الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المصنف رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
[كِتَابُ الطَّلاقِ]
(وَالكَلَامُ فِي هَذَا البَاب يَنْحَصِرُ فِي أَرْبَعِ جُمَلٍ، الجُمْلَةُ الأُولَى: فِي أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ. الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَرْكَانِ الطَّلَاقِ. الجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الرَّجْعَةِ. الجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَحْكَامِ المُطَلَّقَاتِ.
الجُمْلَةُ الأُولَى
وَفِي هَذه الجُمْلَةِ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ: البَابُ الأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الطَّلَاقِ البَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ).
هذا الكتاب أمره عظيم: عادة الفقهاء يذكرون أولًا كتاب النكاح، ثم بعد ذلك كتاب الطلاق؛ لأنه يبدأ النكاح وبما يشتمل عليه من أحكام فلا طلاق قبل نكاح.
والأسس العظيمة الذي قام عليه النكاح: أن الإسلام حرص حرصًا شديدًا على أن يظل هذا السياج متينًا، وأن تبقى هذه البيوت معمورة، وأن
يُزال كل ما يكون سببًا في هدم تلك البيوت، ألا وهو الطلاق، ولذلك نجد أن الإسلام وضع أسسًا وأصولًا ينبغي أن يلتزم بها كل من الزوجين، ولو أن الزوجين سارا وفق ما أرشد اللّه سبحانه وتعالى إليه، وما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم من منهج قويم وأدلة واضحة وسيرة عطرة في منهجه صلى الله عليه وسلم في أحكام النكاح لارتفع ذلك الخلاف.
لكن هذا هو شأن البشر؛ فكل بيت من البيوت لا يسلم من أن تقوم فيه مشكلات، لكن الناس يختلفون في حل المشكلات وعلاجها وفي التغلب عليها.
والنكاح وجد ليستمر، واللّه سبحانه وتعالى عندما شرع النكاح وجاء ذلك عن رسوله صلى الله عليه وسلم، إنما جاءت الشريعة لتقرر ذلك حكمًا مستمرًّا ليبقى لا لينتهي. هذا هو الأصل فيه.
وليس معنى ذلك أنه كما يكون في بعض الديانات: أنه إذا تزوج إنسان فلا فراق له، لكن يستمر إذا تم التزام بمنهج الإسلام الخالد، أما إذا وُجد خلل فهذا الخلل يختلف ربما يكون خللًا يسيرًا فيعالج، وربما يشتد ذلك فيصل إلى شقاق واختلاف ينتهي إلى فراق.
فالطلاق في اللغة: حل الوثاق
(1)
، وحل الوثاق؛ يعني: رفع القيد؛ إذا كان عند إنسان دابة فقيدها نقول: هذه دابة موثقة، أي: مقيدة؛ فإذا رفع عنها القيد وأطلقها يكون قد أرسلها وتركها، وحل الوثاق مأخوذ من الإطلاق أيضًا من أطلق يطلق إطلاقًا، ومنه: أطلق يده؛ أي: أرسلها في فعل الخير وفي بذل الحسنات.
أما ما يتعلق بمعناه الشرعي: فهو حل عقدة النكاح آجلًا أو عاجلًا؛
(1)
وأصل الطلاق في اللغة: التخلية، يقال: طلقت الناقة: إذا سرحت حيث شاءت، وحبس فلان في السجن طلقًا إذا كان بغير قيد، وفرس طلق إحدى القوائم، إذا كانت إحدى قوائمها غير محجلة والإطلاق: الإرسال، فالطلاق شرعًا: حل قيد النكاح، وهو راجع إلى معناه لغة. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع"، للبعلي (ص 405).
يعني: إنهاء الزواج في الحال كما في الطلاق المنجز كطلاق البائن، ولا يجوز له أن يتزوجها حتى تنكح زوجًا غيره ويوطئها، وإن طلقها طلاقًا رجعيًّا.
وهذا هو الطلاق الشرعي الذي أرشد إليه الإسلام ودعا إليه، وأمر اللّه سبحانه وتعالى، به وأوصى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمته؛ فسيملك رجعتها ما دامت في العدة فلا خيار لها، ولا لولي أمرها، وإذا ما انتهت العدة فإنه لا يرجع إليها إلا بعقد جديد ومهر جديد.
والطلاق ليس على نسق واحد بل يشمل الأحكام الخمسة: طلاق واجب، ومحرم، ومندوب إليه، ومكروه، وجائز.
ويجب الطلاق: إذا حصل خلاف بين الزوجين وتعذر تمكنهما من إصلاح الخلاف، فحصلت النَّفرة وانغلقت القلوب بعضها عن بعض، وكما قال الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودُّها
…
مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
(1)
فحينئذ كما قال اللّه سبحانه وتعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]؛ فيلجأ إلى الحكمين عندما يشتد الخلاف ولا يمكن علاجه بين الزوجين والأسرة؛ فيُختار حكمان يبذلان ما في وسعهما لإبقاء هذه العلاقة.
فإن استطاعا فالحمد للّه، وإذا قررا الفراق فإنه حينئذ يلجأ إلى الطلاق، لأنه لو بقي الإنسان في هذه الحالة إما أن تقوم الحياة على العناء وكأنهما يعيشان في سعير، ولو أن الرجل ترك المرأة فإنها تصبح كالمعلقة فيمنعها من حقوقها، فحينئذ يكون الطلاق واجبًا، ومع أنه جاء في الحديث الذي اختلف العلماء فيه رفعًا وإرسالًا: "أبغض الحلال عند اللّه
(1)
بيت من الكامل، وهو في:"اللطائف والظرائف"، لأبي منصور الثعالبي (ص 196) من غير نسبة.
الطلاق"
(1)
، لكن يلجأ إليه الإنسان لوجود الضرورة.
وهذا الذي يحصل إنما هو بسبب البعد عما وجه اللّه سبحانه وتعالى إليه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]؛ فإذا فقدت المودة والرحمة وساء الخلق استحالت المعاشرة.
ومن الصور التي يجب فيها الطلاق: إذا آلى الرجل من زوجته فبعد أربعة أشهر؛ فعليه أن يطأ، فإن لم يفعل يُؤمر بالطلاق
(2)
، واللّه سبحانه وتعالى يقول:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226، 227].
لا يحصل ذلك إلا عندما يبعد الزوجان عن تعاليم الإسلام أو أحدهما، لكن لو عرفت المرأة حقوق زوجها وأدرك الزوج حقوق زوجته والرسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول:"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"
(3)
، والرسول صلى الله عليه وسلم كان طيبًا مع أهله بشوشًا رحيمًا لطيفًا رؤوفًا بأمته عمومًا وبأهل بيته عليه الصلاة والسلام.
(1)
أخرجه أبو داود (2178) ولفظه: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(374).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 424)؛ حيث قال في الإيلاء: " (وحكمه وقوع طلقة بائنة إن بر) ولم يطأ (و) لزم (الكفارة، أو الجزاء) المعلق (إن حنث) بالقربان".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 361)؛ حيث قال:"ولو وجب كمن لم يقدر على القيام بحقها من نفقة أو وطء وتضررت ولم ترض بالمقام معه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 423)؛ حيث قال:"وهو إما واجب كطلاق مول لم يرد الوطء وحكمين رأياه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 232)؛ حيث قال:" (ومنه)؛ أي: الطلاق (واجب كطلاق المولي بعد التربص) أربعة أشهر من حلفه (إذا لم يفئ)؛ أي: يطأ لما يأتي في بابه".
(3)
أخرجه الترمذي (3895)، وصححه الألباني.
ولو أننا اقتدينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم في كل أعمالنا لَفزنا في الدنيا والآخرة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
فالذي يؤدي إلى الطلاق إنما هو البعد عن توجيهات كتاب اللّه عز وجل وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في سلكهما السعادة والنجاح.
ويحرم الطلاق: إذا طلق الإنسان زوجته وهي حائض أو في طهر جمعها فيه
(1)
، والدليل حديث عبد اللّه بن عمر عندما طلق امرأته وهي حائض، في بعض الروايات:"على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " فسأل عمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "مُره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها"
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 232 - 233)؛ حيث قال: " (والبدعي ثلاث متفرقة أو ثنتان بمرة أو مرتين) في طهر واحد (لا رجعة فيه، أو واحدة في طهر وطئت فيه، أو) واحدة في (حيض موطوءة) ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 361)؛ حيث قال:" (وإلا) يشتمل على جميع هذه القيود بأن فقد بعضها كأن أوقع أكثر من واحدة أو بعض طلقة أو في حيض أو نفاس أو في طهر مسها فيه أو أردف أخرى في عدة رجعي (فبدعي)، وكذا إن أوقعها على جزء المرأة كيدك طالق، والبدعي إما مكروه أو حرام".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 3)؛ حيث قال:" (ويحرم البدعي) لإضرارها أو إضراره أو الولد به كما يأتي (وهو ضربان) أحدهما (طلاق) منجز، وقول الشيخ ولو في طلاق رجعي، وهي تعتد بالأقراء مبني على مرجوح وهو استئنافها العدة (في حيض) أو نفاس (ممسوسة)؛ أي: موطوءة ولو في الدبر أو مستدخلة ماءه المحترم وقد علم ذلك إجماعًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 240)؛ حيث قال:" (وإن طلق المدخول بها في حيض) أو نفاس (أو طهر أصابها فيه ولو) أنه طلقها (في آخره)؛ أي: آخر الطهر الذي أصابها فيه (ولم يستبن)؛ أي: يظهر ويتضح (حملها فهو طلاق بدعة محرم) لمفهوم ما تقدم".
(2)
أخرجه البخاري (5251) ولفظه: عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما: "أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك،=
وهذه العدة التي أمر اللّه بها سبحانه وتعالى النساء وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] إلى آخر الآية.
وبكون الطلاق مكروهًا: إذا كانت زوجته على خلق واستقامة ولم يحصل منها تقصير فيكره في هذه الحالة أن يطلقها
(1)
.
ويندب الطلاق: إذا كانت المرأة ساءت أخلاقها وعشرتها، وكذلك إذا لم تكن الزوجة عفيفة؛ فإذا كانت سيئة الخلاق سيئة العشرة وغير عفيفة ويخشى أن تجر لزوجها ما لا يتحمل، فإنه في هذه الحالة يستحب الطلاق
(2)
، وبعض
= فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"، ومسلم (1471).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 227)، حيث قال:" (وقيل) قائله الكمال (الأصح حظره) (أي: منعه) (إلا لحاجة) كريبة وكبر".
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل"، لعليش (4/ 34)؛ حيث قال:"والأصل فيه المرجوحية لقوله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"؛ أي: أقرب أفراد الحلال؛ أي: ما ليس محرمًا ولا مكروهًا إلى البغض".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 423)؛ حيث قال:"أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله للخبر الصحيح: "ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق" وفي رواية صحيحة: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" وإثبات بغضه تعالى له المقصود منه زيادة التنفير عنه لا حقيقته لمنافاتها لحله".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 232)، حيث قال:" (ويباح) الطلاق (عند الحاجة إليه لسوء عشرتها وكذا) يباح (للتضرر بها من غير حصول الغرض بها) فيباح له دفع الضرر عن نفسه".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 228)، حيث قال:"ولهذا قالوا: إن سببه الحاجة إلى الخلاص عند تباين الأخلاق وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، فليست الحاجة مختصة بالكبر والريبة كما قيل، بل هي أعم كما اختاره في "الفتح"، فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعًا يبقى على أصله من الحظر".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 345)؛ حيث قال: " (فإن)(تعذر) الإصلاح نظرًا (فإن أساء الزوج) عليها (طلقا) =
العلماء قال: يجب
(1)
.
ولا ينبغي أن يتسرع الزوج إلى الطلاق إنما عليه أن يحاول إصلاحها قدر الإمكان: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"
(2)
، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"من دل على خير فله مثل أجر فاعله"
(3)
، فينبغى أن يرشدها، لكن إذا لم ينفع فيها النصح ولم تكن له السلطة عليها التي تمكنه من إصلاحها فحينئذ يكون الطلاق مندوبًا.
ويكون الطلاق مباحًا: إذا حصل شيء من التقصير من المرأة وعدم القيام بحقوق الزوج كما ينبغي، لكن الحالة لم تصل إلى الحالة التي أشرنا إليها في وجوب الطلاق
(4)
.
= عليه (بلا خلع)؛ أي: بلا مال يأخذانه منها له لظلمه (وبالعكس) بأن كانت الإساءة منها فقط (ائتمناه عليها) وأمراه بالصبر وحسن المعاشرة (أو خالعا له بنظرهما) ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 423)؛ حيث قال:"مندوب كأن عجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها، أو تكون غير عفيفة ما لم يخش الفجور بها أو سيئة الخلق؛ أي: بحيث لا يصبر على عشرتها عادة فيما يظهر".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 232)؛ حيث قال:" (ويستحب) الطلاق (لتفريطها)؛ أي: الزوجة (في حقوق الله الواجبة مثل الصلاة ونحوها ولا يمكنه إجبارها) عليها؛ أي: على حقوق الله، (و) يستحب الطلاق أيضًا في الحال التي تحوج المرأة إلى المخالفة من شقاق وغيره ليزيل الضرر وكونها غير عفيفة".
(1)
وهو رواية عن أحمد. يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 232)؛ حيث قال:" (وعنه)؛ أي: أحمد (يجب) الطلاق (لتركها عفة ولتفريطها في حقوق اللّه تعالى) ".
(2)
تقدم.
(3)
أخرجه مسلم (1893).
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 227)؛ حيث قال: " (وإيقاعه مباح) عند العامة لإطلاق الآيات أكمل".
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل"، لعليش (4/ 34)؛ حيث قال:"والأصل فيه المرجوحية لقوله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"؛ أي: أقرب أفراد الحلال؛ أي: ما ليس محرمًا ولا مكروهًا إلى البغض".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 423)؛ حيث قال:"أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله للخبر الصحيح: "ليس شيء من الحلال أبغض إلى اللّه من الطلاق". وفي رواية صحيحة: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" وإثبات بغضه =
ومهما كان الأمر فإنه ينبغي دائمًا لكل من الزوجين أن يصلحا ما يقع بين من خلاف وأن يرفعا كل ما يحصل بينهما من شقاق وأن يستجيبا لما أمر اللّه به سبحانه وتعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}
(1)
، لكن لو حصل الطلاق فليس ذلك أمرًا سيئًا؛ فاللّه تعالى يقول:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، فالزوج قد يبدله اللّه سبحانه وتعالى بزوجة خير منها والزوجة ربما يبدلها اللّه سبحانه وتعالى بزوج طيب يألفها وتألفه ويكون خيرًا لها.
قوله: (كتَابُ الطَّلَاقِ: وَالكَلَامُ فِي هَذَا البَابِ يَنْحَصرُ فِي أَرْبَعِ جُمَلٍ: الجُمْلَةُ الأُولَى: فِي أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ).
الطلاق له أنواع مثل: طلاق بائن، وطلاق رجعي، وطلاق قبل الدخول وطلاق بعد الدخول، والفسخ مختلف فيه طلاق أو لا.
قوله: (الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَرْكَانِ الطَّلَاقِ. الجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الرَّجْعَةِ).
الزوج إذا طلق زوجته فإن له الحق في رجعتها وتعتبر زوجة له ولم تنفصم العلاقة بينهما، لكن إذا انتهت هذه المدة يتقدم إليها من جديد.
قوله: (الجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَحْكَامِ المُطَلَّقَاتِ).
سيأتي مفصلًا إن شاء اللّه.
= تعالى له المقصود منه زيادة التنفير عنه لا حقيقته لمنافاتها لحله، ومن ثم قالوا: ليس فيه مباح لكن صوره الإمام بما إذا لم يشتهيها؛ أي: شهوة كاملة لئلا ينافي ما مر في عدم الميل إليها ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع بها".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 232)؛ حيث قال:" (ويباح) الطلاق (عند الحاجة إليه لسوء عشرتها وكذا) يباح (للتضرر بها من غير حصول الغرض بها) فيباح له دفع الضرر عن نفسه".
(1)
تقدم.
قوله: (الجُمْلَةُ الأولَى: وَفِي هَذه الجُمْلَةِ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ).
إذًا هناك جمل والجملة يمكن أن تتوزع إلى أبواب كما فعل المؤلف.
قوله: (البَابُ الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ مِنَ البِدْعِيِّ).
الطلاق سنيُّه الذي يكون وفق ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء في كتاب اللّه عز وجل:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، وليس معناها أنه يطلقها مرتين، لا، المراد: أنها طلقة يتبعها الأخرى، وسيأتي الكلام عن هذا إن شاء اللّه.
قوله: (وَالبَابُ الثَّالِثُ: فِي الخُلْعِ).
الخلع يكون إذا وجدت المرأة من زوجها ضررًا أو كانت لا تستطيع أن تؤدي حقوقه؛ فلها أن تخالع منه وعليها أن ترد عليه ما أصدقها ولو تنازل الحمد للّه.
قوله: (البَابُ الرَّابعُ: فِي تَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنَ الفَسْخِ)
(1)
.
بعضهم يرى أن الفسخ إنما يكون بحكم حاكم، وهذا لا يكون طلاقًا، والطلاق إنما يصدر من الزوج نفسه، والمفقود إذا غاب وضربت المدة المعروفة أربع سنوات ثم بعد ذلك أربعة أشهر وعشرًا يُدعى ولي أمره فيؤمر بأن يطلق، فالطلاق يقع فعلًا أو يعتبر فسخًا، هذه مسألة فيها خلاف؛ وقد أشرنا إليها فيما مضى.
قوله: (البَابُ الخَامِسُ: فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ).
أيضًا: الرجل إذا خير زوجته وقال لها: ملَّكتُكِ نفسَك، هل تعتبر هذه طالقة؟ وهل لها ذلك؟ وهل يستمر؟ كل ذلك إن شاء اللّه سيأتي بابًا بابًا.
(1)
تحريره عند كلام ابن رشد.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(البَابُ الأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الطَّلَاقِ البَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ
وَاتَّفَقُوا عَلَى أن الطَّلَاقَ نَوْعَانِ: بَائِنٌ، وَرَجْعِيٌّ).
اللّه سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1].
{إِذَا طَلَّقْتُمُ} ؛ يعني: إذا أردتم؛ لأنه ليس المراد إذا طلقتم النساء إذا وقع الطلاق.
و {إِذَا} : ظرف لما يستقبل من الزمان.
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ؛ أي: العدة التي أمر اللّه تعالى بها.
{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ؛ أي: احفظوا هذه العدة وقدِّروها واعلموا ببدايتها ونهايتها، والمراد: أن يحفظ أول العدة، لأن الإنسان إذا لم يحفظ العدة ربما يلتبس الأمر فيطول على الزوجة فيلحقها ضرر بذلك، والإسلام يدفع الضرر.
وقال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَان} [البقرة: 229].
وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49].
وفي السنة: حديث عبد اللّه بن عمر وغيره من الأحاديث.
فالطلاق مشروع بكتاب اللّه عز وجل وبسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين عليه، والحاجة تقتضي ذلك، لكنه قد يكون واجبًا أو محرمًا أو مندوبًا أو مكروهًا أو مباحًا.
قوله: (وَأَنَّ الرَّجْعِيَّ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهَا)
(1)
.
لأنها لا تزال زوجته ما دامت في العدة.
قوله: (وَأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أن يَكُونَ فِي مَدْخُولٍ بِهَا).
أما غير المدخول بها فلا تطلق طلاقًا رجعيًّا فإذا طلقها بانت منه
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال بن الهمام (4/ 158)؛ حيث قال:" (وإذا طلق الرجل امرأته تطليقة رجعية أو تطليقتين فله أن يراجعها في عدتها رضيت بذلك أو لم ترض) ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 415)؛ حيث قال:" (في رجعة المطلقة طلاقًا غير بائن) وهو عود الزوجة المطلقة للعصمة من غير تجديد عقد".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (5/ 57)؛ حيث قال:"رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة على وجه مخصوص".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 341)؛ حيث قال:" (إذا طلق الحر امرأته ولو) كانت (أمة على حرة) فلا يشترط أن يكون عادم الطول ولا خائف العنت؛ لأن الرجعة استدامة للعقد لا ابتداء له (بعد دخوله أو خلوته بها في نكاح صحيح أقل من ثلاث) بغير عوض فله مراجعتها ما دامت في العدة".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال بن الهمام (4/ 172)؛ حيث قال:"قوله: لأن تأكد الملك بالوطء) إذ بعدمه تبين بالطلاق لا إلى عدة، وشرط الرجعة العدة".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 416)؛ حيث قال:"وأشار للأمر الثاني وهو المرتجعة بقوله (طالقًا غير بائن) مفعول يرتجع، واحترز به عن البائن كالمطلقة قبل الدخول والمخالعة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (7/ 60)؛ حيث قال: " (وتختص =
قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}).
الخطاب إنما هو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والخطاب إذا وُجه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن أمته تدخل فيه، ولا يخص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الأحكام إلا ما جاء دليل على تخصيصه
(1)
.
{أَيُّهَا النَّبِيُّ} هنا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المبلغ عن اللّه، وهو الذي يتلقى الأحكام، وتصل إلينا بواسطته، وهذا من باب التجريف إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو إمامنا وقدوتنا؛ ولذلك خوطب بهذا الأمر وبأمثاله، ثم قال سبحانه:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ؛ فالضمائر تشمل المؤمنين.
قوله: (إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].
"لعل" للترجي؛ فأنت أيها الرجل عندما تطلق زوجتك ويكون الطلاق موافقًا لسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفق لما شرعه اللّه سبحانه وتعالى بحول الله تعالى ستكون موفقًا لأنْ تسلك سبيل الرشاد، وستأخذ الفرصة ويكون أمامك الوقت لتراجع نفسك وتنظر في الأسباب؛ فربما يكون سبب الطلاق تافهًا، وما أكثر ما يحصل هذا بخاصة في هذا الزمان.
= الرجعة بموطوءة) ولو في الدبر، ومثلها مستدخلة مائه المحترم على الأصح؛ إذ لا عدة على غيرها، والرجعة شرطها العدة (طلقت) ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 342)؛ حيث قال:"الأول أن يكون دخل أو خلا بها؛ لأن غيرها لا عدة عليها فلا تمكن رجعتها".
(1)
يُنظر: "البحر المحيط"، للزركشي (4/ 254 - 255)؛ حيث قال:"الخطاب المختص بالنبي صلى الله عليه وسلم بوضع اللسان، مثل يا أيها النبي، ويا أيها الرسول، لا يدخل تحته الأمة إلا بدليل منفصل من قياس وغيره، وحينئذ فيشملهم الحكم لا باللفظ، وقيل: يدخل في اللفظ فهو عام إلا بدليل يخرجه، ونقل عن أبي حنيفة وأحمد، واختاره إمام الحرمين، وابن السمعاني، وغيره من أصحابنا".
والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فهو يحاول دائمًا أن يتعس على المؤمن؛ لأنه لا يريد أن يسعد المؤمن في هذه الحياة الدنيا فيترتب على ذلك سعادته ونجاته في الآخرة.
وهو يشقى فهو يريد أن يكون معه جمع من الناس يتبعونه؛ فيحاول بقدر الإمكان أن يشوش على الناس؛ فأقل ما يكون أن يفسد علاقات الناس ببعض، والشيطان يدرك تمامًا أن ما يضر الإنسان إنما يحصل في أمر عقيدته؛ ولذلك يحاول أن يلبس عليه ويدخل عليه البدع من كل جانب، ويدرك أن من أهم الأمور التي ينبغي أن يستقيم عليه المرء إنما هي إقامة الصلوات؛ ولذلك يحاول أن يدخل إليه الوسواس في هذه الصلاة؛ فوضع لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرًا ندفع به وساوس الشيطان.
قوله: (وَللْحَدِيثِ الثَّابِتِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أن يُرَاجِعَ زَوْجَتَهُ لَمَّا طَلَّقَهَا حَائِضًا"، وَلَا خِلَافَ فِي هذا).
المؤلف سبق في أول كتابه أن وضع منهجًا يخصه بالنسبة إلى الأحاديث؛ فقال: "إذا قلت: الحديث المشهور فأعني به المتفق عليه" يعني: في "الصحيحين"، "وإذا قلت: الثابت؛ فما رواه أحدهما وربما اتفقا عليه".
والحديث جاء المؤلف بجزء منه؛ فعبد اللّه بن عمر طلق زوجته وهي حائض في بعض الروايات: "في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " وبعض الروايات لم يذكر فيها، وهذا معروف لأن سياق الحديث يدل أنه على عهد رسول اللّه؛ فسأل عمر بن الخطاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال الرسول:"مره فليراجعها ثم ليمسكها" هذا أمر، و"ثم" تفيد الترتيب "حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر".
قال بعض العلماء: إن عمر رضي الله عنه ذهب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دليل على أن الابن إذا وقع منه أمر يُكره أن يعتب عليه؛ فإن الأب له أن يسبقه في هذا الأمر وأن ينوب عنه
(1)
.
(1)
يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (9/ 355)؛ حيث قال:"وفيه أن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له مما يحتشم الابن من ذكره ولتلقى عنه ما لعله يلحقه من العتاب على فعله شفقة منه وبرًّا".
وفيه أيضًا دلالة أخرى: على أن الصلة بين الأب وابنه لا تنتهي، ليس كما في بلاد الغرب أن الإنسان إذا كبر وبلغ سن الثامنة عشرة ينفصم عن والديه ويبتعد عنهما؛ فالإسلام يبقي هذه الصلة قائمة مستمرة لا يفصلها إلا الموت.
قوله: (وَأَمَّا الطَّلَاقُ البَائِن، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أن البَيْنُونَةَ إِنَّمَا تُوجَدُ لِلطَّلَاقِ مِنْ قِبَلِ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَمِنْ قِبَلِ عَدَدِ التَّطْلِيقَاتِ، وَمِنْ قِبَلِ العِوَضِ فِي الخُلْعِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ: هَلِ الخُلْعُ طَلَاق أَوْ فَسْخٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ)
(1)
.
يعني: المشهور عند العلماء: أن البينونة تحصل في الطلاق قبل الدخول، وأن من طلق ثلاثًا قبل الدخول يعتبر مطلقًا لبدعة، ومن طلق ثلاثًا مجتمعة في مجلس واحد فإنه يكون مطلقًا لبدعة.
ومن العلماء من قال: الثلاث يقعون طلقة واحدة.
ومنهم من قال: تقع ثلاثًا كما هو مذهب الجمهور
(2)
.
ومن العلماء: من يرى أن الرجل لو طلق زوجته طلاقًا رجعيًّا ثم تركها حتى خرجت من العدة ولم يراجعها تكون قد بانت منه. وهذا رأي ليس بالقوي.
وبعضهم يسمي تلك بينونة صغرى.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أن العَدَدَ الَّذِي يُوجِبُ البَيْنُونَةَ فِي طَلَاقِ الحُرِّ ثَلَاث تَطْلِيقَاتٍ إِذَا وَقَعَتْ مُفْتَرِقَاتٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {(228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيَةَ [البقرة: 229]).
قال: "مفترقات" لأن من طلق زوجته طلقة ثم أتبعها بأخرى ثم
(1)
سيأتي تحريره عند كلام ابن رشد.
(2)
سيأتي تحريره عند كلام ابن رشد.
بثالثة. هذا هو الطلاق البائن، وهذا أمر لا يختلف فيه العلماء
(1)
، وهذا هو الذي جاء النص عليه صريح في قول اللّه: سبحانه وتعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، وإنما الخلاف فيمن طلق زوجته ثلاثًا بلفظ واحد؛ كأن قال لها: أنت طالق ثلاثة.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَتْ ثَلَاثًا فِي اللَّفْظِ دُونَ الفِعْلِ).
إذا قال لها: أنت طالق ثلاثة فيقع الطلاق عند جماهير والتابعين والأئمة الأربعة؛ ولذلك شدد على من خالف ورأى أن الثلاثة تقع واحدة، مع أنه وردت أحاديث تدل على ذلك، وقال به من العلماء السابقين ومن المحققين في عصور متأخرة، وربما نجد الحاجة تدعو إليه، وبذلك نرى أن كثيرًا من البلاد الإسلامية أخذوا بهذه الفتوى وعملوا بها
(2)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى أن الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي إِسْقَاطِ أَعْدَادِ الطَّلَاقِ، وَأَنَّ الَّذِي يُوجِبُ البَيْنُونَةَ فِي الرِّقِّ اثْنَتَان)
(3)
.
المشقة تجلب التيسير، وأسباب التخفيف في الشريعة الإسلامية أمور سبعة منها: النقص، فغير الحر يطلق اثنتين، وعدة الأمة أقل من عدة الحرة على النصف منها حيضتان
…
وهكذا.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا مُعْتَبَرٌ بِرِقِّ الزَّوْجِ، أَوْ بِرِقِّ الزَّوْجَةِ، أَمْ بِرِقِّ مَنْ رَقَّ مِنْهُمَا)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 33)؛ حيث قال:"واتفقوا أن من تزوج امرأة ثم طلقها طلاقًا صحيحًا فأكملت عدتها ولم تتزوج ثم نكحها ابتداءً نكاحًا صحيحًا ولم تكمل عدتها فراجعها مراجعة صحيحة ثم طلقها ثانية طلاقًا صحيحًا، فأكملت عدتها ولم تتزوج، ثم نكحها ثانية نكاحًا صحيحًا ولم تكمل عدتها فراجعها مراجعة صحيحة، ثم طلقها طلاقًا صحيحًا فإنه لا تحل له إلا بعد زوج".
(2)
سيأتي تحريره عند كلام ابن رشد.
(3)
سيأتي تحريره عند كلام ابن رشد.
(4)
سيأتي تحريره عند كلام ابن رشد.
هذه المسألة مختلف فيها.
قوله: (فَفِي هَذَا البَابِ إِذًا ثَلَاثُ مَسَائِلَ).
الآن المؤلف سيعود بشيء من التفصيل.
قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الثَّلاثِ حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ)
(1)
.
* المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن هذا طلاق بدعي فلا يقع
(2)
، ويستدلون بذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم وغيره:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(3)
؛ فيقولون: هذا ليس عليه أمر
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 232 - 233)؛ حيث قال: " (والبدعي ثلاث متفرقة أو ثنتان بمرة أو مرتين) في طهر واحد". قال في "الحاشية": "وكذا بكلمة واحدة بالأولى
…
إلى أن قال: وأما إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفة الصحابة له، وعلمه بأنها كانت واحدة فلا يمكن إلا وقد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ أو لعلمهم بانتهاء الحكم لذلك لعلمهم بإناطته بمعان علموا انتفاءها في الزمن المتأخر".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (2/ 362)؛ حيث قال:"ونقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على لزوم الثلاث في حق من أوقعها وحكي في الارتشاف عن بعض المبتدعة أنه إنما يلزمه واحدة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 455)؛ حيتَ قال:"أو أنت طالق) أو نحو ذلك من سائر الصرائح (ونوى عددًا) ثنتين أو ثلاثًا (وقع) ما نواه ولو في غير موطوءة؛ لأن اللفظ لما احتمله".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 240)؛ حيث قال:" (وإن طلقها)؛ أي: طلق رجل زوجته (ثلاثًا بكلمة) حرمت نصًّا ووقعت ويروى ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر".
(2)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (9/ 384)؛ حيث قال:"وأما الاختلاف في طلاق الثلاث مجموعة - أهو بدعة أم لا؟ فزعم قوم أنها بدعة، ثم اختلفوا؛ فقالت طائفة منهم: لا يقع ألبتة؛ لأن البدعة مردودة".
(3)
تقدم.
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما لم يكن عليه أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو بدعة، والبدعة مردودة على صاحبها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"كل بدعة ضلالة"
(1)
، وقال:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"
(2)
؛ لكن هذا قول ضعيف لا يلتفت إليه، والذين قالوا بهذا القول حقيقة لا يلتفت إلى آرائهم.
القول الثاني: أن الطلاق يقع ثلاثًا
(3)
. وهو قول جماهير الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وأتباعهم إلا النادر.
القول الثالث: أن الطلاق ثلاثًا في لفظ واحد تقع واحدة
(4)
، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة:
- أولًا: الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ذكر له: "ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي
…
" إلى آخر الحديث ثم قال: "تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين"
(5)
. وفي رواية: "تسبحون ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون ثلاثًا وثلاثين، وتكبرون أربعًا وثلاثين فيكون تمام المائة"
(6)
. قالوا: فلو أن إنسانًا قال: سبحان اللّه والحمد للّه واللّه أكبر مائة مرة؛ فلا يجزئ، فالطلاق مثله.
(1)
أخرجه مسلم (867) ولفظه: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
(2)
تقدم.
(3)
بل حكي إجماعًا. ينظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 34 - 35)، حيث قال:"وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين أنها تطلق واحدة، وإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة أنها تطلق تطليقتين، وإن قال: أنت طالق ثلاثًا أنها تطلق ثلاثًا".
(4)
يُنظر: "مجموع الفتاوى"، لابن تيمية (33/ 12)؛ حيث قال:"فإذا قال لامرأته: أنت طالق اثنتين أو ثلاثًا أو عشرًا أو ألفًا لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة".
(5)
أخرجه البخاري (843) ولفظه: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون، قال:"ألا أحدثكم إن أخذتم أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين"، ومسلم (595).
(6)
أخرجه البخاري (843) ولفظه: فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثًا وثلاثين،=
- ثانيًا: قالوا: إن اللّه سبحانه وتعالى قال في المتلاعنين: {أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} [النور: 6 - 9]. فلو قال: أشهد باللّه أربعًا؛ فلا يكفي.
والنساء كي يُدرأ عنها العذاب تشهد أربع شهادات، فلو قالت: أشهد أربع شهادات؛ فلا تكفي
…
وذكروا شواهد كثيرة في الكتاب والسنة في مثل ذلك.
فقالوا: إذا قال الزوج أنت طالق ثلاثًا فهي تعد واحدة؛ لأن هذا طلاق بدعي فيرجع إلى واحدة، وتكون طلاقًا رجعيًّا.
- ثالثًا: حديث عبد اللّه بن عباس: "إن الطلاق كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن الثلاثة بواحدة، وفي خلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر"
(1)
، وفي بعض الروايات: "ثلاثة من خلافة عمر
(2)
. فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا هذا الأمر وهم في أناة منه فلو أمضيناه؛ فأمضاه عليهم".
والمخالفون - الذين يقولون أن الطلاق ثلاثًا يقع واحدة -: هذا اجتهاد من عمر رضي الله عنه، لأن هذا أمر كان موجودًا في زمن الرسول وفي زمن أبي بكر وفي أول خلافة عمر.
= ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فرجعت إليه، فقال: تقول: "سبحان اللّه، والحمد للّه، واللّه أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاثًا وثلاثين".
(1)
أخرجه مسلم (1472) ولفظه: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم".
(2)
أخرجه مسلم (1472) ولفظه: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم".
وهناك تأويلات وتعليلات وإجابات كثيرة جدًّا، ومن أراد أن يطلع على هذه المسألة؛ فليقرأ في "فتاوى شيخ الإسلام" فيما يتعلق بالطلاق، وفي كتاب "زاد المعاد" لابن القيم، وأيضًا ابن حجر في كتابه "فتح الباري" عرض أيضًا للمناقشات، وربما نقل أمورًا عن ابن القيم.
وهذه هي أقوال العلماء، ولكلٍّ أدلة يتمسك بها على القول الآخر.
لكن وجد من الحنفية من المحققين ومن الشافعية وبخاصة من الحنابلة مَن انبرى لهذه المسألة ودرسها دراسة مستفيضة وحقق القول فيها، وجمع الأدلة وناقشها مناقشة علمية، ورد فيها على كل قول وأزال فيها كل شبهة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم، ثم جاء من العلماء المتأخرين كالإمام الشوكاني والصنعاني.
أما المالكية فلا نعرف أنهم خالفوا في ذلك؛ فكأن هناك إجماعًا عند المالكية على أنه يقع ثلاثًا
(1)
.
قوله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَة: حُكْمُهُ حُكْمُ الوَاحِدَةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلَّفْظِ فِي ذَلِكَ)
(2)
.
هو حقيقة قول أهل الظاهر، وكما ذكرنا أيضًا بعض العلماء في المذاهب الثلاثة، لكن أشتهر ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، وأخذ بذلك تلميذه ابن القيم، وأخذ به بعد ذلك جمع من العلماء، وهو بلا شكٍّ قول له أدلة من سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستدل بها.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 3)؛ حيث قال:"وإنما فيهما وقوع الثلاثة مجتمعات غير متفرقات ولزومها، وهو ما لا خلاف فيه بين أئمة الفتوى بالأمصار، وهو المأثور عن جمهور السلف، والخلاف فيه شذوذ تعلق به أهل البدع ومن لا يلتفت إلى قوله لشذوذه عن جماعة لا يجوز على مثلها التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة".
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
وقول جمهور العلماء له أدلة قوية؛ ولذلك أخذ به العلماء وأجاب كل فريق عن أدلة الفريق الآخر.
وشيخ الإسلام ربما لحقه شيء في هذا الأمر، لكنه سبق، وشيخ الإسلام له مواقف عظيمة في مسائل العقيدة وقف فيها ودحض شبه المخالفين ورد عليهم ودافع عن العقيدة، وأوذي في سبيل اللّه، وله مواقف جليلة نفع اللّه به في ذلك العصر، ودافع عن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فله مواقف كثيرة يصعب حصرها، وهذا شأن كل داعيه يقول الحق.
قوله: (وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إِلَى قَوْلِهِ فِي الثَّالِثَةِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 229، 230]).
يطلقها مرة، ثم يرجعها، ثم يطلقها الثانية، ثم بعد ذلك فإن طلقها الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، هذا الذي ورد في كتاب اللّه عز وجل فينبغي أن نقف عنده.
قوله: (وَالمُطَلِّقُ بِلَفْظِ الثَّلاثِ مُطَلِّقُ وَاحِدَةٍ لَا مُطَلِّقُ ثَلَاثٍ).
كما في المتلاعنين، والتسبيح دبر الصلاة، وفي ذلك أمثلة كثيرة جدًّا.
قوله: (وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
أخطأ المؤلف؛ هذا في مسلم وكتب السنن
(1)
، وليس في البخاري.
قوله: (قَالَ: "كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةٌ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ عُمَرُ"
(2)
).
(1)
أخرجه مسلم (1472).
(2)
تقدم.
ظاهر الحديث يدل على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد كانت تعد طلقة واحدة؛ فلما كان زمان عمر رضي الله عنه كما جاء في الحديث الآخر: "أن الناس استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة فأمضيناه عليهم" فجعل الثلاث بلفظ واحد تقع ثلاثًا.
والجمهور لهم تعليلات على حديث ابن عباس:
التعليل الأول: هذا الحديث إنما راويه عن ابن عباس طاوس، وطاوس قد شذ في هذه الرواية - وطاوس كما هو معلوم من التابعين فهو من أصحاب ابن عباس -؛ لأن جميع الذين رووا عن ابن عباس كسعيد بن جبير وغيره كلهم رووا أن ابن عباس يرى أن الطلاق ثلاثًا بلفظ واحد يقع ثلاثًا.
والجواب عن ذلك: أن الذين خالفوه لم يخالفوه في الرواية، وإنما نقلوا فتوى عبد اللّه بن عباس.
وطاوس لم ينفرد وإنما وافقه عكرمة؛ فالانفراد لم يقع، وقضية الشذوذ غير واردة؛ لأن هناك فرقًا بين ما أفتى به وبين الذي رفعه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وقول الصحابة: "كنا نفعل" أو "كان نعد" يأخذ حكم المرفوع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيسند إليه.
التعليل الثاني: أن الحديث منسوخ، والناسخ إنما وقف عليه عبد اللّه بن عباس وأفتى بخلافه.
والجواب عن ذلك: أن النسخ هنا مظنون، ومعلوم أنه لكي يحكم على حديث بالنسخ لا بد أن يُعرف المتقدم من الحديثين والمتأخر؛ فليس هناك دليل على النسخ وإنما هذا مجرد فهم واستنباط، وهذا يحتاج إلى دليل لكي يثبته ولا دليل عليه.
التعليل الثالث: حكي عن بعض أئمة الشافعية
(1)
: أنهم قالوا: يشبه أن يكون قول القائل: "أنت طالق أنت طالق أنت طالق" في الزمن الأول توكيدًا لسلامة صدروهم وحسن نياتهم واستقامة مناهجهم، فإذا قال الرجل لامرأته:"أنت طالق أنت طالق" إنما أراد أن يؤكد الطلقة الثانية؛ لكن لما تغير الزمان وكثر الخداع بين الناس وانتشر الكذب أراد عمر رضي الله عنه أن ينفذ ذلك، لأن الناس قد تغيرت أحوالهم.
والجواب عن ذلك: أن هذا يحتاج إلى دليل.
التعليل الرابع: حديث: "كان الناس في زمن رسول اللّه يطلق ثلاثة بواحدة وبعد ذلك صاروا يطلقون ثلاثة"؛ أي: أن السلف الأول كانوا ملتزمين بالسنة؛ فلما مضى وقت من الزمن صاروا يطلقون ثلاثة
(2)
.
والجواب عن ذلك: أن هذا أيضًا يحتاج إلى دليل.
التعليل الخامس: هذا حديث موقوف.
والجواب عن ذلك: أن هذا رده الحافظ ابن حجر، وأجاب بأن هذا غير صحيح
(3)
؛ لأن قوله: "كان الناس على عهد رسول الله" إشارة إلى أن الحديث مرفوع.
(1)
يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(10/ 71)؛ حيث قال: "وأما حديث ابن عباس فاختلف العلماء في جوابه وتأويله؛ فالأصح: أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم ينو تأكيدًا ولا استئنافًا يحكم بوقوع طلقة لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد؛ فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه، وكثر استعمال الناس بهذه الصيغة وغلب منهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الإطلاق على الثلاث عملًا بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر".
(2)
يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(10/ 71)؛ حيث قال: "وقيل: المراد أن المعتاد في الزمن الأول كان طلقة واحدة وصار الناس في زمن عمر يوقعون الثلاث دفعة فنفذه عمر؛ فعلى هذا يكون إخبارًا عن اختلاف عادة الناس لا عن تغير حكم في مسألة واحدة".
(3)
يُنظر: "فتح الباري"، لابن حجر (9/ 365)؛ حيث قال: "دعوى وقفه فقال بعضهم:=
التعليل السادس: أن الذي ورد في الحديث إنما هو لفظ: "البتة" وهو لفظ محتمل.
والجواب عن ذلك: أن الحديث ورد بذكر الثلاث.
هذه أشهر التعليلات التي يُستدل بها لجمهور العلماء.
قوله: (وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
ابن إسحاق صاحب "السيرة" مدلس ثقة حافظ من الثقات؛ فإذا صرح بالتحديث فلا اعتراض عليه، قال ابن إسحاق:"حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس".
قوله: (قَالَ: "طَلَّقَ رُكَانَةُ زَوْجَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كيْفَ طَلَّقْتَهَا؟ "، قَالَ: طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. قَالَ: إِنَّمَا تِلْكَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا"
(1)
).
فالإنسان لا يتسرع في الطلاق فيندم ويحزن، وقد جاء في بعض الروايات أنه تزوج أخرى، وأنه بعد ذلك طلقها، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام سأله، وفي بعض الروايات:"أنه استحلفه".
= ليىس في هذا السياق أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فيقره، والحجة إنما هي في تقريره، وتعقب بأن قول الصحابي:"كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " في حكم الرفع على الراجح؛ حملًا على أنه اطلع على ذلك فأقره لتوفر دواعيهم على السؤال عن جليل الأحكام وحقيرها".
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(4/ 215) ولفظه: عن ابن عباس قال: "طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "كيف طلقتها؟ " قال: طلقتها ثلاثًا، قال: فقال: "في مجلس واحد؟ " قال: نعم قال: "فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت"، وضعفه الألباني في "الإرواء" (2063).
هذه الرواية التي جاء بها المؤلف حجة ظاهره للفريق الثاني الذين يقولون بأن الثلاث إذا وقعت جملة واحدة فهي تقع واحدة
(1)
.
ولما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم بحزن الرجل سأله عن أمره؛ فينبغي لكل مفتٍ في مسائل الطلاق أن يتحوى فيها؛ فلا يأتيه إنسان فيحكي له واقعة فيتسرع بالجواب؛ لا بد أن يأخذ منه الكلام وأن يردد عليه ذلك، وأن يطمئن إلى قوله.
قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ مَنِ انْتَصَرَ لِقَوْلِ الجُمْهُورِ بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الوَاقِعَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(2)
إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ طَاوُسٌ، وَأَنَّ جِلَّةَ الصَّحَابَةِ رَوَوْا عَنْهُ لُزُومَ الثَّلَاثِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ، وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهْمٌ
(3)
، وَإِنَّمَا رَوَى الثِّقَاتُ أَنَّهُ طَلَّقَ رُكَانَةُ زَوْجَهُ البَتَّةَ لَا ثَلَاثًا)
(4)
.
تكلمنا عن حديث عبد اللّه بن عباس.
(1)
أخرجه أبو داود (2206) ولفظه: "أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: واللّه ما أردت إلا واحدة؛ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: واللّه ما أردت إلا واحدة؛ فردها إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر والثالثة في زمان عثمان". وضعفه الألباني.
(2)
ليس في البخاري بل في مسلم كما تقدم.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 396 - 397) ولفظه عن عطاء بعد وفاته: "أن رجلًا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة، فقال ابن عباس: يأخذ من ذلك ثلاثًا ويدع سبعًا وتسعين".
ولفظه عن سعيد بن جبير أخبره: "أن رجلًا جاء إلى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي ألفًا، فقال: تأخذ ثلاثًا وتدع تسعمائة وسبعة وتسعين".
ولفظه عن مجاهد: قال مجاهد: عن ابن عباس قال: "قال له رجل: يا أبا عباس، طلقت امرأتي ثلاثًا، فقال ابن عباس: يا أبا عباس! يطلق أحدكم فيستحمق، ثم يقول: يا أبا عباس! عصيت ربك، وفارقت امرأتك".
(4)
كما تقدم في رواية أبي داود.
وحديث ابن إسحاق اعترض عليه بأن ابن إسحاق مدلس، واختلف في الاحتجاج بروايته.
والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن ابن إسحاق إنما صرح بالتحديث في هذه الرواية فقال: حدثني داود بن الحصين فزال العنعنة فهو ثقة وحافظ من الحفاظ فيحتجون بقوله.
الوجه الثاني: أن العلماء ومنهم الأئمة رحمهم الله ممن خالفوا في هذه المسألة قد احتجوا بابن إسحاق في مثل هذة المسألة في عدة أحكام.
قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلِ الحُكْمُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مِنَ البَيْنُونَةِ لِلطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ يَقَعُ بِإِلْزَامِ المُكَلَّفِ نَفْسَهُ هَذَا الحُكْمَ فِي طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمْ لَيْس يَقَعُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَلْزَمَ الشَّرْعُ؟ فَمَنْ شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِالأَفْعَالِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهَا كَوْنُ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهَا كَالنِّكَاحِ وَالبُيُوعِ، قَالَ: لَا يَلْزَم، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالنُّذُورِ وَالأيْمَانِ الَّتِي مَا التَزَمَ العَبْدُ مِنْهَا لَزِمَهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ أَلْزَمَ الطَّلَاقَ كيْفَمَا أَلْزَمَهُ المُطَلِّقُ نَفْسَهُ).
لا يلزم، فلا يقع ثلاثة.
ونفس الخلاف شبيه بالخلاف من طلق زوجته وهي حائض هل يقع الطلاق أو لا؟
فالجمهور قالوا: يقع.
والمحققون من العلماء نازعوا في ذلك وقالوا: لا يقع
(1)
.
(1)
سيأتي تحريره عند كلام ابن رشد.
قوله: (وَكَأَنَّ الجُمْهُورَ غَلَّبُوا حُكْمَ التَّغْلِيظِ فِي الطَّلَاقِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ).
وهذا ظاهر عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
مثل قضية عثمان رضي الله عنه عندما زاد في النداء في يوم الجمعة لما كثر الناس في المدينة وتباعدت مسافاتهم وكثرت أعمالهم وأصبحوا يحتاجون أن يتهيؤوا إلى الصلاة؛ فزاد النداء الثاني ولم يعارضه أحد.
فهو زاد هذا عما كان في زمن رسول اللّه عليه الصلاة والسلام وتلقاه أيضًا الصحابة والعلماء بالقبول.
قوله: (وَلَكِنْ تَبْطُلُ بِذَلِكَ الرُّخْصَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالرِّفْقُ المَقْصُودُ فِي ذَلِكَ؛ أَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى. {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]).
المؤلف كأنه يناقش مذهب الجمهور، لكن الخلاف كبير فهو يخالف بلطف نجد أنه يقرب ثم يبعد، المؤلف ظاهر كلامه أنه يميل إلى الرأي الآخر؛ لأنه يقول: هذا الذي اتجه إليه الجمهور هذا نوع من التعليل ومن باب سد الذرائع، لكن الشريعة الإسلامية قامت على اليسر، واللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه؛ فنحن لو أخذنا بجانب التغليظ فكأنما ضيقنا في هذه الشريعة وشددنا فيه، وهي قامت على أسس منها التيسير ورفع الحرج.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي اعْتِبارِ نَقْصِ عَدَدِ الطَّلَاقِ البَائِنِ بِالرِّقِّ).
الحر إن طلق واحدة - وهذا هو المنهج الصحيح - يطلقها في طهر لم يمسَّها فيه، أو أن تكون حاملًا، ولو كان قبل الدخول فله أن يطلقها علي أي حال سواء كانت حائضًا أو طاهرة لا يؤثر ذلك، لكن بعد الدخول لا يطلقها إلا في طهر لم يمسَّها فيه؛ هذا هو التطليق السليم،
ومن طلق زوجته وهي حائض أو في طهر جامعها فيه فإن ذلك محرم كما دل على ذلك حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
واللّه تعالى عندما قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] يعني: مرة تتلوها مرة في هذه الحالة له الرجوع، ثم جاء بعدها قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وهذا هو الذي أمرنا الشارع الحكيم ألا نتسرع فيه وألا نبادر إليه؛ ألا وهو الطلقة الثالثة ولذلك في الآية:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إلى آخر الآية.
فالحر يطلق واحدة ويطلق اثنتين، وهو في ذلك موافق للسنة إذا وقع كما أمر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأما الطلاق الثلاث فهو يعتبر طلاقًا بدعيًّا عند بعض العلماء، وبعضهم يرى أنه من طلاق السنة لو أنه جاء مفرقًا، وسيأتي الكلام فيه.
أما الأمة: فإنها على العكس من الحرة تبين باثنتين كما جاء في أثر عائشة: "طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان"
(1)
، وهذا فيه كلام ضعفه العلماء، لكن جاء في قول اللّه سبحانه وتعالى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
وعدة الأمة مسألة تكلم العلماء فيها وبينوا أن الرقيق على النصف.
وهناك من ينازع في هذا الأمر ويرى أن المملوك كالحر تمامًا، وأنه لا فرق بينهما؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى عندما خاطب المؤمنين خاطبهم دون تفريق، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} .
وقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .
(1)
أخرجه أبو داود (2189) ولفظه: عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان". وضعفه الألباني.
وقال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} .
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ؛ فالقرآن أطلق ذلك ولم يفرق.
قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: المُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّجَالُ؛ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا، كَانَ طَلَاقُهُ البَائِنُ الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ).
المملوك يطلق تطليقتين وفي الثانية تبين منه. هذا هو مذهب جمهور العلماء كما سيذكر المؤلف.
قوله: (سَوَاءٌ أَكَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَمِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَزيدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ
(3)
، وَإِنْ كانَ اخْتلِفَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ الأَشْهَرَ عَنْهُ هُوَ هَذَا القَوْلُ).
وأحمد
(4)
، جمهور العلماء عمومًا قالوا بذلك، وابن عباس المشهور
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (4/ 107)؛ حيث قال:" (قال مالك: والحر يطلق الأمة ثلاثًا وتعتد بحيضتين، والعبد يطلق الحرة تطليقتين وتعتد ثلاثة قروء) ".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 454)؛ حيث قال:" (وللعبد)؛ أي: من فيه رق وإن قل (طلقتان فقط) وإن كانت الزوجة حرة لأنه مالك للطلاق فنيط الحكم به".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 124)؛ حيث قال:"فذهب مالك والليث والشافعي إلى أن الطلاق بالرجال وهو قول عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس".
(4)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 265)، حيث قال:" (و) يملك (المعتق بعضه ثلاث طلقات وإن كان تحته أمة) أما الحر فلما تقدم، وأما المبعض فلأن تسمية الطلاق في حقه غير ممكنة؛ لأنه لا يتبعض فكمل في حقه، ولأن الأصل إثبات الطلقات الثلاث في حق كل مطلق، وإنما خولف في حق من كمل فيه الرق لما سبق ففيما عداه يبقى على الأصل (ويملك العبد والمكاتب ونحوه) كالمدبر والمعلق عتقه بصفة (اثنتين)؛ أي: طلقتين".
أنه مع الجمهور؛ لأن يمين الطلاق حق للرجل، واللّه سبحانه وتعالى عندما خاطب المؤمنين بالطلاق خاطب الرجال، قال تعالى:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} .
وقال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236].
والأحاديث جاءت أن الطلاق بيد الرجل، أما عندما يملِّك الرجل زوجته التطليق؛ فهذا حقٌّ له منحه لزوجته، لكنها مسألة أخرى.
قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ هُوَ بِالنِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً؛ كَانَ طَلَاقُهَا البَائِنُ الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ
(1)
، وَمِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَغَيْرُهُ).
عللوا هذا: بأن المرأة هي التي يقع عليها الطلاق، وهي التي تطلق؛ فينبغي أن تكون هي المعتبرة ويستدلون بأثر عائشة:"طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان"
(3)
، لكنه ضعيف.
والأولون يقولون: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"
(4)
، والذي أخذ بالساق إنما هو الرجل، ويستدلون بعموم الأدلة؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز إنما جعل حكم الطلاق وحل هذا النكاح إنما هو بيد الرجل:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} .
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 124)؛ حيث قال:"وقال الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي الطلاق والعدة بالنساء وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 246)، حيث قال:" (واعتبار عدده بالنساء) وعند الشافعي بالرجال (فطلاق حرة ثلاث، وطلاق أمة ثنتان) مطلقًا".
(3)
تقدم.
(4)
أخرجه ابن ماجه (2081)، وحسنه الألباني.
قوله: (وَفِي المَسْأَلَةِ قَوْلٌ أَشَذُّ مِنْ هَذَيْنِ، وَهُوَ أن الطَّلَاقَ يُعْتَبَرُ بِرِقِّ مَنْ رَقَّ مِنْهُمَا، قَالَ ذَلِكَ عُثْمَانُ البَتَيُّ وَغَيْرُه، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَسَبَبُ هَذَا الاخْتِلَافِ: هَلِ المُؤَثِّرُ فِي هَذَا هُوَ رِقُّ المَرْأَةِ أَوْ رِقُّ الرَّجُلِ، فَمَنْ قَالَ: التَّأثِيرُ فِي هَذَا هُوَ لِمَنْ بِيَدِهِ الطَّلَاقُ قَالَ: يُعْتَبَرُ بِالرِّجَالِ. وَمَنْ قَالَ: التَّأثِيرُ فِي هَذَا لِلَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ قَالَ: هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ المُطَلَّقَةِ، فَشَبَّهُوهَا بِالعِدَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ العِدَّةَ بِالنِّسَاءِ؛ أَيْ: نُقْصَانُهَا تَابعٌ لِرِقِّ النِّسَاءِ)
(1)
.
لا شك أن العدة إنما هي للنساء.
قوله: (وَاحْتَجَّ الفَرِيقُ الأَوَّلُ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاس مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "الطَّلَاقُ بِالرجَالِ، وَالعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ")
(2)
.
الصحيح أنه ليس حديثًا مرفوعًا، والمؤلف ذكر أنه مرفوع، وهذا نقل عن ابن عباس وعبد اللّه بن مسعود وعلي بن أبي طالب، والصحيح أنه موقوف على هؤلاء، وتعلمون الفرق بين الموقوف والمرفوع: أن المرفوع يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حكمًا ملزمًا يجب النزول عنده، والموقوف: يكون قولًا للصحابي.
وهناك من الصحابة من خالف؛ فينظر في الأدلة الواردة في المسألة.
ويستدلون أيضًا: بما أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" من حديث:
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 51)؛ حيث قال:"وكذلك قال الجميع: عدتها من الطلاق حيضتان إلا ابن سيرين، واتبعته فرقة شذت فلم يعرج عليها أحد من الفقهاء".
(2)
لم أجده مرفوعًا لكن موقوفًا. انظر: "السنن الكبرى"، للبيهقي (7/ 607) ولفظه: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء".
"الطلاق بيد من أخذ بالساق"
(1)
؛ فالذي يأخذ بالساق إنما هو الرجل، وأيضًا هذا فيه كلام.
قوله: (إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ لَمْ يَثْبُتْ فِي الصِّحَاحِ، وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ مَنْ رَقَّ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ جَعَلَ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ الرِّقُّ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَجْعَلْ سَبَبَ ذَلِكَ لَا الذُّكُورِيَّةَ وَلَا الأنوثِيَّةَ مَعَ الرِّقِّ).
لم يثبت في ذلك حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرفع النزاع ويزيله، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء؛ فنرجع إلى الأصل أن الطلاق بيد الرجل، كما جاء التنصيص على ذلك في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلو استعرضنا الآيات نجد أن الخطاب إنما يوجه إلى الرجال.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا كَوْنُ الرِّقِّ مُؤَثِّرًا فِي نُقْصَانِ عَدَدِ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُ حَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ)
(2)
.
المشقة تجلب التيسير، وذكر العلماء أسبابًا سبعة للتخفيف في هذه الشريعة؛ فخفف عن المسافر لأن السفر مظنة المشقة، وليس معنى هذا أن الحاضر لا تلحقه مشقة، قد تجد من الحاضرين من تلحقه مشقة أكبر، كما أن إنسانًا يعمل في منجم أو يقف على فرن في أيام الحر الشديد، وهذا يسافر في سيارة مكيفة أو سفينة أو طائرة؛ فربما لا تلحقه مشقة، لكن السفر مظنة للمشقة حتى وإن لم يتعب جسميًّا ففكره مشغول.
والمريض يخفف عنه، والناسي والمخطئ والمكره: "عفي عن أمتي
(1)
"السنن الكبرى"، للبيهقي (7/ 59) ولفظه:"إنما يملك الطلاق من أخذ بالساق".
(2)
لم أقف على من حكاه، وقد ذكر ابن قدامة قول العلماء فيه، فقال:"فإن كان الزوج حرًّا؛ فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو أمة وإن كان عبدًا؛ فطلاقه اثنتان حرة كانت زوجته أو أمة فإذا طلق اثنتين حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره روي ذلك عن عمر وعثمان وزيد وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر". انظر: "المغني"(7/ 505 - 506).
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". والنقص؛ فالأمة والعبد فيهما نقص عن الأحرار، والنساء فيها نقص عن الرجال؛ ولذلك راعت الشريعة الإسلامية ذلك فخففت عنهم في بعض الأحكام.
قوله: (وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَجَمَاعَة مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ مُخَالِفُونَ فِيهِ، وَيَرَوْنَ أن الحُرَّ وَالعَبْدَ فِي هَذَا سَوَاءٌ)
(1)
.
لعموم الأدلة لكن حقيقة هذه قضية فيها شبه اتفاق بين العلماء؛ فلا ينبغي أن يخرم هذا الاتفاق، وكون ابن حزم وبعض أهل الظاهر خالف أو ممن يشذ مثلًا كابن عُلية والأصم فإنهم لا يُلتفت إليهم؛ لأن هؤلاء قد نازعوا في مسائل وخالفوا ولم يراع العلماء قولهم ولم يلتفتوا إليه.
قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الظَّاهِرِ فِي هَذَا لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الجُمْهُورَ صَارُوا إِلَى هَذَا لمَكَانِ قِيَاسِ طَلَاقِ العَبْدِ وَالأَمَةِ عَلَى حُدُودِهِمَا).
فكما أنه يجب عليهما نصف الحد الواجب على الحر: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ؛ هذا ورد التنصيص عليه بالنسبة للإماء، وقاسوا العبد على الأمة، ثم بعد ذلك ألحقوا بذلك بقية الأحكام كهذه المسألة.
قوله: (وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِ الرِّقِّ مُؤَثِّرًا فِي نُقْصَانِ الحَدِّ)
(2)
لوجود نص في ذلك بالنسبة للأمة.
(1)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (9/ 502)؛ حيث قال:"وطلاق العبد بيده لا بيد سيده، وطلاق العبد لزوجته الأمة أو الحرة، وطلاق الحر لزوجته الأمة أو الحرة: كل ذلك سواء، لا تحرم واحدة ممن ذكرنا على مطلق ممن ذكرنا إلا بثلاث تطليقات مجموعة أو مفرقة، لا بأقل أصلًا".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 252)؛ حيث قال:"وأجمع العلماء أن الأمة إذا تزوجت فزنت أن عليها نصف ما على الحرة البكر من الجلد".
قوله: (أَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ: فَلَمَّا كَانَ الأَصْلُ عِنْدَهُمْ أن حُكْمَ العَبدِ فِي التَّكَالِيفِ حُكْمُ الحُرِّ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيل، وَالدَّلِيلُ عِنْدَهُمْ هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ مِنَ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ).
أهل الظاهر لا يأخذون بالقياس، وإنما يردونه، ويرون أن من قاس دين اللّه فقد ابتدع، وجاء في أثر علي:"لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"
(1)
؛ لأن الذي يطأ على الأرض ويتعرض للأوساخ والنجاسات أسفل الخف.
والعبادات توقيفية: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]؛ فكل ما جاء عن اللّه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمور الواضحة ينبغي أن نسلم وأن نقف عنده وألا نتردد في ذلك؛ لأن هذا فيه حياتنا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
ولا شك أن رأي أهل الظاهر ضعيف، وكونهم يردون القياس هذا حقيقة كلام غير مقبول، فاللّه صلى الله عليه وسلم يقول في كتابه العزيز:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، والاعتبار إنما هو المقايسة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قاس وفي أمر هام وخطير عندما جاءه رجل مغضب متأثر يشكو ويقول: إنه ولد له ولد يخالف لونه لون أمه وأبيه فسأله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سؤال: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم قال: "وما ألوانها؟ " قال: حمراء. قال: "فيها من أورق؟ " قال: نعم قال: "وأنى ذلك؟ " يعني: كيف جاء ذلك؟ قال: لعله نزعها عرق قال: "ولعل ابنك نزعه عرق"
(2)
؛
(1)
أخرجه أبو داود (162)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(153).
(2)
أخرجه البخاري (5305) ولفظه: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، ولد لي غلام أسود، فقال:"هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال:"ما ألوانها؟ " قال: حمر، قال:"هل فيها من أورق؟ " قال: نعم، قال:"فأنى ذلك؟ " قال: لعله نزعه عرق، قال:"فلعل ابنك هذا نزعه"، ومسلم (1500).
فسار الرجل راضيًا بتوجيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد زالت عنه وساوس الشيطان وأوهامه وذهب مستقرًّا مرتاحًا مطمئنًّا بابنه.
قوله: (وَلَمْ يَكُن هُنَاكَ دَلِيلٌ مَسْمُوعٌ صَحِيحٌ وَجَبَ أن يَبْقَى العَبْدُ عَلَى أَصْلِهِ، وَيُشْبِهَ أَنْ يَكُونَ قِيَاسُ الطَّلَاقِ عَلَى الحَدِّ غَيْرَ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ المَقْصُودَ بِنُقْصَان الحَدِّ رُخْصَة لِلْعَبْدِ لِمَكَان نَقْصِهِ، وَأَنَّ الفَاحِشَةَ لَيْسَتْ تَقْبُحُ مِنْهُ قُبْحَهَا مِنَ الحُرِّ، وَأَمَّا نُقْصَانُ الطَّلَاقِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ).
لا شك أننا عندما نستقرئ هذه الشريعة الغراء العظيمة نجد أن فيها ما يدل على التخفيف عن العبد؛ لأن هذا مملوك كالسلعة التي تبيع وتشتري بها؛ فهو لا يتصرف بنفسه، حتى فيما يتعلق بالمكاتب ما دام المكاتب لم يسدد النجوم التي عليه يعتبر رقيقًا فيما بقي من حريته، وكذلك المنصَّف من يعتق نصفه؛ فالشريعة لا شك أنها تخفف على أمثال هؤلاء، والواقع أن العبد والأمة مخفف عنهما مطلقًا؛ لأنهم بحاجة إلى ذلك، والمرأة يخفف عنها لوضعها الذي تعيش فيه فلا جهاد عليها لرقتها.
قوله: (لِأَنَّ وُقُوعَ التَّحْرِيمِ عَلَى الإِنْسَان بِتَطْلِيقَتَيْنِ أَغْلَظُ مِنْ وُقُوعِهِ بِثَلَاثٍ لِمَا عَسَى أن يَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّدَمِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا سَلَكَ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ الوَسَطِ).
لكن قد يردُّ على هذا ويقال: بأن العبد ربما يتحرى ولا يتسرع في أمر الطلاق؛ لأنه مملوك، وكونه يتزوج مرة أخرى يختلف عن الحر، قد يكون الحر الأمر له ميسور وسهل والعبد ليس كذلك، فليست القضية قضية تغيّر، وإنما نأخذ ذلك - كما يقول الجمهور - من عموم الأدلة؛ فالشريعة فيها تيسير، وأولى الناس بالتيسير العبد والأمة، واللّه سبحانه وتعالى قد خفف عنهما أحكامًا عظيمة من أحكام الشريعة ألا يخفف عنهما فيما يتعلق بهذا الأمر.
قوله: (وَذَلِك أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الرَّجْعَةُ دَائِمَةً بَيْنَ الزَّوْجَةِ لَعَنَتَتِ
المَرْاةُ وَشَقِيَتْ، وَلَوْ كَانَتِ البَيْنُونَةُ وَاقِعَةً فِي الطَّلْقَةِ الوَاحِدَةِ لَعَنَتَ الزَّوْجُ مِنْ قِبَلِ النَّدَمِ، وَكانَ ذَلِكَ عُسْرًا عَلَيْهِ).
الطلاق لو كان بيد المرأة ربما تتسرع، وبعض العلماء يقول: عاطفة المرأة ورقتها ميزة؛ لأنه يتناسب مع الرجل، والمرأة فيها شيء من النقص والرجل عنده من القوة والنظر والصبر وقياس الأمور والتدقيق فيها ما ليس عند المرأة؛ فلو كان الطلاق بيد المرأة لتسرعت إلى ذلك، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].
قوله: (فَجَمَعَ اللَّهُ بِهَذه الشَّرِيعَةِ بَيْنَ المَصْلَحَتَيْنِ؛ وَلذَلِكَ مَا نَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ رَفَعَ الحِكْمَةَ المَوْجُودَةَ فِي هَذه السُّنَّةِ المَشْرُوعَةِ).
لا شك أن الشريعة الإسلامية جمع اللّه فيها بين المصلحتين؛ فهي ترسم للمسلم طريق النجاة وطريق السعادة في الحياة الدنيا؛ ليسلك الطريق السوي الذي ينتقل فيه خطوة فخطوة، وربما يكون من المسارعين في ذلك ليصل إلى الجنة:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63].
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(البَابُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ مِنَ البِدْعِيِّ
أَجْمَعَ العُلَمَاءُ
(1)
عَلَى أَنَّ المُطَلِّقَ لِلسُّنَّةِ فِي المَدْخُولِ بِهَا هُوَ الَّذِي
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 138) حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن من طلق زوجته طلقة واحدة وهي طاهر من حيضة لم يكن طلقها فيها، ولم يكن جامعها في ذلك الطهر، أنه مصيب للسنة".
يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ المُطَلِّقَ فِي الحَيْضِ الَّذِي مَسَّهَا فِيهِ غَيْرُ مُطَلِّقٍ لِلسُّنَّةِ).
قد ذكرنا فيما مضى من كتاب النكاح مدى عناية الشريعة الإسلامية بالنكاح وأن الله سبحانه وتعالى قد جعله آية من آياته، فقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، وذكرنا كذلك مدى حرص الإسلام على هذه العلاقة وما فيها من مودة ورحمة، بحيث تبقى ثابتةً مستقرةً لا تنفصم عراها.
وذكرنا أن هذا البنيان الزوجي قد يطرأ عليه خللٌ يؤثِّر فيه ويهدد بقاءه، وربما بقي بنيان الزواج قائمًا على غير وجهه المحمود القائم على المودة والرحمة، ولذا كانت مشروعية الطلاق، حيثما قال اللّه تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، فإن اللّه سبحانه وتعالى أجاز للرجل أن يفارق امرأته عند حصول أسباب ذلك، وأوصاه سبحانه وتعالى أن يطلِّقها طلاقًا رجعيًّا تجنُّبًا للوقوع في الندم فيما بعد، بمعنى: أن يطلِّقها طلقة واحدة، ثمَّ بعد ذلك له مراجعتها قبل انتهاء عدتها منه، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} [الطلاق: 1]، وتجنُّبًا كذلك لما قد يلقيه الشيطان من العداوة بين الزوجين لينغِّص عليهما حياتهما، فإن اللّه سبحانه وتعالى قد أشار في أكثر من موضع في كتابه الكريم لعداوة الشيطان للإنسان وسعيه في غوايته، فقال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وقال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50].
والطلاق من هذه الأبواب التي قد ينفذ منها الشيطان للإنسان، بحيث
يحوِّل الخلاف اليسير بين الزوجين إلى نار مؤجَّجة
(1)
، ولذا ينبغي على الإنسان أن يكون دائمَ الحذر من ذلك.
والمؤلِّف هاهنا يتناول أحكام الطلاق ومسائله، ويذكر لنا أقسام الطلاق من حيث إنه ينقسم في حقِّ الزوجة المدخول بها إلى قسمين رئيسين، هما:
القسم الأول: الطلاق السُّني: وهو ما وافَقَ سُنَّةَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن يطلِّق الرجل امرأته في طهرٍ لم يمسَّها فيه، أو يطلِّقها حاملًا.
القسم الثاني: الطلاق البدعي: وهو ما خالَفَ سُنَّةَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن يطلِّق الرجل امرأته في طهر جامعها فيه، أو يطلِّقها وهي حائض.
وهذا التقسيم هو محلّ إجماعٍ بين أهل العلم
(2)
، استنادًا لحديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ تُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"
(3)
، وفي رواية:"ثُمَّ إن شاءَ أمْسَكَ، وإن شاءَ طلَّق قبل أن يمسَّ"
(4)
.
أمَّا الطلاق من حيثُ كونه متعلِّقًا بالسُّنة أو البدعة فإنه على أربعة أنواع، نوعان منهما يندرجان تحت الطلاق السُّني، ونوعان آخران يندرجان تحت الطلاق البدعي.
وهذا كلُّه في حقِّ المرأة المدخول بها.
(1)
"مؤجَّجة"، أي: موقدة، والأجيج: تَلَهُّب النار، وأججتها أو قدتها. يُنظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 297).
(2)
تقدم.
(3)
أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471)، ولفظها:"إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس"، أما لفظ:"إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها" فهو لفظ النسائي (3556).
(4)
هي رواية البخاري ومسلم السابقة.
أمَّا غير المدخول بها، فللزوج أن يطلِّقها طاهرًا أو حائضًا؛ لأن القصد من اعتداد المرأة المدخول بها إنما هو براءة الرَّحم، أما غير المدخول بها فلا فرق في حقِّها بين هذا وذاك.
أما المحظور فإنه طلاق الرجل امرأته ثلاثًا دفعةً واحدةً، ويستوي في هذا طلاق المدخول بها وغير المدخول بها.
قوله: (وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى هَذَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "مُرْه، فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ")
(1)
.
"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا": لأهل العلم كلامٌ في هذا، فيما إذا كان الأمر هاهنا للوجوب أم الاستحباب
(2)
، وكذلك فيما إذا كان هذا الحديث يُستدَلّ به على وقوع الطلاق في الحيض - كما هو مذهب الجمهور - أم أنه يُستدَلُّ به على عدم وقوعه.
"حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ": وهاهنا كذلك كلامٌ لأهل العلم فيما إذا كان هذا الوصف واجبًا، أم أنه إذا طلقها بعد الطهر الأول دون أن يمسَّها يكون بذلك مطلِّقًا للسُّنة، وسيأتي تفصيل هذا كله.
قوله: (ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ").
لأنه بعد هذه المدة يكون قد اتضح الأمر أمامه من حيثُ الموازنة بين فوائد الطلاق وأضراره، فتعد هذه المدة فرصة للزوج لإعادة التفكير وإعمال الذهن فيما يترتب على هذا الطلاق في حقِّ أسرته وأولاده،
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
سيأتي الخلاف في مسألة الإجبار على الرجعة.
فجعل اللّه تعالى من هذه المدة مَخرَجًا للزوج إذا تسَرَّع في أمر الطلاق.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، المَوْضِعُ الأَوَّلُ: هَلْ مِنْ شرْطِهِ أَلَّا يُتْبِعَهَا طَلَاقًا فِي العِدَّةِ؟).
(هل من شرطه): الضمير هاهنا عائدٌ على طلاق السُّنة، بمعنى: إن أول المواضع التي اختلف العلماء فيها هو ما إذا كان يُشترط في طلاق السنة ألا يُتبعَهُ الزوج بطلاقٍ آخر في العدة أم لا يشترط، بحيثُ إن طهرَت الزوجة من الحيضة الأولى ودخلت في الطهر الأول فهل للزوج أن يطلق طلقةً هاهنا، ثم إذا حاضت وطهرت طلق طلقةً ثانيةً، ثم إذا حاضت وطهرت طلق طلقةً ثالثةً أم أنه ليس له ذلك.
قوله: (وَالثَّانِي: هَلِ المُطَلِّقُ ثَلَاثًا - أَعْنِي: بِلَفْظِ الثَّلَاثِ - مُطَلِّقٌ لِلسُّنَّةِ أَمْ لَا؟).
فقد بَيَّنَ ابن عمر رضي الله عنهما كيف أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلِّق مرةً بعد مرةٍ، وأن من طلَّق ثلاثًا حرمَت عليه زوجته.
وبهذا يكون المطلق ثلاثًا وقع في ثلاثة محاذير، فإنه قد أثِمَ بالطلاق البدعي، وكذلك وقع في معصية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إلى جانب أنه قد فاتت عليه زوجته.
قوله: (الثَّالِثُ: فِي حُكْمِ مَنْ طَلَّقَ فِي وَقْتِ الحَيْضِ).
ومسألة وقوع الطلاق في الحيض تدور على قولين:
القول الأول: أنَّ الطلاق يقع في وقت الحيض، وهو مذهب جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة
(1)
.
القول الثاني: أنه لا يقع في وقت الحيض، وقد ذهب إلى هذا قليلٌ من العلماء كطاوس وخلاس بن عمر، وانتصر لهم بعض العلماء المتأخرين
(1)
ستأتي.
من المحققين، وأطالوا الكلام في المسألة وناقشوها بالأدلة كابن القيم رحمه الله
(1)
.
قوله: (أَمَّا المَوْضِعُ الأَوَّلُ: فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ فِيهِ مَالِكٌ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَة
(3)
وَمَنْ تَبِعَهُمَا، فَقَالَ مَالِكٌ:"مِنْ شَرْطِهَا أَلَّا يُتْبِعَهَا فِي العِدَّةِ طَلَاقًا آخَرَ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إِنْ طَلَّقَهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً وَاحِدةً، كَانَ مُطَلِّقًا لِلسُّنَّةِ").
ونسبة المؤلف هذا القول لمالكٍ فيه نظرٌ
(4)
، فهذا القول قد ذهب إليه جمهور أهل العلم، ومنهم مالكٌ
(5)
، والشافعي
(6)
، وأحمد في أحد قوليه
(7)
،
(1)
ستأتى.
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (5/ 300) حيث قال: "طلاق السنة ما كان في طهر لم يمس فيه بعد غسلها أو تيممها طلقة واحدة فقط وغير هذا بدعي".
(3)
سيأتي.
(4)
يقصد نسبته إلى مالك وحده.
(5)
سبق.
(6)
الشافعية لم يوافقوا المالكية في هذا، بل عندهم لو وقع الطلاق في كل طهر من الثلاثة أطهار كان الطلاق سنيًّا. وهذا ما أفاده كلام ابن العربي، حيث قال في "أحكام القرآن" (4/ 271):"وقال الشافعي: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة، ولو طلقها ثلاثًا في طهر لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة. طلاق السنة أن يطلقها في كل قرء طلقة".
انظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 499)، وفيه قال:"الطلاق السني فهو طلاق مدخول بها في طهر لم يجامعها فيه ولا في حيض قبله، وليست بحامل ولا صغيرة ولا آيسة، وهي تعتد بالأقراء، وذلك لاستعقابها الشروع في العدة".
(7)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 448) حيث قال: "ولو طلقها ثلاثًا في ثلاثة أطهار: كان حكم ذلك حكم جمع الثلاث في طهر واحد. قال الإمام أحمد رحمه الله: طلاق السنة واحدة، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض".
ومشهور مذهب الحنابلة كمذهب المالكية. انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 239)، وفيه قال:" (السنة فيه) أي: الطلاق (أن يطلقها واحدة) لقول عليّ رواه النجاد (في طهر لم يصبها فيه) لما تقدم من قول ابن مسعود وابن عباس: ثم يدعها فلا يتبعها طلاقًا آخر حتى تنقضي عدتها".
وأبو حنيفة أيضًا في قول آخر
(1)
.
قوله: (وَسَبَبُ هَذَا الاخْتِلَافِ: هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذَا الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ رَجْعَةٍ، أَمْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ؟ فَمَنْ قَالَ: هُوَ مِنْ شَرْطِهِ، قَالَ: لَا يُتْبِعُهَا فِيهِ طَلَاقًا. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، أَتْبَعَهَا الطَّلَاقَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ المُتْبَعِ).
والمقصود بالطلاق المُتْبَع هاهنا، هو الطلاق الذي يُتبَع بطلاقٍ آخر.
قوله: (وَأَمَّا المَوْضِعُ الثَّانِي: فَإِنَّ مَالِكًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ المُطَلِّقَ ثَلَاثًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مُطَلِّقٌ لِغَيْرِ سُنَّةٍ)
(2)
.
وهو كذلك روايةٌ عن الإمام أحمد
(3)
.
قوله: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُطَلِّقٌ لِلسُّنَّةِ)
(4)
.
وهي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد
(5)
.
(1)
هو ليس قولًا آخر، ولكن الأحناف قالوا به كما قالوا بالصورة الأولى. انظر:"مختصر القدوري"(ص: 154)، وفيه قال:"الطلاق على ثلاثة أوجه: أحسن الطلاق وطلاق السنة وطلاق البدعة؛ فأحسن الطلاق: أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها وطلاق السنة: أن يطلق المدخول بها ثلاثًا في ثلاثة أطهار".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 38) حيث قال: "طلاق السنة واحدة بطهر لم يمس فيه بلا عدة وإلا فبدعي".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 451) حيث قال: "وإن طلقها تلاثًا في طهر لم يصبها فيه: كره. وفي تحريمه روايتان) وأطلقهما في الهداية، والمستوعب، والهادي، والكافي. إحداهما: يحرم. وهو المذهب.
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 240) حيث قال: " (وإن طلقها)، أي: طلق رجل زوجته (ثلاثًا بكلمة) حرمت نصًّا".
(4)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 265) حيث قال: "ولا يحرم جمع ثلاث طلقات".
(5)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 452) حيث قال: "والرواية الثانية: ليس بحرام. =
فللإمام أحمد في هذه المسألة روايتان، إحداهما يتفق فيها مع مذهب مالكٍ، والأخرى توافق مذهب الشافعي.
قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: مُعَارَضَةُ إِقْرَارِهِ عليه الصلاة والسلام لِلْمُطَلِّقِ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَفْهُومِ الكِتَابِ فِي حُكْمِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَالحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ هُوَ:"مَا ثَبَتَ مِنْ "أَنَّ العَجْلَانِيَّ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الفَرَاغِ مِنَ المُلَاعَنَةِ"
(1)
. قَالَ: "فَلَوْ كَانَ بِدْعَةً، لَمَا أَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ")
(2)
.
يُشير المؤلف بهذا الإقرار الذي احتجَّ به الشافعي إلى قضية الملاعنة في قصة العجلاني، لما طلق امرأته ثلاثًا بحضرة الرسول، ولم يُنكِر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك عليه، ولو كان الطلاق الثلاث في مجلسٍ واحدٍ بدعةً لأنكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يُقِرُّ أحدًا على خطأ.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ: فَلَمَّا رَأَى أَنَّ المُطَلِّقَ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ رَافِعٌ لِلرُّخْصَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي العَدَدِ، قَالَ فِيهِ: "إِنَّهُ لَيْسَ لِلسُّنَّةِ"، وَاعْتَذَرَ أَصْحَابُهُ عَنِ الحَدِيثِ بِأَنَّ المُتَلَاعِنَيْنِ عِنْدَهُ قَدْ وَقَعَتِ الفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ قِبَلِ التَّلَاعُنِ نَفْسِهِ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَلَمْ يَتَّصِفْ لَا بِسُنَّةٍ، وَلَا بِبِدْعَةٍ).
فالإمام مالكٌ ومعه أحمد في روايةٍ يعتبران الطلاق الثلاث إغلاقًا
= اختارها الخرقي. وقدمها في الروضة. والمحرر، والنظم، والحاوي الصغير. وجزم به في المنور. قال الطوفي: ظاهر المذهب أنه ليس ببدعة".
(1)
أخرجه البخاري (5259) وفيه: "فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول اللّه إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(2)
قال الشافعي في الأم (5/ 193): "ولو كان ذلك شيئًا محظورًا عليه نهاه النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه وجماعة من حضره".
لباب الرخصة الذي وَجَّهَ اللهُ الرجالَ إليه في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، قال ابن مسعود:"يعني طاهرًا من غير جماعٍ"
(1)
.
قوله: (وَقَوْلُ مَالِكٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَظْهَرُهَا هُنَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ).
لِمخالَفة قول الشافعي هاهنا لِمَا وَرَدَ في كتاب اللّه، حين أمَرَ سبحانه الرجال بأن يطلقوهن لعدتهن، بينما المطلق ثلاثًا يهدر فرصته بهذا، بحيثُ لا تحل له امرأته حتى تنكح زوجًا غيره.
قوله: (وَأَمَّا المَوْضِعُ الثَّالِثُ: فِي حُكْمِ مَنْ طَلَّقَ فِي وَقْتِ الحَيْضِ: فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: أَنَّ الجُمْهُورَ
(2)
قَالُوا: يَمْضِي طَلَاقُهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: "لَا يَنْفُذ، وَلَا يَقَعُ").
وهذه المسألة من المسائل المهمة، والحكم فيها - كما ذكرنا - يدور على قولين:
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 118) عن عبد اللّه بن مسعود قال: "من أراد أن يطلق للسنة كما أمر اللّه عز وجل، فلينظرها حتى تحيض ثم تطهر، ثم ليطلقها طاهرًا في غير جماع"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2051).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 192) حيث قال: " (وطلاق الموطوءة) حائضا (بدعي) لما ذكرنا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 31) حيث قال: "والبدعي مكروه في غير الحيض وحرام في زمنه، ويجبر على الرجعة إن طلقها فيه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 80) حيث قال: " (ولو قال لحائض) ممسوسة أو نفساء (أنت طالق للبدعة) أو للحرج أو طلاق البدعة أو الحرج (وقع في الحال) ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 240) حيث قال: "وإن طلق المدخول بها في حيض) أو نفاس (أو طهر أصابها فيه ولو) أنه طلقها (في آخره)، أي: آخر الطهر الذي أصابها فيه (ولم يستبن)، أي: يظهر ويتضح (حملها فهو طلاق بدعة محرم) لمفهوم ما تقدم. (ويقع نصًّا) ".
القول الأول: بوقوع الطلاق، وهو مذهب جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة.
القول الثاني: مذهب قليلٍ من أهل العلم كطاوس
(1)
وخلاس بن عمرو
(2)
، وابن القيم
(3)
وابن حزم
(4)
.
قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا: يَنْفُذُ، قَالُوا: يُؤْمَرُ بِالرَّجْعَةِ، وَهَؤُلَاءِ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ؛ فَقَوْمٌ رَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ)
(5)
.
فالذين قالوا بوقوع الطلاق في الحيض اختلفوا في أمر الزوج بالرجعة إلى فريقين
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 301) عن ابن جريج، عن عطاء قال:"وجه الطلاق أن يطلقها طاهرًا أيان ما طلقها، غير أن يطلقها قبل أن تحيض بأيام في قبل عدتها".
(2)
يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 202) حيث قال: "وقال الخشني: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، (عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال: لا يعتد بها".
(3)
يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 203) حيث قال: "لطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مخالفة لأمره، فإذا كان لا شكَّ في هذا عندهم، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التي يقرون أنها بدعة وضلالة، أليس بحكم المشاهدة مجيز البدعة مخالفًا لإجماع القائلين بأنها بدعة؟ قال أبو محمد: وحتى لو لم يبلغنا الخلاف، لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده ولا بلغه عن جميعهم - كاذبًا على جميعهم".
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 161) حيث قال: "من أراد طلاق امرأة له قد وطئها لم يحل له أن يطلقها في حيضتها ولا في طهر وطئها فيه فإن طلقها طلقة أو طلقتين في طهر وطئها فيه أو في حيضتها لم ينفذ ذلك الطلاق وهي امرأته كما كانت".
(5)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 39) حيث قال: "إذا طلق طلاق بدعة لم يجبر إلا في الحيض فقط".
الفريق الأول: وهم مالكٌ وأصحابه، وهؤلاء ذهبوا إلى أن الزوج يُجبَر على مراجعة زوجته إذا طلقها حائضًا.
قوله: (وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ يُنْدَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يُجْبَرُ .. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ
(3)
، وَأَحْمَدُ)
(4)
.
الفريق الثاني: وهم جمهور أهل العلم، وهؤلاء ذهبوا إلى أن الزوج يُندَب إلى المراجعة ولا يُجبَر عليها.
قوله: (وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا الإِجْبَارَ، اخْتَلَفُوا فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الإِجْبَار، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ابْنُ القَاسِمِ وَغَيْرُهُ: "يُجْبَرُ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا"، وَقَالَ أَشْهَبُ: "لَا يُجْبَرُ إِلَّا فِي الحَيْضَةِ الأُولَ").
وهذه المسألة تدور حول وقت الأمر بالرجعة على القول بالإجبار.
فإن الطلاق في الحيض فيه إضرار بالمرأة من جهة تطويل العدة.
فمالكٌ يقول: الطلاق ينبغي ألا يقع إلا بعد انتهاء العدة.
قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا بِالأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ اخْتَلَفُوا مَتَى يُوقِعُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ إِنْ شَاءَ، فَقَوْمٌ اشْتَرَطُوا فِي الرَّجْعَةِ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ تِلْكَ الحَيْضَةِ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيّ، وَجَمَاعَةٌ، وَقَوْمٌ قَالُوا: بَلْ
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 265) حيث قال: " (يستحب لمن طلق بدعيًّا أن يراجع) مطلقته ما لم يدخل الطهر الثاني".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 112) حيث قال: "وإذا طلق الرجل امرأته في حال الحيض وقع الطلاق ويستحب له أن يراجعها وإن شاء أمسكها".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (18/ 22) حيث قال: "وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوري يؤمر برجعتها، ولا يجبر على ذلك".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 240) حيث قال: " (وتسن رجعتها)، أي: رجعة المطلقة زمن البدعة (إن كان) الطلاق (رجعيًّا) ".
يُرَاجِعُهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ تِلْكَ الحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا: فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالكُوفِيُّونَ).
الحنفية: يرون إِتْبَاعَ الطلاق بطلاقٍ، بمعنى: أنها تُطَلَّقُ طلقةً، فإذا طَهُرَت طُلِّقَت طلقةً أخرى، فإذا طَهُرَت طُلِّقَت طلقةً ثالثةً.
(وَكُلُّ مَنِ اشْتَرَطَ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ لَمْ يَرَ الأَمْرَ بِالرَّجْعَةِ إِذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ).
وسيأتي تفصيل ذلك وزيادة.
قوله: (فَهُنَا إِذًا أَرْبَعُ مَسَائِلَ؛ أَحَدُهَا: هَلْ يَقَعُ هَذَا الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِيَةُ؟ إِنْ وَقَعَ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ أَمْ يُؤْمَرُ فَقَطْ؟).
المراد إذا طلقها وقت الحيض.
قوله: (وَالثَّالِثَةُ: مَتَى يُوقِعُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الإِجْبَارِ أَوِ النَّدْبِ؟).
والمراد هاهنا: هو هل للزوج أن يطلقها إذا طهرت طهرها الأول؟ أم لا بد أن يأتي الطلاق وَفْقَ ما جاء في الحديث؟
والإمام مالكٌ قد خالَفَ الجمهور في هذه المسألة.
قوله: (وَالرَّابِعَةُ: مَتَى يَقَعُ الإِجْبَار، أَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّ الجُمْهُورَ إِنَّمَا صَارُوا إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ إِنْ وَقَعَ فِي الحَيْضِ اعْتُدَّ بهِ، وَكَانَ طَلَاقًا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"
(1)
. قَالُوا: وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ طَلَاقٍ).
وهذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم إلى فريقين كما ذكرنا.
(1)
تقدم تخريجه.
والناظر إلى الفريقين المختلفين من حيث عدد كلّ فريق أو شهرة القائلين به قد يستنتج من هذا قوة مذهب الجمهور وضعف الرأي الآخر، ولكن الناظر إلى أدلة الفريق الآخر يجدها تحتاج للتدبر وتدقيق النظر.
أدلة الجمهور على وقوع الطلاق، ومناقشة الفريق الآخر لها:
- قوله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها"
(1)
، وهذا الأمر فيه دليلٌ على وقوع الطلاق؛ لأن المراجعة لا تكون إلا بعد طلاقٍ، وقد أجاب الفريق الآخر عن هذا بأن هذا القول لا يدلّ على وقوع الطلاق، وإنما هو مفهوم الأمر.
- أنه قد أُثِرَ عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت عن عبد اللّه بن عمر: "أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم احتَسَبَ طلاقَهُ"
(2)
، وقد أجاب الفريق الآخر على ذلك بأن المنقول عن عثمان وزيد في هذا لم يثبت من طريقٍ صحيحٍ، وأن هذا الحديث قد رواه الشافعي في "مُسنَدِهِ"، وفيه شيخ الشافعي، والحديث ضعيفٌ، وأن ما ثبت عن نافع من طريق صحيح يعارضه، وأجابوا كذلك بأن ابن عمر له فتاوى متعارضةٌ، بل قد ورد عنه ما يعارض ذلك، كما جاء في حديث أبي الزبير أن ابن عمر لما سُئِلَ عن ذلك بَيَّنَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم رَدَّهَا ولم يحتسبها عليه
(3)
.
- أن القول بعدم وقوع الطلاق قولٌ شاذٌّ لم يقل به إلا قلَّة في مقابل الجمع الغفير من العلماء والأئمة.
أدلة القائلين بعدم وقوع الطلاق:
- أن النكاح قد ثبت بيقينٍ، وأن القاعدة الفقهية تنصُّ على أن اليقين
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه الشافعي في "مسنده"(ص 193) عن ابن جريج، أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.
(3)
أخرجه أبو داود (2185) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2059).
لا يزول بالشكِّ، فينبغي أن يُنَصَّ على وقوع الطلاق بدليلٍ من الكتاب أو السنة الصحيحة أو بإجماعٍ متَيَقَّنٍ
(1)
.
- أن اللّه تعالى لم يُشَرِّع مثل هذا الطلاق، وإنما قال تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكَرَ ذلك الطلاقَ، ونحن نعتبره طلاق بدعةٍ، فلو قلنا بوقوعه نكون قد أقررنا بالبدعة.
- أننا نقول ببطلان البيع المنعقد بعد النداء الثاني، استنادًا إلى الأمر الوارد في قول اللّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فكذلك نبطل هذا الطلاق الواقع في الحيض لعدم جواز وقوع الطلاق في الحيض.
- أن الأمر بمراجعة الزوجة إنما هو تأديب لمن يفعل ذلك.
- ما أخرجه أحمد
(2)
، وأبو داود
(3)
، والنسائي
(4)
من حديث أبي الزبير أن عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة بن الزبير سأل عبد اللّه بن عمر عن طلاقه، فقال:"لقد ردَّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم"، وأما اعتراض الجمهور بأن أبا الزبير مدلِّسٌ، فنجيب عليه: بأنه قد صَرَّح بالسماع هاهنا، ولذلك صَحَّحَ العلماءُ هذا الحديث
(5)
.
فهذه المسألة - كما هو معلوم - فيها خلافٌ بين أهل العلم، بحيث قال الجمهور بوقوع الطلاق، ومن بين هؤلاء الأئمة الأربعة، في مقابل جمع قليل قالوا بعدم وقوع الطلاق كطاوس وخلّاس بن عمرو، وبعض
(1)
قاعدة: "اليقين لا يزول بالشك" أحد القواعد الفقهية الكبرى، والمراد بها: أن ما ثبت باليقين يجب استصحاب حالته ولا يرفع هذا الحكم أو الحالة إلا ما ثبت بيقين آخر، أما مجرد الشك فلا يرفع حكم هذا اليقين المتقدم. يُنظر:"الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 13).
(2)
أخرجه أحمد (5524). وصححه الأرناؤوط.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه النسائي (5524).
(5)
يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 207).
المحققين كابن القيم، والمسألة فيها تفصيلٌ وكلامٌ كثيرٌ ذكره ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"
(1)
.
وينبغي على الإنسان أن يتقي اللّه ويتجنب الوقوع في مثل هذا، عملًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"دع ما يُريبُك إلى ما لا يريبك"
(2)
.
قوله: (وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: "أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَى نَافِعٍ يَسْأَلُونَهُ هَلْ حُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ"
(3)
، وَرَوَى أَنَّهُ الَّذِي كَانَ يُفْتِي بِهِ ابْنُ عُمَرَ).
وهذا هو الحديث الذي أشرنا إليه، وقد رواه الشافعي في "مسنده" عن شيخه مسلم بن خالد، وهو وجه استدلال الجمهور على مذهبه بوقوع الطلاق.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ هَذَا الطَّلَاقَ وَاقِعًا، فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ عُمُومَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ فِعْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ").
هذه إحدى الروايات، أما الرواية المشهورة فهي قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رد"
(4)
.
قوله: (وَقَالُوا: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَدِّهِ يُشْعِرُ بِعَدَمِ نُفُوذِهِ وَوُقُوعِهِ).
والمقصود هاهنا إنما هو معنى الرجعة، أما الذين يقولون بوقوع الطلاق فيقولون بتعدد معاني الرجعة، ويفسرونها هاهنا بما يلتقي مع مذهبهم.
(1)
يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 201).
(2)
أخرجه الترمذي (2518) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1/ 44).
(3)
أخرجه الشافعي في "المسند"(3/ 96).
(4)
أخرجه البخاري (2142)، ومسلم (1718).
* قوله: (وَبِالجُمْلَةِ، فَسَبَبُ الاخْتِلَافِ: هَلِ الشُّرُوطُ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الشَّرْعُ فِي الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ هِيَ شُرُوطُ صِحَّةٍ وَإِجْزَاءٍ، أَمْ شُرُوطُ كمَالٍ وَتَمَامٍ؟ فَمَنْ قَالَ: شُرُوطُ إِجْزَاءٍ، قَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الَّذِي عَدِمَ هَذهِ الصِّفَةَ، وَمَنْ قَالَ: شُرُوطُ كَمَالٍ وَتَمَامٍ، قَالَ: يَقَع، وَيُنْدَبُ إِلَى أَنْ يَقَعَ كامِلًا).
وهاهنا يريد المؤلف أن يصل إلى تأصيل قاعدةٍ في الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق، فيما إذا كانت شروط صحَّةٍ يجب الأخذ بها، أم أنها شروط كمالٍ يُندَبُ الأخذ بها.
ومثال ذلك اختلاف العلماء
(1)
في قراءة الفاتحة في الصلاة بالنسبة للمأموم، فيما إذا كانت ركنًا من أركان الصلاة تجب في كلِّ ركعةٍ، أم أنها شرط كمالٍ وتمامٍ، فحينها اختلفوا في تفسير حديث:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، فالذين قالوا بأنها شرط صحَّةٍ فسَّروها بأن (لا) نافية للجنس وقعت قبل النكرة، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، فوجوب قراءة الفاتحة يَعُمُّ كل مُصَلٍّ، أما الفريق الآخر ففسَّرها بأنها تعني: لا صلاة كاملة، فيكون المقصوفى هو نفي الكمال لا نفي الإجزاء.
* قوله: (وَلِذَلِكَ، مَنْ قَالَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجَبْرِهِ عَلَى الرَّجْعَةِ، فَقَدْ تَنَاقَضَ، فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ).
وهاهنا يعود ابن رشدٍ مرةً أخرى لمخالفة مذهب المالكية وتبيان أنه تَنَاقَضَ وجَانَبَ الحقَّ، فرغم انتسابه لهذا المذهب إلا أن ذلك لم يمنعه من الأخذ بما يعتقد فيه الصواب، وهو ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم دائمًا.
(1)
سبقت هذه المسألة في أبواب الصلاة.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَة، وَهِيَ: هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ أَوْ لَا يُجْبَرُ؟).
وبعد أن تحدَّث المؤلِّف عن الخلاف في وقوع الطلاق في الحيض وعدم وقوعه، يتحدث هاهنا عن الخلاف في قوله:"مُرْه فليراجعها"، فيما إذا كان الزوج يُجبَر على هذه الرجعة أم لا.
والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب إذا لم تدلَّ قرينةٌ على صَرفِهِ إلى الندب.
فالمالكية ومعهم الحنابلة في إحدى الروايتين
(1)
يقولون بأن الأمر هاهنا للوجوب لعدم وجود صارفٍ يصرفه إلى الندب، والفريق الآخر يحمل الأمر على الندب.
* قوله: (فَمَنِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الأَمْرِ - وَهُوَ الوُجُوبُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الجُمْهُورِ - قَالَ: "يُجْبَرُ").
وهذه العبارة قد تُوهِم بأن مذهب الجمهور هو إجبار الزوج على الرجعة، وهذا غير صحيحٍ، فجمهور العلماء من الحنفية والشافعية والرواية المشهورة عند الحنابلة عَلى أن الزوج يُندَبُ إلى الرجعة ولا يُجبَرُ عليها، وأما القائلون بإجبار الزوج على الرجعة؛ لأن الأمر هاهنا يفيد الوجوب إنما هم المالكية، والرواية الأخرى عند الحنابلة.
ولكن مراد المؤلِّف هاهنا أن الأصل في الأمر هو الوجوب عند جمهور أهل العلم.
* قوله: (وَمَنْ لَحَظَ هَذَا المَعْنَى الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الطَّلَاقِ وَاقِعًا قَالَ: "هَذَا الأَمْرُ هُوَ عَلَى النَّدْبِ").
وهذه العبارة فيها نقضٌ من المؤلف لمذهب المالكية، فالمالكية
(1)
المعتمد: استحباب الرجعة، والإجبار على الرجعة رواية أخرى، قال المرداوي في "الإنصاف" (8/ 450): "وتستحب رجعتها
…
وعنه: أنها واجبة".
ومعهم جمهور العلماء يقولون بوقوع الطلاق في الحيض، ولكن المالكية ذهبوا إلى وجوب الرجعة وأن الزوج يُجبَر عليها.
فالمؤلِّف يريد أن يوجه الكلام للمالكية بأنهم ما داموا قالوا بوقوع الطلاق في الحيض فقولهم هذا ناقضٌ لقولهم بوجوب الرجعة؛ لأن الزوج إذا طلَّق امرأته عادةً لا يُجبَر على مراجعتها، وإنما يعود هذا إلى اختياره ورغبته، ولذلك فإن مذهب الجمهور هو أصحّ وأرجح.
* قوله: (وأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَة، وَهِيَ: مَتَى يُوقِعُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الإِخبَارِ).
والمراد هاهنا هو الخلاف القائم بين المالكية والجمهور فيما إذا كان الزوج يوقع الطلاق - عند من يقول بالإجبار - بعد انتهاء الحيضة الأولى أم لا بد من أن يُتِمَّ.
* قوله: (فَإِنَّ مَنِ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ).
والمؤلف هاهنا يشير إلى المالكية، فإنهم مَن قالوا بذلك.
* قوله: (فَإِنَّمَا صَارَ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ المَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ المُتَقَدِّمِ، قَالُوا: وَالمَعْنَى فِي ذَلِكَ لِتَصِحَّ الرَّجْعَةُ بِالوَطْءِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَ الحَيْضِ).
يعني: قول الرسول: "مُرْهُ فليراجعْهَا حتَّى تطهرَ ثُمَّ تحيضَ ثُمَّ تطهرَ".
وجمهور العلماء تمسَّكوا بالرواية التي في "الصحيحين"، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"مُرْهُ فليراجِعْهَا حتى تطهرَ، ثمَّ إن شاء أمسكَ، وإن شاء طلَّقَ قبلَ أن يمسَّ"
(1)
، فقالوا ردًّا على المالكية: إن الله تعالى قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ
(1)
تقدم.
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ومن طلَّق في طهر لم يمسَّ فيه فقد طلَّق للعدة، فلماذا فرقتم؟!
والجمهور لا يخالفون المالكية
(1)
في كون الأفضل في حقِّ المطلق في الحيض أن يمسك امرأته حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ولكن الخلاف في كونه على سبيل الوجوب أم الندب، فالأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد لا يرونه واجبًا؛ لأنها إذا طهرت وطلقها في هذا الطهر يكون قد طلقها في طهر لم يمسَّها فيه بما يعني أنه قد طلَّقها لعدَّتها كما أمر الله تعالى.
ولذلك فإن أشهب - وهو أحد أئمة المالكية - قد خالف المالكية في هذا القول.
* قوله: (لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَ الحَيْضَةِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنَ الطَّلَاقِ الآخِرِ عِدَّةٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ كَالمُطَلِّقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبِالجُمْلَةِ، فَقَالُوا: إِنَّ مِنْ شَرْطِ الرَّجْعَةِ وُجُودَ زَمَانٍ يَصِحُّ فِيهِ الوَطْء، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ طَلَاقِ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُطَلِّقْ فِي الحَيْضَةِ الَّتِي قَبْلَه، وَهُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ المُشْتَرَطَةِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ فِيمَا ذَكرَهُ عَبْدُ الوَهَّابِ)
(2)
.
فإرشاد الرسول إلى عدم تطليق ابن عمر امرأته في الحيض من جملة حِكَمِه الرفق بالمطلقات؛ لأن الطلاق في الحيض يطيل مدة العدة على
(1)
تقدم.
(2)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 313) حيث قال: "ولطلاق السنة ستة شروط: أحدها: أن تكون المطلقة ممن تحيض مثلها. والثاني: أن تكون طاهرًا غير حائض ولا نفساء. والثالث: أن تكون في طهر لم تمس فيه. والرابع: أن يكون الطهر تاليًا لحيض لم تطلق فيه. والخامس: أن يطلق واحدة. والسادس: أن تترك ولا يتبعها طلاقًا".
المرأة، بخلاف الطلاق في الطهر الذي لم تُمَسَّ فيه فإنه يقصر عليها العدة، ولا شكَّ أن إطالة العدة فيه إضرارٌ بالمرأة.
* قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ).
والذين لم يشترطوا ذلك هم جمهور العلماء، أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
* قوله: (فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِلَى مَا رَوَى يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سِيرِينَ
(1)
، وَمَنْ تَابَعَهُمْ).
ومن جملة من تابَعَهم (أبو الزبير)
(2)
، و (زيد بن أسلم)
(3)
، فهناك بعض الروايات في "الصحيحين"، وبعضها في أحدهما، وبعض الروايات كذلك في السنن أو المسانيد، وكلها رواياتٌ صحيحةٌ.
* قوله: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: "يُرَاجِعُهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ طَلَّقَهَا إِنْ شَاءَ").
فلم يذكر الزيادة التي جاءت في الحديث الأول، وإنما أمره بمراجعتها حتى تطهر ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها.
ولذلك قال الجمهور: إنه لو طلقها في الطهر الأول كان مطلقًا للسنة، ولكنه حينئذٍ يكون ترك الأفضل إلى المفضول؛ لأنه قد طلَّق في طهرٍ لم يمسَّ فيه.
* قوله: (وَقَالُوا: المَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِالرُّجُوعِ عُقُوبَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَ فِي زَمَانِ كُرِهَ لَهُ فِيهِ الطَّلَاق، فَإِذَا ذَهَبَ ذَلِكَ الزَّمَان، وَقَعَ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 129) حيث قال: "ورواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وعبد الرحمن بن أيمن وسعيد بن جبير ويزيد بن أسلم وأبو الزبير".
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
مِنْهُ الطَّلَاقُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ، فَسَبَبُ احتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الآثَارِ فِي هَذه المَسْأَلَةِ، وَتَعَارُضُ مَفْهُومِ العِلَّةِ).
ومراد المؤلف بقوله: (تعارُض الآثار)، أي: الأحاديث الواردة.
وليس هناك تعارضٌ في حقيقة الأمر، وإنما جاء الحديث الأول ببيان الأَوْلَى والأفضل، بينما التقى الحديث الثاني مع الآية القرانية في بيان الجائز.
* قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ - وَهِيَ: مَتَى يُجْبَرُ؟).
وقد سبق أن المالكية والحنابلة في إحدى الروايتين يقولون بإجبار الزوج على الرجعة، بينما الجمهور يرى الندب إلى ذلك.
وهذه المسألة تدور حول وقت الأمر بالرجعة على القول بالإجبار.
* قوله: (فَإِنَّمَا ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى رَجْعَتِهَا لِطُولِ زَمَان العِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الَّذِي لَهُ فِيهِ ارْتِجَاعُهَا).
وكما ذكرنا، فإن الطلاق في الحيض فيه إضرارٌ بالمرأة من جهة تطويل العدة عليها؛ لأن هذه الحيضة حينئذٍ زيادةٌ في العدة، بخلاف قِصَر العدة الموجود في طلاقها في طهر لم يمسَّها فيه، ولذا فإنه لا فرق في الخلع بين طلاقها في الحيض أو الطهر - كما سيأتي - لتباين الصورة الفقهية بينه وبين الطلاق من هذه الجهة.
* قوله: (وَأمَّا أَشْهَبُ
(1)
، فَإِنَّهُ إِنَّمَا صَارَ فِي هَذَا إِلَى ظَاهِرِ الحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ:"مُرْه، فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ"، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ المُرَاجَعَةَ كَانَتْ فِي الحَيْضَة، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أُمِرَ بِمُرَاجَعَتِهَا؛ لِئَلَّا
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 145) حيث قال: "إلا أشهب بن عبد العزيز قال يجبر على الرجعة في الحيضة الأولى ما لم تطهر منها".
تَطُولَ عَلَيْهَا العِدَّة، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ فِي الحَيْضَةِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهَا بِإِجْمَاعٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُرَاجِعُهَا فِي غَيْرِ الحَيْضَةِ، كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا أَطْولَ، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَ الحَيْضَةِ، فَسَبَبُ الاخْتِلَافِ: هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي عِلَّةِ الأَمْرِ بِالرَّدِّ).
فالمالكية: يرون أن الطلاق ينبغي ألا يقع إلا بعد انتهاء العدة.
والحنفية: يرون إِتْبَاعَ الطلاق بطلاقٍ، بمعنى: أنها تُطَلَّقُ طلقةً، فإذا طَهُرَت طُلِّقَت طلقةً أخرى، فإذا طَهُرَت طُلِّقَت طلقةً ثالثةً.
أما الشافعية والحنابلة: فيرون أن مَن طَلَّقَ في الطهر الأول مُطَلِّق للسنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّالِثُ فِي الخُلْعِ)
دلالة لفظ الخلع:
مشتقة من (خَلَعَ يَخْلَعُ)، والأصل في المصدر أن يكون فعلًا.
فهذا هو المعنى الحِسِّي لِلخَلْعِ، كأن تقول: خَلَعَ ثَوْبَه، يَخْلَعَه، خَلْعًا
(1)
.
بينما ضُمَّت فاء الكلمة هاهنا تخصيصًا للمعنى المعنوي الموجود في
(1)
بمعنى: نزع. يُنظر: "تهذيب اللغة"(1/ 115).
فراق الزوج امرأته عن المعنى الحسّي الموجود في خَلع الثياب والنعال ونحوها، كما قال أهل العلم
(1)
.
دليل مشروعيته من القرآن والحكمة منه:
لا شكَّ أن الإسلام حريصٌ على بقاء الزواج، وعلى دوام المودة والرحمة بين الزوجين، لما فيه من استقامة المجتمع بإقامة الأسرة الكريمة الرشيدة وإعداد الرجال الصالحين والنساء الصالحات في المجتمع، وإذا دبَّ الخلاف والنزاع بين الزوجين فلا ينبغي للزوج أن يتعجَّل وأن يبادرَ إلى الطلاق، وإنما بَيَّنَ الله تعالى الطريق السَّوِيَّ الذي ينبغي العمل به حينئذٍ في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].
فالمبدأ العام في ذلك هو قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، فإن لم يكن للصلح من سبيلٍ فكما قال تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، وكذلك قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
ولا شَكَّ أنه لا يجوز لمؤمنةٍ تخاف الله سبحانه وتعالى أن تطلب من زوجها أدن يخالعها دون سببٍ، وإنما يجوز لها هذا إن كان هناك عيبٌ في خِلقةٍ أو في خُلقٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"أيّما امرأة سألَت زَوْجَها طلاقها من غير ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة"
(2)
، ولفظ:(أيّما) من صِيَغِ العموم
(3)
، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"المختلعات والمنتزعات هن
(1)
قال ابن مودود في "الاختيار لتعليل المختار"(3/ 156): "إزالة الزوجية بما تعطيه من المال، وهو في إزالة الزوجية بضم الخاء، وإزالة غيرها بفتحها، كما اختص إزالة قيد النكاح بالطلاق وفي غيره بالإطلاق".
(2)
أخرجه أبو داود (2226) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2035).
(3)
يُنظر: "البحر المحيط"، للزركشي (4/ 105)، وفيه قال:"وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو منصور البغدادي، والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين في باب التأويلات من "البرهان" في قوله: "أيما امرأة أنكحت نفسها"، وابن الصباغ وسليم الرازي =
المنافقات"
(1)
؛ لأن هذا الفعل من الزوجة دون سببٍ فيه إنكارٌ للمعروف وكفرٌ بالعشير، أما إذا كان هناك ضررٌ يلحق بالمرأة فيجوز لها طلب الخُلع حينئذٍ، كأن يكون سيّئ الخُلُق يضربها وَيَسُبُّها، أو رقيق الدِّين، أو دَمِيمَ الخِلقة ومثل ذلك.
كما أنه لا يجوز للزوج أن يقصد إلى الإضرار بزوجته كأن يشدد عليها في النفقة أو يسيء معاملتها لِيُلْجِئَهَا إلى طلب المخالعة وافتداء نفسها بغرض الخصول منها على ما قد أعطاه لها.
وكلُّ هذا من التوازن الذي مَيَّزَ هذه الشريعة الإسلامية، بحيث قد أعطَت لكلٍّ من الؤوجين حقوقه كاملةً، فكما أن الزوج مطالَبٌ بواجباتٍ يؤديها لزوجته فالزوجة كذلك مطالَبةٌ بواجباتٍ تجاه الزوج.
شواهد الخُلع من السُّنة:
قصة ثابت بن قيس بن شماس عندما شَكَت زوجته جميلةُ أمْرَها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: "لا أعتب" - وفي رواية: "لا أنقم"
(2)
، وفي رواية:"لا أعيب"
(3)
- "على ثابتٍ في خُلقٍ ولا دِينٍ، ولكني امرأةٌ أكره الكفر بالإسلام"
(4)
، فقال لها صلى الله عليه وسلم:"أترُدِّين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. فأمَرَه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة وأن يطلِّقَها، وقد جاء في بعض الروايات صلى الله عليه وسلم أَمَرَها كذلك أن تعتدَّ بحيضةٍ.
= والقاضيان أبو بكر وعبد الوهاب والإمام الرازي والآمدي والهندي وغيرهم، قالوا:"ويصلح للعاقل وغيره". قال القاضي عبد الوهاب في "التلخيص": "إلا أنها تتناول على وجه الإفراد دون الاستغراق، ولهذا إذا قلت: أي الرجلين عندك؟ لم يجب إلا بذكر واحد".
(1)
أخرجه النسائي (3461)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(632).
(2)
أخرجه البخاري (5276).
(3)
أخرجه النسائي (3463).
(4)
أخرجه البخاري (5273).
ومن شواهده كذلك قول عليٍّ رضي الله عنه للحكمين: "إن شئتما جمعتما وإن شئتما فرقتما"
(1)
.
وكذلك قول عثمان رضي الله عنه عندما أرسل عبد الله بن عباس ومعاوية بن أبي سفيان حَكَمَين بين عقيل بن أبي طالب وزوجته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، حيث قال لهما:"إن شئتما فرقتما"
(2)
.
هل الحَكَمان هما الوكيلان أم غيرهما؟
على خلافٍ في ذلك، فبعض أهل العلم يرى أنهما الوكيلان، وبعضهم يرى غير ذلك؛ فالذين قالوا بأنهما الوكيلان احتجوا بنصّ الآية:{فَابْعَثُوا حَكَمًا} [النساء: 35]، ولفظ:(حَكَم) صفةٌ مشبَّهةٌ على وزن (فَعَل)، فتدلّ على الثبات والدوام، بخلاف لفظ:(حَاكِم) على وزن (فاعل) الذي يدلّ على التجدد والحدوث، ومن المعلوم عند أهل اللُّغة أن الصفة المشبَّهَة أقوى من اسم الفاعل
(3)
.
* قوله: (وَاسْمُ الخُلْعِ وَالفِدْيَةِ وَالصُّلْحِ وَالمُبَارَأَةِ كُلُّهَا تَؤُولُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ: بَذْلُ المَرْأَةِ العِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا، إِلَّا أَنَّ اسْمَ الخُلْعِ
(1)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(10/ 293) ولفظه: "إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا" وصححه ابن الملقن في "البدر المنير"(5318).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 306) وفيه: "إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما".
(3)
انظر: "شرح الرضي على الكافية"(3/ 431)، وفيه:" (قال ابن الحاجب:) (الصفة المشبهة: ما اشتق من فعل لازم، لمن قام به على معنى) (الثبوت)، (قال الرضي:) قوله: (من فعل)، أي: مصدر، قوله: (لازم)، يخرج اسمي الفاعل والمفعول المتعديين، قوله: (لمن قام به)، يخرج اسم المفعول اللازم المعدَّى بحرف الجر، كمعدول عنه، واسم الزمان والمكان والآلة، قوله: (على معنى الثبوت)، أي: الاستمرار واللزوم، يخرج اسم الفاعل اللازم، كقائم وقاعد، فإنه مشتق من لازم لمن قام به، لكن على معنى الحدوث".
يَخْتَصُّ بِبَذْلِهَا لَهُ جَمِيعَ مَا أَعْطَاهَا، وَالصُّلْحَ بِبَعْضِهِ، وَالفِدْيَةَ بِأَكْثَرِهِ، وَالمُبَارَأَةَ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ عَلَى مَا زَعَمَ الفُقَهَاءُ).
فالخُلعُ مأخوذٌ من الفراق، يقال:(خَلَعَ الإنسانُ ثوبَه) بمعنى: نَزَعَهُ
(1)
، والله تعالى يصف الزوجين فيقول {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، فكأنه بالخُلع يكون هذا اللباس قد نُزِعَ.
أما الفدية؛ فلأن اللهَ تعالى سَمَّى رَدَّ الزوجة لزوجها ما أعطاها إيَّاه فديةً، فقال تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .
وأما الصُّلح؛ فلأنه فيه صورة العِوَضِ؛ حيث إنهما يتصالحان فيه على مالٍ.
وأما المبارأة؛ فلأنها إذا دَفَعَت له شيئًا بَارَأَها، بمعنى: أنه خَلَعَهَا، وكذلك أن المرأة قد يكون لها دَينٌ أو حقٌّ على الزوج فتُبرِئه منه.
لكن المشهور عند الفقهاء هو تعريفه باسم الخُلع.
فالخلع: هو أن يَصطَلِحَ الزوجان على مالٍ يُدفَع من أجل إتمام الفُرقة بينهما.
* قوله: (وَالكَلَامُ يَنْحَصِرُ فِي أُصُولِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الفِرَاقِ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ).
وهذا الكتاب - كما ذكرنا - أشبه بكتب القواعد؛ لأن منهج المؤلف فيه هو الاقتصار على ذكر أمهات المسائل، أما الفروع فلا يتناولها إلا قليلًا.
* قوله: (فِي جَوَازِ وُقُوعِهِ أَوْ لَا).
بمعنى: هل يقع الخلع أم لا؟
(1)
يُنظر: "تهذيب اللغة"(1/ 115).
والجواب: نعم؛ لِمَا ثَبَتَ في ذلك من الكتاب والسنة.
* قوله: (ثُمَّ ثَانِيًا: فِي شُرُوطِ وُقُوعِهِ - أَعْنِي: جَوَازَ وُقُوعِهِ).
والمراد هاهنا هو ما إذا كان وقوعه جائزًا أم لا، هاذا كان جائزًا فهل يقتصر على ردّ الزوجة ما أعطاها الزوج فقط أم لها أن تزيد لتتخلص منه؟
وهو محلّ خلافٍ، فقد حَدَثَ هذا وحَدَثَ ذاك.
* قوله: (ثُمَّ ثَالِثًا: فِي نَوْعِهِ، أَعْنِي: هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟).
فبعض العلماء ذهب إلى أنه طلاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "طلقها طلقةً"، وبعضهم ذهب إلى أنه فسخ؛ لِمَا أُثِرَ عن عبد الله بن عباس أنه قال:"هو تفريق لا طلاق"
(1)
.
* قوله: (ثُمَّ رَابِعًا: فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الأَحْكَامِ).
فهناك أحكامٌ تتعلق به.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي جَوَازِ وُقُوعِهِ
فَأَمَّا جَوَازُ وُقُوعِهِ: فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ العُلَمَاءِ).
بل لم ينازع في ذلك إلا مَن شَذَّ، فلا يُعتَدُّ برأيه
(2)
(1)
سيأتي.
(2)
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(6/ 76): "أجمع الجمهور منهم أن الخلع والفدية والصلح أن كل ذلك جائز بين الزوجين في قطع العصمة بينهما، وأن كل ما أعطته =
* قوله: (وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ الكِتَابُ وَالسُّنَّة، أَمَّا الكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ الكُفْرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً" خَرَّجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ البُخَارِيّ، وَأَبُو دَاوُدَ
(1)
، وَالنَّسَائِيُّ
(2)
، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).
هذا هو لفظ رواية البخاري، وهناك رواياتٌ أخرى متعددة، جاء في بعضها أنها حبيبة بنت سهلٍ
(3)
، وجاء في بعضها الآخر أنها جميلة بنت أُبيّ بن سلول
(4)
المنافق، ولكن جميلة كانت مؤمنةً حسنة الدين، وكانت تحت ثابت بن قيس بن شماس.
= على ذلك حلال له إذا كان مقدار الصداق فما دونه وكان ذلك من غير إضرار منه بها ولا إساءة إليها، إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه شذ فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئًا على حال من الأحوال".
(1)
أخرجه أبو داود (2228) بغير هذا اللفظ، عن عائشة، أن حبيبة بنت سهل، كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر بعضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، فاشتكته إليه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثابتًا، فقال:"خذ بعض مالها، وفارقها"، فقاق: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم"، قال: فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خذهما وفارقها"، ففعل.
(2)
أخرجه النسائي (3489).
(3)
هي رواية أبي داود المتقدمة.
(4)
أخرجه ابن ماجه (2056) عن ابن عباس، أن جميلة بنت سلول، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أعتب على ثابت في دين، ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضًا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته، ولا يزداد.
قال الصنعاني في "فتح الغفار"(3/ 1519): "ورجاله رجال الصحيح".
وبعض الروايات ذكرَت أن ثابتًا قد ضَرَبَها فكَسَرَ يدها
(1)
، وبعضها ذكرَت أنه كَسَرَ ضلعها.
والشاهد: أن هذه الصحابية الجليلة حصل خلافٌ بينها وبين زوجها، فلم تكن منكرة للعشير أو ما أشبه ذلك، ولذا فإنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم:"لا أعتب" وفي بعض الروايات: "لا أنقم"
(2)
، وبعضها:"لا أعيب على ثابت في خُلقٍ ولا دِينٍ، ولكن أكره الكفر بعد الدخول في الإسلام"
(3)
، فلم يكن مأخذها على زوجها يتعلق بدينه ولا خُلقه، فهو من خير الصحابة ومن المشهود لهم بالجنة، ولكنها بَيَّنَت العلة من طلبها الخُلع.
وقد جاء في بعض الووايات: أنه كان دميم الخِلقة
(4)
، وأنها كانت امرأةً جميلةً، فَشَكَتْ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في بعضها الآخر أنها رَفَعَت الخمار الذي هي فيه فَرَأَتْ مجموعةً من الرجال فَقَلَّ في عينها شَكْلُ زوجها وقِصَرُه، فخافت على نفسها من الفتنة بسبب ذلك.
أما قولها: "أكره الكفر بعد الدخول في الإسلام"
(5)
. فيُحتَمَل أن يكون معناه: هو كُفران العشير، يعني: أنها تخاف أن تكفر عِشْرته وتُنكِر فضله فلا تقوم له بحقوقه في الفراش، فتقع فيما حَذَّرَ منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"عُرضَت علَيَّ النارُ فرأيتُ أكثرها النساء". قيل: أيكفرن بالله يا رسول الله؟ فقال: "لا، وإنما يكفرن العشير، فلو أحسنْتَ إلى إحداهن الدهر كلَّه ثم رأقا منكَ شيئًا لقالت: والله ما رأيتُ منكَ خيرًا قَطُّ"
(6)
.
(1)
هي رواية أبي داود المتقدمة.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
هي رواية ابن ماجه المتقدمة.
(5)
تقدم.
(6)
أخرجه البخاري (29)، ومسلم (907).
فينبغي للمؤمنات أن تنتبهن لهذا الأمر، وأن تدركن عِظَم حقوق الأزواج عليهن.
فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا ثابتًا وعَرَضَ عليه أن ترد له ما أَخذَت منه، فقال ثابتٌ: أَوَيَصِحُّ ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم". فقال: إني كنت قد أَصدَقتُها حديقتين. فأمرَها الرسول أن تردها إليه.
أما قول المؤلف: "وهو حديثٌ متفَقٌ على صحته"، فهذا ربما أَوهَمَ أن الحديث أخرجه الشيخان، بينما الحديث أخرجه البخاريُّ دون مُسلِمٍ، فكان الأجدر في حق المؤلف أن يقول:(وهو حديثٌ صحيحٌ)، أو:(أخرجه البخاري)، فكل هذا يكفي في بيان قوة الحديث؛ إذ لا شكَّ أن أصح كتابٍ بعد كتاب الله تعالى هو صحيح البخاري.
تشاجر قوم في البخاري ومسلمٍ
…
فقالوا: أيُّ ذَيْن تقدم
(1)
فقلت: لقد فاق البخاريُّ صحة
…
كما فاق في حُسن الصناعة مسلم
فقوله: (متفق على صحته)، ليس مراده منه أنه أخرجه البخاري ومسلم، فمسلم لم يخرِّجْه، وإنما أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد وبعض أصحاب السنن وأصحاب المسانيد
(2)
، وهنا كثيرٌ من الأحاديث الصحيحة لم تُخَرَّج في "الصحيحين"، وبعضها يكون على شرط الشيخين كذلك.
* قوله: (وَشَذَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المُزَيْنِيُّ عَنِ الجُمْهُورِ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] الآيَةَ، وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَأَمَّا بِرِضَاهَا فَجَائِزٌ).
(1)
يُنظر: "سبل السلام" للصنعاني (1/ 16).
(2)
تقدم.
قوله: (أبو بكر) فيه نظرٌ، فإن اسمه (بكر بن عبد اللّه المزيني)
(1)
.
وبكر بن عبد الله المزيني لم يشذَّ عن الجمهور فقط كما ذكر المؤلف، وإنما شذَّ عن كافة أهل العلم
(2)
، وانفرد بهذا القول، فصار قوله شاذًّا لمخالفته الإجماع، بخلاف ما يكون من المخالفة للجمهور، فقد يكون القول المخالِف للجمهور هو الصحيح.
وبكر بن عبد اللّه المزيني قد استدلَّ بقول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [لنساء: 25، 21]. فاستدلَّ بهذه الآية على عدم أخذ الزوج من الزوجة شيئًا، وانفرَدَ بدعوى أن هذه الآية ناسخةٌ للآية الأخرى في قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
ولا شكَّ أن هذا الفهم يخالف الفهم الذي أَجمَعَ عليه كافَّة أهل العلم قاطبةً، من أنَّ آية سورة النساء تتناول زَجْرَ الزوج عن الطمع فيما أعطاه ووهبه لزوجته من الصداق، فليس له أن يأخذ شيئًا منه إلا برضا الزوجة، أما في المُخالَعَةِ فهناك تَبايُنٌ في الصفة والصورة.
وأمَّا النسخ فلا شكَّ أنه يحتاج إلى معرفة السابق من اللاحق، كما أنه لا يُلجَأ إليه إلا بعد تَعَذُّر الجمع بين الأدلة، والجمع ممكِنٌ هاهنا غير متعذر، فلا نَسْخَ بين الآيتين في حقيقة الأمر.
وقد رَدَّ أهلُ العلم هذا القول واعتبروه من الشذوذ وأجابوا عنه.
* قوله: (فَسَبَبُ الخِلَافِ: حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ أَوْ عَلَى خُصُوصِهِ).
والصحيح في هذا أنه يُحمَل على الخُصوصِ لا العُمومِ.
(1)
كما ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"، وتقدم.
(2)
تقدم.
[الفَصْلُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ وُقُوعِه]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (فَأَمَّا شُرُوطُ جَوَازِهِ فَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى القَدْرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ، وَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ، وَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى الحَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا، وَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الخُلْعُ مِنَ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِهِنَّ مِمَّنْ لَا تَمْلِكُ أَمْرَهَا، فَفِي هَذَا الفَصْلِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ).
فالخُلع ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع، ولم يخالف في ذلك - كما ذكرنا - إلا مَن لا يُعتَدّ برأيه لِمَا يعتريه من الشذوذ، فالصحابة رضي الله عنهم فعلوه، حيثُ لم تقتصر الآثار الواردة في ذلك على ما جاء من خبر حبيبة أو جميلة فقط، وإنما جاء كذلك في عهد عثمان في قصة الصحابية الربيع بنت معوذ إحدى من رَوينَ الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن خبر الربيع حجةٌ للقائلين بجواز الزيادة في ما ترده المختلعة على زوجها؛ لأن الربيع أعطته ما أعطاها إياه وزيادة عليه
(1)
.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: أَمَّا مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْتَلِعَ بِهِ،
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 315) قالت: تزوجتُ ابن عم لي فشقي بي وشقيت به، وعَنِيَ بي وعَنَيْت به، وأني استأديت عليه عثمان رضي الله عنه، فظلمني وظلمته، وكَثَّر عليَّ وكَثَّرت عليه، وإنها انفلتت مني كلمة: أنا أفتدي بمالي كله لقد قبلت، فقال عثمان رضي الله عنه: خذ منها. قالت: فانطلقت فدفعت إليه متاعي كله إلا ثيابي وفراشي، وإنه قال لي: لا أرضى، وإنه استأداني على عثمان رضي الله عنه، فلما دنونا منه، قال: يا أمير المؤمنين: الشرط أملك، قال: أجل، فخذ منها متاعها كله حتى عقاصها، قالت: فانطلقت فدفعت إليه كل شيء، حتى أجفت بيني وبينه الباب.
فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
، وَالشَّافِعِيَّ
(2)
، وَجَمَاعَةً
(3)
قَالُوا: جَائِزٌ أَنْ تَخْتَلِعَ المَرْأَةُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَصِيرُ لَهَا مِنَ الزَّوْج فِي صَدَاقِهَا إِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، وَبِمِثْلِهِ، وَبِأَقَلَّ مِنْه، وَقَالَ قَائِلُونَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ ثَابِتٍ، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِسَائِرِ الأَعْوَاضِ فِي المُعَامَلَاتِ رَأَى أَنَّ القَدْرَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الرِّضَا. وَمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الحَدِيثِ لَمْ يُجِزْ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ رَآهُ مِنْ بَابِ أَخْذِ المَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ).
أولًا: القائلون بالجواز:
وهذا القول ذهب إليه الأئمة الأربعة؛ أبو حنيفة
(4)
، ومالك، والشافعي، وأحمد
(5)
، فكلهم أجاز إعطاء المرأة زَوْجَها زيادةً على ما أعطاها إياه، وكلهم كذلك قال باستحباب ألا يأخذ الرجل إلا ما أعطاه، وتفصيل ذلك كالآتي:
أبو حنيفة والشافعي: أجازاه، ولم يَرَيَا به بَأسًا.
(1)
يُنظر: "أسهل المدارك شرح إرشاد السالك" للكشناوي (ص 120) حيث قال: "يصح الخلع بقدر ما أعطاها من الصداق أو أكثر أو أقل منه كما تقدم".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 241) حيث قال: "وهو جائز على الصداق وغيره ولو كان أكثر منه".
(3)
هم الحنفية والحنابلة وسيأتي مذهبهم.
(4)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 157) حيث قال: "وإن أخذ منها أكثر مما أعطاها حل له".
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 83) حيث قال: " (وإن نشزت لا)، أي: لا يكره له الأخذ إذا كانت هي الكارهة أطلقه فشمل القليل والكثير، وإن كان أكثر مما أعطاها".
(5)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 398) حيث قال: "ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. فإن فعل: كره، (وصح) هذا المذهب. نص عليه. وعليه جماهير الأصحاب".
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 219) حيث قال: " (ولا يستحب له)، أي: الزوج (أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها) صداقًا (فإن فعل) بأن أخذ منها أكثر مما أعطاها (كره) ".
أحمد: أجازه مع الكراهة.
مالك: أجازه، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس من مكارم الأخلاق عنده.
والذي نراه أن النفس فيها شيءٌ من هذا، فالمسلم من شأنه الاقتصار على حقِّه وعدم التطلع إلى ما زاد عليه.
وقد استدلَّ أصحاب هذا القول بعموم رفع الجناح في قول الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، فاحتجّوا بالآية على عدم الإثم سواء أخذ ما أعطاها أو أقل منه أو أكثر.
واستدلُّوا كذلك بقصة الربيع بنت معوذ في عهد عثمان رضي الله عنهما عندما اختلعت من زوجها، ولم يترك لها إلا عقاص رأسها، ورفعوا ذلك إلى عثمان فأقره
(1)
.
ثانيًا: القائلون بالمنع:
وقد حُكِي ذلك عن بعض التابعين كعطاء، والزهري، وطاوس، وعمرو بن شعيب
(2)
، وعن بعض الفقهاء كالأوزاعي
(3)
.
وقد استدلَّ هذا الفريق على قوله بأن من تجاوَزَ حقّه يكون متعدِّيًا، واللّه تعالى يقول:{وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 195].
واستدلُّوا كذلك برواية سنن الدارقطني لقصة جميلة امرأة ثابت بن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 119) عن ابن عمر، أن الربيع اختلعت من زوجها، فأتى عمها عثمان، فقال:"تعتد بحيضة".
(2)
يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (19/ 230) حيث قال:"قالت طائفة: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها. كذلك قال طاوس، وعطاء، والزهري، وعمرو بن شعيب".
(3)
يُنظر: "الأوسط"، لابن المنذر (19/ 230) حيث قال:"قال الأوزاعي: كانت القضاة لا تجيز في الخلع أن يأخذ إلا ما ساق إليها".
قيس أنها عندما سألها الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتَرُدِّين عليه حديقته؟ "، قالت: نعم، وزيادة. فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم:"أما الزِّيادة فلا"
(1)
.
وهي رواية صحيحة، فأخذوا من ظاهر الحديث عدم جواز أخذ الزوج أكثر مما أعطاه.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا صِفَةُ العِوَضِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
(2)
، وَأَبَا حَنِيفَةَ
(3)
يَشْتَرِطَان فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ، وَمَعْلُومَ الوُجُوبِ، وَمَالِكٌ
(4)
يُجِيزُ فِيهِ المَجْهُولَ الوُجُودِ وَالقَدْر المَعْدُومَ، مِثْلَ الآبِقِ
(5)
، وَالشَّارِدِ وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَالعَبْدِ غَيْرِ المَوْصُوفِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ الغَرَرِ وَمَنْعُ المَعْدُومِ)
(6)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(3/ 255) ورجال إسناده ثقات، وتعضتد صحته بشواهد له. يُنظر:"إرواء الغليل"(2537).
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 248) حيث قال: "فإن خالع على مجهول إلخ) شمل ما لو خالع على معلوم ومجهول فإن المعتد فساد المسمى كله".
(3)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 78) حيث قال: "وأما إذا ذكر مالًا جهولًا بأن قال: اخلعي نفسك بمال، فقالت: اختلعت نفسي بألف درهم لا يتم الخلع".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 348) حيث قال: " (و) جاز الخلع (بالغرر) (كجنين) في بطن حيوان تملكه فإن كان في مدك غيرها أو أنفش الحمل فلا شيء له وبانت (وغير موصوف) من عرض أو حيوان أو ثمرة لم يبد صلاحها وعبد آبق وبعير شارد أو بأجل مجهول".
(5)
"أبق": هرب، يقال: العبد يأبَق ويأبِق بفتح الباء وكسرها، وفي لغة: يأبُق بالضم إباقًا إذا هرب، وتأبق إذا استتر. وقيل: احتبس. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 3).
(6)
انظر: "المبسوط"، للسرخسي (8/ 10)، وفيه قال: "وإن كاتبها عدى ألف درهم إلى العطاء أو الدياس أو إلى الحصاد أو إلى نحو ذلك مما لا يعرف من الأجل جاز ذلك استحسانًا، وفي القياس لا يجوز؛ لأن عقد الكتابة لا يصح إلا بتسمية البدل كالبيع وهذه الآجال المجهولة إذا شرطت في أصل البيع فسد بها العقد فكذلك الكتابة ولكنه استحسن، فقال: الكتابة فيما يرجع إلى البدل بمنزلة العقود المبنية على التوسع في البدل كالنكاح، والخلع ومثل هذه الجهالة في الأجل لا يمنع صحة=
أما هذه المسألة فإن آراء العلماء متقاربةٌ فيها، وجملة الأقوال فيها ثلاثة أقوال:
- مذهب الشافعي وأبي حنيفة: عدم جواز الجهالة والغرر في العوض.
- مذهب مالك: جواز جهالة الوجود والقدر والمعدوم، والمالكية - في حقيقة الأمر - قد توسَّعوا في هذا، والحنابلة
(1)
يوافقونهم في بعض هذه الصور لا في جميعها، فمجهول الوجود مثاله الحمل الذي في البطن، والذي لا يُتيَقَّن وجوده من عدم وجوده، وإذا وُجِدَ فإنه لا يُعرَف إذا كان يولد حيا أم ميِّتًا، ومثاله كذلك بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها، فهذه الثمرة قد تصيبها جائحة تذهب بها، وقد ورد في قصة البستان الذي أصابته جائحةٌ، فشكَا صاحبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرسول قال:"بِمَ يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حقٍّ؟! "
(2)
، ومن أمثلته كذلك الآبق، وهو الحبد الذي أَبِقَ - أي: فَرَّ - من سيده، وقد ورد تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا النوع من الأعواض، وكذلك الشارد، وهو الجمل الذي شَرَدَ من صاحبه.
- الرواية الأخرى عن الأحناف: فقد حُكِيَ عن الحنفية روايةٌ أخرى أنهم قالوا بجواز الجهالة، لكنهم لا يجيزون الغرر
(3)
.
= التسمية في الصداق فكذلك في الكتابة وهذا، لأن الجهالة المستدركة في الأجل نظير الجهالة المستدركة في البدل، وهو جهالة الصفة بعد تسمية الجنس فكما لا يمنع ذلك صحة التسمية في الكتابة فكذلك هذا".
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 403) حيث قال: " (ويصح الخلع بالمجهول). هذا المذهب. وعليه جماهير الأصحاب. قال في الفروع، وغيره: هذا المذهب. وجزم به في الوجيز، وغيره".
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 222) حيث قال: " (ويصح الخلع بالمجهول وبالمعدوم الذي ينتظر وجوده)، لأن الطلاق معنى يجوز تعليقه بالشرط، فجاز أن يستحق به العوض المجهول كالوصية".
(2)
أخرجه مسلم (3/ 1190).
(3)
سبق.
ومما ينبغي معرفته في حقيقة الأمر - كما سيأتي في باب البيع - أن البيع بالرغم من أنه يُشترَط فيه عدم الجهالة وعدم الغرر، وبالرغم من أن الجهالة والغرر هي عيوبٌ يُرَدُّ المبيع من أجل وجودها، إلا أن هناك بيوعًا يُتساهَل فيها؛ لأنها أمورٌ يصعب الوصول إلى حقيقتها، كما هو الحال في بيع الصبرة
(1)
، وكالخرص
(2)
، وكذلك كالتسامح في جهالة أساس البيت المبيع، لأن الإنسان يتعذر عليه أن يحفر ليتيقن من سلامة أساس البيت ونوعه.
وكذلك الحال في عوض الخُلع، فهناك أمورٌ ينبغي أن تكون معلومةً، فلا يجوز للزوجة المخالَعة على بعيرٍ شاردٍ أو عبدٍ آبقٍ، أو حملٍ في بطنٍ أو ثمرةٍ لم يَبْدُ صلاحُها، فمذهب المالكية والحنابلة متقاربٌ في هذه المسائل، إلا أن المالكية توسَّعوا فيها، أما الحنابلة فيفرقون فيها بين الجهالة اليسيرة والجهالة الفاحشة
(3)
.
* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: تَرَدُّدُ العِوَضِ هَاهُنَا بَيْنَ العِوَضِ فِي البُيُوعِ أَوِ الأَشْيَاءِ المَوْهُوبَةِ وَالمُوصَى بِهَا، فَمَنْ شَبَّهَهَا بِالبُيُوعِ اشْتَرَطَ فيه مَا يُشْتَرَطُ فِي البُيُوعِ وَفِي أَعْوَاضِ البُيُوعِ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالهِبَاتِ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ).
ونحن نقول بأنه تردُّد العوض بين البيع والنكاح؛ لأن النكاح هو الأقرب شبهًا بالخُلع، فالخُلع إنما هو حلّ القيد الذي أَوْجَدَهُ النكاح، ولذا فإنه لا ينبغي أن تكون فيه جهالة، أما الأشياء الموهوبة فهذه يتسامحون فيها، الآن الأصل في الهبة أنها عطيَّةٌ ومنحةٌ، فلا ضير في وجود الجهالة فيها.
(1)
"الصَّبْرَة": هي الكومة من الطعام المجتمعة على بعضها، والجمع: صُبَر. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 441).
(2)
أصل الخرص: إعمال الظن فيما لا يستيقن، ويخرصون النخل والثمار، يعني: يقدرون عدده أو كيله أو وزنه. يُنظر: "تهذيب اللغة"(7/ 61).
(3)
ستأتي هذه المسائل.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَ الخُلْعُ بِمَا لَا يَحِلُّ كَالخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ، هَلْ يَجِبُ لَهَا عِوَضٌ أَمْ لَا
(1)
، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: "لَا يسْتَحِقُّ عِوَضًا"، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: "يَجِبُ لَهَا مَهْرُ المِثْلِ").
أما الخمر والخنزير فلا شكَّ في تحريمهما، فالخنزير جاء تحريمه في قول الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، وكذلك في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، أما الخمر فمعلوم أنها كانت جائزةً في أول الأمر ثم جاء التدريج في تحريمها، ابتداءً من قول الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم جاء تحريمها وقت الصلاة في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ثم جاءت آية المائدة التي حَسَمَت كلَّ أمرٍ ورفَعَت كلّ خلافٍ، وبَيَّنَّت أن الخمر مُحَرَّمةٌ وأنها كبيرةٌ من الكبائر، في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، فالخمر والخنزير ثابتٌ تحريمهما بالكتاب والسُّنَّة.
(1)
ظاهر كلام المؤلف: أنهم اختلفوا هل للمرأة عوض أم لا، لكن الذي تكلم فيه الفقهاء هو ثبوت العوض للزوج لا للزوجة.
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل"(4/ 24) حيث قال: "إن خالعها على خمر تم الخلع ولا شيء له".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 117) حيث قال: "وإذا بطل العوض في الخلع مثل أن تخالع المرأة المسلمة على خمر أو خنزير فلا شيء للزوج والفرقة بائنة".
(4)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 248) حيث قال: " (إذا خالعها على خمر أو خنزير أو حر أو ميتة أو مغصوب أو ما لا يقدر على تسليمه) أو ما لم يستقر ملكه عليه
…
فله مهر المثل".
فالعلماء تكلَّموا فيما إذا وَقَعَ الخُلعُ بعِوَضٍ محرَّمٍ كالخمر والخنزير، فاتفقوا على عدم جوازه، ولكن الخلاف بينهم فيما إذا كان الزوج حينئذٍ يأخذ بدلًا عن هذا العوض المحرَّم أم لا.
وبيان أقوال العلماء في هذه المسألة كالتالي:
- مذهب الشافعي: أنه يأخذ حينئذٍ مهر المثل؛ لأنه قد خالَعَها في الأصل على شيءٍ، فله أن يُعطَى ما دَفَعَه لها في الأصل، وهو مهر المثل.
- مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد
(1)
: أنه ليس للزوج أن يأخذ بدلًا؛ لأن المخالَعة قد وقعَت على أمرٍ فاسدٍ.
ومذهب الجمهور هاهنا تجد فيه أصلًا من أصول الشريعة، وهو المعامَلة بنقيض القصد؛ لأنه في الأصل قد قَبِلَ أن يتقاضَى عِوَضًا مُحرَّمًا كالخمر والخنزير.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الحَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الخُلْعُ مِنَ الَّتِي لَا يَجُوزُ: فَإِنَّ الجُمْهُورَ
(2)
عَلَى أَنَّ الخُلْعَ جَائِزٌ مَعَ التَّرَاضِي إِذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبُ رِضَاهَا بِمَا تُعْطِيهِ إِضْرَارَهُ بِهَا).
أما الخلع مع التراضي فلا شكَّ في جوازه، بخلاف حالة الإكراه
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (623) حيث قال: " (وهو) أي: الخلع (على محرم يعلمانه كخمر، وخنزير ك) خلع (بلا عوض) فلا شيء له".
(2)
مذهب المالكية: ينظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 53) حيث قال: " (إذا لم يكن) الافتداء ناشئًا (عن ضرر بها) غير شرعي (فإن كان) مسببًا (عن ضرر) أوقعه (بها) فلا يفوز به و (رجعت) عليه (بما أعطته) له (ولزمه الخلع) بعد إثباتها الضرر) ".
ومذهب الشافعية: ينظر: "أسنى المطالب " لزكريا الأنصاري (3/ 241) حيث قال: " (وإن أكرهها) بالضرب ونحوه (على الخلع)، أي: اختلاعها فاختلعت (لم يصح) للإكراه (ووقع) الطلاق (رجعيًّا إن لم يسم المال) ".
ومذهب الحنابلة: ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 213) حيث قال: " (وإن عضلها، أي: ضارها بالضرب والتضييق عليها أو منعها حقوقها من القسم والنفقة ونحو ذلك) كما لو نقصها شيئا من ذلك (ظلمًا لتفتدي نفسها فالخلع باطل) ".
فهي التي لا تجوز، كأن يُكرهَ الزوج امرأته على اللجوء إلى ذلك، بأن يؤذيها بالضرب أو الإهانة، أو يُضيِّق عليها في معيشتها وما إلى ذلك فيضطرها إلى طلب المخالَعة منه، لكن من جانبٍ آخر فإنه لا يجوز للزوجة أن تطلب المخالَعةَ دونما سببٍ.
* قوله: (وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]).
فالآية واضحةٌ في ذلك، والاستثناء في الآية المراد به أن يجدها على فاحشةٍ، ولذلك قال بعض العلماء بعدم جواز الخلع إلا أن يجدها على فاحشة، وهو قولٌ شاذٌّ سنتعرض للحديث عنه.
* قوله: (وَشَذَّ أَبُو قِلَابَةَ، وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ
(1)
، فَقَالَا:"لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ الخُلْعُ عَلَيْهَا حَتَّى يُشَاهِدَهَا تَزْنِي، وَحَمَلُوا الفَاحِشَةَ فِي الآيَةِ عَلَى الزِّنَا").
المشهور أن الذي شذَّ مع أبي قلابة في هذه المسألة هو ابن سيرين، فهذا هو القول الشاذ المشهور عنهما، وهناك قول آخر لأهل الظاهر، وسيتعرض المؤلف للأقول الخمسة في آخر هذه المسألة.
* قوله: (وَقَالَ دَاوُدُ
(2)
:"لَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ الخَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ عَلَى ظَاهِرِ الآيَةِ").
(1)
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(6/ 79) حيث قال: "ولهذا قال أبو قلابة ومحمد بن سيرين: لا يحل للرجل الخلع حتى يجد على بطنها رجلًا".
ونقله عن الحسن ابنُ جُزَيٍّ، فقال:"وقال الحسن لا يجوز حتى يراها تزني". انظر: "القوانين الفقهية"(ص: 154).
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 326) حيث قال: "الخلع مثل حديث سهلة، تكره الرجل فتعطيه المهر، فهذا الخلع. وهذا يدل على أنه لا يكون الخلع صحيحًا إلا في هذه الحال. وهذا قول ابن المنذر وداود".
فداود الظاهري عَلَّقَ جواز الخُلع بخشية الزوجين من عدم إقامة حدود اللّه في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، ومن المعلوم وقوف أهل الظاهر عند ظواهر النصوص وعدم التعمق في مدلولاتها.
* قوله: (وَشَذَّ النُّعْمَانُ
(1)
فَقَالَ: "يَجُوزُ الخُلْعُ مَعَ الإِضْرَارِ").
فأبو حنيفة النعمان على هذا القول وأن فاعِلَه عاصٍ آثمٌ مرتكبٌ لمعصيةٍ مستحقٌّ للعقوبة، وأن المعاوضة التي حصلَت لا يجب أن تُرَدَّ، بخلاف جمهور العلماء فيرون أن على الزوج أن يردّ لامرأته ما أخذه منها.
ثم بعد ذلك يتناولون مسألة ما إذا كان هذا يُعتَبَر طلاقًا أم خُلعًا.
وكذلك ما إذا كان يجوز إتمام الخلع على غير عوض أم لا، وأنه يجوز إذا كان هناك اتفاقٌ بين الزوجين على ذلك.
* قوله: (وَالفِقْهُ أَنَّ الفِدَاءَ إِنَّمَا جُعِلَ لِلْمَرْأَةِ فِي مُقَابَلَةِ مَا بِيَدِ الرَّجُلِ مِنَ الطَّلَاقِ).
وهذه لفتةٌ طيبةٌ من المؤلف، فكأنه يريد أن يقول: إن الفقه لا يؤخَذ بظواهر الأمور، وإنما ينبغي على الفقيه أن يغوص في المسائل حتى يصل إلى حقيقتها وأن يستجمع كلَّ ما يتعلق بالمسألة، ثمَّ بعد ذلك يقرر قوله في المسألة.
فلا شكَّ في كون الطلاق بيد الرجل، وأن في ذلك حكمةً لله سبحانه الذي يعلم السرَّ وأخفى، كما قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، فالرجل عنده من الرَّوِيَّة والحكمة وبُعد النظر ما يحمله على عدم التسرُّع في مثل هذا القرار الخطير.
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(3/ 445) حيث قال: "والحق أن الأخذ إذا كان النشوز منه حرام قطعًا - {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} إلا أنه إن أخذ ملكه بسبب خبيث".
وجَعَلَ اللّهُ في مقابل ذلك مسلكًا للمرأة تفدي به نفسها إذا ضَيَّقَ عليها الزوج أو أرغَمَها أو إذا كرهَته كما في قصة جميلة امرأة ثابت بن قيس، فجَعَلَت لها الشريعة فداء نفسها بأن ترُدَّ إلى الزوج ما أخذَته منه مقابل أن يخالِعَها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الزوج كما أن له أن يوكل في الطلاق - كما في قصة فاطمة بنت قيس حين أرسل زوجها طلاقها ووكيله بشعيرٍ، فسخطَتهُ - فكذلك له أن يفوض المرأة في أن تخالع نفسها أو أن تطلق نفسها.
* قوله: (فَإِنَّهُ لَمَّا جُعِلَ الطَّلَاقُ بِيَدِ الرَّجُلِ إِذَا فَرَكَ المَرْأَةَ، جُعِلَ الخُلْعُ بِيَدِ المَرْأَةِ إِذَا فَرَكتِ الرَّجُلَ).
بمعنى: أنها إذا أبغضته ونفرت منه نفسها وقلبها فحينئذٍ يكون الخُلع مَخرَجًا لها من هذا الزواج، كما في قصة جميلة وقولها للرسول:"يا رسول الله إني لا أعيب على ثابت في دين ولا خُلق، ولكني امرأةٌ أَكرَهُ الكفر في الإسلام"، وقد بَيَّنَّا احتمالات معنى قولها:"أكره الكفر في الإسلام"، وأن ذلك قد يراد به كُفر العشير، وقد يراد به الخشية من الوقوع في المعصية لِمَا قد تَتَسَبَّب فيه كراهتها للزوج من عدم الوفاء له بحقوقه الواجبة.
أما إذا وقع الكُرهُ من الزوج فينبغي عليه ألا يضطرها إلى طلب الفراق، بل له أن يطلِّقَها ما دام الله قد وضع الطلاق في يده، أما إذا كان كُرهُه لها بسبب أخلاقها أو سوء معاملتها له فإن الله تعالى جَعَلَ حل هذه المشكلة بأن يُرسَلَ حَكم من أهله وحَكمٌ من أهلها، إن يريدا إصلاحًا يوفِّق اللَّهُ بينهما، فإذا انغَلَقَت الطرق أمامهما وتعذر الإصلاح فحينئذٍ يكون الطلاق.
* قوله: (فَيَتَحَصَّلُ فِي الخُلْعِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا)
(1)
.
(1)
تقدم.
وهو قول بكر بن عبد اللّه المزني، الذي وهم فيه المؤلف فسمَّاه أبا بكرٍ.
وقد بَيَّنَّ ضعْفَ ما ذهب إليه بكر المزني من القول بعدم جواز الخُلع، بل بَيَّنَّا ما فيه من الشذوذ.
* قوله: (وَقَوْلٌ إِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ - أَيْ: مَعَ الضَّرَرِ -).
وهو قول أبي حنيفة النعمان رحمه الله.
* قوله: (وَقَوْلٌ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَ مُشَاهَدَةِ الزِّنَا).
وهو القول المنسوب إلى أبي قلابة والحسن البصري.
* قوله: (وَقَوْلٌ: مَعَ خَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).
وهو قول داود الظاهري ومن معه.
* قوله: (وَقَوْلٌ: إِنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا مَعَ الضَّرَرِ، وَهُوَ المَشْهُورُ).
وهو رأي جماهير العلماء، والذي تدلُّ عليه عموم أدلّة الكتاب والسنة، فجمهور العلماء على عدم جواز أن يضطر الرجل امرأته إلى طلب الخُلع، وأبو حنيفة هو من يخالِف فيه ويقول بالجواز.
* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ؛ وَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ لَهُ الخُلْعُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ).
الخُلع - كما هو معلومٌ - يتطلب دَفْعَ معاوَضةٍ، وهناك من الناس مَن لا يجوز لهم التصرف في أموالهم، فهذه المسألة تبحث في هذا الشأن، بمعنى: مَن مِن الناس من يجوز له الخُلع؟ فهناك مِن الناس مَن هو سفيه يُحجَر عليه حَجْرَ المال، ومنهم المجنون والعاقل، ومنهم الصغير والكبير، فمَن مِن هؤلاء يجوز له الخلعِ ومَن منهم لا يجوز له؟ والذي لا يجوز له الخلع هل لوليه أن يخالِعَ نيابةَ عنه أم لا؟
* قوله: (فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَ الجُمْهُورِ أَنَّ الرَّشِيدَةَ تُخَالِعُ عَنْ نَفْسِهَا)
(1)
.
لأن ذلك حقٌّ من حقوقها وَهَبَهَا الله إياه، والدليل في ذلك: ما ورد في الكتاب، وكذلك ما ثبت في السُّنة في قصة جميلة وقصة حبيبة، وكذلك إقرار عثمان لِما كان في عهده مِن مخالَعة الربيع بنت معوذ زوجَها على أكثر مما أصدَقَها إياه.
* قوله: (وَأَنَّ الأَمَةَ لَا تَخَالِعُ عَنْ نَفْسِهَا إِلَّا بِرِضَا سَيِّدِهَا)
(2)
.
وهناك قَيدٌ عند الحنابلة
(3)
في مسألة الأَمَةِ لم يذكره المؤلف، فخبرة
(1)
يعني: لا خلاف عند كل من أجاز الخلع كما تقدم - وهو محل إجماع باستثناء خلاف المزيني - أن الرشيدة البالغة تخالع نفسها.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 161) حيث قال: "ولو اختلعت الأمة وأم الولد بإذن المولى لزمها للحال".
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 81) حيث قال: "وشمل الأمة، وأم الولد، ولكن بشرط إذن المولى فيلزمها للحال لانفكاك الحجر بإذن المولى فظهر في حقِّه كسائر الديون في الجامع لو خلع الأمة مولاها على رقبتها، وزوجها حر فالخلع واقع بغير شيء، ولو كان الزوج مكاتبًا أو عبدًا أو مدبرًا جاز الخلع، وصارت لسيد العبد".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (4/ 20) حيث قال: "لا تختلع أمة ولا أم ولد إلا بإذن السيد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 246) حيث قال: " (واختلاع المكاتبة بلا إذن) من سيدها (كالأمة)، أي: كاختلاعها (بلا إذن) لتعلق حقه بكسبها وما في يدها واختلاعها بالإذن كاختلاع الأمة بالإذن".
أما الحنابلة فخالفوا، وسيأتي مذهبهم.
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 390) حيث قال: "جزم المصنف هنا بصحة خلع الأمة بغير إذن سيدها. وجزم به الخرقي، وصاحب الجامع الصغير، والشريف، وصاحب الهداية، والمذهب، والمستوعب، والخلاصة، والمغني، والكافي، والترغيب، ومنتخب الأدمي. قال في "القواعد الأصولية": وهو مشكل؛ إذ المذهب: لا يصح تصرف العبد في ذمته بغير إذن سيده، وقيل: لا يصح بدون إذن سيدها كما لو منعها فخالعت. وهو المذهب".=
المؤلف بمذهب الحنابلة مستَمَدَّةٌ من كتاب الاستذكار لابن عبد البر، فإذا وَضَّحَ ابن عبد البَرّ مذهَبَ أحمد في المسألة ذَكَرَه المؤلف، أما إذا لم يذكُره ابن عبد البر فإن المؤلف لا يُورِدُهُ.
فالإمام أحمد يوافق الجمهور في أن الأَمَة لها المخالَعة بإذن سيدها، أما في حالة عدم إِذْنِ السيد فالحنابلة يجيزون لها المخالَعةَ في حالة عدم إذن السيد؛ لأنها عاقلةٌ رشيدةٌ كالحرة، ويُفَصِّلُون الكلام في العِوَض على النحو التالي:
القول الأول: أن العوض يبقى في ذمَّتها تُطالَبُ به إذا عتقَت.
القول الآخر: أنها لا تدفَع العِوَض؛ لأنها في الأصل لا تَملِكُ.
* قوله: (وَكَذَلِكَ السَّفِيهة مَعَ وَليِّهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى الحَجْرَ)
(1)
.
فالسفيهة والمجنونة والصغيرة لا يجوز لهم المخالَعة إلا بإذن أوليائهم.
وهناك مسألةٌ لم يتعرض لها المؤلف، وهي ما يتعلق بالرشيدة المُفلِسَةِ، فالعلماء يرون أنها لها أن تخالِعَ، وأن العوض يبقى في ذمَّتها تُتْبَع به إذا أَيْسَرَت.
= ينظر المشهور في: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 215) حيث قال: " (و) إن خالعته الأمة (بإذنه)، أي: إذن السيد (يصح) الخلع كالبيع (ويكون العوض) الذي أذن لها في الخلع عليه (في ذمته)، أي: السيد (كاستدانتها بإذنه) فيطالب به".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 81) حيث قال: "ولزمها المال إن لم تكن مريضة مرض الموت، ولا سفيهة، ولا مكرهة لكان أولى لأن المحجورة بالسفه لو قبلت الخلع وقع، ولا يلزمها المال".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (ص 105) حيث قال: "إن خالع سفيهة أو قال: طلقتك على ألف فقبلت طلقت رجعيًّا، فإن لم تقبل لم تطلق".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 214) حيث قال: " (وليس لأب خلع ابنته الصغيرة) أو المجنونة أو السفيهة بشيء من مالها (ولإطلاقها بشيء من مالها)؛ لأنه إنما يملك التصرف بما لها فيه الحظ".
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: "يُخَالِعُ الأَبُ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ كَمَا يُنْكِحُهَا")
(1)
.
فالإمام مالكٌ وكذلك الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه قد قاسَا مخالعةَ الأب ابنته الصغيرة على إنكاحه إيَّاها، فقالا: إنه يجوز له أن يخالعها كما يجوز له أن يُنكِحَها، وقد سَبَقَ في باب النكاح أن الأيِّمَ أحقّ بنفسها من وليِّها، وأن البِكر تُستَأمَر وأن إذنها صُماتُها، وذَكَرْنَا قصة المرأة التي اشتكت للرسول صلى الله عليه وسلم أن أباها زَوَّجَها لابن أخيه كي يَرفَعَ بها خسيسَتَه، فَخَيَّرَها الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فرَضيَت به، وقالت:"أَرَدْتُ أن أُبَيِّنَ ما للنساء مِن حقوق".
* قوله: (وَكَذَلِكَ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ يُطَلِّقُ عَلَيْهِ).
وكذلك يرى الإمام مالكٌ والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أن الأب له أن يُطلِّق على ابنه الصغير إذا رأى المصلحة في ذلك، وأن يخالِع عنه، وخالَفهم الجمهور في ذلك القول - وهم الأحناف والشافعية والرواية الأخرى عن أحمد - فقالوا: ليس له ذلك، واستدلُّوا على عدم الجواز بحديث:"الطلاق لمن أخذ بالساق"
(2)
، وهو حديثٌ فيه كلامٌ ونقاشٌ
(3)
،
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 21) حيث قال: "للأب أن يخالع عن ابنته الصغيرة بإسقاط كل المهر وإن خالع به عنها بعد البناء قبل بلوغها جاز عليها وله أن يزوجها قبل بلوغها كالبكر".
(2)
أخرجه ابن ماجه (2041) وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(7/ 108).
(3)
فقالوا: إن الطلاق إزالة ملك يقف على شهوات النفوس لا يراعى فيه الأصلح والأولى؛ لأنه قد يطلق العفيفة والجميلة ويمسك الفاجرة القبيحة فلم يجز أن يراعى فيه شهوة غير المالك؛ لأن تصرف الولي في حقِّ غيره يعتبر فيه المصلحة دون الشهوة فلذلك لم يكن للولي أن يطلق على المولى عليه وجاز أن يبيع ماله عليه اعتبارًا بالمصلحة فيه ينظر: "الحاوي الكبير"(9/ 132)، و"المغني"، لابن قدامة (7/ 54).
فقالوا: كيف يُطلِّق الأب وهو لم يأخذ بالساق؟ وإنما هذا يخص الابن، وهذه المسألة تحتاج إلى مزيد تفصيلٍ.
* قوله: (وَالخِلَافُ فِي الابْنِ الصَّغِيرِ: قَالَ الشَّافِعِيّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: "لَا يَجُوزُ"، لِأَنَّهُ لَا يُطَلَّقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
وهي الرواية الأقوى في مذهب أحمد كذلك، أن الأب لا يُطلِّق على ابنه الصغير.
* قوله: (وَخُلْعُ المَرِيضَةِ يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا كَانَ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنْهَا، وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُهَا بِالثُّلُثِ كُلِّهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَوِ اخْتَلَعَتْ بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا جَازَ، وَكَانَ مِنْ رَأْسِ المَالِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنَ الثُّلُثِ").
فالعلماء على أن للمريضة مخالَعة زوجِها، ولكنهم يختلفون في التفصيل:
فعند الشافعية: أنها تخالِعه في حدود مهر المثل.
وعند المالكية والحنابلة: في حدود ما يرثه منها، أو دون ذلك.
والرواية الأخرى عن المالكية: جواز الخُلع بالثلث كاملًا.
* قوله: (وَأَمَّا المُهْمَلَةُ الَّتِي لَا وَصِيَّ لَهَا وَلَا أَبَ: فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: يَجُوزُ خُلْعُهَا إِذَا كَانَ خُلْعَ مِثْلِهَا).
فالمرأة المقطوعة التي لا وليَّ لها ولا أبَ يجوز خُلعُها إذا كان مماثلًا لخُلع مثيلاتها، فلا يجوز أن تُستَغَلَّ وتُستَضعَف لكونها مُهمَلَةً بأن يطالبها الزوج بعوضٍ أكثر من العِوض الذي تدفعه مثيلاتُها.
* قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ المَالِكَةِ لِنَفْسِهَا، وَشَذَّ الحَسَن، وَابْنُ سِيرِينَ فَقَالَا: "لَا يَجُوزُ الخُلْعُ إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ").
فالجمهور على أن الخُلع لا يحتاج إلى إذن السلطان، قياسًا على
عقد النكاح وعقد البيع اللذين لا يحتاجان إلى إذن السلطان، والخُلع فيه معاوَضةٌ، فَأَشْبَهَ النكاحَ والبيعَ من هذا الجانب، وكذلك لأن الخُلعَ مبنيٌّ على التراضي بين الزوجين فَأشْبَهَ الإقالةَ في البيع، وأما الحسن البصري وابن سيرين فشَذَّا واشترَطَا إذنَ السلطان فيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي نَوْعِه
وَأَمَّا نَوْعُ الخُلْعِ).
فالفسخ يختلف عن الطلاق، والتفرقة بينهما مهمةٌ، وهذه المسألة تبحث في تحديد ما إذا كان الخُلع طلاقًا أم فسخًا.
* قوله: (فَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ طَلَاق، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
سَوَّى بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالفَسْخِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: "هُوَ فَسْخٌ"، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ
(4)
،
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 160) حيث قال: "وهو الطلاق، فتقع طلقة بائنة".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 268) حيث قال: "اقع بالخلع وبالطلاق الصريح إذا كان بعوض يكون بائنًا".
(3)
المعتمد عند الشافعية: أنه فسخ. يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 241) حيث قال: "الخلع، أي: مدلوله (وهو بلفظ الطلاق) صريحًا كان أو كناية (طلاق وكذا بلفظ الخلع) ونحوه كالفداء لورود لفظ القرآن به في الفداء قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقيس بالفداء الخلع فينقص بهما عدد الطلاق كلفظ الطلاق (لا فسخ) ".
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 392) حيث قال: "والخلع طلاق بائن، إلا أن يقع بلفظ: "الخلع، أو الفسخ، أو المفاداة"، ولا ينوي به الطلاق: فيكون فسخًا.=
وَدَاوُدُ
(1)
وَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ)
(2)
.
فتفصيل أقوال العلماء في هذه المسألة كالتالي:
القول الأول: أنه فَسْخٌ:
وهو قول الشافعي وأحمد في روايةٍ، واحتجوا بقول ابن عباس في الصحيح:"الخلع تفريق وليس بطلاق".
وهذا القول بالرغم من أنه ليس قول الأكثر، إلا أنه القول الأقوى استدلالًا، وهو ما أخَذَ به كثيرٌ من المحققين.
القول الثاني: أنه طلاقٌ:
وهو قول أكثر العلماء، ومنهم أبو حنيفة ومالك، ورواية الشافعي
(3)
، ورواية عن أحمد
(4)
، وقد أُثِرَ عن عثمان
(5)
،
= لا ينقص به عدد الطلاق في إحدى الروايتين. الصحيح من المذهب: أن الخلع فسخ".
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 216) حيث قال: "الخلع طلاق بائن
…
إلا أن يقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة ولا ينوي به الطلاق فيكون فسخًا لا ينقص به عدد الطلاق".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 81) حيث قال: "وأما قول بن عباس بأن الخلع فسخ وليس بطلاق فروي عن عثمان مثله وهو قول
…
داود".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/ 41)، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: إنما هو فرقة وفسخ، ليس بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية، وفي آخرها، والخلع بين ذلك، فليس بطلاق قال الله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .
قال في "التلخيص الحبير"(3/ 433): "إسناده صحيح".
(3)
يُنظر: "منهاج الطالبين "للنووي (ص 105) حيث قال: "الفرقة بلفظ الخلع طلاق وفي قول فسخ".
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 392) حيث قال: "والخلع طلاق بائن، إلا أن يقع بلفظ: "الخلع، أو الفسخ، أو المفاداة"، ولا ينوي به الطلاق: فيكون فسخًا. لا ينقص به عدد الطلاق في إحدى الروايتين".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(10/ 37) عن عثمان قال: "الخلع تطليقة".
وعلِيٍّ
(1)
، وابن مسعودٍ
(2)
، لكن المأثور عنهم في ذلك لم يصحَّ
(3)
.
وقد احتجَّ أصحاب القول الأول بما كان في عهد عثمان من مخالعة الربيع بن معوذ زَوْجَهَا، وإقرار عثمان هذه المخالَعَة، وأن عثمان قال حينئذٍ:"تعتدّ بحيضةٍ"، أو:"تَستَبرِئَ بحيضةٍ"
(4)
، فاحتجوا بأنه لو كان طلاقًا ما كان لها أن تستبرئ بحيضةٍ، وإنما كان عليها أن تعتَدَّ العدة المعروفة في الطلاق، وأن قوله هذا دليلٌ على أنَّ الخُلعَ فَسْخٌ وليس بطلاقٍ.
وهناك خلافٌ معروفٌ في المسألة فيما إذا كانت المختلعة تعتدّ بحيضةٍ أو تعتدّ كالمطَلَّقة.
* قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كنَايَةٌ
(5)
، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كانَ طَلَاقًا، وَإِلَّا كانَ فَسْخًا).
وهذا القول عند الحنابلة
(6)
أيضًا، بحيث إنه لو نوى الطلاق كان طلاقًا، ولو لم ينوِ كان فَسْخًا.
* قوله: (وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ الجَدِيدِ: إِنَّهُ طَلَاقٌ).
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(10/ 39) قال علي: "إذا خلع الرجل أمر امرأته من عنقه، فهي واحدة، وإن اختارته".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(10/ 39) عن عبد الله قال: "لا تكون تطليقة بائنة، إلا في فدية، أو إيلاء".
(3)
لم أقف عليه.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 119) عن ابن عمر، أن الربيع اختلعت من زوجها، فأتى عمها عثمان، فقال:"تعتد بحيضة".
(5)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 105) حيث قال: "ولفظ الخلع صريح وفي قول كناية".
(6)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 216) حيث قال: "الخلع طلاق بائن
…
إلا أن يقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة ولا ينوي به الطلاق فيكون فسخًا لا ينقص به عدد الطلاق".
فالإمام الشافعيّ وردَ عنه قولان في المسألة - كما بَيَّنَّا - كالإمام أحمد، أحدهما بأنه طلاقٌ، والآخر بأنه فَسْخٌ.
* قوله: (وَفَائِدَةُ الفَرْقِ: هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي التَّطْلِيقَاتِ أَمْ لَا؟).
فبعض العلماء
(1)
بنى ذلك بأن الخُلع تكتفي المرأة فيه بأن تعتد بحيضةٍ كما أفتى بذلك عثمان، بخلاف عدة الطلاق المعروفة التي تحتاج المرأة فيها إلى الاعتداد ثلاثة قروء.
* قوله: (وَجُمْهُورُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ طَلَاقٌ يَجْعَلُهُ بَائِنًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلزَّوْجِ فِي العِدَّةِ مِنْهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لافْتِدَائِهَا مَعْنًى).
فأكثر مَن يقولون بأنه طلاقٌ يذهبون إلى أنه طلاقٌ بائنٌ لا رجعة فيه، وخالَفَ في ذلك الحسن البصري والزهري.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: "إِنْ لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، كَانَ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ")
(2)
.
لأن أبا ثورٍ يرى الخُلع طلاقًا بائنًا.
* قوله: (وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا بِأَنَّ الفُسُوخَ إِنَّمَا هِيَ الَّتِي تَقْتَضِي الفُرْقَةَ الغَالِبَةَ لِلزَّوْجِ فِي الفِرَاقِ مِمَّا لَيْسَ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الاخْتِيَارِ، فَلَيْسَ بِفَسْخٍ).
والمراد بالغالبة للزوج، أي: التي تكون قهريةً غير راجعةٍ إلى اختيار الزوج، وإنما يُضطَرُّ إليها.
فجمهور العلماء حينما قالوا بأن الخُلع طلاقٌ لا فسخٌ إنما علَّلوا
(1)
سيأتي في عدة المختلعة.
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 331) حيث قال: "وقال أبو ثور إن كان الخلع بلفظ الطلاق، فله الرجعة؛ لأن الرجعة؛ من حقوق الطلاق، فلا تسقط بالعوض، كالولاء مع العتق".
ذلك بأن الفسخ إنما يكون قهريًّا للزوج، كأن يتزوج امرأةً ثم يتبين أنها أخته من الرضاع أو ذات مَحرَمٍ له، أو كأن يُعسِر بالنفقة، أو يَظهر فيه عيبٌ من عيوب النكاح كالبرص والجذام والعنة، فهذه الحالات تستلزم الفسخ بحيث لا يكون للزوج اختيارٌ فيه، وأما الخُلع فإنه يكون باختيار الزوج ورضاه، فعلى هذا فإن الجمهور يرى أن الخُلع طلاقٌ وليس فسخًا.
* قوله: (وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ طَلَاقًا بِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الطَّلَاقَ، فَقَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ثُمَّ ذَكَرَ الافْتِدَاءَ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فَلَوْ كَانَ الافْتِدَاءُ طَلَاقًا، لَكَانَ الطَّلَاقُ الَّذِي لَا تَحِلُّ لَهُ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّابعُ).
أما الفريق الآخر فقد استدلّوا على أن الخُلع فسخٌ وليس بطلاقٍ بأن الله تعالى قد جَمَعَ بين الطلاق والافتداء في موضعٍ واحدٍ في كتابه الكريم، فقال تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229]، والافتداء إنما هو الخُلع، وما دام اللّهُ قد ذَكَرَه بعد أن ذَكَرَ طلقتين فإن القائلين بأن الخُلع طلاقٌ كأنهم يقولون بوجود طلقةٍ رابعة، لأن الله تعالى قال في الآية التي تليها:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، والقول بوجود طلقةٍ رابعةٍ لم يَقُل به أحدٌ من أهل العلم، وهذا الربط بين الآيتين هو ما احتجَّ به ابن عباس رضي الله عنهما.
ثمَّ إن القائلين بأن الخُلع فسخٌ احتجوا كذلك بعدم صحة ما وردَ من آتارٍ تخالف المأثور عن ابن عباسٍ، فيبقى احتجاج ابن عباسٍ هو الحجة، والدليل الواضح في المسألة.
* قوله: (وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الفُسُوخَ تَقَعُ بِالتَّرَاضِي، قِيَاسًا عَلَى فُسُوخِ البَيْعِ، أَعْنِي: الإِقَالَةَ، وَعِنْدَ المُخَالِفِ أَنَّ الآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ حُكْمَ الاقْتِدَاءِ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ يَلْحَقُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ لَا أَنَّهُ شَيْءٌ غَيْرُ الطَّلاقِ).
والمراد بالإقالة: هو اختلاف المتبايعين على شيءٍ وتراضيهما على فسْخ البيع، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا"
(1)
.
فالقائلون بأن الخُلع فسخ قاسوا ذلك على الإقالة في البيع.
والجمهور بنى قوله بأن الفسخ طلاقٌ على أن الآية أورَدَت الافتداء ضِمْنَ أنواع الطلاق، مما يعني أنه يلحق بأنواع الطلاق لا أنه نوعٌ مستقلٌّ عنها.
ولا شكَّ أن حجة مَن خالَفَ الجمهورَ أقوى من حجة الجمهور في هذه المسألة، وهو ما نذهب إليه، وكذلك ذهب إليه المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
* قوله: (فَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلِ اقْتِرَانُ العِوَضِ بِهَذِهِ الفُرْقَةِ يُخْرِجُهَا مِنْ نَوْعِ فُرْقَةِ الطَّلَاقِ إِلَى نَوْعِ فُرْقَةِ الفَسْخِ أَمْ لَيْسَ يُخْرِجُهَا؟).
فإنه لو تلفظ بالطلاق صار طلاقًا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثلات جدهن جدٌّ وهزلهن جدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة"، وفي روايةٍ:"والعتاق"، أما هنا فإن الذي حَصلَ إنما هو الخُلع، وقال بعض العلماء: إن الزوج لو نوى الطلاق فإن مخالعته تقع طلاقًا.
وكلام المؤلف هاهنا إنما يختص بما إذا كان الزوجُ يقصد الخُلع لا الطلاق، بحيث دَفَعَت له زوجته ما أعطاها إيَّاه أو تراضَيا على دون ذلك
(1)
أخرجه البخاري (2112)، ومسلم (1531).
من الأعواض أو غير ذلك، فإن القائلين بأنه فسخٌ قالوا بأن وجود العِوض يُخرِج هذه الفُرقة ويُخَصِّصَها بأنها نوعٌ من أنواع الفسوخ.
ولذلك سيأتي الكلام على أن للمخالع أن يتزوج مخالعته في أثناء العدة دون غيره؛ لأنها محبوسةٌ له هاهنا في أثناء عدتها.
قال المصنف رحمه الله:
(الفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الأَحْكَامِ
وَأَمَّا لَوَاحِقُه، فَفُرُوعٌ كَتِيرَةٌ، لَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا شُهِرَ).
فالمؤلف هاهنا - كما ذكرنا - لا يستقصي جميع المسائل، فهناك مسائل كثيرةٌ في الباب، منها - على سبيل المثال - ما إذا قالت الزوجة لزوجها:(خالِعْني على دينارٍ)، أو:(طلِّقْني بكذا)، أو:(خالِعْني بكذا)، ثم تبيَّنَ عيبٌ، أو ما لو خالَعَتْه الزوجةُ بما لا يجوز، وغير ذلك من المسائل الكثيرة، لكن الميزة التي يقوم بها هذا الكتاب هو أنه يضبط أصول المسائل، بحيث يُمكن لطالب العلم حينئذٍ أن يُلحِقَ بها الفروعَ ويضبطَها عن طريق ما انضبَطَ من الأصول.
* قوله: (فَمِنْهَا: هَلْ يَرْتَدِفُ عَلَى المُخْتَلِعَةِ طَلَاقٌ أَمْ لَا؟).
والمراد بقوله (يرتدف)، أي: يُتبع، بمعنى: أن يُتبع الخُلعَ بطلاقٍ.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: "لَا يَرْتَدِفُ
(2)
إِلَّا إِنْ كَانَ الكَلَامُ
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (2/ 593) حيث قال: "إذا أتبع الخلع طلاقًا من غير صمات نسقًا لزم فإن كان بين ذلك صمات أو كلام يكون قطعًا لذلك لم يلزمه".
(2)
"ارتدفه"، أي: استدبره، يعني: أتى بعده، وردف الرجل وأردفه: ركب خلفه، وارتدفه خلفه على الدابة. يُنظر:"لسان العرب" لابن منظور (9/ 115).
مُتَّصِلًا". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: "لَا يَرْتَدِفُ وإِنْ كَانَ الكَلَامُ مُتَّصِلًا". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: "يَرْتَدِفُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الفَوْرِ وَالتَّرَاخِي").
وإجمال القول في هذه المسألة قولان:
القول الأول: قول جمهور أهل العلم:
بعدم جواز الارتداف، وبه قال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ
(3)
، أما قضية اتصال الكلام وعدم اتصاله فهو تفصيلٌ آخر في هذا القول، فالشافعي وأحمد مَنَعَا الارتدافَ مُطْلَقًا، ومالكٌ جَعَلَ جوازَه موقوفًا على اتصال الكلام.
القول الثاني: قول أبي حنيفة:
بأن له الارتدافَ مُطلَقًا دون قَيْدٍ.
* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: أَنَّ العِدَّةَ عِنْدَ الفَرِيقِ الأَوَّلِ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَلذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَعَ المَبْتُوتَةِ أُخْتَهَا، فَمَنْ رَآهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، ارْتَدَفَ الطَّلَاقُ عِنْدَه، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِفْ).
ومذهب الجمهور أقوى في هذه المسألة دون شكٍّ وأقرَب في نظري للحق.
* قوله: (وَمِنْهَا: أَنَّ جُمْهُورَ العُلَمَاءِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ عَلَى المُخْتَلِعَةِ فِي العِدَّةِ).
(1)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 107) حيث قال: "ويلحق رجعية لا مختلعة".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 219) حيث قال: "حتى لو قال لها: أنت بائن أو خالعها على مال، ثم قال: أنت طالق وقع عندنا".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 217) حيث قال: " (ولا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به) المخالع؛ لأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد فلم يلحقها طلاقه كالمطلقة قبل الدخول".
فجمهور العلماء على أنه ليس للزوج مراجعة المختلعة منه في عدتها.
وهناك خلافٌ - كما ذكرنا - بين أهل العلم في عدة المختلعة، فمنهم مَن يرى أن المختلعة تعتدّ بحيضةٍ، وأن هذه الحيضة يُقصَد بها التيقن من براءة الرحم ليس إلا، كما أُثِر عن عثمان في قصة الربيع بنت معوّذ، بخلاف عدة المطلقة التي اتفق أهل العلم على أنها ثلاثة قروء، واتفقوا على أن القصد من جَعْلِها ثلاثة قروء هو أن يتسنى للزوج التروِّي ومراجعة نفسه في قرار الطلاق، كما قال تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].
ولذا فإن جمهور العلماء - ومنهم الأئمة الأربعة - قد أتفقوا على أن الزوج ليس له أن يراجع المختلعة أثناء العدة
(1)
؛ لأن هذا يناقض مقصود الخُلع، فإن الزوجة أرإدت الخلاص من زوجها، وانتهى الأمر، فإن قلنا بالرجعة نكون قد ضيَّعْنا الغاية من الخُلع.
ولم يخالف في ذلك إلا الإمامان الزهري والحسن البصري، فقالا
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 234) حيث قال: "وكذلك الخلع؛ لأنه تقع الحاجة إلى الخلع ولا يتصور إيقاعه إلا بصفة الإبانة ألا ترى أنه لا يتصور أن يكون رجعيًا".
مذهب المالكية، يُنظر:"المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 871)، وفيه قال:"ولا رجعة في الخلع خلافًا لأبي ثور؛ لأن المرأة إنما تبذل العوض لإزالة الضرر عنها، وفي ثبوت الرجعة عليها تبقية الضرر، ولأن في إثبات الرجعة في الخلع جمعًا للزوج بين العوض والمعوض، وذلك ما لا سبيل إليه". وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (4/ 21).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 476)، وفيه قال:" (ويلحق) الطلاق (رجعية)؛ لأنها في حكم الزوجات لبقاء الولاية عليها بملك الرجعة، قال الشافعي رضي الله عنه: الرجعية زوجة في خمس آيات من كتاب الله تعالى، يريد بذلك لحوق الطلاق، وصحة الظهار، واللعان، والإيلاء، والميراث (لا مختلعة) فلا يلحقها طلاق وإن كانت في العدة لانتفاء الولاية عليها".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 217) حيث قال: "ولا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به) المخالع؛ لأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد".
بجواز الرجعة في العدة بعد الخُلع، وقد اعتَبَرَ العلماءُ أن لهما مأخَذًا دقيقًا في قولهما ذلك، وقال المؤلف:(وله وجهٌ من الفقه)؛ وهذا لأن دارس الفقه يتعمق في المسألة ولا يَحكُمُ بظاهرها، فالزهري والحسن البصري استندا في قولهما هذا إلى أن المختلعة ما دامت في العدة فإنها محبوسةٌ لزوجها وليس لغيره أن يتؤوجها قبل انقضائها، لكنه قولٌ ضعيفٌ، والجمهور يخالفهما في ذلك وَيرَوْنَ أن للزوج أن يتزوجها في العدة برضاها فقط لا على الإطلاق.
* قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وَابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُمَا قَالَا: "إِنْ رَدَّ لَهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا فِي العِدَّةِ، أَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا")
(1)
.
وهاهنا تجدر الإشارةُ إلى أن الإمام سعيد بن المُسَيِّب رحمه الله كان لا يَرضَى أن يقال عنه: (ابن المسَيِّب)، بل إنه كان يقولَ:"مَن سَيَّبَني سَيَّبَه اللّهُ"
(2)
، فالأَوْلَى والأَجْدَرُ أن نحقق له مراده ونسميه باسمه الذي يرضاه، وهو (ابن المُسَيِّبِ) بصيغة اسم الفاعل لا اسم المفعول.
* قوله: (وَالفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ لَا يَكُونَ).
وهذا أيضًا واردٌ؛ لأنه يُفَرِّقُ بين أن يكون الخُلع بلفظ الطلاق أو بغيره.
* قوله: (وَمِنْهَا: أَنَّ الجُمْهُورَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فِي عِدَّتِهَا).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 82) حيث قال: "وروي عن سعيد بن المسيب وابن شهاب أنهما قالا: إن ردَّ إليها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها وصحت له الرجعة".
(2)
يُنظر: "وفيات الأعيان"، لابن خلكان (2/ 378) حيث قال:"والمسيَّب: بفتح الياء المشددة المثناة من تحتها، ورويمما عنه أنه كان يقول بكسر الياء، ولقول: سيب الله من يسيب أبي".
لأنها إنما تعتد من الزوج، وهذه العدة إنما وُضِعَت لبراءة الرحم، فالزوجة في هذه المدة محظورةٌ عن غيره لا عنه.
* قوله: (وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُتَأَخِّرِينَ: "لَا يَتَزَوَّجُهَا هُوَ وَلَا غَيْر فِي العِدَّةِ").
فهذا قولٌ آخر في المسألة، أنها في العدة تكون محبوسةً عن الزوج وعن غيره.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ المَنْعُ مِنَ النِّكَاحِ فِي العِدَّةِ عِبَادَةٌ، أَوْ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ مُعَلَّلٌ؟).
بمعنى: أن هذا المنع من النكاح أثناء العدة، هل هو عبادةٌ توقيفيةٌ غير معقولة المعنى وليس لنا أن نبحث عن علتها؟ أم أنه شيءٌ: معلَّلٌ معقولٌ معناه والغاية منه؟
وهي مسألة محلّ خلافٍ بين أهل العلم، والخلاف فيها دائرٌ بين أبي حنيفة من جانبٍ وجمهور أهل العلم من جانبٍ آخر.
ومن عادة المؤلِّف أن يُورِدَ هذه المسألةَ، كما كان أَوْرَدَهَا في باب الوضوء والصلاة والصيام والحَجِّ، فالوضوء على سبيل المثال أَوْرَدَ فيه المؤلف مسألة ما إذا كان الوضوء عبادةً معلَّلَةً يُقصَد بها النظافة والطهارة، أم أنه عبادةٌ توقيفية ليس لنا البحث عن علتها ومعناها.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ المُخْتَلِعَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْدُ).
وسيأتي الكلام عن ذلك.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ فِي مِقْدَارِ العَدَدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الخُلْع، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: "القَوْلُ قَوْلُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 38) حيث قال: "والقول قوله إن اختلفا في العدد".
بَيِّنَة". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: "يَتَحَالَفَانِ، وَيَكُونُ عَلَيْهَا مَهْرُ المِثْلِ"، شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ اخْتِلَافَهُمَا بِاخْتِلَافِ المُتَبَايِعَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ:"هِيَ مُدَّعًى عَلَيْهَا، وَهُوَ مُدَّعٍ").
فالمالكية ومعهم أكثر العلماء
(2)
: ذهبوا إلى أن القول قول الزوج إذا عُدِمَت البينة.
والشافعية: ذهبوا إلى أنهما يتحالفان، وأن على المرأة رد مهر المثل.
والرجوع إلى مهر المثل هو عادة الإمام الشافعي في مثل هذه المسائل؛ رفعًا للخلاف، ولأنه هو الأصل في مسائل النكاح.
أما المالكية فمِن عادتهم قياس النكاح على البيع، وخالفَهم الجمهور في كثيرٍ من هذه المسائل.
* قوله: (وَمَسَائِلُ هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ مِمَّا يَلِيقُ بِقَصْدِنَا).
ومراد المؤلف هاهنا أنه ليس المقصود من دراسة مسائل الخُلع استيعاب مسائله واستقصاء جزئياته، وإنما الأخذ بما جاء به النَّصُّ.
فهذه قاعدةٌ وضَعَها المؤلف لهذا الكتاب، فالتَزَمَ بها أحيانًا، ولكنه في أحيانٍ أخرى قد يستدعي المقام إيراد جملةٍ من الفروع كي يتضح بها الأصل؛ لأن الوصول إلى القواعد الفقهية يحتاج كذلك إلى ضرب الأمثلة وذِكْرِ شيءٍ من الفروع لكي يتمكن الدارس من رَبْطِ هذه الفروع بأبواب الفقه، وكذلك لكي يتمكن من تخريج الفروع على الأصول.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 88) حيث قال: "فإذا تحالفا لم يلزم الزوج من الطلاق إلا ما أقرَّ به من الواحدة وله فيها مهر المثل، فإن أقام أحدهما بينة على ما ادعاه من عدد الطلاق سمع فيها شاهد وامرأتان وشاهد يمين؛ لأنهما لاستحقاق المال بالطلاق".
(2)
كالحنابلة. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 63) حيث قال: "وإن اختلفا في عدد الطلاق فقوله".
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(البَابُ الرَّابعُ فِي تَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنَ الفَسْخِ
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ
(1)
رحمه الله فِي الفَرْقِ بَيْنَ الفَسْخِ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ فِي الثَّلَاثِ إِلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ إِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ خَارجٌ عَنْ مَذْهَبِهِ - أَعْنِي: فِي جَوَازِهِ - وَكَانَ الخِلَافُ مَشْهُورًا، فَالفُرْقَةُ عِنْدَهُ فِيهِ لِكَلَامِهِ).
ومعنى قوله: (الفسخ الذي لا يُعتَدُّ به في التطليقات الثلاث): أن هناك من الفسخ ما هو طلاقٌ.
وقوله: (إن كان فيه خلافٌ خارجٌ عن مذهبه)، فيه إشارةٌ طيبةٌ من المؤلف إلى أن العلماء يعتبرون بالخلاف المعتَبَر عند غيرهم من الأئمة، ولذلك فإن المالكية إذا وقعَ خلاف خارج مذهبهم يكون خلافًا معتَبَرًا مؤثرًا عندهم في ما يتعلق بالمسألة من أحكامٍ، هذا إذا كان الخلاف مشهورًا مُعتَبَرًا، أما الخلاف الشاذ فلا ريب في عدم الاعتبار به ولا الوقوف عنده كما هو الحال في ما يَرِدُ أحيانًا عن ابن علية أو الأصم ونحوهم، وكذلك
(1)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 323) حيث قال: "ويتصور فائدة الفرق في نقصان عدد الطلاق إذا عد طلاقًا وفي تعليل الفرق روايتان:
إحداهما: أن الطلاق معتبر فيما فيه خلاف ولا يعتبر فيما لا خلاف فيه.
والثانية: اعتبار الغلبة وعدمها ففي الغلبة يكون الفسخ بغير طلاق كالرضاع والملك والردة وفي غير الغلبة، وهي ما لو شاء الزوجان المقام مع الحال الموجبة للفسخ لكان لهما ذلك فإن الفسخ يكون بطلاق وذلك كالفسخ بالعنة وبإيلاء وبإعسار المهر والنفقة وخيار المعتقة وما أشبه ذلك".
الخلاف الذي حُكِيَ عن بكر المزني في عدم جواز الخُلع، فهذه من الأقوال المردودة غير المعتَبَرَة.
* قوله: (مِثْلَ الحُكْمِ بِتَزْوِيجِ المَرْأَةِ نَفْسَهَا وَالمُحْرِمِ، فَهَذهِ عَلَى هَذه الرِّوَايَةِ هِيَ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ).
فالحكم بتزويج المرأة نفسها هو مثالٌ للخلاف خارج المذهب؛ لأن المالكية ومعهم جمهور أهل العلم يذهبون إلى عدم جواز تزويج المرأة نفسها دون وليٍّ، والأحناف يخالفون في هذه المسألة ويقولون بالجواز، فهو خلاف خارج مذهب المالكية
(1)
.
وأما نكاح المُحرِم حالَ إحرامه فإن جمهور العلماء كذلك يرون عدم الجواز، ويذهبون إلى وَجوب فَسْخ النكاح حينئذٍ، بخلاف الحنفية فإنهم ذهبوا إلى جواز ذلك.
ومسألة نكاح المُحرِمِ لا يُقصَد بها الوطءُ؛ لأن الوطء يُفسِدُ الإحرام، ولكن المقصود هاهنا إنما هو جواز العقد والخِطبة وعدم جوازهما.
* قوله: (وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ هُوَ بِالسَّبَبِ المُوجِبِ لِلتَّفَرُّقِ، فَإِنْ كانَ غَيْرَ رَاجِعٍ إِلَى الزَّوْجَيْنِ مِمَّا لَوْ أَرَادَ الإِقَامَةَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مَعَهُ لَمْ يَصِحَّ، كَانَ فَسْخًا مِثْلَ نِكَاحِ المُحَرَّمَةِ بِالرَّضَاعِ أَوِ النِّكَاحِ فِي العِدَّةِ، وَإِنْ كَان مِمَّا لَهُمَا أَنْ يُقِيمَا عَلَيْهِ مِثْلَ الرَّدِّ بِالعَيْبِ كانَ طَلَاقًا).
فالسبب الذي يوجب التفرق قسمان:
الأول: أن تكون الفُرقة لأمرٍ خارجٍ عن إرادة الزوجين، وفي هذه الحالة تكون فَسْخًا، كما لو تبَيَّنَ أن زَوْجَهَا واحد من مَحارِمِها، كأن يكون
(1)
تقدمت في كتاب النكاح.
أخاها من الرضاع، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"تُحَرِّمُ الولادةُ ما يُحَرِّمُ النَّسَبُ"
(1)
، وقوله:"يَحرُمُ من الرضاعة ما يَحرُم من النَّسَب"
(2)
، أو أن يكون الزوج قد نَكَحَهَا في عدة زوجٍ آخر، لعدم جواز ذلك عند جمهور أهل العلم، ولأن العدة التي أمَرَ اللّهُ بها النساءَ إنما هي حقٌّ للزوج، كما أن الغاية منها هي براءة الرحم.
الثاني: أن تكون الفُرقة لأمرٍ راجعٍ إلى الإرادة والاختيار، كوجود عيبٍ في أحد الزوجين أو إعسار الزوج بالنفقة، فالفُرقة في هذه الحالة تكون طلاقًا لا فَسخًا؛ لأن الفَسخِ حينئذٍ يكون اختيارًا لا إلزامًا، فمَن أُخفِيَ عليه عيبٌ من العيوب ثم بان له فإن له أن يَفسَخَ النكاحَ، وله كذلك أن يرضى ويُقِيمَ عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الخَامِسُ فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ
وَمِمَّا يُعَدُّ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ مِمَّا يُرَى أَنَّ لَهُ أَحْكَامًا خَاصَّةً: التَّمْلِيكُ وَالتَّخْيِيرُ).
اتَّسَمَ تناوُلُ المؤلفِ لهذا الباب بشيءٍ من الإجمال، بل إنه في تناوُلهِ له قد جَمَعَ شيئًا من المسائل، فأَدخَلَ بعضها في بعضٍ، كما أن هناك من الأقوال والمذاهب ما يلتقي في أمرٍ ويختلف في أمرٍ آخر، ولكن المؤلف
(1)
أخرجه البخاري (2646)، ومسلم (1444) ولفظ البخاري:"الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة"، ولفظ مسلم:"إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة".
(2)
أخرجه البخاري (2502)، ومسلم (1445).
أجمَلَهَا دون تفصيلٍ، مما قد يُشَوِّشُ على الدارس، ولذا فإننا سنقرأ هذا الباب بتمهُّلٍ ونُبَيِّنُه شيئًا فشيئًا.
أما الطلاق فإنه حقٌّ من حقوق الزوج، قد جعله الله سبحانه وتعالى بيده لا بيد الزوجة، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [لأحزاب: 49]، وهذا الحق للزوج أن يوقعه بنفسه أو يوكل فيه غيره، بل إن له أن يوكل في الطلاق أكثر من شخصٍ، بحيث لو أوقع أحد الوكيلين طلقةً وأوقع الوكيل الآخر ثلاث طلقاتٍ اعتبَرْنا بالأقل كما نَصَّ الفقهاء على ذلك، كما أن للزوج أن يُفَوِّضَ زوجته في طلاق نفسها كما هو الحال بالنسبة للتخيير أو التمليك.
فهذا الباب يتناول ما إذا كان للمرأة أن تُطَلِّقَ نفسها أم لا، كما يتناول الصفة التي يحصل بها الطلاق حينئذٍ.
* قوله: (وَالتَّمْلِيكُ عَنْ مَالِكٍ فِي المَشْهُورِ غَيْرُ التَّخْيِيرِ
(1)
، وَذَلِكَ أَنَّ التَّمْلِيكَ هُوَ عِنْدَهُ تَمْلِيكُ المَرْأَةِ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ).
فالتمليك: هو أن يقول لزوجته: (مَلَّكتُكِ نفسَكِ، أو: أمرُكِ بيدكِ، أو: تركتُ أمْرَكِ لكِ)، فهذه ألفاظٌ ليست صريحةً في الطلاق، وإنما تعني أنه فَوَّضَها.
وأما التخيير: فهو أن يقول لزوجته: (اختاري لنفسكِ).
وأحمد
(2)
يوافق مالكًا في التفريق بين التمليك والتخيير،
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (5/ 390) حيث قال: "ذهب مالك إلى أن التمليك يفترق من التخيير".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 491) حيث قال: "وإن قال لامرأته: "أمرك بيدك" فلها أن تطلق نفسها ثلاثًا. وإن نوى واحدة. هذا المذهب؛ لأنه كناية ظاهرة
…
وتملك المرأة بقوله: "طلاقك بيدك"" أو "وكلتك في الطلاق" ما تملك بقوله لها "أمرك بيدك" فلا يقع بقولها: "أنت طالق" أو "أنت مني طالق" أو "طلقتك" على الصحيح من المذهب".
ويوافق أبا حنيفة
(1)
والشافعي فيما يتعلق بالحُكم.
فعند المالكية أنه إذا مَلَّكَهَا أمْرَها فكأنه مَلَّكَها الطلاقَ، أو أن ذلك توكيل كما يرى الحنابلة، ويُفَرِّقُ مالكٌ كذلك بين التخيير المقيَّد والمُطْلَق
(2)
.
* قوله: (فَهُوَ يَحْتَمِلُ الوَاحِدَةَ فَمَا فَوْقَهَا، وَلذَلِكَ لَهُ أَنْ يُنَاكِرَهَا عِنْدَهُ فِيمَا فَوْقَ الوَاحِدَةِ).
وما دام يحتمل الواحدة فما فوقها فيجب الرجوع حينئذٍ إلى نيته، وإلا وجب الوقوف عند واحدةٍ عند المالكية.
فلو طَلَّقَت الزوجةُ أكثر من طلقةٍ له حينئذٍ أن يُنكِرَ عليها وَيرُدَّ قولَها.
* قوله: (وَالخِيَارُ بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي القَاعَ طَلَاقٍ تَنْقَطِعُ مَعَهُ العِصمَةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَخْيِيرًا مُقَيَّدًا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ أَوِ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ، فَفِي الخِيَارِ المُطْلَقِ عِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ لَهَا إِلَّا أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا أَوْ تَبِينَ مِنْهُ بِالثَّلَاثِ، وَإِنِ اخْتَارَتْ وَاحِدَةً، لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ)
(3)
.
فالتخيير - كما ذَكَرْنَا - هو أن يقول لها: (اختاري نفسَكِ، أو:
(1)
يعني: يوافي أبا حنيفة في حكم التخيير والتمليك، والحكم عند أبي حنيفة واحد، ينظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 336) حيث قال: "اختاري الطلاق فقالت اخترت الطلاق فهي واحدة رجعية".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 73) حيث قال: "المخيرة قبل البناء يناكرها إذا قضت بأكثر من طلقة وأشار هنا إلى حكمها بعد الدخول وأنه ليس له مناكرتها في التخيير المطلق العاري عن التقييد بطلقة أو بطلقتين وأن اختيارها فيه يكون ثلاثًا، سواء نوت هي ذلك أم لا على المشهور فإن قضت في التخيير المطلق بدون الثلاث فإن اختيارها يبطل كما يأتي بخلاف المقيد لفظًا بطلقة أو اثنتين فإنه يتقيد بذلك".
(3)
تقدم.
اختاري زَوْجَكِ)، وهذا يعني أنها بين أمرين، إما أن تختار زَوْجَها فتبقى معه، وإما أن تختار فراقه.
وعند المالكية
(1)
: أنها إذا اختارت فراقه فإنه يقع ثلاثًا، فقالوا: إنه لو وقع طلقة واحدة لكان التخيير لا معنى له؛ لأن لزوجها في هذه الحالة مراجعتها، مما ينتفى معه المقصود من التخيير، ولكن المناسب للتخيير أن يكون الفراق طلاقًا بائنًا تنقطع معه العصمة، بحيث لا تحل له بعدها حتى تنكح زوجًا غيره.
والأئمة الثلاثة يخالفون المالكية في هذا الحُكم، ولهم في هذه المسألة قولان، قولٌ للشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
، مقابل قولٍ آخر للأحناف
(4)
.
والتخيير المقيَّد: هو أن يقول لها: (اختاري نفسَكِ بطلقةٍ واحدةٍ، أوْ بطلقتين)، بحيث يقيِّد التخيير بحَدٍّ لا يجوز للزوجة تَجَاوُزُه، بخلاف ما مضى من التخيير المُسَمَّى بالتخييرَ المُطْلَقِ والذي يقع بائنًا عند المالكية.
فجملة قول المالكية في التخيير: أنه إن كان تخييرًا مُطلَقًا، فإن اختيار الفراق حينئذٍ يقع بائنًا بحيث تنقطع معه العصمة، وأما إن كان
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 181) حيث قال: "وأما المطلق، فهو التخيير في النفس، وهو أن يقول: اختاريني أو اختاري نفسك. فهذا يقتضي اختيار ما تنقطع به العصمة، وهو في المدخول بها الثلاث في المشهور".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 279) حيث قال: "قال لها: اختاري أو طلقي نفسك من ثلاث طلقات ما شئت (ملكت ما دونها) من واحدة وثنتين ولا تملك الثلاث؛ لأن من للتبعيض (وإن كرر) قوله: (اختاري وأراد واحدة فواحدة) تقع باختيارها".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 258) حيث قال: " (فواحدة رجعية إذ نواها أو أطلق نية الطلاق)؛ لأنه لفظ محتمل فلا يحتمل على أكثر من واحدة عند الإطلاق كقوله اختاري).
(4)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 135) حيث قال: "ولو قال: اختاري نفسك أو أمرك بيدك بتطليقة، فاختارت نفسها فهي واحدة رجعية".
تخييرًا مقيَّدًا فإنه يكون في حدود القيد الذي وضعه الزوج لزوجته فيه.
قوله: (وَالمُمَلَّكَةُ لَا يَبْطُلُ تَمْلِيكُهَا عِنْدَهُ إِنْ لَمْ تُوقِعِ الطَّلَاقَ حَتَّى يَطُولَ الأَمْرُ بِهَا عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ يَتَفَرَّقَا مِنَ المَجْلِسِ)
(1)
.
فهذه هي الرواية الأولى عن مالكٍ، والتي يلتقي فيها مع الأحناف
(2)
والشافعية
(3)
، وهي أن التمليك ينتهي بنهاية المجلس.
قوله: (وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَبْقَى لَهَا التَّمْلِيكُ إِلَى أَنْ تَرُدَّ أَوْ تُطَلِّقَ)
(4)
.
وهذه الرواية هي الثانية عن مالكٍ يلتقي فيها مع الحنابلة، بحيث
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 75) حيث قال: "إذا ملكها تمليكًا مطلقًا أو خيرها تخييرًا مطلقًا، أي: عاريًا عن التقييد بالزمان والمكان فالذي رجع إليه مالك أنهما بيدها ما لم توقف عند حاكم أو توطأ أو تمكن من ذلك طائعة قالت في المجلس قبلت أم لا بعد أن كان يقول أولًا يبقى ذلك بيدها في المجلس فقط وإن تفرقا بعد إمكان القضاء فلا شيء لها".
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 336) حيث قال: "وقيد بالمجلس؛ لأنها لو قامت عنه أو أخذت في عمل آخر بطل خيارها".
(3)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 253) حيث قال: "لو (قال) لها (طلقي نفسك إن ضمنت لي ألفًا فقالت: فورًا ضمنت وطلقت نفسي، أو طلقت وضمنت بانت) بالأَلْفِ؛ لأن أحدهما شرط في الآخر يعتبر اتصاله به فهما قبول واحد فاستوى تقدم أحدهما وتأخره في ذلك (وإن تأخر التسليم) للمال عن المجلس (لا إن أتت بأحدهما) فلا تبين؛ لأنه فوض إليها التطليق بشرطين فلا بد منهما".
(4)
يُنظر: "التلقين" للقاصي عبد الوهاب (ص 331) حيث قال: "أما الخامس: فهو أن تمسك عن جواب أو فعل يقوم مقامه حتى يفترقا أو يطول بهما المجلس طولًا يخرج عن أن يكون ما يأتي به جوابًا ففيه روايتان؛ إحداهما: إبطال حقها من التملك، والأخرى: بقاؤه وأخذها بموجبه من تطليق أو رد، فإن فعلت وإلا رفعت إلى الحاكم ليحكم عليها بسقوط التمليك واختلاف القول فيه لاختلاف ما بني عليه، فعلى الأول يكون حكمه حكم العقود التي تبطل بتراخي الجواب، وعلى الثانية حكمه حكم التمليكات كخيار العتق وفي طول المجلس بها أيضًا خلاف بين أصحابنا".
يرون أن التمليك يستمر إلى الأبد حتى ترد الزوجة ذلك التمليك على الزوج
(1)
.
ويستدلُّون على هذا القول بما أُثِرَ عن عليٍّ رضي الله عنه في رجلٍ قال لامرأته: (أمرُكِ بيدكِ)، بأنها تكون على هذا التمليك حتى تردَّه عليه
(2)
.
أما في التخيير: فالحنابلة يوافقون الأحناف والشافعية في أنه على الفور سواء كان في المجلس أو غيره.
قوله: (وَالفَرْقُ عِنْدَ مَالِكٍ
(3)
بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَتَوْكِيلِهِ إِيَّاهَا عَلَى تَطْلِيقِ نَفْسِهَا: أَنَّ فِي التَّوْكيلِ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهَا قَبْلَ أَنْ تُطَلِّقَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي التَّمْلِيكِ).
والحنابلة
(4)
يخالفون المالكية هاهنا في أنهم يذهبون إلى أن للزوج أن يُلغِيَ التمليكَ كما هو الحال في التوكيل.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
: "اخْتَارِي وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ سَوَاءٌ").
فعند الأحناف والشافعية لا فرق بين التمليك والتخيير في أنهما على الفور وأنهما يكونان في المجلس.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 254) حيث قال: " (كقوله طلقي نفسك ما شئت ولا يقبل قوله أردت واحدة ولا يدين)؛ لأنه خلاف مقتضى اللفظ (وهو)، أي: الطلاق (في يدها) على التراخي".
(2)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 519)، عن علي قال:"إذا جعل أمرها بيدها، فالقضاء ما قضت هي وغيرها سواء".
(3)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 91) حيث قال: "في التوكيل له أن يرجع ما لم تطلق نفسها وليس له ذلك في التمليك".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 254) حيث قال: "وإذأ قال لامرأته أمرك بيدك فهو توكيل منه لها في الطلاق
…
فتبطل إذا فسخها بالقول أو أتى بما يدل على فسخها".
(5)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 58) حيث قال: "أما إذا قال لها: طلقي نفسك، أو قد جعلت إليك طلاق نفسك أو اختاري طلاق نفسك، فكل ذلك سواء".
ثم يتَّفق الشافعية
(1)
والحنابلة في أن الطلاق واحدةٌ رجعيةٌ، أما عند الأحناف فإنه يقع واحدةً بائنةً.
قوله: (وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَه، وَإِنْ نَوَاهُ فَهُوَ مَا أَرَادَ إِنْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَة، وَإِنْ ثَلَاثًا فَثَلَاث)
(2)
.
وهاهنا يلتقي الشافعية والحنابلة في أن عدد الطلاق يخضع لنية الزوج، بحيث إن نوى واحدةً فواحدةٌ، وإن نوى ثلاثًا فثلاثٌ.
ولكنهم يختلفون في التفريق بين التمليك والتخيير، بحيث لا يرى الشافعية فرقًا بينهما في أن كلًّا منهما على الفور، بخلاف الحنابلة الذين يرون أحدهما على الفور والآخر يمتدّ إلى الأبد، وبخلاف أهل الظاهر الذين يرون أن التمليك والتخيير لا يقع بهما شيءٌ من الطلاق.
فهناك إِذَنْ أقوالٌ متعدِّدةٌ في هذه المسألة، وفروقٌ دقيقةٌ تحتاج للتأمل عند عرض الأقوال، كما أن ما أُثِرَ عن الصحابة فيها إنما هي أقوالٌ متعددةٌ مختلفة أيضًا.
قوله: (فَلَهُ عِنْدَهُ أَنْ يُنَاكِرَهَا فِي الطَّلَاقِ نَفْسِهِ، وَفِي العَدَدِ فِي الخِيَارِ أَوِ التَّمْلِيكِ، وَهِيَ عِنْدَهُ إِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا رَجْعِيَّةٌ، وَكذَلِكَ هِيَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي التَّمْلِيكِ)
(3)
.
يعني: عند الشافعية إن طَلَّقَت الزوجةُ نفسَهَا فإنها تكون طلقةً رجعيةً.
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 279) حيث قال: "لو (قال لها ناويًا للتفويض) للطلاق (اختاري نفسك فقالت: اخترت أو) قال: (اختاري) فقط (فقالت: اخترت نفسي ونوت) فيهما (وقع) الطلاق".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 175) حيث قال: "فصورته: أن يقول لها: اختاري نفسك أو أمرك بيدك، فتقول: قد طلقت نفسي، فتعتبر نية الزوج".
(3)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 93) حيث قال: "وتسأل المرأة في جوابها وجوه تتصرف فيما أرادت به في خيار أو تمليك إلا أنه يناكرها في التمليك خاصة إن ادعى نية ويحلف على ما نوى".
بحيث يلتقي الشافعية والأحناف
(1)
، والحنابلة في التمليك، لكن - كما ذَكَرْنَا - فإنَّ الأحنافَ يَرَونها طلقةً بائنةً كما أُثِرَ عن عليٍّ رضي الله عنه.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: "الخِيَارُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي التَّمْلِيكِ وَاحِدَةً، فَهِيَ بَائِنَةٌ")
(2)
.
وهذا أحد القولين عن أبي حنيفة، أما القول الآخر: فيتَّفق فيه مع الشافعي، فالأحناف يخالفون الجمهور في أنهم يرونها طلقةً واحدةً بائنةً لا رجعة فيها.
قوله: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "الخِيَارُ وَالتَّمْلِيكُ وَاحِدٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا")
(3)
.
كما هو مذهب الشافعي الذي أوردناه في هذه المسألة.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: القَوْلُ قَوْلُهَا فِي أَعْدَادِ الطَّلَاقِ فِي التَّمْلِيكِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مُنَاكَرَتُهَا).
وهذه المسألة محلّ خلافٍ، فعند التمليك إذا طَلَّقَت المرأةُ وقع العدد الذي طَلَّقَتْ به، لكن إذا اختلف الزوجان في عدد الطلقات، بحيث
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 155) حيث قال: "وإن طلقت نفسها في قوله: طلقي نفسك فهي واحدة رجعية".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 155) حيث قال: "وإذا قال لامرأته: اختاري نفسك ينوي بذلك الطلاق أو قال لها: طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك، فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها، وإن اختارت نفسها في قوله: اختاري كانت واحدة بائنة ولا يكون ثلاثًا وإن نوى الزوج ذلك، ولا بد من ذكر النفس في كلامه أو في كلامها وإن طلقت نفسها في قوله: طلقي نفسك فهي واحدة رجعية وإن طلقت نفسها ثلاثًا وقد أراد الزوج ذلك وقعن عليها".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 75) حيث قال: "وقال الثوري إذا خيرها فاختارت نفسها فهي واحدة بائنة والتخيير والتمليك عنده سواء".
طَلَّقَت الزوجةُ أكثر من طلقةٍ، وقال الزوج:(إنما مَلَّكْتُها طلقةً واحدةً فقط)، فأكثر العلماء على أن القول قول الزوج حينئذٍ.
قوله: (وَهَذَا القَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ المُسَيِّبِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيّ، وَعَطَاءٌ)
(1)
.
مرويٌّ عن عليٍّ وابن المسيِّب، وعن الحسن
(2)
أيضًا.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِي التَّمْلِيكِ إِلَّا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ
(3)
رضي الله عنهما).
فالأقوال في هذا متعددةٌ - كما ذكرْنا - حتى عن الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم، ولذا فإن أهل الظاهر - كما ذكرْنا - ذهبوا إلى عدم وقوع الطلاق بالتمليك والتخيير، ووافقهم في ذلك بعض المحققين من أهل العلم، بل حُكِيَ ذلك أيضًا عن بعض الصحابة رضي الله عنهم عند النقاش في الآية التي أمر اللّهُ سبحانه وتعالى فيها نبيَّه أن يُخيِّرَ زوجاته بين البقاء معه وبين أن يُسَرِّحهن سراحًا جميلًا.
قوله: (رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ، فَقَالَ: كانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ).
أي: كان بينهما خلافٌ كما يقع بين الأزواج.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 25) حيث قال: "والقول الأول روي عن علي رضي الله عنه وعن ابن المسيب وبه قال الزهري وعطاء وطائفة".
(2)
لم أقف على قول الحسن.
(3)
هو مروي عن ابن مسعود وعمر وسيأتي الأثر بعد قليل، أما ما روي عن ابن عباس فهو المنع من وقوع الطلاق من الأصل كما أخرج عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 521) أن رجلًا جاء ابن عباس فقال: لما ملكت امرأتي أمرها طلقتني ثلاثًا، فقال: خطأ الله نوءها، إنما الطلاق لك عليها وليس لها عليك، وقال الطريفي في "التحجيل في تخريج ما لم يخرج من الأحاديث والآثار في إرواء الغليل" (ص 414):"إسناده صحيح".
قوله: (فَقَالَتْ: لَوْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِكَ مِنْ أَمْرِي بِيَدِي لَعَلِمْتُ كيْفَ أَصْنَعُ. قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي بِيَدِي مِنْ أَمْرِكِ بِيَدِكِ، قَالَتْ: فَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا).
وهذا يدلنا على الحكمة التي من أجلها جَعَلَ الله الطلاق بيد الرجل، فهذه المرأة بمجرد ما مَلَكَت الفرصةَ بادَرَت إلى إيقاع الطلاق دون تفكيرٍ وترَوٍّ، بالرغم من أنها ستكون هي الخاسرة في هذا القرار، ولذا فإن الله سبحانه وتعالى جعل الطلاق بيد الرجل؛ لِمَا له من الحكمة والتفكير والتروِّي في الأمور، بخلاف النساء اللاتي جاء في الحديث أنهن ناقصات عقلٍ ودِينٍ، فليس لهن من الحكمة ما يكون للرجل.
قوله: (قَالَ: أُرَاهَا وَاحِدَةً، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، وَسَأَلقَى أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ القِصَّةَ، فَقَالَ: صَنَعَ اللَّهُ بِالرِّجَالِ وَفَعَلَ، يَعْمِدُونَ إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ بِأَيْدِي النِّسَاءِ، بِفِيهَا التُّرَاب، مَاذَا قُلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرَاهَا وَاحِدَةً، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. قَالَ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَوْ رَأَيْتَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُصِبْ)
(1)
.
(بفيها التراب)، أي: يُملأ فَمُها بالترابِ.
ومثل هذا رواه أبو عبيدة القاسم بن سلّام، في رجلٍ قال لامرأته: (إن أَدْخَلْتِ هذا العَدْلَ - أي: كيسَ الصوف - هذا البيتَ فأَمْرُ صاحِبَتِكِ بيَدِكِ. فَأَدْخَلَتْه، فقالت: فلانة طالقٌ ثلاثًا. فذَهَبَ الرجلُ إلى عُمَرَ رضي الله عنه فقال عُمَرُ: بانت منكَ. ثم مَرَّ بعبدالله بن مسعودٍ، فأَخْبَرَه بما كان، فَأَخَذَ بيد الرجل وذهَبَ به إلى عُمَرَ رضي الله عنه فقال عبد الله بن مسعودٍ: إن الله سبحانه وتعالى قد جَعَلَ الرجال قوامين على النساء، ولم يجعل النساء قواماتٍ على الرجال.
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 347).
فقال له عُمَرُ: ما تَرَى؟ فقال ابن مسعودٍ: أراها واحدةً. فقال عُمَرُ: وأنا كذلك)
(1)
.
وهنا يجب التأمل في موقف عُمَرَ رضي الله عنه ووقوفه عند الحق، فبالرغم مما هو عليه من الفراسة والذكاء والدقة، وبالرغم من أن القرآن كان ينزل مؤيدًا لرأيه، إلا أنه لَمَّا جاءه الحقُّ وعرفه وقف عنده ولم يتجاوزه، وهو ما ننبه عليه طلاب العلم دائمًا وأبدًا؛ لأن الحكمة ضالّة المؤمن، ومن هنا وقع الخلاف بين الأئمة، فالخطأ في الاجتهاد ليس قبحًا في عِلم العالِم ولا يُنقِص من قدره شيئًا، إلا إذا كان الخطأ بسبب تغليبه هوى النفس وميله عن طريق الحق.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ التَّمْلِيكُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَ الشَّرْعُ بِيَدِ الرَّجُلِ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى يَدِ المَرْأَةِ بِجَعْلِ جَاعِلٍ، وَكَذَلِكَ التَّخْيِير، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ)
(2)
.
أي: قيل: إن التمليك والتخيير لا يقع بهما شيءٌ.
وقد أُثِرَ هذا عن بعض الصحابة
(3)
، وذهب إليه أهل الظاهر، ومعهم بعض المحققين من أهل العلم، وأما نسبته إلى أبي محمد بن حزمٍ صاحب "المُحَلَّى" فليس بحقيقةٍ، بل هو كما ذَكَرْنَا
(4)
.
وأصحاب هذا القول يُعَلِّلُونَهُ بأن الله سبحانه وتعالى إنما جَعَلَ الطلاقَ بيد الرجل، وبناءً على ذلك فإن نَقْلَ الطلاق من يد الرجل إلى يد المرأة يُعَدُّ
(1)
أخرجه ابن حزم في "المحلى"(10/ 119).
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 117) حيث قال: "ومن خير امرأته فاختارت نفسها أو اختارت الطلاق أو اختارت زوجها أو لم تختر شيئًا فكل ذلك لا شيء وكل ذلك سواء ولا تطلق بذلك".
(3)
كابن عباس، وتقدم.
(4)
تقدم نقل كلام ابن حزم وموافقته.
خروجًا عن شرع الله، وهو لا يجوز، إلى جانب عدم أهلية المرأة بأن يكون الطلاق في يدها، لنقصانها في العقل والتَّصَرُّف.
أما الذين يقولون بعدم التفريق بين التمليك والتخيير، فحجتهم في هذا أن الرجل إذا فَوَّضَ امرأته في الطلاق فإنما هو قد نَقَلَ إليها حُكْمَ البُضْعِ، فهذا هو التمليك، فلا فرق إِذَنْ بينه وبين التخيير، ولذا فإنهم لا يرون التخيير توكيلًا؛ لأن من شروط الوكيل أن يتصرف في حقِّ غيره، وأن الزوجة هاهنا تتصرف في حق نفسها، كما أن من شروط الوكيل أن يكون أهلًا لما يُوَكَّلُ فيه، وأن المرأة ليست لديها الأهلية لإيقاع الطلاق.
والمسألة فيها كلام طويلٌ، وهناك ردودٌ كثيرةٌ للعلماء، لا يناسب المقامُ استقصاءَها.
قوله: (وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي المُمَلَّكَةِ
(1)
أَنَّ لَهَا الخِيَارَ فِي الطَّلَاقِ أَوِ البَقَاءِ عَلَى العِصْمَةِ مَا دَامَتْ فِي المَجْلِسِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَجَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّمْلِيكَ إِذَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ كَالوَكَالَةِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ مَتَى أَحَبَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يُوقِعِ الطَّلَاقَ).
فهناك روايةٌ عند الشافعي أنه كالوكالة، والحنابلة يرون أن التخيير توكيلٌ.
والمؤلف هاهنا يريد أن يصل بنا - بعد هذه المقدمات - إلى سبب اختلاف العلماء في هذا الباب، وهو ما حَصَلَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 75) حيث قال: "إذا ملكها تمليكًا مطلقًا أو خيَّرها تخييرًا مطلقًا، أي: عاريًا عن التقييد بالزمان والمكان فالذي رجع إليه مالك أنهما بيدها ما لم توقف عند حاكم أو توطأ أو تمكن من ذلك طائعة قالت في المجلس قبلت أم لا بعد أن كان يقول أولًا يبقى ذلك بيدها في المجلس فقط وإن تفرقا بعد إمكان القضاء فلا شيء لها".
قوله: (وَإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ لِلْقَضَاءِ بِالتَّمْلِيكِ أَوِ التَّخْيِيرِ، وَجَعْلِ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَخْيِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ).
يقول الله سبحانه وتعالى سورة الأحزاب: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 28 - 29].
وقصة هذه الآية أن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنَّ قد اجتَمَعْنَ حَوْلَهُ للمطالَبة بالزيادة في النفقة، بالرغم من معرفتهن بالحال التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يَخْتَرْ لنفسه أن يكون مَلِكًا من ملوك الدنيا، وإنما أَعْرَضَ صلى الله عليه وسلم عن زينة الدنيا وزخرفها واختار أن يكون عبدًا رسولًا
(1)
، فكان ربما يمرّ عليه الشهر وليس في بيته من الطعام إلا التمر والماء، بل إنه صلى الله عليه وسلم قد رَبَطَ الحجارةَ على بطنه من شدّة الجوع
(2)
، لأنه كان يعلم علم اليقين فناء هذه الحياة الدنيا وبقاء ما عند الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83].
فجاء في "الصحيحين"
(3)
وفي غيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان ما كان من اجتماع زوجاته لمطالبته بالزيادة في نفقتهن، أنزل الله تعالى عليه هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ
(1)
أخرج البخاري (3654) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
الناس وقال: "إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله".
(2)
أخرج مسلم (6) عن أنس بن مالك، قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب بطنه بعصابة، قال أسامة: وأنا أشك على حجر، فقلت لبعض أصحابه لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقالوا: من الجوع.
(3)
أخرجه البخاري (4786)، ومسلم (1475).
الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 28 - 29]، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وقال:"إني ذاكرٌ لكِ أمرًا، ولا عليكِ ألا تَعْجَلِي حتى تستأمري أبويكِ"، ثم تلا عليها هذه الآية، فما كان منها إلا أن قالت:"إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة".
ثم بعد ذلك مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقية زوجاته فَقُلْنَ مثل ما قالت عائشة رضي الله عنها.
وقد جاء في بعض الروايات خارج "الصحيحين" أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أتَيَا فلم يؤذن لهما، ثم لما أُذِنَ لهما بالدخول رأى عُمَرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صامتًا وكأنه متأثِّر، فقال لأبي بكرٍ:"سأقول مقولةً تُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم"، فقال:"طَلَبَتْ مني بنتُ زبدٍ - يعني: امرأته - النفقةَ، فَضَرَبْتُها على رقبتها"، فضحِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ نواجِذُه، فقال:"وَهُنَّ يَطْلُبْنَ النفقةَ"، فقام أبو بكرٍ رضي الله عنه ليضرب عائشةَ، وقام عُمَرُ ليضرب حفصةَ، فنهاهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم خَيَّرَهُمَا، فتَمَّ الأمرُ حينئذٍ.
وحاشا زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَخْتَرْنَ الدنيا وزِينَتَها، ولذلك عندما بدأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعائشة وخَيَّرَهَا، فإنها حينئذٍ لم تستشر أبويها، ولكنها قَضَتْ باختيارها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة لا الدنيا وزخرفها، ولذلك قالت في بعض الروايات:"وهو يعلم أن أبَوَيَّ لا يَرضَيَان بفراق رسول الله"، وهكذا كان سائر أزواجه صلى الله عليه وسلم، فكانت النتيجة أن نِلْنَ السعادةَ في الدنيا والأجرَ العظيمَ في الآخرة.
وهكذا ينبغي للمسلم ألا يجعل الدنيا غايته أو يَركَنَ إليها، بل كلما تَرَكَ المسلمُ شيئًا لله عَوَّضَه اللهُ خيرًا منه لا مَحالَةَ، فإنما الدنيا لا قيمة لها؛ لأنها لو كانت تساوي عند الله سبحانه وتعالى جناحَ بعوضةٍ ما سَقَى كافرًا منها شَربَةَ ماءٍ
(1)
، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ابغوني في فقرائكم"
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي (2321)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5292).
(2)
أخرجه أبو داود (2594) بلفظ: "ابغوني الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(41).
كما أن هذه القصة درسًا ينبغي أن تتعلمه كلُّ زوجةٍ مسلمةٍ تقيةٍ، بحيث لو رأت أن المسالك قد ضاقت على زوجها فلا ينبغي عليها حينئذٍ أن تَجْمَعَ عليه مشقَّةَ الرزق وهَمَّ مُطالَبَتِهَا بزيادة الإنفاق، وإنما الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن أصبح منكم معافًى في بدنه، آمِنًا في سِربِه، عنده قُوتُ يومه وليلته، فكأنما سِيقَت له الدنيا بحذافيرها".
قوله: (قَالَتْ عَائِشَةُ: "خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَرْنَاهُ"، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا)
(1)
.
وهذه المسألة سيأتي الكلام عنها، فيما إذا كان اختيارُ المرأةِ زوجَها بعد التخيير طلاقًا أم لا.
فجمهور العلماء - ومنهم الأئمة الأربعة - على أنه لا يكون طلاقًا، بدليل حديث عائشةَ رضي الله عنها:"فلم يكن طلاقًا"، وفي بعض الروايات:"فلم نَعُدُّهُ طلاقًا".
وهناك قول آخر قال به قلةٌ بأنه يقع طلاقًا حينئذٍ؛ لأن الزوج عندما خَيَّرَ زوجتَهُ فإنما يكون قد نوى طلاقَهَا، وسيأتينا في باب الطلاق أن جمهور أهل العلم على أن مَن نوى الطلاق ولم يتلفظ به لا يقع طلاقُهُ.
قوله: (لَكِنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ يَرَوْنَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُنَّ لَوِ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ، طَلَّقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا أَنَّهُنَّ كُنَّ يُطَلَّقْنَ بِنَفْسِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ).
وهنا يجدر التذكير بقصة فاطمة بنت قيسٍ، عندما طَلَّقَها زوجُها، فبعَثَ إليها بشعيرٍ، فسخِطَتْه، إلى أن طلبَ منها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تَعْتَدَّ وأن تؤذنَه، فلما جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبَرَتْهُ أنه قد خَطَبَهَا أبو جَهمٍ
(1)
أخرجه البخاري (5262)، ومسلم (1477).
ومعاويةُ بن أبي سفيان، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَنْكِحِي أسامةَ بنَ زيدٍ"، فقالت:"أسامة! أسامة! " كأنما سَخِطَتْه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطيعي الله ورسوله"، فنَزَلَت على أمر الله وأمر رسوله، فقالت:"فاغْتَبَطْتُ به"
(1)
.
قوله: (وإِنَمَا صَارَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّخيِيرَ وَالتَّمْلِيكَ وَاحِد فِي الحُكْمِ؛ لِأَنَّ مِنْ عُرْفِ دَلَالَةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَنْ مَلَّكَ إِنْسَانًا أَمْرًا مِنَ الأُمُورِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَه، فَإِنَّهُ قَدْ خَيَّرَهُ).
وهذا يدلنا على أن اللغة العربية لا غنى عنها في دراسة العلوم الشرعية؛ هذا لأن الله سبحانه وتعالى إنما أَنزَلَ هذا القرآنَ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، حتى أن العرب أهل الفصاحة والبيان وقفوا حيارى مشدوهين أمام القرآن وبلاغته التي استولت على العقول، بل إن المغيرة لَمَّا قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (فُصِّلَتْ) وضع يده على فِي رسول الله وسأله بالرَّحِمِ أن يَسكُتَ؛ لِمَا رآه من بلاغةٍ يستحيل محاكاتُها، فقال مقالته الشهيرةَ:"إن له لحلاوةً، وإن عليه لطلاوةً، وإن أعلاه لمثمرٌ، وإن أسفله لمغدقٌ، وإنه يعلو ولا يُعلَى عليه"
(2)
، ولهذا السبب تَحَدَّى اللهُ سبحانه وتعالى العربَ أن يأتوا بعشر سُوَرٍ من مثله فعجزوا، وتحداهم - سبحانه - أن يأتوا بسورةٍ من مثله فعَجَزوا كذلك.
فاللغة العربية - لكل هذه الأسباب - هي مفتاح لعلوم الشريعة المبارَكة، فعلم الأصول - على سبيل المثال - به مباحث كثيرةٌ من علوم اللغة، وكذلك التفسير الذي لا يُستَغنَى فيه عن اللغة العربية، حتى أن الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) ذَكَرَ من شروط المجتهِد أن يكون على درايةٍ باللغة وقواعدها.
(1)
أخرجه مسلم (1480).
(2)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(1/ 287)، وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (1/ 223):"إسناده جيد".
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ
(1)
: فَيَرَى أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا اخْتَارِينِي أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ أَنَّهُ ظَاهِرٌ بِعُرْفِ الشَّرْعِ فِي مَعْنَى البَيْنُونَةِ بِتَخْيِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَه، لِأَنَّ المَفْهُومَ مِنْهُ إِنَّمَا كانَ البَيْنُونَةَ).
والذي أراه أن هذا التعليل الذي عَلَّلَ به المالكيةُ ما ذهبوا إليه ضعيفٌ في مقابل مذهب جمهور أهل العلم، فالأصل في الطلاق أنه بيد الرجل، وإذا فَوَّضَ الرجلُ امرأته فإن الأمر يرجع إليه في عدد ما نوى من الطلاق، فإذا لم يقل عددًا بعينه فالعلماء يذهبون حينئذٍ إلى أن تكون طلقةً واحدةً رجعيةً، وهذا أقرب للصواب في المسألة عندي.
قوله: (وَإِنَّمَا رَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي التَّمْلِيكِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا إِذَا زَعَمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَفْظ ظَاهِر فِي مَعْنَى جَعْلِ الطَّلَاقِ بِيَدِهَا).
الإمام مالكٌ هاهنا لا يقبل قول الزوج؛ لأن التمليك عنده كنايةٌ ظاهرةٌ، بينما التمليك عند جمهور أهل العلم هو كنايةٌ محتمَلةٌ غير ظاهرةٍ، بل إنهم - أعني: جمهور العلماء - يفرقون بين صريح الطلاق وكناياته بأن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نيةٍ وكناياته تحتاج إلى النية.
فالمالكية لهم تعليلٌ، والجمهور كذلك لهم تعليلٌ.
والحاصل من الأمر: أن الزوج إذا مَلَّكَ زوجَتَه أو خَيَّرَها فإنه يكون قد أعطاها الفرصة في تطليق نفسها، مما يعني أنه لا فرق حينئذٍ بين التمليك والتخيير؛ لأنه ما دام قد مَلَّكَهَا أمرها فإن لها الحق حينئذٍ في أن تفعل ذلك أو لا تفعله.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 94) حيث قال: "من قال لامرأته بعد البناء اختاري نفسك فقالت قد اخترت نفسي فهي ثلاث ولا مناكرة للزوج".
قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ عِنْدَهُ نَصًّا، اعْتَبَرَ فِيهِ النِّيَّةَ).
ليس الشافعي وحده من ذَهَبَ إلى هذا، بل كذلك ذَهَبَ إليه أبو حنيفة وأحمد.
بل حتى الإمام مالكٌ لا يراه نصًّا، وإنما يراه كنايةً ظاهرةً، والكنايات الظاهرة - ومنها التمليك - عند مالكٍ بمثابة الصريح، بخلاف الجمهور فإنها عندهم لا بد فيها من النية، وهذا المذهب من الجمهور إنما هو من باب الاحتياط.
وهناك مسألةٌ مهمة جدًّا تتفرع من هذه المسألة، وهي إذا قالت المرأة لزوجها:"اخترتُ نفسي، أو: فسختُ نكاحَكَ" فيما إذا كان هذا القول منها يفتقر إلى النية أم لا.
فعند أبي حنيفة
(1)
: لا يفتقر إلى نية إذا كان الرجل نواه، لأنه عندما يقول لامرأته:"اختاري نفسَكِ، أو: ملكتُكِ نفسَكِ" فكأنه أراد بهذا الطلاق.
وعند الشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
: لا بد من الرجوع إلى نيَّته التي تُبَيِّنُ مرادَهُ من قوله.
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 114) حيث قال: "وإذا قال لامرأته: اختاري نفسك ينوي بذلك الطلاق أو قال لها: طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك
…
وإن طلقت نفسها في قوله: طلقي نفسك فهي واحدة رجعية وإن طلقت نفسها ثلاثًا وقد أراد الزوج ذلك وقعن عليها".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 279) حيث قال: "لو (قال لها ناويًا للتفويض) للطلاق (اختاري نفسك فقالت: اخترت أو) قال: (اختاري) فقط (فقالت: اخترت نفسي ونوت) فيهما (وقع) الطلاق".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 255) حيث قال: "سواء جعله بلفظه بأن يقول: اختاري ما شئت أو اختاري الطلقات إن شئت، أو جعله بنيته بأن ينوي بقوله اختاري عددًا اثنين أو ثلاثًا؛ لأنه كناية خفية فيرجع في قول ما يقع بها إلى نيته كسائر الكنايات الخفية".
وأما مالكٌ: فمذهبه في ذلك معروفٌ، وقد سبق بيانه.
قوله: (فَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ يُغَلَّبُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَوْ دَعْوَى النِّيَّةِ؟).
ولا شكَّ هاهنا في أن ما ذهب إليه الجمهور أقوى وأصحُّ؛ لأن النية مُرادةٌ بذاتها وتأثيرها عظيمٌ في الأعمال لا سيما الأعمال التعبدية، ولذلك سول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنِّيَّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى"
(1)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي التَّخْيِيرِ).
أي: أنها إذا اختارت نفسها كان ذلك طلاقًا ثلاثًا بائنًا عند مالكٍ.
قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَهُ مُنَاكَرَتَهَا فِي العَدَدِ - أَعْنِي: فِي لَفْظِ التَّمْلِيكِ، لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً مُحْتَمَلَةً فَضْلًا عَنْ ظَاهِرِهِ).
والمؤلف هاهنا يعرض حُجَّةَ الجمهور لا حُجَّة المالكية، ومراده أن الزوج إذا لم يكن حَدَّدَ العدَدَ في لفظ التمليك فإن له حينئذٍ أن يناكرها ويقول:"بل قلتُ كذا وكذا".
قوله: (وَإِنَّمَا رَأَى مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بِتَمْلِيكِهِ إِيَّاهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً أَنَّهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى العُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ).
هذا لأن طلاق السُّنة ينصرف إلى أنها طلقةٌ واحدةٌ، وهذا الرأي
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 73) حيث قال: "اخترت الطلاق فتسأل في التمليك والتخيير؛ لأن هذه الألف واللام قد يراد بها الجنس فيكون ثلاثًا أو يراد بها العهد وهو الطلاق السني وهو واحدة".
(3)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (8/ 49) حيث قال: "قال لها: اختاري نفسك ونوى تفويض الطلاق، فقالت: اخترت نفسي، أو اخترت ونوت، وقعت طلقة".
ليس مذهب المالكية والشافعية فقط، وإنما كذلك هو مذهب الحنابلة، فالمالكية يوافقون الشافعية والحنابلة في التمليك، ثم يخالفونهم في أنهم يفرقون بين التمليك والتخيير بحيث يرون أن التخيير يقع بائنًا ثلاثًا.
أما أبو حنيفة فيرى أنها تقع طلقة واحدة بائنة.
قوله: (وَإِنَّمَا رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا بَائِنَةٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، لَمْ يَكُنْ لِمَا طَلَبَتْ مِنَ التَّمْلِيكِ فَائِدَة، وَلمَا قَصَدَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ).
والمتأمل في تعليل أبي حنيفة لا يخالطه شكٌّ في أن اجتهادات الأئمة لا تتأتى منهم تشهيًا ولا رغبةً في المخالَفة، وإنما هي اجتهاداتٌ مبنية على أدلةٍ وتعليلاتٍ وجيهةٍ.
فأبو حنيفة يعلِّل ما ذَهَبَ إليه من أن اختيار الزوجة نفسها يقع طلقة واحدة بائنة، بأنها إنما اختارت نفسها واختارت الفراق لرغبتها في البُعد عن زوجها ومفارقته أبدًا، فإذا أبقينا الأمر في يده وقلنا بطلقةٍ رجعيةٍ فلا معنى حينئذٍ من اختيار المرأة نفسها، بل إن القول بالطلقة الرجعية حينئذٍ يناقض معنى التخيير عند أبي حنيفة، لأنه في هذه الحالة صار بإمكان الزوج مراجعتها في أثناء العدة، مما يضيع معه مقصود التخيير.
لكن المتأمِّل في أسس الشريعة وما تنبني عليه من وجوب توافر الأُلفة والمودة في الرباط بين الزوجين يدرك أن مذهب الجمهور إنما هو الأقرب لروح الشريعة ومقاصدها.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي التَّمْلِيكِ ثَلَاثًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مُنَاكَرَتُهَا فِي ذَلِكَ، فَلِأَنَّ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ تَصْيِيرُ جَمِيعِ مَا كانَ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنَ الطَّلَاقِ بِيَدِ المَرْأَةِ، فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ فِيمَا تُوقِعُهُ مِنْ أَعْدَادِ الطَّلَاقِ).
أي: أن من ذهب إلى هذا القول فإنما ذهب إليه إلحاقًا له بالتخيير، كما هو مذهب المالكية.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ التَّمْلِيكَ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَقَطْ، أَوِ التَّخْيِيرَ، فَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْم، وَاحْتِيَاطًا لِلرِّجَالِ).
وهذا القول هو الأقرب للفقه، لأن الله تعالى عندما وَجَّهَ المؤمنين لذلك قال في كتابه الكريم:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق: 1]، ثم قال تعالى بعدها:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، أي: أن الله سبحانه وتعالى كما جعل الطلاق بيد الرجل، فإنه - سبحانه - جعل العدة كذلك فرصةً لمراجعة النفس وإعادة التفكير، فإذا كان هذا في حقِّ الرجل مع ما فيه من التروي والتمهل وبُعد النظر، فهو من باب أَوْلَى أن يكون كذلك عندما يكون الطلاق بيد المرأة مع ما فيها من التهور والاندفاع.
قوله: (لِأَنَّ العِلَّةَ فِي جَعْلِ الطَّلَاقِ بِأَيْدِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ هُوَ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ، وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِنَّ مَعَ سُوءِ المُعَاشَرَةِ)
وكون المرأة تَتَّسِمُ بالاندفاع والتهور لا يعني الانتقاصَ منها ولا هضم حقّها كما يَدَّعِي أعداء الإسلام، بل إن المرأة لم تَلْقَ تكريمًا ومنزلةً أعظَمَ من المنزلة التي مَنَحَها الإسلام إيَّاها، فالرسول صلى الله عليه وسلم حضَّ على العناية بهن ورعايتهن، فقال صلى الله عليه وسلم:"استوصوا بالنساء خيرًا، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله"
(1)
، فمهما كان فيهن من الاعوجاج فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالرفق بهن واللين؛ لأنهن خُلِقْنَ من ضلعٍ أعوج، وهذا الضلع إذا أردتَ أن تقيمه فإنه ينكسر حينئذٍ.
قوله: (وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ
(2)
عَلَى أَنَّ المَرْأَةَ إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا
(1)
أخرجه مسلم (1218).
(2)
مذهب الحنفية: ينظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 336) حيث قال: "فلو اختارت زوجها لم يقع وخرج الأمر من يدها".
مذهب المالكية: ينظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 587) حيث=
أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ المُتَقَدِّمِ، وَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ، وَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ)
(1)
.
قد تَكَلَّمْنَا عن اختيار المرأة نفسها عند تفويض الرجل إيَّاها في ذلك، والكلام الان عن اختيارها زَوْجَهَا، كأن تقول:"اخترتُكَ"، كما فَعَلَ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المسألة بها قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو مذهب جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة، وهو أن الزوجة إذا اختارت زوجَهَا فإن ذلك ليس بطلاقٍ؛ لقول عائشة رضي الله عنها:" خَيَّرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، ولم يكن طلاقًا"، وفي روايةٍ أخرى:"ولم نعده طلاقًا"
(2)
، وفي روايةٍ أخرى:"ولم نحسبه طلاقًا"، و"لَمْ" نافيةٌ، فتدل على عدم وقوع الطلاق في هذه المسألة.
القول الثاني: قول الحسن البصري، وهو ما رُوِيَ عن عليٍّ رضي الله عنه، بأنها إذا اختارت زوجَها فإنها تكون طلقةً واحدةً، وإذا اختارت نفسها فإنها تكون ثلاثَ طلقاتٍ تَبِينُ بِهَا منه، وهذا القول يلتقي مع قول مالكٍ في أنها تَبِينُ منه بثلاث طلقاتٍ إذا اختارت نفسها، ولكن مالكًا يخالف الحسن البصري فيما إذا اختارت المرأةُ زَوْجَهَا فلا يراه مالكٌ طلاقًا
(3)
.
= قال: "من خيَّر امرأته فقال: اختاري فاختارت زوجها لم يلزمه طلاق وثبت على نكاحها".
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 174) حيث قال: "وإن اختارت زوجها أو لم يكن لها اختيار لم تطلق".
مذهب الحنابلة: ينظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 410) حيث قال: "وإن خيرها، فاختارت زوجها، أو ردت الخيار، أو الأمر، لم يقع شيء. نص عليه أحمد، في رواية الجماعة".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 72) حيث قال: "وروي عن الحسن البصري أنها إذا اختارت زوجها فواحدة وإن اختارت نفسها فثلاث".
(2)
أخرجه مسلم (1477).
(3)
تقدم.
ولا شكَّ أن ما ذَهَبَ إليه جمهور العلماء من عدم وقوع الطلاق هو الأقوى والأرجح، لصراحة ما وَرَدَ في ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وكما قال القائل:"قَطَعَتْ جَهِيزَةُ قَوْلَ كُل خَطِيبٍ"
(1)
، فلا قولَ بعد هذا القول.
قوله: (فَيَتَحَصَّلُ فِي هَذه المَسْأَلَةِ الخِلَافُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ).
ومراد المؤلف هاهنا تلخيص ما مضى من أقوالٍ، فجَمَعَها في ثلاثةِ أقوالٍ، وهي في حقيقة الأمر خمسةُ أقوالٍ، ولكن المؤلف أَدْخَلَ بعضَها في بعضٍ.
قوله: (أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَاقٌ).
القول الأول: أنه لا يقع طلاق بواحدٍ منهما.
وهو ما ذَهَبَ إليه أهل الظاهر ومن معهم.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَقَعُ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ).
القول الثاني: وقوع الفُرقة بينهما.
وهو مذهب الأئمة الثلاثة، مع وجود تفصيلٍ في مذهب الشافعيِّ وأحمد في ذلك.
قوله: (وَالثَّالِثُ: الفَرْقُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ فِيمَا تُمَلَّكُ بِهِ المَرْأَةُ - أَعْنِي: أَنْ تُمَلَّكَ بِالتَّخْيِيرِ البَيْنُونَةَ، وَبِالتَّمْلِيكِ مَا دُونَ البَيْنُونَةِ).
القول الثالث: التفريق بين التمليك والتخيير، بأن تملك المرأة في التخيير الطلاق البائن، وتملك في التمليك ما دون الطلاق البائن.
(1)
انظر: "الأمثال"، للهاشمي (1/ 184)، وفيه قال:"قطعت جهيزة قول كلّ خطيب. يقال عند الأمر قد فات، وأصله: أنّ قومًا اجتمعوا يخطبون في صلح بين حيّين قتل أحدهما من الآخرة قتيلًا، ويسألون أن يرضوا بالديّة، فبينا هم في ذلك؛ إذ جاءت أمة يقال لها: جهيزة، فقالت: إنَّ القاتل قد ظفر به بعض أولياء المقتول فقتله، فقالوا عند ذلك: قطعت جهيزة قول كلَّ خطيب. أي: استغني الآن عن الخطب في الصّلح. أي: قد أخذ الحقّ".
وهو مذهب مالكٍ، ووافقه فيه الحسن البصري في الشطر الثاني من قوله.
قوله: (وَإِذَا قُلْنَا بِالبَيْنُونَةِ، فَقِيلَ: تَمْلِكُ وَاحِدَةً، وَقِيلَ: تَمْلِكُ الثَّلَاثَ).
فعلى القول بالبينونة فإنها عند مالكٍ والحسن البصري تَبِينُ منه بالثلاث، وعند أبي حنيفة تَبِينُ منه بواحدةٍ.
قوله: (وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا تُمَلَّكُ وَاحِدَةً، فَقِيلَ: رَجْعِيَّةٌ، وَقِيلَ: بَائِنَةٌ).
أما على القول بأنها تملك واحدةً فإنها عند الشافعي وأحمد واحدةٌ رجعيةٌ، وعند أبي حنيفة واحدةٌ بائنةٌ.
قوله: (وَأَمَّا حُكْمُ الأَلْفَاظِ الَّتِي تُجِيبُ بِهَا المَرْأَةُ فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ، فَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى حُكْمِ الأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي كَوْنِهَا صَرِيحَةً أَوْ كِنَايَةً أَوْ مُحْتَمَلَة، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّكَلُّمِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ).
قد ذَكَرْنَا قبل ذلك مسألة قول الزوجة لزوجها: "اخترتُ نفسي، أو: فسختُ نكاحَكَ".
أما مسألة قولها لزوجها: "أنتَ طالق"، فيما إذا كانت تقع طلاقًا أم لا، فسوف يأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله - في باب ألفاظ الطلاق من حيث صريحها وكنايتها، وكذلك سيأتي تفصيله في باب الطلاق المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ وشروطه.
([الْجُمْلَةُ الثَانِيَةُ فِي أَرْكَانِ الطَّلَاقِ])
(الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَشُرُوطِهِ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي تَفْصِيلِ مَنْ يَجُوزُ طَلَاقُهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ.
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي تَفْصِيلِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ مِنَ النِّسَاءِ مِمَّنْ لَا يَقَعُ.
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَشُرُوطِهِ وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ فَصْلَانِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَنْوَاعِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقَةِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُقَيَّدَةِ).
عبارات المؤلف بمثابة قواعدَ وأصولَ ربما قد يصعبُ على البعض فهمُ بعضِها، بل قد يرى فيها تداخلًا، وإلا فكلام المؤلف واضحٌ بحمد الله، فالمؤلف يضع تصورًا بمثابة كشَّافٍ يضيء لك الطريق إلى الباب الذي سندخل فيه، فالآن حتى نكون على استعدادٍ، مثلًا مدرسُ الإنشاء عندما يأتي يدرس الطلاب يضع العناصرَ، وإذا أردتَ أن تكتب في موضوعٍ إنشائيٍّ أو تخطبَ، إن كنتَ ممن وفقه الله وأعطاه قدرةً على الإنطلاق في الكلام مهما يكن ومهما عندك من البلاغةِ والقدرةِ لابدَّ أن تتصور ذهنيًّا ما الذي ستتكلم فيه وما الذي ستتركه، وتقدِّم شيئًا على شيءٍ، وما الذي تؤخره وتقدمه وتوسطه وهكذا، فهذا المؤلف في كتابه يضع مقدماتٍ بعضَها فيها شيءٌ من التفصيلِ، وبعضَها بإيجازٍ ليهيِّئ القارئَ والدارس بهذا الكتاب حتى يكون على استعدادٍ.
قوله: (الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَشُرُوطِهِ).
وألفاظ الطلاق بعضها صريحٌ وبعضها كنايةٌ.
قوله: (الْبَابُ الثَّانِي: فِي تَفْصيلِ مَنْ يَجُوزُ طَلَاقُهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ).
هل يجوز طلاق المجنون؟، هل يجوز طلاق المعتوه؟
طلاق السكران؟، طلاق الصغير؟
هل هذا يحصل؟ سيأتي فيه الخلافُ بين الفقهاء.
قوله: (الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي تَفْصِيلِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ مِنَ النِّسَاءِ مِمَّنْ لَايَقَعُ).
كل ذلك سيبحثه المؤلف إن شاء الله بشيءٍ من الإجمال لا التفصيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الأوّلُ: فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَشُرُوطِهِ وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ فَصْلَانِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَنْوَاعِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقَةِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُقَيَّدَةِ).
اللفظ المطلقُ: كأن يقول الرجل لامرأته أنت طالق، واللفظ المقيد: كأن يقول لزوجته: إن دخلتِ هذه الدار أو أكلتِ هذا الرغيف، أو كلمت فلانًا فأنت طالقٌ، والتقييد قد يكون بشرطٍ، وربما يكودن باستثناء كأن يقول لها: أنت طالق إن شاء الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْفَصْل الْأَوَّل: فِي أَنْوَاعِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقَةِ
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ إِذَا كَانَ بِنِيَّةٍ وَبِلَفْظٍ صَرِيحٍ)
(1)
.
(1)
قال ابن حزم في "مراتب الإجماع"(ص 71): "اتفقوا أنَّ طلاق المسلم العاقل البالغ
…
إذا لفظ به بعد النكاح مختارًا له حينئذٍ وأوقعه في وقت الطلاق بلفظٍ من ألفاظ الطلاق على سنَّة الطلاق فإنه طلاقٌ".
هذا أمرٌ لا إشكالَ فيه؛ لأنه إذا نوى إنسان الطلاق ثم أورد لفظ الطلاق الذي لا إشكالَ فيه وهو: كلمة أنت طالقٌ أو مطلقةٌ أو طلقتك، هذا أمر مجمعٌ عليه ليس فيه إشكالٌ.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَقَعُ بِالنِّيَّةَ مَعَ اللَّفْظِ الَّذِي لَيْسَ بِصَرِيحٍ، أَوْ بِالنِّيَّةَ دُونَ اللَّفْظِ، أَوْ بِاللَّفْظِ دُونَ النِّيَّةَ)
(1)
.
أولًا: الإنسان قد ينوي الطلاق بنفسه ولا ينطق به بلسانه، فهل في هذا تأثيرٌ في الطلاق أن ينوى ولا يتلفظ لا ينطق؟
هذا من باب تكليف الإنسان بما لا يستطيع، أو على الأقلِّ ما يشق عليه، والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والله تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: "إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل"
(2)
، وفي روايةٍ:"ما لم تتكلَّم به أو تعملْ به"
(3)
.
فما يحدِّث الإنسان به نفسه هذا غير واردٍ، أما ما نقل عن الإمام الزهري
(4)
- وهو إمام وتابعي ومحدث معروف بعلمه وفضله - لكن خالفه العلماء في هذا الأمر وقبل كلام العلماء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: "إذا عزم الإنسان على الطلاق بقلبه لم يقع".
(1)
سيأتي تفصيل ذلك.
(2)
أخرجه البخاري (5269)، ومسلمٌ (127).
(3)
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (4/ 205)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلَّم به أو تعمل به".
وصححه الألباني في: "صحيح الجامع"(1730).
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (20119) حيث قال: "وكان الزهري يقول: إذا عزم على ذلك فقد طلقت لفَظ به أو لم يلفظْ به".
وابن سيرين يقول: أليس الله قد علم ما في نفسه
(1)
يعني: لو نوى الطلاق.
نعم الله يعلم السر وأخفى فهو سبحانه يعلم ما كان وما لم يكن أن لو كان كيف سيكون.
لكن الحق فيما ذهب إليه جمهور العلماء
(2)
من المحدثين والفقهاء أنَّ الإنسان إذا نوى الطلاق بقلبه لا يقع، ما لم يتمعه باللفظ؛ لأن هذا فيه مشقةٌ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه"
(3)
ويقول: "يسروا ولا تعسروا""
(4)
ويقول: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"
(5)
.
الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأشياء وقعت:
أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا لأمور كثيرة قبل أربعة عشر قرنًا ونجد أنها وقعت تترى
(6)
، فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، فكم من العلامات ومن الدلالات التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك مما أشار إليه الرسول: خروجُ بعض الفرق وقد خرجت كفلقِ الصبح
(7)
، ومنها ما سيحدث من علامات الساعة ومن الفتن ما أخبر عنها
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 254) حيث قال: "وقال ابن سيرين في رجلٍ طلَّق امرأته في نفسه: أليس قد علمه الله؟ ".
(2)
سيأتي.
(3)
أخرجه البخاري (39).
(4)
أخرجه البخاري (69)، ومسلمٌ (1732).
(5)
أخرجه البخاري (220).
(6)
أي: متتابعة. يقال: جاء القومُ تَتْرَى وتَتْرًى: أي واحدًا خلفَ واحدٍ يتبع بعضهم بعضًا، وأصله: وَتْرَى من الوَتْر وهو: الفرد. انظر: "المخصص"، لابن سيده (4/ 478).
(7)
ومن ذلك على سبيل المثال إخباره صلى الله عليه وسلم بخروج الخوارج كما أخرج البخاري (6931) ومسلم (1064) قال صلى الله عليه وسلم: "يخرج في هذه الأمة - ولم يقل: منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، فيقرؤون القرآن، لا يجاوز حلوقهم - أو حناجرهم - يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية".
وقد وقعت
(1)
، فقول العالمين الجليلين على العين والرأس لكن لا نترك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحدٍ.
والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل أصحابه يحذرهم من الظلم
(2)
، ويبين لهم المهمة التي أنيطت بهم، وأنَّ الله سبحانه وتعالى عندما اختارهم إنما اختارهم لهداية الخلق، وبين لهم أن هداية الخلق والدعوة إلى دين الله إنما تحتاج إلى الحكمة إلى الموعظة الحسنة، فالشريعة لها أصولٌ ولها قواعد ثابتة مستقرةٌ، من بينها اليسر والتخفيف، فالله سبحانه وتعالى رفع عنا الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، فهذه نعمةٌ أنعم الله تعالى بها علينا، وهي من النعم العظيمة التي لا تعد ولا تحصى على هذه الأمة.
نعم الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
1 -
فقد خصها الله بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، هذا النبي الكريم، خاتم الأنبياء وأفضلهم.
2 -
وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
ويجب على هذه الأمة أن تدرك هذه الفضائل، وأن تشكر من أنعم وتفضل وأحسن بها، الله علام الغيوب علينا أن نشكره سبحانه وتعالى على أن بعثنا في آخر الزمان، وجعلنا خير أمةٍ أخرجت للناس، فعلينا أن نقوم بالرسالة التي حمَّلنا إياها، بأن نصلح أنفسنا أولًا، ثم بعد ذلك نسعى لإصلاح ودعوة إخواننا المؤمنين إلى الخير، وأن نحبَّ لإخواننا ما نحب لأنفسنا،
(1)
ومن ذلك على سبيل المثال إخباره عن خروج الكذابين مدعين النبوة وأنها علامةٌ من علامات الساعة، وقد وقعت بخروج مسيلمة وغيره، كما أخرج مسلم (157):"لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجالون كذابون قريبٌ من ثلاثين؛ كلهم يزعم أنه رسول الله".
(2)
أخرج مسلم (2578) عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"اتقوا الظلمَ، فإنَّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة".
ولا تأخذنا الأناة والانفراد، وكلما سابقت إلى الخيرات، وأرشدت الضال، وهديت الخارج عن الطريق السوى، الله يضاعف لك الحسنات، ويعطيك الأجر العظيم.
وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يعفو عن الخطأ، قال صلى الله عليه وسلم:" عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(1)
، وفي بعض ألفاظه:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(2)
، كل منا بشرٌ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"كلكم خطاؤون وخير الخطائين التوابون"
(3)
فالإنسان ربما تصدر على لسانه كلمة لا يقصد معناها لا يؤاخذ بها، وربما يخطئ في كلمة لا يدرك معناها، يقول الله تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
وأما قوله: "وما استكرهوا عليه"
(4)
، قد يكره الإنسان على أمرٍ من الأمور فيه معصيه لله، لكن لو أكره إنسان على أن يقتل أخًا له فلا يجوز له ذلك، لأنه لا ينبغي أن يقدم غيره ضحيةً، ولو أكره على الزنا ليس له أن يفعل ذلك
(5)
.
(1)
أخرجه قريبًا من هذا اللفظ ابن عدي في الكامل (6/ 494)، من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي حدثني أبي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عفي لي عن أمتي الخطأ والنسيان والاستكراه". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(82).
(2)
أخرجه ابن ماجة (2045) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(82).
(3)
أخرجه الترمذي (2501)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(2/ 831).
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.
يُنظر في مذهب الأحناف: "مختصر القدوري"(ص 161) حيث قال: "وإن أكره بقتل على قتل لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يُقتل، فإن قتله كان آثمًا، والقصاص على الذي أكرهه إن كان القتل عمدًا
…
وإن أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة إلا أن يُكرهه السلطان".
ويُنظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 36) حيث قال: "من أُكره على قتل مسلمٍ فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك ولو أدى إلى قتله، وكذلك لو=
لكن لو أكره على السرقه فأكثر العلماء
(1)
قالوا يسرق، لأنه سيرد المال بعد ذلك إلى صاحبه، ولو أكره على شهادة الزور وكان يترتب عليها ذهاب نفسٍ مؤمنة فلا يجوز له ذلك
(2)
، فليس الإكراه على الإطلاق.
هم الإنسان بمعصية ولم يعملها:
فالإنسان لو فكَّر في أمرٍ من الأمور حتى ولو كانت معصيةً ما لم
= أكره على قطع يد مسلم أو رجلهِ مثلًا فإنه لا يسعه أن يفعله، ولو أدى إلى قتله، وكذلك لو أُكره على الزِّنا بذات زوجٍ أو سيدٍ أو مكرهةٍ فإنه لا يسعه الإقدام على ذلك ولو أدى إلى قتله".
ويُنظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 348)، وفيه قال:" (أو) زنى مكلفٌ (مكرهًا) حد؛ لأنَّ وطء الرجل لا يكون إلا مع انتشار، والإكراه ينافيه فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه".
وللشافعية قولان. يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 231)، حيث قال:"إكراه الرجل على الزنا في وجوب الحد عليه قولان".
ومعتمد المذهب على أنه لا يحد. يُنظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (8/ 389)، وفيه قال: "
…
كالمكره على الزنا وإن سقط الحد عنه؛ لأنَّ حق الله تعالى يسقط بالشبهة".
هو مذهب الحنفية والشافعية.
(1)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (3/ 274) حيث قال: "وإن أُكره على إتلاف مال مسلمٍ بأمر يخاف على نفسه أو على عضوٍ من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك؛ لأنَّ مال الغير يُستباح للضرورة".
وبنظر: "البيان في مذهب الإمام" للعمراني (2/ 435) حيث قال: "ولا يجب القطع على من أُكره على السرقة".
وذهب المالكية إلى عدم جواز ذلك.
يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(4/ 486) حيث قال: " (وإلا) بأن أكره على الإقرار، ولو بضرب - وأما الإقدام على السرقة فلا يجوز ولو بالقتل على الراجح".
وللحنابلة روايتان.
يُنظر: "المحرر" للمجد بن تيمية (2/ 159) حيث قال: "ومن أكره على السرقة فسرَق لم يقطع، وعنه يقطع".
(2)
لأنه يعد إكراهًا على القتل وتقدم تفصيله.
يعملها، فالله يتوب عليه، وفي قصة الثلاثه الذين انطبق عليهم الغار، أحدهم قد همَّ بمعصية عظيمةٍ، همَّ بامرأةٍ من أقرب الناس إليه، لكنه لما أراد أن يقع بها خوفته بالله سبحانه وتعالى، فترك تلك المعصية خشيةً وخوفًا لله سبحانه وتعالى، فكان من الثلاثه الذين دعوا لما انطبق عليهم الغار فانفرج عنهم، همَّ بمعصيةٍ ولم يفعلها فكتبت له حسنة
(1)
، هذا من عفو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يدعونا بقوله {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وهو الذي يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133].
ثانيًا: أن ينوي بالقلب لكنه يأتي بلفظٍ غير صريحٍ أي: كناية كالتي مرَّت بنا.
يعني: نوى الطلاق ثم جاء بعبارةٍ ليست صريحةً، كأن يقول لها: اختاري نفسك، أو فارقتك مع أن لفظ فارقتك عند بعضهم صريحٌ.
هنا يرجع إلى نيته في هذه الحالة، وبعضهم يعتبر ذلك صريحًا فيقع، والعلماء لم يتفقوا على جميع الكنايات؛ لأن من الألفاظ ما يعدُّه بعض العلماء كالشافعيةِ والحنابلة طلاقًا صريحًا، وبعض العلماء كالحنفية والمالكية يعده كنايةً وليس صريحًا.
ثالثًا: أن يتلفظ دون نيةٍ، يعني: يقول لها أنت طالق ولم ينو بقلبه، كلمة وردت على لسانه لم ينو بها طلاقًا، فإذا وقع باللفظ دون نية فإنه يقع عند جمهور العلماء.
قوله: (فَمَنِ اشْتَرَطَ فِيهِ النِّيَّةَ وَاللَّفْظَ الصَّرِيحَ فَاتِّبَاعًا لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الصَّرِيحِ)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2215)، ومسلم (2743) وفي القصة:"وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عمَّ أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نقسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها، قالت: يا عبد الله اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلمُ أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجةً".
(2)
وهم المالكية لأنهم يجعلون الكنايات الظاهرة كالصريح، فيشترط فيها النية. يُنظر:=
أثر النية على الإنسان:
النية أمرها كبيرٌ وشأنها عظيمٌ، فأول مسألةٍ في الكتاب مسألة النية، لأنَّ النية هي أن تخلص في قلبك لله سبحانه وتعالى، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، والله سبحانه وتعالى قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يكون مخلصًا في جميع أعماله، قال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 14 - 15]، وهذا الإخلاص نور وضياء وشعاع يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب العبد المؤمن، تستضيء به جوارحه، ويستنير به طريقه، فيسلك طريق الرشاد والهداية في جميع أعماله، ومن هنا نجد أنَّ الناس يتفاوتون في درجاتهم بسبب الإخلاص، فكلما قوي إخلاص العبد وقويت نيته وثقته بالله سبحانه وتعالى وتطهَّر قلبه من أي شكٍّ أو درنٍ أو معصيةٍ رفعه الله مكانًا عليًّا، فأبو بكر وهو رجلٌ واحدٌ لو ووزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح؛ لأنه لم يتطرق إلى قلبه رضي الله عنه شكٌّ ولا تردُّدٌ، فكان إذا أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سمعنا وأطعنا، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الإيمان الذي في القلب يزداد وينقص، يزداد بطاعة الله سبحانه وتعالى وينقص بمعصية الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:{فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 1، 2]، هذه هي الغاية التي يسعى إليها كل مؤمنٍ، فلنحرص على إخلاص الأعمال لله عز وجل.
قوله: (وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْعَقْدِ فِي النَّذْرِ).
يعني: إنسان يقول: إن شفى الله مريضي سأحج سأصوم سأتصدق
= "جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 296) حيث قال: "والكناية قسمان ظاهر ومحتملٌ، فالظاهر ما هو في العرف طلاقٌ مثل سرحتك وفارقتك وأنت حرامٌ وبتةٌ وبتلةٌ وخليةٌ وبريةٌ وبائنٌ وحبلك على غاربك وكالميتة وكالدم وكلحم الخنزير، ووهبتك، ورددتك إلى أهلك، وهي كالصريح في أنه لا يقبل دعواه في غير الطلاق".
هذا نذرٌ، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل
(1)
، فالأصل أنَّ الإنسان يفعل الخير دون أن يلزم نفسه به، لماذا لا تسارع إلى الخيرات تقوم بنفس طيبةٍ راضيةٍ نقيةٍ، الله فتح لك المجال، أعطاك الفوصةَ، أمرك بالمسابقة والاستباق، وكما قال ابن القيم رحمه الله
(2)
:
فَحَيَّ على جنات عدنٍ فإنها
…
منازلنا الأولى وفيها المخيم
إذًا أنت سابق إلى هذه الأعمال الطيبة وسارع إليها.
قوله. (وَفي الْيَمِينِ أَوْقَعَهُ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ)
(3)
.
فالأيمان التي تأتي في كلام الإنسان لا والله وبالله لا يؤاخذ عليها، قال تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، وأخطرها اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهو الذي يحلف على أمر وهو يعلم أنه كاذبٌ فيه، ربما ينجو من الناس، ولكنه سيقف بين يدي علام الغيوب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى وضع لنا منهجًا لعل أحدكم يكون أقوى بحجته من الآخر فأحكم على نحو ما أسمع فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئًا فليأخذه أو فليدعه إنما أقطع له قطعةً من نار
(4)
.
قوله: (وَمَنْ أَعْمَلَ التُّهَمَةَ أَوْقَعَهُ بِاللَّفْظِ فَقَطْ).
من أعمل التهمة أوقع الطلاق باللفظ من باب سد الذرائع
(5)
،
(1)
أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"النذر لا يقدم شيئًا، ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل".
(2)
يُنظر: "إغاثة اللهفان "لابن القيم (1/ 71).
(3)
هو قول الزهري وابن سيرين وتقدم.
(4)
أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعةً من النار".
(5)
سد الذريعة: هو منع فعل بعض الأشياء لأنها تكون ذريعةً أو طريقًا يؤدي إلى فعل المحظور المنهي عنه. يُنظر: "الموافقات" للشاطبي (2/ 527).
لأنه كما مرَّ بنا في قضية الطلاق، الطلاق لفظ واحدٌ، واختلاف العلماء فيها
(1)
وأن السلف على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين وفي بعض الروايات ثلاث سنوات من خلافة عمر واحد، وأنَّ عمر لما رأى الناس قد تعجلوا أمرًا هم في أناةٍ منه، أقامه عليهم
(2)
أي: نفذه عليهم، ووقع الخلاف في ذلك.
ولذلك لا ينبغي للمسلم ألا يسارع إلا في شيءٍ واحد وهو فعل الخير، فالإنسان إذا سارع في فعل الخير لا يندم.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب الخير بين الله والناس
فعل الخير لا يمكن أن تندم عليه، لكن تندم على فعل السيئات، لكن الله أعطاك مجالًا إذا تبت ورجعت إليه بنفس راضيةٍ مطمئنةٍ، وأنت نادم على ما مضى، مصر ألا تعود فالله سبحانه وتعالى يغفر لك.
(1)
ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع الطلاق ثلاثًا بلفظٍ واحدٍ وفي وقتٍ واحدٍ.
مذهب الحنفية: ينظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 190) حيث قال: "تطليقها ثلاثًا في طهرٍ واحدٍ أو بكلمةٍ واحدةٍ طلاقٌ بدعيٌّ، وكذلك الثنتان في طهرٍ واحدٍ أو بكلمةٍ واحدةٍ". والطلاق البدعي واقعٌ.
ومذهب المالكية: ينظر: "الفواكه الدواني " للنفراوي (2/ 31) حيث قال: "وطلاق الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ بدعة ويلزم إن وقع".
ومذهب الشافعية: ينظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (8/ 8) حيث قال: "وأنت (طالق)، وإن قال ثلاثًا على سائر المذاهب فيقعن وفاقًا لابن الصباغ وغيره وخلافًا للقاضي أبي الطيب ولا نظر لكونه لا يقع على سائر المذاهب؛ لأن منها من يمنع وقوع الثلاث جملةً".
ومذهب الحنابلة: ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 240) حيث قال: " (وإن طلقها) أي طلق رجلٌ زوجته (ثلاثًا بكلمةٍ) حرمت نصًّا ووقعت".
وذهب ابن تيمية إلى أن الثلاث تقع واحدةً إذا كانت بلفظٍ واحدٍ، وأطال في الرد وذكر الأدلة عليه. يُنظر:"مجموع الفتاوى"(311/ 32).
(2)
أخرجه مسلم (1472) عن ابن عباس، قال:"كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمو، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنَّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم".
قوله: (وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ
(1)
عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقَةَ صِنْفَانِ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ).
جمهور العلماء متفقون على أنَّ ألفاظ الطلاق ليست كلها على نسقٍ واحدٍ ففيها ما هو صريحٌ ككلمة طالق ومطلقة وطلقتك ونحو ذلك؛ لأنه وضع فيه عرف الشرع في هذه الكلمة إذا أطلقت فهي تنصرف إلى هذا، أما إذا أريد بها غيرها فلا بد من التقييد كأن يقول: أنت طالق من الوثاق، أي: الرباط، لا نقول أن هذا طلاق لكن لابد من قرينة نجدها، أما الألفاظ الأخرى التي ليست صريحةً في الطلاق فلا بد أن نرجع فيها إلى النية.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيلِ الصَّرِيحِ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَفِي أَحْكَامِهَا وَمَا يَلْزَمُ فِيهَا، وَنَحْنُ إِنَّمَا قَصدْنَا مِنْ ذَلِكَ ذِكرَ الْمَشْهُورِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ).
هذا هو منهج المؤلف رحمه الله وعفا عنا وعنه - أنه لا يحصد الفروع، وإنما يأتي بالأصول أي: أمهات المسائل، وإلا لو أراد أن يأخذ بالفروع لتضاعف كتابه إلى عشر مراتٍ، فهو مجلدان فيضرب بعشرة فتصل إلى عشرين لكنه وضع أسس وهذا شيء طيبٌ.
(1)
ينظر في مذهب الأحناف: "مختصر القدوري"(ص 112) حيث قال: "والطلاق على ضربين: صريحٌ وكنايةٌ".
وانظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 43) حيث قال: "ولفظه" اللفظ الصريح الذي تنحل به العصمة دون غيره من سائر الألفاظ وهو ما فيه الطاء واللام والقاف، ويأتي الكلام على الكنايات الظاهرة والخفية".
وانظر في مذهب الشافعية: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 106) حيث قال: "ويقع بصريحه بلا نيةٍ وبكنايةٍ بنيةٍ".
وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع" للحجاوي (4/ 9) حيث قال: "صريح الطلاق وكنايته: الصريح ما لا يحتمل غيره من كل شيءٍ، والكناية ما يحتمل غيره ويدل على معنى الصريح".
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
(1)
: الصَّرِيحُ هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ فَقَطْ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ كنَايَة، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ظَاهِرَة وَمَحْمُولَة
(2)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(3)
.
مالك ليس عنده من ألفاظ الطلاق صريحًا إلا لفظ الطلاق ومعه أبو قالوا: لأن هذا هو الذي يؤديه ولا يلتبس به غيره، فكلمة الطلاق نص فيه لفظ صريحٌ لا يحتمل غيره، إذا هو اللفظ الذي وجد له الشيء الصريح هو الذي يوضع للشيء ولا يحتمل غيره، وهذا الحال بالنسبة إلى الطلاق، وإن احتمل غيره فيكون احتمالًا بعيدًا كأن يقول لها: أنت طالق ويقيده من الوثاق، لكن مالكًا يخالف أبا حنيفة في الكنايات، فبعض الكنايات تكون ظاهرةً مثل: اختاري نفسك، وبعضها تكون محتملةً مثل: ملكتك نفسك، لكن في لفظ صريح الطلاق متفقان.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: أَلْفَاظُ الْطَّلَاقِ الصَّرِيحَةُ ثَلَاثٌ: الطَّلَاق، وَالْفِرَاق، وَالسَّرَاح، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآن).
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 43) حيث قال: "اللفظ الصريح الذي تنحل به العصمة دون غيره من سائر الألفاظ وهو ما فيه الطاء واللام والقاف".
(2)
يُنظر: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (2/ 79)، وفيه قال:"والرابع: الصيغة وتنقسم إلى صريح، وهو ما فيه لفظ الطلاق ولا يحتاج إلى نيةٍ، وإلى كنايةٍ وهي قسمان: ظاهرة وستأتي، ومحتملة نحو: اذهبي وانصرفي، فتقبل دعواه في نيته وعدده".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 112) حيث قال: "فالصريح قوله: أنت طالقٌ، ومطلقةٌ، وطلقتك، فهذا يقع به الطلاق الرجعي ولا يقع به إلا واحدة وإن نوى أكثر من ذلك، ولا يفتقر إلى النية".
(4)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 269) حيث قال: "فالصريح الطلاق والسراح) بفتح السين (والفراق) ".
قال الشافعي وأحمد
(1)
بأنها ثلاث؛ لأن هذه هي التي نطق بها الكتاب العزيز.
فالله سبحانه وتعالى يقول: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقال سبحانه وتعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ} [الطلاق: 2].
وقال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130].
وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49].
قالوا هذه ألفاظ وردت في كتاب الله عز وجل والمراد بها الطلاق، فنعتبرها ألفاظًا صريحةً.
فلو أنَّ رجلًا قال لامرأته: فارقتك. فهذا لا يعتبر كناية عند الشافعي وأحمد، وإنما هو لفظ صريح يقع به الطلاق، وهو من الكنايات الظاهرة عند مالك لكنه لا يراه صريحًا، والحنفية والمالكية يقولون: هذان اللفظان غير الطلاق، وأريد بهما الطلاق وأريد بهما غير الطلاق في كتاب الله عز وجل، أليس الله سبحانه وتعالى يقول:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] هذه من الفرقة من الخلاف، ثم قال بعد ذلك:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وقال تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4]، فالتفرق يطلق ويراد به الطلاق ويطلق ويراد به غير الطلاق كتفرق الجماعة الذي نهانا الله سبحانه وتعالى عنه وحذرنا منه، كما كان الناس في الجاهلية، قال تعالى:{كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، ومع ذلك يقولون هناك من
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 245) حيث قال: "فلو قال أنت طلاقٌ أو الطلاق أو طلقتك أو مطلقةٌ فهو صريحٌ (لا غير) أي: ليس صريحه غير لفظ الطلاق وما تصرف منه كالسراح والفراق".
الحنابلة
(1)
من يخالف إمامه يعني: ينضم إلى الحنفية والمالكية في أنَّ اللفظ الصريح في الطلاق إنما هو لفظ الطلاق فقط.
ولهم تعليقٌ على قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ} [الطلاق: 2].
قالوا: ليس المراد بالمفارقة الطلاق وإنما هو عدم ارتجاعها.
وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
قالوا: المراد من ذلك عدم الرجعة.
فالمسألة فيها خلافٌ، ولا شك أنَّ الذين اتجهوا إلى أنَّ اللفظ
الصريح الذي لا غبار عليه هو لفظ الطلاق، ويظهر لي أن هذا هو أصرح، لكن الأخرى أقل ما يكون فيها أنها كنايات ظاهرة، فتلحق بذلك، لكن لو قال إنسان لامرأته أنا فارقتك، إن قلنا هي لفظ صريح وقع الطلاق وانتهى كمذهب الشافعي وأحمد، وإذا قلنا هي كناية فيرجع إلى نيته.
وهنا يظهر الفرق بينهما؛ لأنه عندما يقول: فارقتك يمكن أن يكون قصده فارقتك إلى العمل، فارقتك بجسمي، فارقتك بقلبي، هناك احتمالات كثيرة.
وعندما يقول: سرحتك. يمكن أن يكون قصده سرحتك من يدي كان ممسكًا بها وأطلقها ونحو ذلك، إذًا هناك احتمالاتٌ، أما الطلاق فلا.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(2)
: لَا يَقَعُ طَلَاقٌ إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلاثِ. فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ صَرِيحِهِ).
منهج أهل الظاهر هو الأخذ بظواهر النصوص فهم لا ينظرون إلى
(1)
مثل ابن حامد. يُنظر: "الهداية" للكلوذاني (ص 431) حيث قال: "وقال ابن حامدٍ: صريحه لفظ واحدٌ وهو الطلاق وما تصرف منه".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 185) حيث قال: "لا يقع طلاقٌ إلا بلفظٍ من أحد ثلاثة ألفاظٍ: إما الطلاق وإما السراح وإما الفراق".
المفهوم، فهناك في الأصول مفهوم الموافقة
(1)
ومفهوم المخالفة
(2)
، وهم يعارضون في المفهوم، ولا يرون القياس، ولهم تعليلات غير واردةٍ، مع أنَّ الشريعة أثبتت القياس في دلالات الكتاب العزيز وفي السنة، فمن ذلك قوله تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر: 2] الاعتبار هو المقايسة، وفي قصة الرجل الذي جاء وشكا أنَّ امرأته ولدت له ولدًا يخالف لون أبيه وأمه، فضرب له الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا قايسه في ذلك
(3)
.
قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ صَرِيحٌ، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ دَلَالَة وَضعِيَّة
(4)
بِالشَّرْعِ، فَصَارَ أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ).
معنى وضعية؛ أنه وضع للدلالة على هذا المقصود، فكلمة طلق يطلق لفظ له مدلولٌ لغويٌّ وشرعيٌّ، ومدلوله الشرعي يتفق مع اللغوي، لكن المدلول
(1)
مفهوم الموافقة: هو ما كان حكم المسكوت عنه ليس أولى من حكم المنطوق به، بل يساويه ويسمى لحن الخطاب، أي معنى الخطاب، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} ، فقد دلت الآية بمنطوقها على تحريم أكل أموال اليتامى، ودلت بمفهومها على تحريم إحراقها وإغراقها، وهذا هو المسكوت عنه، فنبَّه بالمنع من الأكل على كل ما يساويه في الإتلاف. يُنظر:"مختصر الروضة" للطوفي (2/ 716).
(2)
مفهوم المخالفة: هو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. ويسمونه دليل الخطاب، لأن الخطاب دل عليه. مثاله: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} المنطوق: وجوب تحرير رقبة مؤمنة، والمفهوم: منع تحرير رقبة كافرة. يُنظر: "مختصر الروضة" للطوفي (2/ 724).
(3)
أخرجه البخاري (5305)، ومسلم (1500) عن أبي هريرة، قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال:"فما ألوانها؟ " قال: حمر، قال:"هل فيها من أورق؟ " قال: إن فيها لورقًا، قال:"فأنى أتاها ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال:"وهذا عسى أن يكون نزعه عرقٌ".
(4)
الدلالة الوضعية: هي دلالة اللفظ على أصل وضعه في اللغة. يُنظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (ص 173).
اللغوي له عدة احتمالات، لكن الشرع خصه بالطلاق المعروف، فإذا قال الإنسان: طلقت انتهى، لكن لو أراد غير ذلك كفك الحبل الذي في يدها وقال أنت طالق، عرفنا أنه أطلق القيد فزال الإشكال.
قوله: (وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ فَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّرْعِ فِيهَا تَصَرُّفٌ - أَعْنِي: أَنْ تَدُلَّ بِعُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ -، أَوْ هِيَ بَاقِيَة عَلَى دَلَالَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ. فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى - أَعْنِي: فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ - كَانَتْ مَجَازًا، إِذْ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْكِنَايَةِ، - أَعْنِي: اللَّفْظَ الَّذِي يَكُونُ مَجَازًا فِي دَلَالَتِهِ
(1)
-).
يعني: لما يقول الرجل أنا سرحتك، ربما يكون هناك تعامل مالي بين الزوجين فيقول سرحتك احتمال أنه فك الشركه بينهما، وسرحتك يعني: أطلقتك من يدي، وهكذا توجد احتمالات كثيرة، فارقتك يعني: بجسمي، أو يقول: فارقيني بجسمك، فارقتك بقلبي، فارقتك بعملي، أنت في جهة وهي في جهة في العمل، فالاحتمال قائم، ولذلك ابن حامد من علماء الحنابلة خالف المذهب
(2)
في ذلك وانضم إلى مذهبي الحنفية والمالكية؛ لأنَّ الفراق والسراح وردا في القرآن والسنة بمعان أخرى وكذلك في لغة العرب.
والعلماء يقسمون البلاغة إلى علوم ثلاثة: علم المعاني، وعلم البديع، وعلم البيان.
وعلم البيان هو الذي يرد فيه ما نقول عنه استعارة وكناية ومجاز ونحو ذلك.
(1)
قال السرخسي في "المبسوط"(6/ 77): "ولكنا نقول الصريح ما يكون مختصًّا بالإضافة إلى النساء فلا يستعمل في غير النكاح، وهذا لا يوجد في هذين اللفظين، فإن الرجل يقول: سرحت إبلي، وفارقت غريمي أو صديقي، فهما كسائر الألفاظ المبهمة لا يقع بهما الطلاق إلا بالنية".
(2)
تقدَّم.
المجاز في القرآن:
وقضية المجاز في الكتاب العزيز تكلم فيه العلماء:
1 -
فبعضهم يتوقف
(1)
.
2 -
وبعضهم يقول القرآن فيه مجاز
(2)
.
3 -
وبعضهم نحى منحًا جيدًا فقال هو ليس مجازًا، ولكنه إيجاز بالحذف
(3)
، والحذف جائز والترخيم موجود في القرآن، قال تعالى:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ}
(4)
يعني يا مالك ليقض علينا ربك.
وكذلك الحذف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] يعني: أهل القرية، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} [الكهف: 79] يعني: صالحة.
ويختلفون في وجوده في لغة العرب، وبعضهم يرى ذلك إيجازا
(5)
، وهناك كلام كثير للعلماء في هذه المسألة.
(1)
لم أجده.
(2)
وهو قول جمهور الأصوليين. يُنظر: "العدة" لأبي يعلى (2/ 695) حيث قال: "في القرآن مجازٌ نص عليه أحمد وهو قول الجماعة".
(3)
قال المرداوي في "التحبير"(6/ 2868): "والثاني: مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (واسأل العير) أي: أهل القرية وأهل العير؛ إذ لو لم يقدر ذلك لم يصح ذلك".
هذا النوع أيضًا يعتبرونه مجازًا، ويسمونه مجازًا بالحذف. انظر: تفسير الخازن (2/ 548)، حيث قال في قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} يعني: واسأل أهل القرية، إلا أن حذف المضاف للإيجاز، ومثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب".
(4)
يُنظر: "المحتسب" لابن جني (2/ 257) حيث قال: "ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب وابن مسعود " رضي الله عنهما " ويحيى والأعمش: (يَا مَال).
قال أبو الفتح: هذا المذهب المألوف في الترخيم، إلا أن فيه في هذا الموضع سرًّا جديدًا، وذلك أنهم - لعظم ما هم عليه - ضعفت قواهم، وذلت أنفسهم، وصغر كلامهم؛ فكان هذا مواضع الاختصار ضرورة عليه، ووقوفًا دون تجاوزه إلى ما يستعمله المالك لقوله، القادر على التصرف في منطقه".
(5)
قال الخفاجي في "سر الفصاحة"(ص 210): "ومما قصد به الإيجار: حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه بحث يقع العلم ويزول اللبس، كقوله تبارك وتعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} والمعنى أهل القرية وأصحاب العير".
قوله: (وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِهَذ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ عِبَادَةٌ، وَمِنْ شَرْطِهَا اللَّفْظ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ بِهَا عَلَى اللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ الْوَارِدِ فِيهَا).
هكذا قال أهل الظاهر
(1)
، لكن كلام أهل الظاهر مردودٌ من السنة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"الحقي بأهلك"
(2)
، وبعضهم يضيف خليةً أو بريةً أو بائنةً كالمالكية والحنابلة في روايةٍ، لكن المسَلَّم هو لفظ الطلاق وما اشتقَّ منه، أما الألفاظ الأخرى التي هي خلية وبرية والتي هي الفراق والسراح هذه عند الحنابلة
(3)
والشافعية
(4)
من الصريح، وعند غيرهم ليست من الصريح
(5)
، فالكنايات منها ما هو صريحٌ ومنها ما هو كناية عند المالكية والحنابلة، والذين ذهبوا إلى أنَّ لفظ السراح والفراق ليست من ألفاظ الطلاق الصريح قالوا لأنها تقال في الطلاق وفي غيره، وذكرنا الأدلة من القرآن العزيز على أنها تطلق ويراد بها الطلاق، وتطلق ويراد بها غير الطلاق.
عدم التسرع في الطلاق:
والطلاق من أعظم الأمور وأشدها، وينبغي للمسلم ألّا يتسرع فيه
(1)
قال ابن حزم في "المحلى"(10/ 186): "لم يذكر الله تعالى حل الزوج للزوجة إلا بهذه الألفاظ فلا يجوز حل عقدةٍ عُقدت بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بما نص الله عز وجل عليه".
(2)
أخرجه البخاري (5254) عن عائشة رضي الله عنها: أن ابنة الجون، لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ باللّه منك، فقال لها:"لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك".
(3)
هي عندهم وعند الشافعية من الكنايات. يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 87) حيث قال: "فالكناية الظاهرة خمسة عشر أنت خليةٌ، وأنت بريةٌ، وأنت بائنٌ .... ولفظ فراق، و) لفظ (سراح وما تصرف منهما) ".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (8/ 13)، وفيه قال:(وكنايته) أي الطلاق ألفاظ كثيرةٌ بل لا تنحصر (كأنت خلية) أي: من الزوج فعيلة بمعنى فاعلة (برية) أي منه (بتة) أي: مقطوعة الوصلة.
(5)
هي عند الكل من الكنايات كما تقدم.
وألا يتهاون فيه، حتى لو صدرت منه لفظة ثم أفتاه أحد العلماء أو أكثر من عالمٍ بأن ذلك لا يعد طلاقًا، فالله يعلم أن غيره يرى أنه طلاقًا فيبقى في حياته في نغصٍ ونكدٍ، فالإنسان إذا بقي وهو مترددٌ في أمر لا يكون مرتاحًا، لكن متىَ يكون مرتاحًا؟
إذا فعل ما أرشده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فعلينا أن نتجنب الحديث عن الطلاق، فكثير من المسلمين - هداهم الله - وربما العامة تجد أنه عندما يختلف مع أحدٍ يشير إلى طلاق امرأته في يمين كذا.
والرسول أوصاك بهذه الزوجة خيرًا، وبيَّن أنك أخذتها بأمانة الله، وأنك استحللت فرجها بكلمة الله
(1)
فلماذا تجعلها بضاعة رخيصة وأنت أوصيت بها خيرًا.
لم لمْ تأخذ بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ضعيفة عوان بين أيديكم ليس معنى ذلك أنك تعلو وتتجبر، فكما أنَّ المرأة مأمورةٌ بالطاعة والخضوع لزوجها والسمع والطاعة، كذلك ينبغي على الرجل أن يتق الله فيها.
قوله: (فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَحْكَامِ صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَان مَشْهُورَتَان: إِحْدَاهُمَا: اتَّفَقَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهَا
(4)
).
(1)
أخرجه مسلمٌ (1218).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 378) حيث قال: (ولفظه) الصريح الذي تنحل به العصمة ولو لم ينو حلها متى قصد اللفظ (طلقت وأنا طالق) منك (أو أنت) طالقٌ (أو مطلقة) بتشديد اللام المفتوحة (أو الطلاق لي) ".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 280) حيث قال: "لو قال أردت بالطلاق إطلاقها من وثاقٍ، أو بالفراق مفارقة المنزل أو فراقًا بالقلب، أو بالسراح تسريحها إلى منزل أهلها، أو أردت غير هذه الألفاظ فسبق لساني إليها ولم يكن قرينة تدل على ذلك لم يقبل في الظاهر؛ لأنه خلاف ما يقتضيه اللفظ عرفًا".
(4)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 270) حيث قال: "وكونها لا تفتقر إلى النية بأنه صريحٌ فيه لغلبة الاستعمال".
وأحمد
(1)
.
قوله: (وَالثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَأَمَّا الَّتِي اتَّفَقُوا عَلَيْهَا: فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ، وَأَبَا حَنِيفَةَ قَالُوا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُطَلِّقِ إِذَا نَطَقَ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ).
إذا نطق بصريح الطلاق بلفظ الطلاق أو ما اشتق منه لا يقبل قوله سواء كان جادًّا أو لا، نوى أو لم ينو، لحديث:"ثلاث جدهنَّ جد وهزلهنَّ جد: الطلاق والنكاح والعتاق"
(2)
.
وفي رواية: "الرجعة"
(3)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ السَّرَاحُ وَالْفِرَاقُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ)
(4)
.
يقول لها: سرحتك أو فارقتك عند الشافعية والحنابلة تعد من صريح الطلاق
(5)
.
قوله: (وَاسْتَثْنَتِ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنْ قَالَتْ: إِلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ بِالْحَالَةِ أَوْ الْمَرْأَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاه، مِثْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُطْلِقَهَا مِنْ وَثَاقٍ هِيَ فِيهِ وَشِبْهِهِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ)
(6)
.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 246) حيث قال: (وإذا أتى بصريح الطلاق) غير حاك ونحوه (وقع؛ نواه أو لم ينوه)؛ لأن سائر الصرائح لا تفتقر إلى نيةٍ فكذا صريح الطلاق فيقع".
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 304)، عن فضالة بن عبيد الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثٌ لا يجوز اللعب فيهن، الطلاق، والنكاح، والعتق".
وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1826).
(3)
أخرجه أبو داود (2194) وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 224).
(4)
تقدَّم أنها من ألفاظ الصريح.
(5)
تقدَّم أنها من ألفاظ الصريح.
(6)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 44) حيث قال: "إذا قال لزوجته أنت طالقٌ في جواب قولها له - وهي موثقةٌ بقيدٍ ونحوه - أطلقني، وقال: إنما أردتُ من ذلك الوثاق ولم أرد به الطلاق فإنه يصدق في نفي إرادته، فإن لم تسأله ففي تنويته وعدمها إذا حضرته البينة تأويلان وأما في الفتيا فيصدق قولًا واحدًا".
ومعهم الحنابلة
(1)
يعني لو قال: أنتِ طالق، وقال: ما أردت الطلاق، يقال له: بل أردت؛ لأن هذا لفظ صريحٌ لا يحتمل غيره إلا احتمالًا بعيدًا جدًّا، فيقول: أنا أردت أنها طالقٌ من الوثاق أي: من القيد أي: من الرباط، فحينئذٍ يقبل كلامه في هذا المقام.
قوله: (وَفِقْهُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِي وَأَبِي حَنِيفَة: أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَهُمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ).
الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد
(2)
يرون أن الأمر لا يحتاج في صريح الطلاق إلى نية، ولا في الكنايات الصريحة عدا الشافعية
(3)
.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، لَكِنْ لَمْ يُنَوِّهْ هَا هُنَا لِمَوْضِعِ التُّهَمِ).
لم يعتبر النية هنا؛ لأنه متهمٌ فما دام متهمًا، فنعامله بنقيض قصده، فنقول: أنت ما دمت قلت هذا، فهذه تحتمل الطلاق، إذًا يقع الطلاق.
قول: (وَمِنْ رَأْيِهِ: الْحُكْمُ بِالتُّهَمِ سَدًّا لِلذَّرَائِعِ).
المالكية يتوسعون في باب سد الذرائع، فيتشدَّدون في بعض الأمور، وتوضع هناك ضوابطُ، فقد يمنعون من بعض الأمور المحتملة حتى لا يتجرأ أحدٌ على بعض أحكام الشريعة الإسلامية.
قوله: (وَذَلِكَ مِمَّا خَالَفَهُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، فَيَجِبُ عَلَى
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 83) حيث قال: " (وإن أراد) أن يقول: (طاهرًا أو نحوه) كإرادته أن يقول: طاعنًا أو طامعًا (فسبق لسانه) بطالق، أو أراد أن يقول طلبتك فسبق لسانه بطلقتك دين ولم يقبل حكمًا".
(2)
تقدَّم.
(3)
تقدَّم.
رَأْيِ مَنْ يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَلَا يَحْكُمُ بِالتُّهَمِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا ادَعَى).
وأحمد.
قوله: (وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ اخْتَلَفوا فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِق، وَادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَكثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ: إِمَّا ثِنْتَيْنِ وإِمَّا ثَلَاثًا).
أطلق اللفط وقال: أنت طالق، فهذا اللفظ عندما يطلق، فظاهره أنه لا يقصد به الثلاث، لكن من باب سد الذرائع على مذهب مالك إن قال هذا فيرجع إلى نيته.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مَا نَوَى
(1)
، وَقَدْ لَزِمَهُ - وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، إِلَّا أَنْ يُقَيِّدَ فَيَقُولَ: طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، فَقَالَ: لَا يَقَعُ ثَلَاثًا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يَتَضَمَّنهُ لَفْظُ الْإِقْرَادِ، لَا كنَايَةً وَلَا تَصْرِيحًا).
لو قال الرجل لامرأته: أنت طالق وسكت حينئذ يُرجع إلى نيته، فلو يقصد طلقة واحدةٍ فحينئذ يؤخذ بنيته عند العلماء جميعًا، وإذا أراد أكثر من ذلك فهل للنية تأثيرٌ في اللفظ؟
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 572) حيث قال: "من قال لامرأته أنت طالقٌ فهي واحدةٌ إلا أن ينوي أكثر من ذلك، فإن نوى بقوله أنت طالقٌ اثنتين أو ثلاثًا لزمه ما نوى، وإن لم ينو شيئًا فهي واحدةٌ يملك الرجعة".
(2)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 107) حيث قال: "ولو قال أنت طالقٌ واحدةً ونوى عددًا فواحد وقيل المنوي".
(3)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 231) حيث قال: "ولو قال أنت الطلاق أو أنت طالقٌ الطلاق أو أنت طالق طلاقًا فإن لم تكن له نيةٌ أو نوى واحدةً أو ثنتين فهي واحدةٌ رجعيةٌ، وإن نوى ثلاثًا فثلاثٌ، ووقوع الطلاق باللفظة الثانية والثالثة ظاهرٌ؛ لأنه لو ذكر النعت وحده يقع به الطلاق فإذا ذكره وذكر المصدر معه وأنه يزيده وكادة أولى".
1 -
مالك والشافعي وأحمد
(1)
في رواية: يعتبر النية هنا.
2 -
وعند أبي حنيفة وروايةٍ أخرى لأحمد
(2)
: لا تعتبر النية هنا؛ لأنَّ كلمة طالق تطلق على أقلِّ مدلولها، وهي طلقة واحدة.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، أَوْ بِالنِّيَّةِ مَعَ اللَّفْظِ الْمُحْتِمِلِ؟ فَمَنْ قَالَ بِالنِّيَّةِ
(3)
أَوْحَط الثَّلَاثَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ الْمُحْتَملِ وَرَأَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ فِي الطَّلَاقِ مَعَ النيّةَ قَالَ: لَا يَجِبُ الْعَدَدُ وَإِنْ نَوَاهُ)
(4)
.
وقوع الطلاق على ما يفهم به كلام المؤلف لا يريد النية فقط دون وجود لفظ معها، ولكن قصده النية مع قوله طالق، فالإنسان إذا نوى الطلاق في نفسه فهو حديث النفس وهذا لم يخالف فيه إلا تابعيان، وهما الزهري وابن سيرين، ولا حجة لذلك القول، بل الحجة في قول من خالفه، فمن قال كلمة طالق نرجع فيها إلى نيته إن نوى أكثر من واحدةٍ وقعت وإن نوى واحدةً وقعت، وهناك من لا يرجع إلى النية ويقتصر على واحدةٍ، فاللفظ يدل على واحدةٍ، ولا يجب أن نتجاوز غيرها.
قوله: (وَهَذ الْمَسْأَلَةُ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ - أَعْنِي: اشْتِرَاطَ النِّيَّةَ مَعَ اللَّفْظِ، أَوْ بِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا).
هناك مسألةٌ أجمع عليها العلماء وهي إذا اجتمع صريح الطلاق مع
(1)
يُنظر: "الكافي" لابن قدامة (3/ 121) حيث قال: "إن قال: أنت طالق ولم ينو عددًا فهي واحدةٌ وإن نوى ثلاثًا أو اثنتين: ففيه روايتان:
…
الثانية: يقع به ما نواه".
(2)
يُنظر: "الكافي" لابن قدامة (3/ 121) حيث قال: "إن قال: أنت طالقٌ ولم ينو عددًا فهي واحدةٌ وإن نوى ثلاثًا أو اثنتين: ففيه روايتان؛ إحداهما: لا يقع إلا واحدةً؛ لأن لفظه لا يتضمن عددًا ولا بينونة فلم يقع به ثلاثٌ كالتي قبلها".
(3)
تقدَّم أنه قول الزهري.
(4)
وهو قول الحنفية وروايةٌ عن أحمد كما تقدَّم.
النية، هذه لم ينازع فيها أحدٌ
(1)
، وذهب كثير من العلماء لو أنَّ إنسانًا طلَّق دون أن ينوي وقع الطلاق عند الجمهور
(2)
، واختلفوا فيما يقع لو كان اللفظ غير صريحٍ ووجدت النية، وكما سيأتي إما أن يذهبوا إلى وقوع الطلاق دون نيةٍ، وهذا قول ضعيف، أما من يذهبُ إلى وقوع الطلاق بالنية دون لفظٍ، وهذا قولٌ ضعيفٌ.
قوله: (فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِاللَّفْظِ وَالنِّيَّةِ
(3)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقَعُ بِاللَّفْظِ دُونَ النيَّةِ
(4)
.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(5)
أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ الصَّرِيحَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ).
وهو مذهب أحمد
(6)
.
(1)
انظر: "مراتب الإجماع"، لابن حزم (ص: 71)، وفيه قال: "اتفقوا أن طلاق المسلم العاقل البالغ الذي ليس سكران ولا مكرهًا ولا غضبان ولا مكرهًا ولا محجورًا ولا مريضًا لزوجته التى قد تزوجها زواجًا صحيحًا جائزٌ إذا لفظ به بعد النكاح مختارًا له حينئذٍ وأوقعه في وقت الطلاق بلفظٍ من ألفاظ الطلاق على سنة الطلاق فإنه طلاقٌ.
تنبيه: هذا النقل فيه صريح اللفظ، والنية من قوله مختارًا، الاختيار لا يكون إلا بنية.
(2)
تقدَّم نقل اتفاق المذاهب على وقوع الطلاق بصريح اللفظ دون النية.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 377) حيث قال: "ولما كانت ألفاظ الطلاق وهي الركن الرابع ثلاثة أقسام: صريح، وكناية ظاهرة، وكناية خفية".
(4)
المشهور عند الحنفية أنه يقع باللفظ الصريح دون نية. يُنظر: "المختصر للقدوري"(ص 112) حيث قال: "والطلاق على ضربين: صريحٌ وكناية، فالصريح قوله: أنت طالقٌ ومطلقةٌ وطلقتك فهذا يقع به الطلاق الرجعي ولا يقع به إلا واحدةً وإن نوى أكثر من ذلك، ولا يفتقر إلى النية".
(5)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 280) حيث قال: "ولو قال أردت بالطلاق إطلاقها من وثاقٍ، أو بالفراق مفارقة المنزل أو فراقًا بالقلب، أو بالسراح تسريحها إلى منزل أهلها أو أردتُ غير هذه الألفاظ فسبق لساني إليها ولم يكن قرينة تدل على ذلك لم يقبل في الظاهر، لأنه خلاف ما يقتضيه اللفظ عرفًا، ودين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما ادَّعاه".
(6)
تقدَّم.
قوله: (فَمَنِ اكتَفَى بِالنِّيَّةِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"
(1)
).
هذا الحديث عظيمٌ، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذكر العلماء أنَّ مدار أحكام الشريعة والفقه الإسلامي على أربعة أحاديث منها هذا الحديث
(2)
ونجد أنَّ البخاري افتتح به كتابه، ولذلك مدار الأعمال على النيات، إذ النية شرعت لتمييز العبادات بعضها عن بعضٍ لنعرف هذه من هذه، وهذه واجبة وهذه غير واجبة، وتمييز العبادة عن العادة.
فإذًا النية مقصودة، ولكن بالنسبة للطلاق بيَّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن جده وهزله سيان، فليحذر الإنسان أن يقع في ذلك.
قوله: (وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ النِّيَّةً دُونَ اللَّفْظِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا"
(3)
. وَالنِّيَّةَ دُونَ قَوْلٍ حَدِيثُ نَفْسٍ).
هذا يمثِّل حديثين وليس حديثًا واحدًا، القسم الأول منه هو:"أن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" حديث حسن
(4)
، أما الآخر فمتفقٌ عليه وهو:"إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به"
(5)
وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بنا.
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(2)
قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 226): "قال محمد بن صالح الهاشمي: قال لنا أبو داود: أقمت بطرسوس عشرين سنةً أكتب المسند، فكتبت أربعة آلاف حديثٍ، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف على أربعة أحاديث لمن وفقه الله تعالى، فأولها حديث: "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن"، وثانيها حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وثالثها: "إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا"، ورابعها: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"".
(3)
تقدَّم.
(4)
تقدَّم.
(5)
تقدَّم.
قوله: (وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنِ اشْتَرَطَ النِّيَّةَ فِي الْعَمَلِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ كَافِيَةً بِنَفْسِهَا).
ينبغي أن نحذر هؤلاء اللئام الذين ينفون كلام الله سبحانه وتعالى، فهذا الكتاب العزيز الذي بين أيدينا هو كلام الله، وهو كتابه سبحانه وتعالى تكلم به بصوتٍ وبحرفٍ، نزل به جبريل على رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].
قوله: (وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ هَلْ يَقَعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ إِذَا قَصَدَ ذَلِكَ الْمُطَلِّقُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عِوَضٌ؟ فَقِيلَ يَقَعُ، وَقِيلَ لَا يَقَعُ
(1)
، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ أَحْكَامِ صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ).
هذا مذهب مالك.
والطلاق بعوضٍ هو الذي نسميه الخلع وقد مضى وهل الخلع طلاق أم فسخٌ، قد تكلمنا عن ذلك تفصيلًا.
قوله: (وَأَمَّا أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِصَرِيحٍ، فَمِنْهَا: مَا هِيَ كنَايَة ظَاهِرَة عِنْدَ مَالِكٍ، وَمِنْهَا: مَا هِيَ كنَايَة مُحْتَمَلَةٌ
(2)
).
يقسم العلماء ألفاظَ الطَّلاق إلى ألفاظٍ ظاهرةٍ صريحةٍ دلالتها ظاهرةٌ، وألفاظٍ محتملةٍ تحتمل أمرين، وبعضهم يقسمها أقسامًا ثلاثةً:
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 352) حيث قال: " (وهل) يكون رجعيًّا (مطلِّقًا) قصد الخلع أم لا (أو) رجعيًّا (إلا أن يقصد الخلع) فبائن (تأويلان)، والراجح منهما أنه رجعي مطلقًا، وهما في فرعٍ صالحٍ وأعطى، وأما من طلَّق وأعطى فرجعي قطعًا، وقال بعضهم في الفرع الثاني ليس المراد أن لها دينًا عليه فصالحها على إسقاط بعضه وإلا كان بائنًا قطعًا، بل المراد أنه وقع بينه وبينها صلحٌ بوجهٍ ما إما لكون الدين عليها أو لها عليه قصاصٌ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 365) حيث قال: " (وقصد) أي قصد النطق باللفظ الصريح والكناية الظاهرة ولو لم يقصد حل العصمة، وقصد حلها في الكناية الخفية".
1 -
ألفاظ ظاهرةٌ. 2 - وألفاظ مختلفٌ فيها. 3 - وألفاظٌ خفيةٌ.
(1)
لكن نأخذها كما ذكر المؤلف ظاهرةً ومحتملةً.
* قوله: (وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى فِي الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ طَلَاقًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُه، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هُنَالِكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَرَأْيِهِ فِي الصَّرِيحِ، كَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ عِنْدَهُ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُون الثَّلَاثِ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ فِي الْخُلْعِ
(2)
).
أما الإمام الشافعي
(3)
فمذهبه متحدٌ في ذلك، فإنه يرى أنَّ كل كنايةٍ لا تختلف من حيث المدلول، فهي تحتاج إلى نيةٍ، أما المالكية وروايةٌ للحنابلة
(4)
، فيفرقون بين الظاهرة وبين غيرِ الظاهرة، وهي هنا المحتملة، ونُقل في رواية أخرى للحنابلة
(5)
أنها كمذهب الشافعيِّ تحتاج إلى نيةٍ.
قوله: (وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فيُصَدِّقُهُ فِي الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَا
(1)
قال ابن قدامة في "الكافي "(3/ 113): "والكنايات ثلاثةُ أقسام: ظاهرةٌ وخفيةٌ ومختلفٌ فيها".
(2)
تقدَّم تفصيل ذلك.
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "الهداية" للكلوذاني (ص 421) حيث قال: "ومن شرط وقع الطلاق بالكناية أن ينوي بها الطلاق أو يكون جوابًا عن سؤالها الطلاق، فإن عدم الشرطان ولكنه أتى بها في حال الخصومة والغضب فعلى روايتين
…
الثانية: يقع الطلاق، نص عليه في رواية أبي طالبٍ وحربٍ".
(5)
يُنظر: "الهداية" للكلوذاني (ص 421) حيث قال: "ومن شرط وقع الطلاق بالكناية أن ينوي بها الطلاق أو يكون جوابًا عن سؤالها الطلاق، فإن عدم الشرطان ولكنه أتى بها في حال الخصومة والغضب فعلى روايتين، إحداهما: لا يقع بها الطلاق نص عليه في رواية أبي الحارث".
والمعتمد عدم اشتراط الخصومة والغضب. يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 87) حيث قال: " (ولا تشترط) لكناية نية طلاقٍ (حال خصومةٍ أو) حال (غضبٍ) ".
دُونَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ طَلَاقَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بَائِنٌ، وَهَذِهِ هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَمِثْلُ: الْبَتَّةَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ).
هي واحدةٌ مثل الصريحة، وكلمة خلية يعني أنت خاليةٌ من النكاح، برية أنت بائنةٌ من النكاح، أنت بتة يعني مقطوعة النكاح، وبعضهم يضيف عبارة الحقي بأهلك.
فهذه الألفاظ بعض العلماء يرون أنها كناياتٌ صريحةٌ يقع بها الطلاق ثلاثًا هذا مذهب مالك
(1)
وهي رواية عند أحمد
(2)
والرواية الأخرى
(3)
مع الشافعية
(4)
.
قوله: (وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
(5)
فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ: فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا نَوَاه، فَإِنْ كَانَ نَوَى طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ كَانَ نَوَى ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا، أَوْ وَاحِدَةً كَانَ وَاحِدَةً، وَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَى أَصْلِهِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ عِنْده طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِن اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 379) حيث قال: " (أو) أنت (خليةٌ) أو بريةٌ (أو بائنةٌ أو أنا) منك خليٌّ أو بريٌّ أو بائنٌ فيلزمه الثلاث في ذلك كله في المدخول بها كغيرها إن لم ينو أقل".
(2)
يُنظر: "الهداية" للكلوذاني (ص 421) حيث قال: "فالظاهرة: أنت خليةٌ بريةٌ وبائنٌ
…
وفي الظاهرة على روايتين أصحهما: أنها ثلاث، والثانية: يرجع إلى ما نوى وهو الأقوى".
(3)
يُنظر: "الهداية" للكلوذاني (ص 421) حيث قال: "فالظاهرة: أنت خليةٌ بريةٌ وبائنٌ
…
وفي الظاهرة على روايتين الثانية: يرجع إلى ما نوى وهو الأقوى".
والأخير هو المعتمد. يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 87) حيث قال: " (ولا يقع) طلاقٍ بكنايةٍ ولو ظاهرة إِلا (بنيةٍ) ".
(4)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 106) حيث قال: "وكنايته كأنت خلية بريةٌ بتةٌ بتلةٌ بائنٌ اعتدى استبرئي رحمك الْحَقِي بأهلك حبلك على غاربك لا أنده سربك اعزبي اغربي دعيني ودعيني أو نحوها".
(5)
تقدَّم.
الطَّلَاقِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ فِي مُذَاكَرَتِهِ الطَّلَاقَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُطَلِّقُ بِالْكِنَايَاتِ كُلِّهَا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا هَذِهِ الْقَرِينَةُ إِلَّا أَرْبَعَ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَاعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي، وَتَقَنَّعِي. لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنَ الْمُحْتَمَلَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ. وَأَمَّا أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ الْمُحْتَمَلَةُ غَيْرُ الظَّاهِرَةِ: فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا نِيَّتُه، كَالْحَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ. وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا. فَيَتَحَصَّلُ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ أَنْ يُصَدَّقَ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلٌ إِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ بِإِطْلَاقٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ قَرِينَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَوْلٌ إِنَّهُ يُصَدَّقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُذَاكرَةِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي الْمَذْهَبِ خِلَافٌ فِي مَسَائِلَ يَتَرَدَّدُ حَمْلُهَا بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْمُحْتَمَلِ، وَبَيْنَ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ فَوَقَعَ فِيهَا الاخْتِلَاف، وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى هَذِهِ الْأُصُولِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا، لِأَنَّ الْعُرْفَ اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ شَاهِدٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا تَلَفَّظَ بِهَا النَّاسُ غَالِبًا، وَالْمُرَادُ بِهَا الطَّلَاق، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا صَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَولهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ دُونَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ هُوَ الْبَيْنُونَة، وَالْبَيْنُونَةُ لَا تَقَعُ إِلَّا خُلْعًا عِنْدَهُ فِي الْمَشْهُورِ أَوْ ثَلَاثًا، وَإِذَا لَمْ تَقَعْ خُلْعًا - لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ عِوَضٌ - فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا، وَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلِ فِي الْمَذْهَبِ بِأَنَّ الْبَائِنَ تَقَعُ مِنْ دُونِ عِوَضٍ وَدُونِ عَدَدٍ أَنْ يُصَدَّقَ فِي ذَلِكَ وَتَكُونَ وَاحِدَةً بَائِنَةً. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ فِي صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي كِنَايَتِهِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الصَّرِيحِ أَقْوَى
مِنْ دَلَالَةِ الْكِنَايَةِ، ويُشْبِهُ أَنْ تَقُولَ الْمَالِكِيَّةُ إِنْ لَفَظَ الطَّلَاقِ وإنْ كَانَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْعَدَدِ وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيِّ حَدِيثُ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّم، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ فِي: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ. وَإِنَّمَا صَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ إِذَا نَوَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ يَكُونُ رَجْعِيًّا لِحَدِيثِ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَصَارَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ بَائِنًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الْعِصْمَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ ثَلَاثًا لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْبَيْنُونَةِ عِنْدَهُ. فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يُقَدَّمُ عُرْفُ اللَّفْظِ عَلَى النِّيَّةِ أَوِ النِّيَّةُ عَلَى عُرْفِ اللَّفْظِ؟ وإذَا غَلَّبْنَا عُرْفَ اللَّفْظِ: فَهَلْ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ فَقَطْ، أَوِ الْعَدَدَ؟ فَمَنْ قَدَّمَ النِّيَّةَ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِعُرْفِ اللَّفْظِ، وَمَنْ قَدَّمَ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى النِّيَّةِ، وَمِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَفُقَهَاءُ الأمْصَارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ - أَعْنِي: مِنْ جِنْسِ الْمَسَائِلِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذَا الْبَاب -: لَفْظُ التَّحْرِيمِ - أَعْنِي: مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ -، وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: يُحْمَلُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا عَلَى الْبَتِّ - أَي: الثَّلَاث - ويُنْوَى فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُهُ إِلَّا ابْنَ الْمَاجِشُون فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَتَكُونُ ثَلَاثًا، فَهذَا هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِذَلِكَ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلاث، وإنْ نَوى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِين يُكَفِّرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا فَلَيْسَ بِشَيءٍ، هِيَ كَذِبَةٌ، وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الثَّوْرِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا مَا نَوَى بِهَا، وَإِنْ نَوى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ، أَوْ ثَلَاثًا فثَلَاثٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ فِيهَا فِي الْمَوْضِعَيْن: فِي إِرَادَةِ
الطَّلَاقِ وَفِي عَدَدِهِ، فَمَا نَوَى كانَ مَا نوَى، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَ رَجْعِيًّا، وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَعَلَيْهِ كفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَنْوِي أَيْضًا فِي الطَّلَاقِ وَفِي الْعَدَدِ، فَإِنْ نَوى وَاحِدَةً كانَتْ بَائِنَةً، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا كَانَ يَمِينًا، وَهُوَ مُولٍ، فَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَالْقَوْلُ السَّادِس: إِنَّهَا يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ، إِلَّا أَنْ بَعْضَ هَؤُلَاءِ قَالَ: يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْن عَبَّاس وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَابعِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] "خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ذَهَبَ إِلَى الاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الْآيَةَ. وَالْقَوْلُ السَّابع: أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ كتَحْرِيمِ الْمَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَلَا طَلَاقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ وَالأجْدَعِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَمَنْ قَالَ فِيها إِنَّهَا غَيْرُ مُغَلَّظَةٍ: بَعْضُهُمْ أَوْجَبَ فِيهَا الْوَاجِبَ فِي الظِّهَارِ، وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبَ فِيهَا عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَسَبَبَ الاخْتلَافِ: هَلْ هُوَ يَمِينٌ أَوْ كِنَايَةٌ؟ أَوْ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا كِنَايَةٍ؟ فَهَذِهِ أَصُولُ مَا يَقَعُ مِنَ الاخْتِلَافِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ).
الشافعية لم يقسموا الكنايات إلى قسمين بل جعلوها صنفًا واحدًا لا فرق عندهم بين ظاهرةٍ ومحتملةٍ، فهى ترجع إلى نية الإنسان استفت قلبك وإن أفتوك، والشافعية لهم حجة قوية فهم يستدلون بحديث رُكَانة، وفي حديثه: أنه عندما طلَّق امرأته جاء رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول اللّه ما أردت إلا واحدةً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"آللّه ما أردتَ إلا واحدةً"، فأجاب: آللّه ما أردت إلا واحدةً، يعني: واللّه ما قصدت إلا واحدةً، فردها عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قالوا: فطلقها الثانية في زمن عمر رضي الله عنه وطلقها
الثالثة وهو الطلاق البائن في زمن عثمان رضي الله عنه
(1)
.
قالوا: وهذا حديث جليلٌ في هذا المقام لأنه حجة، ونجد بعض العلماء يأخذ الحيطة في جانب المطلِق فيقولون: كيف نحل امرأةً لإنسانٍ نرى أنه طلق، وبعضهم يقول: لماذا نحرِّم عليه امرأته، لا نرى أنَّ الطلاق صريحًا في ذلك، فلكلٍّ وجهة هو موليها، وهم بلا شك مجتهدون.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
[الْفَصل الثَّانِي في ألْفَاظ الطلاقِ المقَيدة]
(وَالطَّلَاقُ الْمُقَيَّدُ لَا يَخْلُو مِنْ قِسْمَيْن: إِمَّا تَقْيِيدُ اشِترَاطٍ، أَوْ تَقْيِيدُ اسْتِثْنَاء).
الشرط له أدوات، وأدوات الشرط تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: حروف ك (إن).
القسم الثاني: أسماء ك (مَن ومتى).
ومنها ما يدل على الاستفهام، والكلام فيها كثيرٌ جدًّا.
وأما الاستثناء فأداته المشهورة (إلا).
وقد يكون الاستثناء بحرفٍ كحرف إلا وخلا وحاشا وعدا، وربما بفعلِ من الأفعال الجامدة كليس فإنه يستثنى به، وربما يكون أيضًا باسم من الأسماء مثل سوى وغير.
وسنتكلم في هذا تفصيلًا.
(1)
أخرجه أبو داود (2208) وضعَّفه الألباني في "إرواء الغليل"(2063).
قوله: (وَالتَّقْيِيدُ الْمشْترطُ لَا يَخْلُو أَنْ يُعَلَّقَ بِمَشِيئةِ مَنْ لَهُ اخْتِيَار، أَوْ بِوُقُوعِ فِعْلٍ مِن الْأَفعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ).
تعليق الطلاق بالمشيئة قد تكون بمشيئة من له الاختيار، كأن يعلِّقه بمشيئة فلانٍ كأن يقول: زوجتي طالقٌ إن شاء فلان فيسميه، وربما يعلِّقه بأمرٍ لا يحصل منه ذلك الشيء كالجمادات ونحوها، وربما يعلِّقه بمشيئة اللّه كأن يقول لزوجته: أنت طالقٌ إن شاء اللّه.
قوله: (أَوْ بِخُرُوج شَيْءٍ مَجْهُولِ الْعِلْمِ إِلى الْوُجُود عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْمُعَلِّقُ لِلطَّلَاقِ بِهِ، مِمَّا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى عِلْمِهِ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْحِسِّ، أَوْ إِلَى الْوُجُودِ، أَوْ بِمَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مُمكِن أَنْ يَكُونَ أَوْ لَا يَكُونَ).
كأن يعلِّق ذلك بقوله: إن ولدتْ زوجتي ذكرًا فهي طالق، أو إن ولدت أنثى.
وللأسف التساهل في أمر الطلاق يحصل من المسلمين، فينبغي أن نترفَّع عن هذه الأمور.
قوله: (فَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ: فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُعَلِّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ بِمَشِيئَةِ مَخْلُوقٍ، فَإِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَسَوَاءٌ عَلَّقَهُ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ:"أَنْتِ طَالِق إِنْ شاءَ اللَّهُ".
أَوْ عَلَى جِهَةِ الاسْتِثْنَاءِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ:"أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ").
جهة الشرط لأنه جاء بأداة الشرط: (إن)، كأن يقول: أنت طالق إن شاء اللّه،
فـ (إن) حرف شرطٍ جازمٍ، وربما يعلقه بالاستثناء فيقول: أنت طالق إلا أن يشاء الله فيستثني.
قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يُؤَثِّرُ الاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ شَيْئًا، وَهُوَ وَاقِع وَلَا بُدَّ
(1)
).
لا أثر له في أمر الطلاق ليس معنى ذلك أن الطلاق لا يقع، يعني يعتبر لغوًا كأن لم يكن فلما يقول: أنت طالقٌ إن شاء اللّه، أو أنت طالقٌ إلا أن يشاء اللّه، كأنه قال: أنتي طالقٌ وكفى، فالطلاق يقعُ ولا بد، وهذا هو مذهب أحمد المشهور
(2)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة
(3)
وَالشَّافِعِيُّ
(4)
: إِذَا اسْتَثْنَى الْمُطَلِّقُ مَشِيئَةَ اللَّهِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ).
لأنه لا يعرف ذلك، لكنَّ مذهب أبي حنيفة فيه تفصيل في هذه المسألة
(5)
.
قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يَتَعَلَّقُ الاستثْنَاءُ بِالْأَفْعَالِ الْحَاضِرَةِ الْوَاقِعَةِ كتَعَلُّقِهِ بِالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أوْ لَا يَتَعَلَّقُ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ فِعْلٌ حَاضِرٌ، فَمَن قَالَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَالَ: لَا يُؤَثِّرُ الاسْتِثْنَاءُ وَلَا اشْتِرَاطُ
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 57) حيث قال: "إذا قال لزوجته أنت طالق إن شاء اللّه أو إلا أن يشاء اللّه فإنه ينجز عليه الطلاق، إذ لا فرق بين الصيغتين؛ لأن المشيئة لا تنفع في غير الله".
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (5/ 440)، وفيه قال:" (و) إن قال لزوجته (يا طالق) إن شاء اللّه طلقت قاله في "الترغيب" وقال: إنه أولى بالوقوع من قوله: أنت طالق إن شاء اللّه (أو) قال (أنت طالق) إن شاء اللّه (أو) قال: (عبدي حرّ) إن شاء الله".
(3)
ينظر: "مختصر القدوري"(ص 115) حيث قال: "وإذا قال الزوج لامرأته: أنت طالقٌ إن شاء اللّه متصلًا لم يقع الطلاق عليها".
(4)
يُنظر: "منهاج الطالبين"، للنووي (ص: 234)، وفيه قال:"ولو قال أنت طالقٌ إن شاء الله وإن لم يشأ اللّه، وقصد التعليق لم يقع".
(5)
وهو التفريق بين اتصال الكلام وانفصاله، وتقدَّم نقله.
الْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاق
(1)
، وَمَنْ قَالَ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَالَ: يُؤَثِّرُ فِيهِ
(2)
، وَأَمَّا إِنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ تَصِحُّ مَشِيئَتُه، وَيُتَوَصَّلُ إِلَى عِلْمِهَا: فَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِ الَّذِي عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِمَشِيئَتِهِ
(3)
).
ليس هناك خلاف بين العلماء
(4)
في أنه إذا قال: زوجتي طالق إن شاء زيد، وإن شاء بكرٌ، وإن شاء عمي أو أبي أو غير ذلك، فإنَّ هذا
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 415) حيث قال: "لأنه إذا قال امرأتي طالقٌ إن شاء اللّه فقد علمنا أن اللّه قد شاء ذلك، إذ لا يستطيع أن يطلق امرأته بقوله امرأتي طالق إلا بمشيئة اللّه، فوجب أن يلزمه الطلاق، كما لو قال امرأتي طالقٌ إن علم الله طلاقي؛ لأنه إذا طلق امرأته بقوله امرأتي طالق فقد شاء اللّه طلاقها وعلم ذلك، وقول من قال: إن الطلاق إنما لزمه من أجل أنَّ مشيئة اللّه لا تعلم قول منكر؛ لأنَّ مشيئة اللّه تعلم بوقوع الفعل، إذ لا يصح أن يقع من مخلوقٍ فعلٌ مع عدم مشيئة اللّه تعالى".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 157) حيث قال: "لأنَّ تعليق الطلاق بمشيئة الله تعالى تعليق بما لا يعلم وجوده؛ لأنا لا ندري أنه شاء وقوع هذا الطلاق أو لم يشأ، على معنى أن وقوع هذا الطلاق هل دخل تحت مشيئة الله تعالى أو لم يدخل؟ فإن دخل وقع، وإن لم يدخل لا يقع؛ لأنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يقع بالشك، وبه تبين أن هذا ليس تعليقًا بأمرٍ كائنٍ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 396) حيث قال: "ومن هذا القبيل أنت طالق إن شاء زيدٌ فينتظر مشيئته فإن شاء الطلاق وقع وإلا فلا".
(4)
تقدم مذهب المالكية، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة أيضًا.
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 366) حيث قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالقٌ إن شاء فلان أو إن أحب أو إن رضيَ أو إن هوى أو إن أراد، فبلغ فلانًا فله مجلس علمه".
وينظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 316) حيث قال: "لو قال أنت طالقٌ إن شاء زيدٌ فقال شئت فإنه يصدق في ذلك بغير يمينٍ ويقع الطلاق".
وينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 133) حيث قال: " (و) إن قال لها (أنت طالقٌ وعبدي حرٌّ إن شاء زيدٌ ولا نية) للقائل تخالف ظاهر لفظه (فشاءهما) زيدٌ أي: الطلاق والعتق (وقعا) ".
يرجع إلى مشيئته، فإن قال الطلاق نافذ نفَذَ، وهذا ليس عند مالك بل عند الأئمة كلهم
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا مَشِيئَةَ لَهُ: فَفِيهِ خِلَاف فِي الْمَذْهَبِ، قِيلَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاق، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ
(2)
).
المؤلف يقول: إذا علق الطلاق بأمرٍ غير متوقع، لكن أكثر كالحنابلة يفسرون فيقولون: بالمستحيل يعني: إن علقه بالمستحيل
(3)
، والمؤلف هنا جاء بعبارةٍ أخرى، من لا مشيئة له: وهو الذي يكون من الأمور المستحيلة، كأن يقول: زوجتي طالق إن شاء هذا العمود، أو إن شاء هذا الجدار، أو إن شاء هذا الحائط، أو هذا البستان، أو هذا النهر، أو هذا الحجر، أو هذه الصخرة، أو هذا الميت، فهذا أمر مستحيل؛ لأنَّ الجدار والحجر جمادان لا ينطقان، والميت قد انتقل من هذه الحياة، فالمشيئة هنا غير واقعةٍ، فالطلاق يقع في هذه الحالة.
قوله: (وَالصَّبِي وَالْمَجْنُونُ دَاخِلَان فِي هَذَا الْمَعْنَى
(4)
، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِطَلَاقِ الْهَزْلِ؛ وَكانَ الطَّلَاقُ بِالْهَزْلِ عِنْدَهُ
(5)
يَقَعُ قَالَ: يَقَعُ هَذَا الطَّلَاقُ. وَمَنِ اعْتَبَرَ وُجُودَ الشَّرْطِ قَالَ: لَا يَقَعُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ عُدِمَ هَاهُنَا
(6)
).
(1)
تقدَّم.
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 580) حيث قال: "ومن قال لامرأته أنت طالق إن شاء هذا الحجر أو الحائط أو فلانٌ قد مات لم تطلق في شيءٍ من ذلك كله، وقد قيل أنه يلزمه الطلاق".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 106) حيث قال: " (وإن علقه) أي الطلاق ونحوه (بفعلٍ مستحيلٍ عادةً) وهو ما لا يتصور في العادة وجوده، وإن، وجد خارقًا للعادة لم تطلق".
(4)
يعني داخلان في معنى تعليق الطلاق.
(5)
هو محل إجماع بين الفقهاء أنَّ طلاق الهازل واقعٌ. قال ابن المنذر في "الأوسط"(9/ 259): "أجمَع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنَّ جدَّ الطلاق وهزله سواءٌ".
(6)
قد تقدَّم أنه أحد قولي المالكية، وأن مذهب الحنابلة وقوع الطلاق، ومذهب الحنفية والشافعية أن الطلاق لا يقع. =
المجنون لا عقل له، لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ"
(1)
، والصغير الذي لا يعتبر قوله، ألحقوه بمثابة من لا يحصل منه المشيئة مثل الجماد، والقصد بالصغير: الذي لا يوقع عليه الطلاق، فإدخال الصبي والمجنون لكونهما غير مكلفين.
فلو قلت طلاق المجنون والصغير يقع كأنك وضعت القلم عليهما، وهذا خلاف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقول:"رفع القلم عن ثلاثة"، فالرسول رفعه وأنت وضعته عليهما، فكأنك ألزمت بأمرٍ لم يكن لازمًا، فهنا يلحق الأمر بطلاق الهازل، فالإنسان يقول: زوجتي طالق إن شاء هذا الجدار، فشبهوه بطلاق الهازل، والهازل مختلفٌ في طلاقه، والصحيح أنه يقع؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث جدهن جدٌّ وهزلهنَّ جدٌّ: الطلاق والنكاح والرجعة"
(2)
وفي روايةٍ: بدل الرجعة العتاق
(3)
.
ولذلك لا ينبغي للمسلم أن يطلِّق ثم يقول: أنا هازلٌ، أنا أمزح، أنا أضحك.
= ينظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 379)، وفيه قال:" (قال: أنت طالقٌ إن شاء اللّه متصلًا، أو ماتت قبل ذكر الشرط لم يقع) الطلاق أما الأول فلأن التعليق بشرط لا يعلم وجوده مغير لصدر الكلام ولهذا اشترط اتصاله، وأما الثاني فلأن الكلام خرج بالاستثناء عن أن يكون إيجابًا، والموت ينافي الموجب لا المبطل (وإن مات) الزوج قبل الشرط (وقع) الطلاق؛ إذ لم يتصل بكلامه الشرط".
وينظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 304) حيث قال: " (لو علق بمستحيل عرفًا كصعود السماء) والطيران وإحياء الموتى إذا أراد به المعنى المراد في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (أو عقلًا كإحيائها الموتى) والجمع بين الضدين (أو شرعًا كنسخ صوم رمضان لم تطلق)؛ لأنه لم ينجز الطلاق وإنما علقه ولم توجد الصفة، وقد يكون الغرض من التعليق بالمستحيل امتناع الوقوع لامتناع وقوع المعلق به".
(1)
أخرجه أبو داود (4398) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(297).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
قوله: (وَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ: فَإِنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا تُوجَدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ).
الأفعال المستقبلة هي التي تقع في المستقبل، قد يعلق الإنسان، كأن يقوله لزوجته: أنت طالق إن دخلتِ هذه الدار، أو أنتِ طالق إن أكلت الرغيف، أو أنتِ طالق إن طلعت الشمس غدًا، أو أنتِ طالق إن جاء فلان من السفر، أو أنتِ طالق إذا دخل الشهر.
قوله: (أَحَدُهَا: مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ أَوْ لَا يَقَعَ عَلَى السَّوَاءِ، كَدُخُولِ الدَّارِ وَقُدُومِ زَيْدٍ، فَهَذَا يَقِفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ
(1)
).
لأنَّ هناك شرطًا ومشروطًا، ويتحقق الشَّرط بوجود المشروط، إن أكلت الرغيف أو دخلت الدار تحقق الطلاق، فهناك فعل شرط وجواب شرطٍ، وجواب الشرط وجزائه يتحققان إن تحقق الشرط.
قوله: (وَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ غَدًا).
هناك أمورٌ وقوعها محتملٌ كدخول الدار، ربما لا تدخل هذه الدار،
(1)
مذهب الحنفية: ينظر: "مختصر القدوري"(ص 114) حيث قال: "وكذلك إذا قال أنت طالق في الدار، وإن قال لها أنت طالقٌ إذا دخلت مكة لم تطلق حتى تدخل مكة، وإن قال لها: أنت طالق غدًا وقع الطلاق عليها بطلوع الفجر".
مذهب المالكية. ينظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 577) حيث قال: "كل طلاقٍ بصفةٍ فهو يقع بوجودها".
مذهب الشافعية: ينظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 301) حيث قال: " (تعليقه جائز) كالعتق
…
ولا يجوز الرجوع فيه كالحلف كما قدمه في الخلع وصرَّح به الأصل هنا (فلا يقع قبل) وجود (الشروط).
مذهب الحنابلة: ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 284) حيث قال: " (ويصح) التعليق مع تقدم الشرط كإن دخلت الدار فأنت طالق، ويصح أيضًا مع (تأخره) أي الشرط، كأنت طالق إن دخلت الدار بشرط اتصاله ونيته قبل تمام أنت طالقٌ".
ربما لا تلبس هذا الثوب، فيحتمل أن تأكل الرغيف وأن لا تأكله، لكن طلوع الشمس أمر متأكد وقوعه، ومثله تمامًا لو هو في شهر محرم فقال: أنتِ طالقٌ إن دخل شهر صفر، فشهر صفر معلومٌ أنه يدخل، أو في شهر ذي الحجة فيقول: أنت طالق إن دخل شهر محرم، فهذا أمرٌ متحققٌ.
قوله: (فَهَذَا يَقَعُ نَاجِزًا عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
، وَيَقِفُ وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(2)
وَأَبِي حَنِيفَةَ
(3)
عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالشَّرْطِ الْمُمْكِنِ الْوُقُوعِ قَالَ: لَا يَقَعُ إِلَّا بِوُقُوعِ الشَّرْطِ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْوَطْءِ الْوَاقِعِ فِي الْأَجَلِ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِكَوْنهِ وَطْئًا مُسْتَبَاحًا إِلَى أَجَلٍ قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاق، وَالثَّالِثُ: هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْهُ بِحَسَبِ العَادَةِ وُقُوعُ الشَّرْطِ، وَقَدْ لَا يَقَعُ كتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَمَجِيءِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَان عَنْ مَالِكٍ: إِحْدَاهُمَا: وُقُوعُ الطَّلَاقِ نَاجِزًا. وَالثَّانِيَةُ: وُقُوعُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ بِإِنْجَازِ الطَّلَاقِ فِي هَذَا يَضْعُفُ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ عِنْدَهُ بِمَا يَقَعُ وَلَا بُدَّ، وَالْخِلَافُ فِيهِ قَوِيٌّ. وَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ الْمَجْهُولِ الْوُجُودِ: فَإِنْ كانَ لَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ خَلَقَ اللَّهُ الْيَوْمَ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ حُوتًا بِصِفَةِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ فَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهِ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 390) حيث قال: " (أو) علق على (مستقبلِ محققٍ) لوجوبه عقلًا أو عادةً (ويشبه بلوغهما) معًا إليه والمراد بما يشبه ما كان مدة التعمير فأقل وما لا يشبه ما زاد عن مدتها (عادةً) كأنت طالق (بعد سنة) فينجز عليه الآن حال التعليق".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 302) حيث قال: "أنت طالقٌ في شهر كذا أو غرته أو أوله أو رأسه أو دخوله أو مجيئه) أو ابتدائه أو استقباله أو أول آخر أوله (طلقت بدخول أول ليلةٍ منه) ".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 321) حيث قال: "إذا كان في الملك أو مضافًا إلى الملك أو سببه يقع الطلاق بعد وجود الشرط".
هَذَا، وَأَمَّا إِنْ عَلَّقَهُ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِخُرُوجِهِ إِلَى الْوُجُودِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِق؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَتَوَقَّفُ عَلَى خُرُوجِ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَى الْوُجُودِ. وَأَمَّا إِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا تَلِدُ أُنْثَى، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحِينِ يَقَعُ عِنْدَهُ وإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، وَكَانَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ، وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ أَنْ يُوقَفَ الطَّلَاقُ عَلَى خُرُوجِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ ضِدِّهِ، وَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ إِنَّهُ إِذَا أَوْجَبَ الطَّلَاقَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ أَنَّهُ لَا يَحْنثُ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَإِذَا أَوْجَبَ الطَّلَاقَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَرْطِ تَرْكِ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهُ عَلَى الْحِنْثِ حَتَّى يَفْعَلَ، ويُوقَفُ عِنْدَهُ عَنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ، فَإِن امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ أَجَلِ الْإِيلَاءِ ضُرِبَ لَهُ أَجْلُ الْإِيلَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَقَعُ عِنْدَهُ حَتَّى يَفُوتَ الْفِعْلُ إِنْ كانَ مِمَّا يَقَعُ فَوْتُهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ عَلَى بِرِّ حَتَّى يَفُوتَ الْفِعْل، وَإِنْ كَان مِمَّا لَا يَفُوتُ كَانَ عَلَى الْبِرِّ حَتَّى يَمُوتَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَبْعِيضِ الْمُطَلَّقَةِ، أَوْ تَبْعِيضِ الطَّلَاقِ، وَإِرْدَافِ الطَّلَاقِ عَلَى الطَّلَاقِ. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَبْعِيض الْمُطَلَّقَةِ: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: إِذَا قَالَ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ شَعْرُكِ طَالِق طُلِّقَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُطَلَّقُ إِلَّا بِذِكْرِ عُضْوٍ يُعَبَّرُ بهِ عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَن كالرَّأْسِ وَالْقَلْبِ وَالْفَرْجِ، وَكذَلِكَ تُطَلَّقُ عِنْدَهُ إِذَا طَلًّقَ الْجُزْءَ مِنْهَا، مِثْلَ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا تُطَلَّقُ. كَذَلِكَ إِذَا قَالَ عِنْدَ مَالِكٍ: طَلَّقْتُكِ نِصْفَ تَطْلِيقِةٍ، طُلِّقَتْ، لِأَنَّ هَذَا كلَّهُ عِنْدَهُ لَا يَتَبَعَّضُ. وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ إِذَا تبَعَّضَ لَمْ يَقَعْ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِق، أَنْتِ طَالِق، أَنْتِ طَالِق، نَسَقًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ ثَلَاثًا عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشافِعِيُّ: يَقَعُ وَاحِدَةً، فَمَنْ شَبَّهَ تَكْرَارَ اللَّفْظِ بِلَفْظِهِ بِالْعَدَدِ - أَعْنِي: بِقَوْلِهِ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا - قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ بِاللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ
قَالَ: لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي ارْتِدَافِهِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ).
وخالفه الأئمة الثلاثة
(1)
فقالوا: لا يقع؛ لأنَّ الشرط يتوقف على وجود المشروط.
فهو قال: أنتِ طالق إن طلعت الشمس غدًا، فإن طلعت الشمس غدًا نوقفه حتى يتحقق الشرط، فإذا تحقق وقع الطلاق، لماذا نفرق بينه وبين غيره!!
ولا شك أنَّ رأي الأئمة الثلاثة هو الأقرب.
قوله: (وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْمُقَيَّدُ بِالاسْتِثْنَاءِ: فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَدَدِ فَقَطْ).
كأن يقول: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة، وهو ما يعرف باستثناء الأقل من الأكثر.
وربما يكون استثناء الأكثر من الأقل، كأن يقول: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين.
قوله: (فَإِذَا طَلَّقَ أَعْدَادًا مِنَ الطَّلَاقِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ ذَلِكَ الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، وَاثْنَتَيْنِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا هُوَ أَقَلُّ، فَإِمَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِمَّا هُوَ أَكثَر، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا هُوَ أكْثَر مِمَّا هُوَ أَقَلُّ، فَإِذَا اسْتَثْنَى الْأَقَلَّ مِنَ الأكثَرِ؛ فَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ وَيَسْقُطُ الْمُسْتَثْنَى، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً).
(1)
يُنظر: مذهب الحنابلة في: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 112) حيث قال: "ويقع ما علق زوج" من طلاقٍ (بوجود شرطٍ) معلقٍ عليه (لا قبله) أي وجود الشرط".
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك
(1)
، فإنه استثنى الأقل من الأكثر، ثلاث فأخذ منها واحدة فبقيت اثنتان فتطلق حينئذٍ اثنتين.
قوله: (وَأَمَّا إِن اسْتَثْنَى الأكثَرَ مِنَ الْأَقَلِّ فَيَتَوَجَّهُ فِيهِ قَوْلَان)
(2)
.
يأخذ من المستثنى منه أكثره ويبقى أقله، فأصل المستثنى منه العدد فيه ثلاثًا؛ لأنه قال: أنت طالق ثلاثًا، هذه ثلاث هي المستثنى ثم قال: إلا اثنتين فاستثنى الأكثر وأبقى واحدةً.
قوله: (أَحَدُهُمَا: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ أَن يُسْتَثْنَى الْأَكثَرُ مِنَ الْأَقَلِّ).
وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل: أنه لا يصحُّ وأنها تقع ثلاثة
(3)
.
(1)
انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 34، 35)، وفيه قال:"وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين أنها تطلق واحدةً، وإن قال: أنت طالقٌ ثلاثًا إلا واحدة أنها تطلق تطليقتين، وإن قال: أنت طالقٌ ثلاثا أنها تطلق ثلاثًا".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 389) حيث قال: " (و) في قوله أنت طالق (واحدة واثنتين إلا اثنتين) (إن كان) الاستثناء (من الجميع) المعطوف والمعطوف عليه (فواحدة)؛ لأنه أخرج اثنتين من ثلاثٍ فالباقي واحدةٌ (وإلا) يكن الإخراج من الجميع بل من الأول أو من الثاني أو لا نية له (فثلاثٌ) في الصور الثلاث على الراجح في الثالثة (وفي إلغاء ما زاد على الثلاث) فلا يستثنى منه؛ لأنه معدوم شرعًا فهو كالمعدوم حسًّا (واعتباره) فيستثنى منه نظرًا لوجوده لفظًا (قولان) الراجح منهما الثاني، فإذا قال: أنت طالق خمسًا إلا اثنتين فعلى الأول يلزمه واحدة وعلى الثاني ثلاث وهو الراجح، ولو قال خمسًا إلا ثلاثا يلزمه على الأول ثلاثٌ لبطلانه بالاستغراق حيث ألغي الزائد ويلزمه على الثاني اثنتان".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 30) حيث قال: " (وإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين، أو خمسا إلا ثلاثا طلقت ثلاثًا) هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، بناءً على عدم صحة استثناء الأكثر".
قوله: (وَالْآخَرُ: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ)
(1)
.
وهذا هو رأي جمهور العلماء مالك وأبي حنيفة والشافعي والرواية الأخرى للإمام أحمد
(2)
.
قوله: (وَأَمَّا إِذَا اسْتَثْنَى ذَلِكَ الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاق، لأنَّهُ اتَّهَمَهُ عَلَى أَنَّهُ رُجُوعٌ مِنْهُ
(3)
).
وكذلك الإمام أحمد
(4)
، وخالف في ذلك الإمامان
(5)
أبو حنيفة
(6)
والشافعي
(7)
.
قوله: (وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقُلْ بِالتُّهْمَةِ وَكانَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ اسْتِحَالَةَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، كمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا طَالِقٌ مَعًا، فَإِنَّ وُقُوعَ الشَّيْءِ مَعَ ضِدِّهِ مُسْتَحِيلٌ).
أيضًا يقع الطلاق.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 66) حيث قال: "ومعروف المذهب جواز استثناء الأكثر".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 30) حيث قال: "وقيل: تطلق اثنتان، بناءً على القول الآخر".
(3)
انظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (2/ 388)، وفيه قال:"فإن استغرقه نحو أنت طالقٌ ثلاثًا إلا ثلاثًا بطل ويلزمه الثلاث".
(4)
انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 102)، وفيه قال:" (و) إن قال (أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا) يقع ثلاث؛ لأنه استثناءٌ للكل ولا يصح".
(5)
لم يخالفا بل وافقا مالكًا وأحمد على وقوعه كما سيأتي.
(6)
انظر. "الدر المختار"، للحصكفي (3/ 374)، وفيه قال:" (وفي إلا ثلاثًا) يقع (ثلاثٌ) لأن استثناء الكل باطلٌ".
(7)
انظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (8/ 63)، وفيه قال:"فالمستغرق كثلاثًا إلا ثلاثًا باطل إجماعًا فيقع الثلاث".
قوله: (وَشَذَّ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، فَقَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِصِفَةٍ لَمْ تَقَعْ بَعْد، وَلَا بِفِعْلٍ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي وَقْتِ وُقُوعِهِ إِلَّا بِإِيقَاعِ مَنْ يُطَلِّقُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَا دَلِيلَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقٍ فِي وَقْتٍ لَمْ يُوقِعْهُ فِيهِ الْمُطَلِّق، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ إِيقَاعَهُ فِيهِ
(1)
، فَإِنْ قُلْنَا بِاللُّزُومِ لَزِمَ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى يُوقِعَ، هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ عِنْدِي وَحُجَّتُه، وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَذْكرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ احْتِجَاجَهُ فِي ذَلِكَ
(2)
).
ابن حزمٍ يرى أنَّ الطلاق يقع في الأمور المنجزة، أما التعليقات فلا أثر لها فلا يقع بها طلاق في الصور التي مرَّت، وهذا بلا شك قوله مردود يخالفه جماهير العلماء فيما ذهب إليه.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمُطَلِّقِ الْجَائِزِ الطَّلَاقِ]
(وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الزَّوْجُ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْحُرُّ غَيْرُ الْمُكْرَهِ).
الزوج هو الذي يقع طلاقه، لكن هناك حالاتٌ يوقع الطلاق غير الزوج:
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن جزم (10/ 213) حيث قال: "إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق أو ذكر وقتًا ما فلا تكون طالقًا بذلك لا الآن ولا إذا جاء رأس الشهر".
(2)
قال ابن حزم في "المحلى"(10/ 213): "برهان ذلك أنه لم يأت قرآنٌ ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك، وقد علمنا اللّه الطلاق على المدخول بها وفي غير المدخول بها وليس هذا فيما علمنا {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، وأيضًا فإن كان كل طلاق لا يقع حين إيقاعه، فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه".
فلو امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته فتضررت فأبى أن يطلقها، حينئذٍ يتدخل الحكم الشرعي في ذلك.
ولو أنَّ رجلًا آلى من امرأته فبلغ أربعة أشهر ولم يرجع، فللقاضي أن يطلقها عليه.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَان، وَطَلَاقِ الْمَرِيضِ، وَطَلَاقِ الْمُقَارِبِ لِلْبُلُوغِ، وَاتَّفَقُوا
(1)
عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُ الْمَرِيض إِنْ صَحَّ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ أَمْ لَا؟).
لو أن إنسانًا مريضًا طلق ثم بعد ذلك شفاه اللّه، حينئذٍ يقع طلاقه، هذا هو مراد المؤلف، لكن لو مات في ذلك المرض هل ترثه أو لا؟
هذه مسألةٌ اختلف فيها العلماء:
1 -
أكثر العلماء على أنها ترث.
2 -
وذهب بعض العلماء إلى أنها لا ترث.
والذين أوجبوا الميراث إنما فعلوا ذلك؛ لأنه صح عن بعض الصحابة.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (6/ 154) حيث قال: "وإذا طلق المريض امرأته ثلاثًا، أو واحدةً بائنةً، ثم مات، وهي في العدة، فلا ميراث لها منه في القياس
…
وفي الاستحسان ترث منه، وهو قولنا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(2/ 86) حيث قال: "أرأيت إذا طلق رجلٌ امرأته وهو مريضٌ قبل البناء بها؟ قال: قال مالكٌ: لها نصف الصداق ولها الميراث إن مات من مرضه ذلك".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 263) حيث قال: "لا فرق في وقوع الطلاق بين الصحيح والمريض سواء كان الطلاق ثلاثًا أو دونها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 394) حيث قال: "إذا طلق الرجل امرأته طلاقًا يملك رجعتها في عدتها، لم يسقط التوارث بينهما، ما دامت في العدة، سواء كان في المرض أو الصحة، بغير خلافٍ نعلمه".
قوله: (فَأَمَّا طَلَاقُ المُكْرَهِ).
الإكراه على نوعين:
النوع الأول: الإكراه بالقول: الإنسان قد يكره تهديدًا، فيأتي إنسانٌ فيهدده، وأما أن يأتي قريبٌ لامراته فيقول: إما أن تطلق فلانةً وإلا قطعت رأسك بالسيف، فهذا تهديدٌ.
النوع الثاني: الإكراه بالفعل: كأن يُخنق فيقال له: إما أن تطلق وإلا أزهقتُ حياتك.
وفي قصة عمار بن ياسر أنَّ المشركين كانوا هم الغالبين في مكة، وأنَّ المسلمين كانوا قلةً، وكان مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نفرٌ قليلٌ، وكان المشركون في عزِّ قوتهم وعزتهم، فكانوا يؤذون المؤمنين، وبالخصوص الذين لا يوجد لهم من يحميهم، فكان ممن أُوذي عمار وأمُّه، وطُلب من عمارٍ أن يشرك باللّه وإلا سيغرق، والرسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرَّ به فوجده يبكي ودموعه تسيل على خديه، فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يمسح دموعه ويقول:"يُلقي المشركون بك في الماء، إن طلبوا منك هذا مرةً أخرى فافعل"، فطمأنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فما كان منه إلا أن نطق بلسانه، ولكنَّ قلبه مطمئنٌّ بالإيمان
(1)
.
الإكراه على الشرك والكفر:
وهذه مسألةٌ يختلف فيها العلماء
(2)
.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 389). ولم أقف على حكمه.
(2)
مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة أنَّ الصبر أفضل.
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 161) حيث قال: "فإذا خاف ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به ويوري فإذا أظهر ذلك وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان فلا إثم عليه، وإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورًا".
وينظر: "مختصر خليل"(ص 115) حيث قال: "وأما الكفر وسبه عليه السلام وقذف المسلم: فإنما يجوز للقتل: كالمرأة لا تجد ما يسد رمقها إلا لمن يزني بها، وصبره أجمل". =
هل الأفضل أن يصمد الإنسان لو طلب منه النطق بكلمة الشرك، أو أنه ينطق بها حتى يحافظ على نفسه؟
العلماء فسروا القول في ذلك، وملخصه أنه ينظر إلى الحالة، فإن كان في إبقاء نفسه رفعة للإسلام وتقويةً لشوكته، فإنه ينطق بكلمة الكفر، أما لو كان في صبره وجلده إظهارٌ لعزة الإسلام، وأنَّ المؤمنين أقوياء وأنهم لا يخافون إرهاب أعدائهم وقسوتهم، فالأفضل أن يقدم نفسه رخيصةً في سبيل اللّه.
قوله: (فَإِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ عِنْدِ مَالِكٍ
(1)
، وَالشَّافِعِيِّ
(2)
، وَأَحْمَدَ
(3)
، وَدَاوُدَ
(4)
= ويُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 185) حيث قال: " (ومن أكره على الكفر فالأفضل له أن يصبر) على ما أكره به، ولا يجيب (ولو أتى ذلك على نفسه) بأن كان يؤدي ذلك إلى موته".
وفصل الشافعية، فقال الماوردي في "الحاوي الكبير" (13/ 180):"فإن قيل: فأي الأمرين أولى به؛ قيل: يختلف باختلاف حال المكره، فإن كان ممن يرجى منه النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع، فالأولى به أن يستدفع القتل بإظهار كلمة الكفر، وإن كان ممن يعتريه من ضعف بصيرته في الدين، أو يمتنع به من أراد الإسلام من المشركين، فالأولى به الصبر على القتل والامتناع من إظهار كلمة الكفر".
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 34) حيث قال: " (لا يصح طلاق المكره في القول كذلك لا يصح طلاقه في الفعل".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2893) حيث قال: "ولا يقع طلاق مكره) بغير حقٍّ".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 235) حيث قال: "ومن أكره على الطلاق ظلمًا بما يؤلم كالضرب والخنق وعصر الساق والحبس والغط في الماء مع الوعيد (فطلق) تبعًا لقولِ مكرهِهِ (لم يقع) طلاقه"
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 201) حيث قال: "فذهب مالكٌ
…
وداودُ إلى أنَّ طلاق المكره لا يلزم".
وهو قول ابن حزم، حيث قال في "المحلى" (10/ 202):"وطلاق المكره غير لازم له".
وَجَمَاعَةٍ
(1)
، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ
(2)
، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
(3)
، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
(4)
، وَابْنُ عَبَّاسٍ)
(5)
.
لو أكره إنسان بأحد نوعي الإكراه اللذيْن أشرنا لهما فطلاقه غير واقع، هذا قول جماهير العلماء، ويستدلون بقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللّه وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"
(6)
، فهذا لا يريد الطلاق ولا يذهب إليه، ولكنه أُلزم بذلك وهدد وخوِّف، فخشية أن يلحقة ضرر بنفسه أو بولده ونحو ذلك حينئذٍ أوقع الطلاق، لكنَّ الشافعي
(7)
وأحمد لهم روايةٌ أخرى مع القول الثاني
(8)
.
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 254) حيث قال: "وروي ذلك عن ابن الزبير، وابن عمر، وابن عباس، وهذا قول طاوس، وعطاء، وجابر بن زيد، والحسن، وشريح، وعمر بن عبد العزيز، وروي ذلك عن القاسم، وسالم، وعبد اللّه بن عبيد بن عمير، وبه قال ابن عون، وأيوب السختياني، ومالك بن أنس".
(2)
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 570) عن ثابت، مولى أهل المدينة، عن ابن عمر، وابن الزبير، قال: كانا لا يريان طلاق المكره شيئًا.
(3)
أخرج البيهقي في السنن الكبرى (7/ 357) أنَّ رجلًا على عهد عمر تدلى في حبلٍ يشتار عسلًا فأقبلت امرأته فجلست على الحبل فقالت: لتطلقها ثلاثًا وإلا قطعت الحبل، فذكرها اللّه والإسلام فأبت. فطلقها ثلاثا ثم خرج إلى عمر فذكر ذلك له، فقال له: ارجع إلى أهلك فليس هذا طلاقًا. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2048).
(4)
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 569) عن علي؛ أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئًا.
(5)
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 112) عن ابن عباس قال: ليس لمكرهٍ ولا لمضطهدٍ طلاق. وقال الألباني في "إرواء الغليل"(2046): "إسنَاد رجاله كلهم ثقاتٌ".
(6)
تقدم.
(7)
يأتي تفصيلهم في مسألة النية.
(8)
يُنظر: "الإنصاف" للماوردي (8/ 442) حيث قال: "يعني أنَّ طلاق المكره: هل هو لغو، لا حكم له، أو هو بمنزلة الكناية، إن نوى الطلاق: وقع. وإلا فلا؟ وفيه الخلاف".
قوله: (وَفَرَّقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ الطَّلَاقَ أَوْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا، فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَعَنْهُمْ قَوْلَان: أَصَحُّهُمَا لُزُومُه، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَقَوْلَان: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ
(1)
).
لأنَّ الطلاق لا يختلف جده عن هزله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ثلاثٌ جدَّهنَّ جدٌّ وهزلهنَّ جَدٌّ: الطلاق والنكاح والعتق"
(2)
، فهذا قد تلفظ بالطلاق فيقع سواء نواه أو لم ينوه، ولا أثر للنية في ذلك.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(3)
: هُوَ وَاقِعٌ، وَكَذَلِكَ عِتْقُهُ دُونَ بَيْعِهِ، فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ
(4)
).
الحنفية يقولون: لأنَّ الطلاق يختلف لأنه مغلظ وفيه تشديدٌ، فلا يختلف جده عن هزله، أما البيع الأمر فيه أخفُّ في هذا المقام.
قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الْمُطَلِّقُ مِنْ قِبَلِ الإكرَاهِ مُخْتَارٌ أَمْ ليْسَ بِمُخْتَارٍ؛ لِأَنَّهُ ليْسَ يُكْرَهُ عَلَى اللَّفْظِ إِذْ كانَ اللَّفْظُ إِنَّمَا يَقَعُ
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 289) حيث قال: " (فإن ظهرت) من مكرَهٍ بفتح الراء (قرينة اختيارٍ) منه للطلاق (بأن) أي كأن (أُكره) بضم الهمزة (على ثلاثٍ فوحَّدَ) أي طلق واحدةً (أو) على طلاقٍ (صريح أو) على (تعليقٍ) له (فكنى) ونوى (أو نجز أو على) أن يقول (طلقت) زوجتي (فسرَح) بتشديد الراء أي قال سرحتها (أو) وقع الإكراه".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 113) حيث قال: "وطلاق المكره والسكران واقعٌ".
(4)
يُنظر: "النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 697) حيث قال: "أما الإكراه في الرخص فعلى ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: لا يصح فيه الإكراه متفقًا عليه مثل البيع والشراء، والثاني: يصح من الإكراه متفقًا عليه وهو مثل الرجعة بالجماع والفيء بالجماع والأحداث الموجبة الطهارة ونحوه
…
والثالث: مختلفٌ فيه وهو ستة أشياء: النكاح، والطلاق، والرجعة بالقول، والتدبير، والعتق، والإقرار بأمِّ الولد".
بِاخْتِيَارِهِ، وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي إيقَاع الشَّيْءِ أَصْلًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(1)
، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ مُوقِعًا لِلَّفْظِ بِاخْتِيَارِهِ أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ اسْمُ الْمُكْرَهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ، لأنَّ الطَّلَاقَ مُغَلَّظٌ فِيهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى جِدُّهُ وَهَزْلُهُ).
"إن اللّه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(2)
، معنى ذلك أن هؤلاء خفف عنهم، قال تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، فليس الناسي ولا الجاهل ولا المكرة مثل الإنسان العالم الغير مكره.
قوله: (وَأَمَّا طَلَاقُ الصَّبِيِّ: فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ مَالِكٍ
(3)
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَقَالَ فِي "مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ"
(4)
: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِذَا نَاهَزَ الاحْتِلَامَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِذَا هُوَ أَطَاقَ صِيَامَ رَمَضَانَ
(5)
،
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 543) حيث قال: "طلاق الصبي لا يلزم ولا يخير الولي فيه".
(4)
لم أقف عليه.
(5)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 432) حيث قال: " (من الصبي العاقل يصح طلاق المميز العاقل). على الصحيح من المذهب. وعليه جماهير الأصحاب قال في القواعد الأصولية: والأصحاب على وقوع طلاقه، وهو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية الجماعة".
وقًالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَلَغَ اثْنَتَي عَشَرَةَ سَنَةً
(1)
جَازَ طَلَاقُه، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه
(2)
).
الصبي على نوعين:
النوع الأول: صبيٌّ بلغ
النوع الثاني: صبيٌّ لم يبلغ.
ويمكن أن يقسم إلى أقسام ثلاثةٍ:
القسمُ الأوَّلُ: الصبي الذي لا يعقل هذا ليس فيه خلافٌ بين العلماء
(3)
أنه لا يقع طلاق.
القسم الثاني: الصبيُّ الذي بلغ، لا خلاف بين العلماء
(4)
أنه يقع طلاقه.
القسم الثالثُ: من لم يبلغ بعد، بعضهم يحده في سن العاشرة إلى الثانية عشر وما فوق حتى يصل إلى سن البلوغ، وبعضهم يقول إلى أن
(1)
ذكر هذا اللخمي، حيث قال:"وقال عطاء: إذا بلغ اثنتي عشرة سنةً جاز طلاقُه".
انظر: "التبصرة"(6/ 2671).
وهو منقول أيضًا عن إسحاق بن راهويه، قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 381):"وقال إسحاق: إذا جاوز اثنتي عشرة".
وذُكر عن عطاء قولٌ آخر. يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 249) حيث قال: "وقال عماء: يجوز طلاقه إذا بلغ أن يصيب النساء".
(2)
الذي جاء عن عمر في هذا الباب ما ذكره اللخمي في التبصرة (6/ 2671)، قال: وروى مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز شهادة غلامٍ يفاع.
معنى هذا إذا قبل شهادته فيقبل طلاقه قياسًا.
(3)
نسبه ابن المنذر لأكثر أهل العلم ولم يذكر فيه خلافٌ، وإنما ذكر الخلاف فيمن عقل. يُنظر:"الأوسط" لابن المنذر (9/ 249) حيث قال: "قال أكثر أهل العلم: لا يجوز طلاقه حتى يحتلم
…
وفيه قولٌ ثان: وهو أنَّ الصبي إذا أحصى الصلاة، وصام شهر رمضان جاز طلاقه".
(4)
لأنه يكون بالغًا وتجري عليه أحكام المكلَّفين، فيقع طلاقه.
يعقل، بمعنى أن يعرف أن زوجته إذا طلقها تحرم عليه، فمن أدرك أهمية الزواج وأنه بطلاقه تفوت عليه زوجته يكون عاقلًا مدركًا، فينزل منزلة العاقل المكلف البالغ عند بعض العلماء، وهي روايةٌ عن الحنابلة.
وبعضهم يقول: كل صبيٍّ لم يبلغ لا يقع طلاقه؛ لأنه غير مكلفٍ، وهم الحنفية والمالكية والشافعية
(1)
، ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق"
(2)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم قيَّد الحكم بالنسبة للصغير أن يبلغ أي: أن يصل سن البلوغ، فهذا فيه رفعٌ للقلم عن الصغير.
فلو أننا أوقعنا طلاق الصغير الذي لم يبلغ فإننا قد كلفناه بما لم تكلفه به الشريعة، وألزمناه بوقوع الطلاق، وهذا خلاف ما دلَّ عليه حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ إيقاع الطلاق فيه حكم وطلبة، ومطالبة الصغير بحكم من الأحكام إنما هو إلزام له، وإلزامه بذلك إنما هو تكليف له، والصبي غير مكلفٍ، فلا يحصل منة طلاق حتى يبلغ.
قوله: (وَأَمَّا طَلَاقُ السَّكْرَان).
المراد بالسكران الذي شرب حتى سكر، وليس المراد من ذلك زائل العقل من غير قصدٍ، لأن زوال العقل يحصل من عدة أمور لا إرادة للإنسان فيها كالجنون أو الإغماء أو النوم؛ لأنَّ النائم يعتبر غير مدركٍ، فلو أنَّ إنسانًا طلَّق وهو في حالة نومه وقال لامرأته: أنت طالق، فلا تطلق زوجته، والمجنون كذلك لا يترتب عليه شيء من الأحكام، ولا تطلق زوجته، ولو أنَّ انسانًا أغمي عليه فإنَّ زوجته لا تطلق كذلك، ولو أنَّ إنسانًا شرب دواءً فترتب على شرب ذلك الدواء أن ذهب عقله فطلَّق فطلاقه لا يقع، لكن لو تعمد شرب الدواء لهذا الغرض ويعلم بأنه يسكره ويذهب عقله، فإنه في هذه الحالة يلحق بالسكران.
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم.
قوله: (فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُقُوعِهِ
(1)
، وَقَالَ قَوْمٌ
(2)
: لَا يَقَع، مِنْهُمُ الْمُزَنِيُّ
(3)
وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ
(4)
).
الشافعية والحنابلة والحنفية والمالكية ورواية للإمامين الشافعي وأحمد
(5)
، أنَّ طلاق السكران يقع، والرواية الأخرى لا يقع طلاقه
(6)
).
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَجْنُون، أَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟، فَمَنْ قَالَ هُوَ وَالْمَجْنُونُ سَوَاءٌ، إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا فَاقِدًا لِلْعَقْلِ؛ وَمِنْ شَرْطِ التَّكْلِيفِ الْعَقْلُ قَالَ: لَا يَقَعُ
(7)
، وَمَنْ قَالَ: الْفَرْقُ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (1/ 230) حيث قال: "وطلاق السكران واقعٌ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (2/ 365) حيث قال: "معناه إذا لم يكن المكلف سكر أصلًا بل ولو سكر سكرًا حرامًا فيصح طلاقه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (8/ 3) حيث قال: "لا يصح تعليقٌ ولا تنجيزٌ من نحو صبيٍّ ومجنونٍ ومغمًى عليه ونائم لرفع القلم عنهم، لكن لو علقه بصفةٍ فوجدت وبه نحو جنون وقع، والاختيار فلا يقع من مكرهٍ كما سيذكره (إلا السكران) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (8/ 433) حيث قال: "وإن زال بسببٍ لا يعذر فيه كالسكران: ففي صحة طلاقه روايتان
…
إحداهما: يقع، وهو المذهب".
(2)
مثل طاوس، وعطاء، وروي ذلك عن عكرمة، وجابر بن زيد، وحميد بن عبد الرحمن. يُنظر:"الأوسط" لابن المنذر (9/ 250).
(3)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 306) حيث قال: "كذلك طلاق السكران؛ لأنه لا يعقل
…
فلم تكن له صلاةٌ حتى يعلمها ويريدها، وكذلك لا طلاقَ له ولا ظهار".
(4)
هو قول الكرخي والطحاوي من الحنفية. يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 230) حيث قال: "وطلاق السكران واقع واختيار الكرخي والطحاوي رحمهما الله أنه لا يقع".
(5)
هو المعتمد في مذهبهما كما تقدم.
(6)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 433) حيث قال: "وإن زال بسببٍ لا يعذر فيه كالسكران: ففي صحة طلاقه روايتان
…
الرواية الثانية: لا يقع".
(7)
قال المزني في مختصره (8/ 306): "وكذلك فرض الصلاة يلزم النائم ولا يلزم المجنون فهل يجيز طلاق النوم لوجوب فرض الصلاة عليهم فإن قيل: لا يجوز؛ لأنه لا يعقل قيل: وكذلك طلاق السكران؛ لأنه لا يعقل".
بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّكْرَانَ أَدْخَلَ الْفَسَادَ عَلَى عَقْلِهِ بِإِرَادَتِهِ؛ وَالْمَجْنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، أَلْزَمَ السَّكْرَانَ الطَّلَاقَ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ)
(1)
.
الذين قالوا بأن طلاقه يقع استدلوا بحديث: "كل طلاقٍ جائزٍ إلا طلاق المعتوه"
(2)
.
وقالوا أثر ذلك عن علي بن أبي طالبٍ، ومعاوية بن أبي سفيان
(3)
، وعبد اللّه بن عباس رضي الله عنهما فقد جاء عن عبد اللّه بن عباسٍ أنه قال: طلاق السكران جائز
(4)
، إذًا "كل طلاق جائزٍ إلا طلاق المعتوه"، لكن الحديث ضعيف
(5)
، واستدلوا أيضًا بأثر عليٍّ في هذا المقام، وبما نقل عن ابن عباسٍ أيضًا.
وذهب الفريق الآخر من العلماء: إلى أنَّ طلاق السكران لا يقع، وذلك صحَّ عن عثمان رضي الله عنه
(6)
، قالوا: بأنه لم يخالفه أحد من الصحابة،
(1)
قال السرخسي في "المبسوط"(6/ 176): "غفلته عن نفسه لما كانت بسبب هو معصية، ولا يستحق به التخفيف، لم يكن ذلك عذرًا في المنع من نفوذ شيءٍ من تصرفاته بعدما تقرر سببه، لأنَّ بالسكر لا يزول عقله إنما يعجز عن استعماله، لغلبة السرور عليه".
(2)
أخرجه الترمذي (1191) وضعَّفه الألباني في "إرواء الغليل"(2042).
(3)
أخرج عبد الرزاق في مصنفه (6/ 409)، عن علي قال:"كلُّ طلاقٍ جائزٌ إلا طلاق المعتوه".
وأثر معاوية أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 589)، وفيه: قال الزهري: فذكر ذلك لرجاء بن حيوة فقال: قرأ علينا عبد الملك بن مروان كتاب معاوية بن أبي سفيان فيه السنن أن كل أحدٍ طلق امرأته جائز إلا المجنون.
(4)
نقل ذلك ابن قدامة في المغني (7/ 379)، فقال: قال ابن عباس: "طلاق السكران جائز". لكن المشهور عنه أنه يرى عدم وقوعه. فقد أخرج البخاري في صحيحه (7/ 45) معلقًا عن ابن عباس، قال:"طلاق السكران والمستكره ليس بجائزٍ". وبنحوه أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 569) عن ابن عباس أنه قال: "ليس لمكرهٍ ولا لمضطهدٍ طلاقٌ" وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(18330).
(5)
في سنده عطاء بن عجلان، وهو متروك الحديث. يُنظر:"إرواء الغليل"(7/ 110).
(6)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 359) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2045).
وقال به كثيرٌ من العلماء
(1)
، واحتج بعضهم بحديث:"رفع القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق"
(2)
.
قالوا: والسكران بمذهب المجنون؛ لأنه لا يعي ما يقول، ولا يدرك ما يفعله. والمقصود بالسكران هنا: هو الذي يصل إلى درجة أنه لا يدرك الأمور، فلا يفرِّق مثلًا بين ثوبه وبين ثوب غيره، ولا قلمه ولا قلم غيره، أما إذا كان مدركًا للأمور فإنَّ أمره يختلف، إذًا قالوا: هذا يلحق بفاقد العقل؛ ولأن المغمى عليه والنائم لا يقع طلاقهما، فكذلك أيضًا السكران.
ويُعترض عليهم بأنه فرقٌ بين من زال عقله من غير قصدٍ، وبين من زال عقله بفعله وقصده، والذين قالوا بأنَّ الطلاق لا يقع، قالوا: لو قدر بأنَّ إنسانًا كُسر ساقه ألا يصح له أن يصلي جالسًا، قالوا: بلى، قالوا: هو تعمد أيضًا لو لم يكسر ساقه لصلى قائمًا، والصلاة لا تصح على القيام إلا إذا كان قائمًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ"
(3)
وهذا تسبب أن يصلي قاعدًا، ومع ذلك تصح صلاته.
قوله: (وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ السَّكْرَانَ بِالْجُمْلَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يَلْزَمُهُ).
ليس الأمر مقصورًا بالنسبة له على ما يتعلق بالطلاق، بل هناك بيعٌ، وهناك شراءٌ، ربما يسرق أو يقر بديْنٍ من الديون على نفسه، وربما يقذف غيره، وربما يعتق عبده، هناك أحكامٌ كثيرةٌ جدًّا، فلو هذه حصلت من السكران في حالة سكره، أصبحت أحكامًا مقررةً عليه، أو أنَّ الطلاق يختلف عنها.
(1)
تقدَّم أنه قول الكرخي والمزني والطحاوي.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (1117).
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَالْقَوَدُ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ وَلَمْ يُلْزِمْهُ النِّكَاحَ وَلَا الْبَيْعَ).
لحديث: "ثلاث جدهن جدّ، وثلاث هزلهنَّ جدّ: الطلاق، والنكاح، والعتق"
(2)
.
قوله: (وَأَلْزَمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كُلَّ شَيءٍ
(3)
).
هي روايةٌ للإمام أحمد
(4)
، فأبو حنيفة يلزم بوقوع الطلاق والعتق إذا أعتق عبده، وإذا أقرَّ بدينٍ، كذلك لو قتل يقتل، كذلك لو سرق، وكذلك بالنسبة إلى النذر، وغير ذلك من الأحكام الكثيرةِ، فإنه يُعامل معاملة الصحيح فيها.
قوله: (وَقَالَ اللَّيْثُ: كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ مَنْطِقِ السَّكْرَان فَمَوْضُوع عَنْه، وَلَا يَلْزَمُهُ طَلَاق وَلَا عِتْق وَلَا نِكَاح وَلَا بَيْعٌ وَلَا حَدٌّ فِي قَذْفٍ، وَكُلُّ مَا جَنَتْهُ جَوَارِحُهُ فَلَازِم لَهُ
(5)
، فَيُحَدُّ فِي الشُّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ).
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (4/ 259) حيث قال: "الرابع أنه تلزمه الجنايات والعتق والطلاق والحدود، ولا يلزمه الإقرارات والعقود، وهو مذهب مالك وعامة أصحابه".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
يُنظر: "الجوهرة النيرة" للحدادي (2/ 38) حيث قال: "وأما السكران فجميع تصرفاته نافذةٌ؛ لأنه زال عقله بما هو معصية فلا يعتبر زواله زجرًا له".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 380) حيث قال: "فصل: والحكم في عتقه، ونذره، وبيعه، وشرائه، وردته، وإقراره، وقتله، وقذفه، وسرقته، كالحكم في طلاقه؛ لأنَّ المعنى في الجميع واحدٌ، وقد روي عن أحمد في بيعه وشرائه الروايات الثلاث".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 208) حيث قال: "وقال الليث بن سعد: كل ما جاء من منطق السكران فهو مرفوعٌ عنه، ولا يلزمه طلاقٌ ولا عتق ولا بيعٌ ولا نكاحٌ ولا يحدُّ في القذف ويحد في الشرب وفي كل ما جنته يده وعملته جوارحه، مثل القتل والزنا والسرقة".
الإمام الليث هو من الأئمة المشهورين يفرق بين القول وغيره، فيرى أنَّ ما وقع منه قولٌ بلسانه لا يؤاخذ به، كالطلاق، والبيع، والعتق، والشراء، وما نحو ذلك، وما جنته جوارحه، أي: ما حدث بيده أو برجله فإنه في هذه الحالة يطالب بذلك ويلزمه.
قوله: (وَثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ السَّكْرَان
(1)
، وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ
(2)
).
يقصد بذلك الإمام ابن المنذر صاحب "الإجماع" المعروف و"الأوسط" و"الإشراف"، وهو من العلماء الأعلام يرى: أنَّ ما جاء عن عثمان رضي الله عنه قد صحَّ، وجاء في صحيح البخاري وفي غيره، وأنه لا مخالف له من الصحابة، فحكى بعضهم أن ذلك إجماعًا أو شبه إجماعٍ
(3)
.
فما جاء عن عليٍّ لم يثبت بطريقٍ صحيحٍ
(4)
، لكن ما حدث بأن طلاق السكران لم يقع؛ لأنه ثبت عن عثمان بطريقٍ صحيحٍ، ولذلك تمسك
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (9/ 556) عن أبان بن عثمان، عن عثمان، قال: كان لا يجيز طلاق السكران والمجنون. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2543).
(2)
نسبه ابن المنذر للبعض دون بيان فقال في "الأوسط"(9/ 251): "واحتجوا بحديث عثمان رضي الله عنه، وقالوا: لا نعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالفه".
(3)
تقدم نقل الكلام عن ابن المنذر.
(4)
ذكره البخاري تعليقًا (7/ 45)، ووصله البغوي في الجعديات (1/ 449)، وقال ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 393):"وقد ورد فيه حديث مرفوعٌ أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة مثل قول علي وزاد في آخره: "المغلوب على عقله"، وهو من رواية عطاء بن عجلان وهو ضعيف جدًّا". والحديث المشار إليه قد تقدَّم تخريجه وتضعيفه.
به الفريق الآخر كعمر بن عبد العزيز
(1)
والقاسم
(2)
وابن تيمية
(3)
وابن القيم
(4)
وغيرهم من المحققين
(5)
.
قوله: (وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ لَيْسَ نَصًّا فِي إِلْزَامِ السَّكْرَان الطَّلَاقَ لِأَنَّ السَّكْرَانَ مَعْتُوهٌ مَا، وَبِهِ قَالَ دَاوُد، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ
(6)
وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ
(7)
- أَعْنِي: أَنَّ طَلَاقَهُ لَيْسَ يَلْزَمُ -. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَان
(8)
فِي ذَلِكَ، وَاخْتَارَ أَكثَرُ أَصْحَابِهِ قَوْلَهُ الْمُوَافِقَ لِلْجُمْهُورِ
(9)
، وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ:
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 206) حيث قال: "وكان عمر بن عبد العزيز أجاز طلاق السكران ثم رجع عنه".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 250) حيث قال: "فقالت طائفة: لا يجوز طلاق السكران. كذلك قال عثمان بن عفان، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد".
(3)
يُنظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/ 186) حيث قال: "وإحدى الروايتين عن أحمد أن طلاق السكران لا يقع، وهذا أظهر القولين".
(4)
يُنظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 39) حيث قال: "والصحيح أنه لا عبرة بأقواله من طلاق، ولا عتاقٍ، ولا بيع، ولا هبةٍ، ولا وقفٍ، ولا إسلامٍ، ولا ردةٍ".
(5)
مثل المزني والكرخي والطحاوي وتقدم.
(6)
يُنظر: "مسائل أحمد وإسحاق بن راهويه" للمروزي (4/ 1586) حيث قال: "قال إسحاق: كلما طلق السكران وكان سكره سكرًا لا يعقل فإنَّ طلاقه لا شيء".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 207) حيث قال: "وهو قول جابر بن زيد، وعكرمة، وعطاء، وطاوس، والقاسم بن محمد، وربيعة، ويحيى بن سعيد، والليث بن سعد، وعبيد الله بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، والمزنى، وداود بن علي".
(8)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 236) حيث قال: "وحكى المزني في جامعه الكبير عن الشافعي في القديم في ظهار السكران قولين: أحدهما: وهو المنصوص عليه في كتبه يقع، والمشهور من مذهبه. والثاني: لا يقع وحكم طلاقه وظهاره في الوقوع والسقوط واحد".
(9)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 236) حيث قال: "وحكى المزني في جامعه الكبير عن الشافعي في القديم في ظهار السكران قولين؛ أحدهما: وهو المنصوص عليه في كتبه يقع، والمشهور من مذهبه".
أَنَّ طَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ
(1)
).
هذا الحديث مع ضعفه احتج به جمهور العلماء الذين قالوا: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه"
(2)
، معنى هذا أنَّ طلاق السكران واقعٌ، وهذا يصلح حجةً للفريق الآخر؛ لأن السكران يعتبر معتوهًا، أي: ذهب عقله، وذهاب العقل إما أن يكون بالجنون، وقد يكون بالسكر، واللّه تعالى يقول:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ولذلك يقيد العلماء السكران الذي لا يقع طلاقه؛ لأنه لا يكون مدركًا لما يقول، وهو الذي وصل إلى درجة الهذيان.
والذين قالوا بأنَّ السكران مكلفٌ، استدلوا بقصة الكلب عندما جاء إلى عمر رضي الله عنه حين أرسله خالد بن الوليد يسأله عن قصة مع السكران إذا قذف، قصة القذف قالوا: هؤلاء أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاسألهم، وكان فيهم عليٌّ، وعبد الرحمن بن عوفٍ، وعثمان، فقال عليٌّ: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، حدوه حدَّ المفتري، أي: يجلد حتى الجلدة الثمانين، فقالوا: إذًا يقام عليه حد السكر، وطالما يقام عليه الحد معنى هذا أنه مكلفٌ، إذًا يقع طلاقه
(3)
.
قوله: (وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي يُطَلِّقُ طَلَاقًا بَائِنًا ويمُوتُ مِنْ مَرَضِهِ،
(1)
تقدَّم.
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 320) عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إنَّ خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر رضي الله عنه: هم هؤلاء عندك فسألهم، فقال علي رضي الله عنه: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، قال فقال عمر رضي الله عنه: أبلغ صاحبك ما قال. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2044).
فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
وَجَمَاعَةً
(2)
يَقُولُ: تَرِثُهُ زَوْجَتُه، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
وَجَمَاعَة
(4)
لَا يُوَرِّثُهَا).
الأئمة الثلاثة أبو حنيفة
(5)
ومالك
(6)
وأحمد
(7)
يرون: أنَّ من يطلق زوجته في مرضه الذي يموت فيه فإن زوجته ترثه، فيعامل بنقيض قصده؛ لأن الإنسان إذا طلق في مرضه الذي يموت فيه فإنه متهم في هذا المقام، لماذا يطلقها في هذا المرض؟
قد يكون الدافع له أن يطلقها ليحرمها من الميراث، فينبغى أن يعامل بنقيض قصده، فلا تمنع من الميراث؛ لأن ذلك حرمان لها، وسندهم ما حصل من عبد الرحمن بن عوف عندما طلق زوجته في مرض موته فإنَّ
(1)
يُنظر: "الكافي "لابن عبد البر (58412) حيث قال: "كل مريضٍ مثبت المرض طلَّق امرأته في مرضه ثم مات من ذلك المرض ورثته امرأته عند مالك
…
وسواء عند مالك مات في العدة أو بعد انقضاء العدة وسواء عند مالك طلقها واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا".
(2)
مثل الليث وربيعة، ينظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 114) حيث قال: "وهو قول الليث في كل ما ذكرناه عن مالكٍ، وذكر الليث أن ابن شبرمة سأل ربيعة عن المريض يطلق امرأته فقال: ترثه ولو تزوجت عشرة أزواج، فأنكر ذلك ابن شبرمة، قال الليث: القول قول ربيعة".
(3)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (8/ 72) حيث قال: "طلاق المريض في الوقوع، كطلاق الصحيح. ثم إن كان رجعيًّا، بقي التوارث بينهما ما لم تنقض عدتها، فإن مات أحدهما قبل انقضاء عدتها ورثه الآخر، وبعد انقضائها لا يرثه، ولو طلقها في مرض موته طلاقًا بائنًا، ففي كونه قاطعًا للميراث قولان: الجديد: يقطع وهو الأظهر، والقديم: لا يقطع".
(4)
قالوا بأنها ترثه في العدة فقط، وهم زفر والحسن بن حي، ينظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 114) حيث قال: "إلا عند زفر خاصة فإنه قال ترثه ما كانت في العدة، وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن حي مثل قول زفر".
(5)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (2/ 3) حيث قال: "إذ طلق الرجل امرأته في مرض موته طلاقًا بائنًا فمات وهي في العدة ورثته، وإن مات بعد انقضاء العدة فلا ميراث لها".
(6)
تقدَّم.
(7)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 395) حيث قال: "وإن كان الطلاق في المرض المخوف، ثم مات من مرضه ذلك في عدتها، ورثته ولم يرثها إن ماتت".
عثمان رضي الله عنه قد ورثها
(1)
، ولم ينكر أحدٌ من الصحابة على عثمان رضي الله عنه ذلك، فكان ذلك إقرارًا منهم فكان حجة.
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فهو يرى أنه طلاقٌ، والطلاق يقع في حالة الجِدِّ والهزل، ولا فرق بين المريض وغيره، فما دام الطلاق يقع، فلماذا نرتب عليه بعض الأحكام، فالطلاق وقعَ وتحقَّق، فلماذا نورث امرأةً من زوجٍ قد طلقها، هذا تعليله.
قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا بِتَوْرِيثِهَا انْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَفِرْقَةٌ قَالَتْ: لَهَا الْمِيرَاثُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ
(3)
، وَقَالَ قَوْم: لَهَا الْمِيرَاثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَحْمَدُ
(4)
، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(5)
، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ تَرِثُ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، تَزَوَّجَتْ أَمْ لَمْ تتزَوَّجْ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(6)
، وَاللَّيْثِ
(7)
.
(1)
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 232) عن طلحة بن عبد اللّه أن عثمان بن عفان ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن وكان طلقها في مرضه تطليقة، وكانت آخر طلاقها.
وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(8/ 232).
(2)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (2/ 3) حيث قال: "إذ طلق الرجل امرأته في مرض موته طلاقًا بائنًا فمات وهي في العدة ورثته، وإن مات بعد انقضاء العدة فلا ميراث لها".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 114) حيث قال: "إلا عند زفر خاصة فإنه قال: ترثه ما كانت في العدة، وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن حي مثل قول زفر".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 395) حيث قال: "فالمشهور عن أحمد أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 114) حيث قال: "وقال ابن أبى ليلى: لها الميراث ما لم تتزوج".
(6)
يُنظر: "الكافي" لابن عبد البر (2/ 584) حيث قال: "كل مريضٍ مثبت المرض طلَّق امرأته في مرضه ثم مات من ذلك المرض ورثته امرأته عند مالكٍ
…
وسواء عند مالكٍ مات في العدة أو بعد انقضاء العدة، وسواءٌ عند مالكٍ طلقها واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 114) حيث قال: "وهو قول الليث في كل ما ذكرناه عن مالك".
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَرِيضُ يُتَّهَمُ فِي أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا طَلَّقَ فِي مَرَضِهِ زَوْجَتَهُ لِيَقْطَعَ حَظَّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ، فَمَنْ قَالَ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَوْجَبَ مِيرَاثَهَا، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ وَلَحَظَ وُجُوبَ الطَّلَاقِ لَمْ يُوجِبْ لَهَا مِيرَاثًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تَقُولُ: إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ وَإِنْ كانَ لَمْ يَقَعْ فَالزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةٌ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهَا، وَلَا بُدَّ لِخُصُومِهِمْ مِنْ أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ، لِأَنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِي الشَّرْع نَوْعًا مِنَ الطَّلَاقِ تُوجَدُ لَهُ بَعْضُ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَبَعْضُ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأَعْسَرُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَصِحَّ أَوْ لَا يَصِحَّ، لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ طَلَاقًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ إِلَى أَنْ يَصِحَّ أَوْ لَا يَصِحَّ، وَهَذَا كلُّهُ مِمَّا يَعْسُرُ الْقَوْلُ بِهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنِسَ الْقَائِلُونَ بِهِ أَنَّهُ فَتْوَى عُثْمَانَ
(1)
وَعُمَرَ
(2)
، حَتَّى زَعَمَتِ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ
(3)
، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَشْهُورٌ
(4)
. وَأمَّا مَنْ رَأَى أَنَّهَا تَرِثُ فِي
(1)
تقدَّم حديث عثمان.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 63) أنَّ عمر بن الخطاب قال: "إذا طلقها مريضًا ورثته ما كانت في العدة، ولا يرثها" وقال البيهقي في السنن الكبرى (7/ 595): "وهذا منقطعٌ".
(3)
ذكر هذا الإجماع القاضي عبد الوهاب، حيث قال:"المطلقة المبتوتة في المرض ترث عندنا، وقال الشافعي لا ترث؛ فدليلنا إجماع الصحابة، لأنه مذهب عمر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وابن الزبير، ولا مخالف لهم". انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(2/ 750، 751).
(4)
أخرج عبد الرزاق في المصنف (7/ 61) عن ابن الزبير أنه قال: "وأما أنا فلا أرى أن ترث المبتوتة".
وقال ابن عبد البر في "الاستذكار"(6/ 113): "وأما قول ابن الزبير فذكره أبو بكر قال: حدثني يحيى بن سعيد عن ابن جريج وذكره عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن =
الْعِدَّةِ، فَلِأَنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَأَنهُ شبَّهَهَا بِالْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ، وَعَنْ عَائِشَةَ.
وَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ فِي تَوْرِيثِهَا مَا لَمْ تَتزَوَّجْ فَإِنَّهُ لَحَظَ فِي ذلِكَ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَرِثُ زَوْجَيْنِ
(1)
، وَلكنِ التُّهْمَةِ هِىَ الْعِلَّةُ عِنْدَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الْمِيرَاثَ).
وجهة الذين قالوا أنها ترث ما دامت في العدة؛ لأنها إذا كانت في العدة فهي باقية في عصمة الزوج، له أن يراجعها فتأخذ حكم الزوجة، ومن قال ما لم تتزوج من بعده ولم ترتبط بزوج آخر، فلو أنها ارتبطت بآخر فكيف ترث من اثنين هذه وجهة هؤلاء، ومن قال بأنها ترث مطلقًا، قالوا: أن القصد من توريثها هو من باب سدِّ الذرائع، حتى لا يكون ذلك مدخلًا من بعض الرجال إذا غضب من زوجته فأدرك أنه في مرض موته، فغلب على نفسه مفارقة هذه الحياة، فيقوم فيطلق هذه الزوجة التي أنهكت
= أبي مليكة قال: سألت ابن الزبير عن رجلٍ طلق امرأته وهو مريضٌ ثم مات، فقال: قد ورَّث عثمان ابنة الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف وكانت قد بت طلاقها ومات في عدتها فورثها عثمان، قال ابن الزبير: وأما أنا فلا أرى أن ترث مبتوتةٌ".
(1)
لم أقف على من نقل الإجماع في تلك المسألة، وهو تعليل لمن منع توريثها إذا تزوجت، كما ذكر السرخسي في "المبسوط" (6/ 156) قال:"وما قاله مالكٌ من بقاء الميراث بعد التزوج بعيد؛ لأنَّ المرأة الواحدة لا ترث من زوجين بحكم النكاح".
وقال أبو الفرج المقدسي في "الشرح الكبير"(7/ 183): "ولنا أن هذه وارثة من زوج فلا ترث زوجًا سواء كسائر الزوجات، ولأن التوريث في حكم النكاح فلا يجوز اجتماعه مع نكاح آخر".
وقال الجويني في "نهاية المطلب"(14/ 232): "فإنها لو نكحت، صارت محل أن ترث زوجها الثاني، فبعد أن تورث من زوجين".
أما المالكية فإنهم أجازوا ميراثها من أكثر من زوج بشرط تطليقها في مرض الموت، قال ابن شاس في "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 524):"بل لو تزوجت عدة أزواج، وكل منهم يطلقها في مرض موته لورثت الجميع، وإن كانت في عصمة رجل حي، وإنما ينقطع ميراثها ممن يطلقها، بأن يصح من المرض الذي طلقها فيه صحة بينةً".
نفسها في حياته في خدمته وخدمة أبنائه، فيعامل بنقيض قصده، وهذه وجهة المالكية.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا طَلَبَتْ هِيَ الطَّلَاقَ، أَوْ مَلَّكَهَا أَمْرَهَا الزَّوْج فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا).
ربما يأتي الطلب من الزوجة في نفسها فتقول للزوج وهو في مرضه: طلقني، أو تقول: ملكني أمري، فيقول: ملكتك أمرك.
قوله: (فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(1)
.
والشافعيُّ
(2)
وأحمد في رواية
(3)
.
قوله: (لَا تَرِثُ أَصْلًا، وَفَرَّقَ الْأَوْزَاعِيُّ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالطَّلَاقِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهَا المِيرَاثُ فِي التَّمْلِيكِ، وَلَهَا فِي الطَّلَاقِ
(4)
، وَسَوَّى مَالِكٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
(5)
، حَتَّى لَقَدْ قَالَ: إِنْ مَاتَتْ لَا يَرِثُهَا، وَتَرِثُهُ هِيَ إِنْ مَاتَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلأصُولِ جِدًّا).
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 47) حيث قال: " (ولو أبانها بأمرها أو اختلعت منه أو اختارت نفسها بتفويضه لم ترث) لأنها رضيت بإبطال حقها للأمر منها".
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (8/ 73) حيث قال: "فإن طلقها بسؤالها، أو اختلعت، أو قال: أنت طالق إن شئت، فشاءت، لم ترث على الصحيح".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 354) حيث قال: "وإن طلقها في مرض الموت المخوف طلاقًا لا يتهم فيه، بأن سألته الطلاق، أو علق طلاقها على فعلٍ لها منه بد، ففعلته، أو علقه في الصحة على شرط فوجد في المرض، أو طلق من لا ترث كالأمة والذمية فعتقت وأسلمت: فهو كالطلاق الصحيح. في أصح الروايتين".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 116) حيث قال: "وقال الأوزاعي: إن طلقها بإذنها ورثته وإن ملكها أمرها فطلقت نفسها لم ترثه".
(5)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 18) حيث قال: "الشخص إذا طلق في مرضه المخوف ثم ماتت فيه فإن الرجل لا يرثها ولو طلقها مريضة، لأنه الذي أسقط ما كان بيده ولو مات الرجل فإن المرأة ترثه؛ لأنه فار بطلاقها حينئذٍ من الإرث كانت مدخولًا بها أم لا انقضت عدتها وتزوجت أم لا".
وهي أيضًا الرواية الأخرى للإمام أحمد
(1)
، ولكن الذي يظهر لنا قوة مذهب جمهور العلماء مذهب الشافعية والحنفية وهي الرواية الأقوى في رواية أحمد.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
[الباب الثالث فِيمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنَ النِّسَاءِ وَمَنْ لَا يَتَعَلَّقُ]
سيتحدث المؤلف عن أنواع النساء، ما هي المرأة التي يقع عليها الطلاق، هناك امرأة تزوجها إنسان فلم يدخل بها بعد ولها أحكامٌ تخصها، وهناك امرأة تزوجها فحصل المسيس، وهناك نساء لم يتزوجهن، فهل لو قدر أنه أطلق الطلاق فيما لو تزوج امرأة يقع أو لا؟
قوله: (وَأَمَّا مَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ
(2)
).
لا شك أنه يقع على المرأة التي في عصمة زوجها؛ لأنها هي التي له ولاية عليها، والرجال قوامون على النساء، وقوامة الرجل إنما هي على زوجته التي في عصمته، أمَّا الأجنبية فلا قوامة عليها.
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 354) حيث قال: "إذا سألته الطلاق فأجابها إلى سؤالها، أو علقه على فعلٍ لها منه بد ففعلته عالمةً فالصحيح من المذهب: أنه كطلاق الصحيح، كما صححه المصنف هنا. وصححه صاحب الهداية، والمذهب، والخلاصة، والمصنف، والشارح وصاحب الفائق، وغيرهم. وجزم به في الوجيز، وقدمه في المحرر، والفروع. والرواية الثانية: هو كطلاقٍ متهمٍ فيه".
(2)
لم أقف على نص اتفاقهم وإن كان معلومًا ضرورةً أن الطلاق يكون لمن في العصمة وهو محله.
قوله: (أَوْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَدُهُنَّ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ
(1)
).
لو طلق زوجتة طلاق رجعيًّا، فله الحق عليها ما دامت في عدتها، لأنَّ المرأة المطلقة طلاق رجعيٌّ كأنها في حكم الزوجة لزوجها، له أن يردها، ولا يحتاج الأمر إلى رضاها، ولا يحتاج إلى موافقة الولي، ولا إلى صداقٍ، وإنما يردها في وقت عدتها، يقول اللّه سبحانه وتعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 228].
تْم قال عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228].
والبعل: هو الزوج، إذ الزوج هو الأحق أن يرد هذه المرأة، لكن عندما تنقضي عدتها تتغير الحالة، فيحتاج الأمر إلى أن يتقدم إليها من جديدٍ ما لم تكن طُلِّقت طلاقًا بائنًا.
قوله: (وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الْأَجْنبِيَّاتِ - أَعْنِي: الطَّلَاق المُعَلَّقَ).
الطلاق المعلَّق: هو ما يعلق على شيء، كالولادة أو غيرها، كأن يقول: إن ولَدَت زوجتي فهي طالق، أو إن دخلت الدار فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 129) حيث قال: "المعتدة بعدة الطلاق يلحقها طلاقٌ آخر في العدة".
ومذهب المالكية: ينظر: "شرحِ مختصر خليل" للخرشي (4/ 173) حيث قال: "لرجعية كالزوجة فإذا طلقها طلاقا رجعيا ثم قبل انقضاء العدة راجعها وطلقها أو مات عنها فإنها تستأنف العدة من يوم الطلاق الثاني".
ومذهب الشافعية: ينظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 396) حيث قال: "ولأنها زوجة يلحقها طلاقه وظهاره أشبه ما قبل الطلاق".
ومذهب الحنابلة: ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 464) حيث قال: "ولأنها زوجة يلحقها طلاقه وظهاره أشبه ما قبل الطلاق".
قوله: (وَأَمَّا تَعْليقُ الطَّلَاقِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ بِشَرْط للتَّزْوِيجِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ نَكَحْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ).
لو أنَّ إنسانًا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، وربما يقول؛ إن تزوجت من بيت فلانٍ فهي طالق، وربما يقول من القبيلة الفلانية، وربما يعمم فيقول: أي امرأةٍ أتزوجها فهي طالقٌ.
قوله: (فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: قَوْل: إِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَعَلَّقُ بِأَجْنَبِيَّةٍ أَصْلًا، عَمَّ الْمُطَلِّقُ أَوْ خَصَّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِي
(1)
، وَأَحْمَدَ
(2)
، وَدَاوُدَ
(3)
، وَجَمَاعَةٍ
(4)
.
وَقَوْل: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ، عَمَّ الْمُطَلِّق جَمِيعَ النِّسَاءِ أَوْ خَصَّصَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
(5)
وَجَمَاعَةٍ
(6)
، وَقَوْل: إِنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (8/ 42) حيث قال: "كقوله؛ لأجنبية إن دخلت فأنت طالقٌ فتزوجها ثم دخلت (لغو) إجماعًا في المنجز وللخبر الصحيح "لا طلاق إلا بعد نكاح"".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 112) حيث قال: " (ولا يصح) تعليق طلاقٍ (إلا من زوج) يصح تنجيزه منه حين التعليق (ف) من قال (إن تزوجت) امرأةً فهي طالقٌ لم يقع عليه إن تزوَّج".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 188) حيث قال: "والقول الثالث قول من قال لا يلزم طلاق قبل نكاحٍ، ولا عتقٌ قبل ملكٍ لا إذا خص ولا إذا عم
…
وبه قال سفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود".
(4)
مثل شريح وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس. يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 231) حيث قال: "فقالت فرقةٌ: لا طلاق قبل نكاح. روي هذا القول عن علي بن أبي طالب، وابن عباسٍ، وعائشة أم المؤمنين، وبه قال شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير
…
".
(5)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 231) حيث قال: "واعلم أن تعليق الطلاق بالملك أو بسبب الملك يصح عندنا والتعليق بالملك كقوله: إن ملكتك فأنت طالقٌ، والتعليق بسبب الملك كقوله: إن تزوجتك فأنت طالقٌ".
(6)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 231) حيث قال: "وفيه قولٌ ثانٍ؛ وهو إيجاب =
النِّسَاءِ لَمْ يَلْزَمْه، وَإِنْ خَصَّصَ لَزِمَه، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
(1)
- أَعْنِى: مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي فُلَانِ أَوْ مِنْ بَلَدِ كذَا فَهيَ طَالِقٌ، وَكذَلِكَ فِي وَقْتِ كذَا.
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُطَلَّقْنَ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا زُوِّجْنَ -. وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ مِنْ شرْطِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وُجُودُ الْمِلْكِ مُتَقَدِّمًا بِالزَّمَان عَلَى الطَّلَاقِ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ؟. فَمَنْ قَالَ: هُوَ مِنْ شَرْطِهِ قَالَ: لَا يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالْأجْنَبِيَّةِ. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ: فَاسْتِحْسَانٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا عَمَّمَ فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ التَّعْمِيمَ. لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إِلَى النِّكَاحِ الْحَلَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَنَتًا بِهِ وَحَرَجًا).
العلماء انقسموا إلى أقسامٍ ثلاثةٍ:
1 -
فبعضهم يقول: الطلاق لا يقع على امرأةٍ ليست في عصمة الرجل، فلا يعتد بهذا الأمر.
2 -
ومن العلماء من قال: يقع الطلاق مطلقًا عمَّ أو خصَّ.
3 -
ومنهم من قال: إن خصَّ فلانةً، أو من بني فلانٍ وقع الطلاق، وإن عم فلا.
والذين قالوا بأنَّ مثل هذا الطلاق لا يقع هم جمهور العلماء، ومنهم
= الطلاق قبل النكاح. روي ذلك عن ابن مسعود. وبه قال الزهري، وحكي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والقاسم، وسالم، وبه قال النعمان، وأصحابه".
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 38) حيث قال؛ "إذا قال لامرأةٍ أجنبيةٍ: إن تزوجتك فأنت طالقٌ كذلك يلزمه الطلاق إذا قال: كل امرأةٍ أتزوجها من الجنس الفلاني وذلك الجنس المعلَّق عليه الطلاق بالنسبة إلى ما أبقى قليلٌ كقوله: كل امرأةٍ أتزوجها من السودان أو من الروم أو من مصر طالقٌ وكذلك يلزمه الطلاق إذا قال: كل امرأةٍ أتزوجها إلى سنةٍ - أو إلى أجلٍ يعيش لمثله - طالقٌ فإنه يلزمه، وذلك يختلف باختلاف الحالف شبابًا وكهولةً وشيوخةً".
الشافعية والحنابلة وكثير من العلماء، والذين قالوا بوقوع الطلاق مطلقًا عم المطلق أو خص هم الحنيفة، والذين فسروا القول في ذلك فرقوا بين التخصيص والتعميم هم المالكية، فأي هذه الأقوال الذي له حظ من هذه الشريعة أكثر؟
لا شك في نظري أنَّ أظهر الأقوال وأقومها هو رأي جمهور العلماء الشافعية والحنابلة ومن معهم، لأن هذا هو أظهر هذه الأقوال، وهو أولاها؛ لأنه أقرب إلى روح هذه الشريعة، وهو الذي يتفق مع الأسس التي قامت عليها الشريعة.
سماحة الشريعة الإسلامية
اللّه سبحانه وتعالى عندما وضع الشريعة رفع عنا الحرج، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، فكلما ذكر اللّه سبحانه وتعالى حكمًا من الأحكام يذكر التيسير، فعندما ذكر اللّه الصيام وما يتعلق به، قال سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فعندما أمرنا بالصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ما أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يشق علينا، ولكن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يختبرنا في هذه الدنيا، ليتبين المطيع من العاصى، ومن الملتزم بحدود اللّه ومن الخارج عنها، ولذا قال بعد ذلك:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
واللّه سبحانه وتعالى عندما تكلم في سورة المائدة عن أحكام الطهارة، قال عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} قال في آخر الآية: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6].
وقال سبحانه وتعالى في سورة الحج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78].
فالشريعة الإسلامية إنما قامت على اليسر وعلى رفع الحرج، ولو أن ذلك طبق على هذا الأمر لكان فيه عنتٌ ومشقةٌ وحرج على المسلم، فلو أنَّ إنسانًا تسرع في هذا الأمر وقال: أي امرأةٍ أتزوجها فهي طالقٌ، ثم قيل بإغلاق هذا الباب على أي امرأة أتزوجها فهي طالق، هل هذا يلتقى مع ما جاء في كتاب اللّه عز وجل من الحث على الزواج؟
اللّه سبحانه وتعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، واللّه سبحانه وتعالى جعل العلاقة بين الزوجين آية من آياته العظمة، قال شعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، فهذا الزواج له فوائد عظيمةٌ، فبهذا الزواج تغض الأبصار وتحصن الفروج، ويولد الأولاد، وربما وجد من بين هؤلاء الأولاد من يوفقه اللّه سبحانه وتعالى لخدمة هذا الدين، والجهاد في سبيل اللّه سبحانه وتعالى، ورفع راية الإسلام، ولذلك بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاثٍ: صدقة جاريةٍ أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له
(1)
، فوجود الأولاد يرفعون ذكر الرجل ويظل نسبه محفوظًا، وهم أيضًا إن وفقهم اللّه سبحانه وتعالى وأصلحهم فإنهم سيكونون خيرًا له في هذه الحياة الدنيا وبعد الممات؛ لأن من الأبناء من يشفع، والأطفال الذين يموتون صغارا يشفعون بأهلهم
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقة جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له".
(2)
أخرج النسائي (118) أن نبي اللّه صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفرٌ من أصحابه، وفيهم رجلٌ له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره، فيقعده بين يديه، فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ما لي لا أرى فلانًا؟ " قالوا: يا رسول الله، بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه، فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه، ثم قال:"يا فلان، أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غدًا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك"، قال: يا نبي الله، بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي، قال:"فذاك لك" وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(2007).
فلو أغلق هذا الباب لكن في ذلك مشقة، وكان في ذلك حرجٌ على المؤمنين، ولذلك نرى أنَّ الذين قالوا بأنه لا أثر لذلك، هذا هو القول الذي نرى أنه يتفق مع روح هذه الشريعة.
ولا شك أن من مراعاة مصلحة الناس ألا يحرم أحدهم من الزواج، ولذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الذين يقول بعضهم أنه يقوم الليل ولا ينام، وبعضهم قال: يصوم ولا يفطر، وبعضهم قال أنه لا يتزوج النساء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"أما أنا فأصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"
(1)
.
لا شك أن الزواج هو سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وما أعظم وما أجمل أن يوفق المرء أن يسير على منهج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة الحسنة التي أمرنا بأن نتبعه في كل أمرٍ من أمورنا، وفي اتباعنا له صلاح واستقامة لأمورنا وأحوالنا.
قوله: (وَكأنَّهُ مِنْ بَابِ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا إِذَا خَصَّصَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِذَا أَلْزَمْنَاهُ الطَّلَاقَ).
ما العلاقة بقوله كنذر المعصية، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه"
(2)
.
والعلماء يختلفون
(3)
هل نذر المعصية يحتاج إلى كفارةٍ أم لا يحتاج
(1)
أخرجه البخاري (5063)، ومسلمٌ (1401).
(2)
أخرجه البخاري (6696).
(3)
مذهب الحنفية والحنابلة أن عليه كفارة يمين.
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 146) حيث قال: "ومن حلف على معصيةٍ مثل أن لا يصلي أو لا يكلم أباه أو ليقتلن فلانًا فينبغي أن يحنث ويكفر عن يمينه".
و: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 474) حيث قال: "المعصية لا تباح في حالٍ من الأحوال (ويكفر من لم يفعله) إن نذر المعصية كفارة يمين".
ومذهب المالكية والشافعية أنه ليس عليه شيءٌ: =
إلى كفارةٍ، ولكن المهم أنَّ نذر المعصية لا يفعله الإنسان، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أنَّ النذر لا يأتي بخيرٍ وإنما يستخرج به من البخيل، لأنَّ الإنسان بدل أن ينذر ليعمل عملًا طيبًا كأن يتصدق أو يعمل فعلًا من أفعال البرِّ، لا يحتاج الأمر إلى أن ينذر، بل عليه أن يؤدي ذلك بنفس طيبةٍ، لكن لو قدِّر أنه حصل فلا يخلو من أمرين:
1 -
إما أن يكون نذر طاعةٍ: كأن ينذر أن يتصدق، أو أن يحسن إلى المساكين، أو يحسن إلى جيرانه، أو أن يعبد اللّه سبحانه وتعالى، أو أن يكثر من الصلوات التطوعية إلى غير ذلك، فهذا عمل خيرٍ وبرٍّ، ويجب عليه أن يوفي به.
لكن لو نذر أن يرتكب معصية من المعاصي فلا يجوز له أن يفعل ذلك.
2 -
أن يكون نذر معصيةٍ: والمؤلف يقول هنا: هذا الذي فيه شبه، وإن كان الشبه هو القياس ليس قياس علةٍ، لكنه شبه هذا أيضًا الذي حجر وضيَّق على نفسه فقال: أي امرأة أتزوجها، هو يشبه نذر المعصية فلا يلتفت إليه.
قوله: (وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا طَلَاقَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ
(1)
).
أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده هي صحيحةٌ، وقد أخذ
= يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (1/ 415) حيث قال: "ناذر المعصية لا شيء عليه سوى الإثم، وإنما نص على ذلك للرد على أبي حنيفة في قوله: يلزمه كفارة".
و"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 577) حيث قال: " (لا ينعقد النذر بالتزام المعِصية) كشرب خمرٍ وزنا وصلاةٍ بحدثٍ لخبر مسلمٍ السابق فلا تجب به كفارةٌ إن حنث".
(1)
أخرجه ابن ماجه (2048) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2070).
بها العلماء المحققون، وهي مقبولة عند العلماء، ومنها هذا الحديث الذي معنا
(1)
.
قوله: (وَفي رِوَايَةٍ أخْرَى: "لَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلك وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلك"
(2)
).
وفي روايةٍ: "لا طلاق إلا من بعد نكاح، وعتق إلا من بعد ملكٍ"
(3)
.
فالطلاق يكون بعد النكاح هذا نص في هذه المسألة، وهذا حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي في سننه الكبرى والطحاوي.
هل هناك حجةٌ بعد قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟
لا شك أنه لا يلتفت إلى قول أحدٍ بعد أن يصح القول عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الأمر عن اللّه سبحانه وتعالى وعن رسوله فلا يعدل عنهما إلى غيرهما.
قوله: (وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَمعَاذٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ
(4)
، وَرُوِيَ مِثْل قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ
(5)
، وَضَعَّفَ قَوْم الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهم
(6)
-).
(1)
قال المزي في "تهذيب الكمال"(22/ 70): "وقال أبو داود، عن أحمد بن حنبل: أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإذا شاءوا تركوه، وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: يكتب حديثه".
(2)
أخرجه أبو داود (2190) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2069).
(3)
أخرجه أبو داود (2873) وقال الألباني في "إرواء الغليل": "وهذا إسناد ضعيفٌ".
(4)
تقدَّم.
(5)
تقدَّم.
(6)
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(6/ 185): "أما عمر بن الخطاب فلا أعلم أنه روي عنه في الطلاق قبل النكاح شيءٌ صحيحٌ وإنما يرويه ياسين الزيات عن أبي محمد =
وعن ابن عمر، لكنَّ المؤلف أحسن عندما اختار حديث عمرو بن شعيب؛ لأن هذا الحديث مسلَّم به من حيث الصحة، والأحاديث الأخرى فيها كلام للعلماء، ولو لم يرد حديث عمرو بن شعيب لكانت تلك الأحاديث الأخرى كافيةً بمجموعها لتكون حجةً.
وبهذا نتبين أن القوله الراجح الصحيح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة ومن معهم.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
[الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ]
[الْباب الْأَوَّلُ فِي أَحْكَام الرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ]
(الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: بَائِنٍ، وَرَجْعِيٍّ؛ وَكَانَتْ أَحْكَامُ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ غَيْرَ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْجِنْسِ بَابَان الْبَابُ الْأوَّلُ: فِي أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ. الْبَابُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِ الارْتِجَاعِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ).
= عن عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن رجلًا أتى عمر بن الخطاب فقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثا قال: هو كما قال. وياسين مجتمع على ضعفه وأبو محمد مجهولٌ وأبو سلمة عن عمر منقطعٌ".
الطلاقُ ينقسمُ إلى قسمين:
القسم الأول: طلاقٌ بائن:
والطلاق البائن ينقسم أقسامًا: فمن النساء من تبين بطلقةٍ واحدةٍ، وتحرم بالثلاثة، وهي الزوجة التي لم يدخل بها زوجها، وأمَّا المرأة المدخول بها فإنها تبين بالطلقة الثالثة، ولذلك على المسلم إذا طلَّق أن يطلِّق طلقةً واحدةً، وإدت كان ولا بدَّ فليطلق طلقتين، واللّه تعالى يقول مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. ويقول في سورة البقرة: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
القسمُ الثَّاني: طلاقٌ رجعِيٌّ:
والملطلقة طلاقًا رجعيًّا لزوجها الحق أن يراجعها، ولا يحتاج الأمر إلى أن ترضى، لأن اللّه تعالى يقول:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228].
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(الْباب الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَام الرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ رَجْعَةَ الزَّوْجَةِ فِي الطَّلَاق الرَّجْعِيِّ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ مِنْ غيْرِ اعْتِبَارِ رِضَاهَا
(1)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن المنذر (1/ 329) حيث قال: "ولم يختلف أهل العلم أنَّ الحر إذا طلَّق امرأته الحرة المدخول بها تطليقةً أو تطليقتين أنه أحق برجعتها حَتَّى تنقضي العدة".
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، وَأَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذَا الطَّلَاقِ تَقَدُّمَ الْمَسِيسِ لَه، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْإِشْهَادِ
(1)
. وَاخْتَلَفُوا هَلِ الإشْهَادُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا أَمْ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ وَكذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ تَصحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ؟ فَأَمَّا الْإِشْهَادُ: فَذَهَبَ مَالِكٌ
(2)
إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ
(3)
. وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلظَّاهِرِ: وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَتَشْبِيهُ هَذَا الْحَقِّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الْإِنْسَانُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْإِشْهَاد، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالآيَةِ حَمْلَ الآيَةَ عَلَى النَّدْبِ).
هذا أمر لا خلاف فيه، ودليل ذلك الكتاب والسنة والإجماع، إذ الرجعة مشروعةٌ بكتاب اللّه عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول اللّه عز وجل في سورة الأحزاب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (2/ 254) حيث قال: "والرجعة أن يقول راجعتك أو راجعت امرأتي" وهذا صريحٌ في الرجعة ولا خلاف فيه بين الأئمة .. ويستحب أن يشهد على الرجعة شاهدين".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 617) حيث قال: "له مراجعتها فيما بقي من العدة بالقول والإشهاد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 336) حيث قال: "و (تحصل) الرجعة من ناطقٍ (براجعتك ورجعتك وارتجعتك .... لا يشترط) في الرجعة الإشهاد".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 148): حيث قال: "وتحصل الرجعة (بلفظ راجعتها ورجعتها وارتجعتها وأمسكتها ورددتها ونحوه)
…
و (ليس من شرطها) أي: الرجعة (الإشهاد) ".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 87) حيث قال: "المشهور أنَّ الإشهاد على الرجعة مستحبٌّ لا واجب كما قيل".
(3)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 341) حيث قال: " (لا يشترط الإشهاد) على الرجعة؛ لأنها في حكم استدامة النكاح ولإطلاق الأدلة".
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، هذا بالنسبة لغير المدخول بها.
لكن المدخول بها التي تطلق طلاقًا رجعيًّا وتعتدٌّ، يبين اللّه سبحانه وتعالى أنَّ لزوجها الرد:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، كأن يقول: رددتُ زوجتي، كما في هذه الآية، وكما في قوله سبحانه وتعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فهذا نصٌّ في كتاب اللّه عز وجل على أنَّ للزوج أن يراجع زوجته ما دامت في العدة، وأنها لا خيار لها في ذلك، وأنه لا حاجة لرضاها في هذا الأمر، كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عندما طلَّق عبد اللّه بن عمر زوجته فجاء والده إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسأله قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أي لعمر -:"مره فليراجعها"
(1)
، لا شك أنَّ ذلك ما دامت في العدة، أمَّا إذا انتهت العدة فيتغير الأمر فيحتاج إلى أن يكون خاطبًا من الخاطبين، ولابد من وليٍّ وصداقٍ ورضا الزوجةِ، اللّه سبحانه وتعالى قدم دْلك بقوله:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 228] ثم قال: {
…
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، أي أن هذا هو خير، فاللّه سبحانه وتعالى بيَّن في سورة الطلاق ورغب في قوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، لكن يختلف الأمر إلى الذي لم يدخل الزوج بها؛ لأن هذه لا عدة لها فلا يملك الرجعة، ولو طلقها طلقةً واحدةً بانت منه، ولو قال الإنسان قد راجعت زوجتي فإنه بلا شك راجعها، لكن هل يحتاج الأمر إلى شاهدين؟
ذهب مالك
(2)
وأبو حنيفة
(3)
والشافعي
(4)
.......................
(1)
أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471).
(2)
تقدَّم.
(3)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (2/ 254) حيث قال: "والرجعة أن يقول راجعتك أو راجعت امرأتي"، وهذا صريح في الرجعة، ولا خلاف فيه بين الأئمة .. ويستحب أن يشهد على الرجعة شاهدين".
(4)
تقدَّم.
في قول وأحمد
(1)
في روايةٍ بأنه مستحبٌّ إذًا هذا هو مذهب الجمهور، والعلماء الذين قالوا بالإشهاد قالوا بأنَّ الإشهاد تتأكد فيه الرجعةُ.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا تَكُونُ بِهِ الرَّجْعَة، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِالْقَوْلِ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَقَوْم قَالُوا: تَكُونُ رَجْعَتُهَا بِالْوَطْءِ، وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: فَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ إِلَّا إِذَا نَوَى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْقَوْلِ مَعَ النِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
(3)
. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَجَازَ الرَّجْعَةَ بِالْوَطْءِ إِذَا نَوَى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ وَدُونَ النَيَّةَ
(4)
).
وقال قومٌ: لا تكون إلا بالوطء وهم الحنفية والمالكية والحنابلة
(5)
، لكنهم اشترطوا مع الوطء النية، أي أن ينوي أن يردها، وهم المالكية.
والحنفية والحنابلة قالوا: هو أصلًا لم يطأها إلا ويقصد بذلك الرجعة، إذًا هذا الأمر كافٍ على أنه يريد الرجعة.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 342): حيث قال: " (وليس من شرطها) أي الرجعة (الإشهاد) لأنها لا تفتقر إلى قبول".
(2)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 111) حيث قال: "وتحصل براجعتك ورجعتك وارتجعتك والأصح أنَّ الرد والإمساك صريحان، وأن التزويج والنكاح كنايتان، وليقل رددتها إلي أو إلى نكاحي، والجديد أنه لا يشترط الإشهاد فتصح بكنايةٍ ولا تقبل تعليقًا ولا تحصل بفعلٍ كوطءٍ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 617) حيث قال: " (وندب) للزوج (الإشهاد) على الرجعة (وأصابت من منعت) نفسها من الزوج (له) أي لأجل الإشهاد فتثاب على ذلك، وهو دليل على كمال رشدها، والمعتبر إشهاد غير سيدها ووليها (وشهادة السيد) والولي (كالعدم) ".
(4)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (2/ 254) حيث قال: "والرجعة أن يقول راجعتك أو راجعت امرأتي" وهذا صريح في الرجعة ولا خلاف فيه بين الأئمة، أو يطأها أو يقبلها أو يلمسها بشهوةٍ أو بنظر إلى فرجها بشهوةٍ "وهذا عندنا"".
(5)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 153) حيث قال: " (ويباح) (لزوجها وطؤها والخلوة والسفر بها)، .... هذا أصح الروايتين".
قوله: (أَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَقَاسَ الرَّجْعَةَ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَ: قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ، وَلَا يَكُونُ الْإِشْهَادُ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ
(1)
).
الحقيقه أنا أرى فرقًا كبيرًا بينهما؛ لأن النكاح يختلف فهذه امرأة سيعقد عليها وهو لا يعرفها ولا تعرفه، ولذلك تحتاج إلى وليٍّ وإلى صداقٍ وإلى رضى كلٍّ من الطرفين، ولا بدَّ من الإشهاد، ثم أيضًا ورد فيها نصٌّ:"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، أما هذه فهي في حكم زوجته، ولهذا يقول اللّه تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، لماذا وضع اللّه سبحانه وتعالى هذه العدة وترك هذه المدة الطويلة؟ ليعطي الزوج مدةً ليفكر ويراجع نفسه، فكثيرًا ما يندم الأزواج على مثل ذلك، فلو لم تكن هذه العدة لكان فرط وفاته الأمر، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا كما لو كان قد طلَّقها ثلاثًا.
قوله: (وَأَمَّا سَبَبُ الاخْتِلَافِ بَيْنَ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَلَّلَةُ الْوَطْءِ عِنْدَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُولَى مِنْهَا وَعَلَى الْمُظَاهَرَةِ وَلأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْفَصِلْ عِنْدَه، وَلذَلِكَ كَانَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ وَطْءَ الرَّجْعِيَّةِ حَرَامٌ حَتَّى يَرْتَجِعَهَا، فَلَا بُدَّ عِنْدَهُ مِنَ النِّيَّةِ. فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ).
لو أنَّ إنسانًا أقسم على ألا يطأ امرأته مدةً وأكثرها أربعة أشهرٍ، فإذا انتهت هذه المدة هل نقول: تعال واشهد ولا تطأ، أو أنَّ مجرد الوطء يرفع الإشكال؟
الجواب: أنه لو وطأها انتهى؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226، 227].
هنا لا يحتاج إلى إشهادٍ، كذلك بالنسبة إلى المظاهرة أيضًا، فلو أنَّ
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج"(7/ 59): "والقديم الاشتراط لا لكونها بمنزلة ابتداء النكاح".
إنسانًا قال لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنت علي حرامٌ كظهري، وغير كذلك، حينئذٍ الأمر لا يحتاج .. تعليل المؤلف له وجهٌ من النظر.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: لَا يَخْلُو مَعَهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى شَعْرِهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهَا إِذَا كَانَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِبَاحَةِ الأكلِ مَعَهَا
(2)
).
يعني هذه المطلقة طلاقًا رجعيًّا هل تعامل بمثابة الأجنبية، أم أنها في حكم الزوجة فله أن يدخل عليها ويخلو بها ويسافر بها وتتزين له وتواكله وتشاربه، أم أنه ينقطع عنها، وليس له أن يفعل شيئًا من ذلك حتى يردها إليه؟
العلماء مختلفون في هذا الأمر، ومذهب مالكٍ في هذه المسألة فيه نوعٌ من التشديد؛ لأنه يرى ألا يقاربها، وهناك غاية مقصودةٌ من هذه العدة بأن يتذكر الزوج ما بينه وبين تلك الزوجة، فلعله يراجع نفسه ويفكر في الأمر مليًّا، فيحدث ما لم يكن حدث بعد الطلاق، فبذلك تتوق نفسه إلى الرجعة إلى زوجته، ولربما أنَّ هذه الزوجة ذاتُ أولادٍ، ولو حصل الطلاق الذي تتلوه الفرقة وبعُدَ كلُّ واحدٍ منهما عن الآخر لا شكَّ أن ذلك سيترك أثرًا غير محمودٍ بالنسبة للأولاد، ولذلك يلجأ إلى الطلاق عندما تنسد المسالك وإن كان ذلك مما أباحه الله، هذا القول الذي ورد عن الإمام مالكٍ هي روايةٌ عن الإمام أحمد
(3)
.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 85) حيث قال: "الرجعية حكمها حكم الزوجة في وجوب النفقة والكسوة والموارثة بينهما وغير ذلك إلا في تحريم الاستمتاع بها قبل المراجعة بنظرة أو غيرها من رؤية شعرٍ واختلاءٍ بها".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 161) حيث قال: "وقال ابن القاسم رجع مالكٌ عن ذلك وقال: لا يدخل عليها، ولا يرى شعرها، ولا يأكل معها".
(3)
يُنظر: "الهداية" للكلوذاني (ص 462) حيث قال: "والرجعية مباحةٌ لزوجها يجوز أن تتشوف له ويخلو بها ويسافر ما دامت في العدة وعنه أنها غير مباحةٍ".
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: لَا بَأْسَ أَنْ تَتَزَيَّنَ الرَّجْعِيَّةُ لِزَوْجِهَا، وَتَتَطَيَّبَ لَهُ وَتَتَشَوَّفَ وَتُبْدِيَ الْبَنَانَ وَالْكُحْلَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ
(2)
.
وهذا الذي يتناسب مع العدَّةِ؛ لأنَّ العدة وُضعت لتكون فرصةً للزوج ليفكِّر، فكونها تتزين له وتتشوف أو تتشرف إليه أي تتطلع له وتقابله وتظهر له محاسنها، فإنَّ ذلك ربما يساعد على أن يفكِّر في رجعتها إليه، وتتزين بمعنى أن تلبس ملابس الزينةِ بأن تكتحل وأن تبدى بعض ما يحتاج إلى إبداءهِ، كمثل أطراف الأصابع التي فيها خضاب، كذلك العينين التي فيها الكحل، وبعضهم يرى كالإمام أحمد أنَّ له أن يسافر بها في الرواية الأخرى
(3)
وأن يخلو بها، وله أن يطأها، إذًا هذا في نظرنا هو الأقرب من الحكمة في وجود هذه العدة في طلاق الرجعية، إذ الغرض منها كما أشار الله سبحانه وتعالى في قوله:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].
قوله: (وَكُلُّهُمْ قَالُوا: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ بِدُخُولِهِ بِقَوْلٍ أَوْ حَرَكةٍ مِنْ تَنَحْنُحٍ أَوْ خَفْقِ نَعْلٍ
(4)
).
(1)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 165) حيث قال: "والمطلقة الرجعية تتشوّف وتتزين لقيام النكاح بينها وبين الزوج على ما بينَّا، والرجعة مستحبةٌ والزينة حاملةٌ عليها فتجوز".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 161) حيث قال: "وقال الثوري: لا بأس أن تتشوف له وتتزين وتسلم ولا يستأذن عليها ولا يؤذنها ويؤذنها بالتنحنح ولا يرى لها شعرًا ولا محرمًا، وهو قول أبي يوسف، وقال الأوزاعي: لا يدخل عليها إلا بإذن وتتشوف له وتتزين وتبدي البنان والكحل".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 149) حيث قال: " (ولها) أي الرجعية (أن تشرف) أي تتعرض (له) أي لمطلقها بأن تريه نفسها. (و) لها أيضًا أن (تتزين) له كما تتزين النساء لأزوأجهن لإباحتها له كما قبل الطلاق".
(4)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 165) حيث قال: "ويستحب لزوجها أن لا يدخل عليها حتى يؤذنها إذا لم يكن قصده الرجعة =
والقصد ألا يفاجئها، وهو من أداب العلاقات الزوجية، فإذا كان الزوج الذي يقدم من سفرٍ أو من مكان بعيدٍ ينبغي على أهله أن يكونوا على علمٍ بذلك ومعرفةٍ لكي يتهيئوا له، وقد أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بالكم بامرأةٍ طلِّقت وهي تتنتظر من زوجها لعله يردها، وربما تزول أسبابُ الخلاف والفرقة، فيعيدها الزوج إلى عصمته.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَابِ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً وَهُوَ غَائِبٌ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، فَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَة، فَتَتَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا).
قد يحصل من زوج غائبٍ أو من غير غائبٍ، لأنَّ المرأةَ قد لا تكون في البيت الذي يعيش فيه زوجها ويراجعها زوجها وهي لا تعلم؛ لأنَّ علمها ليس شرطًا، ورضاها ليس شرطًا، فربما يراجعها أيضًا وتمضي الأيام، وربما يغفل أو تنسى الأيام ويوصي أحدًا بأن ينبئها، فلا يصل الخبر، فإذا انتهت عدتها وتقدَّم لها خاطبٌ من الخطاب ورضي به أوليائها فتزوجت به، أو ربما تمَّ العقد ولم يدخل بها، فما الحكم في هذه المسألة؟
أكثر العلماء على أنها ترد إلى زوجها الأول، ولا فرق بين هؤلاء بين أن يكون الزوج الثاني قد دخل بها أو لم يدخل، فإنها ترد إليه بأيِّ حالٍ من الأحوال، ويعتبرون أن الزواج الثاني فاسد، وأن الزواج الأول هو الصحيح وهو الثابت، ثم يقولون ما الفرق بينها وبين امرأة متزوجةٍ يتزوجها آخر؟
= لاحتمال أن يقع نظره عليها وهي متجردةٌ فتحصل الرجعة ثم يطلقها فتطول عليها العدة".
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 85) حيث قال: "ولا يكلمها ولا يدخل عليها ولو كان معها من يحفظها ولا يأكل معها ولو كانت نيته رجعتها حتى يراجعها".
الفرق بينهما فيما يتعلق بالأحكام؛ لأنه لو أنَّ امرأةً كانت متزوجةً بشخصٍ وتزوجت آخر، هذه لا شك تعتبر زانيةً، وأيضًا الذي يتزوجها إن علم يطبق عليهما ما يطبق على الزاني، لكن هذه إذا لم تعلم هي بأنَّ زوجها قد ارتجعها ولم يعلم الزوج فإنَّ الحالة تختلف، وهناك أمور تتعلق بذلك مثل ما يتعلق بالمهر، هذه لم يتعرض لها المؤلف ما الحكم فيها؟
الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه "أيما امرأةٌ تزوجها اثنان فهي للأول منهما" حديث صحيحٌ، وهذا يقع بالنسبة للأولياء يعنى: نفرض أنَّ امرأة لها وليَّان متساويان فجاء أحدهما فزوَّجها، ثم زوَّجها الولي الآخر إلى رجلٍ آخر، ولا يعلم المتقدم منهما فما الحكم؟
هي هذه تدخل ضمن هذه المسألة، أو هذه التي انتهت عدتها، ومثلها المسألة التي مرت بنا قبل دروس بعيدة جدًّا التي تحدثنا عنها بيناها سابقًا لو أن امرأةً فقد عنها زوجها فغاب عنها مدةً فإن العلماء يضربون له المدة المعروفة والتي تكون غالب حياته الهلاك، ثم بعد ذلك تقدر مدة العدة، ثم بعد أن تتزوج يأتيها زوجها والقصة التي حصلت في زمن عمر رضي الله عنه في قصة الأنصاري الذي خرج إلى صلاة العشاء في المسجد فلم يعد إلى أهله، ومضت الأيام فذكر ذلك إلى عمر رضي الله عنه فمضت أربع سنواتٍ ثم بعد ذلك اعتدت زوجته وتزوجت بآخر، وإذا بالرجل يأتي بعد ذلك فيعاتبه عمر رضي الله عنه: يتزوج الرجلُ المرأةَ فتكون في عنقه ثم يدعها وراء ظهره ويتركها، فيذكر قصته الغريبة لعمر رضي الله عنه بأنه خرج إلى المسجد فالتقطه جماعةٌ من الجن فذهبوا به إلى أماكنهم وظل عندهم مدةً طويلةً حتى حصل بينهم وبين آخرين من الجن حربٌ، فانتصر الفريق الآخر عليهم، وكان الفريق الذين حاربوهم من المسلمين أي من مسلمي الجن، فأسروا عددًا من أولئك الأقوام، وكان من بينهم هذا الرجل الأنصاري فاستغرب وجوده بينهم؛ لأنهم أخذوه واستخدموه خادمًا لهم فسألوه عن حاجته، فطلب أن يرد إلى أهله في المدينة فوضعوه في الحرةِ، فكان في النهار لا يرى شيئًا إلا ذلك العصوف الذي يراه، وفي الليل يسمع أصواتًا فرجع، فلما جاء إلى عمر رضي الله عنه خيَّره عمر رضي الله عنه بين أن يرد إليه زوجته أو
أن يأخذ المهر، فاختار أن يأخذ المهر؛ لأنه قد وجد أنها قد تزوجت وحبلت من الآخر، هذا فيما يتعلق بالمفقود، فالمسألة التي بين أيدينا شبيهة بها وإن اختلفت من بعض الوجوه.
قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا لِلَّذِي عَقَدَ عَلَيْهَا النِّكَاحَ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، هَذَا قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّأِ
(1)
، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ
(2)
، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ قَالَ: الْأَوَّلُ أَوْلَى بِهَا إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الثَّانِي، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ الْمَدَنِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ
(3)
قَالُوا: وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي مُوَطَّئِهِ إِلَى يَوْمِ مَاتَ وَهُوَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ
(4)
).
مالكٌ يرى في هذه الرواية أنها للذي عقد عليها أي: إلى الثاني.
ووجهة هذا القول: أن كلًّا منهما عقد على هذه المرأة، وكان أحدهما أولى من الآخر لوجود مزيةٍ قائمةٍ ألا وهي الدخول فهذا قد دخل بها، فمالك رحمه الله في هذه الرواية التي أوردها في موطأه والتي حُكي أنه
(1)
يُنظر: "الموطأ"(4/ 828) حيث قال: "وإن تزوجت بعد انقضاء عدتها، فدخل بها زوجها، أو لم يدخل بها، فلا سبيل لزوجها الأول إليها، وذلك الأمر عندنا، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوج، فهو أحق بها".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 316) حيث قال: "وبه قال مالكٌ والأوزاعي والليث وطائفةٌ مع أهل المدينة".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 313) حيث قال: "وروى سحنون عن ابن القاسم في هذه المسألة، وفي مسألة المفقود أن مالكًا رجع قبل موته بعامٍ، فقال: الأول أحق بها ما لم يدخل بها الثاني، وبه يقول ابن القاسم، وأشهب، وقال المدنيون من أصحابه بما في الموطأ في مسألة المرتجع ومسألة المفقود أنه إذا عقد الثاني، فلا سبيل إلى الأول إليها دخل الثاني بها أو لم يدخل".
(4)
أشار ابن عبد البر إلى ذلك، وأنَّ هذا القول في جميع روايات الموطأ بما فيها رواية يحيى وهو من آخر أصحاب مالك، قال في "الاستذكار" (17/ 313):"وقوله هذا في موطئه عند جميع الرواة، وقد شهد يحيى موته، وهو من آخر أصحابه عرضًا للموطأ عليه".
رجع عنها، ولكن بعض أصحابه يرون أنه لم يرجع عنها؛ لأنه أقرَّها وأثبتها في موطأه الذي يُقرأ.
وابن القاسم من أخصِّ تلاميذ الإمام مالك وأعرفهم بحال الإمام مالكٍ، بل هو الذي نقل عنه ما جاء في مسائل الموطأ، فهو الذي كان يسأل الإمام مالك عن مسائل فيجيب عليها، وإذا لم تكن هناك مسائل أجاب عليها الإمام مالكٍ، فإن ابن القاسم كان يجيب عنها، وهي المسجلة المسطرة في مدونة الإمام مالك التي كتبها الإمام سحنون من المالكية.
قوله: (وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ
(1)
).
وسيأتي أنَّ عمر له رأيٌ آخر يتفق مع الرواية الأخرى مع الإمام مالكٍ، وهي روايةٌ للإمام أحمد أيضًا.
قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَالْكُوفِيُّونَ، وَأَبو حَنِيفَةَ
(3)
وَغَيْرُهُمْ فَقَالُوا: زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الَّذِي ارْتَجَعَهَا أَحَقُّ بِهَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ
(1)
قال مالك في الموطأ (4/ 289): "وبلغني أنَّ عمر بن الخطاب، قال في المرأة يطلقها زوجها، وهو غائبٌ عنها ثم يراجعها، فلا يبلغها رجعته، وقد بلغها طلاقه إياها؛ فتزوجت: أنه إن دخل بها زوجها الآخر، أو لم يدخل بها، فلا سبيل لزوجها الأول، الذي طلقها إليها".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 315) حيث قال: "فلو طلقها وغاب وتزوجت بعد انقضاء العدة وقدم الزوج فادعى أنه راجعها قبل انقضاء العدة فله حالتان: حال يقيم البينة على رجعته، وحال يعدمها، فإن أقام البينة عليها، وهي شاهدان عدلان لا غير كان نكاح الثاني باطلًا سواء دخل بها أم لم يدخل".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 181) حيث قال: "ولو راجعها ولم يعلمها حتى انقضت مدة عدتها، وتزوجت بزوجٍ آخر ثم جاء زوجها الأول فهي امرأته سواء كان دخل بها الثاني أو لم يدخل، ويفرق بينها، وبين الثاني".
يَدْخُلْ، وَبِهِ قَالَ دَاوُد، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ
(1)
وَهُوَ الْأَبْيَنُ).
قول جمهور العلماء: أنها ترد إلى الزوج الأول، وأنَّ الزواج الثاني منها يعتبر زواجًا غير صحيحٍ؛ لأنه تزوج امرأةً في عصمة زوجٍ فلا يجوز ذلك، بل يعتبر العقد فاسدًا وترد إلى الأول، وهذا هو قول الإمام أبي حنيفة، والشافعي، وهو الصحيح من مذهب أحمد
(2)
.
لأنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوي ما يؤيد هذا الرأي
(3)
، ولا شك إذا حصل خلافٌ ووجدنا دليلًا من كتاب الله عز وجل فنقف عند هذا الدليل أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن نعدل عنهما إلى قول أي إنسانٍ كائنًا من كان، فإنَّ هؤلاء الأئمة مهما بلغوا الغاية من العلم ومن الفضل، فليسوا أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، فلا شك أنَّ أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تقدَّم أقوالهم أو قول أحدٍ منهم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].
إذًا الرد إلى كتاب الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان حيًّا، وبعد موته عليه الصلاة والسلام إنما يكون الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم، ولقد حفظ الله سبحانه وتعالى لنا هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، وكذلك أيضًا عني علماء هذه الأمة بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 317) حيث قال: "هو قول إبراهيم وفقهاء الكوفيين، أبي حنيفة وأصحابه، والثوري والحسن بن حي، وبه قال الشافعي وأبو ثور وداود، كلهم يقول في ذلك بقول علي الأول أحق بها دخل الثاني أم لا".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 533) حيث قال: "وإذا طلقها، ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم، فاعتدت، ثم نكحت من أصابها، ردت إليه، ولا يصيبها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين، والأخرى هي زوجة الثاني".
(3)
هو حديث سمرة بن جندب الآتي.
قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الزَّوْجَ الَّذِي ارْتَجَعَهَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمَا كَانَ أَصْدَقَهَا
(1)
، وَحُجَّةُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثمَّ يُرَاجِعُهَا فَيَكْتُمُهَا رَجْعَتَهَا حَتَّى تَحِلَّ فَتَنْكَحَ زَوْجًا غَيْرَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِهَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّهَا لِمَنْ تَزَوَّجَهَا
(2)
، وَقَدْ قِيلَ إِن هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَقَطْ
(3)
.
وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَجْمَعُوا
(4)
عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ صَحِيحَةٌ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِهَا الْمَرْأَةُ).
أجمع العلماء على أنَّ استرجاع الزوج لزوجته صحيحةٌ علمت الزوجة أو لم تعلم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، إذًا ما دام الحق للزوج فلا يحتاج أن يأخذ رضى المرأة، وقوله سبحانه وتعالى في
(1)
ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار"(17/ 314) قال: "حدثني أبو معاوية، عن الشيباني، عن الشعبي، قال: سئل عمر عن رجلٍ غاب عن امرأته، فبلغها أنه مات، ثم جاء الزوج الأول، فقال عمر: يخير الزوج بين الصداق وامرأته، فإن اختار الصداق تركها مع الآخر، وإن شاء اختار امرأته".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 137).
وأخرج عبد الرزاق في المصنف (6/ 326) عن أبي الشعثاء أن أبا الشعثاء أخبره قال: تماريت أنا ورجلٌ من القراء الأولين في المرأة يطلقها زوجها، ثم يرتجعها فيكتمها رجعتها حتى تنقضي عدتها قال: فقلت: ليس له شيءٌ قال: فسألنا شريحًا فقال: "ليس للأول إلا فسوة الضبع".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 173) قال: "وهذا الخبر إنما يروى عن ابن شهاب أنه قال: مضت السنة لا أذكر فيها سعيدًا".
(4)
يُنظر. "الإقناع"، لابن المنذر (1/ 329)، وفيه قال:"ولم يختلف أهل العلم أنَّ الحر إذا طلق امرأته الحرة المدخول بها تطليقةً أو تطليقتين أنه أحق برجعتها حتى تنقضي العدة".
المطلقة الرجعية: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
قوله: (بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا
(1)
عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، وإذَا كَانَتِ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً كَانَ زَوَاجُ الثَّانِي فَاسِدًا).
لا شك أنَّ كلام المؤلف هو الصحيحُ، وهذا هو التعليل الذي ذهب إليه جمهور العلماء؛ لأنَّ هذه المعتدة أصلًا في حكم الزوجةِ، وعندما ردها إليه أصبحت زوجةً له لا تختلف عن غيرها، فزواج غيره بها هو زواجٌ فاسدٌ غير صحيحٍ، وإذا كان قد تزوج امرأةً في عصمة زوجٍ فهذا غير جائزٍ فيرد الأمرُ إلى الصواب.
قوله: (فَإِنَّ نِكَاحَ الْغَيْرِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِبْطَالِ الرَّجْعَةِ لَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِنْ شَاءَ الله، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا اثْنَانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَمَنْ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا").
هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن
(2)
والإمام أحمد في مسنده
(3)
، والبيهقي في سننه الكبرى
(4)
، والحاكم وصححه
(5)
، وهو حديث صحيحٌ وحجةٌ، وأما السماع فقد صحَّ السماع من سمرة بن جندب رضي الله عنه، إذًا السماع ثابتٌ
(6)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 317) حيث قال: "وأجمع العلماء أنَّ الأول أحقُّ بها لو جاء قبل أن تتزوج كانت امرأته لرجعته إياها".
(2)
أخرجه أبو داود (208)، وغيره. وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2224).
(3)
أخرجه أحمد (17349).
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7139).
(5)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 35).
(6)
قال ابن حجرٍ في "تلخيص الحبير"(3/ 357): "صححه أبو زرعة وأبو حاتم والحاكم في المستدرك وذكره في النكاح بألفاظٍ توافق اللفظ الأول وصحته متوقفةٌ على ثبوت سماع الحسن من سمرة فإن رجاله ثقاتٌ لكن قد اختلف فيه على الحسن".
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[البَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الارْتِجَاعِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ]
المؤلف بعد أن انتهى من الطلاق الرجعي دخل في الطلاق البائن.
قوله: (وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ: إِمَّا بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ: فَذَلِكَ يَقَعُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِلَا خِلَافٍ)
(1)
.
وهذا قد نص الله سبحانه وتعالى عليه في سورة الأحزاب، فلا مجال للاجتهاد فيه ولا الاختلاف، فهو أمر مجمعٌ عليه لا خلاف فيه، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49].
قوله: (وَفِي الْمُخْتَلِعَةِ بِاخْتِلَافٍ
(2)
، وَهَلْ يَقَعُ أَيْضًا دُونَ عِوَضٍ؟
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 187) حيث قال: "أجمع أهل العلم على أنَّ من طلق زوجته في أن يدخل بها تطليقةً، أنها قد بانت منه".
(2)
مذهب الجمهور أنه تقع به البينونة الصغرى.
يُنظر مذهب الحنفية: "الهداية" للمرغيناني (2/ 261) حيث قال: "فإذا فعلا ذلك وقع بالخلع تطليقة بائنة".
ويُنظر مذهب المالكية: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 34) حيث قال: "والخلع طلقةٌ لا رجعة فيها) لأنها بائنة وهذا واضحٌ إن سمى الزوج طلاقًا بل (وإن لم يسم) الزوج (طلاقًا) بأن طلقها بلفظ الخلع ولو لم تدفع له عوضًا".
ويُنظر مذهب الشافعية: "الإقناع" للماوردي (ص 152) حيث قال: "ويملك به الزوج العوض عليها وتسقط رجعتها".
ويُنظر مذهب الحنابلة: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 392) حيث قال: "والخلع طلاق بائنٌ". =
فِيهِ خِلَافٌ
(1)
، وَحُكْمُ الرَّجْعَةِ بَعْدَ هَذَا الطَّلَاقِ حُكْمُ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ - أَعْنِي: فِي اشْتِرَاطِ الصَّدَاقِ وَالْوَلِيِّ وَالرِّضَا - إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ).
لا يشترط انقضاء العدة بالنسبة للمختلعة؛ لأنَّ المقصود من العدة هي براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب، وحتى لا يختلط ماء الرجل بماء غيره، والرسول صلى الله عليه وسلم حذَّر أن يسقي الرجل ماؤه زرع غيره، فهذه امرأةٌ تعتد حتى يطمئن هل هناك حملٌ أم لا.
قوله: (وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: الْمُخْتَلِعَةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا غَيْرُهُ)
(2)
.
هذا قول ضعيفٌ وسبق أن رددنا عليه وبينَّا أنه فعلٌ شاذٌّ ولا أثر له.
= وذهب أبو ثور إلى أنَّ الخلع لا تقع به البينونة الصغرى، وإنما تكون المختلعة رجعيةً، ينظر:"المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 561) حيث قال: "وذهب أبو ثور إلى أنها طلقة رجعيةٌ".
(1)
مذهب الحنفية والمالكية أنه يقع طلاقًا بائنًا. يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 117) حيث قال: "وإذا بطل العوض في الخلع مثل أن تخالع المرأة المسلمة على خمرٍ أو خنزيرٍ فلا شيءَ للزوج، والفرقة بائنةٌ، وإن بطل العوض في الطَّلاق كان رجعيًّا".
وينظر: "الشرح الكبير" للدردير (2/ 351) حيث قال: " (وبانت) الزوجة منه حيث وقع بعوضٍ ثم العوض للزوج أم لا بل (ولو بلا عوضٍ) إن (نص عليه) أي على لفظ الخلع، فالمصنف سقط منه أداة الشرط (أو على الرجعة) عطف على قوله بلا عوضٍ أي: بانت منه ولو وقع بلا عوضٍ أو بعوضٍ ونص على الرجع".
ومذهب الشافعية أنه إن وقع بلا عوض كان رجعيًّا. يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 105) حيث قال: "وإذا خالع أو طلق بعوضٍ فلا رجعة فإن شرطها فرجعي".
ومذهب الحنابلة أنه بغير عوضٍ لغوٌ لا خلع ولا طلاق. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 255) حيث قال: "ولا يصح إلا بعوضٍ فإن خالعها بغير عوضٍ لم يقع خلعٌ ولا طلاقٌ".
(2)
نسبه ابن عبد البر في "الاستذكار"(6/ 83) لطائفةٍ من المتأخرين دون أن يسميهم، فقال:"وقالت طائفة من المتأخرين لا يتزوجها هو ولا غيرها في العدة فشذوا عن الجماعة والجمهور".
قوله: (وَهَؤُلَاءِ كَأَنَّهُمْ رَأَوْا مَنْعَ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ عِبَادَةً).
وهذا من باب التضييق، فإذا كانت هناك نفرةٌ وزالت ثم ترجع وتفكر، فيكون ذلك كالحال بالنسبة للرجل إذا طلَّق، فكم من أناس طلقوا وندموا؟!
قوله: (وَأَمَّا الْبَائِنَةُ بِالثَّلَاثِ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ كلَّهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ).
هذا أيضًا أمرٌ مجمعٌ عليه
(1)
، وهو نصٌّ في كتاب الله عز وجل:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] أي: الثالثة .. إذًا هو أشد من غيره.
فالرجل الذي يطلق امرأته ثلاثًا رجوعه إلي الأجنبيِّ أقرب إليه منها؛ لأنَّ الأجنبي يتقدم ويتزوجها، أما هذا فلا يجوز أن يتزوجها إلا بعد زوجٍ، ولهذا نجد أنَّ شريعة الله وضعت لنا أمورًا لو التزمناها لما انطلق رجلٌ خلف امرأةٍ كما قال علي رضي الله عنه.
قوله: (إِلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ، لِحَدِيت رَفَاعَةَ بْنِ سَمَؤلٍ:"أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثلَاثًا، فَنَكَحَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَاعْتَرَضَ عَنْهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فَفَارَقَهَا، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا وَقَالَ: "لَا تَحِلُّ لَكَ حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ"
(2)
).
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 238) حيث قال بعد ذكر المسألة: "وأجمع عامة علماء الأمصار على القول بما ذكرناه، إلا ما رويناه عن سعيد بن المسيب".
(2)
أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).
طلق رفاعة امرأته ثلاثًا فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير فبقيت عنده فلم يستطع أن يطأها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبينت عند رفاعة وأنه بتَّ طلاقها، وأنها عند زوجها الثاني عبد الرحمن وأنها معه مثل هدبة النَوب، أي لم يستطع أن يواقعها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلتَه ويذوق عسيلتَكِ".
ومن هنا وضع العلماء شروطًا ثلاثةً لكي ترجع المطلقة طلاقًا ثلاثًا إلى زوجها الأول:
أول هذه الشروط: أن ينكحها زوجًا آخر، أي أن تتزوج بغيره؛ لأنَّ الله تعالى قال:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
ونص العلماء على أنها لو كانت أمةً فطلقها زوجها فوطأها سيدُها فلا يعتبر ذلك تحليلًا
(1)
لها؛ لأن الله تعالى قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وهذا ليس زوجًا وإنما هو سيدها وله أن يطأها.
الشرط الثاني: أن يكون النكاح صحيحًا: وبذلك يخرج نكاح المحلل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلل والمحلل له"
(2)
، أي: الذي يتزوج هذه المرأة ليحلها لغيره، ولعن أيضًا الزوج الذي رضي بذلك إن كان قد رضي أن يتزوجها فلانٌ ليحلها له.
(1)
مذهب الحنفية. ينظر: "مختصر القدوري"(ص 116) حيث قال: "ووطء المولى لا يحللها". ومذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 573) حيث قال: "ولو كانت زوجته أمه فبت طلاقها ثم استبرأها لم تحل له بملك يمينٍ لم تحل بذلك حتى يطأها بعد طلاقه لها بعقد نكاحٍ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"المهذب" للشيرازي (3/ 50) حيث قال: "فإن رآها رجل أجنبيٌّ فظنها زوجته فوطئها أو كانت أمةً فوطئها مولاها لم تحل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (7/ 516) حيث قال: "فلو كانت أمةً فوطئها سيدها لم يحلها".
(2)
أخرجه أبو داود (2076) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1897).
الشرط الثالث: أن يطأها الزوج الآخر: وأن يحصل التقاء الختانين، وفسر العلماء
(1)
التقاء الختانين بتغيب حشفة الذكر، ولا يشترط الإنزال؛ لأن هذا الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية التي من بينها إقامة الحد.
وأضاف المالكية
(2)
والحنابلة
(3)
شرطًا رابعًا بأن يكون النكاح مباحًا، أي لا يكون الزوجان صائمين، وألا يكونا محرمين بحجٍّ أو عمرةٍ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب.
وثالثًا: ألا تكون المرأة حائضًا أو نفساء، وجمهور العلماء
(4)
لا يرون هذا الشرط؛ لأنهم قالوا أن الله تعالى قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .
وهذا قد حصل وقد نكحها وهو صائمٌ أو وهو محرمٌ فهو آثمٌ في
(1)
قال ابن قدامة في "المغني"(7/ 517): "ولا يحصل إلا بالوطء في الفرج وأدناه تغييب الحشفة في الفرج؛ لأنَّ أحكام الوطء تتعلق به ولو أولج الحشفة من غير انتشار لم تحل له؛ لأنّ الحكم يتعلق بذواق العسيلة ولا تحصل من غير انتشار".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/ 215) حيث قال: "إلا إذا كان إيلاجًا مباحًا، فإن كان ممنوعًا فإنها لا تحل به كما إذا وطئها في حال إحرامها".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 116) حيث قال: " (وإن وطئها زوجٌ في حيضٍ، أو نفاسٍ، أو إحرامٍ) وكذا في صوم فرضٍ (أحلها)، هذا اختيار المصنف، والشارَح، وهو احتمال لأبي الخطاب، وكذا قال أصحابنا: لا يحلها، وهو المذهب المنصوص عن الإمام أحمد".
(4)
يعني الشافعية والحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 259) حيث قال: "ولو وطئها في الحيض أو النفاس أو الصوم أو الإحرام منهما أو من أحدهما حلت للأول".
ويُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 155) حيث قال: " (وتحل) له (بوطء كبيرٍ وكذا صغير غير رقيقٍ يتأتى منه) الوطء بخلاف صغير لا يتأتى منه ذلك وبخلاف صغير رقيقٍ؛ لأنَّ نكاحه إنما يصح بالإجبار وهو ممتنعٌ كما مر (وكذا مجنون ومحرمٌ بنسكٍ (وخصيٌّ ولو) كان صائمًا أو (كانت حائضا أو صائمةً أو مظاهرًا منها أو صغيرةً لا تشتهى أو معتدةً من شبهةٍ وقعت في نكاح المحلل) ".
ذلك العمل وهي أيضًا إن رضيت، لكن وقع وطءٌ صحيح فواجب أن يعتبر.
قوله: (وَشَذَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
(1)
فَقَالَ: إِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. وَالنِّكَاحُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَقْدِ).
سعيد بن المسيب الإمام الكبير الجهبذ اجتهد في هذه المسأله فربما لم يبلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
فأخذ بظاهر الآية: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وفسر النكاح على أنه العقد ولا يشترط بعد ذلك الوطء، وهذا قد قالته فرقة من الذين ضلوا عن الطريق السوي وخرجوا عن طريق الهداية والتزموا طريق الغواية، ولكن هؤلاء لا يلتفت إلى أقوالهم ولا يعتد بها، من أولئك الأقوام الذين قالوا لا نأخذ الحكم إلا من كتاب الله عز وجل، أما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرجعون إليها، لذلك لا يرون من مانع أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها"
(2)
.
وهذا لم يرد ضمن الآيات التي ذكرت المحرمات في كتاب الله عز وجل، وهذا نصٌّ لا يلتفتُ إليه وإن صدر من إمام جليلٍ؛ لأنه صدر فيه نصٌّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 238) حيث قال: "وكان سعيد بن المسيب من بين أهل العلم يقول: إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا لا يريد به إحلالًا، فلا بأس بأن يتزوجها الأول، ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قال بقول سعيد هذا إلا الخوارج".
(2)
أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1458).
قوله: (وَكُلُّهُمْ قَالَ: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ يُحِلُّهَا، إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ
(1)
، فَقَالَ: لَا تَحِلُّ إِلَّا بِوَطْءٍ بِإِنْزَالٍ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
(2)
على أَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَيُحِلُّ الْمطَلَّقَةَ وَيُحَصِّنُ الزَّوْجَيْنِ ويُوجِبُ الصَّدَاقَ: هُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ).
ولا يشترط الإنزال في ذلك فليست قضية تحليل المرأة بأكثر من هذه الأحكام.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَابْنُ الْقَاسِمِ
(4)
: لَا يُحِلُّ الْمُطَلَّقَة
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 447) حيث قال: "وانفرد أيضًا الحسن البحري فقال: لا تحل للأول حتى يطأها الثاني وطأ فيه إنزال".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (2/ 10) حيث قال: "والشرط الإيلاج دون الإنزال لأنه كمال ومبالغة فيه والكمال قيد زائدٌ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 30) حيث قال: "لم تحل له) بعد ذلك (بملكٍ ولا نكاح حتى تنكح زوجًا غيره) قال خليل بالعطف على المحرمات والمبتوتة: حتى يولج بالغ قدر الحشفة بلا منعٍ".
ومذهب الشافعية. ينظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (7/ 311) حيث قال: "وإن لف على الحشفة خرقةً كثيفةً ولم ينزل أو قارنها نحو حيض أو صوم أو عدة شبهة عرضت بعد نكاحه نعم يأتي في مبحث العنة أن بكارة غير الغوراء لو لم تزل لرقة الذكر كان وطئًا كاملًا وأن هذا صريحٌ في إجزائه في التحليل".
ومذهب الحنابلة. ينظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 165) حيث قال: " (وإن كان مجبوبًا، وبقي من ذكره قدر الحشفة فأولجه) (أحلها) هذا بلا نزاع، وكذا لو بقي أكثر من قدر الحشفة فأولج قدرها، على الصحيح من المذهب".
(3)
يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 30) حيث قال: " (لم تحل له) بعد ذلك (بملكٍ ولا نكاحٍ حتى تنكح زوجًا غيره) قال خليل بالعطف على المحرمات والمبتوتة: حتى يولج بالغ قدر الحشفة بلا منع".
(4)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (4/ 584) حيث قال: "واجتمع ابن القاسم وأشهب وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ في وطء الصائمة، قال في سؤال ابن القاسم، في نهار رمضان، ولم يذكره عن الباقين في قولهم وروايتهم. قالوا: والحائض والمعتكفة والمحرمة، أو كان هو محرمًا أو مظاهرًا منها أنه لا يحلها ولا يحصنها".
إِلَّا الْوَطْءُ الْمُبَاحُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فِي غَيْرِ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ حَيْضٍ أَوِ اعْتِكَافٍ).
والقصد ألا يحصل وطءٌ في وقت منع الزوج والزوجة من حصول ذلك.
فلا يجوز للمسلم إذا كان صائمًا أن يطأ زوجته، كذلك من كان محرمًا بحجٍّ أو عمرةٍ أن ينكحَ أو أن ينكح أو أن يخطب إن كان محرمًا أي ليس له أن يتزوج هو أو يزوِّج غيره، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة إذا كانت حائضًا فإنه يحرم على زوجها أن يطأها، ومثل الحائض النفساء.
وأضاف المالكية ما يتعلق بالاعتكاف، فإن المعتكلف قد انقطع لعبادة الله تعالى عندهم، فلا ينبغي أيضًا أن يشغل نفسه بأمرٍ قد انصرف عنه
(1)
.
قوله: (وَلَا يُحِلُّ الذِّمِّيَّةَ عِنْدَهُمَا وَطْءُ زَوْجٍ ذِمِّيٍّ لِمُسْلِمٍ
(2)
).
مراد المؤلف لو أنَّ مسلمًا تزوج كتابيةً، والله تعالى يقول:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5]، إذًا الله سبحانه وتعالى أباح للمؤمنين طعام أهل الكتاب وكذلك نسائهم، إذًا يجوز للمسلم أن يتزوج كتابيةً، وإن كان ينبغي له أن يتزوج المسلمة، لكن لو تزوجها هل هذا صحيح؟ الجواب: نعم.
لو تزوج ذميةً ثم طلقها ثلاثًا فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، هل يشترط في الزوج الذي يحلها أن يكون مسلمًا أم يجوز أن يكون ذميًّا؟
(1)
يُنظر: "الرسالة" لابن أبي زيد القيرواني (ص 63) حيث قال: "ومن أفطر فيه متعمدًا فليبتدئ اعتكافه، وكذلك من جامع فيه ليلًا أو نهارًا ناسيًا أو متعمدًا".
(2)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 437) حيث قال: "ولا تحل الذمية بنكاح الذمي لفساده على المشهور".
جمهور العلماء
(1)
على أنه يجوز أن يكون ذميًّا؛ لأن الله تعالى قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ولم يضع الإسلام شرطًا في ذلك بالنسبة للزوج ..
والمالكية قالوا لا بدَّ أن يكون الزوج الذي يحل المرأة لزوجها السابق دون أن يقصد إلى ذلك لا بدَّ أن يكون مسلمًا.
قوله: (وَلَا وَطْءُ مَنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا)
(2)
.
يقصد به المراهق أي الإنسان غير المكلف ..
فهل التكليف شرطٌ في ذلك بمعنى أن يصل سنَّ البلوغ؟
والبلوغ كما هو معلوم له علاماتٌ إما أن يحصل بإنبات شعر العانة، وإما أن يحصل ببلوغ خمسة عشرة عامًا، أو بالإنزال أي خروج المني، هذه علامةٌ من علامات البلوغ بالنسبة للرجل.
ومن علامات المرأة: الحيض.
قوله: (وَخَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الشَّافِعِيُّ
(3)
،
(1)
مذهب الحنفية. ينظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 62) حيث قال: "وشمل ما إذا كان الزوج الثاني مسلمًا أو ذميًّا فتحل الذمية بوطء الذمي لزوجها المسلم".
ومذهب الشافعية. ينظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 156) حيث قال: " (وتحل ذميةٌ لمسلم بوطء مجوسيٍّ ووثنيٍّ) وكتابيٍّ كما فهم بالأولى وصرح به أصله (في نكاحٍ نقرهم عليه عند ترافعهم إلينا) كما يحصنونها بذلك".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 351) حيث قال: " (وإن كانت ذميةً فوطئها زوجها الذمي) في نكاح يقران عليه لو أسلما أو ترافعا إلينا كما أشار إليه الشيخ تقي الدين (أحلها لمطلقها المسلم نصًّا) لأنه زوجٌ".
(2)
ينظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 438) حيث قال: "ولا يكفي وطء الصبي".
(3)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 156) حيث قال: " (وكذا مجنون ومحرمٌ) بنسك (وخصي ولو) كان صائمًا أو (كانت حائضًا أو صائمةً أو مظاهرًا منها أو صغيرةً لا تشتهى أو معتدة من شبهةٍ وقعت في نكاح المحلل) ".
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ
(2)
، فَقَالُوا: يُحِلُّ الْوَطْءُ وإِنْ وَقَعَ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَقْتٍ غَيْرِ مُبَاحٍ وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْمُرَاهِقِ عِنْدَهُمْ يُحِلُّ، وَيُحِلُّ وَطْءُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّةَ لِلْمُسْلِمِ
(3)
).
هؤلاء الأئمة خالفوا مالكًا في الكل فقالوا: حتى لو كان العقد فاسدًا واختل شرطٌ من شروطه فإنه بذلك يكون الثاني محلًّا للأول، أو كان أيضًا غير مباحٍ كما لو وطأها وهو صائم أو وهي صائمةٌ، أو كانا محرمين أو أحدهما.
قالوا: هذا لا أثر له، لأن الآية ذكرت:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وهنا قد حصل وكونه وطأها في حالي صيام أو إحرامٍ، فإنه بلا شك يأثم بهذا الفعل، ولكنَّ النكاح يُعتبر صحيحًا هكذا يقولون.
قوله: (وَكذَلِكَ الْمَجْنُونُ عِنْدَهُمْ وَالْخَصِيُّ الَّذِي يَبْقَى لَهُ مَا يُغَيِّبُهُ فِي فَرْجٍ
(4)
).
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 116) حيث قال: "والصبي المراهق في التحليل كالبالغ، ووطء المولى لا يحللها وإذا تزوجها بشرط التحليل فالنكاح مكروهٌ فإن وطئها حلت للأول".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 447) حيث قال: "وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن حي: يحلها التقاء الختانين ووطء كل زوج بعد وطئه وطأ وإن لم يحتلم إذا كان مراهقًا
…
ومذهب الكوفيين والثوري والأوزاعي في هذا كله نحو مذهب الشافعي) ".
(3)
تقدَّم.
(4)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 258) حيث قال: "غلامٌ لم يبلغ ومثله يجامع جامع امرأته وجب عليها الغسل وأحلها للزوج الأول
…
والمجنون فيه كالعاقل والخصي الذي يقدر على الجماع يحلها للأول".
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 156) حيث قال؛" (وكذا مجنون ومحرمٌ) بنسكٍ (وخصي ولو) كان صائمًا أو (كانت حائضًا أو صائمةً أو مظاهرًا منها أو صغيرةً لا تشتهى أو معتدةً من شبهةٍ وقعت في نكاح المحلل) ".
المجنون إذا وطأ وطئًا صحيحًا بأن حصل تغييب الحشفةِ فإنَّ ذلك يعتبر تحليلًا أيضًا.
قوله: (وَالْخِلَافُ فِي هَذَا كلِّهِ آيِلٌ إِلَى: هَلْ يَتَنَاوَلُ اسْمُ النِّكَاحِ أَصْنَافَ الْوَطْءِ النَّاقِصِ أَمْ لَا يَتَنَاوَلُهُ؟).
هل المراهق إذا تزوج يسمى زواجه نكاحًا والذمي والخصي؟
الجواب: نعم.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ: - أَعْنِي: إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطِ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ).
أي إنسانٍ يأتي ليتزوج امرأة لا يريد النكاح حقًّا، ولكنه يريد أن يكون سببًا في تحليل هذه المرأة وعودتها إلى زوجها السابق، وهذا الذي يحلها يحلها بدافع رغبةٍ من الزوج الأول، وربما تدفعه العاطفة، كما في قصة عبد الله بن عمر عندما جاء إليه رجلٌ فبين أنَّ أخاه قد طلق امرأته، وأنه يريد أن يتزوجها ليحلها لأخيه، فأنكر عليه عبد الله ابن عمر وبين أنَّ النكاح ما كان عن رغبةٍ، لا أن يكون بقصد التحليل، وهذه المسألة فيها تفصيلٌ، ولا شك أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المحلِّل والمحلَّل له.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: النِّكَاحُ فَاسِدٌ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَه، وَالشَّرْطُ فَاسِدٌ لَا تَحِلُّ بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ إِرَادَةُ الْمَرْأَةِ التَّحْلِيلَ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ إِرَادَةُ الرَّجُلِ
(2)
).
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 438) حيث قال: "ومن نكح امرأةً ليحلها لزوجها، فلا يحل ذلك ولا يقر على ذلك النكاح حتى يستقبل نكاحًا جديدًا".
(2)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 438) حيث قال: "نكاح الدلسة لا يجوز ولا يفيد، فلا ينتفع بلطائف الحيل في تحصيل الإحلال عنده، بل لا يقع حلالًا ولا يفيد إحلالًا، وذلك مقتضى الحديث الصحيح
…
: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحل والمحلل له".".
وأحمد
(1)
.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ
(4)
وَجَمَاعَة
(5)
وَقَالُوا: هُوَ مُحَلِّلٌ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ - أَيْ: لَيْسَ يُحَلِّلُهَا -، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَرُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ
(6)
).
من صور نكاح المحلل أن يقول الولي لمن يريد أن يزوجه: أنكحتك إياها إلى أن تطأها، أو يقول: أزوجكها بشرطٍ على أن تحلها للأول ثم تطلقها.
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 161) حيث قال: "الصحيح من المذهب: أنَّ نكاح المحلل باطلٌ مع شرطه. نص عليه".
(2)
سيأتي تفصيل صور نكاح المحلل عند الشافعية.
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 258) حيث قال: "يكره التزوج بشرط أن يحلها له يريد به بشرط التحليل بالقول بأن قال تزوجتك على أن أحلك له، أو قالت المرأة ذلك، وأما لو نويا ذلك في قلبهما ولم يشترطاه بالقول فلا عبرة به ويكون الرجل مأجورًا بذلك لقصده الإصلاح".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 449) حيث قال: "وقال داود بن علي: لا يبعد أن يكون مريد نكاح المطلقة ليحلها لزوجها مأجورًا". وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم في "المحلى" (10/ 183):"ثم نظرنا هل يدخل في ذلك من تزوج وفي نيته أن يحلها لمطلقها ثلاثًا أم لا يدخل: فوجدنا كل من يتزوج مطلقة ثلاثًا فإنه بوطئه لها محل والمطلق محلل له نوى ذلك أو لم ينوه".
(5)
مثل القاسم بن محمد وربيعة ويحيى بن سعيد وأبي الزناد وعطاء ينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 449) حيث قال: "قال سالم والقاسم لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان، قال وهو مأجورٌ بذلك، وكذلك قال ربيعة ويحيى بن سعيد هو مأجورٌ، وقال أبو الزناد: إن لم يعلم واحدٌ منهما فلا بأس بالنكاح وترجع إلى زوجها الأول، وقال عطاء: لا بأس أن يقيم المحلل على نكاحه".
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 449) حيث قال: "وقد روي عن الثوري في نكاح المحلل ونكاح الخيار أنه قال النكاح جائزٌ والشرط باطلٌ وهو قول ابن أبي ليلى".
فهناك عدة صورٍ في هذه المسألة التي نازع فيها الشافعية
(1)
صورة واحدةً، وليس كما ذكر المؤلف.
والواقع أن الحنفية والشافعية عندما أجازوا ذلك ليس على إطلاقه.
فهناك فرقٌ بين أن يأتي إنسانٌ ويقول: أزوجك موليتي على أن تحلها لزوجها الأول، ويكون ذلك شرطًا في العقد، فهنا الصورة مختلفةٌ، فهذا لا يجيزه أحدٌ من الأئمة
(2)
، لكن الإمامان أبو حنيفة
(3)
والشافعي
(4)
يجيزون ذلك إذا وضع الشرط قبل العقد، وعند الحنفية لو تزوجها ليحلها، فيقولون: يصح العقد ويبطل الشرط.
قوله: (وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
(5)
بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 332) حيث قال: "وصورتها في امرأة طلقها زوجها ثلاثًا حرمت بهن عليه إلا بعد زوج فنكحت بعده زوجًا ليحلها للأول فيرجع إلى نكاحها فهذا على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يشترطا في عقد النكاح أن يتزوجها على أنه إذا أحلها بإصابة للزوج الأول فلا نكاح بينهما فهذا نكاح باطلٌ.
والقسم الثاني: أن يتزوجها ويشترط في العقد أنه إذا أحلها للزوج الأول طلقها ففي النكاح قولان؛ أحدهما: - وهو قوله في القديم، والإملاء أن النكاح صحيحٌ، والقول الثاني: - نص عليه في الجديد من "الأم" وهو الأصح أن النكاح باطلٌ
…
والقسم الثالث: أنه يشترط ذلك عليه قبل العقد، ويتزوجها مطلقًا من غير شرطٍ لكنه ينوي، ويعتقده، فالنكاح صحيحٌ".
(2)
بمعنى أن المالكية والحنابلة لم يجيزوه مطلقًا، وأما الشافعية فأجازوا ما إذا تزوج بقصد التحليل لا إذا اشترط ذلك في العقد، ولكن الحنفية صرحوا باشتراط التحليل وأجازوه مع الكراهة كما تقدم، وتقدَّم نقل مذاهبهم.
(3)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (3/ 151) حيث قال: "فإن تزوجها بشرط التحليل كره وحلت للأول".
(4)
تقدَّم.
(5)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 75) حيث قال: " (ولا يجوز أن يتزوج رجل امرأة ليحلها) أي يقصد أن يحلها (لمن طلقها ثلاثًا) إن كان حرًا أو =
مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
(1)
، وَابْنِ مَسْعُودٍ
(2)
، وَأَبِي هُرَيْرَةَ
(3)
، وَعقبَةَ بْنِ عَامِرٍ
(4)
أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ" فَلَعْنُهُ إِيَّاهُ كَلَعْنِهِ آكلَ الرِّبَا وَشَارِبَ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
(5)
، وَاسْمُ النِّكَاحِ الشَّرْعِيِّ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى النِّكَاحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ).
لا شك أنَّ اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا من أشد الأمور، ومن أشدها إيلامًا لنفس المؤمن، فهل يرضى مسلمٌ أن يدخل تحت لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون ممن يلعنهم الله سبحانه وتعالى، لا شك أن هذا أمرٌ لا ينبغي أن يفعله المؤمن، إذًا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلِّل والمحلَّل له، وهو الذي يعرف في السنة بالتيس المستعار.
والمؤلف هنا دخل في مسألةٍ أصوليةٍ هل النهى يقتضي فساد المنهي عنه؟
بعض العلماء يقولون: النهي يقتضي فساد المنهى عنه فيعتبر ذلك مسلمًا
(6)
.
= ثنتين إن كان عبدًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "هو المحلل ثم قال: لعن الله المحلل والمحلل له"".
(1)
أخرجه أبو داود (2076).
(2)
أخرجه الترمذي (1119) بلفظ: "لعن المحل والمحلل له".
(3)
أخرجه أحمد (8287) بلفظ؛ "لعن رسول الله المحل، والمحلل له".
(4)
والحديث صحيحٌ وتقدم تخريجه.
(5)
وهي مسألة أصوليةٌ خلافيةٌ، وقول جماهير الأصوليين أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، خلافًا لأبي بكر القفال وأبي الحسن الكرخي. فإذا نهي عن شيءٍ اقتضى فساد ذلك الشيء. يُنظر: الواضح في أصول الفقه لابن عقيل (3/ 248).
(6)
تقدَّم ذكر الخلاف في القاعدة.
الحكم إذا صدر بالاستفهام في أسلوب الفقهاء.
ومن المعروف بلاغةً وفي أسلوب الفقهاء، أنَّ الحكم إذا صدِّر بالاستفهام فإن ذلك يدل على الخلاف فيه.
فعندما نقول هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟
(1)
.
معنى هذا أنَّ هذه فيها خلافٌ .. هل النهي يقتضى فساد المنهي عنه؟
معنى هذا أنَّ هذه مسألةٌ لم يكن متفقًا عليها بين العلماء.
قوله: (وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ: فَتَعَلَّقَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَهَذَا نَاكِحٌ، وَقَالُوا: وَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِ قَصْدِ التَّحْلِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ).
الآن هو جعل ذلك حجةً للمالكية والحنابلة بالنسبة لنكاح المحلِّل، وأنه لا يجوز، لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وبعضهم استدل بمفهومه للحديث فقال: الرسول صلى الله عليه وسلم سماه محلِّلا، ولو لم يكن يحلها لغيره لما سمى محلِّلًا، والجواب عن ذلك أنه سميَ محلِّلًا لأنه قصد التحليل، لا أنه في حقيقة الأمر يكون حلالًا، ولو كان محلِّلًا حقًّا لما لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر لعنة الله سبحانه وتعالى له؛ لأنَّ الذي يفعل الحلال لا يلعن، وإنما الذي يلعن هو الذي يفعل المنكر.
قوله: (كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ صِحَّةَ مِلْكِ الْبُقْعَةِ أَوِ الْإِذْنَ مِنْ مَالِكِهَا فِي ذَلِكَ).
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 116) حيث قال: "هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟ خلافٌ: والترجيح مختلفٌ في الفروع".
ما حكم من اغتصب دارًا وصلَّى فيها؟
بعض العلماء يقولون: الصلاة صحيحةٌ، وأن الجهة منفكةٌ، لأن الصلاة واجبةٌ على المسلم، فهو عندما أداها بهذا المكان أدَّى ما وجب عليه، وفي نفس الوقت وعندما صلى في أرضٍ مغصوبةٍ أو ثوبٍ مغصوب أو ثوب حريرٍ، فإنما كان معتديًا فيأثم على ذلك ويجازى عليه، هذا هو رأي الأئمة الثلاثة أبو حنيفة
(1)
ومالك
(2)
والشافعي
(3)
، وأما الحنابلة
(4)
فيرون أنه لا يجوز الصلاة في الدار المغصوبة ولا في الثوب المغصوب.
ولا شك أنَّ الظاهر هو قول جمهور العلماء في هذه المسألة وأشباهها، وهذا هو الذي يشير إليه المؤلف، فهو يريد أن يفصل بين الجهتين، هناك نهيٌ فهل النهي يقتضي فساد المنهيِّ عنه؟
المغتصب منهيٌّ أن يغتصب الأرض، ومنهيٌّ أن يغتصب الثوب، لكنه سرق، لكننا نقول: هذه صلاةٌ أداها، وهذه سرقةٌ فحلها ولعاقب عليها.
(1)
ينظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 149) حيث قال: "والقبح المجاور لا يعدم المشروعية أصلًا كالصلاة في الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء".
(2)
ينظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 224) حيث قال: "لأنَّ النهي عن الصلاة في الأوقات المذكورة لا لذات الوقت ولا لمعنى في ذات العبادة يمنع من انعقاده بل لمعنًى خارجٌ عن الذات فلا يمنع الانعقاد كالصلاة في الأرض المغصوبة".
(3)
ينظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (2/ 485) حيث قال: "الآن النهي لمعنى خارج إلخ) أي فلم يمنع الصحة كالصلاة في الدار المغصوبة".
(4)
ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 52) حيث قال: "تصح الطهارة أيضًا (في مكان مغصوبٍ) بخلاف الصلاة؛ لأن الإناء والمكان ليس شرطًا للطهارة فيعود النهي إلى خارجٍ، أشبه ما لو صلى وفي يده خاتم ذهبٍ، وأيضًا أفعال الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود في الدار المغصوبة فتحرم".
قوله: (قَالُوا: وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ النَّهْيُ عَلَى فَسَادِ عَقْدِ النِّكَاحِ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتَبِرْ مَالِكٌ قَصْدَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوَافِقْهَا عَلَى قَصْدِهَا لَمْ يَكُنْ لِقَصْدِهَا مَعْنًى، مَعَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِيَدِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي: هَلْ يَهْدِمُ الزَّوْجُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
؛ يَهْدِم، وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
: لَا يَهْدِمُ - أَعْنِي: إِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثةِ غَيْرَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ ثُمَّ رَاجَعَهَا - هَلْ يُعْتَدُّ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا شيءٌ يَخُصُّ الثَّالِثَةَ بِالشَّرْعِ قَالَ: لَا يُهْدَمُ مَا دُونَ الثَّالِثَةِ عِنْدَه، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ إِذَا هَدَمَ الثَّالِثَةَ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَهْدِمَ مَا دُونَهَا قَالَ: يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
هل إذا عادت إلى الأول بعد النكاح الصحيح هل تعود إليه على طلاق ثلاثٍ أو على واحدةٍ؟
يقول العلماء: إنها تعود على طلاق ثلاثٍ، بمعنى: أن الزوج الأول يملك ثلاث طلقات، والطلقات الأولى لا تحسب عليه، فإذا طلقها الزوج
(1)
ينظر: "مختصر القدوري"(ص: 160)؛ حيث قال: "وإذا طلق الرجل الحرة تطليقةً أو تطليقتين وانقضت عدتها وتزوجت بزوجٍ آخر ثم عادت إلى الأول عادت بثلاث تطليقاتٍ، ويهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث من الطلاق كما يهدم الثلاث".
(2)
ينظر: "التلقين في الفقة المالكي"(1/ 129)؛ حيث قال: "ولا يهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث".
(3)
ينظر: "الأم" للشافعي (7/ 171)؛ حيث قال: "وإذا طلق الرجل امرأته واحدةً أو اثنتين فانقضت عدتها ونكحت زوجًا غيره ثم أصابها ثم طلقها أو مات عنها فانقضت عدتها فنكحت الزوج الأول، فهي عنده على ما بقي من الطلاق، يهدم الزوج الثاني الثلاث ولا يهدم الواحدة ولا الثنتين".
الأول بعد أن عادت إليه فيملك أن يراجع، طلق ثانية يملك أن يراجع، طلق ثالثةً لا يملك، إذًا تعود إلى الزوج الأول على طلاقٍ ثلاثٍ أي: كأنه تزوجها من الآن؛ لأنَّ نكاح الزوج الثاني هدم الطلاق الأول، فإن طلَّقها الزوج طلقتين ثم تزوجت بزوجٍ آخر وجامعها ثم طلقها ثم عادت إلى الزوج الأول فهل تعود على طلاق ثلاثٍ أو على ما بقي من الطلاق؟ فيه خلاف:
1 -
يرى بعض العلماء: أن النكاح الثاني يهدم ما سبقه من الطلاق، وعلى هذا فتعود للزوج الأول على طلاقٍ ثلاثٍ.
2 -
ويرى آخرون: بأنه لا يهدم، وعلى هذا فتعود إلى الزوج الأول على ما بقي من طلاقها، عادت إلى الزوج الأول ثم طلقها فلا تحل له مع أن الطلقة التي وقعت واحدة لكنها مبنية على ما سبق.
إذًا إذا طلقت ثلاثًا ثم تزوجت بآخر ثم عادت إلى الأول تعود إليه على طلاق ثلاثٍ، إن طُلقت أقلَّ من ثلاثٍ ثم تزوجت ثم عادت للأول فتعود على ما بقي من الطلاق، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد
(1)
.
فإذا قال قائلٌ: كيف يهدم الزوج الثاني ثلاث طلقاتٍ ولا يهدم الطلقتين مثلًا؟ قلنا: نعم، لأنَّ نكاح الزوج الثاني فيما إذا طلقت ثلاثًا صار له تأثيرٌ في الحل للزوج الأول، أما نكاحها للزوج الثاني بعد الطلقتين أو بعد الواحدة فليس له أثرٌ، لا يفيد شيئًا؛ لأنَّ الزوج الأول غير محتاج إليه الآن، فلما لم يكن مؤثرًا شيئًا بقي الطلاق السابق على ما كان عليه، ولعموم قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
…
} ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
(1)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله"(ص: 356)؛ حيث قال: "يهدم الزوج الثلاث ولا يهدم الواحدة ولا الثنتين طلاق جديد ونكاحٌ جديدٌ".
[الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ]
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْعِدَّةِ]
[الْفَصْلُ الأَوَّلُ فِي عِدَّةِ الزَّوْجَاتِ]
[النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الْعِدَّةِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا بَابَان:
الْأَوَّلُ: فِي الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي: فِي الْمُتْعَةِ. الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْعِدَّةِ. - وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي فَصْلَيْنِ: الْفَصْلُ الْأَوَلُ: فِي عِدَةِ الزَّوْجَاتِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي عِدَّةِ مِلْكِ الْيَمِينِ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي عِدَّةِ الزَّوْجَاتِ، وَالنَّظَرُ فِي عِدَّةِ الزَّوْجَاتِ يَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي مَعْرِفَةِ الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ).
هذا من جملة الترتيب المنطقي الذي اعتاده المؤلف في كتابه هذا.
قوله: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَكُلُّ زَوْجَةٍ فَهِيَ: إِمَّا حُرَّةٌ، وَإِمَّا أَمَةٌ،
وَكلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ: مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، فَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا: فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِإِجْمَاعٍ
(1)
؛ لقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]
(2)
، وَأَمَّا الْمَدْخُولُ بِهَا: فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ: مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَغَيْرُ ذَوَاتِ الْحَيْضِ: إِمَّا صِغَارٌ وَإِمَّا يَائِسَاتٌ، وَذَوَاتُ الْحَيْضِ: إِمَّا حَوَامِل، وَإِمَّا جَارِيَاتٌ عَلَى عَادَاتِهِنَّ فِي الْحَيْضِ، وَإِمَّا مُرْتَفِعَاتُ الْحَيْضِ، وَإِمَّا مُسْتَحَاضَات، وَالْمُرْتَفِعَاتُ الْحَيْضِ فِي سِنِّ الْحَيْضِ: إِمَّا مُرْتَابَاتٌ بِالْحَمْلِ - أَيْ: يُحَسُّ فِي الْبَطْنِ - وَإِمَّا غَيْرُ مُرْتَابَاتٍ، وَغَيْرُ مُرْتَابَاتٍ: إِمَّا مَعْرُوفَاتُ سَبَبِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ مَرَضٍ، وَإِمَّا غَيْرُ مَعْرُوفَاتٍ).
هذه مقدِّمةٌ منطقيَّة تسلسلية بين يدي الباب الأول.
قوله: (فَأَمَّا ذَوَاتُ الْحَيْضِ الْأَحْرَارُ الْجَارِيَاتُ فِي حَيْضِهِنَّ عَلَى الْمُعْتَادِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَالْحَوَامِلُ مِنْهُنَّ عِدَّتُهُنَّ وَضْعُ حَمْلِهِنَّ، وَالْيَائِسَاتُ مِنْهُنَّ عِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا
(3)
؛
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 35)؛ حيث قال: "وأجمع أهل العلم على أنّ من طلق زوجته قبل أن يدخل بها أنها قد بانت منه ولا تحل له إلا بنكاح جديدٍ ولا عدة عليها".
(2)
أخرج الطبري في "تفسيره"(19/ 128): عن ابن عباس رضي الله عنه، قوله:" {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فهذا في الرجل يتزوج المرأة، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فإذا طلقها واحدةً بانت منه، ولا عدة عليها تتزوج من شاءت".
(3)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 76)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن أجل الحرة المسلمة المطلقة التي ليست حاملًا ولا مستريبةً ولا مستحاضةً ولا ملاعنةً ولا مختلعةً أيام الحيض وأيام الأطهار وكان بين حيضتيها عددٌ لا يبلغ أن يكون شهرًا، فإنَّ عدتها ثلاثة قروء".
لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الْآيَةَ، وَفي قَوْله تَعَالَى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] الْآيَةَ).
لا خلاف بين أهل العلم في أنَّ الحرة المسلمة المطلقة غير الحامل أنها تكون العدة لها ثلاثة قروءٍ، على خلافٍ بينهم في معنى القروء يحكيه المؤلِّف.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذه الْآيَةِ فِي الْأقْرَاءِ، مَا هِيَ؟)
اختلف أهل التفسير والفقهاء في القُرْء الذي عناه الله بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
فقال بعضهم: هو الحيض. وقال آخرون: بل القرء الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به: هو الطهر.
قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الْأَطْهَارُ - أَعْنِي: الْأَزْمِنَةَ الَّتِي بَيْنَ الزَّمَنَيْنِ -، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الدَّمُ نَفْسُه، وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ: أَمَّا مِنْ فُقَهَاءِ الْأمْصَارِ فَمَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَجُمْهُورُ أَهْلِ
(1)
يُنظر: "المدونة"(2/ 234)؛ حيث فيها: "الأقراء هي الأطهار وليست بالحيض قال الله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ولم يقل ثلاث حيض. فإذا طلقها وهي طاهر فقد طلقها في قرءٍ وتعتد فيه، فإذا حاضت حيضةً فقد تمَّ قرؤها".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 163)؛ حيث قال: "قال الشافعي رحمه الله: قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قال والأقراء عنده الأطهار والله أعلم بدلالتين أولاهما: الكتاب الذي دلت عليه السنة والأخرى اللسان (قال) قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وقال عليه الصلاة والسلام في غير حديث لما طلق ابن عمر امرأته وهي حائض: "يرتجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو في قبل عدتهن"، الشافعي شك، فأخبر صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى أن العدة الأطهار".
الْمَدِينَةِ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ
(1)
، وَأَمَّا مِنَ الصحَابَةِ فَابْنُ عُمَرَ
(2)
، وَزيدُ بْنُ ثَابِتٍ
(3)
، وَعَائِشَةُ
(4)
).
واستدلوا بقول الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وقال عليه الصلاة والسلام لمَّا طلق ابن عمر امرأته وهي حائض:"يرتجعها، فإذا طهرت فليطلِّق أو ليمسكْ"
(5)
، قالوا: وهذا يدل على أنَّ العدةَ هي الأطهار.
قوله: (وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْحَيْضُ: أَمَّا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَأَبُو حَنِيفَةَ
(6)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ
(7)
، وَأَمَّا مِنَ الصَّحَابَةِ فَعَلِيٌّ
(8)
، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
(9)
،
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 149)؛ حيث قال: "وهذا كله قول مالكٍ والشافعيِّ وأصحابهما وأبي ثور وداود".
(2)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/ 98): عن نافع قال: قال ابن عمر: "إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها".
(3)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/ 96): عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، أن زيد بن ثابتٍ قال:"إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج" قال معمر: وكان الزهري، يفتي بقول زيد.
(4)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/ 95): عن عائشة، قالت:"الأقراء: الأطهار".
(5)
أخرجه البخاري (4908)، ومسلم (1471).
(6)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (5/ 226)، حيث قال:"وإذا طلق الرجل زوجته بعد دخوله بها وهي حرة: فعدتها ثلاثة قروء، كما قال الله تعالى، والأقراء: الحيض".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 149)؛ حيث قال: "وقال أبو حنيفة والثوري وأصحابه والأوزاعي والحسن بن حي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد: الأقراء الحيض".
(8)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/ 93): عن سعيد بن المسيب: أن عليًّا، كان يقول:"هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة".
(9)
أخرجه الطبري (4/ 90): عن الحسن، قال: قال عمر: "هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة".
وَابْنُ مَسْعُودٍ
(1)
، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ
(2)
، وَحَكَى الْأَثْرَم عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الأكابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُون: الأقْرَاءُ هِيَ الْحَيْضُ
(3)
، وَحَكَى أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَوْلُ أَحَدَ عَشَرَ أَوِ اثْنَي عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(4)
، وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ: فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّهَا الْأَطْهَار، عَلَى قَوْلِ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ تَوَقَّفْتُ الْآنَ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ: هُوَ أَنَّهَا الْحَيْضُ"
(5)
، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ هُوَ أَن مَنْ رَأَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ
(1)
أخرجه الطبري (4/ 89): عن إبراهيم النخعي، أنه رفع إلى عمر، فقال لعبد اللّه بن مسعود: لتقولنَّ فيها فقال: أنت أحق أن تقول. قال: لتقولنَّ. قال: أقول: "إن زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، قال: ذاك رأيي وافقت ما في نفسي. فقضى بذلك عمر".
(2)
أخرجه الطبري (4/ 90): عن الحسن: "أن رجلًا طلق امرأته، ووكل بذلك رجلًا من أهله، أو إنسانًا من أهله، فغفل ذلك الذي وكله بذلك حتى دخلت امرأته في الحيضة الثالثة، وقربت ماءها لتغتسل، فانطلق الذي وكل بذلك إلى الزوج، فأقبل الزوج وهي تريد الغسل، فقال: يا فلانة قالت: ما تشاء؟ قال: إني قد راجعتك. قالت: والله ما لك ذلك قال: بلى والله قال فارتفعا إلى أبي موسى الأشعري، فأخذ يمينها بالله الذي لا إله إلا هو إن كنت لقد اغتسلت حين ناداك؟ قالت: لا والله ما كنت فعلت، ولقد قربت مائي لأغتسل فردها على زوجها، وقال: أنت أحق ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة".
(3)
"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(5/ 439)؛ حيث فيه: "قال ابن هانئ: وسئل عن الأقراء؛ فقال: أما عائشة رضي الله عنها فقالت: الأقراء: الحيض، والأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: الطهر".
(4)
يُنظر: "موطأ مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني"(ص: 206)؛ حيث قال: "أخبرنا عيسى بن أبي عيسى الخياط المديني، عن الشعبي، عن ثلاثة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم قالوا: "الرجل أحق بامرأته حتى تغتسل من حيضتها الثالثة"".
(5)
"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(5/ 439)؛ حيث فيه: "قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع: إلى أي شيءٍ تذهبُ في الأقراء؛ هي الأطهارُ؛ فقال: كنتُ أذهب إليه، إلا أني أتهيبُ الآن من أجل أن فيه عن عليٍّ وعبد الله بن مسعود".
رَأَى أَنَّهَا من دَخَلَتِ الرَّجْعِيَّةُ عِنْدَهُ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثةِ لَمْ يكُنْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ وَحَلَّتْ لِلأزْوَاجِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا الْحَيْضُ لَمْ تَحِلَّ عِنْدَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ).
هذا هو أثر الخلاف بين الفريقين، وعبَّر عنه بالفرق بين المذهبين.
قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: اشْتِرَاكُ اسْمِ الْقُرْءِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي كلَامِ الْعَرَبِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ: عَلَى الدَّمِ وَعَلَى الْأطْهَارِ، وَقَدْ رَامَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ اسمَ الْقُرْءِ فِي الْآيَةِ ظَاهِر فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَرَاهُ: فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا الْأَطْهَارُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْجَمْعَ خَاصٌّ بِالْقُرْءِ الَّذِي هُوَ الطُّهْر، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْءَ الَّذِي هُوَ الْحَيْضُ يُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ، لَا عَلَى قُرُوءٍ، وَحَكَوْا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْحَيْضَة مُؤَنَّثَةٌ، وَالطُّهْرَ مُذَكَّرٌ، فَلَوْ كَانَ الْقُرْءُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ لَمَا ثَبَتَ فِي جَمْعِهِ الْهَاءُ؛ لِأنَّ الْهَاءَ لَا تَثْبُتُ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الاشْتِقَاقَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأنَّ الْقُرْءَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَرَّأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ - أَيْ: جَمَّعْتُهُ -، فَزَمَانُ اجْتِمَاعِ الدَّمِ هُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ، فَهَذَا هُوَ أَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ).
القرء في كلام العرب: جمعه قروء، وقد تجمعه العرب أقراء، يقال في أفعل منه: أقرأت المرأة: إذا صارت ذات حيضٍ، وطهرٍ، فهي تقرئ إقراءً.
وأصل القرءِ في كلام العرب: الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقتٍ معلومٍ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقتٍ معلومٍ؛ ولذلك قالت العرب: أقرأت حاجة فلانٍ عندي، بمعنى دنا قضاؤها، وجاء وقت
قضائها" وأقرأ النجم: إذا جاء وقت أفوله، وأقرأ: إذا جاء وقت طلوعه، كما قال الشاعر
(1)
:
شَنِئْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلٍ
…
إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ
بمعنى: هبت لوقتها وحين هبوبها.
وسمى بعض العرب وقت مجيء الطهر قرءًا، إذ كان وقت مجيئه وقتًا لإدبار الدم دم الحيض، وإقبال الطهر المعتاد مجيئه لوقتٍ معلومٍ، فقال في ذلك الأعشى ميمون بن قيسٍ:
وَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ
…
تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرَّثَةٍ مَالًا وَفِي الذِّكْرِ رِفْعَةً
…
لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
(2)
فجعل القرء: وقت الطهر.
قوله: (وَأَمَّا مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ: فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ظَاهِر فِي تَمَامِ كلِّ قُرْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْقُرْءِ عَلَى بَعْضِهِ إِلَّا تَجَوُّزًا، وَإِذَا وُصِفَتِ الْأَقْرَاءُ بِأَنَّهَا هِيَ الْأَطْهَارُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ عِنْدَهُمْ بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ قُرْءٍ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ تَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ الَّذِي تُطَلَّقُ فِيهِ وَإِنْ مَضَى أَكْثَرُه، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الثَّلَاثَةِ إِلَّا تَجَوُّزًا، وَاسْمُ الثَّلَاثَةِ ظَاهِرٌ فِي كمَالِ كلِّ قُرْءٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَّفِقُ إِلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْأَقْرَاءُ هِيَ الْحَيْضَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِد عَلَى أَنَّهَا إِنْ طُلِّقَتْ فِي حَيْضَةٍ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِهَا).
وسمى بعض العرب وقت مجيء الحيض قرءًا، إذا كان دمًا يعتاد
(1)
البيت من الوافر، وهو لمالك بن الحارث الهذلي في شرح أشعار الهذليين (1/ 239).
(2)
البيت من الطويل، انظر: الكامل، للمبرد (1/ 220).
ظهوره من فرج المرأة في وقتٍ، وكمونه في آخر؛ فسمي وقت مجيئه قرءًا، كما سمى الذين سموا وقت مجيء الريح لوقتها قرءًا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش:"دعي الصلاة أيام أقرائك"
(1)
؛ بمعنى: دعي الصلاة أيام إقبال حيضك.
(وَلكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ احْتِجَاجَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ لَفْظِ الْقُرْءِ، وَالَّذِي رَضِيَهُ الْحُذَّاقُ أَنَّ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَمِنْ أَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَقْراءَ هِيَ الْأَطْهَارُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّم، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا إِنْ شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لهَا النِّسَاءُ"
(2)
).
ولما وصفنا من معنى القرء أشكل تأويل قول الله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] على أهل التأويل، فرأى بعضهم أن الذي أمرت به المرأة المطلقة ذات الأقراء من الأقراء أقراء الحيض، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجئ فيه، فأوجب عليها تربصُ ثلاث حيضٍ بنفسها عن خطبة الأزواج.
ورأى آخرون: أن الذي أمرت به من ذلك إنما هو أقراء الطهر، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه، فأوجب عليها تربص ثلاثة أطهارٍ.
فإذا كان معنى القرء ما وصفنا لما بينا، وكان الله تعالى ذكره قد أمر المريد بطلاق امرأته ألَّا يطلقها إلا طاهرًا غير مجامعةٍ، وحرم عليه طلاقها حائضًا، كان اللازم للمطلقة المدخول بها إذا كانت ذات أقراءٍ تربص أوقاتٍ محدودة المبلغ بنفسها عقيب طلاق زوجها إياها أن تنظر إلى ثلاثة
(1)
أخرجه أحمد (25681)، وقال الأرناؤوط: حديثٌ صحيحٌ.
(2)
أخرجه البخاري (4908)، أخرجه مسلم (1471).
قروءٍ بين طهري كل قرءٍ منهن قرءٌ، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن، فإذا انقضين فقد حلَّت للأزواج وانقضت عدتها؛ وذلك أنها إذا فعلت ذلك، فقد دخلت في عداد من تربص من المطلقات بنفسها ثلاثة قروءٍ بين طهري كلِّ قرءٍ منهن قرءٌ له مخالف، وإذا فعلت ذلك كانت مؤديةً ما ألزمها ربها تعالى ذكره بظاهر تنزيله.
فقد تبين إذا كان الأمر على ما وصفنا أنَّ القرء الثالث من أقرائها على ما بينَّا الطهر الثالث، وأن بانقضائه ومجيء قرء الحيض الذي يتلوه انقضاء عدتها، فإن ظنَّ ذو غباوةٍ إذ كنا قد نسمي وقت مجيء الطهر قرءًا، ووقت مجيء الحيض قرءًا أنه يلزمنا أن نجعل عدة المرأة منقضيةً بانقضاء الطهر الثاني، إذ كان الطهر الذي طلقها فيه، والحيضة التي بعده، والطهر الذي يتلوها أقراءٌ كلها؛ فقد ظن جهلًا، وذلك أن الحكم عندنا في كلِّ ما أنزله الله في كتابه على ما احتمله ظاهر التنزيل ما لم يبين الله تعالى ذكره لعباده، أن مراده منه الخصوص، إما بتنزيلٍ في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا خص منه البعض، كان الذي خص من ذلك غير داخلٍ في الجملة التي أوجب الحكم بها، وكان سائرها على عمومها.
فالأقراء التي هي أقراء الحيض بين طهري أقراء الطهر غير محتسبةٍ من أقراء المتربصة بنفسها بعد الطلاق؛ لإجماع الجميع من أهل الإسلام أنَّ الأقراء التي أوجب الله عليها تربصهن ثلاثة قروءٍ، بين كل قرء منهن أوقاتٌ مخالفات المعنى لأقرائها التي تربصهن، وإذ كن مستحقاتٍ عندنا اسم أقراءٍ، فإنَّ ذلك من إجماع الجميع لم يجز لها التربص إلا على ما وصفنا قبل.
وفي هذه الآية دليلٌ واضحٌ على خطإ قول من قال: إن امرأة المولى التي آلى منها تحل للأزواج بانقضاء الأشهر الأربعة إذا كانت قد حاضت ثلاث حيضٍ في الأشهر الأربعة؛ لأنَّ الله تعالى ذكره إنما أوجب عليها العدة بعد عزم المؤلي على طلاقها، وإيقاع الطلاق بها بقوله:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 227، 228]، فأوجب تعالى ذكره على المرأة إذا صارت مطلقةً تربص ثلاثة
قروءٍ، فمعلوم أنها لم تكن مطلقةً يوم آلى منها زوجها، لإجماع الجميع على أنَّ الإيلاء ليس بطلاقٍ موجبٍ على المؤلي منها العدة.
وإذ كان ذلك كذلك، فالعدة إنما تلزمها بعدُ للطلاق، والطلاق إنما يلحقها بما قد بينَّاه قبل.
وأما معنى قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [البقرة: 228] فإنه: والمخليات السبيل غير ممنوعاتٍ بأزواجٍ ولا مخطوباتٍ، وقول القائل: فلانة مطلقةٌ، إنما هو مفعلة من قول القائل: طلق الرجل زوجته فهي مطلقةٌ، وأما قولهم: هي طالقٌ، فمن قولهم: طلقها زوجها فطلقت هي، وهي تطلق طلاقًا، وهي طالق.
وقد حكي عن بعض أحياء العرب أنها تقول: طلقت المرأة، وإنما قيل ذلك لها إذا خلَّاها زوجها، كما يقال للنعجة المهملة بغير راعٍ ولا كالئ إذا خرجت وحدها من أهلها للرعي مخلاة سبيلها: هي طالق.
فمثلت المرأة المخلاة سبيلها بها، وسميت بما سميت به النعجة التي وصفنا أمرها. وأما قولهم: طلقت المرأة، فمعنى غير هذا إنما يقال في هذا إذا نفست، هذا من الطلق، والأول من الطلاق.
قوله: (قَالُوا: وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي طُهْرٍ لَمْ تُمَسَّ فِيهِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"، دَلِيلٌ وَاضِح عَلَى أَنَّ الْعِدة هِيَ الْأَطْهَار، لِكَي يَكُونَ الطَّلَاقُ مُتَّصِلًا بِالْعِدَّةِ
(1)
، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ قَوْلُهُ:"فَتِلْكَ الْعِدَّةُ"؛ أَيْ: فَتِلْكَ مُدَّةُ اسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ، لِئَلَّا يَتَبَعَّضَ الْقُرْءُ بِالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ).
(1)
يُنظر: "شرح صحيح البخاري" للخطابي (3/ 2029)؛ حيث قال: "قلت: فيه دليلٌ على أن الأقراء التي تعتد بها المطلقة هي الأطهار وذلك لقوله: فتلك العِدة، فعقَّب تلك بعد الطهر، وقد تقدم ذِكر الحيض الأول الذي كان أوقَع فيه الطلاق، ثم أتبعه ذِكر الطهر الثاني، ثم ذكر الحيض بعدهما ثالثًا، ثم ذكر الطهر رابعًا، ثم ألصق به قوله: فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء، فدل أن الطهر هو العدَّة".
فيه دلالة لقول من قال: إن الأقراء التي تعتد بها المرأة هي الأطهار خلافًا لأبي حنيفة في قوله: "إنها الحِيَض"؛ لأنه قال: "فإن شاء طلَّق"، يعني: عند طهرها، ثم قال:"فتلك العدة التي أمر الله أن يطلّق لها النساء".
ومعنى "لها"، أي: فيها، فأثبت صلى الله عليه وسلم الطهر عدة ولا تعلق لهم بقوله:"فتلك"، وأن هذا لفظ تأنيث فيحمل على الحيضة، وأنه لو كان المراد الطهر لقال: فذلك؛ لأن المراد هاهنا تأنيث الحالة أو تأنيث العدَّةِ.
قوله: (وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي أَنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَبَرَاءَتُهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِالْحَيْضِ لَا بِالْأَطْهَارِ، وَلذَلِكَ كَانَ عِدَّةُ مَنِ ارْتَفَعَ الْحَيْضُ عَنْهَا بِالْأَيَّامِ، فَالْحَيْضُ هُوَ سَبَبُ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَقْرَاءُ هِيَ الْحَيْضَ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: الْأَقْرَاءُ هِيَ الْأَطْهَارُ: بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَرَاءَةِ الرَّحِمِ هُوَ النَّقْلَةُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، لَا انْقِضَاءُ الْحَيْضِ، فَلَا مَعْنَى لاعْتِبَارِ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِذَا كانَ ذَلِكَ فَالثَّلَاثُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِنَّ التَّمَامُ - أَعْنِي: الْمُشْتَرَطَ - هِيَ الْأَطْهَارُ الَّتِي بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، وَلكِلَا الْفَرِيقَيْنِ احْتِجَاجَاتٌ طَوِيلَةٌ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَحُجَّتُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْمَسْمُوعِ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ مُتَسَاوِيَةٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْقَائِلُونَ: أَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ الْأَطْهَارُ أَنَّهَا تَنْقَضِي بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ
(1)
).
احتجَّ كل فريقٍ باحتجاجات نظريةٍ متعددةٍ، ومن جهة النظر يفوق بعضهم على البعض الآخر في إقامة الحُجَّة.
إلا أنهم من جهة الاستدلال بالكتاب والسنَّة يستوون في ظنيَّة استدلال كل فريقٍ.
(1)
قد ظهر ذلك من خلال النصوص السابقة عن الصحابة، ومن بعدهم من أهل العلم.
وليس في المسألة حكمًا قطعيًّا، ولعل هذا ما يريد المؤلف قوله.
قوله: (وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا الْحَيْض، فَقِيلَ: تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، وَقِيلَ: حِينَ تَغْتَسِلُ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وإسْحَاقُ بْنُ عُبَيْدٍ
(1)
، وَقِيلَ: حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الَّتِي طَهُرتْ فِي وَقْتِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ، وإنْ فَرَّطَتْ فِي الْغُسْلِ عِشْرِينَ سَنَةً، حُكِيَ هَذَا عَنْ شَرِيكٍ، وَقَدْ قِيلَ: تَنْقَضِي بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ أَيْضًا شَاذٌّ، فَهَذِهِ هِيَ حَالُ الْحَائِضِ الَّتِي تَحِيضُ).
اختلف هؤلاء مع إجماعهم على أنَّ الأقراء الحيض في وقت انقضاء عدة المعتدة بالحيض، فقال بعضهم: لا تنقضي العدة إذا كانت أيامها دون العشر حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت الصلاة، وهذا قول الحسن البصري وحميد الطويل، وهذا لم يقله أحد ممن جعل الأقراء الحيض غير الحسن بن حي.
وقال بعضهم: هو أحقُّ بها وإن انقطع الدم ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
وقال آخرون: إذا انقطع الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت وبطلت الرجعة ولم يعتبر الغسل.
ولبعضهم قول شاذٌّ: أنها لو فرطت في الغسل عشر سنين لكان زوجها أحق برجعتها ما لم تغتسل.
وقال بعضهم: إذا طعنت المطلقة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت الرجعة للزوج، إلا أنه لا يحلُّ لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها.
(1)
سبق توثيق ذلك، ونقل النصوص فيه.
وهو قول ضعيف بدليل قول الله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} ، وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة، فإذا انقضت عدتها حلت للأزواج، ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك.
قوله: (وَأَمَّا الَّتِي تُطَلَّقُ فَلَا تَحِيضُ وَهِيَ فِي سنِّ الْحَيْضِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رِيبَةُ حَمْلٍ وَلَا سَبَبٌ مِنْ رَضَاعٍ وَلَا مَرَضٍ: فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهِنَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَكْمِلَ الثَّلَاثَةَ أَشْهُرٍ اعْتَبَرَتِ الْحَيْضَ، وَاسْتَقْبَلَتِ انْتِظَارَه، فَإِنْ مَرَّ بِهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ الثَّانِيَةَ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَكْمِلَ الثَّلَاثَةَ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي انْتَظَرَتِ الحَيْضَةَ الثالِثَةَ، فَإِنْ مَرَّ بِهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ اعْتَدَّت ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتِ الثَّالِثَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَانَتْ قَدِ اسْتَكْمَلَتْ عِدَّةَ الْحَيْضِ وَتَمَّتْ عِدَّتُهَا، وَلزوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَحِلَّ).
إذا اعتدت المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا ولم تحض فيها، فلا تحل للأزواج، إلا أن تكون ممن تحيض قبل ذلك، فترتاب بارتفاع حيضتها، فإنها تنتظر تمام تسعة أشهرٍ فقد حلَّت للأزواج، إلا أن ترتاب ريبةً من حس بطن فتقعد، حتى تنقطع عنها الريبة، أو يمر بها خمس سنين من يوم مات زوجها ثم تنكح إن شاءت.
وكذلك تفعل الأمة المتوفى عنها زوجها إذا استرابت نفسها بارتفاع
(1)
يُنظر: "المدونة"(2/ 9)؛ حيث فيها: "تنتقل إلى عدة الحيض قلت: فإن ارتفع الحيض عنها؟ قال: تنتقل إلى عدة السنة كما وصفت لك تسعة أشهرٍ من يوم انقطع الدم عنها ثم ثلاثة أشهر، وعدتها من الطلاق إنما هي الأشهر الثلاثة التي بعد التسعة، والتسعة إنما هي استبراء، قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم".
الحيضة أنها تقعد تسعة أشهر، تعد فيها الشهرين والخمسة الأيام، ثم تنكح إن شاءت.
ودليل ذلك أنه كان أبو عمرو بن حفص قد طلق فاطمة بنت قيس قبل خروجه في سفره تطليقتين، فلما وجه إليها بالطلقة الثالثة لم يكن له مسكنٌ يسكن فيه، فلذلك أباح لها النبي صلى الله عليه وسلم الانتقال في العدة من منزل إلى منزلٍ
(1)
.
قوله: (وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ مَتَى تَعْتَدُّ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ؟ فَقِيلَ: مِنْ يَوْمِ طُلِّقَتْ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّأ
(2)
، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: مِنْ يَوْمِ رَفْعِهَا حَيْضَتَهَا
(3)
، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَالشَّافِعِيُّ
(5)
، وَالْجُمْهُورُ فِي الَّتِي
(1)
سيأتي تخريجه.
(2)
يُنظر: "موطأ مالك"(2/ 583)"حيث قال: "قال مالك: الأمر عندنا في المطلقة التي ترفعها حيضتها حين يطلقها زوجها، أنها تنتظر تسعة أشهر، فإن لم تحض فيهن اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الأشهر الثلاثة، استقبلت الحيض".
(3)
يُنظر: "المدونة"(2/ 9)؛ حيث قال: "قلت: أرأيت إذا طلق الرجل امرأته ومثلها تحيض فارتفع حيضتها؟ قال: قال مالك: تجلس سنة من يوم طلقها زوجها فإذا مضت فقد حلت، قلت: فإن جلست سنة فلما قعدت عشرة أشهر رأت الدم؟ قال: ترجع إلى الحيضٍ، قلت: فإن انقطع الحيض عنها؟ قال: ترجع إذا انقطع الدم عنها فتعتد أيضا سنة من يوم ما انقطع الدم عنها من الحيضة التي قطعت عليها عدة السنة، قلت: فإن اعتدت أيضا بالسنة ثم رأت الدم؟ قال: تنتقل إلى عدة الدم".
(4)
"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (5/ 235)؛ حيث قال: "وإذا كانت ممن تحيض، فارتفع حيضها من غير حملٍ: كانت في عدتها أبدًا حتى تحيض ثلاث حيض، أو تيأس من الحيض، فتستقبل عدة الآيسة من المحيض، وهي ثلاثة أشهر".
(5)
يُنظر: "نهاية المطلب في دراية المذهب" للجويني (15/ 161)؛ حيث قال: "وإن انقطعت، وارتفع الحيض، فقد أجمع المفرعون على أنا نأمرها بأن تستفتح التربصَ تسعةَ أشهر أخرى، ثم تعتد بعد هذه التسعة الأشهر بثلاثة أشهر" وسبب ذلك أن الأشهر التسعة مقصودُها طلبُ الحيض؛ فإذا رأت الدم، فهو الأصل، فإذا ارتفع، احتجنا بعده إلى طلبٍ جديد، وانتظارٍ مبتدأ، هذا إذا رأت الدمَ في أثناء التسعة الأشهر".
تَرْتَفِعُ حَيْضَتُهَا وَهِيَ لَا تَيْأَسُ مِنْهَا فِي الْمُسْتَأْنَفِ: إِنَّهَا تَبْقَى أَبَدًا تَنْتَظِرُ حَتَّى تَدْخُلَ فِي السِّنِّ الَّذِي تَيْأَسُ فِيهِ مِنَ الْمَحِيض، وَحِينَئِذٍ تَعْتَدُّ بالْأَشْهُرِ وَتَحِيضُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَوْلُ مَالِك مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
(1)
، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ
(2)
، وَزَيْدٍ، وَعُمْدَةُ مَالِكٍ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِدَّةِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَعُ بِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ظَنًّا غَالِبًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ تَحِيضُ الْحَامِل، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَعِدَّةُ الْحَمْلِ كافِيَةٌ فِي الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بَلْ هِيَ قَاطِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عِدَّةَ الْيَائِسَةِ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ حُكِمَ لَهَا بِحُكْمِ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَاحْتَسَبَتْ بِذَلِكَ الْقُرْءِ، ثُمَّ تَنْتَظِرُ الْقُرْءَ الثَّانِيَ أَوِ السَّنَةَ إِلَى أَنْ يَمْضِيَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ).
اختلفوا إذا ارتفعت حيضة المرأة الشابة التي يمكن مثلها أن تحيض، فروي عن عمر أنه قال: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضةً أو حيضتين، ثم رفعتها حيضتها أنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حملٌ وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهرٍ ثم حلت.
قوله: (وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَصَارُوا إِلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] وَالَّتِي هِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ لَيْسَتْ بِيَائِسَةٍ، وَهَذَا الرَّأْيُ فِيهِ عُسْرٌ وَحَرَجٌ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَكَانَ جَيِّدًا إِذَا فُهِمَ مِنَ الْيَائِسَةِ الَّتِي لَا يُقْطَعُ بِانْقِطَاعِ حَيْضَتِهَا).
(1)
أخرج ابن أبي شيبة (18997): عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "إِذَا طَلُقَتِ الْمَرْأَةُ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَتْهَا حَيْضَتُهَا اعْتَدَّتْ لِلْمَحِيضِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ لِلْحَمْلِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ حَلَّتْ لِلرِّجَالِ".
(2)
أخرج ابن أبي شيبة (18995): عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بِالْحَيْضِ وَإِنْ طَالَتْ"، قَالَ حَفْصٌ: فَذَكَرَ السَّنَةَ وَأَكثَرَ.
احتجوا بظاهر القرآن، وظاهر القرآن لا مدخل فيه لذوات الأقراء في الاعتداد بالأشهر، وإنما تعتد بالأشهر: اليائسة والصغيرة، فمن لم تكن يائسةً ولا صغيرةً فعدتها الأقراء وإن تباعدت.
وحجة مالكٍ: أن المرتابة تعتد بالأشهر؛ لأن في ذلك يظهر حملها على كل حالٍ، فلا يمكن أن يستمر الحمل في الشهر التاسع، فإذا استوقن أن لا حمل في هذه المدة، قيل: قد علمنا أنك لستِ مرتابةً، ولا من ذوات الأقراء، فاستأنفي ثلاثة أشهرٍ كما قال الله تعالى فيمن لسن من ذوات الأقراء قياسًا على أنَّ العدة بالشهور لصغرٍ إذا حاضت قبل تمام الثلاثة الأشهر علم أنها من ذوات الأقراء، فقيل لها: استأنفي الأقراء.
قوله: (وَكَانَ قَوْلُهُ: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] رَاجِعًا إِلَى الْحُكْمِ، لَا إِلَى الْحَيْضِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ مَالِكًا لَمْ يُطَابِقْ مَذْهَبُهُ تَأْوِيلَهُ الْآيَةَ، فَإِنَّهُ فَهِمَ مِنَ الْيَائِسَةِ هُنَا مَنْ تُقْطَعُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ أَهْلِ الْحَيْضِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ السِّنِّ، وَلذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَهُ: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] رَاجِعًا إِلَى الْحُكْمِ لَا إِلَى الْحَيْضِ - أَيْ: إِنْ شَكَكْتُمْ فِي حُكْمِهِنَّ -، ثُمَّ قَالَ فِي الَّتِي تَبْقَى تِسْعَةَ أَشْهُرٍ لَا تَحِيضُ وَهِيَ فِي سَنِّ مَنْ تَحِيضُ إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ).
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]{إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ} ، وقد أنكر ذلك بعض الناس، وقالوا: لو أراد ذلك لقال: (أن ارتبتم) بالفتح، لأن الارتياب ماض، وإنما تتعلق إن المكسورة بالاستقبال، والارتياب قد عدم بتعدد وجود النصِّ، وهذا الذي قاله ليس بصحيحٍ؛ لأن الارتياب لمن لا يعلم حكم الآية أو لمن لا يقرؤها ثابت إلى يوم القيامة.
وقد قال بعض أصحابنا: إن معنى {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] إذا ارتبتم، ويحتمل أن يريد بذلك (أن ارتبتم) في التأويل على أن العرب
تستعمل هذا اللفظ على معنى التنبيه على الدليل فتقول: إن ارتبتم في كذا مع ظهوره ووضوحه فيجب أن يمنعك من الارتياب أمر، كذا قال الله تعالى:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] ومعنى ذلك نفي الشك والارتياب عن مثل هذا لوضوحه وظهور أدلته، ووجه آخر: وهو أن يكون أن ارتبتم الآن، فإنه يجب أن يقطع الارتياب هذا النص، وهذا اللفظ يستعمل بمعنى الحال، ولذلك يقول: إن شئت لأن فعلت كذا، وقد يستعمل بمعنى المضي فتقول: إن كنت تشك في كذا فحكمه كذا، وهذا بينٌ واضحٌ، والأول أظهر.
قوله: (وَأَمَّا إِسْمَاعِيل، وَابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
(1)
، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الرِّيبَةَ هَاهُنَا فِي الْحَيْضِ، وَأَنَّ الْيَائِسَ فِي كلَامِ الْعَرَبِ هُوَ مَا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِمَا يَئِسَ مِنْهُ بِالْقَطْعِ، فَطَابَقُوا تَأْوِيلَ الْآيَةِ مَذْهَبَهُمُ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنِعْمَ مَا فَعَلُوا، لِأَنَّهُ إِنْ فُهِمَ هَاهُنَا مِنَ الْيَائِسِ الْقَطْعُ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ تَنْتَظِرَ الدَّمَ وَتَعْتَدَّ بِهِ حَتَّى تَكُونَ فِي هَذَا السِّنِّ - أَعْنِي: سِنَّ الْيَائِسِ -، وإنْ فَهِمَ مِنَ الْيَائِسِ مَا لَا يقْطَع بِذَلِكَ فَقَدْ يَجِب أَنْ تَعْتَدَّ الَّتِي انْقَطَعَ دَمُهَا عَنِ الْعَادَةِ وَهِيَ فِي سِنِّ مَنْ تَحِيضُ بِالْأَشْهُرِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْيَائِسَةَ فِي الطَّرَفَيْنِ لَيْسَ هِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِدَّةِ لَا بِالأقْرَاءِ وَلَا بِالشُّهُورِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ التِّسْعَةِ وَمَا بَعْدَهَا فَاسْتِحْسَانٌ).
قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} ؛ أي: إن لم تعلموا أتحيض أم لا تحيض (فاللائي قعدن عن المحيض) يئسن منه لكبرهن (واللائي لم يحضن بعد) كذا قالوا: التي كبرت ولم تبلغ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} في غير المتوفى
(1)
يُنظر: "تفسير الطبري"(23/ 49)؛ حيث قال: "فقال بعضهم: معنى ذلك: إن ارتبتم بالدم الذي يظهر منها لكبرها، أمن الحيض هو، أم من الاستحاضة: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} ".
عنها زوجها، أما هي فعدتها ما في {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وسقط قوله التغابن إلخ لغير الحموي.
قوله: (وَأَمَّا الَّتِي ارْتَفَعَتْ حَيْضَتُهَا لِسَبَبٍ مَعْلُومٍ مِثْلَ رِضَاعٍ أَوْ مَرَضٍ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهَا تَنْتَظِرُ الْحَيْض، قَصُرَ الزَّمَان أَمْ طَالَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرِيضَةَ مِثْلُ الَّتِي تَرْتَفِعُ حَيْضَتُهَا لِغَيْرِ سَبَبٍ).
إذا ارتفع الحيض لعارضٍ معلومٍ وسببٍ معتادٍ تأثيره في رفع الحيض.
والأسباب المؤثرة منها: المرض: فإذا تأخر حيضها من أجل المرض، فقال بعض المالكية: تعتد بثلاثة أشهر بعد الاستبراء بتسعة.
وقال آخرون منهم: عدتها الأقراء وإن تباعدت كالمرضع.
قوله: (وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ: فَعِدَّتُهَا عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
سَنَة إِذَا لَمْ تُمَيِّزَ بَيْنَ الدَّمَّيْنِ، فَإِنْ مَيَّزَتْ بَيْنَ الدَّمَّيْنِ فَعَنْهُ رِوَايَتَان؛ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ عِدَّتَهَا السَّنَة، وَالْأُخْرَى: أَنَّهَا تَعْمَلُ عَلَى التَّمْيِيزِ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: عِدَّتُهَا الْأَقْرَاءُ إِنْ تَمَيَّزَتْ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ لَهَا قَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: عِدَّتُهَا بِالتَّمْيِيزِ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهَا الدَّم، فَيَكُونُ الْأحْمَرُ
(1)
يُنظر: "المدونة"(2/ 5)؛ حيث فيها: "قال مالك: والمستحاضة يطلقها زوجها متى شاء وعدتها سنة".
(2)
"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (1/ 471)، حيث قال:"وإذا استحيضت المرأة: تركت الصلاة في أيام حيضها، ولم ينظر في ذلك إلى غيرها من نسائها، ولا إلى لون الدم، فإذا مضت أيامها: اغتسلت، وتوضأت لوقت كل صلاة إلى أن يجيء وقت حيضها".
(3)
يُنظر: "الوسيط في المذهب" للغزالي (1/ 474)؛ حيث قال: "المستحاضة الثالثة المميزة، وهي التي ترى يومًا دمًا قويًّا ويومًا دمًا ضعيفًا، فإن انقطع القوي على الخمسة عشر وأطبق الضعيف بعده فجعلنا الضعيف نقاء على قول اللقط وحيضانها ثمانية أيام، وعلى السحب حيضناها خمسة عشر يومًا لإحاطة السواد بالضعيف المتخلل، فإذا استمر تعاقب السواد والحمرة في جميع الشهر فقد فقدت التمييز =
الْقَانِي مِنَ الْحَيْضَةِ، وَيكُونُ الْأَصْفَرُ مِنْ أَيَّامِ الطُّهْرِ، فَإِنْ طَبَّقَ عَلَيْهَا الدَّمُ اعْتَدَّتْ بِعَدَدِ أَيَّامِ حَيْضَتِهَا فِي صِحَّتِهَا).
المستحاضة المميِّزة: هي المرأة إذا ابتدأها الحيض، وعبر الخمسة عشر، إلا أن الدم على لونين: دم قوي، ودم ضعيفٌ، بأن يكون الدم في بعض الأيام ثخينًا محتدمًا قانيًا، وفي بعضها أحمر مشرقًا.
قوله: (وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى بَقَاءِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا مِثْلَ الَّتِي لَا تَحِيضُ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ، وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا ذَهَبَ فِي الْعَارِفَةِ أَيَّامَهَا أَنَّهَا تَعْمَلُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ:"اتْرُكي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْكِ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي الدَّمَ"
(1)
). لأنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "اتْرُكِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ":
فدلَّ أنها كانت مميزةً، فأحالها على أيام أقرائها التي تعرفها مع وجود الدم الذي لا تعرفه؛ لأنه لما قال: أيام حيضتك، أو أيام أقرائك، فلا بدَّ أن تكون عرفت الحيض بلونه ورائحته، وإلا كان مشكلًا؛ لأنها سألت عن الزائد على دمها هل هو حيض أو غيره، ولو أراد أيام حيضتك فيما مضى، لكان أيضًا مشكلًا إن لم تكن تعرف دم الحيض وتميزه، فإنما أحالها على حيضٍ تعرفه، وقد يمكن أن تكون هذه المرأة لها تمييزٌ وظنت مع التمييز أنه إذا انقطع عنها دم الحيض بعد أيامها وتغير أنَّ حكمها واحدٌ في ترك الصلاة، فأعلمها أنه إذا تغير بعد تقضي أيامها التي كانت تحيضها أنها تغتسل وتصلي، وأنها إذا رأت الدم الذي تعرفه في تلك الأيام أنها تترك الصلاة.
= لفوات الشرط، فهو كما لو أطبق لون واحدٌ ولا تلتقط من أيام الشهر خمسة عشر يومًا سوادًا بالاتفاق، فلم يجوز أحد تفريق الحيض على الطهر، وإن جوزوا تفريق الطهر على الحيض فهذا يقوي قول السحب".
(1)
"موطأ مالك"(1/ 61)، وهو في "صحيح أبي داود - الأم"(2/ 53).
قول: (وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ التَّمْيِيزَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ: "إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَف، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصلَاةِ، فَإِذَا كانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ" خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أن عِدَّتهَا بِالشُّهُورِ إِذَا اخْتَلَطَ عَلَيْهَا الدَّم، لِأَنَّهُ مَعْلُوم فِي الْأَغْلَبِ أَنَّهَا فِي كلِّ شَهْرٍ تَحِيضُ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْعِدَّةَ بِالشُّهُورِ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْحَيْضِ وَخَفَاؤُهُ كَارْتِفَاعِهِ).
فهذا يبين لك أنَّ الدم إذا تميَّز كان الحكم له وإن كانت لها أيام معلومة، واعتبار الشيء بذاته وبخاصِّ صفاته أولى من اعتباره بغيره من الأشياء الخارجة عنه، فإذا عدمت التمييز فالاعتبار للأيام.
قوله: (وَأَمَّا الْمُسْتَرَابَةُ: - أَعْنِي: الَّتِي تَجِدُ حِسًّا فِي بَطْنِهَا تَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ حَمْل -: فَإِنَّهَا تَمْكُثُ أَكثَرَ مُدَّةِ الحَمْلِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَقِيلَ فِي الْمَذْهَبِ
(2)
: أَرْبَعُ سِنِينَ. وَقِيلَ: خَمْسُ سِنِينَ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(3)
: تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّةِ الْحَوَامِلِ لِوَضْعِ حَمْلِهِنَّ - أَعْنِي: الْمُطَلَّقَاتِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وَأَمَّا الزَّوْجَاتُ غَيْرُ الْحَرَائِرِ: فَإِنَّهُنَّ يَنْقَسمنَ أَيْضًا بِتِلْكَ
(1)
أخرجه أبو داود (304)، وقال الأرناؤوط: صحيحٌ من حديث عائشة، وهذا إسناد رجاله ثقات.
(2)
"الجامع لمسائل المدونة"(10/ 571) لأبي بكر الصقلي؛ حيث قال: "وإذا استبرأت معتدةً بحِسِّ بطنها جلست خمس سنين، فذلك أقصى كل عدةٍ يلحق فيها ولدًا، أو استبراء، وهذا في الطلاق والوفاة وغير ذلك. قال عبد الوهاب: وعنه في أكثر مدة الحمل ثلاث روايات: إحداها: أربع سنين، والثانية: خمس سنين، والثالثة: سبع سنين، وفائدة الخلاف امتداد التربّص بالمرتابة، وأن المطلقة إذا أتت بولدٍ لأكثر من مدة الحمل من وقت الطلاق لم يُلحق به".
(3)
يُنظر: "المحلى"(10/ 54)؛ حيث قال: "فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذلك، وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ثم حلت".
الْأَقْسَامِ بِعَيْنِهَا، - أَعْنِي: حُيَّضًا وَيائِسَات وَمُسْتَحَاضَات وَمُرتَفِعَاتِ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ يَائِسَاتٍ -).
قالوا: إذا استبرأت المعتدة بسبب حِسِّ بطنها تجلس مدة خمس سنين، وهذا في الطلاق والوفاة وغير ذلك.
وقد تعددت الآراء في أكثر مدة الحمل:
فقيل: أربع سنين، وقيل: خمس سنين، وقيل: سبع سنين.
وفائدة الخلاف في هذا: امتداد التربُّص بالمرتابة، وأنَّ المطلقة إذا أتت بولدٍ لأكثر من مدة الحمل من وقت الطلاق لم يُلحق به.
قوله: (فَأَمَّا الْحُيَّضُ اللَّاتِي يَأْتِيهِنَّ حَيْضُهُنَّ: فَالْجُمْهورُ
(1)
عَلَى أَنَّ عِدَّتهُنَّ حَيْضَتَان. وَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
: إِلى أَنَّ عِدَّتهُنَّ ثَلَاث حِيَضٍ كَالْحُرَّةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، فَأَهْلُ الظَّاهِرِ اعْتَمَدُوا عُمُومَ قَوْله تَعَالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وَهِيَ مِمَّنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُطَلَّقَةِ، وَاعْتَمَدَ الْجُمْهُورُ تَخْصِيصَ هَذَا الْعُمُومِ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَبَّهُوا الحَيْض بِالطَّلَاقِ وَالْحَدِّ - أَعْنِي: كوْنَهُ مُتَنَصِّفًا مَعَ الرِّقِّ -، وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا حَيْضَتَيْنِ، لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَبَعَّضُ).
قال الظاهرية: عدة المطلقة الموطوءة التي تحيض ثلاثة قروءٍ - وهي
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 219)؛ حيث قال: "وكذلك قال الجميع من علماء المسلمين في عدة الأمة من الطلاق حيضتان إلا ما روي عن ابن سيرين أيضًا أن عدتها عدة الحرة إلا أن تمضي في ذلك سنة".
وتعلقت بقول ابن سيرين طائفةٌ من أهل الظاهر شذَّت فلم يعرج الفقهاء عليها.
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 28)؛ حيث قال: "وعدة المطلقة الموطوءة التي تحيض ثلاثة قروء - وهي بقية الطهر الذي طلقها فيه - ولو أنها ساعة أو أقل أو أكثر - ثم الحيضة التي تلي بقية ذلك الطهر، ثم طهر ثانٍ كامل، ثم الحيضة التي تليه، ثم طهر ثالث كامل".
بقية الطهر الذي طلَّقها فيه - ولو أنها ساعة أو أقل أو أكثر - ثم الحيضة التي تلي بقية ذلك الطهر، ثم طهر ثانٍ كامل، ثم الحيضة التي تليه، ثم طهر ثالث كامل، فإذا رأت أثره أول شيءٍ من الحيض فقد تمت عدتها، ولها أن تُنكح حينئذٍ إن شاءت.
قوله: (وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمُطَلَّقَةُ الْيَائِسَةُ مِنَ الْمَحِيضِ أَوِ الصَّغِيرَةُ: فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
، وَأكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
(2)
، قَالُوا: عِدَّتُهَا ثَلَاتةُ أَشْهُر، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَالثَّورِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ
(5)
: عِدَتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفُ شَهْرٍ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ إِذَا قُلْنَا بِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، فَكَأَنَّ مَالِكًا اضْطَرَبَ قَوله، فمَرَّةً أَخَذ الْعُمُوم، وَذَلِكَ فِي
(1)
"التهذيب في اختصار المدونة"(2/ 410) لابن البراذعي، حيث قال:"التي يئست من المحيض: إن طلقت قبل الأهلَّة أو بعدها اعتدت من حين طلقت ثلاثة أشهر ثلاثين يومًا كل شهر".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 220)؛ حيث قال: "وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد وأكثر أهل المدينة".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 228)؛ حيث قال: "ولو أنَّ امرأةً يئست من المحيض طلقت فاعتدت بالشهور ثم حاضت قبل أن تكمل بالشهور فسقطت عدة الشهور واستقبلت الحيض فإن حاضت ثلاث حيض فقد قضت عدتها، وإن لم تحضها حتى مرَّت عليها بعد الحيضة الأولى تسعة أشهر استقبلت العدة بالشهور، وإن جاءت عليها ثلاثة أشهرٍ قبل أن تحيض فقد أكملت عدتها، لأنها من اللائي يئسن من المحيض، فإن حاضت قبل أن تكمل الثلاثة الأشهر فقد حاضت حيضتين فتستقبل تسعة أشهر فإن حاضت فيها أو بعدها في الثلاثة الأشهر فقد أكملت وإن لم تحض فيها اعتدت، فإذا مرَّت بها تسعة أشهرِ ثم ثلاثة بعدها حلَّت، ولو حاضت بعد ذلك لم تعتد بعد بالشهور".
(4)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (5/ 235)، حيث قال:"وإذا كانت ممن تحيض، فارتفع حيضها من غير حمل: كانت في عدتها أبدًا حتى تحيض ثلاث حيض، أو تيأس من الحيض، فتستقبل عدة الآيسة من المحيض، وهي ثلاثة أشهرٍ".
(5)
"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 220)؛ حيث قال: "وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والحسن بن حي وأبو ثور: عدتها شهرٌ ونصف".
الْيَائِسَاتِ، وَمَرَّةً أَخَذَ بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَالْقِيَاسُ فِي ذَلك وَاحِدٌ).
من إنصاف المؤلف كعادته أن ينتصر للحقِّ الذي يراه ولو خالف إمام مذهبه، وما أحوجنا إلى كثيرٍ من هذا الإنصاف في هذا الزمان.
قوله: (وَأَمَّا الَّتي تَرْتَفِعُ حَيْضَتُها مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ: فَالْقَوْلُ فِيها هُوَ الْقَوْلُ فِي الْحُرَّةِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ).
التي يرتفع الحيض عنها بدون سبب ظاهرٍ أو معلوم، فحكمها حكم الحُرَّة، وكذلك المستحاضة مثلها.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا عِدةَ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ فِي الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا؛ هَلْ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً أَمْ لَا؟ فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَار: تَسْتَأْنِفُ، وَقَالَتْ فِرقَةٌ: تَبْقَى فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِهَا الْأَوَّلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ
(1)
، وَقَالَ دَاوُدُ
(2)
: لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّتَهَا وَلَا عِدةً مُسْتَأنَفَةً).
قال الجمهور: لو راجع الزوج زوجته المعتدة في أثناء مدة العدة، ثم قام بطلاقها قبل أن يدخل بها، فإنها تستأنف العِدَّة.
وأما الظاهريَّة: ليس على المرأة أن تُتمَّ العدَّة أصلًا، فضلًا عن عدَّةٍ مُستأنفةٍ.
(1)
يُنظر: "التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص: 202)؛ حيث قال: "وإذا راجع المعتدة في أثناء العدة ثم طلقها قبل الدخول استأنفت العدة في أصحِّ القولين، وبنت في القول الثاني".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 180)؛ حيث قال: "وقال داود ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة".
قوله: (وَبِالْجُمْلَةِ فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ كُلَّ رَجْعَةٍ تَهْدِمُ الْعِدَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسِيسٌ، مَا خَلَا رَجْعَةَ الْمولِي، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَقَبْلَ الْوَطْءِ ثَبَتَتْ عَلَى عِدَّتِهَا الْأُولَى، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَظْهَر، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ رَجْعَةُ الْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ تَقِفُ صِحَّتُهَا عِنْدَهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ: فَإِنْ أَنْفَقَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ وَهُدِمَتِ الْعِدَّةُ إِنْ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ بَقِيَتْ عَلَى عِدَّتِهَا الْأُولَى).
مثلًا: راجع الزوج زوجته المعتدة في أثناء مدة العدة، ثم قام بطلاقها بعد الرجعة وقبل أن يدخل بها.
فتثبت على العدة الأولى عنده الشافعي، وهو الذي استظهره المؤلف.
قوله: (وَإِذَا تَزَوَّجَتْ ثَانِيًا فِي الْعِدَّةِ: فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ
(2)
: إِحْدَاهُمَا: تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ، وَالْأُخْرَى نَفْيُهُ. فَوَجْهُ الْأُولَى: اعْتِبَارُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ مَعَ التَّدَاخُلِ، وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: كَوْنُ الْعِدَّةِ عِبَادَةً، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْوَطْءِ الَّذِي لَهُ حُرْمَةٌ، إِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ مَضَتْ عَلَى عِدَّةِ الْأَمَةِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: تَنْتَقِلُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا).
طلَّق الزوج زوجته المعتدة ثم في أثناء مدة العدة، قام بطلاقها.
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 258)؛ حيث قال: "ثم يطلقها قبل أن يمسها وذلك أن حكمها في عدتها حكم الأزواج في بعض أمرها، وإنما تستأنف العدة؛ لأنه قد كان مسَّ قبل الطلاق الذي أتبعه هذا الطلاق فلزم فحكمه حكم الطلاق الواحد بعد الدخول وأي امرأة طلقت بعد الدخول اعتدت".
(2)
يُنظر: "المدونة"(2/ 180)؛ حيث فيها: "قال مالكٌ: هو أملك برجعتها إن أيسر في العدة وإن هو لم ييسر في العدة فلا رجعة له، ورجعته باطلةٌ إذا هو لم ييسر في العدة".
(3)
سبق توثيقه بمعناه.
قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الْعِدَّةُ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ أَمْ مِنْ أَحْكَامِ انْفِصَالِهَا؟ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ قَالَ: لَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَحْكَامِ انْفِصَالِ الزَّوْجِيَّةِ قَالَ: تَنْتَقِل، كمَا لَوْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ زَوْجَةٌ ثُمَّ طُلِّقَتْ، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ فَبَيِّنٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجْعِيَّ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِصْمَةِ، وَلذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ الْمِيرَاثُ بِاتِّفَاقٍ إِذَا مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى عِدَّةِ الْمَوْتِ. فَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ قِسْمَيِ النَّظَرِ فِي الْعِدَّةِ).
هل تعتبر العدة من أحكام الزوجية أو من أحكام انفصال الزواج؟
لو قلنا: من أحكام الزوجية؛ فيترتب على ذلك عدم نقل العدة.
ولو قلنا: من أحكام انفصال الزواج؛ فيترتب على ذلك القول بنقل العدة.
هنا انتهى المؤلف من القسم الأول.
[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (الْقِسْمُ الثَّانِي: وَأَمَّا النَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الْعَدَدِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى
(1)
، وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الرَّجْعِيَّاتِ:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]).
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 78)؛ حيث قال: "واتفقوا أنَّ للمعتدة من طلاقٍ رجعيٍّ السكنى والنفقة".
هذا قد وقع عليه الإجماع بين الفقهاء، النفقة والسكن للمعتدة الرجعية، وكذلك للحامل.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ وَنَفَقَتِهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ
(1)
، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ
(2)
، وَدَاوُدَ
(3)
، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ
(4)
، الثَّالِثُ: أَنَّ لَهَا السُّكْنَى، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
(5)
، وَالشَّافِعِيِّ
(6)
، وَجَمَاعَةٍ
(7)
).
معنى البتة هنا: الطلاق.
قال بعضهم: للمطلقة المبتوتة النفقة والسكنى على زوجها الذي طلقها، وشبهها سفيان بالحامل.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (5/ 289)؛ حيث قال: "وللمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة، حاملًا كانت أو غير حاملٍ حتى تنقضي عدتها".
(2)
"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (24/ 308)؛ حيث قال: "وأما البائن بفسخٍ أو طلاقٍ، فإن كانت حاملًا فلها النفقة والسكنى، وإلا فلا شيء لها. وعنه: لها السكنى".
(3)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (10/ 78)؛ حيث قال: "قال الشعبي: المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة، قال أحمد: وبه أقول. قال أبو محمد: وبه يقول إسحاق بن راهويه وأبو سليمان، وجميع أصحابنا".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 158)؛ حيث قال: "وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود".
(5)
يُنظر: "المدونة"(2/ 48)؛ حيث فيها: "في نفقة المطلقة وسكناها قلت: أرأيت المطلقة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا أيلزمها السكنى والنفقة في قول مالكٍ أم لا؟ قال: قال مالكٌ: السكنى تلزمه لهن كلهن، فأما النفقة فلا تلزم الزوج في المبتوتة ثلاثًا، كان طلاقه إياها أو صلحًا إلا أن تكون حاملًا فتلزمه النفقة".
(6)
يُنظر: "الإقناع" للماوردي (ص: 155)؛ حيث قال: "ولها إن كانت مبتوتةً السكنى دون النفقة إلا أن تكون حاملًا فيجب لها به السكنى دون النفقة".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 157)؛ حيث قال: "لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ وأكثر أهل الحجاز".
وقال الآخرون: ليس هو كما قال؛ لأن الله عز وجل يقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} ، ثم قال تبارك وتعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فإن كانت النفقة تجب كما تجب السكنى لما كان للاختصاص معنى، فوجب بهذا النص أنها الحامل التي لا يملك زوجها رجعتها، وأما التي يملك زوجها رجعتها فلها النفقة عليه في العدة، حاملًا كانت أو غير حاملٍ.
قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لَهُ: فَاسْتَدَلَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: "طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا على عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِمَنْ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ"
(2)
، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
(3)
).
قال قومٌ: لا سكنى للمبتوتة ولا نفقة.
وذهبوا إلى الحديث الذي ذكر عن فاطمة بنت قيس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، وتأولوا قول الله عز وجل:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} أن ذلك إنما هو في المرأة التي تطلق واحدة أو اثنتين ويملك زوجها رجعتها، قال: ولو كان ذلك كما تأولوا لكان: أسكنوهن حيث سكنتم وأنفقوا عليهن، ولم يستثن النفقة على الحامل خاصة؛ لأنَّ التي يملك زوجها رجعتها لها أحكام الزوجات في السكنى والنفقة لا فرق
(1)
أخرجه مسلمٌ (1480).
(2)
أخرجه النسائي (5566)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(1711).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 158)؛ حيث قال: "وروي عن علي وابن عباسٍ وجابرٍ أن المبتوتة لا سكنى لها ولا نفقة".
بينهما وبين التي لم تطلق في ذلك، فعلمنا أنه لما استثنى النفقة منهن لذوات الأحمال أنها ليست التي يملك زوجها رجعتها.
قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا لَهَا السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ: فَإِنَّهُمُ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ"
(1)
، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إِسْقَاطَ السُّكْنَى، فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قَوْله تَعَالَى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَعَلَّلُوا أَمْرَهُ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِأَنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهَا بَذَاءٌ
(2)
).
فاحتجوا في سقوط نفقة المبتوتة: بالحديث المذكور عن فاطمة بنت قيسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "ليس لك نفقةٌ" وأوجب عليها السكنى ثم نقلها عن موضعها لعلةٍ قال: وإنما أسكنها في بيت ابن أم مكتومٍ؛ لأنها كان في لسانها ذَرَبٌ.
قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ: فَصَارُوا إِلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]. وَصَارُوا إِلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا لِكَوْنِ النَّفَقَةِ تَابِعَةً لِوُجُوبِ الْإِسْكَانِ فِي الرَّجْعِيَّةِ وَفِي الْحَامِلِ وَفِي نَفْسِ الزَّوْجِيَّةِ.
(1)
أخرجه مسلمٌ (1480).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 158)؛ حيث قال: "عائشة كانت تقول وتذهب إلى أنَّ فاطمة بنت قيس لم يبح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج من بيتها الذي طلقت فيه إلا لما كانت طلقت فيه من البذاء بلسانها على قرابة زوجها الساكنين معها في دار واحدةٍ، ولأنها كانت معهم في شرٍّ لا يطاق".
وَبِالْجُمْلَةِ: حَيْثُمَا وَجَبَتِ السُّكْنَى فِي الشَّرْعِ وَجَبَتِ النَّفَقَة، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ هَذَا: لَا نَدَعُ كتَابَ نَبِيِّنَا وَسُنَّتَهُ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ
(1)
، يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] الْآيَةَ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ سُنَّتِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ أَوْجَبَ النَّفَقَةَ حَيْثُ تَجِبُ السُّكْنَى، فَلِذَلِكَ الْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لَهَا الْأمْرَيْنِ جَمِيعًا مَصِيرًا إِلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالْمَعْرُوفِ مِنَ السُّنَّةِ، وَإِمَّا أَنَّ يُخَصَّصَ هَذَا الْعُمُومُ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ الْمَذْكورِ).
من أثبت لها السكنى والنفقة، فتعلَّق بقول الله سبحانه:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} .
وأما النفقة فلأنها محبوسة عليه، وهذا عنده توجب لها النفقة.
قوله: (وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ إِيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَعَسِيرٌ، وَوَجْهُ عُسْرِهِ ضَعْفُ دَلِيلِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي طَلَاقٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوِ اخْتِيَارِ الْأَمَةِ نَفْسَهَا إِذَا أُعْتِقَتْ
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا فِي الْفُسُوخِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهَا).
اتفق الفقهاء كلهم على أنَّ العدة تجب على الزوجة من وقت موت الزوج، سواءٌ كان جامعها أو لم يكن قد جامعها، وسواءٌ كان قد دخل بها أو لم يدخل بها.
قوله: (وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعِدَّةِ يَتَعَلَّقُ فِيهِ أَحْكَامُ عِدَّةِ الْمَوْتِ رَأَيْنَا أَنْ نَذْكُرَهَا هَا هُنَا، فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
(1)
أخرجه مسلمٌ (1480).
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 76)؛ حيث قال: "واتفقوا أن العدة واجبةٌ من موت الزوج الصحيح العقل، وسواء كان وطئها أو لم يكن وطئ، وسواء كان قد دخل بها أو لم يدخل بها".
عِدَّةَ الْحُرَّةِ مِنْ زَوْجِهَا الْحُرِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ
(1)
، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ، وَفِي عِدَّةِ الْأَمَةِ إِذَا لَمْ تَأْتِهَا حَيْضَتُهَا فِي الأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ مَاذَا حُكْمُهَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(2)
إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ تَمَامِ هَذِهِ الْعِدَّةِ أَنْ تَحِيضَ حَيْضَةً وَاحِدَةً فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَهِيَ عِنْدَهُ مُسْتَرَابَةٌ، فَتَمْكُثُ مُدَّةَ الْحَمْلِ. وَقِيلَ عَنْهُ: إِنَّهَا قَدْ لَا تَحِيضُ، وَقَدْ لَا تَكُونُ مُسْتَرَابَةً، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا إِمَّا غَيْرُ مَوْجُودٍ - أَعْنِي: مَنْ تَكُونُ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ - وَإِمَّا نَادِرٌ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِيمَنْ هَذِهِ حَالُهَا مِنَ النِّسَاءِ إِذَا وُجِدَتْ، فَقِيلَ: تَنْتَظِرُ حَتَّى تَحِيضَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ
(3)
: تَتَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: أَبِي حَنِيفَةَ
(4)
،
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 44)؛ حيث قال: "وأجمع أهل العلم على أنَّ عدة الحرة المسلمة التي ليست بحاملٍ من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرًا - مدخولًا بها وغير مدخولٍ بها - للصغيرة لم تبلغ، أو للكبيرة قد بلغت".
(2)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لأبي بكر الصقلي (10/ 560)؛ حيث قال: "قال مالكٌ: وعدة الحامل وضع آخر حمل في بطنها".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 179)؛ حيث قال: "وروى ابن القاسم عن مالكٍ قال: إذا كانت عادتها في حيضتها أكثر من أمر العدة، ولم تسترب نفسها، ورآها النساء فلم يروا بها حملًا، تزوجت إن شاءت".
(4)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود (3/ 172)؛ حيث قال: " (وعدة الكل في الحمل وضعه)؛ لعموم قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ولأن المقصود التعرف عن براءة الرحم، ولا براءة مع وجود الحمل، ولا شغل بعد وضعه، وإليه الإشارة بقول عمر رضي الله عنه: لو وضعت وزوجها على سريره لانقضت عدتها وحل لها أن تتزوج".
وَالشَّافِعِيِّ
(1)
، وَالثَّوْرِيِّ
(2)
).
لعموم قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
ولأن المقصود أصلًا أن نتعرف على درجة براءة الرحم، ومن المعلوم أنه لا توجد البراءة مع وجود حملٍ.
ولذلك قال عمر رضي الله عنه: "لو وضَعَتْ وزوجها على سريره لانقضت عدتها وحلَّ لها أن تتزوج"
(3)
.
وقوله: "على سريره" يريد النعش الذي يحمل عليه الميت.
وهذا القول من عمر رضي الله عنه مبالغة في الحكم بأن العدة تنقضي بالوضع، فإنها تحل للأزواج ولو كان الوضع قبل أن يدفن زوجها - والله أعلم.
(وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْحَامِلُ الَّتِي يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَجَمِيعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَار
(4)
: عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، مَصِيرًا إِلَى
(1)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 326)؛ حيث قال: "قال الشافعي رحمه الله: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية، فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها على الحرة غير ذات الحمل لقوله صلى الله عليه وسلم لسبيعة الأسلمية ووضعت بعد وفاة زوجها بنصف شهر: "قد حللت فانكحي من شئت"، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وضعت وزوجها على سريره لم يدفن لحلت، وقال ابن عمر: إذا وضعت حلت. قال: فتحل إذا وضعت قبل أن تطهر من نكاح صحيح ومفسوخ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 179)؛ حيث قال: "الذي عليه مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي وجمهور أهل العلم أن الأربعة الأشهر والعشر للمتوفى عنها برءٌ ما لم تسترب نفسها ريبة تنفيها بالحمل، فتكون عدتها وضع حملها حينئذٍ دون مراعاة الأربعة الأشهر والعشر".
(3)
أخرجه مالكٌ في "الموطأ"(2/ 590).
(4)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 77)؛ حيث قال: "واتفقوا أن الحامل المتوفى عنها إن وضعت حملها بعد انقضاء أربعة أشهر وعشر ثم خرجت من دم نفاسها أو انقطع عنها فقد انقضت عدتها".
عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي الطَّلَاقِ. وَأَخْذًا أَيْضًا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ. "أَن سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ وَفِيهِ:"فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا: قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ"
(1)
).
ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف: إلى أن الحامل إذا مات عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل؛ بدليل: أَن سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ.
فهي تقول: فأفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأني قد حللت للأزواج حين وضعت حملي، وأمرني صلى الله عليه وسلم أمر إرشادٍ وبيانٍ - بالتزويج إن بدا لي أن أتزوج، فلا حرج لانقضاء العدة بوضع الحمل.
قوله: (وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِدَّتَهَا آخِرُ الْأَجَلَيْنِ
(2)
، يُرِيدُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ: إِمَّا الْحَمْل، وَإِمَّا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ عِدَّةِ الْمَوْتِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
(3)
رضي الله عنه، وَالْحُجَّةُ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ عُمُومِ آيَةِ الْحَوَامِلِ وَآيَةِ الْوَفَاةِ).
روي عن عليٍّ وابن عباسٍ: أنها تعتد آخر الأجلين.
وتفسيره: أن تمكث حتى تضع حملها، فإن كانت مضت من مدة الحمل من وقت وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرًا فقد حلت، وإن وضعت قبل ذلك تربصت إلى أن تستوفي المدة من الأيام والليالي.
(1)
أخرجه أحمد (26658)، وقال: إسناده صحيحٌ على شرط الشيخين.
(2)
"موطأ مالك"(2/ 589).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 471): عَنْ مَسْرُوقٍ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: "هِيَ آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ ذَلِكَ".
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي عِدَّةِ مِلْكِ الْيَمِينِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مَنْ تَحِلُّ لَه، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً، أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ غَيْرَ أُمِّ وَلَدٍ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ: فَقَالَ الْجُمْهُورُ
(1)
: إِنَّ عِدَّتَهَا نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ قَاسوا ذَلِكَ عَلَى الْديةِ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
: بَلْ عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ مَصِيرًا إِلَى التَّعْمِيمِ).
استدلَّ الجمهور بقول الله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} .
وبأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان"
(3)
.
يعني: أن الحيضة لا تتبعض، فلذلك كانت عدتها حيضتين.
وقال أهل الظاهر: الله عز وجل علَّمنا العدد في الكتاب فقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (5/ 240)؛ حيث قال: "وإن كانت أمة: فعدتها على النصف".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 115)؛ حيث قال: "وعدة الأمة المتزوجة من الطلاق والوفاة كعدة الحرة سواء سواء ولا فرق".
(3)
أخرجه ابن ماجه (2080)، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيفٌ.
وقد علم الله عز وجل إذ أباح لنا زواج الإماء أنه يكون عليهن العدد المذكورات فما فرق عز وجل دين حرةٍ ولا أمة في ذلك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .
ونعوذ بالله تعالى من الاستدراك على الله عز وجل، والقول عليه بما لم يقل، ومن أن نشرع في الدين ما لم يأذن به الله.
فهذه حُجة الظاهريَّة.
قوله: (وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ: فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَاللَّيْث، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَجَمَاعَةٌ
(4)
: عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ
(5)
، وَقَالَ مَالِكٌ
(6)
: وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَهَا السُّكْنَى؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابُهُ
(7)
، وَالثَّوْرِيُّ
(8)
: عِدَّتُهَا ثَلَاثُ
(1)
يُنظر: "المدونة"(2/ 18)، حيث فيها:"أرأيت أم الولد إذا مات عنها سيدها كم عدتها؟ قال: قال مالك: عدتها حيضة".
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 234)، حيث قال:"وعدة أم الولد إذا كانت حاملًا أن تضع حملها، وإن لم تكن حاملًا فحيضة".
(3)
يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(11/ 508)؛ حيث قال: "قال إسحاق بن منصور: قلت: عدة أم الولد؟ قال: تعتد حيضةً إذا توفي سيدها، والمدبرة تعتد حيضةً".
(4)
ينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 217)؛ ينظر: "فقال مالكٌ والشافعي وأصحابهما والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وأبو ثور وأبو عبيد عدتها حيضة".
(5)
أخرج الشافعي (1296): عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ يُتَوَفَّى عَنْهَا سَيِّدُهَا، قَالَ: تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ.
(6)
يُنظر: "المدونة"(2/ 8)؛ حيث قال: "كم عدة الأمة المطلقة إذا كانت ممن لا تحيض من صغرٍ أو كبرٍ ومثلها يوطأ وقد دخل بها في قول مالك؟ قال: ثلاثة أشهرٍ".
(7)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (5/ 242)، حيث قال:، "وعدة أم الولد إذا أعتقت بموت المولى إن كانت حاملًا: وضع حملها، وإن كانت غير حامل: فثلاث حيض".
(8)
أخرجه عبد الرزاق (12928): عن الثوري قال: "تعتد المدبرة ثلاث حيض".
حِيَضٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
(1)
، وَابْنِ مَسْعُودٍ
(2)
، وَقَالَ قَوْمٌ
(3)
: عِدَّتُهَا نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. وَقَالَ قَوْمٌ
(4)
: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الحُرَّةِ أَرْبَعَة أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
اختلفوا في عدة أم الولد:
1 -
فقال مالك والشافعي وأحمد: عدتها حيضة.
2 -
وقال الأحناف؛ عدتها ثلاث حيض.
3 -
وذهب قومٌ في ذلك إلى حديث عمرو بن العاص وقالوا: تعتد أم الولد أربعة أشهر وعشرًا كالحرة.
قوله: (وَحُجَّةُ مَالِكٍ: أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً فَتَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَلَا مُطَلَّقَةً فَتَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اسْتِبْرَاءُ رَحِمِهَا، وَذَلِكَ يَكُونُ بِحَيْضَةٍ تَشْبِيهًا بِالْأَمَةِ يَمُوتُ عَنْهَا سَيِّدُهَا، وَذَلِكَ مَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَلَا بِأَمَةٍ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ أَمَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ رَحِمَهَا بِعِدَّةِ الْأَحْرَارِ).
أي أنه: لما لم تكن أم الولد من الزوجات المطلقات لم تؤمر إذا توفي سيدها بثلاث حيض، ولما لم تكن من الزوجات المتوفى عنهن
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12932): عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "عِدَّةُ السُّرِّيَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (18744): عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا:"ثَلَاثُ حِيَضٍ إِذَا مَاتَ عَنْهَا".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 271)؛ حيث قال: "وقالت طائفةٌ: عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها زوجها. روينا هذا القول عن عطاء، وطاوس، وبه قال قتادة".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 269)؛ حيث قال: "وقالت طائفةٌ: عدتها في الوفاة: أربعة أشهر وعشرًا".
أزواجهن لم تؤمر بعدة أربعة أشهر وعشرًا، فلما لم تكن مطلقة ولا متوفى عنها زوجها أمرت أن تستبرئ بحيضةٍ كما يفعل بها في البيع، فإن لم تحض فثلاثة أشهرٍ، إلا أن تستريب نفسها فتقعد حتى تذهب الريبة، إلا أن يأتي عليها من الزمان ما لا تكون حاملًا في مثله، فيكون ذلك براءةً لها، وتنكح إن شاءت.
قوله: (أَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا لَهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: "لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَة أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
(1)
، وَضَعَّفَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ
(2)
).
قال بعضهم: هذه قصةٌ غير صحيحةٍ.
قوله: (لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا): يحتمل وجهين:
الأول: أن يريد بذلك سنة كان يرويها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصًّا.
والآخر: أن يكون ذلك منه على معنى السنة في الحرائر.
ولو كان معنى السنة التوقيف لأشبه أن يصرَّح به، وأيضًا فإنَّ التلبيس لا يقع في النصوص، وإنما يكون غالبًا في الرأي.
وتأوَّله بعضهم: على أنه إنما جاء في أم ولدٍ بعينها كان أعتقها صاحبها ثم تزوجها، وهذه إذا مات عنها مولاه الذي هو زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشرًا إن لم تكن حاملًا بلا خلاف بين العلماء.
(1)
أخرجه أبو داود (2308)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسنٌ.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 217)؛ حيث قال: "وضعف أحمد بن حنبل وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص في ذلك وهو حديثٌ رواه قتادة عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب قال: قال عمرو بن العاص: لا تلبسوا علينا سنة نبينا
…
".
قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ تَشْبِيهًا بِالزَّوْجَةِ الْأَمَةِ: فَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَهِيَ مُتَرَدِّدَةُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ، وَأَمَّا مَنْ شَبَّهَهَا بِالزَّوْجَةِ الْأَمَةِ فَضَعِيفٌ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَنْ شَبَّهَهَا بِعِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ)
(1)
.
قال بعضهم: على الأمة المتوفى عنها زوجها عدة الوفاة؛ لأنها من الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، إلا أن عدتها في الوفاة شهران وخمسُ ليالٍ، وعدتها في الطلاق قرآن، من أجل أن القرء الواحد لا نصف له ولا يتبعض، فإنما عليها قرآن، وقال الله تبارك وتعالى في الإماء:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، فلما كان عليها نصف حد الحرة، كانت عدتها مثل نصف عدة الحرة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمُتْعَةِ]
اختلف العلماء في المتعة، فقالت طائفةٌ: المتعة واجبةٌ للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يُسمِّ لها صداقًا، وقالوا: ولا يُجمع مهرٌ مع المتعة.
وقالت طائفةٌ: لكُلِّ مُطلَّقة متعةٌ مدخولًا بها كانت أو غير مدخولٍ بها، إذا وقع الفراق من قبله ولم يتم إلا به إلا للتي سَمَّى لها وطلَّقها قبل الدخول.
(1)
سبق توثيقه.
قوله: (وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ
(1)
، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(2)
: هِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَالَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا فِي بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا مُسَمًّى؛ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
: هِيَ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إِذَا كَانَ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 120)؛ حيث قال: "مالك عن ابن شهاب أنه قال: لكل مطلقة متعةٌ، قال مالك: وبلغني عن القاسم بن محمد مثل ذلك، قال أبو عمر: اختلف العلماء فيمن تجب لها المتعة من المطلقات؛ فروي عن ابن عمر من وجوه ما ذكره مالك عن نافع عنه، وبه قال قتادة وإبراهيم وشريح القاضي ومجاهد وعطاء ونافع كل هؤلاء يقول: لا متعة للتي طلقت قبل الدخول وقد كان فرض لها صداق، ويقولون: حسبها نصف الصداق، وعلى هذا جمهور العلماء في التي طلقت قبل الدخول بها وقد كان فرض لها".
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 3)؛ حيث قال: "المتعة فرضٌ على كل مطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا - أو آخر ثلاث - وطئها أو لم يطأها - فُرض لها صداقها أو لم يفرض لها شيئًا -: أن يُمتِّعها، وكذلك المفتدية أيضًا ويجبره الحاكم على ذلك؛ أحب أم كره".
(3)
يُنظر: "المدونة"(2/ 238)؛ حيث فيها: "وقال لي مالك: ليس للتي طلقت ولم يدخل بها إذا كان قد سمى لها صداقها متعة، ولا للمبارئة ولا للمفتدية ولا للمصالحة ولا للملاعنة متعة قد دخل بها أم لا".
(4)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 110)؛ حيث قال: " (و) تجب (متعة لمفوضةٍ) وهي من زوجت بلا مهر (طلقت قبل الوطء) ".
(5)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 398)؛ حيث قال: "يجب (لمطلقةٍ قبل وطء متعة) على الجديد (إن لم يجب) لها (شطر مهر) بأن كانت مفوضةً ولم يفرض لها شيءٌ وادعى الإمام فيه الإجماع
…
(وكذا) يجب (لموطوءةٍ) متعة (في الأظهر) الجديد سواء أفوض طلاقها إليها فطلقت أو علقه بفعلها ففعلت
…
(وفرقة لا بسببها) بأن كانت من الزوج كردته ولعانه وإسلامه، أو من أجنبيٍّ كإرضاع أمِّ الزوج أو بنت زوجته، ووطء أبيه أو ابنه لها بشبهةٍ حكمها (كطلاقٍ) في إيجاب المتعة وعدمه أي: إذا لم يسقط بها الشطر كما اقتضاه كلام المصنف".
الْفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ إِلَّا الَّتِي سُمِّيَ لَهَا وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ).
فمثلًا إن فرض لها بعد العقد، ثم طلقها قبل الدخول، فلها نصف ما فرض لها، ولا متعة عند بعضهم.
وقال بعضهم كأبي حنيفة: أن لها المتعة، يسقط المهر؛ لأنه نكاح عري عن تسميته، فوجبت به المتعة، كما لو لم يفرض لها.
ولكن الله تعالى يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} .
قوله: (وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49]، فَاشْتَرَطَ الْمُتْعَةَ مَعَ عَدَمِ الْمَسِيسِ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، فَعُلِمَ أَنَّه لَا مُتْعَةَ لَهَا مَعَ التَّسْمِيَةِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ؛ لِأنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِبْ لَهَا الصَّدَاقُ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَجِبَ لَهَا الْمُتْعَة، وَهَذَا لَعَمْرِي مُخَيِّلٌ، لِأَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يجِب لَهَا صَدَاقٌ أُقِيمَتِ الْمُتْعَةُ مَقَامَه، وَحَيْثُ رَدَّتْ مِنْ يَدِهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ لَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ).
كأن أبا حنيفة رحمه الله يقول: وجدنا النساء في المتعة على ثلاثة أنواع، فكانت الآية التي فيها ذكر المعين لنوعين منهنَّ من المطلقات بعد الدخول إن كان فُرض لها صداقٌ أو لم يُفرض، والمطلقات قبل الدخول مع تسمية صداقهن، فلأولئك المهور كوامل بالمسيس، ولهؤلاء الشطر منها بالتسمية، فلما صار هذان الحقان واجبين، كانت المتعة حينئذٍ تَقْوى من الله غير واجبةٍ، ووجدنا الآية التي فيها ذكر المُوسِر والمُقْتر هي للنصف الثالث، وهي للمُطلَّقات من غير دخولٍ بهنَّ ولا فَرْضٌ لهُنَّ، وذلك
قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ، فصارت المتعة لهن حتمًا واجبًا، ولولا هذه المتعة لصار عقد النكاح إذًا يذهب باطلًا من أجل أنهن لم يمسسن، فيستحققن الصدقات ولم يفرض لهن، فيستحققن أيضًا فيها، فلا بُدَّ من المُتعَةِ على كُلِّ حالٍ.
قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَيَحْمِلُ الْأَوَامِرَ الْوَارِدَةَ بِالْمُتْعَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236] عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، إِلَّا الَّتِي سُمِّيَ لَهَا وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ: فَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا مُتْعَةَ لَهَا لِكَوْنِهَا مُعْطِيَةً مِنْ يَدِهَا، كَالْحَالِ فِي الَّتِي طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ فَرْضِ الصَّدَاقِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ يَقُولُونَ: هُوَ شَرْعٌ فَتَأْخُذُ وَتُعْطِي).
احتج الشافعي بما جاء عن ابن عمر، أنه قال:"لكل مطلقةٍ متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداقٌ ولم تمس، فحسبها نصف ما فرض لها"
(1)
.
وكأنَّ ابن عمر استدل بقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، فاستدل بالقرآن على أنها مخرجةٌ من جميع المطلقات.
ولعله رأى أنه إنما أريد أن تكون المطلقة تأخذ بما استمتع به زوجها منها عند طلاقها شيئًا، فلما كانت المدخول بها تأخذ شيئًا، وغير المدخول بها تأخذ أيضًا إذا لم يفرض لها، وكانت التي لم يدخل بها، وقد فرض لها تأخذ بحكم الله نصف المهر، وهو أكثر من المتعة، ولم يستمتع منها بشيءٍ، فلم تجب لها متعةٌ.
(1)
أخرجه مالكٌ في "الموطأ"(2/ 573).
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالْمُتْعَةِ عَلَى النَّدْبِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] أَيْ: عَلَى الْمُتَفَضِّلِينَ الْمُتَجَمِّلِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ الْإِجْمَالِ وَالْإِحْسَانِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ).
احتج من لم يوجب المتعة أصلًا، فقال: قوله تعالى: {وَمَتِّعوُهُنَّ} ، وإن كان ظاهره الوجوب، فقد قرن به ما يدل على الاستحباب، وذلك أنه تعالى قرن بين المعسر والموسر، والواجبات في النكاح على ضربين، إما أن يكون على حسب حال المنكوحات كالصداق الذي يرجع فيه إلى صداق مثلها، أو يكون على حسب حالهما جميعًا كالنفقات، والمتعةٌ خارجةٌ من هذين المعنيين؛ لأنه اعتبر فيها حال الرجل وحده بأن يكون على الموسر أكثر مما على المعسر، وأيضًا فإنَّ المتعة لو كانت فرضًا كانت مقدرةً معلومةً كسائر الفرائض في الأموال، ولم نر فرضًا واجبًا في المال غير معلومٍ، فلما لم تكن كذلك خرجت من حدِّ الفرائض إلى حدِّ الندب، وصارت كالصلة والهدية، وأيضًا فإن الله تعالى لما علَّقها بقوم دل على أنها غير واجبةٍ؛ لأن الواجبات ما لزممت الناس عمومًا كالصلاة والصيام والحج والزكاة، فلما قال:{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، و {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ؛ سقط وجوبها عن غيرهم.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُطَلَّقَةِ الْمُعْتَدَّةِ هَلْ عَلَيْهَا إِحْدَادٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهَا إِحْدَادٌ)
(1)
.
قال مالك: لا إحداد على مطلقة، وبه قال الشافعي
(2)
.
(1)
يُنظر: "المدونة"(2/ 12)؛ حيث فيها: "قال مالكٌ: لا إحداد على مطلقةٍ مبتوتةٍ كانت أو غير مبتوتةٍ، وإنما الإحداد على المتوفى عنها زوجها وليس على المطلقة شيءٌ من الإحداد".
(2)
ينظرـ: "الأم" للشافعي (5/ 246)؛ حيث قال: "وكانت المطلقة إذا كان لها السكنى وكان للمتوفى عنها بالسنة وبأنه يشبه أن يكون لها السكنى؛ لأنهما معًا في عدة غير ذواتي زوجين يشبه أن يكون على المعتدة من طلاقٍ لا يملك زوجها عليه فيه الرجعة إحداد كهو على المتوفى عنها. وأحب إلي للمطلقة طلاقًا لا يملك زوجها فيه عليها =
وقال أبو حنيفة: عليها الإحداد
(1)
.
واختُلف عن أحمد
(2)
.
ودليل مالك:
1 -
أن هذه مطلقةٌ فلا إحداد عليها؛ كالرجعية.
2 -
أنَّ المُتوفَّى فارق زوجته وهو على نهاية الإشفاق عليها والرغبة فيها، ولم تكن المفارقة من قِبَله فلزمها لذلك الإحداد وإظهار الحزن، والمُطلَّقة فارقها مختارًا لفُراقها مُقابحًا لها فلا يَتعلَّق بها حُكم الإحداد؛ كالملاعِنة.
(بَابٌ فِي بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: (اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ إِذَا وَقَعَ التَّشَاجُرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
(3)
؛ وَجُهِلَتْ أَحْوَالُهُمَا فِي
= الرجعة تحد إحداد المتوفى عنها حتى تنقضي عدتها من الطلاق لما وصفت، وقد قاله بعض التابعين: ولا يبين لي أن أوجبه عليها؛ لأنهما قد يختلفان في حالٍ وإن اجتمعا في غيره".
(1)
"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (5/ 244)؛ حيث قال: "مسألةٌ: وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها والمطلقة، قال: (وعلى المعتدة المسلمة من الوفاة والطلاق اجتناب الزينة والطيب) ".
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (3/ 210)؛ حيث قال: "وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة، روايتان: إحداهما: لا إحداد عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا على زوجها". فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، وهذه عدة الوفاة، ولأنها مطلقةٌ أشبهت الرجعية. والثانية: يجب عليها؛ لأنها معتدة بائن، أشبهت المتوفى عنها زوجها".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 29)؛ حيث قال: "وأجمع العلماء أن معنى قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أن المخاطب بذلك الحاكم والأمراء، وأن الصلح فيما بينهما للزوجين وأن قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} في الحكمين".
التَّشَاجُرِ - أَعْنِي: الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] الْآيَةَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ
(1)
: أَحَدُهُمَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَالْآخَرُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، إِلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُرْسَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا لَمْ يَنْفُذْ قَوْلُهُمَا
(2)
، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَافِذٌ بِغَيْرِ تَوْكيلٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ
(3)
).
لو أن رجلًا وامرأته اشتكيا إلى السلطان، وكل واحدٍ منهما يدعي أن صاحبه مضرٌّ به فلم يتبين للسلطان من الناشز منهما، والناشز منهما هو المبغض المسيء الصحبة لصاحبه، فإذا جهل ذلك من أمورهما وجب على السلطان أن يبعث رجلًا صالحًا من أهل الزوجة، وآخر من أهل الزوج، فيحكمهما بين ذلك الرجل وامرأته، ويفوض إليهما أمرهما.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ هَلْ يُحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
(4)
: يَجُوزُ قَوْلُهُمَا فِي الْفُرْقَةِ وَالاجْتِمَاعِ بِغَيْرِ تَوْكيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 29)؛ حيث قال: "وأجمعوا أنهما لا يكونان إلا من أهل الزوجين، إلا أن لا يوجد في أهلها من يصلح لذلك، فيبعث من غيرهما".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 29)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما".
(3)
الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 29)؛ حيث قال: "وأجمعوا أن قولهما نافذٌ في الجمع بينهما بغير توكيلٍ من الزوجين".
(4)
"المعونة على مذهب عالمٍ المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 876)؛ حيث قال: "إنهما إن رأيا أن يفرقا فرقًا لا على طريق التوكيل بل على وجه الحكم".
إِذْنٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ
(1)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
وَأَصْحَابُهُمَا: لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يُفَرِّقَا، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجُ إِلَيْهِمَا التَّفْرِيقَ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ مَا رَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَكَمَيْنِ: إِلَيْهِمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزوْجَيْنِ وَالْجَمْعُ
(4)
، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِيَدِ أَحَدٍ سِوَى الزَّوْجِ أَوْ مَنْ يُوَكِّلُهُ الزَّوْجُ).
يقول بعض أهل العلم: للحكمين ما رأيا من فرقةٍ بينهما أو اجتماعٍ، وينبغي للحكمين أن يسألا أهل المعرفة بهما، ويكشفان عن أمورهما، فإذا بلغا في الكشف عنهما أكثر ما يستطيعان من ذلك حكما بينهما ولزمهما ذلك.
قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْحَكَمَيْنِ يُطَلِّقَانِ ثَلَاثًا، فَقَالَ أبُو الْقَاسِمِ
(5)
: تَكُونُ وَاحِدَةً، وَقَالَ أَشْهَبُ وَالْمُغِيرَةُ: تَكُونُ ثَلَاثًا
(1)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص: 337)؛ حيث قال: "وتصح فرقتهما دون الإمام ودون توكيل الزوجين".
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 208)؛ حيث قال: "وأختار للإمام أن يسأل الزوجين أن يتراضيا بالحكمين ويوكلاهما معًا فيوكلهما الزوج إن رأيا أن يفرقا بينهما فرقًا على ما رأيا من أخذ شيءٍ أو غير أخذه إن اختبرا توليا من المرأة عنه".
(3)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (9/ 4738)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: إذا تشاقَّ الزوجان بعث القاضي حكمين، ينظران بينهما، وليس للحكمين أن يطلقاها، إلا أن يجعل الزوج ذلك إليهما".
(4)
أخرج عبد الرزاق (11883): عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ حَكَمًا مِنَ النَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ حَكَمًا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَكَمَيْنِ:"أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا"، فَقَالَ الزَّوْجُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ:"كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ حَتَّى تَرْضَى بِكِتَاب اللَّهِ لَكَ وَعَلَيْكَ"، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى لِي وَعَلَيَّ.
(5)
يُنظر: "المدونة"(2/ 268)؛ حيث فيها: "قلت: فلو حكم واحدٌ بواحدةٍ وحكم الآخر باثنتين؟ قال: إذا يكونان مجتمعين من ذلك على الواحدة. قلت: فلو طلق =
إِنْ طَلَّقَاهَا ثَلَاثًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الرَّجُلِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا أَنَّهُ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: هَلْ تَدْرِيَان مَا عَلَيْكُمَا؟ إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقًا فَرَّقْتُمَا، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِمَا فِيهِ لِي وَعَلَيَّ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ
(1)
، قَالَ: فَاعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ إِذْنَه، وَمَالِكٌ يُشَبِّهُ الْحَكَمَيْنِ بِالسُّلْطَانِ، وَالسُّلْطَانُ يُطَلِّقُ بِالضَّرَرِ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا تبَيَّنَ).
إن رأيا أن يفرقا بينهما على ألا يأخذ واحدٌ منهما من صاحبه شيئًا فعلاه، وإن رأيا أن يأخذ الرجل من المرأة شيئًا ويطلقاها عليه فَعَلا، وإن رأيا أن يقرَّاهما على نكاحهما فعَلا، فإن رأيا أن يطلقاها عليه بواحدةٍ فَعَلا، ولا يطلقاها عليه بأكثر من واحدةٍ في قول بعضهم.
وقال آخرون: ما طلقا به من واحدةٍ أو ثلاثٍ لزم الزوج.
= واحدٌ اثنتين والآخر ثلاثًا؟ قال: قد اجتمعا على الواحدة فما زاد فهو خطأ؛ لأنهما لم يدخلا بما زاد على الواحدة أمرًا يدخلان به صلاحًا للمرأة وزوجها إلا والواحدة تجزئ من ذلك، وكذا لو حكم واحدٌ بواحدةٍ والآخر بالبتة؛ لأنهما مجتمعان على الواحدة، وانظر كلما حكم به أحدهما هو الأكثر مما حكم به صاحبه على أنهما قد اجتمعا منه على ما اصطلحا مما هو صلاحٌ للمرأة وزوجها، فما فوق ذلك من الطلاق باطلٌ. قلت: وكذلك لو حكما جميعًا واجتمعا على اثنتين أو ثلاث؟ قال: هو كما وصفت من أنهما لا يدخلان بما زاد على الواحدة لهما صلاحًا، بل قد أدخلا مضرةً وقد اجتمعا على الواحدة فلا يلزم الزوج إلا واحدة".
(1)
سبق تخريجه.
بسم الله الرحمن الرحيم
[كِتَابُ الإِيلاءِ]
(1)
(وَالأَصْلُ فِي هَذَا البَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]، وَ"الإِيلَاءُ": هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَلَّا يَطَأَ زَوْجَتَه، إِمَّا مُدَّةً هِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، أَوْ بِإِطْلَاقٍ عَلَى الاخْتِلَافِ المَذْكُورِ فِي ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ).
(1)
يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 416)، حيث قال:"الإيلاء بالمد: الحلف، وهو: مصدر، يقال: آلى بمدة بعد الهمزة، يؤلي، إيلاء وتألى، وأتلى، والألية، بوزن فعيلة: اليمين".
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 261)، حيث قال:"الإيلاء في الشرع عبارة عن اليمين على ترك وطء المنكوحة أربعة أشهر أو أكثر".
مذهب المالكية، يُنظر:"المعونة" للقاضي عبد الوهاب (ص 882)، حيث قال:"والإيلاء الشرعي هو: الحلف بيمين يلزم بالحنث فيها حكم على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر حرة كانت أو أمة مسلمة كانت أو كتابية".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 158)، حيث قال:"الإيلاء مصدر آلى، أي: حلف (هو) لغة: الحلف، وكان طلاقًا في الجاهلية فغير الشرع حكمه وخصه بأنه (حلف زوج يصح طلاقه) بالله أو صفة له كما يأتي في الأيمان".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 353)، حيث قال:"شرعًا (حلف زوج) لا سيد (يمكنه الجماع) عنين ومجبوب (بالله تعالى أو بصفة من صفاته) لا بنذر أو طلاق ونحوه (على ترك وطء امرأته الممكن جماعها) لارتقاء ونحوها".
والإيلاء في اللغة: هو القَسَم، تقول:(آليتُ أن أَفعَل كذا)، أي: أقسَمتُ وحلَفتُ أن أَفعلَه، وتقول:(آليتُ ألا أَفعَل كذا)، أي: أقسَمتُ ألا أَفعَلَه.
وفي الشرع: أن يَحلِف الرجل ألَّا يطأ زَوجَتَهُ مدَّة أربعة أشهُرٍ، أو أكثر مِن أربعةِ أَشهُرٍ، وَفْقَ الخلاف الموجود بين العلماء في هذه المسألة.
وجمهور أهل العلم قد ذهبوا إلى أن الإيلاء هو الحلف على عدم وطءِ الزوجة أكثر من أربعة أشهر
(1)
، أمَّا القول الآخر بأن الإيلاء يكون أربعة أشهر إنما هو مذهب الأحناف
(2)
كما سيأتي، ولذلك أَوْرَدَ المؤلِّف قول الجمهور أوَّلًا.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 427)، حيث قال:" (قوله: بمنع وطء زوجته)، أي: سواء كانت اليمين صريحة في منع الوطء نحو: والله لا أطؤك أكثر من أربعة أشهر أو مستلزمة لذلك كحلفه أن لا يلتقي معها أو لا يغتسل من جنابة منها".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 158 - 159)، حيث قال:" (حلف زوج يصح طلاف) بالله أو صفة له كما يأتي في الأيمان أو بما ألحق بذلك مما يأتي (ليمتنعن من وطئها)، أي: الزوجة ولو رجعية ومتحيرة لاحتمال الشفاء ومحرمة لاحتمال التحلل لنحو حصر وصغيرة بشرطها الآتي سواء أقال في الفرج أم أطلق وسواء أقيد بالوطء الحلال أم سكت عن ذلك (مطلقًا) بأن لم يقيد بمدة، وكذا إن قال: أبدًا أو حتى أموت أنا أو زيد أو تموتي ولا يرد عليه؛ لأنه لاستبعاده كالزائد على الأربعة، ولو قال: لا أطأ، ثم قال: أردت شهرًا مثلًا دين (أو فوق أربعة أشهر)، ولو بلحظة لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 155)، حيث قال:" (حلف زوج يمكنه الوطء بالله تعالى أو بصفته)، أي: الله تعالى كالرحمن والرحيم ورب العالمين وخالقهم (على ترك وطء زوجته) لا أمته أو أجنبية (الممكن جماعها في قبل أبدًا أو يطلق أو فوق أربعة أشهر) ".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية" للمرغيناني (2/ 259)، حيث قال:"وإذا قال الرجل لامرأته: والله لا أقربك، أو قال: والله لا أقربك أربعة أشهر فهو مول" لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] الآية "فإن وطئها في الأربعة الأشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة"؛ لأن الكفارة موجب الحنث، "وسقط الإيلاء"؛ لأن اليمين ترتفع بالحنث، وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقة".
وقد جاء في الحديث الصحيح عن جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، حَدَّثَ "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"
(1)
، فقوله:"يتألَّى عليَّ"
(2)
، أي: يُقسِمُ عليَّ، ولذلك أحبطَ الله عملَهُ وغفرَ للآخَر؛ لأنَّ التعذيب والعفو كلاهما من الأمور التي تخضع لإرادة الله سبحانه تعالى. هذا إلى جانب ما ورد في السُّنة المطهَّرة من حديث رسول الله، أنه صلى الله عليه وسلم:"آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ نَزَلَ إِلَيْهِنَّ"
(3)
.
وأَصْلُ هذَا الباب: هو الآية الكريمة التي أوردها المؤلف في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، فهي نَصٌّ صريحٌ في الإيلاء، وبالرغم من كونها آيةً واحدةً إلا أن المتأمّل فيها يجدها قد اشتمَلَت على جملةٍ من الأحكام، وهذه الأحكام قد تَناوَلَها المؤلِّف في عشر مسائل، وتناوَلَتها الكُتُب المُطَوَّلة في أضعاف ذلك، وهذه هي عادة المؤلف حيثُ يتناول أُمَّات المسائل ولا يتتبع المسائل الفرعية، ولذا فإن هذه الآية أصلٌ في باب الإيلاء.
فقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} . أي: يَحلِفُون، وفي قراءة أُبَيِّ بن كعبٍ وابن عباسٍ جاءت:{لِلَّذِين يُقْسِمُون}
(4)
، وقد فسَّرَها ابن عباسٍ بأن معناها أنهم يَحلِفون بالله سبحانه وتعالى، وسيأتي أن هذا التفسير قد احتجَّ به القائلون
(1)
أخرجه مسلم (2621).
(2)
يُنظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 62)، حيث قال:"من يتأل على الله يكذبه، أي: مَن حكم عليه وحلف، كقولك: والله ليدخلن الله فلانًا النار ولينجحن الله سعي فلان، وهو من الألية: اليمين. يقال: آلى يولي إيلاء، وتألى يتألى تأليًا، والاسم الألية".
(3)
أخرجه البخاري (1910)، ومسلم (1085).
(4)
ذكرها ابن خالويه في "مختصر في شواذ القرآن"(ص 21) عن ابن عباس، وينظر:"المحرر الوجيز" لابن عطية (1/ 302)، حيث قال:"قرأ أُبيّ بن كعب وابن عباس: (للذين يقسمون)، ويؤلون معناه يحلفون".
باقتصار الإيلاء على أن يكون باسمٍ من أسماء الله تعالى أو صفةٍ من صفاته عز وجل؛ فيُستَفَاد من هذا أن الإيلاء إنما يَحصُل إذا وُجِد يمينٌ، أما إذا لم يكن يمينٌ فإن الإيلاء لا يَحصُل، فلو أن إنسانًا تَرَكَ زَوجَتَه دون أن يُجامِعَها فالصحيح في هذا الفعل منه أنه لا ينطلق عليه اسم الإيلاء، وإن كان في المسألة شيءٌ من الخلاف.
ومن المعلوم أن عبد الله بن عباسٍ هو حَبْرُ هذه الأمَّة، وهو الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُفقِّهَه اللّهُ في الدِّين ويُعلِّمَه التأويلَ، فهو مِن أَعلَمِ الصحابة بكتاب الله عز وجل وأَكثَرِهم له فَهْمًا
(1)
.
ومن المسائل التي يتناولها هذا الباب:
سبب الإيلاء: بمعنى أن الرجل الذي يُولِي من زوجته ويحلف ألَّا يطأها أربعةَ أشهرٍ أو أكثر من ذلك، هل يُولِي منها بسبب الغضب فقط، أم أن إيلاءَه منها يُعتَبَرُ في كلِّ أحواله.
وقد وَرَدَ في هذا أثرٌ عن عليِّ بن أبي طالب
(2)
وعبد الله بن عباسٍ
(3)
رضي الله عنهما أنهما قالا: "الإيلاء في حالة الغضب".
والصحيح: أن الإيلاء لا يقتصر على حالة الغضب، وإنما يكون في كلِّ الحالات؛ لأن الآية قد ورَدَت مُطلَقةً في هذا الشأن.
ولذلك وَرَدَ عن الإمام التابعي الجليل محمد بن سيرين أنه ناظَرَ رجلًا، فاحتَجَّ الرجل على ابن سيرين بهذا الأثر الوارد عن عليٍّ باقتصار الإيلاء على وقت الغضب، فكان جواب ابن سيرين رحمه الله أن أورَدَ له الآية
(4)
، فَسَكَتَ الرجلُ حينئذٍ وتوقف لَمَّا تَبَيَّنَ له رجحانُ قول ابن سيرين
(1)
أخرجه البخاري (143)، ومسلم (2477) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 133).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور (2/ 49).
(4)
أخرجه سعيد بن منصور (2/ 49).
وقوةُ ما استدلَّ به؛ لأن هناك فرقًا بين الاستدلال بكلام الله سبحانه وتعالى والاستدلال بكلام أيّ إنسان حتى لو كان من الصحابة، فقول الله سبحانه وتعالى مُقدَّمُ على قول مَن عداه.
قوله: (وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ فِي الإِيلَاءِ فِي مَوَاضِعَ
(1)
، فَمِنْهَا: هَلْ تُطَلَّقُ المَرْأَةُ بِانْقِضَاءِ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ المَضْرُوبَةِ بِالنَّصِّ لِلْمُولِي، أَمْ إِنَّمَا تُطَلَّقُ بِأَنْ يُوقَفَ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ؛ فَإِمَّا فَاءَ، وَإِمَّا طَلَّقَ؟).
ومعنى "فَاءَ"، أي: رَجَعَ إلى وطءِ زوجته وجِماعِها
(2)
.
والمؤلف هاهنا يُقدِّمُ - كعادته - مَدخلًا لمسائله، أو رؤوس أقلامٍ كما نسميها اليوم.
وهذه المسألة تُسَمَّى مسألة الفيئة، فإن الله تعالى يقول:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226، 227]، وهذه المسألة محلّ خلافٍ بين أهل العلم، حيثُ ذهب الحنفية إلى أن الفيئة يشترط فيها أن تكون أثناء مدّة الإيلاء، بحيثُ إذا انتهت المدَّة وَجَبَ وقوع الطلاق
(3)
، أمَّا الأئمة (مالكٌ
(4)
، والشافعي
(5)
، وأحمد
(6)
) فإنهم ذهبوا إلى أن ذلك يتوقَّف على
(1)
سيأتي تخريجها في المتن.
(2)
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 126)، حيث قال:"الفيء في كتاب الله تعالى على ثلاثة معان مرجعها إلى أصل واحد، وهو الرجوع. قال الله تعالى في المولين من نسائهم: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}. وذلك أن المولي حلف أن لا يطأ امرأته فجعل الله مدة أربعة أشهر بعد إيلائه، فإن جامعها في الأربعة أشهر فقد فاء، أي: رجع عما حلف عليه من أن لا يجامعها، إلى جماعها".
(3)
سيأتي تخريجه في المتن.
(4)
سيأتي تخريجه في المتن.
(5)
سيأتي تخريجه في المتن.
(6)
سيأتي تخريجه في المتن.
مطالَبة الزوجة، بحيثُ إن طالَبَتا بالفيئة أُجبِرَ عليها الزوج، فإن لم يَفِئْ أُمِرَ بالطلاق، وإلا طَلَّقَ عليه الحاكم لوقوع الضرر على الزوجة، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرَر ولا ضرار"
(1)
.
قوله: (وَمِنْهَا: هَلِ الإِيلَاءُ يَكُونُ بِكُلِّ يَمِينٍ، أَمْ بِالأَيْمَانِ المُبَاحَةِ فِي الشَّرْعِ فَقَطْ؟).
الأصل أن المسلم ينبغي له عدم الحلف بغير الله سبحانه وتعالى؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"
(2)
، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم:"مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تحلِفُوا بآبائكم"
(4)
، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة الثابتة في عدم جواز الحلف بغير الله سبحانه تعالى أو بصفةٍ من صفاته، لا بمخلوقٍ مهما كان ولو كان نبيًّا من الأنبياء أو ملَكًا من الملائكة، فهذه من المسائل العقدية المتفَق عليها.
أما محلّ الخلاف الذي يشير إليه المؤلف فهو ما يتعلق بالشروط، فالعلماء يختلفون في تعليق الشروط؛ لأنَّهم يُلحِقونها بالقسَم حتى وإن لم يَرِد فيها قسَمٌ، كأن يقول لزوجته:(إن وطئتكِ فعبدي حُرّ)، أو:(إن وطئتكِ فأنتِ طالِقٌ)، أو:(فأنتِ عَلَيَّ كظَهرِ أمِّي)، أو:(فللّه عَلَيَّ حج أو صيام)، وغير الأقسام التي تأتي على صيغة الشرط.
قوله: (وَمِنْهَا: إِذا أَمْسَكَ عَنِ الوَطْءِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، هَلْ يَكُونُ مُولِيًا أَمْ لَا؟).
هذا محلّ خلافٍ، والصحيح: أنه لا يكون موليًا بذلك.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني بمجموع طرقه في "السلسلة الصحيحة"(250).
(2)
أخرجه أبو داود (3251) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2561).
(3)
أخرجه البخاري (2679)، ومسلم (3/ 646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البخاري (6648)، واللفظ له، ومسلم (1646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله: (وَمِنْهَا: هَلِ المُولِي هُوَ الَّذِي قَيَّدَ يَمِينَهُ بِمُدَّةٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَقَطْ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ أَوِ المُولِي هُوَ الَّذِي لَمْ يُقَيِّدْ يَمِينَهُ بِمُدَّةٍ أَصْلًا؟ وَمِنْهَا: هَلْ طَلَاقُ الإِيلَاءِ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيٌّ؟ وَمِنْهَا: إِنْ أَبَى الطَّلَاقَ وَالفَيْءَ، هَلْ يُطَلِّقُ القَاضِي عَلَيْهِ أَمْ لَا؟).
إنما القاضي حَكَمٌ، ولذلك فالأمور التي تصل إليه عند احتدام النزاع بين طرفين إما أن تكون أمورًا يستقيم فيها الصلح، وإما أن تكون من الأمور التي لا بد من الحُكم فيها لصالح طرفٍ من الأطراف.
ولا شكَّ أن القاضي يسعى إلى الصلح في المقام الأول طالما كان الأمر يمكن الصلح فيه، كما هو الحال في بعض ما يتعلق بالمال أو القصاص؛ لأنَّ الله تعالى يقول:{وَألصُّلْحُ خَيْرٌ} ، والرسول صلى الله عليه وسلم حَضَّ على الصلح ورَغَّبَ فيه وَأَصْلَحَ بين عددٍ من المسلمين
(1)
، ولأن هذا هو منهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهج أئمة الإسلام منذ القِدَم وحتى يومنا هذا.
ولا شكَّ أن خروج الخصمين وهما متحابّان متراضيان - إذا أمكن الصلح بينهما - أحسن وأجمل من أن يخرج أحدهما راضيًا ويخرج الآخر غاضبًا، وإن كان الأجدر بالمؤمن أن يرضى بالحُكم ولو كان لخصمه، فالله سبحانه وتعالى يقول:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} ، ومن شأن المسلم أن يكون مستجيبًا لِحُكم الله دائمًا، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} .
قوله: (وَمِنْهَا: هَلْ يَتَكَرَّرُ الإِيلَاءُ إِذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا مِنْ غَيْرِ إيلَاءٍ حَادِثٍ فِي الزَّوَاجِ الثَّانِي؟).
(1)
أخرج أبو داود (3594) وغيره عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الصلح جائز بين المسلمين"، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1420).
مراد المؤلِّف هاهنا: لو أن إنسانًا آلى من امرأته ثم طَلَّقَهَا، ثم عاد بعد ذلك فَتَزَوَّجَهَا مرَّةً أحْرى، فهل يعود حينئذٍ إلى حُكم الإيلاء مرةً أخرى أم لا. وهي مسألةٌ محل خلافٍ أيضًا.
قوله: (وَمِنْهَا: هَلْ مِنْ شَرْطِ رَجْعَةِ المُولِي أَنْ يَطَأَ فِي العِدَّةِ أَمْ لَا؟ وَمِنْهَا: هَلْ إِيلَاءُ العَبْدِ حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ إِيلَاءِ الحُرِّ أَمْ لَا؟ وَمِنْهَا: هَلْ إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِيلَاءِ تَلْزَمُهَا عِدَّةٌ أَمْ لَا؟).
هذه عشر مسائل أوردها المؤلف، وهناك الكثير من المسائل الأخرى لم يتعرض لها، كشروط الحَكَمَين والأسباب التي قد يحصل فيها الإيلاء؛ لأن من عادته - كما ذَكَرْنا - أن يتناول أمهات المسائل ورؤوسها دون الفرعيات منها.
قوله: (فَهَذِهِ هِيَ مَسَائِلُ الخِلَافِ المَشْهُورَةُ فِي الإِيلَاءِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ الَّتِى تَتَنَزَّلُ مِنْ هَذَا البَابِ مَنْزِلَةَ الأُصُولِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ خِلَافَهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا، وَعُيُونَ أَدِلَّتِهِمْ، وَأَسْبَابَ خِلَافِهِمْ عَلَى مَا قَصدْنَا).
وقول المؤلف هاهنا: (مسألة مسألة) إنما يظهر فيه تأثُّرُه بعلم المنطق الذي اشتغل به، وهذا التأثر نراه ظاهرًا على كلام المؤلف حتى في تَناوُلِهِ لمسائل الفقه.
قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: أَمَّا اخْتِلَافُهُمْ هَلْ تُطَلَّقُ بِانْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ نَفْسِهَا، أَمْ لَا تُطَلَّق، وَإِنَّمَا الحُكْمُ أَنْ يُوقَفَ؛ فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ؟ فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 436)، حيث قال:" (وطلق) عليه (إن قال) بعد أن طولب بالفيئة بعد الأجل (لا أطأ) بعد أن يؤمر بالطلاق فيمتنع؛ فالحاصل: أنه يؤمر بعد الأجل بالفيئة، فإن امتنع منها أمر بالطلاق، فإن امتنع طلق عليه الحاكم، أو جماعة المسلمين عند عدمه بلا تلوم على الصحيح (وإلا) يمتنع من الوطء بأن قال: أطأ ووعد به (اختبر مرة ومرة)، أي: مرة بعد أخرى إلى ثلاث مرات (وصدق) ".
وَالشَّافِعِيَّ
(1)
، وَأَحْمَدَ
(2)
، وَأَبَا ثَوْرٍ
(3)
، وَدَاوُدَ
(4)
، وَاللَّيْثَ
(5)
ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَإِمَّا فَاءَ، وَإِمَّا طَلَّقَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
(6)
، وَابْنِ عُمَرَ
(7)
، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ
(8)
، لَكِنَّ الصَّحِيحَ هُوَ هَذَا).
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 78)، حيث قال:" (فإن وطئ في المدة انحلت) اليمين وفات الإيلاء ولزمته كفارة يمين في الحلف بالله تعالى، ولا يطالب بعد ذلك بشيء (وإلا) بأن لم يطأ فيها (فلها) دون وليها وسيدها، بل يوقف حتى تكمل ببلوغ أو عقل (مطالبته) بعدها وإن كان حلفه بالطلاق (بأن يفئ)، أي: يرجع إلى الوطء الذي امتنع منه بالإيلاء من فاء إذا رجع، (أو يطلق) إن لم يف لظاهر الآية".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 162)، حيث قال:" (ولا تبين زوجة) مول منه (ب) طلاق (رجعي) سواء أوقعه هو أو الحاكم كغير مول (فإن أبى) مول أن يفيء وأن يطلق (طلق حاكم عليه طلقة أو ثلاثًا أو فسخ)؛ لأن الطلاق تدخله النيابة، وقد تعين مستحقه فقام الحاكم فيه مقام الممتنع كأداء الدين".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 359)، حيث قال:"قال سهيل بن أبي صالح عن أبيه: سألت اثني عشر رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن المولي، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى (تمضي) أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق. وهذا قول سعيد بن المسيب، وطاوس، ومجاهد، وبه قال مالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور".
(4)
انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 37)، وفيه قال:"وممن قال يوقف المؤلي بعد الأربعة أشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق مجاهد وطاوس، وبه قال مالك والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود".
(5)
يُنظر: "تفسير القرطبي"(3/ 105)، حيث قال:"وبه قال الليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر".
(6)
أخرجه مالك (17).
(7)
أخرجه البخاري (5290).
(8)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 127) عن علي قال: "إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة".
وأخرجه سعيد بن منصور (2/ 52) عن ابن عمر، قال:"إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة الأشهر قبل أن يفيء فهي تطليقة بائنة".
والخلاف في هذه المسألة ليس كبيرًا، إنما هو خلاف بين الجمهور والحنفية.
مذهب الجمهور:
أما الأئمة الثلاثة مالكٌ
(1)
، والشافعيُّ
(2)
، وأحمدُ
(3)
فَيَرَوْنَ أن الطلاقَ لا يقع إلا بعد تمام الأشهُر الأربعة، فإذا تمت هذه الأشهر الأربعة فللمرأة حينئذٍ أن تطالِبَه بالوطء؛ لأنه حقٌّ من حقوقها، فإن فاءَ ورجَعَ إلى وَطْءِ زَوجَتِهِ فقد رُفِعَ الإشكال هاهنا، إلا أن يكون لديه عُذرٌ كالمرض أو انشغاله بالصلاة أو الطعام أو ما شابه أو أن يكون سجينًا لا يستطيع الوصول لزوجته، فحينئذٍ يُعطَى الفرصةَ حتى يَرتَفِعَ عنه عُذرُه، بِشَرْطِ أَلَّا يُتَّخَذَ هذا وسيلةً إلى التَّهَرُّبِ من الفيئة.
أما إذا لم يَفِئْ أُمِرَ بالطلاق، فإن طَلَّقَ وإلا طَلَّقَ عليه الحاكمُ لِرَفْعِ الضَّرَرِ الواقع على الزوجة بعدم الوطء.
ولذلك أُثِرَ أن عُمَرَ رضي الله عنه سَأَلَ بعض الزَّوْجَاتِ عن المُدَّةِ التي يمكن فيها للمرأة أن تَصبِرَ عن الزوج، فَذُكِرَ له أنها تَصبِرُ شَهرَيْن، فقال: فإذا كان الثالثُ؟ قيل: بَدَأَ يَقِلُّ صبْرُهَا. قال: فإذا انتهى الرابعُ؟ قيل: نَفَذَ صَبْرُهَا. فَأَرْسَلَ بذلك إلى الأجناد الذين يُرابِطُون على الثغور
(4)
.
وفي هذا دلالةٌ جَلِيَّةٌ على اهتمام خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين، وهو منهجٌ - بحمد الله - لا تزال آثارُه باقيةً وسوف تَبْقَى إلى أن يَرِثَ اللّهُ الأرضَ ومَن عليها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفةٌ مِن أمَّتي ظاهِرِين على الحقِّ"
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه في المتن.
(2)
تقدم تخريجه في المتن.
(3)
تقدم تخريجه في المتن.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (7/ 151).
قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَاُبهُ
(1)
وَالثَّوْرِيُّ
(2)
- وَبِالجُمْلَةِ الكُوفِيُّونَ - إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِانْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ إِلَّا أَنْ يَفِيءَ فِيهَا
(3)
، وَهوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ
(4)
، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ
(5)
. وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، أَيْ: فَإِنْ فَاؤُوا قَبْلَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاق، وَمَعْنَى العَزْمِ عِنْدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 227] أَلَّا يَفِيءَ حَتَّى تَنْقَضِيَ
(1)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 259)، حيث قال:"وإذا قال الرجل لامرأته: والله لا أقربك، أو قال: والله لا أقربك أربعة أشهر فهو مول" لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] الآية "فإن وطئها في الأربعة الأشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة": لأن الكفارة موجب الحنث "وسقط الإيلاء"؛ لأن اليمين ترتفع بالحنث وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقة".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 358)، حيث قال:"اختلف أهل العلم في المولي من امرأته تنقضي أربعة أشهر من وقت الإيلاء. فقالت طائفة: إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقة بائنة. كذلك قال عبد الله بن مسعود، وابن عباس .... وبه قال الأوزاعي، وابن أبي ليلى، والثوري، وأصحاب الرأي".
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 38)، حيث قال:"وقال الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح إذا مضت للمؤلي أربعة أشهر بانت منه امرأته بتطليقة بائنة لا يملك فيها رجعة".
(4)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 450)، عن وبرة، عن رجل منهم قال: آلى من امرأته عشرة أيام، فسأل عنها ابن مسعود، فقال. "إن مضت أربعة أشهر فهو إيلاء".
(5)
يُنظر "الأوسط" لابن المنذر (9/ 358)، حيث قال:"اختلف أهل العلم في المولي من امرأته تنقضي أربعة أشهر من وقت الإيلاء. فقالت طائفة: إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقة بائنة. كذلك قال عبد الله بن مسعود، وابن عباس. وروي ذلك عن عثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وبه قال عكرمة، وجابر بن زيد، وعطاء بن أبي رباح، وقبيصة بن ذؤيب، والحسن البصري، ومسروق، وإبراهيم النخعي، وبه قال الأوزاعي، وابن أبي ليلى، والثوري، وأصحاب الرأي".
المُدَّة، فَمَنْ فَهِمَ مِن اشْتِرَاطِ الفَيْئَةِ اشْتِرَاطَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ المُدَّةِ، قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227]، أَيْ: بِاللَّفْظِ {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]).
الدليل الأول لأصحاب هذا المذهب:
القراءة المنسوبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فيهن فإن الله غفور رحيم)
(1)
، (فيهن)، أي: في هذه المدة، فقالوا بِعَوْدِ الضمير هاهنا على الأشهُر.
وهذا الفريق الذي استَدَلَّ بهذه القراءة إنما احتجَّ بأن هذه القراءة لا تخلو إما أن تكون آحادًا فينبغي العمل بها، وإما أن تكون قد نُسِخَت تلاوةً وبَقِيَت حُكمًا فيتعيّن العمل بها، كما هو الحال في الآية التي في سورة النور ثمٍ نُسِخَت تلاوةً وبَقِيَت حُكْمًا:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله)
(2)
.
الدليل الثاني لأصحاب هذا المذهب:
أن الله سبحانه وتعالى قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، قالوا: إن الله سبحانه وتعالى قد ضَرَبَ في هذه الآية أَجَلًا مُحدَّدًا، وهو الأشهُر الأربعة، فإذا انتهت هذه الأشهُر الأربعة وَجَبَ حينئذٍ وقوع الطلاق.
كما أنَّ الحنفيةَ قد تَأَوَّلُوا قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} ، على أن المقصود بعزم الطلاق هاهنا إنما هو الفعل، وهذا التأويل إنما هو حُجَّةٌ على الأحناف لا حُجَّةٌ لهم؛ لأنه يخالف أصولهم.
(1)
يُنظر: "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل" للزمخشري (1/ 269)، حيث قال:"معنى قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} فإن فاؤوا في الأشهر، بدليل قراءة عبد الله: (فإن فاؤوا فيهن فإن الله غفور رحيم) يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء وهو الغالب".
(2)
أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أدلة الجمهور:
أمَّا جمهور العلماء فلهم عدة أدلةٍ على قولهم في هذه المسألة، والمؤلف هاهنا قد أوردَ بعضَ هذه الأدلة ونَسَبَها إلى المالكية، ولكنها - في حقيقة الأمر - إنما هي طائفةٌ من أدلة الجمهور، ومن هذه الأدلة:
أولًا: قال جمهور العلماء: إننا لو سَلَّمْنَا بهذه القراءة فليس في القراءة ما يدلّ على أن الفيئة لا تصحّ بعد الانتهاء وأن الطلاق حينها يقع مباشرةً بانتهاء المدّة، بل هذا يُستَدَلُّ به على أن له الرجوع أثناء هذه المدة؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في الآية:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} ، وعزيمة الطلاق إنما تقع بالقول، فمجرد قول الزوج:(لا أَطَؤُكِ) لا يُسَمَّى طلاقًا، وإنما الطلاق يقع بالقول، سواء اجتمعت معه نيةٌ أو لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث جدهن جدّ وهزلهن جدّ"، وذكر الطلاق
(1)
، ولذا فإن الطلاق يقع باللفظ الصريح، أما الكناية فمنها ما يُرجَع فيه إلى اللفظ، ومنها ما يُرجَع فيه إلى نيَّة من تَلَفَّظَ بها.
ثانيًا: أن الله سبحانه وتعالى قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، ثم قال تعالى:{فَإِنْ فَاءُوا} ، والفاء إنما هي للتعقيب والترتيب، مما يعني أن الفيئة لا تكون إلا بعد انتهاء الأشهر الأربعة، كما هو الحال في قوله سبحانه وتعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ، والإمساك لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق.
قوله: (وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الآيَةِ أَرْبَعَةُ أَدِلَّةٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ حَقًّا لِلزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَأَشْبَهَتْ مُدَّةَ الأَجَلِ فِي الدُّيُونِ المُؤَجَّلَةِ).
والمقصودُ من التَّشبيه بالديون المؤجَّلة هو أن يقول دائنٌ لِلمَدِينِ: (إذا لم تَدفَع لي هذا الدَّينَ خلال أربعة أشهُرٍ سَأَقُومُ بِحَبْسِكَ)، فلا يُفهَمُ من هذا أنه يستحقّ الحبس إذا انقَضَت الأشهُرُ الأربعةُ ثم أعطاه حَقَّهُ.
(1)
أخرجه أبو داود (2194) وغيره. وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1826).
قوله: (الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى فِعْلِهِ، وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ يَقَعُ مِنْ فِعْلِهِ إِلَّا تَجَوُّزًا - أَعْنِي: لَيْسَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ إِلَّا تَجَوُّزًا - وَلَيْسَ يُصَارُ إِلَى المَجَازِ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ).
ومراد المؤلِّف هاهنا أن آية: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} هي آيةٌ صريحةٌ في أنَّ الطلاق إنما يقع باللفظ، أما الذي ذهَبَ إليه الحنفية إنما هو من باب التَّجَوُّز، والتَّجَوُّزُ إنما هو نوع من أنواع المَجاز.
وهناك خلافٌ في المجاز فيما إذا كان ثابتًا في القرآن واللُّغة أم لا، والصحيح في هذه المسألة أن القرآن ليس فيه مجازٌ، وأن الآيات القرآنية التي قد يُفهَم منها وجود المَجاز في كتاب الله إنما الأَوْلى أن يجابَ عنها بأن هذا ليس مجازًا، بل هو إيجازٌ بالحذف، فإن الإيجاز معروف في لُغة العرب وفي أسلوب القرآن، كقوله تعالى:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} في قراءة: (ونادوا يا مالِ)
(1)
حيث حُذِفَت الكاف
(2)
، وقوله تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ، وقوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} ، فقد أجاب العلماء عن كلِّ هذه الآيات بأن فيها إيجازًا بالحذف
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم عقب حديث رقم (3230) عن عبد الله بن مسعود. وذكرها ابن خالويه في "مختصر في شواذ القرآن"(ص 137).
(2)
يُنظر: "الإنصاف" لأبي البركات الأنباري (1/ 284)، حيث قال:"ذهب الكوفيون إلى أن ترخيم المضاف جائز، ويوقعون الترخيم في آخر الاسم المضاف إليه، وذلك نحو قولك: "يا آل عام" في يا آل عامر، و"يا آل مال" في يا آل مالك، وما أشبه ذلك. وذهب البصريون إلى أن ترخيم المضاف غير جائز".
(3)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (3/ 46)، حيث قال: "ووقع في القرآن على الأصح، كقوله تعالى:{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]{لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] وقد صنف شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام كتابًا حافلًا في ذلك، وبه قال جمهور الفقهاء منهم أحمد بن حنبل، فإنه قال في قوله تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] هذا من مجاز اللغة، يقول الرجل للرجل: سنجري =
قوله: (الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 227]، قَالُوا: فَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى وَجْهٍ يُسْمَع، وَهُوَ وُقُوعُهُ بِاللَّفْظِ لَا بِانْقِضَاءِ المُدَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]، ظَاهِرَةٌ فِي مَعْنَى التَّعْقِيبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الفَيْئَةَ بَعْدَ المُدَّةِ، وَرُبَّمَا شَبَّهُوا هَذِهِ المُدَّةَ بِمُدَّةِ العِتْقِ).
وكلّ هذه الأدلة التي نَسَبَهَا المؤلّف للمالكية هاهنا إنما هي بعض أدلة الجمهور كما ذَكَرْنَا.
قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهَ هَذِهِ المُدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، إِذْ كَانَتِ العِدَّةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ؛ لِئَلَّا يَقَعَ مِنْهُ نَدَمٌ. وَبِالجُمْلَةِ فَشَبَّهُوا الإِيلَاءَ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَشَبَّهُوا المُدَّةَ بِالعِدَّةِ، وَهُوَ شَبَةٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
).
فأبو حنيفة قد شَبَّهَ مدة الإيلاء بالعدة، وهناك شَبَهٌ بالفعل بينهما مِن حيثُ إن العدَّة شرعت لكي تكون فرصةً للزوج في التفكير ومراجعة نفسه في أمر هذا الطلاق كما قال الله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ، فمدة الإيلاء إنما هي كذلك فرصةٌ للزوج في مراجعة نفسه لكي يفيء إلى زوجته ويرجع عن هذا الإيلاء.
لكن يفترقان من جانبٍ آخَرَ في أن الفيئة لم يَسبِقْها طلاقٌ، وإنما
= عليك رزقك. إنا نشتغل بك. ومنعه آخرون، ونسبه الغزالي في "المنخول" إلى الحشوية قال ابن القشيري: وحكي عن الأستاذ أيضًا، وقال ابن برهان: والأستاذ أبو إسحاق إذا أنكر المجاز في اللغة، فلأن ينكره في القرآن من طريق أولى؛ لأن القرآن إنما نزل بلغتهم".
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (3/ 870) عن ابن عباس قال: "عزيمة الطلاق: انقضاء الأربعة الأشهر، والفيء: (الجماع) ".
يقتصر الأمر على امتناع الزوج عن جِماع زَوجَتِه، أما الرجعة فقد سَبَقَهَا طلاقٌ، وهذا الطلاق يَتَحَتَّمُ إن لم يَتدارَك الزوجُ الأمرَ ويُراجِع المرأةَ قبل انقضاء العدة؛ لأنه إذا طَلَّقَ طلقةً واحدةً أو اثنتين ثمَّ راجَعَ زَوجَتَه في أثناء العدَّةِ عادت إليه دون الحاجة إلى صداقٍ ولا وليٍّ ولا شهودٍ، بل دون الحاجة إلى رضاها، أمَّا إذا انقَضَت العدة فلا بدَّ حينئذٍ من زواجٍ جديدٍ برغبتها ورضاها ووجود وليٍّ وشهودٍ وصداقٍ جديدٍ، فالأمر في عدة الطلاق الرجعيِّ يختلف فيما إذا كان الأمر قد تمَّ تَدَارُكُهُ قبل انقضاء العدة أم بعد إنتهائها.
فهما يتشابهان من حيثُ الفرصة المتاحة أمام الزوج، لكن يفترقان من حيثُ إن العدَّة سُبِقَت بطلاقٍ، والإيلاء لم يُسبَق بطلاقٍ.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي اليَمِينِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الإِيلَاءُ).
وهذه المسألة يشير بها العلماء إلى اليمين التي يكون بها الإيلاء فيما إذا كانت هي اليمين المعروفة بأن يحلف الزوج بالله أو بصفةٍ من صفاته سبحانه وتعالى، كأن يقول:(أَقسَمتُ بالله ألَّا أَطَأَكِ أكثر من أربعة أشهُرٍ)، أم أنَّ بإمكان الزوج تَجاوُز ذلك بحيثُ يقول مثلًا:(إن وطئتُكِ فعبدي حُرٌّ، أو: أنتِ عَلَيَّ كظهر أمي، أو: فأنتِ طالقٌ، أو: إذا وطئتُكِ سَأُصَلِّي كذا ركعة، أو: سأفعلنَّ كذا).
قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: يَقَعُ الإِيلَاءُ بِكُلِّ يَمِينٍ
(1)
).
وهذا هو رأي جمهور العلماء، فإليها يذهب مالكٌ
(2)
وأبو حنيفة
(3)
،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 426)، حيث قال:" (باب الإيلاء يمين) زوج (مسلم) ولو عبدًا ومراده باليمين ما يشمل الحلف بالله أو بصفة من صفاته أو التزام نحو عتق أو صدقة أو مشي لمكة أو نذر، ولو مبهمًا، نحو: لله عليّ نذر إن وطئتك أو لا أطؤك".
(2)
التخريج السابق.
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 203)، حيث قال: " (قوله ولو حلف =
وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد
(1)
، كما أنها هي القول الجديد للإمام الشافعي
(2)
.
ومراد العلماء من هذه اليمين ليس الحلف بغير الله تعالى، فالحلف بغير الله لا يدخل في هذا الباب؛ لأنه معصيةٌ لله سبحانه وتعالى، ولذا فإن الحلف بغير الله لا يوجب كفارةً ولا يمنع الوطء.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يَقَعُ إِلَّا بِالأَيْمَانِ المُبَاحَةِ فِي الشَّرْعِ"، وَهِيَ اليَمِينُ بِاللَّهِ، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ
(3)
).
وقد نَصَّ أكثر العلماء على أن هذا القول هو قول قديم للإمام الشافعي، أما القول الجديد للشافعي فهو القول الذي اتفق فيه مع الإمام مالكٍ
(4)
.
وهذا أيضًا هو مشهور مذهب أحمد
(5)
.
= بحج إلخ) بأن يقول: إن قربتك فعليَّ حج أو عمرة أو صدقة أو صيام أو هدي أو اعتكاف أو يمين أو كفارة يمين أو فأنت طالق أو هذه لزوجة أخرى أو فعبدي حر أو فعلي عتق لعبد مبهم فهو مول".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 536)، حيث قال:"فأما إن حلف على ترك الوطء بغير هذا، مثل أن حلف بطلاق، أو عتاق، أو صدقة المال، أو الحج، أو الظهار، ففيه روايتان؛ إحداهما: لا يكون موليًا، وهو قول الشافعي القديم. والرواية الثانية: هو مول. وروي عن ابن عباس، أنه قال: كل يمين منعت جماعها، فهي إيلاء".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 160)، حيث قال:" (والجديد أنه)، أي: الإيلاء (لا يختص بالحلف بالله تعالى وصفاته بل لو علق به)، أي: الوطء (طلاقًا أو عتقًا، أو قال: إن وطئتك فلله عليَّ صلاة أو صوم أو حج أو عتق) مما لا ينحل إلا بعد أربعة أشهر (كان موليًا) ".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 68)، حيث قال:"وخصه بقوله: (هو حلف زوج يصح طلاقه) بالله أو صفة له مما يأتي في الأيمان أو بما ألحق بذلك مما يأتي (ليمتنعن من وطئها)، أي: الزوجة ولو رجعية ومتحيرة لاحتمال الشفاء".
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 155)، حيث قال: " (حلف زوج يمكنه الوطء بالله تعالى أو بصفته)، أي: الله تعالى كالرحمن والرحيم ورب العالمين =
قوله: (فَمَالِكٌ اعْتَمَدَ العُمُومَ - أَعْنِي: عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]).
والمراد: أن جمهور العلماء أخذوا بعموم الآية وأنها لَم تُقَيِّد ذلك بيمينٍ دون يمينٍ، وإنما أَطلَقَت.
وقد فَسَّرَ ابن عباس رضي الله عنهما (يؤلون) في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، بأن معناها: يحلفون بالله
(1)
.
ولكن من العلماء مَن ذَهَب إلى عدم جواز الحلف بأيِّ مخلوقٍ مهما كانت مكانته ومنزلته حتى لو كان نبيًّا من الأنبياء؛ لأن الأصل في اليمين ألَّا يكون إلا بالله أو بصفةٍ من صفاته، وإنما لو قال الحالف:(وربِّ النبي، أو: وربِّ الكعبة) لكان ذلك جائزًا؛ فاليمين إنما هو تعظيمٌ للمحلوف، والتعظيم لا يجوز أن يكون إلا لله سبحانه وتعالى.
قوله: (وَالشَّافِعِيُّ يُشَبِّهُ الإِيلَاءَ بِيَمِينِ الكَفَّارَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كِلَا اليَمِينَيْنِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ اليَمِينُ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُ الإِيلَاءِ هِيَ اليَمِينُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الحُكْمُ الَّذِي هُوَ الكَفَّارَةُ).
ومراد المؤلف هاهنا أن الشافعي رحمه الله قاسَ الأيمانَ في الإيلاء على الأيمانِ بالنسبة للكفارات، وقد سبق أن ذَكَرْنَا أن مَنْ أجاز ذلك - كالحنابلة - إنما قيدوه بالصور التي أَورَدْنَاها.
قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا لُحُوقُ حُكْمِ الإِيلَاءِ لِلزَّوْجِ إِذَا تَرَكَ الوَطْءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الإِيلَاءِ بِغَيْرِ
= وخالقهم (على ترك وطء زوجته) لا أمته أو أجنبية (الممكن جماعها في قبل أبدًا أو يطلق أو فوق أربعة أشهر) ".
(1)
تقدم تخريجه.
يَمِينٍ، وَمَالكٌ يُلْزِمُه، وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ الإِضْرَارَ بِتَرْكِ الوَطْءِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ).
المراد من هذه المسألة لو أن إنسانًا تَوَقَّفَ عن الوطء من تلقاء نفسه دون أن يَحلِف بالله سبحانه وتعالى، فهل يكون ذلك إيلاءً أم لا.
وهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول، وهو مذهب الجمهور: وهم الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، ورواية عند الحنابلة
(3)
، أن هذا لا يُسَمَّى إيلاءً.
القول الثاني، وهو مذهب المالكية
(4)
، والرواية الأخرى
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 189)، حيث قال:"وفي الشرع: هو اليمين على ترك قربان الزوجة أربعة أشهر فصاعدًا بالله أو بتعليق ما يستشقه على القربان، وهو أولى من قوله في "الكنز": الحلف على ترك قربانها أربعة أشهر".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 17)، حيث قال:"ثم شرع في الركن الثالث، وهو المحلوف به فقال: (والجديد) ووصفه في الروضة بالأظهر (أنه)، أي: الإيلاء (لا يختص بالحلف بالله تعالى وصفاته) تعالى (بل لو علق به)، أي: الوطء (طلاقًا أو عتقًا) كإن وطئتك فأنت أو ضرتك طالق أو فعبدي حر (أو) نحو ذلك مما لا ينحل اليمين منه إلا بعد أربعة أشهر كأن (قال: إن وطئتك فلله علي صلاة أو صوم أو حج أو عتق كان موليًا) ".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 353)، حيث قال:" (وله)، أي: الإيلاء (أربعة شروط) تعلم من تعريفه السابق (أحدها: أن يحلف) الزوج (على ترك الوطء في القبل، فإن تركه بغير يمين لم يكن موليًا) لظاهر الآية".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 431)، حيث قال:" (وطلق) على الزوج (في) حلفه (لأعزلن) عنها بأن يمني خارج الفرج (أو) حلفه (لا أبيتن) عندها لما فيه من الضرر والوحشة عليها بخلاف لا أبيت معها في فراش مع بياته معها في بيت (أو ترك الوطء ضررًا) فيطلق عليه بالاجتهاد إن كان حاضرًا، بل (وإن غائبًا) ولا مفهوم لقوله: ضررًا، بل إذا تضررت هي من ترك الوطء طلق عليه بالاجتهاد، ولو لم يقصد الضرر".
للحنابلة
(1)
: أنه يلزمه حُكم الإيلاء إذا قصد الإضرار بترك الوطء؛ لأن هذا وإن لم يكن إيلاءً إلا أن فيه ضررًا على الزوجة، ولذلك فإنه يؤمر بالوطء، فإن فاء وَوَطِئَ وإلا أُمِرَ بالطلاق، فإن لم يُطَلِّق طُلِّقَتْ عليه.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: كلُّ يمين منع جماعها فهو إيلاء"
(2)
.
أما إذا تَوَقَّفَ عن الجماع بقصد تأديب المرأة فله ذلك، كما جاء في ذِكْرِ النشوز
(3)
في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} ، فإن الله تعالى أَمَرَ الزوج بهجر زوجته الناشز في المضجع تأديبًا لها؛ لتستقيم أمورها وتصلح أحوالها.
أما إن فعله بقصد إلحاق الضرر بها وإيذائها، فلا شكَّ أن هذا لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر وقال:"لا ضرر ولا ضرار، ومن ضار ضره الله سبحانه وتعالى"
(4)
، فالضرر ممنوعٌ بأيّ صفة من الصفات.
قوله: (فَالجُمْهُورُ اعْتَمَدُوا الظَّاهِرَ).
أي: أن الجمهور اعتمدوا ظاهر الآية، لأن الله سبحانه وتعالى قَيَّدَ الإيلاء بوجود القَسَم في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، والإيلاء إنما هو القَسَم، و (يؤلون) معناها: يُقسِمون، فإذا لم يَكُن قَسَمٌ لم يَكُن إيلاءٌ.
والمالكية والحنابلة في روايتهم الأخرى قالوا: إن العلة التي من
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 353 - 354)، حيث قال:" (وإن تركه)، أي: ترك الزوج الوطء (مضرًا بها من غير عذر) لأحدهما (ضربت له مدته) أربعة أشهر (وحكم له بحكمه)، أي: الإيلاء؛ لأنه تارك لوطئها ضررًا بها أشبه المولي".
(2)
أخرجه البيهقي (7/ 626).
(3)
يُنظر: "العين" للخليل (6/ 232)، حيث قال:"نشز: نشز الشيء، أي: ارتفع. وتل ناشز وجمعها: نواشز. وقلب ناشز إذا ارتفع عن مكانه من الرعب".
(4)
تقدم تخريجه.
أجلها أمر بالفيئة وإلا يطلق هو لحوق الضرر بتلك المرأة التي قصد ذلك بها، وهذا موجود وقائم أيضًا فيمن يترك زوجته من غير سبب وإنما بقصد الضرر.
قوله: (وَمَالِكٌ اعْتَمَدَ المَعْنَى).
فالمالكية والحنابلة في روايتهم الأخرى إنما اعتمدوا العلة من أمر المولي بالفيئة أو الطلاق، والعلة هاهنا هي لُحُوق الضرر بالزوجة، فهذه العلة الموجودة فيمن يُقسِم على ترك وطء زوجته إنما هي موجودة كذلك فيمن يترك الوطء دون قَسَمٍ بقصد الضرر.
فالمتأمِّل في ظاهر الآية يترجَّح لديه ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن الآية نَصَّت على ذلك، والمتأمِّل في أصول الشريعة وفروعها يجد أن السبب في ذلك إنما هو الضرر، ولا شكَّ أن هذه الحالة يقع فيها الضرر كذلك.
ولذا فإنَّ بعض العلماء قال بألَّا تُضرَبَ مدةٌ في هذه الحالة، وإنما يُؤمَرُ بالرجوع، فإن رَجَعَ وإلا طَلَّقَ.
قوله: (لِأَنَّ الحُكْمَ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِاعْتِقَادِهِ تَرْكَ الوَطْءِ، وَسَوَاءٌ شَدَّ ذَلِكَ الاعْتِقَادَ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يُوجَدُ فِي الحَالَتَيْنِ جَمِيعًا).
أي: سواء قَوَّى فِعلَه هذا بيمينٍ أو لم يُقَوِّهِ بيمينٍ؛ لأن العلة متماثلةٌ والسبب متطابقٌ في الحالتين.
قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مُدَّةِ الإِيلَاءِ).
والمراد من هذه المسألة هو مدَّة الإيلاء، فيما إذا كانت هي المدة التي ورد التنصيص عليها في القرآن في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، أم أنها أكثر من ذلك.
قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ يَرَى أَنَّ مُدَّةَ الإِيلَاءِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ إِذْ كَانَ الفَيْءُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّ مُدَّةَ الإِيلَاءِ عِنْدَهُ هِيَ أَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ فَقَطْ؛ إِذْ كَانَ الفَيْءُ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ فِيهَا
(2)
).
القول الأول، قول جمهور أهل العلم:
والذي قال بقول مالكٍ في هذه المسألة هو الشافعي
(3)
وأحمد
(4)
، أي: إن هذا القول إنما هو قول جمهور أهل العلم، فالأئمة الثلاثة يَرَوْنَ أن مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، وأنه بانتهاء المدة يُطلَب من الزوج أن يَرجِع أو يُطلِّق.
القول الثاني، قول الحنفية:
أما الحنفية فإنهم على أنها أربعة أشهر، حيثُ وقفوا عند ظاهر النَّص القرآني، وجَعَلوا حُجَّتَهم أن الله سبحانه وتعالى ضرب أَجَلًا لِمَن أَقسَمَ على ترك الوطء، فإذا لم يرجع خلال هذه المدة فإن امرأته تكون قد بانت منه.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 428)، حيث قال:" (قوله: ولو قل الأكثر كيوم) هذا هو المعتمد، وقال عبد الوهاب: لا يكون موليًا إلا بزيادة معتبرة كعشرة أيام (قوله: أكثر من أربعة أشهر)، أي: وأما الحلف على ترك الوطء أربعة أشهر فلا يكون به موليًا وروى عبد الملك أنه مول بالأربعة وهو مذهب أبي حنيفة".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 155)، حيث قال:"الإيلاء شرعًا (حلف زوج يمكنه الوطء بالله تعالى أو بصفته)، أي: الله تعالى كالرحمن والرحيم ورب العالمين وخالقهم (على ترك وطء زوجته) لا أمته أو أجنبية (الممكن جماعها في قبل أبدًا أو يطلق أو فوق أربعة أشهر) مصرحًا بها (أو ينويها) بأن يحلف أن لا يطأها وينوي فوق أربعة أشهر".
ردّ الجمهور على استدلال الحنفية:
أما جمهور العلماء فإنهم لا يقولون بصحَّة استدلال الحنفية؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد أَعْقَبَ ذلك بقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، أي: فإن رجعوا إلى الجماع، ثمَّ قال سبحانه وتعالى:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} ، وعَزْمُ الطلاق إنما يقع بعد انتهاء هذه المدة؛ لأن الأصل في هذا الوطء أنه حقٌّ للمرأة، بحيثُ إن طالبَت به أَدَّاه الزوج، وإن لم تطالِبْ به فلا يترتب على هذا حُكمٌ شرعيٌّ، ومثال هذا مسألة العِنِّين
(1)
، فلو أن امرأةً تزوجَت رجلًا ثم تبيَّن أنه عِنينٌ لا يستطيع أن يطأها ورَضيَت به ففي هذه الحالة لا يترتب وجوب الفرقة؛ لأن رضاها قد أَسقَطَ حقَّها
(2)
،
(1)
يُنظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 92)، حيث قال:"العنين بكسر العين وهو الذي لا يأتي النساء رأسًا وقيل: الذي له ذكر لا ينتشر كالشراك وقيل الذي له مثل الزر وهو الحصور".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 300)، حيث قال:"لأن خلوة العنين صحيحة؛ إذ لا وقوف على حقيقة العنة لجواز أن يمتنع من الوطء اختيارًا تعنتا فيدار الحكم على سلامة الآلة ولا يحل ترك وطئها، ولو تزوجها بعد ذلك لا خيار لها؛ لأنها رضيت حيث نكحته بحد العلم بالحال؛ ولو تزوجت به أخرى عالمة بحاله ففي الأصل كذلك يكون رضا، وعليه الفتوى".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 283)، حيث قال:" (قولان ولها)، أي: لزوجة المعترض إن رضيت بعد الأجل بالمقام معه لأجل آخر كما روي عن ابن القاسم (فراقه بعد الرضا) بالإقامة معه (بلا) ضرب (أجل) ثان ولا رفع لحاكم؛ لأنه قد ضرب أولًا ومفهوم ما في الرواية من قولها إلى أجل آخر أنها لو قالت بعد السنة رضيت بالمقام معه أبدًا أنها ليس لها فراقه، وهو كذلك ويفيده قول المصنف أول الفصل أو لم يرض".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 316)، حيث قال:" (ولو رضيت بعدها)، أي: السنة (به)، أي: المقام مع الزوج (بطل حقها) من الفسخ لرضاها بالعيب مع كونه خصلة واحدة والضرر لا يتجدد".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 107)، حيث قال:" (فإن قال) الزوج (قد علمت أني عنين قبل أن أنكحها فإن أقرت) بذلك (أو ثبت) علمها به (ببينة فلا يؤجل وهي امرأته) ولا فسخ لها لدخولها على بصيرة".
وكذلك الحال في النفقة الواجبة على الزوج، فلو أن زَوْجَ المرأة كان لا يستطيع الإنفاق عليها وتنازَلَت الزوجةُ عن هذا الحقِّ واستطاعت أن تؤَمِّن نفقتها من طريقٍ آخر غير الزوج فإن لها ذلك، أما لو أنها سكتَت عن حقِّها هذا ثُم طالَبَت به بعد ذلك فهناك خلافٌ بين أهل العلم في ثُبُوته لها أم لا
(1)
.
استدلال آخر للحنفية:
وقد استدلَّ الحنفية كذلك على مذهبهم - كما ذَكَرْنَا - بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فإن فاؤوا فيهن)
(2)
، وقالوا: إن هذه القراءة يُفهَم منها أن هذا الأجل المضروب ينتهى بانتهاء الأشهُر الأربعة، ولذا فإن الفيئة ينبغي أن تكون فيها.
ردُّ الجمهور على استدلال الحنفية بقراءة ابن مسعود:
أما الجمهور فإنهم قد رَدُّوا هذا الاستدلال كذلك، وقالوا: بل إن المطالَبة تبدأ بعد هذه المدة، واستدلُّوا على ذلك بقول الله تعالى:{فَإِنْ فَاءُوا} ؛ لأن الفاء إنما هي للتعقيب والترتيب، ولذا فإنها تدلُّ على أن ذلك يأتي بعد انتهاء المدة.
ولا شكَّ أن مذهب الجمهور هو الأقوى والأيسر في هذه المسألة.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 556)، حيث قال:"فإن عفت عن المطالبة بعد وجوبها، فقال بعض أصحابنا: يسقط حقها، وليس لها المطالبة بعده. وقال القاضي: هذا قياس المذهب؛ لأنها رضيت بإسقاط حقها من الفسخ لعدم الوطء، فسقط حقها منه، كامرأة العنين إذا رضيت بعنته. ويحتمل أن لا يسقط حقها، ولها المطالبة متى شاءت. وهذا مذهب الشافعي؛ لأنها تثبت لرفع الضرر بترك ما يتجدد مع الأحوال، فكان لها الرجوع، كما لو أعسر بالنفقة، فعفت عن المطالبة بالفسخ، ثم طالبت، وفارق الفسخ للعنة؛ فإنه فسخ لعيبه، فمتى رضيت بالعيب، سقط حقها".
(2)
تقدم تخريجه.
قوله: (وَذَهَبَ الحَسَنُ
(1)
، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(2)
إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ وَقْتًا مَا وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا، يُضْرَبُ لَهُ الأَجَلُ إِلَى انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ اليَمِينِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ المُولِيَ هُوَ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يُصِيبَ امْرَأَتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ).
والحَسَن هو الإمام الجليل المعروف، وهو من كبار أئمة التابعين، وكذلك ابن أبي ليلى.
والمراد من كلام المؤلف هاهنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المولي هو الذي يَحلِف ألا يُصيب امرأته أبدًا.
ولكن نَصُّ القرآن ظاهرٌ في هذه الآية، ولا شكَّ أن ما في كتاب الله عز وجل هو الأَوْلَى بالوقوف عنده وعدم تَجَاوُزِهِ.
قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي المُدَّةِ: إِطْلَاقُ الآيَةِ، فَاخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ الفَيْءِ، وَفِي صِفَةِ اليَمِينِ وَمُدَّتِهِ هُوَ كَوْنُ الآيَةِ عَامَّةً فِي هَذِهِ المَعَانِي أَوْ مُجْمَلَةً).
كَونُ الآية عامَّةً مطلَقةً هو السبب في اختلافهم في مدَّة الإيلاء ووقت الفيء وصفة اليمين.
فإنهم اختلفوا في اليمين - كما ذَكَرْنا - فيما إذا كان يقتصر على
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 339)، حيث قال: "أصل هذا اختلاف الفقهاء في المدة التي يصير بها موليًا يؤخذ بحكم الإيلاء على ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنه يكون موليًا إذا حلف على الامتناع من وطئها في أيِّ زمان كان قلَّ أو كثر، وهذا مذهب الحسن البصري وابن أبي ليلى؛ لأنها يمين تمنعه من الوطء فأشبه الزمان المقدر".
(2)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 197)، حيث قال:"وقال ابن أبي ليلى: هو مول إن ترك وطأها أربعة أشهر بانت بتطليقة، وهكذا كان يقول أبو حنيفة أولًا، فلما بلغه فتوى ابن عباس: لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر رجع عن قوله".
اليمين بالله أو بصفة من صفاته أم أنه يكون بكلِّ يمينٍ على وجه العموم.
وكذلك اختلفوا فيما يتعلق بمدة الإيلاء فيما إذا كانت تنتهي بالأشهُر الأربعة أم أن المطالَبة تبدأ بعد هذه المدة.
وأمَّا وقت الفيء، فإننا لو قلنا بأن المدة تنتهي بالأشهُر الأربعة فحينئذٍ لا بدَّ أن تكون الفيئة في هذه المدة.
ومن ميزات هذا الكتاب أنه يعطي إشاراتٍ دقيقةً، ولذا فإنه ينبغي أن يُعتَنَى بالفهم.
قوله: (وَكذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي صِفَةِ المُولِي وَالمُولَى مِنْهَا، وَنَوْعِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْد، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ هُوَ سَبَبُ السُّكُوتِ عَنْهَا، وَهَذِهِ هِيَ أَرْكَانُ الإِيلَاءِ - أَعْنِي: مَعْرِفَةَ نَوْعِ اليَمِينِ، وَوَقْتِ الفَيْءِ وَالمُدَّةِ، وَصِفَةِ المُولَى مِنْهَا، وَنَوْعِ الطَّلَاقِ الوَاقِعِ فِيهِ).
المُولِي: فهو الزوج.
والمولَى منها: فإنها المرأة.
والمراد بصفة المولِي: هو ما إذا كان الزوج حُرًّا أو عبدًا، والفارق بين هذا وذاك.
أما صفة المولَى منها فالمراد بها ما إذا كانت الزوجة حُرَّةً أو أمَةً، والفِارق بين هذه وتلك، وكذلك الفارق بين أن تكون الزوجة مسلمةً أو ذميةً.
والعلماء قد أَلحَقوا الذمية بالمسلمة في أنها يَلحَقُها الإيلاءُ
(1)
،
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(3/ 423)، حيث قال: " (قوله: فصح إيلاء الذمي)، أي: عنده لا عندهما، لكن كل من القولين ليس على إطلاقه؛ لأنه إيلاء بما هو قربة محضة كالحج لا يصح اتفاقًا، وبما لا يلزم كونه قربة كالعتق =
وهذه من المسائل التي أَغفَلَها المؤلِّفُ في هذا الباب.
أما نوع الطلاق: فالمراد بذلك ما إذا كان هذا الطلاق رجعيًّا أم بائنًا، وكذلك يُراد به الفارق بين أن يُطلِّق الزوجُ وأن يُطلِّق الحاكم، فطلاق الزوج عند الإطلاق إنما يكون رجعيًّا، أما طلاق الحاكم فهل يكون رجعيًّا أم يكون بائنًا؟ وهل الطلاق في الأصل يكون بائنًا أم رجعيًّا؟
وهذه المسائل كلها إنما هي محلّ خلافٍ بين أهل العلم، وغالب الخلاف فيها إنما هو واقعٌ بين الحنفية والجمهور.
قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: فَأَمَّا الطَّلَاقُ الَّذِي يَقَعُ بِالإِيلَاءِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ
(1)
= يصح اتفاقًا، وبما فيه كفارة كوالله لا أقربك يصح عنده لا عندهما كما في البحر وغيره (قوله: بغير ما هو قربة)، أي: محضة، احترز به عن نحو الحج والصوم كما علمت".
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (5/ 415 - 416)، حيث قال:" (لا كافر وإن أسلم إلا أن يتحاكموا إلينا) من المدونة قال مالك: "إذا حلف الذمي بعتق أو طلاق أو بالله أو بصدقة ما يملك أو بغير ذلك من الأيمان لا يقرب امرأته ثم أسلم لم يكن موليًا وسقط عنه بإسلامه هذا كله". ألا ترى أن طلاقه لا يلزمه فكذلك إيلاؤه؛ لأن الإيلاء يجري إلى الطلاق قال في الكافي: "وإذا رضي الذمي بحكمنا حكمنا عليه به".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 16)، حيث قال:"وقوله (يصح طلاقه) خرج به الصبي والمجنون والمكره، ودخل فيه العبد والحر والمسلم والكافر والخصي والسكران المتعدى بسكره، والمراد: أنه يصح طلاقه في الجملة ليدخل ما لو قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا وفرعنا على انسداد باب الطلاق فإنه زوج لا يصح طلاقه في هذه الصورة ومع ذلك يصح إيلاؤه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 115 - 116)، حيث قال:" (و) في صحة (الإيلاء) فإذا آلى الكافر من زوجته فحكمه كالمسلم على ما يأتي تفصيله، لتناول عموم آية الظهار، والإيلاء لهم".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 438)، حيث قال: " (قوله: أو تكفير)، أي: تكفير ما يكفر في العدة وقوله: أو تعجيل حنث، أي: بعتق أو طلاق في العدة، ومثل انحلال الإيلاء رضا الزوجة المولى منها بالإقامة معه بلا =
وَالشَّافِعِيِّ
(1)
أَنَّهُ رَجْعِيٌّ).
وكذلك عند أحمد
(2)
، لكن أحمد إنما يخالِف مالكًا والشافعي في صورةٍ واحدةٍ، وهي إذا كان المُطلِّق هو الحاكم، بحيثُ إذا طَلَب الحاكم من الزوج أن يطأ فلم يفعل، ثم أمره الحاكم بالطلاق، فالحنابلة هاهنا يرون في إحدى الروايات عنهم في تطليق الحاكم أنه يقع رجعيًّا كطلاق الزوج، وفي رواية أخرى يحملونه على الوقوع بائنًا
(3)
، فهذه الرواية الأخيرة عن الحنابلة هي التي تخالِف ما ذهب إليه مالكٌ والشافعي.
قوله: (لِأَنَّ الأَصْلَ أَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ وَقَعَ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ رَجْعِيٌّ إِلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَائِنٌ).
والمراد من هذا: أن الأصل في الطلاق أن يكون رجعيًّا، فلو أن
= وطء كما هو قول ابن القاسم والأخوين خلافًا لسحنون فإنه يقول: إن رجعتها باطلة مع الرضا (قوله: وإلا ينحل إيلاؤه بوجه مما تقدم)، أي: حتى انقضت العدة بدخولها في الحيضة الثالثة، وقوله: لغت رجعته، أي: الحاصلة في العدة، أي: كانت ملغاة، أي: باطلة لا أثر لها".
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 175)، حيث قال:" (وإن أبى) بعد ترافعهما إلى القاضي فلا يكفي ثبوت إبائه مع غيبته عن مجلسه إلا إذا تعذَّر إحضاره لتواريه أو تعززه (الفيئة والطلاق فالأظهر أن القاضي يطلق عليه) بسؤالها (طلقة)، وإن بانت بها لعدم دخول أو استيفاء ثلاث بأن يقول: أوقعت عليها طلقة عنه أو طلقتها عنه أو أنت طالق عنه، فإن حذف عنه لم يقع شيء وذلك؛ لأنه لا سبيل لدوام إضرارها ولا لإجباره على الفيئة مع قبول الطلاق للنيابة فناب الحاكم عنه".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 162)، حيث قال:" (ولا تبين زوجة) مول منه (ب) طلاق (رجعي) سواء أوقعه هو أو الحاكم كغير مول (فإن أبى) مول أن يفيء وأن يطلق (طلق حاكم عليه طلقة أو ثلاثًا أو فسخ)؛ لأن الطلاق تدخله النيابة وقد تعين مستحقه فقام الحاكم فيه مقام الممتنع كأداء الدين".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 368)، حيث قال:" (فإن طلق) الحاكم (عليه)، أي: المولي (واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا أو فسخ صح) ذلك لأن الحاكم قائم مقام الزوج فملك ما يملكه (والخيرة في ذلك للحاكم) فعل ما فيه المصلحة، قلت تقدم أن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة محرم فهنا أولى (وإن قال) الحاكم (فرقت بينكما فهو فسخ) لا ينقص به عدد الطلاق ولا تحل له إلا بعد عقد جديد".
رجلًا قال لامرأته: (أنتِ طالق) دون أن يتلفظ بشيءٍ آخر، فإن هذا الطلاق إنما يقع طلقةً واحدةً، وكذلك لو قال لها:(أنتِ طالقٌ للسُّنَّة) فإنه يُحمَل على الطلاق الرجعيِّ، أما لو نَصَّ على الطلاق الثلاث فإنه يكون طلاقًا بائنًا.
فمذهب جمهور أهل العلم هاهنا في تطليق الحاكم للمولي أنه طلاقٌ رجعيٌّ؛ لأن الأصل في كلِّ طلاق وقع بالشرع أن يكون طلاقًا رجعيًّا، بخلاف الحنفية فإنَّ ما وَقَعَ من الطلاق بسبب الإيلاء إنما يكون عندهم طلاقًا بائنًا.
- قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
: "هُوَ بَائِنٌ"، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كانَ رَجْعِيًّا).
فأبو حنيفة ومعه أكثر الكوفيين قد ذهبوا إلى أن الأشهُر الأربعة إذا انتهت دون أن يفيء الزوج فيها إلى زوجته فحينئذٍ تكون زوجته قد طُلِّقَت عليه طلاقًا بائنًا.
أما الجمهور فإنهم يَرُدُّون ذلك القول، ويَذهَبون إلى أن الزوجة بعد انتهاء المدة لها أن تطالِبَ بحقِّها، فإن طالَبَت فعلى الزوج إما أن يفيء إليها وإما أن يُطَلِّقَ، وإذأ وَقَعَ الطلاق فإنه حينئذٍ يقع طلاقًا رجعيًّا، إلا أن الحنابلة يُفرِّقُون بين أن يُطلِّق الزوج أو يُطلِّق عليه الحاكم، بحيثُ إن طَلَّق الزوجُ كان الطلاق عندهم رجعيًّا ما لم يكن طَلَّقَها طلقةً بائنةً، وإن كان الحاكم هو المُطَلِّقَ فعندهم روايتان في المذهب.
(1)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (3/ 424)، حيث قال:" (وحكمه وقوع طلقة بائنة إن بر)، ولم يطأ (و) لزم (الكفارة، أو الجزاء) المعلق (إن حنث) بالقربان".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 357)، حيث قال:"وقال أبو ثور: هي طلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة كما يجعل أبو حنيفة مضي المدة موقعًا لطلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة".
- قوله: (لَمْ يَزُلِ الضَّرَرُ عَنْهَا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُجْبِرُهَا عَلَى الرَّجْعَةِ).
فالحنفية إذن يعللون ما ذهبوا إليه من القول ببينونة الطلاق هاهنا بأن القول بالطلاق الرجعي يُبقِي الضرر واقعًا على الزوجة؛ إذ تبقى المشكلة قائمةً، بحيثُ إن طلَّقَها فإن بإمكانه أن يردها إليه في أثناء العدة، وبهذا يتكرر الضرر الذي أوقعه على الزوجة من تركه للوطء مرة أخرى.
أما الجمهور فيجيبون على هذا بأن تمكين الزوج من الرجعة في أثناء العدة إنما يُقصَدُ به إعطاء الفرصة للزوج في مراجعة نفسه وإدراك خطئه، وهذه هي الحكمة التي من أجلها شَرَعَ الله سبحانه وتعالى العدة، في قوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ، وإذا كان المُطلِّق - وهو أشد - يتراجع ويفكر فكذلك المولِي، فما المانع إذن أن تُعطَى الفرصة للمولي كي يفكر مَلِيًّا ويراجع نفسه بحيثُ يكون الرجوع عن الخطأ حينئذٍ سهلًا ميسورًا أمامه.
ولا شكَّ أن هذا التعليل للجمهور إنما هو أقوى حُجَّةً وأقرب لروح الشريعة ومقاصدها.
- قوله: (فَسَبَبُ الاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ المَصْلَحَةِ المَقْصُودَةِ بِالإِيلَاءِ لِلْأَصْلِ المَعْرُوفِ فِي الطَّلَاقِ: فَمَنْ غَلَّبَ الأَصْلَ قَالَ: رَجْعِيٌّ، وَمَنْ غَلَّبَ المَصْلَحَةَ قَالَ: بَائِنٌ).
وهذا القول الذي أورَدَه المؤلف من أن القول بالبينونة فيه تغليبٌ للمصلحة لا نُسَلِّم به؛ فليس هناك ما يمنع أن تكون المصلحة في مذهب الجمهور.
والواقع إنما يشهد لذلك، بحيثُ إن هذا الزوج ربما كان شابًّا مندفعًا أو رجلًا يَغلِبُهُ غضبه، فإذا ما حصل منه ذلك وأحَسَّ بأن المرأة قد طُلِّقَت وأوشكت أن تفارقه فحينئذٍ ربما فَكَّرَ في الأمر وأعاد حساباته فترتَّبَ على
هذا رجوعه إلى الصواب، وكم من بيوتٍ عُمِّرَت بعد أن حصل الطلاق الرجعي، بسبب ما أَحَسَّ به كلّ واحدٍ من الزوجين من وحشة الفرقة والوحدة، فربما يُصلِح اللهُ سبحانه وتعالى الأحوال بين الزوجين مرةً أخرى.
والمسلم ينبغي دائمًا أن يأخذ الدروس والفوائد من التجارب التي تمرّ به، ولذلك قيل:(السعيد من اتَّعَظَ بغيره، والشقي من اتَّعَظَ به غَيْرُهُ)
(1)
.
- قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَأَمَّا هَلْ يُطَلِّقُ القَاضِي إِذَا أَبَى الفَيْءَ أَوِ الطَّلَاقَ، أَوْ يُحْبَسُ حَتَّى يُطَلِّقَ: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: "يُطَلِّقُ القَاضِي عَلَيْهِ"
(2)
. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: "يُحْبَسُ حَتَّى يُطَلِّقَهَا بِنَفْسِهِ"
(3)
).
(1)
أخرجه مسلم (2645) عن عبد الله بن مسعود بلفظ: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره".
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 99)، حيث قال:" (ص) ولها العود إن رضيت (ش)، يعني: أن المرأة المولى منها إذا حلَّ أجل الإيلاء فرضيت بالمقام معه بلا وطء وأسقطت حقها من الفيئة، ثم إنها رجعت عن ذلك الرضا وطلبت الفراق فلها أن توقفه من غير ضرب أجل فإما أفاء وإلا طلق عليه؛ لأنه أمر لا صبر للنساء عليه لشدة الضرر ودوامه فكأنها أسقطت ما لم تعلم قدره".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 80)، حيث قال:" (وإن أبى) عند ترافعهما إلى الحاكم فلا يكفي ثبوت إبائه مع غيبته عن مجلسه إلا عند تعذر إحضاره لتواريه أو تعزره (الفيئة والطلاق فالأظهر أن القاضي يطلق عليه) بسؤالها (طلقة) واحدة وإن بانت بها نيابة عنه؛ إذ لا سبيل إلى دوام ضررها ولا إجباره على الفيئة لعدم دخولها تحت الإجبار".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 162)، حيث قال:" (فإن أبى) مول أن يفيء وأن يطلق (طلق حاكم عليه طلقة أو ثلاثًا أو فسخ)؛ لأن الطلاق تدخله النيابة، وقد تعين مستحفه فقام الحاكم فيه مفام الممتنع كأداء الدين".
(3)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (9/ 186)، حيث قال: "فمن الباطل أن يطلق أحدٌ على غيره، لا حاكم ولا غير حاكم.
وأما السُّنن - فإنها إنما جاءت في مواضع معروفة بفسخ النكاح، وإما بطلاق أحد =
المُولِي إذا امتنع من الفيئة والطلاق معًا، فهل يقوم الحاكم مقامه فيطلِّق؟
الجواب: نعم، يُطلِّق؛ فإنَّ الحاكم يملك من الطلاق ما يملكه المُولِي، وإليه الخيرة فيه، لأنَّ الحاكم قائم مقامه، فملك من الطلاق ما يملكه، كما لو وكله في ذلك، وليس ذلك زيادة على حقها؛ فإن حقها الفرقة، غير أنها تتنوع.
- قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الأَصْلِ المَعْرُوفِ فِي الطَّلَاقِ لِلْمَصْلَحَةِ، فَمَنْ رَاعَى الأَصْلَ المَعْرُوفَ فِي الطَّلَاقِ قَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا مِنَ الزَّوْجِ. وَمَنْ رَاعَى الضَّرَرَ الدَّاخِلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ قَالَ: يُطَلِّقُ السُّلْطَان، وَهُوَ نَظَرٌ إِلَى المَصْلَحَةِ العَامَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِالقِيَاسِ المُرْسَلِ
(1)
، وَالمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ العَمَلُ بِهِ
(2)
، وَكَثِيرٌ مِنَ الفُقَهَاءِ يَأْبَى ذَلِكَ
(3)
).
= عن غيره فلا أصلًا، وكلّ من روى عنه في هذا كلمة، فإنما قال بقولنا: إما أن يفيء، وإما أن يطلق؟ فالواجب أن يجبر على أيهما شاء ولا بد.
وأما القياس - فلا أدري من أين أجازوا أن يطلق الحاكم على المؤلي؟ ولم يجيزوا أن يفيء عنه - ولا فرق بين الأمرين".
(1)
يُنظر: "المستصفى" للغزالي (ص 173 - 174)، حيث قال:"وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها، فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع لاعتبارها وقسم شهد لبطلانها، وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها ..... القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (10/ 45)، حيث قال:"وثانيهما: أن المصلحة المرسلة قال بها مالك وجمع من العلماء وهي المصلحة التي لم يشهد الشرع باعتبارها ولا بإلغائها وهذه القوانين مصالح مرسلة في أقل مراتبها".
(3)
يُنظر: "البحر المحيط" الزركشي (4/ 377 - 379)، حيث قال: "وفيه مذاهب:
أحدها: منع التمسك به مطلقًا، وهو قول الأكثرين، منهم القاضي وأتباعه، وحكاه ابن برهان عن الشافعي. قال الإمام: وبه قال طوائف من متكلمي الأصحاب. =
قد يرى الحاكم المصلحة في تحريمها عليه، ومنعه رجعتها؛ لعلمه بسوء قصده، وحصول المصلحة ببعده.
(المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَأَمَّا هَلْ يَتَكَرَّرُ الإِيلَاءُ إِذَا طَلَّقَهَا، ثُمَّ رَاجَعَهَا؟).
فلو أن إنسانًا آلى من امرأته ثم وَقَعَ الطلاق، ثم عاد فتزوجها مرةً أخرى، فهل حينئذٍ يعود الإيلاءُ مرةً أخرى، أم أنه ينتهي بذلك؟ وهذه المسألة قد اختلفت فيها أقوال العلماء كالتالي:
القول الأول: وهو قول المالكية، أن الإيلاء يعود مرةً أخرى سواءٌ كان الطلاق رجعيًّا أم بائنًا
(1)
.
القول الثاني: وهو قول الحنفية
(2)
وأحد الأقوال عن الشافعية
(3)
، أن الإيلاء يعود إن كان الطلاق رجعيًّا فقط، أما إذا كان بائنًا فلا يعود الإيلاء.
القول الثالث: وهو قول الحنابلة
(4)
، والقول الآخر عن الشافعية
(5)
، أن الإيلاء يعود إن كان الطلاق بائنًا فقط، أما إذا كان رجعيًّا فلا يعود الإيلاء.
= الثاني: الجواز مطلقًا، وهو المحكي عن مالك رحمه الله.
والثالث: إن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع، أو لأصل جزئي جاز بناء الأحكام. وإلا فلا. ونسبه ابن برهان في "الوجيز" للشافعي.
وقال إمام الحرمين: "ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى اعتماد تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة، بشرط ملاءمته للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول. وهذا قريب من نقل ابن برهان".
والرابع: اختيار الغزالي والبيضاوي وغيرهما تخصيص الاعتبار بما إذا كانت تلك المصلحة ضرورلة قطعية كلية، فإن فات أحد هذه الثلاثة لم يعتبر".
(1)
سيأتي تخريجه في المتن.
(2)
سيأتي تخريجه في المتن.
(3)
سيأتي تخريجه في المتن.
(4)
سيأتي تخريجه في المتن.
(5)
سيأتي تخريجه في المتن.
- قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إِذَا رَاجَعَهَا، فَلَمْ يَطَأْهَا، تَكَرَّرَ الإِيلَاءُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَهُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالبَائِنِ
(1)
).
فلا يفرق مالكٌ بين ما إذا كانت رجعت إليه بعد طلاقٍ بائنٍ وانتهت العدة ثم تزوجها، وبين ما إذا كان رَاجَعَها في العدة الرجعية، فإن الإيلاء يبقى في الحالتين.
- قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "الطَّلَاقُ البَائِنُ يُسْقِطُ الإِيلَاءَ"
(2)
، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ
(3)
).
وأما القول الآخر للشافعي فإنه يلتقي فيه مع مذهب الحنابلة في أن عودة الإيلاء تكون في الطلاق البائن
(4)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 438)، حيث قال:" (وتتم)، أي: تصح (رجعته) بعد أن طلق عليه (إن انحل) إيلاؤه بوطء بعدة أو تكفير أو انقضاء أجل أو تعجيل حنث (وإلا) ينحل إيلاؤه بوجه مما تقدم (لغت) رجعته، أي: بطلت وحلت للأزواج من العدة".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (ص 232)، حيث قال:" (وسقط الإيلاء) لانتهاء اليمين (وإلا) يقربها (بانت بواحدة) بمضيها، ولو ادعاء بعد مضيها لم يقبل قوله إلا ببينة (وسقط الحلف لو) كان (مؤقتًا) ولو بمدتين؛ إذ بمضي الثانية تبين بثانية وسقط الإيلاء (لا لو كان مؤبدًا) وكانت طاهرة كما مر وفرع عليه (فلو نكحها ثانيًا وثالثًا ومضت المدتان بلاء)، أي: قربان (بانت بأخريين) والمدة من وقت التزوج".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 349)، حيث قال:"القول الثالث: أنه إن كان الطلاق في النكاح الأول بائنا وهو الثلاث أو دونها بعوض لم يعد الإيلاء ولم يوقف لها وكان حالفًا إن وطئ حنث، وإن كان رجعيًّا فنكحها بعد انقضاء العدة منه عاد الإيلاء واستؤنف له الوقف كما يستأنف بعد الرجعة، ويكون حكمه على ما مضى".
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 28)، حيث قال:"ولو راجع المولي بعد تطليق القاضي وقد بقي مدة الإيلاء ضربت مدة أخرى، ولو بانت فتزوجها لم يعد الإيلاء فلا تطالب".
- قوله: (وَهَذَا القَوْلُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ المُزَنِيُّ
(1)
).
والمزني من أصحاب الإمام الشافعي، وهو من مشاهير علماء مذهب الشافعية.
- قوله: (وَجَمَاعَةُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الإِيلَاءَ لَا يَتَكَرَّرُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إِلَّا بِإِعَادَةِ اليَمِينِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ المَصْلَحَةِ لِظَاهِرِ شَرْطِ الإِيلَاءِ).
والمراد من كلام المؤلف هاهنا أن هذا الإيلاء إنما وقع في النكاح الأول، وهذا النكاح الأول إنما قد انتهى بوقوع الطلاق، فيكون هناك إشكالٌ في كيفية عودة الإيلاء بعد انتهاء النكاح، ولذا ذَهَبَ بعض العلماء في المسألة إلى عدم عودة الإيلاء مرةً ثانيةً؛ لأن الطلاقَ قَطَعَهُ وأنهاه.
فبعض العلماء يقول بعودة الإيلاء؛ لأن هذا الإيلاء الذي حصل من الزوج إنما هو إيلاءٌ صحيحٌ وله مُدَّةٌ محدَّدةٌ، ولذا ينبغي أن يعود مرةً أخرى.
وبعضهم يُفرِّقُ في هذا بين الطلاق الرجعي والبائن كما سَبَقَ.
- قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا إِيلَاءَ فِي الشَّرْعِ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ يَمِينٌ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ، لَا فِي نِكَاحٍ آخَرَ، وَلَكِنْ إِنْ رَاعَيْنَا هَذَا، وُجِدَ
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 454)، حيث قال:" (قال المزني) رحمه الله هذا خلاف، أصله كل نكاح جديد لم يعمل فيه طلاق ولا ظهار إلا جديد وقد قال في هذا الكتاب لو تظاهر منها ثم اتبعها طلاقًا لا يملك الرجعة ثم نكحها لم يكن عليه كفارة؛ لأن هذا ملك غير الأول الذي كان فيه الظهار، ولو جاز أن يظاهر منها فيعود عليه الظهار إذا نكحها جاز ذلك بعد ثلاث وزوج غيره، وهكذا الإيلاء قال المزني رحمه الله هذا أشبه بأصله وأولى بقوله: والقياس أن كلَّ حكم كان في ملك فإذا زال ذلك ما فيه من الحكم، فلما زال ذلك النكاح زال ما فيه من الظهار والإيلاء".
الضَّرَرُ المَقْصُودُ إِزَالَتُهُ بِحُكْمِ الإِيلَاءِ، وَلذَلِكَ رَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِحُكْمِ الإِيلَاءِ بِغَيْرِ يَمِينٍ إِذَا وُجِدَ مَعْنَى الإِيلَاءِ).
وهاهنا يعود المؤلِّف إلى مسألة حصول الامتناع عن الوطء دون يمينٍ، من حيث إن ذلك يترتب عليه من الضرر ما يترتب على الإيلاء المقصود بيمينٍ، ولذلك حَكَمَ الإمام مالكٌ بأن ذلك يأخذ حُكمَ الإيلاء لاشتماله على معناه في حالة لحوق الضرر بالزوجة، ووافقه على هذا أحمد في روايةٍ.
- قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَأَمَّا هَلْ تَلْزَمُ الزَّوْجَةَ المُولَى مِنْهَا عِدَّةٌ أَوْ لَيْسَ تَلْزَمُهَا؟).
ومراد المؤلف هاهنا أن الزوجة إذا آلى منها زوجها وانتهت مدة الإيلاء ثم طَلبَت الفيئة فأبى الزوجُ أن يفيء ووقع الطلاق، فهل يلزم الزوجة هاهنا أن تعتدَّ أم لا؟
فهذه الزوجة قد مكثَت أربعة أشهُرٍ وعشرًا، وهذه المدة إنما هي أكثر من الأقراء الثلاثة إن كانت ممن يحِضنَ، وهي أكثر كذلك من الأشهُر الثلاثة إن كانت ممن تعتدّ بالأشهُر، فهل يُطلَب منها بعد هذا أن تعتدّ مرةً أخوى أم لا؟ وهل القصد من العدة هو براءة الرحم فقط - كما عَلَّلَ المؤلف لأحد الفريقين - فيجاب عن هذا بأن براءة الرحم قد تحقَّقَت، أم أن أمر العدة إنما هو أمر تعبدي وشريعة شرعها الله سبحانه وتعالى.
ومثل هذه المسائل لا أدلة لها، ولكنها من المسائل التي تشتمل على شيءٍ من العمق والدراسة.
- قوله: (فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ العِدَّةَ تَلْزَمُهَا
(1)
).
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 61)، حيث قال:"وكل الفقهاء يقول تعتد بعد الطلاق عدة المطلقة إلا جابر بن زيد فإنه يقول: لا تعتد إذا كانت قد حاضت ثلاث حيض في الأربعة الأشهر".
والجمهور هاهنا يراد بهم الأئمة الأربعة كلهم، (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد)، فكلهم اتفقوا على أن العدة تلزم الزوجة في هذه الحالة.
- قوله: (وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: لَا تَلْزَمُهَا عِدَّةٌ إِذَا كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ فِي مُدَّةِ أَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ
(1)
، وَقَالَ بِقَوْلِهِ طَائِفَةٌ
(2)
، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(3)
. وَحُجَّتُهُ أَنَّ العِدَّةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَهَذِهِ قَدْ حَصَلَتْ لَهَا البَرَاءَةُ).
وهذا القول الآخر إنما هو لجابر بن زيدٍ، وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما بأن العدة لا تلزم الزوجة.
وإنما يحتجّ هذا الفريق على ما ذَهَبَ إليه بأنَّ الحكمة من مشروعية العدة إنما هي التيقن من براءة الرحم؛ تجنُّبًا لحدوث اختلاط الأنساب، ولكيلا يأتي زوجٌ جديدٌ فيقع على هذه المرأة فيختلط ماؤه بماء مَن سَبَقَهُ - إن كان هناك ماءٌ - فيحصل اختلاط الأنساب، وهذا إنما قد مَنَعَتْ منه
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 61)، حيث قال:"وكل الفقهاء يقول تعتد بعد الطلاق عدة المطلقة إلا جابر بن زيد فإنه يقول: لا تعتد إذا كانت قد حاضت ثلاث حيض في الأربعة الأشهر".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 39) ينظر: "قال أبو عمر كل الفقهاء - فيما علمت - يقولون إنها تعتد بعد الطلاق عدة المطلقة إلا جابر بن زيد فإنه يقول لا تعتد - يعني - إذا كانت قد حاضت ثلاث حيض في الأربعة الأشهر، وقال بقوله طائفة وكان الشافعي يقول ذلك في "القديم" ثم رجع عنه في "الجديد"".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 39)، حيث قال:"وقد روي عن ابن عباس نحوه رواه أبو عوانة عن قتادة، قال: كنت عند سليمان بن هشام وعنده الزهري فسألوه عن الإيلاء، فقال الزهري: إذا مضت أربعة أشهر فواحدة وهو أحق بها، فقلت له: ما قلت بقول علي، ولا بقول ابن مسعود، ولا بقول ابن عباس، ولا بقول أبي الدرداء، فقال سليمان بن هشام: ما قال هؤلاء؟ قلت: كان علي يقول: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة لا يخطبها زوجها ولا غيره حتى تنقضي عدتها".
الشريعة الإسلامية، بل إنها جعَلَت المحافظة على أنساب الناس إحدى الضروريات الخمس.
فهذه هي حُجَّةُ هذه الفريق، بأن الحكمة من مشروعية العدة إنما هي التأكد من براءة رحم الزوجة منعًا لاختلاط الأنساب بين الناس، وأن براءة الرحم قد تحقَّقَت بالفعل في مدة الإيلاء، ولذا فإن الزوجة لا تلزمها العدة حينئذٍ.
الجواب عن هذه العلة:
أن براءة الرحم لا شكَّ أنها من أقوى الأسباب التي شُرعَت من أجلها العدة، بل إنها الأصل في ذلك، ولكن في المقابِلِ فإن هذه العلة ليست فقط لبراءة الرحم، وإنما هناك أمور أخرى غير ذلك شُرعَت من أجلها العدة، كالوفاء للزوج مثلًا، فلا شكَّ أن العدة روعِيَ فيها أن تكون وفاءً لهذا الزوج برغم حصول الفراق بين الزوجين، وكذلك شُرِعَتْ العدة لكي تكون فرصةً للزوج لمراجَعة نفسه وإعادة التفكير في أمر هذه الفرقة وأضرارها، كما قال الله سبحانه وتعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ، فلَم تكن هذه العدة فقط لبراءة الرحم.
وإلى جانب هذا كلِّه فإن هذه هي شريعة الله سبحانه وتعالى التي يجب أن نقف عندها وأن ننزل عند أحكامها، بحيث نستجيب لها لا أن نتجاوزها، فما دام الله سبحانه وتعالى قد شَرَعَ العدة وأكَّد ذلك رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم سُنتِهِ فلا ينبغي لنا إلا التسليم لشرع الله؛ لأنها شريعةٌ باقيةٌ، ولذلك فإن الأئمة الأربعة قد التقَتْ أقوالهم في هذه المسألة.
- قوله: (وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ كَسَائِرِ المُطَلَّقَاتِ).
والمراد هاهنا أن الجمهور احتجوا بأن الله سبحانه وتعالى لم يَستَثْنِ مسألةً من المسائل في إقرار العدة، وإنما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} .
- قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ أَنَّ العِدَّةَ جَمَعَتْ عِبَادَةً وَمَصْلَحَةً، فَمَنَ لَحَظَ جَانِبَ المَصْلَحَةِ، لَمْ يَرَ عَلَيْهَا عِدَّةً، وَمَنْ لَحَظَ جَانِبَ العِبَادَةِ، أَوْجَبَ عَلَيْهَا العِدَّةَ).
وهذا الذي أورده المؤلف هاهنا شيءٌ طيبٌ، فالعدة إنما هي عبادةٌ؛ لأن القصد من العبادة أنها حكم الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمسلم عندما ينزل عند حكم الله سبحانه وتعالى وهو متيقن من أن هذا هو شرع الله الذي شَرَعَه لعباده فلا شكَّ أن ذلك يكون نوعًا من أنواع العبادة؛ لأن هذه الشريعة كلها عبادة وطاعة لله سبحانه وتعالى، وذلك حتى في الأمور التي فيها معامَلاتٌ كالبيع والشراء والنكاح بحيث إذا قُصدَ به وَجْهُ الله أصبح عبادةً يُؤْجَر عليها فاعِلُها.
- قوله: (المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَأَمَّا إِيلَاءُ العَبْدِ).
وكما ذكرنا فإن المؤلف لم يتكلَّم عن جملة من المسائل التي تناولها أهل العلم، ومن ذلك أن الإيلاء لا يقع إلا في حالة الغضب كما أُثِرَ عن بعض الصحابة
(1)
.
ومنها كذلك إذا كان تحت المسلم زوجةٌ ذمّيةٌ هل يلحقها الإيلاء أم لا، والصحيح أنها يلحقها أيضًا الإيلاء
(2)
.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 49) عن ابن عباس أنه قال: "إنما الإيلاء في الغضب".
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 451) عن أبي عطية الهجيمي قال: "حلف أن لا يقرب امرأته حتى تفطم ابنه قعنبًا قال: فمر بالقوم فقالوا: ما أحسن ما غذي به قعنب، فأخبرهم أنه كان آلى منها حتى تفطمه، فقال القوم: ما نرى امرأتك إلا قد بانت منك، فأتى عليًّا فسأله، عن ذلك فقال: "إن كنت آليت في غضبك فقد بانت منك امرأتك، وإن كان غير ذلك فهي امرأتك".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 16)، حيث قال: وقوله (يصح طلاقه) خرج به الصبي والمجنون والمكره، ودخل فيه العبد والحر والمسلم والكافر والخصي". =
وكذلك من المسائل التي لم يذكرها المؤلف أن الزوج لو حلف أن يولي من امرأةٍ لو تزوجها، والصحيح في ذلك أن إيلاءه لا يقع حينئذٍ؛ لأن الإيلاء لا يكون إلا من الزوجة (1)، فلو حلف الرجل أن يولي من أَمَتِهِ فإن الإيلاء لا يقع عليها؛ لأن الله تعالى يقول:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، وكذلك لو حلف ألَّا يطأ امرأته في دبرها فلا يسمى ذلك إيلاءً؛ لعدم جواز الوطء في الدبر ولكونه معصيةً، فلا يُنظَر إليه؛ لأن الإيلاء إنما يكون عن الوطء في القُبل
(2)
.
= مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 362)، حيث قال:" (و) يصح الإيلاء من الزوجة (سواء كانت الزوجة حرة أو أمة مسلمة أو كافرة عاقلة أو مجنونة صغيرة أو كبيرة) لعموم: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] ".
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 205)، حيث قال:"فإذا قال إن تزوجتك فوالله لا أقربك وقع صحيحًا، وكذا إن تزوجتك فأنت عليَّ كظهر أمي، إلا أنه لا ينعقد الإيلاء والظهار إلا عقيب التزوج بها؛ لأنها إذ ذاك تصير محلالًا قبله، ولأن الظهار لما كان تشبيه المحللة بالمحرمة استدعى انعقاده قيام حل وطئها".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 427)، حيث قال:"وشمل أيضًا الزوجة الكائنة في عصمته حين الحلف والمتجددة بعد الحلف كقوله لامرأة أجنبية: والله لا أطؤك إلا بعد خمسة أشهر، ونوى إن تزوجها فإذا عقد عليها لزمه الإيلاء".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 161)، حيث قال:" (ولو حلف أجنبي) لأجنبية أو سيد لآمته (عليه)، أي: الوطء كوالله لا أطؤك (فيمين محضة)، أي: لا إيلاء فيها فيلزمه قبل النكاح أو بعده كفارة بوطئها (فإن نكحها فلا إيلاء) يحكم به عليه فلا تضرب المدة وإن بقي من مدة عينها فوق أربعة أشهر وتأذت لانتفاء الإضرار حين الحلف لاختصاصه بالزوج بنص من نسائهم".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتى (3/ 160)، حيث قال:"و (لا) يصح من غير زوج لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] ".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 190)، حيث قال:"ولو قال: لا وطئتك في الدبر أو فيما دون الفرج لم يصر موليًا".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 16)، حيث قال: "وقوله: (ليمتنعن من وطئها)، أي: وأطلق، فلو حلف على الامتناع من وطئها في الدبر أو الحيض أو النفاس أو فيما دون الفرج لم يكن موليًا، بل هو محسن لا =
فهذه المسائل وغيرها الكثير لم يتناوله المؤلف بالذِّكر؛ لكونه إنما يتناول أمَّات المسائل ولا يتطرَّق إلى فروع المسائل كما ذَكَرْنَا.
- قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: "إِيلَاءُ العَبْدِ شَهْرَانِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ إِيلَاءِ الحُرِّ"
(1)
).
وقد ذَكَرْنَا سابقًا في بعض المسائل - كالحدِّ والطلاق والعدَّة - أن هناك حالات تكون سببًا من أسباب التخفيف في الشريعة الإسلامية، فالعلماء حينما استقرؤوا الشريعة الإسلامية حَصَرُوا أسباب التخفيف في أمورٍ سبعةٍ، منها النقص بالرِّقِّ، بمعنى: أن العبد والأَمَةَ ناقصان، وهذا النقص لا يُعنَى به النقص في الخلقة وإنما النقص من حيثُ التصرف؛ لأن العبد والأمة ليس لهما كمال التصرف كما هو الحال بالنسبة للحرِّ، وكما هو الحال بالنسبة للمرأة التي ليس لها ما للرجل من التصرف.
وهاهنا فيما يتعلق بالإيلاء، فإن الزوج لو آلى من زوجته الأَمَةِ فإن بعض العلماء يرى أنه لا فرق في ذلك بين الحرة والأَمَة ولا بين المسلمة والذمية؛ لأن ذلك جاءَ مُطلَقًا في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، ولذا فإن أيَّ زوجةٍ يطؤها المسلم فإن الإيلاء منها يكون أكثر من أربعة أشهر على مذهب الجمهور، أو أربعة أشهر على مذهب الحنفية، وهناك من العلماء - كمالكٍ وأحمد في إحدى الروايتين - يذهب إلى أن الأمة والذمية تعتدان شهرين على النصف من المسلمة والحرة.
= تضرر بذلك ولا تطمع في الوطء فيما ذكر؛ ولأنه ممنوع من الوطء في غير الأخيرة شرعًا فأكد الممنوع منه بالحلف".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 354)، حيث قال:"وإن حلف على ترك الوطء في الدبر لم يكن موليًا؛ لأنه لم يترك الوطء الواجب عليه، ولا تتضرر المرأة بتركه؛ لأنه وطء محرم وقد أكد منع نفسه منه بيمينه".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 432)، حيث قال:" (والأجل) الذي يُضرَب للمرأة، ولها القيام بعد مُضيِّه وهو (أربعة أشهر للحرِّ وشهران للعبد مبدؤه من يوم اليمين) على ترك الوطء، ولو لم يحصل رفع (إن كانت يمينه صريحة في ترك الوطء) المدة المذكورة".
- قوله: (قِيَاسًا عَلَى حُدُودِهِ وَطَلَاقِهِ).
والمراد من ذلك أنهم قاسوا ذلك على الحَدِّ المُقام على العبد وعلى طلاقه، فإن حَدَّ العبد على النصف من حَدِّ الحُرِّ، وكذلك الطلاق الذي يملكه العبد إنما هو طلقتان، وهو طلقتان لا طلقة ونصف؛ لأن الطلقة لا تُنَصَّفُ ولا تُجَزَّأُ فصارت طلقتين.
وذلك ينطبق أيضًا على الأقراء
(1)
، فإن الأَمَة تَبينُ بطلقتين، وتعتدّ بحيضتين لا بحيضةٍ ونصف؛ لأن الأقراء لا تتبعض، فكانت حيضتين، بخلاف الأشهر التي قال فيها بعض العلماء بجلوس الأمة للعدة شهرًا ونصف شهر.
- قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: "إِيلَاؤُهُ مِثْلُ إِيلَاءِ الحُرِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَمَسُّكًا بِالعُمُومِ"
(2)
).
وقول الشافعي هذا يلتقي مع الرواية الأخرى عن الإمام أحمد
(3)
.
(1)
يُنظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص 750)، حيث قال: "والقروء: جمع قرء، (والقرء): وقت يكون للطهر مرة وللحيض مرة (وجمعه قروء).
ويقال: القرء: هو الطُّهر، وذلك أن المرأة الطاهر كأن الدم اجتمع وامتسك في بدنها، فهو من قريت الماء. وقرى الآكل الطعام في شدقه وقوم يذهبون إلى أن القرء الحيض".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 170)، حيث قال:" (فصل) في أحكام الإيلاء من ضرب مدة وما يتفرع عليها (يمهل) وجوبًا المولي بلا مطالبة (أربعة أشهر) رفقًا به وللآية، ولو قِنًّا أو قنَّة؛ لأن المدة شرعت لأمر جبلي هو قلة صبرها فلم تختلف بحرية ورق كمدة حيض وعِنة".
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (9/ 187)، حيث قال:"والعبد والحر في الإيلاء كلّ واحد منهما من زوجته الحرة، أو الأمة المسلمة، أو الذمية - الكبيرة أو الصغيرة - سواء في كل ما ذكرنا؛ لأن الله عز وجل عمَّ ولم يخصّ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 362)، حيث قال:" (ومدة الإيلاء في الأحرار والرقيق سواء) لعموم النص، ولأنها مدة ضربت للوطء أشبهت مدة العنة".
والمقصود بالعموم هاهنا إنما هو عموم الآية، في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، حيث لم تُفَرِّق الآية بين الحرِّ والعبد في ذلك، بل جاءت الآية مُطلَقَةً، مما يوجب علينا الوقوف عند ظاهرها.
- قوله: (وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعَلُّقَ الأَيْمَانِ بِالحُرِّ وَالعَبْدِ سَوَاءٌ، وَالإِيلَاءُ يَمِينٌ).
ومراد المؤلِّف هاهنا أن الأيمان التي تصدر من العبد والحرِّ إنما تكون متسوايةً في كفارتها، بحيثُ لا يكفر الحُرُّ كفارةً ويكفِّرُ العبد نصف كفارةٍ، بل إن كلا الكفارتين متساويتان لعموم قوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، وإذا كان الأمر كذلك فلا وجه إذن للتفرقة بين إيلاء العبد وإبلاء الحُرِّ.
- قوله: (وَقِيَاسًا أَيْضًا عَلَى مُدَّةِ العِنِّينِ).
فإن العنين يُؤَجَّلُ سَنَةً، ولا يُفَرَّق في هذا الحُكم بين حرية العنين وَرِقِّهِ
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 298)، حيث قال:"قالوا: يؤجل العنين سنة (قوله فلا بد من مدة معرفة ذلك)، أي: معرفة لكون الامتناع لعلة معترضة أو آفة أصلية في أصل الخلقة فقدرناها بالسنة؛ لأنها معروفة لذلك؛ لأنه إن كان من علة معترضة فلا يخلو من كونها من غلبة حرارة أو برودة أو رطوبة أو يبوسة، والسنة تشتمل على الفصول الأربعة، وكل فصل بأحد هذه الكيفيات".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 282)، حيث قال:" (قوله: والعبد نصفها) قال المتيطي في النهاية واختلف في الأجل للعبد فقيل كالحر قاله أبو بكر بن الجهم قال في "الكافي" ونقل عن مالك وقاله جمهور الفقهاء وقيل: ستة أشهر، وهو قول مالك، ومذهب "المدونة"، وبه الحكم قال اللخمي، والأول أبين؛ لأن السنة جعلت ليختبر في الفصول الأربعة فقد ينفع الدواء في فصل دون فصل وهذا يستوي فيه الحر والعبد".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (5/ 292)، حيث قال: "وإذا آلى العنين من =
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّقْصُ الدَّاخِلُ عَلَى الإِيلَاءِ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ لَا بِالرِّجَالِ كَالعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ المَرْأَةُ حُرَّةً، كَانَ الإِيلَاءُ إِيلَاءَ الحُرِّ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَى النِّصْفِ
(1)
).
والسبب في ذهاب أبي حنيفة إلى هذا القول هو أن الإيلاء إنما يقع على المرأة، فكان الاعتبار عنده بالمرأة لا بالرجل.
وهذا القول يَرُدُّه أن الآية مُطلَقَةً لم تُقَيِّد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُبَيِّن ذلك، والقاعدة الأصولية تنصّ على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة
(2)
، استنادًا لقوله تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فلا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخر بيانَ أمرٍ يحتاج إليه المسلمون؛ لأنه هو المُبَيِّنُ لكتاب الله عز وجل، كما قال تعالى:{لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} .
- قوله: (وَقِيَاسُ الإِيلَاءِ عَلَى الحَدِّ غَيْرُ جَيِّدٍ).
فالأظهر أنهم يقيسون الإيلاء على الطلاق والعدة لا على الحَدِّ.
= امرأته أجل سنة ثم خيرت إلا أن يطلقها عند الأربعة الأشهر، فإن طلقها ثم راجعها في العدة عاد الإيلاء عليه وخيرت عند السنة في المقام معه أو فراقه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 676)، حيث قال:"فإن ادعت امرأة عنة زوجها (وأقر بالعنة أو ثبتت) عنته (ببينة) قال في "المبدع": فإن كان للمدعي بينة من أهل الخبرة والثقة عمل بها، (أو عدمًا)، أي: الإقرار والبينة (فطلبت يمينه فنكل) عن اليمين (ولم يدع وطئًا) قبل دعواها (أجل سنة هلالية) ولو عبدًا (منذ ترافعه) ".
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 424)، حيث قال:" (قوله: وللأمة شهران) يعم ما لو كان زوجها حرًّا، ولو أعتقت في أثناء المدة بعدما طلقت انتقلت إلى مدة الحرائر نهر، ومثله في البدائع".
(2)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 32)، حيث قال:"في جواز تأخير البيان: أما عن وقت الحاجة، فقد اتفق الكلُّ على امتناعه سوى القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق".
- قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ العَبْدَ إِنَّمَا كَانَ حَدُّهُ أَقَلَّ مِنْ حَدِّ الحُرِّ).
أما الحدُّ إنما قد وَرَدَ في الأَمَةِ، بدليل قوله تعالى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، وهذا نَصٌّ في الأَمَةِ، وإذا كانت الأَمَةُ مملوكةً فإن العبدَ يقاسُ عليها؛ لأنه مملوكٌ مثلها.
- قوله: (لِأَنَّ الفَاحِشَةَ مِنْهُ أَقَلُّ قُبْحًا، وَمِنَ الحُرِّ أَعْظَمُ قُبْحًا).
ومراد المؤلِّف هاهنا أن العبد إذا حَصلَت منه هذه الجريمة ووقع في هذا المنكَر فإن هذا الفعل من ناحية السمعة يكون أخف وطأةً مما لو كان فاعله حُرًّا، فإنها من الحُرِّ تكون أَشْهَرَ وأكثر انتشارًا.
لكننا نقول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"
(1)
، ولذا فإن المسلم - حُرًّا كان أو عبدًا - شأنه أن يَرفَع هَامَتَهُ بتقوى الله سبحانه وتعالى ويذل بمعصية الله سبحانه وتعالى.
- قوله: (وَمُدَّةُ الإِيلَاءِ إِنَّمَا ضُرِبَتْ جَمْعًا بَيْنَ التَّوْسِعَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَبَيْنَ إِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا فَرَضْنَا مُدَّةً أَقْصَرَ مِنْ هَذِهِ كَانَ أَضْيَقَ عَلَى الزَّوْجِ وَأَنْفَى لِلضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَالحُرُّ أَحَقُّ بِالتَّوْسِعَةِ وَنَفْيِ الضَّرَرِ عَنْه، فَلِذَلِكَ كانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا القِيَاسِ أَلَّا يَنْقُصَ مِنَ الإِيلَاءِ إِلَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا، وَالزَّوْجَةُ حُرَّةً فَقَطْ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَالوَاجِبُ التَّسْوِيَةُ).
ومراد المؤلِّف هاهنا هو أن هذا الرقيق لو أصبح حرًّا خلال مدة الإيلاء، فهل تنتقل المدة إلى مدة الحرة على قول مَن يقول بأن العبد على النصف من الحرِّ؟ أم تبقى المدة على الحالة الأولى؟
(1)
أخرجه أبو داود (2751) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2208).
والخلاف في هذه المسألة مماثلٌ للخلاف المتعلق بمسألة العدة، والذي ذَكَرْنَا فيما مَرَّ.
- قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا بِتَأْثِيرِ الرِّقِّ فِي مُدَّةِ الإِيلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي زَوَالِ الرّقِّ بَعْدَ الإِيلَاءِ، هَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى إِيلَاءِ الأَحْرَارِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ:"لَا يَنْتَقِلُ عَنْ إيلَاءِ العَبِيدِ إِلَى إِيلَاءِ الأَحْرَارِ"
(1)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يَنْتَقِلُ"، فَعِنْدَهُ أَنَّ الأَمَةَ إِذَا عَتَقَتْ وَقَدْ آلَى زَوْجُهَا مِنْهَا، انْتَقَلَتْ إِلَى إِيلَاءِ الأَحْرَارِ
(2)
).
والإمام أحمد له قولان في هذه المسألة، كما هو الحال في مسألة العدة
(3)
.
- قوله: (وَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: "الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لَا إِيلَاءَ عَلَيْهَا، فَإِنْ وَقَعَ وَتَمَادَى، حُسِبَتِ الأَرْبَعَةُ الأشْهُرِ مِنْ يَوْمِ بَلَغَتْ"
(4)
).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 428)، حيث قال:" (ولا ينتقل) العبد لأجل الحر إذا حلف على أكثر من شهرين (بعتقه بعده)، أي: بعد تقرر أجل الإيلاء عليه ويتقرر في الصريح بالحلف وفي غيره بالحكم فلو كانت محتملة وعتق قبل الرفع فإنه ينتقل بعتقه لأجل الحر".
(2)
تقدم ذكره.
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 364)، حيث قال:" (وإن آلى من زوجته الأمة ثم اشتراها ثم أعتقها وتزوجها) عاد الإيلاء (أو كان المولي عبدًا فاشترته امرأته) التي آلى منها (ثم أعتقته ثم تزوجته عاد الإيلاء)؛ لأنه لم يوجد ما تنحل به اليمين من حنث أو كفارة، وكذا لو بانت الزوجة بردة أو إسلام منهما أو من أحدهما ثم تزوجها تزويجًا جديدًا عاد الإيلاء وتستأنف المدة في جميع ذلك سواء عادت إليه بعد زوج ثان أو قبله، وكذا لو قال لزوجته إن دخلت الدار فوالله لا جامعتك ثم طلقها ونكحت غيره ثمَّ تزوجها عاد حكم الإيلاء، فإن دخلتها في حال البينونة تم عاد فتزوجها لم يثبت حكم الإيلاء في حقه؛ لأنه لا ينعفد بالحلف على الأجنبية ذكره في الشرح".
(4)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (4/ 27)، حيث قال: "قال ابن القاسم في =
وكثيرٌ من العلماء ذهب إلى أن الصغيرة يقع عليها الإيلاء، فالمسألة محلّ خلافٍ بين أهل العلم، كما هو الحالى في مسألة المجبوب والخصيّ الذي قد جُبَّ ذَكَرُه بحيث صار لا أثر له، وكما هو الحال في الشيخ الفاني، كل هذه الحالات اختلف العلماء في حُكمِها، أما الشيخ الفاني فإن كان عنده شيءٌ من القدرة فإن بعض العلماء ذهب إلى وقوع إيلائه.
- قوله: (وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي تَرْكِ الجِمَاعِ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا إِيلَاءَ عَلَى خَصِيٍّ، وَلَا عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الجِمَاعِ).
والسبب في قوله هذا أن ذلك ينتفي في حقِّه؛ لأنه لا أثر له عنده، ولكن هناك مَن ذهب إلى أنه يقع عليه الإيلاء حتى وإن لم يكن لديه القدرة على الجماع.
وكذلك يختلف أهل العلم في إيلاء السكران كاختلافهم في طلاقه، والأشهَر والأقوى أنه يَلزَمه الإيلاء ويقع منه، وكذلك الحالط بالنسبة للسفيه.
أما المجنون والصغير فإنهما لا يقع منهما الإيلاء، هذا على الرغم من أن الصغير فيه خلافٌ لكن بعض العلماء يرى أن الإيلاء إنما هو قَسَمٌ وأن الصغير ليس من المكلَّفِين ولذلك لا يقع منه الإيلاء.
- قوله: (المَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ: وَأَمَّا هَلْ مِنْ شَرْطِ رَجْعَةِ المُولِي أَنْ يَطَأَ فِي العِدَّةِ أَمْ لَا؟).
وهذه المسألة قد أدخلها المؤلف في مسألة أخرى، والمراد منها هو إذا آلى الزوج من امرأته ثم طَلَّقَها، وراجَعَها في أثناء العدة، فهاهنا لا
= المبسوط: وكذلك من آلى من صغيرة فلا شيء عليه حتى تبلغ حد الوطء فمن يومئذ يكون أجل الإيلاء عليه؛ لأن هذا الحالف كبير يلزمه اليمين، إنما سقط عنه حكم الإيلاء، والتوقيت لما حلف على من لا حق لها في الاستمتاع فلما بلغت حدَّ الوطء وصار لها حق فيه لزمت اليمين المتقدمة وكان أجل الإيلاء من يوم ثبت لها في الوطء حق والله أعلم".
خلاف بين العلماء في أنه من حقِّه مراجَعة زوجته في أثناء العدة، ولكن الخلاف فيما كان يُشتَرَط في هذه الرجعة أن يَطَأَها الزوج أثناء هذه العدة حتى يرتفع الإيلاء بالوطء أم لا يُشتَرَط ذلك.
وهذه المسألة إنما هي محلُّ خلافٍ بين الجمهور والمالكية، وهو خلافٌ يسيرٌ، ولكن فيه شيء من الدِّقة، بحيث إنهم يَلتَقُون في أمرٍ ويَختَلِفُون في أمرٍ آخَرَ.
- قوله: (فَإِنَّ الجُمْهُورَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا
(1)
، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ:"إِذَا لَمْ يَطَأْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرِ مَرَضٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا رَجْعَةَ عِنْدَهُ لَهُ عَلَيْهَا، وَتَبْقَى عَلَى عِدَّتِهَا، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهَا إِذَا انْقَضَتِ العِدَّةُ"
(2)
).
وهاهنا يتفق المالكية والجمهور على استئناف مدة الإيلاء حتى نهايتها، ثم يُخَيَّرُ الزوج بعدها، فإمَّا أن يفيءَ، وإما أن يؤمَرَ بالطلاق، فإن طَلَّقَ وإلا طَلَّقَ عليه الحاكم، وفي هذه المرحلة يختلف الفريقان:
فالمالكية: يَرَوْنَ أن زوجته تَبِينُ منه بهذا.
أما الجمهور: فإنها لا تَبِينُ منه عندهم، وإنما له أن يراجعها مرةً أخرى، بحيثُ إن وَطِئَهَا ارتفع الإيلاء، وإن لم يطأها عاد الإيلاء مرةً أخرى ثم إذا انتهت مدَّته بانت منه.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 61)، حيث قال:"ولم يختلف السلف والخلف أن الفيء في قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} هو الجماع إن قدر عليه فصار بإجماعهم على ذلك من المحكم. فإن لم يفئ وطلق أو طلق عليه السلطان، فالطلقة عند الجميع رجعية إلا مالكًا فإنه قال: لا تصح الرجعة حتى يطأ في العدة. ولا أعلم وافقه عليه أحد".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 438)، حيث قال:" (وتتم)، أي: تصح (رجعته) بعد أن طلق عليه (إن انحلَّ) إيلاؤه بوطء بعدة أو تكفير أو انقضاء أجل أو تعجيل حنث، (وإلا) ينحل إيلاؤه بوجه مما تقدم (لغت) رجعته، أي: بطلت وحلت للأزواج من العدة".
- قوله: (وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الإِيلَاءُ يَعُودُ بِرَجْعَتِهِ إِيَّاهَا فِي العِدَّةِ أَوْ لَا يَعُود، فَإِنْ عَادَ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَاسْتُؤْنِفَ الإِيلَاءُ مِنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ - أَعْنِي: تُحْسَبُ مُدَّةُ الإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ - وَإِنْ لَمْ يَعُدِ الإِيلَاء، لَمْ يُعْتَبَرْ أَصْلًا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الإِيلَاءَ يَكُونُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ أَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ: كُلُّ رَجْعَةٍ مِنْ طَلَاقٍ كَانَ لِرَفْعِ ضَرَرٍ، فإِنَّ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِ بِزَوَالِ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَأَصْلُهُ المُعْسِرُ بِالنَّفَقَةِ إِذَا طُلِّقَ عَلَيْهِ ثُمَّ ارْتَجَعَ، فَإِنَّ رَجْعَتَهُ تُعْتَبَرُ صِحَّتُهَا بِيَسَارِهِ).
أما فَسْخُ النكاح بسبب الإعسار بالنفقة أو وجود عيبٍ من العيوب فإن ذلك لا يَحصُلُ إلا بِمُطَالَبَةِ المرأة كما سَبَقَ.
واليسار إنما يراد به الغِنَى، فإذا حَصَلَ وفُسِخَ النكاحُ لِسَبَبٍ من هذه الأسباب ثم اعتدَّت الزوجةُ وزال الإعسار بعد ذلك بحيثُ أَصبَحَ الزوجُ موسرًا قادرًا على الإنفاق، فإن له مراجَعة زَوجَتِهِ حينئذٍ.
- قوله: (فَسَبَبُ الخِلَافِ: قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ شَبَّهَ الرَّجْعَةَ بِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، أَوْجَبَ فِيهَا تَجَدُّدَ الإِيلَاءِ، وَمَنْ شَبَّهَ هَذِهِ الرَّجْعَةَ بِرَجْعَةِ المُطَلِّقِ لِضَرَرٍ، لَمْ يَرْتَفِعْ مِنْهُ ذَلِكَ الضَّرَر، قَالَ: يَبْقَى عَلَى الأَصْلِ).
وقياس الشَّبه هو قياس ضعيفٌ - كما هو معلومٌ - لعدم وجود علةٍ تَجمَعُ المسألتين في الحكم
(1)
.
(1)
يُنظر: "شرح الورقات" للمحلي (ص 205)، حيث قال:"وقياس الشبه هو الفرع المتردد بين أصلين، فيلحق بأكثرهما شبهًا كما في العبد إذا أتلف فإنه متردد في الضمان بين الإنسان الحر من حيث أنه آدمي، وبين البهيمة من حيث أنه مال، وهو بالمال أكثر شبهًا من الحر، بدليل أنه يباع ويورث ويوقف وتضمن أجزاؤه بما نقص من قيمته".
[كِتَابُ الظِّهَارِ
(1)
]
[الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي أَلْفَاظِ الظِّهَارِ]
الظهار لُغة: مشتَقٌّ مِن (الظَّهر)، وقد شُبِّهَت المرأة بهذا؛ لأن الظَّهرَ في الأصل هو موضع الركوب؛ إذ غالبًا يكون الركوب على الظَّهر.
والظِّهار
(2)
اصطلاحًا: أن يَجْعَلَ الرَّجل امرأتَه بمنزلة أُمِّهِ.
(1)
والظهار الذي تحرم به المرأة مأخوذ من الظهر وذلك أن تقول لها: أنتِ عليَّ كظهر أمي فكانت تطلق في الجاهلية بذلك. انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 209).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تحفة الفقهاء" للسَّمَرْقندي (2/ 211)، حيث قال:"الظِّهار شرعًا فنقول: أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي فيقع به الظهار نوى أو لم ينوِ؛ لأنه صريح في بابه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المعونة" للقاضي عبد الوهاب (ص 888)، حيث قال:"الظهار تشبيه المرأة المحللة له بظهر من تحرم عليه، وصريحه أن يقول: أنت عليَّ كظهر أمي".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"التهذيب" للبغوي (6/ 150)، حيث قال:"والظهار: هو أن يقول لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمى".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 165)، حيث قال: =
وقصة الظهار في الإسلام معروفةٌ، وقد حَدَثَتْ لخولة بنت مالك بن ثعلبة زوجة أويس بن الصامت - أخِي عبادة بن الصامت الذي روى حديث:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"
(1)
-، وخويلة بنت مالكٍ ابنة عَمِّ أويس كذلك، وقد ظاهَرَ منها أويس يومًا، فما كان منها إلا أن ذَهَبَت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو حالها وما كان مِن ظِهارِ زوجِها منها، وتَعرِضُ على رسول الله أَمْرَهَا وتريد مَخْرَجًا من ذلك، لعلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يردّها إلى زَوجِها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُهَوِّنُ عليها ويقول لها:"اتقي الله في ابن عمك، إنه زَوجُكِ"، وإنما كان هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا عِلمَ له بالغيب، وإنما كان يَحكُمُ بما أَنزَلَ الله سبحانه وتعالى عليه، والظهار في ذلك الوقت كان أمره كأمر الطلاق، فلما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهَا أنها قد حَرُمَتْ بذلك على زَوجِهَا وأنه لم يَنزِلْ بَعْدُ عليه صلى الله عليه وسلم حُكْمٌ يَرفَعُ ذلك.
فَبَقِيَ الأمر على ما كان، وبقيت خولة تُكَرِّرُ شَكْوَاهَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بعض الروايات أنها قالت: "أَكَلَ مالي وأَفْنَى عمري ونَثَرْتُ
(2)
له بَطْنِي - أي: أولادي - حتى إذا تَقَدَّمَ سِنِّي جَعَلَنِي كَأُمِّهِ! "، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرها بما عنده من حُكم ثابتٍ في هذا الأمر، فما كان منها إلا أنها اتَّجَهَت إلى الله سبحانه وتعالى، فَنَزَلَ قولُ الله سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
= "الظهار: مشتق من الظهر، وخُصَّ به من بين سائر الأعضاء، لأنه موضع الركوب، ولهذا سُمّي المركوب ظهرًا والمرأة مركوبة إذا غشيت. فقوله لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي، معناه: أنه شبه امرأته بظهر أمه في التحريم، كأنه يشير إلى أن ركوبها للوطء حرام كركوب أمه له".
(1)
أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394).
(2)
يُنظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 822)، حيث قال:"نثرت الشيء أنثره نثرًا، فانْتَثَرَ. والاسم: النَّثارُ. والنُّثارُ بالضم: ما تناثر من الشيء".
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 1 - 4]
(1)
.
فلما نَزَلَتْ هذه الآياتُ على رسول الله دَعَا المرأةَ - وفي بعض الروايات أنه دَعَا زَوْجَهَا
(2)
- وَأَخْبَرَهَا أنَّ على زَوجِهَا أن يَعتِقَ رقبةً، فَأَخْبَرَتْهُ أنه لا يَجِدُ شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ". فَأَخْبَرَتْهُ أنه شيخٌ كبيرٌ لا يُطِيقُ الصيامَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فَليُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا". فقالت: إنه لا يجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَأُعِينُهُ"
(3)
. وفي بعض الروايات: "سَنُعِينُهُ بِعَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ"
(4)
. والعَرق
(5)
: إنما هو ما يسف من جريد النخل، وهو ما يُعرَف بالزنبيل أو المنكل ونحو ذلك، قالت: وأنا سَأُعِينُهُ بعَرْقٍ آخَرَ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبي فَأَطْعِمِي عَنْهُ وَعُودِي إِلَى زَوْجِكِ"
(6)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2063) عن عروة بن الزبير، قال: قالت عائشة: "تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبرت سنّي، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهمَّ إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (2063).
(2)
أخرجه أبو داود (2217) عن سليمان بن يسار قال: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأعطاه إياه وهو قريب من خمسة عشر صاعًا، قال:"تصدق بهذا" قال: يا رسول الله، على أفقر مني ومن أهلي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كله أنت وأهلك"، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(1920).
(3)
أخرجها البيهقي في "الكبرى"(7/ 642)، وفي أبي داود: فأتي ساعتئذ، وفي "المسند": فإنا سنعينه.
(4)
أخرجها أحمد في "مسنده"(45/ 300 - 302)، وضعف إسناده الأرناؤوط.
(5)
"العرق": السفيفة المنسوجة من الخوص وغيره، قبل أن يجعل منه الزبيل، ومنه قيل للزبيل: عرق. انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1522).
(6)
أخرجه أبو داود (2214)، بلفظ:"اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا، وارجعي إلى ابن عمك". وصححه الألباني في: "إرواء الغليل"(2087).
قوله: (وَالأَصْلُ فِي الظِّهَارِ: الكِتَابُ وَالسُّنَّة، فَأَمَّا الكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآيَة).
أما حُكْمُ الظِّهار فإن تحريمه قد جاء بصريح نَصِّ القرآن الكريم، في قوله تعالى:{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]، فكونه سبحانه وتعالى سَمَّى هذا العَمَلَ منكَرًا وزورًا إنما هو دليلٌ على تحريمه في الشرع، ولذلك فإن الظِّهارَ إنما يقع ممن يصحّ طلاقه، والذي يصحّ طلاقه إنما هو المكلَّف البالغ العاقل - على الخلاف المعروف في الصغير والسكران -.
ولذا فإنه لا ينبغي للمسلم أن يقع في هذا الصنيع.
وقد أَنكَرَ الله سبحانه وتعالى ذلك الصَّنِيعَ وذَمَّهُ كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4].
فهذه الآية والآية التي أوردها المؤلِّف هما أصل الظهار من الكتاب الكريم.
قوله: (وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: "ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أُوَيْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَشْكُو إِلَيْهِ، وَرَسُولُ اللهِ يُجَادِلُنِي فِيهِ، وَيَقُولُ: "اتَّقِي اللهَ، فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ"
…
).
وأمَّا أصله مِن السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ فحديث خولة - الذي ذَكَرْنَاهُ - والتي كانت قد تَأَلَّمَتْ من ظِهار زوجِها إلى الحَدِّ الذي جَعَلَها تَتَنَقَّلُ من جانبٍ إلى جانبٍ، بحيثُ تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هاهنا فيجيبها بما لديه، فتأتيه من هاهنا، واستمَرَّت هكذا إلى أن نَزَلَ الوحيُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفَت ذلك عائشةُ في وَجْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَتْهَا أن تَتَنَحَّى حتى نَزَلَت آيات سورة المجادلة.
- قوله: (فَمَا خَرَجْتُ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] الآيَاتِ، فَقَالَ: "لِيُعْتِقْ رَقَبَةً"، قَالَتْ: لَا يَجِد، قَالَ: "فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ شَيْخٌ كبِيرٌ مَا بِهِ صِيَامٌ).
وقولها: "ما به من صيام"، تعني: به أنه شيخٌ كبيرٌ فانٍ لا يستطيع الصومَ، وقد جاء في بعض الروايات أنه كان يصيبه لَلَمٌ، فخَرَجَ إلى نَادِي قَومِهِ ثم عاد إليها، فأراد منها ما يريد الزوج من امرأته، قالت:"فَأَبَيْت، فَغَلَبْتُهُ كَمَا تَفْعَلُ المَرْأَةُ مَعَ الشَّيْخِ الكَبِيرِ"
(1)
.
- قوله: (قَالَ: "فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا"، قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ).
وقضية الإطعام في الكفارات فيها خلافٌ بين أهل العلم في تحديد مقدار الإطعام، فيما إذا كان صاعًا أو نِصْفَ صاعٍ، أو هو نِصْف صاعٍ مِن غير البُرِّ، أو أنه مُدٌّ - أي: رُبُعُ صَاعٍ - مِن البُرِّ.
- قوله: (قَالَ: "فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ". قَالَتْ: وَأَنَا أُعِينُهُ بِعَرْقٍ آخَرَ).
وهذا يدلّ على مدى وفاء خولة لزوجها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعان زَوْجَها، وزَوْجُها هذا إنما قد ظاهَرَ منها وتَسَبَّبَ ظِهارُهُ لها في الألَمِ والتَّأَثُّرِ الشديد الذي وَقَعَتْ فيه، وبالرغم من ذلك إذا بها تُعينُهُ على أداء الكفارة الواجبة عليه، وهذا لا شكَّ أنه من الوفاء المطلوب بين الزوجين.
= قوله: (قَالَ: "أَحْسَنْتِ اذْهَبِي فَأَطْعِمِي عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(2)
).
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(45/ 300 - 302)، وضعف إسناده الأرناؤوط.
(2)
تقدم تخريجه.
شَكَرَ لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صنيعَها؛ لأنه لا شكَّ في كونه عملًا محمودًا.
وهذا الحديث حديث صحيحٌ، أصله في البخاري
(1)
، وقد خَرَّجَهُ أبو داود
(2)
، والترمذي
(3)
، وأحمد
(4)
، وأصحاب السنن
(5)
فيما عدا النسائي
(6)
.
- قوله: (وَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ البَيَاضِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)
(7)
.
فإلى جانب حديث خولة هناك أيضًا حديث سلمة بن صخر البياضي، والذي قال فيه:"كُنْتُ امْرَأً أَسْتَكْثِرُ مِنَ النِّسَاءِ، لَا أَرَى رَجُلًا كَانَ يُصيبُ مِنْ ذَلِكَ مَا أُصِيب، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ ظَاهَرْتُ مِنَ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَان، فَبَيْنَمَا هِيَ تُحَدِّثُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ انْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَوَثَبْتُ عَلَيْهَا فَوَاقَعْتُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرِي، وَقُلْتُ لَهُمْ: سَلُوا لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مَا كُنَّا نَفْعَل، إِذًا يُنْزِلَ اللهُ فِينَا كِتَابًا، أَوْ يَكُونَ فِينَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلٌ، فَيَبْقَى عَلَيْنَا عَارُه، وَلَكِنْ سَوْفَ نُسَلِّمُكَ بِجَرِيرَتِكَ، اذْهَبْ أَنْتَ، فَاذْكُرْ شَأْنَكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ الخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ بِذَاكَ"؟، فَقُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ، وَهَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ صَابِرٌ لِحُكْمِ اللهِ عَلَيَّ، قَالَ: "فَأَعْتِقْ
(1)
قبل حديث (7386).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرج الترمذي نحوه (3299)، عن سلمة بن صخر الأنصاري، وهو ما سيذكره المؤلف. وصححه الألباني.
(4)
حديث (45/ 300 - 302).
(5)
أخرجه ابن ماجه (2063).
(6)
هو في النسائي (3460) عن عائشة، أنها قالت:"الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، فكان يخفى علي كلامها، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] " الآية. وهو لفظ البخاري.
(7)
سيأتي تخريجه في الشرح.
رَقَبَةً"، قَالَ: قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ، قَالَ: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ دَخَلَ عَلَيَّ مَا دَخَلَ مِنَ البَلَاءِ إِلَّا بِالصَّوْمِ، قَالَ: "فَتَصَدَّقْ، أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا"، قَالَ: قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ مَا لَنَا عَشَاءٌ، قَالَ: "فَاذْهَبْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ، فَقُلْ لَه، فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ، وَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَانْتَفِعْ بِبَقِيَّتِهَا"
(1)
.
- قوله: (وَالكَلَامُ فِي أُصُولِ الظِّهَارِ يَنْحَصِرُ فِي سَبْعَةِ فُصُولٍ؛ مِنْهَا: فِي أَلْفَاظِ الظِّهَارِ، وَمِنْهَا: فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الكَفَّارَةِ فِيهِ، وَمِنْهَا: فِيمَنْ يَصِحُّ فِيهِ الظِّهَار، وَمِنْهَا فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى المُظَاهِرِ، وَمِنْهَا: هَلْ يَتَكَرَّرُ الظِّهَارُ بِتَكَرُّرِ النِّكَاحِ؟ وَمِنْهَا: هَلْ يَدْخُلُ الإِيلَاءُ عَلَيْهِ؟ وَمِنْهَا: القَوْلُ فِي أَحْكَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ).
ومراد المؤلف هاهنا أن باب الظهار يشتمل على أصولٍ وفروعٍ، فمن مسائله ما يعتبر من أمَّات المسائل، ومنها كذلك مسائل جزئيةٌ فرعيةٌ، وكلها مسائل مهمّةٌ، لكن المؤلف سَيَقْتَصرُ تَنَاوُلُهُ على أمَّات المسائل الكبرى كعادته.
- قوله: (الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِ الظِّهَارِ - وَاتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمِّي أَنَّهُ ظِهَارٌ)
(2)
.
وقول المؤلف هاهنا: (اتَّفَقُوا)، كان الأوْلَى والأقوى منه أن يقول:
(1)
أخرجه أبو داود، وغيره (2213). وصححه الألباني في:"صحيح أبي داود - الأم"(1917).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 62)، حيث قال:"وأجمع المسلمون جميعًا أن الرجل إذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أو أنت معي كظهر أمي، أو أنت عندي كظهر أمي أو أنت في كظهر أمي أن القائل لما ذكرنا يكون مظاهرًا".
(أَجْمَعُوا)، فهذه المسألة محلّ إجماعٍ بين أهل العلم؛ لأنها قد جاء التنصيص عليها في كتاب الله عز وجل في حَقِّ أُويس بن الصامت في قول الله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]، وأويس إنما قال لزوجته:(أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي)، فقد نصَّ عليها الكتابُ والسُّنَّة، ولا شكَّ أن العلماء لا يختلفون فيما وَرَدَ فيه النَّصُّ الصَّريح في الكتاب أو السُّنَّة، وإنما يُجمِعُون عليه.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا ذَكَرَ عُضْوًا غَيْرَ الظَّهْرِ).
كَأَنْ يَذكُرَ البطنَ أو الرأسَ أو اليَدَ أو الشَّعَرَ أو الأُذُنَ.
- قوله: (أَوْ ذَكَرَ ظَهْرَ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَ المُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ عَلَى التَّأْبِيدِ غَيْرَ الأُمِّ).
والمحرَّمات من النساء ينقسمن إلى:
القسم الأول: محرَّماتٌ تحريمًا مؤبَّدًا:
وهذا التحريم إما أن يكون بالنسب، وإما أن يكون بالسبب.
فالمحرَّمات بالنسب كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات.
أما المحرَّمات بالسبب فهن المحرَّمات بالرضاع أو المصاهَرة:
- فالمحرمات بالرضاع كالأمِّ المُرضِعة والأخت من الرضاع والأخت من الرضاع.
- وهناك محرَّماتٌ بالمصاهَرة.
القسم الثاني: محرَّماتٌ تحريمًا مؤقَّتًا:
كتحريم الجمع بين الزوجة وأختها، أو بينها وبين عمَّتها أو خالتها.
وقد أَجْمَعَ العلماءُ على أنَّ مَن قال لزوجته: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي) أنه قد ظَاهَرَ منها بهذا القول، لكن الخلاف فيما إذا ذَكَرَ الظِّهَارِ بغير الأمِّ
من النساء المحرَّمات عليه فهل يُعَدُّ ذلك ظِهارًا أم لا، وهل الجَدَّةُ تُسَمَّى أُمًا أم لا.
- قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: "هُوَ ظِهَارٌ"
(1)
. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ: "لَا يَكُونُ ظِهَارًا إِلَّا بِلَفْظِ الظَّهْرِ وَالأُمِّ"
(2)
).
بل هو قول جمهور أهل العلم، فهو قول الشافعي وأحمد
(3)
كذلك.
والإمام الشافعي له قولان في هذه المسألة
(4)
، ففي المذهب القديم خالَفَ جمهور العلماء وقَيَّدَ الظِّهارَ بالظَّهْرِ والأُمِّ وأنَّ ما عداه لا يكون ظِهارًا؛ لأن هذا هو ظَاهِرُ النَّصِّ القرَآنيِّ الكريم في قوله تعالى: {الَّذِينَ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 439)، حيث قال:" (قوله: وسواء شبهها كلها إلخ)، أي: كأنت عليَّ كظهر أمي أو كظهر فلانة الأجنبية (قوله: أو جزأها)، أي: سواء كان ذلك الجزء الذي شبهه جزءًا حقيقة كرأسك أو رجلك عليَّ كظهر أمي أو كان جزءًا حكمًا لكن الجزء الحقيقي يلزم به الظهار اتفاقًا، ويختلف في الجزء الحكمي فيتفق على الظهار إن شبه يدها أو رجلها ويختلف في الشعر والكلام".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 82)، حيث قال:" (والأظهر) الجديد (أن) (قوله) لها أنت (كيدها أو بطنها أو صدرها) ونحوها من كل عضو لا يذكر للكرامة (ظهار)؛ لأنه عضو يحرم التلذذ به فكان كالظهر، والثاني: أنه ليس بظهار؛ لأنه ليس على صورة الظهار المعهودة في الجاهلية، (وكذا) قوله: أنت عليّ (كعينها) أو رأسها أو نحو ذلك مما يحتمل الكرامة كأنت كأمي أو روحها أو وجهها ظهار (إن قصد) به (ظهارًا)؛ لأنه نوى ما يحتمله اللفظ (وإن قصد كرامة فلا) يكون ظهارًا لذلك (وكذا إن أطلق في الأصح) لاحتماله الكرامة وغلب؛ لأن الأصل عدم الحرمة والكفارة. والثاني: يحمل على الظهار، واختاره الإمام والغزالي؛ لأن اللفظ صريح في التشبيه ببعض أجزاء الأم".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 165)، حيث قال:"الظهار (أن يشبه) زوج (امرأته أو) يشبه (عضوًا منها)، أي: امرأته كيدها وظهرها (بمن)، أي: امرأة (تحرم عليه) كأمه وأخته من نسب أو رضاع وعماته وزوجة ابنه (ولو) كان تحريمها عليه (إلى أمد) كأخت زوجته وخالتها (أو) يشبهها (بعضو منها)، أي: ممن تحرم عليه ولو إلى أمد (أو) يشبه امرأته (بذكر أو عضو منه)، أي: من الذكر".
(4)
تقدم.
يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]، وأضاف إليه الظِّهارَ بذِكْرِ الجَدَّةِ؛ لأن الجدة ما هي إلا أمٌّ، ولكنه في المذهب الجديد قال بقول جمهور العلماء.
ومن المعلوم: أن القول الأخير للشافعي هو المعتمد في مذهبه ما عدا بعض المسائل التي التَقَى المذهبُ القديمُ فيها مع الدليل من الكتاب أو السنة، ففي هذه المسائل وحدها يُعتَمَدُ المذهبُ القديمُ عملًا بقول الشافعي رحمه الله:(إذا صَحَّ الحديثُ فهو مذهبي)
(1)
.
- قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يَكُونُ بِكُلِّ عُضْوٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ"
(2)
).
فأبو حنيفة هاهنا إنما وَافَقَ الجمهورَ في شيءٍ وخَالَفَهُم في شيءٍ آخَرَ، بمعنى: أنه وافَقَهم في الظهار بالأعضاء الأخرى، لكنه خالَفَهُم في أنه يُقيِّدُ ذلك بالأعضاء المستورة التي يَحرُمُ على غير الزوج النَّظَرُ إليها كالبطن والفرج والفخذ.
- قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ المَعْنَى لِلظَّاهِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيمِ تَسْتَوِي فِيهِ الأُمُّ وَغَيْرُهَا مِنَ المُحَرَّمَاتِ، وَالظَّهْرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الأَعْضَاءِ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ مِنَ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَلَّا يُسَمَّى ظِهَارًا إِلَّا مَا ذُكِرَ فِيهِ لَفْظُ الظَّهْرِ وَالأُمِّ).
والدليل على استواء الأُمِّ وغيرها من المحرَّمات في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]، وعندما يقول الزوج لامرأته: (أنتِ علَيَّ كظهر جدتي، أو: عمتي، أو:
(1)
يُنظر: "المجموع" للنووي (1/ 63)، حيث قال:"وروي عنه إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي، أو قال: "فهو مذهبي"، وروي هذا المعنى بألفاظ مختلفة".
(2)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 265)، حيث قال:"وإذا قال أنت عليَّ كبطن أمى أو كفخذها أو كفرجها فهو مظاهر؛ لأن الظهار ليس إلا تشبيه المحللة بالمحرمة، وهذا المعنى يتحقق في عضو لا يجوز النظر إليه".
خالتي، أو: بنت أختي) فإن هذا أيضًا هو مُنكَرٌ مِن القول وزورٌ.
ولذا فإن جمهور العلماء قالوا: إذا كانت هذه محرَّمةً على التأبيد وتلك محرَّمة على التأبيد، وإذا كان هذا مُنكرًا من القول وزورًا وذاك مثله منكرًا من القول وزورًا، فليس هناك وجهٌ للتفريق بينهما.
أما أصحاب القول الآخر فإنهم توقَّفوا عند ظَاهِرِ الآية؛ لأنَّهَا نَصَّت على الظَّهْرِ والأُمِّ.
- قوله: (وَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ عَلَيَّ كَأُمِّي، وَلَمْ يَذْكرِ الظَّهْرَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
: "يَنْوِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِذَلِكَ الإِجْلَالَ لَهَا، وَعِظَمَ مَنْزِلَتِهَا عِنْدَهُ"، وَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: "هُوَ ظِهَارٌ").
قول الزوج لامرأته: (أَنْتِ كَأُمِّي). لا شَكَّ أنه يختلف عن قوله لها: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي)؛ لأن الأخيرة هذه صريحةٌ في الظِّهار، بخلاف
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 470)، حيث قال:" (قوله: وإن نوى إلخ) بيان لكنايات الظهار، وأشار إلى أن تصريحه لا بد فيه من ذكر العضو بحر (قوله: لأنه كناية)، أي: من كنايات الظهار والطلاق. قال في البحر: وإذا نوى به الطلاق كان بائنًا كلفظ الحرام، وإن نوى الإيلاء فهو إيلاء عند أبي يوسف، وظهار عند محمد. والصحيح: أنه ظهار عند الكل؛ لأنه تحريم مؤكد بالتشبيه. اهـ. ونظر فيه في الفتح بأنه إنما يتجه في "أنت عليَّ حرام كأمي"، والكلام في مجرد أنت كأمي. اهـ أي: بدون لفظ: "حرام". قلت: وقد يجاب بأن الحرمة مرادة وإن لم تذكر صريحًا. هذا، وقال الخير الرملي: وكذا لو نوى الحرمة المجردة ينبغي أن يكون ظهارًا، وينبغي أن لا يصدق قضاء في إرادة البر إذا كان في حال المشاجرة وذكر الطلاق".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 83)، حيث قال:"ولو قال: أنتِ عليَّ حرام كما حرمت أمي؛ فالأوجه أنه كناية ظهار أو طلاق، فإن نوى أنها كظهر أو نحو بطن أمه في التحريم فمظاهر وإلا فلا".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 442 - 443)، حيث قال:" (وكنايته) الظاهرة، وهي ما سقط فيه أحد اللفظين الظهر أو ذكر مؤبد التحريم فالأول نحو أنت (كأمي أو أنت أمي) (إلا لقصد الكرامة) لزوجته، أي: أنها مثلها في الشفقة فلا يلزمه الظهار، ومثل الكرامة الإهانة".
قول: (أنتِ كأمي)؛ لأنه ليس ظهارًا صريحًا، فقد يكون يقصد بذلك احترامها وتكريمها وإخبارها بأن حُبَّهَا ومكانتَها في نفسه كبيرةٌ كَمَكَانَةِ أُمِّهِ.
والمالكية في هذه المسألة يذهبون إلى أن هذا القول منه يُعَدُّ ظهارًا.
أما جمهور العلماء
(1)
فقالوا بالرجوع إلى نِيَّتِه فيما إذا كان أراد من ذلك الظهارَ أم أنَّه أراد إبلاغَها بمدى حُبِّهِ وتقديرِه لها، فيُرجَع إلى نِيَّتِه، كما جاء في الحديث الصحيح:"إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى"
(2)
، وهذا القول بِمُجَرَّدِهِ لا يُفهِمُ حقيقةَ المرادِ، ولذلك نجد أن هناك من العلماء مَن قال بكراهة أن يقول الزوج لزوجته:(يَا أُخَيَّةُ)
(3)
.
(1)
تقدم في ذلك قول الحنفية، والشافعية، أما قول الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 166)، حيث قال:" (و) إن قال لها (أنت عليَّ) كأمي أو مثل أمي (أو) قال: أنت (عندي) كأمي أو مثل أمي (أو) أنت (مني) كأمي أو مثل أمي (أو) أنت (معي كأمي أو) معي (مثل أمي وأطلق) فلم ينو به ظهارًا ولا غيره (فـ) هو (ظهار)؛ لأنه المتبادر من هذه الألفاظ (وإن نوى) بأنت عليّ أو عندي أو مني أو معي كأمي أو مثل أمي (في الكرامة ونحوها) كالمحبة (دين وقبل حكمًا) لاحتماله وهو أعلم بمراده، (و) إن قال لها (أنت أمي أو) أنت (كامي أو) أنت (مثل أمي) ولم يقل: عليَّ أو عندي أو مني أو معي (ليس بظهار إلا مع نية) ظهار (أو قرينة)؛ لأن احتمال هذه الصور لغير الظهار أكثر من احتمال الصور التي قبلها له وكثرة الاحتمالات توجب اشتراط النية في المحتمل الأقل ليتعين له؛ لأنه يصير كناية فيه والقرينة تقوم مقام النية".
(2)
أخرجه البخاري (1).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (4/ 253)، حيث قال:"فقد صرحوا بأن قوله لزوجته يا أخية مكروه".
وهو مذهب المالكية، ينظر:"منح الجليل شرح مختصر خليل" للشيخ عليش (4/ 90)، حيث قال:"لزوجته (يا أمي ويا أختي) الواو بمعنى أو ومثله يا بنيتي أو عمتي أو خالتي. ابن عرفة وفيها لمالك - رضي الله تعالى عنه - قوله: يا أمه أو يا أخيته أو يا عمته أو يا خالته لا شيء فيه، وهو من كلام أهل السفه. قلت كونه منه دليل حرمته أو كراهته".
وكذا مذهب الحنابلة. ينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 166)، حيث قال:" (فلغو ك) قوله: (أمي) امرأتي (أو أختي امرأتي أو مثلها)، أي: أمي أو أختي مثل امرأتي ونحوه (وك) قول أنت علي (كظهر البهيمة) فليس ظهارًا".
قوله: (وَأَمَّا مَنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنَّهُ ظِهَارٌ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
).
وهو كذلك روايةٌ عن أحمد
(2)
.
ولا يختلف الحال في هذه المسألة عند الأئمة بين أن يُشَبِّهَ زوجته بأجنبيةٍ، أو بامرأةٍ تحرم عليه تحريمًا مؤقَّتًا كأخت الزوجة، أو أن يقول:(كلّ امرأةٍ أتَزَوَّجُها فأنا أظاهِر منها، أو: هي علَيَّ كَظَهر أمِّي).
- قوله: (وَعَنْ ابْنِ المَاجِشُون
(3)
لَيْسَ بِظِهَارٍ).
وهذا القول يلتقي مع قول الإمام الشافعي
(4)
، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد
(5)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 443)، حيث قال:" (أو) قال: أنت علي (كظهر أجنبية) تحل له في المستقبل بنكاح أو ملك (ونوي فيها)، أي: في الكناية الظاهرة بقسميها فإن نوى بها الطلاق صدق في الفتوى والقضاء فقوله: (في الطلاق)، أي: في قصد الطلاق وهو بدل اشتمال من ضمير فيها؛ لأنه يشمل الطلاق وغيره، وإذا صدق في قصد الطلاق (فالبتات) لازم له في المدخول بها كغيرها إن لم ينو أقل".
(2)
يُنظر: "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى الفراء (2/ 179)، حيث قال:"فإن شبهها بظهر امرأة أجنبية أو مطلقة بائن، فهل يكون مظاهرًا فنقل صالح عنه في الرجل يقول لامرأته؟ أنت عليَّ كظهر أجنبي، أو كظهر امرأة أجنبية، فقال: إن ظاهر بذات محرم فهو ظهار. وكذلك نقل الميموني: إنما كره ظهار الأم، لأنها حرام فظاهر هذا أنه لا يكون مظاهرًا من الأجنبية".
(3)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 607)، حيث قال:"وأما الظهار بالأجنبية فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن الماجشون: أنه لا يكون مظاهرًا بالأجنبية سمى الظهار أو لم يسمه".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 179)، حيث قال:" (ولو شبه) زوجته (بأجنبية) تعدية شبه بالباء مسموعة خلافًا لمن أنكره (ومطلقة وأخت زوجة وبأب) مثلًا (وملاعنة فلغو) ".
(5)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (23/ 237، 238)، حيث قال:"قوله: وإن قال: أنت عليَّ كظهر أبي. أو: كظهر أجنبية. أو: أخت زوجتي. أو: عمتها. أو: خالتها. فعلى روايتين".
- قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِمُحَرَّمَةٍ غَيْرِ مُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمِ كَتَشْبِيهِهَا بِمُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمِ؟).
ومراد المؤلف هاهنا هو ما إذا كان تشبيه الزوجة بامرأة محرَّمةٍ تحريمًا مؤقَّتًا بمثابة تشبيهها بمحرَّمةٍ على التأبيد أم لا.
والحقيقة أن هناك فَرْقًا بينهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْل الثَّانِي: فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الكَفَّارَةِ فِيهِ)
وهذه المسألة تبحث فيما إذا كانت الكفارة تجب بمجرَّد الظِّهار أم أنها تجب بالعودة عن الطهار، فإن الله سبحانه وتعالى بَيَّنَ في الآية الكريمة أن المُظاهِرَ من امرأته بعد العودة عن ظِهاره تجب عليه الكفارة بحيث يَعتِق رقبةً قبل أن يَحدُثَ المسيس، ثم إن عدمَت الاستطاعةُ عن العتق يصوم شهرين متتابعين، فإن عدمَت الاستطاعةُ عن الصيام أَطْعَمَ ستين مسكينًا، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3].
- قوله: (وَأَمَّا شُرُوطُ وُجُوبِ الكَفَّارَةِ، فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ دُونَ العَوْدِ).
القول الأول:
وهو قول جمهور أهل العلم، فهو محلّ اتفاق الأئمة الأربعة
(1)
،
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (4/ 245)، حيث قال:"واختلف في سبب وجوبها فقال في المنافع: تجب بالظهار والعود". =
بل اتَّفق عليه كافَّة أهل العلم إلا قليلًا من العلماء، فغالب أهل العلم ذهبوا إلى عدم وجوب الكفارة إلا بِالعَوْدِ.
- قوله: (وَشَذَّ مُجَاهِدٌ
(1)
وَطَاوُسٌ فَقَالَا: "تجِبُ دُونَ العَوْدِ").
القول الثاني:
وهذا القول ليس قول مجاهد وطاوس فقط كما قال المؤلف، بل إن مجاهدًا وطاوسًا وقتادة والزهري والشعبي
(2)
- وكلهم من التابعين - ذهبوا إلى وجوب الكفارة بمجرد وقوع الظِّهار.
وقد اعتَبَرَ المؤلِّفُ هذا القول شذوذًا؛ لِنُدرَةِ مَن قال به؛ لأن قَولَهُم لو وُزِنَ بِقَوْلِ الآخَرِين لَكَانَ قليلًا، ثم إنه في ظَاهِرِهِ مُخالِفٌ لِصَرِيحِ القرآن.
- قوله: (وَدَلِيلُ الجُمْهُورِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَعْنَى وُجُوبِ تَعَلُّقِ الكَفَّارَةِ بِالعَوْدِ).
= ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ للدردير (2/ 446)، حيث قال:" (وتجب) الكفارة وجوبًا موسعًا (بالعود وتتحتم بالوطء) ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 183)، حيث قال:"ولزوم كفارة وغير ذلك يجب (على المظاهر كفارة إذا عاد) للآية السابقة فموجبها الأمران، أعني: العود والظهار".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 168)، حيث قال:" (وتثبت)، أي: تستقر كفارة الظهار (في ذمته)، أي: المظاهر (بالعود) ".
(1)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 772)، حيث قال:"الكفارة في الظهار لا تجب إلا بالعود، خلافًا لما يحكى عن مجاهد أنها تجب بنفس التلفظ بالظهار من غير اعتبار معنى زائد".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 15)، حيث قال:"وقال طاوس، ومجاهد، والشعبي، والزهري، وقتادة: عليه الكفارة بمجرد الظهار؛ لأنه سبب للكفارة وقد وجد، ولأن الكفارة وجبت لقول المنكر والزور، وهذا يحصل بمجرد الظهار".
فإلى جانب وقوع الظِّهار رَتَّبَ النَّصُّ القرآنيُّ الكفارةَ على وجود العودة أيضًا.
- قوله: (وَأَيْضًا فَمِنْ طَرِيقِ القِيَاسِ، فَإِنَّ الظِّهَارَ يُشْبِهُ الكَفَّارَةَ فِي اليَمِينِ، فَكَمَا أَنَّ الكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَلْزَمُ بِالمُحَافَظَةِ أَوْ بِإِرَادَةِ المُخَالَفَةِ، كلذَلِكَ الأَمْرُ فِي الظِّهَارِ، وَحُجَّةُ مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ: أَنَّهُ مَعْنًى يُوجِبُ الكَفَّارَةَ العُلْيَا، فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَهَا بِنَفْسِهِ لَا بِمَعْنًى زَائِدٍ تَشْبِيهًا بِكَفَّارَةِ القَتْلِ وَالفِطْرِ).
والكفارات إنما هي نوعان: مُخَفَّفَةٌ وَمُغَلَّظَةٌ، فالكفارة المُخَفَّفَةُ ككفارة اليمين التي ذَكَرَهَا اللهُ في سورة المائدة في قوله سبحانه وتعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، حيث جَعَلَ اللهُ فيها الخيارَ، أما الكفارة المغلَّظة فهي ككفارة الظِّهار أو القتل أو الفطر بالجِماع في نهار رمضان، فكلّ هذه الكفارات كفارات مغلَّظة، فكَفَّارةُ الظِّهار كفَّارةٌ عليا، أي: مُغَلَّظَة، ولذا فإنها على الترتيب لا على التخيير ككفارة اليمين، فترتيب الكفارات في الظهار يبدأ بأشد الكفارات، وهو تحرير رقبة، ثم إن لم يجد صام شهرين متتابعين، وإن أَخَلَّ بالشهرين لزمه استئناف الصيام من جديدٍ إلا أن يكون قد تخلله يومٌ لا يجوز صيامه - كيوم العيد مثلًا -، ثم إن لم يستطع الصيام أَطْعَمَ ستين مسكينًا.
- قوله: (وَأَيْضًا قَالُوا: إِنَّهُ طَلَاقُ الجَاهِلِيَّةِ، فَنُسِخَ تَحْرِيمُهُ بِالكَفَّارَةِ).
فالظهار في الجاهلية إنما كان طلاقًا؛ لِمَا ثَبَتَ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
(1)
:
(1)
أخرجه الطبري في "جامع البيان"(22/ 455).
أن الطلاق في الجاهلية كان على ثلاثة أنواعٍ:
- الطلاق المعروف الآن، والذي أَقَرَّهُ الإسلامُ.
- والإيلاء.
- والظهار.
- قوله: (وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، وَالعَوْدُ عِنْدَهُمْ هُوَ العَوْدُ فِي الإِسْلَامِ، فَأَمَّا القَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ العَوْدِ فِي إِيجَابِ الكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ مَا هُوَ؟).
يعني: أن جمهور العلماء اختلفوا في معنى العَوْدِ على أقوالٍ، وهي:
- أن العَوْدَ هو الوطءُ والعزمُ على الإمساك.
- أنه هو العزمُ على الإمساك فقط.
- أنه هو الوطء فقط.
- أنه هو الإمساك.
- أنه هو تكرار لفظ الظهار، بمعنى: أن يُعِيدَ المُظاهِرُ لَفْظَ الظِّهار مرةً أخرى.
- قوله: (فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ العَوْدَ هُوَ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى إِمْسَاكهَا وَالوَطْءِ مَعًا
(1)
).
فالقول الأول عن الإمام أنَّ العَوْدَ هو الجمعُ بين الوطء ووجود العزم على الإمساك؛ لأن الوطء عندهم لا يَحدُث بدون العزم على الإمساك، وهذا القول قد انْفَرَدَ به المالكيةُ عن باقي الأئمة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 447)، حيث قال:"وروي عن مالك أيضًا أن العود هو العزم على الوطء مع إرادة إمساك العصمة".
- قوله: (وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْزِمَ عَلَى وَطْئِهَا فَقَطْ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ المَشْهُورَةُ عَنْ أَصْحَابِهِ
(1)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
).
القول الثاني عن الإمام مالكٍ: أنَّ العَوْدَ المراد في الآية إنما هو مُجرَّدُ العزم على الوطء
(4)
.
ونسبة المؤلف هذا القول للإمامين أبي حنيفة وأحمد فيها نظرٌ، فهذا القول ليس لأبي حنيفة، وإنما هو قول بعض أصحابه، أما بالنسبة إلى الإمام أحمد فلم يقل بهذا القول، وإنما قال بالقول الثالث الذي سيأتي معنا.
- قوله: (وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ العَوْدَ هُوَ نَفْسُ الوَطْءِ).
القول الثالث عن الإمام مالكٍ: أنَّ العَودَ إنما هو الوطءُ
(5)
.
وهذا هو الذي نَصَّ عليه الإمامُ أحمدُ
(6)
.
(1)
يُنظر: "المدونة" لسحنون (2/ 321)، حيث قال:" {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] فالعودة إرادة الوطء والإجماع عليه".
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 447)، حيث قال:"ولفظ المدونة والعود إرادة الوطء والإجماع عليه".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (4/ 246)، حيث قال:"المراد من لفظ العود في الآية العزم على الوطء".
(3)
مشهور مذهب أحمد: أن العود هو الوطء نفسه لا العزم عليه ينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 169)، حيث قال:" {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] (وهو الوطء) نصًّا لا العزم عليه".
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (4/ 49)، حيث قال:"قال أحمد بن حنبل روى عن مالك أبو القاسم بن الجلاب وغيره رواية أخرى: أن العزم هو نفس الوطء".
(6)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 169)، حيث قال:" {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] (وهو الوطء) نصًّا لا العزم عليه".
- قوله: (وَهِيَ أَضْعَفُ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ).
وهذه الرواية ليست ضعيفةً على وجه التحقيق، وسيأتي من المؤلِّف ما يَنْقُدُ فيه هذا الكلام.
- قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "العَوْدُ هُوَ الإِمْسَاكُ نَفْسُهُ"، قَالَ: وَمَنْ مَضَى لَهُ زَمَانٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ وَلَمْ يُطَلِّقْ، ثَبَتَ أَنَّهُ عَائِدٌ، وَلَزِمَتْهُ الكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ إِقَامَتَهُ زَمَانًا يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَلِّقَ يَقُومُ مَقَامَ إِرَادَةِ الإِمْسَاكِ مِنْه، أَوْ هُوَ دَلِيلُ ذَلِكَ
(1)
).
قول الإمام الشافعي في العَوْدِ: أنه هو الإمساكُ
(2)
.
ومن لوازم هذا القول أن الزوج إذا أَمْسَكَ زوجَتَه مدَّةً فإن له أن يُطَلِّقَها، فإنْ لم يُطَلِّقْهَا لَزِمَتْهُ الكفارةُ؛ لأنه لو أَمْسَكَهَا زَمَنًا ولم يُطَلِّقْهَا لكان هذا كافيًا بمجرَّدِهِ لِلْعَوْدِ عن ظِهَارِهِ، وحينئذٍ تلزمه كفارة الظِّهار؛ لأن فِعْلَ الزوج لا يَخْلُو مِن أمرين، إمَّا أن يُكَفِّرَ ويعودَ إلى الوطءِ، وإمَّا أن يُطَلِّقَ.
- قوله: (وَقَالَ دَاوُدُ
(3)
وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(4)
: "العَوْدُ هُوَ أَنْ يُكَرِّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ ثَانِيَةً، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِعَائِدٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ").
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 443)، حيث قال:"قال الشافعي رحمه الله تعالى: (قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآية، قال: والذي عقلت مما سمعت في {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} الآية أنه إذا أتت على المتظاهر مدة بعد القول بالظهار لم يحرمها بالطلاق الذي تحرم به وجبت عليه الكفارة كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرم على نفسه فقد عاد لما قال فخالفه فأحل ما حرم ولا أعلم معنى أولى به من هذا) ".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 443)، حيث قال:"والثاني: وهو مذهب داود وأهل الظاهر أنه إعادة الظهار ثانية بعد أولى فيقول: أنت عليَّ كظهر أمي أنت عليَّ كظهر أمي".
(4)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (9/ 193)، حيث قال:"ولم يبق إلا قولنا وهو (أن يعود لما قال ثانية)، ولا يكون العود للقول إلا بتكريره".
وهذا قول الظاهرية في معنى العَوْدِ: أنه تَكرار لفظ الظِّهار مرةً ثانيةً، بمعنى أن يقول مرةً أخرى:(أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي)، بحيثُ إن كَرَّرَهُ صار عائدًا عن الظِّهار وَلَزِمَتْهُ الكفارة، وإن لم يُكَرِّرْ فحينئذٍ لم يكن مُظاهِرًا ولا عائِدًا عن الظِّهار، فلا توجَبُ عليه كَفَّارَتُهُ.
وهو قولٌ ضعيفٌ، ليس عليه دليلٌ من كتابٍ ولا سُنَّةٍ.
- قوله: (فَدَلِيلُ الرِّوَايَةِ المَشْهُورَةِ لِمَالِكٍ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ المَفْهُومَ مِنَ الظِّهَارِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الكَفَّارَةِ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِرَادَتِهِ العَوْدَ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالظِّهَارِ، وَهُوَ الوَطْء، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ العَوْدَةُ هِيَ: إِمَّا الوَطْءُ نَفْسُه، وَإِمَّا العَزْمُ عَلَيْهِ وَإِرَادَتُهُ. وَالأَصْلُ الثَّانِي: لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ العَوْدُ نَفْسُهُ هُوَ الوَطْءَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وَلذَلِكَ كَانَ الوَطْءُ مُحَرَّمًا حَتَّى يُكَفِّرَ).
رواية الإمام مالكٍ التي يقصدها المؤلف هاهنا هي القول بأن العَوْدَ هو العزم على الوطء
(1)
، بمعنى: أن الكفارة تجب على المُظاهِر بمجرد عزمه على الوطء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، أي: مِن قبل أن يحدث الجماع، وهو دليل على أن الكفارة تسبق الجماع؛ لأن الله سبحانه وتعالى قَيَّدَ الوَطءَ بأداء الكفَّارة أَوَّلًا، ولذا قال مالكٌ:"هو إرادة الجماع".
فهناك وطءٌ، وهناك إرادة الوطء، وكون العَود هو الوطء متعذرٌ؛ لأن الوطءَ مشروطٌ بأداء الكفارة، فيبقى أن المراد بالعَودِ إرادة الوطء؛ لأن المُظاهِرَ إذا أراد الوطءَ فإنما يُكَفِّرُ قبله.
والمؤلِّف قد قال بِضَعْفِ قول القائلين بأن العَود هو الوطء؛ والسبب
(1)
تقدم تخريجه.
في ذلك إنما هو أَخْذُ المؤلِّفِ تعليل العلماء على ظاهِره وعدم إدراكه له، ولكن قولهم ليس ضعيفًا على الحقيقة، بل هو أقرب إلى النَّصِّ، وله من الشواهد ما يؤيده، وسيأتي ذِكر هذه الشواهد.
- قوله: (قَالُوا: وَلَوْ كَانَ العَوْدُ نَفْسُهُ هُوَ الإِمْسَاكَ، لَكَانَ الظِّهَارُ نَفْسُهُ يُحَرِّمُ الإِمْسَاكَ، فَكَانَ الظِّهَارُ يَكُونُ طَلَاقًا).
والقول بأن العَوْدَ هو الإمساكُ إنما هو قول الشافعية
(1)
.
- قوله: (وَبِالجُمْلَةِ: فَالمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي هَذه المَسْأَلَةِ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُعَرِّفُهُ الفُقَهَاءُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ
(2)
).
والسَّبر والتقسيم إنما هو الطريق الثالث من طرق العلة ومسالكها، بعد الاستدلال بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالأدلَّة من حيثُ الجملة تنقسم إلى أدلة عقلية وأدلة نقلية؛ فالنقلية: ما جاء من كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ، أما العقلية: فما يُعرَفُ بالرأي أو القياس، أما السبر والتقسيم فليس دَليلًا نقليًّا، ولكنه مُستَنبَطٌ من الدليل، فليس دليلًا إذن مستقلًّا بذاته، وإنما هو دليلٌ مُستَخرَجٌ من الأدلة، ومن خلال السبر والتقسيم استطاع العلماء معرفة علل الأحكام.
- قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى العَوْدِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَكْرَارَ اللَّفْظِ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
السبر والتقسيم، وهو في اللغة: الاختبار، ومنه الميل الذي يختبر به الجرح، فإنه يقال له: المسبار، وسمي هذا به؛ لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها (في أنه) هل تصلح للعلية أم لا؟
وفي الاصطلاح هو قسمان:
أحدهما: أن يدور بين النفي والإثبات، وهذا هو المنحصر.
والثاني: أن لا يكون كذلك، وهذا هو المنتشر. انظر:"إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 124، 125).
عَلَى مَا يَرَاهُ دَاوُد، أَوِ الوَطْءَ نَفْسَه، أَوِ الإِمْسَاكَ نَفْسَه، أَوْ إِرَادَةَ الوَطْءِ).
وهاهنا يعود المؤلِّف لمناقَشَة الأقوال التي أَورَدَهَا في المسألة، وهي: قول الظاهرية
(1)
بأن العَودَ هو تكرار اللفظ مرةً أخرى، وقول الشافعي
(2)
بأنه هو الإمساك، والقول بأنه هو الوطء نفسه كما جاء عند أحمد
(3)
، وفي إحدى الروايات عن مالك
(4)
، والقول بأنه إرادة الوطء كما جاء في روايةٍ أخرى عن مالكٍ
(5)
، وفي قول بعض أصحاب أحمد
(6)
.
- قوله: (وَلَا يَكُونُ تَكْرَارَ اللَّفْظِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ، وَالتَّأْكِيدُ لَا يُوجِبُ الكَفَّارَةَ، وَلَا يَكُونُ إِرَادَةَ الإِمْسَاكِ لِلْوَطْءِ، فَإِنَّ الإِمْسَاكَ مَوْجُودٌ بَعْد، فَقَدْ بَقِيَ أَنْ يَكُونَ إِرَادَةَ الوَطْءِ).
قد عَلَّلَ المؤلف عدم الاحتياج إلى إرادة الإمساك هاهنا بأن وجود الإمساك يكفي في هذا الشأن؛ لأن الإمساك ما دام قائمًا فإنه يتضمن الإرادة، بحيث لا ينتهي الإمساك إلا إذا طَلَّقَ امرأته، وما دام لم يُطَلِّقْهَا فإن الإمساكَ موجودٌ وإرادته موجود كذلك.
- قوله: (وَإِنْ كَانَ إِرَادَةَ الإِمْسَاكِ لِلْوَطْءِ، فَقَدْ أَرَادَ الوَطْءَ، فَثَبَتَ أَنَّ العَوْدَ هُوَ الوَطْءُ. وَمُعْتَمَدُ الشَّافِعِيَّةِ فِي إِجْرَائِهِمْ الإِمْسَاكَ، أَوِ الإِمْسَاكَ لِلْوَطْءِ مَجْرَى إِرَادَةِ الوَطْءِ أَنَّ الإِمْسَاكَ يَلْزَمُ عَنْهُ الوَطْء، فَجَعَلُوا لَازِمَ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
يُنظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(5/ 485)، حيث قال:"وبها قطع القاضي وأصحابه: أنه العزم على الوطء قال القاضي: ونص عليه أحمد في رواية الجماعة، منهم الأثرم، فقال: العود أن يريد أن يغشى، فيكفر قبل أن يمسها".
الشَّيْءِ مُشَبَّهًا بِالشَّيْءِ، وَجَعَلُوا حُكْمَهُمَا وَاحِدًا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ
(1)
).
أما إرادة الإمساك وإرادة الوطء فهما متقاربان، وبناءً على ذلك فإن قول بعض أصحاب أحمد
(2)
، والقول الثاني لمالكٍ
(3)
هما - على التحقيق - قولٌ واحدٌ، وهو ما انتهى إليه الإمام الشافعي والإمام أحمد كذلك.
- قوله: (وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّتِ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الإِمْسَاكِ هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُوبِ الكَفَّارَةِ: أَنَّ الكَفَّارَةَ تَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ الإِمْسَاكِ، وَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَ إِثْرَ الظِّهَارِ).
"ترتفع"، أي: تزول.
ومراد المؤلِّف هاهنا أن الكَفَّارةَ تزول إذا طَلَّقَها، أما إذا بقيَ ممسكًا ولم يطلِّق فحينئذٍ تلزمه الكفارة.
- قوله: (وَلهَذَا احْتَاطَ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ
(4)
، فَجَعَلَ العَوْدَ هُوَ إِرَادَةَ الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا - أَعْنِي: الوَطْءَ وَالإِمْسَاكَ - وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ العَوْدُ الوَطْءَ، فَضَعِيفٌ وَمُخَالِفٌ لِلنَّصِّ).
والمؤلف هاهنا يريد أن يقول إن الذي قال لامرأته: (أنتِ عليَّ كظهرِ أُمِّي)، إنما حَرَّمَ على نفسه وَطء زوجته كحرمة وَطْءِ أمِّه، فعلَّة الظِّهار هي الوطء، والعودة عن الشيء إنما تكون بفِعل ما مَنَعَه الإنسان عن نفسه، ولكن الله تعالى يقول:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:
(1)
هي عن مالك وتقدم تخريجها.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجها.
3]، وهذا يدلّ على عدم جواز الوطء قبل الكفارة، وأن الكفَّارةَ محلّها لا بد أن يكون سابقًا في الترتيب على الوطء، ولذلك قال المؤلف بضعف هذا القول.
والإمام أحمد - في حقيقة الأمر - قد عَلَّلَ ذلك وبَيَّنَه، فقال: العَوْدُ هو الوَطْء، لكن بشرط أن يكون هذا العَود مسبوقًا بالكفارة، وهذا - في الحقيقة - ليس يعني إلا إرادة الوطء، ولذلك قلنا: إن هذا القول ثابتٌ في كتاب الله عز وجل.
- قوله: (وَالمُعْتَمَدُ فِيهَا تَشْبِيهُ الظِّهَارِ بِاليَمِينِ - أَيْ: كَمَا أَنَّ كَفَّارَةَ اليَمِينِ إِنَّمَا تجِبُ بِالحِنْثِ، كذَلِكَ الأَمْرُ هَاهُنَا، وَهُوَ قِيَاسُ شَبَهٍ عَارَضَهُ النَّصُّ).
فكفارة اليمين إنما تجب إذا حَلَفَ الإنسان بالله سبحانه وتعالى على فِعل شيءٍ ولم يفعله، أو إذا حَلَفَ على عدم فِعل شيءٍ وفَعَلَه، أمَّا إذا بَرَّ الإنسان بيمينه فلا تترتب الكفارة في حقَه حينئذٍ.
- قوله: (وَأَمَّا دَاوُد، فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى القَوْلِ نَفْسِهِ).
والذي تَعَلَّقَ بظاهر النَّصِّ هاهنا إنما هو فَهْمُ الظاهرية؛ لأنهم فَهِمُوا من قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}
(1)
أن المراد هو العودة إلى لفظ الظهار، بأن يتلفظ المُظاهِر به مرةً أخرى، فقالوا: إن الآية رَدَّت العودة إلى القول لا إلى الفعل، بينما الوطء فِعل وليس قولا، فيبقى أن المراد من الآية هو أن يقول المُظاهِر لامرأته:(أنتِ علَيَّ كظهر أمِّي) كما قالها لها في المرة الأولى، وحينئذٍ يكون قد خرج من ذلك الظهار.
وفَهْمُ الظاهرية للأمر على هذه الصورة إنما هو فهمٌ خاطئ غير مُسلَّمٍ
(1)
السابق.
به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بَيَّنَ ذلك بيانًا شافيًا، ولأنه قد أَمَرَ أُويس بن الصامت
(1)
، وسلمة بن صخر
(2)
بالكفارة، ولم يقل لهما عودا إلى قولكما الأول، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يُوضِّح لنا الأحكامَ ويُبَيِّنُ ما يلزَم المكلَّفَ منها.
- قوله: (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ العَوْدُ فِي الإِسْلَامِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظِهَارِهِمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ المَعْنَى فِي الآيَةِ: ثُمَّ يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا. وَسَبَبُ الخِلَافِ بِالجُمْلَةِ إِنَّمَا هُوَ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ لِلْمَفْهُومِ).
ومراد المؤلِّف هاهنا أن يوضح أن سبب الخلاف بين جميع هذه الأقوال إنما هو الخلاف في فهمِ ظاهِر النَّصِّ القرآني، وبناءً على ذلك تعدَّدَت الأقوال - كما ذَكَرْنَا -، فصار عندنا قول الشافعية القائلين بأن العود هو الإمساك
(3)
، وقول الإمام أحمد
(4)
بأنه هو الوطء، وقول مالكٍ
(5)
، وبعض أصحاب أحمد
(6)
بأنه العزم على الوطء، والقول الأول: لمالك
(7)
بأنه العزم على الوطء والعزم على الإمساك، وقول الظاهرية
(8)
بأنه العود إلى اللفظ وتكراره مرة أخرى، فكلّ هذه الأقوال إنما انبَنَتْ على خلافهم في فهمِ ظاهِر النَّصِّ القرآني الكريم.
- قوله: (فَمَنِ اعْتَمَدَ المَفْهُومَ، جَعَلَ العَوْدَةَ إِرَادَةَ الوَطْءِ أَوِ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
تقدم تخريجه.
(7)
تقدم تخريجه.
(8)
تقدم تخريجه.
الإِمْسَاكِ، وَتَأَوَّلَ مَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] بِمَعْنَى الفَاءِ).
وهنا يبين المؤلف أن هناك فرقًا في المعنى بين (يعودون لما قالوا)، و:(يعودون فيما قالوا).
- قوله: (وَأَمَّا مَنِ اعْتَمَدَ الظَّاهِرَ، فَإِنَّهُ جَعَلَ العَوْدَةَ تَكْرِيرَ اللَّفْظِ، وَأَنَّ العَوْدَةَ الثَّانِيَةَ إِنَّمَا هِيَ ثَانِيَةٌ لِلْأُولَى الَّتِي كانَتْ مِنْهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ. وَمَنْ تَأَوَّلَ أَحَدَ هَذَيْنِ، فَالأَشْبَهُ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ بِنَفْسِ الظِّهَارِ تَجِبُ الكَفَّارَةُ كمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ
(1)
).
وهذا القول إنما هو قولٌ ضعيفٌ، وقد بَيَّنَّا ذلك.
- قوله: (إِلَّا أَنْ يُقَدِّرَ فِي الآيَةِ مَحْذُوفًا، وَهُوَ إِرَادَةُ الإِمْسَاكِ، فَهُنَا - إِذًا - ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ. إِمَّا أَنْ تَكُونَ العَوْدَةُ هِيَ تَكْرَارَ اللَّفْظِ، وإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِرَادَةَ الإِمْسَاكِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ العَوْدَةَ الَّتِي هِيَ فِي الإِسْلَامِ، وَهَذَانِ يَنْقَسِمَانِ قِسْمَيْنِ: - أَعْنِي: الأَوَّلَ وَالثَّالِثَ - أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّرَ فِي الآيَةِ مَحْذُوفًا، وَهُوَ إِرَادَةُ الإِمْسَاكِ، فَيُشْتَرَطُ هَذِهِ الإِرَادَةُ فِي وُجُوبِ الكَفَّارَةِ، وَإِمَّا أَلَّا يُقَدِّرَ فِيهَا مَحْذُوفًا، فَتَجِبُ الكَفَّارَةُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي فُرُوعٍ، وَهُوَ: هَلْ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ إِرَادَةِ الإِمْسَاكِ، أَوْ مَاتَتْ عَنْهُ زَوْجَتُه، هَلْ تَكُون عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟).
فهذه مسألة من المسائل، وقد اختلف أهل العلم فيها فيما إذا كانت الكفارة تجب أم لا على المُظاهِر إذا طَلَّقَ زوجتَه بعد الظِّهار وقبل إرادة إمساكها، وكذلك فيما إذا كانت الكفارة تجب عليه لو ماتت زوجته بعد الظِّهار وقبل إرادة إمساكها.
(1)
تقدم تخريجه.
- قوله: (فَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ
(1)
عَلَى أَنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ إِرَادَةِ العَوْدَةِ، أَوْ بَعْدَ الإِمْسَاكِ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ
(2)
).
فجمهور أهل العلم هاهنا في هذه المسألة يذهبون إلى عدم وجوب الكفارة على الزوج إلا أن يكون الطلاق قد وَقَعَ بعد إرادة العودة، أي: بعد تَحَقُّقِ أحد الأمور الخمسة التي ذَكَرَهَا العلماءُ في بيان معنى قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} .
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (4/ 246)، حيث قال:"حتى لو أبانها أو ماتت بعد العزم لا كفارة عليه قال: فهذا دليل على أنها غير واجبة لا بالظهار ولا بالعود؛ إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم، فإذا أراد رفعه وجب عليه في رفعه الكفارة عندنا كما تقول لمن أراد الصلاة النافلة: يجب عليك إن صليتها أن تقدم الوضوء. وعند الشافعي رحمه الله هو سكوته بعد ظهاره قدر ما يمكنه طلاقها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ للدردير (2/ 447)، حيث قال:" (وسقطت) الكفارة بعد العود المذكور وأولى قبله (إن لم يطأ) المظاهر منها (بطلاقها) البائن لا الرجعي، أي: لم يخاطب بها ما دام لم يتزوجها، فإن تزوجها لم يمسها حتى يكفر (و) سقطت بـ (موتها) أو موته".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 184)، حيث قال:" (فلو اتصل به)، أي: لفظ الظهار (فرقة بموت) لأحدهما (أو فسخ) منه أو منها أو انفساخ بنحو ردة قبل وطء (أو طلاق بائن أو رجعي ولم يراجع أو جن) أو أغمي عليه عقب اللفظ (فلا عود) للفرقة أو تعذرها فلا كفارة ومحله إن لم يمسكها بعد الإفاقة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 169، 170)، حيث قال:" (وإن اشترى) مظاهر (زوجته) التي ظاهر منها وهي أمة فظهاره بحاله وله عتقها عنه، فإن عاد وتزوجها فلا كفارة، وإن أعتقها عن غيره ثم تزوجها فعليه الكفارة بالوطء (أو بانت زوجة مظاهر منها) حرة كانت أو أمة (قبل الوطء ثم أعادها مطلقًا) ارتدَّ أو لا (فظهاره بحاله) نصًّا لعموم الآية والخبر؛ ولأن التحريم إنما يزول بالتكفير، (وإن مات أحدهما)، أي: الزوجين بعد ظهار (قبله)، أي: الوطء (سقطت) كفارة الظهار سواء مات عقب ظهاره، أو تراخى عنه؛ لأنه لم يوجد الحنث ويرثها وترثه كما بعد التكفير".
(2)
تقدم تخريجه.
أما ما أورده المؤلِّف في كلامه عن الشافعي، فإنه يريد به إلزامَ الشافعية بمقتضى مذهبهم، فالإمام الشافعي قد ذَهَبَ إلى أن العَوْدَ هو الإمساكُ نفسه إذا مضى زمن يمكن أن يُطَلِّقَ فيه ولم يُطَلِّقْ فإن الكفارة تلزم حينئذٍ؛ لأن كون الإمساك قائمًا يفيد تَحَقُّقَ المراد من العود.
- قوله: (وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ البَتِّيِّ
(1)
أَنَّ عَلَيْهِ الكَفَّارَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ).
وهذا القول إنما هو قولٌ ضعيفٌ.
- قوله: (وَأَنَّهَا إِذَا مَاتَتْ قَبْلَ إِرَادَةِ العَوْدَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى مِيرَاثِهَا إِلَّا بَعْدَ الكَفَّارَةِ، وَهَذَا شُذُوذٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَاللهُ أَعْلَمُ).
وهذا القولُ إنما هو أشدُّ ضعفًا من القول السابق، فإن جماهير أهل العلم
(2)
يذهبون إلى أن كلًّا منهما يرث الآخر في هذه الحالة، فيما عدا قتادة
(3)
الذي ذهب إلى أن الزوج لا يرث زوجته المُظاهِرَ منها إذا ماتت إلا بعد أداء الكفارة، وأنه إن لم يُكَفِّر لم يرث.
(1)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 486)، حيث قال:"وقال عثمان البتي فيمن ظاهر من امرأته ثم طلَّقها قبل أن يطأها، قال: أرى عليه الكفارة راجعها أو لم يراجعها، وإن ماتت لم يصل إلى ميراثها حتى يكفر".
(2)
مذهب الحنفية تقدَّم.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 447)، حيث قال:" (قوله: وسقطت بموتها)، أي: أو موته، أي: بعد العزم، وأما بعد الوطء فلا تسقط بل تخرج من ثلثه إذا مات".
ومذهب الشافعية تقدَّم.
ومذهب الحنابلة تقدَّم.
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 402)، حيث قال: "اختلف أهل العلم في الرجل يظاهر من زوجته ثم يموت أو تموت ولم يكفر.
فقالت طائفة: يتوارثان ولا [يكفر] كذلك قال عطاء، والحسن، والنخعي، وبه قال الأوزاعي إذا لم يكن وطئها بعد الظهار، وحكى أبو عبيد هذا القول عن مالك، وسفيان الثوري. =
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَنْ يَصِحُّ فِيهِ الظِّهَارُ
وَاتَّفَقُوا عَلَى لُزُومِ الظِّهَارِ مِنَ الزَّوْجَةِ الَّتِي فِي العِصْمَةِ).
لأنه من المعلوم أن كلَّ مَن صحَّ طلاقه صحَّ ظهاره، فمن المُسَلَّمات أن الرجل يَملِكُ أن يظاهِر من المرأة التي في عصمته والتي عَقَدَ عليها عقدًا صحيحًا، وسيأتي الخلاف في المظاهَرة من المرأة الأجنبية التي ليست في عصمة الزوج.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ مِنَ الأَمَةِ، وَمِنَ الَّتِي فِي غَيْرِ العِصْمَةِ).
لأن الله سبحانه وتعالى حينما دكَرَ الظِّهارَ قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، وقوله تعالى هاهنا:{مِنْ نِسَائِهِمْ} يحتمل أن يكون مقصودًا به جنس النساء عامَّةً، ويحتمل أن يكون مقصودًا به الزوجات، فإن كان يراد به الزوجات فإن اللفظ حينئذٍ لا يشمل الإماء، وإن أُرِيدَ به عموم النساء حصلَ النزاع في دخول الإماء في عمومِ اللفظ، وذلك أن أهلَ العلم مُتَّفقون على أن النساء في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] يُراد به الزوجات، وهو محلُّ اتّفاقٍ لا خلاف عليه ولا نزاع فيه، ولذا - كما سيأتي - فإن المؤلِّفَ سَيُشَبِّهُ الظهارَ بالإيلاءِ من باب قياس الشَّبَهِ لا من باب قياس العلة.
= وفيه قول ثان: وهو أن يكفر ويرث. هكذا قال الشعبي، والزهري، وقتادة، وروي ذلك عن الحسن".
والمراد هاهنا هو الإشارة لاختلاف أهل العلم في قول السيد لأمته: (أنتِ عليَّ كظهر أمِّي)، وما إذا كان هذا القول منه ظهارًا أم لا.
وفي هذه المسألة يُتناوَلُ جانبٌ مهمٌّ كذلك، أَلَا وهو الفرق بين أن تكون هذه الأَمَة من الإماء التي يطؤها السيد، وبين أن تكون من الإماء التي لا يطؤها.
- قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي ظِهَارِ المَرْأَةِ مِنَ الرَّجُلِ).
وهذه مسألة أخرى، والمراد منها هو ما إذا كان للمرأة أن تكون هي المُظاهِرةَ من زوجها أم لا، بمعنى أن تقول لزوجها:(أنتَ عليَّ كظهر أبي)، أو تقول:(إن تزوجتُ فلانًا فهو عليَّ كظهرِ أبي)، والظِّهار إنما هو قريبٌ في معناه من باب الطلاق، وفي الطلاق - كما هو معلومٌ - يملك الرجل حق الطلاق؛ لأنه يملك البُضْعَ، أما المرأة فلا تملك الطلاق إلا إذا مَلَّكَهَا الزوجُ إياه وَفَوَّضَهَا فيه.
- قوله: (فَأَمَّا الظِّهَارُ مِنَ الأَمَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
، وَجَمَاعَةٌ
(3)
: "الظِّهَارُ مِنْهَا لَازِمٌ كالظِّهَارِ مِنَ الزَّوْجَةِ الحُرَّةِ").
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 439)، حيث قال:" (قوله: من زوجة أو أمة) هذا هو المشهور خلافًا لمن قال: إن الظهار لا يلزم في الإماء، ولا يعكر على المشهور قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فإنه لا يشمل الإماء، لخروجها مخرج الغالب فلا مفهوم له".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 388، 389)، حيث قال:"قال الحكم: الظهار من الأمة مثل ظهار الحرة، وهذا قول سفيان الثوري".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 388، 389)، حيث قال:"اختلف أهل العلم في الرجل يقول لأمته: أنت عليّ كظهر أمي، فقالت طائفة: في الظهار من الأمة كفارة تامة. كذلك قال مجاهد، والنخعي، وعكرمة، والشعبي، وعمرو بن دينار، والحسن، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وقال طاوس في الرجل يظاهر من أمته: "يكفر كفارة الحر إن أراد أن يطأها"، وهكذا قال الزهري، وقتادة، وقال الحكم: "الظهار من الأمة مثل ظهار الحرة"، وهذا قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: "الظهار من الأمة مثل الظهار من الحرة"".
فالإمام مالك والثوري وجماعة من أهل العلم ذهبوا إلى عدم التفريق بين وقوع ظهار الأمة وظهار الزوجة الحرة، أمَّا بقية العلماء - أبو حنيفة والشافعي وأحمد - فيذهبون إلى أن ظهار الأمة لا يقع
(1)
.
- قوله: (وَكَذَلِكَ المُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الوَلَدِ).
و"المدبرة": هي التي يُعلِّق سَيِّدُها عِتقَها على موته، بحيثُ يقول: إن مِتُّ فأَمتي فلانة حرةٌ)؛ لأنه إن لم يقل ذلك فإنها حال موته تنتقل إلى وَرَثَتِهِ.
- قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(5)
: "لَا ظِهَارَ مِنْ أَمَةٍ").
وهذا القول الذي ذهب إليه الأئمة الثلاثة إنما هو مرويٌّ عن اثنين من الصحابة لم يُعرَف لهما مخالفٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رواه عبد الله بن عُمَرَ
(6)
(1)
سيأتي تخريجه في المتن.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 30)، حيث قال:" (يصح) الظهار (من كل زوج) فلا تصح مظاهرة السيد من أمته ولو كانت، أم ولد؛ لأن الله تعالى أناط حكمه بالنساء، ومطلقه ينصرف إلى الزوجات".
(3)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 266)، حيث قال:"ولا يكون الظهار إلا من الزوجة حتى لو ظاهر من أمته لم يكن مظاهرًا".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 167)، حيث قال:" (فلا) يصح ظهار (من أمته أو أم ولده ويكفر) سيد قال لأمته أو أم ولده: أنت عليّ كظهر أمي (كيمين يحنث فيها) كما لو حلف لا يطؤها ثم وطئها، قال نافع: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته فأمره الله أن يكفر يمينه"".
(5)
قول أبي ثور مثل قول مالك أنه يكون مظاهرًا، ينظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 426)، حيث قال:"إذا ظاهر الرجل من أمته لم يكن مظاهرًا، وبه قال ابن عمر وهو مذهب أبي حنيفة وأكثر الفقهاء. وقال مالك: "يكون مظاهرًا"، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبه قال الثوري وأبو ثور".
(6)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (10/ 251)، حيث قال:"لا يصح الظهار إلا من الزوجات، فأما من الإماء وأمهات الأولاد لا يصح، وبه قال ابن عمر، وعبد الله بن عمرو".
وعبد الله بن عَمْرو بن العاص
(1)
.
- قوله: (وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ
(2)
: "إِنْ كَانَ يَطَأُ أَمَتَه، فَهُوَ مِنْهَا مُظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فَهِيَ يَمِينٌ، وَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ").
والسبب في تفريق الإمام الأوزاعي بين الموطوءة وغير الموطوءة أنه يُشَبِّهُ الأمة الموطوءة بالزوجة؛ لأن كلًّا منهما توطأ، ولذا قَيَّدَ اعتبار الظِّهار بوجود الوطء، بحيثُ إن لم يكن وطءٌ فلا ظِهارَ وإنما هو يمين تستلزم كفارة يمين.
- قوله: (وَقَالَ عَطَاءٌ
(3)
: "هُوَ مُظَاهِرٌ، لَكِنْ عَلَيْهِ نِصْفُ كَفَّارَةٍ").
فعطاءٌ يوافق مالكًا في وقوع الظهار، لكنه يخالفه في تحديد كفارة المُظاهِر من الأَمة بالنصف من كفارة المُظاهِر من الزوجة الحرة.
- قوله: (فَدَلِيلُ مَنْ أَوْقَعَ ظِهَارَ الأَمَةِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3]، وَالإِمَاءُ مِنَ النِّسَاءِ، وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ ظِهَارًا أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ النِّسَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]، هُنَّ ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ، فَكَذَلِكَ اسْمُ النِّسَاءِ فِي آيةِ الظِّهَارِ، فَسَبَبُ الخِلَافِ مُعَارَضَةُ قِيَاسِ الشَّبَهِ لِلْعُمُومِ - أَعْنِي: تَشْبِيهَ الظِّهَارِ بِالإِيلَاءِ - وَعُمُومُ لَفْظِ النِّسَاءِ - أَعْنِي: أَنَّ عُمُومَ
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 12)، حيث قال:"ولا يصح الظهار من أمته، ولا أم ولده. روي ذلك عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 389)، حيث قال:"وفيه قول رابع: وهو أنه إن كان يطأها فهو مظاهر، وإن كان لا يطأها فليس بمظاهر، وفيه كفارة يمين. هكذا قال الأوزاعي".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 390)، حيث قال:"وفيه قول خامس: قاله عطاء بن أبي رباح قال: أما أنا فكنت مكفرًا بشطر كفارة الحرة كما عدتها بشطر عدة الحرة".
اللَّفْظِ يَقْتَضِي دُخُولَ الإِمَاءِ فِي الظِّهَارِ، وَتَشْبِيهُهُ بِالإِيلَاءِ يَقْتَضِي خُرُوجَهُنَّ مِنَ الظِّهَارِ).
فمَن قال بوقوع ظهار الإماء إنما حَمَلَ قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} على أن اللفظ عامٌّ في جنس النساء فيشمل الأمة كما يشمل الزوجة الحرة.
ومَن قال بعدم وقوعه إنما حمل اللفظ على أن المراد به الزوجات اللائي يقع عليهن الطلاق وأن الأمر ينبني على أن مَن صحَّ طلاقها صحَّ الظهار منها، إلى جانب أنهم شبَّهوا الظهار بالإيلاء - كما ذَكَرْنَا - في أن كلًّا منهما يُلحِق بالمرأة الضرر من جهة قَصْدِ الامتناع عن الوطء؛ لأن المولي أقسَمَ على عدم وطئها أربعة أشهرٍ أو أكثر، والمُظاهِر إنما حرَّمَها على نفسه كتحريم أُمِّهِ، ولَمَّا كان نَصُّ الإيلاء فيه إجماع على أنه يراد به الزوجات
(1)
، فلا وجه للتفريق بينه وبين الظهار في ذلك، لقيام الاشتراك بينهما في الضرر الواقع على الزوجة.
- قوله: (وَأَمَّا هَلْ مِنْ شَرْطِ الظِّهَارِ كَوْنُ المُظَاهَرِ مِنْهَا فِي العِصْمَةِ أَمْ لَا؟).
وهذه المسألة قد يقع فيها بعض الناس، ولذا فإنها من المسائل شديدة الأهمية في هذا الباب.
- قوله: (فَمَذْهَبُ مَالِكٍ
(2)
أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، وَأَنَّ مَنْ عَيَّنَ
(1)
تقدم تخريجه في الإيلاء.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ للدردير (2/ 445)، حيث قال:" (أو) قال (كل امرأة) أتزوجها فهي عليَّ كظهر أمي فكفارة واحدة في أول من يتزوجها ثم لا شيء عليه (أو ظاهر من) جميع (نسائه) في لفظ واحد كأنتن عليّ ظهر أمي فلا تتعدد الكفارة عليه (أو كرره)، أي: لفظ الظهار لواحدة بغير تعليق ولو في مجالس أو لأكثر من واحدة كذلك، ولم يفرد كل واحدة بخطاب، وإلا تعددت (أو علقه) في التكرير (بمتحد) كإن دخلت الدار فأنت عليّ كظهر أمي إن دخلت الدار فأنت عليّ كظهر أمي، ثم دخلتها فكفارة واحدة (إلا أن ينوي) في الخمسة التي أولها لا إن تزوجتكن (كفارات فتلزمه) ".
امْرَأَةً مَا بِعَيْنِهَا، وَظَاهَرَ مِنْهَا بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ، كانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَقَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ مِنِّي كظَهْرِ أُمِّي، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ).
القول الأول: قول مالك وأحمد
(1)
:
فالإمامان مالكٌ وأحمد لم يشترطا كون الزوجة في عصمة الزوج، وإنما ذهبا إلى أنه لو ظاهَرَ من أيّ امرأة أجنبيةٍ في غير عصمته فحينئذٍ تلزمه الكفارة متى ما تزوجها قبل أن يمسها سواء في ذلك إن كان عَيَّنَ المرأة أو لم يُعَيِّنْ، فلو قال:(إن تزوَّجْتُ فلانة فهي عليَّ كظهرِ أمِّي) لزمته الكفارة قبل أن يطأها إن تزوَّجَها، ولو قال:(أيّ امرأة أتزوَّجُها فهي عليَّ كظهر أمِّي) لزمته الكفارة متى ما تزوَّجَ أيًّا من النساء قبل أن يمسَّها.
وهذا القول إنما قد أُثِرَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(2)
.
- قوله: (وَبِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الظِّهَارِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ
(4)
، وَالأَوْزَاعِيُّ
(5)
).
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 168)، حيث قال:(وإن نجزه)، أي: الظهار (لأجنبية) بأن قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي صحَّ ظهاره رواه أحمد عن عمر وكاليمين بالله - تعالى - والآية خرجت مخرج الغالب (أو علقه بتزويجها) بأن قال لها: إن تزوجتك فأنت عليَّ كظهر أمي، أو قال: النساء عليَّ كظهر أمي، أو كل امرأة أتزوجها فهي عليَّ كظهر أمي، ذكره في الشرح".
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 559) عن سعيد بن عمرو بن سليم الزرقي، أنه سأل القاسم بن محمد، عن رجل طلَّق امرأة إن هو تزوجها، فقال القاسم بن محمد: إن رجلًا جعل امرأة عليه كظهر أمه، إن هو تزوجها فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها أن "لا يقربها حتى يكفر كفارة المتظاهر".
(3)
مذهب الحنفية، ينظر:"فتح القدير" لابن الهمام (4/ 257)، حيث قال:"فإذا قال لأجنبية إن تزوجتك فأنت عليَّ كظهر أمي فتزوجها لزمه حكم الظهار".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 436)، عن الثوري في الظهار قبل النكاح قال:"يقع عليه الظهار".
(5)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 292)، حيث قال:=
وهذا القول لم يقل به أبو حنيفة، ولعلَّه من قول بعض مَن تَبِعَه.
- قوله: (وَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَلْزَمُ الظِّهَارُ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ الرَّجُلُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ: الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ
(2)
).
القول الثاني: قول الشافعي وأبي ثور وداود:
وكذلك قال به أبو حنيفة
(3)
، والثوري
(4)
، بل إن هذا القول - على وجه التحقيق - عليه أكثر العلماء.
- قوله: (وَفَرَّقَ قَوْمٌ، فَقَالُوا: إِنْ أَطْلَقَ، لَمْ يَلْزَمْهُ ظِهَارٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ مِنِّي كظَهْرِ أُمِّي، فَإِنْ قَيَّدَ، لَزِمَه، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً، أَوْ سَمَّى قَرْيَةً أَوْ قَبِيلَةً، وَقَائِلُ هَذَا القَوْلِ هُوَ
= "وقال الأوزاعي: إذا قالت: إن تزوجت فلانًا فهو عليَّ كظهر أمي، فهو ظهار إذا تزوجها".
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 178)، حيث قال:" (وصريحه)، أي: الظهار (أن يقول) أو يشير الأخرس الذي يفهم إشارته كل أحد (لزوجته) ولو رجعية قنة غير مكلفة لا يمكن وطؤها (أنت عليَّ أو مني أو) لي أو إلى أو (معي أو عندي كظهر أمي)؛ لأن عليَّ، وألحق بها ما ذكر المعهود في الجاهلية".
(2)
يُنظر: "المحلى" بالآثار (9/ 199)، حيث قال: "ومن ظاهر من أجنبية ثم كرره، ثم تزوجها فليس عليه ظهار، ولا كفارة
…
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الحسن، وقتادة، قالا جميعًا: إن ظاهر قبل أن ينكح فليس بشيء - وهو قول الشافعي، وأبي سليمان".
(3)
يُنظر: "الأصل" للشيباني (4/ 500)، حيث قال:"وكذلك إذا قال: إذا تزوجتك فأنت طالق وأنت عليَّ كظهر أمي ووالله لا أقربك، ثم تزوجها وقعت عليها تطليقة، وسقط الإيلاء والظهار؛ لأن ذلك وقع بعدما خرجت من ملكه في قول أبي حنيفة".
(4)
تقدم ذكره.
ابْنُ أَبِي لَيْلَى
(1)
، وَالحَسَنُ بْنُ حَيٍّ
(2)
، وَدَلِيلُ الفَرِيقِ الأَوَّلى قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]).
القول الثالث: قول ابن أبي ليلى والحسن بن حي:
فقد ذهبوا في هذه المسألة إلى أنه إذا لم يُعَيِّن المرأة في الظهار فحينئذٍ لا يقع الظهار ولا يلزمه شيء، وأما إذا عَيَّنَها فقد وقع الظهار ولزمته الكفارة قبل المسيس، واحتجّوا لقولهم هذا بأن قوله:(إن تزوجتُ فلانة فهي عليَّ كظهر أمِّي) إنما هو عقدٌ وارتباطٌ بعهدٍ، فقد تعهَّد على نفسه أنه إن تزوَّج فلانة فإنها ستكون عليه كظهر أمِّه، فإن حصل وتزَوَّجَها فقد لزمه الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه، بحيثُ لا يمكنه وطء هذه المرأة إلا بعد أداء الكفارة.
- قوله: (وَلأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى شَرْطِ المِلْكِ، فَأَشْبَهَ إِذَا مَلَكَ).
وهذا إنما هو مصطلحٌ يصطلحون عليه، ولعلهم لاحظوا في ذلك أَمْرَ التَّأَدُّبِ.
- قوله: (وَالمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ
(3)
).
(1)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 488)، حيث قال:"فيمن قال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي، قال أصحابنا والثوري: يلزمه الظهار إذا تزوج، وكذلك قال مالك، وقال: ويجزئه كفارة واحدة عن جميع من تزوج، وقال ابن أبي ليلى والشافعي: لا يكون مظاهرًا".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 50)، حيث قال: "وقال ابن أبي ليلى والحسن بن حي: إن قال: كل امرأة أتزوجها فهي عليَّ كظهر أمي لم يلزمه شيء.
وإن قال: إن نكحت فلانة فهي عليَّ كظهر أمي، أو سمى قرية أو قبيلة لزمه الظهار".
(3)
أخرجه الشيباني في "الأصل"(3/ 550) عن أبي يوسف عن الحجاج بن أرطاة عن محمد بن خالد القرشي عن رجل من بني كنانة قال: سمعت عمر بن الخطاب حين وضع رجله في الغَرْز يقول: إن الناس قائلون غدًا: ماذا قال عمر، وإن البيع عن صفقة أو خيار، والمسلمون عند شروطهم.
وقوله: "المؤمنون عند شروطهم" قد يُفهَمُ من كلام المؤلف هاهنا أنه من كلام عُمَرَ رضي الله عنه، والحقيقة أنه حديثٌ صحيحٌ ثَبَتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:"المؤمنون عند شروطِهم إلَّا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّمَ حلالًا"
(1)
، فلا بدَّ من التَّنَبُّهِ لمثل هذا، فهو مما يُبَيِّنُ لنا فائدة استخدام علامات الترقيم في الكتابة كالفواصل والنقط وغيرها.
- قوله: (وَأَمَّا حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ، فَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا طَلَاقَ إِلَّا فِيمَا يَمْلِك، وَلَا عِتْقَ إِلًّا فِيمَا يَمْلِك، وَلَا بَيْعَ إِلَّا فِيمَا يَمْلِك، وَلَا وَفَاءَ بِنَذْرٍ إِلَّا فِيمَا يَمْلِكُ"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(2)
، وَالتِّرْمِذِيُّ
(3)
، وَالظِّهَارُ شَبِيهٌ بِالطَّلَاقِ).
والمراد منه معرفة أنه يجب على الإنسان ألَّا يتصرف فيما لا يملك، حتى ولو كان وكيلًا، فالوكيل لا بدَّ له من الالتزام بشروط الوكالة وعدم تَجَاوُزِها.
(1)
أخرجه الترمذي (1352)، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا". وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال الألباني: وأما الترمذي فروى من حديثه: "الصلح جائز بين المسلمين" وصححه، فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي. وقال الحافظ في "الفتح" (4/ 371):"وكثير بن عبد الله ضعيف عند الأكثر، لكن البخاري ومَن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره". انظر: "إرواء الغليل"(1303).
(2)
حديث (2190) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك"، زاد ابن الصباح، "ولا وفاء نذر إلا فيما تملك"، وصححه الألباني في الإرواء (1751).
(3)
حديث (1181) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك"، وصححه الألباني في الإرواء (1751).
- قوله: (وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
، وَأَمَّا الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّعْمِيمِ وَالتَّعْيِينِ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ التَّعْمِيمَ فِي الظِّهَارِ مِنْ بَابِ الحَرَجِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]).
والمراد من التعميم هاهنا أن يقول المُظاهِرُ: (أيّ امرأةٍ أتزوجها فهي عليَّ كظَهر أُمِّي).
ويجاب عن هذا بأن الحرج ينتفي هاهنا في حقيقة الأمر، وإنما في الطلاق قد سَلَّمْنَا بوجود الحرج مما يترتب عليه من وقوع الفرقة بين الزوجين وضياع الزوجة من بين يدي الزوج، ولكن الأمر في الظهار مختلِفٌ، فليس فيه فرقةٌ، وإنما فيه كفارو سيؤدِّيها ويعود له حقّ التمتع بامرأته كما كان، بل إن هذه الكفارة تكون على قدر طاقته، بحيثُ يكون الأمر يسيرًا لا عسيرًا، فالحرج هاهنا إنما هو مُنْتَفٍ في واقع الأمر.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا مِنْ هَذَا البَابِ فِي: هَلْ تُظَاهِرُ المَرْأَةُ مِنَ الرَجُلِ؟).
القاعدة الفقهية - كما ذَكَرْنَا -: أن كُلَّ من صحَّ طلاقه صحَّ ظهاره
(2)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 415) أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس: "لا طلاق إلا من بعد النكاح، ولا عتاقة إلا من بعد الملك"، قال عطاء:"فإن حلف بطلاق ما لم ينكح فلا شيء"، وكان ابن عباس يقول:"إنما الطلاق بعد النكاح، وكذلك العتاقة".
(2)
يُنظر: "التمهيد في أصول الفقه" للكَلْوَذَاني (1/ 28)، حيث قال:"ومثل قولنا في تصحيح ظهار الذمّي وذلك أنّا قلنا: من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم، وهذا صحيح، وهو أن الطلاق والظهار هما واحد ومعناهما واحد، لأن كل واحد منهما يتعلق بالزوجة وفيه نوع تحريم. ويتعلق بالقول، فإذا صح منه أحدهما صح منه الآخر".
ومسألة ظهار المرأة من الرجل تتعلق بشقَّيْنِ: وهما ما إذا كانت هذه المرأة تحت زوجٍ، أو أنها غير متزوجةٍ.
فالحالة الأولى: وجود المرأة تحت زوج، وهل لها أن تُظاهِرَ من هذا الزوج بقولها:(أنتَ عليَّ كظهرِ أبي)؟ أم أنه لا يجوز لها؟
الحالة الثانية: كونها غير متزوجة، وهل لها حينئذٍ أن تقول:(إن تزوَّجتُ فلانًا فهو عليَّ كظهرِ أبي)؟ أم أن ذلك ليس جائزًا؟
والمسألة محلّ خلافٍ بين أهل العلم، وقد ورد أثران فيها، منهما قول عائشة بنت طلحة:(إن تزوَّجْتُ مصعب بن الزبير فهو عليَّ كظهْرِ أبي)
(1)
، ثم رَغِبَتْ بعدها في الزواج منه، فقامت بالتكفير.
- قوله: (فَعَنِ العُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهَا ظِهَارٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
(2)
، وَالشَّافِعِيِّ
(3)
).
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 43) عن إبراهيم، أن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، قالت:"إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو عليها كظهر أبيها فتزوجته فسألت عن ذلك، فأمرت أن تكفر، فأعتقت غلامًا لها ثمن ألفين".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 439)، حيث قال:"وأما لو ظاهر كافر، وتحاكموا إلينا فالظاهر أننا نطردهم، ولا نحكم بينهم بحكم المسلمين لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة: 2]، والخطاب للمؤمنين فيدل على اختصاص الظهار بالمؤمنين".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 295)، حيث قال:"وإن قال: أنتِ عليَّ كظهر أبي أو ابني لم يكن ظهارًا من قِبَل أن ما يقع على النساء من تحريم وتحليل لا يقع على الرجال (قال): وإن قالت امرأة رجل له: أنتَ عليَّ كظهر أبي أو أمي لم يكن ظهارًا، ولا عليها كفارة من قِبَل أنه ليس لها أن توقع التحريم على رجل إنما للرجل أن يوقعه عليها".
وهو قول أبي حنيفة، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (4/ 252)، حيث قال:"وفي الدراية: لو قالت هي: أنتَ عليَّ كظهر أبي، أو أنا عليك كظهر أمك لا يصح الظهار عندنا".
القول الأول: أنه ليس ظهارًا، وهو قول مالكٍ
(1)
، والشافعي
(2)
، وهو أشهر الأقوال جميعًا.
- قوله: (وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ).
القول الثاني: أن عليها كفارة يمين، وهو قول الإمام أحمد
(3)
؛ إذ لا يعده ظهارًا.
- قوله: (وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَيْهَا كفَّارَةَ الظِّهَارِ
(4)
).
القول الثالث: أنَّ عليها كفارة الظهار.
- قوله: (وَمُعْتَمَدُ الجُمْهُورِ تَشْبِيهُ الظِّهَارِ بِالطَّلَاقِ).
والمراد من كلام المؤلف هاهنا أن الطلاق لا تملكه المرأة، وإنما يملكه الرجل، فهو الذي يملك البُضعَ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعله بيده، والله سبحانه وتعالى أعلم بخلقه.
- قوله: (وَمَنْ أَلْزَمَ المَرْأَةَ الظِّهَارَ، فَتَشْبِيهًا لِلظِّهَارِ بِاليَمِينِ؛ وَمَنْ فَرَّقَ، فَلِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ أَقَلَّ اللَّازِمِ لَهَا فِي ذَلِكَ المَعْنَى هُوَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَسَبَبُ الخِلَافِ تَعَارُضُ الأَشْيَاءِ فِي هَذَا المَعْنَى).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أحمد لا يعدُّه ظهارًا لكن يُلزم المرأة بكفارة الظهار، وليس كما قال الشارح من أنه تُلزم بكفارة يمين. يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 167)، حيث قال:" (ولا ظهار إن قالت) امرأة (لزوجها) نظير ما يصير به مظاهرًا لو قاله (أو علقت بتزويجه نظير ما يصير به مظاهرًا) لو قال لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] فخصهم بذلك؛ ولأن الظهار قول يوجب تحريمًا في النكاح فاختصَّ به الرجل كالطلاق، ولأن الحل في المرأة حق للزوج فلا تملك إزالته كسائر حقوقه (وعليها كفارته)، أي: الظهار".
(4)
وهو قول أحمد كما تقدم.
والذين قالوا بأن للمرأة أن تُظاهِرَ من زوجها إنما كان أقوى دليلٍ لديهم هي قصة عائشة بنت طلحة التي أوردناها، والتي استفتت فيها الصحابة، فأفتوها بأن تكفر كفارة الظهار.
وكونها تكفر كفارة الظهار لا يعني بالضرورة أن يُعتبَر قولُها ظهارًا؛ ولذا فإن الإمام أحمد
(1)
قد تعددت أقواله في هذه المسألة، هذا على الرغم من سعَة اطِّلاعه ورسوخ علمه بالآثار والروايات، فقال مرةً بأن قولها لا ينبني عليه شيءٌ بناءً على الأصل، وقال مرةً ثانيةً بأن عليها أن تكفِّر كفارة الظهار لِمَا رآه من التقارب بين الظهار واليمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى المُظَاهِرِ
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ المُظَاهِرَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الوَطْءُ
(2)
).
فالمسألة فيها اتِّفاقٌ على عدم جواز وطء المُظاهِرِ لامرأته إلا بعد أداء الكفارة؛ لأن هذا ثابتٌ بِنَصِّ القرآن العزيز في قوله سبحانه وتعالى: {
…
ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 3، 4].
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 42)، حيث قال:"والرواية الثانية: ليس عليها كفارة". وانظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (2/ 192).
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 131)، حيث قال:"واتفقوا أن وطء الحائض من الزوجات وملك اليمين والمحرمة والصائم والصائمة والمعتكف والمظاهر الذي ظاهر منها حرام".
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَهُ مِنْ مُلَامَسَةٍ، وَوَطْءٍ فِي غَيْرِ الفَرْجِ، وَنَظَرِ اللَّذَّةِ).
عدم جواز وطء المُظاهِر لامرأته إلا بعد الكفارة إنما هو محلّ اتِّفاقٍ بين أهل العلم لا خلاف فيه ولا نزاع، أمَّا الخلاف فإنه يأتي فيما هو دون الوطء من مقدمات الجماع ودواعيه من ملامسةٍ ونظرٍ بشهوةٍ وما إلى ذلك.
فالخلاف الموجود هو ما إذا كانت مقدمات الجماع هذه تلحق بالوطء في الحُكم أم لا.
- قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الجِمَاع، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الاسْتِمْتَاعِ مِمَّا دُونَ الجِمَاعِ مِنَ الوَطْءِ فِيمَا دُونَ الفَرْجِ، وَاللَّمْسِ، وَالتَّقْبِيلِ، وَالنَّظَرِ لِلَذَّةٍ، مَا عَدَا وَجْهَهَا، وَكَفَّيْهَا، وَيَدَيْهَا مِنْ سَائِرِ بَدَنِهَا، وَمَحَاسِنِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ النَّظَرَ لِلْفَرْجِ فَقَطْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: إِنَّمَا يُحَرِّمُ الظِّهَارُ الوَطْءَ فِي الفَرْجِ فَقَطْ، المُجْمَعِ عَلَيْهِ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ للدردير (2/ 445)، حيث قال:" (وحرم قبلها)، أي: قبل الكفارة، أي: قبل كمالها وأولى قبل الشروع فيها (الاستمتاع) بالمظاهر منها بوطء أو مقدماته وله النظر للوجه والأطراف فقط بلا لذة (وعليها) وجوبًا (منعه) منه قبلها لما فيه من الإعانة على المعصية (ووجب) عليها (إن خافته)، أي: خافت الاستمتاع بها، ولم تقدر على منعه (رفعها للحاكم) ليمنعه من ذلك".
(2)
يُنظر: "الجوهرة النيرة" للحدادي (2/ 63)، حيث قال:"قال رحمه الله: (إذا قال الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي فقد حرمت عليه ولا يحلّ له وطؤها ولا لمسها ولا تقبيلها حتى يكفر عن ظهاره)، يعني: لا تحلّ له أبدًا إلا بنكاح ولا بملك يمين ولا بعد زوج يتزوجها بعد الطلاق الثلاث ثم رجعت إليه حتى يكفر وكذا إذا كانت زوجته أمة".
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (4/ 247)، حيث قال:" (قوله وإذا قال الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي فقد حرمت عليه)، وعند محمد للمظاهر أن يقبلها إذا قدم من سفر للشفقة".
(3)
أما الشافعي فله قولان، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 451)، حيث قال: "أما وطء المظاهر قبل التكفير فقد ذكرنا تحريمه بالنصِّ والإجماع، وأما ما سواه من =
لَا مَا عَدَا ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ
(1)
، وَأَحْمَدُ
(2)
، وَجَمَاعَةٌ
(3)
).
أما الشافعي فله قولان في هذه المسألة
(4)
، قول يلتقي فيه مع قول مالكٍ
(5)
في أن الظهار يُحَرِّمُ كلَّ أنواع الاستمتاع، والقول الآخر للشافعي
= الاستمتاع كالقبلة والملامسة والتلذذ بما دون الفرج ففي تحريمه قولان:
أحدهما: وهو ظاهر كلامه هاهنا، وفي كتاب "الأم" إن اجتنابه احتياط وفعله غير محرم.
والقول الثاني: وهو ظاهر كلامه في القديم إنه يحرم عليه التلذذ بما دون الفرج كما يحرم عليه الوطء في الفرج". والظاهر من المذهب: الجواز".
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 88)، حيث قال:" (وكذا) يحرم (لمس ونحوه) من كلِّ مباشرة لا نظر (بشهوة في الأظهر) لإفضائه للوطء (قلت: الأظهر الجواز، والله أعلم)؛ لأن الحرمة ليست لمعنى يخل بالنكاح فأشبه الحيض، ومن ثَمَّ حرم فيما بين السرة والركبة ما مرَّ في الحائض. قال الأذرعي: لم لا يفرق بين من تحرك القبلة ونحوها شهوته وغيره كما سبق في الصوم، وينبغي الجزم بالتحريم إذا علم من عادته أنه لو استمتع لوطء لشبقه ورقة تقواه".
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 399)، حيث قال:"وكان سفيان الثوري يقول في المظاهر: لا بأس أن يقبل ويباشر ويأتيها في غير الفرج ما لم يكفر إنما نهي عن الجماع".
(2)
أما أحمد فعنه روايتان: ينظر: "المسائل الفقهية" لأبي يعلى الفراء (2/ 183)، حيث قال: "الوطء محرم قبل الكفارة رواية واحدة، فأما دواعيه من الاستمتاع كالقبلة والتلذذ والوطء دون الفرج ففيه روايتان: قال أبو بكر: نقلهما أبو طالب وما من رواية إلا وافقه عليها جماعة من أصحاب أحمد إحداهما: لا يحرم عليه ذلك.
والثانية: يحرم وهو اختيار أبي بكر".
والمذهب على حرمة الوطء ودواعيه قبل التكفير. انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (3/ 168).
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 12)، حيث قال: "فأما التلذذ بما دون الجماع، من القبلة، واللمس، والمباشرة فيما دون الفرج، ففيه روايتان
…
والثانية، لا يحرم وهو قول الثوري، وإسحاق، وأبي حنيفة. وحكي عن مالك. وهو القول الثاني للشافعي؛ لأنه وطء يتعلق بتحريمه مال، فلم يتجاوزه التحريم، كوطء الحائض".
(4)
تقدم تخريجه عند ذكر القول الأول.
(5)
تقدم تخريجه.
هو أن الظهار يحرم الوطء في الفرج فقط، وهي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد
(1)
كذلك.
مما يفيد أن أكثر الأئمة قالوا بالقول الأول، وإنما قَصرَ المؤلِّف في عدم ذِكْرِ القول الآخر لكلٍّ من الإمامين الشافعي وأحمد.
والسبب في ذهاب الأكثر من العلماء إلى القول الأول هو الأخذ بالاحتياط، فبالرغم من أن القول الثاني أقرب لِنَصِّ الآية إلا أن العلماء دائمًا يأخذون بالأحوط، عملًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حَام حول الحمى يوشك أن يرتع
(3)
فيه"
(4)
.
- قوله: (وَدَلِيلُ مَالِكٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وَظَاهِرُ لَفْظِ التَّمَاسِّ يَقْتَضِي المُبَاشَرَةَ فَمَا قَوْقَهَا، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا لَفْظٌ حَرُمَتْ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ لَفْظَ الطَّلَاقِ).
ولا شكَّ أن الأظهَر في قوله تعالى: {يَتَمَاسَّا} أنَّه يراد به الجماع، لكن كذلك يحتمل أنه يراد به اللمس ونحوه.
- قوله: (وَدَلِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ المُبَاشَرَةَ كِنَايَةٌ هَاهُنَا عَنِ الجِمَاعِ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الوَطْءَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَلَّتْ عَلَى الجِمَاعِ لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَا فَوْقَ الجِمَاعِ).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي (2518) من حديث الحسن بن عليّ مرفوعًا عن أبي الحوراء السعدي، قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة"، وصححه الألباني في "الإرواء"(12).
(3)
قال ابن فارس: "الراء والتاء والعين كلمة واحدة" وهي تدلُّ على الاتساع في المأكل.
تقول: رتع يرتع، إذا أكل ما شاء، ولا يكون ذلك إلا في الخصب. والمراتع: مواضع الرتعة، وهذه المنزلة يستقر فيها الإنسان". "مقاييس اللغة" (2/ 486).
(4)
أخرجه البخاري (2051)، ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير.
أما الكناية فمعلومٌ أن النصوص الشرعية من الكتاب أو السُّنَّة كثيرًا ما تُكَنِّى في مثل هذه المواطن، كقوله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"
(1)
، فإنه يُكَنِّي عن مثل هذه الأمور التي ربما اسْتَحَى الإنسان من ذِكْرِهَا.
ويدلُّ عليه استحياء عَلِيِّ بن أبي طالب رضي الله عنه من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسل الذَّكَر من المذي لمكانة ابنته منه، ولذلك أَرْسَلَ المقدادَ رضي الله عنه يسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ولكننا نقول: إن الإنسان لا ينبغي أن يكون الحياء مانعًا له عن السؤال في أمور دينه، كما كان حال المرأة التي سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن غُسل المرأة إذا احتلمَت، وقَدَّمَتْ لسؤالها بقولها:"إن الله لا يستحي من الحق"
(3)
.
كما تجدر الإشارة كذلك إلى أن الإنسان ينبغي ألا يُفتِي بغير عِلمٍ، ولذلك عندما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ وأصيب رجلٌ بجرحٍ، واستفتاهم في التيمم، أجابوه بعدم جواز التيمم، فاغتسل فمات، ولما بَلَغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ عليهم وَبَيَّنَ أنه كان ينبغي أن يسألوا عَمَّا لَمْ يَعْلَمُوه
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).
(2)
أخرجه البخاري (132)، ومسلم (303) عن محمد ابن الحنفية، عن علي بن أبي طالب، قال: كنت رجلًا مذّاء فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال:"فيه الوضوء".
(3)
أخرجه البخاري (130)، ومسلم (313) عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: جاءت أم سُليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا رأت الماء" فغطتأ أمّ سلمة، - تعني: وجهها - وقالت: يا رسول الله أو تحتلم المرأة؟ قال: "نعم، تربت يمينك، فبِمَ يشبهها ولدها".
(4)
أخرجه أبو داود (336) عن عطاء، عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا =
فالفتوى عن جهلٍ من أخطر الأمور بلا شكَّ، ولذلك قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
- قوله: (لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَا فَوْقَ الجِمَاعِ، وَإِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى الجِمَاعِ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ المَجَازِيَّةُ).
والمراد هاهنا من قوله: (ما فوق الجماع)، أي: ما زاد عليه، وهي مقدمات الجماع ودواعيه.
- قوله: (وَلَكِنْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا دَالَّة عَلَى الجِمَاعِ، فَانْتَفَتِ الدَّلَالَةُ المَجَازِيَّةُ).
وهذه المناقَشة المنطقيَّةُ تأتي من باب التَّدَرُّجِ مع الخصم من أجل الوصول إلى إلزامه.
- قوله: (إِذْ لَا يَدُلُّ لَفْظٌ وَاحِدٌ دَلَالَتَيْنِ: حَقِيقَةً وَمَجَازًا).
ومراد المؤلِّف هاهنا أن الأمر الواحد لا تجتمع فيه الحقيقة والمجاز معًا.
وهناك خلافٌ في قضية المجاز، فيما إذا كان هناك مجازٌ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أم لا.
والصحيح الذي نذهب إليه أنه لا مجاز في القرآن، وأن ما أتى على هذا الوجه إنما هو إيجازٌ بالحذف وليس مجازًا.
= حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال:"قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر" - أو "يعصب" شك موسى - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده"، وقال الألباني في "صحيح أبي داود": حسن، دون قوله: "إنما كان يكفيه
…
".
- قوله: (قُلْتُ: الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ اللَّفْظَ المُشْتَرَكَ لَهُ عُمُومٌ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الوَاحِدُ عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ المَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا - أَعْنِي: الحَقِيقَةَ وَالمَجَازَ - وَإِنْ كَانَ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَة لِلْعَرَبِ، وَلذَلِكَ القَوْلُ بِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الضَّعْفِ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ لِلشَّرْعِ فِيهِ تَصَرُّفًا لَجَازَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الظِّهَارَ مُشَبَّهٌ عِنْدَهُمْ بِالإِيلَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ عِنْدَهُمْ بِالفَرْجِ).
ومراد المؤلِّف هاهنا هو أن مَسْلَكَ المَجَازِ سببٌ في الاختلاف في فَهْمِ الآية الكريمة.
والعلماء لم يتناولوا في كلامهم ما يتعلق بالمجاز، وإنما ذهبوا إلى أن دواعي الوطء لها ارتباطٌ وثيقٌ بالوطء ذاته، ولذلك أَلْحَقُوهَا بالوطء في الحُكم احتياطًا وصيانةً للمُكَلَّفِ عن الوقوع في الحرام.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ الخَامِسُ هَلْ يَتَكَرَّرُ الظِّهَارُ بِتَكَرُّرِ النِّكَاحِ
وَأَمَّا تَكَرُّرُ الظِّهَارِ بَعْدَ الطَّلَاقِ - أَعْنِي: إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ ثُمَّ رَاجَعَهَا هَلْ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهَا الظِّهَارُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ المَسِيسُ حَتَّى يُكَفِّرَ - فِيهِ خِلَافٌ).
فلو أن إنسانًا ظاهَرَ من امرأته ثم طلقها قبل الكفارة، ثم بعد ذلك راجَعَها في العدَّة أو تَزَوَّجَها بعد انتهاء العدة، فهل حينئذٍ يبقى ما يتعلق بالظهار من وجوب الكفارة قبل المسيس؟ أم أن الطلاق أزال حُكْمَ الظِّهارِ؟
وقد ذَكَرْنَا ما يُشبِهُ هذه المسألة عند الحديث فيمن يُطلِّقُ زوجته طلاقًا رجعيًّا ثم يتزوَّجها بعد انتهاء عدتها، فإنها حينئذٍ تعود إليه والطلاق السابق موجودٌ، بل حتى لو كانت قد تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ ثم طُلِّقَتْ منه وعاد الأول فتَزَوَّجَها فإنها تعود إليه بطلاقها السابق، ومسائل الظهار فيها شيءٌ من الشَّبَهِ بمسائل الطلاق.
- قوله: (قَالَ مَالِكٌ: "إِنْ طَلَّقَهَا دُونَ الثَّلَاثِ، ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي العِدَّةِ، أَوْ بَعْدَهَا، فَعَلَيْهِ الكَفَّارَةُ"
(1)
).
وهذا هو قول مالكٍ وأبي حنيفة
(2)
، وأحمد
(3)
، لكن أبا حنيفة وأحمد قد أَطْلَقَا الحُكْمَ ولم يُقَيِّدَاه بالطلاق الرجعي كما ذَكَرَ المؤلِّفُ.
والمعروف عن مالكٍ كذلك إنما هو الإطلاق، وربما أن ما ذَكَرَهُ المؤلِّفُ هو روايةٌ أخرى في مذهب مالكٍ.
لكن المعروف عن الأئمة الثلاثة هو أن المُظاهِرَ لو طَلَّقَ امرأته ثم عادت إليه فإنها حينئذٍ ترجع إليه وتبقى الكفارة لازمةً في حقِّ الزوج قبل المسيس، دون التفرقة في ذلك بين إن كان قد طلقها طلاقًا رجعيًّا أو طلاقًا بائنًا.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 447)، حيث قال:" (قوله: محلهما في البائن أو الرجعي إلخ) اعلم أن كلام عبد الحق وأبي الحسن وابن رشد وغيرهم كالصريح في التأويلين إنما محلهما إذا أتمها قبل مراجعتها، ولفظ "المدونة" ولو طلقها قبل أن يمسَّها، وقد عمل في الكفارة لم يلزمه إتمامها، وقال ابن نافع إن أتمَّها أجزأه إن أراد العودة اهـ".
(2)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 469)، حيث قال:" (قوله: وإن عادت إليه إلخ) قال في "النهر": أفاد بالغاية، أي: بقوله حتى يكفر أنه لو طلقها ثلاثًا، ثم عادت إليه تعود بالظهار؛ وكذا لو كانت أمة فاشتراها وانفسخ العقد، أو كانت حرة فلحقت مرتدة بدار الحرب وسبيت ثم اشتراها لا تحل له ما لم يكفر".
(3)
تقدم ذكره.
- قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إِنْ رَاجَعَهَا فِي العِدَّةِ، فَعَلَيْهِ الكَفَّارَة، وَإِنْ رَاجَعَهَا فِي غَيْرِ العِدَّةِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ
(1)
).
ويذهب الإمام الشافعي إلى أن السبب هاهنا أن للزوج يَدًا على امرأته أثناء عدَّتها منه؛ لأنها حينئذٍ تكون بمثابة زوجته التي هي في عصمته، أما لو انتهت عدتها فلا يَدَ له عليها ولا سُلْطَةَ، بحيث تنقطع العلاقة بينهما بانتهاء العدة، وإذا انقطعت العلاقة زال حُكم الكفارة.
أمَّا أصحاب القول الأول فَيَبْنُونَ قَوْلَهُمْ على أن لزوم الكفارة إنما هو حُكمٌ شرعيٌّ يَلزمُ في حقِّ الزوج، وهذا الحُكم الشرعيُّ لا يسقط عنه إذا عادت إليه زوجته، فكما أنها إذا عادت إليه تعود بالطلاق الثابت ما لم يكن الطلاق بائنًا، فكذلك أيضًا تعود إليه مع بقاء الكفارة المترتبة على الظهار.
- قوله: (وَعَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ
(2)
).
فالإمام الشافعي إذن له قولٌ واحدٌ فقط انْفَرَدَ به عن الأئمة الأربعة.
- قوله: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ: "الظِّهَارُ رَاجِعٌ عَلَيْهَا، نَكَحَهَا بَعْدَ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْدَ وَاحِدَةٍ").
ومحمد بن الحسن هذا هو صاحب الإمام أبي حنيفة، والمؤلِّف هاهنا لم يحرر المسألة جيدًا، فهذا القول من محمد بن الحسن يتطابق مع قول الإمام أحمد تمامًا.
(1)
ستأتي.
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 185)، حيث قال:" (ولو راجع) من ظاهر منها رجعية أو من طلقها رجعيا عقب الظهار (أو ارتد متصلًا) بالظهار وهي موطوءة (ثم أسلم فالمذهب) بعد الاتفاق على عود أحكام الظهار (أنه عائد بالرجعة)، وإن طلقها عقبها (لا بإسلام بل) إنما يعود بإمساكها (بعده) زمنًا يسع الفرقة، والفرق: أن مقصود الرجعة استباحة الوطء لا غير ومقصود الإسلام العود للدين الحق والاستباحة أمر يترتب عليه (ولا تسقط الكفارة بعد العود بفرقة) لاستقرارها بالإمساك قبلها".
- قوله: (وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ شَبِيهَةٌ بِمَنْ يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ يُطَلِّق، ثُمَّ يُرَاجِع، هَلْ تَبْقَى تِلْكَ اليَمِينُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟).
وهذه المسألة من المسائل الخلافية، فيما إذا كان الحلف بالطلاق يعتبَر طلاقًا أم لا.
- قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلِ الطَّلَاقُ يَرْفَعُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَيَهْدِمُهَا، أَوْ لَا يَهْدِمُهَا؟).
والمراد هاهنا هو ما إذا كان الطلاق يقطع العلاقة نهائيًّا من جهة الأحكام، أم أنه يقطع العلاقة من جهة الحقوق بين الزوجين فقط وتبقى الأحكام السابقة التي لم تُسْتَوْفَ على حالها.
- قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ البَائِنَ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ يَهْدِم، وَأَنَّ مَا دُونَ الثَّلاثِ لَا يَهْدِم، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الطَّلَاقَ كُلَّهُ غَيْرُ هَادِمٍ
(1)
).
(1)
وهو مذهب الجمهور خلافًا للأحناف
في مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(3/ 418)، حيث قال:" (قوله: والزوج الثاني)، أي: نكاحه نهر (قوله: ما دون الثلاث)، أي: يهدم ما وقع من الطلقة، أو الطلقتين فيجعلهما كأن لم يكونا، وما قيل: إن المراد أنه يهدم ما بقي من الملك الأول فهو من سوء التصور كما نبَّه عليه الهندي، أفاده في النهر (قوله: أي كما يهدم الثلاث) تفسير لقوله أبضًا (قوله: لأنه إلخ) جواب عما قاله محمد من أن قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]- جعل غاية لانتهاء الغليظة فيهدمها. والجواب: أنه إذا هدمها يهدم ما دونها بالأولى فهو مما ثبت بدلالة النص".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:"المنتقى شرح الموطإ" لأبي الوليد الباجي (4/ 123)، حيث قال:"قول عمر رضي الله عنه: أيما امرأة طلقها زوجها تطليقة أو تطليقتين يريد ما لم يستوعب الثلاث ثم تركها حتى تحل وتنكح زوجًا غيره فيموت عنها أو يطلقها ثم ينكحها الأول، فإنها عنده على ما بقي من طلاقها يريد إن كان طلقها قبل أن يتزوجها الثاني طلقة، فإنها إذا رجعت إليه تكون عنده على طلقتين، فإن كان طلقها طلقتين قبل الثاني، فإنها إذا رجعت للأول لا يبقى له فيها إلا طلقة واحدة". =
وهذا من باب التشبيه بالطلاق؛ لأن الإنسان لو طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طلاقًا بائنًا فإنها حينئذٍ لا تحلّ له - كما هو معلومٌ - حتى تَنكِحَ زوجًا غيره، بحيث لو تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ ثم طَلَّقَهَا هذا الزوجُ الآخَر، فإنها حينئذٍ إذا عادت لزوجها الأول تعود إليه صافيةً دون أيّ طلاقٍ.
فهل هذا يُشَبَّهُ بذاك أم لا؟
- قوله: (وَأَحْسَبُ أَنَّ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ كُلَّهُ هَادِمٌ).
ولفظ: (أحسب)، يَتَنَزَّلُ أحيانًا منزلة العِلم فَتُفِيدُ معنى اليقين، وأحيانًا تتنزل منزلة الظَّنِّ وهو قريب من اليقين وأعلى منزلةً من الوهم والشكِّ، أما ما يريده المؤلِّف بالحُسبان هاهنا إنما هو الحقيقة واليقين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
= مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 477)، حيث قال:" (ولو طلق) الزوج الحرّ (دون ثلاث وراجع) من طلقها (أو جدد) نكاحها (ولو بعد زوج) وإصابة كما في بعض نسخ المحرر (عادت ببقية الثلاث) أما إذا لم يكن بعد زوج فبالإجماع، وأما بعد الزوج فخالف في ذلك أبو حنيفة وقال: تعود بالثلاث؛ لأن الزوج يهدم الثلاث فما دونها، واحتجَّ أصحابنا بأنها إصابة ليست بشرط في الإباحة فلم تؤثر كوطء السيد أمته المطلقة، وبهذا قال أكابر الصحابة كما قاله ابن المنذر: منهم عمر رضي الله عنه ولم يظهر لهم مخالف، (وإن ثلث) الطلاق بأن طلقها أثلاثًا وجدد نكاحها بعد زوج دخل بها وفارقها وانقضت عدتها منه (عادت بثلاث) بالإجماع؛ لأن دخول الثاني أفاد حل النكاح للأول، ولا يمكن بناؤه على العقد الأول فثبت نكاح مستفتح بأحكامه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 149 - 150)، حيث قال:" (ومتى اغتسلت) رجعية (من حيضة ثالثة ولم يرتجعها) قبله (بانت ولم تحل إلا بنكاح جديد) إجماعًا لمفهوم قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، أي: العدة. (وتعود) إليه الرجعية إذا راجعها والبائن إذا نكحها (على ما بقي من طلاقها ولو) كان عودها (بعد وطء زوج آخر) غير المطلق في قول أكابر الصحابة".
(الفَصْلُ السَّادِسُ فِي دُخُولِ الإِيلَاءِ عَلَيْهِ
وَأَمَّا هَلْ يَدْخُلُ الإِيلَاءُ عَلَى الظِّهَارِ إِذَا كَانَ مُضَارًّا).
بمعنى: أنه هل يضيف الظهارَ إلى الإيلاء أم لا.
وأما اعتبار الضرر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ضرر ولا ضرار، ومن ضار ضره الله"
(1)
.
والإنسان إذا قَصَدَ إيذاءَ المرأة والإضرار بها، فلا شكَّ في عدم جواز هذا، أما أن يكون يعمل عملًا يهدف به إلى تأديب المرأة فهو أمرٌ مطلوبٌ في بعض الأوقات.
- قوله: (وَذَلِكَ بِأَلَّا يُكَفِّرَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الكَفَّارَةِ؟ فَإِنَّ فِيهِ أَيْضًا اخْتِلَافًا، فَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
يَقُولَانِ: لَا يَتَدَاخَلُ الحُكْمَانِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ خِلَافُ حُكْمِ الإِيلَاءِ).
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 51) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 470)، حيث قال:" (قوله: ولو قيده بوقت إلخ) فلو أراد قربانها داخل الوقت لا يجوز بلا كفارة بحر. والظاهر: أن الوقت إذا كان أربعة أشهر فأكثر أنه لا يكون إيلاء لعدم ركنه وهو الحلف، أو التعليق بمشق ط. وهو ظاهر. وفي الزيلعي في غير هذا المحل: وقول من قال "إن الظهار يمين" فاسد؛ لأن الظهار منكر من القول وزور محض واليمين تصرف مشروع مباح اهـ ثم رأيت في كافي الحاكم ولا يدخل على المظاهر إيلاء وإن لم يجامعها أربعة أشهر".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 294)، حيث قال: "وإذا تظاهر الرجل من امرأته ثم =
وهو مذهب أحمد كذلك
(1)
.
- قوله: (وَسَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَهُمْ مُضَارًّا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ الإِيلَاءُ عَلَى الظِّهَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُضَارًّا
(4)
). وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَدْخُلُ الإِيلَاءُ
= تركها أكثر من أربعة أشهر فهو متظاهر ولا إيلاء عليه يوقف له؛ لأن الله تعالى قد حكم في الظهار غير حكمه في الإيلاء فلا يكون المتظاهر موليًا ولا المولي متظاهرًا بأحد القولين ولا يكون عليه بأحدهما إلا أيهما جعل على نفسه، لأنه مطيع لله تعالى بترك الجماع في الظهار عاص لو جامع قبل أن يكفر وعاص بالإيلاء، وسواء كان مضارًّا بالظهار أو غير مضارٍّ إلا أنه يأثم بالضرار كما يأثم لو آلى أقل من أربعة أشهر يريد ضرارًا ولا يحكم عليه حكم الإيلاء بالضرار ويأثم لو تركها الدهر بلا يمين يريد ضرارًا ولا يحكم عليه حكم الإيلاء ولا يحال حكم عما أنزل الله تبارك وتعالى فيه".
(1)
سيأتي تخريجه في المتن.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 61)، حيث قال: "وقال الشافعي من ظاهر من امرأته ثم تركها أكثر من أربعة أشهر فهو مظاهر ولا إيلاء عليه فإن الله عز وجل جكم في الظهار بغير حكم الإيلاء وسواء كان مضارًّا بترك الكفارة أو غير مضار
…
وبه قال الأوزاعي".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 156)، حيث قال:" (وكمول في الحكم) من ضرب المدة وطلب الفيئة بعدها والأمر بالطلاق إن لم يف ونحوه (من ترك الوطء) في قبل زوجته (ضرارًا) بها (بلا عذر) له (أو) أي: وبلا (حلف) على ترك وطء (و) مثله (من ظاهر) من امرأته (ولم يكفر) لظهاره، لأنه ضرها بترك وطئها في مدة بقدر مدة المولي فلزمه حكمه كما لو ترك ذلك بحلفه".
(4)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" لأبي الوليد الباجي (4/ 51)، حيث قال:"عن مالك في المتظاهر لا يجد ما يعتق ولا يقدر على الصيام ولا يجد ما يطعم فلا مخرج له وليكف عن أهله حتى يجد ما يكفر به يريد ولا حجة لها ففي هذا ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يتبين ضرره فيدخل عليه الإيلاء، والثانية: أن لا يتبين ضرره ولا عذره فلا يدخل عليه أجل الإيلاء بطول المدة، والحالة الثالثة: أن يتبين عذره فلا يدخل عليه إيلاء جملة".
عَلَى الظِّهَارِ، وَتَبِينُ مِنْهُ بِانْقِضَاءِ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ المُضَارَّةِ
(1)
).
والظهار لا يُقصدُ منه الإضرار بالمرأة وإلحاق الأذى بها - كما هو معلومٌ -، وكما أن سلمة بن صخر لم يكن يقصد ذُلًّا عندما ظاهَرَ من امرأته، وإنما كان يقصد إلى تحصين نفسه من الوقوع في المحظور في نهار رمضان ويريد ألا يفسد صيامه بالجماع.
- قوله: (فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: إِنَّهُ يَدْخُلُ بِإِطْلَاقٍ، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِإِطْلَاقٍ، وَقَوْلٌ: إِنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ المُضَارَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَ عَدَمِهَا. وَسَبَبُ الخِلَافِ مُرَاعَاةُ المَعْنَى، وَاعْتِبَارُ الظَّاهِرِ؛ فَمَنِ اعْتَبَرَ الظَّاهِرَ قَالَ: لَا يَتَدَاخَلَانِ؛ وَمَنِ اعْتَبَرَ المَعْنَى قَالَ: يَتَدَاخَلَانِ إِذَا كَانَ القَصْدُ الضَّرَرَ).
والقول الأخير هذا إنما هو القول الصحيح من هذه الأقوال، وعليه أكثر أهل العلم.
أما وجود الشَّبَهِ بينهما من حيثُ الكفارة، فهذا لا يُسَوِّغُ إلحاقَ كلٍّ منهما بالآخَرِ وحصول التَّداخُل فيما بينهما.
(1)
الذي جاء عن الثوري أنه قال بعدم تداخلهما. يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 61)، وفيه قال:"وكذلك روى الأشجعي عن الثوري أن الإيلاء لا يدخل على الظهار فتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر". وفي "الأوسط" لابن المنذر (9/ 354)، قال: الظهار أصل وحكم، قد حكم الله فيه حكمًا غير حكم الإيلاء، وحكم في الإيلاء بغير حكم الظهار، وهما أصلان فلا يكون الرجل بقوله لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي موليًا كما لا يكون المرء بالإيلاء مظاهرًا، وهذا على مذهب الثوري، والشافعي، وأحمد، والنعمان".
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ السَّابِعُ فِي أَحْكَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ)
ولا شكَّ أن الكفارة جاء التنصيص عليها في الكتاب العزيز وفي الوقائع الواردة في السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ.
- قوله: (وَالنَّظَرُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا فِي عَدَدِ أَنْوَاعِ الكَفَّارَةِ وَتَرْتِيبِهَا، وَشُرُوطِ نَوْعٍ مِنْهَا).
فالكفارة ثلاثة أنواع:
- تحرير رقبة.
- ثم صيام شهرين متتابعين إن عجز عن العتق.
- ثم الإطعام إن عجز عن العتق والصيام.
- قوله: (أَعْنِي: الشُّرُوطَ المُصَحِّحَةَ).
فكلّ كفارةٍ من هذه الكفارات الثلاث لها شروطٌ تتعلق بصحَّتها، بحيث تصح الكفارة بوجود هذه الشروط وتبطل بعدمها، فهناك شروط متعلقة بالعتق، وشروطٌ متعلقةٌ بالصيام، وشروطٌ كذلك متعلقةٌ بالإطعام.
- قوله: (وَمَتَى تَجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؟ وَمَتَى تَجِبُ أَكثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ؟).
أمَّا كون هذه الكفارات تتداخل أم لا، فهذا مَبْحَثٌ فقهيٌّ معروفٌ، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقواعد الفقهية، ولراد به ما إذا ظاهَرَ الزوج عدَّة مراتٍ فحينئذٍ هل تجب عليه كفارةٌ واحدةٌ أم أنه تجب عليه في هذه الحالة كفاراتٌ متعددةٌ بتعدد مرات الظهار.
وهل يختلف الحكم ما بين أن يكون قد ظاهَرَ مرَّاتٍ قبل أن يُكفِّر، وبين أن يكون قد ظَاهَرَ وَكَفَّرَ ثم أَتْبَعَ كفارتَه بظهارٍ ثانٍ؟
وهل هناك فرقٌ بين أن يظاهِرَ الرجل من امرأةٍ واحدةٍ وبين أن يُظاهِرَ من أكثر من امرأةٍ؟
كلُّ هذه المسائل إنما هي محلّ خلافٍ بين أهل العلم.
- قوله: (فَأَمَّا أَنْوَاعُهَا: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ).
والسبب في إجماع أهل العلم على أنواع الكفارة إنما هو وضوح النَّصِّ القرآنِيِّ وصراحته، وهو قول الله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} .
وكلُّ ما جاء ذِكْرُهُ نَصًّا في كتاب الله سبحانه وتعالى صار لا محلَّ للاجتهاد فيه ولا الخلاف، وإنما صار محلَّ إجماعٍ.
وأنواع الكفارة قد وَرَدَتْ بها السُّنَّةُ المطهَّرة كذلك، كما في قصة خولة مع زوجها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها:"يعتق رقبة"، فأخبرته أنه لا يجد، فقال:"يصوم شهرين متتابعين"، فأخبرته بأنه شيخٌ كبيرٌ لا يَقوَى على الصوم، فقال:"يُطعِمُ سِتِّينَ مسكينًا"، فأخبرته بضيق ذات يده، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"سنعينه"، ثم قالت خولة بعد ذلك:"وأنا سأعينه بعرق من تمرٍ"
(1)
، وهو حديث صحيحٌ.
وكذلك وَرَدَ في سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم حديث سلمة بن صخر البياضي عندما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبةً، فلمَّا أخبره سلمة أنه لا يجد، أَمَرَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصومَ شهرين متتابعين، فلما أخبره سلمة أنه لم يقع في ذلك الأمر إلا بسبب الصيام حينئذٍ أَمَرَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُطعِمَ ستين
(1)
تقدم تخريجه.
مسكينًا، فحينئذٍ أخبره سلمة بأنه قد بات تلك الليلة وزوجته كما تبيت الوحوش، كنايةً عن أنهما لم يجدا طعامًا في ليلتهما تلك
(1)
.
فإجماع أهل العلم في تحديد أنواع الكفارات وترتيبها إنما هو آتٍ من صراحة النصوص الشرعية في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- قوله: (إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ).
لقول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وقد جاء ذِكْرُ الرقبة مُطلَقًا في النَّصِّ القرآنيِّ، بل لم يَأْتِ تقييد للرقبة المُعتَقَة في كلِّ أنواع الكفارات، فيما عدا الرقبة المحكوم بها في كفارة القتل، ومن هنا يَنْشَأ الخلافُ في هذه المسألة.
- قوله: (أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ).
لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، ولورود ذلك في الأحاديث المطهَّرة كذلك.
- قوله: (أَوْ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَأَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَالإِعْتَاقُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالصِّيَام، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالإِطْعَامُ).
فكفارة الظهار هاهنا على الترتيب لا على التخيير، بحيثُ إن الترتيب فيها إنما هو ترتيبٌ وجوبيٌّ، بخلاف كفارة اليمين التي وَرَدَت الكفارة فيها على التخيير، كما في سورة المائدة في قولِ الله سبحانه وتعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} ، حيث جاءت كفارة اليمين على
(1)
تقدم تخريجه.
التخيير، فذَكَرَ الله سبحانه وتعالى: الإطعام ثم أتبَعَهُ بالكسوة ثم أتبَعَهُما بالعتق، بحيث لو بدأ المُكَفِّرُ بالعتق لكان ذلك مُجزِئًا له عن كفارته، ويدلُّ عليه ما جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من أنَّ كلَّ ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى بلفظ:(أو) فإنه يكون على التخيير لا على الإلزام
(1)
.
أما هاهنا في كفارة الظهار فإن الترتيب الوارد فيها جاء وجوبيًّا، بقوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ، كما هو الحال في التيمم حين قال الله سبحانه وتعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، بحيثُ لا يجوز حينئذٍ للإنسان أن يتيمم إلا عند فَقْدِ الماء أو وجود عُذرٍ يَمنَع من استخدامه.
وأوَّل نوع من أنواع كفارة الظهار - وهو عتق الرقبة - يُشتَرَطُ فيه ألا يكون المُكَفِّرُ في حاجةٍ إلى هذه الرقبة، فقد يكون مالكًا لهذه الرقبة لكنه لا يستغني عنها، بحيثُ إن أَعْتَقَها بقي بعدها عالةً يتكفف الناس، وهذا لا ينبغي، وإنما الكفارة تكون على قدر الطاقة والسعة؛ وقد يكون واجدًا للمال ولكنه لا يجد رقبةً كي يشتريها ويعتقها، فحينئذٍ لا يُكَفِّرُ بالعتق؛ لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وإنما ينتقل إلى الكفارة التي تليها وهي صيام شهرين متتابعين.
- قوله: (هَذَا فِي الحُرِّ).
فَفَرْضُ العبد إنما هو الصيام لا العتق؛ لأن العبد لا مال له ولا يملك شيئًا، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"من اشترى عبدًا له مالٌ فماله لسيده، إلا أن يشترطه المبتاع"
(2)
، ومن هذا الباب كان كلام العلماء في مسألة ما إذا باع إنسانٌ عبدًا وكان عليه تيابٌ غالية الثمن وما إذا كانت هذه الثياب حينئذٍ تدخل في جملة المبيع أم لا بدَّ أن يشترطها المبتاع.
فالقول بعدم مِلْكِ العبد يجعل التكفير بالعتق لا يتناسب مع غير
(1)
أخرجه عبد الرزاق (4/ 395).
(2)
أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1543/ 80) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الحرِّ، فالكفارات بعضها ماليٌّ وبعضها بدنيٌّ، وما دامت الكفارة الماليَّةُ لا تتناسب مع العبد، فإن فَرْضَ العبد في الكفارة إنما هو العبادة البدنية، وهي الصيام، أما لو تبرع له سيده بالمال فهل له حينئذٍ أن يُكَفِّرَ بالعتق أو الإطعام أم لا، فهذه مسألةٌ أخرى.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي العَبْدِ يُكَفِّرُ بِالعِتْقِ أَوْ بِالإِطْعَامِ؟ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الَّذِي يَبْدَأُ بِهِ الصِّيَامُ - أَعْنِي: إِذَا عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ).
فَكَوْنُ العبد يبدأ في الكفارة بالصيام هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم؛ لأن هذا هو ما يتناسب مع طاقته وسعته.
- قوله: (فَأَجَازَ لِلْعَبْدِ العِتْقَ - إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ - أَبُو ثَوْرٍ
(1)
، وَدَاوُدُ
(2)
).
وكذلك الأوزاعيُّ أجاز للعبد التكفير بالعِتقِ إن أَذِنَ له سيده بذلك
(3)
.
- قوله: (وَأَبَى ذَلِكَ سَائِرُ العُلَمَاءِ).
وهم الأئمة الأربعة
(4)
.
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 401)، حيث قال: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن ظهار العبد مثل ظهار الحر. واختلفوا فيما يجب عليه إذا ظاهر من الكفارة
…
وقال أبو ثور: يعتق إن أعطاه سيده فإن لم يفعل صام، فإن لم يقدر وأعطاه السيد أطعم، وحكي ذلك عن الشافعي".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 62)، وفيه قال:"واختلفوا في العتق والإطعام، فأجاز للعبد العتق إن أعطاه سيده ما يعتق أبو ثور وداود".
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 307)، حيث قال: "واختلفوا فيما يجزي العبد من الكفارة إذا ظاهر من زوجته
…
وقال الأوزاعي: فإن لم يستطع الصيام فأطعم عند أهله أجزاه، وإن كان له عبد فأذن له مولاه أن يطعم، أو يعتق أجزأه".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 268)، حيث قال: " (وإن ظاهر العبد لم يجز في الكفارة إلا الصوم)؛ لأنه لا ملك له فلم يكن من أهل =
- قوله: (وَأَمَّا الإِطْعَام، فَأَجَازَهُ لَهُ مَالِكٌ إِنْ أَطْعَمَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ
(1)
).
بمعنى: أن مالكًا اشترط إذن السيد في تكفير العبد بالإطعام.
- قوله: (وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَمَبْنَى الخِلَافِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ: هَلْ يَمْلِكُ العَبْد، أَوْ لَا يَمْلِكُ؟).
= التكفير بالمال (وإن أعتق المولى أو أطعم عنه لم يجزه)؛ لأنه ليس من أهل الملك فلا يصير مالكًا بتمليكه".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 450 - 451)، حيث قال:" (وتعين) الصوم (لذي الرق) في كفارة الظهار وغيرها ولو مكاتبًا إذا لم يأذن له السيد في الإطعام، فإن أذن له فيه لم يتعين عليه الصوم، وأما العتق فلا يصحّ منه، ولو أذن له سيده فيه؛ إذ الرق لا يحرز غيره (و) تعين الصوم أيضًا".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 99)، حيث قال:" (فإن) (عجز) المظاهر مثلًا (عن عتق) بأن لم يجد الرقبة وقت الأداء ولا ما يصرفه فيها فاضلًا عما ذكر أو وجدها لكنه قتلها مثلًا كما رجحه الروياني، أو كان عبدًا؛ إذ لا يكفر بغير الصوم لانتفاء ملكه ولسيده تحليله إن لم يأذن له فيه كما في الإحرام بالحج (صام شهرين متتابعين) للآية، فإن تكلف العتق أجزأه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 376)، حيث قال:" (أو) وجبت (وهو عبد ثم عتق لم يلزمه العتق)؛ لأنه غير ما وجب عليه لا يقال الصوم بدل عن العتق فإذا وجد من يعتقه وجب الانتقال إليه كالمتيمم يجد الماء قبل الصلاة أو فيها للفرق بينهما فإن الماء إذا وجد بعد التيمم بطل بخلاف الصوم فإن العتق لو وجد بعد فعله لم يبطل".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 450)، حيث قال:" (وتعين) الصوم الذي الرق) في كفارة الظهار وغيرها ولو مكاتبًا إذا لم يأذن له السيد في الإطعام، فإن أذن له فيه لم يتعين عليه الصوم".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 268)، حيث قال:" (وإن ظاهر العبد لم يجز في الكفارة إلا الصوم)؛ لأنه لا ملك له فلم يكن من أهل التكفير بالمال (وإن أعتق المولى أو أطعم عنه لم يجزه)؛ لأنه ليس من أهل الملك فلا يصير مالكا بتمليكه".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 99)، حيث قال:" (فإن) (عجز) المظاهر مثلًا (عن عتق) بأن لم يجد الرقبة وقت الأداء ولا ما يصرفه فيها فاضلًا عما ذكر أو وجدها لكنه قتلها مثلًا كما رجحه الروياني، أو كان عبدًا؛ إذ لا يكفر بغير الصوم لانتفاء ملكه ولسيده تحليله إن لم يأذن له فيه كما في الإحرام بالحج (صام شهرين متتابعين) للآية".
وقول أبي حنيفة والشافعي بعدم الجواز يَتَّفِقُ مع الرواية المشهورة عن الإمام أحمد
(1)
.
- قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الشُّرُوطِ المُصَحِّحَةِ).
هذا الذي كَفَّرَ عن ظِهارِهِ بالصيام، إذا أَفْطَرَ يومًا فَفِطرُهُ هذا لا يخلو إما أن يكون بسببٍ أو بغير سببٍ.
أمَّا السبب فقد يكون لِعُذرٍ كالمرض أو السفر، وقد يكون لعارضٍ يعرض له، كدخول شهر رمضان أثناء صيام الكفارة مما يتعذر معه الانشغال عن فريضة رمضان بمتابعة صيام الكفارة، وربما كان العارضُ هو دخول يومٍ من الأيام التي يَحرُمُ صيامُها كيوم العيد أو أيام التشريق، على الخلاف فيها، والصحيح: أنه لا يصوم.
وهل حينئذٍ إذا أَفْطَرَ يكون قد قَطَعَ التتابعَ الواجب في كفارة الصيام ويلزمه حينئذٍ أن يستأنف صيام الشهرين من جديدٍ؟ أم أنه يبني على ما فات من صيام في كفارته؟
- قوله: (فَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ إِذَا وَطِئَ فِي صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ، هَلْ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ أَمْ لَا؟).
ومراد المؤلّف من الوطء في صيام الشهرين هو أنه لو وَطِئَ ليلًا، أما الوطء نهارًا عامدًا فهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وإنما اختلافهم فيمن وَطِئَ أو أَكَلَ أو شَرِبَ ناسيًا، أما فاعل ذلك نهارًا عامدًا فلا خلاف في فساد صومه حينئذٍ.
أما مَن جامع ليلًا أثناء صيام الكفارة، فهل يَفسَدُ عليه التتابُع بذلك أم لا؟
الجواب: هو محل خلافٍ بين أهل العلم، فبعض العلماء قال بفساد
(1)
تقدم.
التتابع، وبعضهم قال بعدم فساده من حيث إن القصد من التتابع هو تتابع الأيام، وأن الإنسان لا يصوم ليلًا، والمسألة محلّ خلافٍ كما ذَكَرْنَا.
- قوله: (فَقَالَ هَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: "يَسْتَأْنِفُ الصِّيَامَ"، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ شَرَطَ فِي ذَلِكَ العَمْدَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ مَالِكٌ بَيْنَ العَمْدِ فِي ذَلِكَ وَالنِّسْيَان. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:"لَا يَسْتَأْنِفُ عَلَى حَالٍ"
(3)
).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 451)، حيث قال:" (وانقطع تتابعه)، أي: الصوم (بوطء) المرأة (المظاهر منها) حال الكفارة ولو في آخر يوم منه ويبتديه من أوله (أو) بوطء (واحدة ممن) تجزئ (فيهن كفارة) واحدة كما لو ظاهر من أربع في كلمة واحدة (وإن) حصل وطؤها لمن ذكر (ليلًا) ناسيًا أو جاهلًا أو غالطًا بأن اعتقد أنها غيرها، واحترز عن وطء غير المظاهر منها ليلًا عمدًا فلا يضر".
وهو مذهب الحنابلة: ينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 174)، حيث قال:" (وينقطع) تتابع (بوطء مظاهر منها ولو) كان (ناسيًا) لعموم {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]، ولأن الوطء لا يعذر فيه بالنسيان (أو) كان وطؤه (مع عذر يبيح الفطر) كمرض وسفر (أو) كان وطؤه (ليلًا) عامدًا كان أو ناسيًا لعموم الآية، ولأنه تحريم للوطء فلا يختص النهار ولا الذكر وكوطئها لمسها ومباشرتها دون الفرج على وجه يفطر به وإلا لم ينقطع التتابع".
(2)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 477)، حيث قال:" (فإن أفطر بعذر) كسفر ونفاس بخلاف الحيض إلا إذا أيست (أو بغيره، أو وطئها)، أي: المظاهر منها، وأما لو وطئ غيرها وطئًا غير مفطر لم يضر اتفاقًا كالوطء في كفارة القتل (فيهما)، أي: الشهرين (مطلقًا) ليلًا، أو نهارًا عامدًا، أو ناسيًا كما في "المختار" وغيره. وتقييد ابن ملك الليل بالعمد غلط بحر، لكن في القهستاني ما يخالفه قنية (استؤنف الصوم لا الإطعام، إن وطئها في خلاله) لإطلاق النص في الإطعام، وتقييده في تحرير وصيام".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 49)، حيث قال:" (ويفوت التتابع بفوات يوم بلا عذر) ولو كان اليوم الأخير كما إذا فسد صومه أو نسي النية في بعض الليالي، والنسيان لا يُجعَل عذرًا في ترك المأمورات، وهل يبطل ما مضى أو ينقلب نفلًا؟ فيه قولان: رجح في الأنوار أولهما وابن المقري ثانيهما، وينبغي حمل الأول على الإفساد بلا عذر، والثاني على الإفساد بعذر، ولو شك في نية صوم يوم بعد الفراغ من الصوم ولو من صوم اليوم الذي شك في نيته لم يضر؛ إذ لا أثر للشك بعد الفراغ من اليوم، ويفارق نظيره في الصلاة بأنها أضيق من الصوم".
فمالكٌ أَطْلَقَ القول باستئناف الصيام من جديدٍ، وأبو حنيفة قَيَّدَ ذلك بالعمد دون النسيان، أما الشافعيُّ فذهب إلى أنه يبني على ما فات ولا يستأنف؛ لأن هذه الليالي لا أَثَرَ لها في إفساد صيامه، فالصيام متماسكٌ مستمِرٌّ لا خلل فيه، فلا وَجْهَ حينئذٍ لتكليفه بما ليس جُزءًا من الواجب المُتَحَتِّمِ عليه.
- قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ تَشْبِيهُ كفَّارَةِ الظِّهَارِ بِكَفَّارَةِ اليَمِينِ، وَالشَّرْطُ الَّذِي وَرَدَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ - أَعْنِي: أَنْ تَكُونَ قَبْلَ المَسِيسِ -؛ فَمَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الشَّرْطَ قَالَ: يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِكَفَّارَةِ اليَمِينِ قَالَ: لَا يَسْتَأْنِفُ؛ لِأَنَّ الكَفَّارَةَ فِي اليَمِينِ تَرْفَعُ الحِنْثَ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِاتِّفَاقٍ. وَمِنْهَا: هَلْ مِنْ شَرْطِ الرَّقَبَةِ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً أَمْ لَا؟).
وهذه المسألة من المسائل المهمة المتعلقة بأصول الفقه، وهي ما إذا كانت الرقبة المُعتَقة يُشترَط فيها أن تكون مؤمنةً أم أن ذلك لا يشتَرَط.
أما النَّصُّ القرآني فإنه قد أَطْلَقَ ذلك ولم يُقَيِّدْه، فقد قال الله سبحانه وتعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، ولم يَرِد التقييد في التكفير بالعتق إلا في كفارة القتل فقط حين قَيَّدَ الله كفارة القتل بعتق رقبة مؤمنة.
فهل هذا التقييد خاصٌّ بكفَّارة القتل وحدها؟ أم أنه يسري إلى التكفير بالعتق في سائر الكفارات؟ بمعنى: هل يُقاس العتق في كفارة الظِّهار على العتق في كفارة القتل أم لا؟
وهذه المسألة محلُّ خلافٍ بين أهل العلم.
فمذهب الجمهور فيها: هو اشتراط الإيمان في الرقبة المعتَقَة، وبه قال مالكٌ
(1)
،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 448)، حيث قال:" (قوله: لأن المقصود)، أي: من عتقها، أي: ولأن الله لما ذكر في كفارة القتل رقبة مؤمنة، وأطلقها في كفارة الظهار وغيره كانت كذلك حملًا للمطلق على المقيد كذا قيل، وفيه أن حمل المطلق على المقيد شرطه اتحاد السبب، والسبب هنا في الكفارات مختلف".
والشافعيُّ
(1)
، وأحمدُ في الرواية المشهورة عنه
(2)
.
ومذهب أبي حنيفة: هو جواز عِتْقِ الرقبة الذِّمِّيَّةِ
(3)
، ومعه على هذا القول الإمام أحمد في الرواية الأخرى عنه
(4)
.
- قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي الإِجْزَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ رَقَبَةُ الكَافِرِ"، وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ إِعْتَاقُ الوَثَنِيَّةِ، وَالمُرْتَدَّةِ. وَدَلِيلُ الفَرِيقِ الأَوَّلِ: أَنَّهُ إِعْتَاق عَلَى وَجْهِ القُرْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُسْلِمَةً، أَصْلُهُ الإِعْتَاقُ فِي كَفَّارَةِ القَتْلِ).
أي: أن الذين اشتَرَطوا الإيمان في الرقبة المُعتَقَة إنما احتجوا لقولهم
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 190)، حيث قال:" (وخصال كفارة الظهار) ثلاث (عتق رقبة) فصوم فإطعام كما يفيده سياقه الآتي وعلم من كلامه أن مثلها في الخصال الثلاث كفارة وقاع رمضان وفي الأولين كفارة القتل وفي الأولى كفارة مخيرة أراد العتق عنها، وإنما يجزئ عنها عتق رقبة (مؤمنة) ولو تبعًا لأصل أو دار أو ساب حملًا للمطلق في آية الظهار على المقيد في آية القتل بجامع عدم الإذن في السبب".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 171)، حيت قال:" (وشرط) في إجزاء (رقبة في كفارة مطلقًا و) في (نذر عتق مطلق إسلام) ولو كان المكفر كافرًا لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وألحق بذلك باقي الكفارات حملًا للمطلق على المقيد".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (3/ 473)، حيث قال:" (تحرير رقبة) قبل الوطء، أي: إعتاقها بنية الكفارة، فلو ورث أباه ناويًا الكفارة لم يجز (ولو صغيرًا) رضيعًا (أو كافرًا) أو مباح الدم، أو مرهونًا، أو مديونًا، أو آبقًا علمت حياته، أو مرتدة، وفي المرتد وحربي خلي سبيله خلاف (أو أصم) وإن صيح به يسمع وإلا لا (أو خصيا، أو مجبوبًا)، أو رتقاء، أو قرناء (أو مقطوع الأذنين) ".
(4)
يُنظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(5/ 492)، حيث قال:" (والرواية الثانية) لا يشترط إيمانها، بل تجزئ وإن كانت كافرة، نصَّ عليها في اليهودي والنصراني، واختارها أبو بكر، أخذًا بإطلاق الكتاب، وهاتان الروايتان يجريان في كلِّ رقبة واجبة، من نذر أو كفارة، ما عدا كفارة القتل، فإن الإيمان شرط فيها بلا نزاع للنص".
بأنَّ هذا العتق على وَجْهِ القُربة والطاعة لله سبحانه وتعالى حتى وإن كانت نتيجة خطأ وَقَعَ فيه المكلَّف، إلا أنها استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى فتكون طاعةً من الطاعات.
دليل الجمهور:
وجمهور العلماء يستدلُّون بحديث معاوية بن الحكم، فقد كانت عنده جاريةٌ فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الجارية، وقال: يا رسول الله عَلَيَّ عِتْقُ رقبةٍ فَأُعْتِقُهَا؟ فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينَ اللهِ؟ ". قالت: في السماء. قال: "مَن أنا؟ ". قالت: أنتَ رسول الله. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقْهَا، فإنها مؤمنةٌ". وهو حديثٌ صحيحٌ جاء في "صحيح مسلمٍ"
(1)
وغيره
(2)
، وجمهور أهل العلم يعتبرونه نَصًّا صريحًا في هذه المسألة، واحتجُّوا بأن هذا إن لم يكن شرطًا في صحَّة عِتْقِهَا لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم لِيسألَها:"أين الله؟ " ولا: "من أنا"، وأن قوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية:"أَعْتِقْهَا، فإنها مؤمنةٌ". إنما هو نَصٌّ صريحٌ يُستَدَلُّ منه على اشتراط الإيمان في الرقبة المعتَقَة، وإن لم يكن هذا شرطًا في العتق لَبَيَّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة
(3)
كما هو معلوم من قواعد الأصول.
- قوله: (وَرُبَّمَا قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ القِيَاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ المُطْلَقِ عَلَى المُقَيَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَيَّدَ الرَّقَبَةَ بِالإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ القَتْلِ، وَأَطْلَقَهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَيجِبُ صَرْفُ المُطْلَقِ إِلَى المُقَيَّدِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ حَمْلِ المُطْلَقِ عَلَى المُقَيَّدِ فِيهِ خِلَافٌ، وَالحَنَفِيَّةُ لَا يُجِيزُونَه، وَذَلِكَ أَنَّ الأَسْبَابَ فِي القَضِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَمَّا حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهُوَ ظَاهِرُ العُمُومِ، وَلَا مُعَارَضَةَ عِنْدَهُ بَيْنَ المُطْلَقِ وَالمُقَيَّدِ، فَوَجَبَ عِنْدَهُ أَنْ يُحْمَلَ كُلٌّ عَلَى لَفْظِهِ).
(1)
حديث (537/ 33).
(2)
أخرجه أبو داود (930).
(3)
تقدم تخريجه.
فجمهور أهل العلم القائلون باشتراط الإيمان في الرقبة قد انقسموا في تعليل مذهبهم إلى فريقين:
- الفريق الأول: إنما علَّلوا هذا القول بالقياس على كفارة القتل، التي يُشترَط فيها في الرقبة أن تكون مؤمنةً، وبأنه ما دامت هذه كفارةً وتلك كفارةً فلا وجه إذن لعدم إلحاق إحداهما بالأخرى لوجود قاسمٍ مشترَكٍ يجمع بينهما.
- والفريق الثاني: إنما عللوه بما هو معلومٌ مِن أن الأصل في المُطلَقِ أن يُحمَلَ على المقيَّدِ، وإذا كانت كفارة الظهار مطلَقةً وكفارة القتل مقيَّدةً، فالعمل بالقاعدة يقتضي حَمْلَ كفارة الظهار على كفارة القتل، خلافًا لابن حزمٍ الأندلسي الذي يرى إبقاء المطلَق على إطلاقه ما دام لا يتعارض مع المقيَّد.
- قوله: (وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ هَلْ مِنْ شَرْطِ الرَّقَبَةِ أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً مِنَ العُيُوبِ أَمْ لَا؟).
أما اشتراط سلامة الرقبة المعتَقة من العيوب، فيُشترَط من حيثُ الجملة، أما من حيث التفصيل فهو محلُّ خلافٍ بين أهل العلم.
فالذين اشترطوا السلامة من العيوب إنما اختلفوا في أنواع العيوب المعتبرة وغير المعتبرة، بحيثُ قد أجمَعوا على عيوبٍ بعينها أنها تؤثر في سلامة الرقبة وأنها إن وُجِدَت في الرقبة صار عِتقُها لا يجزئ حينئذٍ، بل يجب حينها البحث عن رقبةٍ أخرى؛ واختلفوا في عيوب أخرى.
والسبب في هذا هو أن المقصود من الإعتاق هو تمكين العبد من التصرُّفِ بنفسه، بحيثُ يملك منافعه ويتصرف فيها، مما يُحتاج معه إلى أن يكون سليمًا.
- قوله: (ثُمَّ إِنْ كَانَتْ سَلِيمَةً، فَمِنْ أَيِّ العُيُوبٍ تُشْتَرَطُ سَلَامَتُهَا؟
فَالَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أَنَّ لِلْعُيُوب تَأْثِيرًا فِي مَنْعِ إِجْزَاءِ العِتْقِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ
(1)
).
والمراد بالجمهور هاهنا: هم الأئمة الأربعة، بل إن هذه المسألة لم يخالف فيها إلا داود الظاهري، والسبب في مخالفته لباقي الأئمة أنه يأخذ بظاهِر النصوص، فأَخَذَ بظاهِر قوله سبحانه وتعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، وظاهِر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يعتق رقبة"، فقال بأن النصوص ما دامت وَرَدَت بالإطلاق دون التقييد بالسلامة فإنه يحملها على الإطلاق ولا يشترط السلامة فيها.
- قوله: (وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ تَشْبِيهُهَا بِالأَضَاحِيِّ وَالهَدَايَا؛ لِكَوْنِ القُرْبَةِ تَجْمَعُهُمَا. وَحُجَّةُ الفَرِيقِ الثَّانِي إِطْلَاقُ اللَّفْظِ فِي الآيَةِ، فَسَبَبُ الخِلَافِ مُعَارَضَةُ الظَّاهِرِ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ لِلْعُيُوبِ تَأْثِيرًا فِي مَنْعِ الإِجْزَاءِ، اخْتَلَفُوا فِي عَيْبٍ عَيْبٍ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي الإِجْزَاءِ، أَوْ عَدَمِهِ).
لم يأت تقييد الرقبة بالسلامة من العيوب في صريح النصوص من الكتاب والسنة، ولكن يبقى الرجوع إلى القصد من الإعتاق، فإن العبدَ إنما يُعتَق حتى يكون قادرًا على العمل والكَسب بحيث يَنفَع نفسه وغيره، وعليه فإنه لا فائدة في إعتاق العبد المُقعَد غير القادر على العمل؛ لأنه لا يستفيد شيئًا حينما يتملَّكُ نفسَه.
- قوله: (أَمَّا العَمَى، وَقَطْعُ اليَدَيْنِ، أَوِ الرِّجْلَيْنِ، فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي أَنَّهُ مَانِعٌ لِلْإِجْزَاءِ
(2)
).
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 64)، حيث قال:"وأجمع العلماء على أن من العيوب في الرقاب عيوبًا لا تجزئ في كفارة الظهار مثل أن يكون مقطوع اليدين أو الرجلين أو مقطوع الجميع، وقال داود: يجزئ ما يقع عليه اسم رقبة بأي عيب كان؛ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يخص".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (3/ 474)، حيث قال: " (لا) يجزئ (فائت جنس المنفعة)؛ لأنه هالك حكمًا (كالأعمى والمجنون) الذي إلا يعقل) فمن يفيق يجوز في حال إفاقته ومريض لا يرجى برؤه وساقط الأسنان =
فالعَمَى وقَطعُ اليدين أو الرجلين من العيوب المتَّفَق على أنها تَمنَع الإجزاء إذا وُجِدَت في العبد المُعتَقِ؛ وذلك لأنَّ الأعمى لن يستطيع العمل إلا في قليلٍ من الصناعات مقارَنةً بالمُبصِر.
أما مقطوع اليدين فلا يجزئ عِتقُه؛ لأن اليد إنما هي آلةُ الإنسان التي يأخذ بها ويُعطِي ويرفع ويضع.
وكذلك الحال في مقطوع الرجلين؛ لأن الرِّجل هي ما يستعين بها الإنسان في المشي وفي حَمْلِ الأشياء وغير ذلك.
كما أن أهل العلم قد أَلْحَقُوا بذلك المجنون إذا كان جنونه مُطبِقًا،
= (والمقطوع يداه، أو إبهاماه) أو ثلاث أصابع من كلِّ يد (أو رجلاه، أو يد ورجل من جانب) ومعتوه ومغلوب كافي".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 448)، حيث قال:" (سليمة عن قطع إصبع) واحد ولو بافة وأولى يد أو رجل أو شللها (و) من (عمى) وكذا غشاوة لا يبصر معها إلا بعسر لا خفيفة، وأعشى وأجهر فيجزئ (وبكم) وهو عدم النطق كان معه صمم أم لا (وجنون، وإن قل) بأن يأتيه مرة في الشهر (ومرض مشرف) بأن بلغ صاحبه النزع، وإلا أجزأ (وقطع) إحدى (أذنين) ولو لم يستأصلها (وصمم) وهو عدم السمع أو ثقله فلا يضر الخفيف (وهرم وعرج شديدين، وجذام وبرص) ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 92)، حيث قال:" (فيجزي صغير) ولو عقب ولادته لرجاء كبره كبرء المرض بخلاف الهرم، ويسن بالغ خروجًا من خلاف إيجابه. وفارق الغرة بأنها عوض وحق آدمي فاحتيط لها على أن المعتبر فيها الخيار؛ إذ غرة الشيء خياره، والصغير ليس منه (وأقرع) لا نبات برأسه لداء (وأعرج يمكنه) من غير مشقة لا تحتمل عادة كما هو ظاهر (تباع مشي) لقلة تأثيرهما في العمل بخلاف ما لا يمكنه ذلك وحكي عن خطه حذف الواو ليفيد إجزاء أحدهما بالأولى (وأعور) لذلك، نعم إن ضعف نظر سليمته وأخل بالعمل إخلالًا بيِّنًا لم يجزه (وأصم) وأخرس يفهم إشارة غيره وغيره".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 171)، حيث قال:" (و) شرط فيها (سلامة من عيب مضر ضررًا بيِّنًا بالعمل)؛ لأن المقصود تمليك القن نفعه وتمكينه من التصرف لنفسه، وهذا غير حاصل مع ما يضر بعمل كذلك (كعمى)؛ لأن الأعمى لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع، (و) كـ (شلل يد أو رجل أو قطع) ".
أي: يغلب عليه الجنون، أما من يجن أحيانًا ويفيق أحيانًا فلا يدخل في هذا المنع.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْهَا: هَلْ يَجُوزُ قَطْعُ اليَدِ الوَاحِدَةِ؟ أَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَمَّا الأَعْوَر، فَقَالَ مَالِكٌ:"لَا يُجْزِئُ"
(4)
، وَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ:"يُجْزِئُ"
(5)
، وَأَمَّا قَطْعُ الأُذُنَيْنِ فَقَالَ مَالِكٌ:"لَا يُجْزِئُ"
(6)
.
(1)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (3/ 474)، حيث قال:" (لا) يجزئ (فائت جنس المنفعة)؛ لأنه هالك حكمًا (كالأعمى والمجنون) الذي (لا يعقل) فمن يفيق يجوز في حال إفاقته ومريض لا يرجى برؤه وساقط الأسنان (والمقطوع يداه، أو إبهاماه) أو ثلاث أصابع من كل يد (أو رجلاه، أو يد ورجل من جانب) ومعتوه ومغلوب كافي".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 448)، حيث قال:" (سليمة عن قطع إصبع) واحد ولو بآفة وأولى يد أو رجل أو شللها، (و) من (عمى) وكذا غشاوة لا يبصر معها إلا بعسر لا خفيفة، وأعشى وأجهر فيجزئ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 191)، حيث قال:" (ولا فاقد رجل)، أو يد وأشل أحدهما لإضرار ذلك بعمله إضرارًا بيِّنًا، (أو) فاقد (خنصر وبنصر من يد) لذلك بخلاف فقد أحدهما أو فقدهما من يدين".
(4)
المشهور من مذهب المالكية: أن الأعور يجزئ.
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 449)، حيث قال:" (قوله ويجزئ أعور)، أي: وهو من فقد النظر بإحدى عينيه؛ لأن العين الواحدة تقوم مقام العينين، ويرى بها ما يرى بهما وديتها ديتهما معًا ألف دينار، والقول بإجزاء الأعور هو المشهور، والخلاف في الأنقر الذي فقئت حبة عينه، وأما غيره فيجزئ اتفاقًا كما يجزئ من فَقَد من كلِّ عين بعض نظرها".
(5)
الذي وقفت عليه من قول عبد الملك أنه لا يجزئ: ينظر: "المنتقى شرح الموطإ" لأبي الوليد الباجي (3/ 255)، حيث قال:"واختلف في الأعور فقال مالك والمصريون يجزئ، وقال عبد الملك: لا يجزئ، وهو قول مالك في "المبسوط" وجه قول مالك أن العين الواحدة تقوم مقام العينين أو قرب ذلك فكان كمن بعينيه ضعف، ووجه قول مالك أن نقصه ما يجب به نصف الدية كأقطع اليد".
(6)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 448)، حيث قال: " (قوله: =
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: "يُجْزِئُ"
(1)
).
وقول أصحاب الشافعي بجواز إعتاق مقطوع الأذنين يوافق كذلك قول أبي حنيفة
(2)
وأحمد
(3)
.
- قوله: (وَأَمَّا الأَصَمُّ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَقِيلَ:"يُجْزِئُ"
(4)
).
وهو قول الإمام أحمد رحمه الله
(5)
.
= وقطع أذنين) اعلم أن قطع الأذنين مانع من الإجزاء سواء قطعهما من أصلهما أو قطع أشرافها، أي: أعلاهما، وأما الأذن الواحدة فالمضر قطعها من أصلها، وأما قطع أعلاها فقط فلا يضر كما يأتي، والمعتمد: أن قطع الواحدة من أصلها لا يضرّ؛ فالأولى للشارح حذف إحدى".
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 190)، حيث قال:" (وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه) جميعها وأسنانه وعنين ومجبوب ورتقاء وقرناء وأبرص ومجذوم وضعيف بطش ومن لا يحسن صنعة وفاسق وولد زنا وأحمق وهو من يضع الشيء في غير محله مع علمه بقبحه".
(2)
يُنظر: الدر المختار" الحصكفي (3/ 473)، حيث قال: "(ولو صغيرًا) رضيعًا (أو كافرًا) أو مباح الدم، أو مرهونًا، أو مديونًا، أو آبقًا علمت حياته، أو مرتدة، وفي المرتد وحربي خلي سبيله خلاف (أو أصم) وإن صيح به يسمع وإلا لا (أو خصيًّا، أو مجبوبًا)، أو رتقاء، أو قرناء (أو مقطوع الأذنين) ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 172)، حيث قال:" (ويجزئ من قطعت بنصره من إحدى يديه) وخنصره من الأخرى، (أو) قطعت بنصره من إحدى (رجليه و) قطعت (خنصره من الأخرى) لبقاء نفع كل منهما (أو جدع) بالدال المهملة، أي: قطع (أنفه) فيجزئ، (أو) قطع (أذنه أو يخنق أحيانًا)؛ لأنه لا يضر بالعمل".
(4)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" لأبي الوليد الباجي (3/ 255)، حيث قال:"وأما سلامة الخلقة فإن النقص على ضربين نقص من ظاهر جسمه ونقص من منافعه قال شيوخنا العراقيون إنه إذا كان على صفة يمكنه معها التصرف الكامل والتكسب غالبًا فإنه يجزئ مثل أن يكون مقطوع الأنملة قال ابن حبيب يجوز الجدع الخفيف أو الصمم الخفيف أو العرج الخفيف وذهاب الضرس وإن اسودت ووجه ذلك ما قدمناه".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 172)، حيث قال: " (و) يجزئ (مدبر =
- قوله: (وَقِيلَ: "لَا يُجْزِئُ"
(1)
، وَأَمَّا الأَخْرَسُ فَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ
(3)
، أَمَّا المَجْنُونُ فَلَا يُجْزِئُ
(4)
).
= وصغير) ولو غير مميز (وولد زنا وأعرج يسير أو مجبوب وخصي) ولو مجبوبًا (وأصم وأخرس تفهم إشارته وأعور) ".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 448)، حيث قال:" (سليمة عن قطع إصبع) واحد ولو بآفة وأولى يد أو رجل أو شللها (و) من (عمى) وكذا غشاوة لا يبصر معها إلا بعسر لا خفيفة، وأعشى وأجهر فيجزئ (وبكم) وهو عدم النطق كان معه صمم أم لا (وجنون، وإن قل) بأن يأتيه مرة في الشهر (ومرض مشرف) بأن بلغ صاحبه النزع، وإلا أجزأ (وقطع) إحدى (أذنين) ولو لم يستأصلها (وصمم) وهو عدم السمع أو ثقله فلا يضر الخفيف".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 448)، حيث قال:" (سليمة عن قطع إصبع) واحد ولو بآفة وأولى يد أو رجل أو شللها (و) من (عمى) وكذا غشاوة لا يبصر معها إلا بعسر لا خفيفة، وأعشى وأجهر فيجزئ (وبكم) وهو عدم النطق كان معه صمم أم لا".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 190)، حيث قال:" (وأصم) وأخرس يفهم إشارة غيره ويفهم غيره إشارته بما يحتاج إليه، ومن اقتصر على أحدهما اكتفى بتلازمهيا غالبًا، ويشترط فيمن ولد أخرس إسلامه تبعًا أو بإشارته المفهمة وإن لم يصل خلافًا لمز اشترط صلاته، وإلا لم يجزئ عتقه".
(4)
وهو مذهب الجمهور.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (3/ 474)، حيث قال:" (لا) يجزئ (فائت جنس المنفعة)؛ لأنه هالك حكمًا (كالأعمى والمجنون) الذي (لا يعقل) فمن يفيق يجوز في حال إفاقته ومريض لا يرجى برؤه وساقط الأسنان".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 448)، حيث قال:" (سليمة عن قطع إصبع) واحد ولو بآفة وأولى يد أو رجل أو شللها، (و) من (عمى) وكذا غشاوة لا يبصر معها إلا بعسر لا خفيفة، وأعشى وأجهر فيجزئ (وبكم) وهو عدم النطق كان معه صمم أم لا (وجنون، وإن قل) بأن يأتيه مرة في الشهر".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 93)، حيث قال:" (ولا من أكثر وقته مجنون) فيه تجوز بالإخبار بمجنون عن أكثر وقته، والأصل ولا من هو في أكثر وقته مجنون وذلك لما مر، بخلاف ما إذا لم يكن أكثر وقته كذلك بأن قل زمن جنونه عن زمن إفاقته أو استويا". =
والمراد بالمجنون هاهنا هو صاحب الجنون المُطبِقِ، أما الذي يجن أحيانًا ويفيق أحيانًا فلا ينطبق عليه هذا الحُكمُ؛ لأنه قد تمضي عليه فترةٌ في جنونه ثم يعود إليه عقله، أما صاحب الجنون المطبِق فإنما يكون أقرب للمغميِّ عليه.
- قوله: (أَمَّا الخَصِيُّ، فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ:"لَا يُعْحِبُنِي الخَصِيُّ"
(1)
، وَقَالَ غَيْرُهُ:"لَا يُجْزِئُ"
(2)
).
وأكثر العلماء على جواز إعتاق الخصيِّ؛ لأن هذه العلة لا تأثير لها في العتق ولا في عمل العبد.
- قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُجْزِئُ"
(3)
).
= مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 173)، حيث قال:" (و) لا يجزئ (نحيف عاجز عن عمل)؛ لأنه كمريض ميؤوس من برئه، (و) لا يجزئ (أخرس أصم ولو فهمت إشارته)؛ لأنه ناقص بفقد حاستين تنقص بنقصهما قيمته نقصًا كثيرًا، وكذا أخرس لا تفهم إشارته (ومجنون مطبق)؛ لأنه يمنع من العمل بالكلية".
(1)
يُنظر: "المدونة" لسحنون (2/ 327)، حيث قال:"قلت لابن القاسم: أرأيت الخصي المجبوب، أيجزئ في الكفارات في قول مالك؟ قال: لم أسمع فيه شيئًا إلا أني رأيت مالكًا يضعف شأن الخصي في غير وجه واحد، سمعته يكره أن يكون الخصي إمامًا راتبًا في مساجد القبائل أو مساجد الجماعات، والخصي إنما ارتفع ثمنه بما صنع فيه من الأباطيل حين أنثوه وقد انتقص بدنه فغير الخصي أحب إلي من الخصي في الكفارات".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 450)، حيث قال:" (قوله: وكره الخصي)، أي: عتقه كفارة (قوله: أن يصلي)، أي: وندب عتق من يصلي ويصوم (قوله: يعني من يعقل إلخ)، أي: وإن لم يصل ويصم بالفعل".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 93)، حيث قال:" (وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه) جميعًا وأسنانه ومجبوب وعنين وقرناء ورتقاء ومجذوم وأبرص وضعيف بطش ومن لا يحسن صنعة وفاسق وولد زنا وأحمق، وهو من يضع الشيء في غير محله مع علمه بقبحه".
وهو كذلك قول الإمام أحمد
(1)
.
- قوله: (وَإِعْتَاقُ الصَّغِيرِ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(2)
، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ المُتَقَدِّمِينَ مَنْعُهُ).
والسبب في جواز عتق الصغير هو أن الصغير لن يظلَّ كذلك، وإنما سَيَشِبُّ ويَكْبَرُ بإذن الله تعالى، أما لو وُجِدَ كبيرٌ وصغيرٌ ويتمايَزَان فحينئذٍ يُقدَّمُ الكبيرُ في الإعتاق.
- قوله: (وَالعَرَجُ الخَفِيفُ فِي المَذْهَبِ يُجْزِئ، أَمَّا البَيِّنُ العَرَجِ فَلَا
(3)
).
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 172)، حيث قال:" (و) يجزئ (مدبر وصغير) ولو غير مميز (وولد زنا وأعرج يسير أو مجبوب وخصي) ولو مجبوبًا".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(3/ 473)، حيث قال:" (قوله: ولو صغيرًا إلخ) تعميم للرقبة؛ لأن الرقبة كما في "الهداية" عبارة عن الذات، أي: الشيء المرقوق المملوك من كل وجه اهـ فشمل جميع ما ذكر، وقوله: من كل وجه متعلق بالمرقوق؛ لأن الكمال في الرق شرط دون الملك، ولذا جاز المكاتب الذي لم يؤدِّ شيئًا لا المدبر عناية، وخرج الجنين وإن ولدته لأقل من ستة أشهر؛ لأنه رقبة من وجه جزء من الأم من وجه حتى يعتق بإعتاقها".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 448)، حيث قال:" (قوله: ولو وقع)، أي: ولو وقع ونزل وأعتق الجنين عن ظهاره وقوله: عتق بعد وضعه، أي: ولا يجزئ كفارة (قوله: لاحتمال موته)، أي: لاحتمال أن يكون ميتًا أو معيبًا حين العتق (قوله: بخلاف الجنين)، أي: فإنه لا يجزئ ولو علم أنها وضعته بعد العتق بصفة من يجزئ؛ لأنه حين العتق لا يسمى رقبة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 92)، حيث قال:" (فيجزي صغير) ولو عقب ولادته لرجاء كبره كبرء المرض بخلاف الهرم، ويسن بالغ خروجًا من خلاف إيجابه. وفارق الغرة بأنها عوض وحق آدمي فاحتيط لها على أن المعتبر فيها الخيار، إذ غرة الشيء خياره، والصغير ليس منه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 172)، حيث قال:" (و) يجزئ (مدبر وصغير) ولو غير مميز".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 448)، حيث قال:" (سليمة عن قطع إصبع) واحد ولو بآفة وأولى يد أو رجل أو شللها". وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.=
هذا هو مذهب جمهور العلماء
(1)
؛ لأن الأعرج إذا كان عرجه خفيفًا فإنه لا يؤثر في إعتاقه ولا في عمله وكسبه كونه يميل في مشيه ميلًا يسيرًا، أما إذا كان العرج شديدًا ذا تأثيرٍ على العمل والكسب، فإن الجمهور على عدم إجزاء عتقه في الكفارة.
- قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي قَدْرِ النَّقْصِ المُؤَثِّرِ فِي القُرْبَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ إِلَّا الضَّحَايَا).
فالفقهاء إنما يُعلِّلُون ذلك بأن القصد من الإعتاق هو القُربة والطاعة لله سبحانه وتعالى، ولكن في الوقت ذاته ينبغي أن تكون الرقبةُ المعتَقةُ قادرةً على العمل والتكسُّبِ حتى لا تكون عالةً على الناس بعد العتق.
- قوله: (وَكَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ فِي المَذْهَبِ مَا فِيهِ شَرِكَةٌ، أَوْ طَرَفُ حُرِّيَّةٍ كَالكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وَالتَّحْرِيرُ هُوَ ابْتِدَاءُ الإِعْتَاقِ).
= مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(3/ 474)، حيث قال:" (قوله: والمقطوع يداه) مثله أشل اليدين، أو الرجلين والمفلوج اليابس الشق والمقعد والأصم الذي لا يسمع شيئًا على المختار كما في الولوالجية بحر. (قوله: أو إبهاماه) يعني: إبهامي اليدين؛ فلو قال: أو إبهاماهما لكان أولى ليخرج إبهامي الرجلين؛ إذ لا يمنع قطعهما كما في السراج شرنبلالية (قوله: أو ثلاث أصابع)؛ لأن للأكثر حكم الكل فتح (قوله: من جانب) بخلاف ما إذا كان من خلاف فإنه يجوز كما مر؛ لأنه يمكنه المشي بإمسالىًا لعصا باليد السالمة والمشي على الرجل الأخرى".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (8/ 190)، حيث قال:" (وأعرج يمكنه) من غير مشقة لا تحتمل عادة كما هو ظاهر (تباع المشي) لقلة تأثيرهما في العمل بخلاف ما لا يمكنه ذلك وحكي عن خطه حذف الواو ليفيد إجزاء أحدهما بالأولى".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 172)، حيث قال:" (و) يجزئ (مدبر وصغير) ولو غير مميز (وولد زنا وأعرج يسير أو مجبوب وخصي) ولو مجبوبًا".
(1)
تقدم تخريجه في المتن.
وهذا إنما هو محلُّ خلافٍ.
و"المكاتَب": هو الذي كاتَبَ سَيِّدَهُ على أن يَدفَعَ له على التنجيم ليحرر نفسه.
أما المدبَّر: فهو الذي عَلَّقَ سيدُه عِتقَه بموته.
وكذلك أمّ الولد، فإن في عِتقها خلافًا بين أهل العلم، والصحيح فيه أنها لا تُعتَق؛ لأنها ستصير إلى العِتق.
- قوله: (وَإِذَا كَانَ فِيهِ عَقْدٌ مِنْ عُقُودِ الحُرِّيَّةِ كَالكِتَابَةِ، كَانَ تَنْجِيزًا لَا إِعْتَاقًا، وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ).
وقوله: (تنجيزًا). إنما المراد منه لو أن هناك اتفاقًا بين العبد والسيد على العتق، ثم أعتق السيد عبده، فحينئذٍ يكون هذا الفعل من جانب السيِّد إنما هو تنجيز للاتفاق وإسراعٌ به، لا أنه الإعتاق المراد في الكفارة؛ لأن العبد حينئذٍ قد شابه شيءٌ من الحرية بناءً على هذا العقد الساري بينه وبين سيده.
- قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "إِنْ كَانَ المُكَاتَبُ أَدَّى شَيْئًا مِنْ مَالِ الكِتَابَةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ، جَازَ"
(1)
).
وهو كذلك مذهب الإمام أحمد
(2)
؛ وذلك لأن المكاتَبَ إذا كان قد أدَّى شيئًا من مال الكتابة فإنه حينئذٍ يكون قد دَاخَلَهُ شيءٌ من الحرية، فيكون العبد حينئذٍ من جملة القادرين على تحرير أنفسهم، مما يوجب على
(1)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (3/ 475)، حيث قال:" (ولا) يجزئ (مدبر وأم ولد ومكاتب أدى بعض بدله) ولم يعجز نفسه، فإن عجز فحرره جاز، وهي حيلة الجواز بعد أدائه شيئا".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 172)، حيث قال:" (و) يجزئ (مكاتب ما لم يؤد شيئًا) من كتابته؛ لأنه رقبة كاملة سالمة لم يحصل عن شيء منها عوض، و (لا) يجزئ (من)، أيمما: مكاتب (أدى) منها (شيئًا) لحصول العوض عن بعضه كما لو أعتق بعض رقبة".
المكلَّفِ حينها البحثَ عن عبدٍ آخر يكون غير قادرٍ على تحرير نفسه.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَجْزِيهِ عِتْقُ مُدَبَّرِهِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يَجْزِيهِ تَشْبِيهًا بِالكِتَابَةِ"، لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَيْسَ لَهُ حَلُّهُ
(1)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَجْزِيهِ"
(2)
؛ وَلَا يَجْزِي عِنْدَ مَالِكٍ إِعْتَاقُ أُمِّ وَلَدِهِ، وَلَا المُعْتَقِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
(3)
، وَأَمَّا عِتْقُ أُمِّ الوَلَدِ، فَلأنَّ عَقْدَهَا آكَدُ مِنْ عَقْدِ الكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا الفَسْخُ. أَمَّا فِي الكِتَابَةِ فَمِنَ العَجْزِ عَنْ أَدَاءِ النُّجُومِ، وَأَمَّا التَّدْبِير، فَإذَا ضَاقَ عَنْهُ الثُّلُث، وَأَمَّا العِتْقُ إِلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ عَقْدُ عِتْقٍ لَا سَبِيلَ إِلَى حَلِّهِ).
وقول مالكٍ بعدم إجزاء عتق أمِّ الولد، إنما هو مذهب جمهور أهل العلم
(4)
، وقد علَّلوا ذلك بأن أمّ الولد تنتهي إلى العتق في آخر الأمر.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 449)، حيث قال:" (و) بلا شوب (العتق) فهو عطف على عوض، وفي نسخة ولا عتق بالتنكير (لا مكاتب ومدبر ونحوهما) كأم ولد ومعتق لأجل لوجود شائبة في الجميع (أو أعتق نصفًا) مثلًا (فكمل عليه) بالحكم حصة شريكه (أو أعتقه)، أي: النصف الباقي ثانيًا بأن كانت الرقبة كلها له فلا يجزي؛ لأن شرط الإجزاء عتق الجميع دفعة واحدة".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 193)، حيث قال:" (ويجزئ) ذو كتابة فاسدة و (مدبر ومعلق) عتقه (بصفة) غير التدبير لصحة تصرفه فيه، ومحله: إن نجز عتقه عن الكفارة أو علقه بصفة تسبق الأولى".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 449)، حيث قال:" (قوله: وبلا شوب العتق) أشار الشارح بذلك إلى أنه عطف على "عوض" سواء كان العتق منكرًا أو معرفًا لجواز عطف المعرفة على النكرة، والمعنى: خالية عن شائبة عوض وعتق، فإن كان فيها شائبة عتق فلا يجزئ، ويدخل فيه ما إذا اشترى زوجته حاملًا وأعتقها عن ظهاره؛ لأنها تصير أم ولد على المشهور لعتق الولد عليه في بطنها".
(4)
وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(3/ 475)، حيث قال:("قوله: ولا يجزئ مدبر وأم ولد) لاستحقاقهما الحرية بجهة، فكان الرق فيهما ناقصًا، والإعتاق عن الكفارة يعتمد كمال الرق كالبيع، فلذا لا يجوز بيعهما بحر". =
- قوله: (وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِجْزَاءِ عِتْقِ مَنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ بِالنَّسَبِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
: "لَا يَجْزِي عَنْهُ"، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:"إِذَا نَوَى بِهِ عِتْقَهُ عَنْ ظِهَارٍ أَجْزَأَ")
(3)
.
قال مالك والشافعي: لا يجزئ تحريرها إلا بشرط العتق؛ وأن تكون محررة للظهار، فلا يكون السبب في تحريرها هو إعتاقها بقرابة كأخيه، أو أن يعتقها بتعليق كأن يقول: إن اشتريته فهو حر، فلو فعل ذلك فلا يجزيه؛ لأنه يعتق عليه بسبب القرابة أو التعليق لا الظهار.
- قوله: (فَأَبُو حَنِيفَةَ شَبَّهَهُ بِالرَّقَبَةِ الَّتِي لَا يَجِبُ عِتْقُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الرَّقَبَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ شِرَاؤُهَا، وَبَذْلُ القِيمَةِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ
= مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 193)، حيث قال:" (ولا) عتق فهو المعطوف على شراء (أم ولد و) لا (ذي كتابة صحيحة) قبل تعجيزه ومشروط عتقه في شرائه لذلك".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 173)، حيث قال:" (و) لا (موصى بخدمته أبدًا) لنقصه (أو أم ولد) لاستحقاق عتقها بسبب آخر".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 449)، حيث قال:" (لا) يجزئ (مشترى للعتق) إلا بشرط العتق؛ لأنها رقبة غير كاملة؛ لأن البائع قد وضع من قيمتها شيئًا لأجل العتق (محررة له)، أي: للظهار، أي: أن يكون السبب في تحريرها هو إعتاقها له (لا من) تبين أنه (يعتق عليه) بقرابة كأخيه، أو تعليق كإن اشتريته فهو حرّ فلا يجزيه؛ لأنه يعتق عليه بمجرد الشراء بسبب القرابة أو التعليق لا الظهار، فإن أعتقه عن ظهاره غير عالم حين العتق فلا يجزئ".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 193)، حيث قال:" (ولا يجزئ شراء) أو تملك (قريب) أصل أو فرع (بنية كفارة)؛ لأن عتقه مستحق بغير جهة الكفارة فهو كدفع نفقته الواجبة إليه بنية الكفارة".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 474)، حيث قال:"قوله: (شراء قريبه)، أي: قريب العبد، وهو كل ذي رحم محرم منه، والمراد بالشراء تملكه بصنعة، فيدخل فيه قبول الهبة والصدقة والوصية (قوله: بنية الكفارة) الباء بمعنى مع، فلو تأخرت النية عن الشراء ونحوه لم يجزه كما مر".
العِتْقِ، فَإِذَا نَوَى بِذَلِكَ التَّكْفِيرَ جَازَ، وَالمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ رَأَتْ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، عَتَقَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِعْتَاقِهِ، فَلَا يَجْزِيهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَقَامَ القَصْدَ لِلشِّرَاءِ مَقَامَ العِتْقِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلْعِتْقِ نَفْسِهِ، فَكِلَاهُمَا يُسَمَّى مُعْتِقًا بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا مُعْتِقٌ بِالاخْتِيَارِ الأَوَّلِ، وَالآخَرُ مُعْتِقٌ بِلَازِمِ الاخْتِيَارِ، فَكَأَنَّهُ مُعْتِقٌ عَلَى القَصْدِ الثَّانِي، وَمُشْتَرٍ عَلَى القَصْدِ الأَوَّلِ، وَالآخَرُ بِالعَكْسِ. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِيمَنْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ
(1)
).
أبو حنيفة يقول: يجزئ تحريرها دون شرط أن تكون محررة للظهار، فقد يكون السبب في تحريرها هو إعتاقها بالقرابة، أو أن يعتقها بالتعليق كأن يقول: إن اشتريته فهو حر، فلو فعل ذلك فيجزيه عند أبي حنيفة رحمه الله.
- قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الوَاحِدِ")
(2)
.
وهو مذهب أحمد كذلك
(3)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 449)، حيث قال:" (أو أعتق نصفًا) مثلًا (فكمل عليه) بالحكم حصة شريكه (أو أعتقه)، أي: النصف الباقي ثانيًا بأن كانت الرقبة كلها له فلا يجزي؛ لأن شرط الإجزاء عتق الجميع دفعة واحدة".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 194)، حيث قال:" (ولو أعتق معسر نصفين) له من عبدين (عن كفارة فالأصح الإجزاء إن كان باقيهما) أو باقي أحدهما كما استظهره الزركشي وغيره إن توقف فيه الأذرعي (حرًّا) لحصول الاستقلال المقصود ولو في أحدهما بخلاف ما إذا كان باقيهما لغيره لعدم السراية عليه فلم يحصل مقصود العتق من التخلص من الرق".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 173)، حيث قال:" (ومن أعتق) في كفارة (جزءًا) من قن (ثم) أعتق (ما بقي) منه ولو طال ما بينهما أجزأ؛ لأنه أعتق رقبة كاملة كإطعام المساكين (أو) أعتق (نصف قنين) ذكرين أو أنثيين أو مختلفين عن كفارته (أجزأ) ذلك؛ لأن الأشقاص كالأشخاص ولا فرق بين كون الباقي منهما حرًّا أو رقيقًا لغيره (لا ما سرى بعتق جزء) كمن يملك نصف قن وهو موسر بقيمة باقية فأعتق نصفه وسرى إلى نصيب شريكه فلا يجزيه نصيب شريكه؛ لأنه لم يعتق بإعتاقه".
- قوله: (وَمَالِكٌ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَهَذَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ شُرُوطِ الرَّقَبَةِ المُعْتَقَةِ. وَأَمَّا شُرُوطُ الإِطْعَامِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي القَدْرِ الَّذِي يَجْزِي لِمِسْكِينٍ مِسْكِينٍ مِنَ السِّتِّينَ مِسْكِينًا الَّذِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمُ النَّصُّ).
فأهل العلم يختلفون في القدر المجزئ في كفارة الإطعام، ليس في كفارة الظهار فقط، بل إنهم يختلفون في عموم الإطعام في سائر الكفارات، من حيث إذا كان هناك فرق بين أنواع الأطعمة أم لا.
ففي قصة أوس بن الصامت وَرَدَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعانه بعَرقٍ من تمرٍ، وأن خولة زوجته قد أعانته بعَرقٍ آخر، وقد جاء في بعض الروايات تحديد مقدار العَرق بخمسة عشر صاعًا، فيكون مقدار العَرقَين الوارِدَين في الحديث ثلاثين صاعًا، بمعنى: أن يُخرِجَ لكلِّ مسكينٍ من الستين مسكينًا نصف صاعٍ.
- قوله: (فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
).
والمراد بهشام: هو هشام بن إسماعيل القرشي المخزومي، والي عبد الملك بن مروان على المدينة في الخلافة الأموية.
ومن المعلوم أن الإمام مالكًا كان يأخذ بعمل أهل المدينة، بل إن عمل أهل المدينة كان حجةً في مذهبه بخلاف غيره.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 454)، حيث قال:" (ثم) عند العجز عن الصوم (تمليك)، أي: إعطاء (ستين مسكينًا أحرارًا مسلمين) بالجر صفة لستين، وبالنصب صفة لمسكين؛ لأنه بمعنى مساكين (لكل) منهم (مد وثلثان) بمده عليه الصلاة والسلام (برًّا) تمييز لبيان جنس المخرج إن اقتاتوه (وإن اقتاتوا)، أي: أهل بلد المكفر (تمرًا أو) اقتاتوا (مخرجًا في الفطر) من شعير أو سلت أو أرز أو دخن أو ذرة (فعدله) شبعًا لا كيلًا خلافًا للباجي".
أما "الصاع": في وقتنا هذا فإنه ثلاثة كيلاتٍ، وهذا إنما هو من باب الاحتياط، وإلا فإنه يقلّ عن ذلك.
وأما "المُدُّ": فإنه ثلاثة أرباع كيلو.
* قوله: (وَقَدْ قِيلَ: هُوَ أَقَلّ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ مُدٌّ وَثُلُثٌ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فَمُدٌّ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
والرواية الثانية هذه هي الأَوْلَى، والأقرب إلى مذاهب الأئمة، لكنهم قد اختلفوا في تفصيلها.
* قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
).
وبه كذلك قال أحمد
(2)
، لكن أحمد رحمه الله قد فَصَّلَ القول فيها، وفَرَّقَ بين أن يكون المقدار بُرًّا - أي: قمحًا - بحيث يكون ربع صاعٍ، أي: مُدًّا، وبين أن يكون تمرًا أو شعيرًا بحيث يكون نصف صاعٍ.
* قوله: (فَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى اعْتِبَارُ الشِّبَعِ غَالِبًا - أَعْنِي: الغَدَاءَ وَالعَشَاءَ -، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ اعْتِبَارُ هَذِهِ الكَفَّارَةِ بِكَفَّارَةِ اليَمِينِ، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي شُرُوطِ الصِّحَّةِ فِي الوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الكَفَّارَةِ).
والمراد هنا ما إذا كان المطلوب من الإطعام هو إشباع الفقير أم لا.
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 201)، حيث قال:" (ستين مدًّا) لكل واحد مد؛ لأنه صح في رواية وصح في أخرى: "ستون صاعًا"، وهي محمولة على بيان الجواز الصادق بالندب لتعذر النسخ فتعين الجمع بما ذكر".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 176)، حيث قال:" (والواجب في الكفارات ما يجزئ في فطرة من مدبر) وهو نصف قدح بكيل بلدنا مصر (من غيره)، أي: البر وهو الشعير والتمر والزبيب والأقط (مدان) نصف صاع وذلك قدح بكيل مصر (وسن إخراج أدم مع) إخراج (مجزئ) مما سبق نصًّا وإخراج الحب أفضل عند أحمد من إخراج الدقيق والسويق ويجزئان بوزن الحب وإن أخرجهما بالكيل زاد على كيل الحب قدرًا يكون بقدره وزنًا؛ لأن الحب إذا طحن توزع".
ولا شكَّ أن المراد هو إشباعه، لأن الطعام إنما صُنِع من أجله، فإن كان بُرًّا أو تمرًا فإنه سيشبعه، والناس يختلفون في ذلك، لكن الصحيح هو النظر إلى أواسط الناس.
* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَوَاضِعِ تَعَدُّدِهَا وَمَوَاضِعِ اتِّحَادِهَا، فَمِنْهَا إِذَا ظَاهَرَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسْوَةٍ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، هَلْ يَجْزِي فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؟ أَمْ يَكُونُ عَدَدُ الكَفَّارَاتِ عَلَى عَدَدِ النِّسْوَةِ؟).
والمراد هاهنا ما إذا كانت الكفارات تتداخل أم لا.
والقاعدة الفقهية تقول: (إذا اجتمع أمران من جنسٍ واحدٍ ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر)
(1)
، وبعضهم يعبِّر عنها بقوله:(إذا اجتمعت عبادتان من جنسٍ، ليست إحداهما مفعولة على جهة القدر ولا على طريق التبعية للأخرى، تداخلت أفعالهما واكتُفِيَ فيهما بفعلٍ واحدٍ)
(2)
.
والزوج قد يُظاهِر من امرأة واحدةٍ، وقد يُظاهِر كذلك من أكثر من امرأةٍ بكلمةٍ واحدةٍ، وقد يُظاهِر أكثر من امرأةٍ بأكثر من كلمةٍ، والصور في هذا المقام تتعدد وتختلف، ولذا فإن العلماء يختلفون في حكم هذه الحالات من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فهناك اتفاقٌ بين الإمامين مالكٍ وأحمدَ من جهةٍ
(3)
، واتفاقٌ بين الإمامين أبي حنيفة
(1)
يُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 126)، حيث قال:" [القاعدة التاسعة: إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالبًا]. فمن فروع ذلك إذا اجتمع حدث وجنابة، كفى الغسل على المذهب، كما لو اجتمع جنابة وحيض، ولو باشر المحرم فيما دون الفرج، لزمته الفدية".
(2)
يُنظر: "القواعد" لابن رجب (ص 23)، حيث قال:" (القاعدة الثامنة عشر): إذا اجتمعت عبادتان من جنس في وقت واحد ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت تداخلت أفعالهما، واكتفى فيهما بفعل واحد".
(3)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 445)، حيث قال: " (أو) =
والشافعي من جهةٍ أخرى
(1)
.
* قوله: (فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجْزِي فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
(2)
، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(3)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(4)
أَنَّ فِيهَا مِنَ الكَفَّارَاتِ بِعَدَدِ المُظَاهَرِ مِنْهُنَّ إِنِ اثْنَتَيْنِ فَاثْنَتَيْنِ، وَإنْ ثَلَاثًا فَثَلَاثًا، وَإِنْ أَكْثَرَ فَأَكثَرَ).
فمالكٌ وأحمد إنما اعتبَرَا اللفظَ؛ لأنه إنما ظاهَرَ بلفظٍ واحدٍ، فأوجَبوا كفارةً واحدةً، أما أبو حنيفة والشافعي فقد اعتبرا المُظاهَر منهن؛ لأنه قد ظاهَرَ من أكثر من زوجةٍ، فأوجَبوا كفاراتٍ بعدد النساء المُظاهَر منهن؛ لأن إحداهن لا تجزئ عن الأخرى.
= قال (كل امرأة) أتزوجها فهي علي كظهر أمي فكفارة واحدة في أول من يتزوجها ثم لا شيء عليه (أو ظاهر من) جميع (نسائه) في لفظ واحد كأنتن عليّ ظهر أمي فلا تتعدد الكفارة عليه".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 169)، حيث قال:" (وكذا) لو ظاهر (من نسائه بكلمة) كقوله: أنتن عليَّ كظهر أمي فلا يلزمه إلا كفارة واحدة رواه الأثرم عن عمر وعليٍّ، ولأنه ظهار واحد".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للهيتمي (8/ 187)، حيث قال:" (أنتن عليَّ كظهر أمي ظهار منهن) إجماعًا (وكفر لكل)، وقال مالك وأحمد: يكفيه كفارة واحدة كالإيلاء".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 187)، حيث قال:" (ولو قال لأربع أنتن علي كظهر أمي فمظاهر منهن) تغليبًا لشبه الطلاق (فإن أمسكهن فأربع كفارات) لوجود الظهار والعود في حق كل منهن أو أمسك بعضهن وجبت فيه فقط (وفي القديم) عليه (كفارة) واحدة فقط لاتحاد لفظه وتغليبا لشبه اليمين (ولو ظاهر منهن) ظهارًا مطلقًا (بأربع كلمات متوالية فعائد من الثلاث الأول) لعوده في كل بظهار ما بعدها، فإن فارق الرابعة عقب ظهاره لزمه ثلاث كفارات وإلا فأربع، قيل: احترز بمتوالية عما إذا تفاصلت المرات، وقصد بكل مرة ظهارًا أو أطلق فكل مرة ظهار مستقل له كفارة".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
قوله: (فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالطَّلَاقِ، أَوْجَبَ فِي كلِّ وَاحِدَةٍ كفَّارَةً؟ وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالإِيلَاءِ أَوْجَبَ فِيهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ بِالإِيلَاءِ أَشْبَهُ).
فهاهنا يذهب المؤلف إلى أنه أقرب شَبهًا للإيلاء منه إلى الطلاق؛ لأن الظهار والإيلاء كلاهما كان طلاقًا في الجاهلية، ثم أتى الإسلام بإبطال الظهار والإيلاء وأبقى الطلاق الذي نعرفه فقط.
* قوله: (وَمِنْهَا: إِذَا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ شَتَّى هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ عَلَى عَدَدِ المَوَاضِعِ الَّتِي ظَاهَرَ فِيهَا؟).
بمعنى: أن يُظاهِر من زوجته في مجلسٍ، ثم يعود ويكرِّر لفظ الظهار هذا في مجلسٍ آخر، فهل تتداخل الكفارات في هذه الحالة، بمعنى: أن يجزئه كفارة واحدةٌ، أم أنها لا تتداخل بحيث يلزمه كفارةٌ عن كلِّ مجلسٍ تلفظ فيه بالظهار؟
وهذه المسألة إنما تدخل في القاعدة الفقهية التي ذَكَرْنَاهَا، وهي:(إذا اجتمع أمران من جنسٍ واحدٍ ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر).
والخلاف في هذه المسألة فيما إذا اجتمعَت كفاراتٌ من أجناسٍ مختلفةٍ لا من جنس واحد، كأن تجتمع كفارة الظهار وكفارة الجماع في نهار رمضان، أو أن تجتمع كفارة الظهار وكفارة القتل، بما يعني اتحاد كفارتين في المقدار واختلافهما في الجنس، فقد تكون الكفارتان تحرير رقبة، ولكن يختلف الجنس بحيث تكون إحداهما كفارة ظهار، والأخرى كفارة قتل، وما إلى ذلك، فهذا محلّ اختلافٍ بين أهل العلم فيما إذا كانت الكفارات تتداخل حينئذٍ أم لا.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: "لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنْ يُظَاهِرَ،
ثُمَّ يُكَفِّرَ، ثُمَّ يُظَاهِرَ، فَعَلَيْهِ كفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ"
(1)
، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَإِسْحَاقُ
(4)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَالشَّافِعِيُّ
(6)
: "لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ").
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 444)، حيث قال:" (قوله: كأن قال: إن دخلت إلخ) التعليق هنا ليس بقيد في المسألة، ولو أسقطه كان أحسن، فإذا قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي ثم وطئ وكفَّر، وقال لها ذلك ثانيًا لزمته الكفارة، فإذا كفر وقال لها ثالثًا لزمته أيضًا (قوله: إذ مجرد العود)، أي: وهو العزم على الوطء أو مع الإمساك لا يكفي، فإذا قال لها: أنتِ عليَّ كظهر أمي ثم عاد، أي: عزم على وطئها وعلى إمساكها، ثم قال لها ذلك ثانيًا قبل أن يحصل منه وطء بالفعل ولا كفارة فلا يلزمه إلا كفارة واحدة على المعتمد".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 377)، حيث قال: "اختلف أهل العلم في الرجل يظاهر من امرأته مرارًا
…
عن علي قال: إذا ظاهر الرجل من امرأته مرارًا في مجلس واحد فكفارة واحدة. وبه قال الزهري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 169)، حيث قال:" (كمكرر ظهارًا من) امرأة (واحدة قبل تكفير ولو) كرره (بمجالس أو أراد) بتكراره (استئنافًا) نصًّا؛ لأن تكريره لا يؤثر في تحريم الزوجة لتحريمها بالقول الأول فلم تجب كفارة ثانية كاليمين باللّه".
(4)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"(4/ 1688)، حيث قال:"قلت: رجل ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة؟ قال: عليه كفّارة واحدة ما لم يكفّر. قال إسحاق: كما قال".
(5)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 471)، حيث قال:" (قوله: فإن بمجلس صدق قضاء إلخ) أقول: الذي في فتح القدير: لو كرر الظهار من امرأة واحدة مرتين، أو أكثر في مجلس، أو مجالس تتكرر الكفارة بتعدده إلا إن نوى بما بعد الأول تأكيدًا فيصدق قضاء فيهما لا كما قيل في المجلس اهـ ومثله في الشرنبلالية عن السراج".
(6)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 187)، حيث قال:" (ولو كرر) لفظ ظهار مطلق (في امرأة متصلًا) كل لفظ بما بعده (وقصد تأكيدًا فظهار واحد) كالطلاق فيلزمه كفارة واحدة إن أمسكها عقب آخر مرة أما مع تفاصيلها بفوق سكتة تنفس وعي فلا يفيد قصد التأكيد ولو قصد بالبعض تأكيدًا، وبالبعض استئنافًا أعطي كل حكمه، (أو) قصد (استئنافًا) ولو في إن دخلت فأنتِ عليَّ كظهر أمي وكرره (فالأظهر التعدد) ".
إذا ظاهَرَ الزوجُ ولم يكَفِّر عن ظِهاره ثم ظاهَرَ مرةً أخرى، فهاهنا قولان لأهل العلم في المسألة:
القول الأول: هو ما ذهب إليه الإمامان مالكٌ وأحمد ومَن معهما، من أنه حينئذٍ لا تلزمه إِلَّا كفارةٌ واحدةٌ عن الظهارَيْن، أما إذا كان قد كَفَّرَ عن الظهار الأول فحينئذٍ تلزمه كفارةٌ ثانيةٌ عن الظهار الثاني.
القول الثاني: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي، من أنه حينئذٍ تلزمه لكلِّ ظهارٍ كفارةٌ.
* قوله: (وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَا خِلَافَ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ فِي ذَلِكَ كفَّارَةً وَاحِدَةً
(1)
، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى نِيَّتِهِ، فَإِنْ قَصَدَ التَّأكِيدَ، كَانَتِ الكَفَّارَةُ وَاحِدَةً، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْنَافَ الظِّهَارِ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير ومعه حاشية الدسوقي"(2/ 445)، حيث قال:" (قوله: كذلك)، أي: بغير تعليق ولو بمجال (قوله: أو علقه بمتحد إلخ) عبارة ابن رشد في "البيان والتحصيل" في نوازل أصبغ من كتاب الظهار ما نصه: مذهب ابن القاسم أن الرجل إذا ظاهر من امرأته ظهارًا بعد ظهار أنهما إن كانا معًا بغير فعل أو جميعًا بفعل واحد أو الأول بفعل والثاني بغير فعل فليس عليه فيهما جميعًا إِلَّا كفارة واحدة إِلَّا أن يريد أن عليه في كلِّ ظهار كفارة فيلزم ذلك ثم قال: وأما إذا كانا جميعًا بفعلين مختلفين، أو الأول منهما بغير فعل والثاني بفعل فعليه في كل واحد كفارة".
وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1693)، حيث قال:" (كمكرر ظهارًا من) امرأة (واحدة قبل تكفير ولو) كرره (بمجالس أو أراد) بتكراره (استئنافًا) نصًّا؛ لأن تكريره لا يؤثر في تحريم الزوجة لتحريمها بالقول الأول فلم تجب كفارة ثانية كاليمين بالله".
تقدَّم. وهو مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 187)، حيث قال:" (ولو كرر) لفظ ظهار مطلق (في امرأة متصلًا) كل لفظ بما بعده (وقصد تأكيدًا فظهار واحد) كالطلاق فيلزمه كفارة واحدة إن أمسكها عقب آخر مرة، أما مع تفاصيلها بفوق سكتة تنفس وعي فلا يفيد قصد التأكيد ولو قصد بالبعض تأكيدًا، وبالبعض استئنافًا أعطي كل حكمه (أو) قصد (استئنافًا) ولو في إن دخلت فأنت عليّ كظهر أمي وكرره (فالأظهر التعدد) ".
كانَ مَا أَرَادَ، وَلَزِمَهُ مِنَ الكَفَّارَاتِ عَلَى عَدَدِ الظِّهَارِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ:"تَلْزَمُ الكَفَّارَةُ عَلَى عَدَدِ الظِّهَارِ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَجَالِسَ شَتَّى"
(1)
).
أما إذا كانت هذه الظهارات في مجلسٍ واحدٍ، بحيث قال الزوج لامرأته:(أنتِ عَلَيَّ كظهرِ أُمِّي)، ثم بعد ذلك عاد وكررها في نفس المجلس، فلأهل العلم ثلاثة أقوالٍ هاهنا:
القول الأول: ما ذهب إليه مالكٌ وأحمد، من أنه لا تلزمه إِلَّا كفارةٌ واحدةٌ، دون النظر إلى مراده من الظهار الثاني.
القول الثاني: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة، من أنَّه إذا كان يقصد بالظهار الثاني التأكيد على الظهار الأول فحينئذٍ لا تلزمه إِلَّا كفارةٌ واحدةٌ، أما إذا كان يقصد استئناف الظهار مرةً ثانيةً فكفارتان.
القول الثالث: هو ما ذهب إليه يحيى بن سعيدٍ، من أنه تلزمه الكفارة على عدد مرات الظهار، سواء في ذلك إن كان ظاهَرَ في مجلسٍ واحدٍ أو في مجالسَ متعددة.
* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الاخْتِلَافِ أَنَّ الظِّهَارَ الوَاحِدَ بِالحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالمُتَعَدِّدُ بِلَا خِلَافٍ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِلَفْظَيْنِ مِنِ امْرَأَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ).
ومعناه: أن الظهار الواحد الأصل فيه أن يتلفظ فيه الزوجُ بالظهار مرةً واحدةً، ويخاطب به امرأةً واحدةً، في وقتٍ واحدٍ، بحيث لا يتكرر ذلك منه.
(1)
يُنظر: "المدونة" لسحنون (2/ 312)، حيث قال:"قال ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد أنه قال في رجل ظاهر من امرأته ثلاث مرات في مجلس واحد في أمور مختلفة فحنث: إن عليه ثلاث كفارات".
وأن الظهار المتعدد: الأصل فيه أن يتلفظ الزوج بالظهار أكثر من مرةٍ مخاطبًا به أكثر من امرأةٍ في أكثر من وقتٍ.
* قوله: (فَإِنْ كَرَّرَ اللَّفْظَ مِنِ امْرَأَهٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ يُوجِبُ تَعَدُّدُ اللَّفْظِ تَعَدُّدَ الظِّهَارِ، أَمْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فِيهِ تَعَدُّدًا؟ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا، وَالمُظَاهَرُ مِنْهَا أكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ المُتَوَسِّطَاتِ بَيْنَ ذَيْنِكَ الطَّرَفَيْنِ).
وهذا هو محلّ الخلاف في المسألة، وهو ما إذا كان تكرار اللفظ يستلزم تعدد الظهار حتى ولو كان من امرأةٍ واحدةٍ أم لا يستلزم ذلك.
فمَن ذهب إلى أن تكرار اللفظ يستلزم تعدد الظهار قال بتعدد الكفارة، ومَن ذهب إلى أن تكرار اللفظ لا أثر له قال بلزوم كفارة واحدة.
" قول: (فَمَنْ غَلَّبَ شَبَهَ الطَّرَفِ الوَاحِدِ، أَوْجَبَ لَهُ حُكْمَهُ).
وهو ما ذهب إليه مالكٌ وأحمدُ.
* قوله: (وَمَنْ غَلَّبَ شَبَهَ الطَّرَفِ الثَّانِي، أَوْجَبَ لَهُ حُكْمَهُ).
وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي.
* قوله: (وَمِنْهَا: إِذَا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ مَسَّهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَة أَمْ لَا؟).
والأصل في الظهار: عدم وطء المُظاهِر لزوجته قبل الكفارة؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن فاعل ذلك مستحقٌّ للإثم لمخالَفَتِهِ أَمْرَ اللّه سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولكن العلماء اختلفوا في هذه المسألة من حيثُ هل يترتب على هذه المسألة حكمٌ آخر غير الإثم أم أنه الإثم وحده، بمعنى: أنهم اختلفوا فيما إذا كانت الكفارة تتعدد عليه حينئذٍ أم أنه لا يلزمه سوى الكفارة الأولى.
* قوله: (فَأَكثَرُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَالثَّوْرِيّ، وَالأَوْزَاعِيُّ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
، وَإِسْحَاق، وَأَبُو ثَوْرٍ
(6)
،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 446)، حيث قال:" (وتجب) الكفارة وجوبًا موسعًا (بالعود وتتحتم بالوطء) للمظاهر منها ولو ناسيًا تحتمًا لا يقبل السقوط سواء بقيت في عصمته أو طلقها قامت بحقها في الوطء أم لا؛ لأنها صارت حقًّا للّه (وتجب بالعود) ".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 185)، حيث قال:" (ويحرم قبل التكفير) بعتق أو غيره (وطء) للنصِّ عليه في غير الإطعام، وقياسًا فيه على أن الخبر الحسن وهو "قوله صلى الله عليه وسلم للمظاهر: لا تقربها حتى تكفر" يشمله ولزيادة التغليظ عليه نعم الظهار المؤقت إذا انقضت مدته ولم يطأ لا يحرم الوطء لارتفاعه بانقضائها، ومن ثَم لو وطئ فيها لزمت الكفارة وحرم عليه الوطء حتى تنقضي، أو يكفر واعترض البلقيني حله بعد مضي المدة وقبل التكفير بأن الآية نزلت في ظهار مؤقت كما ذكره الآمدي وغيره ويرد بأن الذي في الأحاديث نزولها في غير المؤقت".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (3/ 469)، حيث قال:" (فإن وطئ قبله) تاب و (استغفر وكفر للظهار فقط)، وقيل: عليه أخرى للوطء (ولا يعود) لوطئها ثانيًا (قبلها) قبل الكفارة (وعوده) المذكور في الآية (عزمه) عزمًا مؤكدًا؛ فلو عزم ثم بدا له أن لا يطأها لا كفارة عليه (على) استباحة (وطئها)، أي: يرجعون عما قالوا فيريدون الوطء. قال الفراء: العود الرجوع، واللام بمعنى عن".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 41)، حيث قال:"ومن وطئ قبل أن يأتي بالكفارة، كان عاصيًا، وعليه الكفارة المذكورة، فإن وطئ عصى ربه لمخالفة أمره، وتستقر الكفارة في ذمته، فلا تسقط بعد ذلك بموت، ولا طلاق، ولا غيره، وتحريم زوجته عليه باق بحاله، حتى يكفر. هذا قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وجابر بن زيد، ومورق العجلي، وأبي مجلز، والنخعي، وعبد اللّه بن أذينة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 169)، حيث قال:" (ويأثم مكلف) بوطء ودواعيه قبل تكفير لما تقدم (ثم) إن وطيء قبل أن يكفر (لا يطأ) بعد (حتى يكفر) للخبر ولبقاء التحريم (وتجزيه) كفارة (واحدة) ولو كرر الوطء للخبر، ولأنه وجد العود والظهار فدخل في عموم {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]) الآيتين".
(6)
تقدم.
وَدَاوُدُ
(1)
، وَالطَّبَرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ
(2)
: أَنَّ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَالحُجَّةُ لَهُمْ "حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ البَيَاضِيِّ: أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ تَكْفِيرًا وَاحِدًا"
(3)
وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ؛ كَفَّارَةُ العَزْمِ عَلَى الوَطْءِ، وَكَفَّارَةُ الوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَطْأً مُحَرَّمًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ
(4)
، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبِ
(5)
، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
(6)
، وَابْنِ شِهَابٍ
(7)
).
والمراد بكفارة الوطء في القول الثاني هاهنا كفارة هذا الوطء المحرَّم الذي أَوْقَعَهُ الزوجُ قبل الكفارة، أما كفارة العزم على الوطء فهي الكفارة التي وجَبَتْ عليه بعودته عن ظهاره، على الخلاف الوارد في معنى العَوْدِ وما إذا كان المراد به الإمساك أم الوطء أم العزم على الوطء أم تكرار لفظ الظهار.
* قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَا عَنِ العَوْدِ، وَلَا عَنِ
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 52، 53)، حيث قال: "قال مالك ومن تظاهر من امرأته ثم مسَّها قبل أن يكفر ليس عليه إِلَّا كفارة واحدة ويكف عنها حتى يكفر وليستغفر الله
…
وقال الأثر السلف وجماعة الأمصار ليس عليه إِلَّا كفارة واحدة، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، وبه قال الليث ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم
…
وداود".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 397)، حيث قال:"اختلف أهل العلم في المظاهر يطأ زوجته التي ظاهر منها قبل أن يكفر. فقالت طائفة: يستغفر الله ويكفر كفارة واحدة. وكذلك قال عطاء وأبو عبيد".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه الدارقطني (4/ 492).
(5)
أخرجه عبد الرزاق (6/ 432).
(6)
أخرجه سعيد بن منصور (2/ 39).
(7)
أخرجه عبد الرزاق (6/ 432).
الوَطْءِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اشْتَرَطَ صِحَّةَ الكَفَّارَةِ قَبْلَ المَسِيسِ، فَإِذَا مَسَّ، فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا، فَلَا تَجِبُ إِلَّا بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ، وَذَلِكَ مَعْدُوم فِي مَسْأَلَتِنَا، وَفِيهِ شُذُوذٌ).
وهو قولٌ ضعيفٌ جدًّا، ولذا فإن أهل العلم لا يُسَمُّون صاحبَه وإنما يَذكُرُونه بصيغة التمريض والتضعيف، فيقولون:(قيل)، أو:(قال به بعض الناس)، وهكذا يفعل الفقهاء عندما يقابلهم قولٌ شاذّ مردود، ما لم يكن صاحب هذا القول كثير الخروج عن الإجماع، وهذا قد يظنه البعض من باب احتقار صاحب القول، وهو غير صحيح، وإنما السبب في ذلك ما يرونه من شدة الضعف في القول ليس إِلَّا.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: "مَنْ كَانَ فَرْضُهُ الإِطْعَامَ، فَلَيْسَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ المَسِيسُ قَبْلَ الإِطْعَامِ، وإنَّمَا يَحْرُمُ المَسِيسُ عَلَى مَنْ كَانَ فَرْضُهُ العِتْقَ أَوِ الصِّيَامَ")
(1)
.
وقد ذهب ابن حزمٍ إلى هذا القول من جواز المسيس قبل الكفارة لِمَنْ فرضُه الإطعام، لما يَراه مِن أن الإطعامَ هو آخِرُ الكفارات وأخَفُّهَا.
* * *
(1)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (9/ 189)، حيث قال:"فمن لم يقدر على رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين، ولا يحل له أن يطأها، ولا أن يمسها بشيء من بدنه - فضلًا عن الوطء - إِلَّا حتى يكفر بالعتق، أو بالصيام، فإن أقدم أو نسي فوطئ قبل أن يكفر بالعتق أو بالصيام: أمسك عن الوطء حتى يكفر، ولا بد. فإن عجز عن الصيام فعليه أن يطعم ستين مسكينًا متغايرين شبعهم. ولا يحرم عليه وطؤها قبل الإطعام".
[كِتَابُ اللِّعَانِ]
هذا الباب من الأبواب التي ينبغي أن يقف عندها المسلم، ولقد رأينا في دراستنا من أحكام الأسرة ما يُعرف (بكتاب النكاح) وكيف وجَدْنَا أن الأسلمَ هو بناءُ بَيتِ الزَّوجِيَّةِ على أسس ثابِتَةٍ مستَقِرَّةٍ أصلها ثابتٌ وفرْعُها في السماء، وإذا كان الأساس قوِيًّا كان كذلك ما يُبْنَي عليه، ومن هنا رأينا أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا لماذا تُنْكَحُ المرأة فذَكَر أمورًا أربعة، ثم أوْصى باختيارِ ذاتِ الدِّينِ فقال صلى الله عليه وسلم:"فاظفر بذات الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"
(1)
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بصاحبة الدِّينِ والخُلْقِ؛ لأن تحفظ نفسها وتحافظ على بيتها وزوجها، وهي التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بالزوجة الصالحة التي إذا نظر إليها زوجها سرته، وإن غاب عنها حفظته، ولم ينسَ الإسلام أن يُعنَى بأمر الزوج، فإن كانت الزوجة ينبغي أن يُحسنَ اختيارها، وأن تكون من أهل الدِّينِ والصَّلاح فكذلك أيضًاا لحال بالنسبة للزوج.
ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم في خُطبته في حَجَّةِ الوداعِ أوْصى المسلمين بأمورٍ عديدة، ووضع قواعد ثابِتَةً مستقرَّةً، وكان مما أوصى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن قال:"إنَّ دماءَكُم وأمْوالكُم وأعْراضكم حَرَامٌ عليكم، كحُرمَةِ يومِكُم هذا، في شهركم هذا، في بَلَدِكُم هذا"
(2)
، وأكَّدَ ذلك رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وكان يقول: "اللَّهُمَّ اشهَدْ إني بلّغْت، اللهم اشهَدْ إني
(1)
أخرجه البخاري (5090) ومسلم (1466)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (67) ومسلم (1679)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
بلَّغت"
(1)
، وكان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد شَهدُوا له بالبَلاغ، ونحن كذلك نشهد لَهُ صلى الله عليه وسلم بأنه بلَّغَ هذه الرسالة ونصحَ الأمَّةَ وأنه قد أكمَلَ اللّه به الدِّين، وأن اللّه سبحانه وتعالى قد رضي لنا الإسلام دِينًا، وأنه أحرصُ على المؤمنين من أمهاتهم وآباهم.
* ومن تلك الأمور: أن يَصُونَ المسلم لِسانَهُ عن عِرْضِ أخيهِ المُسْلِمْ فلا يذُمَّه بسوءٍ، ولا يذكره إِلَّا بخَيْرٍ، ولا يجوز له أن يكون من المُسارِعِين في ذلك؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى خوَّفَ من دْلك، وقصة الإفك التي نَزَلَتْ في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما مشهورة، وكيف أن اللّه سبحانه وتعالى زكَّاها وبيَّن كذِبَ هؤلاء المفترين، وهكذا كل مسلم عليه ألَّا يُطْلِقَ لسانَه في إيذاء إخوانه المؤمنين؛ لأن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وضع وصفًا دقيقًا للمؤمن الحق فقال صلى الله عليه وسلم: "المسلِمُ من سَلِمَ المسلِمُونَ من لِسانِهِ ويدِهِ
(2)
". وقال أيضًا: "من يضْمَنُ لي ما بينَ فكَّيْه، وما بين فَخِذَيْهِ أضمنُ له الجنة"
(3)
، ولذلك يقول اللّه سبحانه وتعالى:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15]، وبعد ذلك يبيِّنُ اللّه تعالى المنهج القوي، والمسْلَكَ الرَّشيد الذي ينبغي أن يقوله المسلم عندما يسمع ذَمًّا من أخيه المسلِم، أو تجريحًا، أو قدحًا في حقه، فهذا هو واجب المسلم إذا سمع كلامًا في أخيه المسلم دون حُجَّةٍ أو بُرهان؛ فلا ينبغي للمسلم أن يسارعَ إلى إشاعة الفَاحِشَةِ إذ يقول بعد هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].
(1)
أخرجه مسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ولفظه: "ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، قال:"اللهم اشهد".
وفي رواية عند مسلم أيضًا (1218) من حديث عبد اللّه بن جابر قال: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات.
(2)
أخرجه البخاري (10) ومسلم (40) من حديث عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما. ولفظة مسلم: أي المسلمين خير؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".
(3)
أخرجه البخاري (6474)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
إذًا: يقول اللّه تعالى في أمر الإفك وفي القذف: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} [النور: 23 - 25]، فهل هناك شهادة أكبر وأعظمُ من أن يشهد على الإنسان لسانه ويَد ورِجْلِهِ؟!! ويقول سبحانه وتعالى في سورة فصلت:{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 20 - 24].
لا شَكَّ أن الإسلام وضع سِياجًا قويًّا، وحصنًا مكينًا لحماية المسلِمِ وهو في بَيتِهِ وخارج بيتِهِ، لكنه إذا خرج عن طَريقِ الحَقِّ وركب طريق الغواية حينئذٍ وضع الإسلام له زاجرًا رادعًا جاء في سورة النور إذ يقول تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4، 5].
* كيف اعتنى الإسلام بأمته؟ وكيف حَرَصَ على أن يظل المسلم طيبًا زكيًّا نقيًّا لا ينبغي أن يُخْدَشَ إِلَّا أن يرتكب حدًّا من حدود اللّه؟ أو أن يخرُج عن طاعَةِ اللّهِ سبحانه وتعالى؟ هذه العقوبة الرادعة هي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، فلكي يثْبُتَ الزِّنا لا بد من وجود أربعةِ شُهداء، وأن يشهَدُوا بأنهم عاينُوه، ولو تردد واحد منهم يُقَمْ عليهم حدُّ القَذْف، وقد فعل ذلك عمر رضي الله عنه في رمي أحد الصحابة فعندما جاء الرامي ليشهد قال له:"اتق اللّه في أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فتَلَكَّأ في شهادته فأقام عليه الحد"
(1)
.
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ.
* إذًا: من يرمي المؤمن دون بَيِّنَةٍ، ودون أن يُثبِتَها؛ يُجلدُ ثمانين جَلدة حدَّ القَذْفِ، وتُرَدُّ شهادته ويوصَفُ بأنه من الفاسقين، إِلَّا الذين تابُوا من بعد ذلك وأصلحوا، فبعض العلماء يقولون:"يرفع عنه الفِسْقُ لكنه يظل مردودَ الشهادة طوال حَياتِهِ؛ لأنه ارتَكَبَ أمرًا عظيمًا، لأن الإسلام حريصٌ على صِيانَةِ المؤمنين، ولذلك كان رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه ألا يبَلِّغُهُ أحدًا عن أصحابه مما يؤثِّرُ عليه، بل كان يُحِبُّ دائمًا ألا يسمع عنهم إِلَّا خيرًا، وألَّا يسمع فيهم إِلَّا حقًّا وصدقًا، وهكذا كل مؤمن ينبغي أن يكون كذلك، ولذلك لمَّا نزلت هذه الآية قال سعد بن عبادة - وهو شيخ الأنصار ورئيسُهم وسيدُهم كما وصفه بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: أهكذا نَزَلَتْ يا رسول اللّه؟!! وكأنه يتعَجَّب! فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "نعم". ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصارِ: أسَمِعْتُم ما قال سَيِّدُكم؟ " فقالوا يا رسول اللّه: لا تَلُمْهُ فإنه شديد الغَيرَةِ فواللّه ما تزوج امرأة إِلَّا بكرًا، وما طلَّق أمرأة فيجرؤُ أحد أن يتزوجها بعده لشدة غَيرَتِهِ". ثم بعد ذلَك أجاب سعدٌ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم بقوله: "واللّه إني أعلم أنه الحق، وأنها نزلت من اللّه سبحانه وتعالى، ثم ذَكَر لو أن رجلًا وجد مع امرأتِهِ آخر كيف يتركه ويذهب ليأتي بالشهداء؟! فربما يقْضِي حاجته وينصَرِف". إلى أن نزلت الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} [النور: 6 - 9]
(1)
.
* وهناك أحاديث لا شك أن كل إنسان في هذه الحياة حريص على بيته، غيورٌ على أهله، فهو لا يُريد أن تَشيعَ فاحِشَةٌ في بيتِهِ؛ لأن هذا تَلويثٌ لفِرَاشِه، وذمّ لأهْلِهِ، إذ هو يشمله شيء من ذلك، لكن إذا نظر على ما ترتب على ذلك من الفساد وبخاصة إذا وجَدَ حَمْلا، فهذا تلويثٌ
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(1/ 238) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند: "حسن".
لفِراشه، وإلحاق لطفل له وهو ليس منه، ثم ما يترتب على ذلك من الحُرمة والمَحْرمية، ولذلك جاء اللّه سبحانه وتعالى بمخرجٍ للزوج الذي يجد شيئًا من ذلك، ونسأل اللّه - تعالى - أن يصونَ المؤمنين جميعًا عن ذلك، جعل اللّه له مَخْرجًا ومنفذًا وهو طريق الملاعنة، فلما جاء هلال بن أمية إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وذكر أنه جاء من أرْضِه عِشاء فوجَدَ رجلًا عند امرأته، فرأى بعَينه وسَمِع بأذنه، لكنه لم يُهِجْهُ - أي: لم ينفر ذلك الرجل ولم يحاول إيذائه فأمْسَكَ نفْسه - وذهب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبره بما حَدَثَ، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول له:"بَيِّنَة أو حَدٌّ في ظَهْرك"
(1)
، لأنه قذفٌ لزَوجته، إما أن يأتي بدليل، أو الحد عليه، وكان يقول:"يا رسول اللّه، واللّه إني لصادِق وإن اللّه - تعالى - سيُنْزِلُ براءتي"، وفعلًا نَزلتَ براءتُهُ مِنَ السَّماءِ.
فبالنسبة إلى اللعان عندما نأخذُهُ من الناحِيَةِ اللفْظِيَّة: فهو لاعَن يُلَاعِن، واللعان مصدر يقال: لاعَنَ يُلاعِنُ ملاعنة إذًا: هذا هو مصْدَرُهُ كما تقول: قِتال ويُقاتِلُ ومُقاتَلَةً، وهذا وزن كبيرٌ معروفٌ في اللغة العربية، لكن لماذا سُمِّيَ باللِّعانِ؟ قال العلماء: لأنه ورَدَ اللَّعْنُ فيه، قال تعالى:{وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} [النور: 7]. وقيل: خُصَّ بذلك لأن الزوج هو الذي يبدأُ فذَكَر اللِّعان، وقيل: لأن اللِّعان إنما يحصُلُ من الزوْجِ وإن لم يُلاعِنْ لم يحصُلْ، ولو أنه نَكَلَ ما حصل لَعَانٌ. إذًا: كله يدُورُ حولَ الزوْجِ
(2)
، ولا شك أن اللّه سبحانه وتعالى وصف المرأة بأمرٍ أخْطَرَ من ذلك عندما تأتى بالشهادة الخامسة:{وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9]. والغضب هو السُّخْطُ؛ وحدُّ القَذْف عظيمٌ وشديد، ولذلك صَحَّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه قوله:"اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - " قيل: يا رسول اللّه! وما هنَّ؟ قال: "الإشراكُ
(1)
أخرجه البخاري (2671)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
انظر: "العناية شرح الهداية" لمحمد البابرتي (4/ 276) حيث قال: "لقب الباب باللعان دون الغضب وإن كان فيه الغضب أيضًا، لأن اللعن من جانب الرجل وهو مقدم
…
"، وانظر: "بحر المذهب" للروياني (10/ 307).
باللّه، وقتل النَّفْس التي حرَّم اللّه إِلَّا بالحق، وعقوقُ الوالِدَينِ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيم، والتوَلِّي يومَ الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"
(1)
، ما أعظمَ ذلك، وهذا يلتقي مع قول اللّه تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)} [النور: 23]، وقذْفُ المؤمن أو المؤمنة لا يختَصُّ بالنساء، لكن هو جريمة عظيمة يستحق عليها الإنسان العذاب في الدنيا بأن يجلد ثمانين جلدة إذا لم يثبت، وكذلك يستحق عليها غَضَبَ اللّه - تعالى - وسخطه إِلَّا أن يتوب ويرجع إلى اللّه سبحانه وتعالى.
* قال: (وَالْقَوْلُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ بَعْدَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَنْوَاعِ الدَّعَاوِي الْمُوجِبَةِ لَهُ وَشُرُوطِهَا. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِ الْمُتَلَاعِنَيْنَ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي صِفَةِ اللِّعَانِ. الْفَصْلُ الرَّابعُ: فِي حُكْمِ نُكُولِ أَحَدِهِمَا، أَوْ رُجُوعِهِ).
(النكول: وهو التوقف عن الحلف)
(2)
.
(الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِتَمَامِ اللِّعَانِ.
فَأَمَّا الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ اللِّعَانِ: أَمَّا مِنَ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ
…
} [النور: 6] الْآيَةَ).
لا شك أن الزنا لكي يَثْبُتَ لا بد من وجود أربعة شهداء، وأن يذْكُروا إلى جانب شهادتهم المعاينة، وكل ذلك قُصِدَ به الحِرْصُ على أعراض المسلمين وصيانتُها وحِفْظُها وعدمُ التعدِّي عليها، ولذلك شدَّد اللّه سبحانه وتعالى في ذلك، لكن الرجل إذا وقَعَ في كَرْب وفي شِدَّةٍ فرأى وشاهد في بيتِه أو تيقَّنَ من وجود هذا الأمر كالحالة التي وقعت لهلال وهذه التي يعتبرها العلماء من أنواع اللعان الواجب.
(1)
أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: "العين" للفراهيدي (5/ 372) حيث قال: "النكول عن اليمين: الامتناع منها".
(وَأَمَّا مِنَ السُّنَّةِ فَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ مِنْ مُخَرِّجِي الصَّحِيحِ).
هذا الذي سيذكُرُه المؤلف حديثٌ صحيحٌ أخرجه البخاري ومسلم، وأصحاب السنن، ومالك إِلَّا الترمذي
(1)
.
مِنْ "حَدِيثِ عُويمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ".
وهو من كبار بَنِي عَجْلان جاء إليه رجل يشكو حاله فيقول: لو أن رجلًا وجد رَجُلًا عند أهله إن قَتَله قَتَلتموه، وفي بعض الروايات أيقتله فتقتلوه، سلْ رَسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم.
(إِذْ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْعَجْلَانِيِّ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِم، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُه، فَتَقْتُلُوهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ)
(2)
.
قال له: "لم تأتني بخير"؛ لأن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يكرَهُ تلك المسائل وتُؤذِيهِ صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم يُعجبُهُ الفِعْلُ الحسن، وما كان يريد أن يأتي إنسانٌ فيسأل عن أمور تقَعُ فلا تكون محمودة، ولذلك ثبت عن رَسولِ اللّه عز وجل أنه قال:"أنما أهلك من كان قَبْلَكُم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجْتَنبوه، وإذا أمرتُكُم بأمر فأتُوا مِنه ما استطعتم"
(3)
. هكذا وضع لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منهجًا يُقَوِّمُنا، ومعيارًا دقيقًا أن الإنسان لَا يبحث عن الأمور التي ربما تُضَيِّق، وإذا تفاءل تفاءل بخيرٍ ودائمًا يُحسِنُ الظنَّ باللّهِ سبحانه وتعالى فإذا أحسنتَ الظَّنَّ بربِّك وجدتَهُ عند حسُنْ ظنِّك، ولذلك:
(1)
أخرجه البخاري (5259)، ومسلم (1492)، وأبو داود (2245)، والنسائي (3402)، وابن ماجة (2066)، ومالك (2/ 566).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
نهى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عن "قِيلَ وقَالَ، وكثرة السؤالِ، وإضاعةَ المالِ"
(1)
، ولما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكره المسألة ويَضِيقُ بها كان الصحابة رضي الله عنهم تَشُقُّ عليهم بعضُ الأمور، وكان أحدهم يريد أن يسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فربما تحرج في بعض الأمور، فكانوا يُسَرُّونَ وَيسْعَدُونَ إذا قدم أعرابيٌّ من البادية يدفعون له شيئًا ويشجِّعونه ليسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الحكم؛ ومعلومٌ أنَّ من يأتي من البادية يغلب عليه الجهل، وربما ما تعوَّد على بعض الأمور.
ولم يقل له لم تأتني بخير؛ لأنه أوقفه موقفًا محْرِجًا شَدِيدًا، فذهب يسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو الذي تحمل ذلك لكن عُويمرًا كان مُصِرًّا مندفعًا، فوجد مجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مليئًا فسأله السؤال، كذلك الحال لهلال، ومن هنا اختلف العلماء: هل الآية نزلت في هلال أم نزلت في عويمر؟ أم أن أحدهم جاء يسأل ثم بعد ذلك جاء الآخر فصادف نزول الآية؟ أم تعددت نزولها؟ وهذا القول الأخير أضعفها.
فهذا تكلم عنه العلماء كثيرًا، والآية نَزَلتْ بحكمٍ صريحٍ في هذا الموضوع.
(قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُويمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُه، فَتَقْتُلُوهُ أَمْ كيْفَ يَفْعَلُ؟).
* لو قُتِلَ وعنده شهود شاهدوا ذلك قتل، والمسألة فيها خلاف، وأمره راجِعٌ إلى الحاكم، وهذا من باب سَدِّ الذرائع، لأنه لو قُدِّرَ أنه وجد مع أهله مثل ذلك النوع فقتله، ربما يأتي أصحاب النفوس المَريضة الذين يريدون أن يبطِشُوا بغيرهم ممن نُزِع خوف اللّه - تعالى - من قلوبهم، فيقود إنسانٌ إلى بيتِهِ، ثم يفعل به ذلك فيَقْتُلُه، ويقول كذا وكذا، ولذلك نجد أن
(1)
أخرجه البخاري (6473)، ومسلم (593)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
الشريعة الإسلامية إلى جانب أنها حصَّنَتِ المسلِمَ، حرصت على ألَّا تُسألَ الدِّماء بغير حق فلا يعتَدِي أحدٌ على آخر، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن دِمَاءكم وأمْوالَكُم وأعْراضكُم حرام عليكم"
(1)
، فإن كان حقًّا قد وقع ووجد شهود فشرع اللّه يؤديه، وهناك الحاكم يفعل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن اللّه سبحانه وتعالى لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن"
(2)
فإن لم يكن فإنه يُلاعِنُ وهذا مخرج له وطريق للخروج من هذه المسألة.
* قال: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنٌ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا، وَقَالَ سَهْل: فَتَلَاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا! فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ")
(3)
.
يقول: لو قلت بأنني سأبقيها فإنني كاذب، ومع ذلك سارع فطلقها قبْل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي خلاف العلماء في اللِّعان، هل هو طلاق أم فَسْخٌ؟ وسوف نتَبَيَّنُ أن الراجح أنه فسخ وليس بطلاق.
(قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ
(4)
.
وَأَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى).
فلو أن إنسانًا رآى آخر مع أهله ثم وجَدَ حَمْلًا وسكَتَ عليه، فهو بلا شك سوف يُنسب له هذا الغلام، ولذلك في قصة المُتَلاعِنَيْنِ نفى الرسولُ صلى الله عليه وسلم نسبَ الولَدِ عن أبيه وألحقه بأمه، ويقال: أنه بعد ذلك يُنْسبُ لأمِّه.
(1)
جزء من حديث أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(2)
لم أقف عليه، وأخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 118) موقوفًا على عثمان بن عفان رضي الله عنه بلفظ:"ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن".
(3)
أخرجه المخاري (5259)، ومسلم (1492).
(4)
في "الموطأ"(2/ 567).
فيترتب على ذلك أن يلحق به ما ليس هو ابن له، واللّه سبحانه وتعالى نَهى عن مثل ذلك وعن التبني في قول اللّه تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5].
وقد كان التَّبَنِّي جائزًا في أول الأمر فأبطله اللّه سبحانه وتعالى في أول سورة الأحزاب، فهو يترتب عليه لحوق نَسَب هذا الغلام بهذا الرجل، وأيضًا يثبت التوارث بينهما، وصاحب الفراش هَذا أيضًا.
والأمر الآخر: أنه ينظر إلى بَناتِه وأخواتِه فحصل بذلك أيضًا أضرار كثيرةٌ في إبقاء هذا الولد والسكوت عليه.
(لَمَّا كانَ الْفِرَاشُ مُوجِبًا لِلِحُوقِ النَّسَبِ كانَ بِالنَّاسِ ضَرُورَةٌ إِلَى طَرِيقٍ يَنْفُونَهُ بِهِ إِذَا تَحَقَّقُوا فَسَادَهُ).
هو يشير إلى حديث رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم:"الولد للفراش وللعاهر الحجر"
(1)
. معنى "الولد للفراش" أي: لصاحب الفراش وهو الزوج، والعاهر إنما هو الزَّانِي ليس له إِلَّا الحجر، أي: له الخَيبَهُ والذِّلَّةُ والهوانُ
(2)
. إذًا: يحصل تلويث لهذا الفراش وإساءةٌ إلى الزوج، وهو أمر يتعلق بالعِرْضِ.
* قال: (وَتِلْكَ الطَّرِيقُ هِيَ اللِّعَان، فَاللِّعَانُ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْإِجْمَاعِ، إِذْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ أَعْلَمُه، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ).
أولًا: اللعان هو جزء من القَذْفِ، فهناك ما يُعْرَفُ بالقذف، وهو أحد الحدودِ في الشَّريعَةِ الإسلامية، وهو منصوصٌ عليه في سورة النور قبل نزول آية اللعان التي كان سببها سؤال سَعد بن عُبادة في بعض الأحاديث،
(1)
أخرجه البخاري (2053) ومسلم (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
يُنظر: "بلغة السالك لأقرب المسألك" للصاوي (4/ 564) حيث يقول: "فيحمل على أنه ناشئ من ماء سبق للفرج لخبر: "الولد للفراش"".
وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً .... } [النور: 4]. وهذه آية عامة
(1)
، أما الزوج إذا لَاعَنَ من امرأته ولم يكن معه شهود شاهدوا ذلك حينئذٍ يلجأ إلى اللعان حتى يتخلَّصَ من ذلك الأمر، ولذلك سماه الرسول صلى الله عليه وسلم فَرَجًا وخروجًا من تلك الشدة
(2)
.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(الْفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي أَنْوَاعِ الدَّعَاوِي الْمُوجِبَةِ لَه وَشُرُوطِهَا)
لا يمكن أن يكون اللعان فيأتِي رجل يدَّعي على امرأة ويقذفها بالفاحشة، أو ربما ينفي ولدها ويقول هذا الولد ليس مني، وله صور متعددة فربما يَرْمِيها ويقول: ليس مِنِّي، وربما يقول: الولَدُ لِي؛ لأن عنده أدلة على أن هذا الحَمْلَ كان قبلَ وقوع تلك الفاحشة.
قال: (وَأَمَّا صُوَرُ الدَّعَاوِي الَّتِي يَجِبُ بِهَا اللِّعَانُ فَهِيَ أَوَّلًا صُورَتَان: إِحْدَاهُمَا دَعْوَى الزِّنَا، وَالثَّانِيَةُ نَفْيُ الْحَمْلِ)
(3)
.
هذا من حيث الجملة، ثم يأتي بعد ذلك التفصيل، وهناك مسائل
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (8/ 405) حيث قال: "قال ابن عرفة: قدر حد القذف على الحر ثمانون جلدة ذكرًا أو أنثى، وشطرها على ذوي رق منهما".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 456) حيث يقول: "من المدونة: إن قذفها في النكاح الذي لا يقر على حال لاعن لثبوت النسب فيه".
(3)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 457) حيث قال: "من المدونة: يجب اللعان بأحد وجهين مجمع عليهما أن يدعي رؤية زناها كالمرود في المكحلة ثم لم يطأ بعد ذلك، أو ينفي حملًا قبله استبراء في نكاحه".
كثيرة لا يعرض لها المؤلف مثل المعتدة مثلًا، أي: المطلقة طلاقًا رجعيًّا هل يقع عليها اللعان أم لا؟ الصحيح أنه يقع
(1)
. وهل اللعان خاص بالمدخول بها أم هو عام؟ الجواب: هو عام
(2)
.
(وَدَعْوَى الزِّنَا لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مُشَاهَدَةً - أَعْنِي: أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ شَاهَدَهَا تَزْنِي كَمَا يَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى الزِّنَا -، أَوْ تَكُونَ دَعْوَى مُطْلَقَةً، وإذَا نُفِيَ الْحَمْلُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَنْفِيَهُ أَيْضًا نَفْيًا مُطْلَقًا، أَوْ يَزْعُمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَبْهَا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا).
* بالنسبة إلى الحمل أمرُهُ خطيرٌ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّمَا امرأة أَدْخَلَتْ على قوم مَنْ ليس مِنْهم فليستْ مِنَ اللّهِ في شيء، ولن يُدْخِلَهَا اللّه جنَّته"
(3)
.
"أيما": من صيغ العموم
(4)
"امرأة أَدْخَلَتْ على قومٍ": أي: أضافت إليهم نَسَبًا ليس منهم "ليست من اللّه في شيء" أي: هي بعيدة عن اللّه، ولن يُدْخِلَهَا اللّه - تعالى - جنَّتَه ثم بعد ذلك قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"وأَيُّمَا رجل جَحَد ولَدَهُ وهو ينظُرُ إليه احتَجَب اللّه - تعالى - منه، وفضَحَهُ على رُؤوس الأَوَّلينَ والآخرين يوم القيامة"
(5)
. فالأمر خطير من الجانِبَيْنِ، فالمرأة إذا خانتْ هذا الفِرَاش، وأدخلت على هذا الرجل الذي أَمِنَها ما
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (5/ 409) حيث قال: "أحكام المرتجعة وهي محرمة الوطء لكن لا حد في وطئها أو تصح مخالطتها، ويصح الإيلاء منها والظهار واللعان والطلاق".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 124) حيث قال: "إنما يلاعن زوج (ش) أي: لا سيد وسواء كان الزوج حرًا أو عبدًا دخل بالزوجة أم لا".
(3)
أخرجه أبو داود (2263) وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(1427).
(4)
يُنظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 200) حيث يقول: "الأول: أنه صدر الكلام بأي: وهي من كلمات الشرط ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن توقف في صيغ العموم".
(5)
هو تكملة للحديث السابق.
ليس منه؛ فإنها بذلك ليست من اللّه في شيء، وهذه غاية في الخسارة ألَّا تكون من اللّه في شيء، ويبعدها اللّه سبحانه وتعالى ولن يُدْخِلَها اللّه - تعالى - جنَّتَه، كذلك أيضًا الرجل إذا جحد ابنًا من أبنائه وهو يعلم ويرى أنه ابنه، أما إذا جَحَده بمثل هذه الوقائع الثابتة فَلا، فإن اللّه - تعالى - سيحتَجِبُ منه، ويفضَحُه على رؤوس الأوَّلينَ والآخرين، وهذة غاية الخسارة والخِذلانِ أن يُفضح الإنسان على رؤوس الأولين والآخرين يوم القِيامَة.
(فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ بَسَائِطَ، وَسَائِرُ الدَّعَاوِي تَتَرَكَّبُ عَنْ هَذه، مِثْلُ أَنْ يَرْمِيَهَا بِالزِّنَا وَيَنْفِيَ الْحَمْلَ، أَوْ يُثْبِتَ الْحَمْلَ ويرْمِيَهَا بِالزِّنَا. فَأَمَّا وُجُوبُ اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا إِذَا ادَّعَى الرُّؤيَةَ فَلَا خِلَافَ فِيهِ).
هذا لا خلاف فيه فَهُو موضع إجماع بينَ العُلماءِ
(1)
، وهذا نصٌّ سَمِعْناه في حَديثِ هلال لما جاء من أرضه عشاءً ورأى بِعَينِه وسمع بأُذنِهِ وذكر ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
(قَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدُ
(2)
. وَأَمَّا وُجُوبُ اللِّعَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ).
(مجرد القذف) أي لو جاء فقذف فقط دون أن يُفَصِّلَ فيقول: رأيتُ
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 80) حيث قال: "اتفقوا على أن الزوج الصحيح عقد الزواج الحر المسلم العاقل البالغ الذي ليس بسكران ولا محدود في قذف ولا أخرس ولا أعمى إذا قذف بصريح الزنا زوجته العاقلة البالغة المسلمة الحرة التي ليست محدودة في زنا ولا قذف ولا خرسى وقذفها وهي في عصمته بزنا ذكر أنه رآه منها بعد نكاحه لها مختارة للزنا غير سكرى وكان الزوج قد دخل بها ووطئها أو لم يدخل بها ثم لم يطأها بعدما ذكر من اطلاعه على ما اطلع ولم يطلقها بعد قذفه لها ولا ماتت ولا ولدت ولا اتضح نكاحها فإن اللعان بينهما واجب".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 457) حيث يقول: "ومن المدونة: يجب اللعان بأحد وجهين مجمع عليهما أن يدعي رؤية زناها كالمرود في المكحلة ثم لم يطأ بعد ذلك".
بِعَيْنِي، أما قوله:(سمعت) فالحنفية والحنابلة يحتجُّون بها على الآخَرِين في مسألة ستأتي وهي مسألة يلتقي فيها الحنفية والحنابلة من جانب والمالكية والشافعية من جانب، فيحتج الطرف الآخر على هؤلاء بأنهم أخَذُوا بجزء من الحديث ولم يأخُذُوا بالجزء الآخر، وإن كان مذهب المالكية والشافعية في نَظَرِي أقوى فيما ذهبوا إليه كما سيأتي.
(فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ: الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَدَاوُدُ
(4)
، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اللّعَانُ عِنْدَهُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ
(5)
، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا؛ إِنَّهُ يَجُوز، وَهِيَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ)
(6)
.
جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة وهي رواية أيضًا للإمام مالك،
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر للهيتمي (8/ 202) حيث يقول: "كما علم مما مر توقف على أنه (يسبقه قذف) بمعجمة أو نفي ولد، لأنه تعالى ذكره بعد القذف وهذا أعني القذف".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 167) حيث قال: "إذا قذف الرجل امرأته بالزنا وهما من أهل الشهادة والمرأة ممن يحد قاذفها، أو نفى نسب ولدها وطالبته بموجب القذف فعليه اللعان، فإن امتنع منه حبسه الحاكم حتى يلاعن أو يكذب نفسه فيحد، وإن لاعن وجب عليها اللعان، فإن امتنعت حبسها الحاكم حتى تلاعن أو تصدقه".
(3)
يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام" للحجاوي (4/ 100) حيث قال: "بأن يقذفها بالزنا في القبل أو الدبر، فيقول: زنيت، أو: يا زانية، أو: رأيتك تزنين".
(4)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (9/ 331) حيث قال: "إن من قذف امرأته بالزنا هكذا مطلقًا، أو بإنسان سماه - سواء كان قد دخل أو لم يدخل بها
…
، فإن لم يأت بالبينة قيل له: التعن".
(5)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 457) حيث يقول: "ومن المدونة: يجب اللِّعان بأحدِ وَجْهينِ مجمع عليهما: أن يدَّعِيَ رؤية زناها كالمرود في المكحلة ثم لم يطأ بعد ذلك، أو ينفي حَملًا قبله استبراء في نكاحه (وإلا حد) ".
(6)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 127) حيث قال: "
…
فلم يذكر فيها رؤية زنا ولا نفي حمل ولا ولد، قاله ابن نافع وبعض كبار المتأخرين، والقولان في المدونة".
وكذلك قال بها بعض أصحابه يرون أن القَذْفَ إذا أطلق أيضًا يحصل به اللِّعان، وأنه لا يُشترط أنه ينص على أنه رأى، لأن الآية مطلقة كما سيأتي.
(وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عُمُومُ قَوْله - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
…
(6)} [النور: 6] الْآيَةَ، وَلَمْ يَخُصَّ فِي الزِّنَا صِفَةً دُونَ صِفَةٍ).
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، أطلق الآية الأولى التي فيها القذف العام وهنا {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، قالوا: الآية لم تَضَعْ وصْفًا وإنما أطلقت.
(كَمَا قَالَ فِي إِيجَابِ حَدِّ الْقَذْفِ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ:"أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا"
(1)
).
وهو سهل بن عبادة، وهذا الحديث متفق عليه.
* قال: (وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ: "فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ .... } [النور: 6] " الْآيَةَ).
لأنَّ ما يؤلم المؤمنين يؤلمُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وما يشقُّ عليهم يشقُّ عليه صلى الله عليه وسلم قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
* قال: (وَأَيْضًا فَإِنَّ الدَّعْوَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِبَيِّنَةٍ كَالشَّهَادَةِ).
استدل الجمهور بعموم الآية، والذين نَصُّوا على الرؤية أخذوا بما
(1)
سبق تخريجه.
جاء في الأحاديث، لكن الآخرين يقولون أنتم لم تأخذوا بقولِهِ:"رأيت بعَيْنِي وسَمعت بأذني" فلولا لم يسْمَعْ لا ترون أثرًا لذلك.
* قال: (وَفِي هَدا الْبَابِ فَرْعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ إِذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ بَعْدَ اللِّعَان، فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا سُقُوطُ الْحَمْلِ عَنْه، وَالْأُخْرَى لُحُوقُهُ بِهِ)
(1)
.
هذة المسألة فيها خلاف بين العلماء عمومًا، فمنهم من يَلْحَقُه، ومنهم من يسقطة.
(وَاتَّفَقُوا فِيمَا أَحْسَبُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الدَّعْوَى الْمُوجِبَةِ اللِّعَانَ بِرُؤْيَةِ الزِّنَا أَنْ يَكُونَ فِي الْعِصْمَةِ)
(2)
.
أي أن تكون الزوجة في عصمة الزوج ولم يطلقها لكن يطَلِّق امرأة ثم بعد ذلِكَ يأتي فيلاعنها فلا، هذا ما يريد المؤلف، لكن قد تأتِي صورة يذهب الجمهور إلى أنها تحصل فيها الملاعنة.
* قول: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِدَعْوَى الزِّنَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا هَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِعَانٌ أَمْ لَا؟
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 457) حيث يقول: "قد اختلف في ذلك قول مالك فمرة ألزمه، ومرة لم يلزمه الولد، ومرة قال: ينفيه وإن كانت حاملًا".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" لابن عابدين (3/ 694) حيث قال: "لأن شرط اللعان قيام الزوجية، بأن تكون منكوحة أو معتدة رجعي".
والمالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (4/ 136) حيث قال: "قال ابن عرفة: شرط اللعان ثبوت الزوجية إِلَّا أن يكونا طارئين".
والشافعية، ينظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 69) حيث قال: "شرطه زوج يصح طلاقه".
والحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (4/ 98) حيث قال: "ولا يصح إِلَّا بزوجين ولو قبل الدخول".
هناك فرق بين أن يقذف المرأة أولًا ثم يطلقها، وبين أن يُطَلِّقها ثم بعد ذلك يقذفها أي: يطلب الملاعنة، فالصورة الأولى عند الجمهور، والثانية يحد على ذلك، لأن هذه امرأة طلقها ولم يكن له دعوى عليها، ثم يأتي ويقذفها، فإما أن يأتي بالبينة أو حَدٌّ في ظهره.
وقال (ثلاثًا) هنا، لتخرج المسألة التي لم يذكرها وهي: لو طلقها دون الثلاث وبقيت معتدة عِدَّةً رجعية فهل له أن يلاعن منها؟ الجواب: نعم.
(فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَالْأَوْزَاعِيُّ
(3)
).
وأحمد
(4)
أيضًا.
(وَجَمَاعَةٌ: بَيْنَهُمَا لِعَان، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
: لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَ وَلَدًا وَلَا حَدَّ، وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَالْحَكَم، وَقَتَادَة: يُحَدُّ وَلَا يُلَاعِنُ
(6)
).
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (5/ 462) حيث يقول: "إذا قال: رأيتها تزني قبل أن أطلقها، فإنه يحد".
(2)
الشافعية يشترطون الزوجية، يُنظر:"العزيز شرح الوجيز" للرافعي (9/ 369) حيث يقول: "قال الغزالي: (الشرط الثاني): الزوجية فلا لعان للأجنبي، والطلاق الرجعي لا يمنع اللعان قبل الرجعة".
(3)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 514) حيث قال: "وقال الأوزاعي والليث والشافعي يلاعن".
(4)
هناك خلاف عند الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (9/ 244) حيث يقول: " (وإن أبان زوجته، ثم قذفها بزنى في النكاح، أو قذفها في نكاح فاسد، وبينهما ولد: لاعن لنفيه، وإلا حد، ولم يلاعن) هذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به في المغني، والشرح، والوجيز وغيرهم، وقدمه في الفروع، وغيره، وقال في الانتصار عن أصحابنا: إن أبانها ثم قذفها بزنا في الزوجية: "عن".
(5)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (10/ 5202) حيث يقول: "قال أصحابنا: إذا قذف امرأته بالزنا ثم أبانها سقط اللعان ولا حد".
(6)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (5/ 319): "قالت طائفة: يجلد، هذا قول مكحول، والحارث العكلي، وقتادة، وجابر بن زيد، والحكم".
إما أن ينفي الولد فيحصل اللعان ولا يحد في ذلك؛ لأن هناك من قال عليه الحد. وقوله (ولا حد) أي: لا حد عليه وهذا جائز لغةً.
* قال: (وَأَمَّا إِنْ نَفَى الْحَمْلَ: فَإِنَّهُ كمَا قُلْنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا وَلَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ الاسْتِبْرَاءِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الاسْتِبْرَاءِ، فَقَالَ مَرَّةً: ثَلَاثَ حِيَضٍ
(1)
، وَقَالَ مَرَّةً: حَيْضَةً
(2)
. وَأَمَّا نَفْيُهُ مُطْلَقًا، فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِذَلِكَ لِعَانٌ
(3)
).
* مسألة الاستبراء في حيضة هذا في حق الأَمَةِ كما مر، وفيه خلاف أيضًا، وهذا رأي عثمان رضي الله عنه وسبق أن نَبَّهْنا عليه فيما مضى في أحكام الطلاق، فهل تُستبرَأُ الأَمَةُ بحيضة؟ أم لا بد من ثلاث؟ فإن سبايا أوطاس كُنَّ يستبرئنَ بحيضة واحدة
(4)
.
* قال: (وَخَالَفَهُ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ
(5)
، وَأَحْمَدُ
(6)
وَدَاوُدُ
(7)
، وَقَالُوا: لَا مَعْنَى لِهَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَحْمِلُ مَعَ رُؤيَةِ الدَّمِ).
(1)
يُنظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين" لابن بزيزة (2/ 856) حيث يقول: "فاختلف في الاستبراء في هذا الباب، المشهور من المذهب أنها حيضة لحصول المقصود بها، وقال عبد الملك: ثلاث حيض اعتبارًا بما عدا اللعان".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 458) حيث قال: "أبو عمر: أحد الأمرين اللذين يجب اللعان بهما استبراء رحم لا وطء بعده حتى يظهر حمل ينكره، وأقل الاستبراء في ذلك حيضة واحدة".
(3)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (2/ 360) حيث يقال: "لا يجب اللعان إِلَّا بين رُؤيةِ واستبراء".
(4)
أخرجه مسلم (1456) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (8/ 214) حيث قال: "لأن الاستبراء أمارة ظاهرة على أنه ليس منه نعم يسن له عدمه؛ لأن الحامل قد تحيض".
(6)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 105) حيث يقول: "فأما إن طلقها فاعتَدَّتْ بالأقراء، ثم ولدت قبل مضي ستة أشهر من آخر أقرائها لحقه ولزم ألا يكون الدم حَيْضًا".
(7)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (1/ 404) حيث يقول: "كل دم رأته الحامل ما لم تضع آخر ولد في بطنها، فليس حيضًا ولا نِفاسًا، ولا يمنع من شيء".
فقد يوجد دم وربما يكون هذا الدم دمٌ فاسد، فمذهب الجمهور هو الصحيح في ذلك.
(وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ).
من المالكية.
(عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْحَمْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَذْفٍ
(1)
.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ، وَهُوَ وَقْتُ نَفْيِ الْحَمْلِ).
فرع نفي الحمل نجد أن الحنَفِيَّةَ والحنابلةَ في جهة والمالكية والشافعية في جهة، ونرى تَنَوُّعَ العلماء هذا مع هذا أحيانًا، وهذا مع هذا أحيانًا حسب ما يظهر لهم أنه الحق أو الأرجح.
* قال: (فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَنْفِيهِ وَهِيَ حَامِلٌ، وَشَرْطُ مَالِكٍ
(2)
: أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَنْفِهِ وَهُوَ حَمْلٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِلِعَانٍ؛ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: إِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْحَمْلِ فَأَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ مِنَ اللِّعَانِ فَلَمْ يُلَاعِنْ
(1)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 787) حيث قال: "تلاعن من نفي الحمل وإن عري عن القذف، خلافًا للشافعي".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 129) حيث قال: "أن الزوج إذا أقر بأنه وطئ بعد رؤيته أو علمه بوضع أو حمل أو أخر لعانه بعد علمه بوضع أو حمل اليوم واليومين بلا عذر في التأخير امتنع لعان".
(3)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (11/ 245) حيث يقول: "إذا كانت له زوجة فظهرت بها أمارات الحمل فلم ينفه حتى ولدت، ثم أراد نفيه بعد الوضع قيل له: هلا نفيته قبل الوضع، فإن قال: ما تحققته وظننت أنه ريح يذهب وينفش فالقول قوله مع يمينه وله نفيه؛ لأنه قد يشك فيه هكذا سواء قلنا: الحمل يعرف أو قلنا: لا يعرف، وإن قال: عرفته حملًا صحيحًا ولكني أخرت نفيه رجاء موته أو موت الأم للستر يلزمه الولد ولا يكون له نفيه إِلَّا أن يكون الحال مبتوتة".
لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: لَا يَنْفِي الْوَلَدَ حَتَّى تَضَعَ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ الْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام حِينَ حَكَمَ بِاللِّعَانِ بَيْنَ الْمُلَاعِنَيْنِ قَالَ: "إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَمَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَّقَ عَلَيْهَا").
* من المعلوم أن المرأة عندما جاء دَوْرُها فشهدت أربع شهادات فأُوقِفت وذُكِّرتْ بتقوى اللّه سبحانه وتعالى وعَذابُ الدُّنْيا أهونُ وأيسر من عذاب الآخرة، وأن عليها أن تخشى اللّه سبحانه وتعالى، وأنه سيحلُّ بها عصبُ اللّه سبحانه وتعالى تلكَّأت ساعة كما جاء في بعض الروايات
(2)
ثم بعد ذلك قالت: لا أفضَحُ قَوْمِي فقالت الخامسة: وغضب اللّه عليها إن كانت من الكاذبين.
(قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا فِي وَقْتِ اللِّعَانِ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَنْفُشُ وَيَضْمَحِلُّ، فَلَا وَجْهَ لِلِّعَانِ إِلَّا عَلَى يَقِينٍ).
(ينفش) أي: يكون منتفخًا وبعد ذلك يذهب، فربما هذا البطن الذي كان بارزًا فيه ريح فتزول هذه الريح فينفش، و (يضمحل) أي: يرجع إلى أصله وينكمش.
* قال: (وَمِنْ حُجَّةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ عَلَّقَ بِظُهُورِ الْحَمْلِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً: كَالنَّفَقَةِ، وَالْعِدَّةِ، وَمَنْعِ الْوَطْءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قِيَاسُ اللِّعَانِ كذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُلَاعِن، وَإِنْ لَمْ يَنْفِ الْحَمْلَ إِلَّا وَقْتَ
(1)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (10/ 5210) حيث يقول: "المعنى فيما بعد الولادة أن الأحكام المختصة به يجوز أن تثبت له، وقبل الولادة لا تثبت الأحكام المختصة قبل البيع والنكاح. كذا نفي النسب".
(2)
كما عند أبي داود (2256)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(388).
الْوِلَادَةِ، وَكَذَلِكَ مَا قَرُبَ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ وَقْتًا، وَوَقَّتَ صَاحِبَاهُ أَبو يُوسُفَ، وَمُحَمَّد، فَقَالَا: لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ مَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ؛ وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا اللِّعَانَ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَهُ نَفْيَهُ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَهُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهَا بِالْفِرَاشِ، وَذَلِكَ هُوَ أَقْصَى زَمَانُ الْحَمْلِ عِنْدَه، وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ عِنْدَه، أَوْ خَمْسِ سِنِينَ).
أقصى مدة الحمل عند الإمام (مالك
(1)
والشافعي
(2)
أربع سنوات
(3)
، وأقل مدة الحمل إنما هي ستة أشهر، وأكثرها وغالبها بل يقل أن تكون على خلاف ذلك تسعة أشهر، والإمام أحمد يوافق مالكًا والشافعيَّ في المشهور عنه أن أقصى مدة الحمل أربع سنوات
(4)
، وله
(1)
يُنظر: "بلغة المسالك لأقرب المسالك" للصاوي (2/ 681) حيث يقول: "ابن عرفة في كون أقصاه أربع سنوات أو خمسًا ثالث روايات القاضي سبعًا وروى أبو عمر ستًا، واختار ابن القصار الأولى وجعلها القاضي المشهور، وعزا الباجي الثانية لابن القاسم وسحنون المتيطي في الخمس القضاء".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 35) حيث يقول: "أكثر مدة الحمل أربع سنين".
(3)
يُنظر: "إرشاد السالك" لابن عسكر (ص: 73) حيث قال: "وأكثر مدة الحمل أربع سنين". ويُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص: 254) حيث قال: "ولو أبانها فولدت لأربع سنين لحقه أو لأكثر فلا .. ". ويُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 87) حيث قال: "وحكي عن مالك أنه قال: جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين، وقد روي هذا عن غير المرأة المذكورة". ويُنظر: "شرح الزركشي"(5/ 557) حيث قال: "وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون، كل دفعة أربع سنين
…
ويؤيد ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب لامرأة المفقود أربع سنين. والظاهر أنه إنما فعل ذلك لأنه أقصى مدة الحمل".
(4)
يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام" للحجاوي (3/ 108) حيث يقول: "ما لم يجاوز أكثر مدة الحمل أربع سنين".
رواية أخرى أنَّ أقصى مدة الحمل سنتان
(1)
وهو مذهب (أبي حنيفة)
(2)
.
وهنا سؤال لماذا قال بعض العلماء أربع سنوات وخمس؟؟ لأنهم وجَدُوا الشواهد والصور وقعت في ذلك، فهناك بمن يُعْرَفُون ببني عجلان وهي أسرة محمد بن عجلان المعروف بقي في بطن أمِّه أربع سنوات وله أخوان آخران، ووجد غيره.
* وبعض العلماء يرى: أن أقصى مدة الحمل (ثلاث سنوات)
(3)
.
* وبعضهم يري: خمس سنوات
(4)
، لكن الغالب هي تسعة أشهر ويندر أن تكون ستة أشهر.
(وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ حُكْمُ نَفْيِ الْوَلَدِ بَعْدَ الطَّلَاقِ إِذَا لَمْ يَزَلْ مُنْكِرًا لَه، وَبِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الشَّافِعِيُّ).
وقلنا: إنها الرواية المشهورة عن أحمد وهي أربع سنوات
(5)
(وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْحَمْلَ إِلَّا فِي الْعِدَّةِ فَقَطْ، وَإِنْ نَفَاهُ فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ حُدَّ وَأَلْحَقَ بِهِ الْوَلَدَ)
(6)
.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 384) حيث يقول: "ورث ما لم يجاوز أكثر مدة الحمل وذلك أربع سنين في أصح الروايتين، وفي الأخرى سنتان".
(2)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 362) حيث قال: "وأكثر مدة الحمل سنتان لقول عائشة رضي الله عنها: الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين ولو بظل مغزل".
(3)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (5/ 347) حيث يقول: "فيه قول ثان وهو: أن مدة الحمل قد تكون ثلاث سنين روينا عن الليث بن سعد أنه قال: حملتْ مولاةٌ لعمر بن عبد اللّه ثلاث سنين".
(4)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (5/ 347) حيث يقول: "وفيه قول رابع: وهو أن ذلك يكون خمس سنين، روينا ذلك عن عباد بن العوام".
(5)
سبق ذكره.
(6)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 128) حيث يقول: "أن من طلق زوجته طلاقًا بائنًا أو رجعيًّا وانقضت عدتها، ثم إنه قال: رأيتها تزني فإنه يحد، وكذلك يُحَدُّ إذا استلحق من نفاه بلعان".
أي: أقيم عليه الحد.
* قال: (فَالْحُكْمُ يَجِبُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَى انْقِضَاءِ أَطْوَلِ مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الظَّاهِرِيَّةَ تَرَى أَنَّ أَقْصَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْحُكْمُ هُوَ الْمُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ التِّسْعَةُ أَشْهُرٍ وَمَا قَارَبَهَا).
وهذا هو الغالب في الحقيقة أنَّ مدَّة الحَمْلِ هِي تسعة أشهر، فهذا هو المشهور والمعروف من عادات النساء؛ لكن ليس ذلك أمرًا متَعَيَّنًا ربما تقلُّ وربما تزيد.
(وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ فِي مُدَّةِ الْعِصْمَةِ، فَمَا زَادَ عَلَى أَقْصَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ - أَعْنِي: أَنْ يُولَدَ الْمَوْلُودُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ أَوْ إِمْكَانِهِ، لَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ -)
(1)
.
هذه ملاحظة ذكرها المؤلف؛ لأن أبا حنيفة بهذا سيأخذ عليه المؤلف مأخذًا كأنه يقول: أنتم الحنفية عُرِفْتم من بين الأئمة بتوسعكم بالرأي والتدقيق في المسائل وأخذكم بالقياس كثيرًا؛ فلماذا في هذه المسألة أخذتم بالظاهر؟ فكأنكم من أهل الظاهر.
(1)
المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 164): "لو أتت بولد لستة أشهر من يوم عقد النكاح، فإنه يلحق بالزوج".
الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج في شرح المنهاج"(8/ 100) حيث قال: "قال: (وإنما يعلم إذا لم يطأ، أو ولدته لدون ستة أشهر من الوطء أو فوق أربع سنين)؛ لأن الحمل لا يكون في أقل من ستة أشهر ولا أكثر من أربع سنين، فيلزم أن يكون من غيره".
الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (9/ 259) حيث قال: "قوله: (وإن لم يمكن كونه منه مثل أن تأتي به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها). وكذا قال غيره من الأصحاب. قال في الفروع: ومرادهم وعاش، وإلا لحقه بالإمكان كما بعدها. انتهى. قوله: (أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها). لم يلحقه نسبه بلا نزاع".
(وَشَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ)
(1)
وهذا حقيقة غير وارد؛ لأنه قد يعقد عليها وتمضي فترة طويلة، فلماذا يقال: من زمن العقد وهو لا أثر له في العقد، فالمتَّبَعُ هنا هو الوطء.
حتى وإن تيقن عندها أنَّ الدخول غيرُ ممكن، كأنْ عقد على امرأة في الشرق وهو في الغرب فكيف يكون هذا؟!
* قال: (وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّخُولَ غَيْرُ مُمْكِنٍ حَتَّى إِنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَ عِنْدَهُ رَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى امْرَأَةً بِالْمَشْرِقِ الْأَقْصَى، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِرَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ)
(2)
.
قصد بالعقد أي: عقد عليها، أما لو قصد التزوج الذي هو الوطء فهذا يرجع إلى مذهب الجمهور.
فقد يسأل سائل فيقول: لماذا يحصل هذا من الإمامِ الهمامِ صاحب الفقةِ قويِّ الحجةِ؟ " كل قوله هذا أراد أن يحمي به جانب المؤمِنةِ حرصًا على صيانة المرأة وإبعادها قدر الإمكان عن مواضع الشُّبْهة والشرور هذا الذي دفع الإمام أبو حنيفة إلى ذلك، فهو بنى على حديث: "دع ما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبُك"
(3)
. وبقية العلماء بنوا على الواقِعِ.
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 184) حيث قال: "وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ابتداء المدة من وقت العقد".
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 169) حيث قال: "لا حاجة إلى هذا التكلف بل قيام الفراش كاف ولا يعتبر إمكان الدخول؛ لأن النكاح قائم مقامه كما في تزوج المشرقي بمغربية بينهما مسيرة سنة فجاءت بولد لستة أشهر من يوم تزوجها".
(3)
أخرجه الترمذي (2518)، والنسائي (5711) من حديث الحَسن بن علي رضي الله عنهما، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(12).
(وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرِيٌّ مَحْضٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عُمُومَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ"
(1)
، وَهَذ الْمَرْأَةُ قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ بِالْعَقْدِ، فَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ هَذه عِبَادَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ ضَعِيفٌ)
(2)
.
قوله: "الولد للفراش" هذا يشمل العقد أيضًا، فمتى عقَدَ الرجل على المرأة صارت فِراشًا له، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول:"الوِلد للفراش"
(3)
، فليس في الحديث دليل على أن الوطء هو المعتبر أخذَا بظاهر النَّص، وهذه وجهة أبي حنيفة؛ لكن وجهة أبي حنيفة هو حرصُه على صيانة عرض المسلمة، وعدمُ وقوعها في المكروه، فكأنه يريد الدفاع عنها فأخذ بظاهر هذا الحديث حماية لعِرْضها.
* قال: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَنَتْ وَاعْتَرَفَ بِالْحَمْلِ، فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ يُحَدُّ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَد، وَلَا يُلَاعِنُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُلَاعِنُ وَيَنْفِي الْوَلَدَ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَيُلَاعِنُ لِيَدْرَأَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يَلْتَفِتُ إِلَى إِثْبَاتِهِ مَعَ مُوجِبِ نَفْيِهِ وَهُوَ دَعْوَاهُ الزِّنَا؟)
(4)
هنا أمران كأنهما في الظاهر متضادان فهو يقول: (زنَت) ويطلب ضَمَّ الحمْل إليه، وربما هذ الصورة تقع لذلك قال بها كثيرٌ من العلماء وهي
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 169) حيث يقول: "لا حاجة إلى هذا التكلف، بل قيام الفراش كاف ولا يعتبر إمكان الدخول".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 904) حيث يقول: "فإذا اعترف بالحمل ثم ادعى أنه رآها تزني ففيها ثلاث روايات، إحداها: أنه يحد ويلحق به الولد ولا يلاعن، والثانية: أنه لا يلاعن وينتفي عنه الولد، فإن اعترف به من بعد حد، والثالثة: أنه يلحق به الولد ويلاعن لنفي الحد".
أحدُ الأقوال الثلاثة التي له أن يضم الولد إليه وأن يقذفها بالزنا، لكونه متيقنًا من هذا الحمل أنه وُجِدَ بها قبل أن يوجد ما حصل منها من فاحشة.
(وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ وَهُوَ: إِذَا أَقَامَ الشُّهُودَ عَلَى الزِّنَا هَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ أَمْ لَا؟
الآن أصبح أمامه قضيتان الأولى أنه أثْبت شهود الزنا أربع، أي: رماها بالزنا وأقام البينة كما في الآية الأولى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]. فقد جاء بالشهداء الأربعة، فهل هو بالخيار بين أن يلاعن أم أن تحصل الشهادة ويثبت ذلك؟ أم يتعين اللعان؟ فالعلماء انقسموا إلى قسمين: بعضهم أجاز ذلك فقال: له أن يلاعن، وله أيضًا أن يأخذ بالشهودِ.
(فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَدَاوُدُ: لَا يُلَاعِنُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا جُعِلَ عِوَص الشُّهُودِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ
…
} [النور: 6]. الآيةَ. وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
: يُلَاعِن، لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا تَأْثِيرَ لَهُمْ فِي دَفْعِ الْفِرَاشِ).
* يرى أبو حنيفة أن الآية الأولى عامة في القذف، ثم بعد ذلك خُصَّ الزوجان بالآية التالية لها. إذًا: لا ينبغي أن يحصل غير اللعان.
* والجمهور قالوا: هو مخير بين ذاك وذاك، فإما أن يلاعن، وإما أن يحضر الشهود فتأتي البَيِّنَةُ فيقام عليها الحد.
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (7/ 55) حيث يقول: "ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف - رحمهما الله تعالى - قال: لو قذفها الزوج ثم جاء بأربعة يشهدون عليها بالزنا، فلم يعدلوا لاعنها الزوج؛ لأنه قد استوجب اللعان بقذفه فلا يسقط عنه إِلَّا بثبوت الزنا عليها، والأصح أنه لا يلاعنها؛ لأن القاذف لو كان أجنبيًا فأقام أربعة من الشهداء بهذه الصفة لم يحد، وكذلك لا يلاعنها الزوج".
(2)
لم أقف عليه.
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 73) حيث يقول: "وله اللعان مع إمكان بينة بزناها".
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
[الْفَصْل الثَّانِي فِي صِفَاتِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ]
هذه أيضًا مسألة مهمة، هل هناك صفات معينة فيهما؟ أم أنَّ ذلك مطلقٌ؟
* قال: (وَأَمَّا صِفَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَجُوزُ اللِّعَانُ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا، أَوْ عَبْدَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ عَبْدٌ، مَحْدُودَيْنِ كَانَا، أَوْ عَدْلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا).
فبعضهم يطلِقُ ويقول: يجوز اللِّعان بين كل زوجين مُسْلِمين أو كافِرين، حُرَّيْن أو مملوكين، عدْلين أو غير عدْلين، والمقصود بغير العدل هو الذي ردت شهادته في قذْفٍ أو غيره.
* قول: (مُسْلِمَيْنِ كَانَا، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، وَالزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةً، وَلَا لِعَانَ بَيْنَ كَافِرَيْنِ إِلَّا أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا).
فإذا وُجِدَ كافران فهل يقام عليهما الحد؟ يقام عليهما إذا جاء يطلبان الحكم في الإسلام يقام عليهم حكم الإسلام، كما في قصة الرجل الذي وَضَع يدَهُ على الآية فجاء الذي أسْلَم منهم فقال: ارفع يدَكَ يا عدو اللّه فوُجِدت بيضاء ناصعة.
(وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ
(1)
، .........
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 124) حيث قال: "ويكون أيضًا بين الزوجين الفاسقين أو الرقيقين، وأما الزوجان الكافران فإنه لا يصح منهما اللعان، =
وَالشَّافِعِيُّ
(1)
).
وهو المشهور عن مذهب أحمد
(2)
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ)
(3)
.
وهي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد
(4)
.
(لَا لِعَانَ إِلَّا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَاللِّعَانُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ).
فهل الكافر من أهل الشهادة؟ وهل الفاسق من أهل الشهادة؟ واللّه - تعالى - يقول: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]،
= نعم إن جاؤوا إلينا ورضوا بأحكامنا حكمنا بينهم بحكم المسلمين".
يُنظر: "حاشيتا قليوبي وعميرة"(4/ 37) حيث قالا: " .. (وشرطه) أي الملاعن (زوج يصح طلاقه) بأن يكون بالغًا عاقلًا، وسواء الذمي والرقيق والمحدود في القذف والسَّكران وغيرهم".
(1)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (10/ 312) حيث يقول: "يصح اللعان من كل زوجين مكلفين سواء كانا مسلمين أو كافرين، أو الزوج مسلمًا والمرأة كافرة، أو الزوج كافرًا والمرأة مسلمة، أو محدودين في القذف، أو غير محدودين، أو حرين، أو رقيقين، أو أحدهما رقيقًا والآخر حرًّا".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 394) حيث قال: " .. (سواء كانا) أي الزوجان مسلمين أو ذميين، حرين أو رقيقين، عدلين أو فاسقين، أو محدودين في قذف، أو كان أحدهما أي الزوجين (كذلك) لعموم قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ".
(3)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 280) حيث قال: "لا بد أن يكون المتلاعنان من أهل الشهادة، لأن الركن فيه الشهادة" وقال أيضًا: " .. (وإن كان من أهل الشهادة وهي أمة أو كافرة، أو محدودة في قذف، أو كانت ممن لا يحد قاذفها) بأن كانت صبية أو مجنونة أو زانية، (فلا حد عليه ولا لعان)، لانعدام أهلية الشهادة". (4/ 283).
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 49) حيث يقول. "وعن أحمد رواية أخرى: لا يصح اللعان إِلَّا من زوجين مسلمين، عدلين، حرين، غير محدُودينِ في قذْفٍ".
وهل المملوك من أهل الشهادة؟ هو من أهل الرواية، لكنه ليس من أهل الشهادة.
فانظر - رعاك اللّه - إلى دقة تعليل الفقهاء.
بهذا يتبين وجهة نَظَرِ بعض العلماء الذين سموا هذا الكتاب كتاب (قواعد)، لأنك تَجِدُ أحيانًا في موضوع يرُدُّكُ إلى مسائل مضت أو مسائل ستأتي، وهذه هي طريقة القواعد فهي تربطك بفروع كثيرة وتعطيك إشارات إليها، ولذلك وصَفُوا القاعدة بأنها:(بمثابة سلك تنظم به عقدًا).
هذه هي القواعد فإن هذا السلك هو القاعدة وتُدْرَجُ تحته تلك الخرز الموجود في ذلك السلك، وهي تلكم المسائل التي تلحق بتلك القاعدة.
* قال: (وَحُجَّةُ أَصْحَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عُمُومُ قَوْله - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَرْطًا).
فالآية مطلقة ما ذكرت هذه الشروط التي ذكرها هؤلاء، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما حَكَم في اللِّعان لم يضعْ شُروطًا.
صحيح أن الذين جاؤوا بذلك كانوا عدولًا، وكانوا مسلمين أحرارًا؛ لكن هناك حاجة لبيان ما بيَّنَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو تعليل هؤلاء.
(وَمُعْتَمَدُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ)
(1)
وهي الرواية الأخرى للحنابِلَةِ
(2)
.
(1)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (10/ 5177) حيث يقول: "قال أصحابنا: اللعان شهادة أقيمت مقام [حلفهما بالله أكدت] باليمين".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 239) حيث يقول: "قوله (وهل اللعان شهادة، أو يمين؟ على روايتين)، وهذه المسألة من الزوائد. إحداهما: هو يمين، قدمه في الرعايتين. والثانية: هو شهادة".
* قال: (أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ، إِذْ قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ شُهَدَاءَ لِقَوْلِهِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ لِعَان إِلَّا بَيْنَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَكذَلِكَ الْكَافِرُ)
(1)
.
قصد المؤلف أن العبد لا يُحدُّ قاذِفه أي: قاذف العبد
(2)
.
ولا يحد أيضًا قاذف الكافر
(3)
، وكذلك أيضًا من طُبِّقَ عليه حدٌّ فرُمي.
أي: من أقيم عليه حد الزنا فقُذِفَ هل يحدُّ قاذفه أم لا؟ فيها خلاف
(4)
.
(1)
بهذا قال المالكية، يُنظر:"كفاية الطالب الرباني" للعدوي (2/ 328) حيث قال: " .. (ولا حد على قاذف عبد) أي جنسه الصادق بالذكر والأنثى (أو) قاذف (كافر) حر أو عبد؛ لأنه لا حرمة لعرضهما".
وبهذا قال الحنابلة، يُنظر:"مختصر الخرقي" لأبو القاسم الخرقي (ص: 134) حيث قال: "ومن قذف عبدًا أو مشركًا أو مسلمًا له دون العشر سنين أو مسلمة لها دون التسع سنين أدب ولم يحد".
وبهذا قال الأحناف، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 199) حيث قال: "ومن قذف عبدًا أو أمة أو كافرا بالزنا أو قذف مسلمًا بغير الزنا فقال: يا فاسق أو يا كافر أو يا خبيث عزر".
وبهذا قال الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيمي (8/ 211) حيث قال: " (قوله وهو مكلف) دخل فيه العبد والكافر فإنهما إذا زنيا لم يحد قاذفهما بعد الكمال".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 250) حيث قال: "ولا يجوز الحد في قذف عبد وبه قال فقهاء الأمصار".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 248) حيث قال: "ولم يختلفوا أن من قذف مملوكة أو كافرة إنه لا يحد للقذف، ويرى بعضهم التعزيز فيه للأذي".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 109) حيث يقول: " (لو)(زنا مقذوف) قبل حد قاذفه ولو بعد الحكم، بل ولو بعد الشروع في الحد كما هو واضح، (سقط الحد) =
إذًا القصد يحد هنا كلمة مجملة وقصده منها أن من قذف عبدًا أو كافرًا فلا حدَّ عليه.
(فَشَبَّهُوا مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ بِمَنْ يَجِبُ فِي قَذْفِهِ الْحَدُّ، إِذْ كَانَ اللِّعَانُ إِنَّمَا وُضِعَ لِدَرْءِ الْحَدِّ مَعَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَرُبَّمَا احْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ: الْعَبْدَيْنِ، وَالْكَافِرَيْنِ").
هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف لا يعرف، وإنما الذي يعرف من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أربع من النساء لا مُلاعنَة بينهن: النصرانية تحت المُسلم، واليهودية تحتَ المسلم، والحُرَّة تحت المملوك، والمملوكة تحت الحر"
(1)
.
هذا جاء في حديث عمرو بن شعيب الذي أخرجه ابن ماجة في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، والدارقطني في سننه، لكنه حديث ضعيف، أما اللفظ الذي ذكره المؤلف فغير معروف، فاللفظ الصحيح وهو الذي أورَدْنَا، وهو حديث عمرو بن شعيب لكنه ضعيف أيضًا.
وبذلك يصبح غيرَ حُجَّة ما دام أنه دليل ضعيف إذ أجمع أهل الجرح والتعديل بتصحيح الأحاديث وتضعيفها، وعلى ضعفه يصبِحُ حجة غيرَ واردة.
* قال: (وَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى شَهَادَةً، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْيَمِينِ فَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله - تَعَالَى -: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا
…
} [المنافقون: 1]
= عن قاذفه ولو بغير ذلك الزنا، لأن زناه هذا يدل على سبق مثله لجريان العادة الإلهية بأن العبد لا يهتك في أول مرة".
(1)
أخرجه ابن ماجة (2071)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(4127).
الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ:
(1)
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً .... } [المنافقون: 2]، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ لِعَان الْأَعْمَى
(2)
).
هذا لا خلاف فيه بإجماع العلماء.
وبهذا نتبين أن الرؤية ليست شرطًا، وكونهم أجمعوا على لعان الأعمى، فهذا يدل على أن الرؤية ليست شرطًا، وهذا يؤيد مذهب الجمهور وهو حجة على الذين قالوا بخلاف ذلك.
* قال: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَخْرَسِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ الْأَخْرَسُ إِذَا فُهِمَ عَنْهُ
(4)
(5)
، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُلَاعِنُ
(1)
المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 124) حيث يقول: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] فدل على أن اللعان شهادة والعبد والمحدود ليسا من أهلها، وأجيب بأن الاستثناء منقطع، والمعنى فيه: ولم يكن لهم شهداء غير قولهم".
والشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (10/ 377) حيث يقول: "اللعان يمين لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"، فدل على أن مطلق الشهادة لا يكونه يمينًا حتى تقترن بذكر اللّه".
والحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 49) حيث يقول: "أما تسميته شهادة، فلقوله في يمينه: أشهد باللّه. فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينًا".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 68) حيث يقول: "وأجمعوا أن [الأعمى] يلاعن، ولا تصح منه الرؤية".
(3)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 130) حيث قال: "يلاعن الأخرس بما يفهم منه من إشارة أو كتابة وكذلك يعلم قذفه".
(4)
يُنظر: "غاية البيان" للرملي (ص: 271) حيث قال: "ويلاعن الأخرس بإشارة مفهمة أو كناية كالبيع، فإن لم يكن له ذلك لم يصح قذفه ولا لعانه ولا غيرهما؛ لتعذر الوقوف على ما يريده".
(5)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 130) حيث قال: "يلاعن الأخرس بما يفهم منه من إشارة أو كتابة، وكذلك يعلم قذفه".
ويُنظر: "غاية البيان" للرملي (ص: 271) حيث قال: "ويلاعن الأخرس بإشارة مفهمة أو كناية كالبيع فإن لم يكن له ذلك لم يصح قذفه ولا لعانه ولا غيرهما لتعذر الوقوف على ما يريده".
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ
(1)
).
وكذلك أحمد
(2)
.
فالأخرس ربما يكون معلومَ الإشارة، وربما يكون غيرَ معلومٍ لكن الشُّبْهة قائمة، ولذلك ما أخذ بها الحنيفية والحنابلة ولم يفرِّقُوا.
وإن كان بعض أصحاب أحمد فصَّل القول في ذلك ففرَّق بين أن يكون مفهومَ الإشارةِ، وأن يكون غيرَ مفهوم الإشارة أي: أن تكون إشارتُه لها دلالة وبيْن أن تكون لا دَلالة لها
(3)
، لكن المعروف في المذهب كمذهب أبي حنيفة.
(وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْعَقْلَ، وَالْبُلُوغَ)
(4)
.
أي: أن يكون عاقلًا؛ لأن المجنون لا يطالب، فهو لا يطالب حال
(1)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 293) حيث قال: " (وقذف الأخرس لا يتعلق به اللعان) لأنه قائم مقام حد القذف وحد القذف لا يثبت إِلَّا بالصريح فكذلك اللعان".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 238) حيث يقول: "هل يصح لعان من اعتقل لسانه وأيس من نطقه بالإشارة؟ على وجهين".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 392) حيث قال: "قال في المبدع على المذهب: (وإذا فهمت إشارة الأخرس منهما أو كتابته صح لعانه بها) كالطلاق، ولدعاء الحاجة، (وإلا) أي: وإن لم تفهم إشارة الأخرس منهما ولا كتابته (فلا) يصح لعانه".
(4)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 80) حيث يقول: "اتَّفَقُوا على أن الزوج الصحيح عقد الزواج الحُرَّ المسلمَ العاقلَ البالغ، الذي ليس بسكرانَ ولا محدودٍ في قذف، ولا أخرس، ولا أعمى، إذا قذف بصريح الزنا زوجته العاقلة البالغة المسلمة الحرة، التي ليست محدودة في زنا، ولا قذف، ولا خرسى، وقذفها وهي في عصمته بزنا ذكر أنه رآه منها بعد نكاحه لها، مختارة للزنا، غير سكرى، وكان الزوج قد دخل بها ووطئها، أو لم يدخل بها ثم لم يطأها بعدما ذكر من اطلاعه على ما اطلع، ولم يطلقها بعد قذفه لها، ولا ماتت، ولا ولدت، ولا اتضح نكاحها فإن اللِّعان بينهما واجب".
الجنون، والأمر الآخر: أن العلماء يضيف إليه على اختلاف بينهم: الحرية أي أن يكون حُرًّا
(1)
، وأن يكون عدْلًا
(2)
، لكن المؤلف اقتصر على الوصفين لوجود الإجماع.
وبالنسبة لما قال بالعقل يقصد بذلك أن يكون عاقلًا، أما قَذْفُ الصغير الذي لا يدرك فلا أثرَ له، أمَّا الذي لم يبلغ بعدُ ففيه خلاف وهو مميز مدرك
(3)
.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
[الْفَصْل الثَّالِثُ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ]
* سيأتي المؤلف إلى صِفةِ اللِّعان، ووصْفِه، وبيانُه واضح في الكتاب العزيز وفي سُنَّةِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم.
* قال: (فَأَمَّا صِفَةُ اللِّعَان فَمُتَقَارِبَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ كبِيرُ خِلَافٍ).
وقوله: (متقاربة)، لأنها جاءت في الكتاب الحزيز، وسُنَّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تطبيقًا لما جاء في الكتاب، ولذلك العلماء يشدِّدُون في
(1)
يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 483) حيث يقول: "يشترط أيضًا: الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والنطق وعدم الحد في قذف، وهذه شروط راجعة إليهما".
(2)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (9/ 4358) حيث يقول: "أصله: العدل؛ ولأنها شهادة تختص بالنكاح فلا ينفيها الفسق، أصله: اللعان، يبين ذلك أن شرط الشهادة في الانعقاد من خصائص النكاح، واللعان من خصائصه".
(3)
يُنظر: "رد المحتار" ابن عابدين (3/ 486) حيث يقول: "لو كان صبيًّا، أو مجنونًا، أو أخرس فلا حد ولا لعان منح، لأن قذفه غير صحيح".
تغيير أيِّ لفظة، فلا يجعلون بدل اللَّعْن الطرد أو الإبعاد، ولا بدلَ الغضب السخط، وذلك من فضْلِ اللّه أنه كل ما زال الخلاف وارتفع واضمحَلَّ، فهذا شيء طيبٌ.
(وَذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ مَا تَقْتَضِيهِ أَلْفَاظُ الآيَةِ، فَيَحْلِفُ الزَّوْجُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهَا تَزْنِي، وَأَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ لَيْسَ مِنِّي، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
كما جاء في الآية، وأنه يوقف بعد الأربع ويُخَوَّف، ويُذَكَّرُ بأيام اللّه، ويبيَّنُ له أن هذه الدنيا مهما نالَ فيها من الآلام فما أسهْلَها بالنسبة لعذابِ الآخرَةِ.
(ثُمَّ تَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِنَقِيضِ مَا شَهِدَ هُوَ بِهِ).
أي: يشهد بهذه الشهادات المثبِتَة القوية بأنه حصل منها، وهي لا بُدَّ لها أن تَدْرأَ الحدَّ عن نَفْسها وتنفي ذلَك.
(ثُمَّ تُخَمِّسُ بِالْغَضَبِ هَذَا كلُّهُ مُتَّفَق عَلَيْهِ)
(1)
أي تُذكر في الخامسة بغضب اللّه كما قال - تعالى -: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9]، والغضبُ أشدُّ من اللَّعْن ولا شك؛ لأن
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 81) حيث قال: "واتفقوا أنه أن قال في اللعان: يوم الجمعة بعد العصر في الجامع، بحضرة الحاكم الواجب نفاذ حكمه باللّه الذي لا إله إِلَّا هو عالم الغيب والشهادة إني لصادق فيما رميت به فلانة زوجتي هذه، ويشير إليها وهي حاضرة من الزِّنا، وأن حمْلها هذا ما هو مِنِّي، ثم كرَّر ذلك أربع مرات، ثم قال الخامسة: وعلَيَّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين، فقد التعن وسقط عنه حد القذف. واتفقوا أن الزوجة إن قالت بعد ذلك: بالله الذي لا إله إِلَّا هو عالم الغيب والشهادة إن فلانًا زوجي هذا فيما رماني به من الزنا لكاذب، وكررت ذلك أربع مرات، ثم قالت في الخامسة: وعلَيَّ غضبُ اللهِ إن كان من الصادقين أنها قد التَعَنَتْ ولا حدَّ عليها، وأن الولد قد انتَفَى حينئذ عنه في الفرقة فيها".
الغضب معناه: سَخَطُ اللّهِ سبحانه وتعالى وعدم رِضاهُ عمَّن يفعل فعلًا من الأفعال المغضبة.
* أما اللعن: فهو الطرد والإبعاد من رحمة اللّه؛ لأن الرجل إذا فعل ذلك كان هو أولَّ من أساءَ إلى نفسه وإلى أهله.
* قال: (وَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ مَكَانَ اللَّعْنَةِ: الْغَضَبَ، وَمَكَانَ الْغَضَبِ: اللَّعْنَةَ).
* اللعنة جاءت فيما يخصُّ الرجل عندما يأتِي إلى الخامِسَةِ كما في الآية: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} [النور: 7]. فهل له أن يبدلها بكلمة الغضب التي هي مقولة المرأة؟
جماهير العلماء يقولون: لا يجوز، بل ينبغي الوقوف عند نص الآية
(1)
.
وبعضهم يقول: هي أشد فيجوز، لكن هذا رأي ضعيف.
وهل هي أن تبدل الغضب باللعنة؟ الجواب: لا
وهل له أو لها أن يستبدل أحدهما أشهد بكلمة أحلف أو أقسم؟
كذلك أيضًا قالوا: لا يجوز. فينبغي أن يوقف عند نص الآية ولا يتجاوز ذلك.
(1)
المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 131) حيث يقول: "لا يجزئ لو أبدل الرجل اللعنة بالغضب أو المرأة الغضب باللعنة".
الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (10/ 345) حيث يقول: "فلو أتت المرأة بدل الغضب بلفظ اللعنة ولم يعتد به، ولو أتى الرجل بدل اللعن بلفظ الغضب فيه وجهاد أحدهما: لا يعتد به لأنه عدل عن المنصوص عليه فأشبه إبدال الغضب باللعن، والثاني: يعتد به لأن الغضب يتضمن معنى اللعن ويزيد عليه، فإن اللعن هو الطرد والإبعاد وكل مغضوب عليه مطرود".
الحنابلة يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (3/ 180) حيث يقول: "أو أبدلها بالغضب أو الإلعاد، أو أبدل أحدهما الفظ أشهد بأقسم أو أحلف) لم يصح لمخالفة النص".
(وَمَكَانَ أَشْهَدُ: أُقْسِمُ).
أقسم وأحلف ونحو ذلك، أو كذلك هل له أن يبدل بَدَلَ اللعنة كأن يقول: أبعدني اللّه ونحو ذلك؟ قالوا: لا يجوز.
وهي كذلك هل لها أن تأتي بدل الغضب بالسخط؟ هذا كله ذكره العلماء.
(وَمَكَانَ قَوْلِهِ بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ؟).
كأن يذكر الرحمن أو العزيز؟
الجواب: لا يجوز؛ بل يوقف عند نص الآية هذا هو الذي ينبغي أن يكون.
(وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذه الألْفَاظِ أَصْلُهُ عَدَدُ الشَّهَادَاتِ).
أي: أصله عدد الشهادات التي وردت في الآية.
(وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ)
(1)
.
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 81) حيث يقول: "اتفقوا أنه أن قال في اللعان يوم الجمعة بعد العصر في الجامع بحضرة الحاكم الواجب نفاذ حكمه بالله
…
".
ذهب إلى ذلك المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (13314) حيث قال: "وشرط فيه ابن الحاجب أن ترفعه للحاكم قال في التوضيح: فإن لم ترفع فلا لعان؛ لأن ذلك من حقها، ثم إن لم يبلغ رميه لها الحاكم فلا كلام، وإن بلغه حد إِلَّا أن يلاعِنَ، وقال إبن عبد السلام: وشرط فيه أن ترفعه للحاكم، فلو لم ترفعه فلا لعان عليهما".
وذهب إليه الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (8/ 220) حيث قال: "ولا بد من حضور الحاكم، ويكفي السيد في رقيقه ذكرًا كان أو أنثى".
وذهب إليه الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (9/ 240) حيث قال: "أن من شرط صحة اللعان: أن يكون بحضرة الإمام أو نائبه".
قالوا إن اللعان لا يجوز إِلَّا بحضور الحاكم فهو الذي يأمر بذلك، فالذي أمر بذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إمام المسلمين، وهو قائدُهم في ذلك، وهو قاضيهم ومفتيهم.
وقالوا: لكن يجوز أن يقيم مقامه نائبًا، لأنه قد يتعذَّر.
* وخالف الشافعية فيما يتعلق باللعان بين العبد والأمة بالنسبة للسيِّد، فهل له أن يلاعن بينهما؟
قال الشافعية: يستثنى من ذلك اللعان بين العبد والأمة فللسيد أن يلاعن بينهما
(1)
.
والجمهور قد ردوا ذلك فقالوا: ولا دليل على ذلك بالنسبة للشافعية.
[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ نُكُولِ أحَدِ اللاعنين أَوْ رُجُوعِهِ]
قال المصنف رحمه اللّه تعالى: (الْفَصْلُ الرَّابعُ فِي حُكْمِ نُكُولِ أَحَدِهِمَا أَوْ رُجُوعِهِ).
بن النكول هو: الامتناع والرجوع
(2)
فبعد أن يشرعَ في اللعان يتراجع وربما يُتِمُّه فيرجع أيضًا، فمثلًا يأتي الزوج فيبدأُ باللِّعانِ ثم بعد ذلك يتراجع، وربما ينتهي ويفرغ ثم يكذب نفسه، كذلك الحال بالنسبة للمرأة، فربما إذا فرغ الزوج من اللعان تأباه، وتمتنع عن ذلك، فهذا يسمى:
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (8/ 217) حيث قال: " .. (ويشترط فيه) أي: في صحة اللعان (أمر القاضي)، أو نائبه أو المحكم أو السيد إذا لاعن بَيْنَ أَمَتِهِ وعَبْدِهِ".
(2)
يُنظر: "العين" للخليل (5/ 372) حيث يقول: "النكول عن اليمين: الامتناع منها".
النكول والرجوع، وهو أن يقول ثم يرجع عنه، فهل الحكم يختلف، لو أن الزوج رمَى المرأة ثم بعد ذلك تراجع أيقام عليه الحد أم لا؟ ولو امتنعت المرأة عن اللعان فهل يقام عليها الحد أم لا؟ هذا فيه خلاف، فالصور مختلفة لأن الرجل قد رمَاها بالزنا، أمَّا هي فلو امتَنَعَتْ فيه خلاف بين العلماء كما سيأتي.
(فَأَمَّا إِذَا نَكَلَ الزَّوْجُ: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ يُحَدُّ)
(1)
.
* يُحَدّ كما في نص الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النور: 4، 5].
* فالآية الأولى جاءت في هذا الحكم عامة، والآية الثانية نزلت في الأزواج خاصة؛ ليكون ذلك فَرَجًا ومخرجًا للأزواج كما عرفَ القصة في ذلك، وسبب النزول، لأن الإنسان يقف موقفًا حَرَجًا أن يجد الرجل رجلًا مع امرأته فيرى المنكر ولا يستطيع أن يقتل الرجل، لأنه لو قَتَلَ قُتِلَ، ولو أنه قذف سيجلد، ولو أنه سكتَ على غيظٍ وألم، فهذا منكرٌ وكبيرة يراها فماذا يفعل؟ فقد جعل اللّه تعالى له هذا المخرج فرجًا وطريقًا للأزواج ليخرج منه، فإذا ما قذف الرجل المرأة ثم رجع فهو بذلك شهَّرَ بها ورماها بالزنا، فيحتاج إلى أن يؤدَّب على ذلك.
(1)
المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (5/ 467) حيث قال: "وإن نكَل الزوج حُدَّ حَدَّ القَذف".
والشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (8/ 228) حيث قال: "فإن أبَى أي من إنشاء القذف ثم اللعان حد أنه يسقط باللعان حد الفذف الأول أيضًا، وقد يصرِّح به قول المنهج مع شرحه ويلاعن لنفيه، وتسقط عقوبة القذف عنه بِلعانه فإن لم ينشئ عوقب".
والحنابلة، يُنظر:"الإقناع"(4/ 102) حيث قال: "فإن نكل عن اللعان أو عن تمامه فعليه الحد"، ويُنظر:"شرح الزركشي"(5/ 511).
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَيُحْبَسُ
(1)
. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عُمُومُ قَوْله - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْأَجْنَبِيِّ، وَالزَّوْجِ، وَقَدْ جَعَلَ الالْتِعَانَ لِلزَّوْجِ مَقَامَ الشُّهُودِ).
الجمهور يرون: أنه لو نكَلَ يُرجع إلى الآية الأولى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
…
(4)} فهو مما رَمَى المحصنات، إذًا يتطبق عليه الحد فيجلد حد القذف ثمانين جلدة.
* قال: (فَوَجَبَ إِذَا نَكَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَذَفَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُود - أَعْنِي: أَنَّهُ يُحَدُّ - وَمَا جَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِنْ قَتَلْتُ قُتِلْت، وَإِنْ نَطَقْتُ جُلِدْت، وَإِنْ سَكَتُّ سَكَتُّ عَلَى غَيْظٍ").
جاء بالقصة فلو أن رجلًا رأى رجلًا مع امرأته: "إن قتل تقتلونه" كما في بعض الروايات، "وإن تكلم جُلِدَ، وَإن سَكتَ سكتَ على غَيْظٍ" كما جاء في هذه الرواية.
(وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ آيةَ اللِّعَانِ لَمْ تَتَضَمَّنْ إِيجَابَ الْحَدِّ عَلَيْهِ عِنْدَ النُّكُولِ).
فآية اللعان جاءت خاصة لإخراج الأزواج من الحرج الذي يقعون فيه، لكنه إذا رمى ولم يلعن يعود إلى الآية الأولى التي قبلها فيعامل كغيره بل إن قذف الرجل بامرأته دون بيِّنة أشد من أن يأتي بإنسان من الخارج فيقذفها.
(وَالتَّعْرِيضِ لإِيجَابِهِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عِنْدَهُمْ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ
(1)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (28114) حيث قال: "فإن امتنع الزوج عن اللعان حبسه الحاكم حتى يلاعن أو يكذب نفسه لأنه حق مستحق عليه، وهو قادر على إيفائه فيحبس به، حتى يأتي بما هو عليه أو يكذب نفسه ليرتفع السبب".
لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ
(1)
، قَالُوا: وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَ الْحَدُّ لَمْ يَنْفَعْهُ الالْتِعَان، وَلَا كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِهِ، لِأَنَّ الالتِعَانَ يَمِين فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْحَدُّ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ. وَالْحَقُّ أَنَّ الالتِعَانَ يَمِينٌ مَخْصُوصَة).
الكلام الذي ذكره المؤلف صحيح، فهو يمين لكنها يمين خاصة قُصد بها التَّفْرِيج ورفع الكرب والشدة عن الأزواج إذا وقفوا في مثل ذلك الموقف.
(فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ، وَقَدْ نُصَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّ الْيَمِينَ يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ).
فالآية هي: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)} [النور: 8]، هذا نص الآية بالنسبة للمرأة.
* قال: (فَالْكَلَامُ فِيمَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي يَنْدَرِئُ عَنْهَا بِالْيَمِينِ، وَلِلاشْتِرَاكِ الَّذِي فِي اسْمِ الْعَذَابِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا).
* قَصَدَ بالاشتراك
(2)
: أن اللّه - تعالى - قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]، فكلمة العذاب كلمة عامة، والعذاب المراد به الحد كما هو الظاهر، أو المراد به الحبْسُ، أو المراد أمر آخر؛ لأن الحدود أنواع منها: ما هو حد ومنها: التعزير، وهناك ما يلحق بعض الحدود وهو التغريب بالنسبة للبِكْرِ الزَّاني.
(1)
هذا مذهب الأحناف في أن الزيادة على النص نسخ خلافًا للجمهور، يُنظر:"أصول السرخسي"(1/ 112) حيث يقول: "لأن الدلالة قامت لنا على أن الزيادة على النص نسخ فلا يثبت إِلَّا بما يثبت النسخ به، والنسخ لا يثبت بخبر الواحد، فكذلك لا نثبت الزيادة فلا يكون موجبًا للعلم بهذا المعنى، ولكن يجب العمل به لأن في العمل تقرير الثابت بالنص لا نسخ له، إِلَّا أن هذا يشكل على بعض الناس قبل التأمل".
(2)
يُنظر: "الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة" لأبي يحيى زكريا الأنصاري (ص: 80) حيث قال: "المشترك اللفظي ما وضع لمعنيين فأكثر كالقرء للطهر والحيض".
إذًا: كلمة العذاب لفظ مشترك، ربما يقصد بها الحد وهو الظاهِر، وربما يقصد بها غير الحد كالحبس مثلًا.
(فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهَا إِذَا نَكَلَتْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَمَالِكٌ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَالْجُمْهُورُ
(4)
: إِنَّهَا تُحَدّ، وَحَدُّهَا الرَّجْمُ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا وَوُجِدَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَالْجَلْدُ
(5)
).
المؤلف قد وَهِمَ في مذهب أحمد رحمه الله فليس أحمد
(6)
مع هؤلاء، وإنما هو مع أبي حنيفة، ومن هنا انقسم الأئمة الأربعة إلى قسمين.
بل إنه قول المؤلف ولا يأخذ عليه أنه في مذهب الشافعية، فمن كبار الأئمة من خالفوا إمامهم.
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (9/ 113) حيث قال: "إذا قذفها الزوج ولاعن ولم تلاعن، هي فإنه يجب عليها الحد".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (5/ 467) حيث قال: "إن نكلت المرأة عن اللعان حُدَّتْ حدَّ الزنا".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 249) حيث يقول: "إذا لاعن الزوج، ونكلت المرأة: فلا حد عليها، على الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، حتى قال الزركشي: أما انتفاء الحد عنها: فلا نعلم فيه خلافًا في مذهبنا، وقال الجوزجاني وأبو الفرج والشيخ تقي الدين رحمه الله:(عليها الحد، قال في الفروع: وهو قوي).
(4)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 509) حيث يقول: "وقال مالك والحسن بن حي والليث والشافعي: أيهما نكل حُدَّ للفذف، وإن نكلت هي حُدَّت للزنا".
(5)
بهذا قال المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 467) حيث قال: "إن نكلت المرأة عن اللعان حدت حد الزنا".
وبهذا قال الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (9/ 113) حيث قال: "إذا قذفها الزوج ولاعن ولم تلاعن هي، فإنه يجب عليها الحد".
(6)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 102) حيث قال: "وإن لاعن ونكلت عن اللعان فلا حدَّ عليها، وحبست حتى تقر أربعًا أو تلاعن".
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا نَكَلَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَبْسُ حَتَّى تُلَاعِنَ)
(1)
.
وهذه رواية عند أحمد، والرواية الآخرى أخف من ذلك وهي: أن يتُرَكَ أمرَهَا؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله له وقفات في هذا المقامِ يقول: "هي لو لم تُلاعِنْ فلا أستطيع أن أقيم عليها الحد، بل لو اعترفتْ بالزِّنَا ثم رجعت لا أقيم عليها الحد، فكيف وهي من الأصل قد امتنعت؟ ". والأحاديث الواردة في هذا كثيرة، وهي بمجموعها أحاديث صحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم:"ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم"
(2)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات"
(3)
، وعمر رضي الله عنه طبَّق ذلك في زمَنِهِ رضي الله عنه كما في عام الرماده في قصة الذي سرَقَ، فإن عمر رضي الله عنه لم يطبق الحدَّ، ولذلك أمثلة كثيرة في الشريعة الإسلامية، وهذا يدل أيضًا على خُصوبة هذه الشريعة، وعلى شُمُولِها، وعلى مراعاتها لمصالح الناس، وأنها تسير مع الحياة في كل زمان ومكان، فإنها تضع العلاج الشافي الذي يزيل الداء ويقيم محله الشفاء.
قال: (وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ")
(4)
.
* علل الفقهاء ذلك فقالوا: من النساء من يمنعها الحياء وبمثل ذلك يغفِرُها الحياء، إذًا هذه شبهة قد يكون الخجَلُ يمنعها من أن تنطق بمثل ذلك الكلام حتى ولو لم يكن حياء فالأمر ليس متيقنًا، والرسولُ صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: "لا يَحِلّ دمُ امرئ مسلِمٍ إِلَّا بإحدى ثلاث:
(1)
يُنظر: "مجمع الأنهر" لشيخي زاده (1/ 457) حيث قال: " .. (فإن أبت) المرأة عن اللعان (حبست) عندنا (حتى تلاعن أو تصدقه) ".
(2)
أخرجه الترمذي (1424) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الألباني في "إرواء الغليل" (8/ 205):"هو ضعيف مرفوعًا وموقوفًا، فإن مداره على يزيد بن زياد الدمشقي وهو متروك".
(3)
لم أقف عليه بهذا اللفظ.
(4)
أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676)، من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه.
الزَّانِي بالزاني، والنَّفْس بالنفس، والتارك لدِينِه المفارق للجماعة
(1)
". فالمحصَنُ يُرجَمُ حتى يموت، ومن يقتل نفسًا كذلك، والمقصود بذلك الذي يقتل نفسًا بغير حق فيُقتلُ قِصاصًا، والمرتَدُّ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من بدَّل دينه فاقتلوه
(2)
". وكذلك أيضًا الساحر فإن حدَّهُ أن يضربَ بالسيف.
* قول: (
…
زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ كفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ"، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَفْكَ الدَّمِ بِالنكُولِ حُكْمٌ تَرُبٌّ الْأُصُولُ).
وهذا كلام جيد فالمؤلف يريد أنْ يقول: سفك الدماء ليس من الأمور اليسيرة، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبيَّن عظمة بيته الحرام وهي الكعبة، فإن دم المسلم أعظم عند اللّه من ذلك.
فالمؤلف سيتناول هذه القضية بأنه لا يبادر إلى إزهاق نفس مسلم وقتلها دون أن يكون الأمر واضحًا.
* قول: (فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُونَ غُرْمَ الْمَالِ بِالنُّكُولِ فَكَانَ بِالْحَرِيّ ألَّا يَجِبَ بِذَلِكَ سَفْكُ الدِّمَاءِ).
مِنْ هؤلاء الفقهاء (الشافعية)، لأن الشافعي هو الذي يقيم عليه الحجة
(3)
، أما (مالك) فلا تقام عليه الحجة في هذه القضية
(4)
.
(وَبِالْجُمْلَةِ فَقَاعِدَةُ الدِّمَاءِ مَبْنَاهَا فِي الشَّرْعِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ إِلَّا بِالْبَيةِ الْعَادِلَةِ، أَوْ بِالاعْتِرَافِ).
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (3017) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
لم أقف عليه.
(4)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (7/ 240) حيث يقول: "فإن المدعي يحلف ويثبت حقه بالنكول والحلف، فإن نكل المدعي عن اليمين فلا شيء له على المقر له، وليس له حينئذ تحليف المقر، قاله ابن عبد السلام".
لا شك في ذلك فلا تُزال ولا تُزهق الأرواح إِلَّا ببينةٍ واضحةٍ.
(وَمِنَ الْوَاجِبِ أَلَّا تُخَصَّصَ هَذه الْقَاعِدَةُ بِالاسْمِ الْمُشْتَرَكِ).
والاسم المشترك كلمة العذاب، {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} ، فهل العذاب هو الحد؟ كما أخذ به بعض العلماء، أو أن المراد به غير ذلك كالحبس مثلًا ونحو ذلك؟ إذًا: الاحتمال قائم حتى وإن كان الأظهر أنه ينصرف إلى الحد، لكن قام الاحتمال الآخر (وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال) فهذه شبهة فكيف تذهب نفس لوجود شبهة؟
قال: (فَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذه الْمَسْأَلَةِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)
(1)
.
لأن حقن دمها أقرب إلى مأخذ الشريعة فَدَرْءُ الحدِّ عنها أقرب إلى مأخذ الشريعة، فالشريعة لا تأخذ في مثل هذه الأمور بالشُّبَهِ، وإنما تأخذ بالبَيِّناتِ الواضحة.
فيرى أن المذهب المخالف لمذهبه هو أقرب إلى روح الشريعة وإلى لُبِّها.
(وَقَدِ اعْتَرَفَ أَبُو الْمَعَالِي فِي كتَابِهِ الْبُرْهَانِ
(2)
بِقُوَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذه الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ شَافِعِيٌّ).
أي أنَّ أبا المعالي شافعيٌّ معروفٌ من أئمة الشافعية، وأبوه كذلك أيضًا لكن أولئك العلماء الأعلام إذا تبيَّن لهم الحقُّ لا يأخذهم التعصُّب لمذهب ولا الوقوف عند هذا المذهب الذي ترعرع فيه ونشأ وحفظ، ما
(1)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (10/ 5164) حيث يقول: "إن العذاب المعرف لو رجع إلى الحد الذي ظنوه لقال: ويدرأ عنهما عذابهما، لأن التعريف إذا رجع إلى ما تقدم صار المتقدم كالمذكور، ونحن نعلم أن حد الزَّانِيَيْن لا يجوز أن يجب عليهما، فبطل أن يرجع العذاب إلى المعرف".
(2)
يُنظر: "البرهان في أصول الفقه" للجويني (2/ 216) حيث يقول: "إنا لا نجد بُدًّا من الخروج عن قانون الحجج فالاستمساك بظاهر القرآن العظيم أقرب وحمل العذاب على الجنس بعيد، وبالجملة نفي إيجاب الحد وتغليب حقن دمها أقرب عندي إلى مأخذ الشريعة".
دام يرى أن الحقَّ في غيرِهِ، وهنا ليست المسألة جَلِيَّة بالنسبة لمخالف ومع ذلك أخذ بها إمامُ الحرمين، لأنه رأى أنه في هذا القول حفظ للدماء، وبما أن الشريعةَ حريصةٌ على حفظ أموال الناس ودمائهم كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا
…
"
(1)
، لكن لا شك أن حُجَّةَ الفريق الآخر من حيث أن المراد بالعذاب إقامة الحد لكن الشبهة قائمة، والشبهة يُدْرَأُ بها الحدّ، وهذا ماعزٌ لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعترف بالزِّنا فانصرف عنه صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى جهة أخرى، وهو يقول:"لعلك قبَّلت، لعلك فاخَذْتَ"، ثم يسأل عنه "أبه جنون!! أبه بأس!! " ثم يتعمق معه فيما عمل وفي غيره من القضايا، هذا هو منهج الإسلام في مثل هذه الأمور.
إذًا رأى إمام الحرمين أنه الأحوط في ذلك فرأى أن هذا أقرب إلى مأخذ الشريعة ولُبِّها.
(وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ إِنْ كَانَ نَفَى وَلَدًا
(2)
).
هذا مما ليس فيه خلاف بين العلماء، ولكنَّهم اختلفوا في النُّكول، أما هنا فإنه أكذب نفسه لأنه افترى على هذه المرأة وقذفها وأساء إليها وإلى سمعتها ورماها بفاحشة عظيمة فينبغي أن يأدب على ذلك، وإن كان زوجًا، فينبغي أن يَرْعى تلك العلاقة التي نظمها الله سبحانه وتعالى وأقامها بين الزوجين فقال تعالى:{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
لكنه نسي ذلك أو تناساه فأساءَ إلى سُمْعتها وإلى سمعةِ أهلها، وربما يتردَّد الناس في الكلام فيها، وإذا كان من الناس من يقول أمورًا لا تقع، فما بالكم والرامي إنما هو الزوج، وهذه قصة عائشة وأهل الإفك وكيف افتروا ذلك وأن المنافقين استَغَلُّوا ذلك وسَرَوا في ذلك الأمر ونشَرُوه كما
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 69) حيث يقول: "وإن أكذب نفسه حُدَّ ولحقه الولد ولم يتراجعا، وهي السُّنَّةُ التي لا خلاف فيها".
تسري النار في الهشيم، لكن اللّه سبحانه وتعالى فضحهم في كتابه العزيز.
(وَاخْتَلَفُوا: هَلْ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ جُمْهُورِهِمْ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تجِبُ بِاللِّعَان، إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِحُكْمِ حَاكلمٍ عَلَى مَا نَقُولُهُ بَعْدُ
(1)
، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَدَاوُد، وَأَحْمَد، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: إِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ
(2)
).
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما وقال: "لا سبيل لكَ عليها، وحِسَابكما على اللّه"
(3)
. ولا شك من أن الذي سيحاسبه هو اللّه سبحانه وتعالى فهو الذي سيحاسب كل إنسان على عمله إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وبيَّنَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن أحدَهُما كاذبٌ؛ لأنه لا يمكن أن يكون كلاهما صادقًا، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإنما يعلم ما ينزل عليه من اللّه سبحانه وتعالى بواسطة جبريل، ففرق بينهما في هذا المقام.
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ
(5)
: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ الْحَدَّ، وَكَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ).
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 69) حيث يقول: "وأجمعوا أن المتلاعنين لا يقيمان زوجين، ولكن يقع الطلاق إما باللعان وإما بتفريق القاضي بعده، على ما يختلف الفقهاء في ذلك، إِلَّا عثمان بن سليمان البتي فإنه قال: هُما على النكاح، ولا يعمل فيه اللعان فرقة ولا تفريق القاضي".
(2)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (5/ 334) حيث يقول: "وجاءت الأخبار عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب بأن المتلاعنين لا يجتمعان أبدًا، وبه قال الحسن البصري، وعطاء، والزهري، والنخعي، والحكم، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، ويعقوب". وانظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 69).
(3)
أخرجه البخاري (5312)، ومسلم (1493) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 288) حيث يقول: " (وهو خاطب إذا أكذب نفسه) عندهما. وقال أبو يوسف: هو تحريم مؤبد".
(5)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (5/ 334) حيث يقول: "وفيه قول ثان: وهو أنه إذا أكذب نفسه جلد الحد، وكان خاطبًا من الخطاب، هذا قول ابن المسيب، والنعمان".
* يرى أبو حنيفة أن هناك عقوبة وهو أن يجلد كغيره من القاذفين، وإذا جلد وأقيم عليه الحد فإنه حينئذٍ له أن يتقدم كغيره خطيبًا لها.
* وأولئك يقولون: اللعان فرقة مؤبدة حتى ولو أكذب نفسه.
(وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ
(1)
: تُرَدُّ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا" وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَأَطْلَقَ التَّحْرِيمَ).
هذا جزء من حديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما وهو حديث متفق عليه والذي أشرت إليه: "حسابكما على اللّه، وأن أحدكما كاذب، ولا سبيل لك عليها". فقال الرجل: ما لي يا رسول اللّه! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا مال لك إن كنت صادقًا فمالك بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذبًا فذاك أبعد لك".
* قال: (وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّهُ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ اللِّعَانِ، فَكَمَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ كَذَلِكَ تُرَدُّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّحْرِيمِ إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ بِتَعْيِينِ صِدْقِ أَحَدِهِمَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ، فَإِذَا انْكَشَفَ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ).
يرى أصحاب القول الثاني: أنه إذا أكذب نفسه بطل لعانُه فتُردُّ عليه امرأته؛ إذْ أنه يُلحق به ولده فكذلك امرأته؛ لأنَّ السبب في تحريم أحدهما على الآخر، إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما، فالمعلوم المقطوع به أنَّ أحدهما كاذبٌ، فإذا عُرِفَ سبب التحريم وظهر ارتفع التحريم بينهما فتُردُّ عليه زوجته. هذه حجتهم.
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (5/ 334) حيث يقول: "وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا أكذب نفسه جُلِدَ الحدَّ، وتُرَدُّ إليه امرأته ما دامت في العدة، روي هذا القول عن سعيد بن جبير".
[الْفَصْل الْخامِسُ فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِتَمَامِ اللِّعَانِ]
ما هي الأحكام اللازمة لكي يتم اللعان؟
* قال: (فَأَمَّا مُوجِبَاتُ اللِّعَان: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا: هَلْ تَجِبُ الْفُرْقَةُ أَمْ لَا؟).
فهل تجب الفرقة بمجرد اللعان أم لا؟ وهل الفرقة فسخ أم طلاق؟ كل هذا سيأتي.
(وَإِنْ وَجَبَتْ فَمَتَى تَجِبُ؟ وَهَلْ تَجِبُ بِنَفْسِ اللِّعَان أَمْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ؟
أي: هل تجب بلعان الزوج وحده؛ لأنه هو الذي يطلق؟ أم بتمام اللعان حتى تفرغ المرأة؟ أم لا بد من حكم الحاكم بأن يفرق بينهما كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا سبيل لك عليها"
(1)
؟
(وَإِذَا وَقَعَتْ فَهَلْ هِيَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِاللِّعَان
(2)
لِمَا اشْتَهَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَان" مِنْ أَنَّ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (4/ 139) حيث قال: "والثلاث التي على لعانها سقوط الحد عنها، والفراق، وتأبيد حرمتها".
الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب للشربيني (5/ 71) حيث قال: " (ويتعلق بلعانه) أي الزوج وإن لم تلاعن الزوجة أو كان كاذبًا (فرقة) ".
الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 402) حيث قال: "الحكم (الثاني الفرقة بينهما ولو لم يفرق الحاكم) بينهما لقول ابن عمر: المتلاعنان يفرق بينهما".
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
(1)
"، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ فِيمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْهُ فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ)
(2)
.
هو ابن شهاب الزُّهري، كما جاء في بعض الروايات.
(وَلقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا
(3)
"، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيّ، وَطَائِفَة مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: لَا يَعْقُبُ اللِّعَانَ فُرْقَةٌ
(4)
، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ آيَةُ اللِّعَان، وَلَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ)
(5)
.
هو طلقها لأنه تعجل في ذلك وقال: "أكون كاذبًا إن أمسكتها هي طالق ثلاثة
(6)
". هكذا فعل ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمره بذلك.
(أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا شُرعَ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ، فَلَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمًا تَشْبِيهًا بِالْبَيِّنَةِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّقَاطُعِ، وَالتَبَّاغُضِ"، وَالتَّهَاتُرِ).
(1)
منها ما أخرجه البخاري (4748) واللفظ له، ومسلم (1494) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه:"أن رجلًا رمى امرأته فانتفى من ولدها في زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا، كما قال اللّه، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرق بين المتلاعنين".
(2)
كما عند البخاري (5259)، ومسلم (1492).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 69) حيث يقول: "وأجمعوا أن المتلاعنين لا يقيمان زوجين، ولكن يقع الطلاق إما باللعان وإما بتفريق القاضي بعده، على ما يختلف الفقهاء في ذلك، إِلَّا عثمان بن سليمان البتي فإنه قال: هما على النكاح، ولا يعمل فيه اللعان فرقة ولا تفريق القاضي".
(5)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (10/ 340) حيث قال: "وحكي عن عثمان البتي أنه قال: لا يتعلق باللعان الفرقة أصلًا، وروي عنه أنه يؤمر بالطلاق بعد اللعان، واحتج بان العجلاني طلق امرأته بعد اللعان فأنفذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طلاقه".
(6)
سبق تخريجه.
لا شك أنه لا أشد من هذا التقاطع، وهذا التهاتر وهذا الخلاف والتنازع وهذا القذف الذي حصل.
ثم قوله تعطيل حدود اللّه، أي: لو أن أحدهما اعترف بالحق يقام عليه الحد.
إذًا أحدهما كاذب بلا شك، فهذا اللعان لدرء الحد عنهما.
وتعطيل الحدود ليس من الأمور السائغة في الشريعة "لحدٌّ يُقام في الأرض خيرٌ من أن يمطَرَ الناس أربعين ليلة
(1)
" فهذه الحدود إنما وضعت زواجر ورَوادِع ليرتَدِعَ أصحاب النفوس الضعيفة عن ارتكاب الفواحش، وعن التجاوز، وعن التعدي على حقوق الآخرين.
(وَإِبْطَالِ حُدُودِ اللَّهِ مَا أَوْجَبَ ألَّا يَجْتَمِعَا بَعْدَهَا أَبَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ). لأن اللّه تعالى يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فزالت هذه المودة، وذهبت الرَّحمة وحَلَّ محلها البَغضاءُ والكُره والتقاطع والتهاتر.
* قال: (وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَدِمُوا ذَلِكَ كُلَّ الْعَدَمِ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَتُهُمَا الْفُرْقَةَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُبْحُ الَّذِي بَيْنَهُمَا غَايَةُ الْقُبْحِ).
فالنفوس قد امتلأت غيظًا وكرهًا وبغضًا فلا أصبحت صالحة؛ لأن يعود بعضهما لبعض، لقول القائل:
إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدُّها
…
مثلُ الزجاجةِ كَسرُها لَا يُجبرُ
(2)
(1)
أخرجه ابن ماجة (2538) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "حد يعمل به في الأرض، خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا"، وحسنه الألباني يُنظر:"السلسلة الصحيحة"(231) حيث قال: "الحديث حسن لغيره".
(2)
هو بيت من القصيدة الزينبية لصالح بن عبد القدوس يُنظر: "جواهر الأدب في أدببات وإنشاء لغة العرب" للهاشمي (2/ 427).
فإذا تباعدت النفوس وجدت البغضاء، وحلَّت محل المحبة، وقام الكُره والعداوة مقام الرضا والسعادة التي كانت ربما تسود بينهما.
* قال: (وَأَمَّا مَتَى تَقَعُ الْفُرْقَةُ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَاللَّيث، وَجَمَاعَةٌ
(2)
: إِنَّهَا تَقَعُ إِذَا فَرَغَا جَمِيعًا مِنَ اللِّعَانِ).
وهي رواية للإمام أحمد أيضًا
(3)
.
فبعد أن يلاعن الزوج ثم بعد ذلك تقوم الزوجة فتلاعن فإذا فرَغَا تقع الفُرْقة بينهما
(4)
.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
: إِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ لِعَانَهُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ).
* ويرى الشافعي: أن اللعان يتم بمجرد فراغ الزوج من اللعان سواء لاعنت زوجته أم لم تلاعن، لأنه يرى أن الطلاق بيد الزوج فإذا لاعن انتهى الأمر.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 135) حيث يقول: "ثلاثة مرتبة على لعان الزوجة، أولها: رفع الحد عنها، ثانيها: فسخ نكاحها اللازم، ثالثها: تأبيد حرمتها".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 52) حيث يقول: "قال مالك وربيعة والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وداود: إن الفرقة تقع بلعان الزوجين ولا تقع بلعان أحدهما".
(3)
يُنظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار (4/ 379) حيث يقول: "يثبت بتمام تلاعنهما أربعة أحكام
…
الحكم الثاني: الفرقة ولو بلا فعل حاكم .. ".
(4)
قول المالكية، يُنظر:"كفاية الطالب" لأبي الحسن (2/ 110) حيث قال: "وتقع الفرقة بينهما بتمام لعانهما ولا يحتاج إلى حكم حاكم".
وقول الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (3/ 183) حيث قال: "فصل ويثبت بتمام تلاعنهما أربعة أحكام
…
إلى أن قال: "الحكم (الثاني: الفرقة) بين المتلاعنين".
وقول الليث: يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 505) حيث قال: "وقال مالك والليث وزفر: إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم".
(5)
قول الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (7/ 484) حيث قال: "أحدها: وهو مذهب الشافعي أنه بلعان الزوج وحده تقع الفرقة".
* (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: لَا تَقَعُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكمٍ).
وهي الرواية الأخرى للإمام أحمد
(2)
.
لأن الحاكم هو الذي يحسم ذلك، واللعان كما أشرنا قبل قليل لا يخلو إما أن يكون يمينًا أو شهادةً واليمين أو الشهادة إنما تُؤدَّى بحضور الحاكم.
فهو الذي يفصل النزاع، ولذلك ذكر العلماء: أنه لو اصطلحا على أن يختار رجلًا ليلاعن عنده فلا يجوز إذْ لا بد من أن يكون بحضرةِ الحاكم أو من يقيمه الحاكم مقامه.
أما سائر الناس فلا يجوز ولو حصل فلا اعتبار له بأن يصطلحا على اختيار رجل للملاعنة عنده.
وإنما يصلح لذلك في أبواب الصلح، أما هذا فهو عقوبة يترتب عليها لو ثبت على أحدهم يقام الحد.
إذًا هذه شهادة أو يمين وكلاهما بينة فتحتاج إلى من يفصل بها، والذي يعتبر المرجع في ذلك وله الحكم الفصل إنما هو الحاكم لا غيره.
(وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
. وَحُجَّةُ مَالِكٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَالَ: حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ).
(1)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 286) حيث قال: "وقوله (فإذا التعنا لا تقع الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما)، يفيد أنه لو مات أحدهما بعد الفراغ من التلاعن قبل تفريق الحاكم توارثا".
(2)
يُنظر: "الكافي "لابن قدامة (3/ 186) حيث قال: "الحكم الثالث: الفرقة، وفيها روايتان: إحداهما: لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 97) حيث قال: "وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، وبه قال الثوري".
(4)
سبق ذكره.
هذا الحديث متفق عليه
(1)
وهو الذي أشرنا إليه مرات قال صلى الله عليه وسلم فيه: "حسابكما على اللّه". فلا بُدَّ من حساب إذ إنَّ أحدهما كاذب لا شك وسيلقى جزاءه وكل كاذب في هذه الحياة وكل مفترٍ، وكل معتدٍ سيلقى جزاءه عند اللّه، فإن كان قد قصَّر وتعدَّى في حقوق اللّه فإنه يتوب إلى اللّه توبة نَصوحًا وبندم على ما مضى ويصر على عدم العودة، وإن كان في حق الآخرين مما يحتاج إلى أن يطلب العفو منهم فليسارع، وإن كان قد أخذ حقًا لهم أو ظلمهم؛ فلا بد من إرجاع تلك المظلمة قبل ألَّا يكون دينار ولا درهم.
(أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا").
تعبيره صلى الله عليه وسلم بليغ ولا شك فقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فهي عبارات مختصرات وجمل عظيمة ذات معاني سامية رفيعة فـ "حسابكما على اللّه" جملة يدخل تحتها كلام كثير ثم بعد ذلك قوله: "أحدكما كاذب".
إذًا: لا يمكن أن تجتمعا على الصدق ولا على الكذب، فبينكما صادق وبينكما كاذب، وقوله:"لا سبيل لك عليها". جمل متتالية إنها صادرة بلا شكٍّ من مشكاة النُّبُوَّةِ صلى الله عليه وسلم.
(وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَان).
فهذا دليلٌ للذين قالوا: بأن التفريق يكون عن طريق الحاكم، وهذا هو الأَوْلى.
(وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لِعَانَهَا تَدْرَأُ بِهِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهَا فَقَطْ، وَلِعَانُ الرَّجُلِ هُوَ الْمُوَثِّرُ فِي نَفْيِ النَّسَبِ، فَوَجَبَ إِنْ كَانَ لِلِّعَانِ تَأْثِيرٌ فِي الْفُرْقَةِ أَنْ يَكُونَ لِعَانُ الرَّجُلِ تَشْبِيهًا بِالطَّلَاقِ، وَحُجَّتُهُمَا جَمِيعًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُمَا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ وُقُوعِ اللِّعَان مِنْهُمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ
(1)
سبق تخريجه.
عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ هُوَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَرَى أَنَّ الْفِرَاقَ إِنَّمَا نَفَذَ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِهِ وَأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حِينَ قَالَ: "لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا"، فَرَأَى أَنَّ حُكْمَهُ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا أَنَّ حُكْمَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ اللِّعَان. فَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ أَنَّ تَفْرِيقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا لَيْسَ هُوَ بَيِّنًا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، لِأَنَّهُ بَادَرَ بِنَفْسِهِ فَطَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِوُجُوبِ الْفُرْقَةِ، وَالأصْلُ ألَّا فُرْقَةَ إِلَّا بِطَلَاقٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ تَحْرِيمٌ يَتَأَبَّدُ - أَعْنِي: مُتَّفَقًا عَلَيْهِ -، فَمَنْ غَلَّبَ هَذَا الْأَصْلَ عَلَى الْمَفْهُومِ لاحْتِمَالِهِ نَفَى وُجُوبَ الْفُرْقَةِ قَالَ بِإِيجَابِهَا.
وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِ مَنِ اشْتَرَطَ حُكْمَ الْحَاكِمِ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فَتَرَدُّدُ هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يُغَلَّبَ عَلَيْهِ شَبَهُ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا حُكْمُ الْحَاكِمِ، أَوِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهَا).
* الجمهور يرد على الشافعية ويقولون: لو كان اللعان ينتهي بلعان الزوج لما احتيج إلى لعان المرأة، إذًا: يلاعن الرجل فينتهي الأمر فلماذا كان لعانها شرطًا؟
فهذه قضية تقوم على رُكنين لا تتم إِلَّا بهما فلو كانت الفرقة تحصُلُ بلعان الرجل لما أصبح لعان المرأة أمرًا متعينًا.
(وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَة، وَهِيَ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ الفُرْقَةَ تَقَعُ فَهَلْ ذَلِكَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ؟).
قضية الطلاق والفرقة يتعدَّد الخلاف فيها، وهي تتنوع بين الفقهاء، فهل هذا الذي حصل في اللعان يعتبر فرقة؛ والفرقة إن كانت فهي إلى الأبد.
أم هل هو طلاق؟ وهل هذا الطلاق يكون بائنًا أم لا؟
* فأكثر الفقهاء يرى: أنها فرقة.
وبعضهم يرى: أنها طلاق.
والذين يرون أنها فرقة يستدلون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: "لا سَبيلَ لكَ عليهَا".
وبما ثبت وصح عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، وعبد اللّه بن مسعود رضي الله عنهم:"أنه يفرق بينهما إلى الأبد".
* قال: (فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْفُرْقَةِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
هُوَ فَسْخٌ).
وكذلك أحمد
(3)
.
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ
(4)
. وَحُجَّةُ مَالِكٍ تَأْبِيدُ التَّحْرِيمِ بِهِ فَأَشْبَهَ ذَاتَ الْمَحْرَمِ).
أي أن هذه فرقة معبدة كالحال بالنسبة للفُرقة بسبب الرَّضاع، فلو أن رجلًا تزوج امرأة ثم تبيَّن أن بينه وبينها رضاعًا فيفرق بينهما.
فهل هذه الفرقة مؤبدة أم مؤقتة؟ وهل يجوز له أن يعود إليها؟ الجواب: لا؛ لأنها فرقة اقتضت تحريمًا مؤبدًا، فهذه هي حجة الجمهور.
إذ التفريق بينهما إلى الأبد، وما دام إلى الأبد فينبغي أن يكون فسخًا وليس طلاقًا قياسًا أو إلحاقًا لفرقة الرضاع، والفرقة تقتضي التحريم.
(1)
يُنظر: "حاشية على كفاية الطالب الرباني"(2/ 110) حيث قال: "وتقع الفرقة بينهما بتمام لعانهما، ولا يحتاج إلى حكم حاكم، وهي فسخ لا طلاق على المشهور".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (5/ 71) حيث قال: " (ويتعلق بلعانه) أي: الزوخ، وإن لم تلاعن الزوجة أو كان كاذبًا (فرقة) وهي فرقة فسخ".
(3)
يُنظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار (4/ 55) حيث يقول: "المنفسخ نكاحها لنحو رضاع ولعان مما تحرم به أبدًا) ".
(4)
قول الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 167) حيث قال: "فإذا التعنا فرق القاضي بينهما، وكانت الفرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد".
وهذا حصل كثيرًا فرُبَّما يتزوج إنسانٌ امرأةً ثم يتبين بعد ذلك أن بينهما رضاعة، هذه من الأمور التي لا يمكن أن تعالج.
والأولاد ينسبون إليه وهم أولادها لكن الفرقة هنا تَجِب، فلو قُدر أن زواجًا استقرَّ بين مَحْرَمَيْنِ فهذا حرام ويجب فيه الحد.
هذا هو رأي جمهور العلماء وهذه هي حجتهم، والحجة هنا وهناك إنما هي قياسية.
(وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَشَبَّهَهَا بِالطَّلَاقِ قِيَاسًا عَلَى فُرْقَةِ الْعِنِّينِ إِذْ كَانَتْ عِنْدَهُ بِحُكْمِ حَاكمٍ)
(1)
.
العِنِّين يؤمر بالطلاق، لكن في نظري أن الصورة مختلفة، فالعِنِّين عاجزٌ وليست عنده قدرة على أن يقوم بأمر من أهم الأمور التي يتطلب أن يقوم بها نحو زوجته، لأنه أصبح عِنِّينًا.
فالصورة هنا مختلفة، وبهذا يترجَّحُ في نظري مذهب جمهور العلماء.
(1)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 286) حيث قال: "ثم إذا فرق الحاكم تكون الفرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد لأن فعل القاضي انتسب إليه لنيابته عنه كما في العنين".
بسم الله الرحمن الرحيم
[كِتَابُ الْإِحْدَادِ]
* نعلم أن الشريعةَ الإسلاميةَ نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بداية من مكة، ونعلم أن المجتمع المكي عند نزول الرسالة كان مجتمعًا يمتلئ بالشرك والفتن وعبادة الأصنام، ولذلك لما جاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم وجد من يعارضه مع أنهم يعرفون رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أنفسهم، فهم يعلمون عنه الصدق، وأنه أمين، وكان يلقب بالصَّادق الأمين.
فالمقصود بالإحداد: هو المرأة التي يُتَوَفَّى عنها زوجها فتعتدُّ له.
فهل كانت تلك المرأة تعامل في الجاهلية كما كانت تعامل في الإسلام؟ وهل بقي الحكم في الإسلام كما كان في الجاهلية؟
لا شك أن المرأة كانت في الجاهلية ذليلةً حقيرةً، وكان ينظر إليها نظرة تقترب من النظر إلى الحيوان، يموت زوجها فيأتي آخر من أقاربه يرمي عليها شيء فتَبقى حبيسةً إن أرادَها أو بقيت في ذلك القَيد، وكانت في الجاهلية إذا مات عنها زوجها إنما دخلت منزلًا ضَيِّقًا تبقى فيه كأنها حبيسة وأكثر من الحبيسة.
هذا كان هو وضع الجاهلية، ولكن كان لهم صفات كريمة مثل:
الوفاء والشجاعة
…
وربما المحافظة على الجوار، ولهم صفات ذَمِيمَةٌ ويأتى في مقدمتها أنهم كانوا يعبدون غير اللّه.
فهذا عمر في الجاهلية وأمثال عمر كثيرة، كان أحدهم يسجد إلى حجَرٍ، فأين العقول الكبيرة؟! أين تلك العقول العظيمة التي فتح اللّه بها البلاد؟! فكانوا يسجدون لحجر وربما قام أحدهم فصنع إلهًا بيده فسجد له فإذا ما جاع أكله، وكانت تثور بينهم الحروب لأتفَهِ الأسباب، ويأكل القوي فيهم الضَّعيفَ في حروب لا تنقطع ولا تنتهي، وغارات لا يملون منها حتى إذا وجدوا بعيدًا أغار بعضهم على قريبه، هذه كانت حالتهم كلها تقوم على الفوضى، وعلى الجهل، وعلى التعدي، وشرب الخمر كان منتشرًا، وكان هناك الميسر وكثير من القبائح والرذائل، فجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل في ذلك المجتمع فأخذ يدعو الناس إلى توحيد اللّه سبحانه وتعالى، وأخذ يدعوهم إلى عَقيدَةِ الإسلام الصافية، ومكثَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عامًا بمكة أكثر من الفترة التي قضاها بعد ذلك في المدينة، وهو بذلك يدعو الناس إلى عقيدة التوحيد النَّقِيَّةِ الطاهرة، ولا يمَلُّ ولا يكَلُّ؛ لأنه يريد أن يضع أساسًا وقاعدة متينة، وفي هذا الزمان نحتاج إلى تكثير الثواب واللّه لا يؤاخذ المسلمون من قلة، وإنما يؤاخذ المسلمون عندما يخرجون عن دينهم، فما غُلِبَ المسلمون من قلة.
إذًا: هذا هو الخطأ الذي يتجه إليه بعض هؤلاء الذين اتجهوا إلى بعض الأفكار الوافدة أو إلى بعض الجماعات والأحزاب التي ينتمون إليها ويقولون: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، فما دام هذا يحمل اسم الإسلام؛ يكفي.
وعلى ذلك هل الرسول صلى الله عليه وسلم اقتنع بذلك الأمر؟ لم يقتنعْ وأراد أن يُصلح النفوس، ولذلك كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي ضَمَّ العُلماءَ عهده إلى عهد الخلفاء الراشدين يقول:"لا ينْبَغِي أن نسارع في فتح البلاد فنترك الناس على حالهم، وبنبغي إذا فتحنا بلادًا أنْ نغرس فيها عقيدة التوحيد، ونصلح نُفوس الناس، ثم بعد ذلك ينتقل أهل تلك البلاد إلى الفتح فينفع اللّه بذلك أحوال المسلمين".
فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما انتقل إلى المدينة انتقل إلى مرحلة أخرى وهي غرس روح الإسلام في نفوس أصحابه، وغرس دعائم العقيدة وثبَّتَها في قلوبهم، وأصبحت قلوبهم مُهَيَّئة إلى هذا الدِّين، ونجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتابع ويتعاهد هذه العقيدة بنَفْسِه صلى الله عليه وسلم فإذا رأى خللًا في أمر من الأمور؛ ذكَّر بأحوال الجاهلية وقال:"دعوها فإنها مُنْتِنَةٌ"
(1)
، وكان من أول أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، وربطهم برباط الأُخُوَّةِ الإسلامية.
قال - رحمه اللّه تعالى -: (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْإِحْدَادَ وَاجِبٌ عَلَى النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ)
(2)
.
هنا هل الإجماع على بابه؟ ولو كان إجماعًا حقًّا فما مستنده؟ هكذا حكاه المؤلف وحكاه غيره، ولكن وُجد جمع قليل من العلماء خالفهم في ذلك منهم: الحسن البصري، وعامر الشعبي، والحكم بن عتيية الذي ذكره المؤلف، وهم من التابعين جميعًا، نُقل عنهم أنهم لا يرون الإحداد، لكنهم اختلفوا فيما نقل عنهم:
* فالحسن البصري نقل عنه: "أنه لا يرى أن المرأة تأخذ بالإحداد، وإنما لها أن تتريث، وأن تلبس ما تشاء من الثياب، ولها أن تنتقل من مكان إلى مكان، ولها أن تفعل كل ما يفعله غيرها".
* والحكم بن عتيبة وكذلك عامر الشعبي نقل عنهما: "أنهما لا يريا الإحداد"
(3)
. ولذلك أثر عن الإمام أحمد أنه قال: "الحسن البصري،
(1)
جُزء من حديث طويل أخرجه البخاري (4905)، ومسلم (2584)، من حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه.
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 54) حيث يقول: "وأجمع الجميع على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، إِلَّا الحسن فإنه حكي عنه أنه كان لا يرى الإحداد، وعلى كل زوجة بالغة عاقلة مسلمة حرة أن تحد على زوجها المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا".
(3)
لقول الحسن البصري والشعبي يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (11/ 336) حيث =
وعامر الشعبي من أكثر أهل زمانهما تبحرًا في العلم، ومع ذلك خفي عنهم الإحداد".
وبهذا يتبين أن الإنسان مهما أوتي من العلم، ومهما كان فطنًا ذكيًا فإنه لا يمكن أن يحيط بجميع مسائل العلم، وما أُوتي أحذ من العلم إِلَّا قليلًا.
ونذكر لعامر الشعبي قصة:
نعلم أولًا أنَّ أول الأئمة الأربعة هو أبو حنيفة وهو ممَّنْ وهبهم اللّه ذكاءً نادرًا ولم يكن ذكاؤهُ فقط قاصرًا على العلم بل كان خبيرًا ماهرًا في التجارة، ولذلك بدأ أول حياته بتجارة البذل - القماش - فقابله ذات مرة عامر الشعبي هذا التابعي الجليل فقال له:"إلى أين تتردد؟ فقال له: إلى السوق" فقال: ليس هذا أعني أريد ترددك على حلقات العلم".
قالوا: إنَّ تلك الكلمة نفذت إلى أذن الإمام أبي حنيفة واستقرت في قلبه فبادر إلى الاشتغال في العلم ليلًا ونهارًا، فسخَّر تجارته لخدمة العلم، وكان يقدم إلى أبنائه الطلبة ما يحتاجون إليه فجمع بين التجارة والعلم، ونعلم أنه بدأ حياته بعلم الكلام ولكنه فكر بعد فترة وتحول إلى علم الفقه، وقد ذُكر إلى ذلك عدة أسباب من بينها: أن امرأة جاءت إلى مسجد الكوفة فدخلت لتسأل عن مسألة عِلمية فاستمعت إلى أصوات المعلمين، فكانت هناك حلقتان تداران في ذلك المسجد حلقة حماد بن أبي سليمان التابعي، وحلقة أبي حنيفة الذي يشتهر في علم الكلام، ونعلم بأنَّ من البيان لسِحْرًا، فأبو حنيفة كان له تأثير لجذب الناس إليه فاتجهت المرأة لتسأل أبا حنيفة فلم يُفْتِهَا في تلك المسألة، ثم رجعت إلى حماد بن أبي سليمان فأفتاها، فجلس أبو حنيفة اليوم التالي تلميذًا في حلقة
= قال: "وروي عن الحسن والشعبي أنهما قالا: لا إحداد عليها واجبًا"، وقول الحكم بن عتيبة يُنظر:"المحلى بالآثار" لابن حزم (10/ 69) حيث قال: "ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة أن المتوفى عنها لا تحد".
حماد بن أبي سليمان فبقي عنده سبع سنوات، فحدثت نفس أبي حنيفة أن يستَقِلَّ بحلقة لكن وفاءه لشيخه وحبه له حال بينه وبين ذلك، فبقي عنده فلما تُوفي حماد بن أبي سليمان رُشِّحَ أبو حنيفة لتلك الحلقة.
إذًا: هؤلاء العلماء نقل عنهم أنهم اختَلَفُوا ومع ذلك يُعدُّ خلافهم نادِرًا؛ لأن كافة العلماء ذهبوا إلى خلاف ما ذهبوا إليه، ولذلك نسميه اتفاقًا، وأحاديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صريحة في ذلك وهي كثيرة منها أحاديث زينب بنت أبي سلمة، بنت أم سلمة زوجة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأنه لما توفي أبو سلمة تزوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أم سلمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء إليها وهي متألِّمَةٌ فأرشدها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى ما تقول ومما أرشدها إليه أن تقول:"اللهم أجرْنِي في مُصِيبَتِي واخلف لي خيرًا منها"
(1)
. فكان الخليفة في ذلك هو خيرُ الخلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. زينب ابنتها تقول: "دخلت على أم حَبِيبة رضي الله عنها زوج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات "بعد اليوم الثالث" وقد جاءها وفاة والدها أبي سفيان بن حرب والد معاوية بن أبي سفيان قالت: جاءها وفاة والدها فدعت بِطِيب فيه صفرة فدَهَنَتْ جارية لها ثم مسحت أو مست عارضيها بشي منه ثم قالت رضي الله عنها: واللّه ما لى حاجة بالطيب إِلَّا أنني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يَحِلُّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على مَيِّت فوق ثلاث ليالي، إِلَّا على زوج أربعة أشهر وعشرًا"
(2)
.
قالت زينب ثم دخلت على زينب بنت جحش قالت: عندما توفي أخوها فدعت بطِيبٍ كما فعلت أمُّ حبيبة فمَسَّتْه ثم قالت: "واللّه ما حاجة لي به، غير أني سَمعت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لامرأه تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على مَيِّتٍ فوق ثلاث، إِلَّا على زوج أربعه أشهر وعشرًا""
(3)
، فهذه الأحاديث فيها فوائد ومثلها أيضًا الحديث المتفق عليه عندما دخلت على أمها أم سلمة فذكرت لها أن امرأة جاءت إلى
(1)
هو جزء من حديث أخرجه مسلم (918).
(2)
أخرجه البخاري (5334)، ومسلم (1486).
(3)
أخرجه البخاري (5335)، ومسلم (1487).
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بابنة لها، وكانت قد أصابها وجع في عَيْنِهَا فقالت: يا رسول اللّه! أفلا تَكْحُلُها؟. وفي رواية: أفتكحلُها؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا". ذكر ذلك مرتين أو ثلاثة ثم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الحالة التي كانت تجلس عليها المرأة
(1)
، ثم تخرج هذه الأحاديث ومثلها أحاديث أم عطية في الصحيحين
(2)
، وغير ذلك من الأحاديث هي مدار الكلام حول كتاب الإحداد.
* قول: (
…
فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ).
وكذلك الشَّعْبِي والحَكَم. إذًا: لا خلاف بين الحرة المسلمة الكبيرة؛ ولكن الخلاف في الكتابية، وكذلك الصغيرة، والأَمَة أيضًا
(3)
.
* قال: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَفِيمَا سِوَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ).
* هناك عدة غير عدة الوفاة يحصل فيها الإحدادُ وهي المطلَّقة بائنًا، أما المطلقة طلاقًا رَجْعِيًّا فالعلماء مجمعون على أنها لا إحداد عليها
(4)
،
(1)
أخرجه البخاري (5336)، ومسلم (1486) ولفظه:"جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللّه، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا" مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: "لا"، ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ: "إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول".
(2)
أحاديث أم عطية أخرجها البخاري (313)(1279)(5342)(5343)، ومسلم (938).
(3)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 395) حيث يقول: "قال أصحابنا ليس على الصغيرة ولا على الكافرة ولا على الأمة المسلمة الإحداد، فهو على الحرة في العِدَّة، وقول مالك والحسن بن حي والشافعي الإحداد على الصغيرة والكافرة فهو على المسلمة الكبيرة".
(4)
الحنفية، يُنظر:"التجريد" للقدوري (10/ 5312) حيث قال: "ولا يلزم الصغيرة؛ لأنها لا تخاطب بفروع العبادات، ولا المطلقة الرجعية". =
والعلة معروفة لأن الرجعية مطلوب منها أن تَتَزَيَّن وأن تتشَوَّف لزوجها لعل اللّه سبحانه وتعالى يحدث بعد ذلك أمرًا، ولعل القلوبَ قد تَتَغَيَّر فيزول ما أصابها من كدر وما غير صفوها فتعود المودة ويعود بعد ذلك كل من الزوجين إلى الآخر.
(وَفِيمَا تَمْتَنِعُ الْحَادَّةُ مِنْهُ مِمَّا لَا تَمْتَنِعُ).
فقد ورد في حديث أم عطية: "أنها لا تمس طيبًا، وأنها لا تكتَحِل، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا". وفي حديث آخر: "لا تلبس ثوبًا مزعفرًا، ولا ثوبًا فيه صفرة"
(1)
.
(فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: الْإِحْدَادُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، وَالْكِتَابِيَّةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَالْكَبِيرَةِ).
وكذلك الإمام أحمد
(3)
يريان: أن الإحداد يشمل المرأة كبيرة كانت
= والمالكية يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 147) حيث قال: "أما المطلقة فلا إحداد عليها رجعية كانت أو بائنة".
والشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (11/ 337) حيث قال: "وأما المعتدة المطلقة عن طلاق رجعى فلا يلزمها الإحداد قولًا واحدًا".
والحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 428، 429) حيث قال: " (ويباح) الإحداد (لبائن) كالمطلقة ثلاثًا والمختلعة بالإجماع ذكره في المبدع لكن لا يسن، قاله في الرعاية ولا يجب لظاهر الأحاديث، ولأن الإحداد في عامة الوفاة لإظهار الأسف على فراق زوجها وموته، فأما البائن فإنه فارقها باختياره وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه، ولأن المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج وليس له من ينفيه فاحتيط عليها بالإحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه بخلاف المطلقة البائن وكالرجعية".
(1)
سبق تخريج أحاديث أم عطية.
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (5/ 493) حيث قال: "الإحداد ترك الزينة الداعية إلى الأزواج وذلك واجب على المتوفى عنها زوجها حتى تقضي عدتها بشهورها أو بوضع حملها، حرة كانت أو أمة، مسلمة كانت أو ذمية، صغيرة كانت أو كبيرة. هذا هو تحصيل مذهب مالك وهو الصحيح".
(3)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 116) حيث قال: "ويلزم الإحداد في العدة كل متوفى =
أم صغيرة، والمسلمة وغير المسلمة، فتدخل الكتابية.
(وَأَمَّا الأمَةُ يَكُونُ عَنْهَا سَيِّدُهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ فَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا عِنْدَه، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ).
وكذلك المشبوهة بزنا لا إحداد عليها
(1)
، وهذة المسألة لم يذكرها المؤلف.
(وَخَالَفَ قَوْلَ مَالِكٍ الْمَشْهُورَ
(2)
فِي الْكِتَابِيَّةِ ابْنُ نَافِعٍ وَأَشْهَبُ، وَرَوَيَاهُ عَنْ مَالِكٍ
(3)
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ)).
فالإمام الشافعي يرى أنه لا إحداد على الكتابية
(4)
، أما الإمام أبو حنيفة يضيف إليها الصغيرة.
= عنها فقط في نكاح صحيح، ويباح لبائن ويحرم فوق ثلاث على ميت غير زوج، ولا يجب في نكاح فاسد، والمسلمة والذمية والمكلفة وغيرها فيه سواء".
(1)
الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 164) حيث قال: "فالحاصل لا إحداد على كافرة ولا صغيرة ولا مجنونة ولا معتدة عن عتق ولا معتدة عن نكاح فاسد ولا على معتدة عن وطء بشبهة".
الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (8/ 158) حيث قال: "وخرج بقيد الزوجية في الحديث أم الولد والمعتدة من وطء الشبهة أو نكاح فاسد .. فلا إحداد عليهن قطعًا، لعدم الزوجية".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 493) حيث يقول: "وتركت المتوفى عنها فقط وإن صغرت ولو كتابية مفقودًا زوجها التزين".
(3)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 123) حيث يقول: " (واختلف في) وجوب الإحداد على (الكتابية) ".
(4)
يُنظر: "النجم الوهاج في شرح المنهاج" للدميري (7/ 195) حيث يقول: "قال - أي الشافعي -: (والكتابية المنكوحة كمسلمة في نفقة وقسم وطلاق)، وكذلك الظهار والإيلاء والعدة والسكنى والكسوة والإ"حداد والرجعة وغيرها؛ لأنها زوجة"، ويُنظر: "الأم" للشافعي (5/ 237).
قال: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَلَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ إِحْدَادٌ)
(1)
.
* ورد في الأحاديث السابقة "لا يحل لامرأة" فهل كلمة امرأة تخرج الصغيرة؟ هذه هي حجة الحنفية، وهذا ما لم يعرض له المؤلف "لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليالٍ، إِلَّا على زوج أربعه أشهر وعشرًا"
(2)
.
* إذًا: فالحديث يُحَرِّمُ على المرأة غير الزوجة أن تحد على ميِّت فوق ثلاث، أي: غير الزوج لا يجوز أن تحد عليه المرأة أكثر من ثلاثة أيام، أما الزوج فهو الذي تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، وهنا لما نأخذ لفظ الحديث في قوله: "لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة
…
" أي: يحرم عليها إِلَّا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا، فالاستثناء هنا الظاهر أنه يدل على الإباحة، ومعَ ذلك نجد أن العلماء قالوا:(يجب على المرأة المتوفى عنها زوجها أن تُحد عليه).
فقالوا بالوجوب والحديث ينفي الإباحة عن أن تحد غير الزوج أكثر من ثلاث ليالٍ، ثم قال:"إِلَّا على زوج": أي أنه يحِلُّ، فهل هناك دليل آخر يؤكد ذلك؟ الجواب: نعم، كما في قصة المرأة التي أتت بابنتها وهي تشكو عينَها فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أفتَكْحلها؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا". وفي بعض الروايات "قالها ثلاثًا"
(3)
.
ومع أنها شاكيةٌ ومتألمةٌ ومع ذلك لم يرخص لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن الإحداد واجبًا لم يمنعها، وكيف يمنعها من أمرٍ جائز؟!! ونحن نعلم أن من أحسن أنواع الزينة عند العرب هو اكتحال المرأة ومع ذلك نهيت عنه، وبعضهم أخذ من هذا الحديث: أنه لا إحداد على كتابية؛
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 170) ويُنظر: "ولا إحداد على كافرة ولا صغيرة".
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "تؤمن باللّه واليوم الآخر"، والكتابية لا تؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، لكن الجمهور رَدُّوا عليهم بقولهم: إن الكتابية لها حقوق كحقوق الزوجة فكذلك أيضًا، يجب عليها أن تفعل ما تفعله الزوجة.
وقالوا إنّ قوله: "لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر"، ليس فيه دليلٌ قطعيٌّ يدل على أن غير المسلمة لا تدخل؛ لأن ذلك ورد في أحاديث كثيرة.
* وبالنسبة إلى الصغيرة فإن القول: "لامرأة" قالوا: يخرج الصغيرة. وهذا غير مسلم.
* وقالوا أيضًا: لأن الصغيرة غير مكلفة والإحداد إنما هو تكليف، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق"
(1)
. فهذه صغيرة لا تكليف عليها والإحداد عليها تكليف.
لأنه أخبر أن القلم مرفوع عن الصغير والصغيرة، وتكليفهما وضع للقلم عليهما وهو خلاف ما أرشد وأخبر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
* وقالوا بالنسبة إلى الكتابية: غير مكلفة بدليل أنها لو فعلت الطاعة فإنها لا تنفعها حتى تؤمن باللّه واليوم الآخر فهي غير مكلفة.
(وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ عَلَى الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ إِحْدَادٌ، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمُ الْمَشْهُورُ فِيمَنْ عَلَيْهِ إِحْدَادٌ مِنْ أَصْنَافِ الزَّوْجَاتِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ إِحْدَاد).
(1)
أخرجه أبو داود (4403) من حديث علي رضي الله عنه ولفظه: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل". وصححه بطرقه وشواهده الألباني يُنظر: "الثمر المستطاب"(ص: 53).
(2)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 340) حيث يقول: " (لا حداد على كافرة) لأنها غير مخاطبة بحقوق الشرع (ولا على صغيرة) لأن الخطاب موضوع عنها (وعلى =
بقي مسألة مهمة ما ذكرها المؤلف وهي المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها كما قال اللّه - تعالى -: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فلو أن امرأة حاملًا مات عنها زوجها عدتها أنما هي وضع الحمل فلو أن هذه المرأة وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشرًا، هل لها أن تخرج من الإحداد؟ الجواب: نعم؛ لأن عدتها ما هي إِلَّا وضع الحمل، فلو أن الحمل استمر بها فتجاوز أربعة أشهر وعشرًا، فهل تبقى على إحدادها؟ قال العلماء: نعم تبقى على ذلك.
وهناك مسألة مهمة لم ترد في الكتاب وهي لو قد أن امرأة سافرت إلى الحج مع ذي مَحْرَم وفي أثناء الطريق بلغها أن زوجها قد تُوفي فماذا عليها أن تفعل؟ تكلم العلماء في هذه المسألة وقالوا: يُنظر إلى إن كانت تباعدت بها المسافات وقاربت الحج، فإنها تمضي فيه؛ لأن هذه عبادة ولو كان ما زالت قريبة فإنها ترجع وتقيم في بيتها وتَعُدُّ عدة الوفاة، وتلتزم الإحداد، أما إن كانت قد تباعدت فلا.
فلو قُدِّر أن هذه المرأة وجب عليها الحج والحج ركن من أركان الإسلام وأصبحت قادرة ببدنها وبمالها، ووجدت محرمًا يصحبها إلى الحج لكن زوجها توفي هل تبقى معتدة أو تسافر إلى أداء الحج؟ الصحيح أنها تبقى معتدة، فننظر إلى ما اشتملت عليه الشريعة من الحكم إلى قوة الرابطة بين الزوجين من عناية الإسلام بأبنائه، فاللّه سبحانه وتعالى يتسامح عن حقوقه ويؤجلها ويقدم عليها في بعض الأمور في غير الأمور التي لا تتطلب تأخيرًا يقدم عليها حق الإنسان؛ لأن الحقوق حق خالص للّه - تعالى - فلا يجوز أن يشاركه مخلوق ألا وهو حق العبادة، وهناك حق خالص للإنسان كحقه في تصرفه في أمواله في حدود المشروع، وهناك حقوق مشتركة كحد القذف مثلًا ففيه حق الإنسان الذي تعيب فيه على حرمته، وحق للّه سبحانه وتعالى أنه يشتمل على ردع وإقامة هذا الحد لمَنْع الناس، فالإسلام راعى حقوق الزوج.
= الأمة الإحداد) لأنها مخاطبة بحقوق الله - تعالى - فيما ليس فيه إبطال حق المولى، بخلاف المنع من الخروج لأن فيه إبطال حقه وحق العبد مقدم لحاجته".
* قال: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْعَدَدِ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا إِحْدَادَ إِلَّا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ
(1)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ
(3)
: الْإِحْدَادُ فِي الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَاجِبٌ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
(4)
فَاسْتَحْسَنَهُ لِلْمُطَلَّقَةِ، وَلَمْ يُوجِبْهُ).
العِدد جمع عِدة، فهل هناك عدة فيها إحداد غير عدة الوفاة؟ عدة الوفاة عليها شبه إجماع وهناك من خالف فيها، وسيأتي المؤلف يعرض ما يعرض من الأدلة، والحقيقة إن الذين خالفوا لهم دليل ليس كما ذُكر سنبينه، وقال أبو حنيفة والثوري:"الإحداد في العدة من الطلاق البائن واجب". وهي روايه للإمام أحمد
(5)
إِلَّا أنَّ المطلقة طلاقًا بائنًا تُحد. ووجهة الذين قالوا لا إحداد قالوا: المتوفى عنها زوجها تُحد.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 147) حيث يقول: "أما المطلقة فلا إحداد عليها رجعية كانت أو بائنة بالبتات أو دونها؛ لأن الزوج باق يذب عن نفسه إن ظهر حمل وقوله المتوفى عنها حقيقة أو حكمًا".
(2)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (4/ 336) حيث يقول: "وعلى المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد".
(3)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 394) حيث يقول: "وقال الثوري والحسن بن حي عليهما جميعًا الإحداد".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 149) حيث يقول: " (ويستحب) الإحداد (لبائن) بخلع أو ثلاث لئلا تفضي زينتها لفسادها".
(5)
يُنظر: "الكافي "لابن قدامة (3/ 210) حيث يقول: "وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة، روايتان:
إحداهما: لا إحداد عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا على زوجها". فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، وهذه عدة الوفاة، ولأنها مطلقة أشبهت الرجعية، والثانية: يجب عليها؛ لأنها معتدة بائن، أشبهت المتوفى عنها زوجها".
قول المالكية، يُنظر:"بلغة السالك" للدردير (2/ 685) حيث قال: "ثم انتقل يتكلم على حكم الإحداد على المتوفى عنها فقال: (ووجبت على) المرأة (المتوفى عنها) دون المطلقة (الإحداد في) مدة (عدتها) ".
وقول الحنفية، يُنظر:"التجريد" للقدوري (10/ 5312) حيث قال: "قال أصحابنا: المبتوتة يلزمها الإحداد".
وقول الثوري، يُنظر:"تفسير القرطبي"(3/ 182) حيث قال: "وذهب الكوفيون: أبو =
فلماذا التقى العلماء حول هذا الرأي؟ لما كان هناك من وفاء هذه المرأة؛ فإنها تُصاب باللوعة وبالأسى ويقطر قلبها حزنًا وألمًا على مُفارقة زوجها وغالبًا ما يكون هذا لأولاده وليس هذا من الأمور السهلة؛ لأن هذا الرجل ظل سنين يرعاها، ويحافظ عليها، ويقوم على شؤونها، ويتولى تربية الأولاد والإنفاق عليهم.
وهذه المرأة المظاهرة لما ذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: "إن لي منه صبية، إن تركتهم عنده ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا"
(1)
، فهذه القصة يقطر لها القلب حزنًا وألمًا، واللّه سبحانه وتعالى قد استجاب لشكواها من فوق سبع سماوات، وقد وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستمع إليها.
فبالنسبة للمتوفى عنها زوجها هناك وفاء بين الزوجين، ومن أجلِّ الصفاتِ وأعظمِها: صفة الوفاء فهناك وفاء بين الابن وأبيه، وبين الإخوة، وبين الأصدقاء، وكذلك بين الزوجين، وهو من الفضل الذي قال اللّه فيه:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
فهذه علاقة عظيمة دامت فترةٌ من الزمن، ولذلك في قصة أسماء زوجة جعفر بن أبي طالب أرسلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تطلب منه أن يأذن: أن تبكي على زوجها وقلبها ينبح أسى ولوعة حزن وحسرة تريد أن تنفس عن نفسها؛ لكنها مؤمنةٌ تقيةٌ نقيةٌ فاستأذنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعد ثلاث ليال أرسل إليها يأمرها بأن تكتحل وأن تتطهر، وهذا سيكون حجة للذين
= حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وأبو ثور وأبو عبيد إلى أن المطلقة ثلاثًا عليها الإحداد".
وقول الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (11/ 338) حيث قال: "ويستحب لها؛ لأن الشافعي قال: أستحب لها ذلك ولا يتبين أن أوجبه عليها".
ورواية الإمام أحمد، يُنظر:"عمدة الحازم" لابن قدامة (ص: 522) حيث قال: "ولا إحداد في غير عدة الوفاة إِلَّا على البائن من نكاح صحيح على إحدى الروايتين".
(1)
ذكر تلك الرواية الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه"(5/ 133).
يقولون بأن الإحداد ليس واجبًا، ولكنْ هذا الحديث مرسل
(1)
، وإن كان صحيحًا.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(وَأَمَّا الْفَصْل الثَّالِثُ وَهُوَ مَا تَمْتَنِعُ الْحَادَّةُ مِنْهُ مِمَّا لَا تَمْتَنِعُ عَنْهُ)
الحادة: وهي التي فقدت زوجها وعائلتها ورب أسرتها، ولا شك أنها تتألم، إذ كان في الجاهلية تدخل بيتًا صغيرًا تعذب نفسها، وتمتنع عن كل شيء، واللّه لا يريد من الإنسان أن يعذب نفسه.
(فَإِنَّهَا تَمْتَنِعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْجُمْلَةِ مِنَ الزِّينَةِ الدَّاعِيَةِ للرِّجَالِ إِلَى النِّسَاءِ)
(2)
.
أول أنواع الزينة هي الزينة في نفسها، فلا تقرب طِيبًا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا تمسُّ طيبا"
(3)
ولا تلبس من الثياب التي تتجمل بها المرأة، لأن المقام ليس مقام الجمال وإنما هو مقام ألم وتأثر.
(1)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (10/ 70) حيث قال: "ومن طريق حماد بن سلمة: أنا الحجاج بن أرطاة عن الحسن بن سعيد عن عبد اللّه بن شداد أن أسماء بنت عميس أستأذنت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن تبكي على جعفر - وهي امرأته - فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام: "أن تطهري واكتحلي". قال أبو محمد ابن حزم: هذا منقطع ولا حجة فيه؛ لأن عبد اللّه بن شداد لم يسمع من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئًا".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 54) حيث يقول: "وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة ممنوعة في الإحداد من الطيب والزينة، إِلَّا ما تفرد به الحسن البصري في لبس ما يكون زينة".
(3)
سبق تخريجه.
قال: (وَذَلِكَ كَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ).
حليُّ المرأة من أحسن مظاهرها، والكحل من أحسن ما تتجمل به، وكذلك الملابس، وعلي ذلك فالأشياء التي تُمنَعُ منها: الطيب، والملابس المصبوغة، والرسول صلى الله عليه وسلم استثنى ثوب العصب
(1)
، وهذا فُسِّرَ على تفسيرين الأول: هو الثوب الذي يصبغ غزلًا قبل أن ينسج. والثاني: أن العصب نبات معروف في اليمن ولا يوجد في غيرها. فالقصد أنها لا تتجمل بطيب ولا ملابس ولا بحليٍّ.
(إِلَّا مَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ وَيبَاسُ الثّيَابِ الْمَصْبُوغَةِ إِلَّا السَّوَادَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ مَالِكٌ لَهَا لُبْسَ السَّوَادِ
(2)
)
(3)
.
(1)
كما عند البخاري (313)، ومسلم (938) من حديث أم عطية رضي الله عنها.
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 494) حيث يقول: "من المدونة: قيل لمالك: أتلبس المصبغة من هذه الدكن والصفر؛ قال: لا، ولا صوفًا ولا قطنًا ولا كَتَّانًا صبغ بشيء من هذه إِلَّا أن تضطر لذلك لبرد ولا تجد غيره إِلَّا أن تصبغه بسواد".
(3)
قول الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 163) حيث قال: "تحد معتدة البت والموت بترك الزينة والطيب والكحل والدهن إِلَّا بعذر والحناء ولبس المزعفر والمعصفر إن كانت مسلمة بالغة".
وقول المالكية، يُنظر:"بلغة السالك" للدردير (2/ 685) حيث قال: "الإحداد: (ترك ما يتزين به من الحلي والطيب، وعمله): أي الطيب أي لأن بعمله يتعلق بها (والتجر فيه، و) ترك (الثوب المصبوغ) مطلقًا لما فيه من التزين، (إِلَّا الأسود) ما لم يكن زينة قوم".
وقول الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (11/ 336) حيث قال: "الإحداد: زيادة صفة في الاعتداد وهو أن تجتنب في عدتها عما يدعو إلى الجماع عن المزينة والثياب المزينة والطيب، وقال في "الأم": هو أن تجتنب في عدتها عما يدعو إلى شهرتها مما ذكرنا".
وقول الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" لأبي النجا (4/ 116) حيث قال: "وهو اجتناب ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها ويحسنها من زينة وطيب ولو في دهن كدهن ورد وبنفسج وياسمين وبان ونحوه
…
إلى قوله: ويحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين كالمعصفر والمزعفر والأحمر والأزرق والأخضر الصافيين والأصفر والمطرز والحلي كله، حتى الخاتم والحلقة، وما سبغ غزله ثم نسج كمصبوغ بعد نسجه".
* السواد قد أخذ على الشافعية
(1)
بأنها تلبس السواد في هذا المسألة فليس هناك فرق بين طويل وقصير وأبيض وأسمر إِلَّا بالتقوى والعمل الصالح إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم.
(وَرَخَّصَ كُلُّهُمْ فِي الْكُحْلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ
(2)
، فَبَعْضُهُمُ اشْتَرَطَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ).
قال البعض: لا يجوز مطلقًا مهما لحقها من الضَّرر، كابن حزم صاحب المحلى
(3)
، والصحيح أنه عند الضرورة يجوز.
(وَبَعْضُهُمُ اشْتَرَطَ جَعْلَهُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ).
* وبعضهم فصَّل بين الكحل الذي فيه سواد وجمال، وبين نوع من الكحل الذي يُتخذ كعلاج
(4)
.
(1)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (11/ 342) حيث يقول: "قال الشافعي: وكذلك كل صبغ لم ترد به تزيين الثوب مثل السواد، وما صبغ ليقبح لحزن أو لنفي الوسخ".
(2)
الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 163) حيث يقول: "ولها الاكتحال للضرورة".
المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 123) حيث يقول: "والذي في المدونة واقتصر عليه صاحب المختصر، ولا تكتحل إِلَّا من ضرورة فلا بأس به، وإن كان فيه طيب ودين اللّه يسر".
الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (11/ 340) حيث قال: "ثم قال الشافعي: وما اضطرت إليه مما فيه زينة من الكحل اكتحلت به ليلًا وتمسحه نهارًا".
الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (4/ 117) حيث قال: "وأن تكتحل بإثمد ولو كانت سوداء إِلَّا إذا احتاجت للتداوي فتكتحل ليلًا وتمسحه نهارًا".
(3)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (10/ 63) حيث قال: "وفرض على المعتدة من الوفاة أن تجتنب الكحل كله لضرورة أو لغير ضرورة، - ولو ذهبت عيناها - لا ليلًا ولا نهارًا".
(4)
قول الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 163) حيث قال: "تحد معتدة البت والموت بترك الزينة والطيب والكحل والدهن إِلَّا بعذر".
وقول المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (4/ 148) حيث قال: =
(وَبِالْجُمْلَةِ فَأَقَاوِيلُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا تَجْتَنِبُ الْحَادَّةُ مُتَقَارِبَةٌ).
* هناك بعض الأمور لم يذكرها المؤلف وهي هل تنتقب المرأة؟ فبعضهم يرى أنها لا تنتقب؛ لأن النقاب هنا من الزينة، والنقاب يدلُّ على الجمال؛ لأنه يُظهر العَينَيْنِ ويظهر جمالهما.
فلا يجوز أن تنتقب المرأة، والمسألة فيها خلاف فليس قضية مجمعٌ عليها
(1)
، وكذلك هناك قضية الانتقال من بيتها، فهل لها أن تنتقل من بيتها
(2)
؟
= "ولا تكتحل إِلَّا لضرورة وإن بطيب وتمسحه نهارًا، (ش) يعني أنه لا يجوز للمرأة المتوفى عنها زوجها أن تكتحل إِلَّا إذا دعت الضرورة إلى ذلك فلا بأس به ليلا، وإن بطيب وتمسحه نهارًا، فقوله: وإن بطيب راجع. لمفهوم قوله: إِلَّا لضرورة فهو مبالغة في الجواز، وقوله: إِلَّا لضرورة. يرجع لمسألة الاكتحال كما هو مقتضى صنيع التوضيح".
وقول الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (11/ 340) حيث قال: "ثم قال الشافعي: وما اضطرت إليه مما فيه زينة من الكحل اكتحلت به ليلًا وتمسحه نهارًا".
وقول الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" لأبي النجا (4/ 117) حيث قال: "وأن تكتحل بإثمد ولو كانت سوداء إِلَّا إذا احتاجت للتداوي فتكتحل ليلًا وتمسحه نهارًا".
(1)
يُنظر: "مختصر الخرقى"(ص: 119) حيث يقول: "النقاب فإن احتاجت سدلت على وجهها كما تفعل المحرمة حتى تنقضي عدتها".
(2)
الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" لمحمد بن محمود البابرتي (4/ 344) حيث يقول: "على أنها يجب عليها أن تعتد في منزل الزوج".
المالكية يُنظر: "التاج والإكليل لمختصر خليل" لأبي عبد اللّه المواق (5/ 507) حيث يقول: "ابن عرفة: يلزم المعتدة مقامها في مسكنها حين وقوع سبب عدتها طلاق أو وفاة".
الشافعية، يُنظر:"العزيز شرح الوجيز" للرافعي (9/ 496) حيث يقول: "
…
وفي أن المعتدة يجب عليها ملازمة المسكن الذي تعتد فيه، ولا يجوز لها الخروج منه إِلَّا بضرورة أو حاجة".
الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" لمصطفى بن سعد بن عبدة السيوطي (5/ 581) حيث يقول: " (وتجب عدة) وفاة (بمنزل مات زوجها) وهي ساكنة (فيه) ".
(وَذَلِكَ مَا يُحَرِّكُ الرِّجَالَ بِالْجُمْلَةِ إِلَيْهِنَّ. وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ لإِيجَابِ الْإِحْدَادِ فِي الْجُمْلَةِ لِثبوتِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَفَتَكْتَحِلُهُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا"، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهَا: "لَا"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْر، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ"
(1)
).
هذا حال الناس فيما مضى فلا يقدمون على فعل أي شيء إِلَّا أن يعرفوا حكم اللّه فيه، فهذه المرأة تأخذ ابنتها معها وتسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "ترمي بالبعرة"، فكانت المرأة تدخل ذلك البيت الذي عرفه الشافعي
(2)
بأنه كان ذليلًا أي: حقيرًا صغيرًا، فتبقى به مدة من الزمن، ثم بعدما أكملت بادرت فتأخذ بعرة من البعير أو الشاة فتَرْمي بها كِناية أو علامة على أنها قد خرجت من هذا القيد، فقالوا: تخرج أحيانًا ليلًا متحشمة مستحية لأنه قد طال شعرها، وأصبح منظرها بشعًا، ورائحتها كريهة، فهي بكل وسيلة تسعى لتصل إلى بيت والدها لتزيل ما هي عليه ولا أشد أنها لو تمسحت بطائر - في بعض الروايات - تمسح قبلها فيسرع ذلك الطائر.
(وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ).
وهو: (أبو محمد بن حزم).
(فَعَلَى هَذَا الْحَدِيثِ يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَى الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْإِحْدَادِ)
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
في "الأم" للشافعي (5/ 247) حيث يقول: "الصغير الذليل من الشعر والبناء وغيره".
(3)
لقول ابن حزم يُنظر: "المحلى بالآثار"(10/ 62) حيث قال "مسألة: وعدة الوفاة والإحداد فيها يلزم الصغيرة - ولو في المهد - وكذلك المجنونة - وهو قول مالك، =
فابن حزم يرى أن الدليل الصريح في إيجاب الإحداد هو امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفتيها بأن تكحل ابنتها عينها.
* قال: (وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ دَعَتْ بِالطِّيبِ فَمَسَحَتْ بِهِ عَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِهِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
(1)
، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّة، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ حَظْرٍ فَهُوَ يَقْتَضِي الْإِباحَةَ دُونَ الْإِيجَابِ
(2)
. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ زينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ).
غير الزوج فلا يجوز لها أن تحد أكثر من ثلاثة أيام، وذكر بعض العلماء أنه إذا كان أبوها تُحد سبعة أيام، وهذا غير صحيح وإنما هي
= والشافعي. وقال أبو حنيفة: عليها العدة، ولا إحداد عليها - قال: لأنها غير مخاطبة.
قال أبو محمد: إن كان ذلك عنده حجة مسقطة للإحداد فينبغي أن يسقط بذلك عنها العدة؛ لأن اللّه - تعالى - يقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، والصغيرة غير مخاطبة، وكذلك المجنونة - ولا تتربص بنفسها. وأما نحن، فحجتنا في ذلك -: ما رويناه من طريق البخاري أنا عبد اللّه بن يوسف، أنا مالك، عن عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته: أنها سمعت أم سلمة أم المؤمنين تقول: قالت امرأة: يا رسول اللّه إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "لا، لا إنما هي أربعة أشهر وعشر" وذكرت الخبر. فلم يخُصَّ عليه الصلاة والسلام كبيرة من صغيرة، ولا عاقلة من مجنونة، ولا خاطبها، بل خاطب غيرها فيها - فهذا عموم زائد على ما في القرآن".
(1)
سبق تخريحه.
(2)
يُنظر: "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" لعلاء الدين البخاري الحنفي (2/ 323) حيث يقول: "مذهب من قال الحل والحرمة لا يعرفان إِلَّا شرعًا فيقال الاستثناء من الحظر إباحة فصار كأنه قال هذه الأشياء محرمة في حالة الاختيار مباحة في حالة الاضطرار فتثبت الإباحة في حالة الاضطرأر بالنص أيضًا"، ويُنظر:"التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام" لابن أمير حاج (1/ 207).
ثلاثة، وعلى هذا فهل هناك فرق بين أن يكون قريبًا أو بعيدًا؛ نرى أن النصوص أطلقت فلها أن تحد على كل عزيز.
(قَالَ الْقَاضِي).
وهو: (القاضي ابن رشد).
(وَفِي الْأَمْرِ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ)
(1)
.
يقصد بالمتكلمين هنا: وهم الذين يشتغلون بعلم الكلام أو كما يسميه البعض علم التوحيد، ويقصد به هنا المتكلمين من الأصولين، فالأصوليون ينقسمون إلى قسمين: طريقة المتكلمين وهي تشمل المالكية الشافعية الحنابلة، وطريقة الفقهاء كالحنفية.
(أَعْنِي: هَلْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَوِ الْإِبَاحَةَ؟ وَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ دُونَ الْكَافِرَةِ أَنَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الْإِحْدَادَ عِبَادَة لَمْ يُلْزِمْهُ الْكَافِرَةَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ، وَهُوَ تَشَوُّفُ الرِّجَالِ إِلَيْهَا وَهِيَ إِلَى الرِّجَالِ، سَوَّى بَيْنَ الْكَافِرَةِ وَالْمُسْلِمَةِ؟ وَمَنْ رَاعَى تَشَوُّفَ الرِّجَالِ دُونَ تَشَوُّفِ النِّسَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ إِذَا كانَتِ الصَّغِيرَةُ لَا يَتَشَوَّفُ الرِّجَالُ إِلَيْهَا).
مراد المؤلف أن هذه صغيرة لا تتجه إليها الأنظار بخلاف الكبيرة.
(1)
يُنظر: "التلخيص في أصول الفقه" للجويني (1/ 285) حيث قال: "إذا ثبت الحظر في شيء ثم يعقبه قول: "افعل" فقد اختلف العلماء، فما صار إليه الشافعي رضي الله عنه في أظهر أجوبته أن ورود هذا اللفظ بعد تقدم الحظر يقتضي الإباحة، وإلى نحو ذلك صار جماعة من المتكلمين، ومن العلماء من فصل القول في ذلك فقال: إن ثبت الحظر ابتداء غير معلق بسبب ثم تعقبه لفظ الأمر اقتضى لفظ الأمر الوجوب وإن علق التحرم بسبب ثم عقب ارتفاع ذلك السبب بلفظ الأمر اقتضى ذلك الإباحة".
* قال: (وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمَاتِ دُونَ الْكَافِرَاتِ: قوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أنْ تُحِدَّ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ"
(1)
).
هذا مرَّ في عدة أحاديث منها حديث أم عطية، وحديث زينب بنت جحش، وأم حبيبة من الأحاديث التي روتها زينب ابنة أبي سَلَمَة
(2)
.
(قَالَ: وَشَرْطُهُ الْإِيمَانُ فِي الْإِحْدَادِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عِبَادَةٌ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ وَكَذَلِكَ الْكِتَابِيَّةِ، فَلِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَوْجَبَتْ شيْئَيْنِ بِاتِّفَاقٍ: أَحَدُهُمَا الْإِحْدَادُ، وَالثَّانِي تَرْكُ الْخُرُوجِ، فَلَمَّا سَقَطَ تَرْكُ الْخُرُوجِ عَنِ الْأَمَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى اسْتِخْدَامِهَا سَقَطَ عَنْهَا مَنْعُ الزِّينَةِ).
لأن الأمة تختلف عن الحرة في كونها تخرج؛ لأن من أصل أعمالها القيام بالخدمة وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الحرة
(3)
.
(وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَمِنْ قِبَلِ تَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ. وَأَمَّا الْأَمَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَأُمُّ الْوَلَدِ).
اختلفوا في المكاتبة؛ لأن بعضها حر وبعضها غير حر؛ فهل تلحق بالحرة أم تُلحق بالأمة؟ فمن ألحقها بالحرة أوجب عليها العدة، ومن ألحقها بالأمة قال: لا تجب عليها العِدَّة
(4)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريج تلك الأحاديث.
(3)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 165) حيث يقول: "لأن الأمة والمدبرة وأم الولد والمكاتبة والمستسعاة يجوز لها الخروج في عدة الطلاق والوفاة".
(4)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 165) حيث يقول: "لأن الأمة والمدبرة وأم الولد والمكاتبة والمستسعاة يجوز لها الخروج في عدة الطلاق والوفاة".
(إِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِسْقَاطِ الْإِحْدَادِ عَنْهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِن بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحِدَّ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ"
(1)
فَعُلِمَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ
(2)
).
* دليل الخطاب ما يعبر عنه المؤلف وخاصة في أول الكتاب، وهو المعروف بمفهوم المخالفة، فهناك مفهومان: مفهوم الموافقة: وهو الذي يأتي موافق لظاهر النص
(3)
، ومفهوم المخالفة وهو الذي يأتي على خلاف النص
(4)
.
* قال: (أَنَّ مَنْ عَدَا ذَاتِ الزَّوْجِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إِحْدَادٌ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا دُونَ الْمُطَلَّقَةِ تَعَلَّقَ بِالظَّاهِرِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَمَنْ أَلْحَقَ الْمُطَلَّقَاتِ بِهِنَّ فَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّه يَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى الْإِحْدَادِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ ألَّا تَتَشَوَّفَ إِلَيْهَا الرِّجَالُ فِي الْعِدَّةِ وَلَا تَتَشَوَّفَ هِيَ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ لِمَكَانِ حِفْظِ الْأَنْسَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمٌ).
سد الذريعة حفاظًا على الأنساب، فكلما حفظت المرأة نفسها،
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما أخرجه البخاري (1280)، ومسلم (1486) وفيه:"لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث، إِلَّا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا".
(2)
يُنظر: "رسالة في أصول الفقه" للعكبري (ص: 86: 87) حيث يقول: "دليل الخطاب ويسمى مفهوم المخالفة فهو تخصيص الشيء بالذكر فيدل على نفي حكم ما عداه ولا فرق بين أن تعلق باسم أو صفة".
(3)
يُنظر: "البرهان في أصول الفقه" للجويني (1/ 166) حيث يقول: "مفهوم الموافقة: فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأولى وهذا كتنصيص الرب - تعالى - في سياق الأمر ببر الوالدين على النهي عن التأفيف فإنه مشعر بالزجر عن سائر جهات التعنيف".
(4)
يُنظر: "المحصول" لابن العربي (ص: 105) حيث يقول: "مفهوم المخالفة هو تعليق الحكم على أحد وصفي الشيء، فيدل على الأخذ بخلافه كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، فيقتضي ذلك أن المعلوفة بخلافه".
واحتَبَسَتْ في بيتها، وتجنبت جميع أسباب ما يُغْرِي وما يثير الشهوة، فذلك أحفظ لها وأكثر صيانة لها.
(كمُلَ كتَابُ الطَّلَاقِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى آلَائِهِ، وَالشُّكْرُ عَلَى نِعَمِهِ؛ وَيَتْلُوهُ كِتَابُ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -).