدَاوُدُ، وَأَصْحَابُهُ
(3)
).
قوله: (وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ)، ونُقِلَ هَذَا كمَا ذكر العلماء عن الإمام علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأبي أمامة رضي الله عنهم
(4)
،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 41، 42) حيث قال: " (وكره ماء) أي: استعمال ماء يسير وجد غيره في طهارة حدث أو أوضية، أو اغتسالات مندوبة لا خبث، فلا يكره على الأرجح (مستعيل) ذلك الماء قبل (في) رفع (حدث) ولو من صبي، وكذا في إزالة خبث فيما يظهر
…
(وفي) كراهة استعمال ماء مستعمل في (غيره)، أي: غير حدث، وكذا حكم خبث مما يتوقف على مطلق، ويقصد معه الصلاة؛ كغسل إحرام وجمعة وعيد وتجديد وضوء وماء غسلة ثانية وثالثة وعدم كراهته (تردد)"، وانظر: "حاشية العدوي على شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 74).
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 397) حيث قال: "وكان أبو ثور يقول: إنْ توضَّأ بالماء المستعمل الذي توضأ به، أجزأه إذا كان نظيفًا". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 201).
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 182) حيث قال: "والوضوء بالماء المستعمل جائز، وكذلك الغسل به للجنابة، وسواء وجد ماء آخر غيره أو لم يوجد، وهو الماء الذي توضأ به بعينه لفريضةٍ أو نافلةٍ أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها، وسواء كان المتوضئ به رجلًا أو امرأةً
…
وهو قول
…
وأبي ثور وداود وجميع أصحابنا".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 396) حيث قال: "وقالت طائفةٌ: لا بأس بالوضوء بالماء المستعمل؛ لأنه ماء طاهر، وليس مع مَنْ أبطل الطهارة بهذا الماء حجة، وليس لأحدٍ أن يتيمم وهو يجد الماء، واحتج بعض مَنْ يقول بهذا القول بأخبارٍ رويت عن عليٍّ وابن عمر وأبي أمامة فيمن نسي مسح رأسه أو وجد بللًا في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل ".
وعن جمع من التابعين
(1)
، وهي رواية في المذاهب الثلاثة؛ المالكي
(2)
، والشافعي
(3)
، والحنبلي
(4)
أيضًا.
وهَذَا القولُ الثالثُ القائل ببقاء هذا النوع من الماء في طُهُورّيَته يقابل القول الأول القاضي بسلب طُهُورَّية هذا النوع من الماء.
* قول: (وَشَذَّ أَبُو يُوسُفَ، فَقَالَ: إِنَّهُ نَجِسٌ)
(5)
.
فَمن العُلَماء مَنْ يرَى أنه طَاهرٌ فقط، وذَهَب إلى هذا جمعٌ كثيرٌ من
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 397) حيث قال: "وكذلك قال عطاء والحسن والنخعي ومكحول والزهري ".
(2)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 25) حيث قال: "الماء المستعمل في
الوضوء أو الغسل إذا لم يغيره الاستعمال، فهو طاهر مطهر، ولكن يكره مع وجود
غيره".
(3)
يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 22، 23) حيث قال: "فأما المُسْتعمل في طهارة الحدث، فينظر فيه، فإن استعمل في رفع حدث فهو طاهر؛ لأنه ماء طاهر لاقى محلًّا طاهرًا، فكان طاهرًا كما لو غسل به ثوب طاهر، وهل تجوز به الطهارة أم لا؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان: المنصوص أنه لا يجوز؛ لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء، فصار كما لو تغير بالزعفران، ورُوِيَ عنه أنه قال: يجوز الوضوء به؛ لأنه استعمالٌ لم يغير صفة الماء، فلم يمنع الوضوء به.
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 35، 36) حيث قال: "والرواية الثانية: أنه طهور.
قال في "مجمع البحرين": سمعت شيخنا (يعني: صاحب الشرح) يميل إلى طهورية الماء المستعمل.
ورَجَّحها ابن عقيلِ في "مفرداته"، وصَحَّحهما ابن رزين، واختارها أبو البقاء، والشيخ تقي الدين، وابن عبدوس في "تذكرته"، و"صاحب الفائق". قلت: وهو أقوى في النظر".
(5)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 66) حيث قال: "وروى أبو يوسف والحسن بن زياد عنه أنه نجسٌ، غير أن الحسن روى عنه أنه نجس نجاسة غليظة يقدر فيه بالدرهم، وبه أخذ، وأبو يوسف روي عنه أنه نجس نجاسة خفيفة يقدر فيه بالكثير الفاحش، وبه أخذ".
العلماء، منهم أبو حنيفة في روايةٍ
(1)
، وكذلك مالك والشافعي وأحمد، ومنهم مَنْ يرى أنه نجس، وبه قال أبو يوسف، ويُقَال: إنها روايةٌ أيضًا عن أبي حنيفة، ومنهم مَنْ يرى أنه طهورٌ، وهي رواية للمذاهب الثلاثة: (المالكي
(2)
، والشافعي
(3)
، والحنبلي)
(4)
.
إذًا، هناك مَنْ يقول بأنه طاهر، وهناك مَنْ يقول بأنه طهور، وهناك مَنْ يقول بأنه نجس، ولكلٍّ منهم أدلَّته التي يَسْتند إليها.
أ- أدلَّة القائلين بأنه نجس:
* أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لا يبولن أحدُكم في الماء الدائم، ولا يَغْتسل فيه من جنابةٍ"
(5)
، والحديث ذُو شَطْرَين في النهي، الشطر الأول: يَنْهى عن البول في المَاء الدَّائم، والثاني: يَنْهى الجنب عن الاغتسال فيه.
ووَجْه الاستدلال أن الحديث سوَّى بين البول وبين غسل الجنب فيه، ولم يفرق بينهما، فدل ذلك على أنه ينجس بغسل الجنب فيه، وإذا كان ذلك كذلك، فهو نجسٌ.
ب- أدلة القائلين بأنه طاهر:
* حديث جابر بن عبد الله عندما قال: كنت مريضًا، فَعَادَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُنْتُ لا أعقل، فتوضأ وصبَّ وضوءه عليَّ. أي: ما خرج
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 66) حيث قال: "وروى محمد عن أبي حنيفة أنه طاهر غير طهور، وبه أخذ الشافعي".
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
أخرجه البخاري (239) ومسلم (282) بلفظ: "لا يبولنَّ أحدُكُم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه ".
واللفظ الذي ذكره الشارح أخرجه أبو داود (70)، عَنْ أبي هريرة. وقال الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" - الأم (1/ 122): إسناده حسن صحيح.
من أعضاء وضوئِهِ
…
وهذا حديثٌ متفقٌ عليه
(1)
.
* حديث المِسْوَر بن مَخْرمة الذي ذكر فيه أنهم كادوا يقتتلون إذا توضَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كادوا يقتتلون على وضوئه
(2)
…
وهذا الحديث في "صحيح مسلم ".
* كَوْن هَذَا الماء تَسَاقَط من بدنٍ طاهرٍ؛ ذلك أن جسم الإنسان المؤمن طاهرٌ، وهذا الماء الذي مرَّ بأعضائه لا يتغير لمُرُوره بأعضاءٍ طاهرة، وَعَليه فهو طاهرٌ، ولا ينجس.
وتقريرًا لهذه القاعدة أُتِيَ بحديث أبي هُرَيرة عندما كان يمشي، فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فانخنست
(3)
- وفي بعض الروايات: فَانْسَللت
(4)
- فَذَهب إلى رَحْلٍ، فاغتسل، ثم جاء فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا، فسأله:"أَيْنَ كنتَ يا أبا هُرَيرة؟ "، قال: كنت جنبًا فاغتسلت
(5)
- وفي بعض الرِّوايات: كرهتُ أن أجلسَ معك أو أن أقعد معك -فقال الرسول عليه
(1)
أخرجه البخاري (194) ومسلم (1616/ 8)، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابرًا يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب عليَّ من وضوئه، فعقلتُ، فقلتُ: يا رسول الله، لمن الميراث؟ إنما يرثنى كلالة، فنزلت آية الفرائض.
(2)
ليس الحديث في "صحيح مسلم "، إنما أخرجه البخاري (2731) عن المسور بن مخرمة، وفيه: "
…
ثمَّ إنَّ عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: "فوالله ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدَلَكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمَرَهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خَفَضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون إليه النظر تعظيمًا له، فرجع عروة إلى أصحابه
…
". الحديث.
(3)
"انخنست": أي: انقبضت عنه وتأخرت. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 78).
(4)
"فانسللت"؛ أي: انقبضت عنه. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضى عياض (2/ 217)، والرواية أخرجها البخاري (285).
(5)
لم أقف على هذه الرواية.
الصلاة والسلام: "سُبْحَان الله! إن المؤمنَ لا ينجس"
(1)
، قالوا: هذا نصّ على أن المؤمن لا ينجس، وأبو هريرة كان جُنبًا، ونفى الرسول نجاسته.
وأما دعوى: "لَا يبولنَّ أحدُكُم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابةٍ"
(2)
، فالموازنة هنا غير قائمة، وإنما نُهِيَ عن ذلك صيانةً للماء، وحفاظًا عليه، واحترامًا له، وليس معنى ذلك أنه ينجس من جسم الجنب؛ لأنه قام مرةً في هذا الحديث وغيره.
أمَّا الذين يقولون بأن الماء بقي طهورًا، وأنه لم يتأثر، فإنَّهم يقولون: انفصل من أعضاءٍ طاهرةٍ، فلا تأثير لها، وليس هناك ما يخرجه من الماء المطلق.
وَالَّذينَ يَقُولُون بأنه لا يُتَطهَّر به، وإنما هو طاهرٌ، يقولون: كَانَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام وأصحابه يُسَافرون، ومع قلَّة الماء وشحِّه ما عُرِفَ أنَّهمْ كانوا يجمعون ما بَقِيَ من وضوئهم، ثم يعودون فيتوضَّؤون به، فلَوْ كان ذلك طهورًا، لَفَعلَ ذَلكَ الصَّحابة خُصُوصًا وهُمْ في أشد الحاجة إلى الماء
(3)
.
وعَلَى كل حَال، فَهَذا الدليلُ ليس نصًّا، وإنَّما هو تَلَمس، وأمَّا الَّذين يَقُولُون بأنَّه طاهرٌ وطهورٌ، فحُجَّتهم: بقاؤه على طهورّيَته، وعلى إطلاقه، فما المانع؟
كَمَا كَان الرسول عليه الصلاة والسلام يتوضأ ويغتسل هو
(1)
أخرجه البخاري (283) ومسلم (371)، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب، فانخنست منه، فذهب فاغتسل ثم جاء، فقال:"أين كنت يا أبا هريرة؟ "، قال: كنت جنبًا، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارةٍ، فقال:"سُبْحانَ الله! إن المسلم لا ينجس ".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
قال العمراني في "البيان في مذهب الإمام الشافعي"(1/ 44): "ولأن الصحابة والتابعين -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- ومَنْ بعدهم كانوا يسافرون ولعدمون الماء، فيتيممون، وما روي عن أحدٍ منهم أنه توضأ بالماء المستعمل ".
وأزواجه من إناءٍ واحدٍ
(1)
، ولو كان ما يَتسَاقط من الأعضاء يُؤثر، لَمَا فعل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان الصَّحابة أيضًا يتوضؤون مع رسول الله
(2)
، وكان يتوضأ بعضهم مع بعضٍ
(3)
، وكان ذلك منتشرًا ومعروفًا بينهم، ولا يعرفون تأثيرًا لذلك.
وهذا دليلٌ على أنه طهورٌ، ولم يتأثر باستخدام الأعضاء له.
* قول: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي هَذَا أيضًا مَا يُظَنُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ غَلَا، فَظَنَّ أَنَّ اسْمَ الغُسَالَةِ
(4)
أَحَقُّ بِهِ مِنِ اسْمِ المَاءِ).
يَعْني أنَّ البعضَ غلَا، فَرَأى أن اسمَ ماء الغسالة أحقُّ بِهَذَا الماء المُتَساقط من الأعضاء من اسم الماء، وَهَذا رأيٌ ضعيفٌ.
* قوله: (وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ أَصْحَابُهُ يَقْتَتِلُونَ عَلَى فَضْلِ وَضُوئِهِ).
يشير إلى حديث المِسْوَر بن مخرمة الذي أخرجه البخاري
(5)
، وكذلك حديث جابر السابق ذكره، والدليل العقلي الذي أشير إليه أيضًا.
(1)
معنى حديث أخرجه مسلم (321/ 46) عن عائشة، قالت:"كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناءٍ بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي. قالت: وهما جنبان ".
(2)
معنى حديث أخرجه البخاري (3574) عَنْ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال:"خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مخارجه، ومعه ناس من أصحابه، فانطلقوا يسيرون، فحضرت الصلاة، فلم يجدوا ماءً يتوضؤون، فانطلق رجلٌ من القوم، فجاء بقدح من ماء يسير، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم مدَّ أصابعه الأربع على القدح، ثم قال: "قوموا فتوضؤوا"، فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء، وكانوا سبعين أو نحوه".
(3)
أخرجه البخاري (193)، عن عبد الله بن عمر أنه قال:"كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا".
(4)
"الغُسالة": ما غَسلْتَ به الشيءَ. "مختار الصحاح "، للزبيدي (ص 227).
(5)
تقدم تخريجه.
* قول: (وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنَ المَاءِ المُسْتَعْمَلِ فِي الإِنَاءِ الَّذِي بَقِيَ فِيهِ الفَضْلُ، وَبِالجُمْلَةِ فَهُوَ مَاءٌ مُطْلَقٌ).
ومن الأدلة التي يذكرها العلماء: أن الماء إذا خالطته بعض الطاهرات، فإنه لا يتأثر، مستدلين بأن أسقية النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام كانت من الأدم (الجلد)
(1)
، ومما لا شك فيه أن التدبيغ له تأثيرٌ بحيث يَتْرك أثرًا في الماء، خُصُوصًا إذا كَانت القِرْبَةُ جديدةً، وَمَع ذلك قالوا: ما عُرِفَ عنهم قوذ بنجاسة الماء بسبب هذا التأثير الذي أحْدَثه التدبيغ، والغالبُ أنَّ المياه لا تَسْلم من ذلك التغيُّر، وهذا كله يُؤيِّدون به ما يقال من أن الماء إذا خالطه طاهرٌ، يبقى على طهورَّيته.
* قول: (لِأَنَّهُ فِي الأَغْلَبِ ليْسَ يَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِدَنَسِ الأَعْضَاءِ الَّتِي تُغْسَلُ بِهِ).
وَتَعْليل المؤلف في محلِّه، يعني: هو لا يتغيَّر بالأعضاء.
* قول: (فَإِنِ انْتَهَى إِلَى ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ المَاءِ الَّذِي تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ، وَإِنْ كانَ هَذَا تَعَافُهُ النُّفُوسُ أَكْثَرَ، وَهَذَا لَحْظُ مَنْ كَرِهَهُ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نَجِش، فَلَا دَلِيلَ مَعَهُ).
لَه دليلٌ، وهو حديثٌ صحيحٌ في "صحيح مسلم" وغيره "لا يبولن أحدُكُم في الماء الدَّائم، ولا يَغْتسل فِيهِ وهُوَ جنابةٌ"
(2)
، ولكن الاستدلال به ضعيفٌ، حيث إنَّ النهيَ عن اغتسال الجُنُب ليسَ لأنَّ الجُنُبَ ينجسه، وَالرَّسُول صلى الله عليه وسلم قَالَ:"سُبْحانَ الله! إنَّ المؤمنَ لا يَنْجس "
(3)
.
(1)
"الأَدَمُ "، بفتحتين: اسمٌ لجمع أَديمٍ، وهو الجِلْدُ المدبوغُ المصلَحُ بالدِّباغ من الإدامِ، وهو ما يُؤتَدمُ به، والجمعُ أدُمٌ بضمتين. "المغرب في ترتيب المعرب"، للمطرزي (ص 22).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ).
هَذِهِ من المسائل التي تحتاج إلى وقفاتٍ متأنيةٍ.
* قوله: (اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى طَهَارَةِ أَسْآرِ المُسْلِمِينَ
(1)
، وَبَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)
(2)
.
" الأساَر" جمع سؤرٍ
(3)
، والسُّؤر هو ما يبقيه الشارب بعد شربه،
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 63، 64) حيث قال: " (أما) السؤر الطاهر المتفق على طهارته، فسؤر الآدمي بكل حالٍ؛ مسلمًا كان أو مشركًا، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، طاهرًا أو نجسًا، حائضًا أو جنبًا، إلا في حال شرب الخمر؛ لما رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه أُتِيَ بعسٍّ من لبنٍ، فشرب بعضه، وناول الباقي أعرابيًّا كان على يمينه فشرب، ثم ناوله أبا بكر فشرب ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 44) حيث قال: " (و) كره (سؤر) أي: بقية شرب (شارب خمر) مسلم أو كافر، أي: من شأنه ذلك لا من وقع منه مرة أو مرتين، وشك في فمه لا إن تحققت طهارته فلا كراهة، ولا إن تحققت نجاسته وإلا كان من أفراد قوله، وإن رئيت
…
إلخ (و) كره (ما أدخل يده فيه)؛ لأنه كماء حلته نجاسة ولم تغيره، ومثل اليد غيرها كرجل ما لم يتحقق طهارة العضو كره ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 238) حيث قال: "أما الآدمي ولو كافرًا فطاهر؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، وقضية تكريمهم ألا يحكم بنجاستهم بالموت، ولخبر الحاكم: "لا تنجنسوا موتاكم؛ فإن المؤمن لا ينجس حيًّا ولا ميتًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 193) حيث قال: " (ولا ينجس الآدمي ولا طرفه، ولا أجزاؤه) كلحمه وعظمه وعصبه (ولا مشيمته) بوزن فعيلة- كيس الولد (ولو كافرًا بموته) -؛ لقوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المسلمَ لا ينجس "، متفق عليه من حديث أبي هريرة. ويُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 37).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 76)، حيث قال:"وأجمع أهل العلم على أن (سؤر) ما يؤكل لحمه طاهر يجوز شربه والوضوء به ".
(3)
"السؤر": بقية الشيء، وجمعه: أسآر، ويُسْتعمل في الطعام والشراب وغيرهما. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (4/ 339).
أو الآكل بعد أكلِهِ، ونجد عادةًا لفقهاء ما يقولون: السؤر طاهر أو نجس؟ ويقصدون بالسؤر ما يبقى من لعاب
(1)
الحيوان، ورطوبة فمه، فيَقُولُون: هَلْ هذا اللُّعاب الذي يصدر أو هذه الرطوبة التي تَبْقَى في الإناء أو اللعاب، هل هو طاهر أو نجس؟ فهذا هو مرادهم، وأما قضية السؤر أو الأسآر، فهي جمع سؤر، والسؤر ما يبقى بعد شرب الشارب أو ما أكل الآكل.
وهنا قال: (اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى طَهَارَةِ أَسْآرِ المُسْلِمِينَ) إلا أنه نُقِلَ عن النخعي أنه يكره سؤر الحائض
(2)
، وهذا محجوجٌ حقيقةً بأدلة كثيرة، ومنها الحديث الصحيح الذي ثبت فيه أن الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام شرب من الموضع الذي شربت منه عائشة وهي حائض
(3)
، وكذلك قال: "نَاوِليني الخصرة
(4)
"
(5)
، يعني: السجادة، وكانت تسرح شعره، وتعرفوق ذلك ألاختلاط بالحائض.
ففي الحقيقة هذه دعوى بدون دَلِيلٍ، فالحائض كالحال في الجنب، هي باقيةٌ، ولا تتأثَّر بذلك، وإنما هناك أمورٌ تُمْنع الحَائض من أدائها؛ مثلها كالجنب في ذلك، كالصَّلاة
(6)
، وقراءة
(1)
"اللُّعاب": ما يسيل من الفم. انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص 282).
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 459)، حيث قال: وروينا عن النخعي أنه كان يكره فضل شراب الحائض، ولا يرى بفضل وضوئها بأسًا، ويكره فضل شراب الجنب ووضوئه.
(3)
أخرجه مسلم (300)، عَنْ عائشة قالت:"كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فَيَضع فَاه على موضع فيِّ، فيشرب، وأتعرق العرق وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيِّ ".
(4)
"الخُمْرة" بالضم: سجاد تعمل من سعف النخل، وترمل بالخيوط. انظر:"الصحاح" للجوهري (2/ 649).
(5)
أخرجه مسلم (298) عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناوليني الخمرة من المسجد"، قالت: فقُلْت: إني حائض، فقال:"إنَّ حيضتك ليست في يدكِ ".
(6)
للحديث الذي أخرجه البخاري (228) ومسلم (333)، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا=
القرآن
(1)
، والطواف
(2)
…
إلى غير ذلك
(3)
، وإن كان هناك خلاف في الأخير.
أقرب المذاهب الذي لا يحتاج إلى عناءٍ في هذه المسألة هو مذهب الشافعي؛ ذلك أن الشافعية يقولون: إن كل الأسآر طاهرة
(4)
- وهذا رأي كثير من العلماء- إلا سؤر الكلب والخنزير
(5)
.
= أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي ".
(1)
للحديث الذي أخرجه الترمذي (131) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تَقْرأ الحائضُ ولا الجنبُ شيئًا من القرآن "، وضعفه الأَلْبَاني في "إرواء الغليل"(192).
(2)
للحديث الذي أخرجه أبو داود (1744)، عن ابن عباس أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الحائض والنفساء إذا أتتا على الوقت تغتسلان، وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت حتى تطهر"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الصحيحة"(1818).
(3)
وهي أمور مجمع عليها. يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 103)، حيث قال:"وامتناع الصلاة والصيام والطواف والوطء في الفرج في حال الحيض بإجماع متيقن بلا خِلَافٍ بين أحدٍ من أهل الإسلام فيه (إلا قومًا) من (الأزارقة)، وحقهم ألا يعدوا في أهل الإسلام ".
(4)
يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 18) حيث قال: "وسؤر الدواب والسباع كلها طاهر إلا الكلب، والخنزير". وانظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 226، 227).
(5)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 25) حيث قال: "وسؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر"؛ لأن المختلط به اللعاب، وقد تَولَّد من لحم طاهر، فيكون طاهرًا، ويدخل في هذا الجواب الجنب والحائض والكافر "وسؤر الكلب نجس"، ويغسل الإناء من ولوغه ثلاثًا؟ لقوله عليه الصلاة والسلام:"يُغْسَل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا"، ولسانه يلاقي الماء دون الإناء "وسؤر الخنزير نجس"، لأنه نجس العين". وانظر:"مختصر القدوري"(ص 14).
مذهب المالكية، يُنظر:"التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس" لابن الجلاب (1/ 52) حيث قال: "والحيوان كله طاهر ما أُكِلَ لحمه وما لم يؤكل لحمه، وفضل الحيوان كله وسؤره طاهر مطهر تجوز الطهارة به، ويجوز شربه والانتفاع به من جميع وجوهه
…
وسؤر الكلب والخنزير من الماء مكروهان، وسؤرهما من الطعام، وسائر المائعات مباح غير مكروه، ويغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا إذا كان فيه ماء، وإن كان فيه غير الماء من الطعام والشراب فقد اختلف قوله في غسل الإناء من=
وسؤرُ الحيوان يختلف حكمُهُ بالنظر إلى نوعية الحيوان حيث إن منه ما هو مأكول اللحم، وغير مأكول اللحم، وغير مأكول اللحم إما أن يكون من سباع الدواب (البهائم)، وإما أن يكون من سباع الطير، وإما أن يكون من الحيوانات غير المأكولة المشكوك في طهارتها؛ كالحمار والبغل، ولذلك تجد العلماء مختلفين في تقسيمهم للحيوان؛ فالحنفيةُ يُقَسِّمون الحيوان إلى أربعةِ أقسامٍ
(1)
، والحنابلة إلى قسمين
(2)
، وكل قسم يندرج تحته أقسام، أما الشافعية فإنهم اقتصروا فقط على الكلب والخنزير
(3)
.
* قول: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ اخْتِلَافًا كثِيرًا).
فمثلًا الهرة يراها الشافعية طاهرةً
(4)
، وكذلك الحنابلة
(5)
، في حين
= وُلُوغه بعد الانتفاع بالطعام الذي فيه ". وانظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 34، 35).
مَدهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 181) حيث قال: " (والكلب والخنزير نجسان)، وكذا ما تولد منهما، وسؤر ذلك وعرقه، وكل ما خرج منه لا يختلف المذهب فيه ".
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 63)، حيث قال: "وجملة الكلام في الأسآر أنها أربعة أنوأع: نوع طاهر متفق على طهارته من غير كراهة، ونوع مختلف في طهارته ونجاسته، ونوع مكروه، ونوع مشكوك فيه
…
".
(2)
سيأتي.
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج "، للشربيني (1/ 226)، حيث قال:"وكذا الحيوان كله طاهر لما مر إلا ما استثناه الشارع أيضًا، وقد نبه المصنف على ذلك بقوله: (وكلب) ولو معلمًا؟ لخبر مسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب"، وجه الدلالة أن الطهارة إما لحدث أو خبث أو تكرمة، ولا حدث على الإناء، ولا تكرمة، فتعينت طهارة الخبت، فثبتت نجاسة فمه
…
(وخنزير)، لأنه أسوأ حالًا من الكلب؛ لأنه لا يقتنى بحال".
(4)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 33) حيث قال: "سؤر الهرة طاهر، لطهارة عينها، ولا يكره، فلو تنجس فمها، ثم ولغت في ماء قليل، فثلاثة أوجه، الأصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء، يطهر فمها، ثم ولغت، لم تنجسه، وإلا نجسته. والثاني: تنجسه مطلقًا. والثالث: عكسه. قلت: وغير الماء من المائعات، كالماء". وانظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 172).
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 195) حيث قال: " (وسؤر) بضم السين، وبالهمز=
أن من العلماء مَنْ يقول بكراهة سؤرها كالحنفية
(1)
، وهذا القول نسب إلى علماء آخرين كابن سيرين
(2)
وسعيد بن المسيب
(3)
، ومنهم مَنْ يقول بغسل سؤر الهرة مرة
(4)
، ومنهم من يقول: مرتين
(5)
، ومنهم مَنْ يقول: سبعًا
(6)
.
* قول: (فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانِ طَاهِر السُّؤْرِ)، وهذا
= (الهر)، ويسمى الضيون بضاد معجمة وياء ونون، والسنور والقط (وهو)، أي: سؤره (فضلة طعامه وشرابه) طاهر. (و) سؤر (ما دونه) أي: الهر في الخلقة (من طير وغيره طاهر)؛ لما روى مالك. . "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهر: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات "
…
ولعَدَم إمكان التحرر منها، كحشرات الأرض كالحية، قال القاضي: فَطَهارتها من النص".
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 223) حيث قال: (قوله: فور أكل فأرة)، فإن مكثت ساعة ولحست فمها، فمكروه منيه، ولا ينجس عندهما. وقال محمد:"ينجس؛ لأن النجاسة لا تزول عنده إلا بالماء، وينبغي أن لا ينجس على قوله إذا غابت غيبة يجوز معها شربها من ماء كثير حلية (قوله: مغلظ)، وفي رواية عن الثاني أن سؤر ما لا يؤكل كبول ما يؤكل، والذي يظهر ترجيح الأول بحر". وانظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 65).
(2)
يُنظر: "الأوسط "، لابن المنذر (1/ 412) حيث قال:"وفيه قول ثالث قاله الحسن وابن سيرين، قالا: يغسل مرة".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 412)، حيث قال:"فيه قول ثان، وهو أن الإناء الذي يلغ فيه الهر يغسل مرة أو مرتين، هكذا قال أبو هريرة وسعيد بن المسيب".
(4)
وهو قول الحسن وابن سيرين، وقد تقدم.
(5)
أخرج الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(7/ 67)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"طهور الإناء إذا ولغَ فيه الهر غسل مرةً أو مرتين ".
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1/ 111)، عن أبي هريرة موقوفًا:"في سؤر الهر يهراق، وبغسل الإناء مرة أو مرتين ".
والحديث صححه ألأَلْبَانيُّ موقوفًا ومرفوعًا، واعتبر المرفوع من باب زيادة الثقة. يُنظر:"صحيح أبي داود - الأم"(1/ 124 - 126)(65).
(6)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 412) حيث قال: "وفيه قول رابع، وهو أن يغسل سبع مرات بمنزلة الكلب هكذا. قال طاوس: وقال عطاء: بمنزلة الكلب، وروي ذلك عن أبي هريرة".
القول رواية لمالك
(1)
، ولداود، وللأوزاعي
(2)
، فهؤلاء قالوا: كل الأسآر طاهرة، ولا فرق بين إنسانٍ وحيوانٍ، بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم، بين سباع الدواب وسباع الطير، بين السباع وغير السباع، كل أولئك أسآرها طاهرة، ومنهم من استثنى الخنزير فقط، وَهَذا القول رواية لمالكٍ
(3)
، ومنهم مَنْ وقف في ذلك عند الكلب والخنزير، ومنهم مَنْ أضَاف إلى ذلك المشرك
(4)
.
* قول: (وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الخِنْزِيرَ فَقَطْ، وَهَذَان القَوْلَان مَرْوِيَّانِ عَنْ مَالِكٍ)
(5)
.
إذًا، فلِمَالِكٍ في هذه المسألة روايتان؛ رواية تقول بأن جميع الأسآر
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 43)، حيث قال:"قوله: فكل حي: أي ولو كافرًا أو شيطانًا، ونجاستهما معنوية. قوله: وكذا عرقه: ولو شارب خمر. قوله: وما عطف عليه: الذي هو دمعه ومخاطه ولعابه وبيضه. وهي طاهرة ولو أكل نجسًا، ومحل كون اللعاب طاهرًا إن خرج من غير المعدة. وأما الخارج من المعدة، فنجس، وعلامته أن يكون أصفر منتنًا".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 35) حيث قال: "وقال مالك والأوزاعي وداود: سؤرهما طاهر، يتوضأ به ويشرب، وإن ولغا في طعام لم يحرم أكله ".
(3)
يُنظر: "التفريع" لابن الجلاب (1/ 52) حيث قال: "فروى ابن القاسم عنه نفي غسله. وَرَوى ابن وهب عنه إثباته. والظاهر من قوله نفي غسل الإناء من ولوغ الخنزير، وقَدْ رَوَى بعض المدنيين عنه غسل الإناء من ولوغه اعتبارًا بالكلب ".
(4)
مذهب أهل الظاهر، وسيأتي نقل المصنف لمذهب ابن القاسم، ونقل الشارح لمذهب الحنابلة.
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 137) حيث قال: "ولعاب الكفار من الرجال والنساء -الكتابيين وغيرهم- نجس كله، وكذلك العرق منهم والدمع، وكل ما كان منهم، ولعاب كل ما لا يحل أكل لحمه من طائرٍ أو غيره، من خنزير أو كلب أو هر أو سَبُع أو فأر، حاشا الضبع فقط، وعرق كل ما ذكرنا ودمعه -حرام واجب اجتنابه ".
(5)
تقدم.
طاهرة، وأُخرى أنه يُسْتثنَى من ذلك الخنزير، أما المذهب المالكي فلا يرى نجاسة الكلب
(1)
، وهو يستدل بآية المائدة:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
والخنزير المشار إليه في الأصناف الثلاثة المذكورة في قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، قد وَقَع خلافٌ في كلمة "رجس"، مثلما وقع في كلمة "نجس" في آية:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ} [التوبة: 28].
* قول: (وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الخِنْزِيرَ وَالكَلْبَ).
وَمَذاهبُ الفقهاء على النحو التالي:
المالكية يرون في روايةٍ أن جميع الأسآر طاهرة
(2)
، وفي روايةٍ أُخرى: أنه يُسْتثنَى من ذلك الخنزير، فهو نجس
(3)
، وما عدا ذلك فهو طاهر.
والشافعية يرون نجاسةَ الكلب
(4)
، لحديث الولوغ:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم"
(5)
، والخنزيرِ" لقوَل الله سبحانه وتعالى":{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ، وما عدا ذلك من السباع وغيرها، فكلها طاهرةٌ.
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 176) حيث قال: "قال في "المدونة": قال مالك: ومن توضأ بماء قد ولغ فيه الكلب وصلى، أجزأه، قال عنه عليٌّ: ولا إعادة عليه وإن علم في الوقت
…
وفي الجلاب أن سؤر الكلب والخنزير مكروهان من الماء إلا أن يكون في خطمهما نجاسة، ومعناه إذا شرب من الماء اليسير، وأما إذا شرب من الماء الكثير، ومن الحوض، فلا وجه للكراهة فيه لما ذكرناه، واللِّه تعالى أعلم.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
أخرجه مسلم (279/ 89).
والحنفية
(1)
يُقَسِّمون الحيوان أربعة أقسام:
1 -
مأكول اللحم، فسؤره طاهر، وهذا لا خلاف فيه.
2 -
أسآر السباع من الدواب؛ كالأسد والذئب، فهذه نجسة.
3 -
أسآر السباع من الطيور؛ كالصقر والبازي، ليست نجسةً، لكنها متُكْره تَوقيًا، ولا ينبغي أن يُتَوضَّأ بسؤرها، يعني: لا ينبغي أن يتطهَّر بسؤرها.
4 -
أَسْآر البَغل والحمار، وهُمَا مَشْكوكٌ في طهارة سؤرهما، يقولون: لا نحكم بطهارته، ولا بنجاسته، ولكن ينبغي ألا يُتَطهر به. مع اختلاف المذهب في الفرس
(2)
، وبعض الحيوانات الأُخرى.
أمَّا الحنابلَة، فإنَّهم يُقَسِّمون الحيوان إلى قسمين
(3)
:
1 -
طاهر، فيرون أن الإنسان سؤره طاهر، وكذلك الحيوان مأكول
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 64، 65) حيث قال: "وكَذا سؤر ما يؤكل لحمه من الأنعام والطيور إلا الإبل الجلالة والبقرة الجلالة والدجاجة المخلاة؛ لأن سؤره متولد من لحمه، ولحمه طاهر
…
السؤر المختلف في طهارته ونجاسته، فهو سؤر الخنزير والكلب وسائر سباع الوحش، فإنه نجس عند عامة العلماء
…
(وأما) السؤر المكروه، فَهو سؤر سباع الطير، كالبازي والصقر والحدأة ونحوها
…
(وأما) السؤر المشكوك فيه فهو سؤر الحمار والبغل في جواب ظاهر الرواية، وروى الكرخي عن أصحابنا أن سؤرهما نجس ".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 64) حيث قال: "وأما سؤر الفرس فعلَى قول أبي يوسف ومحمد طاهر؛ لطهارة لحمه، وعن أبي حنيفة روايتان كما في لحمه في رواية الحسن: " نجس كلحمه "، وفي ظاهر الرواية: "طاهر كلحمه"، وهي رواية أبي يوسف عنه، وهو الصحيح؛ لأن كراهة لحمه لا لنجاسته، بل لتقليل إرهاب العدو، وآلة الكر والفر، وذلك منعدمٌ في السؤر".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 35، 36) حيث قال: "والحيوان قسمان: نجس وطاهر، فالنجس نوعان، أحدهما: ما هو نجس، رواية واحدة، وهو الكلب، والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، فهذا نجس، عينه، وسؤره، وجميع ما خرج منه
…
النوع الثاني: ما اختلف فيه، وهو سائر سباع البهائم إلا السنور وما دونها في الخلقة، وكذلك جوارح الطير، والحمار الأهلي والبغل؛ فعَنْ أحمد أن سؤرها نجسٌ، إذا لم يجد غيره تيمم، وتركه ". ويُنظر:"كشاف القناع عن متن الإقناع "، للبهوتي (1/ 195).
اللحم سؤره طاهر، وكذلك السنور (القطة) وما دونه خلقةً كالفأرة والعقرب وغيرها من الحيوانات الصغيرة إلا أن لهم كلامًا في الهرة فيما لَوْ أكلت نجاسةً.
2 -
نجس، وينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: نجسٌ قولًا واحدًا، وهُوَ الكلب والخنزير، فيَلْتقون مع الشافعية في الكلب والخنزير.
النَّوع الآخر: مُخْتلفٌ فيه، وهي السباع التي ذَكَرها الحنفية سباع الطير، وَكَذلك سباع الدواب، فهَذ يرون أنها نجسةٌ، وهَذا هو المشهور المعروف في المذهب، ولكن هناك رواية أو فهم فهمه علماء المذهب، وهو عدَم نَجَاستها.
* قول: (وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ السِّبَاع عَامَّةً، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ القَاسِمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الأَسْآرَ تَابِعَة لِلُّحُومِ).
يشير المُؤلِّف من طرفٍ خفيٍّ إلى مذهب الحنفية حين قسموا الحيوان إلى أربعةٍ سَبَق ذكرها
(1)
.
* قول: (فَإِنْ كَانَتِ اللُّحُومُ مُحَرَّمَةً، فَالأَسْآرُ نَجِسَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً، فَالأَسْآرُ مَكْرُوهَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً، فَالأَسْآرُ طَاهِرَةٌ، وَأَمَّا سُؤْرُ المُشْرِكِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ نَجِسٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ إِذَا كَانَ يَشْرَبُ الخَمْرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ القَاسِمِ).
هَذَا ذكَرَه عن ابن القاسم، وسؤرُ المُشْرك ليس فقط عند ابن القاسم، وإنَّما موجودٌ في المذاهب الأُخرى، فَحتَّى الحنابلة القائلون بطهارة سؤر الإنسان سواء أكان مسلمًا أم كافرًا، فإنَّ لهم روايةً في
(1)
تقدم.
المذهب أن سؤر الكافر غير طاهرٍ
(1)
، استنادًا إلى قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} .
* قول: (وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ جَمِيعُ أَسْآرِ الحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ غَالِبًا مِثْلَ الدَّجَاجِ المُخَلَّاةِ، وَالإِبِلِ الجَلَّالَةِ، وَالكِلَابِ المُخَلَّاةِ
(2)
.
الإبل الجلالة
(3)
؛ يقصد بها التي تأكُلُ الجلَّة (الدمن أو الروث)، وكذلك بعض الدجاج يأكل النجاسات، وكذلك بعض الحيوانات الأخرى.
* قول: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ هُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ).
يَعْني: الخلاف لم يكن بسببٍ واحدٍ، وإنما هي بسبب أمورٍ ثلاثةٍ:
* قوله: (أَحَدُهَا: مُعَارَضَةُ القِيَاسِ لِظَاهِرِ الكِتَابِ. وَالثَّانِي: مُعَارَضَتُهُ لِظَاهِرِ الآثَارِ. وَالثَّالِثُ: مُعَارَضَةُ الآثَارِ بَعْضِهَا بَعْضًا).
كَمَا يَقُول المؤلف هناك تَعارضٌ، ونحن هنا لا نريد أن نوازنَ بين قياس وكتاب، ولكننا نسير مع المؤلف، وحين يذكر مذهب الحنفية
(4)
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 345) حيث قال: "وعنه سؤر الكافر نجس. وتأوله القاضي، وهما وجهان مطلقان في "الحاويين "، و"الرعاية الكبرى". وقال: وقيل: إن لابسَ النجاسة غالبًا، أو تدين بها، أو كان وثنيًّا، أو مجوسيًّا، أو يأكل الميتة النجسة، فسؤره نجس. قال الزركشي: وهي رواية مشهورة مختارة لكثير من الأصحاب ".
(2)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (1/ 70) حيث قال: "قال سحنون: إذا أمِنْتَ أن يشربَ النصرانيُّ خَمْرًا، أو يأكل خنزيرًا، فَلَا بأس بفضل سُؤْرِه في ضرورةٍ، أو غير ضرورةٍ. وروى سحنون عن ابن القاسم في العتبية، قال: ومَنْ لم يجدْ إلَّا سُؤْر النصرانيِّ؛ تيَمَّم، وهو كالدجاجة المُخْلاةِ تأكل القذر، أو الكلبِ يأكل القذر".
(3)
"الجلالة": البقرة التي تتبع النجاسات. انظر: "الصحاح"، للجوهري (4/ 1658).
(4)
يُنظر: "تأسيس النظر" للدبوسي (ص 156) حيث قال: "الأصل عند أصحابنا أن خبر الآحاد متى ورد مخالفًا لنفس الأصول مثل ما روي عن النبي- عليه الصلاة=
ومذهبهم في أخبار الآحاد معروف
(1)
فإنه يشير إلى هذا قصدًا.
ومعارضة القياس الكتاب المتحدث عنها هنا يقصد بها أن دلالة الكتاب ليست نصيَّة" لأنه ذكر {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} بالنسبة للخنزير، وفي الكلب:{مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، ولم يأمر بغسله، ولكن بعض العلماء يقولون بأن الرَّسُولَ، صلى الله عليه وسلم أمَرَ بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب، وحتى لو لم يأمر بغسلِهِ، فإنه معفوٌّ عنه؛ لأنَّه ممَّا تعمُّ به البلوى
(2)
.
والمالكية يرون أن الأمر بغسل الإناء منه إنما هو أمرٌ تعبديٌّ
(3)
، ولكننا في هذا الزمن الذي شهد التطور الطبي الهائل أظهر العلة، وبين أنه يوجد في لعاب الكلب مادة لا يزيلها إلا التُّراب، وإذا كان الفقهاء قديمًا اختلفوا في مسألة قيام الصابون مقام التراب إلا أن ما توصل إليه الطب الحديث يجعلنا نتمسك أكثر بالتراب المأمور به، واللهُ أَعْلَم.
= والسلام- أنه أوجب الوضوء مِنْ مَسِّ الذكر، لم يقبل أصحابنا هذا الخبر، لأنه ورد مخالفًا للأصول؛ لأنه ليس في الأصول انتقاض الطهارة بمس بعض أعضائه". وانظر:"أصول السرخسي"(1/ 321، 333) وما بعدها. و"كشف الأسرار" لعلاء الدين البخاري (3/ 16).
(1)
قال ابن القيم: "وَحَكوه عن أبي حنيفة وهو كذبٌ عليه، وعلى أبي يوسف ومحمد، فلم يقل ذلك أحذ منهم ألبتة، وإنما هذا قول متأخريهم، وأقدم مَنْ قال به عيسى بن أبان، وتبعه أبو الحسن الكرخي وغيره". انظر: "مختصر الصواعق المرسلة"(ص 607).
(2)
يُنظر: "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" لعلاء الدين البخاري (163) حيث قال: "يعم به البلوى أي: فيما يمسُّ الحاجة إليه في عموم الأحوال".
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 83)، حيث قال:" (قوله: تعبدًا)، اعلم أن كون الغسل تعبدًا هو المشهور، وإنما حكم بكونه تعبدًا لطهارة الكلب، ولذلك لم يطلب الغسل في الخنزير. وقيل: إن ندب الغسل معلل بقذارة الكلب، وقيل: لنجاسته إلا أن الماء لما لم يتغير قلنا: بعدم وجوب الغسل، فلو تغير لوجب، وعلى هذين القولين يلحق الخنزير بالكلب في ندب غسل الإناء من ولوغه، وعلى القول الأول يجوز شرب ذلك الماء، ولا ينبغي الوضوء به إذا وجد غيره للخلاف في نجاسته، وعلى القول بالنجاسة فلا يجوز شربه، ولا الوضوء به كذا قرر شيخنا".
* قول: (أَمَّا القِيَاسُ، فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ المَوْتُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ).
قوله: (المَوْتُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ)، يُرِيدُ أَنْ يجعلَ سببَ النجاسة وسرَّها الموت حتف الأنف، فإذا مات حيوانٌ، فهو نجسٌ، وقصَّة شاة ميمونة عندما مرَّ بها معروفة. وقيل: إنها مَيِّتة، فَقَال:"هلا أخذتُموها فَانْتفَعتم بجِلْدِهَا"
(1)
.
إذًا، الذكاة هي سبب الطهارة، فإذا مات الحيوان من غير تذكية، أو أُمِيتَ من غير أن يُذكَّى الذكاة الشرعية، فَهَذا هُوَ القياس الَّذي يَقْصده المؤلف.
* قوله: (هُوَ سَبَبَ نَجَاسَةِ عَيْنِ الحَيَوَانِ بِالشَّرْعِ).
سواء كان الميتة
(2)
، أو المنخنقة
(3)
، أو الموقوذة
(4)
، أو المُتَردية
(5)
، أو النطيحة
(6)
، أو مَا أكل السَّبُع إلا ما ذكَّيتم، فَهَذهِ كلُّها دَاخلة ضمن المحرَّم، ولذلك تجد العلماء الَّذين يبحثون في الآية التي في سورة المائدة التي ذكرت أشياء عشرةً {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، والتي في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا
(1)
أخرجه البخاري (1492)، واللفظ له، ومسلم (363) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاةً ميتةً، أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا انتفعتم بجلدها؟ "، قالوا: إنها ميتة: قال: "إنما حرم أكلها".
(2)
"الميتة": ما لم تلحقه الذكاة. انظر: "الصحاح " للجوهري (1/ 267).
(3)
"المنخنقة": التي تختنق فتموت. انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس"، لابن الأنباري (1/ 283).
(4)
"الموقوذة": المقتولة بعصا أو بحجر، وما لأحدٍ له يقال: وقذته إذا أَثْخَنْته ضربًا. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 293).
(5)
"المتردية"، هي التي تردت في بئرٍ أو هوةٍ فهلكت. انظر:"العين" للخليل (8/ 68).
(6)
"النطيحة": المنطوحة التي ماتت منه، كان أهل الجاهلية يَأْكُلُونها، فنهي عنها. "العين" للخليل (3/ 172)، و "الصحاح" للجوهري (1/ 412).
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، أربعة حيث أُجْملَت، فأُدْخلَت أصناف الميتة تحت صنفٍ واحدٍ، فلم تذكر النطيحة، ولا ما أكل السَّبع، ولا المتردية
…
إلى غير ذلك، في حين أنه فصلت في آية المائدة، فتلك أجملت، وهذه فصَّلت.
وَالمُهِمُّ هنا أنَّ المؤلف يريد أن يقول: إن الأصل القياسي أن الذكاة هي سبب لطهارة الحيوان، فإذا مات الحيوان
(1)
من غير ذكاةٍ فهو نجسٌ، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نحكم على الحيوان الحي بأنه نجس، فلو أن موت الحيوان من غير ذكاةٍ هو نجاسة، معنى هذا أن حياته هي طهارة، فالحي طاهر.
* قوله: (وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الحَيَاةُ هِيَ سَبَبَ طَهَارَةِ عَيْنِ الحَيَوَانِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَكُلُّ حَيٍّ طَاهِرُ العَيْنِ، وَكُلُّ طَاهِرِ العَيْنِ فَسُؤْرُهُ طَاهِر).
وهَذَا التَّحليلُ منطقيّ.
* قوله: (وَكُلُّ طَاهِرِ العَيْنِ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ، وَأَمَّا ظَاهِرُ الكِتَابِ فَإِنَّهُ عَارَضَ هَذَا القِيَاسَ فِي الخِنْزِيرِ وَالمُشْرِكِ).
(فَإِنَّهُ عَارَضَ هَذَا القِيَاسَ)، يعني: ظاهر الكتاب عَارَض؛ لأنه لو كان الكتاب نصًّا صريحًا لا يقال: عارض، الأصل يُؤخذ ويُسلم؛ {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
(1)
قال الشيخ: "الإنسان "، وهو سبق، والصواب:"الحيوان ".
لَكن القضيَّة قَضيَّة فَهْمِ يختلف فيها العلماء، فما المُرَاد بكلمة "رجس" في قولِهِ سبحانه:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ، وكلمة "نجس" في قوله سبحانه:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ؟
أهو النجاسة المعروفة التي هي نجاسة الأبدان أو غيرها؟ أم أنه نَجَاسة المعتقد
(1)
، وللمفسرين وغيرهم في هذا كلامٌ كثيرٌ، وهَذَا الذي يشير إليه المؤلف رحمه الله، ولذلك يقول:(ظَاهِرُ الكِتَابِ).
* قول: (وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الخِنْزِيرِ).
ولم يقل: عارض بالنسبة للكلب؛ لأنَّ ظاهر القرآن دلَّ على أنه طاهرٌ، حيث أمر بأكل ما أمسك عليه.
* قول: ({فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، وَمَا هُوَ رِجْسٌ فِي عَيْنِهِ، فَهُوَ نَجِسٌ لِعَيْنِهِ).
(مَا هُوَ رِجْسٌ فِي عَيْنِهِ)، أي: إذا كانت ذاته رجسًا، فَهو كَذَلك نجسٌ.
(1)
وهو قول الجمهور.
في مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 222) حيث قال: "فالمراد بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]: النجاسة في اعتقادهم".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" لعليش (1/ 51) حيث قال: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]: تشبيه بليغ، أو معنًى لا حسًّا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 10) حيث قال: "وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، فالمراد به نجاسة الاعتقاد أو اجتنابهم" كالنجس لا نجاسة الأبدان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 53) حيث قال: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] أي: مِنْ حَيْث الاعتقاد أو نحوه مما أجيب به عنه".
* قوله: (وَلذَلِكَ، اسْتَثْنَى قَوْمٌ مِنَ الحَيَوَان الحَيِّ الخِنْزِيرَ فَقَطْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِهِ).
استثنوه؛ لأن الآية ذكرته ونصَّت عليه {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} .
* قوله: (حَمَلَ قَوْلَهُ: {رِجْسٌ} عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ لَهُ. وَأَمَّا المُشْرِكُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فَمَنْ حَمَلَ هَذَا أَيْضًا عَلَى ظَاهِرِهِ، اسْتَثْنَى مِنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ فِي القِيَاسِ المُشْرِكينَ).
يَعْني: على ظاهره الذي هو النجاسة المعروفة.
* قوله: (وَمَنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الذَّمِّ لَهُمْ، طَرَّدَ قِيَاسَهُ).
يَجبُ التَّنبيه إلى أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مُشْركَةٍ، ووجهة الذين يقولون بأنَّ السُّؤرَ لا علاقة له بقضية مسلمٍ أو كافرٍ؛ أن الرَّسُولَ توضأ من مزادة
(1)
المشركة
(2)
، وكان يَتعَامل مع المُشْركين، ولم يتعرَّض المؤلف للحمار، وكذلك البغل، ووجهة الذين يقولون بطهارة سؤره أو أنه غير نجسٍ، أنه عليه الصلاة والسلام كان يركبُهُ، وكذلك الثعلب احتكاكًا واتصالًا، ولا يؤمن أن يكون قد شرب من المياه التي تُعدُّ للوضوء وغيره.
(1)
"المزادة": الظرف الذي يحمل فيه الماء، كالرواية والقربة والسطيحة، والجمع: المزاود. انظر: "النهاية" لابن الأثير (4/ 324).
(2)
لم أقف عليه بهذا اللفظ؛ ولكن ابن عبد الهادي في "المحرر"(ص 7) قال: " (وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضؤوا من مزادة امرأة مشركة"، متفق عليه، وهو مختصر من حديث طويل). اهـ. ووافقه عليه الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام"(حديث 22)، وقد ذكره البغوي في "شرح السنة"(11/ 200)، فقال:"فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة".
قلت: حديث عمران بن حصين المتفق عليه أخرجه البخاري (344)، ومسلم (682).
* قوله: (وَأَمَّا الآثَارُ، فَإِنَّهَا عَارَضَتْ هَذَا القِيَاسَ فِي الكَلْبِ وَالهِرِّ وَالسِّبَاعِ).
وهُوَ أن الذكاة سبب الطهارة، وعدم التذكية دليل على النجاسة، عارضت هذا في الكلب، لأنه ورد فيه نصٌّ، وهو حديث متفق عليه، وَرَواه الجماعة، وفي بَعْض رواياتِهِ في "صحيح مسلم "، وفي غيره، وكذلك بالنسبة للهرِّ والسِّباع.
* قوله: (أَمَّا الكَلْبُ، فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ).
من الأدلَّة التي يذكرها المؤلف: حديث القُلَّتين، وهو صالحٌ للذين يقولون: إن السباع أسآرها طاهرة، وحجة للذين يقولون بأنها غير طاهرةٍ؛ لأنَّ الحنفيَّة يَسْتدلُّون بالحديث أنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عن الماء وما ينوبُهُ من السباع والدواب، فقال:"إذا بلغ الماء قُلَّتين، لم يحمل خبثًا"
(1)
، ولكنهم يستدلون به عن طريق دليل الخطاب
(2)
(أي: مفهوم المخالفة الذي بينَّاه سابقًا)، والشافعية والحنابلة يردون عليهم بأنكم لا تحتجون أصلًا بدليل الخطاب (أي: بمفهوم المخالفة)، فكيف تحتجُّون بهذا الحديث.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيُرِقْهُ، وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ " (
(3)
.
قَالَ بَعْض العُلَماء: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا وَلَغ الكَلبُ في إنَاء
…
"، ولم يقل: "ولَغَ في المَاء"، وإنَّما: "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ
(1)
أخرجه أبو داود (63)، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما يَنُوبه من الدواب والسباع، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث "، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل "(23).
(2)
يُنظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 69)، حيث قال:"مفهوم المخالفة، فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، ويسمى دليل الخطاب أيضًا".
(3)
أخرجه البخاري (172)، ومسلم (279/ 89)، واللفظ له.
أَحَدِكُمْ" عامٌّ، قَدْ يكون الإناء فيه ماءٌ، وقد لا يكون فيه ماءٌ، وإنْ كان الغالب أن فيه ماءً؛ لأنه قال: "فَلْيُرِقْهُ" في بعض الروايات، وكونه يراق إنما يدل على أن فيه ماءً.
* قول: (وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: "أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ"
(1)
).
وهي عند مسلمٍ أيضًا وغيره.
* قول: (وَفِي بَعْضِهَا: "وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ
(2)
").
يَعْني: هذا الحديث كله بجميع طرقه حديث صحيح لا إشكال فيه، فبعض ألفاظِهِ متفقٌ عليها، وبعضها في أحد "الصحيحين".
* قول: (وَأَمَّا الهِرُّ: فَمَا رَوَاهُ قُرَّةُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طَهُورُ الإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الهِرُّ أَنْ يُغْسَلَ مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ"
(3)
، وَقُرَّةُ ثِقَة عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ)
(4)
.
وَجَاء فِي حديثٍ آخَرَ: "طهور الإناء إذا وَلغَ فيه الكلب أن يغسل سبعًا، وإذا ولغ فيه الهرُّ أن يغسلَ مرةً أو مرَّتين "
(5)
.
* قول: (وَأَمَّا السِّبَاعُ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ المُتَقَدِّمُ عَنْ أَبِيهِ). يَقْصد حديث القُلَّتين.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ النسائي (338) وغيره، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(24).
(2)
أخرجها مسلم (1573).
(3)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(1/ 105)، وقال:"قرة يشك، هذا صحيح. وهو صحيح وقفًا ورفعًا كما سبق".
(4)
يُنظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 147) قال: "قال يحيى القطان: كان من أثبت شيوخنا.
وقال أَبُو حاتم: قُرَّة عندي ثبْت". وانظر: "تاريخ الإسلام" للذهبي (4/ 187)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (8/ 372).
(5)
أخرجه أبو داود (71)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" الأم (65).
قوله: (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المَاءِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ، فَقَالَ:"إِنْ كاَنَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا"
(1)
).
للعُلَمَاء في هذا الحديث كلام، والذين يقولون بأن الماء لا ينجس استندوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلَغ الماء قُلَّتين
…
"، يقولون أيضًا: إن هذه الحيوانات السباع كان من بينها الكلاب، والكلاب نجسة منصوص عليها، ولذلك نُهِيَ عن الماء لوُجُود هذه فيه، ولا يمنع أن الكلابَ كانت تبول فيه أيضًا، والآخرون يقولون: لَا، إنَّما هذا دليلٌ على أن السباع نجسة، فتكون أسآرها كذلك.
قوله: (وَأَمَّا تَعَارُضُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ).
ومن الأدلة أيضًا مع هذا ما عند ابن ماجه
(2)
- وإن كان الحديث ضعيفًا - أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تَرِدُها السباع والدواب - وفي بعض الروايات: الكلاب - فقال: "لها ما حملته بطونها، ولنا ما غبر طهور"، وقصة عمر رضي الله عنه أيضًا لما كان معه بعض الصحابة، فمروا بحوض، فتقدم عمرو بن العاص، فسئل صاحب الحوض عما إذا كانت السباع تَرِدُهُ، فقال عمر رضي الله عنه: يا صاحب الحوض، لا تُخْبره
(3)
.
(1)
خرجه أبو داود (63)، عَنْ عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فَقَال صلى الله عليه وسلم:"إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(23).
(2)
أخرجه ابن ماجه (519)، عَنْ أبي سعيدٍ الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع، والكلاب، والحمر، وعن الطهارة منها؟ فقال:"لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غبر طهور"، وضعفه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(488).
(3)
أخرجه مالك في "الموطإ"(1/ 13)(14)، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عمر بن الخطاب خرج في ركب، فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب:"يا صاحب الحوض، لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع، وترد علينا"، وضعفه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(486).
قوله: (فَمِنْهَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنِ الحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ
مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ تَرِدُهَا الكِلَابُ وَالسِّبَاعُ، فَقَالَ: "لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا،
وَلَكُمْ مَا كَبَرَ شَرَابًا وَطَهُورًا"
(1)
).
ويُضعِّفهُ العلماء المختصون بهذا العلم.
قوله: (وَنَحْوَ هَذَا حَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ في "مُوَطَّئِهِ").
يأخذ البعض على المؤلف أمورًا، مثل قوله:"حَدِيثُ عُمَرَ"، ومعلوم أن الاصطلاح بعد الاستقرار هو أن الحديثَ ما رُفِعَ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام
(2)
، والأثرَ ما وُقِفَ به عن الصحابي
(3)
، وعلى هذا، فذاك فليس حديثًا على المصطلح إلا أنه لا يعتبر خطأً علميًّا.
ولهَذَا، تَجد بعضَ العلماء يَتسَامحُون، ويُسَمّونه أثرًا، أي: يسمي الكلَّ أثرًا
(4)
، والشَّاهد أنه أرَاد هنا الأثر الذي أشرت إليه قبل قليلٍ حين سُئِلَ صاحب الحوض عما إذا كانت السباع ترده أم لا؟ وبعد إيراد الأثر تأتي مسألة كونه صحيحًا أم لا؟ فهناك مَنْ أورده وسكت، وهناك مَنْ تكلم عنه وقال: إن فيه علتين، هُمَا الإرسال والانقطاع
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
يُنظر: "مقدمة ابن الصلاح"(ص 45)، حيث قال:"المرفوع هو ما أُضِيفَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً، ولا يقع مطلقه على غير ذلك، نحو الموقوف على الصحابة وغيرهم".
(3)
"الأثر": ما يروى عن الصحابة رضي الله عنه
…
"الموقوف": ما يروى عن الصحابة رضي الله عنه من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم، ولا يتجاوز به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر "مقدمة ابن الصلاح"(ص 46).
(4)
يُنظر: "النكت على كتاب ابن الصلاح" لابن حجر (1/ 513)، حيث قال: "موجود في اصطلاح الفقهاء الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر
…
والأثر في الأصل العلامة والبقية والرواية، ونقل النووي عن أهل الحديث أنهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف معًا".
(5)
يُنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 75) حيث قال: "وفي إسناده انقطاعٌ".
قوله: (وَهُوَ قَوْلُهُ: "يَا صَاحِبَ الحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا"
(1)
، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَيْضًا الَّذِي خَرَّجَهُ مَالِكٌ: أَنَّ كَبْشَةَ سَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ لِتَشْرَبَ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ)
(2)
.
يَعْني: كبشة ابنة أخيه، أعدت له ماءً ليتوضأ، فأقبلت إليه هرة، فأَصْغَى (يعني: أمَال لها) الإناءَ فَشَربتْ، فتَعجَّبت كَبْشةُ، وَجَلستْ تنظُرُ إليه، فَقَالَ في بعض الرِّوايات: كأنَّك تنظرين إليَّ؟ قالت: نعم. فأَخْبَرها أنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام قال: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ"، أَوِ:"الطَّوَّافَاتِ".
وَوَردَ أيضًا في هَذا حَديثٌ عن عَائِشَةَ رضي الله عنهما: "إنَّها لَيْسَتْ بنَجَسٍ". وفي بعض الرِّوايات: "إنَّهَا من الطَّوَّافين عَلَيكم أو الطَّوَّافات"
(3)
، إذن تَعدَّدت الرِّوايات، أما حديث قرَّة، فالصَّحيح أنه مَوْقوفٌ
(4)
.
قوله: (حَتَّى شَرِبَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ"، فَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآثَارِ).
وَمن هنا توسَّع الفقهُ الإسلاميُّ وامتدَّ، وأَصْبَحت آفاقُهُ رحبةً نتيجةً لجُهُود الفُقَهاء رحمهم الله حين يُفَرِّعون علَى المسائل، ويُخرِّجون عليها، ويُكْثرون، وكثيرًا ما يَكُون هذه وقائع.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود (75)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(173).
(3)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(2/ 69) بلفظ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بنَجَسِ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا".
(4)
يُنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 99) حيث قال: "وأمَّا الثَّاني والثَّالث: فلا يصحُّ رفعُهما. قال الدَّارَقُطْنيُّ: أمَّا حديث أبي عاصم فقد رواه غيره في ولوغ الهر موقوفًا، والصَّحيح قول مَنْ وقفه عن أبي هريرة في الهر خاصةً".
والتكرير الصحي بوضع الأدوية في الماء مشابه لما تكلم عنه العلماء، فمسألة تقيد الفقهاء بالهرة عند مَنْ يقول - وهم أكثر العلماء بل عامتهم - بأنها غير نجسة
(1)
، نجد أيضًا أنَّهمْ يُفرِّقون بين أن تَكُونَ مطلقةً، وبين أن تأكلَ نَجَاسةً، فَهي في حالة أَكْلها النَّجاسة عند بعض العلماء يَرَون أنها تغيب وتعود، وبعضهم أنها تترك فترةً حتَّى يزول ما فيها، أو أنها تشرب مرةً أُخرى، أو نحو ذلك، ففيه تَفْصيلٌ للعلَماء
(2)
.
قول: (وَوَجْهِ جَمْعِهَا مَعَ القِيَاسِ المَذْكورِ).
القياس المقصود به هنا هو الذكاة.
(1)
وهو مذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة، وقد تقدم مذاهبهم بالتفصيل.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 223) حيث قال: " (قوله: فور أكل فأرة)، فإن مكثت ساعة ولحست فمها، فمكروه منية، ولا ينجس عندهما. وقال محمد: ينجس؛ لأن النجاسة لا تزول عنده إلا بالماء، وينبغي ألا ينجس على قوله إذا غابت غيبةً يجوز معها شربها من ماء كثير. حلية (قوله: مغلظ) وفي رواية عن الثاني: أن سؤر ما لا يؤكل كبول ما يؤكل، والذي يظهر ترجيح الأول بحر".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 77) حيث نقل عن الخطابي قوله: "يكره استعمال سؤر ما لا يتوقى النجاسة من الطعام مطلقًا أي: سواء عسر الاحتراز منه أم لا، وَكَذَلك سؤر شارب الخمر من الطعام، وَمَا أدخل يده فيه من الطعام، فإنه لا يُكْره استعماله، وَمَا ذكره المصنف من التفرقة بين الماء والطعام هو المشهور، وهو مذهب "المدونة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 240)، حيث قال:"الهرة إذا أكلت نجاسةً ثم غابت غيبة يحتمل فيها طهارة فمها". وانظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 33).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 195) حيث قال: " (فلو أكل) هر ونحوه (نجاسة ثم ولغ في ماء يسير فطهور ولو لم يغب) الهر ونحوه بعد أكله النجاسة؛ لأن الشارع عفى عنها مطلقًا لمشقة التحرز (وكذا فم طفل وبهيمة) إذا أكلا نجاسةً ثم شربا من ماءٍ يسيرٍ، قال ابن تميم: فيكون الريق مطهرًا لها، ودل كلامه أنه لا يعفى عن نجاسة بيدها أو رجلها، نص عليه (ولا يكره سؤرهن نصًّا)، قال في "المبدع": نص عليه في الهر، ولعموم البلوى بنقر الفأر وغيره".
قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ بِالأَمْرِ بِإِرَاقَةِ سُؤْرِ الكَلْبِ، وَغَسْلِ الإِنَاءِ مِنْهُ، إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ)
(1)
.
هناك عبادةٌ معلَّلة
(2)
(معقولة المعنى)، وأُخرى غير مُعلَّلةٍ (غير معقولة المعنى)، فالوُضُوءُ مثلًا له ناحيتان؛ فَهُو إلى جانب كونه عبادة فهو نظافةٌ، فمَنْ يقول بأنه يشترط فيه النية يقول: هو عبادة محضة. ومَنْ يقول: ليست النية شرطًا فيه، يلحظ فيه قضية النظافة، فهو - من غير شكِّ - عبادة؛ لأنه طاعةٌ لله، واستجابة لما وجه إليه الرسول عليه الصلاة والسلام:"لا يَقْبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"
(3)
، "لا يقبل الله صلاةً بغير طهورٍ"
(4)
، "الطهور شطر الإيمان"
(5)
، وفي نفس الوقت تلحظ أنه عبادةٌ مُعلَّلةٌ يعني: معروفة العلة، ونقف على كنهها، ونستطيع أن نعللها، وهي النظافة.
وبالتطور الطبي فقد وقفنا على العلة في اللُّعاب، حيث إن فيه مادةً لا يزيلها إلا التراب، وبذلك يبين هذا الإعجاز الذي جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وما أخبر عنه أيضًا قبل قرون كثيرة، ومَا أكثرَ الأُمُورَ التي تحدَّث عنها الكتاب والسُّنة، ثم جاء العِلْمُ الحديثُ وتقدمه، فأثبتها كَمَا جاءَ به الوحي.
(1)
تقدم قوله.
(2)
يُنظر: "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (1/ 548)، حَيْث قال:"التعبُّد من الله تعالى لعباده على معنيين، أحدهما: التعبد في الشيء بعينه لا لعلة معقولة، فما كان من هذا النوع لم يجز أن يقاس عليه. والمعنى الثاني: التعبد لعلل مقرونة به، وهي الأصول التي جَعَلها الله تعالى أعلامًا للفقهاء، فردوا إليها ما حدث من أمر دينهم مما ليس فيه نص بالتشبيه والتمثيل عند تساوي العلل من الفروع بالأصول".
(3)
أخرجه البخاري (6954)، واللفظ له، ومسلم (225).
(4)
أخرجه مسلم (224).
(5)
أخرجه مسلم (223).
قول: (وَأَنَّ المَاءَ الَّذِي يَلَغُ فِيهِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَمْ يَرَ إِرَاقَةَ مَا عَدَا المَاءَ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي يَلَغُ فِيهَا الكَلْبُ فِي المَشْهُورِ عَنْهُ، وَذَلِكَ - كَمَا قُلْنَا - لِمُعَارَضَةِ ذَلِكَ القِيَاسِ لَهُ).
وجد الإمام مالك رحمه الله الأمرَ مترددًا بين الحديث وبين الآية، فالله - سبحان الله وتعالى - يقول في شأن كلاب الصيد:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، فهنا أمر بالأكل منه، ولم يُقيِّد ذلك بالغسل، وَوَرد الأمر بالغسل في أحاديث احتجَّ بها علماء، وقالوا: حتَّى لو لم يرد الأمر بغسلها، فَهَذا معفوٌّ عنه؛ لأنه ممَّا تعمُّ به البلوى.
قوله: (فَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآثَارِ، وَوَجْهِ جَمْعِهَا مَعَ القِيَاسِ المَذْكورِ).
يقصد بالآثار الأحاديث، ومن ذلك أثر عمر رضي الله عنه الذي مرَّ آنفًا.
قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ في الأَمْرِ بِإِرَاقَةِ سُؤْرِ الكَلْبِ، وَغَسْلِ الإِنَاءِ مِنْهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَة غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ)
(1)
.
يرَى المالكيَّة أنَّ الأمرَ بغسل الإناء، وفي ذكر العدد، وفي إراقة الماء إنما هو تعبديٌّ، وأصحاب المذاهب الأُخرى يعترضون على ذلك ويقولون: ليس الأمر تعبديًّا، وإنما لعلةٍ قد تكون واضحة في هذا الأمر، ولو كان الأمرُ تعبديًّا، لَمَا أمر بإراقة الماء؛ لأنه لو كان تعبديًّا لفهم من ذلك أن السؤرَ ليس بنجسٍ، فلماذا يُرَاق الماء ويُصبُّ؟
قول: (وَأَنَّ المَاءَ الَّذِي يَلَغُ فِيهِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَمْ يَرَ إِراقَةَ مَا عَدَا المَاءِ مِنَ الأَشْيَاءِ).
مع اعتراضِهِ أنَّه لم يَرِدْ تنصيصٌ في الحديث على الماء، وإنَّما في
(1)
تقدم قوله.
الإنَاء: "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ
…
"
(1)
، وفي بعض الرِّوايات: "طهور إناء أَحدكُمْ إذا ولغ فيه الكلب
…
"
(2)
.
قول: (وَلِأَنَّهُ ظَنَّ أَيْضًا أَنَّهُ إِنْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الكَلْبَ نَجِسُ العَيْنِ، عَارَضَهُ ظَاهِرُ الكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى).
لَكن الجُمْهورَ والمُخَالفين للمالكيَّة يقولون: إن الله - سبحان الله وتعالى - أمَر بالأكل ممَّا أمسك؛ {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، والرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام أمَرَ بغَسْل ذلك، فنَجْمع بين الأمرين، ونحن مُطَالبون بأن نأخذَ بأَمْرِ الله - سبحان الله وتعالى -، ثمَّ بأمر رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. قول:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ كانَ نَجِسَ العَيْنِ، لنَجَّسَ الصَّيْدَ بِمُمَاسَّتِهِ، وَأَيَّدَ هَذَا التَّأْوِيلَ).
ولذَلكَ، نجد أن الإمام الشافعي في كتبه المعروفة ينص على أن العلَّة في تطهير الإناء إنَّما هي مرتبطةٌ بلعاب الكلب
(3)
، وَهَذا ما أيَّده الطِّبُّ الآن.
قوله: (وَأَيَّدَ هَذَا التَّأْوِيلَ بِمَا جَاءَ فِي غَسْلِهِ مِنَ العَدَدِ، وَالنَّجَاسَاتُ لَيْسَ يُشْتَرَطُ فِي غَسْلِهَا العَدَدُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الغَسْلَ).
ولهَذَا، يأخُذُ الحنفيَّة الحديثَ، ويُجزِّئونه قسمين: فيَأخُذُون بجُزْءٍ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (91/ 279).
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 239) حيث قال: " (وما نجس) من جامدٍ ولو بعضًا من صيدٍ أو غيره (بملاقاة شيء من كلب)؛ سواء في ذلك لعابه وبوله وسائر رطوباته وأجزائه الجافة إذا لاقت رطبًا (غسل سبعًا إحداهن) في غير أرض ترابية (بتراب) طهور يعمُّ محل النجاسة بأن يكون قدرًا يكدر الماء ويصل بواسطته إلى جميع أجزاء المحل .. فنص على اللعاب، وألحق به ما سواه؛ لأنَّ لعابه أشرف فضلاته، وإذا ثبتت نجاسته، فغيره من بول وروث وعرق ونحو ذلك أولى، وفي وَجْهٍ أن غير لعابه كسائر النجاسات اقتصارًا على محل النص لخروجه عن القياس، وإذا لم تزل النجاسة إلا بست غسلات مثلًا حسبت واحدة كما صححه المصنف".
منه، وهُوَ نجاسة الكلب، ولا يَأْخُذُون بالقسم الآخر المتعلق بالعدد؛ لأنَّ الأصلَ العام في غسل أي موضعٍ وقعت عليه النجاسة إنَّما هو لإذهاب عين النجاسة
(1)
.
قوله: (إِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى سَائِرِ تِلْكَ الآثَارِ لِضَعْفِهَا عِنْدَهُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَاسْتَثْنَى الكَلْبَ مِنَ الحَيَوَانِ الحَيِّ).
قوله: (وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى سَائِرِ تِلْكَ الآثَارِ)، هُوَ يَقْصد الأحاديثَ، ومنها ما هو حديثٌ صحيحٌ، ومنها حديث القُلَّتين أن الرسول عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عن الماء وما يَنُوبه من السباع والدواب، فَقَال:"إذا بلغ الماء قُلَّتين، لم يحمل الخَبَث"
(2)
، وفي روأيةٍ:"لم ينجس"
(3)
.
قوله: (وَرَأَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الحَدِيثِ يُوجِبُ نَجَاسَةَ سُؤْرِهِ، وَأَنَّ لُعَابَهُ هُوَ النَّجِسُ لَا عَيْنُهُ فِيمَا أَحْسِبُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ الصَّيْدُ مِنْهُ)
(4)
.
(1)
انظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"، للزيلعي (1/ 31، 32)، وفيه قال:" (والكلب والخنزير وسباع البهائم نجس) أي: سؤر هذه الأشياء نجس. لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم نيغسله سبع مرات"، والأمر بالإرأقة دليل التنجس، وأقوى منه قوله عليه الصلاة والسلام: "طهور إناء أَحَدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعًا"، فهذا يفيد النجاسة، وروى الطحاوي بإسناده عن أبي هريرة "أنه يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات"، وهو الرأوي لاشتراط السبع، وعندنا إذا عمل الراوي بخلاف ما روى أو أفتى، لا تبقى روايته حجة؛ لأنه لا يحل له أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فيعمل أو يُفْتي بخلافه، إذ تسقط به عدالته، فدل على نسخه، وهو الظاهر".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه أبو داود (65)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(417).
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 227) حيث قال: " (وكلب) ولو معلمًا لخبر=
وَلذَلكَ، تَرَون أنَّ هناك اختلافًا كبيرًا بين الفقهاء فيما لو وقَع كلبٌ في بِئْرٍ، فتفتت لحمُهُ وشعر، هل يؤثر شعره أو لحمه أو لا؟ فبَعْضهم يرى أن الشعر حتى في الحيوانات النجسة، وكذلك أيضًا الظفر والقرن وغير ذلك، لا تأثير لها
(1)
.
= مسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالترابً"، وجه الدلالة أن الطهارة إما لحدثٍ أو خبثٍ أو تكرمةٍ، ولا حدث على الإناء، ولا تكرمة، فتعينت طهارة الخبث، فثبتت نجاسة فمه وهو أطيب أجزائه، بل هو أطيب الحيوان نكهةً؛ لكثرة ما يلهث، فبقيته أولى، وفي الحديث "أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن الهرة ليست بنجسة"، فأفهم أن الكلب نجس".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مجمع الأنهر" لشيخي زاده (1/ 34) حيث قال: "موت الكلب ليس بشرط حتى لو انغمس وأخرج حيًّا ينزح جميع الماء، وكذا كل ما سؤره نجس أو مشكوك، وإن مَكْروهًا، فيستحب نزحه في رواية، والشاة إذا أخرجت حيةً إن كانت هاربةً من السبع نزح كله خلافًا لمحمد، والآدمي إذا أخرج حيًّا إن كان محدثًا، نزح أربعون". وانظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 30).
مذهب المالكية، يُنظر:"جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 32) حيث قال: "وقال سحنون وابن الماجشون: الخنزير والكلب نجس، فقيل: عينهما. وقيل: سؤرهما؛ لاستعمال النجاسة، والميتات نجس إلا دواب البحر، وما ليس له نفس سائلة (من دواب البر)؛ كالعقرب والزنبور، وكذلك لو وقعا في ماء قليل فماتا فيه لم يفسد، وفي الآدمي قولان، والمشهور أن السلحفاة والسرطان والضفدع ونحوه مما تطول حياته في البر بحري كغيره، والمذكى المأكول طاهر وغيره سيأتي، وما أبين منه بعد الموت أو قبله من الشعر والصوف والوبر طاهر، وقيل: إلا من الخنزير. وقيل: والكلب. والقرن والعظم والظلف والسن نجس. وقال ابن وهب: طاهر، وقيل بالفرق بين طرفها وأصلها".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 16) حيث قال: " (وإن كثر) الماء (وتمعط فيه فأرة) مثلًا عبارة الأصل، وتفتت فيه شيء نجسِ كفأرة تمعط شعرها (ولم يتغير فهو طاهر) بمعنى طهور (تعذر)، وفي نسخة لكن يتعذر (استعماله) باغتراف شيءٍ منه بدلو أو نحوها (إذ لا يخلو دلو)، وفي نسخة كل دلوٍ (منه) أي: ممَّا تمعط (فلينزح ما غلب على ظنه خروجه فيه)، عبارة الأصل، فينبغي أن يستقى الماء كله ليخرج الشعر معه، فإن كانت العين فوارة، وتعذر نزح الجميع، نزح ما يغلب على الظن أن الشعر كله خرج معه (فإن اغترف قبل النزح، ولم يتيقن) فيما اغترفه (شعرًا لم يضر) ".=
قوله: (وَكَذَلِكَ اسْتَثْنَى الخِنْزِيرَ)
(1)
.
أَرَاد الشافعيُّ رحمه الله أن يربطَ بين الآية والحديث، فالآية جَاءَت بالأكل منه، وأطلقت، وفي الحديث: أنه يُغْسل، ففي الجمع بين الأمرين نكون قد أَخَذنا بدليل الكتاب والسُّنَّة.
قوله: الِمَكَان الآيَةِ المَذْكورَةِ، أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ المَفْهُومَ مِنْ تِلْكَ الآثَارِ الوَارِدَةِ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ وَالهِرِّ وَالكَلْبِ)
(2)
.
قوله: (هُوَ مِنْ قِبَلِ تَحْرِيمِ لُحُومِهَا).
= مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 39) حيث قال: "إن وقعت الفأرة أو الهرة ونحوهما، في مائع، أو ماءٍ يسيرٍ، ثم خرجت حية، فهو طاهر، نص عليه أحمد
…
وفي روايةٍ قال: إذا كان حيًّا، فلا شيء، إنما الكلام في الميت. وقيل: يحتمل أن ينجس إذا أصاب الماء مخرجها؛ لأن مخرج النجاسة نجس، فينجس به الماء
…
كل حيوانٍ حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطهارة والنجاسة؛ لأنَّ السؤر إنما يثبت فيه حكم النجاسة في الموضع الذي ينجس لملاقاته لعاب الحيوان وجسمه، فلو كان طاهرًا، كان سؤره طاهرًا، وإذا كان نجسًا، كان سؤره نجسًا".
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 227، 228) حيث قال: " (وخنزير)؛ لأنه أسوأ حالًا من الكلب؛ لأنه لا يقتنى بحال، ونقض هذا التعليل بالحشرات ونحوها؛ ولذلك قال المصنف: ليس لنا دليل واضح على نجاسته، لكن ادعى ابن المنذر الإجماع على نجاسته، وعورض بمذهب مالك، ورواية عن أبي حنيفة بأنه طاهرٌ، ويرد النقض بأنه مندوب إلى قتله بلا ضرر فيه، ولأنه يمكن الانتفاع به بحمل شيءٍ عليه، ولا كذلك الحشرات فيهما".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 65، 66) حيث قال: "أما السؤر المكروه، فهو سؤر سباع الطير كالبازي ونحوه استحسانًا
…
والقياس أن يكون نجسًا اعتبارًا بلحمها كسؤر سباع الوحش، وجه الاستحسان أنها تشرب بمنقارها وهو عظم جاف، فلم يختلط لعابها بسؤرها بخلاف سؤر سباع الوحش؛ ولأن صيانة الأواني عنها متعذرة؛ لأنها تنقض من الهواء فتشرب بخلاف سباع الوحش إلا أنه يكره؛ لأن الغالب أنها تتناول الجيف والميتات، فكان منقارها في معنى منقار الدجاجة المخلاة، (وكذا) سؤر سواكن البيوت كالفأرة والحية والوزغة والعقرب ونحوها، (وكذا) سؤر الهرة".
التَّعبير بـ"زعَم" من قبل المؤلف وبعض الفقهاء إنما يُريدُون أنه ادَّعى أو ذهب، بمعنى: قال أو رأى، لكنَّ أبا حنيفة يرى بالنسبة للهرة الكراهة، فهو لا يسوي بينها وبين الكلب.
قوله: (وَأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، فَقَالَ: الأَسْآرُ تَابِعَة لِلُحُومِ الحَيَوَانِ)
(1)
.
ذَلكَ أنَّ الحَنفيَّة قَسَّموا أسآر الحيوانات إلى أربعة أقسامٍ، وَقد مرَّ بنا تلك الأقسام.
قوله: (وَأَمَّا بَعْضُ النَّاسِ، فَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الكَلْبَ وَالهِرَّ وَالسِّبَاعَ عَلَى ظَاهِرِ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ).
يقصد بـ "بعض النَّاس": الآراء المتفرقة داخل المذاهب، ومنها آراء ابن القاسم
(2)
الَّتي ذكَرها، وهو من تلاميذ الإمَام مَالِكٍ رحمه الله، ومن أصْحَاب الإمام مالك صاحب "المدونة" الذي روَاها عنه سحنون.
قوله: (وَأَمَّا بَعْضُهُمْ، فَحَكَمَ بِطَهَارَةِ سُؤْرِ الكَلْبِ وَالهِرِّ، فَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ السِّبَاعَ فَقَطْ).
فِي حَديث قرَّة إشارة إلى نجاسة الهرة، ثمَّ جاء حديث أبي قَتادَة، وهُوَ أصحُّ منه، وهو صَريحٌ عندما أصْغَى لها الإناء، فَشَربت، فَنَظرتْ إلَيه كبشة، فذكر أن الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"إنَّها لَيْسَتْ بنَجَسٍ، إنَّها من الطَّوَّافين عَلَيكم"، أو "الطَّوَّافات"
(3)
.
(1)
"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 32) حيث قال: "وأما سؤر سباع البهائم، فلأنه متولدٌ من لحمه، ولحمه حرام نجس".
(2)
تقدم قوله.
(3)
تقدم تخريجه.
قوله: (أَمَّا سُؤْرُ الكَلْبِ فَلِلْعَدَدِ المُشْتَرَطِ فِي غَسْلِهِ، وَلمُعَارَضَةِ ظَاهِرِ الكِتَابِ لَهُ).
الحنفيَّة رحمهم الله يَقُولُون بنَجَاسة الكلب
(1)
، لكنَّهم يرونَ أن العَددَ هنا لا معنى له، فليسَ مقصودًا؛ لأنَّ المعروفَ فيما يتعلق بتطهير النَّجاسات هو زوَال العين، وليس العدد.
قوله: (وَلمُعَارَضَةِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ لَهُ، إِذْ عَلَّلَ عَدَمَ نَجَاسَةِ الهِرَّةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ).
فَمَعْنى هذا أنَّ ما ليسَ بِطَوَّافٍ، فهو نجسٌ.
قوله: (وَالكَلْبُ طَوَّافٌ، وَأَمَّا الهِرَّةُ، فَمَصِيرًا إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى حَدِيثِ قُرَّةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَتَرْجِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ، وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ).
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هو الذي ورد في القُلَّتين، وقوله:"حَدِيثِ عُمَرَ"، ليس حديثًا، وإنما هو أثرٌ
(2)
.
قول: (لِمُعَارَضَةِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ لَهُ بِدَلِيلِ الخِطَابِ).
دَليلُ الخطَاب هُوَ مفهوم المخالفة، ولَه عشرة أنواعٍ
(3)
، والحنفيَّة لا يأخذون به
(4)
.
(1)
سبق.
(2)
تقدم الكلام عليه.
(3)
يُنظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 70) حيث قال: "الصنف الأول منها ذكر الاسم العام مقترنًا بصفة خاصة. الصنف الثاني: مفهوم الشرط والجزاء. الصنف الثالث: مفهوم الغاية. الصنف الرابع: مفهوم إنما. الصنف الخامس: التخصيص بالأوصاف التي تطرأ وتزول بالذكر. الصنف السادس: مفهوم اللقب. الصنف السابع: مفهوم الاسم المشتق الدال على الجنس. الصنف الثامن: مفهوم الاستثناء. الصنف التاسع: تعليق الحكم بعدد خاص. الصنف العاشر: مفهوم حصر المبتدإ في الخبر".
(4)
يُنظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 72) حيث قال: "اختلفوا في الخطاب الدال على حكم=
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّلَ عَدَمَ النَّجَاسَةِ بالهِرَّةِ بسَبَبِ الطَّوَافِ، فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِطَوَّافٍ وَهِيَ السِّبَاعُ، فَأَسْآرُهَا مُحَرَّمَةٌ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ هَذَا المَذْهَبَ ابْنُ القَاسِمِ
(1)
، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ كَمَا قُلْنَا بِنَجَاسَةِ سُؤْرِ الكَلْبِ، وَلَمْ يَرَ العَدَدَ فِي غَسْلِهِ شَرْطًا فِي طَهَارَةِ الإِنَاءِ)
(2)
.
وَأَبو حَنيفَة لا يرَى العددَ لمخالفتِهِ الأصول؛ لأنَّ ما ورَد من أدلةٍ ونصوصٍ في هذه المسألة في عامتها إنَّما هي تدلُّ على أن المقصود من التطهير من النجاسة هو زوال عينها، فلماذا يربط بعددٍ؟!
قوله: (الَّذِي وَلَغَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَارَضَ).
وَالعَددُ مَنصوصٌ عليه في الحديث: "إذا وَلَغ الكَلب في إناء أحدكم، فَليَغْسله سبعًا"
(3)
، وفي بعض الرِّوايات:"أولهنَّ بالتراب"
(4)
، وفي بعضها:"وعَفروا الثَّامنة بالتُّراب"
(5)
.
إذًا، العَدَدُ ورَدَ في الحديث إلَّا أنَّ أبا حنيفة يرَى أن المقصودَ هنا هو زوَال عين النجاسة، والنَّجاسَة قَدْ تَزُول بغسلةٍ أو بغَسْلتين، أو أكثر من ذلك،
= مرتبط باسم عام مقيد بصفة خاصة، فأثبته الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والأشعري وجماعة من الفقهاء والمتكلمين. ونفاه أبو حنيفة وأصحابه والقاضي أبو بكر وابن سريج والقفال والشاشي وجماهير المعتزلة.
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لابن رشد (1/ 87، 88)، حيث قال: "
…
غير أن ابن القاسم قال في الطعام: إنه لا يطرح إلا بيقينٍ لحرمتها، وهو استحسان على غير قياس؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام لماَ أعلم بطهارة سؤر الهرة، وبيَّن أن العلة في ذلك طوافها علينا، ومخالطتها لنا، وَجَب باعتبار هذه العلة أن يكون ما عَدَاها من السباع التي لا تخالطنا في بيوتنا محمولة على النجاسة، فلا يتوضأ بسؤرها، ولا يؤكل بقيتها من الطعام وإن لم يوقن بنجاسة أفواهها في حين ولوغها".
(2)
تقدم قوله.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
فلماذا يُربط بعددٍ؟ لكن الحديث له حكمةٌ، وفيه سرٌّ من الأسرار، ألا وهو ما ظهر من أنَّ في لعابه مادةً تحتاج بعد هذا الغسل المتكرر إلى استخدام التُّراب فيها، والمواد اللزجة لو وقع على يد الإنسان منها شيءٌ مثل الأدهان، أو ما يُسمَّى بالدِّيزل، وَهَذِهِ المحروقات أو الزُّيُوت التي تُسْتخدم في السيارات تحتاج إلى عدة غسلاتٍ حتَّى يرفع ذلك عن يديه، فهَذ إذن تحتاج إلى تكرار الغسل بالصَّابون، وربما لا يؤثر الصابون، فتحتاج إلى مادةٍ أخرى لتَرفع ذلك، وبما أن اللُّزُوجة لها أثرها حيث تُلْصق بالإناء، وَفِي الجسم، فقَدْ أرشدَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وهُوَ صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].
قوله: (ذَلِكَ عِنْدَهُ القِيَاسُ فِي غَسْلِ النَّجَاسَاتِ، (أَعْنِي: أَنَّ المُعْتَبَرَ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ إِزَالَةُ العَيْنِ فَقَطْ)، وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِ فِي رَدِّ أَخْبَارِ الآحَادِ).
الحنفيَّة يردُّون أخبارَ الآحاد، وهذه قضيةٌ أصوليةٌ معروفةٌ عند الحنفية، والجُمْهورُ يُخَالفونهم في ذلك
(1)
.
قول: الِمَكَان مُعَارَضَةِ الأُصُولِ لَهَا. قَالَ القَاضِي: فَاسْتَعْمَلَ).
إذا قال صاحب "بداية المجتهد": "قال القاضي"، فهو يقصد نفسه، وليس ذلك عيبًا أن يقول الإنسان عن نفسه:"قال القاضي"، أو "قال الشيخ"، أو "قال مقيده"، أو "قال كاتبه"، فهو، فإن أراد غيره يقول:"قال القاضي فلان".
(1)
يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (2/ 361) حيث قال: "والعمل بخبر الواحد من جهة الشرع "واجب سمعًا" في الأمور الدينية عندنا وعند أكثر العلماء. قال القاضي أبو يعلى: يجب عندنا سمعًا .. وقاله عامة الفقهاء والمتكلمين، وهو الصحيح المعتمد عند جماهير العلماء من السلف والخلف. قال ابن القاص: لا خلافَ بين أهل الفقه في قبول خبر الآحاد". وانظر: "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي (ص 31).
قوله: (مِنْ هَذَا الحَدِيثِ بَعْضًا، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ بعضًا).
استعمل هَذَا الجزءَ من الحَديث: "إذَا ولَغ الكَلْبُ فِي إنَاء أَحَدكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ"
(1)
.
فَوَقفَ عند نجَاسة الكلب، وحَكَم بنجَاسته، وعندما جاء عند العدد قال: لا مفهومَ له؛ لأن المَعْروفَ في تطهير النجاسات هو زوال عينها، وإذا أصاب ثوبك دم الحيض مثلًا فإنك تحكه
(2)
، ثم تقرصه
(3)
، ثم تنضحه
(4)
بالماء، ثم تصلي فيه
(5)
، وكذلك فيما يتعلق بالبقعة كمَا جَاء في الحديث: "صُبُّوا علَى بول الأعرابيِّ ذنوبًا
(6)
من ماءٍ"
(7)
، وكذلك فيما يتعلق ببدن المصلي، فإنه يحتاج إلى أن يُطهِّره من النَّجاسات فيما لَوْ كان عليه دمٌ أو بولٌ
(8)
، أو غير ذَلكَ، إذن يطهر البدن والملبس والبقعة التي يُصَلى علَيها؛ سواء كانت أرضًا أو فراشةً.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
"الحك": القشر. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للفيومي (ص 124).
(3)
"تقرصه": تقطعه بظفرها. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (180/ 2).
(4)
"تنضحه": تغسله. انظر: "النهاية" لابن الأثير (5/ 70).
(5)
معنى حديث أخرجه مسلم (291) عن أسماء قالت: جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة، كيف تصنع به، قال:"تحتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه".
(6)
"الذَّنوب": الدلو الملأى ماء. انظر: " "الصحاح" للجوهري (1/ 129).
(7)
أخرجه البخاري (220) أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"دعوه، وهريقوا على بوله سجلًا من ماء - أَوْ: ذنوبًا من ماءٍ - فإنَّما بعثتم مُيَسرين، ولم تبعثوا معسرين".
وأخرجه مسلم (284)، عن أنس بن مالكٍ يذكر أن أعرابيًّا قام إلى نَاحِيَةٍ في المسجد، فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوه"، فلما فرغ، أَمَرَ رسول الله بذَنُوبٍ، فصب على بوله.
(8)
وفي هذا المعنى حديث أخرجه البخاري (222)، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت:"أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبيٍّ، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فأتبعه إياه".
قوله: (أَعْني أنه استعمل منه ما لم تُعَارضه عنده الأُصُولُ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ مَا عَارَضَتْهُ مِنْهُ الأُصُولُ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَى الحَدِيثَ)
(1)
.
وهذا نُقِلَ عن أبي هريرة رضي الله عنه
قوله: (فَهَذِهِ هِيَ الأَشْيَاءُ الَّتِي حَرَّكَتِ الفُقَهَاءَ إِلَى هَذَا الاخْتِلَافِ الكَثِيرِ).
يَقْصدُ أنَّ ما وَرَد من نصوصٍ وآثارٍ في هذه المسألة هو الذي جَعَل الفقهاء يختلفون هذا الاختلافَ الكبيرَ، ففريقٌ يأخُذُ ببعض أدلة، وفريقٌ آخَر يأخذ بأُخرى، ولكلٍّ فَهْمُهُ، بل تَخْتلف الأدلَّة صحةً وضعفًا بينهم، وأيضًا قَدْ يبلغ هذا الفقيه حديثٌ لا يبلغ الآخر، وقد يبلغه عن طريقٍ صحيحٍ، ويبلغ الآخر عن طريق ضعيفٍ، وهَكَذا، وقد يجد له معارضًا، وهَذَا قدْ لا يثبت عنده المعارضة، وهكَذا، فأَسْبَابُ الخلَاف كثيرةٌ.
قوله: (فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، وَقَادَتْهُمْ إِلَى الافْتِرَاقِ فِيهَا، وَالمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مَحْضَةٌ يَعْسُرُ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا تَرْجِيحٌ، وَلَعَلَّ الأَرْجَحَ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ طَهَارَةِ أَسْآرِ الحَيَوَان: الكَلْبُ وَالخِنْزِيرُ وَالمُشْرِكُ).
يقول المؤلف رحمه الله: "يَعْسُرُ" وجود ترجيحِ إلا أنه من طرفٍ خفيٍّ ركَن إليه، وهذا التَّرجيح تطمئن إليه نُفُوسنا.
قال: (وَالمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مَحْضَةٌ يَعْسُرُ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا تَرْجِيحٌ، وَلَعَلَّ
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 32) حيث قال: "ولنا ما رواه الطحاوي بإسناده عن أبي هريرة، "أنه يغسل من وُلُوغ الكلب ثلاث مرات"، وهو الراوي لاشتراط السبع، وعندنا: إذا عمل الراوي بخلاف ما روى أو أفتى لا تبقى روايته حجة؛ لأنه لا يحل له أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فيعمل أو يفتي بخلافه، إذ تسقط به عدالته، فدلَّ على نسخه، وهو الظاهر؛ لأن هذا كان في الابتداء حين كان يشدد في أمر الكلاب، ويأمر بقتلها قلعًا لهم عن مخالطتها، ثم ترك".
الأَرْجَحَ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ طَهَارَةِ أَسْآرِ الحَيَوَان الكَلْبُ وَالخِنْزِيرُ وَالمُشْرِكُ).
قال المؤلِّف: "يَعْسُرُ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا تَرْجِيحٌ"، ثم أردف بالقول:"الأَرْجَحَ"، فكأنه يريد أن يقول: حتى تُرَجِّحِ ترجيحًا حاسمًا تطمئن نفسك إليه من كل جانب، فَهَذا أمرٌ صعبٌ، وَلكن على ضوء استقراء الأدلَّة وتتبُّعها، ومُنَاقشتهًا، ومَعْرفة الآراء، ووجهة كل قولٍ، قَدْ تطمئن النفس نسبيًّا إلى ما ذَهَب إليه، حيث إنه انتهى إلى أن النجسَ أنوأعٌ ثلاثةٌ: الكلبُ، والخنزيرُ، والمشركُ.
قوله: (لِصِحَّةِ الآثَارِ الوَارِدَةِ فِي الكَلْبِ).
تَرْجيح المؤلف له موضعٌ من التقدير والاحترام، فهو - لا شكَّ - انتهى إلى هذا القول، استنادًا إلى أَدلَّةٍ.
وَهُوَ فيمَا يَظْهر قارب من التَّرجيح الذي ينبغي أن يُؤْخذ به، ولكننا لا نلتقي معه في كل ما ذكر، ذلك أن قضية الترجيح ليست سهلة المنال، كما أن ترجيح قولٍ ليس معناه أنه هو الصواب، ولا ينبغي أن يكون القول الحق في غيره، فقد يأتي عالمٌ أو مدرسٌ فيرجح قولًا، ويأتي طَالبٌ من الطلاب، فيقف على ما لم يقف عليه غيره ويرجِّحه، وهذا من اختلاف وجهات النظر.
أَمَّا القول الذي أميل إليه في هذه المسألة هو مذهب الشافعية
(1)
، وأرى أنه أقوى المذاهب، وهو أَنَّ هَذِهِ الأسآر كلها طاهرة عدا سؤر الكلب والخنزير، أمَّا المشرك فلَوْ أردنا أن نتتبع ما وَرَد فيه، سنجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه تعاملوا معهم، وقد توضأ صلى الله عليه وسلم من مزادة
(2)
مشركة
(3)
، وهناك أحاديث كثيرة تبعد ذلك القول وتضعفه، وعندما نبحث في المذاهب نجد أن فيها قولًا بهذا الرأي، فمذهب الحنابلة
(1)
تقدم قوله.
(2)
تقدم تعريفها.
(3)
تقدم تخريجه.
مثلًا فيه رواية
(1)
- وإن لم تكن المشهورة - بنجاسة سؤر الكافر.
قوله: (وَلأَنَّ ظَاهِرَ الكِتَابِ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ فِي القَوْلِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِ الخِنْزِيرِ وَالمُشْرِكِ مِنَ القِيَاسِ، وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ الحَدِيثِ).
أعارض رأي المؤلف في أنه وردت أدلة أُخرى في السُّنَّة تتعارض مع هذا.
قوله: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الفُقَهَاءِ (أَعْنِي: عَلَى القَوْلِ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِ الكَلْبِ
(2)
، فَإِنَّ الأَمْرَ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ مُخَيِّلٌ وَمُنَاسِبٌ فِي الشَّرْعِ).
يقصد المؤلف أن التفكير في الأمر، وتدقيق النظر، يُحتِّمان القول بنجاسة سؤر الكلب، وأن هذا يتناسب مع أصول الشرع وأدلته وأقوال العلماء.
قوله: الِنَجَاسَةِ المَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ - أَعْنِي: أَنَّ المَفْهُومَ بِالعَادَةِ فِي الشَّرْعِ مِنَ الأَمْرِ بِإِرَاقَةِ الشَّيْءِ وَغَسْلِ).
ومما يُقوِّي مذهب الشافعية في هذا، وأن المسألة متعلقة باللعاب: حديث بئر بضاعة
(3)
، وهو حديثٌ صحيحٌ عندما سُئِلَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام أنه يُسْتقى له منها، وَهي بئرٌ يُلْقى فيها لحوم الكلاب والعذرة والنتن، وفي بعض الروايات:"إنه يُستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئرٌ يُلقى فيها لحوم الكلاب والحيض -يعني: خرق الحيض - وكذلك النتن، فَقَالَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام: "المَاءُ طَهور لا ينجسه
(1)
تقدم.
(2)
تقدم الكلام على هذه المسألة بالتفصيل.
(3)
أخرجه أبو دواد (66)، عن أبي سعيدٍ الخدري، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضاً من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(14).
شيءٌ"، فدلَّ ذلك على أن النجاسةَ متعلقة بلعابه، وهو الذي وقف عنده الشافعي، وَدقَّقوا الأمرَ فيه ومَحَّصوه.
قوله: (أَعْنِي: أَنَّ المَفْهُومَ بِالعَادَةِ فِي الشَّرْعِ مِنَ الأَمْرِ بِإِرَاقَةِ الشَّيْءِ).
قال: "العادة"، وَهي قضيةٌ معتبرةٌ في الأحكام الشرعية إذا أحكمت، وهي المبنية على دَلِيلِ، والفُقَهاء رحمهم الله وَضَعوا هَذه القَاعدة الفقهيَّة الكبيرة "العَادَة مُحكَّمةَ"
(1)
، وَكثير من الفُقَهاء بَنَوا جملةً من أحْكَامهم في مسائل الحيض استنادًا إليها، وهذا دليلٌ على اعتبارها، كمَا أن للعادة أحكامًا كثيرةً معتبرةً في البيوع والصناعات وغيرها، وتعرف عند الأُصُوليِّين بالعرف، وهو بابُ واسعٌ.
قوله: (الإِنَاءِ مِنْهُ هُوَ لِنَجَاسَةِ الشَّيْءِ، وَمَا اعْتَرَضُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِنَجَاسَةِ الإِنَاءِ لَمَا اشْتُرِطَ فِيهِ العَدَدُ، فَغَيْرُ نَكِيرٍ أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ يَخُصُّ نَجَاسَةً).
هذا تعليلٌ جَيِّدٌ، فهو يقول: دعوى أن العدد لا مفهوم له، يرد بأنه ليس كل أمرٍ لا نفهمه يكون على مستوى فهمنا، فهناك من الأمور ما لا نُدرك كنهها، وهناك من الأمور ما تظهر لنا الحكمة فيها والعلة، ومنها ما لا تظهر لنا الحكمة فيها، ولذلك نجد العلماء أحيانًا يقولون: هذه المسألة غير معقولة المعنى، وهذه معقولةُ المَعْنى، وهذه معلَّلة، وهذه غير معلَّلة، فكتاب "إعْلَام الموقعين" لابن القيِّم - وهو كتابٌ جيِّد - الذي يُحَاول أن
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 89، 90) حيث قال: "قال القاضي: أصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رَآه المُسْلمون حسنًا، فهو عند الله حسن"، اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه، في مسائل لا تعد كثرةً، فمن ذلك: سن الحيض، والبلوغ، والإنزال، وأقل الحيض، والنفاس، والطهر وغالبها وأكثرها، وضابط القلة والكثرة في الضبة، والأفعال المنافية للصلاة، والنجاسات المعفو عن قليلها.
يتلمَّس الحكمةَ من أحكام الشرع، فقَدْ يصيب في بَعْضها، وقَدْ لا تكون هي عين الصواب.
وَلَكنه تلمس بجمع الأدلة والمقارنة بينها مستقرئًا الأمور في ذلك، ومحاولًا الغوص في أعماق النُّصُوص بُغْية الوصول إلى العلة، ولا شكَّ أنَّ منهَا ما هُوَ مَنصوصٌ عليه، فأحيانًا يذكر الحكم مقرونًا بعلَّته، فيُصْبح الأمر واضحًا.
وإذا ذكر الحكم من غير علة، فحينئذٍ يتردد الفقهاء، وقد تكون العلة غير مذكورةٍ، لكنها تظهر للفقيه، كما تكون دقيقةً تحتاج إلى غوصٍ وفضل تأمل، لا يُدْركها كل فقيه، وقد لا تظهر أيضًا لكافة الفقهاء.
قوله: (دُونَ نَجَاسَةٍ بِحُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ، تَغْلِيظًا لَهَا).
النَّجاسَاتُ لَيْست كلها على درجةٍ واحدةٍ، فبَعْضُهَا مخففٌ، كما أن المَشقَّة تَسْتدعي التخفيفَ والتيسيرَ، مثلما وَرَد في قصَّة الصَّحابيَّة أم المؤمنين عندما سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام: إنِّي امرأةٌ أُطِيلُ ذيلي وأمشي، فقال صلى الله عليه وسلم:"يُطهِّره ما بعده"
(1)
، يعني: هي تمشي في الأسواق، وقد يمر الثوب الطويل على بعض النجاسات، فيمر بالتُّراب، فهذا التراب يطهره، وكذلك ما ورد في النعلين
(2)
.
فَمِنَ النَّجاسات ما يخفف عنها، إما لعسرها، أو لوجود مَشقَّةٍ، أو لأنها أيضًا مما تعمُّ به البلوى.
(1)
أخرجه أبو داود (383)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" الأم (409).
(2)
لعل الشارح يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود (650)، عن أبي سعيد الخدري، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نَعَليه، فَوَضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال:"ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ "، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني، فأخبرني أن فيهما قذرًا"، أو قال:"أذًىِ"، وقال:"إذا جَاء أحدُكُم إلى المسجد، فلينظر، فَإِنْ رأى في نعليه قذرًا أو أذًى فليمسحه، وليصلِّ فيهما"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(766).
قوله: (قَالَ القَاضِي: وَقَدْ ذَهَبَ جَدِّي رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ).
" قَالَ القَاضِي"، يقصد نفسه، وهو القَاضي محمد بن أحمد بن رشد
(1)
المُتَوفَّى سنةَ خمسٍ وتسعينَ وخمسمائة، وجدُّه من الأئمة الأعلام المعتبرين في المذهب المالكي، وحين يورد المالكية قولًا مسندًا إلى ابن رشد معلَّلين ومعتمدين عليه إنما يقصدون به الجدَّ، فهو من الأئمة الكبار المعتد بأقوالهم عند المالكية، وتُوفِّي سنة خمسمائة وعشرين، وهو من علماء القرن السادس، وله كتب قيمة، منها كتابه:"البيان والتحصيل" الذي طبع مع فهارسه في عشرين مجلدًا، وله "فَتاوَاه" القيِّمة التي طبعت في ثلاثة مجلدات كبار، وله كتابه الذي أشار إليه المؤلف هنا "المقدمات الممهدات"، وهو أيضًا كتاب جليل القدر.
وابن رشد الجدُّ مكانته الفقهية أكبر من الحفيد، وهذا يعرف بالحفيد، وذاك يعرف بالجدِّ، والمقدم في المذهب هو الجد، وليس الحفيد، وإِنْ كان من فقهائهم، ولِكُلِّ مَذهبٍ من المذاهب علماء مُعْتَبرون مُقدَّمُون، فَمِنَ العلماء الأعْلَام المعتد بأقوالهم في المذهب الحنبلي ابن قدامة، وقبله القاضي أبو يعلى المعروف الكبير، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن رجب، فهؤلاء لهم مكانة مقدمة في تحرير المذهب، ومن العلماء المعتبرين في الشافعية والذين عنوا بتحريره وتنقيحه وخدمته: الإمام النووي، وهَكَذا في كل مذهب.
قوله: (فِي كتَابِ "المُقَدِّمَاتِ").
كتاب "المقدمات" مطبوع - وأنا أعرف طبعته القديمة - ولا شكَّ أنَّ الطبعات الحديثة أقرب وأيسر لطلاب العلم، أمَّا "البيان والتحصيل" الَّذي في عشرين مجلدًا، وَمَعَ أنه كتابٌ محققٌ وجيِّدٌ إلا أنه تنقصه الأدلة.
(1)
انظر ترجمته: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (19/ 501)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (12/ 1039).
قوله: (إِلَى أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ مُعَلَّل مَعْقُولُ المَعْنَى)
(1)
.
علَى كلِّ حالٍ، فهو مجتهدٌ في هذه المسألة، ويحاول أن يتعرَّف إلى العلة، ولا يشترط أن يصيبَ الفقيه أو المجتهد عين الصواب، فهو يريد أن يتلمس العلة، ويبحث عنها، ويقدِّم شيئًا لمن يأتي بعده، وهذا هو شأن الفِقْهِ، والفقيهُ لا يأخذ الأمور من السطح، وإنَّما يدقَق فيها وينقب ويغوص ليأتي بالدُّرر، ولذلك دائمًا أَقُولُ: لا يُؤْخذ العلم ارتجالًا، ولكن عن طريق الجدِّ والمتابعة والتلقِّي من أفواه الرِّجال، وعَنْ طريق الجلوس، وتتبُّع الدُّروس، وحلقات العلم، والتردُّد على العلماء، وهكذا كان شأن العلماء.
ومَنْ قرَأ مقدِّمة السُّيوطي في كتابه "الأشباه والنظائر" يجد كيف كتب عن العلماء، بل وكيف يحصل العلم، وَكَذلك فعل غيره، فالعِلْمُ لا يُنَال بالتسويف، وإنما يحتاج إلى بذل جهد، والعلماء الكبار الذين رزقهم الله - سبحان الله وتعالى - ذكاءً وفطنةً، وبُعْدَ نظرٍ، ودقَّةً، وصفاءَ ذهن، وصلاحًا وتقوى، وهو الأساس فيما يتعلق بتَلقِّي العلم، هؤلاء كانوا يَصِلونَ كلال
(2)
الليل بكلال النهار، وما كانوا ينقطعون، ومَنْ ينقطع عن العِلْمِ، ويَنْشغل
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 90، 91) حيث قال: "والذي أقول به في معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء سبعًا من وُلُوغ الكلب فيه - والله أعلم وأحكم - إنه أمر ندب وإرشاد مخافة أن يكون الكلب كلبًا يدخل على آكل سؤره، أو مستعمل الإناء قبل غسله منه ضرر في جسمه، والنبي
…
وإذ لا توقيت في عدد الغسل من النجاسة، فإذا ولغ الكلب المأذون في اتخاذه في إناءٍ فيه ماءٌ أو طعامٌ، لم ينجس الماء ولا الطعام على هذا التأويل، ووجب أن يتوقى من شربه أو أكله، أَو استعمال الإناء قبل غسلِهِ مَخَافة أن يَكُون الكلبُ كلبًا، فيكون قد دأخل ذلك من لعابه ما يشبه السم المضر بالأبدان
…
ويدل على هذا التأويل تحديده صلى الله عليه وسلم لغسل الإناء سبعًا؛ لأن السبع من العدد مستحب فيما كان طريقه التداوي لا سيما فيما يتقي منه السم".
(2)
كللت من المشي أكل كلالًا وكلالةً، أي: أعييت. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1811).
عنه، ويَتسَاهل فيه، يَتفلَّت منه، فَطَالبُ العِلْمِ دائمًا يَجِدُّ وَيبْحث ويعقل ويناقش ويقرأ حتى تَبْقَى مَعْلوماتُهُ مستقرَّةً، ويضيف إليها زيادةً، والمؤلف هنا الجدُّ يقدِّم فهمه لهذه المسألة بعد إيراده اختلافات العلماء الواردة.
قوله: (لَيْسَ مِنْ سَبَبِ النَّجَاسَةِ)، وتطبيقًا لقوله:(مَعْقُولُ المَعْنَى) على مَذْهب الشافعيَّة، فإنَّ المقصودَ هو لعابه، وَظَهرت العلَّة بتطوُّر الطِّبِّ.
قوله: (بَلْ مِنْ سَبَبِ مَا يُتَوَقَّعُ أَنْ يَكُونَ الكَلْبُ الَّذِي وَلَغَ فِي الإِنَاءِ كَلِبًا)، الكَلْبُ الكَلِبُ هو المسعور، فيكون معللًا، ورد الآخرون بالقول: إنَّه وجهة نَظَرٍ، وَهَدف ابن رُشْدٍ الجدّ رحمه الله محاولة تقديم شَيْءٍ من الفهم في المسألة إلا أن المسألةَ في الوقت الحاضر أصبحت ظاهرةً وواضحةً.
قوله: (فَيُخَافُ مِنْهُ السُّم، قَالَ: وَلذَلِكَ جَاءَ هَذَا العَدَدُ الَّذِي هُوَ السَّبْعُ فِي غَسْلِهِ).
المؤلف الجدُّ هنا أبعد في النظر، فدقَّق وغاص، فرأى أن هذا نوعٌ خاصٌّ من الكلاب، هو الكلبُ الكَلِبُ المسعورُ الذي أصابه الداء، فَهَذا الدَّاءُ هو نوعٌ من السُّمِّ، فربما لو أنه شرب في إناءٍ، فبقي سؤره، فتأثر بذلك السم، فيصيب مَنْ يأتي بعده، هذا هو تعليله.
قوله: (فَإِنَّ هَذَا العَدَدَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الشَّرْعِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي العِلَاجِ وَالمُدَاوَاةِ مِنَ الأَمْرَاضِ).
أوَّلًا: العدد من حيث هو، فمُعْتبرٌ في مواضعَ كَثِيرةٍ، والرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام رخَّص للمهاجرين أن يَمْكُثُوا ثلاثةَ أَيَّام بمكَّة، ورخَّص للَّذين أمروا بنَزْحهم عن المدينة بإخْرَاجهم منها أن يمكُثُوا ثلاثةَ
أيامِ، وقال:"يمسح المسافر ثلاثة أيامِ بلياليهن، والمقيم يومًا وليلة"
(1)
، وقاَل:"لا يحلُّ لامْرَأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُسَافرَ مسيرةَ يومٍ وليلةٍ"
(2)
، مع تعدُّد الرِّوايات في ذلك.
إذًا، العدد ورد في مسائل كثيرة من مسائل العلم معتبرًا، وقضية السبع إنما وردت في الكلب، وقد ورد في الهرة، ورُدَّ بأن هذا ضعيفٌ وموقوفٌ
(3)
.
قوله: (وَهَذَا الَّذِي قَالَه
(4)
رحمه الله هُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ عَلَى طَرِيقَةِ المَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ المَاءَ).
قال: "هُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ"، وهذا من الحفيد تَعْليلٌ وتوجيةٌ طيبٌ، أخذ ما قاله جدُّه، فلم يردَّه، ولكنه لم يأخذه مُسلَّمًا على الإطلاق، وإنَّما قال: هَذَا الكلام الذي قَالَه الجدُّ، وهذا التعليل الذي أخذ به واتجه إليه إنما هو تعليلٌ مقبولٌ على مذهب المالكية الذين يقولون بأن الأمر تعبديٌّ، فما دام أنه تعبديٌّ، إذًا هو غير معروف، فينبغي أن نحاول أن نتلمَّس العلة في ذلك، فهذا نوغ من أنواع التلمُّس وبَذْل الجهد في البحث عن الحِكْمَةِ والعلَّة في ذلك، هَذَا هو الَّذي يريد أن يقولَه الحفيد.
قوله: (غَيْرُ نجِسٍ، فَالأَوْلَى أَنْ يُعْطَى عِلَّةً فِي غَسْلِهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، وَهَذَا طَاهِرٌ بِنَفْسِهِ).
" فَالأَوْلَى أَنْ يُعْطَى"، يعني: أن يقدر له علة أحسن من أن يقال: لاعلَّة له.
(1)
أخرجه أبو داود (157)، عَنْ خزيمة بن ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"المَسْحُ على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" الأم (145).
(2)
أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1339).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
كذا في "نسختي صبيح"(1/ 24)، و"المعرفة"(1/ 31)، وفي نسخة العبادي (1/ 72) قال:"أخرجه".
ولا يُشْترط في هذه الأمور البحث عن العلة، ذلك أن لَدَينا أمرًا واضحًا حيث يقول الله تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
وقَدْ بَيَّن لنا الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام ذلك، حيث قال:"إذا ولَغ الكلبُ في إناء أحدكم فَلْيَغْسله"
(1)
، وهذا فعل مضارع مقترن بلام الأمر، وهذه من صيغ الأمر
(2)
.
ولا مانعٍ من أن الفقيه يبذل جهده، ويدقق في المسائل، ويغوص في أعماقها محاولاً الكشف عن عِلَلِهَا متى استطاعِ إلى ذلك سبيلًا، وبه يظهر الفرق بين فقيهٍ وآخر، بمَعْنى الفقيه الدَّقيق (أيْ: الفهم الزائد على مجرد الفهم) كما يقول ابن القيم رحمه الله.
فَكُلَّما ازدَادَ الإنسَانُ فهمًا، ازدَادَ فقهًا، وكُلَّما كَانَ فَهْمُهُ مَحْصورًا، أو لَا يتعمَّق في المسائل، كان أقلَّ فقهًا.
ومن هنا، فَلا يَنْبغي لطَالب العلم عندما يَدْرس مسألةً أو حكمًا أو أحكامًا أن يتسرَّع فيها؛ لأنَّك قد تأخُذ دليلًا على ظَاهِرٍ، فَتَظن أَنَّ هذَا هُوَ، وانتهَى، لكنَّك لو دقَّقت النظرَ، وَبَحثْتَ في آرَاء الفقهَاء وتَتبَّعتها واحدًا واحدًا، وَحَاولتَ أن تَسْتقصي تلكَ العلل، وأَسْبَاب الخلَاف، لَظَهرت بحكمٍ جديدٍ يَخْتلف عمَّا كان في ذهنك، ولذَلكَ يَقُولُ الرَّسُولُ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
يُنظر: "نهاية السول شرح منهاج الوصول"، للإسنوي (ص 160)، حيث قال: "لما تقدم أن الأمر هو القول الطالب للفعل، شرع في ذكر صيغته، وهي افعل، ويقوم مقامها اسم الفعل، والمضارع المقرون باللام، والضمير في صيغته إما عائد إلى الأمر أو إلى القول الطالب، وهو الأقرب. وهذه الصيغة ترد لستة عشر معنًى يمتاز بعضها عن بعضِ بالقرائن
…
الأول: الإيجاب، كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 110]، والثاني: الندب كقَوْله تعالى: {يُكْرِهْهُنَّ} "ومنه"، أي: ومن الندب "التأديب"؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "كل مما يليك".
عليه الصلاة والسلام: "مَنْ يُرِدِ الله به خيرًا، يُفقِّهه في الدِّين"
(1)
، وليسَ هذا في الفقه وَحْده، إنَّما في الدين عمومًا، وَطَالبُ العلم يَنْبغي أن يتَّزن في كلِّ أَمْرٍ من أمورِهِ، وأنْ يكون دقيقًا فيما يتعلَّم ويفهم، وفيما يُبَلِّغه للناس، وأن يكون أيضًا حكيمًا فى ذلك كلِّه، هذا هُوَ المطلوب حقيقةً من طَالِبِ الفِقْهِ، وَمن غَيْره.
قوله: (فَالأَوْلَى أَنْ يُعْطَى عِلَّةً فِي غَسْلِهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ).
" يُعْطَى عِلَّةً"، "يُعْطى" مبنيٌّ للمجهول، وله نائب فاعلٍ، وهُوَ هنا مُسْتتر، ولذا كان "علَّة" منصوبًا على أنه مفعول به.
قوله: (وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيمَا بَلَغَنِي بَعْضُ النَّاسِ بِأَنْ قَالَ).
يُرِيدُ المُؤلِّفُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هذَا التَّعليلَ الَّذي أَوْرَده جَدِّي، اعْتَرضَ عَلَيه بعض الناس، وليسَ فِي قَوْلهم:(بعض النَّاس) انتقاص لأحدٍ، حَيْث إنَّه من المحتمل أنَّه لم يقف على المعترض حتى يذكرَ اسمه، كما أنه من المحتمل أنه يرَى أن هذا المعترض لم يَصِلْ إلى درجةٍ ليعترض على هذا الأعلى، أو يرى أن اعتراضه ضعيفٌ، فَيَقول: قال بعضهم في مِثْلِ هذه المسائل.
قوله: (إِنَّ الكَلْبَ الكَلِبَ لَا يَقْرَبُ المَاءَ فِي حِينِ كلَبِهِ).
بَعْضُهُم ممن تتبعوا طريقة الكلاب، وعرفوا ذلك من عَادَاتها يَقُولون: لا يقرب الماء إذا أصابَه الكَلَب، وإنَّما يلهث ويهيج.
قوله: (وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُوَ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ هَذِهِ العِلَّةِ بِالكِلَابِ).
يُوَافق المؤلف هؤلاء المعترضين فيما ذهبوا إليه عند اشتداد العلة وتَحكُّمها، أما في أوَّله فيقرب من الماء، ويلغ فيه، وإذْ نُقدِّر للجد جهده،
(1)
أخرجه البخاري (71) ومسلم (1037/ 100).
وَمَعَ أننا لا نردُّ تعليله إلا أنه لم يصل إلى درجة التسليم كما أن العلَّة أصبحت الآن معروفةً.
قوله: (لَا فِي مَبَادِيهَا، وَفِي أَوَّلِ حُدُوثِهَا، فَلَا مَعْنًى لاعْتِرَاضِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيثِ ذِكْرُ المَاءِ).
" إذا وَلَغ الكَلبُ في إناءِ أَحَدكمْ"
(1)
، والرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لم يُفرِّق بين الكلب العادي وبين الكلب الكَلِبِ، ولو كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقصد هذا النوع من الكلَاب لبيَّنه؛ لأنَّ هذا بيانٌ، وتَأْخير البيَان عَنْ وقت الحاجة لا يَجُوز، والرَّسولُ عليه الصلاة والسلام مُبلِّغٌ عن الله؛ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا} [الحشر: 7]، وهُوَ أيضًا هو المبيِّن لمَا في كتاب الله عز وجل {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقَدْ ترون أنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام يُشْكل، فلو كان ذلك أشكلَ على الصحابة رضوان الله عليهم، فما فَهمُوه، لَسَألوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ولبيَّنه لهم، ولنَقَلوه لنا صافيًا نقيًّا كما نَقَلوا لنا السُّنَّة المطهرة، وهذه الآثار العظيمة التي نُقِلَتْ لنا من أقوالٍ، وما عُرِفَ أنَّ ذلك أشكلَ على الصحابة، ولا أنَّهم تحيَّروا في فهمه، وإنما إذا كان أمرًا واضحًا، رَأَوا أنه أمرٌ؛ {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
قوله: (وَإِنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ الإِنَاءِ).
وهذا يُضْعف مذهبَ المالكية، "وعَفروه الثامنة في التراب"
(2)
، "أُولَاهُنَّ بِالتُّرَاب"
(3)
، يعني: أن تتبُّع الآثار أثبتت عدم وُرُود لفظ الماء، إنما الإناء إذا وَلغ فيه الكلب، وإن كان العرف والذهن يتطرق أسرع إلى الماء.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
قوله: (وَلَعَلَّ فِي سُؤْرِهِ خَاصِّيَّةً مِنْ هَذَا الوَجْهِ ضَارَّةً).
التقَى المؤلفُ رحمه الله مع الشافعيَّة في هذا التعليل "لعلَّ في سؤره خاصية".
وهذه الخاصيَّة التي ظهرت لنا وهي هذا اللعاب اللزج الذي يلصق في الإناء، فيحتاج إلى مُزِيلٍ؛ فيكرر الغسل، ثم احتياطًا يُفْرك بالتُّراب.
ولذَلكَ، اختلفَ الفقهاء قبل أن يُدْركوا هذا الأمر الذي ظهر لنا، هل يكفي الصابون
(1)
؟ أي: هل هذه المزيلات القوية التي تزيل الأوساخ وغيرها لو استخدمت بدل التراب هل تكفي أم لا؟ وذهب الفقهاء في المسألة مذاهب شتى، ولم يَلْتقوا في قول، ولكنهم التَقوا في قول: إنَّ التُّراب هو الذي يُزيله، وجاء الطب ليثبتَ أن في التراب خاصيةً هي التي تزيل هذا اللعاب.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 87) حيث قال: "وأمَّا النجاسة الحقيقية فإن كانت غير مرئية، كالبول ونحوه، ذكر في ظاهر الرواية أنه لا تطهر إلا بالغسل ثلاثًا، وعند الشافعي تطهر بالغسل مرة واحدة اعتبارًا بالحدث، إلا في ولوغ الكلب في الإناء، فإنه لا يطهر إلا بالغسل سبعًا إحداهن بالتراب بالحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبعًا، إحداهن بالتراب". (ولنا) ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا"، فقَدْ أمر بالغسل ثلاثًا، وإن كان ذلك غير مرئيٍّ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 84)، حيث قال:(قوله: ولا تتريب) أي: لأنَّ التتريب لم يثبت في كل الروايات، وإنما ثبت في بعضها، وذلك البعض الذي ثبت فيه وقع فيه اضطرابٌ، وكما لا يحتاج لنية، ولا تتريب، لا يحتاج أيضًا لذلك؛ لأنَّ ذلكَ الغسلَ ليس لإزالة شيءٍ محسوسٍ كما في ح، بل زوال النجاسة بلا ذلك كاف كما مر". وانظر:"مواهب الجليل" للحَطاب (1/ 179).
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 21) حيث قال: "ولا يقوم غير التراب كأشنان، وصابون مقامه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 182) حيث قال: " (ويقوم أشنان وصابون ونخالة ونحوها) من كل ما له قوة في الإزالة (مقامه)، أي: التراب (ولو مع وجوده)، وعدم تضرر المحل به؛ لأن نصَّه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف". وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 40).
قوله: (أَعْنِي: قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ بِهِ الكَلَبُ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ وُرُودُ مِثْلِ هَذَا فِي الشَّرْعِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ مَا وَرَدَ فِي الذُّبَابِ إِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ أَنْ يُغْمَسَ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً).
لَكن الذُّباب قد بَيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام العلة فيه، فقال:"في أحَد جَنَاحيه: داء، وفي الآخر: دواء"
(1)
، وقرأت في إحدى الصحف - ونحن طلبة - أن جرحى كثيرين في الحرب العالمية بقوا أحياء لوقوع الذباب عليهم، فقالوا: هذا تفسيرٌ لما جاء في الحديث: "فإن في أحَد جَناحيه: داء، وفي الآخر: دواء"
(2)
.
والرسول عليه الصلاة والسلام أمَر أن يغمس الذباب، ونحن نجد أنه قد يقَع على بعض الأوساخ، بل يقَع على العذرة، والرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على النظافة، وعلَى مَا يهم المسلم، وما يهم بدنه، وبيَّن أنَّ لنفسك عليك حقًّا، وقال:"حسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صلبه"، وقال:"ما ملأَ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنِهِ"، ومع ذَلكَ قَالَ:"فإنَّ في أحد جناحيه: داءً، وفي الآخر: دواء"، ولكنه صلى الله عليه وسلم هنا في الكلب لم يبين العلة إلا أنه عُرِفَ بعد ذلك أن العلةَ في لعابه.
قوله: (وَفِي الآخَرِ دَوَاءً. وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي المَذْهَبِ مِنْ أَنَّ هَذَا الكَلْبَ هُوَ الكَلْبُ المَنْهِيُّ).
قوله: (وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي المَذْهَبِ)، هو لا يقصد مذهب المالكية.
قوله: (عَنِ اتِّخَاذِهِ).
(1)
أخرجه البخاري (5782)، عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وقَع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه: شفاءً، وفي الآخر: داء".
(2)
تقدم تخريجه.
قوله: (أَوِ الكَلْبُ الحَضَرِيُّ، فَضَعِيفٌ وَبَعِيدٌ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ)
(1)
.
هذه كُلُّها تعليلاتٌ لا أصلَ لها، وهي ضعيفةٌ.
قوله: (إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ ذَلِكَ - أَعْنِي: النَّهْيَ - مِنْ بَابِ التَّحْرِيجِ فِي اتِّخَاذِهِ).
هذا تخصيصٌ بعد تعميمٍ، فبعد أن عرفنا الأسآرَ عامةً، ثم ركَّز على ما يتعلق بالحيوان، أراد أن يتحدث هنا عما يفضل من وضوء المسلم، والسؤرُ هو ما يبقى في الإناء من وضوءٍ أو غسل.
فائدة مسلكية:
الطلاب في هذا الزمن أصبحوا يميلون إلى الأمور الواضحة السهلة الميسورة؛ كالمذكرات التي تُكتب بأُسلوب واضح وبعبارةٍ سهلة وميسورة وفيها بساطة، لأن الطالب إذا كان دارسًا يُعنى بالامتحان فيجد فيها بغيته، لا يسهر الليالي الطوال، ولا يقف وقفات طويلة حتى يفهم العبارات.
واعلم أنَّ الكتب القديمة لا تكون فوائدها فقط فيما تدرسه من أحكام، وإنما لفهم ما فيها من عبارات، ولها أهداف أُخرى، فتعرف بها أُسلوب القدماء وعنايتهم وكيف يرتبون المسائل وكيف يربطون بعضها ببعض، فنحن عندما نريد أن ندرس العلم إنما ندرس في كتب أولئك العلماء السابقين، ولا مانع أن نقرأ في المؤلفات الحديثة وأن نواصل، لكن لا ينبغي أن تنقطع صلتنا عن الكتب القديمة، وكثيرًا ما يشكو الطلبة
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 178) حيث قال: "ونقل ابن عرفة ثالثًا عن ابن رشد وابن زرقون بأنه يختص بالحضري، وعزياه لابن الماجشون، وقال: وتفسير اللخمي بالمنهي عن اتخاذه يمنع كونه ثالثًا، يعني أن اللخمي فسر الحضري في كلام ابن الماجشون بالمنهي عنه، وذلك لأنه في الحضر لا يكون غالبًا إلا منهيًّا عن اتخاذه، والله تعالى أعلم".
ويقولون لماذا يختلف طالب اليوم عن طالب الأمس؟ مع أن طالب اليوم يُسرت له الأسباب، إضاءة متوفرة، ووسائل مواصلات، كل وسائل الخير، والكتب تُسلم إليه، والدولة جزاها الله خيرًا قدمت كل ما يُساعد طالب العلم حتى تعطيه ما يُساعده في نفقةٍ، فلماذا كان طالب الأمس أحسن حالًا من اليوم؟ مع أنه يعاني من صعوبة المعيشة، ومن وسائل الراحة، ومن وسائل المواصلات.
والجواب: أنَّ الأذهان اليوم قد اختلفت، وتَشَتَّتَتْ، وفيما مضى كانت محصورة، وطالب العلم كان يحرص كل الحرص أن يقرأ في مثل هذه الكتب القديمة، من مثل:"بداية المجتهد"، وكتاب:"المغني" لابن قدامة، و"المجموع" للنووي، وكتب محمد بن الحسن، وكتب المالكية وغيرها من الكتب الكثيرة، يقرأ فيها حتى يروض بها، ذلك أن الإنسان إذا اعتاد أن يحمل شيئًا بسيطًا تعوَّد عليه، وكلَّما زاد في الحمل بدأ يحمل أكثر، كذلك هذا الذهن كلَّما حملته قليلًا قليلًا فإنه يسير معك إلى أن تصبح الأمور التي كنت تراها صعبة ميسورةً عندك.
وهذا الذهن وهذا الفكر يحتاج إلى بحثٍ وإلى تدقيق، وخير وسيلة لذلك المناقشات التي تكون في هذه الآراء، فإنَّ معرفة الآراء: قال فلانٌ كذا، وقال الآخر كذا
…
فلنُشغِّل أذهاننا وندقق، وقد نجهدها أيامًا أو أشهرًا أو سنين، لكننا نصل بإذن الله إلى اكتمال المقصود متى صاحب ذلك إخلاص وقَبْله تقوى الله سبحانه وتعالى.
وعليه، فإنَّ قراءة هذه الكتب لها من المزايا ما لا تُوجد في غيرها، قد أجدها صعبة اليوم لكنني عندما أتعود عليها لا تكون صعبة، فلماذا الذين سبقونا بقليل ما كانوا يرون صعوبة في هذه الكتب؟
لماذا كانوا يقرؤون في النحو كتب الأشموني، وشروحه وحواشيه، ويقرؤون "أوضح المسالك" وكانوا يقرؤون ذلك في الثانوي وبعضهم المتوسط، ونحن الآن نجد فيها صعوبة في الكليات، لماذا أصبحنا نميل
إلى المذكرات ولا نريد هذه الكتب؟ لأننا ركنَّا إلى الراحة وأصبحت نفوسنا تميل إليها، ولا نريد أن نتعب ونَكُدُّ ونجهد أنفسنا، فمن أراد العلم فليقرأ في هذه الكتب وليمعن النظر، ورسالة العلم لا تقف عند حدٍّ ولا عند وقت معين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي أَسْآرِ الطُّهْرِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ أَسْآرَ الطُّهْرِ طَاهِرَةٌ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ)
(1)
.
ذَهَب بعض العلماء إلى أن أسآرَ الطُّهر طاهرةٌ بإطلاقٍ دون قيد، بحيث لا فرق بين الرجل والمرأة، ولا فرق بين أن يشرعا معًا في الوضوء أو الغسل أو لا، بل ولا فرق بين أن تخلو المرأة به، ولا أن يخلو به .. إلى غير ذلك من مسائل فرعية فصل العلماء القول فيها، ولكنَّنا تماشيًا مع منهج المؤلف، نصب التَّركيز على أمهات المسائل وأصولها؛ لأنك لو تتبَّعت الجزئيات، تَشعَّبت بك السبل، وَصَعب عليك أن تُلمَّ بها.
قوله: (والشافعي
(2)
، وأبي حنيفة)
(3)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 35) حيث قال: " (أو) كان المطلق (فضلة طهارتهما) معًا، وأولى أحدهما اغترفا أو نزلا فيه".
(2)
يُنظر: "المجموع" للنووي (2/ 191) حيث قال: "واتفقوا على جواز وضوء الرجل والمرأة بفضل الرجل، وأمَّا فَضْل المرأة، فَيَجوز عندنا الوضوء به أيضًا للرجل؛ سَوَاء خلت به أم لا. قال البغوي وغيره: ولا كَرَاهة فيه للأحاديث الصحيحة فيه، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة".
(3)
يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (1/ 133)، حيث قال:" (قوله: وسؤر الآدمي والفرس وما يؤكل لحمه طاهر)، أما الآدمي؛ فلأن لُعَابه متولد من لحم طاهر، وإنما لا يُؤْكل لكَرامته، ولا فرق بين الجنب والطاهر والحائض والنفساء والصغير والكبير والمسلم والكافر والذكر والأنثى، كذا ذكر الزيلعي رحمه الله، يعني: أن الكل طاهر طهور من غير كراهة، وفيه نظر، فقد صرح في "المجتبى" من باب الحظر والإباحة أنه يُكْره سؤر المرأة للرجل وسؤره لها، ولهذا لم يذكر الذكر والأنثى في كثيرٍ من الكتب، لكن قد يقال: الكراهة المذكورة إنما هو في الشرب لا في الطهارة".=
وهو مذهب مالكٍ والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية
(1)
أيضًا، إذًا الأئمة الأربعة كلهم في هذه المسألة على رأيٍ، لكن الإمام أحمد له رواية أُخرى
(2)
، تقول: إنَّ المرأة إذا خلت بالماء في الرواية الأُخرى، فإن الرجل لا يتوضأ بسؤرها.
قوله: (وذَهب آخرون إلى أنه لا يجوز للرجل أن يتطهَّر بسؤر المرأة، ويجوز للمرأة أن تتطهر بسؤر الرجل).
وهَذَا منسوبٌ إلى الحسن وسعيد بن المسيب
(3)
، وهي روايةٌ عن الإمام أحمد
(4)
.
= يُنظر: "الأصل" للشيباني (1/ 21) حيث قال: "قلت: أرأيت امرأة حائضًا شربت من ماء أو توضأت به، ففضل من ذلك الماء في الإناء، فتوضأ به رجلٌ؟ قال: يجزيه. قلت: لِمَ؟ قال: لأن هذا الماء طاهر".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 157) حيث قال: "والثَّانية، يجوز الوضوء به للرجال والنساء. اختارها ابن عقيلٍ، وَهُوَ قول أكثر أهل العلم؛ لما روى مسلم في "صحيحه"، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بفضل وضوء ميمونة، وقالت ميمونة: اغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يَغْتسل، فقلت: إنِّي قد اغتسلت منه، فقال:"الماء ليس على جنابة"، ولأنه ماء طهور، جاز للمرأة الوضوء به، فَجَاز للرجل كفضل الرجل.
(2)
في المشهور عنه: أنه لا يجوز ذلك.
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 36) حيث قال: " (وإن خلت امرأة) مكلفة (ولو كافرة) حرة أو أمة (لا) إن خلت به (مميزة) أو مراهقة (أو خنثى مشكل)؛ لاحتمال أن يكون رجلًا (بماء) متعلق بخلت (لا) إن خلت (بتراب تيممت به)، فلا تؤثر خلوتها به؛ لعدم النص (دون قلتين) صفة لماء (لطهارة كاملة)، لا لبعض طهارة (عن حدث) أصغر أو أكبر (لا) عن (خبث وشرب وطهر مستحب فطهور)؛ لأنه لم يوجد ما يسلبه ذلك، فوجب بَقَاؤه على ما كان عليه (ولا يرفع حدث رجل)؛ لأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم "نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة"، رَوَاه الترمذي، وحسَّنه، وصححه ابن حبان". وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 157).
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 403) حيث قال: "وكره الحسن وابن المسيب أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وذكر أبو العالية ذلك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ".
(4)
تقدم.
قوله: (وذَهَب آخرون إلى أنه يَجُوز للرجل أن يتطهَّر بسؤر المرأة ما لم تكن المرأة جنبًا، أو حائضًا).
نقل هذا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
(1)
.
قوله: (وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز لواحدٍ منهما أن يتطهر بفضل صاحبه إلا أن يشرعا معًا).
هذا في حديث عبد الله بن سرجس الآتي، ويقال: إنه موقوفٌ عليه، فيكون رأيًا له
(2)
.
قوله: (وقال قوم: لا يجوز وإن شرعا معًا، وهو مذهب أحمد بن حنبل)
(3)
.
هذه النسبة وهمٌ من المؤلف؛ لأن هذا القول نسب إلى أبي هريرة فقط
(4)
، وإذ كالن الكتاب له مزَايا، فإنَّ عليه بعض المآخذ، كأنْ يبحثَ المسألة، ويقصر ببعض الأدلة، وربما يقول: لو صح الحديث وهو صحيح، أو ينسب القول إلى غير صاحبه كما هو الشأن هنا، إلا أنها مآخذ يهتم بها مَنْ يقوم بتدريس هذا الكتاب والعناية به، وهذا شأن كل عملٍ بشريٍّ يعتريه النقص والنسيان.
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 403) حيث قال: "وكان ابن عمر يقول: "لا بأس بالوضوء من فضل شراب المرأة وفضل وضوئها ما لم تكن جنبًا أو حائضًا، فإذا خلت به، فلا يقربه".
(2)
سيأتي.
(3)
كما قال الشارح، هذا وهمٌ من المصنف، ومذهب أحمد: إذا شرعا فيه جميعًا، فلا بأس.
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 158) حيث قال: "وإذا شرعا فيه جميعًا، فلا بأس به؛ لقول عبد الله بن سرجس: اغتسلا جميعًا؛ هو هكذا، وأنت هكذا".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 402) حيث قال: "فنهت طائفة أن يغتسل الرجل والمرأة من إناءٍ واحدٍ، رُوِيَ هذا القول عن أبي هريرة".
قوله: (وسبب اختلافهم في هذا اختلاف الآثار).
يقصد بالآثار الأحاديث، وهي أربعةٌ كما ذكر المؤلف، وإلا فهي أكثر.
قوله: (وذلك أن في ذلك أربعة آثار، أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة هو وأزواجه من إناءٍ واحدٍ).
هذا حديث متفق عليه
(1)
، وهناك حديثٌ آخر أنه عليه الصلاة والسلام توضأ بفضل ميمونة، وهذا أيضًا في "صحيح مسلم"
(2)
.
وفي حديث ابن عباس أنه قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من صَحْفَةٍ، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتوضَّأ، فقالت - وهي في بعض الرِّوايات: ميمونة: إنِّى اغتسلت أو توضأت منه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام:"إنَّ الماءَ لا يجنب"، وهذا حديثٌ رواه الترمذي
(3)
وغيره، وحسَّنه الترمذي وغيره، "إن الماء لا يُجْنب" يعني: لا تصيبه الجنابة
(4)
.
قوله: (والثاني: حديث ميمونة أنه اغتسل من فضلها)
(5)
.
أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يغتسل من فضلها،
(1)
أخرجه البخاري (250)، ومسلم (319)، عن عائشة قالت:"كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، من قدح يقال له: الفرق".
(2)
أخرجه مسلم (323)، عن ابن عباس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة".
(3)
أخرجه الترمذي (65) بلفظ: "عن ابن عباس، قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنةٍ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه، فقالت: يا رسول الله، إني كنت جنبًا، فقال: "إن الماء لا يجنب"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الترمذي".
(4)
يُنظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 38) حيث قال: "قوله: "لا يجنب"، معناه: لا ينجس، وحقيقته أنه لا يصير بمثل هذا الفعل إلى حال يجتنب فلا يستعمل، وأصل الجنابة البعد".
(5)
تقدم تخريجه.
وثبت أيضًا أنه توضأ من إناءٍ فيه أثر عجين
(1)
، وكذلك أيضًا اغتسل هو وعائشة من إناءٍ واحدٍ
(2)
، والصحابة صلى الله عليه وسلم كانوا يَتوضَّؤون من إناءٍ واحدٍ، ويشتركون في الوضوء
(3)
، وغير ذلك.
قوله: (والثالث: حديث الحكم الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة .. خرجه أبو داود
(4)
والترمذي
(5)
. والرابع: حديث عبد الله بن سَرْجِس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل"
(6)
).
القول بأن أساَرَ المسلمين كلها طاهرة، هو رأي جماهير العلماء ما عدا الرواية الأُخرى عن الإمام أحمد، وعند تدبر الأدلة ومحاولة استقصائها واستقرائها يكون هذا المذهب في نظري هو أرجح المذاهب.
وَلكن الآرَاء الأُخرى لها أدلتها، والفُقَهاء عندما يَقُولُ أحدهم بقولٍ، لا يقوله هكذا أو يلقيه جزافًا، بل يكون له أدلته، فمنهم مَنْ قال: يشرعا معًا؛ لأنه ورد في الحديث، فلا مانع، لكن أن تنفرد المرأة به فلا.
وفي الحديث الآخر: "لا يغتسل كلُّ واحدٍ منهما بفضل الآخر"
(7)
،
(1)
أخرجه النسائي (240)، عن أم هانئ صلى الله عليه وسلم:"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسلَ هو وميمونة من إناءٍ واحدٍ في قصعة فيها أثر العجين"، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(485).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه أبو داود (82)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(11).
(5)
أخرجه الترمذي (64) وقال: حديث حسن، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(11).
(6)
سيأتي تخريجه.
(7)
أخرجه ابن ماجه في "سننه"(375)، عن عليٍّ، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناءٍ واحدٍ، ولا يغتسل أحدهما بفضل صاحبه". وضعفه الأَلْبَانيُّ.
هذا أيضًا ورد في الحديث، فهذه أحاديث، وتلك أحاديث أُخرى أوردها المؤلف.
قوله: (ولكن يشرعان معًا
(1)
، فَذَهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث مذهبين: مذهب الترجيح، ومذهب الجمع في بعض).
والجَمْعُ هو العمل بجميع الأدلة ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا
(2)
، والترجيح هو العمل بأدلةٍ وإهمال أُخرى
(3)
، ولو أننا حملنا الأحاديث التي ورد فيها النهي على التنزيه؛ لالتقت كل هذه الأقوال حول مذهب جمهور العلماء، فلو ترك الإنسان سؤر المرأة عندما تنفرد تنزهًا أو عُدُولًا عنه، حِينَئذٍ تَلْتقي الأدلة خصوصًا أن الأحاديث التي ورد فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم اغتسل وتوضأ من فضل نسائه أحاديث صحيحة في "الصحيحين"، أو أحدهما.
أما حديث عبد الله بن سرجِس فقالوا: إنه موقوفٌ عليه، وهذا رأي له
…
نُقِلَ هذا عن الإمام البخاري
(4)
.
قوله: (والترجيح في بعضٍ، أما مَنْ رجح حديث اغتسال
(1)
أخرجه ابن ماجه (374)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(473).
(2)
يُنظر: "المهذب في علم أصول الفقه المقارن" للنملة (5/ 2419) حيث قال: "الائتلاف بين الأدلة الشرعية وتوافقها، وبيان أن الاختلاف بينها غير موجود حقيقة".
(3)
يُنظر: "المهذب في علم أصول الفقه المقارن" للنملة (5/ 2423) حيث قال: "تقديم المجتهد لأحد الدليلين المتعارضين؛ لما فيه من مزية معتبرة تجعل العمل به أوْلى من الآخر".
(4)
يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 191) حيث قال: "قال الترمذي: سألت البخاري عنه، فقال: ليس هو بصحيح. قال البخاري: وحديث ابن سرجس الصحيح أنه موقوفٌ عليه، ومَنْ رَفَعه فقد أخطأ".
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 158)، حيث قال:"قال الخطابي: قال محمد بن إسماعيل: خبر الأقرع لا يصحُّ، والصحيح في هذا خبر عبد الله بن سرجس، وهو موقوف، ومَنْ رفعه فقد أخطأ".
النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجِهِ من إناءٍ واحدٍ على سائر الأحاديث؛ لأنه مما اتفق الصحاح على تخريجه).
وهذا الحديث متفق عليه
(1)
، وفي حديث مسلم من فضل ميمونة
(2)
.
قوله: (ولم يكن عنده فرقٌ بين أن يغتسلا معًا، أو يغتسل كل واحدٍ منهما بفضل صاحبه).
يرى بعض العلماء أن قضيَّة أن تنفرد به المرأة - وهذا منسوب إلى الإمام أحمد - قضية غير مُعلَّلة،
(3)
، وعلى كل فإن في المسألة محاولات لتلمس العلل كما ورد في الكلب.
قوله: (لأنَّ المغتسلين معًا كل واحدٍ منهما مغتسل بفضل صاحبه).
يَقْصد أنَّنا لو دَقَّقنا في الأمر، وأمعنا في النظر لهذه المسألة، لَوَجدنا أن المغتسلَيْنِ مع بعضٍ، كل واحدٍ منهما مغتسل بفضل الآخر، فهذا يأخُذُ فضل هذا، وهذا فضل هذا، فهل هناك علة كما يذكر بعض العلماء في أن انفراد المرأة له سِرٌّ، هذا السرُّ غير معقول المعنى.
قوله: (وَصَحَّح حديث ميمونة مع هذا الحديث، ورجَّحه على حديث الغفاري، فقال بطهر الأسآر على الإطلاق. وأما من رجَّح حديث الغفاري على حديث ميمونة، وهو مذهب أبي حزم
(4)
، وجمع بين حديث الغفاري وحديث اغتسال النبي مع أزواجه من إناءٍ واحدٍ بأن فرق بين الاغتسال معًا، وبين أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر، وعمل على هذين
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 159) حيث قال: "ومنع الرجل من استعمال فضلة طهور المرأة تعبدي غير معقول المعنى، نص عليه أحمد، ولذلك يُبَاح لامرأةٍ سواها التطهر به في طهارة الحدث، وغسل النجاسة، وغيرهما؛ لأنَّ النهي اختص الرجل، ولم يعقل معناه، فيجب قصرُهُ على محل النهي".
(4)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (1/ 205، 206).
الحديثين فقط، أجاز للرجل أن يتطهر مع المرأة من إناءٍ واحدٍ، ولم يُجز أن يتطهر هو من فضل طهرها، وأجاز أن تتطهر هي من فضل طهره، وأما من ذهب مذهب الجمع بين الأحاديث كلها ما خلا حديث ميمونة، فإنه آخذٌ بحديث عبد الله بن سرجِس، لأنه يمكن أن يجتمع عليه حديث الغفاري، وحديث غسل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجِهِ من إناءٍ واحدٍ، ويكون فيه زيادةٌ، وهي ألا تيوضأ المرأة أيضًا بفضل الرجل، لكن يُعَارضه حديث ميمونة، وهو حديثٌ خرَّجه
(1)
مسلمٌ، لَكن قَدْ علَّله -كما قلنا- بعض الناس من أن بعضَ رُوَاته قال فيه: أكثر ظنِّي، وأكثر
(2)
عِلْمِي أن أبا الشعثاء حدثني
(3)
).
ووردت له روايات أُخرى غير هذه الرواية.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجِزْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَطَهَّرَ بِفَضْلِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَشْرَعَانِ مَعًا، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنَ الأحَادِيتِ إِلَّا حَدِيثُ الحَكَمِ الغِفَارِيِّ، وَقَاسَ الرَّجُلَ عَلَى المَرْأَةِ، وَأَمَّا مَنْ نَهَى عَنْ سُؤْرِ المَرْأَةِ الجُنُبِ، وَالحَائِضِ فَقَطْ، فَلَسْتُ أَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً إِلَّا أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَحْسَبُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ)
(4)
.
هَذَا القولُ نسب إلى عبد الله بن عمر بالنسبة للحائض والجنب، وهذا قولهٌ له.
(1)
كذا في نسختي صبيح (1/ 25)، والمعرفة (1/ 32)، وفي نسخة العبادي (1/ 76) قال:"أخرجه".
(2)
كذا في نسختي صبيح (1/ 25)، والمعرفة (1/ 32)، وفي نسخة العبادي (1/ 76) قال:"وأكثر".
(3)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 300) حيث قال: "وأما حديث ميمونة، فأخرجه مسلم، لكن أعله قوم لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال: علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني
…
فذكر الحديث، وقد ورَد من طريقٍ أُخرى بلا ترددٍ، لكن راويها غير ضابطٍ، وقد خولف، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد".
(4)
تقدم قوله.
قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: صَارَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ بَيْنِ مُعْظَمِ أَصْحَابِهِ وَفُقَهَاءِ الأَمْصَارِ إِلَى إِجَازَةِ الوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ)
(1)
.
قوله: (صَارَ أَبُو حَنِيفَةَ)، أَيْ: ذهَب أبو حنيفة، وانفرد من بين فقهاء الأمصار إلى القول بجَوَاز التطهُّر أو الوضوء بنبيذ التمر، والمقصود بفقهاء الأمصار أولئك الأعلام الذين أصبحوا أئمةً في البلاد الإسلامية؛ كالإمام مالكٍ في المدينة، والإمام أحمد في العراق، وقبله الشافعي في العِراق ثم مِصر، وكذلك أيضًا الليث وغيره من الأئمة المعروفين.
قوله: (بِنَبِيذِ التَّمْرِ
(2)
فِي السَّفَرِ).
والمؤلف لم يُحرِّر مذهب الحنفية تحريرًا دقيقًا، ونحن عندما نذكر مذهب الحنفية لا نذكر فقط رأي الإمام، ولكنَّنا نصور مذهب الحنفية، وللحنفية في الوضوء بنبيذ التمر أقوالٌ أربعةٌ:
القول الأول: جواز الوضوء بنبيذ التمرِ المطبوخِ في السفرِ إذا لم يوجد ماء، وأبو حنيفة على هذا.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 15) حيث قال: "وبالقياس أخذ أبو يوسف وقال: لا يجوز التوضؤ به، إلا أن أبا حنيفة ترك القياس بالنص، وهو حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فَجَوز التوضؤ به. وذكر في "الجامع الصغير" أن المسافر إذا لم يجد الماء ووجد نبيذ التمر، توضأ به، ولم يتيمم".
ويُنظر: "الأصل" للشيباني (1/ 58)، حيث قال:"قلت: أرأيت مسافرًا حضرت الصلاة ومعه نبيذ التمر، ليس معه غيره، أيتوضأ به؟ قال: نعم، يتوضأ به، ويتيمم مع ذلك أحب إليَّ. قلت: فإن لم يتيمم وتوضأ بالنبيذ وحده؟ قال: يجزيه في قول أبي حنيفة. قلت: لم يجزه؟ قال: لأنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بالنبيذ".
(2)
"النبيذ": التمر ينبذ في جرة الماء أو غيرها أي: يلقى فيها حتى يغلي، وقد يكون من الزبيب والعسل. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص 453).
القول الثاني: الجمع بين النبيذ والتيمم، بحيث يتوضأ بالنبيذ، ثم يتيمم خروجًا من الخلاف.
القول الثالث: التطهر بالنبيذ، ثم التيمم استحبابًا
(1)
.
القول الرابع: لا يتوضأ به، وهو قول أبي يوسف
(2)
.
قوله: (لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
نَبِيذُ التَّمْرِ قيد بأن يكون مطبوخًا، وأن يكون في السفرِ مع فَقْد الماء، كما في حديث عبد الله بن مسعود لما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجود الماء معه، فأجاب: نبيذٌ في إدَاوَتِي.
قوله: (أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الجِنِّ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: " هَلْ مَعَكَ مِنْ مَاءٍ"؟).
النبي عليه الصلاة والسلام يسأل: ("هَلْ مَعَكَ مِنْ مَاءٍ"؟) فأجاب.
قوله: (فَقَالَ: مَعِي نَبِيذٌ فِي إِدَاوَتِي).
الإداوةُ إناءٌ من جِلْدٍ
(3)
.
قوله: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اصْبُبْ"، فَتَوَضَّأَ بِهِ، وَقَالَ:
(1)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 27).
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (1/ 199)؛ حيث قال: "قال أبو جعفر: (ويجوز عند أبي حنيفة الوضوء بنبيذ التمر خاصة، دون ما سواه من الأنبذة في غير الأمصار، وفي غير القرى عند عدم الماء، وقال أبو يوسف: لا يتوضأ به، وقال محمد: يتوضأ به، ثم يتيمم) ".
(3)
"الإداوة": بكسر الهمزة، هي آنية الماء كالمطهرة، الجمع: الإداوى. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2266). "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 24).
"شَرَابٌ وَطَهُورٌ"
(1)
. وَحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ثَمَرَةٌ طَيَّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ"
(2)
).
"ثَمَرَةٌ طَيَّبَةٌ"، وفي بعض الروايات:"تَمْرَةٌ طَيَّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ"
(3)
، هذا هو استدلال الحنفية.
قوله: (وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الصَّحَابَةِ؛ عَلِيِّ
(4)
وَابْنِ عَبَّاسٍ)
(5)
.
بعد أن استدلوا بالحديث، أضافوا إلى ذلك أيضًا أن هذا رُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود
(6)
، بل وغَيْرهما من الصحابة رضوان الله عليهم، فقال بعضهم (أي: الحنفية): إذا كان هذا مرويًّا عن عَدَدٍ من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالفٌ، فيكون ذلك إجماعًا، وهذا غير مسلمٍ على أنهم يستدلون بحديثٍ آخر، ويدعمون به مذهبهم، وهو حديث عبَدالله بن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"النبيذ وضوء مَنْ لم يجد الماء"
(7)
، وهذا ضعيفٌ.
قوله: (وَأَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ كَالإِجْمَاعِ عِنْدَهُمْ).
وهَذَا غير مُسلَّمٍ به.
(1)
أخرجه أحمد في "المسند"(3782)، وضعف إسناده الأرناؤوط.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 31).
(3)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(10/ 64).
(4)
أخرج أبو عبيد في "الطهور"(ص 314) عن عليٍّ رحمه الله عليه - أنه "كان لا يرى بأسًا بالوضوء بالنبيذ".
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 360) حيث قال: "ورُوِّينا عن ابن عباس أنه سئل عن الوضوء باللبن، فقال: لا يتوضأ باللبن، إذا لم يجد الماء أحدكم فليتيمم بالصعيد".
(6)
لأنه راوي الحديث، وهو حديث ضعيف.
(7)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(1/ 126).
قوله: (وَرَدَّ أَهْلُ الحَدِيثِ هَذَا الخَبَرَ، وَلَمْ يَقْبَلُوهُ، لِضَعْفِ رُوَاتِهِ).
هذا الحديثُ ضعيفٌ، وضعَّفه العلماء، بل أطبق الحُفَّاظ على تضعيفِهِ، وممَّن ضعَّفه الحافظ ابن حجر
(1)
، والإمام الطحاوي
(2)
، الذي لطالما عني بمذهب الحنفية، وأكثر من الاستدلال لهم، بل والدفاع عنهم، وقد بين في كتابه "معاني الآثار" أن هذا الحديث ضعيفٌ من جميع طرقه، وأنه لا ينبغي أن يشغل كتابه بمثله.
وبالنظر إلى الطرق الأُخرى التي جَاءَ بها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، نجد أنه جاء من طريق علقمة، وهو مولى عبد الله بن مسعود، وهو من أخصِّ أصحابه أيضًا، وذكر في ذلك كما في "صحيح مسلم" أنه قال
(3)
: سألت عبد الله بن مسعود: هل شهد أحد منكم ليلة الجن مع رسول الله؟ فردَّ عليه عبد الله بن مسعود: كنا مع رسول الله ذات ليلةٍ، ففقدناه، فطلبناه في الأودية
(4)
والشعاب
(5)
فلم نجده. قال: فبتنا بِشَرِّ ليلةٍ،
(1)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 354)، حيث قال: وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه.
(2)
يُنظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 95).
(3)
أخرجه مسلم (450)، عَنْ علقمة أنه قال:"أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنَّا كنَّا مع رسول الله ذات ليلةٍ، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشرِّ ليلةٍ بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله، فَقَدْناك، فطلبناك فلم نجدك؛ فبتنا بشرِّ ليلةٍ بات بها قومٌ. فقال: "أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن"، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: "لكُمْ كل عظمِ ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم"، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم".
(4)
"الوادي": كل مفرج بين جبال وآكام، وتلال يكون مسلكًا للسيل أو منفذًا، والجميع: الأودية. انظر: "العين" للخليل (8/ 98).
(5)
"الشِّعْب"، بالكسر: الطريق في الجبل، والجمع الشعاب. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 156).
قَالَ: فلمَّا أصبحنا أتى رسول الله من جهة حراء. فقلنا: يا رسول الله، طلبناك في الشعاب والأودية فلم نجدك. فقال:"أتاني وفدٌ من الجن"، "أتاني داعي الجن وذهبت معه وقرأتُ عَلَيهم القرآن"، قال عبد الله بن مسعود: فانطلق بنا رسول الله، فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم.
وبهذا يَتبيَّن أن عبدَالله بن مسعود وغيره من الصحابة لَمْ يكونوا مع رسول الله، نعم كانوا معه في تلك الليلة، لَكنَّهم ما حضروا، ولَمْ يرد في هذا الأثر الذي رأيتم ذكرٌ للنبيذ ولا غيره.
وأيضًا أخرجه مسلم من طريق علقمة أنه قال: هل شهد أحدٌ منكم ليلة الجن مع رسول الله؟ قال: ما كنت معه، ووددت أني كنت معه
(1)
.
وَعَلى كلٍّ، فإنَّ عبد الله بن مسعود وغيره لم يشهدوا ليلة الجن، فقد فَقَدوا النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الأُولى، ثم رأوه في الصباح، فَحَكى لهم ما حدث. وفي الرواية الثانية أن عبد الله لم يكن معه، وود لو كان معه صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة.
ومع كثرة طرق الحديث، وتعدد رواياته، إلا أن الحفاظ والفقهاء انتهوا إلى تضعيفه.
ولئن كان المؤلف قد ذكر ضعف الحديث الذي ذكره إلا أنه لم يستقصِ القول فيه، مع أن الكلام فيه كثيرٌ جدًّا.
فمن جِهَةٍ هو حديثٌ ضعيفٌ، كما سبق، ومن جِهَةٍ فهو مخالفٌ للأصول قال جمهور العلماء
(2)
بمخالفته؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
(1)
أخرجه مسلم (450/ 152).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 179) حيث قال: "إنما يتيمم لفَقْد ماءٍ كافٍ بسفرٍ أو حضرٍ، أو قدرة على استعماله".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أَسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 72) حيث قال: "أسباب العجز سبعة، هذا ما في الأصل، والمصنف كالمنهاجِ جعل المبيح السبعة نظرًا للظاهر، فقال:(وهو سبعةٌ: الأول فَقْد الماء، فإن تيقن فقْده) حوله (فلا طلب عليه)؛ لأنه عبث (وإلا) بأن جوَّز وجوده (وجب عليه طلبه في الوقت أو) طلب =
فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، فهنا في الآيةِ لم يجعل واسطةً بين الماء وبين التراب، وإنما إذا عدم الإنسان الماء ينتقل مباشرةً إلى التراب.
وَكَذلك ورَد في الحديث الصحيح: "الصَّعيد الطَّيِّب وضوء المسلم وإنْ لَمْ يجد الماء عشر سنين"
(1)
.
وفي بعض الروايات كالذي ذكر المؤلف: "عشر حجج"
(2)
، "فإذا وجد الماء، فليمسه بشرته"
(3)
.
إذًا، "الصعيد الطيب وَضُوء المسلم"، وفي بعض الروايات "طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين"
(4)
، "فإذا وجد الماء فليمسَّه بشرته"، فالحديث انتقل مباشرةً من الماءِ إلى التراب، إذًا فهو البديل عن الماء.
وإذَا كَانَ جماهير العلماء ضَعَّفوا الحديث نقلًا من الكتاب والسُّنَّة كمَا سَبَق، فَإنَّهمْ أردفوا بتضعيفِهِ عقلًا، فَقَالوا: كلُّ شَيْءٍ لا يَجُوز التطهر به حضرًا، لم يجز التطهر به سفرًا، وعلى هذا كيف يجوز الوضوء بنبيذ التمرِ في السفرِ، ولا يجوز في الحضر مع أن هذه طهارة، ولا تختلف الحال بين المسافر وغير المسافر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أباح لنا إذا لم نجد الماء أن نتطهر بالتراب "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"
(5)
، وفي روايةٍ:
= (مأذونه)، كذلك لقوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، ولا يُقَال لم يجد إلا بعد الطلب، ولأن التيممَ طهارةٌ ضرورة، ولا ضرورة مع إمكانها بالماء، ولا قبل الوقت. وانظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 265).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 160) حيث قال: "والتيمم (بدل عن طهارة الماء)؛ لأنه مترتبٌ عليها، يجب فعلُهُ عند عدم الماء، ولا يجوز مع وجوده إلا لعذرٍ، وهذا شأن البدل (ويجوز) التيمم (حضرًا وسفرًا، ولو) كان السفر (غير مباح أو) كان (قصيرًا).
(1)
أخرجه النسائي (322) وغيره، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(153).
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(21304) وقال الأرناوؤط: صحيح لغيره.
(3)
أخرجه الترمذي (124)، وصححه الأَلْبَانيُّ.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521).
"وتربتها طهورًا"
(1)
، وهذه من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التي أُعْطي فيها خمسًا لم يعطهن أحد قبله
(2)
.
وهذا الاستدلال القياسي يصلح أن يكون قاعدةً فقهيةً: "كل ما لا يجوز أن يُتَطهر به حضرًا، لم يجز أن يتطهر به سفرًا"
(3)
، كما أن الجمهورَ يردُّ على الحنفية في الادعاء بأنَّ النَّبيذَ مائعٌ، وأن المَائعَ لا يَجُوز التطهُّر به في حالة وُجُود الماء.
ويردُّ الجمهور على تخصيص الحنفية الأمر في حالة السفر أنْ ليسَ في أثر عبد الله بن مسعود الذي ذَكَروه واستدلوا به أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مسافرًا، وإنما كان في الشعاب والأودية التي كانت بضواحي مكة.
وَقَالوا أيضًا بأن المرادَ بـ "تَمْرَةٌ طَيْبَةٌ"، أنه أُلْقِيَ فيها شيءٌ من التمرات ليعذب ذلك الماء، وهذا مَعْروفٌ عندهم، وكَانَ منتشرًا، بحيث إذا كان الماء مالحًا، يلقون فيه شيئًا من التمرات حتى تَخِفَّ ملوحته، قالوا: وليس في الواقع نبيذًا، وإنما هو ماءٌ أُلقي فيه شيءٌ من التَّمرات، بَل بَعْض العُلَماء قال: ربما أن التمرات التي ألقيت فيه إنما هي كانت جافةً، يعني: يابسة، فلا تُؤثِّر في الماء، بمعنى: لا تُحوِّله نبيذًا.
وقَالَ بَعْضُ أَهْل العلم
(4)
: إن هَذَا الأثرَ على فرض صحَّته - وهو
(1)
أخرجها مسلم (522) بلفظ: "وجعلت تربتها لنا طهورًا، إذا لم نجد الماء".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
قال الزركشي في "البحر المحيط في أصول الفقه"(6/ 260): "قال الأستاذ أبو منصور: وهذه أصول مهَّدوها من أجل أخبارٍ احتج بها أصحابنا عليهم في مواضعَ عجزوا عن دفعها، فردُّوها من هذه الوجوه التي ذكرناها، وقالوا بأمثالها في الضعف كخَبَر نبيذ التمر مع أنه مخالفٌ للقرآن، إذ القرآن دل على أنه لا واسطةَ بين الماء والتراب، وللقياس؛ لأن القياسَ يوجب أن ما امتنع التوضؤ به في الحضر امتنع في السفر، وقبلوا خبر القهقهة في الصلاة مع ضعفه ومخالفته للقياس؛ لأن القياس يوجب أن ما كان حدثًا في الصلاة، كان حدثًا في غيرها، وما لم ينقض الطهر في غيرها لا ينقض فيها".
(4)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 354) حيث قال: "وقيلَ: علَى تَقْدير صحَّته إنه =
غير صحيح - يكون منسوخًا؛ لأن هذا كان بمكة، وآية المائدة إنما هي في المدينة، وتعلمون أن سورة المائدة من أوَاخر ما نزلت.
إذًا، كل الأدلة تشهد بمذهب جمهور العلماء، وتضعف هذا الذي قال به الحنفية ومن لَف لفهم من العلماء كالأوزاعي والثوري.
قوله: (وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أَوْثَقَ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ).
(لِضَعْفِ رُوَاتِهِ)؛ لأنه من بعض رواته مثلًا ابن لهيعة
(1)
، وهو معروفٌ الكلام فيه.
(وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أَوْثَقَ)، هي التي ذكرتها عن علقمة في "صحيح مسلم"، (الأثرين اللذين ذكرتهما في "صحيح مسلم" هما اللَّذَان يشير إليهما المؤلِّف، ولم يعرض لهم).
قوله: (أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الجِنِّ. وَاحْتَجَّ الجُمْهُورُ لِرَدِّ هَذَا الحَدِيتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]).
وفي هذا الحديث تأكيدٌ على أن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة، تشمل الإنس والجن، قال تعالى:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [لنساء: 79]، وقال أيضًا:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29]:
…
إلى آخر الآيات التي في سورة الأحقاف، كما أن هناك سورة في القرآن تعرف بسورة الجن:
= منسوخٌ؛ لأنَّ ذلك كان بمكة، ونزول قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إنما كان بالمدينة بلا خلافٍ".
(1)
يُنظر: "الاغتباط بمَنْ رُمِيَ من الرواة بالاختلاط"، لسبط بن العجمي (ص 190) حيث قال:"الكلام فيه معروف. وقال بعض مشايخي فيما قرأت: إنه نسب إلى الاختلاط. انتهى، والعمل على تضعيف حديثه".
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]، فالرسول عليه الصلاة والسلام رسالتُهُ عامةٌ إلى الثقلين، فهو أيضًا في هذا الأثر (أثر علقمة) فيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء إليه داعي الجن، وذهب إليهم، وقرأ عليهم القرآن؛ لأنهم بيَّنوا في آية سورة الأحقاف عندما سمعوا القرآن {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 30، 31].
قوله: (وَاحْتَجَّ الجُمْهُورُ لِرَدِّ هَذَا الحَدِيثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43])، وَهي عُمْدة أدلتهم، {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، فَمَتى لم يوجد الماء، يتم النقل مباشرةً إلى التيمم).
قوله: (قَالَ: فَلَمْ يَجْعَلْ هَاهُنَا وَسَطًا بَيْنَ المَاءِ وَالصَّعِيدِ، وَبِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ"
(1)
).
قالوا: الآية نصٌّ في أنه إذا لم يوجد الماء، يُنْتقل بعد ذلك مباشرةً إلى التراب؛ لأنه "طهور المسلم وإِنْ لَمْ يجد الماء عشر سنين"
(2)
، بل إنها لم تجعل واسطةً بين الماء والتراب.
قوله: (وَبِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ"
(3)
).
و"عَشْر سنين"، من كمَال هذه الشريعة وشمولها وسُمُوها؛ لأنها شريعةٌ خالدةٌ، ووضعت للناس كافة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها،
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
فَهِيَ تَسْتوعب كل حاجات النَّاس، مهما جدَّت المسائل، وتنوعت الوقائع، وتعددت الحوادث، وهي خصبة شاملة، نجد فيها الحل لكل مسألةٍ، ولكل معضلٍ، ولكل مشكلة مهما تعدفى ت المسائل، وتنوعت الوقائع والمشكلات.
قوله: (فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذَا قَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِي الحَدِيثِ اسْمُ المَاءِ، وَالزِّيَادَةُ لَا تَقْتَضِي نَسْخًا، فَيُعَارِضَهَا الكِتَابُ).
هذا استدلالٌ ضعيفٌ، ولا شكَّ أن مذهب الجمهور واضح الدلالة في هذه المسألة.
قوله: (لَكِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ).
بهَذِهِ المسألة نَكُونُ قَدْ ختمنا أبواب المياه التي ركَّز فيها المؤلف على أَمهات المسائل وأصولها، فإذا ما عرفت هذه الأصول، فلك أن تُلْحق بها ما يجد، فتلحق بنبيذ التمر نبيذ العسل، ونبيذ الزبيب
(1)
، وَهَكذا.
وإذا كان المؤلفُ اختصرَ هذا الباب بالاعتماد على أمهات المسائل إلا أنه بابٌ عظيمٌ وهذه المياهُ نعمةٌ من نعم الله، وهو القائل:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39].
(1)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (1/ 497) حيث قال: " (قال أبو حنيفة رحمه الله يتوضأ به)، ش: أي: نبيذ التمر م: (ولا يتيمم) ش: لتعيين نبيذ التمر. وقال أبو بكر الرازي في كتابه "أحكام القرآن"، عن أبي حنيفة رحمه الله: فيه ثلاث روايات، وهذه هي المشهورة. قال قاضي خان: وهي قوله الأول، وهو قول زفر رضي الله عنه. ويُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 361).
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)} [ق: 9]
ولهَذَا، ورَد في أحاديث عِدَّة فضل بذل الماء، وإعطائه للمحتاجِ إليه، وتقديمه له، وقصَّة المرأة التي سقت كلبًا، فكان ذلك سببًا في أنْ غَفَر الله سبحانه وتعالى لها قصة البغي، ودخلت الجنة
(1)
.
وإذَا كان في بذل الماء ثواب عظيم، وفضلٌ جزيل، فإنَّ في منعه عن المحتاج إليه ومَنْ في مسيس الحاجة إليه عقابًا شديدًا ولعنًا كبيرًا، ولذلك ورد في الحديث الصحيح الذي أخْرَجه البخاري وغيره من حديث أبي هُرَيرة أنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام قال:"ثلاثةٌ لا يَنْظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يُزكَّيهم، ولهم عذابٌ أليم"، ثم قال:"رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبيلِ"
(2)
، زاد عنده الماء، ولم يكن في حَاجةٍ مَاسَّة إليه، ولا بضرورةٍ؛ لأنَّه لو كان كذلك لقدَّم نفسه على غيره؛ لأنه أَوْلَى عملًا بالقاعدة المعروفة، وهذا مما استثني منه "الضَّرُورَات تبيح المحظورات"
(3)
، فإذا كان الإنسان محتاجًا، فهو أَوْلَى من غيره، وليس لغيره أن يُكْرهه على أن يأخذه، لكن هذا رجلٌ عنده فضلُ ماءٍ زائد عن حاجته، ومع ذلك منعه ابنَ السَّبيل، فَكان جزاؤه أن عد من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم، وبهذا نتبين أهمية الماء وفضله وشدة الحاجة إليه.
(1)
أخرجه البخاري (3467) ومسلم (2245) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما كلب يطيف بركيَّة قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَها، فاستقت له به، فسقته إياه، فغفر لها به".
(2)
أخرجه البخاري (2358)، ومسلم (108)، بلفظ:"رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل".
(3)
يُنظر: "المنثور في القواعد الفقهية" لابن بهادر الزركشي (2/ 317) حيث قال: "الضرورات تبيح المحظورات، ومن ثَمَّ أُبيحَت الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر لمَنْ غص، ولم يجد غيرها، وأبيحت كلمة الكفر للمكره، وكذلك إتلاف المال، وكذلك أخذ مال الممتنع من الدين بغير إذنه إذا كان من جنسه، ولو كان بكسر بابه".
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الرَّابعُ في نَوَاقِض الوُضُوءِ)
" النواقض": جمع ناقضٍ؛ لأن "ناقض" اسم فاعل لغير العاقل، وجمع اسم الفاعل لغير العاقلَ على "فَوَاعل".
و"الوُضُوء" بالضم: الطهارة التي يرتفع بها الحدث، وبالفتح: الماء الذي يُتَوضأ به، كما يقال: طَهور بالفتح: لما يُتَطهر به، وبالضم لنفس الفعل، وسَحور بالفتح: لما يُتَسحر به، وبالضم لنفس الفعل الذي هو الأكل.
ونواقض الوضوء: مفسداته، أي: التي إذا طرأت عليه أفسدته.
والنواقض نوعان:
الأول: مجمع عليه، وهو المستند إلى كتاب الله، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: فيه خلافٌ، وهو المبني على اجتهادات أهل العلم رحمهم الله.
وعند النزاع يجب الرد إلى كتاب الله، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وَالأَصْلُ فِي هَذَا البَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225).
ومن هنا أجمعت الأُمَّة على أنه لا تجزئ صلاةٌ إلا بطهارة على ما جاء في الحديث.
قوله: (وَاتَّفَقُوا فِي هَذَا البَابِ عَلَى انْتِقَاضِ الوُضُوءِ مِنَ البَوْلِ وَالغَائِطِ وَالرِّيحِ وَالمَذْي وَالوَدْيِ؛ لِصِحَّةِ الآثَارِ فِي ذَلِكَ إِذَا كانَ خُرُوجُهَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ)
(1)
.
وَدَليلُ هَذَا الإجماع الحديث الذي ذَكَره المؤلف.
قوله: (وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا البَابِ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ تَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى القَوَاعِدِ لِهَذَا البَابِ، المَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الأَمْصَارِ فِي انْتِقَاضِ الوُضُوءِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الجَسَدِ مِنَ النَّجَسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ، فَاعْتَبَرَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ الخَارِجَ وَحْدَهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ خَرَجَ، وَعَلَى أَيِّ جِهَةٍ خَرَجَ، وَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ
(3)
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 33)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن خروج الغائط من الدبر، وخروج البول من الذَّكَر، وكذلك المرأة، وخروج المني، وخروج الريح من الدبر، وزوال العقل بأي وجه زال العقل: أحداث ينقض كل واحد منها الطهارة، ويوجب الوضوء".
وقال ابن حزم في "مراتب الإجماع"(1/ 71): "واتفق علماء الأمة على أن خروج المني، والودي، والمذي، وتواري الحشفة في الفرج، وذهاب العقل بكل حال، ناقض للطهارة إلا مَنْ ذَهَب عقله، فإن نام غير مضطجعٍ، فإنهم مختلفون في انتقاض طهارته".
(2)
يُنظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(1/ 134)؛ حيث قال: " (وينقضه) خروج منه كل خارج (نجس) بالفتح ويكسر، (منه) أي: من المتوضئ الحي؛ معتادًا أو لا، من السبيلين أو لا (إلى ما يطهر) بالبناء للمفعول، أي: يلحقه حكم التطهير".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 134)؛ حيث قال: " (خروج النجاسات من بقية البدن، فإن كانت) النجاسات (غائظا أو بولاً، نقض ولو قليلاً، من تحت المعدة أو فوقها، سواء كان السبيلان مفتوحين أو مسدودين)؛ لمَا تقدَّم من عموم قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن من غائط أو بول"، ولأن ذلك خارج معتاد أشبه الخارج من المخرج (لكن لو انسد المخرج وفتح =
وَجَمَاعَة، وَلَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ السَّلَفِ، فَقَالُوا: كُلُّ نَجَاسَةٍ تَسِيلُ مِنَ الجَسَدِ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ، يَجِبُ مِنْهَا الوُضُوءُ كالدَّمِ وَالرُّعَافِ الكَثِيرِ، وَالفَصْدِ وَالحِجَامَةِ وَالقَيْء إِلَّا البَلْغَمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
(1)
.
قوله: "الخَارج وَحْدَهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعِ خَرَجَ، وَعَلَى أَيِّ جِهَةٍ خَرَجَ": عام يشمل المعتاد وغير المعتاد؛ ويشمَل الطاهر والنجس، فالمعتاد كالبول، والغائط، والريح من الدبر، قال الله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6].
وفي حديث صفوان بن عسال: "لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ، وَبَوْلٍ، وَنَوْمِ"
(2)
، وغير المعتاد: كالريح من القُبُل.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
(3)
مِنْ أَصحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ إِذَا مَلَأَ
= غيره، فأحكام المخرج باقية) مطلقًا. (وفي النهاية إلا أن يكون سد خلقة، فسبيل الحدث المنفتح والمسدود كعضو زائد من الخنثى. انتهى. ولا يثبت للمنفتح أحكام المعتاد، فلا ينقض خروج ريح منه، ولا يجزي الاستجمار فيه، وغير ذلك)؛ كوجوب الغسل بالإيلاج فيه، وخروج المني منه؛ لأنه ليس بفرج (وإن كانت) النجاسات الخارجة من غير السَّبيلَين (غير الغائط والبول، كالقيءً والدم والقيح) ودود الجراح (لم ينقض إلا كثيرها)، أما كون الكثير ينقض، فلقوله عليه السلام في حديث فاطمة:"إنه دم عرق، فتوضئي لكل صلاة" رواه الترمذي، ولأنها نجاسة خارجة من البدن أشبهت الخارج من السبيل، وأما كون القليل من ذلك لا ينقض، فلمفهوم قول ابن عباس في الدم إذا كان فاحشًا، فعليه الإعادة. قال أحمد: عدة من الصحابة تكلموا فيه، وابن عمر عصر بثرة، فخرج الدم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملًا، وذكر غيرهما، ولم يُعْرف لهم مخالفٌ من الصحابة، فكان إجماعًا. (وهو)، أي: الكثير (ما فحش في نفس كل أحدٍ بحسبه)، نص عليه".
(1)
يُنظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(1/ 138)؛ حيث قال: " (لا) ينقضه قيء من (بلغم) على المعتمد (أصلًا) إلا المخلوط بطعام، فيعتبر الغالب، ولو استويا، فكلٌّ على حدة".
(2)
أخرجه ابن ماجه (478).
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 138)؛ حيث قال: "خلافًا لأبي يوسف في الصاعد من الجوف".
الفَمَ فَفِيهِ الوُضُوءُ. وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ اليَسِيرَ مِنَ الدَّمِ إِلَّا مُجَاهِدٌ
(1)
، وَاعْتَبَرَ قَوْمٌ آخَرُونَ المَخْرَجَيْنِ؛ الذَّكَرَ وَالدُّبُرَ، فَقَالُوا: كُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ، فَهُوَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَرَجَ مِنْ دَمٍ أَوْ حَصًى أَوْ بَلْغَمٍ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ خَرَجَ، كَانَ خُرُوجُهُ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ المَرَضِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ: الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ
(2)
، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الحَكَمِ
(3)
مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَاعْتَبَرَ قَوْمٌ آخَرُونَ الخَارجَ وَالمَخْرَجَ وَصِفَةَ الخُرُوجِ، فَقَالُوا: كلُّ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ خُرُوجُهُ، وَهُوَ البَوْلُ، وَالغَائِطُ، وَالمَذْيُ، وَالوَدْيُ، وَالرِّيحُ، إِذَا كَانَ خُرُوجُهُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، فَهُوَ يَنْقُضُ الوُضُوءَ، فَلَمْ يَرَوْا فِي الدَّمِ وَالحَصَاةِ وَالبَوْلِ وُضُوءًا، وَلَا فِي السَّلَسِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ مَالِكٌ وَجُلُّ أَصْحَابِهِ
(4)
.
(1)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(548)، عن ابن أبي نجيح قال: سألت عطاءً ومجاهدًا عن الجرح يكون في يد الإنسان، فيكون فيه دم يظهر ولا يسيل، قال مجاهد:"يتوضأ"، وقال عطاء:"حتى يسيل".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 140)؛ حيث قال: " (خروج شيءٍ) عينًا كان أو ريحًا، طاهرًا أو نجسًا، جافًّا أو رطبًا، معتادًا كبول أو نادرًا كدم انفصل أو لا، قليلًا أو كثيرًا، طوعًا أو كرهًا (من قُبُله) أي: المتوضئ الحي الواضح، ولو بخروج الولد أو أحد ذَكَرين يبول بهما، أو أحد فرجين يبول بأحدهما، ولحيض بالآخر، فإن بال بأحدهما أو حاض به فقط، اختص الحكم به، أمَّا المشكل فإن خرج الخارج من فرجيه جميعًا، فهو محدث، وإن خرج من أحدهما، فالحكم كما لو خرج من ثقبة تحت المعدة مع انفتاح الأصلي، وسيأتي أنه لا نقض بها (أو) خروج شيءٍ من (دبره) أي: المتوضئ الحي".
(3)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر الصقلي (1/ 141)؛ حيث قال: "وقال
محمد بن عبد الحكم: مَنْ خرج من دبره دود نقي، أو دم صاف، فعليه الوضوء".
(4)
يُنظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(1/ 150)؛ حيث قال: " (نقض الوضوء يحدث، وهو الخارج المعتاد) من المخرج المعتاد كما سيقول من مخرجيه، إذْ هو من تتمة التعريف، وأخره ليوصل صفة الخارج به، وهي (في الصحة)، وشمل كلامه =
وقال بَعْض أهل العلم: إن كان المخرج من فوق المعدة، فهو كالقيء، وإن كان من تحتها فهو كالغائط.
وهذا قولٌ جيدٌ بدليل أنه إذا تقيأ من المعدة، فإنه لا ينتقض وضوؤه على القول الراجح، أو ينتقض إن كان كثيرًا على المشهور من المذهب.
ويُسْتثنى ممَّا سبق مَنْ حدثُهُ دائمٌ، فإنه لا ينتقض وضوؤه بخروجه؛ كمَنْ به سلس بول، أو ريح، أو غائط، وله حال خاصة في التطهر.
والظَّاهر أن الريحَ لا تنقض إذا خَرَجت من هذا المكان الذي فتح عوضًا عن المخرج، ولو كانت ذات رائحةٍ كريهةٍ.
وقال بعض العلماء: إنها تنقض الوضوء؛ لأن المخرج إذا انسدَّ وانفتح غيره، كان له حكم الفرج في الخارج، لا في المس، لأن مسَّه لا ينقض الوضوء كما سيأتي إن شاء الله.
= مني الرجل الخارج من فرج المرأة إذا دخل بوطئه وكانت اغتسلت بعده أو توضأت، ونوت رفع الأصفر، ثم أرادت رفع الأكبر فقط، فينتقض الأصغر بالمني الذي خرج؛ لأن خروجَه في هذه الحالة معتاد غالبًا حيث لم تحمل لجري العادة بأن ما تحمل منه لا يخرج منه شيءٌ، وما لا تحمل منه يخرج غالبه مع الذكر أو بعده، فصار خروجُهُ معتادًا غالبًا بهذا المعنى، فإن دخل فرجها بغير وطءٍ لم ينقض خروجه كما يفيده ابن عرفة، لا يقال: مغيب الحشفة بشرطها من الحدث مع أنه لا يصدق عليه تعريف المصنف؛ لأنا نقول: لا نسلم أنه من الحدث وإن كان من الناقض في بعض أحواله، وإن سلم فالتعريف للحديث الموجب للطهارة الصغرى لا للمطلق الحدث، وعطف على المعتاد ما هو محترزه لا على حدث؛ لأنه ليس محترزه. قوله:(لا) خارج (حصاد ودود ولو) خرجا (ببلة) من مخرجيه خالصة من أذى ولو كانت أكثر منهما كما هو ظاهر، أو معهما أذى لتبعيته لما لا نقض به، وهما الحصا والدود ومثلهما دم وقيح إن خرجا خالصين من أذى وإلا نقضا، والفرق: أن حصول البلة مع الحصا والدود يغلب أي: شأنه ذلك بخلاف حصولها مع دم وقيح، ويُعْفى عن غسل ما خرج مع حصل ودود حيث كان مستنكحًا، وإلا وَجَب، وقطع الصلاة له إن خرج فيها، وهذا حيث كثر الخارج معهما، فإن قل عفي عنه، والحصا والدود طاهرا العين على المنقول، وبه صرح الباجي، وقال: لا يستنجي منه كالريح، نقله عنه تت في قوله: وتعين في مني، وإن خرج عليهما بلة فمتنجسان لا نجسان".
قَولُهُ: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى انْتِقَاضِ الوُضُوءِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَرِيحٍ وَمَذْيٍ لِظَاهِرِ الكِتَابِ، وَيتَظَاهُرِ الآثَارِ بِذَلِكَ. تَطَرَّقَ إِلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الحُكْمُ إِنَّمَا عُلِّقَ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فَقَطْ، المُتَّفَقِ عَلَيْهَا عَلَى مَا رَآهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى).
أي: يمكن أن تكون علَّة الحكم هذه الأشياء بعينها، ولا يدخل معها غيرها.
قَوْلُهُ: (الاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الحُكْمُ إِنَّمَا عُلِّقَ بِهَذِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا أَنْجَاسٌ خَارِجَةٌ مِنَ البَدَن؛ لِكَوْنِ الوُضُوءِ طَهَارَةً، وَالطَّهَارَةُ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهَا النَّجَسُ).
أَيْ: أَنْ تكون علة الحكم خروج الأنجاس عمومًا؛ لأن الطهارة ضدها النجس.
قوله: (وَالاحْتِمَالُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الحُكْمُ أَيْضًا إِنَّمَا عُلِّقَ بِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ الأَخِيرَيْنِ وُرُودُ الأَمْرِ بِالوُضُوءِ مِنْ تِلْكَ الأَحْدَاثِ المُجْمَعِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ. العَامُّ، وَيَكُونُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الخَاصِّ المَحْمُولِ عَلَى خُصُوصِهِ).
أَيْ: أنْ تكونَ علَّة الحكم خروج شيءٍ من السبيلين.
قوله: (فَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِهَا هُوَ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، وَاخْتَلَفَا: أَيُّ عَامٍّ هُوَ الَّذِي قُصِدَ بِهِ؟ فَمَالِكٌ يُرَجِّحُ مَذْهَبَهُ بِأَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَنْ يُحْمَلَ الخَاصُّ عَلَى خُصوصِهِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَالشَّافِعِيُّ مُحْتَجٌّ بِأَنَّ المُرَادَ بِهِ المَخْرَجُ لَا الخَارِجُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى إِيجَابِ الوُضُوءِ مِنَ الرِّيحِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَسْفَلَ، وَعَدَمِ إِيجَابِ
الوُضُوءِ مِنْهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ فَوْقٍ، وَكلَاهُمَا ذَاتٌ وَاحِدَةٌ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ المَخْرَجَيْنِ، فَكَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الحُكْمَ لِلْمَخْرَجِ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الرِّيحَيْنِ مُخْتَلِفَان فِي الصِّفَةِ وَالرَّائِحَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ المَقْصُودَ بِذَلِكَ هُوَ الخَارِجُ النَّجِسُ؛ لِكَوْن النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرَةً فِي الطَّهَارَةِ، وَهَذِهِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً؛ فَإِنَّ فِيهَا شَبَهًا مِنَ الطَّهَارَةِ المَعْنَوِيَّةِ (أَعْنِي: طَهَارَةَ النَّجَسِ)، وَبِحَدِيثِ ثَوْبَانَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَتَوَضَّأَ"
(1)
).
وَهَذا حديثٌ لا يثبت عند أهل العلم بالحديث، وليسَ في معناه ما يوجب حكمًا؛ لأنه يحتمل أَنْ يكون وضوؤه هاهنا غسل فمه ومضمضته، وهو أصل لفظ الوضوء في اللغة، وهو مأخوذٌ من الوضاءة.
والنَّظَر يوجب أن الوضوءَ المجمع عليه لا يُنْتقض إلا بسُنَّة ثابتة لا مدفع فيها، أو إجماع ممن تجب الحجة بهم.
(وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
(2)
مِنْ إِيجَابِهِمَا الوُضُوءَ مِنَ الرُّعَافِ
(3)
، وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم المُسْتَحَاضَةَ بِالوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ
(4)
، فَكَانَ المَفْهُومُ مِنْ هَذَا كلّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الخَارِجَ النَّجِسَ).
(1)
أخرج الترمذي (87)، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء: أن رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قاء، فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرتُ ذلك له، فقال: صدق، أنا صببتُ له وضوءَه.
(2)
أخرج مالك في "الموطإ" برواية أبي مصعب الزهري (1/ 42)، عن نافعٍ، أنَّ عبد اللَّه بن عمر كان إذا رعف، انصرف فتوضأ، ثم رَجَع فبنى ولم يتكلم.
(3)
"الرُّعافُ": الدمُ يخرج من الأنف، وقد رَعِفَ الرجلُ يَرْعَفُ وَيرْعُفُ، ورَعُفَ بالضم لغةٌ فيه ضعيفة. انظر:"الصحاح" للجوهري (4/ 1365).
(4)
أخرجه البخاري (228)، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فَدَعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدمَ، ثم صلي"، قال: وقال أبي: "ثمَّ تَوضَّئي لكل صلاةٍ حتى يجيء ذلك الوقت".
فأوجب عليه الصلاة والسلام الوضوءَ على المُسْتحاضة من دم العرق، والسائل، فكذلك كل دمٍ يسيل من الجسد، وكذلك كل نجسٍ.
قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إِيجَابِ الوُضُوءِ مِنَ الأَحْدَاثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى جِهَةِ المَرَضِ لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِالوُضُوءِ عِنْدَ كلِّ صَلَاةٍ المُسْتَحَاضَةَ، وَالاسْتِحَاضَةُ مَرَضٌ. وَأَمَّا مَالِكٌ، فَرَأَى أَنَّ المَرَضَ لَهُ هَاهُنَا تَأْثِيرٌ فِي الرُّخْصَةِ قِيَاسًا أَيْضًا مِنْ أَنَّ المُسْتَحَاضَةَ لَمْ تُؤْمَرْ إِلَّا بِالغُسْلِ فَقَطْ، وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيتَ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَبَخْتَلِفُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِيهِ (أَعْنِي: الأَمْرَ بِالوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ)، وَلَكِنْ صَحَّحَهَا أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ يَغْلِبُهُ الدَّمُ مِنْ جُرْحٍ وَلَا يَنْقَطِعُ، مِثْلَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا)
(1)
.
"يثعب دمًا"؛ أي: يجري ويتفجر.
قَوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي النَّوْمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ؛ فَقَوْمٌ رَأَوْا أَنَّهُ حَدَث، فَأَوْجَبُوا مِنْ قَلِيلِهِ وَكثِيرِهِ الوُضُوءَ).
اخْتلَف العُلَماءُ رحمهم الله في النوم، هل هو ناقضٌ، أو مظنَّة النقض؟
القَوْل الأوَّل: أنَّ النومَ ناقضٌ مطلقًا؛ يسير وكثيرُهُ، وعلى أي صفةٍ كان؛ لعُمُوم حديث صفوان، وقد سبق، ولأنه حدثٌ، والحدث لا يفرق بين كثيره ويسيره كالبول.
(1)
أخرج مالك في "الموطإ"(1/ 39): أن المسور بن مخرمة دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عُمَرُ:"نعم، ولا حظَّ في الإسلام لمَنْ ترك الصلاة"، فصلى عمرُ، وجرحه يثعب دمًا.
قوله: (وَقَوْمٌ رَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ، فَلَمْ يُوجِبُوا مِنْهُ الوُضُوءَ إِلَّا إِذَا تُيُقِّنَ بِالحَدَثِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ الشَّكَّ، وَإِذَا شَكَّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَعْتَبِرُ الشَّكَّ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ السَّلَفِ كَانَ يُوكِلُ بِنَفْسِهِ إِذَا نَامَ مَنْ يَتَفَقَّدُ حَالَهُ، (أَعْنِي: هَلْ يَكُونُ مِنْهُ حَدَثٌ أَمْ لَا؟ ".
القَوْلُ الثَّانِي: "أنَّ النومَ ليس بِنَاقضٍ مطلقًا؛ لحديث أنسٍ رضي الله عنه أن الصَّحابةَ رضي الله عنهم كانوا يَنْتظرون العشاء علىَ عهد رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يَتوضَّؤون".
قوله: (وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّوْمِ القَلِيلِ الخَفِيفِ، وَالكَثِيرِ المُسْتَثْقِلِ، فَأَوْجَبُوا فِي الكَثِيرِ المُسْتَثْقِلِ الوُضُوءَ دُونَ القَلِيلِ، وَعَلَى هَذَا فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ وَالجُمْهُورُ).
القول الثالث: أن النَّوم ليس بحدثٍ، ولكنه مظنَّة الحدث، ولا يُعْفى عن شيءٍ منه إلا ما كان بعيدًا فيه الحدث، وهو يسير النوم من القاعد أو القائم.
قوله: (وَلَمَّا كَانَتْ بَعْضُ الهَيْئَاتِ يَعْرِضُ فِيهَا الاسْتِثْقَال مِنَ النَّوْمِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الحَدَثِ، اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَعَلَيْهِ الوُضُوءُ، طَوِيلًا كَانَ النَّوْمُ أَوْ قَصِيرًا. وَمَنْ نَامَ جَالِسًا، فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَطُولَ ذَلِكَ بِهِ. وَاخْتَلَفَ القَوْلُ فِي مَذْهَبِهِ فِي القَائِمِ، فَمَرَّةً قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الرَّاكعِ، وَمَرَّةً قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ السَّاجِدِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ
(2)
: عَلَى كُلِّ نَائِمٍ
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 294)؛ حيث قال: "ومن نام جالسًا أو راكبًا الخطوة ونحوها، فلا وضوء عليه، وإن استثقل نومه وطال ذلك، فعليه الوضوء".
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 26)؛ حيث قال: "قال الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، (قال الشافعي): فكان ظاهر إلآية أن مَنْ قام إلى الصلاة، فعليه أن يتوضأ، وكانت محتملة أن تكون نزلت في خاص، =
كَيْفَمَا نَامَ الوُضُوءُ إِلَّا مَنْ نَامَ جَالِسًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(1)
:
= فسمعت مَنْ أرضى علمَه بالقرآن يزعم أنها نزلت في القائمين من النوم (قال): وأحسب ما قال كما قال؛ لأن في السنة دليلًا على أن يتوضأ مَنْ قام من نومه أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده"، أَخْبَرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإنه لا يدري أين باتت يده"، أخبرنا سفيان قال: أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده"، (قال الشافعي رحمه الله تعالى): فمن نام مضطجعًا، وجب عليه الوضوء؛ لأنه قائمٌ من مضطجع، والنوم غلبة على العقل، فمَنْ غلب على عقله بجنون أو مرض؛ مضطجعًا كان أو غير مضطجع، وجب عليه الوضوء؛ لأنه في أكثر من حال النائم، والنائم يتحرك الشيء فينتبه، وينتبه من غير تحرك الشيء، والمغلوب على عقله بجنون أو غيره يحرك فلا يتحرك، وإذا نام الرجل قاعدًا، فأحب إليَّ له أن يتوضأ (قال): ولا يبين لي أن أوجب عليه الوضوء".
(1)
"المبسوط" للسرخسي (1/ 78)؛ حيث قال: "ولا ينقض النوم الوضوء ما دام قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو قاعدًا، وينقضه مضطجعًا، أو متكئًا، أو على إحدى أليتيه)، أما نوم المضطجع ناقض للوضوء، وفيه وجهان؛ أحدهما: أن عينه حدث بالسنة المروية فيه؛ لأن كونه طاهرًا ثابت بيقين، ولا يُزَال اليقين إلا بيقين مثله، وخروج شيءٍ منه ليس بيقينٍ، فعرفنا أن عينه حدث. والثاني، وهو أن الحدث ما لا يخلو عنه النائم عادة، فيجعل كالموجود حكمًا، فإن نوم المضطجع يستحكم فتسترخي مفاصله، واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "العينان وكاء السه، فإذا نامت العينان، استطلق الوكاء".
وهو ثابت عادة كالمتيقن به، وكان أبو موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - يقول: لا ينتقض الوضوء بالنوم مضطجعًا حتى يعلم بخروج شيءٍ منه، وكان إذا نام أجلس عنده مَنْ يحفظه، فإذا انتبه سأله، فإن أخبر بظهور شيء منه، أعاد الوضوء، والمتكئ كالمضطجع؛ لأن مقعده زائل عن الأرض، فأما القاعد إذا نام لم ينتقض وضوؤه. وقال مالك رحمه الله: إن طال النوم قاعدًا، انتقض وضوؤه، وحجتنا حديث حذيفة - رضي الله تعالى عنه - قال:"نمت قاعدًا في المسجد حتى وقع ذقني على صدري، فوجدت برد كفٍّ على ظهري، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أعليَّ في هذا وضوء؟ فقال: "لا، حتى تضطجع"، ولأن مقعده مستقرٌّ على الأرض، فيأمن =
لَا وُضُوءَ إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا. وَأَصْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ الآثَارِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ هَاهُنَا أَحَادِيثَ يُوجِبُ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ وُضُوءٌ أَصْلًا؛ كحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى مَيْمُونَةَ، فَنَامَ عِنْدَهَا حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
(1)
، وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"إِذَا نَعَسَ أَحَدُكمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ، فَيَسُبَّ نَفْسَهُ"
(2)
، وَمَا رُوِيَ أَيْضًا "أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كانُوا يَنَامُونَ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ، وَلَا يَتَوَضَّؤونَ"
(3)
، وَكُلُّهَا
= خروج شيءٍ منه، فلا ينتقض وضوؤه كما لو لم يطل نومه، فأما إذا نام قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، لم ينتقض وضوؤه عندنا، وعند الشافعي رضي الله عنه ينتقض وضوؤه؛ لحديث صفوان بن عسال المرادي قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة، لكن من بول، أو غائط، أو نوم"، فهذا دليل على أن النوم حدث إلا أنا خصصنا نوم القاعد من هذا العموم بدليل الإجماع، فبقي ما سواه على أصل القياس، ولأن مقعده زائلٌ عن الأرض في حال نومه، فهو كالمضطجع.
(ولنا) حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء على مَنْ نام قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، إنما الوضوء على مَنْ نام مضطجعًا، فإنه إذا نام مضطجعًا، استرخت مفاصله"، وهو المعنى، فإن الاستمساك باقٍ مع النوم في هذه الأحوال بدليل أنه لم يسقط، وبقاء الاستمساك يؤمنه من خروج شيء منه، فهو كالقاعد بخلاف المضطجع".
(1)
أخرجه البخاري (117)، ومسلم (2410)، عن ابن عباس، قال: بتُّ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله، فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال:"نام الغليم"، أو كلمة تشبهها، ثم قام، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام، حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة.
(2)
أخرجه البخاري (212)، ومسلم (786).
(3)
أخرجه أبو داود (200).
آثَارٌ ثَابِتَةٌ، وَهَاهُنَا أَيْضًا أَحَادِيثُ يُوجِبُ ظَاهِرُهَا أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ، وَأَبْيَنُهَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ:"كنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَنَا أَلَّا نَنْزِعَ خِفَافَنَا مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ، وَلَا نَنْزِعَهَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ"، فَسَوَّى بَيْنَ البَوْلِ وَالغَائِطِ وَالنَّوْمِ، صَحَّحَةُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
، وَفِيهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَقَدِّمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ"
(2)
، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ النَّوْمَ يُوجِبُ الوُضُوءَ؛ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرُ آيةِ الوُضُوءِ عِنْدَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ المَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، أَيْ: إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ
(3)
، فَلَمَّا تَعَارَضَتْ ظَوَاهِرُ هَذِهِ الآثَارِ، ذَهَبَ العُلَمَاءُ فِيهَا مَذْهَبَيْنِ: مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، وَمَذْهَبَ الجَمْعِ؛ فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ؛ إِمَّا أَسْقَطَ وُجُوبَ الوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ أَصْلًا عَلَى ظَاهِرِ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُسْقِطُهُ، وَإِمَّا أَوْجَبَهُ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عَلَى ظَاهِرِ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُسْقِطُهُ أَيْضًا (أَعْنِي: عَلَى حَسَبِ مَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنَ الأَحَادِيثِ المُوجِبَةِ، أَوْ مِنَ الأَحَادِيثِ المُسْقِطَةِ)، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ، حَمَلَ الأَحَادِيثَ المُوجِبَةَ لِلْوُضُوءِ مِنْهُ عَلَى الكَثِيرِ، وَالمُسْقِطَةَ لِلْوُضُوءِ عَلَى القَلِيلِ، وَهُوَ - كمَا قُلْنَا - مَذْهَبُ الجُمْهُورِ، وَالجَمْعُ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ مَا أَمْكَنَ الجَمْعُ عِنْدَ أَكْثَرِ الأُصُولِيِّينَ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى أَنَّ المُسْتَثْنَى مِنْ هَيْئَاتِ النَّائِمِ الجُلُوسُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ
(1)
أخرجه الترمذي (96)، وفال:"هذا حديث حسن صحيح".
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(10/ 12)، عَنْ زيد بن أسلم قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ، قال:"يعني: إذا قمتم من النوم".
(أَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَنَامُونَ جُلُوسًا، وَلَا يَتَوَضَّؤُونَ وَيُصَلُّونَ)، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النَّوْمِ فِي الاضْطِجَاعِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَهُوَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"إِنَّمَا الوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا"
(1)
، وَالرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ بِذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمَّا كانَ النَّوْمُ عِنْدَهُ إِنَّمَا يَنْقُضُ الوُضُوءَ مِنْ حَيْثُ كَانَ غَالِبًا سَبَبًا لِلْحَدَثِ، رَاعَى فِيهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: الاسْتِثْقَالَ أَوِ الطُّولَ أَوِ الهَيْئَةَ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا خُرُوجُ الحَدَثِ غَالِبًا لَا الطُّولَ، وَلَا الاسْتِثْقَالَ، وَاشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الهَيْئَاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ خُرُوجُ الحَدَثِ مِنْهَا غَالِبًا).
والقول الرابع من الأقوال في حكم النوم: أن النوم مظنة الحدث، فإذا نام بحيث لو انتقض وضوؤه، أحس بنفسه، فإن وضوءه باقٍ، وإذا نام بحيث لو أحدث لم يحس بنفسه، فقد انتقض وضوؤه.
وَبِهَذَا القَول تَجْتمع الأدلَّة، فإنَّ حديثَ صفوان بن عسال دلَّ على أنَّ النومَ ناقضٌ، وحديث أنسٍ رضي الله عنه دلَّ على أنه غير ناقضٍ، فيُحْمَل ما ورَد عن الصَّحابة على ما إذا كان الإنسان لو أحدث لأحس بنفسه، ويحمل حديث صفوان على ما إذا كان لو أحدث لم يحس بنفسه.
ويُؤيِّد هذا الجمع الحديث المروي: "العين وكاء السه، فإذا نامت العينان، استطلق الوكاء"، فإذا كان الإنسان لم يحكم وكاءه بحيث لو أحدث لم يحس بنفسه، فإن نومه ناقض، وإلا فلا.
(1)
أخرجه أبو داود (202)، عن ابن عباس أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام وينفخ، ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ، قال: فقلت له: صليت ولم تتوضأ، وقد نمت، فقال:"إنما الوضوء على. مَنْ نام مضطجعًا"، زاد عثمان وهناد: فإنه إذا اضطجع، استرخت مفاصله، قال أبو داود: قوله: "الوضوء على مَنْ نام مضطجعًا"، هو حديث منكر لم يروه إلا يزيد أبو خالد الدالاني، عن قتادة، وروى أوله جماعة، عن ابن عباس، ولم يذكروا شيئًا من هذا، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم محفوظاً.
فعلى هذا يكون النومُ الكثيرُ ناقضًا مطلقًا، والنومُ اليسيرُ ناقضًا أيضًا إلا من قائمٍ أو قاعدٍ، واليسيرُ يُرْجع فيه إلى العرف.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الجَابِ الوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ بِاليَدِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَعْضَاءِ الحَسَّاسَةِ).
وَقَوْله: "النِّسَاءِ"؛ يَعْني: المرأة البالغة، ولكن البُلُوغ هنا ليس بشَرْطٍ، لكن قيَّده بعض العُلَماء ببلوغ سبع سنين، سواء من اللامس أم الملموس، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الغالب فيمَنْ كان له سبع سنوات أنه لا يدري عن هذه الأمور شيئًا؛ ولهذا قيَّده بعض العلماء بمَنْ يطأ مثله، ومن توطأ مثلها؛ أي: تشتهى، والذي يطأ مثله من الرجال هو مَنْ له عشر سنواتٍ، والتي توطأ مثلها من النساء هي مَنْ تمَّ لها تسع سنوات، فَعَلى هذا يكون الحكم معلقًا بمَنْ هو محل الشهوة، وهذا أصح؛ لأن الحكم إذا علق على وصفٍ، فلا بد أن يوجد محلّ قابل لهذا الوصف.
قوله: (فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمَسَ امْرَأَةً بِيَدِهِ مُفْضِيًا إِلَيْهَا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حِجَابٌ وَلَا سِتْرٌ، فَعَلَيْهِ الوُضُوءُ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَبَّلَهَا؛ لِأَنَّ القُبْلَةَ عِنْدَهُمْ لَمْسٌ مَا، سَوَاءٌ التَذَّ أَمْ لَمْ يَلْتَذَّ، وَبِهَذَا القَوْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ
(1)
، إِلَّا أَنَّهُ مَرَّةً فَرَّقَ بَيْنَ اللَّامِسِ وَالمَلْمُوسِ، فَأَوْجَبَ الوُضُوءَ
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 29)؛ حيث قال: " (فذكر الله عز وجل الوضوء على مَنْ قام إلى الصلاة، وأشبه أن يكون مَنْ قام من مضجع النوم، وذكر طهارة الجنب، ثم قال بعد ذكر طهارة الجنب: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، فأشبه أن يكون أوجب الوضوء من الغائط، وأوجبه من الملامسة، وإنما ذكرها موصولة بالغائط بعد ذكر الجنابة، فأشبهت الملامسة أن تكون اللمس باليد، والقبلة غير الجنابة، أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه قال: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فمَنْ قبَّل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء".
عَلَى اللَّامِسِ دُونَ المَلْمُوسِ، وَمَرَّةً سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَمَرَّةً فَرَّقَ أَيْضًا بَيْنَ ذَوَاتِ المَحَارِمِ، وَمَرَّةً سَوَّى بَيْنَهُمَا).
قالوا: إنه ينقض مطلقًا ولو بغير شهوةٍ، أو قصدٍ.
قوله: (وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى إِيجَابِ الوُضُوءِ مِنَ اللَّمْسِ إِذَا قَارَنَتْهُ اللَّذَّةُ، أَوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ، فِي تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَعَ بِحَائِلٍ أَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ بِأَيِّ عُضْوٍ اتَّفَقَ مَا عَدَا القُبْلَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَذَّةً فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ)
(1)
.
هؤلاء قالوا: إنَّ مسَّ المرأة بشهوةٍ ينقض الوضوء.
قَوْله: (وَنَفَى قَوْمٌ إِيجَابَ الوُضُوءِ لِمَنْ لَمَسَ النِّسَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
، وَلكُلِّ سَلَفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا اشْتِرَاطَ اللَّذَّةِ، فَإِنِّي لَا أَذْكُرُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ اشْتَرَطَهَا).
وهَؤُلَاء قالوا: إنه لا ينقض مس المرأة مطلقًا، ولو الفرج بالفرج، ولو بشهوةٍ.
قَوْله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ: اشْتِرَاكُ اسْمِ اللَّمْسِ فِي كَلَامِ العَرَبِ، فَإِنَّ العَرَبَ تُطْلِقُهُ مَرَّةً عَلَى اللَّمْسِ الَّذِي هُوَ بِاليَدِ، وَمَرَّةً تُكَنِّي بِهِ عَنِ الجِمَاع فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أنَّهُ اللَّمْسُ بِاليَدِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ
(1)
يُنظر: "عيون الأدلة" لابن القصار (1/ 505)؛ حيث قال: "إنْ قبَّلها أو مسها لشهوةٍ، انتقض وضوؤه، وإن كان لغير شهوةٍ لم ينتقض".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 30)، حيث قال:"ولو لمس امرأته بشهوةٍ، أو غير شهوةٍ؛ فرجها أو سائر أعضائها من غير حائلٍ، ولم ينشر لها، لا ينتقض وضوؤه".
العَامِّ أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ، فَاشْتَرَطَ فِيهِ اللَّذَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآه مِنْ بَابِ العَامِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، فَلَمْ يَشْتَرِطِ اللَّذَّةَ فِيهِ، وَمَنِ اشْتَرَطَ اللَّذَّةَ، فَإِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ مَا عَارَضَ عُمُومَ الآيَةِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَلْمِسُ عَائِشَةَ عِنْدَ سُجُودِهِ بِيَدِهِ، وَرُبَّمَا لَمَسَتْهُ
(1)
. وَخَرَّجَ أَهْلُ الحَدِيثِ حَدِيثَ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّهُ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَقُلْتُ: مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ؟ فَضَحِكَتْ"
(2)
. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا الحَدِيثُ وَهَّنَهُ الحِجَازِيُّونَ، وَصَحَّحَهُ الكُوفِيُّونَ، وَإِلَى تَصْحِيحِهِ مَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ، قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْبَدِ بْنِ نُبَاتَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ ثَبَتَ حَدِيتُ مَعْبَدِ بْنِ نباتَةَ فِي القُبْلَةِ، لَمْ أَرَ فِيهَا وَلَا فِي اللَّمْسِ وُضُوءًا).
الَّذين قالوا: إنَّه ينقض مطلقًا ولو بغير شهوةٍ، أو قصدٍ، استدلوا بقوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6]، وفي قراءة سبعية:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، والمسُّ واللَّمسُ مَعْناهما وَاحدٌ، وهو الجسُّ باليد أو بغيرها، فَيَكون مسُّ المَرأة ناقضًا للوضوء.
فإن قيل: الآية ليس فيها قيد الشهوة، إذ لم يقل الله:"أو لامستم النساء بشَهوةٍ"، فالجواب: أن مظنة الحدث هو لمسٌ بشهوةٍ، فَوَجب حَمْلُ الآيَة عليها، وُيؤيِّد ذلك أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي من الليل، وكانت عائشة رضي الله عنهما تمدّ رجليها بين يديه، فإذا أراد السجود غَمَزها، فكفت رجليها، ولو كان مجرد اللمس ناقضًا لانتقض وضوءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرج مالك في "الموطإ"(1/ 214): أن عائشة أم المؤمنين قالت: كنت نائمةً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففقدته من الليل، فلمسته بيدي، فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد، يقول:"أعُوذُ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".
(2)
أخرجه الترمذي (86).
وَلأنَّ إيجابَ الوضوءِ بمُجرَّد المس فيه مشقةٌ عظيمةٌ، إذْ قلَّ مَنْ يَسْلم منه، ولا سيَّما إذا كان الإنسان عنده أمّ كبيرةٌ، أو ابنةٌ عمياء، وأمسك بأيديهما للإعانة أو الدلالة، وما كان فيه حرج ومشقَّة فإنه منفيٌّ شرعًا.
قَوْله: (وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ الوُضُوءَ مِنَ اللَّمْسِ بِاليَدِ بِأَنَّ اللَّمْسَ يَنْطَلِقُ حَقِيقَةً عَلَى اللَّمْسِ بِاليَدِ، وَيَنْطَلِقُ مَجَازًا عَلَى الجِمَاعِ، وَأَنَّهُ إِذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِ، فَالأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الحَقِيقَةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى المَجَازِ، وَلِأُولَئِكَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ المَجَازَ إِذَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ كَانَ أَدَلَّ عَلَى المَجَازِ مِنْهُ عَلَى الحَقِيقَةِ؛ كَالحَالِ فِي اسْمِ الغَائِطِ الَّذِي هُوَ أَدَلُّ عَلَى الحَدَثِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَجَازٌ مِنْهُ عَلَى المُطْمَئِنَّ مِنَ الأَرْضِ الَّذِي هُوَ فِيهِ حَقِيقَةٌ. وَالَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّمْسَ وَإِنْ كَانَتْ دَلَالتُهُ عَلَى المَعْنَيَيْنِ بِالسَّوَاءِ أَوْ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ أَنَّهُ أَظَهَرُ عِنْدِي فِي الجِمَاعِ وَإِنْ كانَ مَجَازًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَدْ كَنَّى بِالمُبَاشَرَةِ وَالمَسِّ عَنِ الجِمَاعِ، وَهُمَا فِي مَعْنَى اللَّمْسِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الآيَةِ يُحْتَجُّ بِهَا فِي إِجَازَةِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ دُونَ تَقْدِيرِ تَقْدِيمٍ فِيهَا، وَلَا تَأْخِيرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ، وَتَرْتَفِعُ المُعَارَضَةُ الَّتِي بَيْنَ الآثَارِ وَالآيَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ الآخَرِ).
الذين قالوا: إنَّه ينقض مطلقًا ولو بغير شهوةٍ، أو قصدٍ، استدلوا بعموم الآية.
وأَجَابوا عن حديث عائشة بأنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمسها بظفره، والظفر في حكم المنفصل، أو بحائلٍ، والدليل إذا دَخَله الاحتمال، بَطَل الاستدلال به، وَفِي هذا الجواب نظر، وهذا ليس بِصَرِيحٍ.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَهِمَ مِنَ الآيَةِ اللَّمْسَيْنِ مَعًا، فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ العَرَبَ إِذَا خَاطَبَتْ بِالاسْمِ المُشْتَرَكِ إِنَّمَا تَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدًا مِنَ المَعَانِي الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الاسْمُ، لَا جَمِيعَ المَعَانِي الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ فِي كَلَامِهِمْ).
والقول الثالث والذي مؤداه: إنه لا ينقض مس المرأة مطلقًا، ولو الفرج بالفرج، ولو بشهوةٍ استدلوا:
1 -
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثمَّ خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، حَدَّثت به ابن أختها عروة بن الزبير، فقال: ما أظن المرأة إلا أنت، فضحكت
…
وهذا حديث صحيح، وله شواهد متعددة، وهذا دليل إيجابي، وكون التقبيل بغير شهوة بعيدًا جدًّا.
2 -
أن الأصل عدم النقض حتى يقوم دليل صحيح صريح على النقض.
3 -
أن الطهارة ثبتت بمُقْتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي، فإنه لا يمكن رَفْعه إلا بدليلٍ شرعيٍّ، ولا دليلَ على ذلك، وهذا دليل سلبيٌّ.
وَأَجَابوا عن الآية بأنَّ المرادَ بالملامسة الجماع لما يلي:
1 -
أنَّ ذلك صحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما الذي دعا له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّمه الله التأويل، وهو أَوْلَى مَنْ يُؤْخذ قوله في التفسير إلا أن يعارضه مَنْ هو أرجح منه.
2 -
أن في الآية دليلًا على ذلك؛ حيث قسمت الطهارة إلى أصلية وبدل، وصغرى وكبرى، وبينت أسباب كل من الصغرى والكبرى في حالتي الأصل والبدل، وبيان ذلك أن الله تعالى قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فهَذِهِ طهارةٌ بالماء أصلية صغرى.
ثمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، وهذه طهارةٌ بالماء أصلية كبرى.
ثمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، فقوله:"فتيمموا" هذا البدل، وقوله:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، هذا بيان سبب الصغرى. وقَوْله:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، هذَا بيان سبب الكُبْرى.
ولَوْ حَمَلناه على المسِّ الذي هو الجس باليد، لكانت الآية الكريمة ذَكَرت سببين للطهارة الصغرى، وسَكت الله عن سبب الطهارة الكبرى مع أنه قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، وهَذَا خلاف البلاغة القرآنية.
وعليه؛ فتكون الآيةُ دالةً على أن المراد بقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، أي:"جامعتم"؛ ليكونَ قد تمَّ ذِكْرُ السببين الموجبين للطهارة: السبب الأكبر، والسبب الأصغر، والطهارتين الصغرى في الأعضاء الأربعة، والكُبْرى في جميع البدن، والبدل الذي هو طهارة التيمم في عضوين فقط؛ لأنه يَتسَاوى فيها الطهارة الكبرى والصغرى.
فالراجح: أن مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا إلا إذا خرج منه شيءٌ، فَيَكون النقض بذلك الخارج.
قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَسُّ الذَّكَرِ).
المسُّ لا بد أن يكون بدون حائلٍ؛ لأنه مع الحائل لا يعدُّ مسًّا.
وقَوْله: "الذَّكَر"، أي: أن الذي ينقض الوضوء مسُّ الذكر نفسه، لا ما حوله.
وَقَد اشترط بعضهم أن يكون الذكر متصلًا؛ احترازًا من المنفصل، فلو قُطِعَ ذَكرُ إنسانٍ في جنايةٍ، أو علاجٍ، أو ما أشبه ذلك، وأخذه إنسان ليدفنه، فَإنَّ مسَّه لا ينقض الوضوء.
وأيضًا لا بد أن يكون أصليًّا؛ احترازًا من الخنثى؛ لأنَّ الخنثى ذَكرُهُ
غير أصليٍّ؛ لأنه إنْ تبيَّن أنه أنثى، فهو زَائدٌ، وإن أشكل فلا ينتقض الوضوء مع الإشكال.
ومثلُهُ مسُّ القُبُل للمرأة، ويُشْترط أن يكون أصليًّا ليخرج بذلك قُبُلُ الخنثى.
ولا بد أن يكون المسُّ بالكف، سواء كان بحرفه، أو بطنه، أو ظهره، وبعض أهل العلم يقول: إنَّ المس بظهر الكف لا ينقض الوضوء؛ لأن المس والإمساك عادة إنما يكون بباطن الكف.
قوله: (اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الوُضُوءَ فِيهِ كَيْفَمَا مَسَّهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابِهِ
(1)
، وَأَحْمَدَ
(2)
، وَدَاوُدَ
(3)
، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ فِيهِ وُضُوءًا أَصْلًا، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَلِكِلَا الفَرِيقَيْنِ سَلَفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ).
القول الأول: إنه ينقض الوضوء.
قَوْله: (وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَمَسَّهُ بِحَالٍ، أَوْ لَا يَمَسَّهُ بِتِلْكَ الحَالِ، وَهَؤُلَاءِ افْتَرَقُوا فِيهِ فِرَقًا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَذَّ أَوْ لَا يَلْتَذَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَمَسَّهُ بِبَاطِنِ الكَفِّ أَوْ لَا يَمَسَّهُ، فَأَوْجَبُوا
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 34)؛ حيث قال: "وإذا أفضى الرجل ببطن كفه إلى ذَكَره ليس بينها وبينه سترٌ، وجب عليه الوضوء، قال: وسواء كان عامدًا أو غير عامد؛ لأن كل ما أوجب الوضوء بالعمد، أوجبه بغير العمد، قال: وسواء قليل ما ماس ذَكَره وكثيره".
(2)
يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد"(5/ 259)؛ حيث فيه: "قال إسحاق بن منصور: سُئِلَ أحمدُ عن مسِّ الذكرِ؟ قال: يتوضأ منه. "مسائل الكوسج" (456).
(3)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 222)، حيث قال:"وممَّن قال بالوضوء من مَسِّ الفرج: سعد بن أبي وقاص، وابن عمر رضي الله عنهما، وعطاء، وعروة، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، وأبان بن عثمان، وابن جريج، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وداود، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم".
الوُضُوءَ مَعَ اللَّذَّةِ، وَلَمْ يُوجِبُوهُ مَعَ عَدَمِهَا، وَكَذَلِكَ أَوْجَبَهُ قَوْمٌ مَعَ المَسِّ بِبَاطِنِ الكَفِّ، وَلَمْ يُوجِبُوهُ مَعَ المَسِّ بِظَاهِرِهَا، وَهَذَانِ الاعْتِبَارَانِ مَرْوِيَّانِ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَكَأَنَّ اعْتِبَارَ بَاطِنِ الكَفِّ رَاجِعٌ إِلَى اعْتِبَارِ سَبَبِ اللَّذَّةِ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ العَمْدِ وَالنِّسْيَانِ، فَأَوْجَبُوا الوُضُوءَ مِنْهُ مَعَ العَمْدِ، وَلَمْ يُوجِبُوهُ مَعَ النِّسْيَانِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ
(1)
، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَأَصْحَابِهِ)
(2)
.
القول الثاني: إنَّه إنْ مسه بشهوةٍ، انتقض الوضوء، وإلا فلا.
قَوْله: (وَرَأَى قَوْمٌ أَنَّ الوُضُوءَ مِنْ مَسِّهِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ أَهْلِ المَغْرِبِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيهِ مُضْطَرِبَةٌ).
القَوْلُ الثالثُ: إنَّه إنْ مسَّه بشهوةٍ، انتقض الوضوء، وإلا فلا، وبِهَذَا يحصل الجمع بين حديث بسرة وحديث طلق بن عليٍّ، وإذا أمكن الجمع، وَجَب المصير إليه قبل التَّرجيح والنسخ؛ لأنَّ الجمع فيه إعمال الدليلين، وترجيحُ أحدهما إلغاءٌ للآخر.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: الحَدِيثُ الوَارِدُ مِنْ طَرِيقِ بُسْرَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ، فَلْيَتَوَضَّأْ"
(3)
، وَهُوَ أَشْهَرُ الأَحَادِيثِ
(1)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 74): "اختلف عن مالك في مسَّ الذَّكَر، والعمل على أنَّه إن مسَّه بشهوةٍ بباطن الكف، أو ظاهره من فوق ثوب أو تحته، أو بسائر أعضائه، انتقضت طهارته".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 250)؛ حيث قال: "ففرق في ذلك بين العمد والنسيان، وليس هذا حكم الأحداث، وهذا قول الليث بن سعد، وداود بن علي؛ لأن الحديث ورد فيمن مسَّ ذَكَره أو مس فرجه، ولا يكون ماشًا إلا من قصد إلى اللمس؛ لأن الفاعل حقيقة هو مَنْ قصد إلى الفعل أراده".
(3)
أخرجه أبو داود (181).
الوَارِدَةِ فِي إِيجَابِ الوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي "المُوَطَّإ"
(1)
، وَصَحَّحَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ
(2)
، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
(3)
، وَضَعَّفَهُ أَهْلُ الكُوفَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُصَحِّحُهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ السَّكَنِ أَيْضًا يُصَحِّحُهُ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ البُخَارِيُّ، وَلَا مُسْلِمٌ).
الَّذين قالوا: إنه ينقض الوضوء، استدلوا بما يلي:
1 -
حديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مس ذَكَرَه فليتوضأ".
2 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا أفْضَى أحدُكُم بيده إلى ذَكَره؛ ليس دونها ستر، فقَدْ وجب عليه الوضوء".
وفي روايةٍ: "إلى فَرْجه".
3 -
أنَّ الإنسان قد يحصل منه تحرك شهوة عند مسِّ الذَّكَر أو القبل، فيخرج منه شيء وهو لا يشعر، فما كان مظنة الحدث عُلِّق الحكم به كالنوم.
(1)
انظر: "موطأ مالك"(1/ 42).
(2)
بل قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"(1/ 270): "روى أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي عن أبي عون الفرائضي قال: سمعت عباسًا الدُّوري قال: سمعتُ يحيى بن معين يقول: ثلاثة أحاديث لا تصحُّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام"، و"لا نكاح إلا بوليٍّ"، و"مَنْ مسَّ ذَكَره فليتوضأ"، قال العباس: فذكرته لأحمد، فقال: يصح في مَسِّ الذَّكَر".
قَالَ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(3/ 1227): "وأمَّا ما نقله بعضُ فُقَهاء الحنفية عن ابْن معينِ مِنْ طَعْنِهِ فيه، فلا يثبت ذلك عنه".
(3)
يُنظر: "الجامع لعلوَم الإمام أحمد - علل الحديث"(14/ 129)؛ حيث فيه: "حديث بسرة رضي الله عنهما: "مَنْ مسَّ ذَكَره فليتوضأ"، قال الإمام أحمد: صحيح، ومرة: كان يذهب إليه وبختاره".
قوله: (وَالحَدِيثُ الثَّانِي المُعَارِضُ لَهُ حَدِيثُ طَلْقِ بْنِ عَلِيِّ قَالَ: " قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ يَتَوَضَّأَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ؟ "، خَرَّجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ
(1)
، وَصَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ (الكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ)، فَذَهَبَ العُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَحَدَ مَذْهَبَيْنِ: إِمَّا مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَوِ النَّسْخِ، وَإِمَّا مَذْهَبَ الجَمْعِ، فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ بُسْرَةَ، أَوْ رَآه نَاسِخًا لِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيِّ، قَالَ بِإِيجَابِ الوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، أَسْقَطَ وُجُوبَ الوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ، وَمَنْ رَامَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، أَوْجَبَ الوُضُوءَ مِنْهُ فِي حَالٍ، وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي حَالٍ، أَوْ حَمَلَ حَدِيثَ بُسْرَةَ عَلَى النَّدْبِ، وَحَدِيثَ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى الوُجُوبِ. وَالاحْتِجَاجَاتُ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ فِي تَرْجِيحِ الحَدِيثِ الَّذِي رَجَّحَهُ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي كتُبِهِمْ، وَلَكِنَّ نُكْتَةَ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ).
القَوْلُ القَائل: إنَّه إنْ مسَّه بشهوةٍ، انتقض الوضوء، وإلا فلا، ويُؤيِّد ذلك قولُهُ صلى الله عليه وسلم:"إنَّما هُوَ بضعةٌ منك"، لأنَّك إذا مَسَستَ ذَكَرك بدون تحرك شهوة، صار كأنما تمس سائر أعضائك، وحينئذٍ لا ينتقض الوضوء، وإذا مَسَسته لشهوةٍ، فإنَّه ينتقض؛ لأن العلَّة موجودةٌ، وهي احتمال خروج شيءٍ ناقض من غير شعورٍ منك، فإذا مسه لشهوةٍ، وَجَب الوضوء، ولغير شهوةٍ لا يجب الوضوء، ولأن مسَّه على هذا الوجه يُخَالف مس بقية الأعضاء.
قالوا: لنا عليكم أصلٌ، وهو أنكم قلتم: إن مس المرأة لغير شهوةٍ لا ينقض، ومَسها لشهوةٍ ينقض؛ لأنه مظنة الحدث.
وجمع بعض العلماء بينها بأن الأمرَ بالوضوء في حديث بسرة
(1)
أخرجه الترمذي (85).
للاستحباب، والنفي في حديث طلقٍ لنفي الوجوب بدليل أنه سأل عن الوجوب، فقال:"أعليه"، وكلمة:"على" ظاهرة في الوجوب.
وهُنَاكَ قولٌ آخر: أنَّ الوضوءَ من مَسِّ الذَّكَر مستحبٌّ مطلقًا ولو بشَهْوةٍ.
وإذا قلنا: إنه مستحبٌّ، فمعناه أنه مشروعٌ وفيه أجرٌ، واحتياطٌ.
والخلاصة: أن الإنسان إذا مَسَّ ذَكَرَه، استحب له الوضوء مطلقًا، سواء بشهوةٍ أم بغير شهوةٍ، وإذا مسه لشهوةٍ فالقول بالوجوب قوي جدًّا، لكني لا أجزم به، والاحتياط أن يتوضأ.
قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الأَوَّلُ فِي إِيجَابِ الوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ؛ لِاخْتِلَافِ الآثَارِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ بَعْدَ الصَّدْرِ الأَوَّلِ عَلَى سُقُوطِهِ، إِذْ صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ عَمَلُ الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ
(1)
، وَلمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ:"كانَ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(2)
، وَلَكِنْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَطَائِفَة غَيْرُهُمْ أَنَّ الوُضُوءَ يَجِبُ فَقَطْ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الجَزُورِ؛ لِثُبُوتِ الحَدِيثِ الوَارِدِ بِذَلِكَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام
(3)
.
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 326)؛ حيث قال: "ولا أعلم اليوم بين أهل العلم اختلافًا في ترك الوضوء مما مسَّت النار إلا الوضوء من لحوم الإبل خاصة، وقَدْ ذكرت اختلافهم فيه، وقد احتجَّ بعض مَنْ لا يرى الوضوء مما مسَّت النار بأخبارٍ ثابتةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على ذلك".
(2)
أخرجه أبو داود (192).
(3)
يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"؛ حيث فيه (5/ 256): "قال إسحاق بن منصور: قال إسحاق: وأمَّا لحمُ الجزورِ فإنَّه يُتوضَّأ منه الوضوء كاملًا على كلِّ حالٍ لما استثنى مِنْ جميعِ ما مسته النارُ، وذلك أنَّ الوضوءَ مِما مستِ النارُ أولًا، ثمَّ =
قَوْله: "وَطَائِفَةٌ غَيْرُهُمْ أَنَّ الوُضُوءَ يَجبُ فَقَطْ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الجَزُورِ"، يعني: يَنْقض أكلُ اللَّحم خاصَّةً من الجَزور، وهو من مفردَات مذهب أحمد رحمه الله.
وقوله: "مِنْ أَكْلِ لَحْمِ"، يشمل النِّيء والمطبوخ؛ لأنه كله يُسمَّى لحمًا، وخرج بقوله:"أكل" ما لو مَضَغه ولم يبلعه، فإنه لا ينتقض وضوؤه؛ لأنه لا يقال لمن مضغ شيئًا ثم لَفَظه: إنه أكله.
واستدلوا على ذلك:
1 -
أن هذه الأشياء لا تدخل تحت اسم اللحم بدليل أنك لو أمرتَ أحدًا أن يشتري لك لحمًا، وَاشْتَرى كرشًا؛ لأنكرت عليه، فيكون النقضُ خاصًّا باللحم الذي هو "الهَبْر".
2 -
أنَّ الأصلَ بقاء الطَّهارة، ودخولُ غير "الهبر" دخولٌ احتماليٌّ، واليقينُ لا يزول بالاحتمال.
3 -
أن النقض بلحم الإبل أمرٌ تعبديٌّ لا تُعْرف حكمته، وإذا كان كذلك، فإنه لا يمكن قياس غير الهبر على الهبر؛ لأن من شرط القياس أن يكون الأصل معللًا، إذ القياسُ إلحاقُ فرعِ بأصلٍ في حكم لعلة جامعة، والأمور التعبدية غير معلومة العلة، وَهذا هو المشهور من مذهب أحمد رحمه الله.
والصحيح: أنه لا فرق بين الهبر وبقية الأجزاء، والدليل على ذلك:
1 -
أن اللحم في لغة الشرع يشمل جميع الأجزاء بدليل قوله تعالى:
= رخص رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعد ذَلِكَ في كلِّ ما مست النارُ إلا لحم الجزورِ".
وفيه: (5/ 277): قال ابن هانئ: وسئل عن الرجل يأكل لحم الجزور؟ قال: يتوضأ وضوءًا تامًّا. قيل له: إنهم يقولون: الوضوء غسل اليد؟ قال: يتوضأ الوضوء تامًّا، سمعت أبا عبد اللَّه يتوضأ من لحوم الإبل إذا أكل، الوضوء تامًّا. قلت: رجل أكل من لحم الجزور وهو على وضوء؟ قال: يعيد الوضوء، فَإِنْ كان قد صلى، يعيد الوضوء والصلاة جميعًا. "مسائل ابن هانئ "(39).
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، فلحم الخنزير يشمل كلَّ ما في جلده، بَلْ حتى الجلد، وإذا جعلنا التحريم في لحم الخنزير -وهو مَنْعٌ- شاملًا جميع الأجزاء، فكذلك نجعل الوضوء من لحم الجزور -وهو أمرٌ- شاملًا جميع الأجزاء، بمعنى أنَّك إذا أكلتَ أيَّ جزءٍ من الإبل، فإنَّه ينتقض وضوؤك.
2 -
أن في الإبل أجزاءً كثيرةً قد تقارب الهبر، ولو كانت غير داخلةٍ لَبيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمِهِ أن الناس يأكلون الهبر وغيره.
3 -
أنه ليس في شريعة مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حيوانٌ تتبعَّض أجزاؤه حلًّا وحرمةً، وطهارةً ونجاسةً، وسلبًا وإيجابًا، وإذا كان كذلك، فَلْتَكن أجزاء الإبل كلها واحدةً.
4 -
أن النَّصَّ يتناول بقية الأجزاء بالعموم المعنوي، على فرض أنه لا يتناولها بالعموم اللفظي؛ إذ لا فرقَ بين الهبر، وهذه الأجزاء؛ لأنَّ الكل يتغذَّى بدمٍ واحدٍ، وطعامٍ واحدٍ، وشرابٍ واحدٍ.
5 -
أنه إذا قلنا بوُجُوب الوضوء، وتوضأنا وصلينا، فالصلاة صحيحة قولًا واحدًا، وإن قلنا بعدم الوجوب، وصلينا بعد أكل شيءٍ من هذه الأجزاء بلا وضوءٍ، فالصلاةُ فيها خلافٌ؛ فمن العلماء مَنْ قال بالبطلان، ومنهم مَنْ قال بالصحة، ففيها شبهةٌ.
وقَوْله: "من الجزور"، أي: البعير، وَخَرَج به اللحم من غير الجزور، وإن شارك الجزور في الحكم كالبقرة، فإنها تسمى بدنةً، وتجزئ عنها في الهدي والأضاحي، ومع ذلك فإن لحمها لا ينقض الوضوء، وكذلك اللحم المحرم لا ينقض الوضوء، كما لو اضطر إنسان إلى أكل لحم حمارٍ أو ميتةٍ، فإنه لا ينقض الوضوء، وكذا لو أكل اللحم المحرم لغير ضرورةٍ، فإنه لا ينقض وضوءه؛ لأنَّ الأصل بقاء الطهارة.
وقوله: "الجزور"، ظاهره أنه لا فرق بين القليل والكثير، والمطبوخ والنِّيء، وسواء كانت الجزور كبيرةً أم صغيرةً لا تُجْزئ في الأضحية؛
لعُمُوم الحديث. ولا يُقَالُ: إنَّ لحم الصغير يترفَّه به كلحم الضأن، فلا يوجب الوضوء؛ لأنَّ هذه علةٌ مظنونةٌ، والعموم أقوى منها، فنأخذ به.
وهَذَا النَّاقضُ من نَوَاقض الوضوء هو من مفردات مذهب أحمد رحمه الله، واستدلُّوا على ذلك بما يلي:
1 -
حديث جابر بن سَمُرةَ رضي الله عنه أن رجلًا سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم، فتوضأ من لحوم الإبل"، قال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إِنْ شِئْتَ فتوضأ، وإن شئتَ فلا تتوضأ".
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق الوضوء بالمشيئة في لحم الغنم، فدلَّ هذا على أن لحم الإبل لا مشيئةَ فيه، ولا اختيار، وأن الوضوء منه واجب.
2 -
حديث البَرَاء، وفيه:"تَوضَّؤوا من لحوم الإبل"، والأصل في الأمر الوجوب.
قال الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه: فيه حديثان صحيحان عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (حديث البَرَاء، وحديث جابر بن سمرة).
قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: شَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ، فَأَوْجَبَ الوُضُوءَ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ لِمُرْسَلِ أَبِي العَالِيَةِ، وَهُوَ "أَنَّ قَوْمًا ضَحِكُوا فِي الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِعَادَةِ الوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ"
(1)
، وَرَدَّ الجُمْهُورُ هَذَا الحَدِيثَ؛ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا، وَلِمُخَالَفَتِهِ لِلْأُصُولِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَنْقُضُهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ. المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَقَدْ شَذَّ قَوْمٌ، فَأَوْجَبُوا الوُضُوءَ مِنْ حَمْلِ
(1)
أخرج عبد الرزاق (3760)، عن حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية قال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه يومًا، فَجَاء رجل ضرير البصر، فوقع في ركية فيها ماء، فضحك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ ضحك فليُعِدْ وُضُوءه، ثم ليُعِدْ صلاته".
المَيِّتِ، وَفِيهِ أَثَرٌ ضَعِيفٌ: "مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ)
(1)
.
وقوله: "ميت"، يَشْمَل الذَّكَر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، ولو من وراء حائلٍ؛ لأنه يقول:"حَمَلَ"، ولم يقل:"مس".
ويُجَابُ عَنْ ذَلكَ:
أَنَّ الأَمْرَ يحتمل أن يَكُونَ على سبيل الاستحباب، وفرض شَيْءٍ على عباد الله من غير دليلٍ تطمئن إليه النفس أمرٌ صعبٌ؛ لأنَّ فرضَ ما ليس بفرضٍ كتحريم ما ليس بحرامٍ.
ولأنَّنا إذا فَرَضنا عليه الوضوء، فقَدْ أبطلنا صلاته إذا حمل الميت وصلى، ولم يعد الوضوء، وإبطالُ الصلاة أمرٌ صعبٌ يحتاج إلى دليلٍ بَيِّنٍ.
قوله: (وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جُمْهُورَ العُلَمَاءِ أَوْجَبُوا الوُضُوءَ مِنْ زَوَالِ العَقْلِ بِأَيَّ نَوْعٍ كانَ، مِنْ قِبَلِ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى النَّوْمِ، أَعْنِي أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ إِذَا كَانَ النَّوْمُ يُوجِبُ الوُضُوءَ فِي الحَالَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلْحَدَثِ غَالِبًا، وَهُوَ الاسْتِثْقَالُ، فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ ذَهَابُ العَقْلِ سَبَبًا لِذَلِكَ، فَهَذِهِ هِيَ مَسَائِلُ البَابِ المُجْمَعُ عَلَيْهَا، وَالمَشْهُورَاتُ مِنَ المُخْتَلَفِ فِيهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ نَصِيرَ إِلَى البَابِ الخَامِسِ).
زَوالُ العقل على نوعين:
الأوَّل: زوالُهُ بالكلية، وهو رفع العقل، وذلك بالجنون.
الثاني: تغطيتُهُ بسببٍ يوجب ذلك لمدةٍ معينةٍ كالنوم، والإغماء، والسكر، وما أشبه ذلك.
(1)
أخرجه أبو داود (3161).
وزَوالُ العقل بالجنون والإغماء والسكر هو في الحقيقة فَقْدٌ له، وعلى هذا فيَسيرُهَا وكثيرُهَا ناقضٌ، فلو صرع ثم استيقظ، أو سكر، أو أغمي عليه، انتقض وضوؤه؛ سواء طال الزمن أم قصر.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الخَامِسُ
وَهُوَ مَعْرِفَةُ الأَفْعَالِ الَّتِي تُشْتَرَطُ هَذِهِ الطَّهَارَةُ فِي فِعْلِهَا.
وَالأَصْلُ فِي هَذَا البَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] الآيَةَ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ"
(1)
، فَاتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ لِمَكَانِ هَذَا)
(2)
.
أيْ: لمَكَان هذا الحديث، واستدلالًا به.
قوله: (وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ أَوْ مِنْ شُرُوطِ الوُجُوبِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ إِلَّا فِي صَلَاةِ الجِنَازَةِ
(3)
، وَفِي السُّجُودِ (أَعْنِي سُجُودَ التِّلَاوَةِ)؛ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا شَاذًّا)
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (224).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 81)؛ حيث قال: "والوضوء للصلاة فرضٌ، ولا تجزئ الصلاة إلا به لمَنْ وجد الماء، هذا إجماع لا خلاف فيه من أحدٍ".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 187)؛ حيث قال: "ولا يصلي أحدٌ على جنازة إلا وهو طاهر، وهذا إجماع من السلف والخلف إلا الشعبي، فإنه أجاز ذلك بغير وضوءٍ، فَشذَّ؛ لأنه استغفارٌ، ونحوه لابن علية".
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 192)؛ حيث قال: "وأجمعوا أنه لا يسجد أحد سجدة تلاوة إلا على طهارة".
قال الشَّعبيُّ رحمه الله بأنَّ الطهارة ليست شرطًا في صلاة الجنازة؛ لأنها دعاءٌ، وليس من شُرُوط الدعاء الطهارة من الأحداث.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الاحْتِمَالُ العَارِضُ فِي انْطِلَاقِ اسْمِ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَائِزِ وَعَلَى السُّجُودِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ يَنْطَلِقُ عَلَى صَلَاةِ الجَنَائِزِ وَعَلَى السُّجُودِ نَفْسِهِ -وَهُمُ الجُمْهُورُ- اشْتَرَطَ هَذِهِ الطَّهَارَةَ فِيهَا، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا إِذْ كَانَتْ صَلَاةُ الجَنَائِزِ لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَكَانَ السُّجُودُ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ قِيَامٌ وَلَا رُكُوعٌ، لَمْ يَشْتَرِطْ هَذِهِ الطَّهَارَةَ فِيهِمَا).
هذا تحرير سبب الخلاف بين من وافق الإجماع وبين من قال بقول الشعبيِّ.
قوله: (وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا البَابِ مَعَ هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ؛ المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ هَذِهِ الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي مَسَّ المُصْحَفِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي مَسِّ المُصْحَفِ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(4)
إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي ذَلِكَ).
(1)
يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس" لابن الجلاب (1/ 48)؛ حيث قال: "ولا يجوز لمحدث حدث الوضوء أو ما فوقه أنْ يمس المصحف على غير طهارة، ولا يحمله بعلاقة ولا على وسادة، ولا بأس أن يحمله في خرقةٍ وعدله، ولا بأس أن يحمل الصبيانُ المصاحف على غير وضوءٍ، وكذلك كَتْبهم القرآن على غير وضوء".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 19)؛ حيث قال: "ولا يجوز لمحدث مس المصحف إلا أن يأخذه بغلافه".
(3)
يُنظر: "التنبية في الفقه الشافعي"(ص: 17): "ومن أحدث حرم عليه الصلاة والطواف ومس المصحف وحمله".
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 94)؛ حيث قال: وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى جائز، كل ذلك بوضوء وبغير وضوء وللجنب والحائض. =
المصحف: ما كتب فيه القرآن سواء كان كاملًا، أو غير كامل، حتى ولو آية واحدة كتبت في ورقة ولم يكن معها غيرها؛ فحكمُها حكم المصحف.
وكذا اللوح له حكم المصحف؛ إلا أنَّ الفقهاء استثنوا بعض الحالات.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79] بَيْنَ أَنْ يَكُونَ المُطَهَّرُونَ هُمْ بَني آدَمَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا هُمُ المَلَائِكَةَ
(1)
، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الخَبَرُ مَفْهُومُهُ النَّهْيُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لَا نَهْيًا، فَمَنْ فَهِمَ مِنَ "المُطَهَّرُونَ" بَنِي آدَمَ، وَفَهِمَ مِنَ الخَبَرِ النَّهْيَ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ المُصْحَفَ إِلَّا طَاهِرٌ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ الخَبَرَ فَقَطْ، وَفَهِمَ مِنْ لَفْظِ "المُطَهَّرُونَ" المَلَائِكَةَ، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ فِي مَسِّ المُصْحَفِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ دَلِيلٌ لَا مِنْ كتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ، بَقِيَ الأَمْرُ عَلَى البَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ وَهِيَ الِإبَاحَةُ، وَقَدِ احْتَجَّ الجُمْهُورُ لِمَذْهَبِهِمْ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ:"أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَتَبَ: لَا يَمَسُّ القُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ"
(2)
).
وقد استدل الجمهور بالأدلة التالية:
1 -
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 77 - 80].
= برهانُ ذلك أنَّ قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى أفعال خير مندوب إليها مأجور فاعلها، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كُلَّف أن يأتي بالبرهان. فأما قراءة القرآن فإنَّ الحاضرين من المخالفين موافقون لنا في هذا لمن كان على غير وضوءٍ".
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(22/ 364)؛ حيث قال: "واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فقال بعضهم: هم الملائكة
…
".
(2)
أخرجه مالك في: "الموطأ"(1/ 199).
وجه الدلالة: أنَّ الضمير في قوله: "لا يمسه" يعود على القرآن الكريم؛ لأنَّ الآيات سيقت للتحدث عنه بدليل قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة] والمنزَّل هو هذا القرآن، والمطهَّرُ: هو الذي أتى بالوضوء والغسل من الجنابة، بدليل قوله:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6].
فإن قيل: يردُّ على هذا الاستدلال: أنَّ "لا" في قوله: "لا يمسه" نافية، وليست ناهية، لأنَّه قال:"لا يمسه" ولم يقل: "لا يمسه"؟
قيل: إنه قد يأتي الخبر بمعنى الطلب، بل إنَّ الخبر المراد به الطلب أقوى من الطلب المجرَّد، لأنَّه يصوِّر الشيء كأنه مفروغٌ منه، ومنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فقوله:"يتربصن" خبر بمعنى الأمر. وفي السنة: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه"، بلفظ الخبر، والمراد النهي.
2 -
ما جاء في كتاب عمرو بن حزمٍ الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وفيه: "
…
ألا يمس القرآن إلا طاهر
…
".
والطَّاهر: هو المتطهِّر طهارة حسِّيَّة من الحدث بالوضوء أو الغسل، لأنَّ المؤمن طهارتُه معنويةٌ كاملةٌ، والمصحف لا يمسه غالبًا إلا المؤمنون، فلما قال:"إلا طاهرٌ" عُلم أنها طهارة غير الطهارة المعنوية، بل المراد الطهارة من الحدث، ويدل لهذا قوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] أي: طهارة حسية؛ لأنَّه قال ذلك في آية الوضوء والغسل.
3 -
من النظر الصحيح: أنَّه ليس في الوجود كلامٌ أشرف من كلام الله، فإذا أوجب الله الطَّهارة للطَّواف في بيته، فالطهارة لتلاوة كتابه الذي تكلم به من باب أولى، لأنَّنا ننطق بكلام الله خارجًا من أفواهنا، فمماسّتنا لهذا الكلام الذي هو أشرف من البناء يقتضي أن نكون طاهرين؛ كما أنَّ طوافنا حول الكعبة يقتضي أن نكون طاهرين، فتعظيمًا واحترامًا لكتاب الله يجب أن نكون على طهارةٍ.
قوله: (وَأَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ العَمَلِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُصَحَّفَةٌ، وَرَأَيْتُ ابْنَ المُفَوَّزِ يُصَحِّحُهَا إِذَا رَوَتْهَا الثِّقَاتُ؛ لِأَنَّهَا كِتَابُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ يَرُدُّونَهَا
(1)
، وَرَخَّصَ مَالِكٌ لِلصِّبْيَان فِي مَسِّ المُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ).
الظاهرية: لا يحرِّمون على المحدث أنْ يمسَّ المصحف.
واستدلوا: بأنَّ الأصل براءةُ الذمة، فلا نؤثِّم عباد الله بفعل شيءٍ لم يثبت به النص.
وأجابوا عن أدلة الجمهور:
أمَّا الآية فلا دلالة فيها، لأنَّ الضمير في قوله:"لا يمسه" يعود إلى "الكتاب المكنون"، والكتاب المكنون يُحتمل أنَّ المراد به اللوح المحفوظ، ويُحتمل أنَّ المراد به الكتب التي بأيدي الملائكة. فإنَّ الله تعالى قال:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 11 - 16]، وهذه الآية تفسير لآية الواقعة، فقوله:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)} كقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} [الواقعة: 78].
وقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)} [عبس: 15]، كقوله:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79].
والقرآن يفسِّر بعضه بعضًا، ولو كان المراد ما ذكر الجمهور لقال:"لا يمسه إلا المطهرون" بتشديد الطاء المفتوحة وكسر الهاء المشددة، يعني: المتطهرين" وفرق بين "المطهر" اسم مفعول، وبين "المتطهر" اسم فاعل، كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222].
(1)
يُنظر: "المحلَّى" لابن حزمٍ (4/ 38)، حيث قال:"أما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: فصحيفةٌ لا تصح".
وقولهم: إنَّ الخبر يأتي بمعنى الطلب، هذا صحيح لكن لا يحمل الخبر على الطلب إلا بقرينةٍ، ولا قرينة هنا، فيجب أن يبقى الكلام على ظاهره، وتكون الجملةُ خبريةً، ويكون هذا مؤيدًا لما ذكرناه من أنَّ المراد بـ "المطهرون"، الملائكة كما دلت على ذلك الآيات في سورة "عبس".
وأما قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 80]، فهو عائدٌ على القرآن، لأنَّ الكلام فيه، ولا مانعَ من تداخل الضمائر، وعودُ بعضها إلى غير المتحدث عنه، ما دامت القرينة موجودة.
ثم على احتمال تساوي الأمرين فالقاعدة عند العلماء إنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال. فيسقط الاستدلال بهذه الآية، فنرجع إلى براءة الذمة
…
وأما بالنسبة لحديث عمرو بن حزم: فهو ضعيف، لأنَّه مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف، والضَّعيف لا يُحتج به في إثبات الأحكام؛ فضلًا عن إثبات حُكمٍ يُلحق بالمسلمين المشقة العظيمةَ في تكليف عباد الله ألا يقرؤوا كتابه إلا وهم طاهرون، وخاصة في أيام البرد.
وإذا فرضنا صحته بناءً على شهرته فإنَّ كلمة "طاهر" تحتمل أن يكون طاهر القلب من الشرك، أو طاهر البدن من النجاسة، أو طاهرًا من الحدث الأصغر؛ أو الأكبر، فهذه أربعةُ احتمالاتٍ، والدليل إذا احتمل احتمالين بطل الاستدلال به، فكيف إذا احتمل أربعة؟
وكذا فإنَّ الطاهر يُطلق على المؤمن لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وهذا فيه إثبات النجاسة للمشرك.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا ينجس"، وهذا فيه نفي النجاسة عن المؤمن، ونفي النقيض يستلزمُ ثبوت نقيضه، لأنَّه ليس هناك إلا طهارةٌ أو نجاسةٌ، فلا دلالة فيه على أنَّ من مس المصحف لا يكون إلا من متوضئ.
وأما بالنسبة للنظر: فنحن لا نُقرُّ بالقياس أصلًا، لأنَّ الظاهرية لا يقولون به.
وعندي: أنَّ ردهم للاستدلال بالآية واضحٌ، وأنا أوافقهم على ذلك.
وأما حديث عمرو بن حزم فالسند ضعيفٌ كما قالوا، لكن من حيث قبول الناس له، واستنادهم عليه فيما جاء فيه من أحكام الزكاة والدِّيات وغيرها، وتلقِّيهم له بالقبول يدل على أنَّ له أصلًا، وكثيرًا ما يكون قبول النَّاس للحديث سواء كان في الأمور العلمية أو العملية قائمًا مقام السند، أو أكثر، والحديث يُستدل به من زمن التَّابعين إلى وقتنا هذا، فكيف نقول: لا أصلَ له؟ هذا بعيدٌ جدًّا.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِيجَابِ الوُضُوءِ عَلَى الجُنُبِ فِي أَحْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ؛ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ دُونَ وُجُوبِهِ
(1)
، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
إِلَى وُجُوبِهِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ: "أَنَّهُ ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تُصِيبُهُ جَنَابَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ"
(3)
، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ).
قالوا: إذا عاود الجنب الجماع فالوضوء عليه فرض بينهما، لما جاء عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءا"، وفي لفظ:"إذا أراد أن يعود فلا يعود حتى يتوضأ".
(1)
للمؤلف؟
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 100)؛ حيث قال: "إلا معاودة الجنب للجماع فالوضوء عليه فرض بينهما. للخبر الذي رويناه من طريق حفص بن غياث وابن عيينة كلاهما عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءًا" هذا لفظ حفص بن غياث ولفظ ابن عيينة "إذا أراد أن يعود فلا يعود حتى يتوضأ" ولم نجد لهذا الخبر ما يخصِّصه ولا ما يخرجه إلى الندب إلا خبرًا ضعيفًا من رواية يحيى بن أيوب، وبإيجاب الوضوء في ذلك يقول عمر بن الخطاب وعطاء وعكرمة وإبراهيم والحسن وابن سيرين".
(3)
أخرجه البخاري (290)، ومسلم (306).
قالوا: ولمَّا لمِ نجد لهذا الخبر ما يخصِّصه ولا ما يخرجه إلى الندب إلا خبرًا ضعيفَا قلنا بالوجوب، وبإيجاب الوضوء في ذلك يقول عمر بن الخطاب وعطاء وعكرمة وإبراهيم والحسن وابن سيرين.
قوله: (وَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى حَمْلِ الأَمْرِ بِذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ، وَالعُدُولِ بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِمَكَانِ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِإِرَادَةِ النَّوْمِ (أَعْنِي: المُنَاسَبَةَ الشَّرْعِيَّةَ)، وَقَدِ احْتَجُّوا أَيْضًا لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ، أَثْبَتُهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ الخَلَاءِ، فَأُتِيَ بِطَعَامٍ، فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيكَ بِطُهْرٍ؟ فَقَالَ: أَأُصَلِّي فَأَتَوَضَّاُ؟ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّاُ؟ فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ الصَّلَاةَ فَأَتَوَضَّأُ"
(1)
، وَالاسْتِدْلَالُ بِهِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الخِطَابِ مِنْ أَضْعَفِ أَنْوَاعِهِ، وَقَدِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ:"أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ لَا يَمَسُّ المَاءَ"
(2)
إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الوُضُوءِ عَلَى الجُنُبِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ، وَعَلَى الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُعَاوِدَ أَهْلَهُ، فَقَالَ الجُمْهُورُ فِي هَذَا كُلَّهِ بِإِسْقَاطِ الوُجُوبِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ الطَّهَارَةِ لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّهَارَةَ إِنَّمَا فُرِضَتْ فِي الشَّرْعِ لِأَحْوَالِ التَّعْظِيمِ كَالصَّلَاةِ، وَأَيْضًا لِمَكَانِ تَعَارُضِ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام "أَنَّهُ أَمَرَ الجُنُبَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ"، وَرُوِيَ عَنْهُ "أَنَّهُ كَانَ يُجَامِعُ ثُمَّ يُعَاوِدُ وَلَا يَتَوَضَّأُ"
(3)
،
(1)
أخرجه أحمد (2569).
(2)
أخرجه الطَّحاوي في: "شرح معاني الآثار"(757).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في: "مصنفه"(1062): عن أبي عثمان النَّهدي قال: رأيت سلمان بن ربيعة الباهلي أصغى إلى عمر فسأله عن شيء فقلنا: عمَّ سألته؟ فقال: سألته عن الرجل يجامع امرأته، ثم يريد أن يعود، فقال:"يتوضأ".
عن أبي عثمان النهدي قال: رأيت سلمان بن ربيعة الباهلي أصغى إلى عمر فسأله=
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ مَنْعُ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلْجُنُبِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، وَرُوِيَ عَنْهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ).
قال قوم: يستحبُّ الوضوء للجنب إذا أراد الأكل أو النَّوم ولرد السلام ولذكر الله تعالى، وليس ذلك بواجب.
فإن قيل: فهلَّا أوجبتم ذلك كله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ذكر له أنه تصيبه الجنابة من الليل -فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّأْ وَاغْسل ذكرك وَنَمْ"، ولما روته عائشة رضي الله عنه "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة".
قلنا وبالله تعالى التوفيق: أمَّا الحديث في كراهة ذكر الله تعالى إلا على طُهرٍ فإنه منسوخٌ بما رواه عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته".
فهذه إباحةٌ لذكر الله تعالى بعد الانتباه من النوم في الليل وقبل الوضوء نصًّا، وهي فضيلةٌ، والفضائل لا تُنسخ لأنَّها من نعم الله علينا، قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وهذا أمرٌ باقٍ غير منسوخ بلا خلافٍ من أحدٍ.
وأما أمره - عليه الصلاة السلام - بالوضوء فهو ندبٌ، لما روته عائشة أم المؤمنين قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام جنبًا ولا يمس ماء".
=عن شيء فقلنا: عم سألته؟ فقال: سألته عن الرجل يجامع امرأته، ثم يريد أن يعود، فقال:"يتوضأ"
وهذا لفظ يدل على مداومته صلى الله عليه وسلم لذلك وهي رضي الله عنهما أحدث الناس عهدا بمبيته ونومه جنبًا وطاهرًا.
(المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
إِلَى اشْتِرَاطِ الوُضُوءِ فِي الطَّوَافِ).
أي: يَحْرُم على المحدث الطوافُ بالبيت، سواء كان هذا الطواف نُسكًا في حجٍّ، أو عمرةٍ أو تطوعًا، كما لو طاف في سائر الأيام.
قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
إِلَى إِسْقَاطِهِ).
قال: إنَّ الطواف لا تُشترط له الطهارة، ولا يَحرُم على المحدث أنْ يَطُوفَ، وإنما الطهارة فيه أكمل.
واستدل: بأنَّ الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليلٌ على تحريم هذا الفعل إلا بهذا الشرط، ولا دليل على ذلك، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا من الدهر: لا يقبل الله طوافًا بغير طهور، أو: لا تطوفوا حتى تطهروا.
وإذا كان كذلك فلا نُلزم النَّاس بأمرٍ لم يكن لنا فيه دليل بيِّن على إلزامهم، ولا سيَّما في الأحوال الحرجة كما لو انتقض الوضوء في الزَّحمة الشَّديدة في أيام الموسم، فيلزمه على هذا القول إعادة الوضوء، والطواف من جديد.
(1)
يُنظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين" لابن بزيزة (1/ 169)؛ حيث قال: "الطواف بالبيت، ومس المصحف، والمعول عليه من مذهبنا أنه كالصلاة، فإذا توضأ لذلك استباح (به) الصلاة؛ لأنَّ الوضوء مشروط في ذلك اشتراطه في الصلاة".
(2)
يُنظر: "التنبيه في الفقه الشافعي" لأبي إسحاق الشيرازي (ص: 17): "ومن أحدث حرم عليه الصلاة والطواف ومسّ المصحف وحمله".
(3)
يُنظر: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" لابن مَازَةَ البخاري الحنفي (2/ 462)؛ حيث قال: "يجب أن يعلم بأنَّ الطواف عندنا صحيح بدون الطهارة، فالطهارة ليست من شرائط الطواف عندنا، بل هي من واجباته، وترك الواجب لا يمنع الاعتداد".
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ الطَّوَافِ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ حُكْمُهُ بِحُكْمِ الصَّلَاةِ أَوْ لَا يُلْحَقَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ الحَائِضَ الطَّوَافَ كمَا مَنَعَهَا الصَّلَاةَ"
(1)
، فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ مِنْ هَذِهِ الجِهَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الآثَارِ تَسْمِيَةُ الطَّوَافِ صَلَاةً، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ شَئءٍ مَنَعَهُ الحَيْضُ، فَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي فِعْلِهِ إِذَا ارْتَفَعَ الحَيْضُ كالصَّوْمِ عِنْدَ الجُمْهُورِ).
أدلة الجمهور على ذلك:
1 -
أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين أراد الطواف توضأ ثم طاف.
2 -
حديث صفية لما قيل له: إن صفية قد حاضت، وظن أنها لم تطف للإفاضة فقال:"أحابستنا هي؟ ".
والحائض معلوم أنها غير طاهر.
3 -
حديث عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت".
4 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة؛ إلا أنَّ الله أباح فيه الكلام؛ فلا تكلموا فيه إلا بخير".
5 -
استدل بعضهم بقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125].
وجه الدلالة: أنَّه إذا وجب تطهير مكان الطائف، فتطهير بدنه أولى، وهذا قول جمهور العلماء.
(1)
أخرجه البخاري (305): عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:"ما يبكيك؟ " قلت: لوددت والله أني لم أحج العام، قال:"لعلك نفست؟ " قلت: نعم، قال:"فإنَّ ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري".
وأجاب أصحاب أبي حنيفة عن أدلة الجمهور:
أنَّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد لا يدل على الوجوب، بل يدل على أنَّه الأفضل، ولا نزاعَ في أنَّ الطواف على طهارة أفضل؛ وإنما النزاع في كون الطهارة شرطًا لصحة الطواف.
وأما حديث عائشة: "افعلي ما يفعل الحاج
…
" إلى آخره، وقوله صلى الله عليه وسلم في صفية: "أحابستنا هي؟ ". فالحائض إنما منعت من الطواف بالبيت، لأنَّ الحيض سبب لمنعها من المكث في المسجد، والطواف مكث.
وأيضاً: فالحيض حدثٌ أكبر، فلا يستدل بهذا على أنَّ المحدث حدثًا أصغر لا يجوز له الطواف بالبيت، وأنتم توافقون على أنَّ المحدث حدثًا أصغر يجوز له المكث في المسجد، ولا يجوز للحائض أن تمكث، فمناط حكم المنع عندنا هو المكث في المسجد.
وأما حديث: "الطواف بالبيت صلاة" فيجاب عنه:
1 -
أنه موقوف على ابن عباس، ولا يصح رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنه منتقض، لأننا إذا أخذنا بلفظه، فإنه على القواعد الأصولية يقتضي أنَّ جميع أحكام الصلاة تثبت للطواف إلا الكلام، لأنَّ من القواعد الأصولية: أن الاستثناء معيار العموم، أي: إذا جاء شيء عام ثم استثني منه، فكل الأفراد يتضمنه العموم، إلا ما استثني، وإذا نظرنا إلى الطواف وجدناه يخالف الصلاة في غالب الأحكام غير الكلام، فهو يجوز فيه الأكل، والشرب، ولا يجب فيه تكبير ولا تسليم، ولا قراءة، ولا يبطل بالفعل ونحوه، وكلامه صلى الله عليه وسلم يكون محكمًا لا يمكن أن ينتقض، فلما انتقض بهذه الأمور ووجدنا هذه الاستثناءات علمنا أنَّ هذا لا يصح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا أحد الأوجه التي يستدلُّ بها على ضعف الحديث مرفوعًا، وهو أن يكون متخلخلًا، لا يمكن أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما بالنسبة للآية؛ فلا يصح الاستدلال بها، إذ يلزم منه أنَّ المعتكف لا يصح اعتكافه إلا بطهارة، ولم يشترط أحدٌ ذلك، إلا إن كان جنبًا فيجب عليه أنْ يتطهر ثم يعتكف؛ لأنَّ الجنابة تنافي المكث في المسجد.
ولا شكَّ أنَّ الأفضل أن يطوف بطهارةٍ بالإجماع، ولا أظنُّ أنَّ أحدًا قال: إنَّ الطواف بطهارة وبغير طهارة سواء، لأنه من الذكر، ولفعله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ المُتَوَضِّئٍ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ، وَيَذْكُرَ اللَّهَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَسَبَبُ الخِلَافِ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ ثَابِتَانِ، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي جَهْمٍ قَالَ: "أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُل، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَبَدَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَدَّ عليه الصلاة والسلام السَّلَامَ")
(1)
.
قوله: (فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ) فيه أنَّ المسلم في هذا الحال لا يستحق جوابًا وهذا متفق عليه.
قال بعض العلماء: يكره أن يسلم على المشتغل بقضاء حاجة البول والغائط فإنْ سلَّم عليه كره له رد السلام، قالوا: ويكره للقاعد على قضاء الحاجة أن يذكر الله تعالى بشيء من الأذكار.
قالوا: فلا يسبِّح ولا يهلِّل ولا يرد السلام ولا يشمت العاطس ولا يحمد الله تعالى إذا عطس ولا يقول مثل ما يقول المؤذن.
(1)
أخرج مسلم (1/ 281): عن عمير، مولى ابن عباس، أنَّه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهم:"أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه، ثم رد عليه السلام".
قالوا: وكذلك لا يأتي بشيءٍ من هذه الأذكار في حال الجماع، وإذا عطس في هذه الأحوال يحمد الله تعالى في نفسه ولا يحرك به لسانه.
وهذا الذي ذكرناه من كراهة الذكر في حال البول والجماع هو عند أكثر العلماء كراهة تنزيه لا تحريم فلا إثمَ على فاعله.
وكذلك يكره الكلام على قضاء الحاجة بأيِّ نوعٍ كان من أنواع الكلام ويستثنى من هذا كله موضع الضرورة كما إذا رأىَ ضريرًا يكاد أنْ يقع في بئر أو رأى حيةً أو عقربًا أو غير ذلك يقصد إنسانًا أو نحو ذلك" فإنّ الكلام في هذه المواضع ليس بمكروه بل هو واجبٌ.
قوله: (وَالحَدِيثُ الآخَرُ: حَدِيثُ عَلِيٍّ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ القُرْآن شَيْءٌ إِلَّا الجَنَابَةُ"
(1)
، فَصَارَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الحَدِيثَ الثَّانِيَ نَاسِخٌ لِلأَوَّلِ، وَصَارَ مَنْ أَوْجَبَ الوُضُوءَ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى تَرْجِيحِ الحَدِيثِ الأَوَّلِ).
أما قراءة القرآن على غير وضوء: فلا أعلم خلافًا في جوازه ما لم يكن حدث جنابة.
وحديث: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه"
(2)
، دليلٌ أنه لا يمنع من على غير طهارة من ذكر الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
أخرجه ابن ماجه (594)، وحسَّنه الأرناؤوط.
(2)
أخرجه مسلم (373).