الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي توضَعُ فِيهِ:
وَأَمَّا زَمَانُ الْقَضَاءِ بِالْجَائِحَةِ، فَاتَّفَقَ الْمَذْهَبُ
(1)
عَلَى وُجُوبِهَا فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَبْقِيَةِ الثَّمَرِ عَلَى رُؤُوسِ الشَّجَرِ حَيْثُ يَسْتَوْفِي طِيبَهُ).
أي: أن الجائحة توضع في الوف الذي يتطلبه بقاؤها، فليس للمشتري أن يطلب من البائع أن يزيلها؛ والمراد أنها تلزم إذا لم تكن قد بلغت النضج وتركها المشتري بأن أهملها وتساهل فيها.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَبْقَاهُ الْمُشْتَرِي فِي الثِّمَارِ لِيَبِيعَهُ عَلَى النَّضَارَةِ، وَشَيْئًا شَيْئًا، فَقِيلَ: فِيهِ الْجَائِحَةُ تَشْبِيهًا بِالزَّمَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهِ جَائِحَةٌ تَفْرِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّمَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِالْجَائِحَةِ فِيهِ
(2)
؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ يُشْبِهُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ وَيُخَالِفُهُ مِنْ جِهَةٍ؛ فَمَنْ غَلَّبَ الاتِّفَاقَ أَوْجَبَ فِيهِ الْجَائِحَةَ؛ وَمَنْ غَلَّبَ الاخْتِلَافَ لَمْ يُوجِبْ فِيهِ جَائِحَةً (أَعْنِي: مَنْ رَأَى أَنَّ النَّضَارَةَ مَطْلُوبَةٌ
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 506) حيث قال: "المسألة على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون الثمرة محتاجة إلى بقائها في أصولها ليكمل طيبها، ولا خلاف في ثبوت الجائحة فيه
…
".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 506) حيث قال: "الثالث: أن يتناهى طيبها ولكن تحتاج إلى التأخير لبقاء رطوبته كالعنب المشترى بعد بدو صلاحه، وحكى المصنف - يعني ابن الحاجب - فيه قولين. الباجي: مقتضى رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه لا يراعي البقاء لحفظ النضارة
…
وقال: ومقتضى رواية سحنون أن توضع الجائحة في جميعه. وحكى ابن يونس عن سحنون: إذا تناهى العنب وآن نضاجه لا يتركه تاركه إلا لسوق يرجوها، أو لشغل يعرض له فلا جائحة فيه".
بِالشِّرَاءِ كَمَا الطِّيِبُ مَطْلُوبٌ، قَالَ: بِوُجُوبِ الْجَائِحَةِ فِيهِ؛ وَمَنْ لَمْ يَرَ الْأمْرَ فِيهِمَا وَاحِدًا قَالَ: لَيْسَ فِيهِ جَائِحَةٌ)، وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْجَوَائِحِ فِي الْبُقُولِ).
قوله: (يبيعه على النضارة) يعني: ينتظر أن يبيعه انتظارًا وليس صفقة.
فهو إمَّا أن يبيعه شيئًا فشيئًا، أو يبيعه عن طريق الانتظار، فإذا تجاوز الحد ثم جاءت الجائحة بعد أن نضجت الثمار واستوت على سوقها ثم جاءتها جائحة، ففي اعتبار البائع أيضًا ضامنًا أو لا؛ قولين:
الأول: المشهور في المذهبين أنه لا يؤاخذ بذلك.
الثاني - وهو الوسط -: أنَّ الإنسان لو تركها لعدم وجود زبون يشتريها واحتاج إلى ذلك فلا يعتبر ذلك تقصيرًا، أما لو أهملها وتركها فإنه يكون مسؤولًا عنها. والسبب في اختلافهم فيها كونها لا تحتاج إلى أن تبقى مدة طويلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جُمَلِ النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ وَهُوَ فِي تَابِعَاتِ الْمَبِيعَاتِ
وَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ الْمَشْهُور اثْنَتَانِ).
قوله: (تابعات المبيعات) يعني: الأمور التي تتبع المبيعات لتعلقها بها، ولا تحتبر أصلًا فيها.
* قوله: (الْأُولَى: بَيْعُ النَّخِيلِ وَفِيهَا الثَّمَرُ مَتَى يَتْبَعُ بَيْعَ الْأَصْلِ وَمَتَى لَا يَتْبَعُهُ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
(1)
عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ نَخْلًا فِيهَا ثَمَرٌ قَبْلَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَإِنَّ الثَّمَرَ لِلْمُشْتَرِي).
(1)
هو قول المالكية والشافعية والحنابلة، وخالف الحنفية وقالوا: إنَّ الثمر للبائع إلا أن يشترطها المشتري سواء أبرت أو لم تؤبر.
وقد سبق وتكلمنا عن بيع الثمار التي على النخيل أو على الأشجار، وفي هذه المسألة يريد البائع أن يبيع الأصل التي عليها ثمر، فهل هناك فرق بين أن يكون الثمر مستويًا أو لا؟ أو بمعنى أدق: هل هناك فرق بأن يكون البيع قبل التلقيح أو بعده؟ والمراد بالتلقيح أن تتشقق الثمرة فيلقحها وهو ما يعرف بالإبار أو التأبير.
وقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خَيْرُ مَالِ الْمَرْءِ لَهُ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ"
(1)
. والسكة المأبورة
(2)
هي النخل المصفوف صفًّا، فعندما يدخل المرء بستانًا ويجد فيه النخيل قد رُصت على نسق واحد، ونظمت تنظيمًا بديعًا، فإنه يرى لها منظرًا جميلًا.
والتلقيح أن تلقح الأنثى بالذكر؛ أي: عندما يتشقق الطلع وتبدو ثمرة الشجرة أو النخلة فإنه يأخذ من الفحل الذكر فيمر به على الأنثى، والله سبحانه وتعالى جعل ذلك بين كل ذكر وأنثى.
قوله: (جمهور الفقهاء) - في هذه المسألة - هم المالكية والشافعية والحنابلة، وقد قالوا بأن من باع نخلًا فيها ثمر قبل أن يؤبر فإن الثمر للمشتري.
= يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (6/ 283) حيث قال: "ومن باع نخلًا أو شجرًا فيه ثمر فثمرته للبائع إلا أن يشترطه (المبتاع) لنفسه: أي يشتري الشجرة مع الثمرة التي فوقها، ولا فرق بين المؤبرة وغير المؤبرة في كونها للبائع إلا بالشرط".
يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 105) حيث قال: "ومفهوم كلامه أنها لو كانت غير مأبورة أو أبر منها دون النصف فإنها تكون للمشتري بمجرد العقد على الأصل".
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 51) حيث قال: "وثمرة النخل المبيع إن شرطت للبائع أو المشتري عمل به، وإلا فإن لم يتأبر منها شيء فهي للمشتري وإلا فللبائع".
ويُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 281) حيث قال: " (ونص) الإمام (أحمد) مبتدأ، أي نصه أن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري".
(1)
أخرجه أحمد في المسند (15845)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2926).
(2)
"السكة": الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة: الملقحة. انظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 13).
ويظهر هنا أن اختلاف الفقهاء يسير وفق الأدلة، فلا تجد أن فلانًا يتبع فلانًا لأنه شيخ، أو لأن هذا مذهبه؛ بل متى ما ظهر له الحق فهو معه. وفي مسائل قريبة مرت بنا رأينا أن المالكية والحنابلة في جانب، والشافعية في جانب آخر، ونحن الآن في هذه المسألة نجد أن الأئمة الثلاثة - مالك والشافعي وأحمد - قولهم متحد فيها.
* قوله: (وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بَعْدَ الإبَارِ فَالثَّمَرُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاع، وَالثِّمَارُ كُلُّهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مَعْنَى النَّخِيلِ، وَهَذَا كُلُّهُ لِثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَطْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ"
(1)
).
إذن فالثمر حينها للبائع؛ لا أن يشترطه المبتاع، وفي بعض الروايات: "من باع نخلًا بعد أن تؤبر
…
"
(2)
يعني: بعد أن تلقح
(3)
.
والجمهور قد أخذوا بظاهر الحديث، والحديث له ظاهر وله مفهوم أيضًا؛ وهو ما يسمى: مفهوم المخالفة، ويُعبر عنه المؤلف كثيرًا بـ " دليل الخطاب"
(4)
؛ لأنه يفهم من الخطاب، ومفهوم الموافقة هو الذي يُعرف عند الأصوليين بـ "دلالة النص أو بفحوى الخطاب"
(5)
.
* قوله: (قَالُوا: فَلَمَّا حَكَمَ صلى الله عليه وسلم بِالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ بَعْدَ الْإِبَارِ).
(1)
أخرجه البخاري (2204)، ومسلم (1543).
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (5585)، وقال البغوي في شرح السنة" (8/ 104):"متفق على صحته"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1361).
(3)
قال الهروي: "لأنها لا تؤبر إلا بعد ظهور ثمرتها وانشقاق طلعها وكوافيرها عن غضيضه". انظر: "تهذيب اللغة"(15/ 188).
(4)
مفهوم المخالفة أو دليل الخطاب هو يثبت الحكم في المسكوت عنه على خلاف ما ثبت في المنطوق. انظر: "البحر المحيط" للزركشي (1/ 266).
(5)
مفهوم الموافقة أو فحوى الخطاب، هو أن يوافق المعنى اللازم من اللفظ المركب لمدلوله، وسمي مفهوم الموافقة؛ لأن المسكوت عنه موافق للملفوظ به، ويسمى فحوى الخطاب؛ لأن فحوى الكلام ما يفهم منه على سبيل القطع، وهذا كذلك؛ لأنه أولى بالحكم من المنطوق به أو مساو له. انظر:"البحر المحيط" للزركشي (1/ 266).
إذن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع" واضح، وأمَّا مفهوم المخالفة فهو: أنها إذا لم تؤبر فالثمرة للمشتري، وهذا محل الخلاف بين العلماء.
* قوله: (عَلِمْنَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِبَارِ بِلَا شَرْطٍ).
وهذا هو دليل وتعليل جمهور العلماء.
ودليل الخطاب هو ما يسمى بمفهوم المخالفة؛ وهو إثبات عكس حكم المنطوق به للمسكوت عنه؛ يعني أن هناك عبارة منطوق، وهي في الحديث قوله:"من باع نخلة بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع" لأنه هو الذي تعب عليها وأمضى الوقت فيها، فلما باع الأصل كان أولى بها، ودليلها المخالف أنها إذا لم تؤبر فهي للمشتري وليست للبائع.
ومفهوم المخالفة له أقسام عدة، وهو بلا شك حجة عند جمهور العلماء
(1)
، وفي بعض مدلولاته يُعد حجة عند الحنفية، وقد عمل به العلماء في مسائل كثيرة في الفقه الإسلامي؛ كحديث الزكاة المفروضة في سائمة الغنم، فنص الحديث أن الزكاة في السائمة
(2)
، ومفهوم المخالفة أو دليل الخطاب أن المعلوفة لا زكاة فيها.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: هِيَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ الإبَارِ، وَبَعْدَه، وَلَمْ يُجْعَلِ الْمَفْهُومُ هَاهُنَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ؛ بَلْ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى)
(3)
.
(1)
يُنظر: " شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص 270) حيث قال: "هو حجة عند مالك رحمه الله وجماعة من أصحابه وأصحاب الشافعي، وخالف في مفهوم الشرط القاضي أبو بكر منا وأكثر المعتزلة". وانظر: "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 39).
(2)
أخرجه أبو داود (2/ 96) وفيه: "وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين، ففيها شاة إلى عشرين ومائة". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1399).
(3)
"مفهوم الأولى": هو أن يكون حكم المسكوت أولى من المنطوق مثل تحريم ضرب الوالدين الدال عليه؛ نظرًا لمعنى قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فهو أولى من =
قال أبو حنيفة: هي للبائع مطلقًا؛ أبرت أو لم تؤبر، وأخذ بمفهوم دلالة الأولى والأحرى، وهو ما يعرف عند الحنفية بدلالة النص، وهو ثبوت حكم بالمنطوق به للمسكوت عنهم لاشتراكهما في علة الحكم، فهم يرون أن حكم المنطوق به يثبت للمسكوت عنه ثبوتًا أولى وأحرى، وهو ما يعرف عند بقية الأصوليين بمفهوم الموافقة.
لكن هذه العلة الموجودة في الملحق - المسكوت عنه - قد تكون مساوية لحكم المنطوق به، وربما تكون أقوى منها، فهي بذلك على قسمين:
الأول: إن كانت أقوى منها نسميه مفهوم أولى وأحرى، كما في قول الله سبحانه وتعالى في شأن الوالدين:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23، 24] فالله سبحانه وتعالى يحرم التأفف من الولد لوالديه، فلا يجوز له أن يقول لهما:"أف"، وليس له أن ينهرهما ولا أن يرفع صوته عليهما، وهذا نصٌّ في التحريم.
فما بالك أن يشتم والديه، أو يضربهما، أو يمنعهما الطعام أو الشراب أو الكساء، أو يؤذيهما بأي نوع من الأذى؛ فلا شك أن هذا أشد قسوة وأعظم إثمًا.
وهذا الذي يسمى عند الأصوليين مفهوم أولى؛ لأن العلة فيه أقوى، فلا شك أن السب والضرب ومنع الأكل والحبس إنما هي أقوى من التأفف؛ بل ذكر العلماء بأنه لا ينبغي للولد أن يظهر أمام والديه التضجر، وكلمة (أف) لا ينبغي أن يقولها أمامهما، فالأب والأم فيهما من الشفقة التي غرسها الله سبحانه وتعالى في قلوبهما ونفوسهما مما لا يوصف تجاه أولادهما، وحتى إن كبر الرجل وشبَّ وأصبح رجلًا سويًّا فالرحمة والشفقة والعطف
= تحريم التأفيف المنطوق لكونه أشد منه في الإيذاء. يُنظر: "طريقة الحصول" لزكريا الأنصاري (1/ 147).
والحنان تتبعه منهما، وأي أذًى من الولد ولو كان صغيرًا فهو يؤثر فيهما ويسبب لهما الحزن والأسى. وعليه أن يظهر أمامهما السرور والراحة حتى ولو وجد ما يضيق صدره ويعكر صفوه، وينبغي ألا ينكر ذلك حتى يحافظ على شعورهما ولا يؤذيهما.
الثاني: إذا كانت العلة مساوية لحكم المنطوق به
(1)
، ومنه قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10] فالله تعالى حرم أكل أموال اليتامى لأن اليتيم كما هو معروف ضعيف، والضعيف ينبغي أن يهتم بأمره، ولذلك ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مما يرفع قدر عمل العبد ويثاب عليه أن يمسح على رأس اليتيم، وأن يعطف عليه لأنه بحاجة إلى الشفقة والرفق، وبحاجة إلى العناية، ومن العناية أن يحفظ ماله ويحافظ عليه لا أن يضيع، إذن نص الآية ولو أُحرق مال اليتيم أو أُغرق فهو لا شك كأكله تمامًا، وهذا نسميه مفهوم موافقة مساوي، فالعلة في المنطوق به تكون مساوية للعلة في المسكوت عنه، ومن الأمثلة كذلك ما مرَّ بنا في باب النكاح، قال الله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وهي عِدَّة التي تحيض، إذ تتربص بنفسها ثلاثة قروء.
ويقول تبارك وتعالى أيضًا: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
ومنه فعدة المرأة ثلاثة قروء بالنسبة للمطلقة، والعلة في كون المرأة المطلقة تتربص ثلاثة قروء هو براءة الرحم، إذن كذلك التي يفسخ نكاحها
(1)
ويسميه البعض لحن الخطاب، قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2878):"مثل إحراق مال اليتيم الدال عليه نظرًا في المعنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] فالإحراق مساو لأكل مالهم بواسطة الإتلاف في الصورتين فسماه بعضهم كما تقدم لحن الخطاب، والذي قبله فحوى الخطاب".
أو التي تخلع زوجها وقد وطئها، عدتها ثلاثة قروء للتساوي الحاصل بين علة الطلاق وعلة الفسخ.
وهذا أيضًا يسمى مفهوم موافقة، والكلام فيه كثير جدًّا، ومسائله عديدة، وهو الذي أشار إليه المؤلف، فالحنفية يعتبرون ذلك مفهوم أحرى وأولى، والجمهور يقولون: هو مفهوم مخالفة، ولا شك أن رأي الجمهور أولى في ذلك.
* قوله: (قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتْ لِلْبَائِعِ بَعْدَ الْإِبَارِ فَهِيَ أَحْرَى أَنْ تَجِبَ لَهُ قَبْلَ الْإِبَارِ).
وليس شرطًا إذا وجبت له قبل الإبار فإنها تجب له بعد الإبار؛ لأنه بعد الإبار قد تعب فيها، لكنه قبل الإبار لم يعمل شيئًا فلا شك أن هناك فرق بينهما.
* قوله: (وَشَبَّهُوا خُرُوجَ الثَّمَرِ بِالْوِلَادَةِ، وَكلمَا أَنَّ مَنْ بَاعَ أَمَةً لَهَا وَلَدٌ فَوَلَدُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ كَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الثَّمَر).
ووجه الشبه بين الأمرين أن في التأبير النخلة تشق فتخرج الثمرة، وفي الولادة كذلك يخرج الولد من الأمة، فهنا خروج وهناك خروج، ومنه فكما أن الأمة إذا ولدت ولدًا وبيعت فإنه يتبعها إلا أن يشترطها كذلك المبتاع، فكذلك الأمر في الثمرة.
* قوله: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى
(1)
: سَوَاءٌ أَبَّرَ أَوْ لَمْ يُؤَبِّرْ إِذَا بِيعَ الْأَصْلُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرَطَهَا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، فَرَدَّ الْحَدِيثَ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الثَّمَرَ جُزْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ، وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْقَوْلِ إِلَّا إِنْ كَانَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ).
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 34) حيث قال: "في قوله: من باع نخلًا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، وهذا قول مالك، إلا ابن أبي ليلى فإنه قال: الثمرة للمشتري، وإن لم يشترط لأن ثمرة النخل من النخل".
قال بذلك ابن أبي ليلى إلحاقًا للفرع بالأصل؛ لأنه يعتبر الثمرة تتبع الأصل، فلما أصبح الأصل للمشتري فينبغي أن تلحق الثمرة بأصلها - أي: الشجرة - فتكون له كذلك.
ونحن نقول: إن هذا القياس - أو التعليل - مقبول لو لم يرد نص، لكنه لا قياس مع النص، فالنص موجود بين أيدينا وهو حديث متفق عليه، وينبغي أن نأخذ به، ومذهب جمهور العلماء في رأيي - مع أنهم يستدلون بمفهوم المخالفة - أقوى؛ لأنه أصرح دلالة من مفهوم الموافقة الذي استدل به الحنفية.
ونحن لا نستطيع أن نحكم بأنه رد الحديث بالقياس، فربما أن الحديث لم يبلغه، أو أنه سمع الحديث فتأوله، لكن الحديث يرد عليه بلا شك، ولا مجال للقياس مع وجود نص صحيح صريح في المسألة.
* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَرُدَّ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا خَالَفَ مَفْهُومَ الدَّلِيلِ فِيهِ).
يقصد المؤلف أن أبا حنيفة ما رد الحديث؛ لكنه تأول الدليل بأن فيه مفهوم موافقة، وهو بعيد جدًّا، والحديث لفظ منطوق ومفهوم، والمفهوم هو مفهوم مخالفة؛ لأنه لما نص على أن من باع ثمرًا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع الذي أبرها وتعب فيها؛ مفهومه أنه إذا لم يؤبرها هذا يتبادر إلى ذهن الإنسان مباشرة أنها للمشتري.
* قوله: (فإذن سَبَبُ الْخِلَافِ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ - وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ - مُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ لِدَلِيلِ مَفْهُومِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ، لَكِنَّهُ هَاهُنَا
ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ).
وأحمد أيضًا، فالأئمة الثلاثة رأيهم واحد في هذه المسألة.
وقوله: (فحوى الخطاب) هو ما يعرف بدلالة النص أو مفهوم
الموافقة؛ أي: مراد الخطاب ومقصده.
يريد المؤلف أن يقول بأن للحديث مفهومين؛ مفهوم مخالفة ومفهوم موافقة، والجمهور يأخذون بمفهوم المخالفة، بينما أبو حنيفة أخذ بمفهوم الموافقة، ولكن الحديث يدل على مفهوم المخالفة أكثر من دلالته على مفهوم الموافقة؛ لأن دلالته على مفهوم الموافقة بعيدة جدًّا.
* قوله: (وَأَمَّا سَبَبُ مُخَالَفَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: فَمُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلسَّمَاعِ، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا ضَعِيفٌ).
والقياس هو كونه ألحق الثمرة بالأصل فقال: تتبع أصلها.
* قوله: (وَالْإِبَارُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ
(1)
: أَنْ يَجْعَلَ طَلْعَ ذُكُورِ النَّحْلِ فِي طَلْعِ إِنَاثِهَا، وَفِي سَائِرِ الشَّجَرِ أَنْ تُنَوَّرَ وَتُعْقَدَ، وَالتَّذْكِيرُ فِي شَجَرِ التِّينِ الَّتِي تُذَكَّرُ فِي مَعْنَى الْإِبَارُ).
وعامة الناس يعرفون ذلك؛ لأن النخل أيضًا كالإنسان والحيوان منه الذكر ومنه الأنثى، فيأخذ عرق من الذكر فيمرر على الأنثى، وهذا هو التلقيح.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (5/ 322) حيث قال: "والتأبير التلقيح وهو إن يثق الكم ويذر فيها من طلع الفحل، فإنه يصلح ثمر إناث النخل".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (4/ 496) حيث قال: "التأبير تعليق طلع الذكر على الأنثى لئلا تسقط ثمرتها وهو اللقاح".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (3/ 550) حيث قال: "والتشقيق وذر الطلع فيها يسمى: التأبير، ويسمى: التلقيح".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 466) حيث قال: "والتأبير: التلقيح".
وأما التين فيقول العلماء
(1)
: إن علامة تأبيرها أن يزول ما عليها من قشر وما عليها من نور، فتصبح حينئذٍ ثمرة، وهذا علامة على أنها قد تفطرت، وليس شرطًا أن يكون هناك تأبير.
وأهل العلم يثبتون الثمر حينئذٍ للبائع، فكل ثمرة يظهر عليها التأبير، إمَّا فعلًا كالنخلة، وإمَّا لأنها تتأبر عادة بمعنى أنها تتشقق وتظهر ثمرتها، فهي من حق البائع.
* قوله: (وَإِبَارُ الزَّرْعِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ إِبَارَهُ أَنْ يُفْرَكَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الثَّمَرِ
(2)
. وَهَلِ الْمُوجِبُ لِهَذَا الْحُكْمِ هُوَ الْإِبَارُ أَوْ وَقْتُ الْإِبَارُ؟ قِيلَ: الْوَقْت، وَقِيلَ: الْإِبَار، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الاخْتِلَافُ إِذَا أُبِّرَ بَعْضُ النخل ولم يؤبر البعض، هل يتبع ما لم يأبر ما أبر أو لا يتبعه
(3)
).
يعني هل الموجب للحكم بالثمر للبائع هو الإبار أو وقت الإبار؟ والحقيقة أن الموجب هو الإبار وليس وقته؛ أي: لو جاء وقت الإبار ولم تؤبر فلا تعتبر حينئذٍ مؤبرة، والحديث صريح في ذلك.
ولكن الحديث صريح باعتبار الإبار تأبير النخل.
وقوله: (وعلى هذا ينبني الاختلاف إذا أبر بعض النخل ولم يؤبر البعض).
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 496) حيث قال: "والتأبير في التين وما لا زهو له أن تبرز جميع الثمرة عن موضعها وتتميز عن أصلها، فذلك بمنزلة التأبير؛ لأنه حينئذٍ تبين حاله وقلته وكثرته".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 496) حيث قال: "أما الزرع فإباره أن يفرك في رواية ابن القاسم".
(3)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 496) حيث قال: "الباجي: إن أبر بعض الشجر دون بعض فإن كان أحد الأمرين أكثر فقال مالك: القليل تبع للكثير، وقال أيضًا: هو به بمنزلة المتساوي".
هذه المسألة مختلف فيها، واعتبرها العلماء فرعًا. فلو أبر بعض النخل وترك بعضه، هل يعتبر ما لم يؤبر تابعًا للمؤبر يأخذه البائع، أم أن هناك فرق بينهما؟
في ذلك خلاف
(1)
، والصحيح أن ما أبر فهو للبائع، وما لم يؤبر فهو للمشتري، كما لو لم يؤبره مطلقًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"من باع نخلًا قد أبرت ثمره"
(2)
، وهذه لم تؤبر، فهي إذن من حقِّ المشتري وليست من حق البائع.
* قوله: (واتفقوا
(3)
فيما أحسبه على أنه إذا بيع ثمر وقد دخل وقت الإبار فلم يأبر أن حكمه حكم المؤبر).
وهذا ليس كما ذكر المؤلف، فهو ليس محل اتفاق؛ بل أكثر العلماء ينازع فيه؛ لأن الحديث صريح الدلالة على المعنى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من باع نخلًا قد أبرت ثمره" فما لم يؤبر، حتى وإن مرَّ به الوقت لا يعتبر مؤبرًا، فينبغي أن نقف عند صريح الحديث؛ لأنه نص في هذه المسألة، فكيف نترك دلالة الحديث ونأخذ بمفهومه.
* قوله: (المسألة الثانية وهي اختلافهم في بيع مال العبد).
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 455) حيث قال: " (وإلا) يُشرَط شيء (فإن لم يتأبر منها شيء فهي للمشتري)، وإن كان طلع ذكر (وإلا) بأن تأبر بعضها، وإن قل، ولو في غير وقته كما اقتضاه إطلاقهم خلافًا للماوردي، وإن تبعه ابن الرفعة (فللبائع) جميعها المتأبر وغيره حتى الطلع الحادث بعد خلافًا لابن أبي هريرة".
وينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 281) حيث قال: "عنى حديث ابن عمر السابق: "من باع نخلًا مؤبرًا فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع". متفق عليه (وعمومها يخالفه) خبر أي يخالف ما ذكره الأصحاب من أن الكل للبائع، هذا معنى كلامه في المغني. قلت: لا مخالفة؛ لأن قول الإمام "ما أبر" صادق بما إذا أبر جميع النخلة أو بعضها، وكذلك الحديث".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم أن الحنفية لا يفرقون بين المؤبر وغيره، ولم أقف على قول الباقين في اتفاقهم أو اختلافهم في هذه المسألة.
المؤلف يبحث في هذه المسألة ما يتعلق ببيع مال العبد، ويقصد بالعبد المملوك، وأمَّا من حيث التعبد فالخلق كلهم عبيد الله سبحانه وتعالى، لا فرق بين أبيضهم وأسودهم، ولا بين أحمرهم وأصفرهم، ولا بين كبيرهم ولا صغيرهم، ولا بين شريفهم ووضيعهم، فهم كلهم متساوون في عبادة الله سبحانه وتعالى، وكلهم أيضًا بحاجة إليه سبحانه وتعالى، فهو الغني وهم الفقراء، ولا شك أنَّ من أجلِّ وأحسن ما يتحلى به المؤمن أن يكون عبدًا لله سبحانه وتعالى، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى نبيه في موضع الثناء فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1].
والمملوك إنما حصل رقه بسبب القتال، فقد كان كافرًا، ثم بعد ذلك أُسر، وهذا الأسير كما هو معلوم تترتب عليه أحكام، وهو يباع ويشترى كسائر الأموال؛ لكن الإسلام لم يُغفل جانبه، فقد حضَّ على إعتاق الرقيق ورغب في ذلك أيضًا، وأكده فيما يتعلق بالكفارات كما مر بنا في كفارة الجماع في رمضان، وكذلك فيما يتعلق بالمظاهرة والقتل وغير ذلك.
ومبحثنا في هذه المسألة هو ما يخص المملوك من حيث ماله؛ وفي ذلك عدة أمور هي:
الأول: هل المملوك يملك أو لا يملك؟
الثاني: إذا قلنا أنه لا يملك مطلقًا فكيف إذا ملَّكه سيده مالًا من الأموال أو صنفًا من الأصناف؟ هذا أيضًا محل خلاف بين العلماء، والأول الخلاف فيه أشد.
الثالث: المملوك إذا بيع وليس له مال، ولكن له ثياب وتبعات، فهل هي تتبعه أيضًا في المبيع أو لا؟ أي: هل هي من حق المشتري أو أن ذلك يختلف؟ وهي أيضًا مسألة فيها تفصيل.
الرابع: وعلى القول بأنه إذا اشترط أيضًا المشتري ماله فأخذه، ثم فسخ العقد بسبب من الأسباب - كالإقالة أو وجود عيب أو في وقت الخيار - فهل يعود هذا المال إلى المالك الأول أو لا؟
فهذه كلها مسائل اختلف فيها العلماء، والمؤلف لم يستوعبها، ولكننا نشير إليها لارتباط بعضها ببعض.
فأمَّا قولنا: هل يملك أو لا يملك، نقصد مطلقًا دون أن يملكه سيده؛ فأهل الظاهر
(1)
يذهبون إلى أنه يملك، ويستدلون بقول الله سبحانه وتعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وكلمة: (لكم) هذه عامَّة، ومنه قالوا: فهو يدخل في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ} حيث يدخل فيها الحر والعبد، وقوله:{جَمِيعًا} أي: أنهم يتساوون في الملك، فكما أن الحر له الحق في أن يملك، كذلك أيضًا العبد له أن يملك، ثم أكدوا ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من باع عبدًا له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع"
(2)
. وقالوا في هذا الحديث ما يدل على أن العبد يملك وذلك لأن الرسول قال فماله قالوا فذكر المال للعبد وبلام الملك دل على أنه يملك وله مال، واللام تدل على الملك. وأما الجمهور فردوا ذلك بقول الله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75] فنجد أن الله سبحانه وتعالى فرَّق بينهما. وقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} قالوا: وإذا كان لا يقدر على شيءٍ فهو لا يملك، ثم جاء الطرف الآخر - وهو الحر - فأثبت الله سبحانه وتعالى له الملك فقال:{وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} . ثم قال عز وجل: {هَلْ يَسْتَوُونَ} أي: أن هناك فرقًا بينهما.
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 215) حيث قال: "وقد أوضحنا الحجة في أن العبد يملك، ويكفي من ذلك قوله تعالى في الإماء: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فدخل في هذا الخطاب الحر والعبد. وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فصح أن صداق الأمة لها بأمر الله تعالى يدفعه إليها، وصح أن العبد مأمور بإيتاء الصداق، فلولا أنه يملك ما كُلف ذلك".
(2)
أخرجه البخاري (2379) ومسلم (1543) ولفظه عن ابن عمر وفيه: "
…
ومن ابتاع عبدًا وله مال، فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع".
وقال أيضًا جمهور العلماء
(1)
: هو لا مال له أصلًا لأنه سلعة، فهو يُباع ويُشترى، فكيف يملك وهو مملوك، وهذه مسألة لم يتعرض لها المؤلف فأحببت أن أُشير إليها.
ثم بعد ذلك يختلف العلماء أيضًا: هل إذا ملَّكه سيده مالًا بأن أعطاه دراهم أو دنانير، أو ملَّكه دارًا أو بستانًا أو غير ذلك؟ على أقوال:
الأول: الحنفية
(2)
والشافعي
(3)
- في الجديد - وهي رواية للإمام أحمد
(4)
: أنه لا يملك، ووجهة نظرهم أنه لو ملك فماله لسيده؛ لأنه مملوك فلا يملك.
الثاني: ذهب الإمام مالك
(5)
، وهي الرواية الأخرى للإمام أحمد
(6)
(1)
وهو مذهب الحنفية والشافعية والمالكية.
يُنظر: "الهداية شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (4/ 91) حيث قال: "لأن المملوك لا ملك له".
وينظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 52) حيث قال: "ولا يملك العبد بتمليك سيده في الأظهر".
وينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 494) حيث قال: "وأجمعوا على أن المملوك لا يورث؛ لأنه لا مال له".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (ص 52) حيث قال: "فإن الرق يمنع الإرث؛ لأن الرقيق لا يملك شيئًا
…
ولا فرق في ذلك بين أن يكون قنًّا؛ وهو الذي لم ينعقد له سبب الحرية أصلًا، وبين أن ينعقد له سبب الحرية كالمدبر والمكاتب وأم الولد، ومعتق البعض عند أبي حنيفة لأن المعنى يشمل الكل. وهو عدم تصور الملك لهم".
(3)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 52) حيث قال: "ولا يملك العبد بتمليك سيده في الأظهر".
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 6) حيث قال: "العبد إذا ملكه سيده مالًا: أن في ملكه خلافا؛ لقوله: "وقلنا: إنه يملكه"، واعلم أن الصحيح من المذهب والروايتين: أنه لا يملك بالتمليك، وعليه أكثر الأصحاب".
(5)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (7/ 227) حيث قال: "لأن العبد يملك".
(6)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 6) حيث قال: "اختار الأصحاب: أنه لا يملك، والرواية الثانية: يملك بالتمليك. اختاره أبو بكر".
- وفي نظري أن ذلك هو الصحيح -: أنه يملك؛ بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من باع عبدًا له مال" فأثبت المال له.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَالِ الْعَبْدِ: هَلْ يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ):
قصد المؤلف في قوله: (بيع مال العبد) ليس بيع ماله منفصلًا، والمقصود أنه إذا بيع عبد وله مال ملكه إياه سيده، فهل المال يتبعه أو لا؟
أي: هل المال منفصل عنه فيكون للبائع، أو أنه تابع له فيكون للمشتري، أو أنه في الأصل للبائع ولو اشترطه المشتري لكان له؟
ثم إن هناك جزئية لم يتعرض لها المؤلف، وهي الفرق بين أن يشتري إنسان عبدًا وله مال، وبين أن يكون قصده من الشراء العبد والمال - أي: أن يكون المال مقصودًا - فإن كان العبد هو المقصود يدخل المال تبعًا، وإن كان المال مقصودًا فإنه ينطبق عليه ما ينطبق في أحكام البيوع، وعلينا أن نذكر هنا مسألة القلادة
(1)
التي بيعت وسُئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا". يعني: لا يجوز بيعها حتى تصفى ويعرف ما فيها من الذهب ومن غيره، وقد وجد أن ما فيها من الذهب أكثر من الثمن الذي أراد المشتري أن يهبه.
ومنه فإن لم يكن المال مقصودًا فهذا لا يضر؛ فلو يشتري أحدهم مثلًا بيتًا من البيوت، ثم يجد أن سقفه جميعًا مموهة بالذهب، أو يشتري الحيطان وتحتها أسس، كل هذه الأشياء تتبع أصلها لأنها لم تكن مقصودة. لكن إذا قصد المشتري هذا المال حينئذٍ لا بدَّ أيضًا أن يراعى فيه ما يراعى في البيوع من ألا يكون قد دخل في أبواب الربا، أو ألا يكون بيع وسلف أيضًا كما مضى في المسائل السابقة.
(1)
أخرجه مسلم (1591) عن فضالة بن عبيد، قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لا تباع حتى تفصل".
* قوله: (أَحَدُهَا: أَنَّ مَالَهُ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ لِسَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَالْكُوفِيُّونَ
(2)
).
أي: قال به الشافعي وأبو حنيفة، وكذلك أحمد
(3)
، إذن جمهور العلماء قالوا بهذا القول.
* قوله: (وَالثَّانِي: أَنَّ مَالَهُ تَبَعٌ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَأَبِي ثَوْرٍ
(4)
. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فِي الْعِتْقِ لَا فِي الْبَيْعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(5)
، وَاللَّيْثُ
(6)
).
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 100) حيث قال: "فالعبد - وفي نسخة والعبد - لا يملك شيئًا وإن ملكه سيده، كما لا يملك بالإرث، ولأنه مملوك فأشبه البهيمة، وأما خبر: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع؛ إلا أن يشترط المبتاع" فأجيب عنه بأن الإضافة فيه للاختصاص لا للملك، (فإن باعه وما في يده) من المال وإن ملكه له (لزم في المال شروط المبيع من نفي الجهالة والربا) وغيرهما؛ لأنه مبيع كالعبد، وعبارة الأصل اعتبر في المال شروط المبيع حتى لو كان مجهولًا أو غائبًا أو دينًا والثمن دين أو ذهبًا، والثمن ذهب لم يصح".
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (5/ 318) حيث قال: "ولو باع عبدًا له مال إن لم يذكره في البيع فهو للبائع".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 87) حيث قال: " (و) لا يشمل البيع (مالًا معه)، أي: الرقيق (أو بعض ذلك)، أي: بعض ما لجمال وبعض المال (إلا بشرط) بأن شرط المشتري ذلك أو بعضه في العقد؛ لحديث ابن عمر مرفوعًا: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع؛ إلا أن يشترطه المبتاع".".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 277) حيث قال: "ماله تبع له في البيع والعتق جميعًا، وممن قال ذلك الحسن والزهري، وهو قول داود وأبي ثور".
(5)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 181) حيث قال: "ومال العبد بالجر عطفًا على كالمنعقد؛ أي: لا يندرج في العقد على العبد الكامل الرق ماله؛ بل هو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وإضافة المال للعبد يقتضي أنه يملكه، وهو كذلك لكن ملكًا غير تام".
(6)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 277) حيث قال: "مال العبد تبع له في العتق، وإن بيع فماله لسيده، وللمشتري أن يشترطه إن شاء، وممن قال ذلك إبراهيم النخعي، وهو قول مالك والليث".
إذن الأقوال في ذلك ثلاثة:
الأول: قول جمهور العلماء - الأئمة الثلاثة.
الثاني: قول أهل الظاهر، وسبق وذكرنا أن أهل الظاهر قاعدتهم أنه يملك كغيره.
الثالث: وهو قول الإمام مالك، حيث فرَّق بين العتق وبين غيره، وسيأتي معنا أن سبب تفريق مالك بين العتق وبين البيع هو الحديث الذي رواه في موطئه - ورواه غيره - ولكنه حديث ضعيف سيذكره المؤلف.
* قوله: (فَحُجَّةُ مَنْ رَأَى أَنَّ مَالَهُ فِي الْبَيْعِ لِسَيِّدِهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَشْهُور، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ؛ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ").
وهو حديث صحيح معروف جاء متفقًا عليه من رواية
(1)
، وجاء في مسلم في رواية أخرى
(2)
.
إذن الحديث صريح في أنه من باع عبدًا وله مال فهو للبائع؛ وذلك لأنه هو الذي ملكه إياه، وإذا كان يملكه فمن باب أولى أن يملك ماله وهو أحق به من المشتري؛ لكن لو اشترطه المشتري فإنه يتبعه في هذه الحالة، وهذا هو رأي الجمهور، وقد أخذوا بظاهر الحديث كما هو واضح.
* قوله: (وَمَنْ جَعَلَهُ لِسَيِّدِهِ فِي الْعِتْقِ فَقِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ).
وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة، وقد بنوا ذلك على قول الله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"فماله للذي باعه" فقال أهل الظاهر
(3)
: ثبت له المال فتملك إذن هو أحق به.
(1)
أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1543).
(2)
لم أقف إليها.
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 277) حيث قال: "ماله تبع له في البيع والعتق جميعًا، وممن قال ذلك الحسن والزهري، وهو قول داود وأبي ثور".
* قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ تَبَعٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ انْبَنَتْ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مَالِكًا عِنْدَهُمْ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا كثِيرًا؛ أَعْنِي: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ أَوْ لَا يَمْلِكُ؟).
إذن المسألة ذات شقين:
الأول: هل يملك مطلقًا أو لا؟
- الجمهور يرون أنه لا يملك.
- والظاهرية يرون أنه يملك.
الثاني: هل يملك إذا ملكه سيده أم لا يملك؟
- أكثر الفقهاء - أبو حنيفة والشافعي في الجديد، وهي رواية للإمام أحمد - أنه لا يملك؛ لأنه ليس له أن يستقل فهو وماله لسيده.
- والقول الآخر أنه يملك، وهو مذهب الإمام مالك والرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وقلنا: هذا أصح، ويشهد أيضًا له ظاهر الحديث.
* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا غَلَّبُوا الْقِيَاسَ عَلَى السَّمَاعِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما هُوَ حَدِيث خَالَفَ فِيهِ نَافِعٌ سَالِمًا؛ لِأَن نَّافِعًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَالِمٌ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
والحقيقة أن هذا لا يضر؛ لأن ما حصل من ابن عمر رضي الله عنه إنما كان تفضلًا منه بأنه ملكه.
* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ رحمه الله فَغَلَّبَ الْقِيَاسَ فِي الْعِتْقِ وَالسَّمَاعَ فِي الْبَيْعِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإ
(1)
: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُبْتَاعَ إِذَا اشْتَرَطَ مَالَ الْعَبْدِ فَهُوَ لَهُ نَقْدًا كَانَ، أَوْ عَرَضًا، أَوْ دَيْنًا. وَقَدْ
(1)
انظر: "الموطأ"(4/ 883).
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ غُلَامًا فَمَالُهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ سَيِّدُهُ").
وقوله هنا: "إلا أن يستثنيه سيده" عكس قوله في الحديث السابق: "إلا أن يشترطه المبتاع" ولأجل ذلك فرَّق الإمام مالك بين العتق والبيع، وهذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ
(1)
، ورواه كذلك النسائي)
(2)
وابن ماجه
(3)
، وقد ضعفه العلماء
(4)
فلم يأخذ به بقية الأئمة.
* قوله: (وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَشتَرِيَ الْعَبْدَ وَمَالَهُ بِدَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْعَبْدِ دَرَاهِمَ أَوْ فِيهِ دَرَاهِمُ. وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَالشَّافِعِيُّ
(6)
إِذَا كَانَ مَالُ الْعَبْدِ نَقْدًا، وَقَالُوا: الْعَبْدُ وَمَالُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَاعَ شَيْئَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ).
وخالفه أحمد أيضًا
(7)
، ومسألة بيع شيئين كالتي مرت بنا في حديث بيع القلادة التي فيها ذهب وخرز.
(1)
لم أجده.
(2)
أخرجه النسائي (4962)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1749).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2529).
(4)
يُنظر: "عون المعبود وحاشية ابن القيم"(9/ 217) قال: "قال المنذري: في إسناده مجهول".
(5)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (5/ 319) حيث قال: "وإن كان الثمن من جنس مال العبد بأن كان الثمن دراهم ومال العبد دراهم، فإن كان الثمن أكثر جاز، وإن كان مثله أو أقل لا يجوز؛ لأنه بيع العبد بلا ثمن، وإن كان منها، ولم يكن من جنسه بأن كان دراهم ومال العبد دنانير وعلى العكس جاز إذا تقابضا في المجلس، وكذا لو قبض مال العبد ونقد حصته من الثمن، وإن افترقا قبل القبض بطل العقد في مال العبد".
(6)
لم أقف عليه.
(7)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 288) حيث قال: " (فإن كان) المبتاع (قصده المال) الذي هو مع الرقيق بأن لم يقصد تركه للرقيق كما يأتي (اشترط علمه) بالمال (وسائر شروط البيع) لأنه مبيع مقصود أشبه ما لو ضم إليه عينًا أخرى".
* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِبَعْضِ مَالِ الْعَبْدِ فِي صَفْقَةِ الْبَيْعِ: فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوز، وَقَالَ أَشْهَبُ: جَائِزٌ أَنْ يَشْتَرِطَ بَعْضَه، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ
(1)
فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا اشْتَرَى بِهِ الْعَبْدَ عَيْنًا وَفِي مَالِ الْعَبْدِ عَيْن لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ دَرَاهِمُ بِعَرَضٍ وَدَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ مَا اشْتَرَى بِهِ عَرُوضًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْعَبْدِ دَرَاهِمُ جَازَ).
أي: إذا جاز له أن يشترط جميع ماله فله أن يشترط بعضه، ويتفرع عن هذا أيضًا مسألة أخرى لم يتكلم عنها المؤلف
…
يعني: بيع عرض ودراهم عرض لكن وهذا يدخل في مد عجوة ودرهم ببيع مد عجوة ودرهم أو مد عجوة ودرهم بمد عجوة.
* قوله: (وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ بَعْضَهُ: تَشْبِيهُهُ بِثَمَرِ النَّخْلِ الْإِبَار. وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ تَشْبِيهُ الْجُزْءِ بِالْكُلِّ).
سبق وذكرنا بأنه في هذه المسائل يطبق ما يطبق في أحكام البيع الأخرى، كأن تبيع دراهم ومعها عرض بدراهم، فإنه لا بدَّ من التساوي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل يدًا بيد". ثم قال: "وإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"
(2)
.
فإذا كان معه غيره فلا بدَّ من معرفة التساوي.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 182) حيث قال: "وأما لو اشترط بعضه لم يجز عند ابن القاسم كبعض الصبرة، وبعض الزرع، وبعض حلية السيف خلافًا لأشهب، ولا يجوز بيع عبدين واستثناء مال أحدهما".
(2)
أخرجه مسلم (1587).
* قوله: (وَفِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ مَسْكُوتٌ عَنْهَا كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ مِمَّا قَصَدْنَاهُ).
ومن بين هذه المسائل:
- مسألة أن يملك مطلقًا أو لا يملك.
- ومنها مسألة أخرى متفرعة عن هذه المسألة هي: العبد إذا باعه سيده وكانت له ملابس وأدوات - ونقصد هنا العبد مطلقًا؛ يعني سواء كان ذكرًا أو أثنى - وقد نص العلماء
(1)
في هذه المسألة أنه إذا باع السيد عبده وكان له ثياب فهي قسمين:
الأول: الثياب العادية؛ أي: التي يعتاد لبسها كالتي يلبسها للخدمة أو للنوم.
الثاني: ملابس تكون للزينة؛ أي: التي يتزين بها ويتجمَّل في المناسبات والأعياد، أو عندما يأتي ضيوف عند سيده.
وكذلك الجارية تكون لها ثياب عادية تلبسها في سائر أيامها، وقد تكون لها ثياب غالية مثلًا لا تلبسها عادة كثياب الحرير، أو يكون لها مثلًا حلي وغير ذلك من أنواع الذهب.
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء، وهم يردونها إلى بعض القواعد
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (4/ 550) حيث قال: "لو باع عبدًا أو جارية كان على البائع من الكسوة ما يواري عورته، فإن بيعت في ثياب مثلها دخلت في البيع ومثله في الفتح، ودخول ثياب المثل بحكم العرف".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 450) حيث قال: "وكذا ثياب العبد يعني القن التي عليه حالة البيع تدخل (في بيعه في الأصح) للعرف".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 288) حيث قال: " (فإن كان عليه) أي الرقيق (ثياب فقال) الإمام (أحمد ما كان للجمال فهو للبائع) لأنه زيادة عن العادة: فلا تتعلق به حاجة العبد إلا أن يشترطه المبتاع (وما كان للبس المعتاد فهو للمشتري) لجريان العادة ببيعها معه وتتعلق بها مصلحته وحاجته؛ إذ لا غنى له عنها".
الفقهية؛ فبعض العلماء يرى أن من باع عبدًا وله ثياب، أو جارية ولها ثياب معتادة وغير معتادة، أو كان لها حليًا فإنها تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بالثياب التي يعتاد العبد أن يلبسها تدخل في البيع.
الثاني: لو باعه عبدًا وعليه ملابس غالية، أو كانت عنده ملابس مرتفعة القيمة لا يلبسها إلا في مناسبة فلا تدخل في البيع، وتكون للسيد الذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع.
والذين قالوا: لا تلحق بالعبد حجتهم أنها أصلًا اشتراها السيد لمصلحته لا لمصلحة العبد؛ لأنه يلبسها ليتجمل بها ويتزين بها في المناسبات، فينبغي أن تعود للسيد. والآخرون قالوا: إن هذه ثياب تابعة له فينبغي أن تلحق به.
ومن المسائل الفرعية التي تتفرع عما قال: لو أنه باع عبدًا والعبد له مال واشترطه المبتاع، فانتقل العبد مع ماله للمشتري، ثم بعد ذلك حصل فسخ المبيع بأن وجد عيبًا في العبد، فطالب المشتري برده فرُد، فهل يرد المال معه أو لا يرده؟
أيضًا لو حصلت الإقالة، بأن أقيل من البيع هل يرد المال معه أو لا يرده؟
وفي المسألة قولان:
الأول: جمهور العلماء
(1)
يرون أنه كان مقصودًا فيرد.
الثاني: وأهل الظاهر يقولون: إنه ليس مقصودًا؛ وإنما المقصود هو العبد فلا يرد معه المال.
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 206) حيث قال: " (وإن رد) الرقيق (بإقالة أو خيار) شرط، (أو) خيار (عيب)، أو غبن، أو تدليس، (رد ماله) معه؛ لأنه عين مال أخذه المشتري به، فيرده بالفسخ".
* قوله: (وَمِنْ مَشْهُورِ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ اللَّذَانِ يَقَعَانِ فِي الثَّمَنِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ بِمَا يَرْضَى بِهِ الْمُتَبَايِعَانِ؛ أَعْنِي: أَنْ يَزِيدَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْبَيْع، أَوْ يَحُطَّ مِنْهُ الْبَائِعُ هَلْ يَتْبَعُ حُكْمَ الثَّمَنِ أَمْ لَا؟).
وقد مرَّ بنا في الكلام عن الصداق في كتاب النكاح أنه يجوز الزيادة ويجوز النقص بالنسبة للمهر، ومثال ذلك في البيع: لو اتفق اثنان؛ أحدهما تقدم ليشتري دارًا بمبلغ معين واتفقا على ذلك، ثم إن المالك طلب زيادة وتراضيا على المبلغ المتفق عليه. أو العكس؛ بأن يشتري أحد الطرفين من الآخر بيتًا بمبلغ معين، ثم يطلب منه أن ينزل الثمن بعد أن اتفقا على المبيع.
وحكم ذلك الجواز، شرط ألا تكون هناك دوافع.
وأمَّا لو قدر أنه تم اتفاق بين البائع والمشتري، فجاء آخر وعرض على البائع أن يزيده، فطمع البائع فعرض على المشتري الزيادة، فهذه المسألة تختلف عما ذكرنا، وفيها أمران:
الأول: أنه لا يجوز لأي شخص أن يجيء إلى إنسان قد أبرم عقدًا بينه وبين غيره، فيزيد البائع على المبلغ الذي باع به، وذلك يعتبر تعديًا.
الثاني: كما أنه أيضًا لا ينبغي للبائع أن يطمع - في هذا المقام - بعدما تمت الصفقة وفرغ من العقد.
* قوله: (وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ: أَنَّ مَنْ قَالَ هِيَ مِنَ الثَّمَنِ أَوْجَبَ رَدَّهَا فِي الاسْتِحْقَاقِ، وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا مَنْ جَعَلَهَا فِي حُكْمِ الثَّمَنِ الْأوَّلِ إِنْ كَانَتْ فَاسِدَةَ الْبَيْعِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا مِنَ الثَّمَنِ (أَعْنِي: الزِّيَادَةَ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنْ هَذَا)).
يعرض هنا المؤلف المسألة من جانب آخر، إذ إنه ومن باب الأدب
لا يليق ذلك أن يحصل إلا إذا أحس البائع أنه قد غبن وعرض على المشتري واقتنع، وكان الأمر ظاهرًا، أو إذا أحس المشتري أنه قد غبن في هذه السلعة وأنها توجد في أماكن متعددة وبسعر منخفض، وهذا يجوز.
لكن إذا اشترى الإنسان من مكان بسعر أعلى، ثم وجد تلك السلعة في مكان آخر أرخص فليس له أن يردها؛ لأنه عرض عليه هذه السلعة ورضي بها.
والمراد هنا بالكلام عما يترتب على هذه الزيادة التي حصلت بعد العقد؛ إذ لو حصل خلل في المبيع أو وُجد فيه عيب أدى إلى فسخ العقد، واختلفوا في حالة رد المبيع على قولين:
الأول: أن رد المبيع يتطلب رد الزيادة.
الثاني: أنه يرد المبيع المتفق عليه في العقد دون الزيادة.
* قوله: (فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
رحمه الله إِلَى أَنَّهَا مِنَ الثَّمَنِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَلَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، بَلِ الْحُكْمُ لِلثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(2)
).
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (5/ 71) حيث قال: "فإن باع المتاع مرابحة حسب ما أنفق على المتاع لا على نفسه؛ يعني إذا باع المضارب المتاع الذي أنفق عليه ضم جميع ما أنفق على المتاع من أجرة الحمل والطراز وأجرة السمسار والصباغ والقصار ونحو ذلك مما ذكرنا في باب المرابحة إلى رأس المال بأن يقول: قام علي بكذا؛ لأن هذه الأشياء تزيد في القيمة وتعارف التجار إلحاقها برأس المال في بيع المرابحة فجاز ذلك، ولا يضم ما أنفقه على نفسه في سفره وتقلباته في المال إلى رأس المال؛ لأنهم لم يتعارفوا ضمه إلى رأس المال ولا يزيد هو أيضًا في قيمة المتاع بخلاف الإنفاق على المتاع؛ لأنها بالزيادة على الثمن صارت في معنى الثمن".
وانظر أيضًا: (5/ 248) حيث قال: "وحط البعض يظهر في حق الشفيع لا حط الكل والزيادة؛ أي: حط بعض الثمن يظهر في حق الشفيع حتى يأخذه بما بقي، ولا يظهر حط الكل في حقه، ولا الزيادة على الثمن بعد عقد البيع حتى لا تلزمه الزيادة".
(2)
يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (2/ 15) حيث قال: "لو أنفق المشتري على البائع =
وقال به كذلك أحمد
(1)
وأطلق دون هذا القيد الذي ذكره أبو حنيفة، وهو إذن رأي الجمهور.
وقوله: لا تثبت في حق الشفيع لأنه يعتبر استغلالًا من البائع، وبالنسبة للمرابحة؛ وهي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحًا ما للدينار أو الدرهم، وسيأتي فصل مستقل يبحث فيه المؤلف أحكامه.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
رحمه الله: لَا تَلْحَقُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ بِالثَّمَنِ أَصْلًا وَهُوَ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ).
وهذه شبيهة بالمسألة التي سبق ذكرها فيما إذا باع العبد وله مال واشترط ماله، ثم وجد عيبًا، فهل يرد العبد وحده أو يرد معه المال؟
= نفقة واسعة فيها زيادة عما يُقْضَى عليه به مما وقع في العقد عليه، هل يرجع بهذه الزيادة إذا وقع الفسخ؛ لأنها هبة لأجل البيع، فيكون حكمها في الرد حكم الثمن، أَوْ لا يرجع بها؛ لأنه متطوع بدفعها متبرع بإنفاق ما لا يلزمه إنفاقه على حكم ما عقداه، فقد سلط دفع هذه الزيادة آكلها على أكلها وأذن له في ذلك من غير اشتراط عوض".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 173) حيث قال: " (ولو أسرَّا)، أي: المتعاقدان (ثمنًا) بأن اتفقا سرًّا أن الثمن مائة مثلًا (بلا عقد ثم عقداه بـ) ثمن (آخر) كمائتين مثلًا (فالثمن) هو (الأول) الذي أسراه بلا عقد وهو المائة؛ لأنَّ المشتري إنما دخل عليه فقط فلم يلزمه الزائد. (وإن عقداه) أي: المبيع (سرًّا بثمن) كعشرة (و) عقداه (علانية بـ) ثمن (آخر) أكثر منه كاثني عشر (أخذ) المشتري بالثمن (الأول) دون الزائد كالتي قبلها وأولى؛ لأنه إذا أخذ بالأول فيما إذا اتفقا عليه بلا عقد فأولى أن يؤخذ به فيما عقداه".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 370) حيث قال: "ما زيد في الثمن (أو حط من الثمن في مدة الخيار) بنوعيه (فقط يلحق بالثمن) كما مر في بيع المرابحة فيلحق بعوضه الذي يأخذ به الشفيع (فإن حط الكل) أي كل الثمن فهو كما لو باع بلا ثمن (فلا شفعة) للشريك؛ لأنه يصير هبة على رأي ويبطل على رأي، وخرج بقوله في مدة الخيار ما زيد أو حط بعدها فلا يلحق بالثمن كما مر فقوله: "فقط" تأكيد لما قبله".
وقلنا: إن العلماء مختلفون في ذلك؛ فبعضهم يرى رد الجميع وهذا هو الظاهر، وبعضهم يرى أن الذي يرد هو الأصل فقط.
* قوله: (وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَلْحَقَ الزِّيَادَةَ بِالثَّمَنِ بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] قَالُوا: وَإِذَا لَحِقَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصَّدَاقِ بِالصَّدَاقِ لَحِقَتْ فِي الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ).
والمراد بالفريضة هنا إنما هو المهر، والمهر كما هو معروف له عدة مسميات، فيطلق عليه الصداق والمهر والفريضة والنحل وغير ذلك.
ويجوز إذن الزيادة على المهر، ويجوز أيضًا النقص، وإذا حصل خلاف بين الزوج والزوجة فحصلت الفرقة وطولبت المرأة بالمهر، فله أن ينقص من ذلك وله أن يسقطه.
والمراد هنا أنه ما دام الزيادة والنقص جائزان في النكاح، فهما كذلك جائزان في البيع؛ لأن ذاك عقد وهذا عقد، وهناك زيادة ونقص وهنا كذلك، فليس بينهما فرق، وما دام أحكام الشريعة متحدة، فهناك تجوز الزيادة على المهر ويجوز النقص وهنا كذلك لكن شريطة أن يكون عن تراضٍ، فالمسألة إذن قياسية.
* قوله: (وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي: بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَلْحَقُ فِي الشُّفْعَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ: مَنْ رَأَى أَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ قَدْ تَقَرَّرَ قَالَ: الزّيَادَةُ هِبَةٌ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا فَسْخٌ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَعَقْذ ثَانٍ عَدَّهَا مِنَ الثَّمَنِ).
ولا أرى تسميتها فسخًا، بل هي زيادة تمَّ التراضي عليها، وأمَّا إن كانت عن غير طريق الرضى فلا تجوز.
وكل هذه المسائل التي مضت في عيوب البيع وهي كثيرة، والمؤلف لم يستقصِ جميع المسائل لكنه يذكر نماذج منها، ويركز أكثر على المسائل الكلية - أي الكبرى - ويعرض عن المسائل الجزئية، وذلك من باب قولهم: من ضبط الأصول سهُل عليه معرفة الفروع.
* * *
[الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ
وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْبَيْعِ وَاخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ: فَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مُتَّفِقُون
(1)
عَلَى أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ بِالْجُمْلَةِ، وَمُخْتَلِفُونَ فِي التَّفْصِيلِ؛ أَعْنِي: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ بِالْأَيْمَانِ وَالتَّفَاسُخِ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المختصر" للقدوري (ص 151) حيث قال: "وإذا اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ثمنًا، وادعى البائع أكثر منه أو اعترف البائع بقدر من المبيع، وادعى المشتري أكثر منه وأقام أحدهما البينة قضي له بها، وإن أقام كل واحد منهما البينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى وإن لم تكن لكل واحد بينة قيل للمشتري: إمَّا أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع، وقيل للبائع: إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع وإلا فسخنا البيع، فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر، يبتدئ بيمين المشتري، فإذا حلفا فسخ القاضي البيع بينهما، وإن نكل أحدهما عن اليمين لزمه دعوى الآخر".
مذهب المالكية، يُنظر:"مختصر خليل"(ص 161) حيث قال: إن اختلف المتبايعان في جنس الثمن أو نوعه: حلفا وفسخ
…
".
وانظر: المدونة (3/ 93): قال مالك: إن اختلفا في النوع فقال هذا: سلفتك في حنطة، وقال هذا: في شعير، أو قال هذا: في فرس، وقال هذا: في حمار - تحالفا وتفاسخا وإن بعد محل الأجل، ويرد إلى المبتاع رأس ماله.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 474) حيث قال: " (ثم) إذا (اختلفا في كيفيته كقدر الثمن) (تحالفا) لما في الخبر الصحيح: "أن اليمين على المدعى عليه"، وكل منهما مدع ومدعى عليه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 55) حيث قال: "وإن تلف مبيع واختلف المتبايعان في قدر ثمنه قبل قبضه (تحالفا) كما لو كان المبيع باقيًا (وغرم مشتر قيمته) أي المبيع إن فسخ البيع، وظاهره ولو مثليًّا؛ لأن المشتري لم يدخل بالعقد على ضمانه بالمثل".
في هذه المسألة حصل خلاف بين المتبايعين في السلعة، ومثالها أن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بألف ومائتين، والمشتري يقول: بل اشتريتها بألف.
إذن هناك فرق بين كلام البائع والمشتري، والمسألة هنا لا تخلو من أمرين:
الأول: أن يكون عند أحد المتبايعين بينة: فإن كانت هناك بينة عند البائع بأنه باع هذه السلعة بألف ومائتين فلا شك أن قوله هو المقدم؛ لأن عنده شهودًا يثبتون ذلك، وإن كانت البينة في جانب المشتري فإنه في هذه الحالة أيضًا القول قول المشتري، ولم يتعرض لها المؤلف لأنه لا خلاف فيها.
وهذا إذا حصل خلاف بينهما عن طريق النسيان؛ لكن أن يتعمد أحد الطرفين استغلال الآخر ويطلب أكثر فهذا لا يجوز، ويدخل في قول الله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]؛ لأنه قد يكون أحد طرفي النزاع إنسانًا سهلًا ضعيفًا لا يحب الخصومة، ويقبل بالخسارة على أن يقع فيها، فيكون الآخر حينها قد اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق، وهو حينها من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم.
والناس أيضًا يختلفون؛ فمنهم من إذا طلبت منه اليمين أخذته الخشية والخوف وامتنع، وبعضهم ما أسهل اليمين الكاذبة على لسانه، بل هو يؤديها دون أن تطلب منه.
الثاني: ألا يكون لأحد المتبايعين بينة: وهي المسألة المقصودة في هذا المبحث، فأحد المتبايعين يقول: السلعة بكذا، والآخر يقول: اشتريتها بكذا، ولا بينة لأحدهما، ولا شك أن أحدهما في هذا المقام مدعٍ، والآخر منكر، وربما ينطبق عليهما الأمران، فيكون البائع مدعٍ في جانب ومنكرًا في جانب آخر، والمشتري أيضًا يدعي بأن ثمن السلعة كذا، وينكر ما يقوله البائع، وقد يجتمعان في طرف!!
والملاحظ أن الاختلاف كبير في هذه المسائل، فكل مسألة لا نجد نصًّا يحسم النزاع فيها ويرفعه، والخلاف فيها يتشعب والأقوال تتعدد،
لكن مهما اختلف الفقهاء ومهما قرروا أقوالهم ومهما استأنس المدعي بقول فقيه من الفقهاء، فإن هذا لا يكون مبيحًا له أن يأكل الحرام؛ لأن العلماء يجتهدون في المسائل ويقررون ويفتون بما يظهر لهم رجحانه، وبعض الناس يتتبع من الأقوال ما يجد أنه في مصلحته فيأخذ به ويقول: هذا بيني وبين النار، فإذا سئلت يوم القيامة أقول: أنا أخذت بقول فلان.
ومثل هؤلاء الناس يقال لهم بأن هذا لا ينجي من عذاب الله تبارك وتعالى؛ لأن العالم الذي قال هذا القول لم يقله بدافع الهوى، ولا تعصبًا لرأيه، ولا لغرض في نفسه، وإنما قاله لأنه ظهر له رجحانه، وقد يكون الحق مع مخالفه، فينبغي في هذا المقام أن يتقي المسلم الله سبحانه وتعالى في بيعه وفي شرائه وفي كل أموره، وأن يجعل خشية الله نصب عينيه.
فإن لم يكن لأحد المتبايعين بينة ولم تكن هناك بينة أنما فإذا وجدت بينة فيحكم لصاحبها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، وَلكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"
(1)
، وفي رواية:"البينة على المدير، واليمين على المدعى عليه"
(2)
، وهي في "الصحيحين"، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الناس بعضهم على بعض بالباطل، وما أكثر هؤلاء في كل الأزمان، وإذا كانت القرون المفضلة وجد فيها من ارتكب المعاصي وشق عصا الطاعة وأكل الحرام وتعامل بالربا، فما بالكم بمثل هذه القرون المتأخرة التي كثرت فيها الأحداث والأسباب وبُعد كثير من الناس عن دين الله، واستخفاف بعضهم بالدين وتساهلهم في أموره، وتشبثهم بأمور يجدون أنها مخارج لهم.
(1)
أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) ولفظه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه".
(2)
أخرجه الترمذي (1341) وقال: "وفي إسناده مقال"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2661).
قوله: (فَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مُتَّفِقُونَ
…
).
ففقهاء الأمصار متفقون على أنهما يتحالفان طالما ليس هناك بينة، فلا بدَّ إذن من اليمين، واليمين كما هو معروف عهد، والإنسان إذا أقسم بالله سبحانه وتعالى فإنه جعل ذلك عهدًا، ولذلك الله تعالى يقول:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224].
وربما يحلف البائع أنه باع هذه السلعة بكذا وهو كاذب، وهذا لا ينجيه من عذاب الله سبحانه وتعالى، وربما حلف المشتري وكان الورع في جانب البائع، فيعطيه السلعة وهو كاذب، وهذا لا يغير من الحكم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى يأتيه الخصمان فيقول:"إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا"
(1)
.
هذا من حيث الجملة وليس حكمًا نهائيًّا؛ إذ يتحالفان ويتفاسخان، وسيأتي تفصيل المسألة.
* قوله: (فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ
(2)
: إِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ مَا لَمْ تَفُتْ عَيْنُ السِّلْعَةِ).
إذن المسألة على نوعين، والحال لا يخلو إمَّا أن تكون السلعة قائمة موجودة مشاهدة بينهما، وربما تكون السلعة قد ذهبت إما عن طريق التصدق بها أو الهبة أو الفوات أو غير ذلك؛ بمعنى أنها زالت عن ملك المشتري بأي نوع من أنواع الإزالة.
* قوله: (فَإِنْ فَاتَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ).
(1)
أخرجه البخاري (7168).
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 121) حيث قال: " (وإن اختلفا بعد هلاك المبيع لم يتحالفا) عند أبي حنيفة وأبي يوسف. (والقول قول المشتري) لأنه منكر".
فالقول إذن قول المشتري مع يمينه؛ لأن السلعة غير موجودة حتى نقول: إنهما يتحالفان وترد.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
(2)
صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ:"يَتَحَالَفَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ").
يتحالفان في كل وقت؛ سواء كانت السلعة موجودة أو ذهبت؛ لأن الحكم لا يتغير، وهذا هو رأي الأكثر، وهو قول أحمد بن حنبل
(3)
كذلك.
ومما يجدر بنا التنبيه عليه هنا أن محمد بن الحسن من أخص تلاميذ أبي، حنيفة، وهو أكثر أصحابه خدمة للمذهب الحنفي، ورأيه حجة فيه، بل يعتبر هو من المؤسسين لهذا المذهب والواضعين لأصوله وقواعده، وهو المرجع في غالب كتبه. ومع ذلك كله فقد خالف إمامه في هذه المسألة. وكذلك أشهب خالف مالكًا فيها؛ ومنه يتبين لنا أنَّ قاعدة هؤلاء الأكابر هي أنَّ الحق ضالة المؤمن.
* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ رحمه الله
(4)
، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُمَا
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 577) حيث قال: "وإن لم تكن بينة تحالفا، سواء كانت السلعة باقية أو تالفة، وسواء اختلف المتبايعان أو ورثتهما".
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 121) حيث قال: وقال محمد: يتحالفان ويفسخ البيع على قسمة الهالك".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 236) حيث قال: " (فمتى اختلفا) أي المتعاقدان (في قدر ثمن أو) في قدر (أجرة) بأن قال: بعتكه بمائة، فقال المشتري: بل بثمانين وكذا في الإجارة (ولا بينة) لأحدهما، تحالفا (أو لهما) بينة (تحالفا) وسقطت بينتاهما لتعارضهما. (ولو كانت السلعة) المبيعة (تالفة؛ لأن كلًّا منهما مدع ومدعى عليه صورة، وكذا حكمًا لسماع بينتهما) ".
(4)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 510) حيث قال: "أمَّا اختلافهما في قدر الثمن ففي المنتقي إن اختلفا في الثمن قبل قبض السلعة فقال البائع: بعشرة، وقال المبتاع: بخمسة، بدي البائع فقيل له: إن أبيت ما قال المبتاع فاحلف أنك بعتها منه بعشرة، فإن حلف قيل للمبتاع: إن أبيت ما قال البائع: فاحلف أنك اشتريتها منه بخمسة، فإن حلف لم يلزم أحدهما ما حلف عليه الآخر، وأما إن اختلفا بعد قبض =
يَتَحَالَفَانِ، وَيَتَفَاسَخَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبَعْدَ القَبْضِ القَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ القَاسِمِ، وَالثَّانِيَةُ رِوَايَةُ أَشْهَبَ).
فرواية مالك الأولى يوافق فيها الشافعية والحنابلة، فهؤلاء هم الجمهور، ولهم رواية أخرى يقدم فيها البائع، والرواية الثانية يوافق فيها الإمام مالك أبا حنيفة، وله قول انفرد به.
* قوله: (وَالفَوْتُ عِنْدَهُ يَكُونُ بِتَغْيِيرِ الأَسْوَاقِ، وَبِزِيَادَةِ المَبِيعِ، وَنُقْصَانِهِ)
(1)
.
يعني أن الفوت عنده يكون بتغير الأسواق لا بانتقال السلعة؛ لأنَّ السلعة أيضًا ربما ترتفع أو تنخفض.
* قوله: (وَقَالَ دَاوُد، وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
: القَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ زُفَرُ
(3)
إِلَّا أَنْ يَكُونَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّفَاسُخُ عِنْدَهُمْ وَالتَّحَالُفُ).
= السلعة وقبل فوتها فروى أشهب وابن القاسم عن مالك أنهما يتحالفان ويتفاسخان.
قال ابن القاسم في الموازية: سواء نقد الثمن أو لم ينقده، وأمَّا إذا فاتت السلعة بزيادة أو نقص أو حوالة سوق فروى ابن القاسم عن مالك: أن القول قول المبتاع، وروى أشهب أنهما يتحالفان".
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (5/ 82) حيث قال: "وأما أسباب الفوات فأربعة: تغير الذات، وتغير السوق، والخروج عن اليد بالبيع، وتعلق حق آخر بها".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 482) حيث قال: "وقال أبو ثور: إذا اختلف المتبايعان في الثمن فالقول قول المشتري أبدًا مع يمينه إذا لم تكن بينة، وسواء كانت السلعة قائمة بيد البائع أو بيد المشتري أو فاتت عند البائع أو عند المشتري، وهو قول داود".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 482) حيث قال: "وقال زفر: إن اتفقوا أن الثمن من جنس واحد كان القول في الثمن قول المشتري، وإن اختلفا في جنسه تحالفا وترادا قيمة المبيع إن فاتت عينه".
وينبغي لنا ألا نستغرب من تعدد الآراء وتنوعها في المذاهب، وبخاصة في المسائل التي لا يكون هناك نص يُستند إليه، والملاحظ أنه كلما كان في المسألة دليل صريح من كتاب أو سُنة نجد أنه غالبًا ما يُتفق في مثل هذه المسألة، وحتى إن وجد خلاف فيكون خلافًا محصورًا، لكن عندما تكون المسألة اجتهادية بحتة فحينئذٍ تتنوع الأقوال، بل تجد أن الآراء تتنوع، وليس هذا في مذهب مالك فقط، بل في مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة أيضًا.
وقولهم بأن القول قول المشتري؛ لأنهم اعتبروا أن البائع مدعٍ والمشتري منكِر، فحينئذٍ يطلب من البائع البينة ولا بينة عنده؛ إذن يكون القول قول المشتري مع يمينه، فيرجعون إلى الحديث المعروف.
وقوله: (جِنْسِ الثَّمَنِ) أي: هل هو دراهم أو دنانير أو عروض أو بر ببر أو غير ذلك؟
* قوله: (وَلَا خِلَافَ
(1)
أَنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ أَوِ المَثْمُونِ أَنَّ الوَاجِبَ هُوَ التَّحَالُف، وَالتَّفَاسُخُ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 120) حيث قال: " (فإن لم تكن لهما بينة يقال للبائع: إمَّا أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع، وإلا فسخنا البيع؛ ويقال للمشتري: إمَّا أن تسلم ما ادعاه البائع من الثمن، وإلا فسخنا البيع) لأنهما قد لا يختاران الفسخ، فإذا علما بذلك تراضيا، فترتفع المنازعة، وهو المقصود. (فإن لم يتراضيا يتحالفان ويفسخ البيع) ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"مختصر خليل"(ص 161) حيث قال: "إن اختلف المتبايعان في جنس الثمن أو نوعه: حلفا وفسخ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (3/ 578) حيث قال: "يجري التحالف في جميع عقود المعاوضات، ثم في البيع ونحوه يفسخ العقد بعد التحالف، أو ينفسخ ويترادان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 238) حيث قال: "وإن اختلفا في جنس الثمن كما لو ادعى أحدهما أنه عقد بنقد، والآخر بعرض، أو أحدهما أنه عقد بذهب والآخر بفضة، فالظاهر أنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في الثمن على وجه لا يترجح قول أحدهما فوجب التحالف كما لو اختلفا في قدره".
الثمن: هو المراد به ما يعرف بالصرف عن السلع. والمثمون: هي السلعة.
* قوله: (وَإِنَّمَا صَارَ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ إِلَى القَوْلِ عَلَى الجُمْلَةِ بِالتَّحَالُفِ وَالتَّفَاسُخِ عِنْدَ الاخْتِلَافِ فِي عَدَدِ الثَّمَنِ).
وإنما قال فقهاء الأمصار على الجملة؛ يعني من حيث الجملة لا التفصيل التي قدم للمسألة بها أنهم متفقون على التحالف تحالف ففسخ هذا هو إطار المسألة، ثم بعد ذلك يأتي التفصيل الذي سمعته؛ فالمؤلف يريد أن يقول: لماذا اتفق فقهاء الأمصار على التحالف من حيث الجملة ثم التفاسخ؟
* قوله: الحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا بَيِّعَيْنِ تبَايَعَا، فَالقَوْلُ قَوْلُ البَائِعِ، أَوْ يَتَرَادَّان"
(1)
).
وهذا الحديث كما تعلمون فيه كلام للعلماء من حيث الصحة؛ لكن له طرق عديدة مما جعل الكثير من العلماء يأخذون به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما بيعين تبايعا"، فحرف (أي) من صيغ العموم؛ يعني: أي بيع كان، ولا يخص بيعًا معينًا دون غيره.
وقوله: "فَالقَوْلُ قَوْلُ البَائِعِ، أَوْ يَتَرَادَّان"، فالقول قول البائع؛ لأنه صاحب الأصل - أي: السلعة - وهذا هو أسهل طريق، فإذا اختلف البيعان فالقول قول البائع، فإذا لم يوافقه المشتري على قوله حينئذٍ يحصل التحالف وترد السلعة إلى صاحبها.
* قوله: (فَمَنْ حَمَلَ هَذَا الحَدِيثَ عَلَى وُجُوبِ التَّفَاسُخِ وَعُمُومِهِ قَال: يَتَحَالَفَانِ فِي كُلِّ حَالٍ وَيَتَفَاسخَانِ، وَالعِلَّةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ).
(1)
أخرجه ابن ماجه (2186)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1322).
فالمشتري يدعي أنه اشترى السلعة بكذا، ثم ينكر أيضًا قول البائع، والبائع يدعي أنه باعها بسعر كذا وينكر قول المشتري؛ إذن كل منهما مدعٍ من جانب ومنكر من جانب آخر، فيدعي أن ثمن السلعة كذا وينكر قول صاحبه.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ الحَدِيثَ إِنَّمَا يجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الحَالَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَسَاوَى فِيهَا دَعْوَى البَائِعِ وَالمُشْتَرِي قَالَ: إِذَا قَبَضَ السّلْعَةَ، أَوْ فَاتَتْ، فَقَدْ صَارَ القَبْضُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي، وَشُبْهَةً لِصِدْقِهِ).
هذه وجهة نظر للفريق الآخر، قالوا: إذا بيعت السلعة ثم حصل القبض؛ فكون البائع أقبضها المشتري - أي: وفَّاها إياه - بمثابة شبهة تكون في جانب المشتري؛ يعني تكون شبهة يتقوى بها قول المشتري، ولكنها ليست حجة؛ إذ هناك فرق بين الشبهة وبين الحجة، ولذلك المالكية كما سينص المؤلف يغلبون أحيانًا جانب البائع لوجود شبهة، وأحيانًا يغلبون جانب المشتري لوجود شبهة كذلك.
* قوله: (وَاليَمِينُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَقْوَى المُتَدَاعِيَيْنِ شُبْهَةً، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَالِكٍ
(1)
فِي الأَيْمَانِ؛ وَلِذَلِكَ يُوجِبُ فِي مَوَاضِعَ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعِي، وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبِ اليَمِينُ بِالنَّصِّ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي الأَكْثَرِ أَقْوَى شُبْهَةً، فَإِذَا كَانَ المُدَّعِي فِي مَوَاطِنَ أَقْوَى شُبْهَةً، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اليَمِينُ فِي حَيِّزِهِ).
ففي الحديث: "البينة على المدعي واليمين على مَن أنكر"
(2)
فالبينة
(1)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (9/ 161) حيث قال: "الأصل نحو دعاوى الديون والإتلافات، فإن الأصل براءة الذمم، وهذا معنى قول الأصحاب: المدعى عليه أقوى المتداعيين سببًا".
(2)
أخرجه الترمذي (1341) وقال: "وفي إسناده مقال"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2661).
على المدعي، والمنكر هو الذي يحلف اليمين. لكن مالكًا أحيانًا يعكس القضية فيطلب من المدعي اليمين؛ وذلك لأنه يرى وجود شبهة في جانبه تقوي رأيه، فيعتبرها تغليبًا له فلا يطلب من المشتري اليمن حتى لا يضيع حق الذي وجدت عنده قرينة - وهي الشبهة في صفِّ البائع.
والأصل أن المدعي يأتي بالبينة؛ لأنه هو الذي يطلب حقًّا، وهو الذي أثار الخلاف، فيقال له: هاتِ البينة، فأنت صاحب دعوى، والأصل في المسلمين إنما هي البراءة فيحسن الظن بهم، وأنت تدعي خلاف هذا الأصل فأتِ ببينتك. فإن جاء بها حُكم له، وإن لم يأتِ ببينةٍ وجب عليه اليمين؛ لأن الإمام مالكًا يعتبر الشبهة هنا قرينة تقوي الطرف الآخر.
وهذا تعليل واستحسان من المالكية، وقد توسعوا في هذا المقام، وإلا فالحديث صريحٌ في أنَّ البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وفي رواية الصحيحين
(1)
: "اليمين على المدعى عليه" لأنَّ الأول يطالب بحقه، فنفاه الثاني، وكونه مسلمًا يخشى الله ويخافه - في الأصل - يطلب منه اليمين، فإن كان صادقًا فالحمد لله ولكون قد بر بيمينه، وإن كان كاذبًا فإن هذه اليمين لن تنجيه من عذاب الله تعالى.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ رَأَى القَوْلَ قَوْلَ المُشْتَرِي، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ البَائِعَ مُقِرٌّ لِلْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ، وَمُدَّعٍ عَلَيْهِ عَدَدًا مَا فِي الثَّمَنِ).
فالفقهاء
(2)
انقسموا في ذلك إلى ثلاثة:
(1)
أخرجه البخاري (2514)، ومسلم (1711).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المختصر" للقدوري (ص 152) حيث قال: "وإن اختلفا في الأجل أو في شرط الخيار أو في استيفاء بعض الثمن، فلا تحالف بينهما، والقول قول من ينكر الخيار والأجل مع يمينه وإن هلك المبيع ثم اختلفا لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وجعل القول قول المشتري. وقال محمد: يتحالفان ويفسخ البيع على قيمة الهالك".
ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 196) حيث قال: "إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن بأن قال البائع مثلًا: بعتك بثمانية، ويقول المشتري: =
الأول: منهم من يغلب جانب المشتري.
الثاني: من يغلب جانب البائع.
الثالث: من يرى أن كل واحد منهما مدعٍ من جانب ومنكر من جانب آخر.
وهذه المسألة ورد فيها حديث متكلم في صحته، فمن صححه أخذ به، ومن تكلم فيه لم يعمل به.
* قوله: (وَأَمَّا دَاوُدُ
(1)
، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ
(2)
فَرَدُّوا حَدِيثَ ابْنِ
= بل بأربعة، أو المثمن بأن يقول البائع: بعتك هذا الثوب بعشرة، ويقول المشتري: بل هذا الثوب، وهذا الفرس بعشرة، أو في الأجل بأن قال البائع: بعتك لشهر، ويقول المشتري: بل لشهرين، أو في أصل الرهن أو في الحميل بأن قال البائع: بعتك برهن أو بحميل، ويقول المشتري: بل بلا رهن ولا حميل، فإنهما يتحالفان، ويتفاسخان ما لم تفت السلعة، وإلا مضى البيع بالثمن الذي وقع به البيع، وظاهره عدم مراعاة الأشبه مع قيام المبيع، وهو المشهور من المذهب".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (3/ 496) حيث قال: "لو تقايلا، ثم اختلفا في الثمن، ففيه ثلاثة أوجه، سواء قلنا: الإقالة بيع أو فسخ، أصحها وهو قول ابن المرزبان: أن القول قول البائع. والثاني: قول المشتري. والثالث: يتحالفان وتبطل الإقالة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 227) حيث قال: "ويقبل قول مشتر مع يمينه في عين ثمن معين بعقد إذا اختلفا في أنه المردود (أنه ليس الذي دفعه) المشتري (إليه) أي إلى البائع لما تقدم، وينبغي أن يقال: إلا في خيار شرط كما تقدم. (و) يقبل (قول قابض مع يمينه في ثابت في الذمة من ثمن مبيع وقرض وسلم وغير ذلك".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 482) حيث قال: "وقال أبو ثور: إذا اختلف المتبايعان في الثمن فالقول قول المشتري أبدًا مع يمينه إذا لم تكن بينة، وسواء كانت السلعة قائمة بيد البائع أو بيد المشتري أو فاتت عند البائع أو عند المشتري، وهو قول داود".
(2)
مثل زفر، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 482) حيث قال: "وقال زفر: إن اتفقا أن الثمن من جنس واحد كان القول في الثمن قول المشتري، وإن اختلفا في جنسه تحالفا وترادا قيمة المبيع إن فاتت عينه".
مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا خَرَجَهُ مَالِكٌ).
وليس شرطًا أن يكون الحديث الذي لم يخرجه الشيخان ضعيفًا، فهناك أحاديث في غير "الصحيحين" هي برتبة ما في "الصحيحين"، وربما بعضها فات الشيخين أو أحدهما، وهناك أحاديث كثيرة جدًّا صحيحة ليست في "الصحيحين"؛ لكن الحديث الذي ذكر فيه كلام هل هو منقطع أو متصل؟
وقد أخرجه مالك
(1)
وأحمد
(2)
والبيهقي
(3)
وغيرهم
(4)
.
* قوله: (وَعَنْ مَالِكٍ: إِذَا نَكَلَ المُتَبَايِعَانِ عَنِ الأَيْمَانِ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: الفَسْخ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ البَائِعِ
(5)
).
وقوله: (نكل)
(6)
، أي: امتنع أن يحلف بالله، وهذا مر بنا في قضية عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما؛ عندما باع أو ابتاع زيد رضي الله عنه من عبد الله بن عمر رضي الله عنه بثمانية دراهم، ثم وقف على عيب، فرُفع أمرهما إلى عثمان رضي الله عنه فطلب من عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن يحلف فأبى، فرد إليه الغلام
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(574)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1322).
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(4445).
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(11128).
(4)
أخرجه ابن ماجه (2186).
(5)
يُنظر: "التاج والإكليل"(4/ 511) حيث قال: "قال ابن القاسم: إن حلفا ترادا، وإن نكلا ترادا؛ لأنهما استويا في الحال كما لو حلفا؛ لأنه ليس أحدهما أرجح من الآخر".
ويُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 480) حيث قال: "وقال عبد الملك بن حبيب: إن حلفا فسخ، وإن نكلا كان القول قول البائع، وذكره عن مالك".
(6)
"نكل" النون والكاف واللام أصل صحيح يدل على منع وامتناع، وإليه يرجع فروعه.
انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/ 473).
فباعه بألف دينار بدل ثمانمائة
(1)
.
وهذه تفريعات في مذهب مالك، وكما سبق وذكرنا بأن المؤلف لما بدأ في البيوع خالف منهجه، فأصبح يتوسع في فروع مذهب مالك، ولعل خبرته في هذا المذهب دفعته إلى ذلك، زيادة على شدة احتياج الناس إلى البيوع والتعامل بها.
* قوله: (وَكَذَلِكَ مَنْ يَبْدَأُ بِاليَمِينِ؟ فِي المَذْهَبِ فِيهِ خِلَافٌ، فَالأَشْهَرُ البَائِعُ عَلَى مَا فِي الحَدِيثِ).
سبق وتكلمنا في هذه المسألة، وأوردنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ؛ وَلَكِنَّ البَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"
(2)
.
وفي رواية: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"
(3)
.
* قوله: (وَهَلْ إِذَا وَقَعَ التَّفَاسُخُ يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَخْتَارَ قَوْلَ صَاحِبِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ فِي المَذْهَبِ)
(4)
.
لكن الأولى ألا نرجع إلى ذلك بل نقف عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الحكم والفيصل في هذا المقام.
* * *
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(774) عن سالم بن عبد الله بن عمر: أنه باع غلامًا له بثمانمائة درهم بالبراءة، وقال الذي ابتاع العبد لعبد الله بن عمر: بالعبد داء لم تسمه لي. فاختصما إلى عثمان بن عفان، فقال الرجل: باعني عبدًا وبه داء، فقال ابن عمر: بعته بالبراءة؛ فقضى عثمانُ على ابن عمر أن يحلف بالله: لقد باعه وما به داء يعلمه، فأَبَى عبد الله بن عمر أن يحلف، فارتجع الغلام، فصح عنده العبد، فباعه عبد الله بن عمر بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2640).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
لم أقف عليه.
[الجُزْءُ الخَامِسُ: الأحْكَامُ العَامَّةُ لِلْبُيُوعِ الفَاسِدَةِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(القِسْمُ الرَّابِعُ مِنَ النَّظَرِ المُشْتَرَكِ فِي البُيُوعِ
وَهُوَ النَّظَرُ فِي حُكْمِ البَيْعِ الفَاسِدِ إِذَا وَقَعَ).
بعض من المسائل التي سيذكرها المؤلف فيها تشابه، وربما تكرار مع ما مضى كما سيأتي، ولعل سبب ذلك أنه يضطر أحيانًا إلى الإشارة إلى مسائل سابقة أو إلى ذكر شيء منها؛ لأن المقام يستدعي ذلك.
والبيع الفاسد إمَّا أن يكون سببه خلل في العقد أو في المبيع؛ بأن يبيعه بيعًا لا يجوز بيعه؛ لأنه يشترط في المبيع أن يكون مالًا متقومًا مقدورًا على تسليمه، وأن يكون مما يباح بيعه، فلو باعه خمرًا أو خنزيرًا أو ميتة فإن العقد يعتبر فاسدًا.
* قوله: (فَنَقُولُ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ
(1)
عَلَى أَنَّ البُيُوعَ الفَاسِد إذَا وَقَعَتْ وَلَمْ تَفُتْ بِإِحْدَاثِ عَقْدٍ فِيهَا).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (5/ 169) حيث قال: "حكم البيع الفاسد أنه يملك بالقبض ويجب رده لو قائمًا ورد مثله أو قيمته لو مستهلكًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 219) حيث قال: "حكم البيع الفاسد يفسخ، ولو قبض، ولا يمضي إلا بما يفوت به البيع الفاسد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"شرح المنهاج" للمحلي (2/ 298) حيث قال: "ثم بعد الفسخ أو الانفساخ (على المشتري رد المبيع) إن كان باقيًا في ملكه (فإن كان وقفه أو أعتقه أو باعه أو مات لزمه قيمته وهي قيمته يوم التلف) وما في معناه من المبيع أو غيره (في أظهر الأقوال) والثاني قيمته يوم القبض لأنه يوم دخوله في ضمانه.
والثالث أقل القيمتين يوم العقد ويوم القبض لحدوث الزيادة في ملك المشتري على الأول، ولما تقدم في الثاني، والرابع أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 556) حيث قال: " (وإنْ شرط) =
يعني البيع الفاسد إذا وقع لا يخلو من أمرين:
* إمَّا أن يكون المبيع لا يزال قائمًا موجودًا في يد المشتري، هذا واحد.
* أو أن يكون قد خرج من يده؛ فإن كان في يده فإنه في هذه الحالة يرد إلى البائع، هذا يأخذ سلعته وذاك يأخذ ثمنها، وانتهى الأمر؛ لكن الخلاف - كما سيأتي - فيما إذا خرج من يد المشتري.
* قوله: (أَوْ نَمَاءٍ، أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ حَوَالَةِ سُوقٍ أَنَّ حُكْمَهَا الرَّدّ، أَعْنِي: أَنْ يَرُدَّ البَائِعُ الثَّمَنَ، وَالمُشْتَرِي المَثْمُونَ).
ذكر المؤلف عدة أمثلة للفوت
(1)
، هي:
1 -
أن يكون هلك المبيع.
2 -
أن ينتقل إلى مِلْكِ غيره؛ إمَّا عن طريق عتق أو بيع أو صدقة أو هبة.
3 -
أن يكون حصل فيه تغير بنماء - أي: زيادة - كأن تكون الدابة قد سمنت، أو الغلام الذي اشتراه تعلم صنعة أو تجارة.
4 -
أن يحصل فيه نقص بأن مرض أو ضعُف، أو أن تكون جارية بكر فيطؤها أو نحو ذلك.
5 -
أن يحصل فيه حوالة سوق بأن يحيل حول هذا إلى شخص آخر.
وهذا ليس فيه خلاف كما ذكر المؤلف؛ بل موضع اتفاق، فالسلعة موجودة وعرفنا أن العقد فاسد؛ إذن ترد السلعة إلى صاحبها ويأخذ المشتري ثمن السلعة.
= في الهبة (ثوابًا مجهولًا لم تصح الهبة)؛ لأنه عوض مجهول في معاوضة، فلم تصح كالبيع (وحكمها) أي: الهبة بثواب مجهول (حكم البيع الفاسد) فيضمنها الموهوب له إن قبضها، وتلفت بمثلها إن كانت مثلية وقيمتها إن كانت متقومة، (ويردها الموهوب له) إن بقيت (بزيادتها المتصلة والمنفصلة) ".
(1)
تقدم ذكر صور الفوت.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا قُبِضَتْ وَتُصُرِّفَ فِيهَا بِعِتْقٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ: هَلْ ذَلِكَ فَوْت يُوجِبُ القِيمَةَ، كَذَلِكَ إِذَا نَمَتْ أَوْ نَقَصَتْ؟).
يعني إذا خرجت عن يد المشتري، ومثال ذلك أن يكون عبدًا أو جارية فأعتقهما أو وهبهما لغيره، أو سلعة تصدق بها، أو حيوان فمات أو هلك حينئذٍ يكون الأمر فيه خلاف، والخلاف هنا: هل تُرد القيمة فيه أو لا ترد؟
* قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَوْتًا، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ فِي البَيْعِ الفَاسِدِ، وَأَنَّ الوَاجِبَ الرَّدُّ).
وهو قول أحمد كذلك، والشافعي وأحمد متفقان في كل مسائل هذا الفصل.
وهما هنا يريان أنَّ ذلك لا يعتبر من الفوت الذي يغير الحكم؛ بل الحكم هنا كما لو كانت السلعة موجودة في يده.
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: كُلُّ ذَلِكَ فَوْتٌ يُوجِبُ القِيمَةَ إِلَّا مَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ
(2)
فِي الرِّبَا أَنَّهُ لَيْس بِفَوْتٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 86) حيث قال: "وإلا يختلف فيه، بل كان متفقًا على فساده وفات المبيع ضمن المشتري في المقوم القيمة حين القبض وفي المثلي مثله، فإن تعذر المثلي فالقيمة".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (5/ 51) حيث قال: "قال ابن وهب عن مالك: من ابتاع زيتًا فصبَّه على زيت آخر له، أو دفع إلى صراف دنانير فصبها في كيسه، أو اشترى بزًّا فرقه وخلطه ببز غيره وذلك كله بمحضر بينة ثم فلس المبتاع، فالبائع أحق بمقدار زيته ووزن دنانيره وأخذ بزه، وهو كعين قائمة، وليس خلط المبتاع إياه يمنع البائع من أخذه. قال أصبغ: إلا أن يخلطه بغير نوعه مثل أن يصب زيت الفجل على زيت الزيتون، أو القمح المنقى على المغلوث أو المسوس حتى يفسده فيكون كما قد فات".
أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
).
إذًا، الرأي الأول لا يعتبرون ذلك فوتًا، بل ترد السلعة ما دامت موجودة حتى وإن كانت خرجت عن يده، وأمَّا مالك وأبو حنيفة فاعتبروه فوتًا، وأوجبوا القيمة على المشتري؛ لأنَّ المبيع خرج عن يده فكأنَّه أصبح خارج ملكه.
* قوله: (وَالبُيُوعُ الفَاسِدَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَنْقَسِمُ إِلَى مُحَرَّمَةٍ، وَإِلَى مَكْرُوهَةٍ).
وقد سبق وذكرنا فيما مضى التفصيل الذي في مذهب مالك، وذلك في مسائل الغرر والغبن والجهالة، وقد رأينا أن المالكية يفصلون القول في هذه المسألة، فيرون أن اليسير مغتفر - يعني يتسامح فيه - وهنا أيضًا المبيع قسمه المالكية في هذه الحالة إلى قسمين: إمَّا محرم أو مكروه.
* قوله: (فَأَمَّا المُحَرَّمَةُ: فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَضَتْ بِالقِيمَةِ. وَأَمَّا المَكْرُوهَةُ: فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ صَحَّتْ عِنْدَه، وَرُبَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ بَعْضُ البُيُوعِ الفَاسِدَةِ بِالقَبْضِ لِخِفَّةِ الكَرَاهَةِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 22) حيث قال: " (ويشترط قيام المبيع حالة الفسخ) لأنَّ الفسخ بدونه محال. (فإن باعه أو أعتقه أو وهبه بعد القبض جاز) لمصادفة هذه التصرفات ملكه ومنع الفسخ، وكذا كل تصرف لا يفسخ كالتدبير والاستيلاد، وما يحتمل الفسخ يفسخ كالإجارة، فإنها تفسخ بالأعذار، وهذا عذر، والرهن يمنع الفسخ فإن عاد الرهن فله الفسخ، وهذا لأن النقض لرفع حكمه حق للشرع، وهذه التصرفات تعلق بها حق العبد وأنه مقدم لما عرف. (وعليه قيمته يوم قبضه إن كان من ذوات القيم أو مثله إن كان مثليًّا) ".
(2)
يُنظر: "مختصر خليل"(ص 148) حيث قال: "وفسد منهي عنه إلا لدليل كحيوان بلحم جنسه إن لم يطبخ أو بما لا تطول حياته أو لا منفعة فيه إلا اللحم أو قلت فلا يجوزان بطعام لأجل: كخصي ضأن وكبيع الغرر: كبيعها بقيمتها أو على حكمه =
فالمحرمة كأن يبيعه خمرًا أو خنزيرًا أو ميتة أو مغصوبًا، أو غير ذلك
(1)
* قوله: (فَالشَّافِعِيَّةُ
(2)
تُشَبِّهُ المَبِيعَ الفَاسِدَ لِمَكَانِ الرِّبَا، وَالغَرَرَ بِالفَاسِدِ لِمَكَانِ تَحْرِيمِ عَيْنِهِ؛ كَبَيْعِ الخَمْرِ، وَالخِنْزِيرِ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ فَوْتٌ).
يعني أنَّ الشافعية والحنابلة
(3)
يجعلون ذلك بمثابة المبيع الذي دخله غبن أو غرر أو جهالة، ولما كان الغبن والغرر يؤثر في المبيع ويفسده كذلك كان هنا، وهو يقتضي الرد، والمالكية يرون خلاف ذلك.
= أو حكم غير أو رضاه أو توليتك سلعة لم يذكرها أو ثمنها بإلزام وكملامسة الثوب أو منابذته فيلزم، وكبيع الحصاة وهل هو بيع منتهاها أو يلزم بوقوعها أو على ما تقع عليه بلا قصد أو بعدد ما يقع؟ تفسيرات، وكبيع ما في بطون الإبل أو ظهورها أو إلى أن ينتج النتاج - وهي المضامين والملاقيح - وحبل الحبلة، وكبيعه بالنفقة عليه حياته ورجع بقيمة ما أنفق أو بمثله إن علم ولو سرفًا على الأرجح ورد إلا أن يفوت".
(1)
يعني: إذا كان البيع محرمًا مثل أن يشتري مثلًا سلعة بثمن على أن المشتري يعطي البائع أو غيره شيئًا من الثمن، على أن المشتري إن كره البيع لم يعد إليه ما دفعه، وإن أحب البيع حاسبه به من الثمن؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل وغرر، فهو عقد باطل يفسخ، وإن فات بهلاك السلعة مثلًا يمضى بالقيمة، وإن كان مكروهًا، وفات يصحح. يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 78).
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 400) حيث قال: "ما ورد فيه النهي من البيوع، قد يحكم بفساده وهو الأغلب؛ لأنه مقتضى النهي. وقد لا يحكم بفساده، لكون النهي ليس لخصوصية البيع، بل لأمر آخر. فالقسم الأول أنواع؛ منها: بيع ما لم يقبض، وبيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، وبيع الكالئ بالكالئ
…
ومنها: بيع الكلب والخنزير".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 154، 185) حيث قال: "ولا يصح بيع لبن رجل ولا خمر ولو كانا ذميين ولا كلب
…
من باع سلعة بنسيئة أو بثمن لم يقبضه صح وحرم عليه شراؤها، ولم يصح نصًّا بنفسه أو بوكيله بأقل مما باعها بنقد أو نسيئة ولو بعد حل أجله نصًّا".
ومحرم العين كالخمر، كما جاء في الحديث:"حرمت الخمر"
(1)
، أي: عينها، وبيع الخمر والخنزير لا خلاف فيه
(2)
بنص القرآن العزيز، قال الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، وقال تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
* قوله: (وَمَالِكٌ
(3)
يَرَى أَنَّ النَّهْيَ فِي هَذِهِ الأُمُورِ إِنَّمَا هُوَ لِمَكَانِ عَدَمِ العَدْلِ فِيهَا (أَعْنِي: بُيُوعَ الرِّبَا وَالغَرَرِ)، فَإِذَا فَاتَتِ السِّلْعَةُ فَالعَدْلُ فِيهَا هُوَ الرُّجُوعُ بِالقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تُقْبَضُ السِّلْعَةُ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا، وَتُرَدُّ وَهِيَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، أَوْ بِالعَكْسِ).
ومعنى قوله: لعدم العدل فيها - أن المالكية يفرقون بين هذه المسألة وبين بيوع الربا، فبيوع الربا إنما حرمت وترد لانعدام العدالة فيها، فالربا يصحبه زيادة، وفيه ظلم لأحد الطرفين، وهنا البائع يُلحق ضررًا بالمشتري عن طريق استغلاله - إما لحاجته أو نحو ذلك - فالعدالة إذن غير قائمة، حيث استفاد أحد الطرفين وتضرر الآخر.
وإذا وجدت الاستفادة لجانب وتضرر منها جانب آخر، فذلك مما تأباه الشريعة الإسلامية؛ لأنها قامت على أسس منها العدل، والربا لا يتفق مع هذه القاعدة فهو مضاد للعدل، وهذا هو مراد المؤلف.
(1)
أخرجه البخاري (4617)، ومسلم (1980).
(2)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 12) حيث قال: "وأجمع أهل العلم على أن بيع الخمر غير جائز".
(3)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 150) حيث قال: "حكم ما في الغرر الفسخ قبل الفوت، فإن حصل الفوت بتغير الذات في البيع أو استوفيت المنافع في الإجارة والكراء، فالواجب في البيع غرم قيمة السلعة حيث اتفق على الفساد، أو الثمن عند الاختلاف".
وهذا تعليل طيب، وهو مما يعبر عنه بالاستحسان، والسلعة يختلف سعرها، فربما بعد مضيِّ زمن يرتفع ويتضاعف. ومثال ذلك أن تكون سلعة تساوي خمسمائة، وبعد مضي مدة من الزمن أصبحت تساوي ألفًا، وربما العكس؛ فالتي كانت تساوي ألفًا انحدرت قيمتها وانحطت فأصبحت لا تزيد على خمسمائة، وهذا هو تعليل المالكية.
وأمَّا غيرهم فيقولون: نحن لدينا أصل، والأصل ينبغي أن نقف عنده زادت السلعة أو نقصت.
* قوله: (وَلِذَلِكَ يَرَى مَالِكٌ حَوَالَةَ الأَسْوَاقِ فَوْتًا فِي المَبِيعِ الفَاسِدِ. وَمَالِكٌ يَرَى فِي البَيْعِ وَالسَّلَفِ أَنَّهُ إِذَا فَاتَ وَكَانَ البَائِعُ هُوَ المُسْلِفَ رَدَّ المُشْتَرِي القِيمَةَ مَا لَمْ تَكُنْ أَزْيَدَ مِنَ الثَّمَنِ
(1)
).
وهنا انضم الإمام أبو حنيفة
(2)
أيضًا إلى الإمامين الشافعي
(3)
وأحمد
(4)
، وأصبح الأئمة الثلاثة في جانب ومالك في جانب آخر، وهذه
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 382) حيث قال: "المنصوص عليه من قول مالك وأصحابه المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها: أن المكيل والموزون من الطعام وغيره لا تفيته حوالة الأسواق، والذي يوجبه النظر أن يفيت ذلك كله حوالة الأسواق كالعروض".
(2)
يُنظر: "الهداية شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (3/ 48) حيث قال: "ومن باع عبدًا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمة على أن يستولدها، فالبيع فاسد
…
وكذلك لو باع عبدًا على أن يستخدمه البائع شهرًا، أو دارًا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشري درهمًا، أو على أن يهدي له هدية؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين".
(3)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 400) حيث قال: "منها: النهي عن بيع وسلف، وهو البيع بشرط القرض".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 31) حيث قال: "وفاسده - أي الشرط الفاسد - ثلاثة (أنواع: أحدها (مبطل) للعقد من أصله (كشرط بيع آخر) كبعتك هذه الدار على أن تبيعني هذه الفرس، (أو) شرط (سلف) كبعتك عبدي على أن تسلفني كذا".
المسألة هي بيع المماثلة، والأئمة الثلاثة - أبو حنيفة والشافعي وأحمد - يمنعون ذلك، ويرون أن العبرة إنما هي عند العقد، فلا يؤثر في ذلك أنه بيع وسلف، ثم بعد العقد يلغي قضية السلف؛ لأنه يعتبر بيعًا جرَّ نفعًا كالقرض الذي يجر نفعًا.
فقول المشتري: على أن تسلفني كذا، يحتمل أن يكون زاد في السعر، وربما العكس؛ بأن يكون المشتري هو الذي يسلف فكأنه حينها قد جامله وخفض في السعر، فيكون في ذلك ضرر.
والجمهور اعتبروا الأصل في ذلك ولا اعتبار لما يأتي بعده؛ لأنه وإن ألغي هذا الشرط فهم يرون أن العلة التي من أجلها نهي عن ذلك وقعت عند العقد.
ومثال ذلك أن يقول: أبيعك هذه الدار مثلًا بعشرة آلاف على أن تسلفني عشرة آلاف، أو يقول: أشتري منك هذه الدار بمبلغ كذا وهذه السيارة على أن تقرضني مبلغ كذا.
فقد يكون ذلك من البائع وربما يكون من المشتري، وهذا قد جاء فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومالك رحمه الله لا يخالف في الأصل، وإنما يخالف فيما إذا أبطل هذا الشرط، مع أنه - أي: الإمام مالك - له رواية يلتقي فيها مع الجمهور، وهي الأصل.
والحديث الوارد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك"
(1)
. وقد ورد بروايات عديدة سبق أن تكلمنا عنها.
وليس في ذلك خلاف بين العلماء من حيث وجود بيع وشرط أو بيع وسلف عند قيام العقد؛ لكن لو ألغي هذا بعد قيام العقد فهو يؤثر عند
(1)
أخرجه أبو داود (3504)، وحسَّنه الألباني في "إرواء الغليل"(1306).
الجمهور، وعند مالك لا يؤثر، وهذا هو موضع الخلاف بين الأئمة الثلاثة ومالك رحمهم الله تعالى أجمعين.
* قوله: (لِأَنَّ المُشْتَرِي قَدْ رَفَعَ لَهُ فِي الثَّمَنِ لِمَكَانِ السَّلَفِ، فَلَيْسَ مِنَ العَدْلِ أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كانَ المُشْتَرِي هُوَ الَّذِي أَسْلَفَ البَائِعَ فَقَدْ حَطَّ البَائِعُ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ لِمَكَانِ السَّلَفِ، فَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى المُشْتَرِي القِيمَةُ رَدَّهَا مَا لَمْ تَكُنْ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ البُيُوعَ إِنَّمَا وَقَعَ المَنْعُ فِيهَا لِمَكَانِ مَا جُعِلَ فِيهَا مِنَ العِوَضِ مُقَابِلَ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعٌ لِعَونِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ).
وهذا العوض شبهة لوقوع خلل عدم العدالة؛ لأنه ربما يجامل البائع المشتري لوجود قرض، وربما يكون العكس، فإذا كان السلف من المشتري فالشبهة هنا قائمة، ورأي الأئمة قائم على حديث:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"
(1)
.
* قوله: (وَمَالِكٌ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَفْقَهُ مِنَ الجَمِيعِ).
على كل حال هذا هو تعليل المؤلف، ولا شك أن الإمام مالكًا عنده فقه وعند الأئمة فقه، ونحن نقول بأن الأئمة الثلاثة معهم نص، ولا شك أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدَّم على قول كل أحد مهما كان، ونحن لا ننكر فضل الأئمة ولا ما وهبهم الله تبارك وتعالى من العلم، ولا ما أعطاهم من الفقه في الدين، فهذا كله أمر مسلَّم به، لكن معنا حديث وهذا الحديث مطبق ولم يستثن منه أنه لو ألغي ذلك بعد العقد فإنه لا تأثير له، فالجمهور إذن معهم الأصل، وهو حديث رسول الله، وليست المسألة مسألة فقه أو تفقه.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا تَرَكَ الشَّرْطَ قَبْلَ القَبْضِ (أَعْنِي: شَرْطَ
(1)
أخرجه الترمذي (2518)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1/ 44).
السَّلَفِ): هَلْ يَصِحُّ البَيْعُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَسَائِرُ العُلَمَاءِ
(3)
: البَيْعُ مَفْسُوخٌ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ
(4)
: البَيْعُ غَيْرُ مَفْسُوخٍ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ الحَكَمِ قَالَ: البَيْعُ مَفْسُوخٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِ الجُمْهُور
(5)
).
ومذهب أحمد
(6)
في ذلك كأبي حنيفة والشافعي، والحديث صريح في هذه المسألة وقد تكلمنا عن ذلك.
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (4/ 131) حيث قال: "يبطل بالشرط الفاسد ولا يصح تعليقه بالشرط البيع، والقسمة، والإجارة، والإجازة، والرجعة، والصلح عن مال، والإبراء عن الدين وعزل الوكيل، والاعتكاف، والمزارعة، والمعاملة، والإقرار، والوقف، والتحكيم، والأصل فيه أن كل ما كان مبادلة مال بمال يبطل بالشروط الفاسدة".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 480) حيث قال: "قال: أعمرتك هذا العبد أو هذه الدار ما عشت أو حييت أو بقيت. قوله: ويلغو الشرط قال البلقيني: وليس لنا موضع يصح فيه العقد مع وجود الشرط الفاسد المنافي لمقتضاه إلا هذا".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 434) حيث قال: "وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما وسائر العلماء".
(4)
يُنظر: "مواهب الجليل"(4/ 131) حيث قال: "ولا يصح العقد بإسقاط مشترطه له بخلاف مشترط السلف إذا أسقطه؛ لأنه اشترط أن يكون له الخيار بين الإمساك والرد طول هذا الأمد، فإذا اختار الإمضاء فقد عمل بمقتضى الشرط الفاسد، ثم ذكر عن المازري أنه خرج قولًا بالإمضاء إذا أسقط الشرط".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 434) حيث قال: "وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: لا يجوز البيع وإن رضي مشترط السلف بتركه
…
وقال الأبهري: قد روى بعض المدنيين عن مالك أنه لا يجوز وإن ترك السلف، قال: وهو القياس أن يكون عقد البيع فاسدًا".
(6)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 31) حيث قال: "وفاسده - أي الشرط الفاسد - ثلاثة (أنواع: أحدها (مبطل) للعقد من أصله (كشرط بيع آخر) كبعتك هذه الدار على أن تبيعني هذه الفرس، (أو) شرط (سلف) كبعتك عبدي على أن تسلفني كذا) ".
* قوله: (وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ: أَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ فَسَادَ المَنْهِيِّ، فَإِذَا انْعَقَدَ البَيْعُ فَاسِدًا لَمْ يُصَحِّحْهُ بَعْدُ رَفْعُ الشَّرْطِ الَّذِي مِنْ قِبَلِهِ وَقَعَ الفَسَاد، كَمَا أَنَّ رَفْعَ السَّبَبِ المُفْسِدِ فِي المَحْسُوسَاتِ بَعْدَ فَسَادِ الشَّيْءِ لَيْسَ يَقْتَضِي عَوْدَةَ الشَّيْءِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الفَسَادِ مِنَ الوُجُودِ فَاعْلَمْهُ).
إنَّ الأصل في النهي أنه يقتضي فساد المنهي عنه، والأصل في الأمر أنه للوجوب، كما أن الأصل في النهي أنه للتحريم ما لم يوجد صارف يصرفه عنه أو قرينة أو نحو ذلك؛ ومنه فالنهي في الأصل لا يقتضي فساد المنهي عنه.
يعني أن الجمهور يقولون بأنه قد وقع هذا البيع في أصله فاسدًا، فإبطال هذا الشرط لا يغير شيئًا؛ لأن هذا المبيع بُني على عقد فاسد، فلا يتغير فساد العقد بإلغاء هذا الشرط.
ومثال ذلك لو باع سلعة ومعها شيء من خمر أضافه إليه، ثم بعد العقد ألغي هذا المضاف، فلا خلاف بين العلماء بأن البيع فاسد، وهذا في المحسوسات، وكذلك الأمر بالنسبة للمعنويات.
* قوله: (وَرُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ البَرْمَكِيَّ سَأَلَ عَنْ هَذِهِ المَسْأَلَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ المَالِكِيَّ، فَقَالَ لَهُ: مَا الفَرْقُ بَيْنَ السَّلَفِ، وَالبَيْعِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ بَاعَ غُلَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقِّ خَمْرٍ، فَلَمَّا انْعَقَدَ البَيْعُ بَيْنَهُمَا قَالَ: أَنَا أَدَعُ الزِّقَّ، وَهَذَا البَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ العُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ)
(1)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 434) حيث قال: "وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما وسائر العلماء
…
قد سأل محمد بن أحمد بن سهل البركاني عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق فقال: ما الفرق بين البيع والسلف؟ وبين رجل باع غلامًا بمائة دينار وزق خمر أو شيء حرام ثم قال: أنا أدع الزق أو الشيء الحرام قبل أن يأخذه، وهذا البيع مفسوخ عند مالك غير جائز".
هذه المسألة مرت بنا قبل مسائل كثيرة في باب بيع الشروط والثنيا، وقد ذكرها المؤلف بنصها هناك، وزاد عليها تعليقًا هنا.
* قوله: (فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ السَّلَفِ كَذَلِكَ، فَجَاوَبَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابٍ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِي ذَلِكَ).
ومن أراد الاستزادة في المسألة فليرجع إلى موضعها حتى لا نكرر ما مضى.
* قوله: (وَإِذْ قَدِ انْقَضَى القَوْلُ فِي أُصُولِ البُيُوعِ الفَاسِدَةِ وَأُصُولِ البُيُوعِ الصَّحِيحَةِ، وَفِي أُصُولِ أَحْكَامِ البُيُوع الصَّحِيحَةِ، وَأُصُولِ الأحْكَامِ الفَاسِدَةِ المُشْتَرَكَةِ العَامَّةِ لِجَمِيعِ البُيُوعِ، أَوْ لِكَثِيرٍ مِنْهَا فَلْنَصِرْ إِلَى مَا يَخُصُّ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ أَرْبَعَةِ الأَجْنَاسِ، وَذَلِكَ بِأَنْ نَذْكُرَ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الأُصُولِ).
معنى قول المؤلف أننا تكلمنا عن أصول البيوع الفاسدة وأصول البيوع الصحيحة، وكذلك أحكام البيوع الصحيحة وأحكام البيوع الفاسدة.
وقوله: (فلنصر) يعني فلنتحول؛ لأن "صار" من أخوات "كان" التي تفيد التحول، نقول: صار العجين خبزًا؛ أي تحول
(1)
.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
يُنظر: "شرح المفصل" لابن يعيش (7/ 103) حيث قال: "ومعنى صار الانتقال وهو في ذلك على استعمالين (أحدهما) قولك: صار الفقير غنيًّا والطين خزفًا، (والثاني) صار زيد إلى عمرو، ومنه: كل حي صائر إلى الزوال. قال الشارح: قد تقدم القول أن (صار معناها الانتقال) والتحول من حال إلى حال فهي تدخل على الجملة الابتدائية فتفيد ذلك المعنى فيها بعد أن لم يكن نحو قولك: صار زيد عالمًا؛ أي انتقل إلى هذه الحال، (وصار الطين خزفًا)، أي: استحال إلى ذلك وانتقل إليه".
[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]
[وَصَلَّى الله عَلَى محمّد وسلَّم]
(كِتَابُ الصَّرْفِ)
(1)
عادةُ أكثر الفقهاء - رحمهم الله تعالى - أنَّهم يُضيفون الصَّرف إلى الربا، فيقولون:"باب الربا والصرف"، أو "كتاب الربا والصرف".
والصَّرفُ: هو: "بيع الأثمان بعضها ببعض"، أن تبيع ذهبًا بذهبٍ، أو فضةً بفضةٍ، وكذلك: دراهمَ بدراهم، وريالات بريالات، فهو بيع نقدٍ
(1)
الصَّرفُ في اللغةِ: "قال الخليل: الصرف فضل الدرهم على الدرهم في القيمة".
انظر: "العين"(7/ 1096). وقال ابن فارس: "ومعنى الصرف عندنا أنَّه شيء صرف إلى شيء، كأنَّ الدينار صرف إلى الدراهم، أي رجع إليها، إذا أخذت بدله". انظر: "مقاييس اللغة"(3/ 343).
وفي الشرع: عرفه الحنفية بأنه: " (بيع الثمن بالثمن)، أي ما خلق للثمنية، ومنه المصوغ (جنسًا بجنس، أو بغير جنس)، كذهب بفضة". انظر: "الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(5/ 257)، و "بدائع الصنائع"؛ للكاساني (5/ 215).
وعرَّفه المالكية بأنه: "هو بيع النقد بنقد مغاير لنوعه". انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(3/ 2).
وعرَّفه الشافعية بأنَّه: "بيع النقد بالنقد من جنسه، وغيره". انظر: "مغني المحتاج"؛ للشربيني (2/ 369).
وعرَّفه الحنابلة بأنَّه: "بيع نقد بنقد اتَّحد الجنس، أو اختلف". انظر: "كشاف القناع"؛ للبهوتي (3/ 266)، وانظر:"شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 73).
بنقد؛ سواء كان هذا النقد مضروبًا؛ أعني: عملة معروفة؛ كالتي نتعامل بها الآن، أو كان سبائك؛ أعني: قِطَعًا من ذهب، أو قِطعًا من فضة، أو كان مصوغًا؛ كالصياغات المعروفة
(1)
، فهذا كله جائز بشروطه المعروفة:
أولًا: أن يَسلم من النَّسيئة
(2)
.
ثانيًا: أن يتساوى طرفاه؛ أعني: وجود المُماثلة
(3)
.
وهذان الشرطان وُضعا لكي يَسلم المسلم من ربا النسيئة
(4)
، وربَا الفضل
(5)
.
* قوله: (وَلَمَّا كَانَ يَخُصُّ هَذَا الْبَيْعَ شَرْطَانِ؛ أَحَدُهُمَا: عَدَمُ النَّسِيئَةِ؛ (وَهُوَ الْفَوْرُ)، وَالْآخَرُ: عَدَمُ التَّفَاضُلِ؛ (وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْمِثْلِيَّةِ)،
(1)
هذه الصورة التي ذكرها الشارح تسمى المُراطلة؛ "وهي مبادلة الشيء بجنسه، بخلاف الصرف".
قال ابن الملقن: "الصرف: مصدر صرف يصرف صرفًا، إذا دفع ذهبًا وأخذ فضة، أو عكسه، فإن باع ذهبًا بمثله، أو فضة بمثلها؛ سميت مراطلة". يُنظر: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"؛ لابن الملقن (7/ 304).
وقال ابن جزي: "فإن كان بيع ذهب بفضة؛ فهو الصرف، وإن كان بيع ذهب بذهب، أو فضة بفضة: فإن كان بالوزن؛ فيقال له مراطلة، وإن كان بالعدد؛ فيقال له مبادلة". يُنظر: "القوانين الفقهية"(ص 165).
(2)
انظر: "الإجماع"؛ لابن المنذر (ص 110)، وفيه:"أجمعوا أنَّ المتصارفَيْن إذا تفرقَا قبل أن يتقابضَا؛ أنَّ الصرف فاسد".
(3)
انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"؛ لابن القطان (2/ 226)، وفيه:"وأجمعوا أنَّ تبر الذهب والفضة سواء في منع التفاضل في ذلك، وكذلك مصوغ كل شيء ومضروبه، لا يجوز التفاضل فيه، وعليه مضى السلف، والخلف".
(4)
"النَّسيئَةُ على فَعيلَةٍ، بمعنى التأخير. تقول: نَسَأْتُه البيعَ وأَنْسَأْتُه، وبِعْتُه بِنُسْأَةٍ، وبعْتُه بكُلأَةٍ: أي بأَخِرَةٍ، وبِعْتُهُ بنَسيئَةٍ: أي بأَخِرَةٍ. وقال الأخفش: أَنْسَأْتُهُ الدَّيْنَ، إذا جعلته له مؤخَّرًا، كأنَّك جعلته له يؤخِّره. ونَسَأْتُ عنه دَيْنَه، إذا أخَّرتَهُ نَساءً". انظر: "الصِّحاح تاج اللغة، وصحاح العربية"؛ للجوهري (1/ 76).
(5)
ربا الفضل: "هو بيع مال ربوي بجنسه حالًّا، مع زيادة أحد العوضين على الآخر؛ كبيع دينار بدينارين نقدًا، وصاع من حنطة بصاعين منها مع التقابض، وهو أحد نوعي ربَا البيوع". انظر: "معجم المصطلحات المالية"؛ لنزيه حماد (ص 222).
كَانَ النَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةِ أَجْنَاسٍ).
يعني بذلك: ربا النسيئة، وربا الفضل، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، ومنها:
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلَّا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض - يعني: لا تفضلوا بعضها على بعض -
(1)
ولا تبيعوا الورق بالورق إلَّا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض"
(2)
وجاء في الأحاديث الأخرى: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًّا بيد، فمن زاد، أو استزاد؛ فقد أربى"
(3)
، يعني: من أعطى الزيادة، أو طلب الزيادة؛ فقد وقع في الربا، والرِّبَا أبوابه كثيرة.
* قوله: (الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ نَسِيئَةٌ مِمَّا لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ).
النسيئة: هي التأجيل
(4)
؛ وهذا هو الربا الذي كان يتعامل به أهل الجاهلية، وهو الذي نهى اللهُ سبحانه وتعالى عنه في كتابه العزيز، ونهى عن الربا عُمومًا، وهذا هو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر خُطبَةٍ خطبها في حجة الوداع؛ عندما حذَّر من الربا، وقال:"أول ربا أضعه ربَانَا؛ ربَا العباس بن عبد المطلب"
(5)
، فرأينا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تأخذه في الحق لومة لائم، ولم يُحاب عمَّه الذي قال عنه:"أمَّا علمت أنَّ عمَّ الرجل صنْو الأب، أو صنو أبيه"؛ أي: مثل أبيه
(6)
.
(1)
انظر: "تفسير غريب ما في الصحيحين"؛ لمحمد بن فتوح الأزدي الحميدي (ص 226)، وفيه:"وَلَا تشفوا بَعضهَا على بعض، أَي: لَا تفضلوا ولا تَزِيدُوا، والشفوف الزِّيَادَة، ويقال: شَفَّ يَشِفّ، إِذا زَاد، وَقد يكون الشف النُّقْصَان، يُقَال: هَذَا دِرْهَم يشف قَلِيلًا، أَي ينقص، وهو من الأضداد".
(2)
أخرجه البخاري (2177)، ومسلم (1584).
(3)
أخرجه مسلم (1584).
(4)
سبق ذكر تعريفه.
(5)
أخرجه مسلم (1218).
(6)
أخرجه مسلم (983) عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، =
* قوله: (والثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ مُمَاثِلٌ مِمَّا لَيْسَ بِمُمَاثِلٍ).
حتى يحصُلَ الابتعاد عن ربَا الفضلِ.
* قوله: (إِذْ هَذَانِ الْقِسْمَانِ يَنْقَسِمَانِ بِفُصُولٍ كثِيرَةٍ، فَيَعْرِضُ هُنَالِكَ الْخِلَافُ).
* قوله: (الثَّالِثُ: فِيمَا وَقَعَ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَيْع بِصُورَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا هَلْ هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ (أَعْنِي: الزِّيَادَةَ، وَالنَّسِيئَةَ)، أَوْ كِلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالذَّرَائِعِ، وَهُوَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ).
هذا الثالث ينقسم إلى قسمين؛ لذلك لم يذكر المصنِّف قسمًا رابعًا لو تأملت:
القسم الأول: أن لا يكون وسيلة إلى ربا النسيئة؛ هذا هو الجنس الثالث.
القسم الثاني: أن لا يكون وسيلة إلى ربا الفضل؛ وهذا هو الجنس الرابع، ويأتي الخامس الذي هو خصائص ما يتعلق بهذا المبيِع.
ولذلك قال المصنف رحمه الله: (وَهَذَا يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى نوْعَيْنِ كَانْقِسَامِ أَصْلِهِ).
* قوله: (الْخَامِسُ: فِي خَصَائِصِ أَحْكَامِ هَذَا الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ - أَعْنِي: عَدَمَ النَّسَاءِ وَالتَّفَاضُلِ، أَوْ كِلَيْهِمَا -).
يعني: أن لا يكون فيه نَساء، ولا تفاضل؛ لِأَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم؛ إذا كان يدًا بيد"
(1)
، أي: حاضرًا بحاضرٍ، وفي الحديث:"ولا تبيعوا غائبًا بناجزٍ"
(2)
، إذن فالتَّأجيل لا يجوز في مثل هذه الأمور.
= فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ينقم ابن جميل إلَّا أنَّه كان فقيرًا فأكناه الله، وأمَّا خالد فإنَّكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه، وأعتاده في سبيل الله، وأمَّا العباس فهي علي، ومثلها معها"، ثم قال:"يا عمر، أما شعرت أنَّ عمَّ الرجل صنو أبيه؟ ".
(1)
أخرجه مسلم (1587).
(2)
جزء من حديث أخرجه البخاري (2177)، ومسلم (1584).
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ يُخَالِفُ هَذَا الْبَيْعُ الْبُيُوعَ؛ لِمَكَانِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِيهِ في أحكامٍ كثيرةٍ).
يعني: يخالف البيوع الحلال التي ليس فيها الربا.
* قوله: (وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الْكُتُبَ الْمَوْضُوعَةَ فِي فُرُوعِ الْكِتَابِ الَّذِي يُسمُونَهُ بِكِتَابِ الصَّرْفِ؛ وَجَدْتَهَا كُلَّهَا رَاجِعَةً إِلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْخَمْسَةِ).
الأجناس التي ذكرها؛ هي: 1 - عدم النسيئة، 2 - عدم المماثلة، 3 - ما لم يكن وسيلة إلى النَّساء، 4 - ما لم يكن وسيلة إلى المُفاضلة، 5 - ما اشتمل على خصائص البيع ممَّا قد يُؤدي إلى النَّساء، أو المفاضلة، أو كليهما.
* قوله: (أَوْ إِلَى مَا تَرَكَّبَ مِنْهَا مَا عَدَا الْمَسَائِلَ الَّتِي يُدْخِلُونَ فِي الْكِتَابِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ، مِمَّا لَيْسَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ).
يعني أنَّ هناك مِن الفقهاءِ مَن يُدخِل في هذا الباب، وفي غيره مسائل أخرى، لكنَّ الفقهاء - رحمهم الله تعالى - لا يُدخِلون مسألة من المسائل إلَّا ولها علاقة بالباب، قد تكون العلاقة قريبة جدًّا، وربما يستدعي المقام ذكر تلك المسألة لتكون بيانًا لمسألةٍ، أومَثَلًا لها، أو ربما لتجانسهما في الحكم.
* قوله: (مِثْلُ إِدْخَالِ الْمالكِيَّةِ فِي الصَّرْفِ مَسَائِلَ كثِيرَةً؛ هِيَ مِنْ بَابِ الاقْتِضَاءِ فِي السَّلَفِ).
هناك قضاء وهناك اقتضاء، فالقضاء: هو الذي يكون من جانب المَدِين، تقول: قضى فلانٌ دينه، وتقول: قضيتُ ديني؛ أي: سلَّمتُه للدَّائنِ، فهذا قضاء
(1)
.
والاقتضاء: يكون من جانب الدَّائن، أي الذي يأخذ الدين - (أي
(1)
انظر: "الصحاح"؛ للجوهري (6/ 2463)، وفيه:"والقضاء يكون بمعنى الأداء، والإنهاء، تقول: قَضَيْتُ دَيْني".
الحق) - من مَدِينِه، فهذا يُسمَّى قاضيًا
(1)
- ولا أعني به القاضي الذي يحكم بين الناس -، ولهذا يقولون: قضيتُ ديني فاقتضاه فلانٌ، أي: أخذه
(2)
.
* قوله: (ولَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهَا يَئُولُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ؛ - أَعْنِي: إِلَى صَرْفٍ بِنَسِيئَةٍ، أَوْ التفَاضُل - أَدْخَلُوهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِثْلَ مَسَائِلِهِمْ فِي اقْتِضَاءِ الْقَائِمَةِ، وَالْمَجْمُوعَةِ وَالْفُرَادَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ).
هذه مسائل مصطلح عليها في الفقد المالكي يدخلونها؛ لأنَّها شبيهة بأبواب الربَا، والفرادى: جمع فرد
(3)
.
* قوله: (لَكِنْ لَمَّا كانَ قَصْدُنَا إِنَّمَا هُوَ ذِكرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ مَنْطُوقٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهَا).
هذا هو الأساس الذي رتَّب عليه المؤلف كتابه، وقد تكلم عن هذا المنهج، أمَّا الجزئيات، والفروع الكثيرة فلا يعرض لها، لكنَّ المَقام يَقتضي منه أحيانًا أن يخرج عن هذا المنهج، وقد خرج كثيرًا، وأكثر ما خرج في أبواب البيوع.
* قوله: (رَأَيْنَا أَنْ نَذْكرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ سَبْعَ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٍ تَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ؛ لِمَا يَطْرَأُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ).
(1)
انظر: "شرح حدود ابن عرفة"؛ للرصاع (ص 249)، وفيه:"والقضاء من فعل المدين، والاقتضاء من فعل صاحب الدين".
(2)
انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع"؛ للبعلي (ص 359)، وفيه:"اقتضى: طلب وأخذ، وهو افتعال من القضاء".
(3)
انظر: "الصحاح"؛ للجوهري (2/ 518)، وفيه:"الفَرْدُ: الوِتْر، والجمع أفْرادٌ، وفُرادى على غير قياس".
هذه مقدمة طيبة، مراد المؤلف منها: أنَّ المسائل التي يذكرها هي مسائل كبرى، تجري مجرى الأصول، إذا أمسكت بهذه المسائل وضبطَّها؛ استطعتَ أن تَرُدَّ إليها الفروع، لذلك سيذكر لكم مثلًا بديعًا، ذكره تطبيقًا على أهلِ زمانه، فما بالكم بوقتنا هذا.
* قوله: (فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ؛ إِنَّمَا وَضَعْنَاهُ لِيَبْلُغَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ رُتْبَةَ الاجْتِهَادِ).
ربما تستغرب هذا الكلام من المؤلف! هذا الكتاب إذا وزنته بكتاب "المغني"؛ لا يبلغ خمسه - ولنقل يبلغ خمسه - فكيف يقول المؤلف بأنَّ هذا الكتاب وضعه للمجتهد؟!
والجواب: أنَّه قد بيَّن ذلك؛ فقال: أنا استخلصت من علم الفقه أُمهات المسائل، وأثبتها لك أيها القارئ في هذا الكتاب، فإن فهمت هذه المسائل الأصول؛ تستطيع أن ترد بقية المسائل إليها، فليس الفقه بكثرة حفظ المسائل.
ولكن - مع ذلك - لو أنَّك قرأت هذا الكتاب - وحده - لا تكون فقيهًا؛ لأنَّك لا تكون فقيهًا إلَّا بوجود آلات أخرى، سيذكرها المؤلف، فلو عرفت كل مسائل الفقه، ولم تدرس النحو، ولا مباحث اللغة - من صرفٍ، وغيره - ولم تتعلم أصول الفقه، فلم تعرف الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والأمر والنهي، ومفهوم الموافقة والمخالفة، والقياس، وغير ذلك من مسائل الأصول المهمة؛ لا تكون فقيهًا؛ لِأَنَّ أصول الفقه بمثابة ميزان دقيق؛ يزن فيه الفقيه علمه في دراسة المسائل، ولذلك وضع العلماء تخريج الفروع على الأصول، ووضعوا القواعد الفقهية؛ لتضبط لك الفروع، ولذلك ردَّ ابن القيم على أولئك الذين يقولون بأنَّ السلف أسلم، والخلف أعلم، وقال: قائله يدل على جهلة، فالسلف هم الأسلم والأعلم؛ لا سيما الصحابة الذين اختصهم الله بصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم أخذوا العلم من مشكاة النبوة غضًّا طريًّا؛ لم تشبه شائبة، ولم يخالطه
إشكال
(1)
، ثم بيَّنَ رحمه الله أنَّ أولئك السَّلف ما كانوا يحتاجون لدراسة النحو؛ لأنَّها لغتهم، صديقتهم، لم تخالطها أمور تُكدِّرها، والأصول مركزة في أذهانهم، وكذا بقية العلوم، فهم مهيؤون للتلقي، ولكن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه"
(2)
"ورب مبلغ أوعى من سامع"
(3)
، بعد أن قال:"بلغوا عني ولو آية"
(4)
.
* قوله: (إِذَا حَصَّلَ مَا يجِبُ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَ قَبْلَهُ مِنَ الْقَدْرِ الْكَافِي لَهُ).
أي: قبل هذا الكتاب، فلا يأتي جاهل بالنحو - لا يعرف المرفوع، ولا المنصوب، ولا الحال، وغيرها - ثم يقول: أنا فقيه!
(1)
انظر: "الصواعق المرسلة"، لابن القيم (3/ 1134)، حيث قال:"فلو تبين لهذا البائس وأمثاله أنَّ طريقة السلف إنَّما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات، وفهمها، وتدبرها، وتعقل معانيها، وتنزيه الرب عن تشبيهه فيها بخلقه، كما ينزهونه عن العيوب، والنقائص، وإبطال طريقة النفاة المعطلة، وبيان مخالفتها لصريح المعقول، كما هي مخالفة لصحيح المنقول؛ علم أن طريقة السلف أعلم، وأحكم، وأسلم، وأهدى إلى الطريق الأقوم، وأنَّها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر، وفهم ذلك، ومعرفته، ولا يناقض ذلك إلَّا ما هو باطل، وكذب، وخيال، ومن جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الكتاب والسنة، وعدم إثبات ما تضمناه من الصفات؛ فقد أخطأَ خطأً فاحشًا على السَّلفِ".
(2)
أخرجه أبو داود (3660)، عن زيد بن ثابت، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نَضَّرَ الله امرَأً سَمِعَ منَّا حديثًا؛ فحفِظَه حتى يُبَلَّغَه، فَرُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيهٍ". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(404).
(3)
أخرجه الترمذي (2657)، وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأً سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6764).
(4)
أخرجه البخاري (3461) عن عبد الله بن عمرو، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار".
* قوله: (فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَصِنَاعَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ).
وبعض الناس يرى أنَّ علم النحو لا قيمة له!، ولا شكَّ أنَّ علم النحو من أجلِّ العلوم، فهو الذي ينقلك من المسالك المعوجة ليصل بك إلى كتاب الله صلى الله عليه وسلم، واللهُ أنزل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُبين، وكذلك سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك عن عبد الله بن عمر:"عندما نزلت الآية، وهو صغير، وفهمها، ثم سأل الرسولُ واستحى أن يجيب"
(1)
، وكثيرًا ما كان الصحابة يَلجؤون إلى أهلِ البادية ليسألونهم عن بعض الأمور - كلهجةٍ لم تكن معروفة عندهم - بل كان واضعوا علم اللغة يَطوفون في البوادي ليسألوا الأعرابَ عن لغتهم إذا أُشكلت عليهم كلمة.
* قوله: (وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مُسَاوٍ لِجِرْمِ هَذَا الْكِتَابِ، أَوْ أَقَلَ).
أي: ما هو مساوٍ لحجم هذا الكتاب، أو أقلَّ، فلو قرأتَ ما يساوي هذا الكتاب، أو نصفه - مجلدًا، أو نصفه - من النحو، وفهمته؛ لكفاك، وأنا أقول: نصف هذا الكتاب يكفي، لو قرأت مثلًا: كتابًا من كتب ابن هشام المبسوطة؛ كأوضح المسالك، أو شرح ابن عقيل على الألفية؛ لكفاك.
* قوله: (وَبِهَذِهِ الرُّتْبَةِ يُسَمَّى فَقِيهًا، لَا بِحِفْظِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَلَوْ بَلَغَتْ فِي الْعَدَدِ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْفَظَهُ إِنْسَانٌ).
هذه مسألة مهمة: الإنسان لا يكون فقيهًا بكثرة ما يحفظ من المسائل، وهو لا يخرج عن نطاقها، وإنَّما يكون فقيهًا إذا فهم الفقه،
(1)
أقرب ما وقفت عليه في هذا ما أخرجه البخاري (61)، ومسلم (2811) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنَّها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ " فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: "هي النَّخلة".
وحفظ مسائله الأصول، واستطاع أن يُخرِّج عليها كثيرًا من المسائل التي ليست من أقوال الأئمة، لذلك لمَّا جاء أصحاب المذاهب وعرفوا علل الأحكام التي بنى عليها الأئمة مسائلهم؛ حينئذٍ بدؤوا يُخرِّجون عليها المسائل النَّوازل.
فلو حفظ إنسان كل مسائل الفقه - وهو ليس بفقيه -، عندما تنزل به نازلة، أو تحدث حادثة، أو يسأل عن مهمة من المهمات يقف حيرانًا، لكن الفقيه
(1)
اللبيب المدرك الذي يغوص في المسائل، ويدقق فيها، ويستخرج كنوزها؛ هو الذي يصل إلى هذه الرتبة.
* قوله: (كَمَا نَجِدُ مُتَفَقِّهَةَ
(2)
زَمَانِنَا؛ يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَفْقَهَ هُوَ الَّذِي حَفِظَ مَسَائِلَ أَكْثَرَ).
هناك فقيهٌ، وهناك مُتفقِّه، والمصنِّف يقول:"زماننا"، وهو توفي سنة خمس مئة وعشرين؛ أي: في آخر القرن السادس؛ الذي كان فيه جهابذة العلماء، وكثير من الأئمة، يقول:"متفقهة زماننا؛ يظنون أنَّ من يحفظ المسائل هو الفقيه"، فماذا عن هذا الزمان الذي كثرت فيه الشواغل، وانصرفت الأذهان، وضَعُفَت الهمم، وأصبحنا نتطلب المسائل الواضحة التي لا تُكِد ذهنًا، ولا تُتعب فكرًا، بل يُقال:"المُدرس الفولاني يَتشدد، يشرح المسائل في المتون الغامضة، نحتاج أن يُوضِّح لنا، وأن يضع لنا مُذكِّرة! "، هذه فوائدها محصورة؛ لا تُخرَّج العلماء إلا من الكتب القديمة ذات الحواشي، إذا درسوها، وتعمقوا فيها، وأشغلوا أذهانهم حتى تعودوا على تفكيك تلك المسائل، والغوص فيها، وأصبحت سهلة، لكن إذا عوَّدت نفسك على المسائل البسيطة؛ يبقى
(1)
الفقيه: "الْعَالم الَّذِي يَشق الْأَحْكَام، ويفتش عَن حقائقها، وَيفتح مَا استغلق مِنْهَا".
انظر: "الفائق في غريب الحديث"؛ للزمخشري (3/ 134).
(2)
المُتفقِه: "بضم الميم وكسر القاف؛ هو المشتغل بعلم الفقه". انظر: "معجم لغة الفقهاء"؛ لمحمد رواس قلعجي، حامد صادق قنيبي (ص 403).
وربما أطلقوه على المتوسط في الفقه. انظر: "كفاية الطالب الرباني"؛ للشاذلي.
ذهنك خاملًا، لا يتحمل المسائل التي تحتاج إلى إعمال فكر، وَجِدٍّ، ونشاط.
* قوله: (وَهَؤُلَاءِ عَرَضَ لَهُمْ شَبِيهُ مَا يَعْرِضُ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَفَّافَ هُوَ الَّذِي عِنْدَهُ خِفَافٌ كَثِيرَةٌ، لَا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى عَمَلِهَا).
أعطى المؤلف مثلًا دقيقًا؛ فالخفَّافُ: هو الذي يَصنع الحذاء، لا الذي يجمع الحذاء في دُكَّانه، وحانُوته
(1)
فيبيعها!
* قوله: (وَهُوَ بَيِّنٌ أَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ خِفَافٌ كَثِيرَةٌ، سَيَأْتِيهِ إِنْسَانٌ بِقَدَمٍ لَا يَجِدُ فِي خِفَافِهِ مَا يَصْلُحُ لِقَدَمِهِ).
إمَّا أن تكون قدمه صغيرة، أو تكون كبيرة فماذا سيفعل؟!
* قال: (فَيَلْجَأُ إِلَى صَانِعِ الْخِفَافِ ضَرُورَةً، وَهُوَ الَّذِي يَصْنَعُ لِكُلِّ قَدَمٍ خُفًّا يُوَافِقُه، فَهَذَا هُوَ مِثَالُ أَكْثَرِ الْمُتَفَقِّهَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ).
لأنَّك إذا جئت إلى حافظ المسائل؛ سيقول: هذه ما مرت بي، وليست ممَّا أحفظه، لكنَّ الفقيه - من أصحاب المسائل، والتخريجات - سيعرضها على الأصول، ويردها إلى أصلها، فيعطيك الحكم فيها.
ولذلك في موضوع الاجتهاد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم تجد " قال: أجتهد رأي، ولا آلو جهدًا
(2)
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ اللهِ
(1)
قال أبو هلال العسكري: "الحانوتُ بيتُ الخمَّار، ثمَّ كثرَ حَتَّى صارَ كلُّ بيتٍ يباعُ فيهِ شيءٌ حانوتًا". انظر: "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء"(ص 179).
(2)
أي: لا أقصر، يقال:"أَلا الرجل يَأْلو، أي قَصَّرَ. وفلانٌ لا يَأْلوكَ نصْحًا، فهو آلٍ، والمرأةُ آلِيَةٌ، وجمعها أوال". انظر: "الصحاح"؛ للجوهري (6/ 2270).
لما يُرضي رسولَ اللهِ"
(1)
، لم يجد الحكم في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا بُدَّ أن يجتهد، وهذا الحديث وإن تكلَّم العلماء في سنده، لكنهم اتفقوا على أنَّ معناه صحيح، وأنه يَصبُّ في هذه الشريعة
(2)
. وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك لمَّا كتب - ذلكم الرجل الصحابي الجليل الملهم - عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كتب كتابه العظيم إلى أبي موسى الأشعري، وقد ولَّاه القضاء - والذي شرحه العلامة ابن القيم في مجلدين - أوصى فقال:"الفهمَ الفهمَ فيما يَتَلَجْلَجُ في نفسك" ثم قال: "اعرف الأشباه والأمثال، وقسِ الأمورَ برأيك"، فطلب منه أن يُعْمِلَ فكره في المسائل التي لا يجد فيها نصًّا، وأن يجتهد فيها، وأن يُدقق النظر فيها
(3)
.
واعلم أنَّ للفقه الإسلامي مصادر، وأنَّ هذه المصادر تنقسم إلى قسمين:
(1)
أخرجه أبو داود (3592)، وغيره. وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(881).
(2)
لذلك اعتبره شيخ الإسلام من الأدلة على جواز الرجوع إلى أقوال الصحابة في فهم كتاب الله؛ إذا لم يوجد التفسير في القرآن، ولا في السنة: قال: "وهذا الحديث في المساند، والسنن بإسناد جيد. وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن، ولا في السنة؛ رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنَّهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم، وكبراؤهم؛ كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين". انظر: "مجموع الفتاوى"(13/ 364).
(3)
انظر: "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي"؛ لعلاء الدين البخاري (3/ 281)، حيث قال: "
…
وأمثال هذه الآثار بحيث لا تحصى كثرة، فلما ثبت عن هؤلاء العمل بالرأي، ولم يظهر عن غيرهم إنكار؛ عرفنا أنَّهم كانوا مجمعين على ذلك فيما لا نص فيه، وكفى بإجماعهم حجة".
قال ابن القيم: "ومن ذلك أيضًا اجتهاد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام، ولم يعنفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يُصلُّوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلَّاها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنَّما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخَّروها إلى بني قريظة، فصلُّوها ليلًا، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس". انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين"(1/ 155، 156).
القسم الأول: مصادر قطعية الثبوت والدلالة.
القسم الثاني: مصادر ظنية الثبوت. والدلالة.
أمَّا القسم الأول: المصادر التي هي قطعية الثبوت والدلالة؛ فهذه مُسلَّمة عند العلماء. ولكنَّ القسم الثاني: الأدلة غير قطعية الدلالة، أو غير قطعية الثبوت؛ فهذه نقف عندها ونمحِّص؛ فهي مسائل اجتهادية، ولقد مرَّ في "كتاب النكاح" في قصة المرأة التي:"توفي زوجها قبل أن يدخل بها، ولم يفرض لها صداقًا". احتاروا فيها: فرجعوا إلى أحد الفقهاء الكبار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن مسعود الذي كان يقول:"والله لا أعلم آية نزلت في كتاب الله إلَّا وأنا أعلم أين نزلت، وفيما نزلت، ولو كنت أعلمُ أحدًا أعلمَ مني بكتاب الله تصل إليه أكباد الإبل لضربتها إليه"
(1)
، سألوه عن المسألة، ولم يجبهم، وطلب منهم أن يبحثوا الدليل، وأن يسألوا، فلما احتاروا في الأمر، رجعوا إليه فقضى فيها:"بأنَّ لها صداق مثلها"، فقام معقل بن سنان، فقال:"لقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروعَ بنت واشقٍ بقضائك"، فسُرَّ عبد الله بن مسعود أن وافق ما قضى وأفتى به، بما قضى وأفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
والفقهاء - رحمهم الله تعالى - قسَّموا مراتبَ المجتهدين إلى أربع:
المرتبة الأولى: المجتهد المطلق؛ وهو الذي يأخذ الحكم من دليله، فهو رجل وهبه الله سبحانه وتعالى بسطة في العلم، وفهمًا ثاقبًا في كتاب الله عز وجل، وإدراكًا لمعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجمعت عنده أدوات الاجتهاد،
(1)
أخرجه البخاري (5002)، ومسلم (2463) عن ابن مسعود، قال:"والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلَّا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل؛ لركبت إليه".
(2)
أخرجه أبو داود (2114)، وغيره، عن عبد الله، في رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق، فقال: لها الصداق كاملًا، وعليها العدة، ولها الميراث، فقال معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" قضى به في بروع بنت واشق". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1939).
فأصبح يطوف في كل المسائل، فيأخذه من مصدرها الأصلية، من نبعها الصافيين؛ كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا نسميه مجتهدًا مطلقًا؛ لأنَّه يأخذ الحكم من دليله، دون أن ينتسب إلى مذهب.
المرتبة الثانية: المجتهد المنتسب؛ وهو لا يقل في العلم رتبة عن هذا الأول، لكنه ينتسب إلى مذهب من المذاهب؛ بمعنى أنَّه ملتزمٌ بأصولِ مذهبه.
والمرتبة الأولى تنطبق على الأئمة الأربعة، والثانية تنطبق على بعض تلاميذهم، كمحمد بن الحسن، وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة، وابن القاسم من أصحاب مالك، والبويطي، والمزني من أصحاب الشافعي، وبالنسبة للإمام أحمد ابن القاسم أيضًا، ومن المتأخرين شيخ الإسلام ابن تيمية مجتهدٌ ينتسب إلى مذهب أحمد، وإن كان شيخ الإسلام له مسائل كثيرة انفرد بها، لكنه كما قيل:"لم يترك الأول للآخر شيئًا"
(1)
.
فائدة:
لا يزال باب الاجتهاد مفتوحًا؛ لأنَّ هذه الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع، وستبقى إلى أن يرثَ اللّهُ الأرضَ ومن عليها، ولأنَّ
(1)
انظر: "المجموع"؛ للنووي (1/ 42، 43)، قال:"المفتون قسمان: مستقل، وغيره: (فالمستقل)؛ شرطه مع ما ذكرنا أن يكون قيمًا بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وما التحق بها على التفصيل، وأن يكون عالمًا بما يشترط في الأدلة، ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، عارفًا من علوم القرآن، والحديث، والناسخ، والمنسوخ، والنحو، واللغة، والتصريف، واختلاف العلماء، واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة، والاقتباس منها: ذا دُربة وارتياض في استعمال ذلك: عالمًا بالفقه ضابطًا لأمهات مسائله، وتفاريعه، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل؛ الذي يتأدى به فرض الكفاية، وهو المجتهد المطلق المستقل؛ لأنَّه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد. (القسم الثاني) المفتي الذي ليس بمستقل، ومن دهر طويل عُدم المفتي المستقل، وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة".
الأحكام تتجدد، والوقائع تتنوع، والحوادث تنزل، وتكثر بين فترة وفترة؛ فلا بُدَّ من إصدارِ أحكامٍ شرعية فيها، وذلك إنَّما يكون عن طريق المجتهدين، لذلك نجد أنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أثنى على المجتهد، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر واحد"
(1)
الأول: كان له أجران؛ لأنَّه يأخذ الأجر الأول على اجتهاده، والثاني على إصابته الحق. والثاني: وإن أخطأ الحق ما دام قصده إذا اجتهد أن يصل إليه، فأخطأ الصواب، ولم تكن له غاية سيئة، ولا هوى؛ فإنَّه يُؤجر، لكنَّ الأول أكثر أجرًا منه؛ لأنَّه أصاب الحق.
قوله: (وَإِذْ قَدْ خَرَجْنَا عَمَّا كنَّا بِسَبِيلِهِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى حَيْثُ كنَّا مِنْ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَعَدْنَا بِهَا).
قال هذا؛ لأنَّه خرج عن موضوع الصَّرف، فتكلم عن المُتفقِّه متى يكون مُجتهدًا.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ لَا يَجُوز إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ)
(2)
.
لا يجوز؛ لأنَّ هذا هو عَينُ الرِّبَا، فإن كان هناك تأجيل فهو ربَا النسيئة، وإن كان هناك تفاضل - أي: عدم تماثل - فهو ربا الفضل.
ولقد مرَّت بنا الآيات التي حذَّر الله سبحانه وتعالى فيها من الربا، وتلكم الأحاديث الكثيرة المتنوعة التي خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها المُرابين؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات
…
"
(3)
، وذكر منها:
(1)
أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) عن عمرو بن العاص، بلفظ:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر".
(2)
انظر: "الإجماع"؛ لابن المنذر (ص 109)، وفيه:"وأجمعوا على أنَّ الستَّة الأصنَاف، متفاضلًا يدًا بيدٍ، ونسيئة لا يَجوز أحدهما، وهو حرام". وانظر: "الاشراف"(6/ 56).
(3)
أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: =
"الرِّبَا"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لعن اللّهُ آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه"
(1)
، وبيَّن أنَّهم سواء في الإثم.
قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه).
تقدَّم ذكر الخلاف في هذه المسألة، فكافة العلماء مجمعون على تحريم ربَا النَّسيئة، وأمَّا ربا الفضل فقد خالف فيه بعض من الصحابة؛ كما روي عن ابن عباس، واخْتُلِف عنه، فهناك من قال أنَّه رجع
(2)
، ومهما يكن الأمر فإنَّ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحة في هذا، وعبد الله بن عباس صحابي جليل؛ دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله في الدِّينِ
(3)
، لكننا
= "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله وما هُنَّ؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلَّا بالحقِّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
(1)
أخرجه مسلم (3/ 1219) عن جابر، قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه"، وقال:"هم سواء"،
(2)
ممن أخرج حديثَ ابن عباس الطحاويُّ في "شرح معاني الآثار"(4/ 64) عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لا ربا إلَّا في النسيئة".
وروى الطحاوي أيضًا رجوع ابن عباس في "شرح معاني الآثار"(4/ 71)، فقال:"ومما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في رجوعه عن الصرف؛ ما قد حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب قال: ثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي الصهباء: أن ابن عباس نزع عن الصرف. فهذا ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي روى عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّما الربا في النسيئة"، وتأول ذلك على إجازة الفضة بالفضة، والذهب بالذهب مثلين بمثل، وأكثر من ذلك، قد رجع عن قوله ذلك. فإمَّا أن يكون رجوعه لعلمه أنَّ ما كان أسامة رضي الله عنه حدَّثه إثما هو ربا القرآن، وعلم أنَّ ربا النسيئة بغير ذلك، أو يكون ثبت عنده ما خالف حديث أسامة رضي الله عنه ممَّا لم يثبت منه حديث أسامة من كثرة نقله له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قامت عليه به الحجة، ولم يكن ذلك في حديث أسامة رضي الله عنه لأنَّه خبر واحد، فرجع إلى ما جاءت به الجماعة؛ الذين تقوم بنقلهم الحجة، وترك ما جاء به الواحد؛ الذي قد يجوز عليه السهو، والغلط، والغفلة".
(3)
أخرجه البخاري (143)، ومسلم (2477) عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وضوءًا، قال:"من وضع هذا؟ " فأخبر، فقال:"اللهم فقهه في الدين".
لا ننسى أنَّه مُجتهد، والمجتهد يُصيب ويُخطئ، ولابن عباس فَهمٌ لا شك، وله حديث يستند إليه في هذه المسألة؛ أورده المؤلِّف.
قوله: (وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمَكِّيِّينَ، فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَهُ مُتَفَاضِلًا، وَمَنَعُوهُ نَسِيئَةً فَقَطْ)
(1)
.
لأنَّهم يرون أنَّ الربَا الذي نهى الله سبحانه وتعالى إنَّما هو ربا الجاهلية؛ الذي هو ربا النسيئة، وأمَّا ربا الفضل فلا، ولا يُشكُّ أنَّ هناك مَن يُدَندِنُ في هذا الزمان، ويحاول أن يتمسك بهذا القول، ويتأوَّله، ويجعله وسيلة ومَنْفَذًا إلى إباحة الفوائد البنكية التي انتشرت في هذا الزمان، لكن لا شكَّ أنَّ كافة العلماء ذهبوا إلى خلاف ذلك، وأنَّ أبا سعيد الخدري أنكر على عبد الله ابن عباسٍ، وقال له:"كليف يا ابن عم رسول الله ترضى أن تُوكل - تأكل - الناس من الحرام؟ "، أو عبارة نحو ذلك
(2)
، فقال:"أستغفر الله يا أخي"، وقد اختُلف في كون عبد الله ابن عباس رجع عن قوله، أو لم يرجع، ووصلتنا أدلة صريحة في هذا المَقام فنقف عندها
(3)
.
(1)
قال ابن عبد البر: "لم يتابع ابن عباس على تأويله في قوله في حديث أسامة هذا - أحد من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين، إلَّا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه، وعن أصحابه؛ وهم محجوجون بالسنة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها، وجهلها، وليس أحد بحجة عليها". "الاستذكار"(6/ 352).
(2)
أخرج البيهقي في "الكبرى"(5/ 468)، عن حيان بن عبيد الله العدوي؛ أبي زهير، قال:"سئل لاحقُ بنُ حميد أبو مِجْلَزٍ، وأنا شاهد عن الصرف، فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره حتى لقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي الله؟ متى تُؤكّلُ الناسَ الربا؟ أما بلغك أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: في صاع من تمر عجوة، قد أبدلوه بصاعين من تمر عتيق: "رُدُّوه، رُدُّوه، لا حاجةَ لي فيه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة؛ يدًا بيد، مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ ليس فيه زيادةٌ ولا نقصان، فمن زاد، أو نقص؛ فقد أربى، وَكُلُّ ما يُكال، أو يُوزَنُ". فقال ابن عباس: ذَكَّرْتَنِي يا أبا سعيد أمرًا أُنْسِيتُه، أستغفر الله، وأتوب إليه، وكان يَنْهَى بعد ذلك أشدَّ النَّهي".
(3)
من ذلك ما رواه الحاكم (3/ 624)، عن ابن عباس، أنَّه قال:"اللهم إنِّي أتوب إليك ممَّا كنت أفتي الناس في الصرف"، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد،=
قوله: (وَإِنَّمَا صَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ؛ لِمَا رَوَاهُ عَنْ أُسَامَة بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ"، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَجْعَلِ الرِّبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ
(1)
).
إنَّ العلماء تأوَّلوا هذا الحديثَ، وبيَّنوا أنَّ معنى "لا ربما إلَّا في النسيئة"، أو "إنَّما الربا في النسيئة": أنَّ ربا النسيئة أشدُّ خطرًا من ربا المضل، وأعظم فَتْكًا بالأمم؛ لذلك نصَّ عليه، وربا الفضلى داخل فيه تَبَعًا
(2)
، وقد دلَّت على ذلك الأحاديثُ الكثيرةُ جدًّا؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"مِثلًا بمثل، يدًا بيد، عينًا بعين، سواءً بسواء"
(3)
.
قوله: (وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَصَارُوا إِلَى مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ).
= وهو من أجلِ مناقب عبد الله بن عباس؛ أنَّه رجع عن فتوى، لم ينقم عليه في شيء غيرها".
قال ابن عبد البر: "لم أرَ ذِكْرَ ما روى ابن عباس، ومن تابعه في الصرف، ولم أعده خلافًا؛ لما روي عنه من رجوعه عن ذلك، وفي رجوعه إلى خبر أبي سعيد المفسر، وتركه القول بخبر أسامة بن زيد المجمل = ضروبٌ من الفقه، ليس هذا موضع ذكرها، ومن تدبرها، ووفق لفهمها؛ أدركها، وبالله التوفيق". انظر: "التمهيد"(2/ 245، 246).
(1)
سبق تخريجه.
(2)
قال الصنعاني: "قوله: "لا ربا إلَّا في النسيئة"؛ أجاب الجمهور عنه: بأنَّ معناه لا ربا أشد إلَّا في النسيئة، فالمراد نفي الكمال، لا نفي الأصل، ولأنَّه مفهوم، وحديث أبي سعيد منطوق، ولا يقاوم المفهوم المنطوق؛ فإنَّه مطرح مع المنطوق، وقد روى الحاكم أنَّ ابن عباس رجعَ عن ذلك القول؛ أي: بأنّه لا ربَا إلَّا في النَّسيئة، واستغفر الله من القول به". انظر: "سبل السلام"(2/ 51).
(3)
أخرجه مسلم (1587)، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيدٍ".
الحديث المتفق عليه في الصحيحين، ورواه مالك عن أبي سعيد الخدريِّ، وهو من الأحاديث التي اشتهرت في ذلك، وهو نصٌّ في تحريم ربا الفضل:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ)؛ يعني: متساويين، (وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْض)؛ أي: لا تُفَضِّلوا بعضها على بعض، لا تجعلوا هذا أزيد من هذا، بل ساووا بينها. وهذا أيضًا نصٌ صريحٌ من الرسول صلى الله عليه وسلم، (وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ)، في الرواية المشهورة:"الوَرِق بالوَرِق"، والوَرِقُ: هو الفضة، ثم أكَّد ذلك بعبارة أخرى؛ فقال:(وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ)؛ يعني: لا تزيدوا بعضها على بعض
(1)
، ثُمَّ قال:(وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا شَيْئًا غَائِبًا بِنَاجِزٍ، وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ)
(2)
وهذا هو ربَا النَّسيئة
(3)
.
فهذه الأشياء كُلُّها لا بُدَّ من وجود التساوي فيها، فإن حصل فيها تفاضل؛ وقع ربا الفضل، وكذلك ما يُلحَقُ بها ممَّا تُوجد فيه علة الرِّبَا، وقد سبق ذكره.
إذًا: فهذا هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نصٌّ في المسألة، وحُجَّةٌ في ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم صدَّر هذا الحديث بالنَّهي، فإنَّ "لا" ناهية؛ أي: أنهاكم أن تبيعوا.
قوله: (وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ).
حديثُ عبادة أيضًا فيه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر،
(1)
تقدم معناه.
(2)
أخرجه البخاري (2177)، ومسلم (1584).
(3)
انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"؛ للخوارزمي (ص 456)، وفيه:"لا يُباعُ غائبٌ بِنَاجِزٍ، أي: نسيئةٌ بِنَقْدٍ".
والملح بالملح
…
" إلى أن قال: "مثلًا بمثلٍ، سواء بسواء، فمن زاد، أو استزداد؛ فقد أربى". وهذا الحديثُ جاء مُؤكَّدًا الآخِر
(1)
.
قوله: (فَصَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى هَذه الأحَادِيثِ؛ إِذْ كَانَتْ نَصًّا فِي ذَلِكَ).
واعلم أنَّه لم يَرِد عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تصريحًا، ولا ضِمنًا أنَّه أجاز ربا الفضل، إلَّا ما ورد من قوله:"لا ربا إلَّا في النسيئة"
(2)
، أو "إنَّما الربا في النسيئة"
(3)
، وقد سبق وذكرنا تأويله عند العلماء، ولهذا قال المؤلِّفُ:
(وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِيهِ لَفْظَان؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ"، وَهَذَا لَيْسَ يُفْهَمُ مِنْهُ إِجَازَةُ التَّفَاضُلِ، إِلَّا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَارَضَهُ النَّصُّ).
دليل الخطاب
(4)
: هو مفهوم المخالفة، وقد كرَّره المؤلف كثيرًا في هذا الكتاب، فقوله:"إنَّما الربا في النسيئة"؛ مفهومه بالمخالفة: أنَّ ربا الفضل والزيادة ليس ربا.
(1)
أخرجه مسلم (1587)، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلَّا سواءً بسواءٍ، عينًا بعينٍ، فمن زاد، أو ازداد؛ فقد أربى".
(2)
أخرجه البخاري (2178).
(3)
أخرجه مسلم (1596).
(4)
قال الغزَّالي: "ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عمَّا عدَاه، ويُسمى مفهومًا؛ لأنَّه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق، وإلَّا فما دل عليه المنطوق أيضًا مفهوم، وربما سُمِّي هذا دليل الخطاب، ولا التفات إلى الأسامي، وحقيقته؛ أنَّ تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء يدل على نفيه عمَّا يخالفه في الصفة". انظر: "المستصفى"(ص 265).
قوله: (وَأَمَّا اللَّفْظُ الْآخَرُ: وَهُوَ: "لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ").
لأنَّ "لا" نافية، و"ربا" نكرةٌ في سياق النفي، والنكرةُ في سياقِ النَّفي تَعُمّ، فكأنَّه قال: لا ربا يوجد إلَّا في شيء اسمه النَّسيئة
(1)
.
قوله: (فَهُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا عَدَا النَّسِيئَةَ فَلَيْسَ بِرِبًا).
المؤلف هنا يريد أن يوازن بين اللفظين، يقول: اللفظ الثاني "لا ربا إلا في النسيئة" أقوى في الدلالة على الاقتصار على ربا النسيئة؛ لأن اللفظ الأول: "إنما الربا في النسيئة" يُفهم منه إخراج ربا الفضل عن طريق مفهوم المخالفة، ومع ذلك فإنَّ الثاني وإن كان أقوى، لكنَّه ليس نصًّا في إخراج ربا الفضل، بدليل الأحاديث الصحيحة الصريحة المتعددة التي رواها جمع من الصحابة بعضها في الصحيحين كلُّها تؤكد تحريم ربا الفضل.
ثُمَّ قال: (لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: "لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ"، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْأَكْثَرِ).
مراد المؤلف أن الغالب والأكثر إنما هو في النسيئة فنصَّ عليه، فإن نبَّه على الأكثر والأخطر دَخَل فيه الأدنى؛ لذلك بعض العلماء يقولون إنَّ
(1)
ووجه آخر للجواب؛ ذكره ابن بطال في "شرح صحيح البخاري"(6/ 303)، قال:"وقد تأول بعض العلماء أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربَا إلَّا في النَّسيئة" خرج على جواب سائل سأل عن الربَا في الذهب بالورق، أو البر بالتمر، ونحو ذلك ممَّا هو جنسان، فقال عليه السلام: "لا ربَا إلَّا في النَّسيئة" فسمع أسامة كلامه، ولم يسمع السؤال، فنقل ما سمع.
قال ابن الجوزي: وإنَّما حملناه على هذا لإِجماع الأمة على خلافه". انظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (4/ 15).
وقيل: "لا ربَا إلَّا في النَّسيئة" منسوخ بهذه الأحاديث، وقد أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره، وهذا يدل على نسخه. انظر:"شرح النووي على مسلم"(11/ 25).
وهناك أجوبة أخرى ذكرها المازري في "المعلم بفوائد مسلم"(2/ 303).
هذا الحديثَ يدلُّ على تحريم الصِّنفين ربا النسيئة والفضل
(1)
.
قوله: (وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا، وَالْأَوَّلُ نَصٌّ، وَجَبَ تَأْوِيلُهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَفَاضِلًا).
فإذا كان هذا الحديث يحتمل معنى آخر، فإنَّ القاعدةَ الأصوليةَ، تقول:"إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال"، فكيف لو كان معنا أحاديث نَصٌّ في المسألة، صريحةُ الدلالة على المدَّعى توضح وتؤكِّد أنَّ ربَا الفضلِ مُحرَّم؟!
قوله: (وَأَجْمَعَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَسْكُوكَه، وَتِبْرَه، وَمَصُوغَهُ سَوَاءٌ فِي مَنْعِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ)
(2)
.
المَسكُوكُ: المضروبُ؛ كالدراهم، والدنانير، والريالات، والجنيهات، يُسمَّى مسكوكًا؛ لأنه دخل السَّك
(3)
.
(1)
انظر: "فتح الباري"؛ لابن حجر (4/ 382)، وفيه:"وقيل المعنى في قوله: "لا ربا" الربا الأغلظ، الشديد التحريم، المتوعد عليه بالعقاب الشديد؛ كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلَّا زيد، مع أنَّ فيها علماء غيره، وإنَّما القصد نفي الأكمل، لا نفي الأصل، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة، إنَّما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأنَّ دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربَا الأكبر".
(2)
انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"؛ لابن الفطان (2/ 226)، وفيه:"وأجمعوا أنَّ تبر الذهب والفضة سواء في منع التفاضل في ذلك، وكذلك مصوغ كل شيء ومضروبه، لا يجوز التفاضل فيه، وعليه مضى السلف والخلف، إلَّا شيئا روي عن معاوية من وجوه، أنَّه كان لا يرى الربا في بيع العين بالتبر، ولا بالمصوغ، وكان يجيز التفاضل فيه، ويمنع من ذلك في التبر بالتبر بالمصوغ بالعين".
(3)
انظر: "مقاييس اللغة"؛ لابن فارس (3/ 58)، حيث قال:"السين والكاف أصل مطرد، يدل على ضيق، وانضمام، وصغر".
وقال نشوان الحميري: "سَكُّ الذهب والفضة: إِذابَتُهما، وعَمَلُ شيء منهما". انظر: "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"(5/ 2957).
"وتبره": المراد به غير المسكوك
(1)
. وغير المصوغ، أي: السبائك؛ قطع الذهب، وقطع الفضة.
والمراد بالمصوغ: ما يُصاغ صياغةً؛ أي: تدخله الصناعة بأشكال مختلفة، كقلائدَ، أو غيرها.
فهذا كله لا يختلف في الحكم، لا فرق بين أن يكون الذهب سبائك، وبين أن يكون قد صيغ صياغة فأصبح داخلًا في الصياغات، وبين أن يكون مضروبًا؛ أي مسكوكًا دراهم، أو غيرها، بل بعضهم يزيد، ويقول:"ولا فرق بين صحيحه ومكسره، رديئه وجيده"، كل ذلك يدخل في الحكم.
وبهذا يظهر أنَّ الحكم ليس مقصورًا على الدراهم، والدنانير، فلو كان عند إنسان قطعة من ذهب، وعند آخر قطعة أخرى؛ فلا يجوز أن يبيع هذه بهذه مبادلةً، إلا بمعرفة التماثل، فلا يجوز أن تكون أحد السبيكتين أكثر من الأخرى، ولو كانت مصوغة، وسيأتي الكلام في المصوغ.
قوله: (لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيزُ التَّفَاضُلَ بَيْنَ التِّبْرِ، وَالْمَصُوغِ لِمَكَانِ زِيَادَةِ الصِّيَاغَةِ).
لم يذكر المؤلف أثر معاوية رضي الله عنه في ذلك، فقد جاء أنَّه:"باع آنية من فضة بفضة مطلقًا"
(2)
، وجاء أنَّه: "باع ساقية من ذهب،
(1)
انظر: "الجيم"؛ لأبي عمرو الشيباني (1/ 103)، حيث قال:"التِّبْر: ما كان مكسورًا من ذهب أو فضّة".
وقال الليث: "التِّبْر: الذهبُ والفضة قبل أن يُصاغا". انظر: "تهذيب اللغة"؛ للأزهري (14/ 196).
وقال الخوارزمي: "التبر: ما كان غير مضروب من الذهب والفضة، وعن الزجاج: هو كل جوهر قبل أن يستعمل كالنَّحاس، والصفر، وغيرهما". انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"(ص 58).
(2)
أخرج مسلم (1587) عن أبي قلابة، قال: "كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن =
أو وَرِق بأكثر من وزنها"
(1)
، والسِّقايةُ هي: نوعٌ من الآنيةِ
(2)
، باعها بأكثر من وزنها، وهنا الشاهد، وقد أنكر عليه الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه، وقال:"سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا لا يجوز؛ إلَّا مثلًا بمثل"، ولما غادر أبو الدرداء الشامَ وجاء إلى عمر رضي الله عنه في المدينة أخبره بما فعل معاوية رضي الله عنه، فكتب عمر رضي الله عنه إلى معاوية:"أن لا تبع ذهبًا إلَّا مثلًا بمثل، يدًا بيد"، وكذلك ورد أنَّ عبادة بن الصامت أنكر ذلك، كما في قصة الإناء، وقال:"سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنَّ هذا لا يجوز، إلَّا مثلًا بمثل"، وحديث عبادة صريح:"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة"، وفي بعض الرِّوايات:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة" إلى أن قال: "إلَّا مثلًا بمثل، عينًا بعين، يدًا بيد، فمن زاد، أو استزداد فقد أربى"، وسيأتي اختلاف العلماء في هذه المسألة.
= يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قال: نعم، غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلًا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع التاس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت، فقام، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلَّا سواءً بسواءٍ، عينًا بعينٍ، فمن زاد، أو ازداد؛ فقد أربى"، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية؛ فقام خطيبًا، فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده، ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصاصت فأعاد القصة، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية - أو قال: وإن رغم - ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء".
(1)
أخرجه النسائي (4572) عن عطاء بن يسار، وفيه:"أنَّ معاوية باع سقاية من ذهب، أو وَرِق بأكثر من وزنها، فقال: أبو الدرداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، إلَّا مثلًا بمثل". وصححه الألباني في "صحيح النسائي"(4572).
(2)
قال ابن الأثير: "السِّقايةُ: إناءٌ يُشْرب فيهِ". انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"(2/ 382).
مسألة:
عندما يُوجد إناء، أو سيف مُمَوَّه
(1)
بالذهب، أو غير ذلك، وقابله ذهب آخر صافٍ، أو وُجدت فِضَّةٌ مشُوبةٌ
(2)
وقابلها فضة خالصة، فبعض العلماء قالوا: لا بُدَّ من تساوي النقديين في الأمرين معًا، وذاك يُخرج بعد ذلك، ويُحسب حِسابه، فلا ينبغي أن يكون ذلك داخل في ذلك.
قوله: (وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِي دَارَ الضَّرْبِ بِوَرِقِهِ، فَيُعْطِيهِمْ أُجْرَةَ الضَّرْبِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ دَنَانِيرَ، وَدَرَاهِمَ وَزْنَ وَرِقِهِ أَوْ درهمِهِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ خُرُوجِ الرُّفْقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ).
دار الضرب: هي التي تُسَكُّ فيها الدراهم والدنانير
(3)
.
مثال ذلك: رجلٌ يريد السفر ومعه ذهبٌ أو فضَّة، وليس معه رُفقةٌ يحتمي بها، فيذهب إلى الدار المختصَّة بالضرب؛ لتضرب له وزن ما معه من ذهب أو فِضَّة؛ دراهمَ مثلًا.
فأجاز الإمام مالك ذلك للضرورة؛ لأنَّ القاعدة الفقهية تقول: "الضرورات تُبيح المحظُورات"
(4)
، والقاعدة الأخرى تقول: "الحاجة تُنزَّل
(1)
مُموه: أي مُزخرف. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"؛ للخوارزمي (ص 449).
(2)
الشوب: الخَلْط والمزج، يُقال:"شَاب يَشُوبُ شوبًا". انظر: "تفسير غريب ما في الصحيحين"؛ للحميدي (ص 239).
(3)
دار الضَّرب: "مكان سكّ العملات المعدنيّة من قِبَلِ الحكومة". انظر: "معجم اللغة العربية المعاصرة"(1/ 784).
(4)
ذكر هذه القاعدة عدد من العلماء؛ منهم: ابن نجيم في "الأشباه والنظائر"(ص 73)، والزركشي في "المنثور في القواعد الفقهية"(2/ 317)، والسيوطى في "الأشباه والنظائر"(84).
ومعناها: "الممنوع شرعًا يباح عند الحاجة الشديدة - وهي الضرورة - ولكن بشرط أن لا تقل الضرورة عن المحظور". انظر: "موسوعة القواعد الفقهية"؛ لمحمد صدقي آل بورنو (6/ 263).
منزلةَ الضرورة؛ عامَّةً كانت أو خاصَّة"
(1)
، وهذه حاجة خاصة فتُنَزَّل منزلة الضرورة. وقد تغيَّر الحال الآن فأصبحت العملات موجودة ولها رصيد، لكنَّ المؤلف يتكلم عن أمورٍ عامَّة.
قوله: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسمِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعِيسَى بْنُ دِينَارٍ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ)
(2)
.
(1)
ذكر هذه القاعدة عدد من العلماء؛ منهم: إمام الحرمين، والسيوطي، وابن نجيم، والزركشي؛ وقد جعلها قاعدتين إحداهما في الحاجة العامَّة، والأخرى في الحاجة الخاصَّة. انظر:"غياث الأمم"(ص 478 - 479)، و"الأشباه والنظائر"؛ للسيوطي (ص 88)، و"الأشباه والنظائر"؛ لابن نجيم (ص 91).
والمراد بالحاجة هنا: "ما كان دون الضرورة؛ لأنَّ مراتب ما يحرص الشرع على توفيره للإنسان ثلاث؛ الأولى: الضرورة: وهي بلوغ الإنسان حدًّا إذا لم يتناول الممنوع عنه؛ هلك أو قارب، وهذا يبيح تناول الحرام، كما فُصِّل في قاعدةٍ سابقة.
الثانية: الحاجة: وهي بلوغ الإنسان حدًّا لو لم يجد ما يأكله؛ لم يهلك، غير أنَّه يكون في جهد ومشقة، فهذا لا يبيح الحرام، ولكنَّه يسوغ الخروج على بعض القواعد العامة، ويبيح الفطر في الصوم.
الثالثة: الكمالية أو التحسينية: وهي ما يقصد من فعله نوع من الترفه، وزيادة في لين العيش، وما عدا ذلك فهو زينة وفضول، دون الخروج عن الحد المشروع.
فإذا كانت هناك حاجة عامَّة لمجموع من الناس، أو خاصَّة بشخص ما: نزِّلت هذه الحاجة منزلة الضرورة في جواز الترخيص لأجلها، لكنَّ الحاجة مبنية على التوسع والتسهيل فيما يسع العبد تركه، بخلاف الضرورة؛ لأنَّ مبنى الضرورة على لزوم فعل ما لا بُدَّ منه للتخلص من عهدة تلزم العبد ولا يسعه الترك". انظر:"الوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية"(ص 242).
(2)
انظر: "البيان والتحصيل"؛ لأبي الوليد بن رشد (6/ 471، 472)، حيث قال:"وسئل مالك عن رجل يأتي بيت الضَّرب بالمال فيصفيه، ثم بعد أن يعطيه أهل بيت الضرب دنانير بوزنه، ويعطيهم ضربها. قال: إنَّه قد كره الذي يُصيب الناس من الحبس فيها، فقيل له: ويخافون مع ذلك، قال: صدقت وأرجو ألَّا يكون به بأس، قال ابن القاسم: ثم أقول بعد ذلك: ما هو من عمل الأبرار. قال عيسى: قال ابن القاسم: وسمعته يتكلم فيه غير مرة ولا يحرمه، ويرجو أن يكون فيه سعة، وينحو إلى أن يعمل به الرجل في خاصَّة نفسه، قال عيسى: لا يعجبني، قال ابن القاسم: خفيفًا للمُضطر، وذوي الحاجة".
من بين جمهورِ العلماء الذين أنكروه: الشافعيَّةُ
(1)
والحنابلَةُ
(2)
.
قوله: (وَأَجَازَ مَالِكٌ بَدْلَ الدِّينَارِ النَّاقِصِ بِالْوَازِن، أَوْ بِالدِّينَارَيْنِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، مِنَ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَى جِهَةِ الْمَعْرُوف)
(3)
.
إذا وُجد في الدراهم، أو الدنانير درهم أو دينار به نقصٌ في الوزن أو عيب، هل يؤثر ذلك في التقابض؟ هذا سيعرض له المؤلف.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّيْفِ،
(1)
انظر: "الأم"؛ للشافعي (7/ 231)، وفيه:"أنَّه سُئل عن الرجل يأتي بذهب إلى دار الضرب فيعطيها الضَّرَّاب بدنانير مضروبة، ويزيده على وزنها، قال: هذا الرِّبَا بعينه المُعجل. قلتُ: وما الحُجَّةُ؟ قال: أخبرنا مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما".
وانظر: "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج"؛ للخطيب الشربيني (2/ 369)، وفيه:"والفضة مضروبًا كان، أو غير مضروب؛ (كطعام بطعام) في جميع ما سبق من الأحكام، فإن بيع بجنسه كذهب بذهب، اشترط المماثلة، والحلول، والتقابض قبل التفرق والتخاير".
(2)
انظر: "كشاف القناع عن متن الإقناع"؛ للبهوتي (3/ 252)، حيث قال:" (وتبره، ومضروبه) سواء (وصحيحه ومكسوره في جواز البيع متماثلًا) يدًا بيدٍ (وتحريمه متفاضلًا) ".
(3)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"، لأبي الوليد الباجي (5/ 7)، وفيه: "
…
بخلاف الذهب في الدنانير القائمة التى يجوز بدل الدينار والدينارين، إذا كانا ناقصين بدينار أو دينارين وازنين؛ لأن للدنانير عبرة غير الوزن، وهو العدد، فصح الرجوع إليه على وجه ما، وأمَّا الحنطة فلا عبرة لها غير الكيل؛ فلا يجوز المبادلة فيها إلَّا به".
وانظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"، لأبي عمر بن عبد البر (2/ 637)، حيث قال:"وأجاز مالك الدينار الناقص الرديء العين بالدينار الوازن الجيد على وجه المعروف، وجعله من باب القرض، والمعروف، والإحسان".
وَالْمُصْحَفِ الْمُحَلَّى: يُبَاعُ بِالْفِضَّةِ وَفِيهِ حِلْيَةُ فِضَّةٍ، أَوْ بِالذَّهَبِ وَفِيهِ حِلْيَةُ ذَهَبٍ؟).
السيف المحلَّى بالذهب: هل يجوز بيعه بذهب خالص؟ والسيف المحلَّى بالفضة: هل يجوز بيعه بفضة خالصة؟ وكذلك المصحف المحلَّى، أو القلم، أو الساعة المحلَّاة، اختلف العلماء في ذلك:
القول الأول: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ).
قال بذلك الشافعيُّ
(1)
، وأحمدُ
(2)
، وإن كان لأحمد رواية ليست مشهورة، يُوافق فيها مذهب أبي حنيفة
(3)
.
(1)
انظر: "الأم"؛ للشافعي (3/ 33، 34)، حيث قال:"وإذا كانت الفضة مقرونة بغيرها خاتمًا فيه فص، أو فضة، أو حلية للسيف، أو مصحف، أو سكين؛ فلا يشترى بشيء من الفضة، قل، أو كثر بحال؛ لأنَّها حينئذٍ فضة بفضة مجهولة القيمة والوزن، وهكذا الذهب".
(2)
انظر: "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى"؛ للرحيباني (3/ 167)، وفيه:" (ولا يصح بيع ربوي بجنسه معهما)؛ أي: العوضين، (أو مع أحدهما من غير جنسهما، كمد عجوة، ودرهم بمثلهما)؛ أي بمد عجوة ودرهم - ولو أنَّ المدين، والدرهم من نوع واحد - (أو) بيع مد عجوة، ودرهم (بمدين) من عجوة، (أو بدرهمين)، وكبيع محلى بذهب بذهب، أو محلى بفضة بفضة".
(3)
أي: جاءت رواية عن أحمد بالجواز، كقول أبي حنيفة الذي سيأتي.
انظر الرواية عن الإمام أحمد في: "الروايتين والوجهين"؛ لأبي يعلى بن الفراء (1/ 321، 322)، وفيه قال:"واختلفت إذا باع جنسًا فيه الربا بعضه ببعض، ومع كل واحد منهما، أو مع إحداهما من غير جنسه، مثل: ثوب ودرهم بدرهمين، أو ثوب وقفيز حنطة بقفزتين، أو سيف محلى بفضة بالفضة، أو خاتم وفضة بفضة؛ فنقل الجماعة: أنَّه لا يجوز، قال في رواية حنبل في الخاتم، والمنطقة، والسيف، وما أشبهه: لا أرى أن يُباع حتى يفصل، ويخرج منه، والقلادة على ذلك".
ونقل عبد الله قال: "قرأت على أبي، عن الحكم، أنَّه قال: ألف درهم وستون درهمًا بألف درهم وخمسة دنانير لا بأس به، فقال أبي هذا حديث رديء لا يُعجبنا، فظاهر هذا المتع
…
ونقل مهنا قولًا آخر، والعمل على ما روى الجميع".
قوله: الِجَهْلِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضةِ فِي ذَلِكَ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ).
فالعلة التي بنى عليها الشافعية والحنابلة مذهبهما: "جهل المماثلة"؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "مثلًا بمثل"، وقال:"فمن زاد"؛ أي: أعطى الزيادة، "أو استزداد"؛ أخذ الزيادة "فقد أربى"
(1)
، وجاء في قصة القلادة التي وردت في "صحيح مسلم" وفي "سنن أبي داود"؛ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ:"اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً بِاثْنَي عَشَرَ دِينَارًا، فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَّلْتُهَا، فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ"
(2)
.
ولقول ولثاني: (وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ قِيمَةُ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ الثُّلُثَ فَأَقَلَّ جَازَ بَيْعُهُ - أَعْنِي: بِالْفِضَّةِ إِنْ كَانَتْ حِلْيَتُهُ فِضَّةً، أَوْ بِالذَّهَبِ إِنْ كَانَتْ حِلْيَتُهُ ذَهَبًا -، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ)
(3)
.
الإمام مالك يقول: إن كان هذا المُحلَّى يَقِلُّ عن المشترَى به، وكانت قيمةُ ما فيه من الذهب، أو الفضَّة الثلث، أو أقلَّ من الثلث؛ فيجوز.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (1591)، وأبو داود (3351).
(3)
انظر: "الشرح الصغير"؛ للدردير (3/ 62)، وفيه:" (و) إذا بيع (بصنفه) زيد شرط رابع، أفاده بقوله: (إن كانت) الحلية تبلغ (الثلث) فدون".
قال الصَّاوي: "ولمَّا كان الأصل في بيع المُحلى المنع؛ لأنَّ في بيعه بصنفه بيع ذهب وعرض بذهب، أو بيع فضة وعرض بفضة، وبغير صنفه بيع وصرف في أكثر من دينار، وكل منهما ممنوع، لكن رُخص فيه للضرورة، كما ذكره أبو الحسن، عن عياض، وشرطوا لجواز بيعه هذه الشروط، فما كان ليس بمباح فليس من محل الرُّخصة؛ فلذا لا يُباع بالنقد إلَّا على حُكم البيع والصرف
…
وهل تعتبر التبعية بالقيمة؛ أي ينظر إلى كون قيمتها ثلث قيمة المُحلى بحليته، وهو المعتمد". انظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(3/ 62، 63).
مثال ذلك: إنسان عنده سيف محلَّى بالذهب؛ فاشتراه شخصٌ بما يُقابل ألفًا وثلاث مئة من الذهب، فإذا كانت الآلة - غير الحُليِّ الذي عليها - تساوي ألفًا، فهذا لا يُمنع منه عند مالك رحمه الله؛ لأنَّ الذهبَ الذي حُلِّيَ به لا يتجاوز الثلثَ، وكذلك لو كان أقلَّ من الثلث، كالربع فهذا جائز عنده، فإن كان أكثر من الثلث؛ لم يجُز.
قال: (وَكَأنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ قَلِيلَةً لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً فِي الْبَيْعِ، وَصَارَتْ كَأَنَّهَا هِبَةٌ).
القول والثالث: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ أَكثَرَ مِنَ الْفِضَّةِ الَّتِي فِي السَّيْفِ، وَكذَلِكَ الْأَمْرُ فِي بَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ).
قال أبو حنيفة ذلك دون تقييد بالثلث، أو غيره، فلو أنَّ هذا الحُلي قيمتُه الثلث فأكثر فإنَّ البيع جائز؛ لأنَّ هذا مقابل الصنعة؛ أعني: صناعة السيف، أو نحوه
(1)
، وهذه مسألة تعرف عند الفقهاء بـ "مسألة دِرْهَمٍ وَمُدِّ عَجْوَةٍ"، والعجوة: هي التمر، وهي مسألة اعتبرها العلماء قاعدة فقهية: أن تبيع مُدَّ عجوة ودرهم بمدِّ عَجْوة، أو مدَّ عجوة ودرهم بدرهمين، أو نحو ذلك، هل هذا جائز أو لا؟ المسألة التي ذكرها المؤلف مثلها تمامًا
(2)
.
(1)
انظر: "رد المحتار على الدر المختار"؛ لابن عابدين (5/ 174)، حيث قال:" (قوله كيليٍّ) قيد به احترازًا عمَّا إذا اصطلح الناس على بيعه جُزافًا، فإنَّ التفاضل فيه جائز، ومثله قوله (وزنيٍّ)؛ فإنَّه احتراز عمَّا إذا لم يتعارفوا وزنه، أو عن بعض أنواعه؛ كالسيف اهـ؛ أي فإنَّ السيف خرج بالصنعة عن كونه وزنيًّا فيحل بيعه بجنسه متفاضلًا، بشرط الحول".
(2)
قال بدر الدين الزركشي: "مسألة مد عجوة: مأخذ المنع فيها أنَّ قضية العقد إذا اشتمل أحد طرفيه على مالين، وزع ما في الطرف الآخر عليهما باعتبار القيمة، وذلك يوجب "المفاضلة"، أو الجهل بالمثل". انظر: "المنثور في القواعد الفقهية"(3/ 189).
قوله: (لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْفِضَّةَ الَّتِي فِيهِ، أَوِ الذَّهَبَ يُقَابِلُ مِثْلَهُ مِنَ الذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ الْمُشْتَرَاةِ بِه، وَيَبْقَى الْفَضْلُ قِيمَةَ السَّيْفِ).
الفَضْل: هي الزيادة التي تُقدَّم من ثمن المُشْتَرى.
قوله: (وَحُجَةُ الشافِعِيِّ).
وحجةُ الشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء حديث فَضَالَة السابق.
قوله: (عُمُومُ الْأَحَادِيثِ).
ذكر المؤلف للجمهور دليلين:
الدليل الأول: عموم الأدلَّة المذكورة؛ كحديث عبادة، وحديث أبي سعيد، وحديث عمر رضي الله عنه المتفق عليه:"الذهب بالذهب ربَا إلَّا هاء وهاء"
(1)
، يعني: خُذ وهَات. فعموم هذه الأدلة يتطلَّب المُماثلة، فلا يجوز بيع ذهب بذهب، ولا فضة بفضة، سواء كان خالصًا من الطرفين، أو مشتركًا إلَّا بالمُماثلة.
والدليل الثاني، ذكره فقال:
(وَالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ، وَخَرَزٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَغَانِمِ تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ يُنْزَعُ وَحْدَه، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ"، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ)
(2)
.
جاء في رواية أبي داود أنَّه اشتراها "بتسعةِ دنانيرَ، أو بسبعةِ
(1)
أخرجه البخاري (2134)، ومسلم (1586).
(2)
أخرجه مسلم (1591).
دنانيرَ"
(1)
، وفي رواية:"باثني عشر دينارًا"
(2)
، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"لا، حتى تُمَيِّزَ بينه وبينه"؛ أي: تفصلَ الذهب، والخرز الذي في القلادة، فتجعل كلًّا منهما في جانب، ثم بعد ذلك تَزِنْه بما يقابله من الذهب، ثم يُنظر.
تنبيه: الخرَزُ لا يدخل في الرِّبَا لكنَّ الكلام عن الذهب الذي في القلادة فقط.
قوله: (وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ كَمَا قُلْنَا فَأَجَازَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ).
أجازه معاوية رضي الله عنه بناءً على أنَّ هذه الزيادة تكون مُقابلَ الصنعة، لكن عبادة، وأبو الدرداء رضي الله عنهما أَنكرا ذلك كما تقدَّم، وقال المؤلِّف:(وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: لَا أَسْكُنُ فِي أَرْضٍ أَنْتَ فِيهَا، لِمَا رَوَاهُ مِنَ الْحَدِيثِ).
والحديث الذي رواه أبو سعيد؛ هو: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلَّا مثلًا بمثلٍ، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلَّا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجزٍ"
(3)
.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّرْفِ أَنْ يَقَعَ نَاجِزًا).
ومعنى أنَّ يقع الصَّرفُ ناجزًا
(4)
: أي: حاضرًا دون تأجيل، فتشتري من إنسان دراهمَ بدراهمَ؛ ويعني طريقة خُذْ وهَات؛ كما في حديث
(1)
أخرجه أبو داود (3351) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1356).
(2)
وهي رواية مسلم التي سبقت.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
قال الجوهري: "الناجِزُ: الحاضرُ. يُقال: بعته ناجِزًا بناجِزٍ، كقولك يدًا بيدٍ، أي تعجيلًا بتعجيل". انظر: "الصِّحاح"(3/ 898).
عمر رضي الله عنه: "الذهب بالذهب ربَا إلَّا هاء وهاء"، فلا بد من التقابض في المجلس.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّمَان الَّذِي يَحُدُّ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: الصَّرْفُ يَقَعُ نَاجِزًا مَا لَمْ يَفْتَرِقِ الْمُتَصَارِفَان تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ
(1)
، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ بَطَلَ الصَّرْفُ
(2)
).
مثال ذلك: لو كنت مع صاحب دُكَّان تريد أنَّ تُصارِفَه، فما دُمتَ عنده فلك الحق وإن طال الزمن عند الأئمة الثلاثة، أمَّا الإمام مالك رحمه الله لا يرى هذا، وقال: إنْ تأخر القبض في المجلس بطل الصرف، فلا بُدَّ عنده من خذ وهات، بل إنَّ الشافعي، وأحمد يقولان: لو أنَّ المتصارفين انطلقا معًا، فذهبا إلى بيت أحدهما، أو إلى مكانٍ ما؛ فذلك جائز، كذلك ما لم يفترقا، فإذا حصل الافتراق حرم ذلك.
قوله: (وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا، حَتَّى كَرِهَ الْمُوَاعَد فِيهِ).
هذا تمام قول مالك؛ أي: إِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ بَطَلَ
(1)
انظر في مذهب الأحناف: "مختصر القدوري"(ص 90)، وفيه:"وإن افترقا في الصرف قبل قبض العوضين، أو أحدهما بطل العقد".
وانظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (5/ 175)، وفيه:"إلَّا هاء وهاء" يحتمل معنيين: "أحدهما: أن يأخذ بيد، ويعطي بالأخرى. والثاني: أن لا يفترق المتبايعان من مكانيهما حتى يتقابضا
…
، فإذا ثبت ما ذكرناه: فإن تخايرا قبل التقابض، بطل الصرف؛ لأنَّ التخاير يقوم مقام التفرق في بطلان خيار المجلس، فقام مقامه في بطلان الصرف قبل القبض".
وهذا هو مذهب الحنابلة أيضًا. انظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل"؛ للحجاوي (2/ 121)، وفيه قال:"والقبض في المجلس شرط لصحته؛ فإن طال المجلس، أو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصَّرَّاف فتقابضا عنده جاز".
(2)
انظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي"(3/ 37)، وفيه:" (وإن طال) ما بين العقد والاطلاع، أو حصل افتراق، ولو بقرب (نقض) الصرف".
الصَّرْفُ وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا، ولا شكَّ أنَّ هذا ليس فيه نصٌّ، لكنَّ مالكًا أخذها بجانب الحيطة، والجمهور قالوا: ما دمت في المجلس، ولم تفارق صاحبَك فالقبضُ حاصل.
تذييل:
هذه الشريعة مع أنَّها قامت على اليُسر، ومراعاة مصالح الناس، إلَّا أنَّها حريصةٌ كلَّ الحرص أن يكون مأكلَ الإنسان ومَشرَبَه ومَلبَسه طيِّبًا حلالًا؛ كما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أَيُّهَا النَّاس، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُوْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثمَّ ذَكَرَ الْرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَأ رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ "
(1)
.
لكنَّ الشريعة لا تُضيِّقُ على الناس، تُراعي ظروفهم وأحوالهم، بل تُبيح لهم المحرمات في وقت الشدائد، فإذا تعلَّق الأمر بمهجة الإنسان، وذهاب حياته، فإنَّه تبيح له أن يأكل الميتة، وأن يدفع الغُصَّة بمحرَّم، وأن ينطق بكلمة الكفر ما دام قلبه مطمئنًّا بالإيمان، فهل هناك شريعة أجلَّ، أو أعظم من هذه الشريعة؟ هي شريعة خالدة؛ أنزلها الله سبحانه وتعالى؛ لتكون علاجًا من الأسقام، تسير معك أيها المسلم في كل أحوالك، في ليلك ونهارك، وصحتك ومرضك، وسفرك وحضرك، تبذل لك كُلَّ خيرٍ، وتزيلُ عنك كُلَّ إشكال، هي شريعة شاملة استوعبت جميع حاجات الناس، فلا خير إلَّا وأرشدت إليه، ودلَّت عليه، ولا شرَّ إلَّا حظرت منه، وحثَّت على الابتعاد عنه، هذه هي شريعة الإسلام التي جاء بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهي
(1)
أخرجه مسلم (1015).
لا تزال معنا غضة طرية في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم، وذلك من توفيق الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، شريعة فيها يُسر وسماحة؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى رفع عن الأمَّة الأغلال، والْإِصْرَ التي كانت على الأمم السابقة، كل ذلك يتطلب من المسلمين جميعًا أدْ يشكروا الله سبحانه وتعالى، وأن يُؤدوا حقَّه، فهو سبحانه قد جعلنا خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، بل جعلنا شهداء على الأمم قبلنا؛ كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .
قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: تَرَدُّدُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ").
هذا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه
(1)
، ومعنى:"هاء وهاء" أي: خذ وهات
(2)
.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِالْأَقَلِّ، وَالأَكثَرِ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَالِحٌ لِمَنْ لَمْ يَفْتَرِقْ مِنَ الْمَجْلِسِ - أَعْنِي: أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَ هَاءَ وَهَاءَ - قَالَ: يَجُوزُ التَّأخِيرُ فِي الْمَجْلِسِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الْقَبْضُ مِنَ الْمُتَصَارِفَيْنِ عَلَى الْفَوْرِ، قَالَ: إِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ فِي الْمَجْلِسِ بَطَلَ الصَّرْفُ).
والجواب: أننا إذا رجعنا إلى أصول هذه الشريعة، وما فيها من التيسير والرحمة والرأفة بهذه الأمة؛ لوجدنا أنَّ رأي الجمهور أقرب لذلك.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
انظر: "شرح صحيح البخاري"؛ لابن بَطَّال (6/ 298)، حيث قال:"معنى هاء وهاء في كلام العرب: خذ وأعط، يعنى: لا يجوز بيع شيء من البر، والشعير، والتمر، بجنسه إلَّا يدًا بيد".
قوله: (لاتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ فِي الصَّرْفِ حَوَالَةٌ، وَلَا حَمَّالَةٌ، وَلَا خِيَارٌ
(1)
، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ؛ أَنَّهُ أَجَازَ فِيهِ الْخِيَارَ)
(2)
.
والحَوالة بالفتح: أنَّ تنقل ما في مُلكِك من مالٍ إلى ذمة غيرك
(3)
.
والحَمالة بالفتح: هي الغرامة، أنَّ يتحمل الإنسان غرامةً
(4)
، مثال ذلك: جئتَ إلى شخصين مختلفين فأردتَ أن تُصلح بينهما، وعلى أحدهما دَينٌ للآخر، فأراد أن يتحمَّل هذا الدَّين ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة، هذا هو المراد بالحمالة.
قوله: (وَاخْتُلِفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي التَّأخِيرِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمُتَصَارِفَان، أَوْ أَحَدُهُمَا، فَمَرَّةً قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ مِثْلُ الَّذِي يَقَعُ بِالاخْتِيَارِ،
(1)
انظر: "التبصرة"؛ للخمي (6/ 2793)، وفيه:"وإذا عقد الرجلان صرفًا لم يكن لأحدهما أن يُدخل في ذلك وكالة، ولا حمالة، ولا حوالة".
(2)
انظر: "التمهيد"؛ لأبي عمر ابن عبد البر (14/ 14)، قال فيه: "قال مالك لا خيار للمتبايعين إذا عقد البيع بكلام، وإن لم يفترقا، وذكر ابن خواز منداد عن مالك في معنى البائعين بالخيار ما لم يفترقا نص ما ذكرناه عن محمد بن الحسن، وأبي حنيفة: كان إبراهيم النخعي يرى البيع جائزًا وإن لم يفترقا، وقال سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن أبي ذئب، والليث بن سعد، وعبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وسوار القاضي، والشافعي، وأصحابه، وعبد الله بن المبارك: إذا عقد المتبايعان بيعهما فهما جميعًا بالخيار في إتمامه وفسخه؛ ما داما في مجلسهما، ولم يفترقا بأبدانهما، والتفرق في ذلك كالتفرق في الصرف سواء. وهو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وأبي عبيد، وداود بن علي، والطبري
…
".
(3)
انظر: "طلبة الطلبة"؛ للنسفي (ص 140)، وفيه قال:"الحوالة مأخوذة من التحويل؛ وهو النقل من مكان إلى مكان، فهو نقل الدين من ذمة إلى ذمة، فيقتضي فراغ الأولى عنه، وثبوته في الثانية".
(4)
انظر: "شرح حدود ابن عرفة"، للرصاع (ص 319)، وفيه:"الحمالة: التزامُ دَينٍ لا يُسقِطُه، أَو طَلَبُ مَن هو عليه لِمَنْ هو له".
وَمَرَّةً قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فِي تَفَاصِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، لَيْسَ قَصْدُنَا ذِكْرَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ)
(1)
.
معنى: "الذي يُغلب عليه المتصارفان"؛ أي: يكون مغلوبًا عليهما، خارجًا عن إرادتهما؛ كأن طرأ شيء ما.
ومِنَ الذي يَغلب على أمر الإنسان أن يأتيه أمر طارئ، فيقطع الكلام في البيع والتصارُف، هل هذا يوثر أو لا؟ هل للضرورات أحكامها؟
وهنا ترى أنَّ مذهب الجمهور أخصب، وأيسر، وأمَّا المالكية فحيارى في هذه المسألة.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنِ اصْطَرَفَ
(2)
دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا زَائِفًا فَأَرَادَ رَدَّهُ؟).
مثال ذلك: لو باع المُتصارف دراهمَ بدنانير ثم وجد فيها درهمًا زائفًا؛ أي: فيه عيب، فهو رديء، يُقال:، "درهم زائف؛ أي: رديء"
(3)
،
(1)
انظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين"؛ لابن بزيزة (2/ 972)، وفيه:"واختلفوا إن كان التأخير غلبة هل يفسخ الصرف أم لا؟ فيه قولان في المذهب، واتفقوا على فساده إذا وقع التأخير اختيارًا".
قال أبو عبد الله المواق: " (أو غلبة) ابن رشد: إذا انعقد الصرف بينهما على المناجزة فتأخر شيء ممَّا وقع عليه الصرف غلبة بنسيان، أو غلط، أو سرقة من الصَّراف، أو ما أشبه ذلك ممَّا يغلبان عليه، أو أحدهما فهذا يمضي الصرف فيها، ومنع فيه التناجز، ولا ينتقض باتفاق. ومذهب ابن القاسم أنَّ ما حصل فيه التأخير ينتقض، ولو قال: أنا أتجاوز النقصان؛ لا ينتقض شيء من الصرف". اهـ. انظر: "التاج والإكليل لمختصر خليل"(6/ 134).
(2)
اصْطَرَفَ: "تَصَرَّفَ في طَلَبِ الكسْبِ". انظر: "القاموس المحيط"؛ للفيروزآبادي (ص 827).
(3)
انظر: "المصباح المنير"؛ للفمِومي (1/ 261)، وفيه:"زَافَتِ الدراهمُ تَزِيفُ زَيْفًا - مِن بابِ سَارَ - رَدُؤَتْ، ثم وُصِفَ بالمصدر، فقيل درهمٌ زَيْفٌ، وجُمِعَ على معنى الاسمية، فقيل: زُيوفٌ، مثلُ: فَلْسٍ وفُلُوس، وربما قيل: زائفٌ على الأصل، ودراهم زُّيَف، مثلُ: رَاكع ورُكَّع".
هذه الرداءة إمَّا لوجود نقص فيه، أو في صنعته، لأنَّ الصنعة قد لا تكون جيدة، وربما تكون الرداءةُ في غِشٍّ دخَلَه؛ كما لو دخله نُحاس، أو حديدٌ، أو رصاصٌ.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: يَنْتَقِضُ الصَّرْف، وَإِنْ كانَتْ دَنَانِيرَ كثِيرَةً انْتُقِضَ مِنْهَا دِينَار لِلدِّرْهَمِ).
إن كان درهمًا زائفًا فإنَّه ينتقض ويقابله دينارٌ، فإن وجد أحد عشر درهمًا زائفةً، فأراد ردَّها يكون مقابل ذلك دينارين؛ دينار عن العشرة، والدينار الآخر عن الحادي عشر، وهو بداية العدِّ الثاني.
قوله: (فَمَا فَوْقَهُ إِلَى صَرْفِ دينَار).
درهمٌ يقابله دينار، أحد عشر درهمًا يقابله ديناران، هذا هو المراد، وهكذا كلما ارتفع الزَّيف ارتفع الردُّ عند المالكية.
قال: (فَإِنْ زَادَ دِرْهَمٌ عَلَى دِينَارٍ انْتَقَضَ مِنْهَا دِينَار آخَرَ، وَهَكَذَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى صَرْفِ دِينَارٍ).
وُجِدَ درهمٌ فيه عيب يُرَدُّ دينارًا، فإن زاد على الدينار درهمٌ آخر تكون الأحد عشر مكان دينارين؛ لأنَّ الأول وجد فيه درهم؛ فأعاد ما يقابله؛ لأنه باع دراهم بدنانير، وهكذا
…
لو زاد على العشرة.
وهذه المسألة لا دليل عليها، وإنَّما هو اجتهاد
(1)
.
(1)
قال أبو عمر بن عبد البر: "مذهب مالك وأصحابه؛ أنَّه إذا اشترى منه مائة دينار بألف درهم؛ دينار بعشرة دراهم ثم وجد درهمًا زائفًا فرضي به جاز، وإن رده انتقض الصرف في دينار واحد، وإن وجد أحد عشر درهمًا زيوفًا انتقض الصرف في دينارين، وهكذا أبدًا فيما زاد. وإن اشترى دراهم بدينار واحد فوجد فيها درهمًا واحدًا زائفًا فرده؛ انتقض الصرف في الدينار". انظر: "الاستذكار"(6/ 363).
قوله: (قَالَ: وَإِنْ رَضِيَ بِالدِّرْهَمِ الزَّائِفِ لَمْ يَبْطُلْ مِنَ الصَّرْفِ شَيْءٌ).
عندما يقف أحد المتصارفين على درهم مَعيب لا يخلو حاله من أحد أمرين: إمَّا أن يرضى به ولا شيء في ذلك، وتظل الصفقة كما كانت؛ أي: يظل الصرف صحيحًا، فإن لم يَرْضَ به المشتري بطل الصرف
(1)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بِالدَرْهَمِ الزَائِف، وَيَجُوزُ تَبْدِيلُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزُّيُوفُ نِصْفَط الدَّرَاهِمِ، أَوْ أَكْثَرَ).
أبو حنيفة رحمه الله لا يرى تأثيرًا على الصَّرف بذلك، إلَّا إذا كثرت الرداءة، فحينئذ يتأثر الصرف به
(2)
.
قوله: (فَإِنْ رَدَّهَا بَطَل الصَّرْفُ فِي الْمَرْدُودِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا رَدَّ الزُّيُوفَ كَانَ مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا، أَوْ يَكُونَ شرِيكًا لَهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ فِي الدَّنَانِيرِ - أَعْنِي: لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ -)
(3)
.
(1)
انظر: "منح الجليل شرح مختصر خليل"؛ لأبي عبد الله عليش (4/ 511)، وفيه:"وإن صرفت من رجل دينارًا بدراهم ثم أصبتها بعد التفريق زيوفًا، أو ناقصة فرضيتها؛ جاز ذلك، وإن لم ترضها؛ انتقض الصرف".
(2)
انظر: "شرح مختصر الطحاوي"؛ للجصاص (3/ 41)، وفيه: "إذا وجد في ثمن الصَّرف درهمًا زائفا بعد الافتراق؛ فإنَّه يستبدله ما بينه وبين النصف، ولا يفارقه إذا ردَّه حتى يقبض البدل، فإن كان أكثر من النصف: انتقض الصرف بمقداره إن ردَّه في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينتقض إذا أخذ البدل في المجلس الذي رده فيه، ولو وجدها كلها زيوفًا.
وروي عن أبي حنيفة في هذه المسألة روايتان أخريان؛ إحداهما: أنَّه ينتقض الصرف في النصف، ولا ينتقض في أقل منه. والأخرى: أنَّه ينتقض في الثلث، ولا ينتقض في أقل منه".
(3)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"؛ لابن المنذر (6/ 59، 60)، قال:"واختلفوا في المتصارفين يجد أحدهما بما قبض عيبًا، قال سفيان الثوري، وإسحاق: يرد المعيب منها، ويكون شريكه في الدينار".
هذه مسألة أخرى في فقه المبادلة: إن كان العيب وُجد في المجلس قبل الافتراق فلا إشكال، لكن لو وُقف على العيب بعد ذلك بعد أن تفرقا، وتقابضا، هل يجوز الرد؟ بعضُ العلماء أجاز ذلك، واعتبر ذلك مجلسًا جديدًا، وبعضهم منع.
قوله: (وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بِالرَّدِّ؟ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كثِيرًا)
(1)
.
هذا الذي ذكره المؤلف عن مذهب أحمد مُجمل؛ فإنَّ في مذهبه تفصيلًا: إمَّا أن تكون الرداءة من جنس آخر دخيل على هذا الدِّرهم، وإمَّا أن تكون منه؛ فإن كانت من نوع الدرهم فالصحيح أنَّه لا أثر لذلك؛ كما لو كانت خشنة، أو كانت سوداء، وإن كانت دخيلة أثَّرت
(2)
.
قوله: (وَابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يُجِيزُ الْبَدَلَ فِي الصَّرْفِ).
يعني أنَّ مذهب ابن وهب كمذهب أحمد في هذه المسألة
(3)
(1)
لأحمد في المسألة روايتان. انظر: "الإرشاد إلى سبيل الرشاد"؛ لأبي علي الهاشمي البغدادي (ص 186)، قال فيه:"متى وجد المتصارفان، أو أحدهما بعد التفرق في أحد النقدين زيوفًا فعلى روايتين؛ إحداهما: يبطل الصرف كله، والرواية الأخرى: له البدل، والصرف صحيح".
(2)
انظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل"؛ للحجاوي (2/ 121)، وفيه:"وإن تصارفَا على عينين من جنسين ولو بوزن متقدم، أو إخبار صاحبه وظهر غصب، أو عيب في جميعه ولو يسيرًا من غير جنسه: كنحاس في الدراهم، والمس في الذهب؛ بطل العقد، وإن ظهر في بعضه؛ بطل العقد فيه فقط، فإن كان العيب من جنسه؛ كالسواد في الفضة، الخشونة وكونها تنفطر عند الضرب، أو أنَّ سكتها مخالفة لسكة السلطان؛ فالعقد صحيح، وله الخيار، فإن رده بطل، وإن أمسكه فله أرشه في المجلس".
(3)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"؛ لأبي الوليد الباجي (4/ 274)، وفيه قال: "وأمَّا النقص من جهة الصفة؛ كالعيب يجده في أحد عوضي الصرف، فإنَّه لا خلاف على المذهب نعلمه أنَّ من وجد ذلك ورضي به فإنَّ عقده لا يفسد به، فإن أراد رده، فهل له ذلك أم لا؟ المشهور من المذهب أنَّ البدلَ فيه غيرُ جائز، والصرفُ فيه =
قوله: (وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْغَلَبَةَ عَلَى النَّظِرَةِ فِي الصَّرْفِ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْبَعْضِ، وَهُوَ أَحْسَنُ).
كلمة النَّظرة يشار فيها إلى شيء بمعنى الانتظار، كما قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، والمؤلف يعني بالنظرة؛ التأخير
(1)
.
قال: (وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بُطْلَانِ الصَّرْفِ بِالزُّيُوتِ قَوْلَان)
(2)
.
ثم قال: (فَيَتَحَصَّلُ لِفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِإِبْطَالِ الصَّرْفِ مُطْلَقًا عِنْدَ الرَّدِّ)؛ وهو مذهب مالك، (وَقَوْلٌ بِإِثْبَاتِ
= منتقض"، وقال ابن وهب من أصحابنا: "إنَّ البدلَ فيه جائز"، حكاه عنه ابن حبيب وغيره، وبه قال ابن شهاب، والليث بن سعد.
(1)
قال أبو الوليد الباجي: "وجه ما ذهب إليه مالك يحتمل أن يكون مبنيًّا على أنَّ الصَّرف ينتقض من أصله بالبدل وهو وقت العقد فيه، فيبطل في المعيب لتأخر دفع العوض فيه من حين العقد إلى وقت الرد بالعيب، ويحتمل قول ابن وهب أن يكون مبنيًّا على أنَّ الردَّ بالعيب نقضٌ للعقد حين الرد بالعيب، دون ما تقدمه فلا يكون في ذلك تأخير للبدل عن وقت عري عن قبض". انظر: "المنتقى شرح الموطإ"(4/ 274).
(2)
لعله يقصد بالقولين التفريق بين ما إذا كان الغش من جنسه، أو من غير جنسه، فإذا كان العيب من غير جنسه بطل، وإذا كان من جنسه لم يبطل، وهذا تجده في تحرير أبي بكر بن المنذر في:"الإشراف على مذاهب العلماء"(6/ 60). وعليه يكون قوله موافقًا لقول أحمد.
قال العمراني: "وإن كان فيهما غش، أو في أحدهما، نظرت: فإن كان الغش فيهما غير مستهلك، وهي الدراهم التي غشها له قيمة، كالتي تغش بالصفر والنحاس، فإنَّه لا يجوز بيع بعضها ببعض بلا خلاف على المذهب". انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"(5/ 177).
وقال الشرواني في "حاشيته على تحفة المحتاج"(4/ 290): "ولو باع فضة مغشوشة بمثلها أو خالصة؛ إن كان الغش قدرًا يظهر في الوزن امتنع، وإلَّا جاز، كذا بخط شيخنا بهامش المُحلي اهـ. فلم يُفصِّل في القليل بين ما له قيمة، وبين غيره اهـ. وأقول: ويمكن الجمع بأنَّ عدم التأثير في الوزن، وعدم التفاوت في القيمة متلازمان".
الصَّرْفِ، وَوُجُوب الْبَدَلِ)؛ وهو مذهب أحمد، وابن وهب، (وَقَوْلٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكثِيرِ)، وهو مذهب أبي حنيفة، (وَقَوْلٌ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ بَدَلِ الزَّائِفِ، أَوْ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ)، وهو مذهب الثوريّ.
والمؤلف - كما ترى - لم يُرتِّب الأقوال كالترتيب الأول، ولأنَّ الشافعيّ رأيه مختلف أدرج المؤلِّفُ قولَه ضِمن تلكم الأقوال الأربعة
(1)
.
قال: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا كُلِّهِ: هَلِ الْغَلَبَةُ عَلَى التَّأْخِيرِ فِي الصَّرْفِ مُؤَثِّرَة فِيهِ، أَوْ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ؟ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً، فَهَلْ هِيَ مُؤَثِّرَة فِي الْقَلِيلِ، أَوْ فِي الْكَثِيرِ؟ وَأَمَّا وُجُودُ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ اضْطَرَبَ فِيهِ، فَمَرَّةً قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ إِنْ رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ جَازَ الصَّرْف، وَإِنْ طَلَبَ الْبَدَلَ انْتَقَضَ الصَّرْفُ قِيَاسًا عَلَى الزُّيُوفِ، وَمَرَّةً قَالَ: يَبْطُلُ الصَّرْفُ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ)
(2)
.
(1)
سبق تحرير هذه الأقوال.
(2)
انظر: "المقدمات الممهدات"؛ لأبي الوليد بن رشد (2/ 16)، قال فيه: "واختلف هل ينتقض فيما حصل فيه التأخير إن تجاوز النقصان، مثل أن يصرف منه دينارًا بدراهم، فيجد من الدَّراهم درهمًا ناقصًا، فيقول: أنا أتجاوزه، فلا ينتقض من الصرف شيء؟ على قولين:(أحدهما) قول ابن القاسم: إنَّ ذلك لا يجوز، وينتقض من الصرف صرف دينار واحد، إلَّا أن يكون العدد الذي نقص أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينارين، كذا أبدًا على هذا المثال والترتيب، (والثاني) قول أشهب: إنَّ الصرف يجوز، ولا ينتقض منه شيء إن تجاوز النقصان، كالدانق إذا رضي به، وقد روي عن ابن القاسم مثل قول أشهب في النقصان اليسير؛ كالدانق والدانقين، وقاله أصبغ في الدرهم من الألف درهم، وذلك لأنَّ الموازين قد تختلف في مثل هذا المقدار، وما تختلف عليه الموازين لا اختلاف عندي في جواز تجاوزه، وليس ما روي عن ابن القاسم في هذا اختلافًا من قوله، وانَّما المعنى في ذلك: أنَّ الدانق والدانقين مرة رأى أنَّ الموازين تختلف عليه، فأجاز التجاوز عنه، ومرة رأى أنَّ الموازين لا تختلف عليه، فلم يجز التجاوز عنه.
وأمَّا إن أراد أن يرجع بالنقصان فيأخذه، فلا يجوز إلَّا على مذهب من أجاز البدل في الصرف، ورأى أنَّ الغلبة على التأخير فيه بالنسيان، والغلط، والسرقة، والتدليس، وما أشبه ذلك، لا يبطل الصرف، ولا يفسده
…
".
قوله: (وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا إِذَا قَبَضَ بَعْضَ الصَّرْفِ وَتَأَخَّرَ بَعْضُهُ - أَعْنِي: الصَّرْفَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى التّنَاجُزِ -).
مثال ذلك: تصارفا؛ فقال له: أبيعك هذا الدينار بعشرة دراهم، فقبض خمسةً من الدراهم ولم يقبض الباقي، إذا قبض شيئًا وتأخر شيءٌ، أو هذا قبض وهذا لم يقبض، فما الحكم؟
قوله: (فَقِيلَ: يَبْطُلُ الصَّرْفُ كُلُّه، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
؛ وَقِيلَ: يَبْطُلُ مِنْهُ الْمُتَأَخِّرُ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ
(2)
، وَالْقَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ
(3)
).
(1)
المسألة عند الشافعية على قولين. انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"؛ للعمراني (5/ 176)، حيث قال: "وإن قبض كل واحد منهما بعض ما صارف به، ثم تفرقا، بطل الصرف في قدر ما لم يتقابضا فيه، وهل يبطل الصرف في قدر ما اتفق قبضهما فيه؟ فيه طريقان، بناءً على من اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
والمشهور عند الشافعية: أنَّه يبطل فقط فيما لم يتم فيه التقابض". انظر: "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"؛ للخطيب الشربيني (2/ 296)، قال فيه: "ولا بُدَّ من حلول رأس المال كالصرف، فلو تفرقا قبله، أو ألزماه بطل العقد، أو قبل تسليم بعضه، بطل فيما لم يقبض وفيما يقابله من المسلم فيه، وصح في الباقي بقسطه".
(2)
انظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وحاشية الشلبي"؛ لفخر الدين الزيلعي (4/ 138)، قال فيه:" (ولو باع إناء فضة، وقبض بعض ثمنه، وافترقا؛ صح فيما قبض، والإناء مشترك بينهما) يعني إذا باعه بفضة، أو ذهب؛ لأنَّه صرف، وهو يبطل بالافتراق قبل القبض، فيتقدر الفساد بقدر ما لم يقبض، ولا يشيع؛ لأنَّه طارئ".
(3)
المشهور عن مالك بطلان الصرف. قال القاضي عبد الوهاب: "إذا تقابضا بعض ثمن الصّرف، ثمّ تفرقا قبل قبض بقيته، بطل الصّرف كله؟ ما قبض وما لم يقبض". "عيون المسائل"(ص 425).
وقال أبو عمر بن عبد البر: "ويتقابضان، ثم يفترقان، ولا تبعة بينهما، فإن تأخر بعض الصرف؛ لم يصح المقبوض منه عند مالك". انظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"(2/ 635).
قولان في المذهب المالكيِّ، وقولان في المذهب الحنبليِّ كذلك
(1)
.
قوله: (وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ يُخَالِطُهَا حَرَامٌ وحلالٌ؛ هَلْ تَبْطُلُ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا، أَوِ الْحَرَامُ مِنْهَا فَقَطْ؟)
(2)
.
إذا بيعت صفقة وفيها حلال وحرام، فهل الحرام يؤثِّر على الصفقة كلها فيبطلها، أو أنَّه يبطل الحرامُ ويبقى الحلال قائمًا؟
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاطَلَةَ جَائِزَةٌ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَفِي الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ)
(3)
.
(1)
المشهور من مذهب الحنابلة: "أنَّه يبطل في المتأخر قبضه فقط".
انظر: "شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 73)، قال فيه: " (وإن تأخر) تقابض في صرف، أو في رأس مال سلم (في بعض) من ذلك (بطلا)؛ أي الصرف والسلم (فيه) أي المتأخر قبضه (فقط) لفوات شرطه، وصحا فيما قبض لوجود شرطه، ويقوم الاعتياض عن أحد العوضين، وسقوطه عن ذمة أحدهما مقام قبضه.
والقول الآخر عند الحنابلة: أنَّه يبطل في الجميع". انظر: "الإنصاف في معرفة الرَّاجح من الخلاف"؛ للمرداوي (5/ 45).
قوله في الصرف والسلم: " (وإن قبض البعض، ثم افترقا: بطل في الجميع، في أحد الوجهين). جزم به في الوجيز في الصرف، وصححه في التصحيح. وفي الآخر: يبطل فيما لم يقبض. وهو المذهب لأنَّهما مبينان عند الأصحاب على تفريق الصفقة".
(2)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"؛ لأبي الوليد الباجي (4/ 264)، وفيه قال:"والتأخر اليسير من أحد عوضي الصرف يقوم مقام تأخر جميعه في إبطال العقد، وهذا مبني على أنَّ العقد متى بطل بعضه لحقِّ الله تعالى بطل جميعه، وذلك بأن تجمع الصفقة حلالًا وحرامًا؛ فإنَّه يبطل جميعها، هذا المشهور من مذهب مالك، ورأيت لزياد بن عبد الرحمن الأندلسي رواية عن مالك: فيمن سلم مائة دينار في مائة إردب حنطة، فقضى فيها خمسين، وأخذ خمسين؛ أنَّه يصح منها ما قضى ثمنه، ويبطل ما أخذ ثمنه، وهذا يقتضي أنَّه إنَّما يبطل من الصفقة ما يخص به الفساد، ويصح منها ما عرى عن الفساد".
(3)
انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"؛ لابن القطان الفاسي (2/ 225)، حيث قال:"ولا خلاف بين العلماء في المراطلة، تراطل ابن المسيب وفرغ ذهبه في كفة الميزان، وفرغ صاحبه ذهبه في الكفة الأخرى، فلمَّا اعتدل لسان الميزان أخذ وأعطى".
المراد بالمراطلة: بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة وزنًا، سُّميت مراطلة: نسبةً إلى الرطل، والرطل: هو آلة من آلات الموازين، وله قدر معين - اشتهر قديمًا عند الفقهاء -: ما يقابل وزنُه اثني عشر أوقيةً من الفضة بالبغدادية، ويساوي أربع مئة وثمانين درهمًا، والمراطلة تشتهر في المذهب المالكي
(1)
، وأمَّا غالب العلماء فيما أعلم فذكروا هذه المسألة ضمن مسائل أبواب الصلاة
(2)
.
قوله: (وَإِن اخْتَلَفَ الْعَدَدُ لاتِّفَاقِ الْوَزْن).
هذا لا خلاف فيه بين العلماء، لأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم قال:"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ثم قال في آخر الحديث: "مِتلًا بمثلٍ"، وفي الحديث الآخر: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلَّا مثلًا بمثلٍ، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلَّا مثلًا بمثلٍ، ولا تشفوا بعضها على بعض"
(3)
.
قوله: (وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ صِفَةُ الذَّهَبَيْنِ وَاحِدَةٌ)
(4)
.
(1)
انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"؛ للمُطرِّزي (ص 190، 191)، حيث قال:" (ومنه المراطلة)؛ وهو بيع الذهب بالذهب موازنة، يُقال: راطل ذهبًا بذهب، أو وَرِقًا بورق، وهذا ممَّا لم أجده إلَّا في الموطإ".
(2)
انظر: "شرح حدود ابن عرفة"؛ للرصاع (ص 245)، وفيه:"المراطلةُ بيعُ ذهبٍ به وَزْنًا، أو فضةً كذلك؛ (فإن قلت) كيف صح إدخال هذا الباب تحت الكتاب من الصرف، وهو لا يصدق على المراطلة؟ (قلت) هذا السؤال أورده الشيخ ابن عبد السلام، وذكر أنَّه لا يرد على ابن الحاجب؛ لأنَّه لم يترجم على الصرف، وإيراده على الشيخ رحمه الله هنا أقوى في السؤال للترجمة، والترجمة عندهم كالحد للمحدود. والجواب: أنَّ هذه أمور ملحقة بالصرف، وقعت في كتب الفقهاء، وكذا الاقتضاء، والمبادلة أدخلوها في كتاب الصرف".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
انظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"؛ لأبي عمر بن عبد البر (2/ 638)، قال: "ووجه المراطلة بالذهبين، أو الورقين الاعتدال في الميزان، ولا مُراعاة في عدد أحدهما كان أكثر أو أقل، وكذلك لا مراعاة في الأفضل بين الذهبين والورقين إذا استوى لسان الميزان بينهما، ولم يكن فيهما دخل من غير جنسهما، وكذلك لو كان مع =
أي: لا بد من وصفهما، وسيأتي أنَّ المصارفة لا تخلو من أمرين. إمَّا أن تبيع عينًا فتقول: أبيعك هذا الدينار بهذه الدَّراهم، فيقول: قبلت، هذه هي المعاينَة المشاهدَة، وإمَّا أن لا تكون موجودة فتوصف.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاطَلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَخْتَلِفَ صِفَةُ الذَّهَبَيْنِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَنْقُصَ أَحَدُ الذَّهَبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، فَيُرِيدُ الْآخَرُ أَنْ يَزِيدَ بِذَلِكَ عَرَضًا، أَوْ دَرَاهِمَ إِنْ كانَتِ الْمُرَاطَلَةُ بِذَهَبٍ).
الأول: أن يختلف جنس الذهب؛ كأن يكون أحدهما أفضل من الآخر من حيث الجودة والرداءة.
والثاني: أن ينقص أحدهما عن الآخر في الوزن، فهل للآخر أن يجبر النقص بعرض من عروض التجارة، أو بما يقابله من الدراهم؟
قوله: (أَوْ ذَهَبًا إِنْ كانَتِ الْمُرَاطَلَةُ بِدَرَاهِمَ).
هذه الصورة عكس السابقة: إن كانت المراطلة بدراهم فنقص أحد الوزنين؛ نقول: أجبر النقص بذهب، وإن كانت بذهب؛ نقول: أجبر النقص بدراهم.
قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ: أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ جِنْسُ الْمُرَاطَلِ بِهِمَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ -: أَنَّهُ مَتَى رَاطَلَ بِأَحَدِهِمَا بِصِنْفٍ مِنَ الذَّهَبِ الْوَاحِدِ، وَأَخْرَجَ الْآخَرَ ذَهَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَجْوَدُ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، وَالآخَرُ أَرْدَأُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ)
(1)
.
= الأفضل منهما ذهب رديء، إذا كان الرديء مثل ذهب صاحبه التي يراطل بها أو أفضل، لأنَّه لم يأخذ لجودة ذهبه شيئًا ينتفع به، هذا كله جائز لا بأس به، فإن كان مع الذهب ذهب أردى، أو أدنى من ذهب صاحبه: لم يجز؛ لأنَّه إنَّما فعل ذلك ليدرك بفضل جودة ذهبه استبدال ذهبه الرديء، وذلك من باب القمار عند مالك".
(1)
انظر: "البيان والتحصيل"؛ لأبي الوليد بن رشد (7/ 29)، حيث قال: "وأمَّا إذا =
وفي مذهب أحمد: إن اختلفت الجودة، واتَّحد الوزن؛ فإن ذلك جائز" ولذلك ينصُّ الحنابلة على أنَّه:"يجوز بيع الذهب صحيحه ومكسره، جيده ورديئه؛ بعضه ببعض"
(1)
.
قوله: (وَإِنْ كَانَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ مِنَ الذَّهَبَيْنِ - أَعْنِي: الَّذِي أَخْرَجَهُ وَحْدَهُ - أَجْوَدُ مِنَ الذَّهَبَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخْرَجَهُمَا الْآخَر، أَوْ أَرْدَأُ مِنْهُمَا مَعًا، أَوْ مِثْلُ أَحَدِهِمَا وَأَجْوَدُ مِنَ الثَّانِي، جَازَتِ الْمُوَاطَلَةُ عِنْدَهُ
(2)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَ الذَّهَبَانِ فَلَا يَجُوزُ ذلِكَ
(3)
،
= كانت الذهب التي راطل بها الذهبين أفضل من إحداهما ودون الأخرى، فلا تجوز المراطلة باتفاق؛ لأنَّ صاحب الذهبين لم يرضَ أن يراطله بذهبه التي هي أطيب من ذهبه، لولا ما دخل معها من الذهب التي هي دون ذهبه".
وقال ابن شاس: "إن كان أحد الذهبين أفضل من المنفرد، والثاني أدنى، فهذا يمنع المراطلة قولًا واحدًا، لأنَّه قد اغتفرت رداءة الرديء لجودة الجيد، فخرج عن باب المساواة، وقدر ذلك بأنَّ أحدهما زاد في مراطلة الجيد، ونقص من مراطلة الرديء".
انظر: "الجواهر الثمينة"(2/ 651).
(1)
انظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل"؛ للحجاوي (1/ 272)، قال فيه:"ويجزئ مغشوش عن جيد، ومكسر عن صحيح، وسود عن بيض؛ مع الفضل بينهما".
(2)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"؛ لأبي الوليد الباجي (4/ 278، 279)، حيث قال:"من راطل ذهبًا بذهب، وأحد الذهبين من جنسين، فإن كان لم يعلم بمقدار الجيد من الرديء؛ لم تجز المراطلة، ولا المبايعة كلها، وإن علم مقدار ذلك، لم يخل أن يكون أحد الذهبين من جنس الذهب المفردة مساوية لها في الجودة والنفاق، أو لا تكون إحداهما مساوية لها، فالظاهر من المذهب جواز ذلك، سواء كانت الذهب التي معها أفضل أو أدون، وهذا لا وجه فيه لمنع الذريعة؛ لأنَّ مساواة إحدى الذهبين الذهب التي في عوضها تنفي التهمة التي تلحق من جهة التقسيط فموجود، إلَّا أن يحمل التقسيط على وجه الذريعة والتهمة في ذلك، فيبعد أيضًا".
(3)
انظر: "العزيز شرح الوجيز"؛ للرافعي (4/ 84)، وفيه قال: "ولو راطل مائتي دينارٍ وَسَطٍ بمائةِ دينارٍ عِتْقٍ ومائةِ دينارٍ رَديءٍ لَم يَجُزْ؛ لأنَّ ما في أحدِ الجانبينِ إذا وُزِّعَ على ما في الجانبِ الثاني باعتِبارِ القيمةِ أفضَى إلى المفاضَلةِ، إِذ لا تُعْلَمُ المفاضلة إلَّا بتقدير القيمةِ، والتَّقويمُ تَخمينٌ وجَهْلٌ لا يُفيدُ معرفةً في الرِّبا، فمهما اشتملت =
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمِيعُ الْكُوفِيِّينَ، وَالْبَصْرِيِّينَ: يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ
(1)
).
قال: (وَعُمْدَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي مَنْعِهِ ذَلِكَ: الاتِّهَام، وَهُوَ مُصَيِّرٌ إِلَى الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ
(2)
، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَّهِمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَاطِلُ إِنَّمَا قَصَدَ بِذلِكَ بَيْعَ الذّهَبَيْنِ مُتَفَاضِلًا
(3)
).
فمالِكٌ رحمه الله يرى أنَّه مُتَّهم، فيُخشى أن يكون ذلك وسيلة إلى التفاضل؛ فقال بالمنع سدًّا للذرائع، وسدُّ الذرائع؛ إغلاق كل باب قد يُوصل سالكه إلى المحرَّم.
قوله. (فَكَأَنَّهُ أَعْطَى جُزْءًا مِنَ الْوَسَطِ بِأَكثَرَ مِنْهُ مِنَ الْأَرْدَأ، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنَ الْأعْلَى، فَيَتَذَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا).
إذا قصد المُراطل بيع أحد العوضين - أعني: أحد الثمنين - بالآخر؛ فهذا لا يجوز.
قوله: (مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ إِنْسَانًا قَالَ لِآخَرَ: خُذْ مِنِّي خَمْسَةً
= الصفقة على مال الربا من الجانبين، واختلف الجنس في أحد الجانبين، أو في كلا الجانبين، أو اختلف النوع؛ فالبيع باطل".
(1)
قال محمد: "قال أبو حنيفة في الرجل يراطل الرجل الذَّهب فيعطيه الذِّهَب العتْق الْجِيَاد، وَيجْعَل مَعها تبرًا ذَهبًا غير جَيدَة وَيَأْخُذ من صَاحبه ذَهَبًا كوفية مقطعَة، وَتلك الكوفية مَكْرُوهَة عِنْد النَّاس فيتبايعان بذلك مثلًا بِمثل لَا فضل بَينهمَا فِي الْوَزْن؛ أنَّ ذَلِك جَائِز لَا بَأْس بهِ؛ لأنَّ ردئ الذهَب وجيده سَوَاء". انظر: "الحجة على أهل المدينة"؛ للشيباني (2/ 586).
(2)
الذرائع: جمع ذريعة، "وهي الوسيلة إلى الشيء، ومعناها حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة". انظر: "الصحاح"؛ للجوهري (3/ 1211). و"الفروق"؛ للقرافي (2/ 32).
(3)
انظر: "الموطأ"(4/ 922)، وفيه:"قال مالك: من راطل ذهبًا بذهب، أو وَرِقًا بوَرِق، فكان بين الذهبين فضلُ مثقال، فأعطى صاحبه قيمته من الوَرِق، أو من غيرها، فلا يأخذه، فإنَّ ذلك قبيح، وذريعة للرِّبَا؛ لأنَّه إذا جاز له أن يأخذ المثقال بقيمته، حتى كأنَّه اشتراه على حدته، جاز له أن يأخذ المثقال مرارًا لِأَنْ يُجيز ذلك البيع بينه وبين صاحبه".
وَعِشْرِينَ مِثْقَالًا وَسَطًا بِعِشْرِينَ مِنَ الْأَعْلَى، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ هَذَا لَنَا، وَلَكِنْ أُعْطِيكَ عِشْرِينَ مِنَ الْأَعْلَى، وَعَشَرَةً أَدْنَى مِنْ ذَهَبِكَ، وَتُعْطِينِي أَنْتَ ثَلَاثِينَ مِنَ الْوَسَطِ، فَتَكُونُ الْعَشَرَةُ الْأَدْنَى يُقَابِلُهَا خَمْسَةٌ مِنْ ذَهَبِكَ، وَيُقَابِلُ الْعِشْرِينَ مِنْ ذَهَبِ الْوَسَطِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذَهَبِكَ الْأعْلَى).
فالجهالة واردة في مثل هذا المثال.
قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: اعْتِبَارُ التَّفَاضُلِ الْمَوْجُودِ فِي الْقِيمَةِ. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ: اعْتِبَارُ وُجُودِ الْوَزْنِ مِنَ الذَّهَبَيْنِ، وَرَدُّ الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ).
لأنَّ الحنفية يأخذون بعلة الوزن، و قد رجَّحنا سابقًا أنَّ العلةَ هي الثمنية، فأبو حنيفة رحمه الله يرى أنَّ المعتبر هو الوزن؛ فإذا تساويا في الوزن ارتفع بعد ذلك الإشكال
(1)
.
قوله: (وَكَمَثَلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُصَارَفَةِ الَّتِي تَكُونُ بالعدد - أَعْنِي: إِذَا اخْتَلَفَتْ جَوْدَةُ الذَّهَبَيْنِ أَوِ الْأَذْهَابِ -).
مثال ذلك: ذهبٌ من نوع واحد، لهذا عدد وللآخر عدد مختلف، هل هذا يجوز؟
لا شكَّ أنَّ الذي يرفع الجهالة إنَّما هو الوزن، لا العدد؛ كما في قصة القِلَادة، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمشتريها:"لا، حتى تميزها"؛ أي: تفصلها، فلمَّا ميَّزها جاز له أن يبيع ما فيها من الذهب مقابل غيره،
(1)
انظر: "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"؛ للكاساني (5/ 188، 189)، وفيه قال:"وكذلك الذهب، والفضة لا يجوز بيع كل بجنسه متفاضلًا في الوزن سواء اتفقَا في النوع والصفة؛ بأن كانا مضروبين دراهم، أو دنانير، أو مصوغين، أو تبرين جيدين، أو رديئين، أو اختلفا للحديث المشهور "مثلًا بمثل، والفضل ربا". وإمَّا متساويًا في الوزن متفاضلًا في النوع، والصفة كالمَصوغ بالتبر، والجيد بالرديء فيجوز عندنا".
والقصد من ذلك هو رفع الجهالة
(1)
.
ثم شرع المؤلف رحمه الله في الموضع الثاني الذي هو: (أن ينقص أحد الذهبين عن الآخر، فيريد الآخر أن يزيد بذلك عرضًا، أو دراهم إن كانت المراطلة بذهب، أو ذهبًا إن كانت المراطلة بدراهم)، فقال:
قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ إِذَا نَقَصَتِ الْمُرَاطَلَة، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَزِيدَ شَيْئًا آخَرَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا أو ممَّا لا رِبَا فيه، فقريبٌ من هذا الاختلافِ مثل أن يُراطِلَ صَاحِبَهُ ذَهَبٌ بِذَهَبٍ، فَيَنْقُصُ أَحَدُ الذَّهَبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، فَيُرِيدُ الَّذِي نَمصَ ذَهَبُهُ أَنْ يُعْطِيَ عِوَضَ النَّاقِصِ دَرَاهِمَ، أَوْ عَرَضًا).
يعني: يريد أن يَجبُر الناقص بشيءٍ آخر؛ إمَّا بدراهم، أو بعرض، أمَّا لو أكمله بذهب لزال الإشكال وارتفع.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَاللَّيْثُ: إِنَّ ذَلِكَ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
انظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"(2/ 638)، قال فيه:"وإذا تراطلا بالذهبين، أو الفضتين فنقصت إحداهما؛ لم يجز أن يكون مع الذهب منهما فضة، ولا مع الفضة ذهب؛ لأنَّه ذهب وفضة بذهب، ووجه المراطلة بالذهبين أو الورقين: الاعتدال في الميزان".
وقال القاضي عبد الوهاب: "كل جنس فيه الربا إذا بيع بمثله فلا يجوز أن يكون مع أحد الجنسين شيء غيره، ولا معهما، وسواء كان ذلك الغير ممَّا فيه الربا، أو ممَّا لا ربا فيه". انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(2/ 538).
(3)
انظر: "منهاج الطالبين"؛ للنووي (ص 96)، وفيه:"وإذا جمعت الصفقة ربويًّا من الجانبين واختلف الجنس منهما؛ كمد عجوة ودرهم بمد ودرهم، وكمد ودرهم بمدين، أو درهمين، أو النوع كصحاح ومكسرة بهما أو بأحدهما، فباطلة".
قال ابن حجر الهيتمي: "قوله: (واختلف الجنس) أي جنس المبيع، سواء أكان المضموم للربوي المتحد الجنس من الجانبين ربويًّا أم غير ربوي، وقدر بعض الشراح الجنس هنا بالربوي، فأوهم الصحة في بيع درهم وثوب بمثلهما؛ لأنَّ جنس =
لَا يَجُوزُ
(1)
، وَالْمُرَاطَلَةُ فَاسِدَةٌ؛ وَأَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالْكُوفِيُّونَ
(3)
. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: تَقْدِيرُ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ مِنَ الذَّهَبَيْنِ، وَبقَاءُ
= الربوي لم يختلف، وليس كذلك بل هو من القاعدة لأنَّ جنس المبيع اختلف، وإن لم يختلف الجنس الربوي (منهما) جميعهما بأن اشتمل أحدهما على جنسين اشتمل عليهما الآخر؛ (كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم)، وكثوب ودرهم بثوب ودرهم، أو مجموعهما بأن لم يشتمل الآخر إلَّا على أحدهما كثوب مطرز بذهب، أو قلادة فيها خرز وذهب بيع أو بيعت بذهب، فإن كان الثمن فضة اشترط تسليم الذهب وما يقابله من الثمن في المجلس". انظر:"تحفة المحتاج في شرح المنهاج"(4/ 287).
وكذا هو مذهب الحنابلة. انظر: "شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 70)، وفيه:"والا) يصح بيع (ربوي بجنسه ومعهما)؛ أي العوضين (أو) مع (أحدهما من غير جنسهما؛ كمد عجوة ودرهم بمثلهما)؛ أي بمد عجوة ودرهم، ولو أنَّ المدين والدرهمين من نوع واحد (أو) بيع مد عجوة ودرهم (بمدين) من عجوة (أو بدرهمين)، وكبيع محلى بذهب بذهب، أو محلى بفضة بفضة، وتسمى مسألة مد عجوة ودرهم؛ لأنها مثلت بذلك".
(1)
انظر: "الاستذكار"؛ لابن عبد البر (6/ 366)، وفيه قال:"فإن كانت المراطلة ذهبًا بذهب فزادت إحداهما فأخذ صاحب الزيادة فيها ورقًا، أو كانت المراطلة ورقًا بورق فأخذ صاحب الزيادة فيها ذهبًا فهو موضع اختلف فيه الفقهاء؛ فمذهب مالك وأصحابه: أنَّه لا يجوز ذهب بفضة وذهب، ولا ذهب وفضة بفضة على حالٍ، ولا يجوز عندهم أن يشتري ما زاد في المراطلة من أحد الذهبين بفضة، ولا من أحد الفضتين بذهب، ولا بغير ذلك، ولا يصح عندهم مع الصرف بيع، وهو قول الشافعي، والليث بن سعد".
(2)
انظر: "المبسوط"؛ للسرخسي (12/ 189)، وفيه: قال: (ولا بأس بكر حنطة، وكر شعير بثلاثة أكرار حنطة وكر شعير يدًا بيدٍ)؛ فتكون حنطة هذا بشعير هذا، وشعير هذا بحنطة هذا عندنا استحسانًا، والقياس أن لا يجوز، وهو قول زفر، والشافعي رحمهما الله، وكذلك لو باع مد عجوة وزبيب بمدي عجوة وزبيب، أو باع دينارًا ودرهم بدرهمين ودينارين، فأمَّا إذا باع درهمًا جيدًا ودرهما زيفًا بدرهمين جيدين يجوز عند أصحابنا رحمهم الله، وعند الشافعي لا يجوز.
(3)
انظر: "الأشراف على مذاهب العلماء"؛ لابن المنذر (6/ 57، 58)، وفيه قال:"واختلفوا في بيع الذهب بالذهب مع أحد الذهبين بشيء غير الذهب؛ فكره ذلك ونهى عنه شريح، وابن سيرين، والنخعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ورخص فيه حماد بن أبي سليمان، والنعمان".
الْفَضْلِ مُقَابِلَ للْعَرَضِ، وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: التُّهْمَةُ فِي أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا، وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: عَدَمُ الْمُمَاثَلَةِ بِالْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الْعَدَدِ الَّذِي بِالْفَضْلِ، وَمِثْلُ هَذَا يَخْتَلِفُونَ إِذَا كَانَتِ الْمُصَارَفَةُ بِالْعَدَدِ).
فائدة:
انظر كيف يتشدد العلماء، وكيف يأخذون بالأحوط؛ للنَّجاة من الوعيد الشديد لآكلِ الرِّبَا، أو المعين عليه، كل ذلك حذر الله سبحانه وتعالى منه، وحذَّر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل باب يوجد فيه ولو منفذًا يسيرًا، تجد العلماء يسعون إلى إغلاقه؛ حتى لا يكون ذلك وسيلة إلى الربا، ومن هنا شدَّد بعضهم في مسائل منه؛ لأنَّه يرى أنَّ ذلك رُبما يكون ذريعة توصل إلى وقوع الربا، وإذا وقع الإنسان في الربا وقع في الحرام، وهذا ممَّا نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ).
هذه المسألة تحتاج إلى انتباه؛ لتفرِّق بينها وبين التي بعدها.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلَيْنِ يَكُونُ لأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَنَانِير، وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ).
مثال ذلك: اثنان كل واحد منهما مَدين للآخر؛ زيدٌ يطالب بكرًا بدنانير، وبكرٌ يطالب زيدًا بدراهم، والسؤال:
(هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَارَفَاهَا وَهِيَ فِي الذِّمَّةِ؟).
ومدار المسألة هنا أنَّ بعضَهم يجيزه، وبعضُهم يمنعه؛ لذلك قال:
(فَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَا قَدْ حَلَّا مَعًا
(1)
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ فِي الْحَالِ وَفِي غَيْرِ الْحَالِ
(2)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَاللَّيْثُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَلَّا، أَوْ لم يَحِلَّا
(4)
).
إذًا: فهناك من منع مطلقًا، وهناك من أجاز مطلقًا، وهناك من أجاز بقَيْدٍ؛ 1 - فالشافعي، والليث، وأحمد
(5)
- ولم يذكره المؤلف -: منعوا مطلقًا.
(1)
انظر: "الشرح الكبير"؛ للشيخ الدردير (3/ 310، 311)، وفيه:" (و) جاز (عن ذهب بورق وعكسه) (إن حلا)؛ أي المصالح عنه وبه بأن لا يشترط تأخيره (وعجل) فإن اشترط تأخيره؛ فسد ولو عجل، وكذا إذا أخر ولم يشترط التأخير لما فيه من الصرف المؤخر".
وقال البراذعي في: "التهذيب في اختصار المدونة"(3/ 628). "وإن استقرضك دنانير فأمرت من لك عليه دنانير يدفعها إليه، وله هو على المستقرض دراهم، فأراد مقاصاته بها، جاز ذلك إن حَلَّا".
(2)
انظر: "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"(4/ 140)، حيث قال:"لو تصارفا دراهم دين بدنانير دين صحَّ لفوات معنى الخطر في دين يسقط، بخلاف ما إذا لم يكن لكل واحد منهما على الآخر دين، حتى تصارفا دراهم دين بدنانير دين لم يصح" انتهى.
(3)
قال الشافعي في: "الأم"(3/ 33)، قال:"ومن كانت عليه دراهم لرجل وللرجل عليه دنانير فحلَّت أو لم تَحل فَتَطَارَحاهَا صرفًا، فلا يجوز؛ لأنَّ ذلك دينٌ بدينٍ".
وانظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب"؛ لزكريا الأنصاري (1/ 208)، وفيه: "
…
وخرج بغير دين فيما ذكر الدين أي الثابت قبل؛ كأن استبدل عن دينه دينًا آخرًا، أو كان لهما دينان على ثالثٍ؛ فباع أحدهما الآخر دينه بدينه، فلا يصح سواء اتَّحد الجنس أم لا، للنَّهي عن بيع الكالئ بالكالئ".
(4)
انظر: "تكملة المجموع"؛ للسبكي" (10/ 107)، حيث قال: "قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الصرف من - الأم - ومن كانت عليه دراهم لرجل وللرجل عليه دنانير، فحلت أو لم تحل، فتطارحاها صرفًا فلا يجوز؛ لأن ذلك دين بدين
…
، فمذهب الشافعي رحمه الله، وجميع أصحابه: أنَّه لا يجوز، وبه قال جماعة منهم: الليث بن سعد، وأحمد".
(5)
انظر: "شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 72)، حيث قال: " (ولا) يصح (تصارف=
2 -
وأبو حنيفة: أجاز مطلقًا.
3 -
ومالك: فرَّق بين الحالِّ وغيره.
مثال ذلك: رجل يطالب آخر بدنانير، والثاني نفسه يطالبه بدراهم، وقد اجتمعا في مكانٍ، فهل يجوز أن يتصارفا؛ هذا يعطي دراهم، وهذا دنانير، أو لا يجوز؟
أما مالك رحمه الله فأجاز ذلك إذا كانا قد حَلَّا معًا؛ لأنَّه يرى أنَّ الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة.
ومعنى قولنا: "الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة": وجود عين مشاهدة بين المتبايعين؛ كشخص يقول لآخر: أبيعك هذا الدينار بعشرة دراهم، فيقول: قبلت، هذه عين نسميها حاضرة؛ لأنَّها مشاهدة، وقد لا تكون مشاهدة فتُوصف، فالإمام مالك يُنَزِّل الذمةَ الحاضرة منزلة العين الحاضرة.
ومعنى "الذمة الحاضرة": أنَّ المدينين قد اجتمعا معًا، فالذِّمة حاضرة؛ لأنَّ كُلَّ واحد من المدينين حاضر مع صاحبه، فيُنزلا منزلة العين الحاضرة.
وأمَّا الذين منعوا: فقد استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: "ولا تبيعوا منها غائبًا بناجزٍ"
(1)
؛ أي: غائبًا بحاضرٍ.
وقد بيَّن المؤلِّف رحمه الله وجه استدلالهم من الحديث، فقال:
(وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ: أَنَّهُ غَائِبٌ بِغَائِبٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ غَائِبٌ بِنَاجِزٍ كَانَ أَحْرَى أَنْ لَا يَجُوزَ غَائِبٌ بِغَائِبٍ).
وقد أجاب على ذلك الإمام مالك: بأنَّه لا غيبة هنا؛ لأنَّ كل واحد من المدينين حاضر مع صاحبه - الأول له دنانير على الثاني، والثاني له
= المدينين بجنسين في ذمتيهما) بأن كان لزيد على عمرو ذهب، ولعمرو على زيد فضة، وتصارفَا؛ لأنَّه بيع دين بدين".
(1)
سبق تخريجه.
دراهم على الأول - فيتبادلان في ذلك، فيوفي الأول للثاني حقَّه بالدراهم، ويوفي الثاني للأول حقَّه بالدنانير؛ تنزيلًا للذمة الحاضرة منزلة العين الحاضرة.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ: فَأَقَامَ حُلُولَ الْأَجَلَيْنِ فِي ذَلِكَ مَقَامَ النَّاجِزِ بِالنَّاجِزِ)
(1)
.
هذا هو معنى قولنا السابق: "جعل مالكٌ الذِّمةَ الحاضرةَ كالعين الحاضرة"، غير أنَّ المؤلف رحمه الله أوردها بعبارة أخرى، ومعنى "حلول الأجلين": من قولهم: "حلَّ الدَّينُ حُلُولًا"؛ إذا جاء وقتُ أدائه
(2)
ومعنى "النَّاجِز بِالنَّاجِز": الحاضر بالحاضر
(3)
؛ فمالِكٌ رحمه الله أقام وقتَ أداء الدَّين مقام الحاضر بالحاضر، وبمعنى أكثرَ وضوحًا: لما انتهى الأجلُ وأصبح كلٌ منهما يُوفِي صاحبه؛ نزل ذلك منزلة العين الحاضرة.
قوله: (وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَا حَالَّيْنِ مَعًا؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ)
(4)
.
(1)
انظر: "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"؛ لأبي عمر بن عبد البر (6/ 290، 291)، وفيه قال: "
…
وقال الشافعي، والليث بن سعد: لا يجوز؛ لأنَّه دين بدين، واستدلوا بقول عمر:"لا تبيعوا منها غائبًا بناجزٍ"، قالوا: فالغائب بالغائب أحرى أن لا يجوز، ومن حجة مالك عليهما أن الدين في الذمة كالمقبوض".
(2)
انظر: "طلبة الطلبة"؛ للنسفي (ص 65)، وفيه:"يقال: حل الدين يحل بالكسر، إذا مضى أجله، وهذا محل الدين أي وقت حلوله".
(3)
انظر: "طلبة الطلبة"؛ للنسفي (ص 58)، حيث قال:"التنجيز تفعيل، من قولهم: ناجز بناجز، أي نقد بنقد خلاف الكالئ بالكالئ؛ أي النَّسيئة بالنسيئة، وأصله التعجيل، يقال: نجز الوعد من حدِّ: دَخَلَ، وأَنْجَزَه الواعدُ ونَجَزَ المالُ؛ أي صار نقدًا".
(4)
قال ابن عبد البر: "واختلفوا من معنى هذا الحديث أيضًا في أخذ الدراهم عن الدنانير؛ فقال مالك وأصحابه فيمن له على رجل دراهم حالة فإنَّه يأخذ دنانير بها، وإن كانت مؤجلة لم يجز أن يبيعها بدنانير، وليأخذ في ذلك عَرَضًا إن شاء، وإنَّما جاز هذا في الحال ومنعها في المؤجل فرارًا من الدين بالدين". انظر: "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"(6/ 291).
فقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ"
(1)
. يعني: الدَّين بالدَّين
(2)
.
قوله: (وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ كنَانَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(3)
.
أيَّد بعضُ المالكية؛ كابن وهبٍ، وابن كنانَةَ مذهبَ الجمهور - الشافعية والحنابلة -؛ لأنه أقرب إلى الدليل، وإن كان لم يرد في المسألة نصٌّ، لكنَّ النص يؤيد مذهبهم، وقد أقاموا مذهبهم كذلك على قاعدة سد الذرائع.
وأمَّا ما علَّل به المالكية مذهبهم، فهو تعليل ضعيفٌ في مواجهة حديث:"لا تبيعوا منها غائبًا بناجز"، فما بالكم أيُّها المالكية لو كان غائبًا بغائب؟!
قوله: (وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ الصَّرْفِ عَلَى مَا
(1)
سبق تخريجه.
(2)
الكالئ بالكالئ: "أي الدين بالدين، وبيع الشيء المؤخر بالثمن المؤخر. وتفسيره أن يكون لرجل على آخر دين من بيع أو غيره، فإذا جاء لاقتضائه لم يجده عنده، فيقول له: بع مني به شيئًا إلى أجل أدفعه إليك، وما جانس هذا، ويزيده في المبيع لذلك التأخير، فيدخله السلف بالنفع". انظر: "مشارق الأنوار على صحاح الآثار"؛ للقاضي عياض (1/ 340).
(3)
انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"؛ للقاضي عياض (5/ 264)، قال: "
…
فمذهب مالك وأصحابه جواز اقتضاء الدراهم ممَّن لك عنده دنانير حلت عليه، ومصارفته بها وإن لم يحضر الذهب، ولا بُدَّ من حضور الدراهم، وكذلك ذهب عن دين دراهم، وكذلك أجار أن يتصارف رجلان لأحدهما على الآخر دراهم، ولهذا على ذلك دنانير إذا حَلَّتا جميعًا، إذا تناجزا في جميع ذلك بالحين، وتراضيا في الحين على ما شاء من قليل وكثير.
وأجاز ذلك كله أبو حنيفة وأصحابه، حَلَّ الأجل أم لا، وراعوا في ذلك براءة الذمم. وأجاز ذلك الشافعي، والليث في اقتضاء أحدهما من الآخر، ومنعاه في الذهبين، وقاله ابن وهب، وابن كنانة وأصحابنا".
لَيْسَ عِنْدَهُمَا، إِذَا دَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى - صَاحِبِهِ قَبْلَ الافْتِرَاقِ؛ مِثْلُ أَنْ يَسْتَقْرِضَاهُ فِي الْمَجْلِسِ فَتَقَابَضَاهُ قَبْلَ الافْتِرَاقِ).
هذه مسألة جزئية ذكرها المؤلف ضمن مسألة أخرى، ولكنَّها مهمةٌ جدًّا، وتحتاج كذلك إلى انتباه.
المراد بها: أن يكون رجلان في مجلسٍ واحدٍ فيقول أحدهما للآخر: يا فلان أَبيعك الدينار - لا يقول هذا الدينار؛ لأنَّه ليس موجودًا عنده - أَبيعك الدينار الكُويْتِيَّ مثلًا بعشرة ريالات سعودية، فقال الآخرُ: قَبِلتُ.
ولاحظ أنَّه وصفه؛ لأنَّه لمَّا قال: "الدينار الكويتي" فقد وصفه، ولمَّا قال:"ريالات سعودية" فقد وصفها كذلك.
أكثر العلماء أجازوا ذلك بشرط: أن يتم القبض في المجلس؛ كأن يقترض أحدهما من شخص، أو يكون مع أحدهما الدينار، والثاني يُرسل ابنه، أو عامله ليأتيه بالمبلغ، فتتم الصفقة.
وبعض العلماء منع ذلك.
والذين أجازوه يرون أنَّ هذا من باب التيسير.
وقوله: (إِذَا دَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الافْتِرَاقِ): هذا إذا كان أحدهما معه والآخر ليس معه، أمَّا لو كان كل منهما ليس معه لا بُدَّ من كل واحد منهما أن يدفعه للآخر في المجلس بطريق الاقتراض، أو الطلب مثلًا.
إذًا، عندنا احتمالان:
الأول: ألَّا يكون مع أحدٍ منهما شيء، ثم يحصلان عليه في المجلس.
والثاني: أن يكون أحدهما معه وليس مع الآخر، فيقترض من شخص آخر حاضرًا معه، أو يرسله فيطلب.
قوله: (فَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
).
وأجازه أحمد كذلك
(3)
، ومنع ذلك مالكٌ؛ لأنَّ مالكًا يرى أنَّ هذا داخل في بيع الدين بالدين، وفي بيع غائب بناجز
(4)
.
وأمَّا الجمهور فيقولون: إنَّ المراد بالحديث النهي عن بيع آجل - أي مؤجلًا - بعاجلٍ، والآجل هو غير المقبوض، والعاجل المقبوض، أمَّا إذا بعت عاجلًا بعاجلٍ -؛ أي مقبوضًا بمقبوضٍ - كما هي المسألة التي معنا فجائز.
(1)
قال ابن حجر الهيتمي: " (والأصح) أنَّه (لا يشترط التعيين) للبدل (في العقد) أي: عقد الاستبدال بأن يقول: هذا لجواز الصرف عمَّا في الذمة.
قال الشرواني: (قوله: لجواز الصرف عمَّا في الذمة) كأن قال: بعت الدراهم التي في ذمتك بدينار في ذمتك، ثم يعينه ويقبضه في المجلس". انظر:"تحفة المحتاج في شرح المنهاج، وحواشي الشرواني والعبادي"(4/ 407).
وانظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"؛ للبغوي (3/ 358).
(2)
انظر: "المبسوط"؛ للسرخسي (14/ 14)، حيث قال:"وإذا اشترى الرجل من الرجل ألف درهم بمائة دينار، وليس عند كل واحد منهما درهم ولا دينار، ثم استقرض كل واحد منهما مثل ما سمى ودفعه إلى صاحبه قبل أن يتفرقا جاز؛ لأنَّ كل واحد منهما يلتزم المسمى في ذمته بالعقد، وذمته صالحة للالتزام فصح العقد، ثم الشرط التقابض قبل الافتراق وقد وجده".
(3)
انظر: "شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 74)، وفيه:" (وإن تصارفا على جنسين في الذمة) كدينار بندقي بعشرة دراهم فضة صح (إن تقابضا قبل تفرق)، ولو لم يكن العوضان معهما واقترضاهما، أو مشيا معًا إلى محل آخر وتقابضا، وحديث: "لا تبيعوا غائبًا منها بناجزٍ"؛ معناه لا يباع عاجل بآجل، أو مقبوض بغير مقبوض، والقبض بالمجلس كالقبض حال العقد".
(4)
انظر: "المدونة"؛ لسحنون (3/ 6)، وفيها:"أرأيت إن قلت لرجل ونحن جلوس في مجلس: بعني عشرين درهمًا بدينار، فقال: نعم قد فعلت، وقلت أنا أيضًا: قد فعلت، فتصارفنَا، ثم التفت إلى إنسان إلى جانبه، فقال: أقرضني عشرين درهمًا، والتفت أنا إلى آخر إلى جانبي، فقلت: أقرضني دينارًا ففعل، ودفعت الدينار إليه ودفع إلي العشرين درهمًا؛ أيجوز هذا أم لا؟ قال: لا خير في هذا".
قوله: (وَكرِهَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَاسْتَخَفَّهُ مِنَ الطَّرَفِ الْوَاحِدِ، - أَعْنِي: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْمُسْتَقْرِضَ فَقَطْ -)
(1)
.
استخفَّه؛ من الاستخفاف الذي بمعنى التسامح لا الاستسهال؛ أي: رأى أنَّه إذا كان من طرف واحد فهو متسامحٌ فيه. وقد اعتبروا هذه روايةً في مذهب مالك: إن كان من الطرفين ردُّوه، وإن كان من طرف واحدٍ فهو أخفُّ.
ثُمَّ قال: (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ)
(2)
.
قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَرَاهِمُ إِلَى أَجَلٍ: هَلْ يَأْخُذُ فِيهَا إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ ذَهَبًا أَوْ بِالْعَكسِ؟).
مثال ذلك: رجل له على الآخر دراهم، ثم حَلَّ الأجَل، هل يجوز له أن يُوفيه بدلها ذهبًا؟ أو العكس: رجلٌ له على الآخر ذهبًا، فهل يجوز للمَدِين أن يوفِّيَه دراهم بدلًا منها؟
ورد في هذا نصٌ؛ هو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال: كنْتُ
(1)
انظر: "التاج والإكليل لمختصر خليل"؛ للمواق (6/ 138)، وفيه:" (أو غاب نقد أحدهما أو طال) من المدونة، قال ابن القاسم: إن اشتريت من رجل عشرين درهمًا بدينار وأنتما في مجلس، وكان الدراهم معه، واستقرضت أنت الدينار؛ فإن كان أمرًا قريبًا كحلِّ الصُّرة، ولا يقوم لذلك، ولا يبعث وراءه، جاز. قال القابسي، وغيره: إنَّما يصح هذا إن لم يعلم صاحب الدراهم أنَّه لا شيء عند صاحب الدينار، فأمَّا إن علم أنّه لا دينار عنده، فلا يجوز عقد الصرف عند ابن القاسم. (أو نقداهما) من المدونة، قال ابن القاسم: وإن استقرضت أنت دينارًا من رجل إلى جانبك، واستقرض هو الدراهم من رجل إلى جانبه فدفعت إليه الدينار وقبضت الدراهم، فلا خير فيه".
(2)
لم أقف على قول زفر.
أبِيعُ الإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ. فَأتَيْت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أبِيعُ الإِبِلَ بِالْبَقِيعِ فَأبِيعُ بالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم:"لا بَأْسَ إِذَا أخَذْتَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَافْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ"
(1)
.
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه لا بأس بذلك إذا حَصَل في ذلك التقابض.
قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقَبْضُ قَبْلَ الافْتِرَاقِ
(2)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ الْأَجَلُ
(3)
، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ جَمَاعَة مِنَ الْعُلَمَاءِ، وسَوَاءٌ أكانَ الْأَجَلُ حَالًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ
(4)
).
أجازه جمهور الفقهاء؛ لورود النَّص الذي ذكرناه
(5)
، وذكره المؤلف، فقال:
(1)
أخرجه أبو داود (3354)، وغيره، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1359).
(2)
انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"؛ للقاضي عياض (5/ 264)، وفيه قال:"مذهب مالك وأصحابه جواز اقتضاء الدراهم ممَّن لك عنده دنانير حلت عليه، ومصارفته بها وإن لم يحضر الذهب، ولا بُدَّ من حضور الدراهم، وكذلك ذهب عن دين دراهم، وكذلك أجار أن يتصارف رجلان لأحدهما على الآخر دراهم، ولهذا على ذلك دنانير إذا حلتا جميعًا، إذا تناجزا في جميع ذلك بالحين، وتراضيا في الحين على ما شاء من قليل وكثير".
(3)
انظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"؛ للزيلعي (4/ 140)، قال فيه:"لو تصارفا دراهم دين بدنانير دين يصح لفوات الخطر، لكون كل واحد منهما ثابتًا قبل البيع".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 376)، عن ابن مسعود:"أنَّه كان يكره اقتضاء الذهب من الوردق، والورق من الذهب". وأخرج أيضًا عن ابن عباس ذلك من "أنَّه كره أن يعطى الذهب من الورق، والورق من الذهب".
(5)
انظر: "معالم السنن"؛ للخطابي (3/ 74)، قال فيه: "وقد اختلف الناس في اقتضاء الدراهم من الدنانير: فذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، ومنع من ذلك أبو سلمة بن =
(وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، أَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
البقيع؛ المكان الذي بالمدينة
(1)
.
واعلم أنَّه إذا أُطلق لفظُ "الدينار" فإنَّه ينصرف إلى الذهب، وإذا أطلق لفظ "الدرهم" انصرف إلى الفضة. وقد ذكر ابن عمر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يبيع بالدنانير ويأخذ الدراهم، ويبيع بالدراهم ويأخذ الدنانير: فأحيانًا يأخذ مقابل الدرهم دينار، وأحيانًا أخرى يعطي مقابل الدرهم دينار؛ فما حكم ذلك؟
فائدة:
عبد الله بن عمر كان يشتغل بالإبل يبيع فيها ويشتري؛ لأنَّ البيع ممَّا رغَّب الله تعالى فيه، كما قال سبحانه:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، فما أجمل أن يشتغل الإنسان بالبيع الحلال، وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك؛ بل إنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه ظلَّ فترة يبيع ويشتري بعد أن تولى الخلافة. وكان الأئمة الأعلام؛ كالإمام أحمد - رحمه الله تعالى - يُنفق من
= عبد الرحمن، وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك، إلَّا بسعر يومه، ولم يعتبر غيره السعر ولم يتأولوا، كان ذلك بأغلى أو بأرخص من سعر اليوم، والصَّواب ما ذهبت إليه، وهو منصوصٌ في الحديث، ومعناه ما بيَّنته لك فلا تذهب عنه، فإنَّه لا يجوز غير ذلك، والله أعلم".
(1)
انظر: "معجم ما استعجم"؟ للبكري (1/ 265)، وفيه قال:"البقيع، بفتح أوّله، وكسر ثانيه، وعين مهملة: هو بقيع الغرقد، مقبرة المدينة. قال الأصمعي: قطعت غرقدات في هذا الموضع، حين دفن فيه عثمان بن مظعون، فسمّى بقيع الغرقد لهذا. وقال الخليل: البقيع من الأرض: موضع فيه أروم شجر، وبه سمّي بقيع الغرقد، والغرقد: شجر كان ينبت هناك. وقال السّكوني عن العرب: البقيع: قاع ينبت الذّرق".
كسب يده
(1)
، وبعضهم كان يعمل في مِهَنٍ كثيرة؛ لأنَّهم يريدون أن يتلذذوا بالطعام؛ إذ إنَّ خير ما يأكله الرجل من كسبه
(2)
، فهو أحسن ما تجد لذةً.
قوله: (فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ).
بسعر يومه؛ لأنَّ الدينار يرتفع وينخفض، ومثله الدرهم. وبقيَّة الحديث:"مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ"؛ "ما لم" استثناء "تفترقا وبينكما شيء" بمعنى: صُفِّيَ الحساب فأخذت حقَّك وأخذ الآخر حقَّه دون تأجيل، وهذا يدل على تأكيد القبض في المجلس، فبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، أو العكس لا بُدَّ فيه من التقابض إلى جانب التماثل.
قوله: (خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ).
هذا الحديث الذي أخرجه الخمسة، وإذا أُطلق لفظ "الخمسة" قُصِد أصحابُ السُّنن: (أبو داود
(3)
، والترمذي
(4)
، والنسائي
(5)
، وابن ماجه
(6)
) ومعهم: (الإمام أحمد في مسنده)
(7)
. وهو حديث صحيح
(8)
،
(1)
قال صالح ابن الإمام أحمد: "وكان - أبي - ربما أخذ القدوم، وخرج إلى دار السكان، يعمل الشيء بيده". انظر: "سير أعلام النبلاء"؛ للذهبي (11/ 209).
(2)
معنى حديث أخرجه أحمد في "المسند"(17265)، وغيره، عن رافع بن خديج، قال: قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال:"عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور"، وحسنه الأرناوؤط لغيره.
(3)
سبق تخريج رواية أبي داود.
(4)
أخرجه الترمذي (1242).
(5)
أخرجه النسائي (4582).
(6)
أخرجه ابن ماجه (2262).
(7)
أخرجه أحمد (5555).
(8)
قال ابن عبد الهادي. "هذا الحديث رواه أصحاب "السنن الأربعة" من حديث سِماك، وصحَّحه الدارقطنِيّ، والحاكم". انظر: "تنقيح التحقيق"(4/ 52).
لكن المحققين على تضعيفه، قال ابن الملقن: "سئل شعبة عن هذا الحديث، فقيل له: يا أبا بسطام حدثنا حديث سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر في اقتضاء الورق من الذهب، والذهب من الورق. فقال: شعبة، عن أيوب، عن =
وقد رواه غيرهم؛ كالبيهقي في "سننه الكبرى"
(1)
.
قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِ: "وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ")
(2)
.
لكنَّ حديث ابن عمر رضي الله عنه نصٌّ في المسألة؛ فإنَّه قد وصفها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وصفًا دقيقًا، فأجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اخْتُلِفَ فِي الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ).
مثال ذلك: أن يُصارف دينارًا بعشرة دراهم، فيعجز الدرهم أو النصف، فيدفع إليه عرضًا بقدره، وصورة أخرى: أن يُصارف دينارًا بعشرة دراهم، فيزيد الدينار أو الدرهم، وكسره غير جائز، فيدفع إليه عرضًا بقدره.
قوله: (فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ)
(3)
.
المنعُ في مثل هذه الأمور خشيةَ أن يكون ذلك دافعًا للزيادة في الثمن، هذه شُبهة دعت أكثر العلماء إلى المنع.
= نافع، عن ابن عمر ولم يرفعه، ونا قتادة عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر ولم يرفعه، وثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ولم يرفعه، ونا يحيى بن أبي إسحاق، عن سالم، عن ابن عمر ولم يرفعه، ورفعه لنا سماك بن حرب، وأنا أفرقه. قلت: لما علمه من سوء حفظه، وكذا قال الترمذي وغيره لم يرفعه غير سماك".
انظر: "البدر المنير"(6/ 566). وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1326).
(1)
أخرجه البيهقي (5/ 466).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
انظر: "التبصرة"؛ للخمي (6/ 2814)، وفيه:"قال مالك: لا يجوز صرف وبيع، ولا نكاح وبيع، وكذلك المساقاة والجُعل والقراض والشركة، لا يجمع عنده شيء من ذلك إلى البيع".
قوله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا الْأَكثَرَ، وَالْآخَرُ تبَعًا لِصَاحِبِهِ).
لأنَّه إذا كان أحدهم أكثر طغَى على القليل، وأصبح القليلُ لا أَثَر له.
قوله: (وَسَوَاءٌ أكَانَ الصَّرْفُ فِي دِينَارٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي دَنَانِيرَ؛ إِنْ كَانَ الصَّرْفُ فِي دِينَارٍ وَاحِدٍ جَازَ كيْفَمَا وَقَعَ).
أي: لقلة ذلك.
قوله: (وَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرَ اعْتُبِرَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ فِي الْجَوَازِ، فَإِنْ كَانَا مَعًا مَقْصُودَيْنِ لَمْ يَجُزْ)
(1)
.
قوله: (وَأَجَازَ أَشْهَبُ الصَّرْفَ وَالْبَيْعَ
(2)
، وَهُوَ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوَدِّي إِلَى رِبًا، وَلَا إِلَى غَرَرٍ)
(3)
.
(1)
انظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير"(3/ 315، 316)، قال:"
…
فيجوز (إن) حضر جميع المتروك من عرض ونقد، و (قلت الدراهم) التي تخصها من التركة بحيث يجتمع البيع والصرف في دينار، فإذا كان حظها من الدنانير عشرة وصالحت على أحد عشر دينارًا؛ جاز، ولو كثرت الدراهم أو العروض؛ لأنَّ العشرة التي أخذتها في نظير عشرة، والدينار الآخر في مقابلة الدراهم والعرض، فقد اجتمع الصرف والبيع في دينار؛ فإن زاد ما أخذته من الدنانير الزائدة على ما يخصها على دينار، فإن قلت الدراهم التي تخصها بأن لم تبلغ صرف دينار، أو قلت قيمة العرض بان لم تبلغ دينارًا؛ جاز، وأولى إذا قلَّا معًا، فإن كثرا معًا منع؛ لأنَّه يؤدي إلى اجتماع بيع وصرف في أكثر من دينار".
(2)
انظر: "الجواهر الثمينة"؛ لابن شاس (2/ 803)، قال:"أشهب يجيز ذلك، لأنَّه لا يمنع الصرف والبيع في عقد واحد".
(3)
اختيار المؤلف لمذهب أشهب وترجيحه تبع فيه جده أبا الوليد بن رشد، إذ قال: "وليس اجتماع الصرف والبيع في صفقة واحدة بالحرام البَيِّن، فقد أجازه جماعة من العلماء، وإلى ذلك ذهب أشهب، وأنكر أن يكون مالك كرهه، قال: إنَّما البيع والصرف الذي قد كره؛ الذهب بالذهب معهما سلعة، أو الورق بالورق معهما سلعة؛ لمكان الحيلة في الفضل بين الذهبين أو الورقين، وهو أظهر، لأنَّ ما علَّلوا به البيع والصرف من دخول النسئية فيه وعدم المناجزة لعلة طريان استحقاق العرض =
وهذا القول عند المذاهب الأخرى؛ والذين أجازوا أكثر من الذين منعوا - فيما أعلم -
(1)
.
= يدخل علينا في بيع أصناف حُلي الذهب أو الفضة صفقة واحدة، وقد أجمعوا على إجازة ذلك". انظر:"مسائل أبي الوليد بن رشد"(1/ 181، 182).
لكن ليس هذا هو المختار عند أصحاب مالك، قال ابن عبد البر:"ولا يجتمع عند مالك صرف وبيع، وهو قول ربيعة هما جميعًا يكرهان ذلك، ولا يصلح عندهما إذا كان القصد إلى ذلك، وجملة مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وهو مذهب أكثر المصريين من أصحابه: إنَّه إذا باع دينارًا أو دينارين بعرض ودراهم فلا بأس أن تكون الدراهم ما بينك وبين صرف دينار، فإن كانت صرف دينار فلا خير فيه، وإن كان الذهب دينارًا واحدًا بعرض ودراهم فلا تكون الدراهم عند ابن القاسم، إلَّا قدر نصف دينار، أو أدنى؛ فإن زادت فلا خير فيه". انظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"(2/ 639).
(1)
في مذهب الأحناف يجوز. انظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"؛ للمرغيناني (3/ 83)، وفيه قال:"ولو تبايعا فضة بفضة، أو ذهبًا بذهب، وأحدهما أقل، ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة؛ جاز البيع من غير كراهية، وإن لم تبلغ فمع الكراهة، وإنْ لم يكن له قيمة؛ كالتراب لا يجوز البيع؛ لتحقق الربا، إذ الزيادة لا يقابلها عوض فيكون ربا".
وفي مذهب الشافعية قولان؛ قال الماوردي: "اختلف قول الشافعي في العقد الواحد إذا جمع شيئين مختلفين في الحكم؛ كبيع وإجارة، أو بيع وصرف، فأحد القولين أنَّه جائز فيهما جميعًا، لجواز كل واحد منهما على الانفراد، فجاز مع الاجتماع.
والثاني: أنَّ العقد باطل فيهما جميعًا؛ لأنَّ لكل واحد منهما حكمًا مخالفًا لحكم الآخر، فلم يصحا - مع الاجتماع لتنافي حكمهما. وقال سائر أصحابنا: إنَّ هذا باطلٌ قولًا واحدًا". انظر: "الحاوي الكبير" (5/ 320).
وقال النووي: "إذا جمع في العقد مبيعين مختلفي الحكم؛ كثوبي شرط الخيار في أحدهما دون الآخر، أو بين بيع وإجارة، أو بيع وسلم، أو إجارة وسلم، أو صرف وغيره، فقولان مشهوران: (أصحهما) صحة العقد فيهما، ويقسط العوض عليهما بالقيمة. (والثاني) يبطل فيهما". انظر: "المجموع شرح المهذب"(9/ 388، 389).
ومذهب الحنابلة الجواز. انظر: "مطالب أولي النهى"؛ للرحيباني (3/ 48)، قال:" (وإن جمع) في عقد (بين بيع وإجارة)، بأن باعه عبده، وأجره داره بعوض واحد؛ صحا، (أو) جمع بين بيع (وصرف)، بأن باعه عبده، وصارفه دينارًا بمائة درهم مثلا، صحَّا".
[بسم الله الرحمن الرحيم]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كِتَابُ السَّلم
(وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب)
السَّلَمُ لغةً: التقديم والتسليم
(1)
.
(1)
انظر: "التعريفات"؛ للشريف الجرجاني (ص 120)، وفيه: "السلم: هو في اللغة التقديم والتسليم.
من معاني السلم في لغة العرب: الإعطاء والتسليف، يقال: أسلم الثوب للخياط؛ أي أعطاه إيَّاها.
قال المطرزي: أسلم في البر؛ أي أسلف، من السلم، وأصله: أسلم الثمن فيه، فحذف". انظر:"المغرب في ترتيب المعرب"(ص 234)، و"لسان العرب"؛ لابن منظور (9/ 159)، و "أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء"؛ للقونوي (ص 79).
وفي اصطلاح الفقهاء:
مذهب الحنفية، ينظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 209) قال: "هو شراء آجل بعاجل".
ومذهب الحنابلة: ينظر: "الإقناع"؛ للحجاوي (2/ 133) قال: "عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين"؛ للنووي (4/ 3) قال: "عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الجامع لأحكام القرآن"؛ للقرطبي (3/ 378) قال: "حد علماؤنا رحمة الله عليهم السلم، فقالوا: بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة، أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم".
وقال ابن عرفة في "مختصره"(6/ 230) هو: "عقد معاوضة، يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة، غير متماثل العوضين".
وشرعًا: بيعُ شيءٍ موصوفٍ في الذِّمَّة بثَمن معجَّل
(1)
.
فالمبيع يُسمَّى: مُسلَّمًا فيه، والثمن يُسمَّى: رأس المال، والبائع يُسمَّى. مُسلَّمًا إليه، والمشتري يُسمَّى: ربُّ السَّلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البابُ الْأَوَّلُ: فِي مَحِلِّهِ وَشرُوطِهِ
أَمَّا مَحِلّه: فَإِنَّهُمُ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ مَا يُكَال، أَوْ يُوزَنُ
(2)
؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورِ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِمُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي ثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ").
الغريبُ أنَّ المؤلِّف رحمه الله ذكر لفظة "التَّمْرِ" التي رواها الدارقطني رحمه الله في "سننه"
(3)
، وضرب صفحًا عن الرِّوايات التي في "الصحيحين"، ومنها:"قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ"
(4)
، مع أنَّه ذكر في أوَّل الكتاب أنّه إذا أطلق مصطلح "المشهور" فيعني به:"المتفق عليه"، وقال: "وَمَتَى قُلْتُ: ثَابِتٌ، فَإِنَّمَا
(1)
انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع"؛ لمحمد بن أبي الفتح البعلي (ص 293)، قال:"السلم في الشرع هو: عقد لموصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد".
(2)
انظر: "الإجماع"؛ لابن المنذر (ص 110)، قال:"وأجمعوا على أنَّ السلَم الجائز أن يُسلم الرجل صاحبه في طعام معلوم موصوف من طعام أرض عامة لا يُخطئ مثلها، بكيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم، ودنانير ودراهم معلومة، يدفع ثَمن ما أسلم فيه قبل أن يتفرقَا من مقامهما الذي تبايعَا فيه، ويُسميان المكان الذي يقبض فيه الطعام، فإذا فعلَا ذلك وكانا جائزي الأمر، كان صحيحًا".
(3)
أخرجه الدارقطني (3/ 380).
(4)
أخرجه البخاري (2239)، ومسلم (1604).
أَعْنِي بِهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ"
(1)
.
ومِنْ هذا الحديث الجليل القدر الذي خرج من مشكاة النبوة استنبطَ الفقهاءُ منه شروطًا ستَّة لا يصحُّ السَّلم إلَّا بها: 1 - أن يكون المُسلَم فيه موصوفًا، 2 - وأن يكون منضبطًا، 3 - وأن يكون مُؤجَّلًا، 4 - وأن يكون مُقدَّرًا بكيلٍ أو وزنٍ، 5 - وأن يكون الثمن مدفوعًا عند العقد، 6 - وأن يكون موجودًا إذا حَلَّ الأجل
(2)
.
وهذه الشروطُ سيتكلَّم عنها المؤلف رحمه الله بشيءٍ من التفصيل.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِهِ فِيمَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَهِيَ الدُّورُ وَالْعَقَارُ).
لأنَّ هذه لا يَنطَبِقُ عليها تعريف السَّلم
(3)
.
(1)
الحق أنَّ الصَّواب مع ابن رشد، فإنَّ لفظة "التمر" ذكرها البخاري في "صحيحه"، ولعل الشارح سها في هذا الموضع، فقد أخرج البخاري (2240) بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال:"من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، حدثنا علي، حدثنا سفيان، قال: حدثني ابن أبي نجيح، وقال:"فليسلف في كيل معلوم، إلى أجل معلوم".
(2)
انظر هذه الشروط في: "المقدمات الممهدات"؛ لأبي الوليد بن رشد (2/ 26).
(3)
انظر في مذهب الأحناف: "تحفة الفقهاء"؛ لأبي بكر السمرقندي (2/ 14)، وفيه قال:"والحادي عشر أن يكون المسلم فيه ممَّا يضبط بالوصف، وهو أن يكون من الأجناس الأربعة؛ المكيل، والموزون، والذرعي، والعددي المتقارب، فأمَّا إذا كان ممَّا لا يضبط بالوصف؛ كالعدديات المتفاوتة، والذرعيات المتفاوتة، مثل الدور، والعقار، والجواهر، واللآلئ، والأدم، والجلود، والخشب، والروس، والأكارع، والرمان، والسفرجل، والبطاطيخ، ونحوها: لا يجوز؛ لأنَّ المُسلم فيه ما يثبت دينًا في الذمة، وسوى هذه الأجناس الأربعة لا يثبت دينًا في الذمة في عقود المعاوضات".
وانظر في مذهب المالكية: "الجامع لمسائل المدونة"؛ لابن يونس (11/ 156)، وفيه قال:"لا يجوز السلم فيما يتعذر وجوده، ولا في الدور؛ لأنَّ السلم إنَّما يصح فيما يزال فيه، إذ لو وصف له صفة موضع الدار، فقد يتعذر عليه شراؤها هنالك".
وانظر في مذهب الشافعية: "المهذب في فقه الإمام الشافعي"؛ للشيرازي (2/ 75)، وفيه قال:"ولا يجوز السلم في العقار؛ لأنَّ المكان فيه مقصود والثمن يختلف باختلافه، فلا بُدَّ من تعيينه، والعين لا تثبت في الذمة".
وانظر في مذهب الحنابلة: "الهداية على مذهب الإمام أحمد"؛ للكلوذاني (ص 257)، =
قوله: (وَأَمَّا سَائِرُ ذَلِكَ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَان فَاخْتَلَفُوا فِيهَا).
المراد بالعُروض؛ عُروض التجارة.
قوله: (فَمَنَعَ ذَلِكَ دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ مُصَيَّرًا إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ).
أهلُ الظاهر وقفوا عند ظاهر النصِّ: "فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، ووجه استدلالهم: أنَّ الحديثَ لم يذكر العُروض، فلا تدخل في ذلك
(1)
.
ولمَّا كان أهل الظاهر لا يعملون بالقياس ضاق باعُهم فلم يصلوا إلى ما وصل إليه بقية الفقهاء رحمهم الله؛ لذلك قال المؤلف:
(وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّه جَائزٌ فِي الْعُروضِ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، وَالْعَدَدِ).
أمَّا عن الضبط بالصفة: فلا بُدَّ؛ ولذلك ذكرنا في التعريف: "بيعُ شيءٍ موصوفٍ في الذِّمَّة"، فإن كان المُسلَم فيه حيوانًا - مثلًا - تَصِفُه؛ بنوعه، وسِنِّه، ولونه، وإن كان سيارةً فتقول:"هي من صُنع اليابان"، وقد يقول قائل: لماذا اشترط الفقهاء أن يكون وصفًا مضبوطًا؟ وَالجواب: لأنَّ هذا ممَّا يختلف فيه السَّلم عن البيع، فأنت عندما تشتري سلعة تراها أمامك، لكنَّ السَّلم يُوصف في الذِّمة، فلا بد من أوصاف دقيقة حتى يتطابق المسلَم فيه مع الثمن.
= وفيه قال: "ولا يصح السلم في العقار، والنخل، والأشجار الثابتة، وكل عين لا يجوز أن تسلم ثمنًا واحدًا في جنس حتى يتبين مقدار ما لكل جنس من الثمن".
(1)
انظر:" الاستذكار"؛ لابن عبد البر (6/ 517)، قال:"قال داود، وطائفة من أهل الظاهر: لا يجوز السلم في الحيوان، ولا في شيء من الأشياء إلَّا في المكيل والموزون خاصة، وما خرج عن الكيل والوزن فالسلم فيه غير جائز، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند البائع، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلم فليسلم في كليل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، ويخص المكيل، والموزون".
وقال ابن حزم: "لا يجوز السلم إلَّا في مكيل، أو موزون فقط، ولا يجوز في حيوان، ولا مذروع، ولا معدود، ولا في شيء غير ما ذكرنا". انظر: "المحلى بالآثار"(8/ 39).
وأمَّا عن الضبط بالعدد: فلا بُدَّ كذلك، كالأقمشة، تقول:"تبلغُ مترًا أو مترين"، وهكذا
(1)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَنْضَبِطُ مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَالرَّقِيقُ؛ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(2)
،
(1)
انظر: "اختلاف الفقهاء"؛ لابن جرير (ص 125، 126)، وفيه قال:"قال مالك: لا بأس بالسلم في العروض، والحيوان إذا وصف بذرع، وجنس، أو سن وجنس. وقال الأوزاعي: لا بأس بالسلم في كل ما ضبط بحد؛ مثل الكيل، والوزن، والسن والشبه في الحيوان، والصفة والنعت في الأواني والطساس والذرع في الثياب. وقال الثوري: السلف جائز في كل ما كيل، ووزن، وحد بذرع وصفة، ويكره السلف في كل شيء من الحيوان". وقال الشافعي: "لا يجوز السلم إلَّا فيما كان موصوفًا مضبوطًا بذراع، أو سن؛ مثل ثني أو جذع وأشباهه، أو وزن، أو كيل، وفيما قد بصنعة، وقد مثل السلم في الطس والأواني المضروبة والمفرغة بصنعة معروفة، وسكة معروفة، وثخانة أو رقة إذا اشترط من جنس من الأجناس مثل الحديد والرصاص، وكذلك الأقداح والصحاف الزجاج إذا وصفت. وقال أبو ثور مثل ذلك، وقال يجوز أيضًا فيما وقف على صناعته، وقده إذا كان عملًا معروفًا؛ مثل النعل والطس والتور والأواني، وإن كان لا يوزن". وقال أبو حنيفة وأصحابه: "لا يجوز السلم إلَّا فيما حد بذرع، أو كيل، أو وزن، أو قد وصناعة، ولا يجوز فيما حد بسن؛ وعلتهم أنَّ الحيوان يتباين، وما يتباين وهو من جنس واحد فلا يجوز السلم فيه".
وعند الحنابلة: قال ابن قدامة: "كل ما ضبط بصفة، فالسلم فيه جائز
…
، فيصح في الحبوب والثمار، والدقيق، والثياب، والإبريسم، والقطن، والكتان، والصوف، والشعر، والكاغد، والحديد، والرصاص، والصفر، والنحاس، والأدوية، والطيب، والخلول، والأدهان، والشحوم، والألبان، والزئبق، والشب، والكبريت، والكحل، وكل مكيل، أو موزون
…
، ولا يصح السلم فيما لا ينضبط بالصفة، كالجوهر من اللؤلؤ، والياقوت، والفيروزج، والزبرجد، والعقيق، والبلور، لأنَّ أثمانها تختلف اختلافًا متباينًا بالصغر، والكبر". انظر:"المغني"(4/ 207 - 408).
(2)
انظر: "البيان والتحصيل"؛ لأبي الوليد بن رشد (7/ 110)، وفيه قال: "لا اختلاف في المذهب أنَّ السلم جائز في الحيوان والعروض، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنَّ السلم والقرض في الحيوان لا يجوز.
أمَّا جواز السلم في الرقيق، فقال أبو الوليد الباجي: أجمعنا على جواز السلم في الرقيق". انظر: "المنتقى شرح الموطإ" (4/ 294).
وَالشَّافِعِيُّ
(1)
، وَالْأَوْزَاعِيُّ
(2)
، وَاللَّيثُ إِلَى أَنَّ السَّلَمَ فِيهِمَا جَائِزٌ
(3)
).
وهذا هو المشهور عن أحمد، وعنه رواية أخرى غير مشهورة
(4)
.
قوله: (وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ).
وهو قول ابن عباس كذلك، وابن مسعود في أَحد قَولَيْه، وقال به جَمعٌ كثيرٌ من التابعين؛ فأكثر العلماء أجازوا السَّلم في الحيوان
(5)
.
(1)
انظر: "أسنى المطالب في شرح روض الطالب"؛ لزكريا الأنصاري (2/ 131)، وفيه قال:" (ويجوز السلم في الحيوان)؛ لأنَّه ثبت في الذمة قرضًا في خبر مسلم: "أنَّه صلى الله عليه وسلم اقترض بكرًا" وقيس عليه السلم، وعلى البكر غيره من سائر الحيوانات، وخبر النهي عن السلف في الحيوان؛ قال ابن السمعاني: غير ثابت، وإن خَرَّجه الحاكم (فليذكر في الرقيق النوع)؛ كتركي، أو حبشي (وكذا) يذكر (بصنفه إذا اختلف)؛ كخطابي، أو رومي (و) يذكر (اللون)؛ كأبيض، وأسود (مع صفته) بأن يصف بياضه بسمرة أو شقرة، وسواده بصفاء أو كدرة".
(2)
قال الطحاوي: "قال أصحابنا، والثوري، والحسن بن حي: لا يجوز السلم في الحيوان، وقال مالك، والأوزاعي، والشافعى: يجوز". انظر: "مختصر اختلاف العلماء"(3/ 12).
(3)
قال ابن عبد البر: "قال أهل المدينة، ومالك، وأصحابه، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وأصحابه: السلم في الحيوان جائز بالصفة، وكذلك كل ما يضبط بالصفة في الأغلب". انظر: "التمهيد"(4/ 64).
(4)
انظر: "الروايتين والوجهين"؛ لأبي يعلى بن الفراء (1/ 360، 361)، وفيه قال:"ولا يختلف المذهب في جواز السلم في البهائم، واختلفت في جواز السلم في الرقيق؛ فنقل الميموني عنه يجوز السلم في الحيوان والرقيق، ونقل أبو الحارث: أمَّا استسلاف الإبل خاصة فجائز؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه استسلف بكرًا، وأمَّا غيره من الحيوان فكأنِّي أهاب ذلك، فظاهر هذا جواز السلم في الإبل خاصة لورود الأثر فيها، فكان القياس يمنع الجواز؛ لأنَّه يمكن ضبط صفاته المقصودة من القوة، وسرعة المشي، وكثرة العمل، والمذهب جواز ذلك في جميع الحيوان، لأنَّه ممَّا يمكن ضبطه بالصفات".
(5)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"؛ لابن المنذر (6/ 105)، وفيه قال:"اختلف أهل العلم في السلم في الحيوان، فَرَخَّصت فيه طائفة: وممَّن روينا عنه أنَّه قال: لا بأس به؛ ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن المسيب، والحسن البصري، والشعبي، ومجاهد، والزهري".
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ
(3)
).
وهي الرواية غير المشهورة عن الإمام أحمد رحمه الله
(4)
.
قوله: (وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ)
(5)
.
الذي أعلمُه أنَّ ابن مسعودٍ رضي الله عنه هو الذي له في المسألة قولان
(6)
، أمَّا عُمر رضي الله عنه فلا أعلم إلَّا القول الموافق لأبي حنيفة، والثوريِّ، والله أعلم.
(1)
انظر: "مختصر القدوري"(ص 88)، قال فيه:"ولا يجوز السلم في الحيوان، ولا في أطرافه، ولا في الجلود عددًا".
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"؛ لابن المنذر (6/ 106)، وفيه قال:"وكرهت طائفة السلم فيه؛ هذا قول الثوري، وأصحاب الرأي".
(3)
انظر:" المنتقى شرح الموطإ"؛ لأبي الوليد الباجي (5/ 21)، وفيه قال:"السلف في الحيوان بالحلية. والصفة جائز لازم، ويلزم المسلم إليه تلك الصفة عند انقضاء الأجل، ويلزم المسلم قبضها، فإن كرهها واستغلاها فقد تقدم الاستدلال على صحة ذلك بما يغني عن إعادته، قالي مالك: وعلى هذا أهل العلم ببلدنا، وإنَّما يخالف في ذلك أهل العراق".
(4)
انظر: "المغني"؛ لابن قدامة (4/ 209)، وفيه قال:"اختلفت الرواية في السلم في الحيوان، فروي لا يصح السلم فيه؛ وهو قول الثوري، وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وحذيفة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والجوزجاني؛ لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: إنَّ من الربَا أبوابًا لا تخفى، وإنَّ منها السلم في السن؛ ولأنَّ الحيوان يختلف اختلافًا متباينًا، فلا يمكن ضبطه، وإن استقصى صفاته التي يختلف بها الثمن، مثل: أزج الحاجبين، أكحل العينين، أقنى الأنف، أشم العرنين، أهدب الأشفار، ألمى الشفة، بديع الصفة؛ تعذر تسليمه؛ لندرة وجوده على تلك الصفة. وظاهر المذهب، صحة السلم فيه، نص عليه في رواية الأثرم".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(11/ 233) عن قتادة، عن ابن سيرين؛ "أنَّ عمر، وحذيفة، وابن مسعود كانوا يكرهون السلم في الحيوان".
(6)
الرواية الأخرى عن ابن مسعود ذكرها ابن المنذر في "الإشراف على مذاهب العلماء"(6/ 105)، فقال:"اختلف أهل العلم في السلم في الحيوان؛ فرخصت فيه طائفة: وممَّن روينا عنه أنَّه قال: لا بأس به؛ ابن مسعود، وابن عباس".
قوله: (وَعُمْدَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ السَّلَفِ فِي الْحَيَوَانِ"، وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ).
لأنَّ في سَندِه من هو مُختَلفٌ فيه
(1)
.
ومن الأدلة التي يستدل بها الحنفية أيضًا: أثرُ عمر رضي الله عنه في تحديد أبواب الربَا، قال: "إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَبْوَابَ الرِّبَا
…
، ثم قال:"أَنْ يَبْتَاعَ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ نَسِيئًا، وَأَنْ يَبْتَاعَ الثَّمَرَةَ وَهِيَ مُعَصْفَرَةٌ لَمْ تَطِبْ، وَأَنْ يُسْلِمَ فِي سِنٍّ"
(2)
. فذكر منها السَّلم في السِّن، أي: في الحيوان، وهذا يُرجِّحُ ما ذكرتُه أنَّ لعُمَرَ قولًا واحدًا فقط.
قال: (وَرُبَّمَا احْتَجُّوا أَيْضًا بِنَهْيِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً)
(3)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا، فَنَفَدَتِ الْإِبِل، فَأَمَرَهُ
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 39)، والحاكم (2/ 65).
والحديث معلول بالآتي:
أولًا: إسحاق بن إبراهيم بن جوتي؛ قال الزيلعي: قال صاحب التنقيح: "وإسحاق بن إبراهيم بن جوتي، قال فيه ابن حبان: منكر الحديث جدًّا، ويأتي عن الثقات بالموضوعات، لا يحل كتب حديثه إلَّا على جهة التعجب، وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، انتهى". انظر: "نصب الراية"(4/ 46).
ثانيًا: عبد الملك الذماري؛ قال ابن الجوزى: "قال أبو زرعة: عبد الملك الذماري منكر الحديث، وقال الرازي: ليس بقوي، ووثقه الفلاس". انظر: "التحقيق في مسائل الخلاف"(2/ 196).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 26).
(3)
أخرج أبو داود (3356)، وغيره، عن سمرة:"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6930).
أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قِلَاصِ الصَّدَقَةِ، فَأَخَذَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَدَقَةِ"
(1)
).
ليس هذا ابن عمر رضي الله عنهما كما ذكر المؤلف رحمه الله، بل هو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وربما لم يكن الخطأ من المؤلف؛ فقد يكون خطأً مطبعيًّا.
والقِلاصُ: "هي البكر من الإبل"
(2)
.
وهذا دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يدلٌّ على جواز السَّلم في الحيوان.
قوله: (وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ بَكْرًا").
وهذا أيضًا حديثٌ صحيحٌ
(3)
.
قوله: (قَالُوا: وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ).
هذه الأحاديث صحيحةٌ صريحةٌ في جواز السَّلم في الحيوان، فقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استسلف بَكْرًا، وكذلك أمر عبد الله بن عمروٍ أن يفعله
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3357)، وغيره، وضعفه الألباني في "مشكاة المصابيح"(2823).
(2)
انظر: "كفاية المتحفظ"؛ للأجدابي (ص 86)، وفيه قال:"الجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والقعُود بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية، وإنَّما يقال: جمل وناقة إذا أَرْبعا، وأمَّا قبل ذلك فَقَعُود وقُلُوص، وبَكْر وبَكْرَة، وجمع القَعُود قِعْدَان، وجمع القُلُوص قَلائِص، وقِلاص، وقُلُص".
(3)
أخرجه مسلم (1600)، عن أبي رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بَكْرًا، فقدمت عليه إِبِلٌ من إِبِلِ الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضيَ الرَّجلَ بَكْر، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلَّا خِيارًا رَبَاعِيًا، فقال:"أعْطِهِ إيَّاه، إنَّ خِيارَ الناسِ أحسنُهم قضاءً".
(4)
قال أبو الوليد الباجي: "وهذا الحديث يدل على جواز ثبوت الحيوان في الذمة، وإنَّما يضبط بالصفة، ولولا ذلك لما جاز ثبوته في الذمة عوضًا عمَّا يستقرضه المستقرض؛ لأنَّه لا خلاف أنَّ عليه رد مثل ما استقرض". انظر: "المنتقى شرح الموطإ"(5/ 96).
قوله: (فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ؛ أَحَدُهُمَا: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَالثَّانِي: تَرَدُّدُ الْحَيَوَانِ بَيْنَ أَنْ يُضْبَطَ بِالصِّفَةِ، أَوْ لَا يُضْبَطُ).
لأنَّه قد يصعب عليك أن تضبط صفة حيوانٍ صفةً تامَّة، وإن حددت فصيلته، ونوعه، لكنَّه قد يختلف حجمًا وشكلًا؛ مثل كونه أكحل أو غير أكحل، وغير ذلك.
قوله: (فَمَنْ نَظَرَ إِلَى تَبَايُنِ الْحَيَوَانِ فِي الْخَلْقِ، وَالصِّفَاتِ، وَبِخَاصَّةٍ صِفَاتُ النَّفْسِ قَالَ: لَا تَنْضَبِطُ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى تَشَابُهِهَا قَالَ: تَنْضَبِطُ)
(1)
.
وهذا القول هو الذي يتفق مع روح الشريعة، وهو قول الجمهور
(2)
.
فائدة:
الحيواناتُ أصبحت في عصرنا معروفة، وأصبحت الآن توزن، فزال الإشكال الذي كان موجودًا.
قوله: (وَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْبَيْضِ وَالدَّرِّ).
(1)
قال ابن عبد البر: "واحتج من لم يجز السلف في الحيوان بأنَّه لا يضبط ضبطًا صحيحًا بالصفة؛ لأنَّ السن واللون يتباينان تباينًا بعيدًا؛ لأنَّ الفاره القوي يكون متقدمًا في الثمن والقيمة والجودة والفراهات، ونحو هذا في سائر الحيوان، واحتج أهل الحجاز بأنَّ الحيوان يثبت في الذمة بالصفة، بدليل ثبوت ذلك في الذمة من الإبل؛ كبنت مخاض، وبنت لبون، وجذعة، وحقة، وخلفة، ومعلوم أنَّها تختلف، وقد جاءت السنة في الديات بثبوتها في ذمة من وجبت عليه". انظر: "الاستذكار"(6/ 419، 420).
(2)
لأنَّ الأصل أن يوصف الحيوان بصفاته التي يوصف بها على السلامة ممَّا يختلف ثمنُه باختلافها، وليس عليه أن يصفَه بجميع صفاته؛ لأنَّ ذلك لا يؤثر في ثمنه، ولا يوجب رغبةً فيه". انظر:"المنتقى شرح الموطإ"؛ لأبي الوليد الباجي (4/ 293).
البَيْضُ: هو الذي يخرج من الدَّجاج
(1)
.
والدَّرُّ: هو اللبن الذي تَدرُّه البقرة، أو الشاة
(2)
.
أمَّما البيضُ؛ فلأنَّه يَختَلِف في أحجامه، منه الكبير، ومنه الصغير، والذين أجازوا السَّلم فيه قالوا: وإن اختلف فهو متقارب، فلا يكون اختلافُ حجمه كبيرًا.
(1)
سيأتي ذكر الخلاف في جواز السلم في البيض.
(2)
"دَر الضَّرعُ يَدُرُّ ويَدِرُّ درّا ودُرُورًا، والدَّرُّ: اللَّبن بِعَيْنِه". انظر: "جمهرة اللغة"؛ لابن دريد (1/ 110).
اختلف الفقهاء في جواز السلم في اللبن: هل يكون كيلًا أوزنًا؟
فذهب الأحناف، والشافعية إلى جواز السلم فيه كيلًا ووزنًا، وذهب المالكية، والحنابلة إلى أنَّه يكون كيلًا.
انظر في مذهب الأحناف: "الأصل"؛ للشيباني (5/ 9)، وفيه قال: "لا بأس بالسلم
في اللَّبن في حِينه الذي يكون فيه، إِذا اشترط وزنًا معلومًا، أو كَيْلًا معلومًا، وأجلًا
معلومًا قبل انقطاعه، وكذلك ألبان البقر وغيرها".
وقال ابن مازة: "وإذا أسلم في اللبن في جبنه كيلًا أو وزنًا معلومًا إلى أجل معلوم جاز؛ لأنَّ كون اللبن مكيلًا أو موزونًا غير ثابت بالنَّص، ولم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا، فتكون العبرة فيه للعُرف، والناس اعتادوا بيعه كيلًا ووزنًا، وكذلك الخل، والعصير نظير اللبن لما قلنا". انظر: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني"(7/ 75).
انظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"؛ للخطيب الربيني (3/ 16)، وفيه قال:"ويصح السلم في اللبن كيلًا ووزنًا، ويوزن برغوته، ولا يكال بها؛ لأنَّها لا تؤثر في الميزان".
وانظر في مذهب المالكية: "التهذيب في اختصار المدونة"؛ للبراذعي (3/ 271)، وفيه:"يجوز السلم في لبن غنم معينة على الكيل كل قسط بكذا، كانت الغنم يسيرة أو كثيرة، كشاة أو شاتين، بعد أن يكون في إبان لبنها، ويُسمِّي أقساطًا معلومة".
وفي مذهب الحنابلة: انظر: "شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 92)، وفيه قال:" (فلا يصح) سلم (في مكيل)؛ كلبن، وزيت، وشيرج، وتمر (وزنًا، ولا في موزون كيلًا) نصًّا؛ لأنَّه مبيع يشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل؛ كبيع الربويات بعضها ببعض؛ ولأنَّه قدره بغير ما هو مقدر به في الأصل فلم يجز، كما لو أسلم في مذروع وزنًا".
وفي واقعنا يشتري الإنسانُ طبقَ البيض، وفيه بيضةٌ أكبر من أُخرى، فلا شك أنَّ القول بجوازه هو الصحيح؛ لأنَّ العدَّ بمنزلة الكيل والوزن.
وأمَّا اللبنُ: فبعض العلماء أجاز السَّلم فيه، لعدم وجود التساوي والاتفاق، وبعضهم قال: لا، وهذا الخلاف الموجود يسير لا يؤثر.
قوله: (وَغَيْرِ ذَلِكَ).
كالقِثَّاء؛ وهو الخِيَار، والبرتقال، والمَوْز، والسَّفَرْجَل، والتفاح، والكُمَّثْرَى، فقد اختلفوا فيها كذلك
(1)
.
(1)
ذهب الأحناف إلى عدم الجواز. انظر: "الأصل"؛ للشيباني (5/ 7)، وفيه قال:"ولا خير في السلم في الزُمَّان، ولا في السفرجل، ولا في البِطِّيخ، ولا في القثاء، ولا في البقل، ولا في الخيار، وما أشبه ذلك ممَّا لا يُكال، ولا يُوزن؛ لأنُّه مُختَلف فيه الصَّغِير والكَبير".
قال الكاساني: "والتفاوت في الرُّمان، والبطيخ بين آحاده فاحش؛ ولهذا كان مضمونًا بالقيمة". انظر: "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"(5/ 208).
وذهب المالكية إلى جوازه عددًا. انظر: "منح الجليل شرح مختصر خليل"؛ لعليش (5/ 361)، وفيه قال:"ولا بأس بالسلف في الرمان عددا إذا وصف مقدار الرمانة، وكذا التفاح، والسفرجل، إذا كان يحاط بمعرفته".
وذهب الشافعية إلى جوازه وزنًا. انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"؛ للعمراني (5/ 410)، وفيه قال:"ويجوز السلم في البطيخ والقثاء والخيار والرُّمان والسفرجل والكمثرى والخوخ والبيض وزنًا، ولا يجوز عددًا، ولا كيلًا؛ لأنَّ ذلك يختلف".
وفي مذهب أحمد روايتان: "إحداهما: أنَّه لا يصح السلم في كل معدود مختلف من الفواكه، والبقول، والبيض، والحيوان، والرؤوس، وما أشبه ذلك، والرواية الثانية: يصح السلم في جميع ذلك، وهل يسلم فيه عددًا، أو وزنًا على روايتين".
انظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد"؛ للكلوذاني (ص 254).
ومنهم من منع السلم فيه مطلقًا؛ قال البهوتي: " (ولا) يصح السلم (في فواكه معدودة) كرمان وكمثرى وخوخ وإجاص؛ لاختلافها ولو أسلم فيها وزنًا بخلاف نحو عنب ورطب". انظر: "شرح منتهى الإرادات"(2/ 88).
وقال أيضًا: "لا يصح السلم في الفواكه المعدودة؛ كالرمان، والسفرجل، والخوخ، ونحوها؛ لأنَّها تختلف بالكبر والصغر، فلم يصح السلم فيها، ولو قدرت بالوزن، =
قوله: (فَلَمْ يُجِزْ أَبُو حَنِيفَةَ السَّلَمَ فِي الْبَيْضِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ بِالْعَدَدِ
(1)
).
وعَنْ مالكٍ رواية أخرى بعدم الجواز
(2)
، وعن أحمدَ رحمه الله روايتان كمالِكٍ
(3)
.
= بخلاف الفواكه المكيلة كالرطب، والموزونة كالعنب، فيصح السلم فيها إذا قُدِّرت بمعيارها الشرعي". انظر:"المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد"(2/ 446).
وذكر المرداوي: أنَّ الصحيح من المذهب؛ أنَّ ما يحدث فيه تفاوت كثير ولا يضبط بالعدد، يسلم فيه بالوزن.
قال المرداوي: "فإن كان يتفاوت كثيرًا؛ كالرمان، والبطيخ، والسفرجل، والبقول: قدَّره بالوزن، وقال في "المغني": يسلم في الجوز، والبيض، ونحوهما عددًا. وفيما يتفاوت كالرمان، والسفرجل، والقثاء وجهان. وتقدم كلام الشارح، فالصحيح إذن من المذهب: أنَّ ما يتقارب السلم فيه عددًا، وما يتفاوت تفاوتًا كثيرًا يسلم فيه وزنًا". انظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"(5/ 97).
(1)
انظر: "التاج والإكليل لمختصر خليل"؛ للمواق (6/ 503)، وفيه قال: "قال ابن حبيب: والبيض لا يتقرر إلَّا بالعدد (كالرمان) من المدونة، قال مالك: لا بأس بالسلم في الرمان عددًا إذا وصف قدر الرمان
…
(والبيض) من المدونة، قال مالك: لا يسلم في البيض إلا عددًا بصفة، وهو العرف فيه".
قال ابن القاسم: "وكذلك التفاح، والسفرجل إذا كان يحاط بمعرفته، ويجوز السلم في الجوز على العدد والصفة
…
".
(2)
لم أقف على من نصَّ على هذه الرواية عن مالك، إلا أنَّ هذه الرواية التي ذكرها الشارح قد تُحمل على ما لا يُمكن ضبطه وقياسه.
(3)
انظر الروايتين في: "الهداية على مذهب الإمام أحمد"؛ للكلوذاني (ص 254)، قال: "أمَّا المعدود والمختلف؛ كالبيض، والجوز، والرمان، والسفرجل، والبطيخ، والقثاء، والباذنجان، وما أشبهه، ففيه روايتان إحداهما: لا يصح السلم فيه، وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم، وقد سأله عن السلم في البيض إنَّما سمعنا السلم فيما يكال، أو يوزن. قلت: فالرُّمان، قال: لا أدري ولا البيض، السلم فيما يكال أو يوزن، ولا أرى السلم إلَّا فيما يكال أو يوزن، أو شيء يوقف عليه، ومعناه - والله أعلم - يوقف عليه بمقدار معلوم لا يختلف كالزرع، وظاهر هذه الرواية: أنَّه يمنع من صحة السلم في كل معدود مختلف من الفواكه، والبقول، والبيض، والحيوان، والرؤوس، وما أشبه ذلك، والرواية الثانية: يصح السلم في جميع ذلك، وهل يسلم =
وهذا الخلاف ليس في البيض وحده، كما أشرنا سابقًا، فالرُّمَّان والبِطِّيخ ويُسمَّى الخِرْبز يدخلان في هذا الخلاف
(1)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ فِي اللَّحْمِ: أَجَازَهُ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
،
= فيه عددًا، أو وزنًا، على روايتين، إحداهما: وزنًا، والأخرى: عددًا. وقيل يسلم في البيض والجوز عددًا، وفي الفواكه والبقول وزنًا".
(1)
ظاهر كلام الشارح أنَّه سوَّى في السلم بين البيض وغيره ممَّا لا يكال ولا يوزن، إلا أن الأحناف فرَّقوا في السلم بين البيض وغيره؛ كالرمان، والبطيخ، والسفرجل، والخيار، فعندهم يجوز السلم في البيض، ولا يجوز في هذه الأشياء، كما سبق تحريره.
قال الحدادي: "والمعدودات التي لا تتفاوت كالجوز، والبيض يجوز السلم فيها عندنا، والصغير، والكبير فيها سواء باصطلاح الناس على إهدار التفاوت فيها، بخلاف البطيخ، والقثاء، والرمان لتفاوت آحاده، أَلَا ترى أنَّه لا يقال هذه البيضة بكذا، وهذه بكذا، وكذا الجوز". انظر: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري"(1/ 217).
أمَّا نَقْلُ المؤلفِ عن أبي حنيفة أنَّه لا يُجيز في البيض السلم؛ فهذا ليس على إطلاقه، بل هو في نوع مخصوص، وهو بيض النعام.
قال السرخسي: "وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أنَّه لا يجوز السلم في بيض النعام؛ لأنَّه تتفاوت آحاده في المالية". انظر: "المبسوط"(12/ 136).
أمَّا عموم البيض فذهب أبو حنيفة، وصاحبيه: إلى جواز السلم فيه، وخالفهم زفر.
انظر: "مختلف الرواية"؛ للسمرقندي (3/ 1508)، وفيه: "قال زفر: إذا أسلم في الجوز والبيض عددًا، لا يجوز، وعندنا: يجوز.
له: إنَّها تتفاوت في الصغير والكبير، فلا يرتفع التفاوت إلَّا بالوزن.
لنا: إنَّه عددي متقارب، لا تجري فيه المنازعة، ولهذا يضمن بمثله عند الإتلاف، فيجوز السلم فيه.
وجواز السلم هو المعتمد من مذهب الأحناف". انظر: "مختصر القدوري" (ص 88)، وفيه: "السلم جائز في المكيلات، والموزونات، والمعدودات التي لا تتفاوت؛ كالجوز، والبيض".
(2)
انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"؛ للقاضي عبد الوهاب (2/ 570)، حيث قال:"السَّلم في اللحم جائزٌ، خلافًا لأبي حنيفة لعموم الخبر؛ ولأنَّه يضبط بالصفة من جنس الحيوان، ونوعه، وسماته، ومواضع أخذه، فهو كسائر العروض؛ ولأنَّه طعامٌ فأشبه البر".
(3)
انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"؛ للعمراني (5/ 419)، قال فيه:"ويصح السلم على اللحم؛ لأنَّه يمكن ضبط صفاته، فجاز السلم عليه، كالثمار".
وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
).
وأجازه أحمدُ أيضًا
(2)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ السَّلَمُ فِي الرُّءُوسِ وَالأَكَارعِ: وأَجَازَهُ مَالِكٌ
(3)
، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ)
(4)
.
الأكَارعُ؛ بالنسبةِ للدَّابةِ قوائمُها
(5)
.
وقد أجازه أحمد رحمه الله في روايةٍ، وعنه رواية أخرى توافق مذهب
(1)
انظر: "حاشية ابن عابدين"(5/ 212)، وفيه:" (قوله ولحم) في الهداية، ولا خير في السلم في اللحم، قال في "الفتح": وهذه العبارة تأكيد في نفي الجواز، وتمامه فيه (قوله ولو منزوع عظم) هو الأصح هداية، وهو رواية ابن شجاع عن الإمام، وفي رواية الحسن عنه جواز منزوع العظم، كما في الفتح".
(2)
انظر: "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح"(1/ 306، 307)، قال فيه:"وسألته عن قول سفيان كره السلم في اللَّحم ما معناه، وعطاء لا يرى به بأسًا، قال: الذي كره يقول لا يجيء على الصفة، وقال أبي: لا بأس به إذا كان بصفة سمين، أو غث، أو وسط، لحم فَخذ، أَو لحم جنب، أَو غَيره".
وهذا هو الذي عليه المذهب. انظر: "المحرر في الفقه"؛ لأبي البركات بن تيمية (1/ 333)، وفيه:"كل مكيل، أو موزون، أو مذروع أمكن ضبطه؛ كالبر، واللحم، والخبز، والثياب، ونحوها فالسلم فيه جائز".
(3)
الثابت عن مالك القول بالجواز، وليست هناك عنه رواية أخرى كما أشار الشارح. انظر:"الجامع لمسائل المدونة"؛ لابن يونس (11/ 162)، وفيه:"قال مالك: ولا بأس بالسلم في الرؤوس إذا اشترط صنفًا وقدرًا معلومًا، صغارًا وكبارًا، وكذلك في الأكارع".
وهو الذي عليه المذهب. قال بهرام الدميري: "ويصح في الأكارع؛ كالرؤوس وفى المطبوخ منهما". انظر: "الشامل في فقه الإمام مالك"(1/ 626).
(4)
انظر: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني"؛ لابن مازه (7/ 80)، حيث قال:" (ولا خير) في السلم في الرؤوس والأكارع؛ لأنَّها من العدديات المتفاوتة؛ لأنَّ التفاوت الذي يكون بين رأس ورأس، وكراع وكراع تفاوت يعتبره الناس فيما بينهم، وتجري المماسكهَ لأجله، ولا يشترون إلَّا بعد الإشارة".
(5)
انظر: "طلبة الطلبة"؛ للنسفي (ص 109)، قال فيه:"الأكارع جمعُ الكُراعِ، وجمعُه أَكْرُعٌ، والأَكارعِ جمعُ الأكرُعِ؛ وهي القوائمُ".
أبي حنيفة رحمه الله
(1)
.
قوله: (وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيِّ
(3)
).
(1)
انظر بيان الروايتين في: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"؛ للمرداوي (5/ 86)، قال فيه:"أمَّا الجلود والرؤوس ونحوها، كالأكارع، فأطلق المصنف في جواز السلم فيها روايتين. وأطلقهما في الكافي، والمغني، والتلخيص، والبلغة، والمحرر، والشارح، والفروع، والفائق، والزركشي. إحداهما: لا يصح. وهو المذهب؛ جزم به في الوجيز. وصححه في التصحيح، والرعاية الكبرى. وقدمه ابن رزين في شرحه. وهو ظاهر ما قدمه في الرعاية الصغرى، والحاوي الصغير. والرواية الثانية: يصح السلم؛ واختاره ابن عبدوس في تذكرته".
والذي عليه المذهب عدم الجواز. انظر: "مطالب أولي النهى"؛ للرحيباني (3/ 209)، قال فيه:" (ولا) يصح السلم في (بقول)؛ لأنَّها تختلف، ولا يمكن تقديرها بالحزم، (و) لا في (جلود)؛ لاختلاف أطرافها، ولا يمكن زرعها، (و) لا (في رؤوس وأكارع)؛ لأنَّ أكثرها عظام ومشافر، واللحم فيها قليل، وليست موزونة".
(2)
يقصد أنَّ هناك قولًا في مذهب أبي حنيفة بالجواز، كما فسره الشارح. وهذا القول باعتبار إمكانية ضبط هذه الأشياء، ورفع الجهالة عنها. انظر:"حاشية الشلبي على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"(4/ 111)، وفيه:"قال الأتقاني: وأمَّا العددي المتفاوت؛ وتفسيره ما نقل عن ابن يوسف ما اختلفت آحاده في القيمة، واتفقت أجناسه؛ فلا يجوز السلم فيه، وذلك كالدر، والجواهر، واللآلئ، والأدم، والجلود، والخشب، والرؤوس، والأكارع، والرمان، والبطيخ، والسفرجل، ونحوها، إلَّا إذا بين من جنس الجلود والأدم والخشب والجذوع شيئًا معلومًا، وطولًا معلومًا وغلظًا معلومًا، وأتى بجميع شرائط السلم، والتحق بالمتقارب يجوز". ونصَّ ابن عابدين على وجود رواية بجواز السلم فيها وزنًا. انظر: "رد المحتار"(20/ 238)، قال فيه:" (لا في حيوان ما) خلافًا للشافعي، (وأطرافه) كرؤوس وأكارع خلافًا لمالك، وجاز وزنًا في رواية".
(3)
انظر القولين في: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"؛ للبغوي (3/ 582)، قال فيه: "لا يجوز في الرؤوس والأكارع؛ لأنَّها تشتمل على أباعض مختلفة، كلها مقصودة، ولا يمكن وصفها بخلاف الحيوان؛ لأنَّ المقصود جملته.
وفيه قول آخر؛ أنَّه يجوز السلم فيها كالحيوان، فعلى هذا: إنَّما يجوز بعد التنقية وزنًا".
والمذهب على عدم الجواز. انظر: "تحفة المحتاج في شرح المنهاج"؛ لابن حجر الهيتمي (5/ 29)، وفيه:" (والأظهر منعه) أي السلم (في رؤوس الحيوان) والأكارع؛ لاشتمالها على أجناس مقصودة لا تنضبط؛ ولأنَّ غالبها غير مقصود، وهو العظم".
اختلف قولهما كمالك
(1)
وأحمد؛ يعني: أنَّ لكُلِّ واحدٍ منهما قولين في المسألة.
فائدة: لو قال المؤلف رحمه الله: "واختلف في ذلك قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة"؛ لكان أجود.
قوله: (وَكَذَلِكَ السَّلَمُ فِي الدُّرِّ وَالْفُصُوصِ: أَجَازَهُ مَالِكٌ
(2)
، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ
(3)
).
(1)
لم أقف على من نص على الخلاف في مذهب مالك، فيبدو أنَّه سبق لسان، وهذا يظهر من كلام الشارح بعد: قال: فائدة: لو قال المؤلف رحمه الله: "واختلف في ذلك قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة"؛ لكان أجود.
(2)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"؛ لأبي الوليد الباجي (4/ 294)، وفيه قال:"ويجوز السلم في الدرر والفصوص خلافًا للشافعي، والدليل على ما نقوله: أنَّه ممَّا يدرك بالصفة فيوصف لونه، وصفاؤه، وصورته من طويل أو مدحرج، وإملاس وتضريس، ووزنه وما جرى مجرى هذا من صفاته التي تختلف الأغراض فيه باختلافها".
والقول بالجواز هو ما عليه المذهب. انظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير"(3/ 215)، قال فيه:" (ويجوز) في (اللؤلؤ) كذلك (والعنبر والجوهر) وهو كبار اللؤلؤ إلَّا أن يندر وجوده".
(3)
انظر: "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"؛ للرملي (4/ 202، 203)، وفيه قال: " (ولا يصح) السلم (فيما ندر وجوده؛ كلحم الصيد بموضع العزة)
…
(ولا فيما لو استقصى وصفه) الواجب ذكره في السلم (عز وجوده) كما مر (كاللؤلؤ الكبار) بكسر أوله
…
(واليواقيت) وغيرهما من الجواهر النفيسة؛ لأنَه لا بُدَّ فيها من التعرض للحجم، والوزن، والشكل، والصفاء، واجتماع هذه الأمور نادر، وخرج بالكبار وهي ما تطلب للزينة؛ الصغار وهي ما تطلب للتداوي: أي غالبًا، وضبطه الجويني بسدس دينار، ولعله باعتبار ما كان من كثرة وجود كباره في زمنهم، أمَّا الآن فهذا لا يطلب إلَّا للزينة لا غير، فلا يصح السلم فيه لعزته".
وكذا هو مذهب الأحناف، والحنابلة.
انظر: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني"؛ لابن مازه (7/ 82)، قال فيه:"ولا خير في السلم في الجوهر واللؤلؤ؛ لا عددًا، ولا وزنًا، ولا كيلًا، قال الشيخ الإمام الأجل السرخسي: ما ذكر من الجواب محمول على الكبار من اللآلئ، وأمَّا الصغار منها التي تباع وزنًا، وتجعل في أدوية العين، والمفوح فالسلم فيها يجوز وزنًا". =
أمَّا الدُّرُّ؛ فجمع دُرَّة، وهي اللؤلؤة العظيمة الكبيرة
(1)
.
وأمَّا الفُصُوص؛ فجمع فَصٍّ، وهو ما يُركَّب في الخاتم من الأحجار الكريمة؛ كالياقوت أو اللؤلؤ، وغيرها
(2)
.
تنبيه:
هذه المذكورات كُلُّها أصبحت تُوزَن فزال الإشكال، وجاز فيها السَّلم؛ لأنَّها إذا وزنت انضبطت، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم، أو وزن معلوم"
(3)
، فالوزن يرفع إشكال كِبَرِ الحجم أو صِغَره، فإذا كانت حبَّاتها صغيرة فسيكون عددها أكثر، وإذا كانت كبيرة فسيكون العدد أقل، والمتوسطة تكون بينهما، فارتفع الغررُ الذي كان موجودًا.
ولذلك لمَّا سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن مسألةٍ تتعلق بمثل هذه
= والقول بالمنع هو المذهب. انظر: "درر الحكام شرح غرر الأحكام"، لمنلا خسرو (2/ 195)، قال فيه:" (والجوهر والخرز) بالتحريك الذي ينظم فإنَّ في كل منها تفاوتًا فاحشًا يمنع السلم".
قال الشرنبلالي في الحاشية: " (قوله والجوهر) هذا في الكبار منه، ويجوز في صغار اللؤلؤ وزنًا، لأنَّه يعلم به، كذا في شرح المجمع".
وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 89)، قال فيه:" (ولا فيما لا ينضبط كجوهر)، ولؤلؤ، ومرجان، وعقيق، ونحوها لاختلافها اختلافًا كثيرًا، صغرًا وكبرًا، وحسن تدوير، وزيادة ضوء وصفاء، ولا يمكن تقديرها بيض عصفور ونحوه؛ لأنَّه يختلف، ولا شيء معين، لأنَّه قد يتلف".
(1)
انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 191)، قال فيه:"والدُّرَّةُ بالضمِّ: اللُّؤلُؤَةُ العظيمة الكبيرة، والجمع دُرٌّ - بحذف الهاء - ودُرَرٌ، مثلُ: غُرْفَةٍ وَغُرَف".
(2)
انظر: "مقاييس اللغة"؛ لابن فارس (4/ 440)، قال فيه:"الفص: فص الخاتم؛ وسمي بذلك لأنَّه ليس من نفس الخاتم، بل هو ملصق به".
وفي "معجم لغة الفقهاء"؛ لمحمد رواس قلعجي، وحامد صادق قنيبي (ص 346):"الفص: بفتح الفاء جمع فصوص وفصاص؛ ما يركب في الخاتم من الحجارة الكريمة، ونحوها".
(3)
سبق تخريجه.
الأمور، قال:"لا يجوز"، فقيل له: إنَّها توزن، فتوقَّف
(1)
.
قوله: (وَقَصْدُنَا مِنْ هَذه الْمَسَائِلِ إِنَّمَا هُوَ الْأُصُولُ الضَّابِطَةُ لِلشَّرِيعَةِ، لَا إِحْصَاءُ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ).
فالمؤلف رحمه الله ما عرض لكُلِّ شيءٍ، فإنَّك لو أردت أن تستعرض جميع البضائع لتُطَبِّق عليها قواعدَ كتاب السَّلم لبلغت الآلاف، لكنَّ المؤلف رحمه الله وضع أصولًا لمسائل السَّلم، لو فهمناها لاستطعنا أن نُلحق بها كلَّ شيء، فأنت إذا رأيت الخلاف بين الفقهاء في البَيْض - مثلًا - لألحقت به الرُّمَّانَ، والبِطِّيخَ، وهكذا.
قوله: (وَأَمَّا شُرُوطُهُ: فَمِنْهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَمِنْهَا مُخْتَنَفٌ فِيهَا).
وهذا يدلُّ على حَصَافة
(2)
الفقهاء؛ حيث استنبطوا هذه الشروط من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكره المؤلف آنفًا.
قوله: (أَمَّا الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا: فَهِيَ سِتَّةٌّ:)
(3)
.
الشرط الأول:
(مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَن، وَالْمَثْمُونُ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ النَّسَاءُ).
الثَّمن: هو الذي يدفعه ربُّ السَّلَم (المشتري).
(1)
لم أقف على هذه الرواية.
(2)
يُقال: "رجلٌ حَصيفٌ بَيِّنُ الحصافة، وقد حصف حصافة؛ إذا كان جيد الرأي، محكم العقل". انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 148).
(3)
انظر: "الإجماع"؛ لابن المنذر (ص 110)، وفيه قال:"وأجمعوا على أنَّ السلَم الجائز أن يُسلم الرجل صاحبه في طعام معلوم، موصوف من طعام أرض عامَّة لا يُخطئ مثلها، بكيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم، ودنانير ودراهم معلومة، يدفع ثَمن ما أسلم فيه قبل أن يتفرقَا من مقامهما الذي تبايعَا فيه، ويُسميان المكان الذي يقبض فيه الطعام، فإذا فعلَا ذلك، وكانا جائزي الأمر، كان صحيحًا، وأجمعوا على أنَّ من باع معلومًا من السلعِ بمعلومٍ من الثَمنِ إلى أجل معلوم من شهورِ العربِ؛ أنَّه جائز".
والمثمون: هو الذي يدفعه المُسْلَم إليه (البائع)؛ ثمرة، أو غيرها.
قوله: (وَامْتِنَاعُهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسَاء، وَذَلِكَ إِمَّا اتِّفَاقُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا يَرَاهُ مَالِكٌ رحمه الله، وَإِمَّا اتِّفَاقُ الْجِنْسِ عَلَى مَا يَرَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الطُّعْمِ مَعَ الْجِنْسِ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي عِلَّةِ النَّسَاءِ).
المؤلف رحمه الله يُشير إلى ما سبق ذكره في الربويات من خلاف الفقهاء في علة الربا:
فهناك من: خصَّه بالقوت، وما يصلحه، وهو قول مالك
(1)
.
وهناك من: حرَّمه في كُلِّ مكيلٍ أو موزون بجنسه، وهذا قول أبي حنيفة
(2)
، وأحمد في ظاهر مذهبه
(3)
.
(1)
انظر: "المعلم بفوائد مسلم"، للمازري (2/ 320)، وفيه قال:"أمَّا مالكٌ فنظر إلى أنَّ الأجناس إذا اختلفت جاز التَّفَاضلُ فيها نسيئة، والغرض من المتملَّكات الانتفاعات، وأمَّا نفس الذوات فلا يملكها إلَّا اللهُ الذي يوجدها ويُعدمها، وإنَّما مَلك الخلق الانتفاع بها، فإذا كانت المنافع مختلفة، وهي المقصودة التي يتعلق بها الملك، وجب أن تحل محلّ اختلاف الأجناس، وإذا كان الغرض في دابّةٍ الحملَ عليها، والغرض من أخرى الجريَ بها صارا في الأنفس كدابةٍ يراد ركوبها وثوب يراد لباسه، فإذا ساوت المنافع نظر إلى قوله: "إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن سلفٍ جرّ نفعًا"، فإذا دفع ثوبًا في ثوبين الغرض فيهما كالغرض في الثوب؛ فكأنَّه أسلفه واشترط عليه أن ينتفع بالزيادة، ولو أسلم ثوبين في ثوب تَتَّفِقُ الأغراض فيهما؛ لاتُّهِمَا أيضًا على أن يكون أعطاه أحد الثوبين ليضمن له الثاني في ذمته أجلًا سمياه، فيصير ذلك معاوضة على الضمان، وسلفًا لينتفع بالضمان، وذلك لا يجوز".
(2)
انظر: "المبسوط"، للسرخسى (12/ 121، 122)، وفيه:"قوله: ولا ما يُكال فيما يكال مجري على ظاهره، فإنَّ إسلام المكيل في المكيل لا يجوز بحالٍ؛ لاتفاقهما في قدر واحد، وقوله: وإذا اختلفا النوعان ممَّا لا يُكال ولا يوزن فلا بأس به واحدًا باثنين، يدًا بيدٍ، هذا مُجرى على ظاهره؛ لانعدام العلة المحرمة للفضل".
(3)
انظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل"، للحجاوي (2/ 139)، وفيه قال:"الثالث أن يذكر قدره بالكيل في المكيل، والوزن في الموزون، والذرع في المذروع، والعد في المعدود يصح السلم فيه، فإن أسلم في كيل وزنًا، أو في موزون كيلًا لم يصح، وعنه يصح، اختاره الموفق". =
وهناك من: خصَّه بالنقدين أو بالطعام، وإن لم يكن مكيلًا ولا موزونًا، وهو قول الشافعي
(1)
، ورواية عن الإمام أحمد
(2)
. والطعام عندهم: كُلُّ ما يُؤخذ اقتياتًا، أو تَفكُّهًا، أو تداويًا.
الشرط الثاني:
قوله: (وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا إِمَّا بِالْكَيْلِ، أَوْ بِالْوَزْنِ، أَوْ بِالْعَدَدِ، إِنْ كَانَ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَلْحَقَهُ التَّقْدِيرُ)
(3)
.
الشرط الثالث:
(أَوْ مُنْضَبِطًا بِالصِّفَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الصِّفَةَ).
أن يكون مُقدَّرًا؛ أي: أن يكون هناك قَدرٌ يَضبِطُه؛ (يُكال، يُوزَن، يُعَدُّ).
= وانظر: "الروض المربع شرح زاد المستقنع"؛ للبهوتي (ص 345)، قال:" (ويحرم ربا النَّسيئة) من النَّساء بالمد؛ وهو التأخير (في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل)، وهي الكيل والوزن (ليس أحدهما) أي أحد الجنسين (نقدًا)، فإن كان أحدهما نقدًا كحديدٍ بذهب أو فضة جاز النساء، وإلَّا لانسد باب السلم في الموزونات غالبًا، إلَّا صرف فلوس نافقة بنقد، فيشترط فيه الحلول والقبض، واختار ابن عقيل وغيره: لا، وتبعه في "الإقناع" (كالمكيلين والموزونين) ولو من جنسين، فإذا بيع بر بشعير، أو حديد بنحاس؛ اعتبر الحلول والتقابض قبل التفرق".
(1)
انظر: "أسنى المطالب"؛ لزكريا الأنصاري (2/ 22)، وفيه قال:" (فصل والربويات بعلة) واحدة (إن اتَّحد جنسهما كبيع الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة؛ حرم فيهما التفاضل والنَّساء) بفتح النون والمد؛ أي الأجل، (والتفريق قبل التقابض). قال: (قوله كبيع الذهب بالذهب إلخ) لو باع الطعام بالطعام، أو النقد بالنقد بلفظ السلم؛ لم يصح، فإنَّ السَّلَم يُشترط فيه القبض من أحد الجانبين، والربوي يُشترط فيه قبضهما، فلمَّا تنافى الموضوعان بطل".
(2)
انظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"؛ للكوسج (6/ 2950)، وفيه: "قال أحمد: كل شيء من الطعام بعضه ببعض نسيئة مكروه على ما كره ابن عمر.
قال إسحاق: اللحم بالبر نسيئة هو مثل: أن يسلم ما يوزن فيما يكال، لا بأس به إذا كان أحدهما يدًا بيدٍ؛ لأنَّه لا بُدَّ في السلم من أن ينقد الثمن ".
(3)
سبق تحرير هذه المسائل.
كالحنطة تُكال، والأرز كذلك، والسُّكَّر يُوزن، والقهوة تُوزن، والشَّايُ كذلك، والبيض يُعَدُّ، وهكذا
(1)
.
ونضيف إلى ذلك المذروع؛ كالأقمشة، يقال: ذَرَعَ فلانٌ الثوب ذَرعًا: قاسه بالذراع، أو قياسه بالمتر
(2)
، ولا شكَّ أنَّه مقياس دقيق
(3)
.
الشَّرط الرابع:
قوله: (وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ حُلُولِ الْأجَلِ)
(4)
.
وحُلُول الْأجَل: يقال: "حلَّ الدَّينُ حلولًا؛ جاء وقت أدائه"
(5)
.
الشرط الخامس:
قوله: (وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ أَجَلًا بَعِيدًا؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ بَابِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ).
أي: تعجيل رأس المال، وقبضه في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين بنفسيهما؛ ليُخرج اختلاف مالك مع الأئمة الثلاثة في اشتراط هذا
(1)
سبقت هذه المسائل.
(2)
انظر: "المصباح المنير"؛ للفيومي (1/ 208)، قال فيه:"ذَرَعْتُ الثوبَ ذَرْعًا من باب نَفَعَ: قِسْتُه بالذِّراع".
(3)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"؛ للباجي (4/ 297)، قال فيه:"ويسلم في الثياب كلها بالذراع في الطول والعرض؛ لأنَّها لا تتقدر إلَّا به، فإن شرط ذراع رجل بعينه، فقد أجازه ابن القاسم في "المدونة"، فإن خيف أن يغبن؛ أخذ منه مقدار ذراعه إلى أن يجيء أجل السلم".
(4)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"؛ للباجي (4/ 300)، قال فيه:"ويشترط أن يكون المسلم فيه موجودًا حين الأجل، فلا خلاف أنَّ ذلك شرط في صحة السلم؛ لأنَّ حلول الأجل يقتضي تسليم المسلم فيه، فإذا كان معدومًا حين الأجل لم يصح السلم فيه؛ لأنَّ من شرط صحة السلم والبيع التَّمكُّن من التسليم".
(5)
انظر: "طلبة الطلبة"؛ للنسفي (ص 65)، وفيه قال:"يقال: حَلَّ الدَّينُ يَحِلُّ بالكسر، إذا مضَى أجلُه، وهذا مَحِلُّ الدَّينِ، أي: وَقْتُ حُلُولِه".
الشرط، فإنَّ مالكًا يرى أنَّه: يجوز تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل، ولو بشرط في العقد، سواء أكان رأس المال عينًا أم دينًا؛ لأنَّ السلم معاوضة لا يخرج بتأخير قبض رأس المال عن أن يكون سلمًا، فأشبه ما لو تأخر إلى آخر المجلس، وكل ما قارب الشيء يعطى حكمه، ولا يكون له بذلك حكم الكالئ.
وبيع الكالئ بالكالئ: أي: بيع الدَّين بالدَّين
(1)
.
قوله: (هَذَا فِي الْجُمْلَةِ).
أي: هذا إجمالٌ، وسيأتيك التفصيل.
الشرط السادس:
قوله: (وَاشترطوا فِي اشْتِرَاطِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي تَأْخِيرِ نَقْدِ الثَّمَنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْمُدَّةِ الْكَثِيرَةِ، وَلَا مُطْلَقًا).
يُشير المؤلف رحمه الله إلى الخلاف الذي ذكرناه بين الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد)، وبين الإمام مالك في شرط:(تعجيل رأس المال، وقبضه في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين بنفسيهما)، وأنَّ مالكًا يتسامح، ويقول:"يجوز تأخيره اليوم واليومين والثلاثة".
(1)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"؛ للباجي (4/ 300)، قال فيه:"وقبضه في مجلس السلم أفضل، وليس بشرط في صحة السلم، ويجوز أن يتأخر قبضه اليوم واليومين بالشرطِ خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنَّ من شرط صحة السلم التقابض في المجلس، والدليل على ما نقوله: أنَّ التأخير فيه ليس بممنوع لمعنى في العوض، وإنَّما هو ممنوع لمعنى في العقد؛ لئلا يكون من الكالئ بالكالئ، والمسلم فيه من شرطه التأجيل، والثمن من شرطه التعجيل، فكما لا يصح السلم بتأخير القبض عن المجلس، ولا بتأخيره اليوم واليومين، ولا يكون له بذلك حكم الكالئ، فكذلك الثمن الذي من شرطه التعجيل لا يُفسده التأخر عن مجلس القبض، ولا بتأخره اليوم واليومين، ولا يدخل بذلك في حكم الكالئ".
قال: (فَأَجَازَ مَالِكٌ اشْتِرَاطَ تَأْخِيرِ الْيَوْمَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ، وَأَجَازَ تَأْخِير بِلَا شَرْطٍ)
(1)
.
قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(2)
.
وكذلك الشافعيُّ
(3)
، وأحمدُ
(4)
.
قوله: (إِلَى أَنَّ منْ شَرْطِهُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ؛ كَالصَّرْفِ).
لأنَّه إذا لم يحصل التقابض في المجلس فكأنه باع دينًا بدين.
قال: (فَهَذِهِ سِتَّة مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدهَا: الْأجَل، هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِيهِ أَمْ لَا؟).
والخلاف في هذا الشرط يسيرٌ؛ لأنَّه منصوصٌ عليه في الحديث، فهو شَرْطٌ.
(1)
سبقت هذه المسائل.
(2)
انظر: "بدائع الصنائع"؛ للكاساني (5/ 203، 204)، قال فيه:"فإن قبض المسلم إليه رأس مال السلم من المحال عليه، أو الكفيل، أو من رب السلم فقد تم العقد بينهما إذا كانا في المجلس، سواء بقي الحويل والكفيل أو افترقا بعد أن كان العاقدان في المجلس، وإن افترقا العاقدان بأنفسهما قبل القبض؛ بطل السلم، وبطلت الحوالة، والكفالة، وإن بقي المحال عليه والكفيل في المجلس؛ فالعبرة لبقاء العاقدين وافتراقهما، لا لبقاء الحويل والكفيل وافتراقهما؛ لأنَّ القبض من حقوق العقد، وقيام العقد بالعاقدين، فكان المعتبر مجلسهما".
(3)
انظر: "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"؛ للشربيني (2/ 291)، قال فيه:"ويشترط تسليم رأس المال في مجلس العقد قبل لزمه، فلو تفرقا قبل قبض رأس المال أو ألزمه بطل العقد، أو قبل تسليم بعضه بطل فيما لم يقبض، وفيما يقابله من المسلم فيه فلو أطلق، كأسلمت إليك دينارًا في ذمتي في كذا، ثم عين الدينار، وسلم في المجلس قبل التخاير، جاز ذلك؛ لأن المجلس حريم العقد".
(4)
انظر: "شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 95)، وفيه:"الشرط (السادس: قبض رأس ماله) أي السلم (قبل تفرق) من مجلس عقد تفرقا يبطل خيار مجلس، لئلا يصير بيع دين بدين".
قوله: (وَالثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْمُسَلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا فِي حَالِ عَقْدِ السَّلَمِ أَمْ لَا؟).
المُسلَمُ فيهِ: هو المبيع، يعني أنَّه: عند عقد السَّلم في الحبوب - مثلًا -، هل يشترطُ أن يكون جنسه موجودًا؟
قال: (وَالثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَكَان دَفْعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُقَدَّرًا؛ إِمَّا مَكِيلًا، وَإِمَّا مَوْزُونًا، وَإِمَّا مَعْدُودًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ جُزَافًا).
عاد المؤلِّف رحمه الله يُفصِّل ما أجمله من الشروط المختلف فيها، فقال:
(فَأَمَّا الْأَجَلُ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ هُوَ عِنْدَهُ شَرْطُ صِحَّةٍ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ
(1)
، وَأَمَّا مَالِكٌ؛ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ شَرْطِ السَّلَمِ
(2)
).
وعند أحمد كذلك
(3)
؛ أي إنَّ: الأئمة الثلاثة (أبا حنيفة، ومالكًا،
(1)
قال السرخسي: "فأمَّا الأجل فهو من شرائط السلم عندنا، وقال الشافعي: الأجل يثبت ترفيها لا شرطًا". انظر: "المبسوط"(12/ 125).
(2)
انظر: "القبس في شرح موطأ"؛ لابن العربي (ص 834)، وفيه:"واضطربت المالكية في تحديد الأجل حتى ردوه إلى يومه، حتى قال بعض علمائنا السَّلم الحَالُّ جائز، والصحيح أنَّه لا بُدَّ من الأجل فيه؛ لأنَّ البيع على ضربين: معجل وهو المعين، ومؤجل، فإن كان حالًّا ولم يكن عند المسلم إليه فهو بيع ما ليس عندك، فلا بُدَّ من الأجل حتى يخلص كل عقد بصفته، وعلى شروطه، وتنزل الأحكام الشرعية منازلها، وتحريره عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها".
(3)
انظر: "مطالب أولي النهى"؛ للرحيباني (3/ 221)، قال فيه:"الشرط (الرابِع: ذكر أجل معلوم) نصًّا للخبر المتقدم، فأمر بالأجل؛ والأمر للوجوب؛ ولأنَّ السلم رخصة، جاز للرفق، ولا يحصل إلَّا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق؛ فلا يصح".
وأحمد) يشترطون لصحة السَّلم أن يكون مؤجلًا، ولا يصح السلم الحالِّ؛ لأنَّه منصوصٌ عليه في الحديث:"فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"
(1)
؛ فهذا الحديث أَمَرَ بالأجلِ، والأمرُ يقتضي الوجوب.
تنبيه:
المؤلف رحمه الله كأنَّه أدغم مذهب الشافعيِّ، لكنَّه رجع بعد ذلك - فيما سيأتي - فناقشه بعبارات تُشير إلى أنَّه قد ذكر مذهب الشافعيِّ، فلعلَّ في النَّصِّ سَقَطٌ.
والحقيقة أنَّ الشافعيَّ رحمه الله قد خالف الأئمة الثلاثة في هذه المسألة، فقال: ليس الأجلُ في السَّلم شرطًا، بل يصحُّ السَّلم مؤجلًا، ويجوز حالًّا؛ لأنَّه إذا كان يجوز مؤجَّلًا فأولى أن يجوز حالا؛ قياسًا على بيع الأعيان، ولأنَّه خالٍ من الغرر
(2)
.
ثم بدأ المؤلف رحمه الله في تفصيل مذهب مالك، فقال:
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَخَرَّجُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ جَوَازُ السَّلَمِ الْحَالِّ
(3)
، وَأَمَّا اللَّخْمِيُّ فَإِنَّهُ فَصَّلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ السَّلَمَ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: سَلَمٌ حَالٌّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ بَيْعُ تِلْكَ السِّلْعَةِ، وَسَلَمٌ مُؤَجَّلٌ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ بَيْعُ تِلْكَ السِّلْعَةِ
(4)
. وَعُمْدَةُ مَنِ اشْتَرَطَ الْأَجَلَ شَيْئَان: ظَاهِرُ حَدِيثِ
(1)
سبق تخريج الحديث.
(2)
انظر: "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"؛ للشربيني (2/ 291)، قال فيه:" (ويصح السلم حالًا ومؤجلًا) بأن يُصرح بهما؛ أمَّا المؤجل فبالنَّص والإجماع، وأمَّا الحال فبالأولى لبعده عن الغرر".
(3)
قال المازري: "المشهور عندنا منع السلم الحال، وكان بعض شيوخنا يخرّج من المدونة القول بجوازه من مسألة: إذا اشترى بعروض وباع بمثلها مرابحة". انظر: "المعلم بفوائد مسلم"(2/ 321).
(4)
انظر: "التبصرة"؛ للخمي (6/ 2937، 2938)، وفيه قال: "السلم على الحلول، =
ابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
).
أي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إلى أجل معلوم".
قوله: (والثاني: أنَّه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه).
قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ:).
يدلُّ قولُه هذا على أنَّه قد ذكر مذهب الشافعيِّ، فالكلام فيه سَقَطٌ كما ذكرتُ آنفًا، والله أعلم.
قوله: (أَنَّهُ إِذَا جَازَ الْأَجَل فَهُوَ حَالٌّ أَجْوَزُ).
أي أنَّه: إذا كان يجوز مؤجَّلًا فأولى أن يجوز حالًّا.
قوله: (لِأَنَّهُ أَقَلُّ غَرَرًا).
أي: إنَّ الحاضرَ الغررُ فيه أقلُّ من المؤجل؛ لأنَّ المؤجَّل غير مشاهد ولا معلوم، فربما تطرَّق إليه الفناء والهلاك، كله أو بعضه
(2)
.
= أو إلى يوم أو يومين، أو شبه ذلك على ثلاثة أوجه: يجوز في وجهين، واختلف في الثالث؛ فالأول: السلم لمن شأنه بيع ذلك الصنف المسلم فيه، كالسلم في اللحم لِلَّحَّام، وفي الفاكهة للفكَّاه، وفي الرطب للرطّاب، وفي الثياب للحائك الذي يعمل مثل تلك الثياب، فجميع ذلك جائز على الحلول، أو إلى أجل قريب يومًا أو يومين. والثاني: السلم ليقبض ذلك خارجًا عن البلد الذي أسلم فيه، فذلك جائز، وإن قرب ما بين الموضعين، وكأنَّ الأميال اليسيرة على الحلول، أو الأيام اليسيرة. والثالث: السلم لمن ليس شأنه بيع ذلك الشيء ليقبضه في البلد المسلم فيه، واختلف فيه".
(1)
وهو الحديث المتفق عليه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجدهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاثة، فقال:"من أسلف في شيء فليسلف في كليل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم".
(2)
انظر: "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"؛ للشربيني (2/ 291)، قال فيه:" (ويصح السلم حالًا ومؤجلًا) بأن يصرح بهما؛ أمَّا المؤجل فبالنص والإجماع، وأمَّا الحال فبالأولى لبعده عن الغرر".
قوله: (وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّتِ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا رُوِيَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى جَمَلًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ بِوَسْقِ تَمْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ لَمْ يَجِدِ التَّمْرَ، فَاسْتَقْرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَمْرًا، وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ").
هذا الحديثُ اختصره المؤلف، وقد أخرجه أحمد
(1)
، والبيهقي
(2)
، والدارقطني
(3)
، وغيرهم
(4)
، من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح، وقصَّتُه: عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ابْتَاعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ جَزُورًا - أَوْ جَزَائِرَ - بِوَسْقٍ
(5)
مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ، وَتَمْرُ الذَّخِرَةِ: الْعَجْوَة، فَرَجَعَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتِهِ، فَالْتَمَسَ لَهُ التَّمْرَ، فَلَمْ يَجِدْه، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ:"يَا عَبْدَ اللهِ، إِنَّا قَدِ ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزُورًا - أَوْ جَزَائِرَ - بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخْرَةِ، فَالْتَمَسْنَاه، فَلَمْ نَجِدْهُ" قَالَ: فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَا غَدْرَاهُ. قَالَتْ: فَنَهَمَهُ النَّاسُ
(6)
، وَقَالُوا: قَاتَلَكَ الله، أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوه، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا". فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا رَآهُ لَا يَفْقَهُ عَنْه، قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ:"اذْهَبْ إِلَى خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيم بْنِ أُمَيَّةَ، فَقُلْ لَهَا: رَسُولُ اللهِ يَقُولُ لَكِ: إِنْ كانَ عِنْدَكِ وَسْقٌ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ، فَأَسْلِفِينَاهُ حَتَّى نُوَدِّيَهُ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللهُ". فَذَهَبَ إِلَيْهَا الرَّجُل، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُل، فَقَالَ: قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُه، فَقَالَ
(1)
أخرجه أحمد (26312).
(2)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 34).
(3)
لم أقف عليه عند الدارقطني.
(4)
ممَّن أخرجه أيضًا البزار كما في "كشف الأستار"(2/ 105).
وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2677).
(5)
قال النسفي: "الوَسْقُ: وِقْرُ بَعِيرِ، وهو سِتُّونَ صَاعًا". انظر: "طلبة الطلبة"(ص 19).
(6)
أي: "زَجَروه وصاحوا به. يقالُ: نَهَمَ الإبلَ، إِذا زَجَرها وصاحَ بها لتَمضيَ". انظر: "النهاية"؛ لابن الأثير (5/ 138).
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلِ: "اذْهَبْ بِهِ، فَأَوْفِهِ الَّذِي لَهُ" قَالَ: فَذَهَبَ بِهِ، فَأَوْفَاهُ الَّذِي لَهُ. قَالَتْ: فَمَرَّ الْأَعْرَابِيُّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَوْفَيْتَ وَأَطْيَبْتَ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُولَئِكَ خِيَارُ عِبَادِ اللهِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوفُونَ الْمُطِيبُونَ".
وهذا الحديثُ - كما ترى - ليس في السَّلم وإنَّما في القرض، والقرض غير السَّلم، وقد يُسمَّى القرض سلفًا
(1)
، لكنَّه ليس السلفُ الذي هو السَّلم، وغاية الأمر: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم دخل بيته فلمَّا لم يجد، أرسل إلى خوله بنت حكيم يطلب منها سلفًا؛ أي: قرضًا.
فوائد تربوية من الحديث:
الفائدة الأولى:
هذا الحديثُ يُبيِّن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس؛ فهذا أعرابيٌّ يرفع صوته عليه صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يقول إلَّا الحق، يعدل ولا يظلم، ثم يقول الأعرابيُّ: وَا غَدْرَاه، فيتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه غدره، فلم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتأثر، ولم يَثْأَر لنفسه؛ بينما الصحابة رضي الله عنه غضبوا لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقالوا: أنت من يغدر يا عدو الله، وحُقَّ للصحابة أن يقولوا هذا الكلام.
الفائدة الثانية:
يُبين الحديثُ خطورة الغضب، والرسول صلى الله عليه وسلم لمَّا جاء إليه رجل، فقال: يا رسول الله أوصني، قال له:"لا تغضب"
(2)
فاستقلَّ الرجل هذا الكلمة الواحدة: "لا" نافية، "تغضب" فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر
(1)
قال ابن العربي: "السلفُ في لسان العرب اسمٌ يطلق على القرض، وعلى السلم".
انظر: "القبس في شرح موطأ"(ص 381).
(2)
أخرجه البخاري (6116)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال:"لا تغضب" فردد مرارًا، قال:"لا تغضب".
تقديره أنت، الرجلُ يريد وصيةً كبيرة، فكرَّر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب"، والغضب خطرُه عظيم؛ لأنَّ الإنسان إذا غضب زلَّ لسانه، وربما وقع في المَهالك.
ولذلك "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان"
(1)
، والإنسان إذا تكلم كلامًا وهو غضبان قد يندم عليه، وكم من أناس تكلموا في حالة الغضب.
ولما سَئل معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟ "
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ"
(3)
.
وقيل: "لسانك حصانك؛ إن صنته صانك، وإن هنته هانك"، فعليك بحفظ هذا اللسان، لا تتكلم إلَّا بالحق، فالأ تنطق بكلمة شر، ولا تنطق ببدعة، فلا يكون لسانك إلَّا رطبًا بذكر الله سبحانه وتعالى وكذلك إذا حفظت ما بين فخذيك؛ حينئذٍ تكون قد تجنبت محارم الله سبحانه وتعالى، فبذلك تكون من الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)} ، هذا هو الطريق السويّ.
الفائدة الثالثة:
الحديث يُبين أنَّ المعاملات إنَّما تكون بالحسنى؛ لذلك يقول الله سبحانه وتعالى في شأن الدُّعاة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
(1)
أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717) أنَّ عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: كتب أبو بكرة إلى ابنه، وكان بسجستان، بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان، فإنِّي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان".
(2)
جزء حديث أخرجه الترمذي (2616)، والنسائي في "الكبرى"(11330)، وغيرهما.
وصححه الألباني في "الإرواء"(413).
(3)
أخرجه البخاري (6474)، عن سهل بن سعد.
حَمِيمٌ}، ثم بين الله سبحانه وتعالى أنَّ ركوب هذا الطريق وسلوكه أمر صعب، فقال:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} .
قوله: (قَالُوا: فَهَذَا هُوَ شِرَاءٌ حَالٌّ بِتَمْرٍ فِي الذِّمَّةِ).
وبينَّا أنَّ هذا الحديثُ لا يصلح دليلًا للشافعية؛ لأنَّه لا علاقة له بمحل الخلاف، وإنَّما الذي ورد في الحديث هو القرض، والقرض نوع من أنواع السَّلف، وليس كل سلفٍ يكون قرضًا
(1)
.
قوله: (وَالْمَالِكِيَّة مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ السَّلَمَ إِنَّمَا جُوِّزَ لِمَوْضِعِ الارْتِفَاقِ)
(2)
.
القصد من السَّلم الإرفاق بحالة الناس، فليس كل الناس من أصحاب الزروع والثمار، والمتاجر، والمصانع، والمعامل يملكون أموالًا لينفقوا على تلك المصانع، والمزارع، أو غيرها، فيحتاجون إلى مبالغ، فكان السلم عونًا لهم.
قوله: (وَلأَنَّ الْمُسْلِفَ يَرْغَبُ فِيهِ لِمَوْضِعِ النَّسِيئَةِ، وَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْأَجَلُ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى).
قصدُ المؤلف: أنَّ الإنسان ربما إذا قدَّم الثمن في سلعة مُؤجَّلة يكون ذلك أرخص له؛ لأنَّ المسلَم إليه يحتاج إلى المال، فيكون قد راعى جانب المسلَم إليه في تخفيض المبلغ المطلوب.
(1)
قال القرافي: "الجواب أنَّ الحديث وإن صح فليس بسلم، بل وقع العقد على تمر معين موصوف؛ فلذلك قال: لم أجد شيئًا، والذي في الذمة لا يقال فيه ذلك ليسره بالشراء، لكن لمَّا رأى رغبة البدوي في التمر اشترى له تمرًا آخر، ولأنَّه أدخل الباء على التمر فيكون ثمنًا لا مثمنًا؛ لأنَّ الباء من خصائص الثمن". انظر: "الذخيرة"(5/ 252).
(2)
"الارتفاق: الانتفاع، ارتفق بالشيء: انتفع به". انظر: "النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب"؛ لمحمد بن بطال (1/ 273).
ويقصد بالنَّسيئة هنا: التأجيل
(1)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَجَلِ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: هَلْ يُقَدَّرُ بِغَيْرِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ مِثْلُ الْجِذَاذِ، وَالْقِطَافِ، وَالْحَصَادِ، وَالْمَوْسِمِ؟).
الجذاذ أو الجزاز: هو جذاذ النخل؛ أي: موعِدُ قطافه
(2)
.
والمراد بالحصاد: حصاد الزروع.
والمراد بالقطاف: موعِدُ قطف الثمار
(3)
. فهل يجوز أن يقول المُسلَم إليه (البائع) للمسلِم (المشتري): أجِّلني إلى موعد جذاذ النخل، أو القطاف، أو الحصاد؟
الجمهور يمنعون ذلك
(4)
.
(1)
انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"؛ للفاضي عبد الوهاب (2/ 567)، وفيه قال:"الصحيح من المذهب أنَّه لا يجوز السلم الحال، خلافًا للشافعي؛ لقوله عليه السلام: "في كيل معلومٍ ووزن معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ"، ولأنَّ السلم إنَّما جوز ارتفاقًا للمتعاقدين؛ لأنَّ المًسلم يقدم الثمن للارتخاص، والمسلم إليه يرغب في ارتخاص الثمن، للرفق الذي له في استعجال الانتفاع به، وفي الصبر والتأخير، وإذا زال الرفق زال الجواز، فكان كالقرض لما كان للرفق بالمقترض كان ما أخرجه عن ذلك يبطله، ولأن السلم مشتقٌّ من اسمه الذي هو السلف، وهو أن يتقدم رأس المال، ويتأخر المسلم فيه، فوجب منع ما أخرجه عن ذلك؛ ولأنَّه بدل في السلم فوجب أن يقع على وجهٍ واحدٍ اعتبارًا برأس المال".
(2)
انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"؛ للمُطَرِّزِيِّ (ص 83)، قال فيه:"الجِزازُ كالجِذاذِ، بالفتح والكسرِ إلَّا أنَّ الجِذاذَ خاصٌّ في النَّخلِ، والجِزازُ فيه وفي الزرعٍ والصوفِ والشعرِ، وقد فَرَّقَ محمدٌ رحمه الله بينهما فذكر الجدَادَ قبلَ الإِدْراكِ، والجِزاز بعده".
(3)
انظر: "طلبة الطلبة"؛ للنسفي (ص 147) قال فيه: "الْقِطَافُ بكسرِ القافِ: اسمُ وَقْتِ القَطْفِ، والقَطافُ بفتحِ القافِ لغَةٌ فيه".
(4)
انظر: "اختلاف الأئمة العلماء"، لابن هبيرة (1/ 411)، وفيه قال:"واختلفوا فيما إذا أسلم إلى الجذاذ، والحصاد، والصرام، فقال مالك: يجوز. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز. وعن أحمد روايتان؛ أظهرهما: أنَّه لا يجوز، والأخرى: يجوز".
قوله: (وَالثَّانِي: فِي مِقْدَارِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَتَحْصيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي مِقْدَارِهِ مِنَ الأيَّامِ: أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يُقْتَضَى بِالْبَلَدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ).
كأن يُسلم رجلٌ إلى رجلٍ في القاهرة - مثلًا - ويتفقا على الاقتضاء في القاهرة نفسها.
قوله: (وَضَرْبٌ يُقْتَضَى بِغَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ المسلمُ).
كأن يُسلم رجلٌ إلى رجلٍ في القاهرة - مثلًا - ويتفقا على الاقتضاء في الكويت.
قوله: (فَإِنِ اقْتَضَاهُ فِي الْبَلَدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ أَجَل تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَسْوَاق، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَوْ نَحْوُهَا).
لأنَّ هذه المدة مظنَّة اختلاف الأسواق غالبًا، واختلافها مظنَّةٌ لحصول المسلم فيه (المبيع)؛ وهذا الاعتبار مبنيٌّ على القاعدة الفقهية التي تقول:(العادةُ محكَّمة)
(1)
.
وليس قصد المؤلِّف ما قد يظهر من العبارة: (أجلًا تختلف فيه الأسواق)، فلا يقصد أنَّ الأسواق تختلف في التأجيل، وإنَّما المقصود أنَّ بعضها يقل أيام التأجيل، وبعضها يكون متوسطًا، وبعضها يكون أكثر، فنأخذ الغالب الذي يندرج عليه عمل أهل الأسواق.
(1)
قال محمد بن علي بن حسين في تهذيبه لكتاب "الفروق"؛ للقرافي (3/ 14): "العادة محكمة، أي: هي المرجع عند النزاع؛ لأنَّه دليل يبتنى عليه الحكم، وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المومنون قبيحًا فهو عند الله قبيح". رواه أحمد في كتاب السنة، وهو موقوف حسن، أفاده العلامة السيد الحموي".
وانظر تفصيل هذه القاعدة في: "الأشباه والنظائر"؛ للسيوطي (ص 89 - 92).
قوله: (وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ).
أمَّا الثلاثة الأيام فيعتبرونها بما ورد من اعتبارها في عدة أمور في الشريعة، كمسافة السفر، ومدة المسح على الخُفَّين.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا بَأْسَ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ الْوَاحِدِ)
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا مَا يُقْتَضَى بِبَلَدٍ آخَرَ: فَإِنَّ الْأَجَلَ عِنْدَهُمْ فِيهِ هُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَلَّتْ أَو كثُرَتْ)
(2)
.
(1)
قال الباجي: "السلم على ضربين: ضرب يقضى ببلد السلم، وضرب يقضى بغيره؛ فأمَّا ما يقضى ببلد العقد، فقد اختلف أصحابنا في مقدار أجل السلم، فقال ابن القاسم في "المدونة" لا يجوز إلَّا إلى الأجل الذي تختلف في مثله الأسواق؛ الخمسة عشر يومًا، والعشرين يومًا، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد، وروى ابن وهب عن مالك إلى اليومين والثلاثة، ووجه قول ابن القاسم أنَّ السلم لمَّا اقتضى الأجل لئلا يتيقن فيه انتفاع المسلم لمشابهة الغرض احتاج أن يكون إلى أمدٍ تختلف فيه الأسواق، فإن خرج عن هذا عدم شرط الصحة، ووجه الرواية الثانية: أنَّ هذا معنى يشترط في صحة السلم، فاستوى قليله وكثيره، ووجه آخر: وهو أنَّ الدنانير والدراهم يجوز السلم فيها، ولا تختلف أسواقها، فلو كان اعتبار مدة تتغير فيها أسواق العروض شرطًا في صحة السلم، لوجب أن لا يجوز السلم في العين؛ ولوجب أن تختلف آجال السلم باختلاف السلع". انظر: "المنتقى شرح الموطإ"(4/ 297، 298).
(2)
قال الباجي: "وأمَّا ما يقتضي تغير بلد السلم فإنَّه يستغني عن ذكر الأجل، ووجه ذلك ما احتجوا به من أنَّ اختلاف الأسواق باختلاف البلدان كاختلافها بعد الآجال، ألا ترى أنَّ النَّاسَ يجهزون الأمتعة إلى البلاد رجاء اختلاف الأسواق، كما يؤخرون السلع إلى الأجل، وجاز ذلك، وإذا كان كذلك حررنا فيه قياسًا فنقول: إنَّ هذا معنى عرفه بتغير الأسواق فجاز السلم إليه كالأجل البعيد". انظر: "المنتقى شرح الموطإ"(4/ 298).
قال ابن العربي: "وانفردَ مالكٌ عن جميع العلماءِ في مسألة الأَجَلِ في السَّلَم، فقال: يجوزُ أن يُسلِمَ الرَّجلُ إليه في بَلَدٍ في طعام في بَلَدٍ آخرَ، يُعطِيهِ إيَّاهُ في بَلَدٍ آخَرَ، يُسمِّيهِ، ولا يَذكْرُ الأجَلَ، وتكونُ مسافةُ ما بين البلدين أجَلًا، وهي مسألةٌ ضعيفةٌ؛ لأنَّه أجلٌ مجهولٌ، وهي مسألة ضعيفةٌ جدًّا". انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك"(6/ 123). =
يعني: يُحسب حساب المسافة، كما لو كانت عشرة أيام، أو عشرين يومًا، أو ثلاثين يومًا، أو أكثر، أو أقل.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (
(1)
.
المؤلف لم يذكر المذاهب الأخرى، ولن أذكرها؛ لأنَّ رأيهم فيها واحد - كما سترى -.
قوله: (فَمَنْ جَعَلَ الْأَجَلَ شَرْطًا غَيْرَ مُعَلَّلٍ).
من جعل الأجل شرطًا غير معلَّلٍ؛ فلم يفرِّق بين أن يكون المسلَم فيه في البلد الذي تم السَّلم فيه، وبين أن يكون في بلد آخر، قال:
= ولذا قيدوا ذلك بشروط. قال العدوي في "حاشيته على كفاية الطالب الرباني"(2/ 179): "قوله: وتكون مسافة ما بين البلدين أجل السلم: أي الذي هو يومان أو ثلاثة، لكن لا يجوز ذلك إلَّا بشروط أن يدخلا على قبضه بمجرد الوصول إلى البلد. وأن يشترط في العقد الخروج فورًا، ويخرج المسلم بالفعل، وأن يكون السفر في البر أو البحر بغير ريح، كالمنحدرين، فإن انخرم شرط من هذه؛ فلا يصح التأجيل إلَّا بنصف الشهر".
(1)
اختلف الأحناف في مقداره. قال السرخسي: "ذكر أحمد بن أبي عمران من أصحابنا - رحمهم الله تعالى -: أنَّ أدنى الأجل فيه ثلاثة أيام؛ اعتبارًا للأجل بالخيار الذي ورد الشرع فيه بالتقدير بثلاثة أيام، وكان أبو بكر الرَّازي يقول أدنى الأجل فيه أن يكون أكثر من نصف يوم؛ لأنَّ المُعجل ما كان مقبوضًا في المجلس، والمؤجل ما يتأخر قبضه عن المجلس، ولا يبقى المجلس بينهما في العادة أكثر من نصف يوم، ومن مشايخنا - رحمهم الله تعالى - من قال: "أدنى الأجل شهر". استدلالًا بمسألة كتاب الأيمان إذا حلف المدين ليقضين دينه عاجلًا؛ فقضاه قبل تمام الشهر بر في يمينه، فإذا كان ما دون الشهر في حكم العاجل كان الشهر فما فوقه في حكم الآجل". انظر: "المبسوط"(12/ 127).
والمتأخرون على أنَّ ذلك يرجع إلى العُرفِ. قال ابن نجيم: والصحيح ما رواه الكرخي أنَّه مقدار ما يُمكن فيه تحصيل المسلم فيه، وهو جدير بأن يصح ويعول عليه فقط؛ لأنَّ من الأشياء ما لا يمكن تحصيله في شهر، فيؤدي التقدير به إلى عدم حصول المقصود من الأجل، وهو القدرة على تحصيله". انظر:"البحر الرائق شرح كنز الدقائق"(6/ 174، 175).
(اشْتَرَطَ مِنْهُ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْم، وَمَنْ جَعَلَهُ شَرْطًا مُعَلَّلًا بِاخْتِلَافِ الْأَسْوَاقِ: اشْتَرَطَ مِنَ الأيَّامِ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَسْوَاقُ غَالِبًا).
قوله: (وَأَمَّا الْأَجَلُ إِلَى الْجِذَاذِ، وَالْحَصَادِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَأَجَازَهُ مَالِكٌ).
أجازه مالك؛ لأنَّ هذا أجل يتعلق بوقت من الزمن يُعرف في العادة، لا يتفاوت فيه تفاوتًا كثيرًا، فأشبه ما إذا قال: إلى رأس السنة
(1)
.
قوله: (وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
).
(1)
انظر: "شرح مختصر خليل"؛ للخرشي (5/ 210، 211)، قال فيه:"الشرط الثالث، وهو أن يضربَا للسلم؛ بمعنى المسلم فيه أجلًا معلومًا، أقله نصف شهر؛ ليسلمَا من بيع ما ليس عند الإنسان المنهي عنه، واشترط في الأجل أن يكون معلومًا؛ ليعلم منه الوقت الذي يقع فيه قضاء المسلم فيه، فالأجل المجهول غير مفيد، بل مفسد للعقد، وإنَّما حد أقل الأجل بخمسة عشر يومًا؛ لأنه مظنة اختلاف الأسواق غالبًا، وأشار بقوله (كالنيروز) إلى أنَّ الأيام المعلومة كالمنصوصة، وهو أول يوم من السنة القبطية، فالمراد به الزمان لا الفعل، وهو اللعب الواقع في أول السنة القبطية، وهذا إذا كانا عالمين بحساب العجم، وإلَّا فلا (ص) والحصاد والدراس وقدوم الحاج (ش) أشار بهذا إلى أنَّ الفعل الذي يفعل في الأيام المعتادة كهي، والمعنى أنَّه يصح تأجيل السلم بما ذكر، وبالصيف، ولو لم يعرفاه إلَّا بشدة الحر لا بالحساب، وبخروج العطاء؛ لأنَّ ذلك أجل معلوم لا يختلف، والحصاد، والدراس بفتح أولهما وكسره".
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي"(ص 86)، وفيه قال:"ولا يجوز بيع السلم، ولا آجال البياعات إلى الحصاد، ولا إلى الجداد، ولا إلى الدياس، ولا إلى صوم النَّصارى، ولا إلى فطر اليهود قبل دخولهم في صومهم، فإن كانوا قد دخلوا في صومهم: فقد صار آخره معروفًا، فجاز أن يكون آجلًا فيما ذكرنا".
(3)
انظر: "مغني المحتاج"؛ للشربيني (3/ 8، 9)، وفيه قال: " (ويشترط) في المؤجل (العلم بالأجل) بأن يكون معلومًا مضبوطًا، فلا يجوز بما يختلف؛ كالحصاد، وقدوم الحاج، والميسرة، ولا يصح التأقيت بالشتاء، والصيف، والعطاء، إلا أن يريد العاقدان وقتها المعين فيصح، (فإن عين) العاقدان (شهور العرب، أو الفرس، أو الروم؛ جاز)؛ لأنَّها معلومة مضبوطة، ويصح التأقيت بالنيروز، وهو نزول الشمس =
ومنعه أحمد أيضًا
(1)
؛ لأنَّهم يرون أنَّ فيه جهالة؛ لأنَّ مدة الجذاذ
(2)
، أو الحصاد تختلف كُلَّ فترة، فلا تأتي في وقت واحد، فمن النخل ما يُجذُّ في أول الشهر، ومنه ما يَظلُّ باقيًا إلى آخره، ومنه ما يكون في الشهر الثاني، وكذلك الحال في الحصاد ونحوها، وقد يختلف باختلاف المناطق، بل الثمرة الواحدة التي من نوع واحد من الرطب بعضها يستوي قبل الآخر.
قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الاخْتِلَافَ الَّذِي يَكُونُ فِي أَمْثَالِ هَذه الْآجَالِ يَسِيرٌ أَجَازَ ذَلِكَ، إِذِ الْغَرَرُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، وَشَبَّهَهُ بِالاخْتِلَافِ الَّذِي يَكُونُ فِي الشُّهُورِ مِنْ قِبَلِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ).
المالكية وجهة نظرهم أنَّ هذا الاختلاف الذي يحكيه الأئمة الثلاثة يسير
(3)
، وقالوا للأئمة الثلاثة: ألستم تجيزون السَّلم إلى شهر، أو شهرين؟ فالشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا، وربما كان ثلاثين يومًا، فالأشهر تختلف كذلك في مقدارها؛ أي: في مدتها
(4)
.
= برج الميزان، وبالمِهرجان وهو بكسر الميم وقت نزولها برج الحمل، وبعيد الكفار؛ كفصح النصارى، وفطير اليهود إن عرفها المسلمون، ولو عدلين منهم، أو المتعاقدان بخلاف ما إذا اختص الكفار بمعرفتها، إذ لا يُعتمد قولهم".
(1)
انظر: "شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 93)، وفيه قال:" (ومن أسلم أو باع) مطلقًا، أو لمجهول (أو أجر، أو شرط الخيار مطلقًا) بأن لم يعد بغاية (أو) جعلها (ل) أجل (مجهول؛ كحصاد، وجذاذ، ونحوهما) كنزول مطر؛ لم يصح غير بيع، لفوات شرطها، ولأنَّ الحصاد ونحوه يختلف بالقرب والبعد".
(2)
"الجُذاذُ والجِذاذُ: ما تقطّعَ منه، وضمُّه أفصح من كسره". انظر: "الصحاح"؛ للجوهري (2/ 561).
(3)
ممن ذكر هذه العلة القاضي عبد الوهاب؛ حيث قال: "يجوز السلم إلى الحصاد والجذاذ والموسم، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، لقوله: "إلى أجلٍ معلومٍ"؛ ولأنَّه أجلٌ معلومٌ بوقتٍ من الزمان يعرف في العادة لا يتفاوت اختلافه اختلافًا شديدًا، كما لو قال النيروز والمهرجان". انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، (2/ 568).
(4)
لم أقف على من قال بهذا الإلزام عند المالكية.
وأُجيب عليهم: بأنَّ هذا قدر يسير لا تأثير له، بخلاف وقت الجذاذ، أو الحصاد، فربما كانت المدة الفارقة بينهما شهرًا، أو أكثر
(1)
.
لذلك كان مذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة.
قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ كثِيرٌ، وَأَنَّهُ اكْثَرُ مِنْ الاخْتِلَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ قِبَلِ نُقْصَانِ الشُّهُورِ وَكمَالِهَا لَمْ يُجِزْهُ).
قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ شَرْط السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا فِي حِينِ عَقْدِ السَّلَمِ: فَإِنَّ مَالِكًا
(2)
، وَالشَّافِعِيَّ
(3)
،
(1)
انظر: "العزيز شرح الوجيز"؛ للرافعي (4/ 397)، قال فيه:"لا يجوز تأقيته بما يختلف وقته كالحصاد، والدياس، وقدوم الحاج، خلافًا لمالك؛ لأنَّ ذلك يتقدم تارةً، ويتأخر أخرى، فأشبه مجيء المطر".
(2)
انظر: "المقدمات الممهدات"؛ لأبي الوليد بن رشد (2/ 23)، وفيه قال:"والسلم في مذهب مالك وأصحابه جائز فيما ينقطع من أيدي الناس، وفيما لا ينقطع من أيديهم، إذا اشترط الأخذ فيما ينقطع من أيديهم في حين وجوده، فإن اشترط الأخذ في حين عدمه لم يجز، ومن أهل العلم من لا يجيز السلم إلَّا فيما يكون موجودًا بأيدي الناس من حين عقد السلم إلى حين حلوله، ومنهم من لا يجيز السلم إلَّا فيما يكون موجودًا بأيدي الناس ولا ينقطع في وقت من الأوقات. فمن حُجة من لا يجيز السلم إلَّا فيما يكون موجودًا من حين عقد السلم إلى حين حلول أجله، أنَّ المسلم إليه قد يموت، فيحل عليه السلم بموته، وربما كان ذلك في حين انقطاعه، فيؤول ذلك إلى الغرر، ومن حُجة من لا يجيز السلم إلَّا فيما لا ينقطع قبل حلول السلم ولا بعده، أنَّ القضاء قد يتأخر لعذر، أو لغير عذر بعد حلول الأجل حتى ينقضي الإبَّان فيرد إليه رأس ماله، أو يتأخر إلى العام المقبل - وذلك غرر، وهذا كله لا يلزم، لأنَّ العقودَ إذا صحت وسلمت من الغرر، فلا يُراعى ما يطرأ عليها بعد ذلك ممَّا لم يقصد إليه، إذ لو روعي ذلك، لما صح عقد ولا سلم بيع بوجه من الوجوه".
(3)
انظر: "البيان"؛ للعمراني (5/ 397)، وفيه قال:"ويجوز السلم في المعدوم إذا كان مأمون الانقطاع عند المحل، وإن كان منقطعًا حال العقد أو ما بعده، إلَّا أن يكون المسلم حالًّا .. فيعتبر وجوده حال العقد".
وَأَحْمَدَ
(1)
، وَإِسْحَاقَ، وَأَبَا ثَوْرٍ لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي غَيْرِ وَقْتِ إِبَّانِهِ
(2)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُه، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إِلَّا فِي إِبَّان الشَّيْءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ
(3)
. فَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْإِبَّانَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُسْلِمُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثَ
(4)
).
معنى إبَّانه: وجوده
(5)
.
مثال ذلك: إذا أسلم الرجل فقال: أسلمتُ إليك، وأسلفتُ إليك في نخلٍ كذا وكذا، هل يشترط أن يكون نوع الثمرة موجودًا في ذلك الوقت أو لا؟
الأئمة الثلاثة لا يشترطون ذلك، بل قالوا: يجوز أن يأتي إنسان إلى صاحب مزرعة فيسلم إليه في الشتاء، ومعلوم أنَّ الرطب إنَّما ينضج في وقت الصيف بعد مرور فترة.
(1)
انظر: "الإقناع"؛ للحجاوي (2/ 142)، قال فيه:"يشترط أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله، سواء كان موجودًا حال العقد أو معدومًا، فإن كان لا يوجد فيه أو لا يوجد إلَّا نادرًا، كالسَّلم في الرُّطب والعنب إلى غير وقته؛ لم يصح".
(2)
انظر: "الاستذكار"؛ لابن عبد البر (6/ 385)، قال فيه:"قال مالك، والشافعي: يجوز السلم في التمر قبل حينه إذا كان مثله موجودًا في أيدي الناس وقت حلول الأجل في الغالب، فإن كان ينقطع حينئذٍ لم يجز، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور".
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء"؛ للطحاوي (3/ 9)، وفيه قال:"قال أصحابنا لا يجوز السلم إلَّا أن يكون المسلم فيه موجودًا في أيدي الناس من وقت العقد إلى وقت حلول الأجل، فإن كان منقطعًا في شيءٍ من ذلك لم يصح، وقال الثوري، والأوزاعي: لا يجوز السلم إلَّا فيما كان في يد الناس منه شيء، ولا يجوز إذا لم يكن في يد الناس منه شيء".
(4)
سبق تخريج هذا الحديث.
(5)
انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"؛ للمطرزي (ص 17)، قال فيه:"الإبَّان وقتُ تهيئة الشيءِ واستعدادِه، يقال: كلُّ الفواكه في إبَّانها، وهو فِعْلَانٌ، من أَبَّ له كذا، إذا تهيَّأَ له، أو فِعَّال من أَبَّنَ الشيءَ تَأْبينًا، إذا رَقَبَه، والأول أصح".
قوله: (فَأُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ).
لمَّا قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسلمون في الثمار السنتين والثلاثة، قال:"من أسلف في شيء فليسلف في شيء معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" ولم ينكر عليهم ذلك
(1)
. وسيأتي حديث آخر يدلُّ على جواز ذلك
(2)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُسْلِمُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا").
المؤلف كثيرًا ما يأتي بقطعة الحديث؛ لأنَّه يرى أنَّه محل الشاهد. فهذا الحديث هو حديث أبو إسحاق عن رجل من نَجْرَان - انظر قولَه عن رجل من أهل نجران، فلم يُسمِّه -: أَنه سأَل ابنَ عمر فقال: إنما أسألك عن اثنتين، عن الزبيب والتَّمر، وعن السَّلَم في النخل؟ فقال ابن عمر: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل سَكران، فقال: إنَّما شربت زبيبًا وتمرًا، قال: فجلده الحَدّ، ونهى عنهما أن يُجمَعا، قال: وأَسلَم رجل في نخلٍ لرجل، فقال: لم تَحملْ نخله ذلك العام، فأراد أَن يأخذ دراهمه، فلم يُعطِه، فأَتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لمْ تحمل نخله؟ "، قال: لا، قال:"ففيم تَحبس دراهمَه؟! "، قال: فدفعها إليه، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السَّلم في النخل حتى يبدوَ صلاحُه.
هذا الحديث صريح الدلالة - كما ترى - وقد رواه الإمام أحمد
(3)
،
(1)
سبق تخريجه.
(2)
من ذلك ما نقله ابن عبد البر، قال:"وروى شعبة، وغيره عن عبد الله بن أبي المجالد، قال سألت عبد الله بن أبي أوفى عن السلف، فقال كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القمح، والشعير، والتمر، والزبيب إلى أجل معلوم، وكيل معلوم، وما هو عند صاحبه". انظر: "الاستذكار"(6/ 385).
(3)
أخرجه بهذا اللفظ أحمد (5067).
وأبو داود، وابن ماجه
(1)
، والبيهقي
(2)
، والحاكم
(3)
، وغيرهم
(4)
، ومحل الخلاف فيه هو جهالة راويه الذي ذُكر أنَّه من نجران
(5)
.
قوله: (وَكأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْغَرَرَ يَكُونُ فِيهِ أكْثَرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي حَالِ الْعَقْدِ، وَكأَنَّهُ يُشْبِهُ بَيْعَ مَا لَمْ يُخْلَقْ أكْثَرَ
(6)
، وَإِنْ كانَ ذَلِكَ مُعَيَّنًا وَهَذَا فِي الذِّمَّةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ السَّلَمُ بَيْعَ مَا لَمْ يُخْلَقْ).
لا يمكن أن يقال أنَّ هذا كبيع ما لم يُخلق، هذا يختلف
(7)
.
(1)
رواية أبي داود، وابن ماجه غير التي ذكرها الشارح؛ فأخرجه أبو داود (3467)، وابن ماجه (2284) عن أبي إسحاق، عن رجل نَجْرانيٍّ، عن ابن عمر: أنَّ رجلًا أسلف رجلًا في نخل، فلم تُخرج تلك السنةَ شيئًا، فاختصمَا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"بِمَ تستحلُّ ماله؟ ارْدُدْ عليه ماله"، ثم قال:"لا تسلفوا في النخل حتى يَبْدُوَ صلاحه".
(2)
أخرج البيهقي في "الكبرى"(6/ 40)، عن أبي إسحاق قال: سمعت رجلًا من أهل نجران يقول: قلت لابن عمر: أسألك عن السلم في النخل، فقال:"أمَّا السلم في النخل؛ فإن رجلًا أسلم في نخل لرجلٍ فلم يحمل ذلك العام، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "بم تأكل ماله؟ " فأمره فرد عليه، ثم نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه".
(3)
لم أقف على رواية الحاكم.
(4)
ممَّن أخرجه أيضًا أبو داود الطيالسي (3/ 448)؛ فقد رواه بلفظ أحمد، وهي الرواية التي ذكرها الشارح.
(5)
قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف، لجهالة التابعي". انظر: "إتحاف الخيرة المهرة"(3/ 345).
وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(6229).
(6)
وقد ذكر القدوري وجوهًا أخرى ينصر فيها مذهب الأحناف، ويرد على الشافعي، ومن وافقه.
انظر: "التجريد"(5/ 2658 - 2665).
(7)
قال ابن عبد البر: "وليس في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يخلق، وعن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ما يرد حديث السلم؛ لأنَّ ذلك بيع عين غير مضمونة، وهذا بيع شيء موصوف ومضمون في الذمة، وتقرير ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، إلا في السلم، ولم يختلفوا أنَّه لا يجوز السلم في شيءٍ بعينه =
قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ (وَهُوَ مَكَانُ الْقَبْضِ)).
مكان القبض: هو مكان الإيفاء؛ أي: المكان الذي يُقبض فيه المسلم فيه، والمراد هنا: هل هناك مكان معيَّن يُقبض فيه أو لا؟
قوله: (فَكان أَبو حَنِيفَةَ اشْتَرَطَهُ تَشْبِيهًا بِالزَّمَانِ
(1)
، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ وَهُمُ الْأَكثَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: الْأَفْضَلُ اشْتِرَاطُهُ
(2)
. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَيْسَ يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ
(3)
).
= إلى أجل، وهذا معنى قول بن عمر في زرع لم يبدُ صلاحه، وتمر لم يبدُ صلاحه".
انظر: "الاستذكار"(6/ 386).
(1)
انظر: "الأصل"، للشيباني (5/ 6)، قال فيه:"وكل شيء من السلم له حمل ومؤنة، فلا بُدَّ من أن يشترط المكان الذي يوفيه فيه، فإن لم يشترط ذلك فسد السلم في قول أبي حنيفة، وكل شيء ليس له حمل ولا مؤنة فلا بأس بالسلم فيه، ولا يشترط المكان الذي يوفيه. قال يعقوب ومحمد: ما كان له حمل ومؤنة وما لم يكن له حمل ولا مؤنة سواء فهو جائز، وإن لم يشترط المكان الذي يوفيه فيه، وإلَّا، فعليه أن يوفيه في المكان الذي أسلم إليه فيه، وهو قول أبي حنيفة الأول، ثم رجع عنه وقال: لا يجوز".
(2)
انظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"؛ للقاضي عبد الوهاب (ص 984)، قال فيه:"والثامن: أن يكون المسلم فيه موجودًا عند المحل، وليس من شرطه أن يكون موجودًا في حال العقد، ولا متصل الوجود في حال العقد، ولا متصل الوجود من وقت العقد إلى وقت المحل، والأولى أن يُسمى موضع القبض، فإن أطلق ولم يعين جاز ولزم في الموضع الذي وقع العقد عليه في سوق تلك السلعة، والموضع الذي جرى عرف أهل ذلك الموضع بقبض ما يُسمى فيه بأن يقبضونه فيه".
(3)
انظر: "المنتقى شرح الموطإ"؛ للباجي (4/ 299)، وفيه قال:"وذكر موضع التسليم ليس بشرط في صحته، والدليل على ذلك: أنَّ إطلاق العقد يقتضي التسليم ببلد العقد، كما يقتضي إطلاق البيع ذلك، إذا ثبت ذلك فإنَّه لا يخلو أن لا يَذكُرَا موضع التسليم أو يَذكُراه؛ فإن لم يذكراه لزم المسلم إليه دفعه في بلد عقد السلم، ولزم المسلم قبضه هناك لما ذكرناه، فإن اختلفَا في أي موضع يكون التسليم منه، وقد شرطَا بلد التسليم، أو لم يشترطاه، ولزم ذلك لإطلاق العقد؛ فإن كان لتلك السلعة سوق بذلك البلد، كان ذلك السوق موضع تسليمها؛ لأنَّ ذلك أخص بقاع تلك البلدة بتلك السلعة، فإن لم يكن لها سوق فإنَّ المسلم إليه يوفيه حيث شاء من ذلك البلد، قال ذلك ابن القاسم، وابن المَوَّاز".
أمَّا اشتراط ذلك؛ فالجمهور (الأئمة الثلاثة: مالك
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
، وصاحبا أبي حنيفة
(4)
) على أنَّ مكان القبض ليس شرطًا؛ واستدلوا بحديث: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلف لرجل من اليهود دنانير في تمرِ كيلٍ مُسمَّى إلى أجل مُسمًّى، وقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمّا من تمر حائط بني فلان؛ فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى"
(5)
.
فهذا اليهودي أراد أن يُحدد المكان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لكن كيل مسمى إلى أجل مسمى"، إذًا اشتراط المكان لم يرد.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات"؛ لابن أبي زيد (6/ 67)، وفيه قال:"ومن سلف، ولم يذكر موضع القضاء، لم يضره ذلك، وهذا ممَّا لا يحتاج إلى ذكره، وليوفه بموضع التبايع في سوق تلك السلعة، فإن لم يكن لها سوق، فحيث ما وفاه من البلد أجزأه".
(2)
انظر: "التنبيه في الفقه الشافعي"؛ للشيرازي (ص 98)، وفيه قال:"وإن أسلم مؤخرًا في موضع لا يصلح للتسليم وجب بيانه، وموضع التسليم، وإن كان في موضع يصلح فيه التسليم، فقد قيل: لا يجب بيانه، ويجب التسليم في موضع العقد. وقيل فيه قولان؛ أحدهما: يجب بيانه. والثاني: لا يجب".
(3)
انظر: "الروايتين والوجهين"؛ لأبي يعلى ابن الفراء (1/ 359)، قال فيه: "واختلفت فيه إذا ذكر في عقد السلم شرط موضع قبض السلم هل يصح الشرط أم لا؟ فنقل ابن منصور: جواز ذلك.
ونقل مهنا: إذا شرط في السلف توفيته ببغداد لم يصح هذا الشرط، وعليه توفيته حيث أسلف، ولا تختلف الرواية أنَّه لا يجب ذكر الموضع في عقد السلم. وجه الأولى: أنَّه عقد بيع فجاز شرط مكان القبض فيه، دليله بيع الأعيان.
ووجه الثانية: أنَّه لم يجز أن يسلم إليه في ثمرة بعينها، ولا في مكيال بعينه، ولا في ذراع بعينه لما يدخله من الغرر، وهو فقد المكيال، والثمرة كذلك لا يجوز اشتراط بقعة بعينها، لجواز تعذر القيض فيها".
(4)
سبق ذكرهما.
(5)
أخرجه ابن ماجه (2281)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(13/ 483). وضعف إسناده الألباني في "إرواء الغليل"(5/ 219).
قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ: (وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُقَدَّرًا مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا، أَوْ مَعْدُودًا، أَوْ مَذْرُوعًا، لَا جُزَافًا)).
هذا الشرط جاء به نص الحديث: "من أسلم في شيء فليسلف في كليل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم"
(1)
.
قوله: (فَاشْتَرَطَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(2)
.
واشترطه أحمد كذلك
(3)
.
قال: (وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ الشَّافِعِيُّ
(4)
، وَلَا صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
انظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"؛ للمرغيناني (3/ 73)، وفيه قال:"ولا يصح السلم عند أبي حنيفة رحمه الله إلا بسبع شرائط: (جنس معلوم)؛ كقولنا حنطة أو شعير، (ونوع معلوم)؛ كقولنا سقية أو بخسية، (وصفة معلومة)؛ كقولنا جيد أو رديء، (ومقدار معلوم)؛ كقولنا كذا كيلًا، (بمكيال معروف)، (وكذا وزنًا)، (وأجل معلوم) ".
(3)
انظر: "شرح منتهى الإرادات"؛ للبهوتي (2/ 92)، وفيه قال:"الشرط (الثالث) ذكر (قدر كيل في مكيل، و) قدر (وزن في موزون، و) قدر (ذرع في مذروع متعارف)؛ أي المكيال والرطل مثلا، والذراع (فيهن) عند العامة، لحديث: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، ولأنَّه عوض في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن".
(4)
انظر: "العزيز شرح الوجيز"؛ للرَّافعي (4/ 393، 394)، وفيه قال: "يجوز أن يكون رأس المال في الذمة، ثم يسلم في المجلس، ويجوز أن يكون معينًا في العقد، فعلى التقدير الأول؛ لا بُدَّ من معرفة قدره، وذكر صفاته إذا كان عوضًا، وعلى التقدير الثاني؛ هل تكفي معاينته؟ فيه قولان؛ أحدهما: لا، بل لا بُدَّ من بيان صفاته، ومعرفة مقداره بالكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات، والزرع في المزروعات؛ لأنَّه أحد العوضين في السلم فلا يجوز أن يكون جزافًا كالعرض الثاني، وأيضًا فإنَّ السلم لا يتم في الحال، وإنَّما هو عقد منتظر تمامه بتسليم المسلم فيه، وربما ينقطع ويكون رأس المال تالفًا، فلا يدري إلى ماذا يقع الرجوع، وبهذا القول قال مالك، وأحمد، واختاره أبو إسحاق.
وأصحهما وبه قال المزني: أنَّ المعاينة كافية كما في البيع، واحتمال الفسخ ثابت في البيع كما في السلم، هذا في المثليات".
أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ
(1)
، قَالُوا: وَلَيْسَ يُحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ نَصٌّ، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ الْجُزَافِ، إِلَّا فِيمَا يَعْظُمُ الْغَرَرُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِهِ)
(2)
.
قوله: (وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي السَّلَمِ يَكُونُ بِالْوَزْنِ فِيمَا يكونُ فِيهِ الْوَزْن، وَبِالْكَيْلِ فِيمَا يكونُ فِيهِ الْكَيْل، وَبِالذَّرْعِ فِيمَا يكونُ فِيهِ الذَّرْع، وَبِالْعَدَدِ فِيمَا يكونُ فِيهِ الْعَدَدُ).
لكنْ هل يجوز أن يُوزن ما يُكال، أو يُكال ما يوزن؟ فيه خلاف: فبعض الفقهاء قالوا: ما يكال لا يستعمل فيه إلَّا الكيل، وما يوزن لا يكون فيه إلَّا الوزن. وبعضهم أجاز ذلك؛ لأنَّ الكل يَضبِط القدر، ثم هذه تختلف باختلاف الناس وعاداتهم، فقد تجد هذه البضاعة في بلد تُكال، وفي غيره توزن؛ كالحليب، ولا شكَّ أنَّ العادة محكَّمة في التعامل، فما اصطلح عليه أصحاب الصنعة هو المُعتبر في هذا المَقام، فمثلًا الحلبة تُكال، والسكر يُوزن، هذا اصطُلح عليه، وهكذا
(3)
.
(1)
انظر: "درر الحكام"؛ لمنلا خسرو (2/ 195، 196)، قال فيه:" (وقدر رأس المال في الكيلي والوزني والعددي) يعني يشترط بيان قدر رأس المال، وإن كان مشارًا إليه فيما يتعلق العقد على مقداره كالمكيل والموزون والمعدود (المتقارب) كالجوز والبيض، وقالا: لا يشترط معرفة القدر بعد التعيين بالإشارة".
(2)
انظر: "عيون المسائل"؛ للقاضي عبد الوهاب (ص 422)، وفيه قال:"اختلف في رأس مال السلم، فقال أبو حنيفة: لا يجوز السَّلَم، إِلَّا بعد معرفة مقدار رأس المال في المكيل، والموزون، والمعدود. وقال أبو يوسف، ومحمد: يجوز العقد على ما كان معينًا، وإن لم يعرف قدره، وبه قال الشّافعيّ في أحد قوليه، والآخر مثل قول أبي حنيفة. وقال القاضي أبو الحسن: لا أعرف فيه نصًّا في مذهبنا، غير أنَّ مالكًا يُجوِّز بيع المكيل، والموزون، والمعدود الّذي لا يكثر فيه الخطر جزافًا".
(3)
انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"؛ للقدوري (5/ 2329)، قال فيه:"قال أصحابنا: المكيلات المنصوص عليها: مكيلة أبدًا، لا يجوز بيع بعضها ببعض إلَّا كيلًا، والموزونات المنصوص عليها: موزونة أبدًا، وما لم ينص على تحريم التفاضل فيه كيلًا، ولا وزنًا: فالمرجع فيه إلى عادة الناس". =
قال: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ من هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ انْضَبَطَ بِالصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْجِنْسِ مَعَ ذِكْرِ الْجِنْسِ إِنْ كانَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، أَوْ مَعَ تَرْكِهِ إِنْ كانَ نَوْعًا وَاحِدًا. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ السَّلَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الذِّمَّةِ، وَأَنَهُ لَا يَكُونُ فِي مُعَيَنٍ).
لأنَّ من شرط السَّلَم أن يكون في النَّساء؛ أي: التأجيل، لقول الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ، وفي الحديث. "وليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"؛ فجاء النص على ذلك، فالأجل مطلوب فيه
(1)
.
= وفي مذهب المالكية، انظر:"الجواهر الثمينة"، لابن شاس (2/ 755)، وفيه قال:"يشترط في السلم أن يكون معلوم المقدار بما جرت العادة بتقديره به من الوزن، أو الكيل، أو العدد، أو الزرع، أو غير ذلك من المقادير المعتادة فيه، فليسلم في كيل معلوم، أو وزن معلوم، أو عدد معلوم، أو ذرع معلوم، إلى أجل معلوم. ويكفي العدد في المعدودات، ولا يفتقر إلى الوزن إلَّا أن تتفاوت آحاده تفاوتًا يقضي باختلاف أثمانها، فلا يكفي فيها حينئذٍ مجرد العدد". وانظر: "البيان والتحصيل"(7/ 211).
وفي مذهب الشافعية، انظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (5/ 358)، قال فيه: "وأمَّا القدر فيكون بالوزن إن كان موزونًا، وبالكيل إن كان مكيلًا، والذرع والعدد إن كان مذروعًا أو معدودًا، فلو كان القرض مكيلًا فأقرضه إيَّاه وزنًا جاز، إن لم يكن فيه الرِّبَا، لأنَّه يصرِ به معلومًا به، وإن كان فيه الربا فعلى وجهين؛ أحدهما: لا يجوز خوف الربا كالبيع.
والثاني: يجوز، وبه قال أبو حامد المروذي، لأنَّ القرض عقد إرفاق وتوسعة لا يراعى فيه ما يراعى في عقود المعاوضة، ولو كان القرض موزونًا فأقرضه إيَّاه كيلًا؛ فإن كان ممَّا لا ينحصر بالكيل كالقطن، والكتان، والصفر، والنحاس، لم يجز؛ لأنَّ الجهالة لم تنتف عنه، وإن كان ممَّا ينحصر بالكيل؛ فإن لم يكن فيه الربا جاز، وإن كان فيه الربا فعلى وجهين، ولكن لو أقرضه جزافًا فلم يجز للجهل بقدر ما يستحق الرجوع به".
وفي مذهب الحنابلة، انظر:"الروض المربع"؛ للبهوتي (ص 357)، وفيه قال:" (وإن أسلم في المكيل) كالبر والشيرج (وزنًا أو في الموزون) كالحديد (كيلا لم يصح) السلم؛ لأنَّه قدره بغير ما هو مقدر به، فلم يجز، كما لو أسلم في المذروع وزنًا، ولا يصح في فواكه معدودة؛ كرمان، وسفرجل ولو وزنًا".
(1)
سبقت هذه المسألة.
قوله: (وَأَجَازَ مَالِكٌ السَّلَمَ فِي قَرْيَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً، وَكَأَنَّهُ رَآهَا مِثْلَ الذِّمَةِ)
(1)
.
هذا كلامٌ مُجملٌ، معناه: أنَّ مالكًا قال: يجوز أن يُسلم في شيء معين، كأن يقول: في حائط فلان - كما في قصة اليهودي - التي ذكرناها آنفًا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّانِي: فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَضِيَ فِيَ المُسْلَمِ إِلَيْهِ بَدَلَ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ السَّلَمُ وَمَا يَعْرِضُ فِي ذَلِكَ فِيَ الإِقَالَةِ وَالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْخِير
وَفِي هَذَا البَابِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنْ نَذْكُرُ المَشْهُورَ مِنْهَا. مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّمَرِ، فَلَمَّا حَلَّ الأَجَلُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ حَتَّى عَدِمَ ذَلِكَ المُسَلَمَ فِيهِ، وَخَرَجَ زَمَانُهُ).
وفي كلام المصنف الذي سيذكره ثلاث مسائل:
الأولى: قد يسلم شخص إلى آخر في ثمر مثلًا، فإذا حلَّ وقت التسليم، لا تكون الثمرة حينئذٍ قد بدا صلاحها، أَوْ تعذَّر وجودها، فماذا يفعل المُسلِمُ في هذه الحالة؟
الثانية: إذا تَردَّدَ المُسْلم وأراد الإقالة
(2)
، هل تجوز الإقالة أو لا؟
(1)
انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"؛ للبراذعي (3/ 11)، وفيه قال:"ولا بأس بالسلم في طعام قرية بعينها، أو في ثمرها، أو يغر ذلك من حبها قبل إبَّانه، أو في أي إبَّان شاء، ويشترط أخذه أي إبَّان شاء، إذا كانت مثل مصر، وأشباهها التي لا يخلو منها القمح، والشعير، والقطاني، أو كخيبر، ووادي القرى، أو ذي المروة، ونحوها من القرى العظام المأمونة؛ التي لا ينقطع ثمرها من أيدي الناس".
(2)
"الإقالة": الرد والفسخ، وهي رد المشتري على البائع السلعة، وأخذ الثمن منه. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 146)، و"المطلع على أبواب المقنع " للبعلي (ص 285).
الثالثة: إذا جاء وقت التسليم، فلم يجد المُسلَم فيه، هل يؤجلها إلى العام الذي يليه أو أنه يرد إليه حقَّه؟
وهذه المسائل سنبين كلام العلماء فيها واختلافاتهم.
قوله: (مَسْأَلَةُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّمَرِ، فَلَمَّا حَلَّ الأَجَلُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ حَتَّى عَدِمَ ذَلِكَ المُسَلَمَ فِيهِ، وَخَرَجَ زَمَانُهُ):
وهذه - كما ذكرنا - المسألة الأولى، أنَّ رجلًا أسلم إلى رجل في نخل، فلما جاء وقت خروج الثمر، لم تخرج تلك النخل؛ لأنه ليس كلُّ النخل يخرج كل عام، فهناك ما يخرج كل عام، وهناك ما تمرُّ عليه أعوام لا يكون له ثمرٌ حتى إن بدأ في الثمر قد ينقطع، فإذا جاء وقت التسليم لا يكون الثمر موجودًا، فماذا يفعل المُسلِمُ؟
قوله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ
(1)
: إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ، فَكَانَ المُسْلَمُ بِالخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ أَوْ يَصْبِرَ إِلَى العَامِ القَابِلِ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" للزيلعي (6/ 172) حيث قال: "ولو انقطع عن أيدي الناس بعد المحل قبل أن يوفي المسلم فيه، فرَبُّ السلم بالخيار، إن شاء فسخ العقد وأخذ رأس ماله، وإن شاء انتظر وجوده".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 214)، حيث قال:" (وإن انقطع ما) أي: مسلم فيه (له إبان) أي: وقت معين يأتي فيه، وهذا في السلم الحقيقي (أو من قرية) مأمونة ولو صغيوة قبل قبض شيء منه (خير المشتري في الفسخ)، وأخذ رأس ماله (و) في (الإبقاء) لقابل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (ص 53) حيث قال: "ولو أسلم فيما يعم فانقطع في محله، لم ينفسخ في الأظهر، فيتخير المسلم بين فسخه والصبر حتى يوجد".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 303) حيث قال: " (وإن أسلم إلى محل) أي: وقت (يوجد فيه عامًّا، فانقطع وتعذر حصوله، أو) حصول (بعضه إما لغيبة المسلم إليه) وقت وجوبه (أو) العجزه عن التسليم حتى عدم المسلم فيه أو =
فيرى جمهور الفقهاء أنَّ المُسلِمَ بالخيارِ بين أن يأخُذَ الثَّمن، أو ينتظر إلى العام الذي بعده، فيأخذ المُسلمَ فيه؛ لأنه عندما قدم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث
(1)
، وافقهم، ولم ينكر عليهم ذلك الصنيع والعمل.
قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ القَاسِم
(2)
وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ العَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ).
لأن عقد السَّلَم هو عقد وقع على موصوفٍ في الذمة، فأنت تدفع عوضًا حالًّا في عوضٍ موصوفٍ مؤجلٍ في الذمة، أي: أنك تدفع دراهم أو دنانير على أساس أَن يقدم لك هذا الإنسان ثمرة أو بضاعة من البضائع يخرجها مصنعه، أو بضائع يأتي بها التاجر، فإذا جاء وقت التسليم لا تكون البضاعة موجودة، فالجمهور على أنه لا يمنع تأجيل ذلك إلى العام الذي يليه حتى يكون المُسلمُ فيه حاضرًا موجودًا.
قوله: (وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثِمَارِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيءٌ شَرَطَهُ المُسْلِم، فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِالخِيَارِ).
فإذا اختار المُسْلِمُ أن يأخُذَ السلعة في العام الذي يلي العام الذي تعذَّر فيه وجود السلعة، فهذا جائز، وليس من بيع الدَّيْنِ بالدَّيْنِ
= لم تحمل الثمار تلك السنة وما أشبهه خير) المسلم (بين صبر) إلى أن يوجد المسلم فيه فيأخذه (و) بين (فسخ في الكل) المتعذر (أو البعض المتعذر، ويرجع برأس مال) ".
(1)
أخرجه البخاري (2240)، ومسلم (1604). عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال:"مَنْ أسلف في شيءٍ، ففي كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 340) حيث قال: "قال ابن القاسم: وأنا أرى أنه بالخيار، إن شاء أن يؤخره بما بقي عليه من الفاكهة إلى قابل أخَّره، وإنْ شاء أخذ بقية رأس ماله".
قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ
(1)
مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: يَنْفَسِخُ السَّلَمُ ضَرُورَةً وَلَا يَجُوزُ التَّأخِير، وَكَأَنَّهُ رَآهُ مِنْ بَابِ الكَالِئِ بِالكَالِئِ).
الكالئ
(2)
بالكالئ يعني بيع الدين بالدَّيْن، والجواب هذا غير صحيح؛ لأن هذا تعليل غيرُ مسلَّمٍ به، فلو كان من بيع الكالئ بالكالئ لأنكره الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول قدم المدينة وهم يسلفون في التمار السنتين والثلاثة
(3)
، فما قال لهم: لا تسلفوا إلا في السنة، بل ترك لهم ذلك، وتَرْكُ البيانِ عن وقتِ الحاجة لا يجوز
(4)
، فلو كان ذلك يجوز لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، لتُبيِّن لهم الذي اختلفوا فيه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّهم على ذلك الصنيع، وأبقاهم على العمل، وبيَّن لهم الطريق السوي الذي ينبغي أن يفعلوه، فقال:"من أسلف في شيء، فليسلف في كليل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"
(5)
، فوضع لهم أوصافًا دقيقةً لا بد من الالتزام بها، وأقرهم على المدة التي كانوا عليها، فلو كان ذلك غير جائزٍ لنبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرشد إليه.
قوله: (وَقَالَ سُحْنُونٌ
(6)
: لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الثَّمَنِ، وَإِنَّ مَا لَهُ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى القَابِلِ).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 341) حيث قال: "وقال أشهب: هما مجبوران على الفسخ، ولا يجوز لهما التأخير".
(2)
قال النسفي: "الكالئ بالكالئ أي: النسيئة بالنسيئة". انظر: "طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية"(ص 58).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
لأن وقت الحاجة هو وقت الأداء، فإذا لم يبين تعذر الأداء. قال ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص 185):"ولا خلاف في أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة".
(5)
أخرجه البخاري (2239)، ومسلم (1604).
(6)
يُنظر: "الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 754) حيث قال: "إذا أخّر المسلم إليه =
والحقيقة أنه بالخيار.
وخلاصة القول: أن المسلم دافع الثمن مخير بين أمرين: إما أن ينتظر إلى العام الذي يأتي ويأخذ حقه ثمرة مثلًا أو بضاعةً، وإما ألَّا يريد ذلك، فيدفع إليه المسلم إليه حقه، يرد إليه ماله.
قوله: (وَاضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله فِي هَذَا)
(1)
.
وهذه من مزايا المؤلف، فإنه في مواقفَ كَثِيرةٍ لا يستحي أن ينقد مذهبه إذا رأى أن الحقَّ في غيره، فهو هنا يقول: اضطرب مذهب مالك، ولا شك أنه يرى أن مذهب الجمهور أولى في هذه المسألة، وأقرب أيضًا إلى الحديث؛ لأن الحديث صريح الدلالة بمذهب الجمهور.
قوله: (وَالمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذه المَسْأَلَةِ مَا رَآهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ القَاسِمِ).
أي: ما رآه أبو حنيفة والشافعي وأحمد وابن القاسم.
والمؤلف في هذه المسألة ترك مذهبه الذي نشأ وترعرع فيه، وبدأ في دراسته صغيرًا حتى شب عليه، وأصبح رجلًا سويًّا، فطلب العلم، فصار عالمًا من العلماء الذين يشار إليهم، وواجب كل طالب علم أن يكون مع الحق أينما كان؛ سواء كان هذا الحق في مذهبه الذي درسه وتعلمه، أو كان في غيره؛ لأنه دائمًا ينبغي الرجوع إلى القول الذي يعضده دليلٌ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ، هذا هو الذي ينبغي أن يقف الإنسان عنده، فأن تعض على نواجذك بدليل في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنِعْمَ ما تفعل، لكن
= المسلم فيه حتى انقطع وخرج إبانة، وأعوز وجوده، فالمسلم بالخيار في الفسخ أو الإبقاء إلى عام ثان. وإن قبض البعض ثم انقطع، فقال مالك:((يتبعه إلى عام قابل))، ثم قال:((لا بأس بأخذ بقية رأس ماله))، واختلف أصحابه وأصحابهم، فقال سحنون: يجب التأخير".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 340) حيث قال: "اختلف قول مالك وأصحابه فيمن سلم في فاكهة فانقضى أيامها قبل أن يستوفي ما أسلم فيه منها".
أن يأخذك الهوى أو التعصب أو التعلق بمذهبك فتحيد عن الطريق السوي، فهذا ما لا ينبغي أن يسلكه طالب العلم، فهذه الميزة لم يتغيَّر المؤلف فيها، فهو يسير فيها على نسقٍ واحدٍ، كل ما ظهر له أنه هو الأولى، أشار إليه، وهو ينقد مذهب المالكية أكثر من غيره؛ لأنه غير مدركٍ تمامًا لتفصيلات المذاهب الأخرى، لكنه في مذهبه أعرف.
قوله: (وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ، وَالكَالِئُ بِالكَالِئِ المَنْهِيُّ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ المَقْصُود، لَا الَّذِي يَدْخُلُ اضْطِرَارًا).
لأن بيع السَّلم
(1)
ومثله الإجارة
(2)
والجعالة
(3)
العلماء
(4)
يقولون
(1)
"السلم": السلف، وبيع السلم في الاصطلاح: عقد لموصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد. انظر:"المطلع على أبواب المقنع" للبعلي (ص 293).
(2)
"الإجارة": بكسر الهمزة وفتحها وضمها، مصدر أجره يأجره أجرًا وإجارةً، والأجرُ العوض، وهي في الاصطلاح تمليك المنافع بعوضٍ معلوم. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب"، برهان الدين الخوارزمي (1/ 28).
(3)
وهي أن يجعل مقابلًا لمن يعمل له عملًا كَبناءٍ، أو خياطةٍ، وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال. انظر:"المطلع" للبعلي (ص 281).
(4)
كالحنفية والحنابلة، ينظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 174) حيث قال: "وحاجتهم إلى الإجارة ماسَّة؛ لأن كل واحد لا يكون له دار مملوكة يسكنها أو أرض مملوكة يزرعها أو دابة مملوكة يركبها، وقد لا يمكنه تَملُّكها بالشراء لعدم الثمن، ولا بالهبة والإعارة؛ لأن نفس كل واحد لا تسمح بذلك، فيحتاج إلى الإجارة، فجوزت بخلاف القياس لحاجة الناس كالسلم ونحوه".
وينظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 581) حيث قال: " (وهي) أي: الإجارة (والمساقاة والمزارعة والعرايا والشفعة والكتابة والسلم والجعالة من الرخص المستقر حكمها على خلاف القياس)؛ لما في الشفعة من انتزاع ملك إنسان منه بغير رضاه، ولما في الكتابة من اتحاد المشتري والمبيع، ولما في الباقي من الغرر، فالغرر في الإجارة؛ لكونها عقدًا على منفعة لم تخلق، وفي المساقاة والمزارعة؛ لكون كل منهما العقد فيها على الانتفاع بالعامل بعوض لا يعلم قدره حال العقد؛ لكونه غير موجودٍ، وفي العرايا لكون البيع بالخرص: وهو من الحرز والتخمين؛ فهو مظنة، وفي السلم؛ لكونه لا يعلم أيوجد المسلم فيه بعد انقضاء المدة أو لا؟ وفي الجعالة؛ لكونه لا يعلم أيتمم ما جوعل عليه أو لا".
فيها: إنها جاءت على خلاف القياس، بمعنى أنها مستثناة، وقضية "جاءت على خلاف القياس" فيها كلام لبعض العلماء
(1)
أنها لم تجئ على خلاف القياس؛ لأنه لا يوجد قياس صحيح ينافي دليلًا صحيحًا؛ لأن العقل السليم لا يتعارض مع النص، هذا شيء مضطرب، لكن هل ندرك ذلك أو لا ندركه؟ فبعض العلماء
(2)
يرى أن هذه المسائل أو هذه الكتب (السَّلم والإجارة والجعالة والمضاربة
(3)
إلى غير ذلك)، إنما جاءت على وفق القياس، وليس مخالفةً له.
قوله: (مَسْأَلَة: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي بَيْعِ المُسْلَمِ فِيهِ إِذَا حَانَ الأَجَلُ مِنَ المُسْلَمِ إِلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ).
فلو أن إنسانًا أسلم إلى إنسان، فجاء وقت التسليم والبضاعة موجودة، هل يجوز أن تبيع هذه البضاعة التي عملها لك المصنع - أو أحضرها لك التاجر أو الثمرة التي قطفها صاحبها ووضعها بين يديك أو موجودة وأنت بعد لم تتسلمها - أو لا؟ وقد مرَّ بنا الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يستوفيه"
(4)
، وفي رواية أخرى:"مَن ابتاع (يعني: اشترى) طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه"
(5)
، أي: يأخذه إلى حوزته، فإذا تسلَّمت البضاعة ونقلتها إلى حوزتك، جاز
(1)
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين"(1/ 301): "أما السلم فمن ظن أنه على خلاف القياس، توهم دخوله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك"، فإنه بيع معدوم، والقياس يمنع منه، والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع مضمون في الذمة، موصوف مقدور على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة".
(2)
تقدم.
(3)
المضاربة: معاقدة دفع النقد إلى من يعمل فيه على أن ربحه بينهما على ما شرطا مأخوذ من الضرب في الأرض وهو السير فيها، سُمِّيت بها لأن المضارب يضرب في الأرض غالبًا للتجارة طالبًا للربح في المال الذي دفع إليه. يُنظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 148).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
أخرجه البخاري (3/ 68)، ومسلم (1525).
لك أن تبيعها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع، وقبض ما لم يضمن، وعن بيع ما لم يغنم، وعن ربح ما لم يغنم، وقال:"لا يحل سلف وبيع، ولا أيضًا ربح ما لم يضمن"
(1)
؛ لأنك عندما تبيع هذه السلعة، فأنت ربحت فيها، والضمان لا يزال على البائع؛ لأنها في عهدته، فإذا انتقلت إلى عهدتك وأصبحت الضامن لها فبعها.
فإذا قبض المُسلِم، فهو حر في المُسلَمِ فيه؛ لأنه أصبح ملكه، وله أن يتصرف فيه بأن يبيعه، أو أن يهديه، أو أن يتصدق به، أو أن يعمل به ما يشاء، لكن الكلام إذا لم يتسلَّم البضاعة ولم يقبضها، فهل له أن يبيعها وهي في حوزة المُسْلَم إليه أو لا؟
قوله: (فَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يجِزْ ذَلِكَ أَصْلًا، وَهُمُ القَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبضِهِ).
وقد ذكرهم المصنف رحمه الله وسمَّاهم.
قوله: (وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَإِسْحَاقُ
(3)
، وَتَمَسَّكَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي مَنْعِ هَذَا بِحَدِيثِ عَطِيَّةَ العَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ).
وهذا الحديث رواه أبو داود
(4)
وابن ماجه
(5)
والحاكم
(6)
، ولكن الكلام فيه حول راويه عطية العوفي، وهو مختلف فيه.
(1)
أخرجه أبو داود (3504) والترمذي (1234)، وقال: حسن صحيح، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل" (5/ 146). ولفظة عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: "إلا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 69) حيث قال: "ولا يجوز التصرف في رأس المال، ولا في المسلم فيه قبل قبض".
(3)
ينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 387) حيث قال: "وهو قول أحمد وإسحاق قالا: بيع السلم من بائعه ومن غيره قبل قبضه فاسدة".
(4)
أخرجه أبو داود (3468).
(5)
أخرجه ابن ماجه (2283).
(6)
لم أجده في "المستدرك" للحاكم.
قوله: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ").
بل يبقى فيما أسلم فيه، فإذا تحول لك المُسلَمُ فيه، فأنت حر، ثم لو قلنا: إن هذا الحديث فيه مقال
(1)
، فهناك أحاديث أخرى متفق عليها تقوِّيه، كما في الحديث المتفق عليه:"من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يستوفيه، فلا يبعه حتى يقبضه"
(2)
، ولا شك أن مذهب الجمهور هو الأقوى والأرجح.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ، فَإِنَّهُ مَنَعَ شِرَاءَ المُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِذَا كَانَ المُسْلَمُ فِيهِ طَعَامًا)
(3)
.
فالإمام مالك قيَّد منع شراء المُسْلَم فيه قبل قبضه بموضعين، والجمهور أطلقه في كل الأحوال، هذا هو الفرق.
قوله: (وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِهِ القَبْضُ هُوَ الطَّعَامُ عَلَى مَا جَاءَ عَلَيْهِ النَّصُّ فِي الحَدِيثِ).
ذكرت من قبل حديث: "مَن ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه"، فمالك رحمه الله لم يخالف في ذلك الأمر لوجود النصِّ الصريح، والأئمة إذا
(1)
لأن في إسناده عطية العوفي وقد ضعفوه. قال ابن الملقن في "البدر المنير"(6/ 563): "وعطية هذا هو العوفي وقد ضعفوه". وقال عبد الحق الإشبيلي: عطية العوفي لا يحتج بحديثه، وإن كان قد روى عنه الجلة. انظر:"الأحكام الوسطى"(3/ 278). وقال ابن حجر: وفيه عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف، وأعله أبو حاتم، والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب. انظر:"التلخيص الحبير"(3/ 60).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "الجواهر الثمينة"، لابن شاس (2/ 757) حيث قال:"أما صفته، فإن أتى بغير جنسه فذلك اعتياض، وهو غير جائز في المسلم فيه إلا بثلاث شرائط: أن يكون المسلم فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه".
وقف أحدهم عند نصٍّ فلا يتجاوزه، قال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
وقال أيضًا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
ولا يكفي عدم الحَرج، بل يسلمون لحكمك، وينزلون عنده، وتبقى نفوسهم راضيةً؛ لأنه قد يرضى الإنسان بالحكم مكرهًا، فلا يكون ذلك حتى يسلم به؛ لأن هذا هو حكم الله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
قوله: (وَالثَّانِي: إِذَا لَمْ يَكُنِ المُسْلَمُ فِيهِ طَعَامًا، فَأَخَذَ عِوَضَهُ المُسْلِمُ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِيهِ رَأْسَ مَالِهِ
(1)
، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ المُسْلَمُ فِيهِ عَرَضًا، وَالثَّمَنُ عَرَضًا مُخَالِفًا لَه، فَيَأْخُذُ المُسْلِمُ مِنَ المُسْلَمِ إِلَيْهِ إِذَا حَانَ الأَجَلُ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ العَرَضِ الَّذِي هُوَ الثَّمَن، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا يَدْخُلُهُ إِمَّا سَلَفٌ وَزِيَادَة إِنْ كَانَ العَرَضُ المَأْخُوذُ أكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وَإِمَّا ضَمَانٌ وَسَلَفٌ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ).
يشير المؤلف إلى أنه لا يجوز بيع النَّساء، والسلم من شروطه التأجيل والنَّسَاء، فكل مبيع لا يجوز فيه النَّسَاء، لا يجوز فيه السلم، وبيع العرض بالعرض اختلف فيه العلَماء
(2)
، فمنهم مَنْ عدَّه ربويًّا، قال:
(1)
يُنظر: "الجواهر الثمينة" لابن شاس (2/ 757) حيث قال: "أما صفته: فإن أتى بغير جنسه فذلك اعتياض، وهو غير جائز في المسلم فيه إلا بثلاث شرائط: وأن يكون المقتضي مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال، وأنْ يكون مما يجوز بيعه بالمسلم فيه يدًا بيد".
(2)
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الروض المربع" للبهوتي (ص 304) حيث قال: "والمال =
لا يجوز فيه السلم، ومَنْ لم يعدَّه قال: يجوز .. والمراد أن هذا جرَّ نفعًا، وهذا مما ورد المنع فيه.
قوله: (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ طَعَامًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ طَعَامًا آخَرَ أَكْثَرَ، لَا مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ طَعَامِهِ فِي الجِنْسِ، وَالكَيْلِ، وَالصِّفَةِ فِيمَا حَكَاهُ عَبْدُ الوَهَّابِ
(1)
جَازَ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى العُرُوضِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الطَّعَامِ المُسْلَمِ فِيهِ طَعَامًا مِنْ صِفَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ جَوْدَةً، لِأنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ البَدَلِ في الدَّنَانِيرِ).
فإذا أسلم في شيءٍ، ثم جاء وقت التسليم، فلا يَخْلو أن يكون ما عنده هو نفسه المسلم فيه، أي: الوَصْف ينطبق عليه؛ لأن السلم هو أن تدفع عوضًا حالًّا في عوضٍ مؤجلٍ موصوفٍ في الذمة وأنت لم ترَ الموصوف لك، فإذا جاء وقت التسلم ونظرت إليه: هل الشروط تنطبق
= عين مباحة النفع بلا حاجة (أو منفعة مباحة) مطلقًا (كممر) في دار أو غيرها (بمثل أحدهما) متعلق بمبادلة أي: بمال أو منفعة مباحة، فتناول تسع صور: عين بعين أو دين".
(1)
لم أقف عليه في "التلقين" للقاضي عبد الوهاب، وقال المازري في "شرح التلقين" للقاضي عبد الوهاب (2/ 7):"فاعلم أن السلم إذا كان صحيحًا وحلَّ أجله، وتراضى المتعاقدان أن يتعاوضا من الطعام الذي في الذمة بطعام آخر، وذكرنا الشروط التي تبيح ذلك، فمنها: ألَّا يقعا في هذه المعاوضة في بيع الطعام قبل قبضه، وأن يكون المأخوذ عما في الذمة يجوز أن يسلم فيه رأس المال، فإذا كان السلم في طعام عقد عقدًا فاسدًا، فأراد أن يأخذ عن ذلك الطعام طعامًا، فإن الأصل في هذا أنه لا يعتبر فيه تقدير بيع الطعام قبل قبضه كما اعتبر في السلم الصحيح؛ لأن من أسلم في حنطة سَلمًا فاسدًا يجب فسخه ثم تراضيا بأن يأخذ عن ذلك تمرًا، فإن التمر هاهنا ليس بعوض عن الحنطة، فيتصور فيه بيع الطعام قبل قبضه، لكون الذمة خاليةً من الحنطة لفساد العقد عليها، هاذا كانت خاليةً من الحنطة، فالواجب رد رأس المال كما يحكم في البياعات الفاسدة، فإن التمر المأخوذ هاهنا عن رأس المال الذي هو دنانير ودراهم، وبيع الدنانير والدراهم قبل قبضها بتمر دين".
عليه أو لا؟ إن كانت الشروط التي تمَّ الاتفاق عليها متوفرة في المُسلَمِ فيه، فَحِينَئذٍ يلزَمُ المُسْلِمَ أخْذَه، وإن كانت أقل مما تمَّ الاتفاق عليه وحينئذٍ لا يلزمه أخذه، وإن كانت أَجود مما اتُّفق عليه، فنصَّ العلماء على أنه إنْ كان من نفس النوع يلزمه أخذه، وإنْ كان من نوعٍ آخَر، فله ردُّه.
قوله: (وَالإِحْسَانُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ قَمْحٌ، فَيَأْخُذَ بِمَكِيلَتِهِ شَعِيرًا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَ مَالِكٍ أَلَّا يَتَأَخَّرَ القَبْضُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ).
وهذه الصورة منهيٌّ عنها.
قوله: (وَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ المسلمِ عَيْنًا، وَأَخَذَ المُسْلمُ فِيهِ عَيْنًا مِنْ جِنْسِهِ، جَازَ مَا لَمْ يَكُنْ أكْثَرَ مِنْه، وَلَمْ يَتَّهِمْهُ عَلَى بَيْعِ العَيْنِ بِالعَيْنِ نَسِيئَةً إِذَا كَانَ مِثْلَه، أَوْ أَقَلَّ).
لأنَّهم اشترطوا في المبيع الرِّبويِّ اتحاد الجنس، وأن يكون يدًا بيد، ولذلك كل الأموال الربوية التي يمنع فيها النَّساء لا تصلح أن تكون في السلم؛ لأن من شروط السلم أن يكون مؤجلًا.
قوله: (وَإِنْ أَخَذَ دَرَاهِمَ فِي دَنَانِيرَ، لَمْ يَتَّهِمْهُ عَلَى الصَّرْفِ المُتَأَخِّرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَخَذَ فِيهِ دَنَانِيرَ مِنْ غَيْرِ صِنْفِ الدَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ).
فَإذَا حَلَّ وقت تسليم المُسْلَم إليه المسلَمَ فيه ولم يسلمه، هَلْ له أن يأخذ مقابله؟ وهل له أن ينقله؟ وقد مرَّ بنا ذلك، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم.
قوله: (وَأَمَّا بَيْعُ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ المُسْلَمِ إِلَيْهِ).
يعني: أن يبيع المُسلَمَ فيه إلى شخصٍ آخر غير المُسْلَم إليه، فإذا
باعه إلى المُسْلَم إليه، فبيعه فيه شبهة؛ لأنه ربما أقاله ليبيعه إياه وهكذا، لكن إذا باعه من غيره اختلفت الصورة.
قوله: (فَيَجُوزُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ التَّبَايُعُ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ)
(1)
.
ما لَمْ يكن طعامًا، لأن التبايع بالطعام قد مرَّ، وأعاد المُؤلِّف الحَديثَ عن هذه المسألة مرات، لأنه ورَد فيها الحديث المتفق عليه:"مَن ابتاع طعامًا، فلا يبيعه حتى يستوفيه"
(2)
، والمراد: يقبضه، كما في الرواية الأخرى:"حتى يقبضه"
(3)
.
قوله: (وَأَمَّا الإِقَالَةُ: فَمِنْ شَرْطِهَا عِنْدَ مَالِكٍ أَلَّا يَدْخُلَهَا زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ)
(4)
.
انتقل المؤلف إلى الحديث عن الإقالة، ودخل في شروطها مباشرة، ولعله بنى كلامه على أن الإقالة مرت في مسائل أخرى في البيع، ومرَّ بنا كلام العلماء في الإقالة، وأنهم مجمعون على جوازها في السَّلَم، ولا خلاف بينهم، وَلكن الخلاف فيما مضى في البيع، هل هي فسخٌ أو بيعٌ؟ وقد رجَّحنا هناك - ونكرر ما رجحناه - أن الإقالة فسخ، فإذا جاء المسلِم إلى المسلَم إليه، وقال: أقلني من هذه البيعة ورُدَّ إليَّ السَّلم، فهل له ذلك؟ نقول: الإقالة جائزة، بك جاءت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحثُّ عليها، وتُرغِّب فيها كما سيأتي.
(1)
يُنظر: "التفريع" لابن الجلاب (ص 86) حيث قال: "ومن أسلم في عرض ثمنًا معلومًا، فلا بأس أن يبيعه من بائعه قبل قبضه بمثل ثمنه أو أقل منه. ولا يجوز أن يبيعه بأكثر من الثمن الذي أسلمه إليه فيه، ولا بأس أن يبيعه من غير بائعه بمثل ثمنه أو أقل منه أو أكثر يدًا بيد، ولا يجوز أن يؤخر ثمنه".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجها.
(4)
تقدم في مسألة بيوع الآجال.
قوله: (فَإِنْ دَخَلَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَان كَانَ بَيْعًا مِنَ البُيُوعِ، وَدَخَلَهَا مَا يَدْخُلُ البُيُوعَ).
علمنا أن الإقالة مجمعٌ عليها
(1)
، وينبغي أن يستجيب المسلَم إليه للمسلِم في موضوع السلم، فيقبل إقالته، كما سيأتي في الأحاديث ثواب ذلك، لكن هذا الأمر يطبق فيه ما يطبق في البيوع من الشروط التي مرت بنا؛ كأَنْ تكون هذه المعاملةُ خَاليةً من الربا؛ لأنه قد تكون الخشية من ذلك أن يقيله حتى يُسْلمه الدراهم، أو حتى يساعده في أمرٍ آخر كما مر بنا النهي عن بيعٍ وسلفٍ أيضًا، واختلاف العلماء في بيعٍ وصرفٍ، وبيعٍ وشركةٍ، وبيعٍ وإجَارةٍ، فبعضها أجَازَها العلماء
(2)
، وبعضهَا أجمعوا على تحريمها كبيع وسلف
(3)
لورود النص فيه.
قوله: (أَعْنِي: أَنَّهَا تَفْسدُ عِنْدَهُ بِمَا يُفْسِدُ بُيُوعَ الآجَالِ
(4)
مِثْلُ أَنْ يَتَذَرَّعَ إِلَى بَيْعٍ وَسلَفٍ).
وهو نص عليه كأن يقول: أنا أقيلك لكن على أن تسلفني ثمن المسلم أو يقول له: بعد ذلك أعطيك كذا على كذا،
(1)
قال ابن القطان: وأجمع أهل العلم أن الإقالة في جميع ما أسلم المرء فيه جائزة.
انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 240).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (6/ 140) حيث قال: "قال مالك: لا يجوز مع البيع جعل ولا صرف أو مساقاة أو شركة أو نكاح أو قراض".
مذهب الشافعية، ينظر:"روضة الطالبين" للنووي (3/ 400) حيث قال: "ولو اشترى زرعًا، وشرط على بائعه أن يحصده، بطل البيع على المذهب. وقيل: فيه قولان؛ لأنه جمع بين بيع وإجارة".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (/ 17) حيث قال: " (و) يصح بيع وإجارة (بصبرة) مشاهدة من بُرٍّ أو ذهب أو فضة ونحوها، ولو لم يعلما عددها، ولا وزنها ولا كيلها".
(3)
قال ابن المنذر في "الإقناع"(1/ 406): "واتفقوا على أنه لا يجوز بيع وسلف، وهو أن يبيع الرجل السلعة على أن يسلفه سلفًا أو يقرضه قرضًا".
(4)
تقدم في مسألة بيوع الآجال.
قوله: (أَوْ إِلَى: ضَعْ وَتَعَجَّلْ)
(1)
.
وقَدْ مرت بنا هذه المسألة
(2)
، وَزِدْ عليها الصورة التي كان يتعامل بها أهل الجاهلية، وهي أن أحدهم كان يقرض الآخر قرضًا، ثم إذا حل وقت الأجل يقول الدائن للمدين: أتقضي الدين أم تربي؟ يعني: أزيد عليك المبلغ على أن أؤجل لك في القيمة، فإن "ضَعْ وتعجل" تقابل "زد وأخر"، وسبق أن تكلمنا في هذه المسألة، وفصلنا القول فيها، ورجحنا أن ذلك يجوز عند الحاجة.
ومعنى "ضع وتعجل": أن يكون لإنسان حق في ذمة آخر، فيأتي المدين فيقول: ضع عني بعض المبلغ وأعجل لك دفعه .. وقد عرفنا دليله فيما مضى في قصة بني النضير عندما جاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمر بإجلائهم خلال ثلاثة أيام، شكوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حالَهم، أن لهم ديونًا عند الناس لم تحلَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ضعوا وتعجلوا"
(3)
.
قوله: (أَوْ إِلَى بَيْعِ السَّلَمِ بِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ).
وقد تكلمنا عن السلم وشروطه، وأنه لا يجوز كما لو كان ربويًّا بربويٍّ.
قوله: (مِثَالُ ذَلِكَ: فِي دُخُولِ بَيْعٍ وَسَلَفٍ بِهِ).
وهذا كرره المؤلف كما قلنا؛ لأنه ورد فيه نصٌّ، جاء الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا شرطان في بيع، ولا تبع ما ليس عندك"
(4)
.
(1)
تقدم في مسألة: "ضع وتعجل".
(2)
تقدم في مسألة: "ضع وتعجل".
(3)
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(817)، قال البيهقي في "السنن الكبرى" (11467): "وقد روي فيه حديث مسند في إسناده ضعف
…
وذكر الحديث"، وقد تقدم.
(4)
تقدم تخريجه.
قَوْله: (إِذَا حَلَّ الأَجَلُ، فَأَقَالَهُ عَلَى أَنْ أَخَذَ البَعْضَ، وَأَقَالَ مِنَ البَعْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ
(1)
، فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ التَّذَرُّعُ إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ).
لأن الإقالَة تدخلها حينئذٍ شبهة البيع والسلف.
قوله: (وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(2)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(3)
؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِتَحْرِيمِ بُيُوعِ الذَّرَائِعِ
(4)
).
فهذا ممنوعٌ عند مالك وأحمد في رواية
(5)
، وجائز عند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية أخرى
(6)
، ولا شك أن الذين منعوا ذلك كان قصدهم الحيطة، وتطهير النفوس، وإبعادها عن أي شبهة تدور حول الربا، لكن الإمام أحمد رحمه الله
(7)
له وجهة أخرى في هذا المقام؛ لأنه هنا فيه
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 154) حيث قال: "وإذا كانت في سلم، وجب فيه تعجيل رأس مال السلم؛ لئلا يؤدي لفسخ دين في دين بخلاف تأخيره في غير الاقالة، فيجوز ثلاثة أيام كما يأتي، ومفهوم من الجميع المنع من الإقالة على البعض وأخذ البعض".
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 496) حيث قال: "وتجوز الإقالة في بعض المسلم فيه، لكن لو أقاله في البعض ليعجل الباقي، أو عجل المسلم إليه البعض ليقيله في الباقي، فهي فاسدة".
(3)
يُنظر: "درر الحكام في شرح مجلة الأحكام" لعلي حيدر (1/ 358) حيث قال: "وتجوز الإقالة في بعض المسلم فيه المعين على كل حال".
(4)
تقدم في مسألة بيوع الذرائع.
(5)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 228) حيث قال: "فأما الإقالة في بعض المسلم فيه، فاختلف عن أحمد فيها فروي عنه أنها لا تجوز".
(6)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 308) حيث قال: " (و) تصح الإقالة أيضًا (في بعضه)، أي: بعض المسلم فيه؛ لأن الإقالة مندوب إليها، وكل مندوب إليه جاز في الجميع، جاز في البعض كالإبراء والإنظار (ولا يشترط فيه)، أي: في التقايل (قبض رأس مال السلم) في مجلس الإقالة؛ لأنها ليست بيعًا (ولا) قبض (عوضه) أي: عوض رأس مال السلم".
(7)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 308) حيث قال: " (و) تصح الإقالة أيضًا (في =
شبهة، ومالك رحمه الله انفرد بمنع بيوع الذرائع؛ كل بيع، وهو يمنع هذه الذريعة
(1)
، وقد تكون ظاهرةً أو غير ظَاهِرَةٍ.
* قوله: (مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الشِّرَاءِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ مِنَ المُسْلَمِ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ الإِقَالَةِ بِمَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ الإِقَالَةِ، فَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ أَصْلًا، وَرَأَى أَنَّ الإِقَالَةَ ذَرِيعَةٌ إِلَى أَنْ يُجَوِّزَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَجُوز، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(2)
، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
(3)
).
عندما يستجيب المُسْلَم إليه لطلب المُسْلِم، هل له أن يشتري منه شيئًا آخَرَ أو لَا؟ فمن العلماء مَنْ مَنعَه، وهم أبو حنيفة ومالك وأحمد
(4)
أيضًا؛ خشية أن تكون الإقالَةُ لهدْا القَصد والغَرض.
* قوله: (إِلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ عَلَى الإِطْلَاقِ)
(5)
.
= بعضه) أي: بعض المسلم فيه؛ لأن الإقالة مندوب إليها، وكل مندوب إليه جاز في الجميع، جاز في البعض كالإبراء والإنظار (ولا يشترط فيه)، أي: في التقايل (قبض رأس مال السلم) في مجلس الإقالة؛ لأنها ليست بيعًا، (ولا) قبض (عوضه) أي: عوض رأس مال السلم".
(1)
تقدم في مسألة بيوع الذرائع.
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (4/ 119) حيث قال: " (فإن تقايلا السلم لم يشتر) رب المال (من المسلم إليه برأس المال شيئًا) يعني قبل قبضه بحكم الإقالة".
(3)
يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 80) حيث قال: "لكن شرط أهل المذهب لجواز الإقالة من طعام المعاوضة قبل قبضه أن تقع من جميعه، وأما لو وقعت الإقالة من بعضه، فلا تجوز إلا إذا كان رأس المال عرضًا يعرف بعينه مطلقًا أو كان عينيًّا، أو طعامًا لم يقبض أو قبض ولم يغب عليه أو غاب غيبة لم يمكن الانتفاع به فيها، وأما لو غاب به غيبة يمكنه الانتفاع به فيها، لم تجز من البعض، والطعام وغيره في ذلك سواء".
(4)
انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 96) حيث قال: " (ولا) يصح (اعتياض عنه) أي: المسلم فيه (ولا) يصح (بيعه أو) بيع (رأس ماله) الموجود (بعد فسخ) عقد (وقبل قبض) رأس ماله".
(5)
يُنظر: "درر الحكام" لعلي حيدر (1/ 325) حيث قال: "فلو بيع المسلم فيه، أو رأس مال السلم قبل القبض، وابتيع شيء من إنسان بدين على آخر لم يستوف بعد فليس بصحيحين".
وَكَذلك أحمد
(1)
.
قوله: (إِذْ كَانَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ المُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ القَبْضِ عَلَى الإِطْلَاقِ).
وقد مرَّ بنا ذلك، وأن الأئمة الثلاثة يشددون في ذلك الأمر، عَملًا بالحديث:"مَن ابتاع طعامًا، فلَا يبيعه حتى يقبض"
(2)
.
قوله: (وَمَالِكٌ يَمْنَعُ ذَلِكَ فِي المَوَاضِعِ الَّتِي يُمْنَعُ بَيْعُ المُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ القَبْضِ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِهِ
(3)
، وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ أَجَازَه، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ
(4)
، وَالثَّوْرِيُّ
(5)
).
فالشَّافعيَّة والثوري جوزوا أن يشتري المُسلِم من المُسلَم إليه برأس مال السَّلم.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 306) حيث قال: "ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه"، قال في "المغني" و"المبدع":"بغير خلاف نعلمه".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم.
(4)
يُنظر: "تكملة المجموع" للمطيعي (13/ 161) حيث قال: "وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو لانفساخ، سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيًا أخذه، وإن كان تالفًا رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وإن أراد أن يسلم في شيءٍ آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبضه كما قلنا في البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضًا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضًا".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 387) حيث قال: "وقال الشافعي والثوري وزفر لا بأس أن يشتري السلم إذا أقال من سلمه ما شاء برأس ماله من المسلم إليه ومن غيره قبل قبضه".
قوله: (وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ بِالإِقَالَةِ قَدْ مَلَكَ رَأْسَ مَالِهِ، فَإِذَا مَلَكَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا أَحَبَّ).
يعني: كلا القولين له وجهة نظر، الذين منعوا خشوا أن يكون ذلك ذريعةً إلى البيع أو السلف، والذين أجازوا قالوا: هذا ما لو رجع إليه فهو حرٌّ فيه، له أن يشتري من هذا ومن غيره، لا إشكال في هذا.
وَقَصْدُ العلماء رحمهم الله الذين يشددون في هذا المقام هو أن يتقي الإنسان الشُّبُهات كما جاء في الحديث: "إن الحلال بَيِّن، وإن الحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات - أو مشبهات - لا يعلمها كثيرٌ من لناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعِرْضِهِ، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام"
(1)
.
وفي مثل هذه المسائل لا يُلَام من يقول بأي القولين؛ لأنه ليس هناك نصٌّ صريحٌ صحيحٌ في هذه المسألة، فهي مسألة اجتهاديةٌ، ولذلك تختلف وجهات نظر العلماء فيها.
* قوله: (وَالظَّنُّ الرَّدِيءُ بِالمُسْلِمِينَ غَيْرُ جَائِزٍ).
هذا تعليلٌ لمَنْ أجاز من العلماء، وأنه ينبغي أن نحسن الظن بالمسلم، وألا نسيء الظن به، وأن نحمل المسلمين على السلامة، هذا هو الأصل، ونحن نقول كذلك، لكن أحيانًا تكون شبهة، فالعلماء يريدون أن يتجنبوها، وما أكثرَ ضعفاء النفوس! وفي القرون المُفضَّلة التي هي خيرٌ منا - مَنْ وقع في مثل ذلك ونحوه -، فمَا بالك في هذه القرون المتأخرة التي أصبح كثيرٌ من الناس يتكالبون على الأموال كما جاء في الحديث:"سيأتي على الناس زمان مَنْ لم يأكل الربا يناله من غباره"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2278)، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "ضعيف الجامع"(ص 702).
قوله: (وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ فِيهِ قَبْلَ الإِقَالَةِ).
وقد مرَّ بنا في السَّلم: "من أسلم في شيء، فلا يصرفه في غيره"
(1)
، وهذا الحديث تكلمنا عنه، وبَينَّا أن في سنده مقالة.
قوله: (مَسْأَلَة: اخْتَلَفُوا إِذَا نَدِمَ المُبْتَاعُ فِي السَّلَمِ، فَقَالَ لِلْبَائِعِ: أَقِلْنِي وَأَنْظِرْكَ بِالثَّمَنِ الذي دفعتُ إلَيْكَ).
وقد جاء المؤلف إلى موضع الإرفاق
(2)
، فلو أنَّ إنسانًا أسلم في شيء، ثم تطرق إليه الندم وتأسف، وتمنى أن لم يكن قد اشترى هذا الشيء، فجاء إلى المُسْلَم إليه، فقال: أريدك أن تقيلني من هذه البيعة، وأن تسامحني فيها، وأن تعفيني منها، فهذه الإقالة مرغب فيها، وحضَّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بَيَّن "أنَّ مَنْ أقال مسلمًا"
(3)
- وفي بعض الروايات: "مَنْ أقال نادمًا في بيعته"
(4)
، وفي روايةٍ:"في صفقته" - "أقال له الله عسرته يوم القيامة"
(5)
، لكن هنا يريد أن يقيله على أن يُنْظره في المبلغ، فإنْ كان قَصْده بالإنذار بالمبلغ أنه يعلم أن المُسْلَم إليه لا يملكه، وأنَّ في مطالبته به تضييقًا عليه، فهذا ليس محل شبهةٍ، أما إن كان هناك قصد آخر، أو فَعلَ ذلك ليتوصل إلى الإقالة وربما إلى غرض آخر، فهذا هو الذي ذهب بعض العلماء لمنعِهِ.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ: ذَلِكَ لَا يَجُوزُ
(6)
، وَقَالَ قَوْمٌ:
(1)
تقدم تخريجه والكلام عليه.
(2)
الرفق: اللين ولطافة الفعل، يقال: رفق الله بك ورفق عليك رفقًا ومرفقًا وأرفقك الله إرفاقًا. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 118).
(3)
أخرجه أبو داود (3460) وَصحَّحه الأَلْبَاني في "المشكاة"(2881).
(4)
أخرجه ابن حبان (11/ 404)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(5)
لم أقف عليها.
(6)
يُنظر: "موطأ مالك"(2/ 644) حيث قال: "فإن ندم المشتري، فقال للبائع: أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك، فإن ذلك لا يصلح، وأهل العلم ينهون عنه".
يَجُوزُ
(1)
، وَاعْتَلَّ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ المُشْتَرِي لَمَّا حَلَّ لَهُ الطَّعَامُ عَلَى البَائِعِ، أَخَّرَهُ عَنْهُ عَلَى أَنْ يُقِيلَهُ).
وَعلَّة مالكٍ رحمه الله ونحن نقول هذه المسألة لها دليل وتعليل، فالدليل ما كان من كتاب أو سُنَّة، وأحيانًا يكون الدليل علة
(2)
، فمَا هو التعليل؟ أوْ ما هي العلة التي جعلت مالكًا يمنع ذلك، وهي أيضًا رواية لأحمد؟
(3)
.
قَوْله: (فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى).
أيْ: قبل أن يقبض، وهذه شبهةٌ، وتعلمون أنه في المذهب المالكي تتكرر الشُّبهة، وهي أيضًا قد تكون ذريعةً، فعندما نقول: هذه شبهة، فهل هذا مرادنا أو لا؟ إن كان طَلَبَ الإقالةَ دون أن يريد أن يؤخر عليه المبلغ، فهذا جائز، لكنه راعى أن حاله لا يتحمل أن يدفع له المبلغ، وربما صرفه في أمور، فأنظره، فهذا شيء طيب ومطلوب، لكن إن كانت هناك شبهة، فهي التي دفعت أو دعت بعضَ العلماء إلى منع ذلك.
قوله: (وَقَوْمٌ اعْتَلُّوا لِمَنْعِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ فَسْخِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ)
(4)
.
(1)
لم أقف على من أجاز ذلك الفرع أو ذكره.
(2)
قال ابن قدامة في "روضة الناظر"(ص 319): "الركن الرابع: العلة، ومعنى العلة الشرعية العلامة، ويجوز أن تكون حكمًا شرعيًّا كقولنا: يحرم بيع الخمر، فلا يصح بيعه كالميتة".
(3)
لم أقف عليها.
(4)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (8/ 384) حيث قال: "لأنَّ الإقالة يدخلها فسخ الدين بالدين من أجل أن الثمن قد وجب للبائع على المبتاع إن كانت السلعة سليمة يوم البيع، فإذا أقاله منها فقد قبض البائع فيما وجب له على المبتاع من الثمن سلعة غائبة لم يتنجز قبضها، وهذا بيِّن لا إشكال فيه على القول بأن السلعة الغائبة".
أيضًا رَأوه من باب فسخ الدين بالدَّيْن، فيقول له: أؤجِّله عليك فيكون دَينًا بدَيْن، وقد نهي عن بيع الدَّين بالدَّين.
قوله: (وَالَّذِينَ رَأَوْهُ جَائِزًا، رَأَوْا أَنَّهُ بَابُ المَعْرُوفِ وَالإِحْسَانِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ).
ولا شك أن الأصلَ في الإقالة إذا لم يكن وراءها هدفٌ ممنوعٌ أو قصدٌ غير حسنٍ أنها مما جاء الترغيب فيه؛ لأنَّ فيها تخفيفًا للمسلم، وإعانةً له؛ لأنه كما يعلم كل واحد منا قد يشتري الإنسان سلعة ربما يأخذه رونقُها وظاهرُها ولَمعانُها، فيندفع إلى تلك السلعة، فيندم على شرائها، وربما يسلم في أمر، فيتبين له أن الأَوْلَى ألا يفعل، فيندم، فيأتي إلى أخيه المسلم فيقول له: أقلني، فينبغي حينئذٍ أن يستجيب له ما لم يكن وراءه غرض غير محمود.
قوله: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا صَفْقَتَه، أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
(1)
، وَمَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ"
(2)
).
هذان حديثان: "من أقال مسلمًا، أقاله الله يوم القيامة"
(3)
هذا حديث، وجاء بروايات كثيرة:"من أقال نادمًا في بيعته"
(4)
، وفي رواية:"مَنْ أقال نادمًا في صفقته"، كما أورده المؤلف "
…
أقاله الله عثرته يوم القيامة"
(5)
، وما أعظم ذلك! فكل واحد منا يتمنى أن يقيل الله سبحانه وتعالى عثرته، وأن يعفو عن زلاته، وأن يتجاوز عن سيئاته وخطاياه، لا شك أن كل مسلمٍ يسعى ويبذل ذوب قلبه ليكون من أولئك الذين يعفو الله سبحانه وتعالى
(1)
ليس في روايات الحديث لفظ: "صفقته"، وسيأتي تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2301).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه، وهو باقي حديث: "مَنْ أقال مسلمًا
…
".
عنهم في ذلكم المقام العظيم، ويتجاوز عن سيئاتهم، وعن هفواتهم، فهذا سببٌ من الأسباب التي تجعل الله سبحانه وتعالى يرفع عثرتك يوم القيامة، ويتجاوز عنها، لماذا؟ لأنك خففتَ وأرفقتَ عن عَبْدٍ من عباد الله؛ وَيسَّرت عليه، ورفعت كربةً من كُرَب الدنيا عنه، فالله تعالى سيرفع عنك كربةً من كرب يوم القيامة، وهذا لا شك حديث صحيح أخرجه أبو داود
(1)
وابن ماجه
(2)
وغيرهما، وهذا فيه حضٌّ على الإقالة:"مَنْ أقال عثرة مسلم، أقاله الله عثرته يوم القيامة"
(3)
، "من أقال نادمًا"
(4)
، وفي رواية:"في بيعته"
(5)
، فالألفاظ متقاربة، لكن المعنى واحد، والقصد هو التجاوز عن المسلم.
وأما الحديث الآخر، فهو في "صحيح مسلم" وغيره:"ومَنْ أنظر معسرًا"
(6)
والمؤلف أسقط جزءًا مهمًّا منه أو وضع عنه: "أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، ولا شك أن كل إنسان يتمنى أن يكون في ظل الله، في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولذلك جاء ذِكرُ السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فبدأ الحديث:"إمام عادل"
(7)
، ولا شكَّ أن الإمام إذا ولَّاه الله تعالى أمرَ المسلمين، إنما يكون على القمة، فله أن يُغيِّر ويُبدِّل في المكان الذي وصل فيه، فمَا أعظمَ أن يكون هذا الإمام عادلًا! أولهم إمام عادل، ولذلك يقول
(1)
أخرجه أبو داود (3460).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2199).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
أخرجه مسلم (3006).
(7)
أخرجه البخاري (6806)، عَنْ أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق في المسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، قال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
الرسول صلى الله عليه وسلم: "المقسطون على منابرَ من نور يوم القيامة"
(1)
، فالعدل مطلوب، والله سبحانه وتعالى أمر به حتى مع العدو، قال تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]، فإذا كان الإمام في موضع القمة، وعدل بين الناس، ويأتي في مقدمة ذلك أن يُحَكِّم شرع الله بينهم، فما أعظم ذلك!
لا شك أن المسلمين بحاجةٍ في جميع أقطارهم - وليس في قطرٍ واحدٍ - أن يتحاكموا إلى شريعة الله لتعود لهم العزة والمكنة والمجد، ليعودوا سادةً وقادةً كما كانوا "إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله"
(2)
، ما أجمل أن ينمو الصغير وأن يترعرع، فينشأ في طاعة الله سبحانه وتعالى! ولذلك جاء في الحديث الصحيح:"يعجب ربك من الشاب ليست له صبوةٌ"
(3)
، لم يمل إلى المعاصي، لم ينحرف، لم يخرج عن الطريق السليم، ونحن حتى في زماننا هذا نرى كثيرًا من الشباب الذين في أوائل عمرهم تجد أنهم يترددون على المساجد، تجد أنهم يحفظون ألسنتهم وفروجهم، يحفظون ألسنتهم عن القول المشين، فَلَا يتكلَّمون إلا بذكر الله، وما ينفعهم، ولا يقول أحدهم إلا خيرًا، ويحفظون فروجهم عن المعاصي، فهم أهلٌ لأن يظلهم الله سبحانه وتعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وَأيضًا "ورجل قلبه معلق بالمساجد"
(4)
، هذه الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمرٌ، أسرع إلى الصلاة، الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي
(1)
أخرجه أحمد في "المسند"(6492) وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد في "المسند"(17371)، وقال الأرناؤوط: حسن لغيره.
(4)
تقدم تخريجه.
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 77، 78].
هؤلاء هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36، 37] خشية الله هي التي دفعتهم إلى هذا.
كذلك أيضًا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا على ذلك، وافترقا عليه"
(1)
، ما كانت محبة أحدهما للآخر لأجل غرض من أغراض الدنيا، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أحب في الله، وأبغض في الله، وعادى في الله"
(2)
، فإنما تُنَال ولاية الله بذلك و {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} ، هذه هي الصداقة، هي الخلة التي تدوم، وسيجد الإنسان نتائجها يوم القيامة، فما أجمل أن يتحابَّ إنسان في طاعة الله سبحانه وتعالى! ولعظم هذا العمل يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ومن هؤلاء أيضًا "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين"
(3)
، وتعلمون أيضًا أن من الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة
(4)
: رجلًا أرَاد أن يهمَّ بالجريمة فتذكر، فلما خوف بالله سبحانه وتعالى
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود (4681) ولفظه:، (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان"، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة" (380).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
أخرجه البخاري (2215)، ولفظه: "خرج ثلاثة نفرٍ يَمْشون، فأَصَابهم المطر، فدخلوا في غارٍ في جبلٍ، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعضٍ: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه، فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآي به أبوي فيشربان، ثم أسقي =
خاف، فكان ذلك سببًا من أسباب ارتفاع تلك الصخرة، وكلهم دعا كما هو معلوم في ذلك الحديث، فما أعظم أن يكون الإنسان عفيفًا متجنبًا للمحرمات، مقبلًا على طاعة الله سبحانه وتعالى، إن كان كذلك فإنه - بلا شك - أهلٌ أيضًا لأنْ يظله الله سبحانه وتعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ومن بين أولئك "رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه"
(1)
عندما تكون في مكان خاليًا، فتتذكر الله سبحانه وتعالى، فتسيل الدموع على وَجْنتيك، تسيل على خديك، مَا سالت هذه الدموع وأنت ترى أناسًا أمامك تجاملهم أو ربما ترائيهم، لكن ذلك حصل وأنت خَالٍ، ففاضت عيناك، ولذلك جاء في الحديث الصحيح:"عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"
(2)
، فإذا بكى الإنسان في خلوته خوفًا من الله سبحانه وتعالى، وخشيةً لله سبحانه وتعالى، يخشى عذاب الله، ويرجو رحمته وعفوه، فلا شك أنه يكون من أولئك الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
= الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجةً نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم. وقال الآخر: اللهم إنْ كنت تعلم أني كنت أحب امرأةً من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينارٍ، فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدتُ بين رجليها قالت: اتق الله، ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجةً، قال: ففرج عنهم الثلثين. وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرًا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذاك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرًا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله، أعطني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك، ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا، فكشف عنهم".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي (1639)، وقال: حسن غريب، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(3829).
وآخر هؤلاء السبعة "ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"
(1)
، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 133، 134].
وَفي هذا الحديث أيضًا ممن يظله الله سبحانه وتعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل أنظر معسرًا، أو وضع عنه ما له عليه من دَيْن، وأنت تجد بعض الناس يملك المال وعليه حقوق للآخرين، لكنه يماطل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مطل الغني ظلم"
(2)
، وآخر لا يملك شيئًا، فتجد أن الدائن يُضيِّق عليه المسالك، يتردد على بيته، يحاصره، يضايقه، ويضايق أولاده، وربما تجد أنه يتعفَّف عن السؤال؛ لأنه لا يجد لقمةَ العيش، أليس مثل هذا بحَاجَةٍ إلى أن ينظره التاجر الذي وهبه الله سبحانه وتعالى هذا المال، وزاده فيه بسطةً؟ أليس الذي أعطاك هذا المال قادرًا على أن يسلبه فيغنيه ويفقرك كما رأيتم في أولئك الذين سَأَلَ كل واحدٍ منهم اللهَ تعالى أن يعطيه مالًا، فأعطى كل واحدٍ منهم قطيعًا .. فعلى المسلم أن يراعي هذا.
وما أجمل أن يُنْظر الدائنُ المدينَ المعسر وينتظره، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وفوق ذلك وأعظم منه أن يضع عنه الدَّين، لماذا؟ لأنه يريد بذلك وجهَ الله تعالى والدارَ الآخرة، فمَنْ يُخفِّف عن المؤمنين كُرْبتهم، ومَنْ يساعد المدين في دَيْنه، فيؤجل عنه، ولا يضيق عليه، أو يضع عنه ذلك الدَّين، ويبتغي بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، فالله لا يضيع أجره، كما قال تعالى:{إِلَّا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564) وتتمته:" .. وإذا أتبع أحدكم على مليءٍ فليتبع".
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97] يحييهم الله تعالى في هذه الحياة الدنيا حياةً طيبةً، فيها السعادة والفلاح، وفيها راحة النفس وطُمَأنينة القلب، أما في الآخرة فإن الله سبحانه وتعالى يدخلهم جنةً عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين.
قوله: (مَسْأَلَة: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ
(1)
عَلَى أَنَّهُ إذا كانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ إِلَى أَجَلٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ عِنْدَ الأَجَلِ وَبَعْدَهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَخْذُهَا).
فإذا كان لإنسانٍ على إنسانٍ دراهم أو دنانير، ومنها المسلم فيه، فما حكم ذلك؟
هذَا يدخل في حَالٍ من أحوال ثلاثة: إما أن يردها إليه في وقتها، وحينئذٍ يلزمه أخذها، وإما أن يردها إليه قبل وقتها، وهذا في ظاهره عمل طيب، ولكنه لا يخلو من أمور: إن كان الذي يرده إليه قبل وقته لا يؤثر عليه كأن يعطيه المسلم فيه، ويكون حديدًا أو خشبًا أو نحاسًا، وغير ذلك مما لا يفسد ولا يتأثر، فعليه أن يقبله شريطة ألا يتضرر بذلك، أما إن كان ما يأتي به قبل وقته مما فيه نضارة، أي: مما يمكن أن يتطرق إليه الفساد كالفاكهة، أو يخشى هلاكه كأن يكون حيوانًا، والمُسلِمُ لم يحتج إليه بعد، ولكنه يحتاج إليه في وقت قادم، فإذا جاء به إليه قبل وقته خشي هلاكه، وقد يتحمل الإنفاق عليه أيضًا وهو لا يحتاجه، فحينئذٍ لا يلزمه أَخْذه، وبعض العلماء يجيز ذلك، وبعضهم لا يرى ذلك.
(1)
يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (6/ 757) حيث قال: "الدين إذا كان مؤجلًا، فقضاه المديون قبل حلول الأجل، يُجْبر الدائن على القبول".
وينظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 541) حيث قال: "وكذا مَنْ عليه دين من عين، جاز أن يعجله قبل أجله، ويلزم مَنْ هو له قبضه".
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي العُرُوضِ المُؤَجَّلَةِ مِنَ السَّلَمِ وَغَيْرِهِ: فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
وَالجُمْهُورُ: إِنْ أَتَى بِهَا قَبْلَ مَحِلِّ الأجَلِ لَمْ يَلْزَم أَخْذُهَا
(2)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّر، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ النضَارَة، لَزِمَهُ أَخْذُهُ).
النضارة
(4)
: أن تجد للشيء - كالفاكهة مثلًا - لمعانًا وحيويَّةً، فتشتاق
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" للدردير (3/ 219) حيث قال: "وجاز للمسلم قبول الموصوف بصفة المسلم فيه كان طعامًا أو غيره قبل حلول أجله أي: وفي محله (قوله: بلا جبر) أي: لأن الأجل في السلم حق لكل منهما ما لم يكن المسلم فيه نقدًا وإلا أجبر المسلم على قبوله قبل الأجل؛ لأنَّ الأجل حِينَئذٍ حقٌّ لمن عليه الدَّين".
وينظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 541) حيث قال: "وكذا مَنْ عليه دينٌ من عين جاز أن يعجله قبل أجله، ويلزم من هو له قبضه".
(2)
يأتي رأي الشافعية والحنابلة، ولم أجده عن الحنفية.
(3)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 54) حيث قال: "من الرطب والعنب ونحوهما (أو كان) المسلم فيه (قديمه دون حديثه كالحبوب أو كان) المسلم فيه (حيوانًا، أو ما يحتاج في حفظه إلى مؤنة كالقطن ونحوه، أو كان الوقت مخوفًا فيخشى) المسلم على ما يقبضه (لم يلزم المسلم قبوله)، أي: قبول السلم قبل محله لما عليه من الضرر فيه (وإن لم يكن في قبضه)، أي: المسلم فيه (ضرر ولا يتغير)، أي: يختلف قديمه وحديثه (كالحديد والرصاص والزيت والعسل ونحوها، لزمه قبضه)؛ لأن الغرضَ حاصلٌ، مع زيادة تعجيل المنفعة، فجرى مجرى زيادة الصفة"، وهو مذهب الحنابلة. يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 301) حيث قال: " (وإن أحضره)، أي: المسلم فيه (قبل محله فإنْ كان فيه) أي: في قبضه (ضرر)؛ لكونه أي: المسلم فيه (مما يتغير كالفاكهة التي يصح السلم فيها) من الرطب والعنب ونحوهما (أو كان) المسلم فيه (قديمه دون حديثه كالحبوب أو كان) المسلم فيه (حيوانًا، أو ما يحتاج في حفظه إلى مؤنة كالقطن ونحوه أو كان الوقت مخوفًا فيخشى) المسلم على ما يقبضه (لم يلزم المسلم قبوله)، أي: قبول السلم قبل محله لما عليه من الضرر فيه (وإنْ لم يكن في قبضه) أي: المسلم فيه (ضرر ولا يتغير)، أي: يختلف قديمه وحديثه (كالحديد والرصاص والزيت والعسل ونحوها لزمه قبضه) لأن الغرض حاصل، مع زيادة تعجيل المنفعة فجرى مجرى زيادة الصفة".
(4)
"النضارة": الحُسْن. انظر: "القاموس المحيط"(ص 384).
النفس إليها، فلو أخذها وأبقاها عنده فسوف تتغير، وربما تفسد، فحينئذ لا يلزم بأخذها إذا جيء إليه بها قبل الوقت المحدد لتسلمها.
قال: (كَالنُّحَاسِ، وَالحَدِيدِ).
كل شيءٍ لا يتغير كالنُّحَاس والحديد والرصاص، وكذلك الخشب يلزمه أخذه إذا لم يلحقه ضررٌ، فلو أنه جيء له بأطنانٍ من الحديد قبل محلِّ الأجل وهو لم يهيئ مكانًا بعد، فَحِينَئذٍ سيلحقه ضرر بذلك؛ لأنه إن لزمه سيذهب ويستأجر لها أماكنَ.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ النضَارَةُ كَالفَوَاكِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ).
لأنها مما تتغير ويتطرق إليه الفساد، ومثلها لو جاءه بقمح قبل وقته وهو لا يحتاجه وقتها، أو جاءه بقمح قديم وهو يريده جديدًا، أو جاءه بخروف قبل وقته وهو يريد أن يدعو عليه أناسًا بعد شهر وهو جاءه قبل شهر، فهو يحتاج في هذه الحالة أن ينفق عليه، وربما يهلك، فعليه أن يأتي به في وقته.
قوله: (وَأَمَّا إِذَا أَتَى بَعْدَ مَحِلِّ الأَجَلِ، فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبْضُه، مِثْلُ أَنْ يُسْلِمَ فِي قَطَائِفِ الشِّتَاءِ، فَيَأْتِي بِهَا فِي الصَّيْفِ
(1)
، فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٌ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ)
(2)
.
وهذه اختلف العلماء، فيها فرُوِيَ عن مالكٍ أنه يلزمه قبضها، ورُوِيَ عن غيره أنه لا يلزمه قبضها.
(1)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (5/ 283) حيث قال: "إذا أسلم في كباش ليأخذها في أيام الأضحية، فأتاه بعد الأضحى، قال مالك: يلزمه قبولها، وكذلك في قطائف الشتاء فأتى بها في الصيف؛ لأنه مبيع أوجبه العقد".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (5/ 283) حيث قال: "وقال ابن وهب: لا تلزمه لفوات المنفعة التي أسلم لأجلها، ووافقه في الكراء اللخمي إذا أتاه بعد إبان الحج لا يلزمه عندهما".
قوله: (وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمْهُ قَبْضُ العُرُوضِ قَبْلَ مَحِلِّ الأَجَلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَى الوَقْتِ المَضْرُوبِ الَّذِي قَصَدَهُ)
(1)
.
ويقصد بالجمهور: الأئمة الذين لم يُذْكروا، أما الإمامان الشافعي
(2)
وأحمد
(3)
، فمنهجهما واحد في ذلك، يقسمون أقسامًا ثلاثةً: إنْ جاء بها في موعدها لزمه الأخذ، وهذا متفق عليه من الأئمة كلهم، وإنْ جاء بها قبل موعدها كما رأيتم التفصيل إن كانت فاكهةً تتضرر فلا، لكن له أن يأخذها؛ لأن القصد أنه لا يلزمه.
قَوْله: (وَلمَا عَلَيْهِ مِنَ المُؤْنَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِم، إِذْ لَا مُؤْنَةَ فِيهَا).
والدراهم والدنانير ليس فيهما إشكالٌ؛ لأن تقديمها وتأخيرها لا يضر، بل تقديمها يفيده، لأنه يستفيد بها.
قوله: (وَمَنْ لَمْ يُلْزِمْهُ بَعْدَ الأَجَلِ، فَحُجَّتُهُ أَنَّهُ وَأَى أَنَّ المَقْصُودَ مِنَ العُرُوضِ إِنَّمَا كَانَ وَقْتَ الأَجَلِ لَا غَيْرَه، وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي الوَجْهَيْنِ (أَعْنِي: بَعْدَ الأَجَلِ أَوْ قَبْلَهُ)، فَشَبَّهَهُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ. مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ إِلَى آخَرَ أَوْ بَاعَ مِنْهُ طَعَامًا عَلَى مَكِيلَةٍ مَا، فَأَخْبَرَ البَائِعُ أَوِ المُسْلَمُ إِلَيْهِ المُشْتَرِيَ بِكَيْلِ الطَّعَامِ).
فلو أنَّ شخصًا أسلمَ إلى آخَر في قَمْحٍ وهو من الطَّعام الذي يُكال، وأخبر البائِعُ المُشْتري بكيل الطَّعام، فهل للمُشْتري أن يقبضَ منه دون أن يكيل الطعام، ويكتفي بتصديق البائع بما قَالَ؟ وقد مرَّت هذه المسألة في البيوع.
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
قَوْله: (هَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ دُونَ أَنْ يَكِيلَه، وَأَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَصْدِيقِهِ؟).
فانقسم العلماء إلى قسمين: مالكٌ وأحمد أجازاه، وأبو حنيفة والشافعي منعاه.
قَوْله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: ذَلِكَ جَائِزٌ فِي السَّلَمِ، وَفِي البَيْعِ بِشَرْطِ النَّقْدِ، وَإِلَّا خِيفَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الرِّبَا، كَأَنَّهُ إِنَّمَا صَدَقَهُ فِي الكَيْلِ لِمَكَانِ أَنَّهُ أَنْظَرَهُ بِالثَّمَنِ).
ونرى الإمام مالكًا رحمه الله يحتاط كثيرًا في تلك الأبواب، وسبق مثل ذلك في البيع، فخشية أن يكون المشتري قد طأطأ رأسه، واستسلم له؛ لأنه بحاجة إلى المبيع، فالإمام مالك يرى أن هذا مما لا يدخل في الحلال والحرام، وإنما هذا يدخل في الشُّبَهِ.
قَوْله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
،
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 89) حيث قال: "إذا أخرج صاحب الطعام من طعامه الذي يعرف كيله جزافًا يسيرًا أو كيلًا يسيرًا، أو نسي حقيقته، فلا يجوز له أن يبيع الباقي جزافًا إلا أن يعلم المشتري بما علم من كيله، وبالقدر الذي يظن أنه أخرجه منه جزافًا أو كيلًا حتى يستويا جميعًا في المعرفة بقدره، فإن لم يفعل لم يجز، لأنه وإن لم يعرف حقيقة كيله، فهو عالمٌ بقدره".
ومذهب الحنابلة الجواز بدون اشتراط للنقد. قال ابن قدامة في "المغنى"(4/ 96): "وإنْ أخبره البائع بكيله، ثمَّ باعه بذلك الكيل، فالبيع صحيح، فإن قبضه باكتياله، تم البيع والقبض، وإن قبضه بغير كيل، كان بمنزلة قبضه جزافًا، فإن كان المبيع باقيًا، كاله عليه، فإن كان قدر حقه الذي أخبره به، فقد استوفاه".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 67) حيث قال: "ومن اشترى مكيلًا مكايلة أو موزونًا موازنة فاكتاله أو اتزنه ثم باعه مكايلهً أو موازنةً، لم يجز للمشتري منه أن يبيعه ولا يأكله حتى يعيد الكيل والوزن".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 73) حيث قال: " (ولو بيع الشيء تقديرًا كثوب وأرض ذرعًا) بإعجام الذال (وحنطة كيلًا أو وزنًا اشترط) في قبضه (مع النقل) في المنقول (ذرعه)، إن بيع ذرعًا بأنْ كان يذرع (أو كيله) إن بيع كيلًا بأن كان يكال (أو وزنه) إن بيع وزنًا بأن كان يوزن أو عده إن بيع عدًّا بأن كان يعد".
وَالثَّوْرِيُّ
(1)
، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ
(2)
: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يَكِيلَهُ البَائِعُ لِلْمُشْتَرِي مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ أَنْ كَالَهُ لِنَفْسِهِ بِحَضْرَةِ البَائِعِ).
فَلَا بُدَّ عند هؤلاء الأئمَّة أن يكيل المُشْتري الطعامَ بنفسه أمام البائع.
قوله: (وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكِيلَه، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكِيلَهُ البَائِعُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ البَيْعِ الكَيْلُ، فَكَذَلِكَ القَبْضُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ:"أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ البَائِعِ، وَصَاعُ المُشْتَرِي"
(3)
).
وهَذَا الحديث مرَّ بنا من قبل، وفيه كَلامٌ، لكن يُؤيِّده ويقويه الحديث الصحيح:"إذا بعتَ فَكِلْ، وإذا ابتعتَ فَاكْتَلْ"
(4)
، فالبائع إذا أراد أن يبيع عليه أن يكيل بضاعته، وكذلك المشتري إذا أراد أن يشتري فعليه أن يكيل ما يشتريه.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا هَلَكَ الطَّعَامُ فِي يَدِ المُشْتَرِي قَبْلَ الكَيْلِ، فَاخْتَلَفَا فِي الكَيْلِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
: القَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 378) حيث قال: "وقيل لعبد الرزاق وعبد الملك الصباح: سمعنا الثوري يقول في رجلين يتاع الطعام يكتالانه، ثم يربح صاحبه فيه ربحًا قال: لا يحل حتى يكتالاه كيلًا آخر يكتال كلُّ وَاحِدٍ نصيبه، ثم يكتال نصيبه الذي أربحه".
(2)
لم أجد قول الأوزاعي والليث، وهو منقول عن ابن المسيب والحسن البصري وعطاء والشعبي وإسحاق. يُنظر:"الإشراف على مذاهب العلماء"(6/ 52)، و"المحلى"، لابن حزم (8/ 523).
(3)
تقدم في مسألة من بَاعَ طَعَامًا بِطَعَامٍ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَه.
(4)
أخرجه البخاري معلقًا (3/ 67)، وأحمد في "المسند"(444)، وحسَّنه الحافظ في "الفتح"(1/ 18، 19)، والأرناؤوط في تحقيق "المسند".
(5)
ينظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 301) حيث قال: "وَإنْ أسلم إليه في طعامٍ بالكيل، أو =
ثَوْرٍ
(1)
، وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: القَوْلُ قَوْلُ البَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَقَهُ المُشْتَرِي عِنْدَ قَبْضِهِ إِيَّاه، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ البَيْعَ يَجُوزُ بِنَفْسِ تَصْدِيقِهِ).
اختلف العلماء فيما هلك إذا كان الطعام في يد المشتري قبل أن يكيله بحضرة البائع، فالشافعيُّ وأبو ثورٍ يريان أن القَوْل قول المُشتري، ويرى مالك أن القول قول البائع؛ لأن المشتري صدقه عند البيع، وهو أعلم بمقدار سِلْعتِهِ، ولأن قبض المشتري السلعة دون أن يكيلها جائزٌ عند الإمام مالكٍ كما مرَّ بنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثَّالِثُ: فِي اخْتِلَافِ المُتَبَايِعَيْنِ فِي السَّلَمِ
وَالمُتَبَايِعَانِ فِي السَّلَمِ إِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوِ المَثْمُونِ، وَإِمَّا فِي جِنْسِهِمَا، وَإِمَّا فِي الأَجَلِ، وَإِمَّا فِي مَكَانِ قَبْضِ المُسْلَمِ).
والمؤلف رحمه الله سيذكر أربع مسائل:
= اشترى منه طعامًا بالكيل، فدفع إليه الطعام من غير كيلٍ، لم يصحَّ القبض؛ لأنَّ المستحق قبض بالكيل، فلا يصح قبض بغير الكيل، فإن كان المقبوض باقيًا، رده على البائع ليكيله له، وإنْ تلف في يده قبل الكيل، تلف من ضمانه؛ لأنه قبض عن حقه، وإن ادعى أنه كان دون حقه، فالقول فوله؛ لأن الأصل أنه لم يقبض إلا ما ثبت بإقراره".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 496) حيث قال: "وقال أبو ثور: القول فيه قول المشتري مع يمينه، ويرجع عليه بما بقي وإن باعه كان بيعه جائزًا".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 496) حيث قال: "يعني أنه ما زاد على أنه يمكن أن يكون بين الكيلين، فعليه رده، وما كان معهودًا مثله بين الأكيال فليس عليه رده، وأما إنْ وجده ناقصًا، فالقول فول البائع عند مالكٍ مع يمينه؛ لأنه قد صدقه المشتري إذا قبضه منه بقوله".
الأولى: إذا اختلف المُسلِمُ والمُسلَمُ إليه في مقدار الثَّمن أو المثمون، أي: في مقدار المُسلَم فيه.
الثانية: إذا اختلَف المُسلِمُ والمُسلَمُ إليه في جنس المُسْلَمِ فيه.
الثالثة: إذا اختلف المُسلِمُ والمُسلَمُ إليه في حلول الأجل أو مقداره.
الرابعة: إذا اختلف المُسلِمُ والمُسلَمُ إليه في مكان قبض المُسلَمِ.
قوله: (فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ المُسْلَمِ فِيهِ، فَالقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ المُسْلَمِ إِلَيْهِ إِنْ أَتَى بِمَا يُشْبِه، وَإِلَّا فَالقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُ المُسْلِمِ إِنْ أَتَى أَيْضا بِمَا يُشْبِه، فَإِنْ أَتيَا بِمَا لَا يُشْبِه، فَالقِيَاسُ أَنْ يَتَحَالَفَا وَيَتَفَاسخَا)
(1)
.
فلو أنَّ المُسلَمَ إليه أتى بما يشبه المسلَم فيه، فالقول قوله، وكذلك إنْ أتى المُسلِمُ بما يشبهه، فالقول قوله، فإنْ لم يأتيا بما يشبهه، فحِينَئذٍ يتحالفان ويتفاسخان.
قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي جِنْسِ المُسْلَمِ فِيهِ: فَالحُكْمُ فِي ذَلِكَ التَّحَالُفُ وَالتَّفَاسُخ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: أَسْلَمْتُ فِي تَمْرٍ، وَيَقُولُ الآخَرُ: فِي قَمْحٍ
(2)
، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُما فِي الأجَلِ: فَإِنْ كَانَ فِي حُلُولِهِ، فَالقَوْلُ قَوْلُ المُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي قَدْرِهِ فَالقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُ المُسْلَمِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 213) حيث قال: "وجاز ضبط المسلم فيه إنْ كان مما يُقَاس بذراعٍ أي: بعظم ذراع رجل معين أيْ: مع رؤية الذراع ومشاهدته، وانظر: هل المراد به من عظم المرفق إلى آخر الكوع كما في سترة المصلي أو إلى آخر الكف والأصابع، وإذا لم يعين الرجل فقال في سماع أصبغ: يحملان على ذراع، وسط أصبغ هذا استحسان، والقياس الفسخ.
تنبيه: إذا خيف غيبة ذي الذراع، أخذ قدر ذراعه كما لو مات، فلو دفن قبل أخذ قياس ذراعه، واختلفا في قدره قرب العقد تحالفا وتفاسخا، وعند حلوله فالقول قول المسلم إليه إن أشبه، وإلا فقول المسلم إن أشبه، وإلا حمل على ذراع وسطٍ".
(2)
ينظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 468) حيث قال: "قال مالك: إن اختلفًا في النوع فقال هذا: سلفتك في حنطة، وقال هذا: في شعير، أو قال هذا: في فرس، وقال هذا: في حمار، تحالفا وتفاسخا وإن بَعُدَ محل الأجل، ويرد إلى المبتاع رأس ماله".
بِمَا لَا يُشْبِه، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ المُسْلِمُ وَقْتَ إِبَّانِ المُسْلَمِ فِيهِ، وَيَدَّعِيَ المُسْلَمُ إِلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ الوَقْتِ، فَالقَوْلُ قَوْلُ المُسْلِمِ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي مَوْضِعِ القَبْضِ، فَالمَشْهُورُ أَنَّ مَنِ ادَّعَى مَوْضِعَ عَقْدِ السَّلَمِ، فَالقَوْلُ قَوْلُه، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَالقَوْلُ قَوْلُ المُسْلَمِ إِلَيْهِ. وَخَالَفَ سَحْنُونٌ فِي الوَجْهِ الأَوَّلِ، فَقَالَ: القَوْلُ قَوْلُ المُسْلَمِ إِلَيْهِ وَإِنِ ادَّعَى القَبْضَ فِي مَوْضِعِ العَقْدِ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا
(1)
، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الثَّمَنِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ اخْتِلَافِ المُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ القَبْضِ، وَقَدْ تَقَدَمَ ذَلِكَ)
(2)
.
فَلَو اختلفا، هل حَلَّ الأجل أوْ لَا؟ فالقول قول المُسلَمِ إليه، وكذلك لو اختلفا في مدَّة الأجل، فالقول قول المُسلَمِ إليه إلَّا إنْ أتى بما لا يُشْبهه، فحينئذٍ القول قول المُسلِم.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 201) حيث قال: "إذا اختلفا في الموضع الذي يقبض فيه السلم، فقال أحدهما بموضع كذا، وقال الآخر بموضع كذا، فالقول لمدعي موضع العقد بيمين إن أشبه أشبه الآخر أم لا؛ لأنهما لو سكتا عن ذكر موضع القبض لحكم بموضع العقد، وإن لم يدع كل موضع العقد، بل خرجا عنه، فالقول قول المسلم إليه بيمينه إن أشبه؛ لأنه غارم أشبه الآخر آم لا، وإن انفرد المسلم، وهو المشتري بالشبه قبل قوله مع يمينه، وإن لم يشبه واحد منهما تحالفا، وفسخ السلم".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 198) حيث قال: "المتبايعين إذا اتفقا على الأجل، وعلى قدره، واختلفا في انقضائه كأن يقول البائع عند هلال شوال: كان البيع إلى شهر أوله هلال رمضان فقد انقضى، والمشتري يقول: بل أوله نصف رمضان، فلم ينقض، فالقول عند عدم البينة، ومع فوات المبيع لمنكر التقضي إن أشبه مع يمينه؛ سواء أشبه غيره أم لا، وإنْ أشبه غيره فقط فالقول قوله، وإنْ لم يشبه واحد منهما فالظاهر أنهما يتحالفان، ويغرم القيمة، وأما مع عدم فوات المبيع، فإنهما يتحالفان، ويتفاسخان".
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(كِتَابُ بَيْعِ الخِيَارِ)
والخِيارُ أنواعٌ كثيرةٌ، وليس نوعًا واحدًا، وقد مرَّ بنا خيارُ المجلس
(1)
، ورأينا أنَّ العلماء قد أختلفوا فيه، فأكثر الفقهاء يقرُّون بخيار المجلس، ويرون بأنه ثابت، وأنه قد جاءت به سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو قول جمعٍ من الصحابة والتابعين، وهو قول الإمامين الشافعي وأحمد، ورأينا أن المالكية والحنفية يخالفون فيه، ووجهتهم في ذلك هو تأويلهم للأحاديث التي وردت في هذا الأمر، منها الحديث المتفق عليه:"البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"، حيث فسر الحنفية والمالكية التفرق بالأقوال، وجمهور العلماء ذهبوا إلى أن المراد بالتفرق إنما هو التفرق بالأبدان، وقد تكلمنا عن ذلك، وفصلنا القول فيه، وبيَّنَّا أن الراجح هو قول جمهور العلماء الذين قالوا بثبوت خيار المجلس، وأن التفرُّق إنما هو التفرق بالأبدان، ولقد فَعَل ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنها عندما كان يطبق ذلك عمليًّا.
إذن، مر بنا خيار المجلس، كذلك مرت الإشارة إلى ما يُعْرف بخيار الغبن
(2)
، عندما تكلمنا عن مسائل النهي، ومنها: أن يبيع المسلم على بيع
(1)
"خيار المجلس": هو خيار كل واحد من المتبايعين بالرد في مجلس العقد قبل التفرق. يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 92).
(2)
"الغبن": مصدر غبن الرجل فِي البيع غبنًا وغبنًا، يقال: غبنته في البيع بالفتح، أي: خدعته. يُنظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2172)، وقد تقدم.
أخيه، أو يسوم على سومه، وعن تلقي الركبان
(1)
، وعن بيع النجش
(2)
، وغير ذلك من المسائل الكثيرة التي مرت بنا، ورأينا أنه في بيع النجش وفي تلقي الركبان، وفي مسائل أخرى يؤخذ بخيار الغبن، فلو أنَّ إنسانًا تلقى جالبًا، فغابنه فله الخيار، وهكذا.
أمَّا الخيار الذي معنا، فهو ما يُعْرف بخيار المجلس، وهذا لم يخالف فيه الحنفية، وكذلك المالكية، بل انضموا إلى جمهور العلماء، لكنكم سترون أن الخلاف بين العلماء إنما يقف عند المدة، والذي خَالَفوا في ثبوت خيار الشرط هم قلةٌ، وعليه فقول المؤلف:(كتَاب بيع الخيار)، أي: الكتاب الذي يُذْكر فيه خيار الشرط، أيْ: بيع خيار الشرط، والمؤلف كعادته يقدم بمقدمة موجزة يذكر فيها ما يتضمنه المبحث الذي يتكلم عنه ليكون بمثابة كَشَّاف يحدد المسائل، ويضيء الطريق لمن يريد أن يدخل في تفاصيل هذه المباحث والمسائل.
قوله: (وَالنَّظَرُ فِي أُصُولِ هَذَا البَاب)، وليس المراد عمومًا كتاب "بداية المجتهد"، وإنما مراده بالكتاب كَتاب بيع الخيار، فما هي أصول المؤلف؟ والمؤلف منذ أن بدأنا بيَّنَّا كثيرًا بأنه يُعْنى بأمهات المسائل، أيْ: بأصول المسائل، فلا يعرض كثيرًا للمسائل الجزئية، بل يأخذ بكُبْريات المسائل التي يعبر عنها بأمهاتها، فهو يريد أن يقول: هذا المبحث وهذا الكتاب فيه مسائلُ كثيرةٌ، لكننا سنقتصر على أمهاتها، أي: أهم المسائل، وإذا استطعت أن تضبط فقه أمهات المسائل، سَهُلَ عليك أن تلحق بها صغرياتها، أي: جزئياتها.
قوله: (أَمَّا أَوَّلًا فَهَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟)، فالمسألة الأولى: ما حكم بيع خيار الشرط، أو ما حكم خِيار الشرط، هل هو جائز أو لا؟ سيذكر المؤلف بعد قليل حكمه، لأنّ هناك مَنْ يخالف فيه، وإن كان
(1)
قال ابن الأثير في "النهاية"(4/ 266): "هو أن يستقبل الحضري البدوي قبل وصوله إلى البلد، ويخبره بكساد ما معه كذبًا؛ ليشتري منه سلعته بالوكس، وأقل من ثمن المثل".
(2)
قال ابن الأثير في "النهاية"(5/ 21): "النجش في البيع هو أن يمدح السلعة لينفقها ويروجها، أو يزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها، ليقع غيره فيها، والأصل فيه: تنفير الوحش من مكان إلى مكان".
المخالف فيه قليلًا، لكن ورد الخلاف فيه، فأول ما سيبحثه المؤلف هو حكم خيار الشرط هل هو ثابت أو لا؟
قوله: (وَإِنْ جَازَ، فَكَمْ مُدَّةُ الخِيَارِ؟)، وعلى القول بجوازه، وهو الصحيح، وهو مذهب جمهور العلماء؛ فكم مدة جوازه؟ هل هو مقيد بأيام ثلاثة أو أن مدته مطلقة؟ إذا كانت مطلقةً فينبغي أن تقيد بزمن، أو تطلق إطلاقًا عامًّا، وهذا أيضًا محل خلاف.
قوله: (وَهَلْ يُشْتَرَطُ النَّقْدِيَّةُ فِيهِ أَمْ لَا؟)، ووقت الخيار قد وضع أصلًا لكلٍّ من المتبايعين، ونقصد بالمتبايعين: البائع والمشترِي، والغرض من هذا الخيار هو أن يُعْطَى كل من البائع والمشتري فرصةً ليفكر؛ لأن المشتري ربما يأخذه بريق السلعة، وربما يجرُّه لمعان السلعة فيندفع إلى شرائها دون تفكيرٍ، وَكَذلك أيضًا البائع ربما يتسرع رغبةً في الحصول على مبلغٍ في بيع سَلعته، وربما يغبن البائع، وربما يغبن المشتري، فهذه الشريعة، السمحة الكاملة الشاملة التي ما تركت أمرًا من أمور الناس التي يحتاجون إليها في معادهم، وأيضًا في دنياهم وآخرتهم إلا وبَيَّنتها، قد وضعت هذا الخيار ليفكر المسلم في أمره (البائع والمشتري).
ولمَّا كان البيع - كما هو معلومٌ - عقدًا لازمًا، اقتضى ذلك أن يكون هناك خيار؛ لأنه عندما تنفذ الصفقة ويتم البيع، حينئذٍ لا يستطيع كل منهما أن يتراجع إلا بوجود سبب كأن يوجد عيب من العيوب، ولذلك وضع الخيار، ومع أن النكاح عقد لازم، لكن لا نرى فيه الخيار، لأن النكاح - كما تعلمون - ليس عقد معاوضة، وليست المعاوضة مقصودةً فيه، لكن البيع يقصد فيه المعاوضة، فهذا الذي يقدم سلعة إنما يريد ثمنًا، وهذا الذي يشتري إنما يريد أن يأخذ سلعةً إليه، إذا، كلٌّ منهما يريد شيئًا؛ هذا يريد مالًا، وَهذا يريد سلعةً.
إذًا، المُعَاوضةُ هنا ظاهرةٌ، نعم النكاح فيه مهرٌ، لكن ليس المقصود به المعاوضة؛ لأن للنكاح أسبابًا كثيرةً، منها قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "تَزوَّجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ الأمم بكم يوم القيامة"
(1)
، و"النكاح سُنَّة، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني"
(2)
، فلما كان مصير البيع اللزوم، نجد أن هذه الشريعة أباحت له الخيار حتى لا يندم المسلم، ولا يتألم، ولا يتحسر.
فمُدَّة الخيار هي فرصة لكلٍّ من المتبايعين، فللبائع أن يتراجع عن بيعه في هذه المدة، وللمشتري أيضًا أن يعدل عن الشراء، إذًا هو وقت خيار إلا إذا كان الخيار لأحدهما، وهذا جائز، فربما يشترط المشتري الخيار ولا يشترط البائع، فإذا قال المشتري: لي الخيار، فعلى البائع أن يعطيه الفرصة، فالشرط هنا للمشتري.
قوله: (وَمِمَّنْ ضَمَانُ المَبِيعِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ؟)، مرَّ بنا فيما مضى أن المُشتري هو الذي يضمن بعد قبض السلعة، وَجَاءَ فِي ذلك حَديثٌ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"مَن اشْتَرى طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه"
(3)
، فدل ذلك على أن المبيع يكون في مِلْكِ المشتري عند قبضه.
ولذلك، فقد ذكر العلماء أنه لو تلف المبيع وهو لم يقبض، فهو من ضمان البائع، وإنْ تلف بعد قبضه، فهو من ضمان المشتري، وقد مرَّ بنا كيف فَرَّقوا بين المكيل والموزون والمعدود وبين غيره، وبيَّنوا أن كلَّ قَبْضٍ بحَسَبه، المكيل والموزون والمعدود، المكيل قبضه بالكيل، والموزون بالوزن، والمعدود بالعَدِّ، والمنقول بالنقل، وأما مَا لا يُنْقل كالأراضي، فإنه يتمُّ قبضها برفع البائع يده عنها، وقَدْ مرَّ بنا هذا في بيع الثمار.
قَوْله: (وَهَلْ يُورَثُ الخِيَارُ أَمْ لَا؟)، فإذا كان لرجلٍ خيار فتُوفِّي، هل ينتقل الخيار إلى ورثته أو يسقط بموت صاحب الخيار؟
قوله: (وَمَنْ يَصِحُّ خِيَارُهُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ؟)، هل الخيار عام أو
(1)
أخرجه أبو داود (2050)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "التعليقات الحسان"(6/ 170).
(2)
أخرجه البخاري (7/ 2)، ومسلم (2/ 1020).
(3)
تقدم تخريجه.
أنه خاص لغير الأجنبي؟؛ لأن الأجنبيَّ يُوكل فيكون لَه الخيار أيضًا.
* قَوْله: (وَمَا يَكُونُ مِنَ الأَفْعَالِ خِيَارًا كَالقَوْلِ؟) وما الذي يلحق بالأقوال في الخيار؟، فهذه عَنَاوين المسائل التي سيفصل المؤلف فيها القول، ويأخذها مسألةً مسألةً.
* قوله: (أَمَّا جَوَازُ الخِيَارِ فَعَلَيْهِ الجُمْهُورُ
(1)
، إِلَّا الثَّوْرِيَّ
(2)
، وَابْنَ أَبِي شُبْرُمَةَ
(3)
).
المرأد بالخيار هو خيار الشرط، بل إنَّ من العلماء مَنْ حكى الإجماع كالإمام النووي في كتابه "المجموع"
(4)
، لكن قد رأيتم أن الثوري
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" للبلدحي (2/ 12) حيث قال: "خيار الشرط جائز للمتبايعين ولأحدهما".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل شرح مختصر خليل" للحطاب (4/ 409) حيث قال: "والأصل في البيع اللزوم، والخيار عارض، وينقسم إلى خيار تروٍّ وإلى خيار نقيصة؛ لأنه إما من جهة العاقد أو من جهة المعقود عليه، فإن كان من جهة العاقد بأن يشترطه أحد المتبايعين أو كلاهما فهو خيار التروي، ويسمى الخيار الشرطي. والتروي: النظر والتفكر في الأمر، والتبصر فيه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 50) حيث قال: "خيار الشرط، ويجوز شرط الخيار ثلاثة أيام فما دونها".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 202) حيث قال: " (القسم الثاني من أقسام الخيار خيار الشرط، وهو أن يشترطا في العقد أو بعده) أي: العقد (في زمن الخيارين) أي: خيار المجلس وخيار الشرط، و (لا) يصح إن اشترطاه (بعد لزومه) أي: العقد (مدة معلومة) مفعول ليشترطا (فيصح) الشرط (ويثبت) الخيار (فيها) أي: المدة المعلومة (وإن طالت) ".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (3/ 51): حيث قال: "وقال ابن شبرمة والثوري: لا يشترط الخيار للبائع بحالٍ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 484)، حيث قال:"وقال الثوري وابن شبرمة: لا يجوز اشتراط الخيار للبائع بِحَالٍ".
(4)
قال النووي: "واعلم أن أقوى ما يحتج به في ثبوت خيار الشرط الإجماع، وقد نقلوا فيه الإجماع وهو كاف"، "المجموع" للنووي (9/ 190)، وينظر كذلك:"روضة الطالبين" للنووي (3/ 444).
خالف في ذلك، وخالف فيه بعض أهل الظاهر، وليس إمامهم
(1)
، فإمامهم يرى هذا؛ لأنه ستأتي إشارة المؤلف إلى جواز الخيار.
إذًا، فَالخيَارُ فيه خلافٌ، فهل كفَّة الخلاف متعادلة؟ الجواب: لا؛ لأن الجمهور في كفة، فهذا رأي جمهور الصحابة، بل رأي الصحابة عمومًا، وما عُرِفَ عن أحدٍ من الصحابة أنه خالف، وهو أيضًا رأي جمهور التابعين، وكذلك أيضًا أتباع التابعين، والْتَقَى حوله الأئمة الأربعة المعروفون، فالخلاف فيه يُعْتبر خلافًا يسيرًا، ولذلك ذهب بعضهم إلى الإجماع، وبعض العلماء يضع مصطلحًا آخَرَ يُفرِّق فيه بين الإجماع وبين الاتفاق، ففي مثل هذه المسائل يقول: اتفق العلماء، وهو أقرب
(2)
، فخيار الشرط: أن تذهب لتشتري سلعةً (سيارةً أو دارًا أو ثوبًا أو ثلاجةً أو أي نوع من أنواع السلع، وما أكثرها في هذا الزمان) فتشترط الخيار، هذا هو خيار الشرط، أما خيار المجلس فإنه ينتهي بالمفارقة ما دمتَ عند صاحب السلعة، فَلَكَ الخيار، فماذا تفرقتما حينئذٍ "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا"، لكن هذا خيار آخر، وهو خيار الشرط، فما حكم هذا الخيار؟
قُلْنا: جمهور العلماء ذهبوا إليه، وفريقٌ آخر عارض، فهل هذا الفريقُ القليلُ أو القلة القليلة لهم دليلٌ؟ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم نصٌّ يَتمسَّكون به، وإنما هم يعللون بتعليل غير مسلم؛ لأنهم يرون أن فيه غررًا
(3)
، ونحن نقول بأن الغرر ينقسم إلى قسمين، أولًا: من حيث الوجود، فهناك غرر شديد يترتب عليه، وهذا حاربته الشريعة، ونهت عنه، وحذرت منه كما عرفنا في الربا وفي غيره، وهناك غرر يسير، فهذا الغرر
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 370) حيث قال: "وكل بيع وقع بشرط خيار للبائع أو للمشتري أو لهما جميعًا أو لغيرهما خيار ساعة أو يوم أو ثلاثة أيام، أو أكثر أو أقل، فَهو باطل تَخيَّرا إنفاذه أو لم يتخيرا".
(2)
ومن ذلك تعبير ابن هبيرة في "اختلاف الأئمة العلماء"(1/ 351) حيث قال: "واتفقوا على أنه يجوز شرط الخيار للمتعاقدين معًا، ولأحدهما بانفراده إذا شرطه".
(3)
"الغرر": الخطر، وبيع الغرر هو ما يتضمن خطرًا كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء. يُنظر:"الصحاح" للجوهري (2/ 768)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 444).
يتجاوز عنه على اختلاف بين العلماء أيضًا فيه، هل يتجاوز عنه أو لا؟ وكذلك أيضا الغبن
(1)
فيه خلاف بين العلماء.
إذًا، القضية فيها تفصيل، فدعوى الغرر غير مسلمة، وجمهور العلماء يستدلون بأدلة، منها حديث حبان بن منقذ ذلكم الصحابي الأنصاري الذي أَصَابته آفةٌ في رأسه، فأثَّرتْ على رأيه، فصار إذا باع بيعًا أو اشترى شراءً ربما يُخْدع فيه، يعني: يأتي لشراء السلعة، فيُقَال له بكذا، فيأخذها دون أن يماكس فيها؛ لأن البيع مساومة
(2)
ومرابحة
(3)
، وهناك أنواع أخرى كما سيأتي معنا، لكن الأصل في البيع هو المساومة، فلما كثر هذا الأمر ورأى أنه يُخدع في هذه البيوع شكا أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نبي هذه الأمة، وقد أعطاه الله سبحانه وتعالى من الصفات الكريمة، والمزايا الحميدة، والسجايا العزيزة ما لم يعطى مثله.
ولذلك، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدون بهديه صلى الله عليه وسلم، وأيضًا يَستنُّون بسُنَّته، وينهلون من منهله، ويأخذون العلم، ويكتسبون الأخلاق من مشكاته صلى الله عليه وسلم، هذا الرَّسُولُ الكَريمُ الذي أرسله الله رحمةً لهذه الأمة رؤوف بهم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، أَرْسَله الله إلى هذه الأمة، وامتنَّ على هذه الأمة بإرساله لها هذا النبي الكريم {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164].
(1)
"الغبن": الخداع.
(2)
"بيع المساومة": هو أن يعرض الشخص سلعته، ولا يخبر المشتري برأس المال الذي اشتراها به، ثم يتقدم المشترون ليزيدوا في ثمن السلعة حتى يستقر الشراء على أعلاهم سعرًا، وفِعْلهم هذا يسمى مساومةً. انظر:"التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 393).
(3)
هو أن يبيع الشخص سلعته بالثمن الذي اشتراها به مع ربح قدرٍ معلومٍ، فيخبر المشتري بأنه هذه السلعة اشتراها بكذا، وأريد فيها ربحًا كذا. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 111).
ولا شك أنها منة عظيمة، وأن هذا الرسول الكريم هو خير الرسل وأفضلهم، فلما شكا إليه أمره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بأمور الناس، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم راعٍ، وكما قال:"كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته"
(1)
، فاهتم بأمر هذا الرجل، فرسم له طريقًا مستقيمًا يخرجه من هذا الأمر، فقال له:"إذا بايعتَ فقل: لا خلابَة"
(2)
، أي: لا خدعة، فإذا ذكرت هذه العبارة فخدعت، فلك الخيار، هذا الحديث متفق عليه، لكن جاء في بعض طرقه أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثًا
(3)
، وفي بعض الروايات:"ثلاث ليال"، وهذه الرواية:"ثلاث ليال" لم ترد في "الصَّحيحَين"، وإنما وردت عند ابن ماجه
(4)
، وعند الدارقطني
(5)
، والبيهقي
(6)
، وفي "تاريخ البخاري"
(7)
، ولا شك أنها رواية صحيحة
(8)
، فجمهور العلماء احتجوا بهذا وهو نص صريح.
قوله: (أَمَّا جَوَازُ الخِيَارِ، فَعَلَيْهِ الجُمْهُور، إِلَّا الثَّوْرِيَّ)، والثَّوْري من أتباع التابعين، وإذا أطلق الثوري فيقصد به سفيان الثوري، وهو إمام جليل ممن عاصر الإمامين مالكًا وأبا حنيفة، وهو أيضًا من علماء العراق وهو من العلماء الأعلام، لكن لم يكن له تلاميذ في الفقه، فلذا لم يحفظ فقهه في كتب خاصة كما حفظ فقه الأئمة الأربعة،
(1)
أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829).
(2)
أخرجه البخاري (2117)، ومسلم (1532).
(3)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(4/ 6)، وضعفه ابن حجر في "الدراية"(2/ 148).
(4)
أخرجه ابن ماجه (2355).
(5)
أخرجه الدارقطني (4/ 9).
(6)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 271).
(7)
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(8/ 17).
(8)
يُنظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 50) حيث قال: "وهذه الروايات كلها في كتب الفقه، وليس في كتب الحديث المشهورة سوى قوله: "لا خلابة". انتهى. وأما قوله: "ولك الخيار ثلاثة أيام"
…
فيه ابن لهيعة
…
وأما رواية الاشتراط: فقال ابن الصلاح: منكرة لا أصل لها، انتهى".
لكن فقهه موزع وموجود في كتب الآثار والمصنفات والمسانيد، وفي كتب الفقه المبسوطة كـ "المغني" لابن قدامة و"المجموع" للنووي وكتب ابن المنذر، وغير ذلك.
قوله: (وَابْنَ أَبِي شُبْرُمَةَ، وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ).
إذًا، هم قلةٌ، ويُقَابلهم في الطرف الآخر الصَّحابة رضي الله عنهم حتى إنه جاء في الأثر أنه سُئِلَ عمر رضي الله عنه عما يتعلق بالخيار، فقال:"لا أجد لكم رخصةً"، أو "لا أجد أن أجعل لكم خيرًا مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ"
(1)
، هو جعل له الخيار ثلاثًا، فلا أجد لكم خيرًا مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي منه تؤخذ الأحكام وتتلقى، وهو الأسوة الحسنة للمؤمنين جميعًا.
قوله: (وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ: حَدِيثُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ، وَفِيهِ: "وَلَكَ الخِيَارُ ثَلَاثًا").
وقَدْ جاء بأنه عاش إلى زمن عثمان رضي الله عنه، وكان يختلف مع بعض البائعين، وترتفع الأصوات، فإذا مر أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للبائع: ويحك! هذا أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار، أو جعل له الخيار ثلاثًا.
قوله: (وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلَّا بَيْعَ الخِيَارِ"
(2)
).
هذا إشارةٌ إلى خيار المجلس، وخيار المجلس مضى، وأنه جاء فيه عدة أحاديث:"البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبَيَّنَّا، بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما، مُحقَتْ بركة بيعهما".
وفي حديثٍ آخر: "إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما
(1)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(4/ 6)، وضعفه ابن حجر في "الدراية"(2/ 148).
(2)
أخرجه البخاري (2109).
لم يتفرقا أو يخير أحدهما صاحبه
…
" إلى آخر الحديث، فإن تفرَّقا وجب البيع
(1)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَهُ أَنَّهُ غَرَرٌ).
لأنَّه إذا بقي ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك، فهذا فيه غَررٌ، وما هو الغرر الذي يقصدون؟ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما قد يلحقه ضرر، فإذا انتظر البائع ثلاثة أيام، وعند من يقول: أكثر من ثلاثة أيام، لا قيد لذلك، فربما إذا مضت هذه المدة يأتي المشتري فيقول: لا أريد هذه السلعة، فكأن البائع قد لحقه ضرر حينئذٍ، لأنه قد يأتيه آخر فيدفع له أكثر مما دفع الأول، فإذا ما جاء الأول وعدل عن البيع، لا يجد مَنْ تَقدَّم لسلعته سابقًا، وربما يحبس المشتري نفسه على هذه السلعة ويفكر فيها، فإذا ما جاء مقدمًا عليها، راغبًا في شرائها، يقول له البائع: أنا عدلت عن البيع، فيلحقه أيضًا ضررٌ، وربما هو أيضًا جاءته سلعة أخرى لو اشتراها لاستفاد، لكن لو أردنا أن نأتي في كل أمر صغير أو كبير، فنقول: فيه وفيه، ربما يندر أن تجد أمرًا من الأمور إلا ويعتريه شيء، لكن الشريعة السمحة نظرت إلى ما هو أهم، وهو أن هذا البيع صفقةٌ، دارٌ ستنتقل إلى زيد، وربما بضاعة من البضائع تحتاج إلى إعْمَالِ فِكْرِ، وَإلَى تَدبُّرٍ إلى أَنْ يستشير حتى لا يقع في أَمْرٍ يكرهه، وَربما أنَّ البائع أَيضًا يجهل الأسعار، فربما يندفع فيبيع السلعة بأقلَّ من ثمنها بكثيرٍ، فيتضرر فيندم على ذلك، فأيُّ المصلحتين أولى؟
لا شك أن البيع إذا تم عن رضا كما قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض"
(2)
، فلا شك أنه أولى، وربما
(1)
أخرجه البخاري (2112)، ومسلم (1531).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2185)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "التعليقات الحسان"(7/ 287).
توقع وقوع ضرر، وهذا أمر متوقع وليس حقيقيًّا، يعني هذا الذي ذكروه ربما يقع، وربما لا يقع، فالضرر هنا غير متحقق، والشريعة الإسلامية تدفع الضرر المتحقق، أما مجرد الظن أو الوهم فلا تأثير له في ذلك، والشريعةُ الإسلاميةُ بُنيَتْ على مصالحَ، وإذا كانت هناك مصلحتان، فيؤخذ بأعلى المصلحتين، إذًا فالمصلحة أيهما أولى؟ هذا لو لم يرد في ذلك حديث، فكيف وقد ورد في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية معينة.
وَدَعْوى أن ذلك خاص بـ "حبَّان" هذا، يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل في الأحكام أنها إذا جاءت، فهي عامة حتى لا تخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدليل كما في قوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، إذًا، هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] في نعيم بن مسعود
(1)
، إذًا كونها تخص، هذا يحتاج إلى دليل.
قوله: (وَأَنَّ الأَصْلَ هُوَ اللُّزُومُ فِي البَيْعِ).
فالضرر هنا غير متحققٍ، أما لو كان متحققًا، فالشريعة حينئذٍ تدفعه.
قوله: (إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ البَيْعِ عَلَى الخِيَارِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ).
ولا شك أن الأصل في البيع هو اللزوم، لكن متى يكون من اللزوم؟ بعد أن يتم العقد، أما قبل ذلك فلا يكون لازمًا، ونحن نعرف بأن العقود أنواع، وأيضًا النكاح عقد لازم، لكن ليس فيه خيار؛ لأنه لا يقصد به المعاوضة، فالمقصود به أكرم من ذلك وأجل، وإنْ كانت المُعَاوضةُ واردةً وهو المهر، والإجارة هي عقد لازم، لكنه يفصل القول فيها، فرق بين
(1)
لعل المراد صهيب بن سنان. انظر: أسباب النزول، للواحدي (ص 67).
إجارة يقدم فيها الثمن، وبين إجارة كإجارة الظئر
(1)
ونحوه تؤجل فيها.
وقد قام دليل من سنة رسول الله على جواز البيع على الخيار
(2)
؛ لأنه ورد من عدَّة طرق، وحتى رواية ابن إسحاق جاء التصريح فيها بالتحديد
(3)
.
* قوله: (أَوْ إِجْمَاعٍ).
وَقُلْتُ لَكمْ: إنَّ الإمامَ النوويَّ حكى الإجماعَ
(4)
، لكن سمعتم خلافَ مَنْ خالف، إذًا المسألة فيها شبه إجماع.
قوله: (قَالُوا: حَدِيثُ حَبَّانَ إِمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ).
ونحن نقول: له عدة طرق، وهو صحيح
(5)
، إذًا ارتفع هذا.
قَوْله: (وَإِمَّا أَنَّهُ خَاصٌّ لَمَّا شَكَا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُخْدَع فِي البُيُوعِ).
ومَنْ يدَّعي أمرًا، فَيُطَالب ببَيِّنة ذَلكَ، ودعوى أنه خَاصٌّ غير سَلِيمَةٍ، فليس هناك دليلٌ على الخصوصية.
قَوْله: (قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: "إِلَّا بَيْعَ
(1)
"الظِّئْرُ": التي ترضع الصبي لغيرها وتربيه، فهي حاضنته، والجمع ظُؤارٌ وظُؤورٌ، وأَظآرٌ، وظو ورة. انظر:"الصحاح" للجوهري (2/ 729)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 327).
(2)
في الأحاديث السابق ذكرها.
(3)
وهو حديث ابن ماجه (2355) الذي فيه التصريح بالخيار في ثلاث ليال، ولفظه: عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: هو جدي منقذ بن عمرو، وكان رجلًا قد أصابته آمةٌ في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع على ذلك التجارة، وكان لا يزال يغبن، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال له:"إذا أنتَ بايعتَ، فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها".
(4)
تقدم نقل الإجماع عن النووي في "المجموع".
(5)
تقدم الكلام عليه.
الخِيَارِ"، فَقَدْ فُسِّرَ المَعْنَى المُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ: "أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ"
(1)
).
وما المانع أن يَقُول: اخترت بعد مضي المدة، فلا يتعَارض مع ما قاله الجمهور، إذا مضت المدة يأتيه ويقول له: اخْتَرت، وَهَذا في خيار المجلس، حتى الَّذين خالفوا في خيار المجلس (المالكيَّة
(2)
والحنفية
(3)
) انضموا إلى الجمهور، فخيارُ الشرط الخلافُ فيه يسيرٌ؛ لأن المصلحة تقتضيه، فأنت تريد أن تشتري سيارة فتريد فحصها وتتبع السير عليها، فربما تكون فيها عيوب، فالعلماء تكلموا عن هذه المسائل، حتى لا يقدم الإنسان على عمًى، وإنما يقدم على بَيِّنةٍ.
قوله: (وَأَمَّا مُدَّةُ الخِيَارِ عِنْدَ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِهِ).
هَلْ هي مقصورةٌ على مورد النص ثلاثة أيام، أو تجوز أكثر من ذلك؟
* قَوْله: (فَرَأَى مَالِكٌ
(4)
أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ فِي نَفْسِهِ).
(1)
أخرجه البخاري (3/ 64).
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 301) حيث قال: "النوع الأول خيار التروي، وهو ما لا يقف على فوات وَصْفه وسببه الشرط دون المجلس، بل لا يثبت خيار المجلس بالعقد ولا بالشرط (إنما الخيار بشرط) ".
(3)
يُنظر: "درر الحكام" لملا خسرو (2/ 144) حيث قال: " (ولزم) أي: البيع (بهما) أي: بالإيجاب والقبول (بلا خيار) لأحدهما في المجلس".
(4)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 109): " (إنما الخيار بشرط كشهر في دار)، وأدخل بالكاف الخمسة الأيام والستة لأجل اختبار جدرها وأسسها ومرافقها ومكانها وجيرانها، والدور والأرضون سواء، وكذا بقية أنواع العقار، فقوله: كشهر
…
إلخ مثال لمقدر، أيْ: ويختلف الخيار باختلاف المبيع ككذا، ولنا أن نجعل كشهر
…
إلخ من مدخول الحصر أيضًا، وهو أحسن، ويكون رادًّا بالأول على عبد الحميد وابن حبيب والشافعي، وبالثاني على الشافعي وأبي حنيفة القائلين بأن الخيار ثلاثة أيام في كل شيء أيْ: إنما الخيار ومدته بسرط، أي: لا يثبت الخيار ومدته إلا بشرط أي: إنما الخيار بشرط، إنما الخيار كشهر في دار، وكجمعة في رقيق، وثلاثة في ثوب
…
إلخ".
قُلْتُ: إنَّ الإمام مَالكًا رحمه الله دائمًا يُدْخل المصلحة في كثيرٍ من الأحكام، ولا شك أن المصلحةَ معتبرةٌ؛ لأن هذه الشريعة قامت على أسسٍ، ومن هذه الأسس مُرَاعاة مصالح الناس، والمصلحةُ المرسلةُ
(1)
معتبرة شرعًا شريطة ألا تعارض نصًّا من كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ، فإذا الْتَقَتْ هذه المصلحة مع روح الشريعة الإسلاميَّة، وَاتَّفقت مع أُصُولها، حِينَئذٍ يُؤْخذ بها، وما أكثرَ المصالح التي نجدها الآن طبقت! فهذه الشريعة شريعة كاملة أُنْزلَت لتبقى إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
قوله: (وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَقَدَّرُ بِتَقَدُّرِ الحَاجَةِ إِلَى اخْتِلَافِ المَبِيعَاتِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ المَبِيعَاتِ، فَقَالَ: مِثْلُ اليَوْمِ وَاليَوْمَيْنِ فِي اخْتِيَارِ الثَّوْبِ).
واختيار الثَّوْب لا يحتاج إلى تفكيرٍ طويلٍ، فالثوبُ معروفٌ المصنع الذي صُنِعَ فيه، وكذا ومادَّته وَخَامته، فهو بِحَاجةٍ إلى أن يستشير فيه، وهذا لا يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ.
قوله: (وَالجُمُعَةِ وَخَمْسَةِ الأَيَّامِ فِي اخْتِيَارِ الجَارِيَةِ (
(2)
.
لأنه يريد أن يعرفَ أمَانَتها وصِدْقها، وهذه أمورٌ دقيقةٌ لا تتبين في
(1)
المصلحة يقصد بها ما فعل لجلب نفعٍ أو دفع ضرٍّ، والمصلحة المرسلة هي التي لم يرد فيها دليلٌ خاصٌّ بالاعتبار أو النفير. انظر:"شرح مختصر الروضة"(3/ 205).
(2)
قال النفراوي في "الفواكه الدواني"(2/ 83): "الخيار لأحد المتبايعين لا يثبت إلا بالشرط أو العادة، وأنْ يَكُون ذلك الأجل معلومًا لهما، ونهايته إلى ما تختبر فيه تلك السلعة، فتختلف مدته باختلاف السلع، ولذلك قال خليل بعد قوله: إنما الخيار بشرط كشهر في دار ولا يسكن وكجمعة في رفيق واستخدمه، وكثلاثة في دابة وكيوم لركوبها في البلد ولركوبها في خارجها يكفي البريد ونحوه، وكثلاثة في ثوب أو سفينة أو كتاب أو غيرهما مما ليس بحيوان ولا عقار ولا رقيق. وأما نحو الدجاج والطيور وبقية الحيوانات التي لا عمل لها فالظاهر أن مدة الخيار فيها ليست كذلك لإسراع التغير لها، فتكون مدة الخيار فيها ما لا تتغير فيه، ويقاس عليها سائر الفواكه والأطعمة التي تفسد بالتأخير".
الساعة واليوم، فلا بد أن يتعامل معها، ويرى تصرُّفاتها، هل هي حمقاء أو لا؟ هل هي أمينة أم غير أمينة؟ فالأمر يحتاج إلى وَقْتٍ، وليسَ الأَمْر كالثوب، فالثَّوب أمرُ سهلٌ.
قَوْله: (وَالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ فِي اخْتِيَارِ الدَّارِ. وَبِالجُمْلَةِ: فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الأَجَلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِيهِ فَضْلٌ عَنِ اخْتِيَارِ المبِيعِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَه
(2)
: أَجَلُ الخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ).
وقَدْ وَقَفوا عند ظاهر النَّصِّ، وقالوا: لن نتجاوزه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطى هذا الرجل الذي هو بحاجةٍ إلى الخيار ثلاثة أيام، فكَوْنه قَصَر الخيَار على ثَلَاثة أيامٍ دليلٌ على أنه لا يتجاوز ذلك، والآخرون قالوا: هذا عَقدُ مُعَاوَضةٍ، ولا يَتَرتب عليه ضررٌ، فينبغي أن يطلق ذلك، وتكون المدة غير مقيدةٍ، ومَنْ قال بذلك إسحاق وابن راهويه وأبو ثور وابن المنذر وابن أبي ليلى
(3)
وأبو يوسف محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة
(4)
.
قوله: (لَا يَجُوزُ أَكثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ
(5)
، وَأَبُو يُوسُفَ،
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 444) حيث قال: "يصح خيار الشرط بالإجماع، ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، فإن زاد بطل البيع".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 63) حيث قال: "خيار الشرط جائز في البيع للبائع والمشتري، ولهما الخيار ثلاثة أيام فما دونها، ولا يجوز أكثر من ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله ".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (5/ 65) حيث قال: "وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور: يجوز مؤبدًا إذا كان محدودًا بمدةٍ معلومةٍ".
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 63) حيث قال: "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز إذا سمى مدةً معلومةً".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 37) حيث قال: "القسم (الثاني) من أقسام الخيار: خيار الشرط بـ (أن يشترطاه) أي: يشترط العاقدان الخيار (في) صلب (العقد، أو) يشترطاه بعده (زمن الخيارين) أي: خيار المجلس وخيار الشرط؛ لأنه بمنزلة حال العقد (إلى أمدٍ معلومٍ فيصح)، ولو فوق ثلاثة أيام".
وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ: يَجُوزُ الخِيَارُ لِأَيِّ مُدَّةٍ اشْتُرِطَتْ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ
(1)
).
فالشَّافعي وأبو حنيفة وقفا عند ظاهر النص، وقالوا: لا يجوز أكثر من ثلاثة أيام .. وأحمد وإسحاق وابن أبي ليلى وابن راهويه وأبو ثور ومَنْ ذكرناهم قالوا: تَجُوز الزيادة على الثلاثة؛ لأن هذا عقد، وكل واحد من المتبايعين غير ملزم، فيَنْبغي أن يعطى الفرصة التي يحتاج إليها.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الخِيَارِ المُطْلَقِ دُونَ المُقَيَّدِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ).
وقَدْ عَرَفنا أن من العلماء مَنْ قال: لا يجوز خيار الشرط، ومنهم مَنْ قال: يجوز، ثمَّ الذين اتفقوا على جواز خيار الشرط اختلفوا في تحديد المدة، فأبو حنيفة والشافعي قررا أنها لا تتجاوز ثلاثة أيام، ومالك قال: مدة كل شيء بحَسَبه، فهناك من الأشياء ما لا يحتاج إلى وقتٍ؛ كفحص السيارة أو الثوب، ومنها ما يحتاج إلى وقتٍ كالدار التي تريد أن تسكنها، ومنها ما يحتاج إلى وقت متوسط كعبدٍ مملوكٍ تريد أن تشتريه أو أَمَةٍ تشتريها، فأنت بحاجةٍ لتفحص هذا.
ثمَّ ينتقل المؤلف إلى مسألةٍ أخرى، هل يجوز لكلِّ واحدٍ منهما أن يقول: لي الخيار مطلقًا؟
قوله: (فَقَالَ الثَّوْرِيُّ
(2)
، وَالحَسَنُ بْنُ جِنِّي
(3)
وَجَمَاعَةٌ بِجَوَازِ اشْتِرَاطِ الخِيَارِ مُطْلَقًا وَيَكُونُ لَهُ الخِيَارُ أَبَدًا).
(1)
يُنظر: "المعاني البديعة" للريمي (1/ 435) حيث قال: "عند الشافعي وأبي حنيفة وأكثر العلماء لا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام. وعند ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وأحمد وداود يجوز أن يشترطا ما شاءا من غير تحديد".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (3/ 51) حيث قال: "وقال الثوري: يجوز الخيار اليوم واليومين والثلاثة، قال: وما بلغنا فيه وقت إلا أنَّا نحب أن يكون ذلك قريبًا إلى ثلاثة أيام".
(3)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (3/ 52) حيث قال: "قال الحسن بن حي: إذا اشترى الرجل الشيء، فقال له البائع: اذهب فأنت فيه بالخيار أبدًا، فلا يجوز حتى يقول: رضيت. وقال: ما أدري ما الثلاث إذا باعه فقد رضي، وإذا كانت جاريةً بكرًا فوطأها فقد رضي".
وَهُنا خَطأٌ، فالحَسنُ هذا ليس ابن جنِّي؛ لأنه لا يوجد سوى ابن جني واحد صاحب النحو المشهور، وليس الحسن، إنما هو عثمان، وإنما أراد المؤلف الحسن بن حي بن صالح، فالقول - إذًا - عن الثوري بأنه لا يرى خيار الشرط ضَعيفٌ، ولذَلكَ الإمام النووي رحمه الله حكى الإجماع، والإمام النووي من العلماء المحققين، ومن الذين لا يقولون عن الإجماع إلا وقد تحققوا من ذلك.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: يَجُوزُ الخِيَارُ المُطْلَق، وَلَكِنَّ السُّلْطَانَ يَضْرِبُ فِيهِ أَجَلَ مِثْلِهِ)
(2)
.
يَجُوز، لكن يُحدِّده السلطان، وهذا عند مالكٍ رحمه الله.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ الخِيَارُ المُطْلَق، وَيَفْسُدُ البَيْعُ).
وعندَ أحمدَ
(5)
: يَجُوز مع بطلان القيد، وهذا قول
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 410) حيث قال: "والنظر في خيار التروي في مدته، وفيه الطوارئ، فالمدة تختلف باختلاف أنواع المبيعات، فإن القصد ما تختبر فيه تلك السلعة، وذلك يختلف".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 486) حيث قال: "واختلفوا في اشتراط الخيار إلى مدة غير معلومة، فقال مالك: ذلك جائز، ويجعل السلطان له في ذلك من الخيار ما يكون في مثل تلك السلعة".
(3)
يُنظر: "رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (4/ 565) حيث قال: "وخيار الشرط أنواع: فاسد وفاقًا، كما إذا قال: اشتريت على أني بالخيار أو على أني بالخيار أيامًا أو أبدًا".
(4)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 445) حيث قال: "ولا يجوز شرط الخيار مطلقًا، ولا تقديره بمدة مجهولة، فإن فعل بطل العقد".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 202) حيث قال: " (ولا يصح الخيار مجهولًا لها مثل أن يشترطاه أبدًا أو مدة مجهولة) بأن قالا: مدة أو زمنًا، أو مدة نزول المطر ونحوه (أو) أجلاه (أجلًا مجهولًا كقوله: بعتك ولك الخيار (متى شئت أو شاء زيد أو قدم) زيد (أو هبت الريح، أو نزل المطر، أو قال أحدهما: لي الخيار ولم يذكر=
إسحاق
(1)
أيضًا، وعند أبي حنيفة والشَّافعي فيه خلافٌ بينهما، فهم يتفقون على الأيام الثلاثة، وأن خيار الشرط لا يتجاوزها، لكن لو أن المتبايعين أطلقا، فما الحكم؟ هنا يقع الخلاف بين الإمامين، فأبو حنيفة يقول
(2)
: لو أطلقا وتم الخيار في مدة الثلاثة أيام جاز البيع، والشافعيُّ
(3)
يمنع ذلك؛ لأنه يرى أنه قد دخل على هذا البيع ما يفسده.
قوله: (وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِنْ وَقَعَ الخِيَارُ فِي ثَلَاثَةِ الأَيَّامِ زَمَنِ الخِيَارِ المُطْلَقِ).
إذا اختار أَحدُهُما أو كلاهما الخيار المطلق، فهل هذا جائزٌ؟ هناك مَنْ يمنعه، وهناك مَنْ يجيزه، وهناك مَنْ يجيزه إذا انتهى، أي: بتَّ في الخيار في الأيام الثلاثة وهو أبو حنيفة، والشافعيُّ يمنع ذلك؛ لأن أصل الخيار كان غير صحيح، لأنه محصورٌ عنده بالأيام الثلاثة.
قوله: (فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ وَقَعَ فِي الثَّلَاثَةِ الأَيَّامِ جَازَ، وإنْ مَضَتِ الثَّلَاثَةُ فَسَدَ البَيْعُ
(4)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
: بَلْ هُوَ فَاسِدٌ عَلَى كُلِّ
= مدته، أو شرطا خيارًا ولم يعينا مدته، أو) شرطاه (إلى الحصاد أو الجذاذ) ونحوه (فيلغو) الشرط (ويصح البيع) ".
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 78) حيث قال: "فقالت طائفة: البيع جائز، والشرط لازم إلى الوقت الذي اشترطا إليه الخيار، هكذا قال ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وعبيدالله بن الحسن، وأحمد بن حنبل، وإسحاق".
(2)
سيأتي بعد أسطر.
(3)
سيأتي بعد أسطر.
(4)
يُنظر: "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" لشيخي زاده (2/ 24) حيث قال: " (إلا إن أجاز) أي: مَنْ له الخيار (في الثلاثة) يعني: لا يجوز الخيار أكثر من ثلاثة أيام، لكن لو ذكر أكثر منها وأجاز في الثلاثة بإسقاط خيار الأكثر عند الامام، ولا اعتبار لأوله لزوال المفسد قبل تقرره، فانقلب صحيحًا".
(5)
يُنظر: "البيان" للعمراني (5/ 31) حيث قال: "إذا شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام .. فسد البيع، وإنْ أسقط ما زاد على الثلاث لم يحكم بصحة العقد".
حَالٍ، فَهَذِهِ هِيَ أَقَاوِيلُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ، وَهِيَ: هَلْ يَجُوزُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا؟ وَإنْ جَازَ مُقَيَّدًا فَكَمْ مِقْدَارُهُ؟ وإِنْ لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا، فَهَلْ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَلَّا يَقَعَ الخِيَارُ فِي الثَّلَاثِ أَمْ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الثَّلَاثِ؟ فَأَمَّا أَدِلَّتُهُمْ فَإِنَّ عُمْدَةَ مَنْ لَمْ يُجِزِ الخِيَارَ هُوَ مَا قُلْنَاهُ).
أنَّهم ادَّعوا أنَّ فيه غَررًا، وقلنا: إنَّ الغررَ هنا غير بَيِّنٍ، وحتى إن وجد غرر بسيط، فلا تَأْثيرَ له في مقابل المصلحة الكبرى التي تتحقَّق بوجود الخيار.
قوله: (وَأَمَّا عُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُجِزِ الخِيَارَ إِلَّا ثَلَاثًا، فَهُوَ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَلَّا يَجُوزَ الخِيَار، فَلَا يَجُوزُ مِنْهُ إِلَّا مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ فِي حَدِيثِ مُنْقِذِ بْنِ حبَّانَ، أَوْ حبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ
(1)
).
لا يجوز الخيار عندهم؛ لأن الأصل أن ينظر الإنسان إلى السلعة فيشتريها أو لا يشتريها، والبيع نوعان:
* بيع يحصل فيه القبض في المجلس أي: قبض الثمن في المجلس، وما يشترط فيه القبض في المجلس لا يصلح فيه خيار الشرط.
* وبيع لا يحصل فيه القبض في المجلس، فالبيع الذي لا يتم فيه القبض يصلح فيه خيار الشرط؛ كصرف الدراهم، لا يصلح فيه خيار الشرط، أي: استبدال درا هم بدراهم؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر،
(1)
قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(5/ 66): "حبان كان أحوج الناس إلى الزيادة في الخيار لمكانه من ضعف النظر، وحاجته إلى استدراك الخديعة، فلما لم يزد بالشرط على الثلاث، دل على أنها غاية الحد في العقد. والثاني: أنه حده بالثلاث، والحد يفيد المنع؛ إما من المجاوزة أو من النقصان، فلما جاز النقصان من الثلاث، علم أنه حد للمنع من مجاوزة الثلاث".
والملح بالملح، يدًا بيدٍ، مثلًا بمثلٍ"، يدًا بِيَدٍ كما جاء في حديث عُمَرَ.
إذًا، الصرف لا يصلح فيه خيار الشرط، وكذلك السلم، وهو كما قلنا: نوع من البيوع: أن تدفع دراهم، وتنتظر السلع؛ سواء كانت بلحًا أو تمرًا أو سلعةً أخرى
(1)
، وهذا قد أجازه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فخيار الشرط لا يمكن أن نطبقه على كل أنواع البيوع، بل نطبقه على البيوع التي لا يُشْترط فيها التقابض.
(حَدِيثِ مُنْقِذِ بْنِ حبَانَ، أَوْ حبَانَ بْنِ مُنْقِذٍ)، وقد ذكر في بعض الروايات أنه حبان الابن، وفي أخرى أنه "منقذٌ" الأب
(2)
، ويُحْكى أنه كان قد أصيب في رأسه، وحَصل شيءٌ في عقله، فكان يخدع في البيع، فَجَعل لَه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيام فيما اشتراه
(3)
.
قوله: (وَذَلِكَ كَسَائِرِ الرُّخَصِ المُسْتَثْنَاةِ مِنَ الأُصُولِ، مِثْلُ اسْتِثْنَاءِ العَرَايَا
(4)
مِنَ المُزَابَنَةِ
(5)
).
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بعض أنواع البيوع، ومنها بيع المزابنة، والمزابنةُ هي بيعُ الرطب على رؤوس النخل، ومع ذلك استثنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العرايا.
(1)
وهو بيع السلم، وقد تقدم.
(2)
قال في "جامع الأصول"(12/ 1024): "حديث الرجل الذي كان يخدع في البيع وقال: "لا خلابة"، هو حبَّان بن منقذ بن عمرو، أو والده منقذ".
(3)
تقدم.
(4)
"العرايا": جمع عرية، وهي أن يبيع الرطب أو العنب على الشجر بتقديره من التمر أو الزبيب على أن يكون ذلك خمسة أوسق أو أقل. انظر:"شرح مسلم" للنووي (10/ 189).
(5)
"المزابنة": هي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر كيلًا، وبيع العنب بالزبيب كيلًا.
يُنظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 150).
قوله: (وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ تَحْدِيدُ الخِيَارِ بِالثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ المُصَرَّاةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:"مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً، فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ"
(1)
).
والمُصرَّاة يعني الشاة، فيأتي إنسان فيربط ثدي هذه الشاة ثم يتركها فترةً لا تحلب، فيتجمع اللبن في ضَرْعها، فإذا ما جَاء مُشْتَرٍ، انخدع بها وظن أنها دائمًا بهذا الشكل، فيَشْتريها، فإذا أخذها وجربها وجد أنها على خلاف ذلك، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن مَن اشترى مُصرَّاةً، فهو بخير النظرين، فإن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، واعتبار الثلاثة أيام هذا وارد كثيرًا في الشريعة.
قوله: (وَأَمَّا حَدِيثُ مُنْقِذٍ، فَأَشْبَهُ طُرُقِهِ المُتَّصِلَةِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ).
(فأَشْبَه طُرُقه)، يعني: أصلَح طرقه، أسلَم طرقه، أولى طرقه.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُنْقِذٍ، وَكَانَ يُخْدَعُ فِي البَيْعِ:"إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَأَنْتَ بِالخِيَارِ ثَلَاثًا"
(2)
).
(لَا خِلَابة)، يعني: لا خدع.
"قول: (وَأَمَّا عُمْدَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، فَهُوَ أَنَّ المَفْهُومَ مِنَ الخِيَارِ هُوَ اخْتِيَارُ المَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِزَمَانِ إِمْكَانِ اخْتِيَارِ المَبِيعِ)
(3)
.
وقد جعل الخيار للتفكر، فإن اخترت المبيع تم العقد وأصبح لازمًا، وإن عدلتَ عنه انتهى الأمر.
(1)
أخرجه البخاري (2152)، ومسلم (1524).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم.
قوله: (وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَبِيعٍ مَبِيعٍ).
فبَعْضها يحتاج إلى وقتٍ أكثرَ ليفكِّر ويستشير، وبعضها لا يحتاج إلى وقتٍ.
قوله: (فَكَأَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ عِنْدَهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا المَعْنَى، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ)
(1)
.
فهو تنبيهٌ بالأدنى أريد به الأعلى.
قوله: (وَعِنْدَ الطَّائِفَةِ الأُولَى مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ).
عند الحنفية
(2)
والشافعية
(3)
، ومَنْ معهم.
قوله: (وَأَمَّا اشْتِرَاطُ النَّقْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ
(4)
لِتَرَدُّدِهِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ السَّلَفِ، وَالبَيْعِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ
(5)
.
وقد انتقل المؤلف إلى مسألةٍ أخرى، وهي الثالثة؛ لأنه في المقدمة ذكر لنا حكم الخيار، وتكلمنا عنه، ثم ذكر الأدلة، والآن انتقل إلى مَسْألةٍ أخرى وهي النقد.
والمُرَادُ بـ "النقد": إنما هو النقد فيما يتعلق قبل العقد، يَعْني في وقت الخيار، هل يجوز للمشتري أن ينقد البائع الثمن أو لا يجوز؟ فالمشتري قد أجاز هذا المبيع إليه، لكنه أمامه خيار، فهل له أن ينقد الثمن؟
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 314) حيث قال: "شرط النقد في بيع الخيار مفسد".
(5)
سيأتي بعد أسطر.
وهذه المسألة انقسم فيها العلماء إلى قسمين، وبها ستعلمون دقة فَهْم الفقهاء - رحمهم الله تعالى - لهذا الفقه، وغوصهم فيه، كيف كانوا يُدقِّقون، وكيف أنَّ بعضهم يحتاط إلى هذه المسألة، وربما يكون احتياطُ أحدهم نوعًا من التشدُّد، وقد يظهر لنا لكنه يراه أبرأ وأحوط لدينه؟ ولذلك فالأئمَّة الثَّلاثة أبو حنيفة
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد
(3)
في جانب، ومالكٌ في جانب، فمالكٌ منع، وفي روايةٍ: كره، والأئمةُ الثلاثةُ أجازوا ذلك دون كراهة.
فاشتراط النقد لا يجوز عند مالكٍ رحمه الله، وسكت عنه الأئمة الآخرون، لكن المؤلف أشار إلى ضعفٍ في هذا الرأي، وهذا دليل على إنصاف المؤلف، وأنَّه ليس مُتَعصِّبًا لمذهبه، فهو مالكي، ولكنه رأى أن هذا التعليل الذي أورده المالكية هو تعليل ضعيف غير قوي، وغير مُسلَّم به، لكنه ما ذكَر أقوال الأئمة الثلاثة، والأئمَّة الثلاثة يرون جواز ذلك، ولا مانع، وقال: لا يجوز عند مالك وأصحابه؛ لأنه ربما يوقع في بيع وسلف، ومر بنا قبلُ مسائلُ كثيرة جدًّا في البيوع.
وفي الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا تَبعْ ما ليس عندك"
(4)
، الشاهد هنا الذي
(1)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (8/ 52) حيث قال: " (ولو اشترى على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينها جاز)، ويُسمَّى هذا خيار النقد".
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 445) حيث قال: "لو اشترى بشرط أنه إن لم ينقده الثمن في ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما أو باع بشرط أنه إن رد الثمن في ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، بطل البيع".
(3)
يُنظر: "الروض المربع" للبهوتي (ص 321) حيث قال: " (و) إن قال البائع: (بعتك) كذا بكذا (على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث) ليال مثلًا أو على أن ترهنه بثمنه (وإلا) تفعل ذلك (فلا بيع بيننا) وقبل المشتري (صح) البيع والتعليق كما لو شرط الخيار، وينفسخ إن لم يفعل".
(4)
تقدم تخريجه.
معنا:"لا يحل سلف وبيع"، وهذه مسألةٌ اتفق عليها العلماء، ولا خلاف بينهم
(1)
، لكن هذا الذي أورده المالكية ليس صريحًا في هذه المسألة فهو خشيةٌ وتخوفٌ منهم أن يدخل في سلف وبيع، وسترون أن فهمهم بعيد جدًّا، فهم يقولون: هذا بيع فيه خيار وشرط، فإذا ما دفع المشتري الثَمنَ للبائع، ثم بعد ذلك حَازَ السلعة إليه، ثم قبل انقضاء مدة الخيار لم يتفقا على البيع؛ إما لأن البائع عدل، أو المشتري، ما الذي سيحصل؟ تفاسخ، إذًا لا بيع هنا، ويُصْبح هذا المبلغ الذي سلَّمه المشتري للبائع كأنه أقرضه إياه، قالوا: فهذه شبهةٌ توقع في بيعٍ وسلفٍ، وقد جاء النهي عن ذلك، فما جواب جمهور العلماء عن هذا التعليل؟
قَالَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ: هذا نوعٌ من أنواع البيع، فَجَاز قياسًا على الإجارة، ألست تُقدِّم ثمن الإجارة، فقد تذهب إلى خياطٍ أو إلى إنسانٍ ليَبْني لك جدارًا، أو يعمل لك عملًا وتعطي له الأجرة، وربما لا تتم هذه الأجرة، وربما لا يبني الجدار، وربما لا يخيط لك الثوب، قالوا: هذا بَيعٌ، فجاز التقديم، هذا من نَاحِيَةٍ، وقالوا: العلة التي ذَكَرها المالكية (أنه قد يوقع في سلفٍ وبيعٍ) غير واردةٍ عندنا؛ لأنَّنا لا نجيز للمشتري أن يَتَصرَّف في الثمن، إذْ هو أمَانةٌ عندَه، وعبَّر المؤلف عنه بأنه هو أمينٌ على الثمن الذي في يده، وإذا لم يجز له أن يتصرَّف في المال، فلا مكان لهذا التعليل أو هذا الإشكال الذي أوردتُمُوه علينا، وأعتقد أن مذهب جمهور العلماء في ذلك أصرح وأقوى، وأنه لا يرد عليه ما ورد على المالكية، وقد يرد ما أورده المالكية ما لو كان المشتري قبل أن يتم البيع حقيقةً تصرف في المبيع، أو أذن له، لكنه لم يؤذن له، فكأنه أمانة عنده، إذًا فلا إشكال هنا، ولا اعتراض.
(1)
تقدم الكلام عليها.
قوله: [(وَأَمَّا مِمَّنْ ضَمَانُ المَبِيعِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ:
فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَصْحَابُه، وَاللَّيْث، وَالأَوْزَاعِيُّ
(2)
: مُصِيبَتُهُ مِنَ البَائِعِ، وَالمُشْتَرِي أَمِينٌ)].
وهذه مسألةٌ رابعةٌ: مَن الذي يضمن المبيع؟ والمراد في وقت الخيار، والمراد أيضًا عندما يُنْقل المبيع إلى ذمة المشتري يكون أمانةً عنده، فلو كان في حوزة البائع وحصل به شيءٌ، فهو عنده كما مرَّ بنا في الأحاديث الصحيحة المتفق عليها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"مَن اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه"
(3)
، لماذا؟ لأنه لو حصل فيه ذَهَابٌ قبل القبض، فَمَن الذي يضمنه؟ يضمنه البائع؛ لأنه ما زال في حوزتِهِ، فالمَبيع الذي اتفق على خيار الشرط فيه قد قبضه المشتري، لكن قبضه إياه ليس قبضَ شراءٍ، وإنما هو أمانةٌ عنده؛ لينظرَ فيه، ويدققَ فيه ويعرفه، فما الحكم إذا نزلت به مصيبةٌ، إذا ذهب، ضاع، غرق، احترق، وغير ذلك، فَمَن الذي يضمنه؟ هل هو البائع أو المشتري؟ فيه خلافٌ بين العلماء سيذكره المؤلف مُفصَّلًا.
قوله: (مُصِيبَتُهُ مِنَ البَائِعِ، وَالمُشْتَرِي أَمِينٌ):
(مُصِيبَته) يَعْني: خَسَارته على البَائع، وبه قال مَالكٌ وأصحابُهُ واللَّيث، والليث - كما تعلمون - هو فقيه مصر قبل الشَّافعيِّ، والأوزاعيُّ إنما هو فقيه الشام، وكلاهما أيضًا في درجة لا تقل عن الأئمة الأربعة.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 422) حيث قال: "قال مالكٌ: من اشترى عبدًا بعبدٍ والخيار لأحدهما أو لهما جميعًا وتقابضا، فمصيبة كل عبدٍ من بائعه؛ لأن البيع لم يتم، ولا يتم بينهما حتى يقع الخيار".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 487) حيث قال: "فعند مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي هلاكه من البائع والمشتري أمين".
(3)
تقدم تخريجه.
(وَالمُشْتَرِي أَمِينٌ)؛ لأنه لم يَتِمَّ البيع، فلا يزال في مِلْكِ البائع وفي حوزة المشتري، ولكن وجوده عند المشتري كأَمَانَةٍ بيَدِهِ.
قَوْله: (وَسَوَاءٌ أكَانَ الخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا).
ولَا فرق بَيْن أن يكون الخيار لِكُلِّ واحدٍ منهما، أيْ: كلُّ واحد منهما اشترط الخيار لنفسه، أو كان الخيار من جانب المشتري، أو من جانب البائع وَحْده.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ فِي المَذْهَبِ)
(1)
.
وهذه رِوَايةٌ أخرى في المذهب، لكنها ليست كالأولى.
قوله: (إِنَّهُ إِنْ كَانَ هَلَكَ بِيَدِ البَائِعِ، فَلَا خِلَافَ فِي ضَمَانِهِ إِيَّاهُ).
فلو هَلَك في يَد البَائع، فعليه الضمان، وهذا معروفٌ؛ لأنه لا يزال في حوزتِهِ.
قوله: (وَإِنْ كَانَ هَلَكَ بِيَدِ المُشْتَرِي، فَالحُكْمُ كَالحُكْمِ فِي الرَّهْنِ وَالعَارِيَّةِ: إِنْ كَانَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَيْهِ). ونرى في بعض النُّسَخ كلمة "يغلب"، وهذا خطأٌ، والصواب:"إنْ كان مما يُغَاب عليه"، يعني: يغاب عنه، كَأَنْ أَهْمَلَ الراهن رهنه، فلَوْ كان رَهَنه دَوابَّ وأهملها وتركها فعطشت فهلكت، فإنه في هذا يضمنها، أما إذا
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 422) حيث قال: "الضمان في أمد الخيار مما يحدث بالسلعة من البائع إذ هو أقدم ملكًا، فلا ينتقل الضمان عنه إلا بتمام انتقال ملكه عنها، والضمان منه فيما قبضه المبتاع مما لا يغاب عليه، وفيما يثبت هلاكه مما يغاب عليه؛ لأن هلاكه ظاهر بغير صنعه، وأنه غير متعدٍّ في قبضه كالرهن والعارية، وأما ما لم يثبت هلاكه مما يغاب عليه فالمبتاع يضمنه؛ لأن قبضه خارجٌ من قبض الأمانة، وإنما قبضه لمنفعة نفسه، وعلى وجه المبايعة دون الأمانة، وكقبض الرهن والعاريَّة".
لم يكن هناك تقصيرٌ فلا، وهذا كما ذَكَرتُ لكم من دقة الفقهاء رحمهم الله، فهل نحن في دراستنا الآن ندقق هذا التدقيق، ونغوص في المسائل كما يغوصون، ونربط بعضها ببعضٍ؟
الجواب: لا، فما كان أحدهم يتجاوز جزئيةً من الجزئيات إلا وهو يعرف علَّتها؛ سواء أصاب في فهمه أو أخطأ؛ لأنه مأجورٌ على كل حالٍ، كما في الحديث الصحيح:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"
(1)
، فهو مَأْجورٌ على كلا الأمرين، فإنْ أصَاب فلَه أجران، أجر اجتهاده وأجر إصابته، وإنْ أخطأ فله أجرٌ واحدٌ هو أجر الاجتهاد، لكن ممَّنْ يَكُون الاجتهاد؟ من أهل الاجتهاد، فلا يأتي إنسانٌ في أولى درجات طلب العلم، ثم بعد ذلك يُنصِّب نفسه للفتوى والاجتهاد، وقال الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم:"أَجْرَؤكم على الفتيا أَجْرَؤكم على النار"
(2)
.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ، فَضَمَانُهُ مِنَ البَائِعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: إِنْ كَانَ شَرْطُ الخِيَارِ لِكِلَيْهِمَا، أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَه، فَضَمَانُهُ مِنَ البَائِعِ وَالمَبِيعِ عَلَى مِلْكِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ شَرَطَهُ المُشْتَرِي وَحْدَه، فَقَدْ
(1)
أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716).
(2)
أخرجه الدارمي (157)، وضعفه الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الضعيفة"(4/ 294).
(3)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" للبلدحي (2/ 14) حيث قال: "ثم الخيار إما أن يكون للبائع أو للمشتري أو لهما، فإن كان للبائع فلا يخرج المبيع عن ملكه؛ لأنه إنما يخرج بالمُرَاضاة، ولا رضا مع الخيار حتى نفذ إعتاق البائع، وليس للمشتري التصرف فيه، ولو قبضه المشتري وهلك في يده في مدة الخيار فعليه قيمته؛ لأنه لم ينفذ البيع، ولا نفاذ للتصرف بدون الملك، فصار كالمقبوض على سوم الشراء، وفيه القيمة، ولو هلك في يد البائع لا شيء على المشتري كالصحيح، ويخرج الثمن من ملك المشتري بالإجماع، ولا يدخل في ملك البائع عند أبي حنيفة خلافًا لهما، وإنْ كان الخيار للمشتري يخرج المبيع عن ملك البائع؛ لأن البيع لزم من جانبه، ولا يدخل في مِلْكِ المشتري عند أبي حنيفة، وعندهما يدخل، والثمن لا يخرج من ملك المشتري بالإجماع".
خَرَجَ المَبِيعُ عَنْ مِلْكِ البَائِعِ، وَلَمْ يَدْخُلْ مِلْكَ المُشْتَرِي الثَّمَن، وَبَقِيَ مُعَلَّقًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الخِيَار، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: إِنَّ عَلَى المُشْتَرِي الثَّمَنَ).
وهنا تَردُّدٌ في المذهب، فالمسألة معلقةٌ، وكأن كل قضية تُدْرس بحالها، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تَصوُّره. وقيل في المذهب: هو على المشتري في هذه الحالة الثانية.
قوله: (وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَهُ قد دَخَلَ عِنْدَهُ فِي مِلْكِ المُشتَرِي. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ
(1)
، أَشْهَرُهُمَا: أَنَّ الضَّمَانَ مِنَ المُشْتَرِي لِأَيِّهِمَا كَانَ الخِيَارُ).
هذا قول الشافعي، وأما الإمام أحمد فلم يذكر المؤلف رَأْيَه، وهو عند الحنابلة
(2)
أنَّ الضمانَ على المشتري بقبضه المبيع؛ لأنه حازه عنده، وأصبح في يده فهو المسؤول عنه، فإذا تلف يكون مسؤولًا عنه، وهناك تفصيلاتٌ في جميع هذه المذاهب لا حاجة لأَنْ نخوض فيها.
قوله: (فَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّ الضَّمَانَ مِنَ البَائِعِ عَلَى كُلِّ حَالٍ: أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَلَمْ يَنْقِلِ المِلْكَ عَنِ البَائِعِ).
(عقدٌ غَيْر لازمٍ)؛ لأنه لم يَتِمَّ بعد، لكن إذا تمَّت الصفقة، فإنه يُصْبح لازمًا؛ لأنَّ البيعَ من العُقود اللَّازمة، ولكن نحن في وقت الخيار، فالبيع لم يتمَّ بعد، ولا يَزَال الخيار قائمًا.
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 438) حيث قال: "المبيع إذا هلك في يد المشتري في زمن الخيار مِنْ ضمان مَنْ يكون؟ الأصحُّ: أنه من ضمان المشتري
…
والثاني: من ضمان البائع".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 209) حيث قال:، "وإن تلف المبيع قبل القبض وكان) المبيع (مكيلًا) بيع بكيلٍ. (ونحوه) كالمبيع بوزنٍ أو عدٍّ أو ذرعٍ (بطل البيع) لما يأتي (وبطل معه الخيار) أي: خيار المجلس، والشرط سواء كان لهما أو لأحدهما لأن التالف لا يتأتى عليه الفسخ (وإن كان) تلف المبيع بكيل أو وزن أو عدٍّ أو ذرع (بعده) أي: بعد القبض، فهو من ضمان المثشري، وبطل الخيار".
قوله: (كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ، وَلَمْ يَقُلِ المُشْتَرِي: قَبِلْتُ. وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنَ المُشْتَرِي تَشْبِيهُهُ بِالبَيْعِ اللَّازِمِ).
وهذا هو تعليل المؤلف، وأما مَنْ جعله من ضمان المشتري تشبيهًا له بالبيع الواقع المنعقد فهو ضعيفٌ، ونقول: هذا لَيْسَ بضَعِيفٍ، بل هو قوي، لأنَّ المبيعَ أصبح في يد المشتري وهو أمينٌ عليه، وهو أولى بالمسؤولية عليه.
قال: (وَهُوَ ضَعِيفٌ لِقِيَاسِهِ مَوْضِعَ الخِلَافِ عَلَى مَوْضِعِ الاتِّفَاقِ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الضَّمَانَ لِمُشْتَرِطِ الخِيَارِ إِذَا شَرَطَهُ أَحَدُهُمَا).
كما رأيتم في رِوَايةٍ في مذهب أبي حنيفة.
قوله: (وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ الثَّانِي؛ فَلأنَّهُ إِنْ كَانَ البَائِعُ هُوَ المُشْتَرِطَ، فَالخِيَارُ لَهُ في إِبْقَاءِ المَبِيعِ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ كانَ المُشْتَرِي هُوَ المُشْتَرِطَ لَهُ فَقَطْ، فَقَدْ صَرَفَهُ البَائِعُ مِنْ مِلْكِهِ وَأَبَانَه، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِ المُشْتَرِي هذَا الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ فَقَطْ. قَالَ: قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ البَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ خِيَارًا).
لماذا كثر الخلاف في هذه الجزئية؟
لأنَّه لم يَرِدْ فيها نصٌّ، وإنما المَسْألة - كما تَروْن - قامت على التعليل، واختلف العُلَماء في فهمها، فبَعْضهم يرى أنها إلى البائع أقرب، فقال: الضمان عليه، وبعضهم قال: إنها إلى المشتري أقرب؛ لأنها في حوزته، وهو أولى بضمانها، فما ذنب البائع، وقد كانت السلعة في يد غيره فتلفت.
وقَدْ رأيتم التفريق بين أن يغاب أو لا يغاب، فإن لم يغب عنها، وكان يرعاها ويحافظ عليها، فلا، وإنْ غاب عنها ووكل غيره، لا يكون مهملًا، لكن إذا غاب عنها وفرط، لا شك أن تفريطه يُوقعُهُ في المسؤولية.
قوله: (وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِ المُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الخِيَارَ فِي رَدِّ الآخَرِ لَه، وَلَكِنَّ القَوْلَ يُمَانِعُ الحُكْمَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُصِيبَتُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَالخِلَافُ آيِلٌ إِلَى: هَلِ الخِيَارُ مُشْتَرَطٌ لإِيقَاعِ الفَسْخِ فِي البَيْعِ أَوْ لِتَتْمِيمِ البَيْعِ؟).
فَالمُؤلِّف يقول: لا يمكن أن يبقى، وكأنه يردُّ على الروايات الأخرى في الحنفية الذين علقوا، فقال: لا يمكن أن يكون معلقًا، فإما أن يُجْعل من ضمان البائع، أو أن يُجْعل من ضمان المشتري، أمَّا أن يعلَّق فلا.
ثم أورد تعليلًا يرى أنه بهذا الأصل أو هذا المقياس أو هذا التقعيد الذي ذكره يُمْكن أن يُفرَّق بين أمرين، فيكون هنا في هذه القاعدة من ضمان البائع، وهنا من ضمان المشتري.
قول: (وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِ المُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الخِيَارَ فِي رَدِّ الآخَرِ لَه، وَلَكِنَّ القَوْلَ يُمَانِعُ الحُكْمَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُصِيبَتُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا).
فلَا بدَّ أن يكون أحدهما هو الضامن.
قوله: (وَالخِلَافُ آيِلٌ إِلَى: هَلِ الخِيَارُ مُشْتَرَطٌ لاِيقَاعِ الفَسْخِ فِي البَيْعِ أَوْ لِتَتْمِيمِ البَيْعِ؟).
هَلْ هو لإيقاع الفسخ أو لتتميم البيع؟
قوله: (فَإِذَا قُلْنَا: لِفَسْخِ البَيْعِ، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ ضَمَان البَائِعِ).
إذا قلنا: هو للفسخ، فلَيْس من ضمان البائع.
قوله: (وَإِنْ قُلْنَا: لِتَتْمِيمِهِ، فَهُوَ فِي ضَمَانِهِ).
لأنَّ الَّذي يتم العقد إنَّما هو البائع.
قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَة الخَامِسَة، وَهِيَ: هَلْ يُورَثُ خِيَارُ المَبِيعِ أَمْ لَا؟).
وهذه قضية مهمة جدًّا، قضية الخيار، وليس هذا في الخيار وحده، في القصاص، وكذلك في المكاتب والطلاق إذا وكل، والرد بالعيب إلى غير ذلك.
وفي هذه المسألة سترون أن كل فريق من العلماء يحاول أن ينقض قول الآخر بمسائلَ أخرى وافق فيها المخالف، يعني يقول: أنت وافقتني في كذا، وفي كذا، فلماذا تفرق بين ذا وذا، لأنه يسلم له في بعض المسائل، والآخر يأتي ويقول أيضًا: أنت وافقتني في كذا، فلماذا تخالف في هذا؟
قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
، وَالشَّافِعِيَّ
(2)
، وَأَصْحَابَهُمَا قَالُوا: يُورَث، وَأنَّهُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الحيَارِ فَلِوَرَثَتِهِ مِنَ الخِيَارِ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُ).
مَالكٌ والشافعيُّ وأصحابهما يرون أن خيار الشرط يورث، فإذا ما حصل اتفاق بين اثنين (بائع ومشتَرٍ) على شراء سلعة، ووضعا حدًّا للخيار، فَمَات أَحدُهُما، فهل ينتقل الخيار إلى الورثة بمعنى: هل يورث كما تورث الأموال؟ أو بعبارةٍ أخرى: هل هناك فرقٌ بين الحقوق وبين الأموال؟ لأن هذَا حقٌّ لصَاحب الخيار، نحن نعلم بأنهم يرثون الأموال، وهناك أيضًا أنواع من الحقوق تورث كالقصاص، لكن هل هذا يورث أو لا؟ أما ما يتعلَّق بالأموال فمُسلَّمٌ أنها تورث، وما يتعلق بالحقوق هي محل خِلَافٍ، ولذلك اختلف العلماء.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (4/ 421) حيث قال: "قال مالك: الخيار يورث عن الميت؛ لأنه حق له".
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 441) حيث قال: "لو مات أحدهما في المجلس، نص أن الخيار لوارثه. وقال في المكاتب: إذا باع ومات في المجلس، وجب البيع. وللأصحاب ثلاث طرق، أصحُّها في المسألتين قولان، أظهرهما: يثبت الخيار للوارث والسيد، كخيار الشرط والعيب".
قوله: (فَلِوَرَثَتَهِ مِنَ الخِيَارِ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُ)؛ يعني: يحلُّون محلَّه، يأتي أولاده فيَقُولُون: نحن محل والدنا، ولنا الخيار؛ إما بإمضاء البيع أو بفسخه.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَأَصْحَابُهُ
(2)
) وأَحْمَد
(3)
فَالأئمَّة الأربعة انْقَسموا إلى قِسْمَين: فريق يرى أنه لا يورث، وفريق يرى أنه يورث.
قوله: (يَبْطُلُ الخِيَارُ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ الخِيَار، وَيَتِمُّ البَيْع، وَهَكَذَا عِنْدَهُ خِيَارُ الشُّفْعَةِ)، يعني عند أبي حنيفة، ولن ندخل في تفصيل الخلاف بين مذهبي الحنفية والحنابلة، فهناك بعض الخلاف، لكنهما اتفقا في الأصل هنا، أنهما يريان أنه لا يورث، والفريق الأول يرى أنه يورث.
والرَّسول صلى الله عليه وسلم أثبت الشفعة "الشُّفعة فيما يقسم"
(4)
، ووردت أحاديث كثيرةٌ فيما يتعلق بالشُّفعة، والرسول صلى الله عليه وسلم أثبتها للجار
(5)
، والمراد الجار الشريك أيضًا، فهل لو مات صاحب الشفعة هل تنتقل إلى وَرَثَته؟ نعم.
(1)
تقدم.
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" للبلدحي (2/ 13) حيث قال: " (وخيار الشرط لا يورث)؛ لأنه مشيئةٌ وتروٍّ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 41) حيث قال: " (ويورث خيار الشرط إن طالب به) مستحقه (قبل موته) كشفعةٍ وحد قذف وإلا فلا".
(4)
أخرجه البخاري (2214)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالٍ لم يقسم، فإذا وَقَعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة".
(5)
أخرجه البخاري (6977)، عن أبي رافعٍ: أن سعدًا سَاوَمه بيتًا بأربع مئة مِثْقالٍ، فقال: لولا أني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بصقبه"، لما أعطيتك. وقال بعض الناس:"إن اشترى نصيب دار، فأراد أن يبطل الشفعة، وهب لابنه الصغير، ولا يكون عليه يمين".
قوله: (وَخِيَارُ قَبُولِ الوَصِيَّةِ
(1)
، وَخِيَارُ الإِقَالَةِ
(2)
، وَسَلَّمَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ خِيَارَ الرَّدِّ بِالعَيْبِ أَعْنِي: أَنَّهُ قَالَ: يُورَثُ
(3)
).
قيلَ لأبي حنيفة: ألست ترى أن خيار العيب يورث؟ يعني لو اشترى إنسان سلعةً من إنسان وتم العقد ومات المشتري، فوقف الورثة على عيب في تلك السلعة، فحينئذٍ يقومون مقام مورثهم، فيطالبون برد المعيب أو بالأرش؟ فيقول: نعم.
قوله: (وَكَذَلِكَ خِيَارُ اسْتِحْقَاقِ الغَنِيمَةِ قَبْلَ القَسْمِ
(4)
، وَخِيَارُ القِصَاصِ، وَخِيَارُ الرَّهْنِ
(5)
).
وَالغَنيمة هي ما يحصل عليه المسلمون من المغانم {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 169) حيث قال: "والموصى به يملك بالقبول إلا في مسألةٍ، وهي: أن يموت الموصي ثم يموت الموصى له قبل القبول، فيدخل الموصى به في مِلْكِ وَرَثته".
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (6/ 19) حيث قال: "أما الموت، فإنه مبطلٌ لخيار الميت؛ سواء كان بائعًا أو مشتريًا، ولا يورث عندنا كخيار الرؤية؛ لأنه ليس إلا مشيئة وإرادة، ولا يتصور انتقاله، والإرث فيما يقبل الانتقال لا فيما لا يقبله كملك المنكوحة والعقود التي عقدها المورث لا تنتقل، وإنما ملك الوارث الإقالة لانتقال الملك إليه".
(3)
يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (5/ 3) حيث قال: "ثم إن خيار العيب يثبت بلا شرطٍ، ولا يتوقَّت، ولا يمنع وقوع الملك للمشتري، ويورث".
(4)
ينظر: "درر الحكام" لملا خسرو (1/ 287) حيث قال: " (و) حرم (بيعه) أي: المغنم (قبلها) أي: القسمة؛ للنهي عنه في الحديث، ولأنه قبل الإحراز بالدار لم يملك كما مرَّ، وبعده نصيبه مجهولٌ جهالة فاحشةً، فلا يمكنه أن يبيعه، (والردء) أي: العون (ومدد يلحقهم تمة كمقاتل) في استحقاق الغنيمة (لا سوقي لم يقاتل ولا من مات ثمة)؛ لعدم التملك (ويورث قسط مَنْ مات هنا) لحصول الملك".
(5)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (7/ 116) حيث قال: "القصاص يورث، والحد لا"، وينظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 557) حيث قال: "وحبس المبيع وحبس الرهن يورث".
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] إلى آخر الآية، إذًا الغنيمة ثابتةٌ شرعًا، لكن لها أحوالٌ:
الحالة الأولى: أنها تقسم، وبعد القسمة هل تحاز أو لا تحاز؟ يقسمها ولي الأمر وقد يحوزها الأشخاص أو لا يحوزونها، ولذلك يختلف الأمر لو أن إنسانًا أخذ من المغنم الذي {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، والرسول صلى الله عليه وسلم حرق متاع الغالِّ
(1)
، عمَّا إذا حاز الإنسان قسمةً أصبح له، فهل هذه تنتقل أو لا؟ نعم، وقد احتجوا على أبي حنيفة بأنه يرى ذلك أنها تورث.
قوله: (وَسَلَّمَ لَهُمْ مَالِكٌ خِيَارَ رَدِّ الأَبِ مَا وَهَبَهُ لابْنِهِ):
فإذا وهب الأب ابنه هبةً، هل له ردُّها أو لا؟ وإن قلنا برَدِّها، فهل هذا الرد يورث أو أنه يقتصر على الأب؟
هَذِهِ هي المسألة التي يريدها، وَوَرد فيها أثر في قصَّة أبي بكرٍ رضي الله عنه أذكر أنه وهب ابنته عائشة رضي الله عنها حديقةً، ثم بعد ذلك عرض على ابنته عائشة ردها، أي: إعادتها إليه، ثم ذكر رضي الله عنه العلة في ذلك، وأن لها أختًا، وتلكم الأخت لم تكن ولدت بعد، وإنما كانت في بطن زوجته التي تُوفِّي عنها
(2)
، فقد ردها، وهذا أثر يدل على أن الأب إذا أهدى لابنه شيئًا له
(1)
أخرجه الترمذي (1461) عن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ وجدتموه غلَّ في سبيل الله، فاحرقوا متاعه"، قال صالح: فدخلت على مسلمة ومعه سالم بن عبد الله، فوجد رجلًا قد غل، فحدث سالم بهذا الحديث، فأمر به، فأحرق متاعه .. وضعفه الأَلْبَانيُّ في "ضعيف الترمذي"، (ص 168).
(2)
أخرجه مالك في "الموطإ"(2783) عن عَائشَةَ زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: إنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق كان نَحَلها جاد عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية، ما من الناس أحد أحب إليَّ غنًى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله.=
أن يرده، فهل يورث ذلك بالنسبة للأبناء؟ سلم المالكية والشافعية للحنفية والحنابلة هذه القاعدة وقالوا: نُسلِّم لكم ذلك.
قوله: "أَعْنِي: أَنَّهُ لَمْ يَرَ لِوَرَثَةِ المَيِّتِ مِنَ الخِيَارِ فِي رَدِّ الأبِ مَا وَهَبَهُ لابْنِهِ)
(1)
، مَا جَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ (أَعْنِي: لِلأَبِ).
قد يسأل سائلٌ فيقول: لماذا يفرق بين الأب وغيره؟
وأعتقد أن الأمر واضح جدًّا، فهناك عدة أسباب:
أوَّلها: كما جاء في الحديث: "أنت ومالك لأبيك"
(2)
، "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"
(3)
، ندع هذا الأمر على أنه من كسبه، لكننا نأتي إلى تقرير الحكم الشرعي، وهي قضية رد الهبة؛ لأنه - كما تعلمون - جاء النهي عن رد الهبة، وأن هذا ليس من مكارم الأخلاق، ولذلك شبه الرسول صلى الله عليه وسلم العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه
(4)
، فهل هناك وصفٌ أسوأ من هذا الوصف، كأن هذا الذي يهب شيئًا ثم يرجع فيه بمثابة كَلْب قاء،
= قالت عائشة: فقلت: يا أبتِ، والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ فقال: ذو بطن بنت خارجة.
(1)
يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (5/ 701) حيث قال: "أما إذا مات الموهوب له، فلأن الملك قد انتقل إلى الورثة، وأما إذا مات الواهب، فلأن النص لم يوجب حق الرجوع إلا للواهب، والوارث ليس بواهب".
وينظر: "شرح التلقين" للمازري (2/ 370) حيث قال: "وهكذا اختلف عندنا في الهبات: هل يبطلها موت الواهب أو فلسه قبل أن يقبضها الموهوب له، إذا لم يفرط الموهوب له في القبض، مثل أن يهبه سلعةً غائبةً، أو دارًا غائبة، فَخَرج الموهوب له ليقبض ذلك، فمات الواهب، والموهوب له لم يصل إلى الموضع الذي به الهبة، فالحكم عِنْدَنا في الهبة والرهن إذا لم يحصل القبض في واحدٍ منهما حكمٌ واحدٌ".
(2)
أخرجه ابن ماجه (3477)، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ. انظر:"صحيح الجامع"(2/ 1138).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2137)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ. انظر:"إرواء الغليل"(3/ 330).
(4)
أخرجه البخاري (2589)، ومسلم (1622).
أَيْ: أخرج ما في بطنه ثم أعاد إليها مرَّةً أخرى، لا شكَّ أنه مَثَلٌ سيئٌ وقبيحٌ لا تقبله النفوس، كما قال الله سبحانه وتعالى في الذين يشتغلون بالنميمة:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة قتات"
(1)
، أي: نمام، فالأب هنا يسترد الهبة لا يستردها لأنه يحسد ابنه، ولا لأنه يريد إيقاع الضَّرر به، فلا عطف، ولا رحمة، ولا محبة، ولا ودَّ أعظم من محبة الوالد لولده، هذا أمرٌ مسلمٌ، وإذا كانوا في الجاهلية يَقُولون: إنما أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض، فما بالكم في شأن المسلمين، فهذه غَريز غرسها الله سبحانه وتعالى في قلوب الآباء والأمهات، بل إن الأب لا يفرح بشيءٍ أكثر مما يفرح لنفسه إلا أن يرى ابنه في حال أحسن، فالأب ليس محل شك، ولا ريبة، ولا مظنة، فكونه يرجع في هبته لسببٍ كما ذكر أبو بكرٍ رضي الله عنه، وهب عائشة وما كان لها شَريكٌ، فلما حملت امرأته الأخرى وهي بعد لم تولد طلب رد الهبة
(2)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ خِيَارُ الكِتَابَةِ وَالطَّلَاقِ وَاللِّعَانِ).
يعني قَصده المكاتب، وكذلك الطلاق، ويقصد بالطلاق إذا وكل الزوج غيره بأن يطلق ثم تُوفِّي هذا الموكل، هل تنتقل إلى ورثته؟ لا.
قوله: (وَمَعْنَى خِيَارِ الطَّلَاقِ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ آخَرَ طَلِّقْ امْرَأَتِي مَتَى شِئْتَ):
فقَدْ أعطاه الحرية، وما قيَّدَ ذلك بزَمَنٍ، فما قال: طَلِّقها ناجزًا، ولا بعد يومٍ، ولا بعد شهرٍ، ولا بعد سنةٍ، ولكن قال: متى شئت، فأطلق الأمر، فمعنى هذا أنه ربما لا يُطلِّقها، لكنه ترك له الخيار.
(1)
أخرجه البخاري (6056)، ومسلم (105).
(2)
تقدمت القصَّة بتمامها وتخريجها آخر الصفحة السابقة مباشرة.
قوله: (فَيَمُوتُ الرَّجُلُ المَجْعُولُ لَهُ الخِيَار، فَإِنَّ وَرَثَتَهُ لَا يَتَنَزَّلُونَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ مَالِكٍ)
(1)
.
وَهَذَا غير وَارِدٍ في الحقيقَة؛ لأن الطلاق لا يورث، وإنما إذا ما مات الوكيل ينتقل إلى الموكل، ويعود إليه؛ لأنه حق حتى له أن يرفع عنه ذلك في وقت حياته، قد يوكل إنسان إنسانًا ثم يلغي وكالته، والوكالة قد تكون مطلقةً، وقد تكون مُقيَّدةً.
قوله: (وَسَلَّمَ الشَّافِعِيُّ
(2)
مَا سَلَّمَتِ المَالِكيَّةُ لِلْحَنَفِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الخِيَارَاتِ).
فَهَؤُلَاء سَلَّموا لأولئك، وأولَئك سلَّموا لهؤلاء، وبهذا نَتبيَّن أن مسائل الاجتهاد قد يحصل فيها الخلاف، وتتفاوت الآراء، ويختلف العلماء فيها، لَكن قَدْ يَلْتقون عند بعض المَسَائل، فربما يسأل سائلٌ: لماذا يُسلِّم الحنفية والحنابلة للمالكية والشافعية؟ لأنهم رأوا أن الحق معهم.
قوله: (وَسَلَّمَ زَائِدًا خِيَارَ الإِقَالَةِ وَالقَبُولِ).
(1)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (5/ 36) حيث قال: "وسلمنا له خيار الهبة في الأب للابن بالاعتصار، وخيار العنة واللعان والكتابة والطلاق بأن يقول له: طلق امرأتي متى شئت، فيموت المقول له".
(2)
يُنظر: "تكملة المجموع" للسبكي (12/ 193) حيث قال: "الحقوق في المهذب (منها) ما يورث قطعًا (ومنها) ما لا يورث قطعًا (ومنها) ما فيه خلاف، وجملة ما يحضرني من الحقوق الآن خيار الرد بالعيب، وخيار الشفعة، وخيار الفاس، وحق حبس المبيع، والرهن والضمان ومقاعد الأسواق وخيار الشرط وخيار تلقي الركبان وخيار تفريق الصفقة، وخيار الامتناع من العتق، وخيار الخلف، وحق الحجر وحق اللُّقَطة وحق المرور والاختصاص بالكلب وجلد الميتة ونحوهما وخيار المجلس وقبول الوصية وحق القصاص وحد القذف والتعزير وخيار الرؤية إذا أثبتناه والتحالف والعارية والوديعة والوكالة والشركة والوقف والولاء والخيار في النكاح خيار القبول وخيار الإقالة وخيار الوكيل وحق الرجوع في الهبة وحق الأجل والتعيين والتبيين في إبهام الطلاق، وفي نكاح المشرك، وتفسير الإقرار بالمجمل".
الإقَالَة يعني: الإقَالة من المَبيع.
قوله: (فَقَالَ: لَا يُورَثَانِ
(1)
، وَعُمْدَةُ المَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَنْ تُوَرَّثَ الحُقُوقُ وَالأَمْوَالُ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيل عَلَى مُفَارَقَةِ الحَقِّ فِي هَذَا المَعْنَى لِلْمَالِ):
فَالأَصْلُ عندهم أن الأموالَ والحقوقَ تورث إلا ما استثناه الدليل، وأحيانًا تجد المخالف - والبَعْض يسميه الخصم - يحتج على المخالف بدليله، فيأتي الآخر فيقول: الأصل في الأموال أنها تورث، والأصل في الحقوق ألَّا تورث إلَّا ما دلَّ الدَّليل، فإن كنتم تدَّعون ذلك، فائتوا ببرهانكم، إذًا المخالف يحتجُّ، وهكذا كُلَّما كانت المسائلُ خاليةً من نصٍّ من كتابٍ أو سُنَّةٍ، تشعبت فيها الآراء، وتعددت وَتَنوَّعت، وكثر الخلاف، وتَعدَّدت وجهات النظر، وكلٌّ ينتهي إلى ما ينتهي إليه فهمه، وإذا كان هذا يَحْصل بين علماء الأمة الذين وَهَبهم الله سبحانه وتعالى تقوًى وهدًى وصلاحًا ورسوخًا في العلم وتمكينًا منه، وإذا كان هؤلاء يقولون بعض الأقوال، ويخطئون فيها وهم مجتهدون، فما بالكم فيمن يضعون الأحكامَ والقوانينَ وهُمْ أبعد ما يَكُونُون عن هذا الدين؟ لا شك أنَّهم على الخطإ أقرب من الثواب، ولذلك ترى أن أقْوَالهم تختلف بين فترةٍ وفترةٍ وتتنوع، فترى أن هذا الحكمَ عندهم في القمة، فإذا ما طبق وجرب ظهر خللُه، وتبينت شناعته، فعدل عنه، وبحث عن حكمٍ آخَرَ، أمَّا أحكام هذه الشريعة، فإنها جَاءَتْ منتظمةً، لا تزيغ، ولا تنحرف عن طريق الهداية؛ لأنَّ هذا هو طريق الله.
(1)
يُنظر: "البيان" للعمراني (7/ 161) حيث قال: "فقولنا: (ثابت) احتراز من خيار القبول، وخيار الإقالة؛ وهو أن البائع لو قال لرجلٍ: بعتك، فقبل أن يقول المشتري: قبلت، مات. أو قال أحد المتبايعين للآخر: أقلتك، فقبل أن يقول: قبلت، مات، لم ينتقل ذلك إلى وارثه".
قوله: (وَعُمْدَةُ الحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَنْ يُوَرَّثَ المَالُ دُونَ الحُقُوقِ)
(1)
:
وَكَذَلك عند الحنَابلَة
(2)
، فَهَذا هو الأصل؛ لأن الحقوقَ قد تختلف، قد يورث بعضها، وقد لا يورث، فلا ينبغي أن نَجْعلها قاعدةً أبدًا، لكن الأموال مسلمة.
قوله: (إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ مِنْ إِلْحَاقِ الحُقُوقِ بِالأَمْوَالِ، فَمَوْضِعُ الخِلَافِ: هَلِ الأَصْلُ هُوَ أَنْ تُوَرَّثَ الحُقُوقُ كَالأَمْوَالِ أَمْ لَا؟ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ يُشَبِّهُ مِنْ هَذَا مَا لَمْ يُسْلِمْهُ لَهُ خَصْمُهُ مِنْهَا بِمَا يُسْلِمُهُ مِنْهَا لَه، وَيَحْتَجُّ عَلَى خَصْمِهِ):
وَالحُقُوقُ أنواعٌ:
* فمنها ما هو حق لله سبحانه وتعالى: وحقوق الله هذه يستقل بها، فهناك حق خاص بالله تعالى لا يجوز للمسلم أن يشرك معه غيره، فلا يجوز لأحدٍ أن يصلي لغير الله، ولا أن يعبد غير الله، ولا أن يتوكَّل على غير الله، ولا أن يذبح لغير الله، ولا أن يدعو غير الله، ولا أن يحجَّ لغير الله، ولا أن يطلب الإنابة والرغبة، ولا يرهب إلا الله سبحانه وتعالى.
*وهناك حقٌّ خاصٌّ بالعبد؛ كحق الإنسان بأن يتصرف في ماله، وهناك حقوق مشتركة بين الخالق والمخلوق في الحدود، فإذا ما قذف إنسان، فإنه اعتداء عليه، وفي ذلك أيضًا حق لله سبحانه وتعالى في تطبيق الحد، وهكذا.
وَعَرفنا أن هناك مسائل خالف فيها الحنفية والحنابلة، وسلموا
(1)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (5/ 270) حيث قال: "الحقوق المجردة لا تورث".
(2)
يُنظر: "رؤوس المسائل الخلافية" للعكبري (ص 790) حيث قال: "الخيار لي في معنى المال فلا يورث".
للمالكية والشافعية، فَجعلوها حُجَّةً عليهم، وهناك العكس قضَايا أو حقوق يسلم فيها المالكية والحنفية والشافعية للحنابلة، والحقيقة أنَّ كل مسألة ينبغي أن تدرس بنفسها، فنعرف: هل هذا الحق ورد فيه نصٌّ أو لم يرد فيه نصٌّ؟ هل هناك حجَّةٌ قويَّةٌ أو تعليلٌ قويٌّ يعتمد عليه فننظر إليه؟ فالحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، ولا بد من دراسة كلِّ مَسْألةٍ على حِدَةٍ.
قوله: (فَالمَالِكِيَّةُ
(1)
، وَالشَّافِعِيَّةُ
(2)
: تَحْتَجُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
(3)
بِتَسْلِيمِهِ وِرَاثَةَ خِيَارِ الرَّدِّ بِالعَيْبِ، وَيُشَبِّهُ سَائِرَ الخِيَارَاتِ الَّتِي يُوَرِّثُهَا بِهِ. وَالحَنَفِيَّةُ تَحْتَجُّ أَيْضًا عَلَى المَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ بِمَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرُومُ أَنْ يُعْطِيَ فَارِقًا فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ قَوْلُهُ وَمُشَابِهًا فِيمَا يَتَّفِقُ فِيهِ قَوْلُه، وَيرُومُ فِي قَوْلِ خَصْمِهِ بِالضِّدِّ (أَعْنِي: أَنْ يُعْطِيَ فَارِقًا فِيمَا يَضَعُهُ الخَصْمُ مُتَّفِقًا، وَيُعْطِي اتِّفَاقًا فِيمَا يَضَعُهُ الخَصْمُ مُتَبَايِنًا)، مِثْلُ مَا تَقُولُ المَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ خِيَارَ الأَبِ فِي رَدِّ هِبَتِهِ لَا يُوَرَّث، لِأَنَّ ذَلِكَ خِيَارٌ رَاجِعٌ إِلَى صِفَةٍ فِي الأَبِ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَهِيَ الأُبُوَّةُ).
(يَرُومُ)، أيْ: يقصد، لأنه يوجد فَارقٌ بين ما قَالَه وما قالَه غيره، ويقيم الحُجَّة على مخالفِهِ بأشياء مما سلم بها المخالف، فهذا تسليمٌ من المالكية والشافعية فهم يقولون بأن الحقوقَ لا تورث، فهنا سلموا بعكس ذلك، لماذا سلموا؟ لأن هذا فيه دليلٌ أشرت إليه فيما مضى.
قوله: (فَوَجَبَ أَلَّا تُوَرَّثَ لَا إِلَى صِفَةٍ فِي العَقْدِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي خِيَارٍ خِيَارٍ).
كأنه يقول: الخيارات تختلف، فمنها ما يورث، ومنها ما لا يورث،
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
وقد رأينا أنَّ منها ما هو موضع اتفاق، ومنها ما هو موضع خلاف.
قوله: (أَعْنِي: أَنَّهُ مَنِ انْقَدَحَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَقْدِ وَرَّثَه، وَمَنِ انْقَدَحَ لَهُ أَنَّهُ صِفَةٌ خَاصَّةٌ بِذِي الخِيَارِ لَمْ يُوَرِّثْهُ).
مَنْ ظهر عنده واستقر في ذهنه أن هذا خاص بصاحب العقد، فإنه حِينَئذٍ لا يورثه، لأنها تكون خاصية له، ومَنْ رأى أن ذلك وصف خاصٌّ متعلقٌ بالعقد نفسه، فإنه في هذه الحالة يورث لصاحب العقد كما تَرَون في الهبة، فالأَبُ له أن يستردَّ الهبة التي وَهَبها لابنه، وهذا كما قلنا فيما مضى "أنتَ ومالك لأبيك"
(1)
، "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"، وفي قصة أبي بكرٍ رضي الله عنه عندما أهدى إلى ابنته عائشة تلكم الحديقة، فإنَّه ردَّها رضي الله عنه، والقصَّة في ذلك معروفةٌ، وذكر العلة، وقد سَبَق أن أشرتُ إلى ذلك.
قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَهِيَ مَنْ يَصِحُّ خِيَارُهُ؟، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ خِيَارِ المُتَبَايِعَيْنِ)
(2)
.
من المَسَائل الكُبْرى ومن أُمَّهات هذا الباب هي الَّتي سيذكرها فيما يتعلق بالخيار للأجنبي.
(1)
تقدم.
(2)
إن كان يعني بهذا خيار المجلس للمتبايعين؛ فليس في هذا اتفاق، بل فيه خلافٌ، وإنْ كان أكثر القول بصحته وجوازه هو قول أكثر أهل العلم.
قال ابن قدامة في "المغني"(3/ 482): " (والمتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما) في هذه المسألة ثلاثة فصول، أحدها: أن البيع يقع جائزًا، ولكلٍّ من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم، يُرْوَى ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هُرَيرة، وأبي برزة، وبه قال سعيد بن المسيب، وشريح، والشعبي، وعطاء، وطاوس، والزهري والأوزاعي، وابن أبي ذئب، والشافعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور. وقال مالك وأصحاب الرأي: يلزم العقد بالإيجاب والقبول، ولا خيارَ لهما؛ لأنه روي عن عمر رضي الله عنه: البيع صفقة أو خيار، ولأنه عقد معاوضة، فلزم بمجرده، كالنكاح والخلع".
العقد يقوم على أركانٍ ثلاثةٍ:
الركن الأوَّل: العاقدان، وهذا يقع في البيع والإجارة، وفي غير ذلك من العقود.
الركن الثاني: إيجاب وقبول، فلا بد في المبيع من إيجاب وقبول، وقد سبق أن أشرنا إليها فيما يتعلق بالمعاطاة، هل تعتبر بيعًا، وهل تجوز؟ وَبَينَّا أنَّ ذلك صَحيحٌ، وأن الشافعية ينازعون في ذلك، وأن القولَ الحقَّ هو قول الذين قالوا بأنَّ المعاطاة ثابتة، وهذا ما يسير عليه المسلمون، ولذلك لو قيل بعَدَم صحَّة بيع المعاطاة
(1)
، لقيل بفسادِ كثيرٍ من العقود، ولَتحرَّج المسلمون في ذلك، وهذا معروفٌ منذ زمن السلف إلى يومنا هذا، فإن الناس يتبايعون بالمعاطاة، تعطيه الثمن ويأخذ السلعة، وليس شرطًا أن يقول البائع: بِعْتُكَ هذه السلعة، ويقول المشتري: قَبِلْتُ.
الرُّكن الثالث: معقود عليه، وهذا المعقود عليه هي السلعة.
وَالآنَ سَيَنقل حكم ذلك إلى غيرهما، وَسَيَرد على العقد إنسانٌ خارجٌ عن صاحبي العقد، فَهَذا هو الذي يُسمَّى أجنبيًّا، فالبائع والمشتري هما صاحبا العقد، فإذا وكل البائع رجلًا آخر، فنُسمِّي ذلك أجنبيًّا؛ لأنه واردٌ على العقد، وليسَ هو الناظر فيه أصلًا إذا هو دخل بعد ذلك، أو كذلك المشتري لو وكل أيضًا غيره، فإنَّ هذا يعتبر أجنبيًّا.
إذًا، مُرَاد المؤلف أو مصطلحه في الأجنبي يريد به الوكيل، فإذا تبايع اثنان ووكل أحدهما الخيار إلى الآخر، فهذا الذي وكل إليه الخيار غير صاحبي العقد الأصليين يسمى أجنبيًّا، وسيأتي تعليل ذلك وبيانه في الخلاف في هذه المسألة.
(1)
"المعاطاة": المناولة، وصورته أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزًا، فيعطيه ما يرضيه، أو يقول: خذ هذا الثوب بدينارٍ، فيأخذه. يُنظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 481).
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ خِيَارِ الأَجْنَبِيِّ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالبَيْعُ صَحِيحٌ).
فَقَال مالكٌ
(1)
وأبو حنيفة
(2)
وأحمد
(3)
: لأنَّ هذا هو مذهب الجمهور، هذا هو رأي الأئمة الثلاثة رحمهم الله، وَوَهم المؤلف عندما نسب إلى الإمام أحمد قولًا هو لأحد أصحابه، وليس هو قول الإمام أحمد كما سنُنبِّه على ذلك.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
(4)
: لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ الَّذِي جُعِلَ لَهُ الخِيَار، وَلَا يَجُوزُ الخِيَارُ عِنْدَهُ عَلَى هَذَا القَوْلِ لِغَيْرِ العَاقِدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَلِلشَّافِعِيِّ
(5)
قَوْلٌ آخَرُ مِثْلُ مَالِكٍ):
إذًا، الشافعي رحمه الله تعالى له قولان:
1 -
قولٌ يلتقي فيه مع الجمهور، وهو أن الأجنبي أو أن أحد المتعاقدين له أن ينزل الأجنبي إلى منزلته، وهذا إذا اشترط الخيار أصلًا.
2 -
والقَوْل الآخر: أنه لا يكون إلا لصاحبي العقد أو لأحدهما.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ).
وهو في الحقيقة ليس قول أحمد، وإنما هو قول القاضي أبي يعلى
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 322) حيث قال: "فالبيع على الخيار لأحد المتبايعين أو لأجنبي جائز".
(2)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" للبلدحي (2/ 14) حيث قال: " (ومَنْ شَرط الخيار لغيره جاز، ويثبت لهما)، والقياس ألَّا يجوز".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 38) حيث قال: " (و) يصح شرط بائعين غير وكيلين الخيار (لغيرهما) ".
(4)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 488) حيث قال: "فَإِنْ شَرطه لغيرهما، فإن كان الغيرُ أجنبيًّا، فقولان، أحدهما: يفسد البيع".
(5)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 488) حيث قال: "فإن شَرَطه لغيرهما، فإن كان الغير أجنبيًّا، فقولان، أحدهما: يفسد البيع، وأظهرهما: يصحُّ البيع والشرط".
من الحنابلة، وفيه تفصيل
(1)
، لكن ليس هذا مجال الحديث كما قلنا كثيرًا، لن ندخل في تفصيلات المذاهب، فهل يصح الخيار لأجنبي؟ عرفنا أنه يثبت للمتعاقدين، فهل لأحد المتعاقدين أن ينقل الخيار لأجنبي أو الوكيل؟ الجمهور (الأئمة الثلاثة) وهي رواية للإمام الشافعي قالوا بجواز ذلك، والرواية الأخرى للإمام الشافعي
(2)
قال: لا يجوز ذلك، والعلة معروفة ذكَرها بعض العلماء، فقالوا: لأن الشرع إنما أثبت الخيار لتحصيل ما ينفع المتعاقدين.
ووجهة الذين منعوا ذلك - وهي رواية أخرى عن الشافعية: لا يجوز - لأن الخيار إنما شرع لتحصيل المنفعة للمتعاقدين بنظرهما، فيثبت للمتعاقدين ولا يثبت لغيرهما لمن يقوم مقامهما، وأما جمهور العلماء، فقالوا: هذا تعليل غير مسلم؛ لأن هذا الوكيل نزل منزلة صاحب العقد، وأخذ حكمه، والوكالة ثابتة شرعًا في أحكامٍ كثيرةٍ في المعاملات كما هو معلوم، بل أيضًا يدخل ذلك في الطلاق، وفي النكاح، وفي غير ذلك، فإن كان هناك مَنْ يدخل النكاح في المعاملات، وهناك مَنْ يجعله قسمًا مستقلًّا في الفقه، فجمهور العلماء قالوا: ذلك ثابت ما دام أن الخيار قد ثبت للعاقدين، إذًا هو كذلك يثبت للوكيل؛ لأن الوكيل بديل ونائب عن الأصل، فيأخذ حكمه.
قالوا: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 376) حيث قال: "يجوز أن يشترط الخيار لهما ولأحدهما ولغيرهما، لكن إذا شرطه لغيره، فتارةً يقول: له الخيار دوني، وتارةً يقول: الخيار لي وله، وتارةً يجعل الخيار له، ويُطْلق. فإنْ قال: له الخيار دوني، فالصحيح من المذهب أنه لا يصح، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به في "الكافي"، و"التلخيص"، و"المحرر"، و"النظم"، و"الرعايتين" و"الحاويين"، و"المنور"، و"منتخب الأزجي"، و"الفائق"، و"تجريد العناية"، وغيرهم، وقَدَّمه في "الفروع" وغيره، واختاره القاضي وغيره، وظاهر كلام الإمام أحمد صحته، واختاره المصنف".
(2)
تقدم قوله.
البخاري
(1)
وأصحاب السنن
(2)
وأحمد
(3)
وغيرهم: "المسلمون على شروطهم".
وفي رواية: "المؤمنون على شروطهم"
(4)
.
فهذا العاقد قد شرط الخيار، فيلتقي مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون على شروطهم"، وهذا الخيار قَدْ نقله صاحب الحق إلى غيره، فوكله في ذلك الأمر، فهذا هو تعليل جمهور العلماء.
قوله: (وَبِقَوْلِ مَالِكٍ فَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(5)
.
وكذلك أحمد كما عرفنا.
قوله: (وَاتَّفَقَ المَذْهَبُ عَلَى أَنَّ الخِيَارَ لِلْأجْنَبِيِّ إِذَا جَعَلَهُ لَهُ المُتَبَايِعَانِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ لَهُمَا)
(6)
.
واتفق المذهب - يقصد به مذهب مالك -؛ لأن المؤلف كما تعلمون هو مالكي، لكنه ما رأيناه في مسألة واحدة تعصب لمذهبه، وهذَا هو الحق الذي ينبغي أن يسير فيه طالب العلم، ينبغي أن يكون قصده وهدفه أن يَرُوم الوصول إلى الحق من أقرب طريقٍ، وأهدى سبيلٍ، ولا ينبغي حقيقة أن ينزع إلى التعصب الأعمى، أما إنْ كان التعصبَ هو الوقوف عند الأدلة، فهذا أمر مطلوب من كل مسلمٍ، ونحن لا نسميه تعصبًا، وإنما نسميه وقوفًا عند الحقِّ.
(1)
ذكره البخاري تعليقًا (3/ 92).
(2)
أخرجه أبو داود (3594)، والترمذي (1352)، وقال: حسن صحيح، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1303).
(3)
لم أقف عليه في "المسند" بهذا اللفظ.
(4)
لم أقف عليه بهذا اللفظ.
(5)
تقدم.
(6)
تقدم.
قوله: (وَاخْتَلَفَ المَذْهَبُ إِذَا جَعَلَهُ أَحَدُهُمَا فَاخْتَلَفَ البَائِعُ
(1)
وَمَنْ جَعَلَ لَهُ البَائِعُ الخِيَارَ أَوِ المُشْتَرِي وَمَنْ جَعَلَ لَهُ المُشْتَرِي الخِيَارَ).
فالوكيل إذا اختار، فهل يعتبر قوله ملزمًا لمن وكله أو لا؟ الصحيح: نعم ما دام قد فوضه، وسيأتي تفصيل ذلك.
قوله: (وَاخْتَلَفَ المَذْهَبُ إِذَا جَعَلَهُ أَحَدُهُمَا، فَاخْتَلَفَ البَائِعُ). اختلف المَذْهب إذا جعل أحد المتعاقدين البائع أو المشتري الخيار للوكيل، ولم يَجْعله الآخر، فما الحكم؟ فلو اختلف البائع مع الوكيل، فقول مَنْ يُعْتبر في هذه المسألة؟ فهل نطبق الحكم الفقهي، فنأخذ بقول الوكيل؛ لأنه فوض ونزل منزلة صاحب العقد، أو أن مخالفة الموكل تؤثر في ذلك، هذا هو الذي سيبحثه المؤلف، فانتبهوا لهذا.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 115) حيث قال: "مَنْ باع سلعةً أو اشتراها على مشورة غيره كزيد مثلًا، ثم أراد البائع أو المشتري أن يبرم البيع دون مشورة زيد، فإنَّ له أن يستقل بذلك، ولا يفتقر انبرام البيع إلى مشورته. قوله: "على مشورة" أي: المشورة المطلقة، وأما المشورة المقيدة بأن باع على مشورة فلان بأنه إنْ أمضى البيع مَضَى بَيْنهما وإلا فلا، فليس له الاستبداد؛ لأنَّ هذا اللفظ يقتضي توقُّف البيع على اختيار فلانٍ بخلاف ما إذا كانت المشورة مطلقةً. وقوله: "على مشورة غيره" أي: والثمن والمثمن معلومان، وما مرَّ من قوله: وعلى حكمه أو حكم غيره أو رضاه في الثمن أو المثمن فلا منافاة (ص) لا خياره ورضاه (ش) يعني: أنَّ مَنْ باع سلعةً أو اشتراها على خيار فلانٍ أو على رضاه، ثم أراد أن يبرم البيع، ويستقل به دون خيار فلانٍ أو دون رضاه، فإنه ليس له ذلك، ولا بدَّ من رضا فلانٍ أو خياره في إمضاء البيع أو رده، والفرق بينهما وبين المشورة أن مُشْترطَ المشورة اشترط ما يقوي به نظره، ومشترط الخيار أو الرضا لغيره معرضٌ عن نظر نفسه (ص)، وتؤولت أيضًا على نفيه في مشتر (ش) يعني أن أبا محمد وابن لبابة تَأوَّلَا المدونة على نفي الاستبداد في حق المثشري خاصةً في الخيار والرضا للغير، فليس له أن يستقل بانبرام البيع أو رده دون مَنْ جعل له الخيار أو الرضا، وأما البائع فله ذلك أي: له أن يستقل بذلك لقوة تصرُّفه في ملكه".
قوله: (فَقِيلَ: القَوْلُ فِي الإِمْضَاءِ وَالرَّدِّ قَوْلُ الأَجْنَبِيِّ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ خِيَارَهُ البَائِعُ أَوِ المُشْتَرِي).
وهذا حقيقةً هو الأولى، وهو الأقرب.
قيل: القول في الإمضاء والرد قول الأجنبي، وهذا هو الأقرب حقيقةً؛ لأنه ما دام وثق به ووكله في أن يشتري له، وأعطاه أيضًا تفويضًا بأن يختار له، فما المانع بأن يعترض عليه؟ وهو أصلًا عندما اختاره، اختاره لأنه يرى أنه صالحٌ لأنْ يبيع وأن يشتري، وغالبًا في الوكلاء لا يختار الإنسان إلا من يرى أنه أهلًا لأنْ يكون وكيلًا، فربما يختار هذا الإنسان مَنْ هو أولى منه؛ لأنه ليس كل الناس عندهم خبرة في البيع والشراء والمماكسة، فهذا قد تكون عنده من الخبرة ما ليس عند غيره، حتى لو قيد ذلك، فقال: ليس لك أن تمضي العقد إلا بالرجوع إليَّ، لكن هو فوَّضه، وأطلق له ذلك، أي: الوكالة، وجعل له الخيار، فينبغي أن يكون قوله هو المعتبر، وهذا هو الذي يلتقي مع روح هذه الشريعة، فهو من حيث النظرة العامة أضعف من صاحب الأصل، لكنه نزل منزلته، وهذه عقود، والله تعالى يقول:{أَوْفُوا بِالْعُقُود} ، فما دام قد وكل إنسانًا فالتزم، فينبغي أن يكون كذلك.
قوله: (وَقَالَ عَكْسَ هَذَا القَوْلِ مَنْ جَعَلَ خِيَارَهُ هُنَا كَالمَشُورَةِ).
وهذا قول أضعف، وهذا الخلاف ليس في مذهب مالكٍ رحمه الله فقط، بل بين المذاهب أيضًا.
قوله: (وَقِيلَ: بِالفَرْقِ بَيْنَ البَائِعِ وَالمُشْتَرِي؛ أَيْ: أَنَّ القَوْلَ فِي الإِمْضَاءِ وَالرَّدِّ قَوْلُ البَائِعِ دُونَ الأَجْنَبِيِّ، وَقَوْلُ الأجْنَبِيِّ دُونَ المُشْتَرِي إِنْ كَانَ المُشْتَرِي هُوَ المُشْتَرِطُ الخِيَارَ).
وقالوا بهذا؛ لأن البائعَ في يده سلعة، وهذه السلعة ستخرج من
يده، ولذلك يُعْطى أكثر مما يعطى غيره في الخيار، والحقيقة أن كلًّا منهما بحاجةٍ إلى الخيار، والأمر لا يختصُّ أيضًا بالبائع والمشتري، فهما سيَّان في ذلك، ولذلك كان القول الأوَّل هو الأَوْلَى، وأن الأمر يُتْرك لمن جعل له الخيار ووثق به.
قوله: (وَقِيلَ: القَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمَا الإِمْضَاءَ).
سواء كان صاحب الأصل العاقد أو الوكيل؛ لأن الأصلَ في البيع أنه عقد لازم لمَنْ يقول بالإمضاء، يتفق مع أصل العقد، ومَنْ يقول بعدم الإمضاء لا يتفق، وهذا العقد الذي هو لازمٌ - كما هو معلوم - إنما جعل الخيار فيه حتى يأخذ الإنسان فرصةً، ويتحرى ويدقق في الأمر حتى لا يغبن في المبيع، وحتى لا يندم.
قوله: (وَإِنْ أَرَادَ الإِمْضَاءَ، وَأَرَادَ الأَجْنَبِيُّ الَّذِي اشْتَرَطَ خِيَارَهُ الرَّدَّ، وَوَافَقَهُ المُشْتَرِي، فَالقَوْلُ قَوْلُ البَائِعِ فِي الإِمْضَاءِ، وَإِنْ أَرَادَ البَائِعُ الرَّدَّ، وَأَرَادَ الأجْنَبِيُّ الإِمْضَاءَ وَوَافَقَهُ المُشْتَرِي، فَالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي؛ وَكَذَلِكَ إِنِ اشْتَرَطَ الخِيَارَ لِلْأَجْنَبِيِّ المُشْتَرِي، فَالقَوْلُ فِيهِمَا قَوْلُ مَنْ أَرَادَ الإِمْضَاءَ، وَكَذَلِكَ الحَالُ فِي المُشْتَرِي. وَقِيلَ: بِالفَرْقِ فِي هَذَا بَيْنَ البَائِعِ وَالمُشْتَرِي (أَيْ: إِنِ اشْتَرَطَهُ البَائِعُ فَالقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَرَادَ الإِمْضَاءَ مِنْهُمَا، وَإِن اشْتَرَطَهُ المُشْتَرِي فَالقَوْلُ قَوْلُ الأَجْنَبِيِّ).
وكثرت هذه الأقوال وتنوعت، واختلفت وجهات النظر لعدم وجود دليل، لكن لو وجد نص من كتاب أو سنة لقطع الخلاف، ورفع النزاع، فربما يختلف في فَهْم ذلك النص، لكن هذه مسائل فرعية اجتهادية، والمؤلف دخل فيها على خلاف منهجه؛ لأن هذه لا تعد من مسائل الأصول، فالأصل فيه هي المسألة الأولى التي قال: من المعتبر بقوله الإمضاء وعدمه؟
قوله: (وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي المُدَوَّنَةِ)
(1)
.
و"المدونة" هي ذلكم الكتاب أو السِّفر الكبير أو الموسوعة العظيمة في مذهب مالك، فإن هذه قامت على أسئلة كان يوجهها تلميذ الإمام مالك العالم المشهور ابن القاسم يسأل فيها مالكًا، فيجيب على مسائل، وأحيانًا يتوقف فيجيب ابن القاسم، أو ربما أجاب ابن القاسم ابتداءً، فسميت بالمدونة، وهي رواية سحنون من المالكية.
قوله: (وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ).
فبعدما سرد المؤلف كل هذه الأقوال انتهى فقال: وهذا كله ضعيف.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ اشْتَرَطَ مِنَ الخِيَارِ مَا لَا يَجُوزُ).
وقد يشترط بعضهم شرطًا لا يجوز، وكل شرطٍ ليس في كتاب الله، فهو باطلٌ وَإنْ كان مئة شرط كما هو معلوم
(2)
، فلا يجوز لأحد أن يشترط شرطًا لا يوافق روح العقد، فهذا الشرط ربما يكون غير جائز، فيكون هذا من اشتراك ما لا يجوز، وربما يكون هذا الذي اشترط فيه جهالة، يعني: ترد عليه الجهالة، فهو موضعُ ذمٍّ، وهذا ما سيبحثه المؤلف.
قوله: (مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا مَجْهُولًا، وَخِيَارًا فَوْقَ الثَّلَاثِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الخِيَارَ).
العلماء في خيار الشرط اتفقوا على جوازه، ثم أيضًا اتفقوا على
(1)
قال مالكٌ في "المدونة"(3/ 213): "فإن قال البائع: ليس ذلك لك حتى تستشير فلانًا، لم يلتفت إلى قول البائع، قال مالك: والذي اشترى على أن رضي فلان، فليس ذلك للمشتري أن يمضي ولا يرد حتى يرضى فلان الذي جعل له الرضا، والذي اشترى على أن فلانًا بالخيار مثل ذلك".
(2)
أخرجه البخاري (2155) ولفظه: "ما بال أناسٍ يشترطون شروطًا ليس في كتاب الله، مَن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مئة شرطٍ، شرط الله أحق وأوثق".
ثلاثة أيام، ثم اختلفوا فيما زاد على الأيام الثلاثة إذا حددت المدة، فبعضهم أجاز ذلك كالإمام أحمد
(1)
ومَنْ معه: ابن إسحاق وابن أبي ليلى وأبو ثور ابن المنذر ومحمد بن الحسن وأبو يوسف
(2)
، ومنهم مَنْ منع ذلك كما عرفتم (بقية العلماء)
(3)
، ثم اختلفوا بعد ذلك في إطلاقه، وغالب الأئمة منعوا ذلك، لكن بعضهم قال: إذا أُلْغِيَ هذا الشرط أو أُبْطل الخيار صح كالإمام أحمد
(4)
، وبعضهم قال: إنْ كان إبطاله أثناء الأيام الثلاثة صحَّ كأبي حنيفة
(5)
، وبعضهم قال: لا تصح مطلقًا، وهو الإمام الشافعي
(6)
.
قوله: (مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا مَجْهُولًا، وَخِيَارًا فَوْقَ الثَّلَاثِ)، فَمن العلل والقوادح في البيوع: وجود الغرر ووجود الجهالة؛ لأن الجهالةَ والغررَ يترتب عليهما أو على أحدهما ضررٌ على أحد المتعاقدين، وربما تكون الجهالةُ ساريةً إلى صاحبي العقد، ولذلك نُهِيَ عن بيع النجش
(7)
، والنجش هو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها؛ لأنه يريد أن يضر هذا الإنسان، فيريد أن ينفع صاحب السلعة ويضر المشتري
(8)
، وهذا فيه ضررٌ، ونهي عن تلقي الجلب (أي: الركبان)
(9)
؛ لأنه قد يخدع هذا الجالب، وهذه السلعة يأخذها شخص، فبعد ذلك
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
سيأتي تفصيله.
(5)
سيأتي تفصيله.
(6)
سيأتي تفصيله.
(7)
أخرجه البخاري (2142)، ومسلم (1516).
(8)
قال ابن الأثير في "النهاية"(2115): "النجش في البيع هو أن يمدح السلعة لينفقها ويروجها، أو يزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، والأصل فيه تنفير الوحش من مكان إلى مكان".
(9)
أخرجه البخاري (2166) ومسلم (1521).
يتحكم فيها، فيضر بها أهل السوق، ولذلك نهي عن سوم الرجل على سوم أخيه
(1)
؛ لأنه يضر به، ونهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، ومسائل كثيرة مرت بنا، وهذه الشريعة جاءت لإصلاح الناس، كما أنها تصلح عقائدهم هي كذلك أيضًا تصلح نفوسهم، وأيضًا تصلح ما يتعلق بمعاملاتهم حتى يكونوا قد صاروا على هدًى من هذه الشريعة، وحتى لا ينتشر الخلاف بينهم، ويسود الضرر أيضًا.
قوله: (وَخِيَارًا فَوْقَ الثَّلَاثِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الخِيَارَ فَوْقَ الثَّلَاثِ). قيدوا عند مَنْ لَا يجوز، فهناك مَنْ يجوز الخيار فوق ثلاث إذا قيد، أي: حدد بمدة.
قوله: (أَوْ خِيَارَ رَجُلٍ بَعِيدِ المَوْضِعِ بِعَيْنِهِ).
يعني: إنسان بعيد عنه.
قوله: (أَعْنِي: أَجْنَبِيًّا): فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
: لَا يَصِحُّ البَيْعُ وَإِنْ أُسْقِطَ الشَّرْطُ الفَاسِدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ البَيْعُ مَعَ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ الفَاسِدِ
(4)
).
(1)
أخرجه البخاري (2727) ومسلم (1408).
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (5/ 111) حيث قال: "البيع إذا وقع بالخيار على شرط مشاورة شخص بعيد عن موضع العقد فإنه يكون فاسدًا للجهل بالمدة، والمراد بالبعيد ألا يعلم ما عنده إلا بعد فراغ مدة الخيار، وما ألحق به بأمدٍ بعيدٍ، وكذلك يكون البيع فاسدًا إذا وقع على خيار أكثر من خيار تلك السلعة، وما ألحق به بكثير، وكذلك يكون البيع فاسدًا إذا وقع على خيار لمدة مجهولة".
(3)
ينظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 50) حيث قال: " (فإن أطلق) شرط الخيار (أو ذكر) له (مدة مجهولة) كبعض يومٍ أو إلى أن يجيء زيد (بطل) العقد للغرر".
(4)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" للبلدحي (2/ 13) حيث قال: "ولو شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام، أَوْ لم يبين وقتًا، أو ذكر وقتًا مجهولًا، فأجاز في الثلاث أو أسقطه، أو سقط بموته أو بموت العبد، أو أعتقه المشتري، أو أحدث فيه ما يوجب لزوم العقد، ينقلب جائزًا".
لكنَّ أبا حنيفة قيَّده بمدَّة الخيار، والإمام أحمد
(1)
يرى أنه إذا أزيل (أي: أبطل الخيار الفاسد وزال)، صح العقد.
قوله: (فَأَصْلُ الخِلَافِ: هَلِ الفَسَادُ الوَاقِعُ فِي البَيْعِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ يَتَعَدَّى إِلَى العَقْدِ أَمْ لَا يَتَعَدَّى، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الشَّرْطِ فَقَطْ؟ فَمَنْ قَالَ: يَتَعَدَّى: أَبْطَلَ البَيْعَ، وَإِنْ أَسْقَطَهُ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَتَعَدَّى: قَالَ: البَيْعُ يَصِحُّ إِذَا أُسْقِطَ الشَّرطُ الفَاسِدُ).
والأظهرُ أنه لا يتعدى؛ لأنه قد طرح، والأصل في البيع أنه صحيح، لَكن إدخال هذا الخيار عليه أو هذه الجهالة أَلْغَته، لكن أحيانًا وجود الغرر يفسد العقد.
قوله: (لِأَنَّهُ يَبْقَى العَقْدُ صَحِيحًا).
وفي "صحيح مسلم" قصة الرجل الذي كان معه قلادة يوم خيبر، فباعها بدنانير، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنع ذلك، قال:"لا، حتى تفصل"
(2)
، ففصلت فوجد ما فيها من الذهب أكثر من الثمن الذي اشتريت به، فهذا فيه غبن وضرر، ووجود الجهالة أو الغور يؤثر على المعاملة، لكن لو كان يسيرًا، فإنه معفوٌّ عنه؛ لأن كثيرًا من المعاملات لا تخلو من شْيءٍ من ذلك، وإذا وجد غرر بَيِّن، فإن هذا الغرر يرفع ويمنع.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 202) حيث قال: " (ولا يصحُّ الخيار مجهولًا لها مثل أن يشترطاه أبدًا أو مدةً مجهولة) بأن قالا: مدة أو زمنًا، أو مدة نزول المطر ونحوه (أو) أجلاه (أجلًا مجهولًا كقوله: بعتك ولك الخيار (متى شئت أو شاء زيدٌ أو قدم) زيد (أو هبت الريح، أو نزل المطر، أو قال أَحدُهُما: لي الخيار ولم يذكر مدته، أو شرطا خيارًا ولم يعينا مدته، أو) شرطاه (إلى الحصاد أو الجذاذ) ونحوه (فيلغو) الشرط (ويصح البيع) مع فساد الشرط".
(2)
تقدم في مسألة بيوع الآجال، والحديث أخرجه مسلم (1591).
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[كتاب بيع المرابحة]
بيع المرابحة نوع من أنواع البيوع، وقد اشتهر هذا النوع في هذا الزمان، فتجد المصارف الإسلامية تعمل ببيع المرابحة أو تطبق بعض أوصافه أو صورًا منه، وهناك خلاف مشهور بين أهل العلم فيما تطبقه هذه المصارف؛ هل هو جائز أو غير جائز، وليس الخلاف على أصل بيع المرابحة، وإنما فيما ألحق بهذه المعاملة من صور، ومن ذلك:(بيع المرابحة للآمر بالشراء) كأن يأتي شخص يريد أن يقيم مصنعًا إلى مصرفٍ فيعرض عليه شراء أشياء ليست عنده، كآلات ومعدات ونحوها، واختلف العلماء في هذه الصورة وأمثالها لأس
باب:
الأول: عدم امتلاك المصرف لتلك الآلات والمعدات.
الثاني: أن المشتري ليس عنده مال لشرائها في الحال، وإنما أراد أن يشتريها المصرف ليبيعها عليه.
الثالث: أنه بيع ما ليس بموجود، أي: أن المصرف يبيع ما ليس عنده، وعن حكيم بن حزام أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له أن الرجل يأتيه يريد السلعة وليست عنده، فيذهب فيشتريها له من السوق - يعني يذهب إلى تاجر آخر فيشتري منه السلعة ثم يبيعها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تبع ما ليس عندك"
(1)
فهذا نص في أنه لا يجوز أن
(1)
أخرجه أبو داود (3503) وغيره، ولفظه: عن حكيم بن حزام، قال: يا رسول الله، =
يبيع الإنسان ما ليس عنده خشية أن لا يجد تلك السلعة التي التزم ببيعها.
ولكنهم يعللون الجواز بأن الأمور قد اختلفت، فأصبحت السلع متوفرة؛ فبإمكانك أن ترفع الهاتف وتطلب السلعة فتأتي إليك، وربما تتصل بتاجر آخر هذه السلعة في مستودعه فيرسلها؛ فتكون بذلك متوفرة، وربما تتصل أو ترسل إليه (فاكسًا) فتأتيك السلعة بعد قليل وهكذا.
تعريف المرابحة:
لغة: مفاعلة من الربح، ربح يربح ربحًا؛ إذن المرابحة ما كان فيها أكثر من شخص، ففيها بائع ومشترٍ
(1)
.
واصطلاحًا: البيع برأس المال مع زيادة ربح معلوم
(2)
.
وصورتها: أن تذكر لمن يشتري منك السلعة رأس المال، تقول:
= يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي. أفأبتاعه له من السوق؟ فقال: "لا تبع ما ليس عندك" وصححه الألباني في "المشكاة"(2867).
(1)
المرابحة في اللغة: صيغة مفاعلة، من الربح، والرِّبح، والرَّبح، والرَّباح: النماء والزيادة، يقال: رابحته على سلعته مرابحة، أي: أعطيته ربحًا، وربحت تجارته: إذا ربح صاحبها فيها، وفي التنزيل {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} قال أبو إسحاق:"معناه: ما ربحوا في تجارتهم؛ لأن التجارة لا تربح، إنما يُربَح فيها، ويوضع فيها". انظر: "لسان العرب"(2/ 442).
(2)
وفي اصطلاح الفقهاء: مذهب الحنفية: ينظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (3/ 56) قال: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (3/ 159) قال: "بيع السلعة بالثمن الذي اشتراها به وزيادة ربح معلوم لها".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 474) قال: "بيع السلعة برأس المال، وربح معلوم".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 230) قال: "والمرابحة من الربح هي أن يبيعه بثمنه المعلوم وربح معلوم".
اشتريت هذه السيارة - مثلًا - بعشرة آلاف، وأريد أن أربح فيها عشرة بالمائة - يعني ألفًا - فتبيعها بأحد عشر ألفًا.
أركان المرابحة:
الأول: وجود العاقدين.
الثاني: الإيجاب والقبول.
الثالث: وجود السلعة.
وهذه الثلاثة هي أركان عقد البيع نفسه، وفي المرابحة لا بد من توفر شروط أُخر وهي:
أولًا: أن يكون رأس المال معلومًا.
ثانيًا: أن يكون الربح معلومًا حتى ترتفع الجهالة.
ثالثًا: أن لا يكون ما يعقد عليه المرابحة مما يجري فيه الربا، كأن يكون مكيلًا بمكيل؛ إذ يشترط في الأموال الربوية أن تكون متساوية "البر بالبر والذهب بالذهب والفضة بالفضة والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل"
(1)
إذن لا بد من وجود المماثلة. أما المرابحة فإنه يقصد بها الربح ابتداءً.
قوله: (أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ صِنْفَانِ: مُسَاوَمَةٌ، وَمُرَابَحَةٌ).
"المساومة"
(2)
: أن تسوم السلع، وقد مر بنا بيع المعاطاة واختلاف
(1)
معنى حديث أخرجه مسلم (1584) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد، أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء" وفي الباب عن عبادة بن الصامت وعمر وأبي هريرة.
(2)
"بيع المساومة": بيع السلعة بالسعر الذي يتفق عليه الطرفان دون إعلام البائع والمشتري برأس مالها. انظر: "معجم لغة الفقهاء" لرواس قلعجي وحامد قنيبي (ص 114).
العلماء فيه
(1)
، وأن الحنابلة على تصحيحه، وهو الصحيح، فهو كالمرابحة أيضًا؛ فإن المسلمين كانت بيوعاتهم يقوم كثير منها على المعاطاة، أي: يعطيك مبلغًا ويأخذ السلعة دون أن يساومك فيها، فهذا أمر قد اشتهر بين المسلمين، ولو قيل بأن بيع المعاطاة لا يجوز لقيل بفساد بيوع كثيرة بين المسلمين، وهذا قول غير مقبول، وأما المرابحة فقد أشرنا إليها قبل قليل.
قوله: (وَأَنَّ الْمُرَابَحَةَ هِيَ أَنْ يَذْكُرَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الثَّمَنَ الَّذِي
(1)
ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة - وفي قول للشافعية - إلى جواز البيع بالتعاطي، ولكن المذهب عند الشافعية اشتراط الصيغة لصحة البيع.
مذهب الحنفية، يُنظر:"كنز الدقائق" لأبي البركات النسفي (ص 406) قال: هو مبادلة المال بالمال بالتّراضي، ويلزم بإيجاب وقبولٍ وبتعاطٍ.
وانظر: "رد المحتار" لابن عابدين (4/ 513) قال: " (وأما الفعل فالتعاطى) وهو التناول قاموس. (في خسيس ونفيس) خلافًا للكرخي، فإنه قال: لا ينعقد إلا في الخسيس".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (3/ 3) قال: (وإن) حصل الرضا (بمعاطاة) بأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع للبائع الثمن أو يدفع البائع المبيع فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة، ولو في غير المحقرات، ولزم البيع فيها بالتقابض، أي قبض الثمن والمثمن.
مدْهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 325 - 326) قال: "فلا ينعقد بالمعاطاة؛ إذ الفعل لا يدل بوضعه، فالمقبوض بها كالمقبوض ببيع فاسد، فيطالب كل صاحبه بما دفع إليه إن بقي، وببدله إن تلف".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 8) قال: (وينعقد) البِيع (في غير كتابة) وفي غير ضمني، وهو قوله:(اعتق عبدك على كذا) كألف مثلًا. (ويتجه و) ينعقد أيضًا في غير (تولي طرفيه)؛ أي: العقد وهو متجه. (بمعاطاة) نصًّا في القليل والكثير؛ لدلالة الحال، جزم به أكثر الأصحاب، لعموم الأدلة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد الصحابة استعمال إيجاب وقبول في بيعهم، ولو استعمل لنقل نقلًا شائعًا وبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخف حكمه، ولم يزل المسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على البيع بالمعاطاة؛ كقول المشتري:(أعطني بهذا) الدرهم (خبزًا، فيعطيه) البائع (ما يرضيه)، وهو ساكت، أو يقول البائع: خذ هذا بدرهم، فيأخذه، وهو ساكت.
اشْتَرَى بِهِ السِّلْعَةَ، وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِ رِبْحًا مَا لِلدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ).
إذن لا بد في حق البائع أن يقول: اشتريت هذه السلعة بكذا، ويجب عليه أن يصدق؛ لأنه مؤمن ولا يجوز له الكذب وإلا كان خائنًا، والله - تعالى - يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} إذن الصدق مطلوب منه في هذا المقام، ثم يتفقان على الربح، وله صورتان:
الصورة الأولى: أن يحدد الربح بالنسبة إلى رأس المال، كأن يقول: نسبة الربح عشرة بالمائة أو خمسة عشر أو عشرون بالنسبة إلى رأس المال.
الصورة الثانية: أن يكون الربح مقطوعًا لا ينظر فيه إلى النسبة، كأن يقول: اشتريت هذه السلعة بأحد عشر ألفًا وأبيعك إياها بخمسة عشر ألفًا.
إذن يجوز أن يكون منسوبًا ويجوز أن يكون مقطوعًا، فالمهم ألا تكون هناك جهالة.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِيمَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَعُدَّهُ مِنْ رَأْسِ مَالِ السِّلْعَةِ مِمَّا أَنْفَقَ عَلَى السِّلْعَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعُدَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ).
أي: ما الشيء الذي يعد في رأس المال والشيء الذي لا يُعد؟ فبعض السلع تحتاج إلى تخزين أو إلى تعليب، وربما تحتاج إلى حراسة أو إلى إنفاق أو إلى حملها من مكان إلى مكان، وربما احتاج أن يضيف إليها بعض الأشياء الأخرى، كأن يشتري ثوبًا فيصبغه، أو سيارة فيجدد طلاءها، أو غلامًا فيعلمه صنعة وهكذا.
فهذه الزيادات التي ألحقت هل تعد في رأس المال فيحسب الربح على ضوئها مع أصل الثمن، أو أنها تحسب من رأس المال ولا تعد في
الثمن، أو أنها لا تحسب في هذا ولا ذاك؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم
(1)
، وأكثر العلماء تفصيلًا في هذا هم المالكية، وقد لخص المؤلف مذهبهم تلخيصًا طيبًا وقربه إلى الأذهان.
(1)
مذهب الحنفية: يلحق بالثمن عند الحنفية ما يأتي:
الأول: يلحق برأس المال كل ما جرى العرف التجاري بإضافته.
الثاني: يلحق أيضًا ما يزيد في عين المبيع، أو يزيد في قيمته، مثل الصبغ.
يُنظر: "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" لعلي حيدر (1/ 368) قال: "يجوز ضم المصاريف التي توجب زيادة في نفس المبيع، أو في قيمة المبيع على رأس المال. وإذا كان من المعتاد ضم المصاريف السفرية، أو غيرها من المصاريف، فتضم عليه".
وقال الكاساني في "بدائع الصنائع"(5/ 223): "وأما بيان ما يلحق برأس المال وما لا يلحق به فنقول: لا بأس بأن يلحق برأس المال أجرة القصار والصباغ والغسال والفتال والخياط والسمسار وسائق الغنم والكراء، ونفقة الرقيق من طعامهم وكسوتهم، وما لا بد لهم منه بالمعروف، وعلف الدواب، ويباع مرابحة وتولية على الكل اعتبارًا للعرف؛ لأن العادة فيما بين التجار أنهم يلحقون هذه المؤن برأس المال ويعدونها منه
…
أما أجرة الراعي والطبيب والحجام والختان والبيطار وجعل الآبق والفداء عن الجناية وما أنفق على نفسه وعلى الرقيق من تعليم صناعة أو قرآن أو شعر - فلا يلحق برأس المال، ويباع مرابحة وتولية على الثمن الأول الواجب بالعقد الأول لا غيره؛ لأن العادة ما جرت من التجار بإلحاق هذه المؤن برأس المال، وقال عليه الصلاة والسلام:"ما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح"
…
والتعويل في هذا الباب على العادة والله سبحانه وتعالى أعلم".
وأما مذهب المالكية فإنهم ذهبوا إلى التفريق بين ما له عين قائمة كصبغ، وخياطة، فيضاف إلى أصل الثمن، ويحسب في الربح، وبين ما له أثر في القيمة، وليس له عين قائمة، كأجرة الحمال، فإنه يحسب في أصل الثمن، ولا يحسب في الربح. وما ليس له أثر لا في عين السلعة، ولا في قيمتها، فلا يحسب مطلقًا، مثل أجر السمسرة.
يُنظر: "المدونة"(4/ 226) قال مالك في البر يشترى في بلد، فيحمل إلى بلد آخر:"أرى أن لا يحمل عليه أجر السماسرة، ولا النفقة، ولا أجر الشد، ولا أجر الطي، ولا كراء بيت، فأما كراء الحمولة، فإنه يحسب في أصل الثمن، ولا يجعل لكراء المحمولة ربح، إلا أن يعلم البائع من يساومه بذلك كله، فإن ربَّحوه بعد العلم بذلك فلا بأس بذلك، وتحمل القصارة على الثمن، والخياطة والصبغ، ويحمل عليها الربح كما يحمل على الثمن ".=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال الدردير في "الشرح الكبير"(3/ 160 - 161): إذا وقع البيع على المرابحة من غير بيان ما يربح وما لا يربح، بل وقع على ربح العشرة أحد عشر - مثلًا - (ربح ما له عين قائمة) .. (كصبغ) أي: أجرة عمله إن استأجر عليه كان ممن يتولاه بنفسه أم لا، فيحسب ويحسب ربحه، فإن عمله بنفسه أو عمل له مجانًا فلا يحسب ولا يحسب ربحه، وكذا ما يصبغ به وما يخاط به فإنه لا يحسب هو ولا ربحه إن كان من عند البائع وإلا حسبا، وكذا يقال في قوله (وطرز وقصر وخياطة) .... وأما ما ليس له عين قائمة فأشار له بقوله (و) حسب (أصل ما زاد في الثمن) مما ليس له عين قائمة ولكنه أثر زيادة في المبيع فيعطى للبائع دون ربحه حيث استأجر عليه (كحمولة) .. أي كراؤها وبفتحها الإبل التي تحملها، وقد تطلق على نفس الأجرة فلا يحتاج لتقدير المضاف، أي إن كانت تزيد في الثمن بأن تنقل من بلد أرخص إلى بلد أغلى
…
فإنه يحسب ما خرج من يده فقط دون الربح كما أشار له بقوله (و) حسب كراء (شد وطي اعتيد أجرتهما) بأن لم تجر العادة بتوليتهما بنفسه بل لتولية الغير لهما وكذا إذا كان لا عادة أصلًا. وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 489 - 490).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 478) قال: (ولو قال): بعتك (بما قام علي دخل مع ثمنه أجرة الكيال) للثمن المكيل (والدلال) للثمن المنادى عليه، أي: إن اشترى به المبيع كما أفصح بهما ابن الرفعة في الكفاية والمطلب (والحارس والقصار والرفاء) بالمد من رفأت الثوب بالهيز، وربما قيل بالواو (والصباغ) للمبيع في الصور الأربع (وقيمة الصبغ) له (وسائر المؤن المرادة للاسترباح) كأجرة المكان، وأجرة الختان في الرقيق، وأجرة الطبيب إذا اشتراه مريضًا، وأجرة تطيين الدار، وعلف تسمين، وكذا المكس المأخوذ كما نقلاه عن صاحب التتمة وأقراه؛ لأن جميع ذلك من مؤن التجارة. أما المؤن المقصودة للبقاء كنفقة الرقيق وكسوته، وعلف الدابة غير الزائد للتسمين، وأجرة الطبيب إذا حدث المرض فلا تحسب، ويقع ذلك في مقابلة الفوائد المستفادة من المبيع، ولو جنى العبد ففداه، أو غصب فبذل مؤنة في استرداده لم يحسب ذلك عند الأكثرين.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 54) قال: (وإن اشترى ثوبًا بعشرة وعمل فيه) بنفسه ما يساوي عشرة (أو) عمل (غيره) فيه أي الثوب فصبغه أو قصره (ولو بأجرة ما يساوي عشرة أخبر به) على وجهه، فإن ضمه إلى الثمن وأخبر به كان كذبًا وتغريرًا للمشتري (ولا يجوز) قوله (تحصل) علي (بعشرين)؛ لأنه تلبيس (ومثله أجرة مكانه) أي المبيع (و) أجرة (كيله) أو أجرة (وزنه) وسمساره ونحوه، فيخبر به على وجهه، ولا يضمه إلى الثمن فيخبر به، ولا يقول تحصل علي بكذا.=
قوله: (وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا كَذَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي
(1)
فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَى السِّلْعَةَ بِهِ، أَوْ وَهَمَ فَأَخْبَرَ بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ السِّلْعَةَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَكْثَرَ، فَفِي هَذَا الْكِتَابِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بَابَانِ؛ الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يُعَدُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مِمَّا لَا يُعَدُّ، وَفِي صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ الرِّبْحُ. الثَّانِي: فِي حُكْمِ مَا وَقَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ، أَوِ النُّقْصَانِ فِي خَبَرِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ).
البائع لا يخلو من حالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن يخبر المشتري برأس المال وهذا هو المطلوب من كل مسلم أن يكون صادقًا في بيعه وشرائه حتى لو تعامل مع غير المسلم.
الحالة الثانية: أن يخل بهذا الشرط، وإخلاله بالشرط لا يخلو من أحد أمرين:
- إما أن يكون نسي رأس المال، أو أن يكون اشتراها بواسطة فأخبره أنها بكذا، ثم تبين له أنه أضيف إليها مصاريف أخرى أو أن ثمنها أكثر مما ذكر.
- وإما أن يخبره بثمنها ثم يتبين أنه وَهِم، وهذا يسمى الغلط أو الوهم.
= وإن اشتراه بدنانير فأخبر بدراهم وعكسه، أو بنقد وأخبر بعرض ونحوه فللمشتري الخيار (وإن باعه) أي الثوب (بخمسة عشر) وقد اشتراه بعشرة (ثم اشتراه بعشرة أخبر به) على وجهه؛ لأنه أبلغ في الصدق وأقرب إلى الحق (أو حط) الخمسة (الربح من) العشرة (الثمن الثاني وأخبر بما بقي) وهو خمسة فيقول تحصل بها لأن الربح أحد نوعي النماء فوجب الإخبار به في المرابحة ونحوها كالنماء من نفس المبيع كالثمرة ونحوها. وانظر:"المغني" لابن قدامة (4/ 140).
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 491) قال: ص (وهل هو كذب أو غش؟ تأويلان) ش: أي: وهل هو كذب فيلزم المشتري إن حط البائع القدر الزائد أو غش فلا يلزم المشتري، وإن حط عنه البائع ذلك المقدار تأويلان للشيوخ على المدونة.
الحالة الثالثة: أن يقول له: اشتريتها بكذا، وهو كاذب، ثم يتبين سعرها الحقيقي.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يُعَدُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَفِي صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ الرِّبْحُ
فَأَمَّا مَا يُعَدُّ فِي الثَّمَنِ مِمَّا لَا يُعَدُّ؛ فَإِنَّ تَحْصِيلَ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا يَنُوبُ الْبَائِعُ عَلَى السِّلْعَةِ زَائِدًا عَلَى الثَّمَنِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُعَدُّ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، وَيَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنَ الرِّبْحِ. وَقِسْمٌ يُعَدُّ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنَ الرِّبْحِ. وَقِسْمٌ لَا يُعَدُّ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنَ الرِّبْحِ).
مذهب مالك كغيره في فروع كثيرة، وفيه مسائل منتثرة كثيرة، فكأن المؤلف جمعها ولخصها فقال:(تحصيل مذهب مالك)، ويتلخص مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة - مسألة المرابحة - في أصول ثلاثة:
الأول: أن يكون هناك شيء من الزيادة مضافًا إلى عين السلعة، كخياطة توب أو تعليم صنعة، فهذا يضاف إلى أصل الثمن ويحسب في الربح ويكون له نسبة كأصل الثمن، كأن يكون اشترى السلعة - مثلًا - بألف ريال وتكلف عليها مائة فصارت ألفًا ومائة، على هذا يأخذ نسبة عشر بالمائة - مثلًا - فيأخذ مائة وعشرة ريالات.
الثاني: أن تكون الزيادة غير متصلة بعين السلعة، فهذه تعد في أصل الثمن ولا تعد في الربح ولا اعتبار لها؛ لأنها ليست من رأس المال، هذا أولًا. وثانيًا: لأنها ليست متصلة بعين السلعة.
الثالث: ما لا يعد في أصل الثمن، ولا يكون له حظ من الربح
(1)
.
قوله: (فَأَمَّا الَّذِي يَحْسِبُهُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَيَجْعَلُ لَهُ حَظًّا مِنَ الرِّبْحِ: فَهُوَ مَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي عَيْنِ السِّلْعَةِ، مِثْلُ الْخِيَاطَةِ، وَالصَّبْغِ)
(2)
.
فلو أن إنسانًا اشترى سيارة فصبغها صبغًا جديدًا، أو اشترى ثوبًا أو
(1)
يُنظر: "التلقين في الفقة المالكي" للقاضي عبد الوهاب (2/ 156 - 157) قال: ويحتاج في بيع المرابحة إلى بيان ما ينضم إلى السلعة فيكون له قسط من رأس المال والربح أو من رأس المال وحده وذلك على ضربين:
أحدهما: أن ينضم إلى السلعة ماله تأثير في عينها أو ينضم إليها ما لا تأثير له في عينها.
فالأول: كالقصارة والخياطة
…
والثاني: مثل الطي والشد والسمسرة .... وما أشبه ذلك. ولا يخلو البائع إذا أخبر برأس مال المتاع أن يخبر بما لزمه من هذه التوابع، ويشترط ضمه إلى رأس المال أن يكون له قسط من الربح أو أن يسكت عن اشتراط ضم هذه التوابع إلى رأس المال وعن اشتراط ربح لها، ففي الأول له شرطه وفي الثاني يضم إلى رأس المال منها ما له عين قائمة في المتاع ويكون له قسط من الربح، ولا يضم إليه ما لا تأثير له في عين المتاع مما يمكن توليه بنفسه لا في رأس المال ولا في ربحه، وما لا يمكن توليه بنفسه مثل كراء المتاع ونقله من بلد إلى بلد، والسمسرة فيما جرت العادة بأنه لا يباع إلا بوسيط فيضم ما لزمه عليه إلى رأس المال ولا يكون له قسط في الربح.
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 217 - 218) قال: (وحسب) البائع على المشتري (إن أطلق) في الربح حال البيع من غيره بيان ما يربح له وما لا يربح، بل وقع على ربح العشرة أحد عشر - مثلًا - (ربح، ماله عين قائمة) بالسلعة، أي: مشاهدة بالبصر (كصبغ وطرز وقصر وخياطة وفتل) لحرير ونحوه وغزل (وكمد) بسكون الميم أي: دق الثوب لتحسينه (وتطرية) أي: جعل الثوب في الطراوة ليلين وتذهب خشونته، وكذا عرك الجلد المدبوغ ليلين. ومحل "حسب" ما ذكر إن كان استأجر عليه، لا إن كان من عنده. قال ابن يونس: لو كان هو الذي يتولى الطرز والصبغ ونحو ذلك لم يجز أن يحسب، فإذا لم يكن له عين قائمة حسب أصله فقط دون ربحه إن زاد في الثمن. وإليه أشار بقوله:(و) حسب (أصل ما زاد في الثمن) دون ربحه ولم يكن له عين قائمة (كأجرة حمل) من مكان لآخر إذا كانت السلع في المكان المنقولة إليه أغلى من المنقولة منه. وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 489).
صندوقًا فصبغه فإن هذه زيادة متصلة بالعين مباشرة، فيرى المالكية أن مثل ذلك يعد في رأس المال ويحسب في الربح، فلو قدر أن السلعة ثمنها عشرة آلاف ثم أضاف إلى عينها ألفًا؛ فإن الربح إذا كان عشرة بالمائة يكون ألفًا ومائة.
قوله: (وَأَمَّا الَّذِي يَحْسِبُهُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا يَجْعَلُ لَهُ حَظًّا مِنَ الرِّبْحِ: فَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي عَيْنِ السِّلْعَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْبَائِعُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ؛ كَحَمْلِ الْمَتَاعِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَكَرَاءِ الْبُيُوتِ الَّتِي تُوضَعُ بهَا)
(1)
.
المقصود ما لا يؤثر في عين السلعة ولا يمكن أن يتولاه البائع بنفسه لكن السلعة تتطلبه، كأن يستأجر دارًا أو حانوتًا ليجعله مستودعًا لهذه السلعة أو حارسًا لحراستها، أو كأن يحتاج إلى تغليفها وتعبئتها، أو إلى نقلها من مكان إلى مكان، فهذه أشياء لا تتصل بالعين مباشرة لكن السلعة تتطلبها، فهذه الأشياء تضاف إلى رأس المال ولا تعد في الربح، لأن الربح إنما يكون على أصل الثمن أو ما اتصل بعين السلعة.
فلو أن إنسانًا اشترى سلعة بألفٍ ثم نقلها من بلد إلى بلد بمائتين، لا يمكن أن يقال له: اشتريتها بألف، بعها بألف ومائة؟ هذه خسارة، فالإنسان عندما يفتح دكانًا أو متجرًا أو مصنعًا ليبيع ويشتري إنما يريد
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 433) قال: وأما ما ليس له عين قائمة، فإن كان لا يختص بالمبتاع فلا يحسب في الثمن ولا يحسب له ربح، كنفقة وكراء ركوبه وكراء بيته، وإن خزن المتاع فيه
…
وإن كان هذا الذي ليس له عين قائمة مما يختص بالمبتاع وهو مما يتولاه التاجر بنفسه ولا يستأجر عليه غالبًا كشراء المتاع وشده وطيه وما أشبه هذا فاستأجر عليه، فإنه لا يحسب في رأس المال؛ لأن المبتاع يقول له لا يلزمني ذلك .... وإن كان هذا الذي يختص بالمبتاع مما لا يتولاه التاجر بنفسه كل المتاع ونفقة الرقيق وما أشبه ذلك، فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب له ربح لأنه ليس له عين قائمة فيجب على هذا إذا اشترى من المتاع لا ما يعلم أنه يشتريه إلا بواسطة وسمسار تجري العادة بذلك، أو اكترى منزلًا ليخزن فيه المتاع، ولولا ذلك لم يحتج إليه أن يحسب في أصل الثمن ولا يُحسب له ربح.
الربح، فإذا كان سيخسر أو سيبيع برأس ماله فإنه سينتهي إلى الإفلاس، هان لم يكن هناك ربح فإن هذا المال سينتهي بنفقته ونفقة أولاده، ولذلك نجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم حض من تكون أموال اليتامى بأيدهم على أن يتاجروا فيها حتى لا يتركوها تأكلها الصدقة
(1)
، فإن لم يزد المال بالمتاجرة فيه فلا أقل من أن يبقى على حاله.
قوله: (وَأَمَّا مَا لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ في الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَمَا لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي عَيْنِ السِّلْعَةِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ صَاحِبُ السِّلْعَةِ بِنَفْسِهِ؛ كَالسَّمْسَرَةِ، وَالطَّيِّ، وَالشَّدِّ).
بعض المعلقين يُخَطِّئ نسخة (ما يُحتسَب فيه الأمرين) ويقول: (ما يُحتسَب فيه في الأمرين) والصحيح أنها صحيحة، لكن لا نقول (ما لا يُحتسَب فيه الأمرين)، وإنما (ما لا يَحتسِب فيه الأمرين) فيكون مفعولًا، إذن فتلك النسخة والتي أشير إليها كلتاهما صحيحة، لكن هذا يرجع إلى حسب قراءتك (يُحتسَب) أو (يَحتسِب)، فإن قرأت (يَحتسِب) فلا حاجة إلى كلمة (في) لأنك ستنصبها بنزع الخافض.
وهذا التقسيم يدل على دقة الفقهاء رحمهم الله، فإذا كانت الزيادة متصلة اتصالًا مباشرًا بعين السلعة فإنها تدخل ضمن رأس المال. هذا أولًا.
ثانيًا: إذا كان أمرًا لا بد منه لكنه منفصل عن عين السلعة، كنقل المتاع أو تخزينه أو نحو ذلك مما تتطلبه السلعة فإنه لا يدخل في الربح لكنه يحسب على المشتري، فإن قال: اشتريتها بألف وأربح فيها عشرة بالمائة، فإنه يأخذ الألف ومائة، ثم يضاف إليها هذه الزيادة التي تكلفها مما ليس له صلة بالعين.
(1)
أخرجه الترمذي (641) وغيره عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(788).
ثالثًا: ما ليس له علاقة بالعين ولا مما يتطلب المقام وجوده، يعني الأمور التي يستطيع المشتري نفسه أن يقوم بها، كطي الفرش وشدها بالحبال مثلًا، أو أجرة السمسار، فمثل هذه الأمور لا تحسب في رأس المال ولا في ربحه. هذا خلاصة مذهب المالكية.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: بَلْ يَحْمِلُ عَلَى ثَمَنِ السِّلْعَةِ كُلَّ مَا نَابَهُ عَلَيْهَا).
قوله: (كل ما نابه عليها)، أي: كل ما خسر عليها يحمل على السلعة، ولكن تنبه إلى أن هذا ليس مذهب الحنفية على إطلاقه، فهناك أشياء يخرجونها، لكن غالب الأشياء تدخل عند أبي حنيفة.
قوله: (وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(2)
: لَا يَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ إِلَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي
(1)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (6/ 119) قال: (وله أن يضم إلى رأس المال أجر القصار والصبغ والطراز والفتل وحمل الطعام وسوق الغنم)؛ لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار، ولأن كل ما يزيد في المبيع أو قيمته يلحق به، هذا هو الأصل، وما عددناه بهذه الصفة؛ لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين، والحمل يزيد في القيمة إذ القيمة تختلف باختلاف المكان .... ، وقيد بالأجرة لأنه لو فعل شيئا من ذلك بيده لا يضمنه، وكذا لو تطوع متطوع بهذه أو بإعارة، ودل كلامه على أنه يضم أجرة الغسل والخياطة .... ، وفي المحيط وغيره يضم طعام المبيع إلا ما كان سرفًا وزيادة فلا يضم .. ، وأما أجرة السمسار، والدلال فقال الشارح إن كانت مشروطة في العقد تضم، وإلا فأكثرهم على عدم الضم في الأول، ولا تضم أجرة الدلال بالإجماع اهـ .... وإذا حدثت زيادة من المبيع كاللبن والسمن وقد أنفق عليه في العلف، واستهلك الزيادة، فإنه يحسب ما أنفقه بقدر ما استهلكه، ويرابح، وإلا فلا يرابح بلا بيان، وإذا ولدت المبيعة رابح عليهما، ويتبعها ولدها، وكذا لو أثمر النخيل فإن استهلك الزائد لم يرابح بلا بيان كما في الظهيرية بخلاف ما إذا أجر الدابة أو العبد أو الدار فأخذ أجرته فإنه يرابح مع ضم ما أنفق عليه؛ لأن الغلة ليست متولدة من العين. كذا في "فتح القدير".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 462 - 463) قال: وقال أبو ثور: "الذي نقول به أن المرابحة لا تجوز إلا على الثمن الذي اشتراه به، ولكنه إن أحب أن يحسب جميع ما أنفق عليه وما لزمه فيه من شيء لم يقل قام علي بكذا وكذا، فذلك جائز،=
اشْتَرَى بِهِ السِّلْعَةَ فَقَطْ إِلَّا أَنْ يَفْصِلَ وَيَفْسَخَ عِنْدَهُ إِنْ وَقَعَ قَالَ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: ثَمَنُ سِلْعَتِي كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ).
قوله: (إلا أن يفصل) كأن في الكلام حذف شيء مقدر، أي:(إلا أن يفصل، فإن فصل وبين فله ذلك، وإن لم يفصل يفسخ البيع)؛ لأنه دلس على المشتري، هذا هو كلام أبي ثور رحمه الله.
قوله: (وَيَفْسَخَ عِنْدَهُ إِنْ وَقَعَ قَالَ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ): وفي الحديث: "من غشنا فليس منا"
(1)
والبائع هنا قد كذب وخان المشتري وغطى عليه أمرًا كان ينبغي له أن يبينه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"
(2)
.
إذن مذهب أبي ثور قريب من مذهب الحنابلة من حيث طلب التفصيل، فلا يكفي عنده في تلك الزيادات التي أضيفت إلى السلعة سواء كانت متصلة أو غير متصلة أن يقول: أنفقت عليها زيادةً على الألف مائتين أو على العشرة آلاف ألفًا، بل لا بد من التفصيل، فيبين أن حمولة السيارة كذا، وأجرة العمال كذا، وهكذا، إلا أن الحنابلة لا فسخ عندهم؛ لأنهم لا يرون شيئًا من هذا فيه فسخ إلا في صور نادرة في المرابحة.
وذهب الحنابلة
(3)
إلى أن ما يلحق بالسلعة لا يخلو من أمرين: إما أن تكون زيادة وإما أن تكون نقصًا.
= ولا يقل: اشتريته بكذا وكذا فيكون، فإن باعه على أنه اشتراه بكذا وقد حمل عليه ما أنفق فالبيع مفسوخ، وإن استهلك المشتري المتاع كان عليه القيمة ويرجع بالثمن".
(1)
أخرجه مسلم (101).
(2)
أخرجه البخاري (2079)(2082) ومسلم (1532) ولفظه: عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 233) قال: (وإذا أراد البائع الإخبار بثمن السلعة وكانت) السلعة (بحالها لم تتغير) بزيادة ولا نقص (أو) كانت (زادت زيادة متصلة=
والزيادة على نوعين: إما أن تكون زيادة متصلة كأن تكون دابة فسمنت أو غلامًا فعلمه صنعة أو ثوبًا فصبغه أو نحو ذلك.
وأما أن تكون الزيادة منفصلة، مثل أن تلد الدابة، أو أن تلد الجارية، أو أن يبيع الثمرة، ففي هذه الحالة لا يلزمه البيان.
وأما النقص فكأن تكون مرضت أو نقصت أو لحق بها عيب، ففي هذه الحالة لا بد من البيان، وإلا كان تدليسًا.
أما الشافعية
(1)
فقد فرقوا في المرابحة بين صورتين:
الأولى: أن يقول البائع: ثمن السلعة كذا وأبيعك بكذا، أو يقول:
=كسمن وتعلم صنعة أخبر بثمنها) الذي اشتراها به (سواء غلت أو رخصت) لأنه إنما أخبر بما اشتراها به لا بقيمتها الآن (فإن) رخصت و (أخبره بدون ثمنها ولم يبين الحال) أي أنه أخبر بدون ثمنها لكونها رخصت (لم يجز؛ لأنه كذب) والكذب حرام.
(وإن تغيرت) السلعة (بنقص بمرض أو) تغير المبيع (بجناية عليه أو) بـ (تلف بعضه أو بولادة أو عيب أو) تغير (بأخذ المشتري بعضه كالصوف) الموجود (واللبن الموجود) حين الشراء (ونحوه أخبر بالحال) لئلا يغر المشتري، فإن كتمه عنه فله الخيار كالتدليس.
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 92) قال: (من اشترى شيئًا وقال لآخر بعد علمهما بالثمن - وعلمهما به شرط -) جملة حالية موضحة لما قبلها (بعتكه)(بما اشتريت أو برأس المال) أو بما قام علي، أي: بمثله أو نحوها (وربح ده يازده أو ربح درهم لكل عشرة أو في) أو على (كل عشرة صح) بلا كراهة كما في الأصل (بزيادة درهم في كل عشرة) .... ولأنه ثمن معلوم فكان كبعتك بمائة وعشرة .... وكما تصح المرابحة تصح المحاطة لذلك، ويقال لها المواضعة والمخاسرة (فلو قال) لآخر بعد علمهما بالثمن: بعتك بما اشتريت أو برأس المال أو نحوهما (بحط ده يازده أو بحط درهم لكل عشرة أو في) أو على (كل عشرة انحط من كل أحد عشر درهمًا درهم) كما أن الربح في مرابحة ذلك واحد من أحد عشر فلو اشتراه بمائة فالثمن تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم أو بمائة وعشرة فالثمن مائة (فلو قال بحط درهم من كل عشرة فالمحطوط العاشر) لأن (مِنْ) تقتضي إخراج واحد من العشرة بخلاف (اللام) و (في).
اشتريت هذه السلعة أو أخذتها بكذا - هكذا بإطلاق - فحينئذٍ ليس له إلا رأس المال.
الثانية: أن يقول: قامت علي هذه السلعة بكذا، أو دخلت علي بكذا، أو كلفتني كذا، فهنا يُحسب له كل ما زاد على ثمن السلعة.
وأقرب المذاهب - في نظري - هو مذهب الشافعية؛ إذ فيه بيان الصورة كاملة والاتفاق على الربح، فهذا يمكن أن يكون ضابطًا لهذه المسألة وهو أيسر من ضوابط المالكية.
قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ رَأْسِ الثَّمَنِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَه بِهِ فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
، وَاللَّيْثَ
(2)
قَالَا فِيمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِدَنَانِيرَ - وَالصَّرْفُ يَوْمَ اشْتَرَاهَا صَرْفٌ مَعْلُومٌ، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ، وَالصَّرْفُ قَدْ تَغَيَّرَ إِلَى زِيَادَةٍ -: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْلَمَ يَوْمَ بَاعَهَا بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي اشْتَرَاهَا؛ لأنَّهُ مِنْ بَابِ
(1)
يُنظر: "المدونة"(3/ 242) قال: فيمن ابتاع سلعة بثمن فنقد فيها غير ذلك الثمن ثم باعها مرابحة قلت: أرأيت لو أني بعت سلعة بألف درهم فأخذت بالألف مائة دينار. هل يجوز في قول مالك له ذلك؟ قال: نعم ذلك جائز.
قلت: فإن أراد أن يبيعها مرابحة أيجوز له في قول مالك أم لا؟ قال: ذلك جائز له أن يبيع مرابحة إذا بيَّن له بما اشتراها به وبما نقد. قلت: فإذا بيّن ما اشتراها به فقال: أخذتها بألف درهم ونقدت فيها مائة دينار. أيجوز لي أن أبيعها مرابحة على مائة الدينار أو على الألف الدرهم على أي ذلك شئت؟ قال: نعم إذا رضي به.
قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم. قلت: فإن كنت اشتريت سلعة بمائة دينار فأعطيت بمائة الدينار عروضًا، أيجوز لي أن أبيع مرابحة في قول مالك؟ قال: نعم إذا بينت. فلت: وكيف يبين؟ قال: يبين أنه اشتراها بمائة دينار وأنه قد نقد فيها من العروض كذا وكذا فيقول: فأبيعكها مرابحة على الدنانير التي اشتريتها بها.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 463) قال: قال مالك في الرجل يشتري المتاع بالذهب أو بالورف والصرف يوم اشتراه عشرة دراهم بدينار، فيقدم به بلدًا فيبيعه مرابحة أو يبيعه حيث اشتراه مرابحة على صرف ذلك اليوم الذي باعه فيه، فإنه إن كان ابتاعه بدراهم وباعه بدنانير أو ابتاعه بدنانير وباعه بدارهم .. وهو قول الليث.
الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَكَذَلِكَ إِن اشْتَرَاهَا بِدَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهَا بِدَنَانِيرَ وَقَدْ تَغَيَّرَ الصَّرْفُ).
شرع المؤلف في بيان صفة رأس الثمن، وقد مضى الكلام عن الثمن الذي هو رأس المال، وقوله:(صفة رأس الثمن) يعني نوعه: هل هو دراهم أو دنانير أو دولارات أو عروض؟ فقد يكون اشترى بدنانير وباع بدراهم، أو اشترى بدنانير وباع بعروض، أو غير ذلك، وبعضهم يعد من الصفة - أيضًا - كونها إلى أجل، ومعلوم أن السلعة يختلف سعرها من حيث كونها تباع نقدًا أو مؤجلة، فغالبًا ما يكون مع التأجيل زيادة. فهل يلزم بيان صفة الثمن؟
وفائدة معرفة الصفة تظهر عند الصرف، فقد يشتريها بدنانير ويبيعها بدراهم؛ فيتغير الصرف في هذه الحالة إلى زيادة، وقد يكون العكس، فينبغي - حينئذٍ - أن تبين الصفة.
قوله: (فإن مالكًا والليث قالا فيمن اشترى سلعة بدنانير
…
إلخ) هذا وجه - أيضًا - عند الحنابلة
(1)
، وعلة هذا القول أنه قد حصل زيادة في العملة، إذ اشتراها بدنانير، ثم باعها بعد ذلك بدراهم، والصرف قد تغير.
وبعض العلماء
(2)
يمنعون ذلك وهم الأكثر؛ لوجود تدليسٍ على المشتري، فلا بد أن يبين، لكن من الفقهاء من يصحح البيع إذا وقع.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 54) قال: "وإن اشتراه بدنانير فأخبر بدراهم وعكسه، أو بنقد وأخبر بعرض ونحوه، فللمشتري الخيار (وإن باعه) أي الثوب (بخمسة عشر) وقد اشتراه بعشرة (ثم اشتراه بعشرة أخبر به) على وجهه؛ لأنه أبلغ في الصدق وأقرب إلى الحق (أو حط) الخمسة (الربح من) العشرة (الثمن الثاني وأخبر بما بقي) وهو خمسة فيقول تحصل بها لأن الربح أحد نوعي النماء فوجب الإخبار به في المرابحة ونحوها كالنماء من نفس المبيع كالثمرة ونحوها".
(2)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 97): "إذا أخبر هذا البائع أنه شرى هذه السلعة بمائة دينار وباعها مرابحة، ثم أطلع على الخيانة. فقال الثوري، وابن أبي ليلى، ويعقوب، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يحط عند الخيانة وحصتها من الربح".
قوله: (وَكَذَلِكَ إِنِ اشْتَرَاهَا بِدَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهَا
…
) أما إذا لم يتغير الصرف فلا إشكال، وإنما يحصل الإشكال إذا تغير الصرف، وهنا لم يبين، لأنه يريد أن يربح أكثر.
قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِيمَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِعُرُوضٍ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً أَمْ لَا يَجُوزُ؟ فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَهَلْ يَجُوزُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ، أَوْ بِالْعَرَضِ نَفْسِهِ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(1)
: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ مِنَ الْعُرُوضِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْقِيمَةِ).
يعني: إذا باعها بعرض فالعرض ينبغي أن يكون مساويًا، وقد تقدم في شروط المرابحه ألا يكون المال ربويًّا، فمثلًا قمحٌ يبيعه بقمح؛ لا يجوز؛ لأنه سيربح، والربح هنا سيجر إلى الربا، والربا ممنوع؛ إذ لا بد في الأموال الربوية المتجانسة من التماثل. وإلى هذا ذهب ابن القاسم من المالكية، وهو قول لبعض الفقهاء أيضًا
(2)
.
قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ
(3)
: لَا يَجُوزُ لِمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِشَيْءٍ مِنَ
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (6/ 358) قال: "قال ابن عبدوس، عن ابن القاسم فيمن ابتاع ثوبين جنسًا واحدا، وصفة واحدة بعشرين درهمًا، فباع أحدهما مرابحة ولم يبين، فللمبتاع رده، وليس للبائع أن يلزمه إياه بحصته بالقيمة من الثمن بحجة المبتاع أن الجملة يرغب فيها، فيزاد في ثمنها".
(2)
قول للحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 221) قال: "وإن كان مما لا مثل له من العروض لا يجوز بيعه مرابحة ولا تولية ممن ليس ذلك العرض في ملكه؛ لأن المرابحة بيع بمثل الثمن الأول وكذلك التولية، فإذا لم يكن الثمن الأول مثل جنسه فإما أن يقع البيع على غير ذلك العرض، وإما أن يقع على قيمته، وعينه ليس في ملكه وقيمته مجهولة تعرف بالحزر والظن لاختلاف أهل التقويم فيها، ويجوز بيعه تولية ممن العرض في ملكه ويده".
(3)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (3/ 243) قال: "وقال أشهب: لا يجوز؛ لأنه بيع ما ليس عنده فلا يجوز ذلك، ألا ترى أن البائع باع سلعته بطعام أو بعرض وليس الطعام ولا العرض عند المشتري فصار البائع كأنه اشترى من المشتري بسلعته ما ليس عند المشتري فصار كأنه باع ما ليس عنده؟ ".
الْعُرُوضِ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِعُرُوضٍ عَلَى صِفَةِ عَرَضِهِ، وَفي الْغَالِبِ لَيْسَ يَكُونُ عِنْدَه، فَهُوَ مِنْ بَابِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ).
أي: يطالب البائع المشتري بنفس العرض وقد لا يكون عنده فكأنه باع ما لم يملك، فالمسألة هنا فيها شبهة، لكن الفقهاء يحتاطون في هذا الأمر، فقد يبيعه عرضًا بعرض، أما بالنسبة للنقدين فلا يرد هذا الاحتمال.
قوله: (وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِدَنَانِيرَ فَأَخَذَ فِي الدَّنَانِيرِ عُرُوضًا، أَوْ دَرَاهِمَ؛ هَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا مُرَابَحَةً دُونَ أَنْ يَعْلَمَ بِمَا نَقَدَ أَمْ لَا يَجُوزُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ مَا نَقَدَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ مُرَابَحَةً عَلَى الدَّنَانِيرِ الَّتِي ابْتَاعَ بِهَا السِّلْعَةَ دُونَ الْعُرُوضِ الَّتِي أَعْطَى فِيهَا أَوِ الدَّرَاهِمِ، قَالَ مَالِكٌ - أَيْضًا - فِيمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِأَجَلٍ فَبَاعَهَا مُرَابَحَةً: إنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يُعْلِمَ بِالْأَجَلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ وَقَعَ كَانَ لِلْمُشْتَرِي مِثْلُ أَجْلِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هُوَ كَالْعَيْبِ وَلَهُ الرَّدُّ بِهِ).
(1)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (3/ 242) قال: "فيمن ابتاع سلعة بثمن فنقد فيها غير ذلك الثمن ثم باعها مرابحة قلت: أرأيت لو أني بعت سلعة بألف درهم فأخذت بالألف مائة دينار، هل يجوز في قول مالك له ذلك؟
قال: نعم ذلك جائز. قلت: فإن أراد أن يبيعها مرابحة، أيجوز له في قول مالك أم لا؟ قال: ذلك جائز له أن يبيع مرابحة إذا بين له بما اشتراها به وبما نقد".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 220) قال: "وأما شرائطه (فمنها) ما ذكرنا وهو أن يكون الثمن الأول معلومًا للمشتري الثاني؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، والعلم بالثمن الأول شرط صحة البياعات كلها لما ذكرنا فيما تقدم، فإن لم يكن معلومًا له، فالبيع فاسد إلى أن يعلم في المجلس، فيختار إن شاء فيجوز أو يترك فيبطل، أما الفساد للحال فلجهالة الثمن؛ لأن الثمن للحال مجهول. وأما الخيار فللخلل في الرضا".
قوله: (فقال مالك: لا يجوز إلا أن يعلم ما نقد) هو - أيضًا - قول للإمام أحمد في رواية
(1)
.
وقال مالك
(2)
وكذا أحمد
(3)
فيمن اشترى سلعة بأجل فباعها مرابحة: إنه لا يجوز، فلو اشترى سلعة بخمسة آلاف إلى أجل فقال لآخر اشتريتها بخمسة آلاف وأبيعك إياها بستة آلاف، لا يجوز، لأنه أخفى عليه صفة من الصفات، وهي كونه اشتراها إلى أجل، فيلزمه البيان وإلا كان العقد غير صحيح؛ لأنه - غالبًا - من اشترى إلى أجل يزاد عليه في الثمن، ومن اشترى نقدًا يكون الثمن في ذلك أقل.
أما الشافعي
(4)
رحمه الله وكذا أبو حنيفة
(5)
أيضًا، فإنه يصحح هذا البيع
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 232) قال: " (وإن اشتراه)، أي: المبيع (بدنانير وأخبر) في البيع بتخبير الثمن (أنه اشتراه بدراهم وبالعكس) بأن اشتراه بدراهم وأخبر أنه اشتراه بدنانير، فللمشتري الخيار، والعبرة بما وقع عليه العقد، لا بما أقبض عليه (أو اشتراه بعرض) ولو فلوسًا نافقة (فأخبر أنه اشتراه بثمن)، أي: بنقد من دراهم أو دنانير، فللمشتري الخيار (أو بالعكس) بأن اشتراه بنقد فأخبر أنه اشتراه بعرض، فللمشتري الخيار (وأشباه ذلك) كما لو اشتراه بعرض فأخبر أنه اشتراه بعرض آخر".
(2)
ينظر: "المدونة" للإمام مالك (3/ 241) قال: "فيمن ابتاع سلعة بدين إلى أجل، أيجوز له أن يبيعها مرابحة بنقد؟ قلت: أرأيت من اشترى سلعة بدين إلى أجل، أيجوز له أن يبيع مرابحة نقدًا؟ قال: قال مالك: لا يصلح له أن يبيعها مرابحة إلا أن يبين.
قال: وقال مالك: وإن باعها مرابحة ولم يبين رأيت البيع مردودًا، وإن فاتت رأيت له قيمة سلعته يوم قبضها المبتاع، هذا ولا يضرب له الربح على القيمة".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 439) قال: "ومتى اشتراه بثمن مؤجل ولم يبين ذلك للمشتري في تخييره بالثمن، فللمشتري الخيار بين الإمساك والرد، هذه إحدى الروايات
…
وعنه: يأخذه مؤجلًا. ولا خيار له. نص عليه. وهذا المذهب".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (5/ 282) قال: "وإذا اشترى سلعة بثمن مؤجل وأراد بيعها مرابحة كان عليه في إخبار الشراء أن يذكر تأجيل الثمن، فإن لم يذكر تأجيله
…
مذهب الشافعي جواز البيع ويخير المشتري بين فسخ البيع أو إمضائه بالثمن الحال؛ لأن الأجل رفق بالمثشري لا يتعلق بزيادة ولا نقص".
(5)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 141 - 142) قال: " (قوله: اشتراه بألف نسيئة) أفاد أن الأجل مشروط في العقد، فإن لم يكن، ولكنه كان معتاد=
إذا وقع، ويعطي للمشتري مثل أجله، فلو فرض أنه اشترى السلعة بخمسة آلاف لمدة ستة أشهر ولم يبين ذلك، فإن البيع يكون صحيحًا على أن يدفع المشتري الثمن بعد ستة أشهر، إلا أن يرضى بالدفع مقدمًا.
وذهب أبو ثور رحمه الله إلى أنه كالعيب وله الرد به
(1)
.
قوله: (وَفِي هَذَا الْبَابِ فِي الْمَذْهَبِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ مِمَّا قَصَدْنَاهُ).
بيع المرابحة فيه جزئيات كثيرة كالبيع بين الأب وابنه، والابن وأبيه، وذلك أن الابن يجامل أباه، كذلك الأب يجامل ابنه، وربما حصل في ذلك تسامح وتساهل، فهل يلزم البائع أن يبين للمشتري أنه اشترى هذه السلعة من أبيه أو من ابنه؟ ذهب الحنفية
(2)
والحنابلة
(3)
إلى أنه لا بد من البيان؛ لأن التهمة قائمة، وما دام متهمًا فلا بد من البيان لإزالة الإشكال، وقال الشافعية
(4)
: لا أثر لذلك في المرابحة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
= التنجيم، قيل: لا بد من بيانه؛ لأن المعروف كالمشروط، وقيل: لا يلزمه البيان، وهو قول الجمهور كما في الزيلعي نهر وينبغي ترجيح الأول؛ لأنها مبنية على الأمانة والاحتراز عن شبهة الخيانة، وعلى كل من القولين لو لم يكن مشروطًا ولا معروفًا، وإنما أجله بعد العقد، لا يلزمه بيانه بحر قال في النهر لما مر: من أن الأصح أنهما لو ألحقا به شرطًا لا يلتحق بأصل العقد، فيكون تأجيلًا مستأنفًا، وعلى القول بأنه يلتحق ينبغي أن يلزمه البيان اهـ. (قوله: خير المشتري) أي بين رده وأخذه بألف ومائة حالة؛ لأن للأجل شبهًا بالمبيع".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 464) قال: وقال أبو ثور وهو كالعيب.
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 225) قال: "ولو اشترى ممن لا تجوز شهادته له كالوالدين والمولودين والزوج والزوجة لم يجز له أن يبيعه مرابحة حتى يبين عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: له ذلك من غير بيان ولو اشترى من مكاتبه أو عبده المأذون، وعليه دين أو لا دين عليه لم يبعه مرابحة من غير بيان بالإجماع".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 232) قال: " (أو) اشتراه (ممن لا تقبل شهادته له كأبيه وابنه أو مكاتبه) وزوجته، وكتم ذلك عن المشتري في تخبيره بالثمن فللمشتري الخيار؛ لأنه متهم في حقهم لكونه يحابيهم ويسمح لهم".
(4)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (5/ 339) قال: "إذا اشترى شيئًا من ابنه أو أبيه أو مكاتبه جاز أن يبيعه مرابحة، ولا يلزمه أن يبين ممن اشتراه".
(الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ مَا وَقَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ، أو النُّقْصَانِ فِي خَبَرِ الْبَائِع بِالثَّمَنِ)
هذا الباب عقده المؤلف لبيان ما قد يدعيه البائع في السلعة من الزيادة أو النقصان، والحكم إذا تبين أنه زاد في الثمن، وهل تقبل مجرد دعواه في الزيادة لأنه مسلم، والأصل في المسلم الصدق والأمانة، أو لا بد من أن يأتي ببينة؟ وهل يكتفي المشتري بإقامة البائع البينة أم هل يطالبه باليمين؟ وإذا لم توجد البينة فهل للمشتري أن يوجه إلى طلب اليمين؟
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً مُرَابَحَةً عَلَى ثَمَنٍ ذَكَرَه، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ - إِمَّا بِإِقْرَارِهِ وَإِمَّا ببَيِّنَةٍ - أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ أَقَلَّ، وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَجَمَاعَةٌ
(2)
: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي صَحَّ، أَوْ يَتْرُكَ إِذَا لَمْ يُلْزِمْهُ الْبَائِعُ أَخْذَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير وحاشية الدسوقي (3/ 168) قال: " (وإن كذب) البائع، أي: زاد في إخباره، كأن يخبر أنه اشتراها بخمسين وقد كان اشترى بأربعين، وسواء كان عمدًا أو خطأ (لزم) البيع (المشتري إن حطه) أي: حط البائع الزائد المكذوب به (وربحه) فإن لم يحطه لم يلزم المشتري، وخير بين التماسك والرد (بخلاف الغش) فلا يلزمه، ويثبت له الخيار بين التماسك والرد
…
(ففي الغش) يلزم المشتري (أقل الثمن) الذي بيعت به (والقيمة) يوم قبضها ولا يضرب ربح عليها (وفي الكذب خير) المشتري (بين) دفع الثمن (الصحيح وربحه أو قيمتها ما لم تزد على الكذب وربحه) فإن زادت خير بين دفع الصحيح وربحه أو الكذب وربحه، فكلام التتائي من أن التخيير للمشتري هو الصواب".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (3/ 106) قال: "وقال عثمان البتي والحسن بن حي: في المرابحة له الخيار. وهو قول مالك ولا يُحط شيء".
صَحَّ، وَإِنْ أَلْزَمَهُ لَزِمَه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَزُفَرُ
(2)
: بَلِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِالثَّمَنِ الَّذِي إِنْ أَلْزَمَهُ الْبَائِعُ لَزِمَهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ
(5)
: بَلْ يَبْقَى الْبَيْعُ لَازِمًا لَهُمَا بَعْدَ حَطِّ الزِّيَادَةِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ
(6)
: الْقَوْلُ
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 226) قال: "وإن ظهرت الخيانة في قدر الثمن في المرابحة والثولية بأن قال: اشتريت بعشرة وبعتك بربح ده يازده، أو قال: اشتريت بعشرة ووليتك بما توليت، ثم تبين أنه كان اشتراه بتسعة، فقد اختلف في حكمه، قال أبو حنيفة - عليه الرحمة -: "المشتري بالخيار في المرابحة؛ إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وفي التولية لا خيار له، لكن يحط قدر الخيانة وللزم العقد بالثمن الباقي".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (3/ 106) قال: "وقال محمد: لا يحط فيهما وله الخيار. وهو قول زفر".
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 97) قال: "إذا أخبر هذا البائع أنه شرى هذه السلعة بمائة دينار وباعها مرابحة، ثم اطلع على الخيانة. فقال الثوري، وابن أبي ليلى، ويعقوب، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يحط عند الخيانة وحصتها من الربح".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 231) قال: " (و) المذهب أنه (من أخبر بثمن فعقد به) تولية أو شركة أو مرابحة أو وضيعة (ثم ظهر الثمن أقل) مما أخبر به (فللمشتري حط الزيادة) في التولية والشركة ولا خيار، وللمشتري - أيضا - حط الزيادة (في المرابحة و) حط حظها (أي قسطها) من الربح".
(5)
منهم: يعقوب، وإسحاق، وأبو ثور كما تقدم. انظر:"الإشراف" لابن المنذر (6/ 97).
(6)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 480) قال: " (فلو قال) اشتريته (بمائة) وباعه مرابحة (فبان) أنه اشتراه (بتسعين) بإقراره أو حجة (فالأظهر أنه يحط الزيادة وربحها)؛ لأنه تمليك باعتماد الثمن الأول فتحط الزيادة عنه كما في الشفعة .... والثاني: لا يحط شيء؛ لأنه قد سمي عوضًا وعقد به، والبيع صحيح على القولين؛ لأنه غره، والتغرير لا يمنع الصحة كما لو روج عليه معيبًا (و) الأظهر بناء على الحط (أنه لا خيار للمشتري) ولا للبائع أيضًا سواء أكان المبيع باقيًا أم تالفًا، فلو أسقط لفظ المشتري لشملهما. أما المشتري؛ فلأنه إذا رضي بالأكثر فبالأقل من باب أولى، وأما البائع فلتدليسه. والثاني يثبت الخيار وهو وجه في البائع، وقيل: قول.=
بِالْخِيَارِ مُطْلَقًا، وَالْقَوْلُ بِاللُّزُومِ بَعْدَ الْحَطِّ. فَحُجَّةُ مَنْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ بَعْدَ الْحَطِّ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنَّمَا أَرْبَحَهُ عَلَى مَا ابْتَاعَ بِهِ السِّلْعَةَ لَا غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمَّا ظَهَرَ خِلَافُ مَا قَالَ وَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الَّذِي ظَهَرَ، كَمَا لَوْ أَخَذَ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ فَخَرَجَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْكَيْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَوْفِيَةُ ذَلِكَ الْكَيْلِ، وَحُجَّةُ مَنْ رَأَى أَنَّ الْخِيَارَ مُطْلَقًا: تَشْبِيهُ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْعَيْبِ (أَعْنِي: أَنَّهُ كَمَا يُوجِبُ الْعَيْبُ الْخِيَارَ كذَلِكَ يُوجِبُ الْكَذِبُ".
قوله: (إما بإقراره): هذا يحصل من كثير من المؤمنين، فالمؤمن ربما يقع في الأخطاء، والمعاصي، لكن إذا خلا بنفسه أو استمع موعظة، فطرقت فؤاده ونفذت إلى قلبه فأثرت فيه، أو سمع عن الحلال والحرام وعن الصدق وأنه يهدي إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة وأن الرجل لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا
(1)
فيشق عليه الأمر ويصعب عليه؛ إذ كذب على أخيه المسلم، فيراجع نفسه، فيندم ويرجع، والإنسان متى أخطأ ثم تاب وأصلح خطأه فهذا خير له وأتقى عند الله سبحانه وتعالى
(2)
.
بخلاف من أصر على خطئه واستمر في تدليسه طمعًا في دريهمات قليلة ربما تكون نقصًا عليه؛ لأن الإنسان إذا صدق يبارك الله سبحانه وتعالى له في ربحه ولو كان قليلًا، وإذا كذب فإن الله - تعالى - يمحق بركة ماله وإن
= أما المشتري؛ فلأنه قد يكون له غرض في الشراء بذلك المبلغ لإبرار قسم أو إنفاذ وصية. وأما البائع؛ فلأنه لم يسلم له ما سماه".
(1)
معنى حديث أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607/ 103) عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".
(2)
معنى حديث أخرجه الترمذي (2499) وغيره عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"(2341).
كان كثيرًا
(1)
، فهناك صنف من الناس لا يستفيدون من أموالهم وإن كثرت، ومنهم من يملك أموالًا طائلة ثم يموتون ويتركونها للورثة يبذرونها ويضيعونها، بخلاف صنف آخر عنده أموال كثيرة ينفقها في سبيل الله، فيتصدق ويبني المساجد وشماعد المحتاجين ويفك عسر المعسرين ويفرج عن المكروبين، وهذا صنف موجود بحمد الله، لن تخلو منه الأمة في أيِّ عصر.
قوله: (إما ببينة): كأن يشهد شهود أن البائع كاذب في دعواه أنه اشتراها بكذا، واختلف أهل العلم: هل يفسح البيع بقيام البينة أم لا؟
فقال الحنابلة بصحة العقد ولكن يحط عنه الزيادة ولا حاجة في أن يخبره، وعللوا ذلك بأن أصل العقد لم يحصل فيه خلل، فإذا اشترى سلعة فباعها مرابحة ثم نقصت السلعة فإنه يترتب عليه نقص في الثمن وفي الربح أيضًا، فإذا حُطت الزيادة ورجع إلى الأصل صحح البيع، ومذهب الشافعية في هذا قريب من مذهب الحنابلة.
وقال مالك وجماعة بالتفصيل، فإما أن يأخذ بالثمن الذي صح، أو يترك إذا لم يُلزمه البائع أخذها بالثمن الذي صح، وإن ألزمه لزمه وحطَّ عنه الزيادة.
وذهب أبو حنيفة وزفر إلى أن المشتري بالخيار مطلقًا ولا يلزمه الأخذ بالثمن الذي إن ألزمه البائع لزمه؛ وذلك أن الكذب يؤثر على السلعة كتأثير العيب.
قوله: (كمَا لَوْ أَخَذَ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ فَخَرَجَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْكَيْلِ
…
)، يعني: لو اشترى منه مكيلًا ثم تبين أنه أقل فإنه يرجع إليه ويوفيه حقه.
(1)
أخرج هذا المعنى البخاري (2079)، ومسلم (1532/ 47) عن حكيم بن حزام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".
قوله: (وَأَمَّا إِذَا فَاتَتِ السِّلْعَة، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: يَحُطُّ مِقْدَارَ مَا زَادَ مِنَ الثَّمَنِ، وَمَا وَجَبَ له مِنَ الرِّبْحِ. وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْقَبْضِ أَوْ يَوْمَ الْبَيْعِ - عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ - مِثْلَ مَا وَزَنَ الْمُبْتَاعُ أَوْ أَقَلَّ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ خُيِّرَ الْبَائِعُ بَيْنَ رَدِّهِ لِلْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ، أَوْ رَدِّهِ الثَّمَنَ، أَوْ إِمْضَائِهِ السِّلْعَةَ بِالثَّمَنِ الَّذِي صَحَّ).
مراد المؤلف بقوله: (إذا فاتت السلعة
…
)، أي: إذا انتقلت من يده إما ببيع أو هبة أو نحوهما، ثم تبينت زيادة البائع في الثمن أو وجود نقص فيها، فهل يختلف الحكم عما إذا كانت السلعة في يد المشتري؟ هذا هو المراد.
ولو اشترى سلعة كيلًا، فتبين أن الكيل دون ذلك، أو وزنًا فنقص الوزن، فإنه يرجع إلى البائع ويطالبه بالفرق؛ لأن أصل العقد صحيح، وإنما حصلت فيه زيادة، فإذا رفع هذا الظلم أو التعدي فإنه يبقى العقد على أصله صحيحًا.
قوله: (وَأَمَّا إِذَا بَاعَ الرَّجُلُ سِلْعَتَهُ مُرَابَحَةً، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ
(1)
يُنظر: "الوسيط" للغزالي (3/ 164) قال: "ثم إن كذب المشتري فزاد في الثمن أو لم يخبر عما طرأ من العيب، فهل يحط عن الثاني قدر التفاوت؟ فيه قولان؛ أحدهما: أنه لا يحط؛ لأنه جزم العقد بمائة مثلًا، وكذب في قوله اشتريت به، نعم له الخيار إن شاء لتلبيسه، فإن أجاز فليجر لكل الثمن، والثاني: أنه يحط؛ لأنه لم يقتصر على ذكر المائة، بل ربط وقال: بعت بمائة وهو الذي اشتريت به، فلا تلزمه المائة".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 169) قال: " (وإن فاتت) ولو بحوالة سوق (ففي الغش) يلزم المشتري (أقل الثمن) الذي بيعت به (والقيمة) يوم قبضها ولا يضرب ربح عليها (وفي الكذب خيّر) المشتري (بين) دفع الثمن (الصحيح وربحه أو قيمتها ما لم تزد على الكذب وربحه) فإن زادت خير بين دفع الصحيح وربحه أو الكذب وربحه، فكلام التتائي من أن التخيير للمشتري هو الصواب".
ثَمَنَهَا أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرَه، وَأَنَّهُ وَهِمَ فِي ذَلِكَ وَهِيَ قَائِمَةٌ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: لَا يَسْمَعُ مِنْ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّهُ كَذَّبَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: يَسْمَعُ مِنْهَا وَيُجْبَرُ الْمُبْتَاعُ عَلَى ذَلِكَ الثَّمَنِ. وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ بَيْعٌ آخَرُ. وَقَالَ مَالِكٌ
(3)
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِذَا فَاتَتِ السِّلْعَةُ إنَّ الْمُبْتَاعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ يَوْمَ قَبْضِهَا أَوْ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي صَحَّ).
هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال البائعين، فإذا كان البائع قد عُرف بالصدق واشتهر به، فإنه يعود إلى المشتري، فإذا ما صدقه قُبِلَ قوله، لكن إذا لم يحصل تصديق من المشتري، أو كان البائع ممن يتهم في بيعه
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 481) قال: " (وإن كذبه) أي: البائع المشتري (ولم يبين) أي: البائع (للغلط وجهًا محتملًا) بفتح الميم (لم يقبل قوله)؛ لأنه رجوع عن إقرار تعلق به حق آدمي (ولا بينته) إن أقامها عليه لتكذيبه لها بقوله: الأول (وله تحليف المشتري أنه لا يعرف ذلك في الأصح)؛ لأنه قد يقر عند عرض اليمين عليه. والثاني: لا كما لا تسمع بينته، وعلى الأصح إن حلف أمضى العقد ما حلف عليه، وإن نكل عن اليمين ردت على البائع بناءً على الأظهر من أن اليمين المردودة كالإقرار، فيحلف على البت أن ثمنه المائة والعشرة
…
(وإن بين) لغلطه وجهًا محتملًا، كقوله: جاءني كتاب على لسان وكيلي بأنه اشتراه بكذا فبان كذبًا عليه، أو تبين لي بمراجعة جريدتي أني غلطت من ثمن متاع إلى غيره (فله التحليف) كما سبق؛ لأن العذر يحرك ظن صدقه (والأصح) على التحليف (سماع بينته) التي يقيمها بأن الثمن ما ذكره، والثاني: لا لتكذيبه لها. قال في المطلب: وهذا هو المشهور والمنصوص عليه".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 168) قال: " (وإن غلط) البائع مرابحة على نفسه فأخبر (بنقص) عما اشترى به (وصُدِّق) بالبناء للمفعول، أي: صدقه المشتري في غلطه (أو أثبت) ذلك بالبينة (رد) المشتري السلعة، أي: له ذلك وأخذ ثمنه (أو دفع ما تبين) أنه ثمن صحيح (وربحه) إن كانت السلعة قائمة".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 168) قال: " (فإن فاتت) بنماء أو نقص لا بحوالة سوق (خير مشتريه) أيضًا (بين) دفع الثمن (الصحيح وربحه و) دفع (قيمته) في المقوم ومثله في المثلي (يوم بيعه)؛ لأن العقد صحيح لا يوم قبضه (ما لم تنقص) قيمته (عن الغلط وربحه) فلا ينقص عنهما".
وشرائه فهنا اختلف أهل العلم؛ فمنهم من قال: لا بد من بينة، ومنهم من قال: إن البينة وحدها لا تكفي، ومنهم من قال: إن البينة تحتاج إلى أن تُدعم بيمين، ومنهم من قال: إنه لا بد مع البينة أن يصدقه المشتري.
قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَسْمَعُ مِنْ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهَا)؛ وهي رواية عن الإمام أحمد
(1)
.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: يَسْمَعُ مِنْهَا وَيُجْبَرُ الْمُبْتَاعُ عَلَى ذَلِكَ الثَّمَنِ)، وهي رواية مشهورة عن أحمد أيضًا
(2)
.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ فِي هَذه الْمَسْأَلَةِ: إِذَا فَاتَتِ السِّلْعَةُ إنَّ الْمُبْتَاعَ
…
)، يعني: إما أن يعطيه قيمة السلعة يوم قبضها، وإما أن يأخذ الفرق.
قوله: (فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ).
يعني: في باب المرابحة.
قوله: (وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِ هَذَا الْبَيْعِ تَنْبَنِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ ثَلَاثَةِ مَسَائِلَ وَمَا تَرَكَّبَ مِنْهَا، حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْكَذِبِ، وَحُكْمُ مَسْأَلَةِ الْغِشِّ، وَحُكْمُ مَسْأَلَةِ وُجُودِ الْعَيْبِ. فَأَمَّا حُكْمُ الْكَذِبِ فَقَدْ تَقَدَّمَ.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 232) قال: " (وقدم في التنقيح أنه لا يقبل) قول البائع (إلا ببينة) واختاره الموفق، وحمل كلام الخرقي عليه واختاره - أيضًا - الشارح وهو رواية عن أحمد، وقدمه ابن رزين في شرحه قال في "الإنصاف": وهو المذهب على ما اصطلحناه في الخطبة انتهى وجزم به في المنتهى؛ لأنه أقر بالثمن وتعلق به حق الغير، وكونه مؤتمنًا لا يوجب قبول دعواه الغلط كالمضارب إذا أقر بربح ثم قال غلطت (ثم قال) في التنقيح".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 231) قال: " (ولو قال) البائع: (مشتراه مائة ثم قال: غلطت، والثمن زائد عما أخبرت، به فالقول قوله مع يمينه) فيحلف (بطلب مشتر) تحليفه (اختاره الأكثر) منهم القاضي وأصحابه وابن عبدوس في "تذكرته" وقدمه في "الهداية"
…
قال ابن رزين في شرحه: وهو القياس. انتهى لأن المشتري لما دخل مع البائع في المرابحة فقد ائتمنه، والقول قول الأمين (فيحلف) بائع (أنه لم يكن يعلم وقت البيع أن ثمنها أكثر) مما أخبر به (فإن حلف) بائع (خير مشتر بين الرد و) بين (دفع الزيادة) التي ادعاها البائع".
وَأَمَّا حُكْمُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَهُوَ حُكْمُهُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ).
وقد تقدم معنا أحكام كثيرة من ذلك في البيوع وفي النكاح أيضًا.
قوله: (وَأَمَّا حُكْمُ الْغِشِّ عِنْدَهُ فَهُوَ تَخْيِيرُ الْبَائِعِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَهُ الْبَيْعَ وَإِنْ حَطَّ عَنْهُ مِقْدَارَ الْغِشِّ، كمَا لَهُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَذِبِ، هَذَا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ
(1)
).
يعني: ليس للبائع أن يلزم المشتري بأخذ المبيع؛ لأنه غش، والغش عيب يحصل به بالخيار.
قوله: (وَأَمَّا عِنْدَ أَشْهَبَ
(2)
فَإِنَّ الْغِشَّ عِنْدَهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مُؤَثِّرٌ فِي الثَّمَنِ، وَقِسْمٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤثِّرِ: فَلَا حُكْمَ عِنْدَهُ فِيهِ، وَأَمَّا الْمُؤَثِّرُ: فَحُكْمُهُ عِنْدَهُ حُكْمُ الْكَذِبِ).
الغش المؤثر هو الذي يكون فيه تغيير للسلعة، وأما غير المؤثر فهو اليسير الذي يمكن تداركه.
قوله: (وَأَمَّا الَّتِي تَتَرَكَّبُ فَهِيَ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: كَذِبٌ وَغِشٌّ، وَكَذِبٌ وَتَدْلِيسٌ، وَغِشٌّ وَتَدْلِيسٌ بِعَيْبٍ، وَكَذِبٌ وَغِشٌّ وَتَدْلِيسٌ بِعَيْبٍ).
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (8/ 79) قال: "أو يكون أقل مما اشترى به المشتري فلا ينقص منه. وأما على رواية ابن القاسم عنه فيكون الحكم فيها حكم الغش والخديعة؛ لأنه بيع يجتمع فيه على روايته الزيادة في الثمن والغش والخديعة، وإذا اجتمعا جميعًا كان للمشتري أن يطالب البائع بأيهما شاء، والمطالبة بالغش والخديعة أفضل له، فيطالب بذلك".
(2)
لم أقف نصًّا على هذا التقسيم، لكن هناك مسألة يتضح منها مذهبه:
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (8/ 79) قال: "وأما إن كان العبد اشتراها بأقل من ذلك الثمن فلا يجوز ذلك ويكون الحكم فيه على رواية أشهب حكم من باع مرابحة وزاد في الثمن، يكون للمشتري في قيام السلعة أن يردها إلا أن يحط عنه الزيادة على ما كان اشتراها به العبد ونوبها من الربح، وإن فاتت كانت فيها القيمة ما لم تكن أكثر مما باع به، فلا يزاد البائع، أو يكون أقل مما اشترى به المشتري فلا ينقص منه".
قد يجتمع الكذب والغش فيكذب في السلعة، كأن يقول: اشتريتها بكذا، ويضيف إلى ذلك الغشَّ، والتدليس وهو تغطية بعض العيوب الموجودة بالسلعة.
وهذه كلها لا ينبغي أن تصدر من مسلم، فالمسلم ينبغي أن يكون صادقًا دائمًا، ولذا لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: "نعم". فقيل: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: "نعم". فقيل: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال؟ "لا"
(1)
؛ لأن الكذب من صفات المنافقين وليس من صفات المؤمنين.
قوله: (وَأَصْلُ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمٍ
(2)
فِيهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِالَّذِي بَقِيَ حُكْمُهُ إِنْ كَانَ فَاتَ بِحُكْمِ أَحَدِهِمَا، أو بِالّذِي بَقِيَ حُكْمُه، أَوْ بِالَّذِي هُوَ أَرْجَحُ لَهُ إِنْ لَمْ يَفُتْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا، إِمَّا عَلَى التَّخْيِيرِ حَيْثُ يُمْكِنُ التَّخْيِير، أَوِ الْجَمْعِ حَيْثُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ، وَتَفْصِيلُ هَذَا لَائِقٌ بِكُتُبِ الْفُرُوعِ (أَعْنِي: مَذْهَبَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ).
هذا التفصيل لائق بكتب الفروع، والمؤلف يرى أن كتابه ليس كتاب فروع، وإنما هو كتاب قواعد وأصول، وهذا هو رأي كثير من العلماء فيه.
ولا نعني بالأصول هنا الأصول الفقهية ولا أصول الدين، ولكنها الأصول بالنسبة لمسائل الفقه، فهناك مسائل كبرى تتفرع عنها مسائل صغرى، فجمع المؤلف في هذا الكتاب أمهات المسائل التي تندرج تحتها فروع وجزئيات كثيرة.
وقد نص المؤلف رحمه الله في (كتاب القذف) - كما سيأتي - على أنه إذا أنسأ الله في عمره فسيكتب كتابًا في فروع مذهب مالك، إذن هو لم يضع هذا الكتاب في الفروع وإنما وضعه في أصول المسائل، وهذا واضح بيِّن، حتى إنه أحيانًا يأتي بالمسألة فتجد أنها قاعدة فقهية.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 990)(19) وإسناده صحيح إلا أنه مرسل أو معضل.
انظر: "حاشية المسند"(36/ 505).
(2)
لم أقف عليه.
بس الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(كِتَابُ بَيْعِ الْعَرِيَّةِ
(1)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْعَرِيَّةِ وَالرُّخْصَةِ الَّتِي أَتَتْ فِيهَا فِي السَّنَةِ).
أي: اختلف الفقهاء في تعريف العارية ما هي؟ وهل تأتي على وصف واحد منضبط أم أنها أوصاف مختلفة؟
قوله: (فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ
(2)
أَنَّ الْعَرِيَّةَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ هِيَ: أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ، أَوْ نَخَلَاتٍ مِنْ حَائِطِهِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ).
هذا تعريف العرية وتحديدها عند المالكية، وهو مستمد من اللغة.
قوله: (أن يهب الرجل) إذن هي ليست بيعًا عند المالكية، وإنما هي نوع من أنواع الهبة، (نخل أو نخلات من حائطه) أي: من بستانه إلى رجل آخر؛
(1)
قال الفيومي: العرية: النخلة يعريها صاحبها رجلًا غيره محتاجًا، فيجعل له ثمرها عامها، فيعروها، أي: يأتيها، فعيلة بمعنى مفعولة، ودخلت الهاء عليها، لأنه ذهب بها مذهب الأسماء، مثل النطيحة والأكيلة، فإذا جيء بها مع النخلة حذفت الهاء، وقيل: نخلة عري، كما يقال: امرأة قتيل، والجمع: العرايا. انظر: "المصباح المنير"(2/ 406).
(2)
ينظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1017) قال: "العرية جائزة وهي: أن يهب الرجل ثمرة نخله أو نخلات أو شجرة له من رجل".
ليستفيد من تلك الثمرة، فالعرية هبة للثمرة دون الأصول - يعني النخل -.
وأما الشافعية
(1)
والحنابلة
(2)
فيرون أن العارية هي بيع الرطب بالتمر خرصًا، وذلك بأن يقدر الرطب الذي على النخل إذا يبس كم يكون قدره، ولذلك اشترطوا في العارية التقابض خالأفًا للمالكية، فإنهم يؤخرون ذلك إلى الجداد.
والفرق بين التعريفين أن المالكية قصروا العرية على الهبة، وأما الشافعية فقد توسعوا في ذلك حتى شملت البيع أيضًا، وهم أقرب إلى النص من المالكية.
وأما الحنفية
(3)
فإنهم لا يجيزون بيع العارية أصلًا.
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 505) قال: "العرية: بيع الرطب على النخل خرصًا بتمر في الأرض كيلًا، أو العنب في الشجر خرصًا بزبيب في الأرض كيلًا".
(2)
ينظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (2/ 117) قال: "وهي (العرية) بيع الرطب في رؤوس النخل خرضا بمآله يابسًا بمثله من التمر كيلًا معلومًا لا جزافًا".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعي (4/ 47 - 48) قال: (والمزابنة) وهو بيع الثمر على رأس النخل بتمر مجدود مثل كيله خرصًا لحديث أنس أنه عليه السلام "نهى
…
والمزابنة" رواه البخاري، والمزابنة ما ذكرناه، والمحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصًا، والمخاضرة بيع الثمار قبل أن تنتهي. ولأنه باع مكيلًا بمكيل من جنسه فلا يجوز بطريق الخرص كما لو كانا موضعين على الأرض، وكذا بيع العنب بالعنب خرصًا لا يجوز، وقال الشافعي رحمه الله يجوز فيما دون خمسة أوسق
…
ولنا ما روينا وقوله عليه السلام: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلًا بمثل يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء" رواه البخاري وأحمد، وأمثاله من النصوص لا تحصى كلها مشهورة وتلقتها الأمة بالقبول؛ فلا يجوز تركها، وهذا لأن المساواة واجبة بالنص والتفاضل محرم به، وكذا التفرق قبل قبض البدلين؛ فلا يجوز أن يباع جزافًا ولا إذا كان أحدهما متأخرًا، كما لو كان أكثر من خمسة أوسق؛ وهذا لأن احتمال التفاضل ثابت فصار كما لو تفاضلا بيقين أو كانا موضوعين في الأرض، ومعنى العرايا فيما رواه العطايا وتفسيره أن يهب الرجل ثمر نخلة من بستانه ثم يشق على المعري دخول المعرى له في بستانه كل ساعة، ولا يرضى أن يخلف الوعد، فيرجع فيه فيعطيه قدره تمرًا مجذوذًا بالخرص بدله. وانظر:"حاشية ابن عابدين"(5/ 65).
قوله: (فَيَجُوزُ لِلْمُعَرِّي شِرَاؤُهَا مِنَ الْمُعَرَّى لَهُ بِخَرْصِهَا تَمْرًا عَلَى شُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ).
المعري: الواهب، يقال: أعرى الرجل الرجل النخل، أي: وهبه إياه.
قوله: (على شروط أربعة)، أي: عند المالكية، وليست كلها محل اتفاق عند الأئمة الآخرين.
قوله: (أَحَدُهَا: أَنْ تُزْهِيَ).
قوله: (أن تُزهي)، أي: أن يبدو صلاحها، وقد مر بنا في (كتاب الأصول والثمار) جملة من الأحاديث في هذا الشأن، ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، قيل: وما صلاحها؟ قال: "أن تحمر أو تصفر"
(1)
وفي رواية: "أن تحمار أو تصفار"
(2)
وفي حديث آخر: "أن تُزهى"
(3)
وهذا هو الذي أخذه المالكية، فكلمة (تزهى) مقتبسة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتباس نوع من أنواع البديع وهو من أحسن ما يكون، وقد يكون الاقتباس من كتاب الله عز وجل أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فالخلاصة: أن أول الشروط عند المالكية أن يكون قد بدا صلاحها، أي: أصبحت زاهية صالحة للأكل، وقد جاء تفسير الزهو في ألفاظ أخرى بأن تحمر أو تصفر
(4)
.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَمَا دُونَ، فَإِنْ زَادَتْ فَلَا يَجُوز).
أما فيما دون الخمسة أوسق فهذا متفق عليه بين العلماء الذين أجازوا بيع العارية، وسيأتي الخلاف فيما كان خمسة أوسق لاختلاف
(1)
أخرجه البخاري (2198).
(2)
أخرجه البخاري (1488).
(3)
أخرجه البخاري (1488)، ومسلم (1555/ 15).
(4)
قال أبو عبيد: "وزهوها أن تصفر أو تحمر". انظر: "غريب الحديث"(3/ 283 - 284).
النصوص الواردة في هذا الباب، ففي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رخص في بيع العارية فيما دون خمسة أوسق"
(1)
، وفي بعضها "في خمسة أوسق"
(2)
، وسيأتي مزيد تفصيل في هذا الحديث إن شاء الله.
قوله: (وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعْطِيَهُ التَّمْرَ الَّذِي يَشْتَرِيهَا بِهِ عِنْدَ الْجِذَاذِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ).
وعند الشافعية
(3)
والحنابلة
(4)
لا بد من التقابض، فإذا سلمه التمر فلا بد أن يستلم الرطب، ولا يشترط أن يحمل الرطب معه فيأتي به عند النخل، فكل شيء قبضه بحسبه، فالمكيل قبضه هو الكيل، والموزون قبضه الوزن، والمعدود قبضه العد، والذي ينقل بنقله، والثابت بالتخلية عنه، فإذا اشتريت ثمرًا أو أصولًا فتركها صاحبها، فمجرد تركها يعتبر قبضًا لها ويعرف بالتخلية.
قوله: (الرَّابعُ: أَنْ يَكُونَ التَّمْرُ مِنْ صِنْفِ تَمْرِ الْعَرِيَّةِ، وَنَوْعِهَا. فَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ الرُّخْصَةُ فِي الْعَرِيَّةِ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْمُعَرِّي فَقَطْ).
تنبه إلى أن العارية مستثناة من الربا كما دل عليه الحديث عن
(1)
أخرجه البخاري (2190)، ومسلم (1541) عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق؟ " قال: "نعم".
(2)
"الوسق": ستون صاعًا، قال الخليل: الوسق هو حمل البعير. انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1566).
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (4/ 158) قال: " (ويشترط) لصحة بيع العرايا (التقابض) في المجلس إذ هو بيع مطعوم بمثله، ويحصل (بتسليم التمر) أو الزبيب إلى البائع (كيلًا) لأنه منقول وقد بيع مقدرًا، فاشترط فيه ذلك كما مر في بابه (والتخلية في النخل) الذي عليه الرطب أو الكرم الذي عليه العنب".
(4)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 164 - 165) قال: " (بشرط حلول وتقابض) من الطرفين (بمجلس عقد)؛ لأنه بع مكيل بمكيل من جنسه، فاعتبر فيه شروطه، إلا ما استثناه الشرع مما لم يمكن اعتباره في العرايا، فالقبض (فيما) على (نخل بتخلية، وفي تمر بكيل)، أو نقل، لما علم، ولا يشترط حضور تمر عند نخل".
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز بيع جنس ربوي بجنسه إلا بشرطين: الأول: التماثل. والثاني: التقابض.
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: "إن الذي حرم المزابنة هو الذي أرخص في بيع العرايا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأحق بأن يتبع قوله دون غيره"
(1)
.
قوله: (فَعَلَى مَذْهَب مَالِكٍ الرُّخْصَةُ فِي الْعَرِيَّةِ
…
) فقصر المالكية العرية على الواهب، بمَعنى أنها خاصة بالواهب، فإذا ما تبرع صاحب بستان لجاره أو لقريبه أو لمحتاج بثمرة نخلة أو أكثر، ثم إنه ربما يتأذى من ذلك فله أن يبيعها على الواهب، فقصر المالكية العارية على هذا النوع.
قوله: (وَالرُّخْصَةُ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ الْجَافِّ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْه، وَمِنْ صِنْفَيِ الرِّبَا أَيْضًا (أَعْنِي: التَّفَاضُلَ وَالنَّسَاءَ)، وَذَلِكَ أَنَّه بَيْع تمر مَعْلُومِ الْكَيْلِ بتمر مَعْلُومٍ بِالتَّخْمِينِ - وَهُوَ الْخَرْصُ - فَيَدْخُلُهُ بَيْعُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مُتَفَاضِلًا وَهُوَ أَيْضًا بتمر إِلَى أَجَلٍ).
الكيل المعلوم هو التمر الذي على الأرض؛ إذ يشترط فيه الكيل؛ لأن الرطب يقدر والتمر يكال، ولا يجوز في الأصل أن يقدر التمر الذي على الأرض؛ إذ لا بد في بيع المطعومات الربوية من معرفة القدر، وإذا تعذر معرفة أحدهما لزم معرفة قدر الآخر ألا وهو التمر، فالرطب يتعذر معرفة قدره؛ ولذلك يخرس، أما التمر فلا بد من أن يكون مكيلًا معلوم القدر.
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (10/ 76) قال: "فبيع العرايا جائز على ما جاءت به الأخبار؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي أرخص في بيع العرايا هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر، وليس قبول أحد الخبرين أولى من الآخر".
قوله: (الخرص)
(1)
، أي: الجذاف، والخرص معمول به في هذه الشريعة؛ إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة إلى شتى البلاد ليخرصوا ثمارهم
(2)
، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرؤوف الرحيم بأمته - يأمر رسله إذا خرصوا أن يبقوا قدرًا لصاحبه، بمعنى عدم التدقيق في الخرص؛ لأنه يأتيه الضيف، ويأكل منه الطير، وهذا من محاسن تلك الشريعة؛ إذ إنها تنظر دائمًا إلى مصلحة الطرفين - مصلحة المزكي ومصلحة الفقير - فتحرص على أن يأخذ الفقير حقه، وألا يهضم الغني فيُؤخذ أكثر من الحق الذي عليه؛ ولذا جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أرسله إلى اليمن أن يدعوهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم إلى الصلاة، ثم ذكر الزكاة فقال:"فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ترد على فقرائهم"، ثم قال:"وإياك وكرائم أموالهم"
(3)
أي: أغلاها أنفسها، وإنما الواجب الأخذ من الوسط.
قوله: (فَيَدْخُلُهُ بَيْعُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مُتَفَاضِلًا) فلو جاء اثنان كل واحد منهما بِبُرٍّ فكال أحدهما أو وزن والآخر قدر فإن هذا لا يجوز على ما مضى تقريره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل يدًا بيد"، ثم
(1)
قال الجوهري: "الخرص: حَرْزُ ما على النخل من الرطب تمرًا". انظر: "الصحاح"(3/ 1035).
(2)
أخرجه الترمذي (644) وغيره، عن عتاب بن أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان "يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم" وضعفه الألباني في "التعليقات الحسان"(3267).
(3)
أخرجه البخاري (1496) ومسلم (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب".
قال: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"
(1)
، أما إذا كان تمر يقابله ملح أو يقابله شعير فلا مانع من التفاضل هنا، لكن لا بد من أن يكون يدًا بيد.
قوله: (وهو أيضًا بتمر إلى أجل): فهذا يدخل فيه النساء، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم استثناه، فدل ذلك على جوازه، إذن يكون رخصة، ونحن مطالبون بأن نأخذ من رخص الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله - تعالى - يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه.
قوله: (فَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(2)
فِيمَا هِي الْعَرِيَّة، وَمَا هِيَ الرُّخْصَةُ فِيهَا، وَلِمَنِ الرُّخْصَةُ فِيهَا).
فهذا وصف دقيق مجمل لمذهب المالكية في العرية وأنها خاصة بالهبة، وقد ذكر المؤلف الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الهبة كي تكون جائزة.
قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
(3)
: فَمَعْنَى الرُّخْصَةِ الْوَارِدَةِ عِنْدَهُ فِيهَا لَيْسَتْ لِلْمُعَرِّي خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّمْرِ (أَعْنِي: خَمْسَةَ الْأَوْسُقٍ أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ بِتَمْرٍ مِثْلِهَا).
أي: ليست خاصة بالواهب، بل هي له ولغيره، فالذي وهب له أن
(1)
أخرجه مسلم (1587) عن عبادة.
(2)
هو لا يطلب شيئًا؛ إنما يصف المذهب باختصار.
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (4/ 158) قال: " (وأنه)، أي: بيع العرايا (لا يختص بالفقراء) وإن كانوا هم سبب الرخصة لشكايتهم له صلى الله عليه وسلم أنهم لا يجدون شيئًا يشترون به الرطب إلا التمر؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبأن ذلك حكمة المشروعية، ثم قد يعم الحكم كالرمل والاضطباع، وهم هنا من لا نقد بيده كما قاله الجرجاني والمتولي. ولو اشترى العرية من يجوز له شراؤها، ثم تركها حتى صارت تمرًا جاز خلافًا لأحمد".
يشتري الثمر الذي أهداه من المهدى إليه، وكذلك لو جاء غيره إلى صاحب البستان فاشترى منه الثمر، فمذهب الشافعية أرحب من مذهب المالكية وأوسع في هذا المقام، وهو أقرب - أيضًا - إلى النصوص، وإلى روح الرخصة، فإنه إنما رخص له؛ لأنه ليس كل إنسان سيهب، وربما لا يهب الإنسان لغيره حتى وإن كان محتاجًا، فيأتي هذا فيشتري، فلماذا نخصها بالهبة مع أن الأدلة عامة في ذلك؟! فهذا هو الأولى.
وبعضهم يخصها بالفقير الذي يحتاج إليها، أما الغني الذي عنده مال فإنه لا يسمح له بذلك، وهذا هو المعروف من مذهب الحنابلة
(1)
، وقد خالفهم الشافعية في ذلك، وهي رواية أخرى للشافعية
(2)
، وأنا مع الشافعية في هذه المسألة؛ لأن ما جاز للفقير جاز للغني؛ لأن شرع الله عز وجل يسري على الفقير وعلى الغني، فإذا جاز للفقير أن يرخص له، جاز كذلك - أيضًا - للغني.
وعلى كلٍّ فمذهب الشافعية هو المعمول به الآن، فهو أمر جائز قد تعارف عليه المسلمون وعملوا به.
قوله: (أَعْنِي: خَمْسَةَ الْأَوْسُقِ أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ بِتَمْرٍ مِثْلِهَا) سبق أن ما
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 68) قال: (لمحتاج لرطب ولا ثمن) أي: ذهب أو فضة (معه) لحديث محمود بن لبيد متفق عليه وظاهره لا تعتبر حاجة البائع إلى التمر إذا لم يكن معه ثمن إلا الرطب، وقال أبو بكر والمجد: يجوز؛ لأنه إذا جاز مخالفة الأصل لحاجة التفكه فلحاجة الاقتيات أولى، والقياس على الرخصة جائز إذا فهمت العلة".
(2)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (5/ 257 - 208) قال: "إذا ثبت هذا: فإن العرايا تصح للفقراء، بلا خلاف على المذهب، وهل تصح للأغنياء؟ فيه قولان؛ أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني، وبه قال أحمد
…
والثاني: يجوز، وهو الصحيح
…
ولم يفرق بين الأغنياء والفقراء، ولأن كل بيع جاز للفقراء جاز للأغنياء، كسائر المبيعات، وأما حديث محمود بن لبيد: فلا حجة فيه أنه لا يجوز للأغنياء؛ لأن المحتاجين كانوا هم السبب، وأما الرخصة: فعامة، كما أن سبب الرمل في الاضطباع كان لإظهار الجلد للمشركين، ثم زال السبب والحكم باق".
دون الخمسة متفق عليها، والخمسة مختلف فيها، وسيأتي الكلام عنها.
قوله: (وَرُوِيَ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ مُعَلَّقَة بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّمْرِ لِضَرُورَةِ النَّاسِ أَنْ يَأْكُلُوا رُطَبًا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ رُطَبٌ، وَلَا تَمْرٌ، يَشْتَرِي بِهِ الرُّطَبَ. وَالشَّافِعِيُّ يَشْتَرِطُ فِي إِعْطَاءِ التَّمْرِ الَّذِي تُبَاعُ بهِ الْعَرِيَّةُ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا، وَيَقُولُ: إِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ).
قوله: (معلقة بهذا القدر من التمر)، أي: خمسة الأوسق أو ما دونها.
قوله: (وَالشَّافِعِيُّ يَشْتَرِطُ فِي إِعْطَاءِ التَّمْرِ الَّذِي تُبَاعُ بِهِ الْعَرِيَّةُ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا
…
). كذلك الحنابلة أيضًا، وهذا هو التقابض، وسيشير المؤلف إليه. وبالجملة فمذهب الحنابلة أقرب في هذه المسألة إلى مذهب الشافعية إلا في جزئيات يوافقون فيها المالكية.
قوله: (وَالْعَرِيَّةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ فِي كُلِّ مَا يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ).
أي: أن العارية عند المالكية
(1)
ليست خاصة بالتمر، حيث ورد في بعض النصوص "بيع الثمر بالتمر"
(2)
، والثمر أعم من الرطب؛ لأن الثمر إذا أطلق يدخل فيه الرطب والعنب وسائر الفاكهة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 179) قال: " (ورخص) جوازًا (لمعر) وهو واهب الثمرة (وقائم مقامه) من وارث وموهوب ومشترٍ للأصل مع الثمرة أو للأصل فقط بل (وإن) قام مقامه (باشتراء) بقية (الثمرة) المعراة (فقط) دون أصلها (اشتراء ثمرة) نائب فاعل رخص أي: اشتراؤها من المعرى بالفتح أو ممن قام مقامه (تيبس) أي شأنها أن تيبس بالفعل إن تركت كما يدل عليه التعبير بالمضارع لا أنها حين الشراء يابسة، ولا يكفي يبس جنسها فيخرج عنب مصر وبلحها وزيتونها ولوزها (كلوز) وجوز ونخل وعنب وتين وزيتون في غير مصر (لا كموز) ورمان وخوخ وتفاح وبرقوق؛ لفقد يبسه لو ترك ومثله ما لا ييبس مما أصله أن ييبس كعنب مصر ونخله كما علم بشروط ثمانية أشار لها".
(2)
أخرجه البخاري (2171)، ومسلم (1542) عن ابن عمر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن المزابنة"، و"المزابنة": بيع الثمر بالتمر كيلًا، وبيع الزبيب بالكرم كيلًا.
قوله: (وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي التَّمْرِ وَالْعِنَبِ فَقَطْ)
(1)
.
وهي رواية عند الحنابلة
(2)
، وعلة إلحاق الشافعية العنب بالتمر في هذا الباب كونهما يجتمعان في أوصاف كثيرة، منها: إيجاب الزكاة في كل منهما، ومنها: كونهما قوتًا، فالعنب يقتات في بعض البلاد كذلك إذا يبس.
أما الحنابلة فإن هذا خاص بالرطب كما هو المشهور من المذهب، ويتمسكون بحديث "يأكلها أهلها رطبًا"
(3)
.
قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا فِيمَا دُونَ الخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ عِنْدَ مَالِكٍ
(4)
، وَالشَّافِعِيِّ
(5)
، وَعَنْهُمَا الْخِلَافُ إِذَا كَانَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَرُوِيَ الْجَوَازُ عَنْهُمَا وَالْمَنْع، وَالْأَشْهَرُ عِنْدَ مَالِكٍ الْجَوَازُ).
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 472) قال: " (بيع الرطب) وألحق به الماوردي وغيره البسر؛ لأن الحاجة إليه كهي إلى الرطب (على النخل بتمر) لا رطب (في الأرض، أو) بيع (العنب) وإلحاق الحصرم به الذي زعمه شارح قياسًا على البسر غلط كما قاله الأذرعي؛ لبدو صلاح البسر وتناهي كبره، فالخرص يدخله بخلاف الحصرم فيهما، ونقل الإسنوي له عن الماوردي مردود بأن الصواب عنه البسر فقط".
(2)
يُنظر: "الكافي "لابن قدامة (2/ 39) قال: "قال ابن حامد: لا يجوز بيع العرايا في غير ثمرة النخل؛ لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه". وهذا حديث حسن، ولأن غير التمر لا يساويه في كثرة اقتياته، وسهولة خرصه، فلا يقاس عليه غيره. وقال القاضي: يجوز في جميع الثمار؛ لأن حاجة الناس إلى رطبها كحاجتهم إلى الرطب. ويحتمل الجواز في التمر والعنب خاصة، لتساويهما في وجوب الزكاة فيهما، وورود الشرع بخرصهما وكونهما مقتاتين دون غيرهما".
(3)
أخرجه البخاري (2191) عن سهل بن أبي حثمة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرية أن تباع بخرصها، يأكلها أهلها رطبًا".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 180) قال: " (و) كان المشترى من العرية (خمسة أوسق فأقل) وإن أعرى أكثر بناءً على أن علة الرخصة المعروف (ولا يجوز أخذ زائد عليه)، أي: على القدر المرخص فيه وهو خمسة أوسق".
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 472) قال: " (فيما دون خمسة أوسق) بتقدير=
قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ) وكذلك أحمد
(1)
، والوسق ستون صاعًا، إذن لا بد أن تكون دون ثلاث المائة صاع. وعلى هذا فالأحوال ههنا ثلاثة:
الأولى: ما كان فوق خمسة الأوسق، فهذا غير جائز باتفاق.
الثانية: ما كان دون خمسة الأوسق، فهذا جائز باتفاق.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق
(2)
، وفي رواية: في ما دون خمسة أوسق، فمفهوم ذلك أن ما زاد على خمسة الأوسق لا يجوز.
الثالثة: ما كان خمسة أوسق، فهذا موضع خلاف بين الأئمة الثلاثة، فذهب مالك
(3)
، والشافعي في المشهور عنه
(4)
إلى الجواز، وهو قول أكثر
= جفافه المراد بخرصها السابق في الحديث بمثله تمرًا مكيلًا يقينًا لخبرهما أيضًا "رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق" ودونها جائز يقينًا فأخذنا به؛ لأنها للشك مع أصل التحريم وأفهم الدون إجزاء أيّ نقص كان، والأصح أنه لا بد من نقص قدر يزيد على ما يقع به التفاوت بين الكيلين غالبًا كمد فلو بيع رطب، وهو دون ذلك باعتبار الخرص لم يجب انتظار تتمره؛ لأن الغالب مطابقة الخرص للجفاف، فإن تتمر وظهر فيه التفاوت أكثر مما يقع بين الكيلين بان بطلان العقد. ومحل البطلان فيما فوق الدون المذكور إن كان في صفقة واحدة".
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 68) قال: "فيما دون خمسة أوسق؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا "رخص في العرايا بأن تباع بخرصها فبما دون خمسة أوسق" متفق عليه. فلا يجوز في الخمسة لوقوع الشك فيها، ويبطل البيع في الكل".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 408) قال: "عندنا يجوز بيع العرايا بخرصها تمرًا من المعري خاصة، ويجوز من المعري وغيره بالدنانير والدراهم وغيرها، في خمسة أوسق فأكثر. وأما بالتمر فلا يجوز إلا فيما دون خمسة أوسق من المعري، وقيل: خمسة أوسق أيضًا".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (5/ 216 - 217) قال: "لا يختلف المذهب أن العرية لا تجوز فيما زاد على خمسة أوسق لعموم نهيه عن المزابنة، وتجوز فيما دون خمسة أوسق ولو بمد لإباحة العرية، وفي جوازها في خمسة أوسق قولان:
…
=
المالكية، ورواية في مذهب أحمد
(1)
وفي المشهور من مذهب أحمد
(2)
وهو قول في مذهب الشافعي
(3)
أنه لا يجوز لحصول الشك من الراوي، فمرة قال: فيما دون خمسة أوسق، ومرة قال: في خمسة أوسق، إذن الخمسة موضع شك وهذا حكم، وأحكام الشريعة لا تثبت بالشك.
قوله: (وَعَنْهُمَا الْخِلَافُ إِذَا كانَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ): إذن نقول: (وعنهم) بدل (وعنهما) في كل من العبارتين، أي:(مالك والشافعي وأحمد)، ولم يذكر أبا حنيفة رحمه الله لأنه لا يرى بيع العارية.
قوله: (فَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُ مَالِكًا فِي الْعَرِيَّةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:).
انتقل المؤلف إلى ذكر المواضع التي حصل فيها الخلاف بين مالك والشافعي في هذا الباب.
= والقول الثاني: نص عليه في كتاب "الأم" جواز العرية في خمسة أوسق؛ لأن تحريم ما زاد على الخمسة إنما كان لدخوله في المزابنة قطعًا، وتحليل ما دون الخمسة لدخوله في العرية يقينًا، والخمسة وإن كانت شكًّا فلا يجوز إلحاقها بالمزابنة دون العرية".
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 30) قال: "قوله (فيما دون خمسة أوسق) يشترط في صحة ذلك: أن يكون فيما دون خمسة أوسق. على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب. وعنه يجوز في خمسة أوسق".
(2)
يُنظر: "الكافي" لابن قدامة (2/ 37 - 38) قال: "وإنما يجوز بشروط خمسة. أحدها: أن يكون دون خمسة أوسق. وعنه يجوز في الخمسة، لأن الرخصة ثبتت في العرية، ثم نهى عما زاد على الخمسة، وشك الراوي في الخمسة، فردت إلى أصل الرخصة. والمذهب الأول، لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر فيما دون الخمسة بالخبر، والخمسة مشكوك فيها، فترد إلى الأصل".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (5/ 216 - 217) قال: "لا يختلف المذهب أن العرية لا تجوز فيما زاد على خمسة أوسق لعموم نهيه عن المزابنة، وتجوز فيما دون خمسة أوسق ولو بمد لإباحة العرية، وفي جوازها في خمسة أوسق قولان؛ أحدهما: نص عليه في كتاب الصرف أنه لا يجوز واختاره المزني".
قوله: (أَحَدُهَا: فِي سَبَبِ الرُّخْصَةِ كَمَا قُلْنَا).
أي: هل لأنها هبة أو بيع؟ وقد سبق بيانه.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرِيَّةَ الَّتِي رَخَّصَ فِيهَا لَيْسَتْ هِبَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هِبَةً عَلَى التَّجَوُّزِ).
فذهب الشافعي إلى أنها ليست هبة، ووافقه على ذلك أحمد.
قوله: (وَالثَّالِثُ: فِي اشْتِرَاطِ النَّقْدِ عِنْدَ الْبَيْعِ).
وهو قول الشافعي وأحمد.
قوله: (وَالرَّابِعُ: فِي مَحِلِّهَا. فَهِيَ عِنْدَهُ كَمَا قُلْنَا فِي التَّمْرِ وَالْعِنَبِ فَقَطْ وَعِنْدَ مَالِكٍ فِي كُلِّ مَا يُدَّخَرُ وَيَيْبَسُ).
قوله: (في محلها) يعني: هل هي خاصة بالرطب كما هو مذهب أحمد في المشهور عنه، أو هي في الرطب والعنب كما هو مذهب الشافعي، أو في كل ما ييبس فيدخل العنب وبقية الفواكه كما هو مذهب مالك؟
قوله: (وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَيُوَافِقُ مَالِكًا فِي أَنَّ الْعَرِيَّةَ عِنْدَهُ هِيَ الْهِبَة، وَيُخَالِفُهُ فِي أَنَّ الرُّخْصةَ إِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُ فِيهَا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ (أَعْنِي: الْمُعَرَّى لَهُ لَا الْمُعَرّي، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ شَاءَ بِهَذ الصِّفَةِ لَا مِنَ الْمُعَرِّي خَاصَّةً كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ).
عرض المؤلف لمذهب أحمد لكن باختصار شديد، وقد وافق أحمد
(1)
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 62) قال: "وأصل المادة فيها قيل: العري، وهو التجرد، فسميت عارية لتجردها عن العوض، كما تسمى النخلة الموهوبة عرية؛ لتعريها عن العوض، وقيل من التعاور، أي: التناوب، لجعل مالها للغير نوبة في الانتفاع بها".
مالكًا في كون العارية هبة، لكنه يوافق الشافعي
(1)
أيضًا في أنها أوسع من ذلك.
قوله: (وَيُخَالِفُهُ
…
)، أي: يخالف أحمد مالكًا في مسألة بيع العارية، فذهب أحمد
(2)
إلى أنها رخصة للموهوب له لا للواهب؛ فله أن يبيعها على من وهبه إياها وعلى غير من وهبها إياها، كما هو مذهب الشافعي رحمه الله.
قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: فَيُوَافِقُ مَالِكًا فِي أَنَّ الْعَرِيَّةَ هِيَ الْهِبَة، ويُخَالِفُهُ فِي صِفَةِ الرُّخْصَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّخْصَةَ عِنْدَهُ فِيهَا لَيْسَتْ هِيَ مِنْ بَابِ اسْتِثْنَائِهَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ وَلَا هِيَ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا الرُّخْصَةُ فِيهَا عِنْدَهُ مِنْ بَابِ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ؛ إِذا كَانَ الْمَوْهُوبُ
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 723) قال: " (وشرط) لصحة الإعارة أربعة شروط: أحدها (كون عين) معارة (منتفعًا بها مع بقائها) كالدور والعبيد والثياب والدواب ونحوها؛ "لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرسًا" ومن صفوان أدرعًا، وسئل عن حق الإبل فقال: "إعارة دلوها واطراق فحلها"، فثبت ذلك في المنصوص عليه، والباقي قياسًا. (فدفع ما لا يبقى؛ كطعام تبرع من دافع)؛ لأنه لا ينتفع به إلا مع تلف عينه، لكن إن أعطى الأطعمة والأشربة بلفظ الإعارة، فقال ابن عقيل: احتمل أن يكون إباحة الانتفاع على وجه الإتلاف".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 47) قال: "لا يشترط في بيع العرية أن تكون موهوبة لبائعها. هذا ظاهر كلام أصحابنا. وبه قال الشافعي. وظاهر قول الخرقي، أنه شرط. وقد روى الأثرم، قال: سمعت أحمد سئل عن تفسير العرايا، فقال: العرايا أن يعري الرجل الجار أو القرابة للحاجة أو المسكنة، فللمعري أن يبيعها ممن شاء".
(3)
يُنظر: "الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين"(5/ 677 - 678) قال: " (وتصح بأعرتُك) لأنه صريح (وأطعمتك أرضي) أي: غلتها؛ لأنه صريح مجازًا من إطلاق اسم المحل على الحال (ومنحتك) بمعنى أعطيتك (ثوبي أو جاريتي هذه وحملتك على دابتي هذه إذا لم يرد به) بمنحتك وحملتك (الهبة) لأنه صريح فيفيد العارية بلا نية والهبة بها أي مجازًا".
لَهُ لَمْ يَقْبِضْهَا، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ بِبَيْعٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رُجُوعٌ فِي الْهِبَةِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ بَدَلَهَا تَمْرًا بِخَرْصِهَا).
سبق أن أبا حنيفة
(1)
لا يجيز بيع العارية، وإنما عرض المؤلف لمذهبه تمهيدًا للانتقال إلى باب آخر وهو باب الهبة (أو باب العطية).
وقد وافق أبو حنيفة
(2)
مالكًا في أن العارية هي الهبة، وهو اتفاق في المفهوم اللغوي؛ لأن العارية في لغة العرب تطلق ويراد بها الهدية، إلا أنه لا يرى بيعها - كما هو مذهب مالك رحمه الله لأن الرخصة فيها ليست من باب المزابنة، والمزابنة منهي عنها، فلم يجعلها مما استثني من بيع المزابنة - أي: من البيع الربوي - وإنما جعلها نوعًا من الهبة، فهي هبة وهبها إنسان لآخر ثم رجع فيها، وهل يجوز للإنسان أن يهب شيئًا ثم يعود فيه؟
ذهب بعض أهل العلم
(3)
إلى أن الإنسان إذا وهب آخر هبة لا يجوز له أن يرجع فيها سواء قبضها الموهوب أو لم يقبضها.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 215) قال: "وقوله: المنافع منعدمة عند العقد قلنا: نعم، لكن هذا لا يمنع جواز العقد كما في الإجارة، وهذا لأن العقد الوارد على المنفعة عندنا عقد مضاف إلى حين وجود المنفعة، فلا ينعقد في حق الحكم إلا عند وجود المنفعة شيئًا فشيئًا على حسب حدوثها، فلم يكن بيع المعدوم ولا بيع ما ليس عند الإنسان، وعلى هذا تخرج إعارة الدراهم والدنانير أنها تكون قرضًا لا إعارة؛ لأن الإعارة لما كانت تمليك المنفعة أو إباحة المنفعة على اختلاف الأصلين، ولا يمكن الانتفاع إلا باستهلاكها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتصرف في العين لا في المنفعة، ولا يمكن - تصحيحًا - إعارة حقيقية، فتصحح قرضًا مجازا لوجود معنى الإعارة فيه".
(2)
تقدم نقله عنه.
(3)
وهو قول أحمد وطاوس، ينظر:"الإشراف" لابن المنذر (7/ 76). قال: وقالت طائفة: ليس لأحد أن يهب هبة، ثم يرجع فيها، على ظاهر هذا قول أحمد، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثلُ السوء
…
" وكان طاوس يقول: "لا يعود الرجل في هبته".
وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 145 - 146).
وذهب بعضهم
(1)
إلى أنه لا يجوز له أن يرجع فيها إذا قبضها الموهوب له، أما إذا لم يقبضها جاز له الرجوع فيها.
وذهب بعضهم
(2)
إلى التفريق بين هبة الوالد وبين هبة غيره، فيجوز للوالد إذا وهب ولده شيئًا أن يرجع فيه، أما غير الوالد فلا.
(1)
وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين"(5/ 698) قال: " (صح الرجوع فيها بعد القبض) أما قبله فلم تتم الهبة (مع انتفاع مانعه) الآتي (وإن كره) الرجوع (تحريمًا) وقيل: تنزيهًا".
(2)
وهو مذهب المالكية والمذهب. عند الحنابلة، ومقابل المشهور عند الشافعية وأبي ثور.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 110) قال: " (وللأب) فقط لا الجد (اعتصارها) أي: الهبة (من ولده) الحر الذكر والأنثى صغيرًا، أو كبيرًا غنيًّا، أو فقيرًا، أي: أخذها منه جبرًا بلا عوض ولو حازها الابن بأن يقول: رجعت فيما وهبته. له، أو أخذتها، أو اعتصرتها، فلا يشترط لفظ الاعتصار على الأظهر؛ لعدم معرفة العامة له غالبًا، وليس في الحديث ما يدل على شرط لفظ الاعتصار".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 568) قال: " (وللأب الرجوع) على التراخي (في هبة ولده) الشاملة للهدية والصدقة، وكذا لبعضها كما فهم بالأولى من دون حكم حاكم (وكذا لسائر الأصول) من الجهتين ولو مع اختلاف الدين (على المشهور) سواء أقبضها الولد أم لا، غنيًّا كان أو فقيرًا، صغيرًا أو كبيرًا، لخبر "لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده" رواه الترمذي والحاكم وصححاه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (7/ 145) قال: "قوله: (ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته، إلا الأب) هذا المذهب. نص عليه. وعليه جماهير الأصحاب". وصححه في "الرعاية الكبرى". قال الزركشي: "هذا المشهور. وعنه: ليس له الرجوع. قدمه في الرعايتين".
ومذهب أبي ثور، يُنظر:"الإشراف" لابن المنذر (7/ 76) قال: "وقالت طائفة ليس لأحد أن يهب هبة لقريب أو بعيد، وقبضها الموهوب له، أن يرجع فيها، إلا الوالد فيما يهب ولده، هذا قول أبي ثور".
وفي المسألة مذاهب أخر:
فعن عمر بن الخطاب قال: "من وهب هبة لذي رحم جاز، ومن وهب هبة لغير ذي رحم رجع إن لم يثب".=
وحجة الذين يمنعون الرجوع في الهبة هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وشبه ذلك بتشبيهٍ تفر منه النفوس، حيث قال:"العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه"
(1)
، ولا شك أنه وصف لا تقبله النفوس، أما الوالد فليس محل شبهة في هذا المقام؛ لأن الوالد لا يُتهم بالنسبة لإعطاء ولده، فعنده من الشفقة والرحمة ومن محبة ولده ما يقتضي إبعاده عن التهمة؛ ولذلك جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه وهب ابنته عائشة بستانًا ثم عاد وأخذه منها ورأى ألا يخصها بذلك دون أختها
(2)
.
قوله: (وَإِنَّمَا هِيَ رُجُوعٌ فِي الْهِبَةِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصةٍ) ليست الهبة المعروفة، يعني: كأنه رجع في هبته، فهو أضعف من الرجوع في الهبة؛ إذ هو تشبيه بالرجوع في الهبة.
*
فائدة:
انتقل المؤلف بهذه المسألة إلى كتاب الهبة، وذلك لأن مسائل الفقه مرتبط بعضها ببعض، وهذا الكتاب أقرب ما يكون إلى القواعد الفقهية؛ وذلك لأنه إذا تكلم في باب أطلَّ منه على باب آخر، وهذا شأن القاعدة الفقهية؛ فهي تجمع المسائل من أبواب شتى.
= وقال بنحو هذا القول النخعي، والثوري، وبه قال إسحاق. يُنظر:"الإشراف" لابن المنذر (7/ 75).
وقالت طائفة: إذا استهلكت الهبة، فلا رجوع فيها، كذلك قال الشعبي، وسعيد بن جبير. يُنظر:"الإشراف" لابن المنذر (7/ 77).
(1)
أخرجه البخاري (2589) ومسلم (1622) عن ابن عباس.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 752)(40) ولفظه: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: "إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إليَّ غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك. وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هما أخواك، وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله، قالت عائشة، ففلت: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة، أراها جارية". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1619).
ومن ميزات المؤلف رحمه الله: أنه لا يتعصب لرأيه، بل يعرض الآراء، وإذا أراد أن يوازن بينها ليرجح، فإنه يجتهد في الأخذ بالرأي الذي توافقه الأدلة، وكثيرًا لا يرجح، لكنه إذا ناقش المسائل وحررها لا يتعصب لمذهبه، وهذا هو شأن طالب العلم أنى كان ومهما انتسب إلى أي مذهب من المذاهب، فإن الذي يرجع إليه إنما هو كتاب الله عز وجل وإن الواجب على كل مسلم إذا تبين له الحق في الكتاب أو السنة أن يقف عندهما ولا يتجاوزهما إلى غيرهما، ولا يوفق إلى هذا إلا الذي يعرف الأحكام ويدقق فيها، أما من لا يعلم فليس له أن يجتهد في هذه المسائل.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْعَرِيَّةِ أَنَّهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَ: سُنَّتُهَا الْمَشْهُورَةُ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، قَالُوا: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَهَبُ النَّخَلَاتِ مِنْ حَائِطِهِ، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ دُخُولُ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَيْهِ، فَأُبِيحَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا عِنْدَ الْجِذَاذِ).
معلوم أن مالكًا رحمه الله يعنى بإجماع أهل المدينة وأقوالهم؛ لأنه ولد في هذه المدينة ونشأ وترعرع وتعلم فيها، وكان يدير درسه وحلقته في المسجد النبوي الكريم، وكانت تضرب إليه أكباد الإبل من مشارق الأرض ومغاربها ليُنهل من علمه.
قوله: (وأصل هذا
…
إلخ). يعني كان الرجل يهب جاره أو قريبه أو غيرهما، ثم يأخذ هذا الموهوب له في التردد على هذا البستان، فربما ضايق صاحب البستان، وكان الغالب فيما مضى أن أصحاب البساتين يحضرون أبناءهم وعوائلهم إليها ليقضوا فصل الصيف في بساتينهم، فيأكلوا مما فيها من الرطب والثمار؛ فيتضايق صاحب هذا البستان من تكرار هذا الترداد؛ فيرجع عليه ويشتريها منه. هذا هو المراد.
قوله: (وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُ فِي أَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْمُعَرِّي:
حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَب، إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا
(1)
"قَالُوا: فَقَوْلُهُ (يَأْكُلُهَا رُطَبًا) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِمُعَرِّيهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي ظَاهِرِ هَذَا الْقَوْلِ أَهْلُهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَهْلَهَا هُمُ الَّذِينَ اشْتَرَوْهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ، لَكِنَّ قَوْلَهُ (رُطَبًا) هُوَ تَعْلِيلٌ لَا يُنَاسِبُ الْمُعَرِّي، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هُوَ مُنَاسِبٌ، وَهُمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ رُطَبٌ وَلَا تَمْرٌ يَشْتَرُونَهَا بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ).
احتج مالك على مذهبه بحديث سهل بن أبي حثمة، وهو حديث متفق عليه، وقوله:(خاص بمعريها)، أي: الواهب.
قوله: (لِأَنَّهُمْ فِي ظَاهِرِ هَذَا الْقَوْلِ أَهْلُهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ
…
) وهذا أعم وأولى، وهذا هو الذي يأخذ به الشافعية
(2)
، وأهلها هو صاحب هذه الثمرة سواء الذي وهبت له أو الذي اشتراها، فإذا كان الذي توهب له يكون صاحبًا لها فأولى أن يكون صاحبُها الذي اشتراها.
فأراد المالكية قصر ذلك على الأصل عندهم في أنها خاصة بالهبة، وأما الشافعية فإنهم يتوسعون في ذلك، واحتج الشافعي رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:"رطبًا" ولذلك كانت الحجة للشافعي في هذا، لا لمذهب مالك. وسيأتي تضعيف المؤلف رحمه الله لمذهب مالك في هذه المسألة.
(1)
أخرجه البخاري (2191) ومسلم (1540).
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (3/ 54) قال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "يأكلها أهلها رطبًا" خبر أن مبتاع العرية يبتاعها ليأكلها يدل على أنه لا رطب له في موضعها يأكله غيرها، ولو كان صاحب الحائط هو المرخص له أن يبتاع العرية ليأكلها كان له حائطه معها أكثر من العرايا؛ فأكل من حائطه ولم يكن عليه ضرر إلى أن يبتاع العرية التي هي داخلة في معنى ما وصفت من النهي".
قوله: (وَأَمَّا أَنَّ الْعَرِيَّةَ عِنْدَهُ هِيَ الْهِبَةُ فَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ اللُّغَة؛ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: الْعَرِيَّةُ هِيَ الْهِبَة، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ، فَقِيلَ: لِأَنَّهَا عَرِيَتْ مِنَ الثَّمَنِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَرَوْتُ الرَّجُلَ أَعْرُوهُ إِذَا سَأَلْتُه، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
(1)
وَالْمُعْتَرَّ
(2)
}).
أراد المؤلف أن يبين دليل المالكية على أن العارية هي الهبة.
قوله: (ومنه قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ، "القانع" هو الذي يتكفف عن السؤال، أي: الذي لا يسأل الناس إلحافًا، فتجد الحاجة بادية عليهم، لكنهم لا يسألون الناس إلحافًا.
وأما المعتر فهو الذي يسأل للحاجة، ومنه أخذ تعريف العرية، وقيل: سميت بذلك لأنها عريت عن الثمن.
قوله: (وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ مَالِكٌ نَقْدَ الثَّمَنِ عِنْدَ الْجِذَاذِ (أَعْنِي: تَأْخِيرَهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّهُ تَمْرٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِخَرْصِهِ، فَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَتَأَجَّلَ إِلَى الْجِذَاذِ، أَصْلُهُ الزَّكَاة، وَفِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّهُ مُصَادَمَةٌ بِالْقِيَاسِ لِأَصْلِ السُّنَّةِ).
ما ذكره المؤلف من ضعف مذهب مالك
(3)
في هذه المسألة هو الصحيح؛ لأن الأصل في هذا المال الربوي الذي استُثني أن يكون فيه التقابض حتى يبتعد عن ربا النسيئة، فكونه يؤجل يرد عليه الإشكال،
(1)
"القانع": الذي يسأل. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 297).
(2)
"المعتر": الذي يتعرض ولا يسأل. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 297).
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير وحاشية الدسوقي (3/ 180) قال: " (يوفى) الخرص (عند الجذاذ) لا على شرط التعجيل؛ فإنه مفسد وإن لم يعجل بالفعل، وأما التعجيل من غير شرطه فلا يضر سواء اشترط التأجيل أو سكت عنه (في الذمة) أي: ذمة المعري بالكسر لا في حائط معين".
فالمؤلف ضعف مذهب مالك وقوى مذهب الشافعية
(1)
والحنابلة
(2)
.
قوله: (وفيه ضعف)، أي: في مذهب مالك، وقد انتصر المؤلف رحمه الله للحق وإن لم يكن موافقًا لمذهبه الذي تعلمه ودرسه، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يصدع بالحق، وأن يكون منصفًا؛ قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، فإذا ما وقع الخلاف فاعلم أن كل هؤلاء الأئمة رحمهم الله منزهون عن أن يقصدوا الخطأ؛ فقد أفنوا أعمارهم ووقفوا حياتهم وجاهدوا في الله حق جهاده ووصلوا كَلال الليل بكَلال النهار يقرعون الأبواب في الليل الداجي شتاءً وصيفًا، يقطعون المسافات الطويلة راكبين إن أسعفتهم الحال، وماشين إن ضاقت بهم النفقة؛ ليُحصِّل أحدهم مسألة من المسائل أو حديثًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذن هم منزهون من أن يقصدوا الخطأ، بل هم - بلا شك - يريدون الوصول إلى الحق من أقرب طريق يوصل إليه، وأهدى سبيل يرشد إليه، هذا هو طريقهم - رحمهم الله تعالى - لكنهم مجتهدون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 472 - 473) قال: " (ويشترط التقابض) في المجلس؛ لأنه بيع مطعوم بمثله ويحصل (بتسليم التمر)، أو الزبيب إلى البائع، أو تسلمه له (كيلًا)؛ لأنه منقول، وقد بيع مقدرًا فاشترط فيه ذلك كما مر في مبحث القبض (والتخلية في النخل) الذي عليه الرطب، أو الكرم الذي عليه العنب وإن لم يكن النخل بمجلس العقد لكن لا بد من بقائهما فيه حتى يمضي زمن الوصول إليه؛ لأن قبضه إنما يحصل حينئذ".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 68) قال: " (بشرط الحلول وتقابضهما) أي: العاقدين (بمجلس العقد)؛ لأنه بيع مكيل بمكيل من جنسه فاعتبر فيه شروطه إلا ما استثناه الشرع مما لم يمكن اعتباره في العرايا (ف) القبض (في) ما على (نخل بتخلية في تمر بكيل) أو نقل لما علم كيله. قاله في شرحه ولا يشترط حضور تمر عند نخل".
أجر واحد"
(1)
فالمصيب له أجران؛ أجر اجتهاده وأجر إصابته، والمخطئ له أجر؛ لأنه اجتهد وقصد الوصول إلى الحق، وكونه أخطأ فإنه ما قصد الخطأ، فهو يثاب على اجتهاده؛ لأنه بذل ذَوْب قلبه ونفسه ليصل إلى الحق، لكنه ما اهتدى إلى ذلك، فهو لا يفقد الثواب ولا يعدم الجزاء، فإن الله سبحانه وتعالى يجازي أيضًا على النيات "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"
(2)
.
قوله: (وَفِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّهُ مُصَادَمَةٌ بِالْقِيَاسِ لِأَصْلِ السُّنَّةِ) أصل السنة "يأكلها أهلها رطبًا" فكيف تتركها إلى الجذاذ؟
قوله: (وَعِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا تَطَوَّعَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ بِتَعْجِيلِ التَّمْرِ جَازَ
(3)
، وَأَمَّا اشْتِرَاطُهُ جَوَازَهَا فِي الخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ، أَوْ فِيمَا دُونَهَا: فَلِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ"
(4)
.
قوله: (وعنده)، أي: عند مالك رحمه الله.
قوله: (أرخص) يقال: رخَّص بالتشديد، وأرخص، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فصيغة فعَّل فيها تأكيد، وأرخص فيها زيادة الهمزة فهي تدل على العناية بذلك وأن نتمسك بالرخص وألا نردها.
قوله: (فيما دون خمسة): ما دون الخمسة متفق عليها عند الأئمة
(1)
أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".
(2)
أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907).
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(3/ 1803) قال: " (يوفى) الخرص (عند الجذاذ) لا على شرط التعجيل فإنه مفسد وإن لم يعجل بالفعل وأما التعجيل من غير شرطه فلا يضر سواء اشترط التأجيل أو سكت عنه".
(4)
تقدم تخريجه.
الثلاثة: مالك
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد
(3)
، وقد تقدم أن أبا حنيفة لا يرى ذلك أصلًا.
قوله: (أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ): أي عند مالك والشافعي في المشهور عنه وهي رواية للإمام أحمد، والأشهر عند أحمد
(4)
أنها لا تجوز في خمسة الأوسق؛ لأن هذا شك، والشك لا تبنى عليه الأحكام.
قوله: (وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ مَالِكٍ فِي الخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ رِوَايَتَانِ؛ لأنَّ الشَّكَّ الْوَاقِعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الرَّاوِي، وَأَمَّا اشْتِرَاطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ بِعَيْنِهِ إِذَا يَبَسَ، فَلِمَا رُوِيَ عَنْ زيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: "أَنَّ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(3/ 180) قال: " (و) كان المشترى من العرية (خمسة أوسق فأقل) وإن أعرى أكثر بناءً على أن علة الرخصة المعروف (ولا يجوز أخذ زائد عليه) أي: على القدر المرخص فيه وهو خمسة أوسق (معه) أي مع القدر المذكور (بعين) أو عرض (على الأصح) لخروج الرخصة عن موضعها".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 472) قال: " (فيما دون خمسة أوسق) بتقدير جفافه المراد بخرصها السابق في الحديث بمثله تمرًا مكيلًا يقينًا لخبرهما أيضًا "رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق" ودونها جائز يقينًا فأخذنا به؛ لأنها للشك مع أصل التحريم وأفهم الدون إجزاء أي نقص كان، والأصح أنه لا بد من نقص قدر يزيد على ما يفع به التفاوت بين الكيلين غالبًا، كمد فلو بيع رطب، وهو دون ذلك باعتبار الخرص لم يجب انتظار تتمره؛ لأن الغالب مطابقة الخرص للجفاف، فإن تتمر وظهر فيه التفاوت أكثر مما يقع بين الكيلين بان بطلان العقد. ومحل البطلان فيما فوق الدون المذكور إن كان في صفقة واحدة".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 68) قال: " (فيما دون خمسة أوسق) لحديث أبي هريرة مرفوعًا "رخص في العرايا بأن تباع بخرصها فيما دون خمسة أوسق" متفق عليه. فلا يجوز في الخمسة لوقوع الشك فيها ويبطل البيع في الكل".
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 30) قال: "قوله (فيما دون خمسة أوسق). يشترط في صحة ذلك: أن يكون فيما دون خمسة أوسق. على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب. وعنه يجوز في خمسة أوسق".
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رخصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا"، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ).
ذكر المؤلف حجة مالك رحمه الله في أنه يكون في الصنف إذا يبس وما اقتصر على الرطب ولا على الرطب والعنب كما هو مذهب الشافعية.
قوله: (خرجه مسلم) هكذا قال، والحديث متفق عليه.
قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَعُمْدَتُهُ حَدِيثُ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ"
(1)
التَّمْرُ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَصْحَابَ الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ. وَقَوْلُهُ:"فِيهَا يَأْكلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا"
(2)
).
هذا الحديث في البخاري وغيره، وقوله:"رطبًا" حجة للشافعي
(3)
وأحمد
(4)
أيضًا.
(1)
أخرجه البخاري (2383)، ومسلم (1540/ 70).
(2)
أخرجه البخاري (2191)، ومسلم (1540) ولفظه:"عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرية أن تباع بخرصها، يأكلها أهلها رطبًا".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 472) قال: " (بيع الرطب) وألحق به الماوردي وغيره البسر؛ لأن الحاجة إليه كهي إلى الرطب (على النخل بتمر) لا رطب (في الأرض، أو) بيع (العنب) وإلحاق الحصرم به الذي زعمه شارح قياسًا على البسر غلط كما قاله الأذرعي لبدو صلاح البسر وتناهي كبره، فالخرص يدخله بخلاف الحصرم فيهما، ونقل الإسنوي له عن الماوردي مردود بأن الصواب عنه البسر فقط (في الشجر بزبيب) لخبر الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر" أي: بالمثلثة، وهو الرطب بالتمر أي بالفوقية "ورخص في بيع العرية أن تباع بخرصها" أي: بالفتح ويجوز الكسر مخروصها يأكلها أهلها رطبًا، وقيس به العنب بجامع أنه زكوي يمكن خرصه ويدخر يابسه".
(4)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 164) قال: " (لمحتاج لرطب، ولا ثمن)، أي: ذهب أو فضة (معه)، لحديث محمود بن لبيد قال: "قلت لزيد: ما عراياكم هذه، فسمى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي =
قوله: (وَالْعَرِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ اسْمٌ لِمَا دُونَ الخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعُرْفُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ فِي الْغَالِبِ مِنْ نَخَلَاتِهِ هَذَا الْقَدْرَ فَمَا دُونَه، خَصَّ هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ بِاسْمِ الْهِبَةِ لِمُوَافَقَتِهِ فِي الْقَدْرِ لِلْهِبَةِ).
جاء في حديث عند البيهقي أن الرسول صلى الله عليه وسلم "رخَّص في الوسَق والوسقين والثلاثة والأربعة"
(1)
وبعضهم اقتصر على هذا، وجاء أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم أنه "رخص في العارية النخلة والنخلتين"
(2)
لكن الذي جعل بعض العلماء يتوقف في خمسة الأوسق ويأخذون بالأحوط هو شك الراوي، ففي رواية:"فيما دون خمسة أوسق"، وفي أخرى:"في خمسة أوسق".
قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ لِمَذْهَبِهِ بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِمَّا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَإِمَّا غَيْرُهُ: مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ؟ قَالَ: فَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الرُّطَبَ أَتَى وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ نَقْدٌ يَبْتَاعُونَ بِهِ الرُّطَبَ فَيَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ، وَعِنْدَهُمْ فَضْل مِنْ قُوتِهِمْ مِنَ التَّمْرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ
= ولا نقد بأيديهم يتبايعون به رطبًا، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم أن يتبايعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونه رطبًا".
(1)
أخرجه البيهقي (5/ 507) عن جابر بن عبد الله، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة وأذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها، ثم قال: "الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة". وحسنه الألباني في "التعليقات الحسان" (4987).
(2)
أخرجه مسلم (1540/ 67) ولفظه: عن بشير بن يسار، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل دارهم، منهم سهل بن أبي حثمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال:"ذلك الربا، تلك المزابنة"، إلا أنه رخص في بيع العرية (النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا).
يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا
(1)
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ نَقْدِ التَّمْرِ، لِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ نَسِيئَةً).
قوله: (وقد احتج لمذهبه) يعني الشافعي رحمه الله وهذا الحديث الذي احتج به رواه رحمه الله في كتابه "الأم"
(2)
وهو كتاب كتبه بقلمه كـ"الرسالة" في أصول الفقه، وكذلك ذكره في كتابه "مختلف الحديث"
(3)
معلقًا بدون سند.
وسبق أن مذهب الشافعي رحمه الله هو أوسع المذاهب في هذه المسألة، وأن شراء العارية ليس مقصورًا على المعري كما يقوله المالكية، بل يجوز لكل إنسان أن يشتريها.
وهل هذه العارية خاصة بالعاجز عن شرائها بالثمن أو لا؟ هذه مسألة مختلف فيها.
قوله: (وَإنَّمَا لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ نَقْدِ التَّمْرِ، لِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ نَسِيئَةً) فاشترط الإمام الشافعي وكذا الإمام أحمد أن يكون ذلك تقابضًا، فلا يجوز التأخير؛ لأنه بيع طعام بطعام، وبيع الطعام بالطعام لا بد فيه من أمرين: التساوي والتقابض، لكن إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم
(1)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(8/ 100).
(2)
يُنظر: "الأم" للشافعي (3/ 54). قال: " (قال الشافعي): وقيل لمحمود بن لبيد أو قال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إما زيد بن ثابت وإما غيره: ما عراياكم هذه؟ قال فلان وفلان وسمى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يتبايعون به رطبًا يأكلونه مع الناس وعندهم فضول من قوتهم من التمر؛ فرخص لهم أن يتبايعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطبًا".
(3)
يُنظر: "اختلاف الحديث" للشافعي (8/ 663) قال: "والعرايا التي أرخص رسول الله فيها فيما ذكر محمود بن لبيد قال: سألت زيد بن ثابت فقلت: ما عراياكم هذه التي تحلونها؟ فقال: فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله أن الرطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا ورق يشترون بها، وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم، فأرخص لهم رسول الله أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبًا".
إذا كان يدًا بيد
(1)
كما دل عليه الحديث.
وأما أبو حنيفة فقد سبق أنه لا يرى العارية، وإنما رآها نوعًا من الإهداء.
قوله: (وَأَمَّا أَحْمَدُ: فَحُجَّتُهُ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا وَلَمْ يَخُصَّ الْمُعَرِّيَ مِنْ غَيْرِهِ).
(المعري) هو الذي نسميه المهدي على مذهب المالكية، يعني: الذي دفع الرطب لصاحب البستان - أي: صاحب النخل - و (المعرى) هو هذا الذي استفاد.
قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَلَمَّا لَمْ تَجُزْ عِنْدَهُ الْمُزَابَنَةُ
(2)
، وَكَانَتْ إِنْ جُعِلَتْ بَيْعًا نَوْعًا مِنَ الْمُزَابَنَةِ رَأَى أَنَّ انْصِرَافَهَا إِلَى الْمُعَرِّي لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ رُجُوعِ الْوَاهِب فِيمَا وَهَبَ بِإعْطَاءِ خَرْصِهَا تَمْرًا، أَوْ تَسْمِيَتِهِ إِيَّاهَا بَيْعًا عِنْدَهُ مَجَازٌ
(3)
).
(1)
أخرجه مسلم (1587/ 81) عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي و"حاشية ابن عابدين"(5/ 65) قال: " (والمزابنة) هي بيع الرطب على النخل بتمر مقطوع مثل كيله تقديرًا شروح مجمع، ومثله العنب بالزبيب عناية للنهي ولشبهة الربا. قال المصنف: فلو لم يكن رطبًا جاز لاختلاف الجنس".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 194) قال: "وتفسير العرية - عندنا - ما ذكره مالك بن أنس رضي الله عنه في الموطإ، وهو أن يكون لرجل نخيل فيعطي رجلًا منها ثمرة نخلة أو نخلتين يلقطهما لعياله، ثم يثقل عليه دخوله حائطه، فيسأله أن يتجاوز له عنها على أن يعطيه بمكيلتها تمرًا عند إصرام النخل - وذلك ما لا بأس به عندنا؛ لأنه لا بيع هناك، بل التمر كله لصاحب النخل، فإن شاء سلم له ثمر النخل وإن شاء أعطاه بمكيلتها من التمر، إلا أن الراوي سماه بيعًا لتصوره بصور البيع، لا أن يكون بيعًا حقيقة، بل هو عطية".
"المزابنة" هي بيع الثمر بالتمر
(1)
، وهي غير جائزة عند جميع الأئمة - أبي حنيفة وغيره - فهذا موضع اتفاق بين العلماء
(2)
، لكن اختلفوا هل استثني منها شيء أو لا؟ فالجمهور على استثناء العارية لأنها نوع من المزابنة
(3)
، وأما أبو حنيفة فإنه لا يرى ذلك، واستدل على ذلك بالسنة والقياس، وذكرنا أن في آخر دليله الذي استدل به من السنة ما يؤيد مذهب الجمهور، وهو قول الراوي:(ورخص في بيع العرايا)، وأما دعوى أن هذا فيه جهالة فقد تقدم الجواب عن ذلك.
قوله: (وَكَانَتْ إِنْ جُعِلَتْ بَيْعًا نَوْعًا مِنَ الْمُزَابَنَةِ)، أي: إن جعلت بيعًا كانت نوعًا من المزابنة، وذلك لأنه لا تجوز عنده العرية، وإن لم تكن بيعًا، بل من باب الإهداء فلا تكون مزابنة، بل تخرج من حكم المزابنة إلى حكم الهدية.
(1)
"المزابنة": بيع التمر على رؤوس النخيل بالتمر كيلًا، سميت بها لتدافع العاقدين عند القبض. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 150).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير و"حاشية الدسوقي"(3/ 60) قال: " (وكمزابنة) بالتنوين من الزبن وهو الدفع؛ لأن كل واحد يدفع صاحبه عما يقصده منه وفسرها المصنف تبعًا لأهل المذهب بقوله (مجهول) أي: بيع مجهول (بمعلوم) ربوي أو غيره (أو) بيع مجهول (بمجهول من جنسه) فيهما للغرر بسبب المغالبة".
ومذهب أبي حنيفة قد تقدم قريبًا.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 471) قال: " (ولا) بيع (الرطب على النخل بتمر، وهو المزابنة) من الزبن، وهو الدفع، سميت بذلك لبنائها على التخمين الموجب للتدافع والتخاصم، وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عنهما رواه الشيخان وفسرا في رواية بما ذكر، ووجه فسادهما ما فيهما من الربا مع عدم الرؤية في الأولى".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 164) قال: " (ولا) بيع (المزابنة) من الزبن، وهو الدفع الشديد، كأن كل واحد منهما، يزبن صاحبه عن حقه ويراوده، ومنه سمي الشرطي زبينًا؛ لأنه يدفع الناس بشدة وعنف، (وهي)، أي: المزابنة شرعًا: (بيع الرطب على النخل بالتمر)، لحديث ابن عمر: "نهى عن المزابنة" متفق عليه".
(3)
تقدم أقوال الأئمة في ذلك.
والخلاصة: أن هذا الذي سماه جمهور العلماء عارية يسميه أبو حنيفة بأنه هدية، فإذا ما رجعت هذه الهدية إلى المعري يكون ذلك من باب رجوع المهدي في هديته.
قوله: (أَوْ تَسْمِيَتِهِ إِيَّاهَا بَيْعًا عِنْدَهُ مَجَازٌ)، يعني: حتى وإن سميت بيعًا فهو بيع المجاز وليس البيع الحقيقي المعروف
(1)
.
قوله: (وَقَدِ الْتَفَتَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مَالِكٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْه، فَلَمْ يُجِزْ بَيْعَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ سِوَى الْخَرْصِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازَ ذَلِكَ)
(2)
.
قوله: (وقد التفت إلى هذا المعنى مالك
…
)، أي: هذا المأخذ الذي ذهب إليه أبو حنيفة.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا هُوَ مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْقِيَاسِ عَلَى الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَحَادِيتَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهَا بَيْعًا، وَقَدْ نَصَّ الشَّارعُ عَلَى تَسْمِيَتِهَا بَيْعًا
(3)
).
(1)
وقد تقدم ذلك كله.
(2)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (3/ 292 - 293) قال: "قلت: فإذا حل بيعها، أيجوز أن يأخذها بخرصها من التمر نقدًا أم بشيء من الطعام؟ قال: فأما التمر فلا يجوز له إلا أن يشتريها بخرصها تمرًا إلى الجداد، وأما أن يعجله فلا، وأما بالطعام فلا يصلح أيضًا إلا أن يجد ما في رؤوسها مكانه، ولا يجوز أن يشتريها بطعام إلى أجل ولا بثمر نقدًا وإن جدها.
قلت: فالدنانير والدراهم؟ قال: لا بأس أن يشتريها من الذي أعريها بالدنانير والدراهم إذا حل بيعها نقدًا أو إلى أجل وكذلك بالعروض".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 194) قال: "وتفسير العرية - عندنا - ما ذكره مالك بن أنس رضي الله عنه في الموطإ، وهو أن يكون لرجل نخيل فيعطي رجلًا منها ثمرة نخلة أو نخلتين يلقطهما لعياله، ثم يثقل عليه دخوله حائطه، فيسأله أن يتجاوز له عنها على أن يعطيه بمكيلتها تمرًا عند إصرام النخل، وذلك ما لا بأس به عندنا؛ لأنه لا بيع هناك، بل التمر كله لصاحب النخل، فإن شاء سلم له ثمر النخل وإن=
وقد مر بنا أنه ليس تغليب القياس، بل قد استدل بعموم حديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، ثم استدل بالقياس أيضًا.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَحَادِيثَ فِي مَوَاضِعَ
…
)، أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة ورخص في بيع العرايا، فالرسول صلى الله عليه وسلم سماها بيعًا، والمؤلف يأخذ على أبي حنيفة أنه قال: إن ذلك ليس ببيع، وعلى تقرير ذلك فهو مجاز؛ إذ إن الحديث بنصه يرد عليه، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى العارية بيعًا، ولا قياس مع النص. هذا أولًا.
قوله: (وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا).
ثانيًا: أيضًا جاء في الحديث إطلاق ثم خُصص، فقد نهى عن المزابنة ورخص في العارية، إذن العارية استخرجت من المزابنة ولها شروط معروفة
(1)
:
- ألا تزيد على خمسة أوسق، وفي الخمسة خلاف، وفيما دونها اتفاق.
- وأن يأكلها صاحبها رطبًا.
- وأن يكون محتاجًا إلى ذلك.
- وأن يكون بخرصها تمرًا يقابله بكيل معلوم.
قوله: (وَعَلَى مَذْهَبِهِ لَا تَكُونُ الْعَرِيَّةُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمُزَابَنَةِ؛ لِأنَّ الْمُزَابَنَةَ هِيَ فِي الْبَيْعِ. وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَهَا مِنَ النَّهْيِ
= شاء أعطاه بمكيلتها من التمر، إلا أن الراوي سماه بيعًا لتصوره بصور البيع، لا أن يكون بيعًا حقيقة، بل هو عطية، ألا ترى أنه لم يملكه المعرى له لانعدام القبض؟ فكيف يجعل بيعًا؟ ولأنه لو جعل بيعًا لكان بيع التمر بالتمر إلى أجل، وإنه لا يجوز بلا خلاف، دل أن العرية المرخص فيها ليست ببيع حقيقة، بل هي عطية".
(1)
تقدم أقوال الأئمة في هذه الشروط، ومذهب كل منهم فيها.
عَنِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ فِيهَا الاسْتِثْنَاءُ بِنَصِّ الشَّرْعِ وَعَسُرَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَهَا مِمَّا اسْتَثْنَى مِنْهُ الشَّارع، وَهِيَ الْمُزَابَنَة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
هذا رد من المؤلف على أبي حنيفة، في أنه لا يعد العارية بيعًا مع أنه قد جاء في الحديث تسميتها بيعًا، وسهل عليه - أيضًا - أن يعتبرها استثناءً من الهدية مع أن الهدية لم يرد فيها استثناء، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الرجوع في الهدية ووصف الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه
(1)
، أما العارية فهي مستثناة من المزابنة ومع ذلك لم يقل بها.
فهذه التعليلات التي ذكرها المؤلف في آخر المبحث تعليلات جيدة وقوية وتعتبر بمثابة ردود ومناقشة لمذهب أبي حنيفة رحمه الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
أخرجه البخاري (6975) ومسلم (1622) عن ابن عباس، قال: قال، النبي صلى الله عليه وسلم:"العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه، ليس لنا مثل السوء".
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
(كِتَابُ الإِجَارَاتِ)
الإجارات جمع إجارةٍ، والإجارة لغةً: مأخوذ من الأجر، أي: العوض
(1)
.
واصطلاحًا: مبادلة مال بمال بشروط مخصوصة.
وعرفها بعض الفقهاء
(2)
بأنها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم.
وقيل: هي تمليك منفعة معلومة بشروط.
وقيل: هي عقد على منفعة معلومة بعوض معلوم.
وقيل: هي بيع المنافع، وكلها تعاريفُ متقاربةٌ، إذ اتفقوا على أنها بيع منافع
(3)
.
(1)
"الإجارة"، بكسر الهمزة على المشهور، وحُكِيَ فيها أيضًا ضم الهمزة، وأصل الأجر الثواب؛ يقال: أجرت فلانًا من عمله كذا، أي: أثبته، والله يأجر العبد، أي: يثيبه، والمستأجر يثيب المؤجر عوضًا عن بدل المنافع. انظر:"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص 219).
(2)
كالشيخ عليش. انظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 431).
(3)
مذهب الحنفية في تعريف الإجارة: هي عقد على منفعة معلومة بعوض معلوم إلى مدة معلومة. يُنظر: "حاشية الشلبي على شرح الزيلعي على كنز الحقائق"(5/ 105).
مذهب المالكية: هي تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض. يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 2).=
أركان الإجارة: للإجارة أركانٌ ثلاثةٌ:
1 -
المتعاقدان.
2 -
الصيغة.
3 -
العوض.
مسألة لم يتعرض لها المؤلف: هل يمكن أن يتم عقد الإجارة بلفظ: "بعتك"؟
بعض العلماء أجاز ذلك
(1)
، وبعضهم منع من ذلك؛ لأنه يَنْصرف
= مذهب الشافعية: هي عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم. يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 438).
مذهب الحنابلة: هي عقد على منفعة مباحة معلومة تؤخذ شيئًا فشيئًا مدة معلومة من عين معلومة أو موصوفة في الذمة أو عمل معلوم بعوض معلوم. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 283).
(1)
الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(5/ 6) قال: "والأظهر أنها تنعقد بلفظ البيع إذا وجد التوقيت"، وإليه رجع الكرخي كما في "البحر".
والمالكية، يُنظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 654) قال: "ولأنا نتفق على أن عقد الإجارة يصح بلفظ البيع مثل أن يقول: بعتك داري شهرًا، يريد الإجارة".
ووجه في المذهب الشافعي. يُنظر: "مغني المحتاج"(3/ 442) قال: "والثاني يجوز؛ لأنها صنف من البيع. وهو قول ابن سريج، وجزم به التنبيه، وصححه جمع من المتأخرين كالإسنوي والأذرعي".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 241) قال: (و) تصح (بلفظ بيع إن لم يضف إلى العين) نحو: بعتك نفع داري شهرًا بكذا فيصح؛ لأنه نَوعٌ من البيع والمنافع بمنزلة الأعيان؛ لأنها يصح الاعتياض عنها، وتضمن باليد والإتلاف، فإن أضيفت إلى العين كبعتك داري شهرًا لم يصح.
قال الشيخ تقي الدين: التحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود، انعقدت بأي لفظٍ كان من الألفاظ التي عرف بها المتعاقدان مقصودهما، وهذا عام في جميع العقود، فإن الشارع لم يحد حدًّا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقةً وكذا.
إلى البيع المعروف
(1)
، ولذا فالأحوطُ الوقوفُ عند لفظ الإجارة.
قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الكِتَابِ شَبِيهٌ بِالنَّظَرِ فِي البُيُوعِ (أَعْنِي: أَنَّ أُصُولَهُ تَنْحَصِرُ بِالنَّظَرِ فِي أَنْوَاعِهَا، وَفِي شُرُوطِ الصِّحَّةِ فِيهَا وَالفَسَادِ، وَفِي أَحْكَامِهَا)، وَذَلِكَ فِي نَوْعٍ نَوْعٍ مِنْهَا (أَعْنِي: فِيمَا يَخُصُّ نَوْعًا نَوْعًا مِنْهَا).
يعني: أنَّ بين الإجارة والبيع شبهًا، وقدمنا أن الإجارة عبارة عن بيع منافع.
قوله: (وَفِيمَا يَعُمُّ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَهَذَا الكِتَابُ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إلى قِسْمَيْنِ: القِسْمُ الأَوَّلُ: فِي أَنْوَاعِهَا وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ وَالفَسَادِ. وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الإِجَارَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِهَا، فَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الخِلَافِ ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى ذِكْرِ مَا فِي ذَيْنِكَ القِسْمَيْنِ مِنَ المَسَائِلِ المَشهُورَةِ؛ إِذْ كَان قَصدُنَا إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ المَسَائِلِ الَّتِي تَجْرِي مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ مَجْرَى الأُمَّهَاتِ، وَهِيَ الَّتِي اشْتُهِرَ فِيهَا الخِلَافُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ).
كَما هي عادة المؤلف الاقتصار على أمهات المسائل دون الخوض في الجزئيات.
قوله: (فَنَقُولُ: إِنَّ الإِجَارَةَ جَائِزَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ، وَالصَّدْرِ الأَوَّلِ
(2)
. وَحُكِيَ عَنِ الأَصَمِّ، وَابْنِ عُلَيَّةَ
(3)
مَنْعُهَا، وَدَلِيلُ
(1)
كالشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 442) قال: (و) الأصح (منعها) أي: منع انعقادها (بقوله: بعتك منفعتها)؛ لأن لفظ البيع موضوعٌ لملك الأعيان، فلا يستعمل في المنافع كما لا ينعقد البيع بلفظ الإجارة، وكلفظ البيع لفظ الشراء.
(2)
ممن حكى الإجماع ابن القطان وابن المنذر:
قال ابن القطان: والإجارة ثابتة بكتاب الله تعالى والأخبار الثابتة عن رسوله عليه السلام، واتفق على إجازتها كل مَنْ نحفظ من أهل العلم، وأجمع أهل العلم على الإجارة، وهى أن يكتري الرجل من الرجل دارًا معلومةً قد عَرَّفاها وقتًا معلومًا بأجرٍ معلومٍ. "الإقناع في مسائل الإجماع" (2/ 159). وانظر:"الإجماع" لابن المنذر (ص 119).
(3)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 652) قال:=
الجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ
…
} الآية، وَقَوْلُهُ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، وَمِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ: مَا خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا"
(1)
).
الإجارة مشروعة بالكتاب والسُّنة والإجماع:
فمن القرآن: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
وقوله: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} .
وقوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} .
وَمن السُّنَّة: ما أخْرَجه البُخَاريُّ في "صحيحه"، عن أبي هريرة أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه حقه ولم يعطه أجره"
(2)
.
ومنها: استئجار النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة لعبد الله بن أريقط من بني الديل، وكان كافرًا، ولكنه كان هاديًا خريتًا عارفًا بالطرق ومسالكها
(3)
.
ودلَّ الإجماع علي مشروعتها، فقد أجمع العلماء من لدن الصحابة فمَنْ بعدهم على مشروعية الإجارة
(4)
.
= جواز الإجارة في الجملة مجمع عليه إلا ما يحكى عن ابن عُلَية والأصم، وهؤلاء لا يعد أهل العلم خلافهم خلافًا.
(1)
أخرجه البخاري (2263).
(2)
حديث (2227)، (2270).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق ذكر من حكى الإجماع كابن القطان وابن المنذر.
ونقل عن الأصم وابن عُليَّة أنهما خالفا في ذلك بدعوى أن الإجارة فيها غَررٌ، ولا عبرة بخلافهما، فالأصمُّ هو عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ المعتزلة، وابن عُليَّة فهو معروفٌ أيضًا بشذوذه ومخالفته الإجماع، ثم إنَّ الإجماع قد انعقد قبل خلافهما.
قوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فيه أن أبواب الإجارة واسعة، فيجوز استئجار الآدمي والدواب والآلات.
(وَحَدِيثُ جَابِرٍ: "أَنَّهُ بَاعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا، وَشَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى المَدِينَةِ"
(1)
، وَمَا جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالشَّرْطِ، جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالأجْرِ).
وقد سبق ذكر هذا الحديث في كتاب البيوع، وبيان مذاهب العلماء في مسألة جواز البيع مع شرط.
قوله: (وَمَا جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالشَّرْطِ، جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالْأَجْرِ)، أي: أنَّ ما جاز شرطه في البيع، جاز في الإجارة أيضًا.
قوله: (وَشُبْهَةُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ: أَنَّ المُعَاوَضَاتِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا تَسْلِيمُ الثَّمَنِ بِتَسْلِيمِ العَيْنِ كَالحَالِ فِي الأَعْيَان المَحْسُوسَةِ، وَالمَنَافِعُ فِي الإِجَارَاتِ فِي وَقْتِ العَقْدِ مَعْدُومَةٌ، فَكَانَ ذَلِكَ غَرَرًا، وَمِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخْلَقْ).
(تَسْلِيمُ الثَّمَنِ بِتَسْلِيمِ العَيْنِ) أي: خذ وهات، وهذا غير متحققٍ في الإجارة.
ويُرد على أصحاب هذا القول بأن الشريعة أباحت بيع السلم، إذ قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجد الناس يُسْلفون في الثمار السنتين والثلاثة، فقال: "مَنْ أسلف في شيءٍ، فليسلف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ
(1)
أخرجه البخاري (2718)، ومسلم (715).
معلومٍ"
(1)
، فالسلم -إذًا- بيع موصوف في الذمة
(2)
.
قوله: (وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهَا وَإِنْ كانَتْ مَعْدُومَةً فِي حَالِ العَقْدِ، فَهِيَ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الغَالِبِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا لَحَظَ مِنْ هَذِهِ المَنَافِعِ مَا يُسْتَوْفَى فِي الغَالِبِ، أَوْ يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ وَعَدَمُ اسْتِيفَائِهِ عَلَى السَّوَاءِ).
وهذا ملحظٌ جيدٌ من المؤلف رحمه للّه في الرد على مَنْ قال: إن الإجارة فيها غررٌ؛ لأنها عقد على منفعة لم تخلق.
قال رحمه الله: (وَالشَّرْعُ إِنَّمَا لَحَظَ مِنْ هَذِهِ المَنَافِع مَا يُسْتَوْفَى فِي الغَالِبِ)، أي: أن الغالب على الَّذين يستأجرون هو الَاستيفاء، فَيَكون الحُكْمَ للغالب، ومهما يكن من شَيْءٍ، فإن الإجارة قد ثبت دليلها في الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة، كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(القِسْمُ الأَوَّلُ:
وَهَذَا القِسْمُ النَّظَرُ فِيهِ فِي جِنْسِ الثَّمَن، وَجِنْس المَنْفَعَةِ الَّتِي يَكُونُ الثَّمَنُ مُقَابِلًا لَهُ، وَصِفَتِهَا، فَأَمَّا الثَّمَنُ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكونَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي بَابِ البُيُوعِ).
القسم الأول: النظر فيه في جنس الثمن الذي يدفع، والمنفعة التي تقابل ذلك.
وُيشْتَرط في الثمن أن يكون مما يجوز بيعه، فلا يكون من الأموال الرِّبوية، كأن يستأجر ربويّا بربويٍّ آخر مثلًا.
قوله: (وَأَمَّا المَنْفَعَةُ: فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا لَمْ يَنْهَ
(1)
أخرجه البخاري (2240)، ومسلم (1604).
(2)
وهو أن يعطى مالًا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف. ويقال له: سلم. يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 390).
الشَّرْعُ عَنْهُ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ مَسَائِلُ اتَّفَقُوا عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى إِبْطَالِ إِجَارَتِهِ: كُلُّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ لِشَيْءٍ مُحَرَّمِ العَيْنِ).
نهى الشرع عن المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير
(1)
، وكذلك الخمر، فلا يجوز عصرها، ولا حملها، ولا بيعها، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاربها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه
(2)
.
قوله: (كَذَلِكَ كلُّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالشَّرْعِ مِثْلُ أَجْرِ النَّوَائِحِ، وَأَجْرِ المُغَنِّيَاتِ)
(3)
.
(أَجْرِ النَّوَائِحِ): النوائح: مَنْ يؤتى بهن للبكاء والصريخ على
(1)
أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581/ 71) ولفظه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال:"لا، هو حرام"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه".
(2)
أخرجه أبو داود (3674) وغيره، ولفظه:"لعَن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه"، وَصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(2385).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (3/ 238)، قال:"ولا يَجُوز الاستئجار على الغناء والنوح، وكذا سائر الملاهي"؛ لأنه استئجارٌ على المعصية، والمعصية لا تستحق بالعقد.
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (7/ 540) قال: "قوله: "أكره الإجارة على تعليم الشعر والنوح"، كذا هو، ومعناه نَوْح المتصوفة وأناشيدهم على طريق النوح والبكاء المسمَّى بالتعفير، والمعازف عيدان الغناء لا يجوز ضَرْبها ولا استئجارها، وهي من أنواع البرابط والعيدان".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 499) قال: "ولا استئجار لتعليم التوراة
…
ولا للزمر والنياحة
…
وجعل في التنبيه من المحرمات الغناء".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 559)، قال:" (فلا تصح الإجارة على الزنا، والزمر، والغناء، والنياحة)؛ لأنها غير مباحة (ولا إجارة كاتب يكتب ذلك) أي: الغناء والنوح، وكذا كتابة شِعْرٍ محرم أو بدعة أو كلام محرم؛ لأنه انتفاع محرم".
الميت
(1)
، وهذا من أعمال الجاهلية التي أبطلها الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت"
(2)
.
وقال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"
(3)
.
وكذلك: الاجتماع عند أهل الميت، واستئجار قارئ يقرأ القرآن، فتلك من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطانٍ
(4)
.
(1)
"النَّوائح": اسمٌ يقع على النِّساء يَجْتَمِعْنَ في مَناحة، وسموا كذلك لأن بعضهم يقابل بعضًا. انظر:"العين" للخليل الفراهيدي (304/ 3)، "الزاهر في معاني كلمات الناس" للأنباري (1/ 164).
(2)
أخرجه مسلم (67).
(3)
أخرجه البخاري (1297) ومسلم (103).
(4)
فقد اختلف الفقهاء في حكم الاستئجار على تلاوة القرآن على قولين: القول الأول: منع الاستئجار على تلاوة القرآن الكريم مطلقًا، وهو: مذهب الحنفية، ينظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين، "رد المحتار"(6/ 56)، قال:"إن القرآن بالأجرة لا يستحق الثواب لا للميت ولا للقارئ". وقال العيني في "شرح الهداية": ويمنع القارئ للدنيا، والآخذ والمعطي آثمان.
فالحاصل: أنَّ ما شاع في زماننا من قراءة الأجزاء بالأجرة لا يجوز؛ لأن فيه الأمر بالقراءة، وإعطاء الثواب للآمر والقراءة لأجل المال، فإذا لم يكن للقارئ ثَوَابٌ لعدم النية الصحيحة، فأين يصل الثواب إلى المستأجر، ولولا الأجرة ما قرأ أحد لأحد في هذا الزمان، بل جعلوا القرآن العظيم مكسبًا ووسيلةً إلى جمع الدنيا -إنا لله وإنا إليه راجعون- اهـ. وانظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (10/ 278، 279).
ومذهب المالكية ينظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 423)، قال:(و) كره قراءة عند موته
…
وعلى قبره؛ لأنه ليس من عمل السلف، أي: فقد كان عملهم التصدق والدعاء لا القراءة، ونص المصنف في "التوضيح" في باب الحج على أن مذهب مالك كراهة القراءة على القبور، ونقله ابن أبي جمرة في شرحه على مختصر البخاري قال: لأنا مُكلَّفون بالتفكر فيم قيل لهم، وماذا لقوا، ومُكفَفون بالتدبر في القرآن، فآل الأمر إلى إسقاط أحد العملين. اهـ. وهذا صريح في الكراهة مطلقًا.=
(وَأَجْرِ المُغَنِّيَاتِ): فالغناء محرم، وفي الحديث:"مَن استمع إلى قينةٍ، صبَّ في أذنيه الآنك يوم القيامة"
(1)
يعني: الرصاص، وهذا الوعيد يدل على التحريم، كذلك حرم الله الزنا، فلا يجوز الاستئجار على الزنا.
= تنبيه: قال في "التوضيح" في باب الحج: المذهب أن القراءة لا تصل للميت .. حكاه القرافي في "قواعده"، والشيخ ابن أبي جمرة. اهـ.
ومذهب الشافعية في المشهور عندهم، ينظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 110) قال: تنبيه: كلام المصنف قد يفهم أنه لا ينفعه ثواب غير ذلك؛ كالصلاة عنه قضاءً أو غيرها، وقراءة القرآن، وها هو المشهور عندنا، ونقله المصنف في شرح مسلم، والفتاوى عن الشافعي رضي الله عنه والأكثرين، .. وقال ابن عبد السلام في بعض فتاويه: لا يجوز أن يجعل ثواب القراءة للميت؛ لأنه تصرف في الثواب من غير إذن الشارع.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 638) قال: لا يصح الاستئجار على القراءة، وإهدائها إلى الميت؛ لأنه لم ينقل عن أحدٍ من الأئمة الإذن في ذلك، وقد قال العلماء: إن القارئَ إذا قرأ لأجل المال، فلا ثوابَ له، فأيُّ شيءٍ يُهْدى إلى الميت؟ وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح .. والاستئجارُ على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة.
والقول الثاني: ذهبوا إلى جواز الاستئجار على تلاوة القرآن لانتفاع الميت بها، لا حصول ثوابها له .. وهم المتأخرون من المالكية: ينظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 423) قال: لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر إن شاء الله، وهو مذهب الصالحين من أهل الكشف.
وقال القرافي في "الفروق"(3/ 193) قال: والذي يتجه أن يقال ولا يقع فيه خلاف أنه يحصل لهم بركة القراءة لا ثوابها.
والشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 456) قال: فرع الإجارة للقرآن على القبر مدة معلومة أو قدرًا معلومًا جائزة للانتفاع بنزول الرحمة حيث يقرأ القرآن، ويكون الميت كالحي الحاضر، سواء أعقب القرآن بالدعاء أم جعل أجر قراءته له أم لا، فتعود منفعة القرآن إلى الميت في ذلك؛ ولأن الدعاء يلحقه، وهو بعدها أقرب إلى الإجابة وأكثر بركةً؛ ولأنه إذا جعل أجرة الحاصل بقراءته للميت فهو دعاءٌ بحصول الأجر له فينتفع به، فقول الشافعي رضي الله تعالى عنه:"إن القراءة لا تحصل له" محمول على غير ذلك. وانظر: "روضة الطالبين" للنووي (5/ 191).
(1)
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(51/ 263)، وحكم عليه الأَلْبَانيُّ بأنه باطل وموضوع. انظر:"السلسلة الضعيفة"(4549)، و"ضعيف الجامع"(5410).
قوله: (وَكَذَلِكَ كلُّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الإِنْسَان بِالشَّرْعِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا)
(1)
.
أيْ: لا يجوز أن يستأجر إنسانًا ليصلي عنه أو ليصوم، كما لا يجوز للإمام أن يستأجر مَنْ يكمل بهم عدد صلاة الجمعة؛ لأن هذه طاعات وقُرَب يتقرب بها المسلم إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يأخذ عليها أجرًا، فهذه القُرُبات مبناها على النية والإخلاص لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} .
(1)
فقد ذهب أصحاب المذاهب الأربعة وأهل الظاهر إلى منع الاستئجار على الصلاة مطلقًا؛ فريضةً أو نافلةً أو منذورةً.
فمذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح البداية" للمرغيناني (3/ 238)، قال:"فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره كما في الصوم والصلاة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(4/ 22) قال: (ولا) تجوز الإجارة على (متعين) أي: مطلوب من كل شخص بعينه، ولا تصح فيه النيابة (ولو غير فرض)، أي: هذا إذا كان المطلوب من كلِّ أحدٍ فرضًا، بل ولو كان غير فرض أيْ بأن كان مندوبًا كركعتي الفجر، وأدخل بالكاف جميع المندوبات من الصلاة والصوم.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 410)(فالقربة المحتاجة للنية) كالصلاة والصوم (لا يستأجر لها)، إذ القصد منها امتحان المكلف بكسر نفسه بفعلها، ولا يقوم الأجير مقامه في ذلك.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"(4/ 12) قال: ويحرم، ولا تصحُّ إجَارةٌ على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، وهو المسلم، (ولا يقع) ذلك العمل (إلا قربة لفاعله) كإقامة وإمامة صلاة.
مذهب الظاهرية، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (16/ 7) قال: "ولا تجوز الإجارة في أداء فرض من ذلك إلا عن عاجز، أو ميت
…
فالاستئجار في ذلك جائز؛ لأنه لم يأت عنه نهيٌ، فهو داخلٌ في عموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤاجرة.
وأما الصلاة المنسية، والمنوم عنها؛ والمنذورة، فهي لازمة للمرء إلى حين موته، فهذه تؤدى عن الميت، فالإجارة في أدائها عنه جائزة؛ وأما المتعمد تركها، فليس عليه أن يصليها، إذ ليس قادرًا عليها، إذ قد فأتت، فلا يجوز أن يؤدى عنه ما ليس هو مأمورًا بأدائه".
وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمَنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"
(1)
.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى إِجَارَةِ الدُّورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالنَّاسِ عَلَى الْأَفْعَالِ المُبَاحَةِ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ وَالبُسُطُ).
يعني: يجوز أن يستأجر دارًا أو دابةً أو سيارةً أو دكانًا أو حانوتًا أو فرشًا أو بسطًا، إذ الأصل فيها الإباحة بشرط أن تكون الأجرة معلومةً
(2)
.
أما ما كان محرمًا، فلا يجوز إجارته؛ كأن يستأجر دارًا ليتخذ فيها مصنعًا للخمر
(3)
، أو لجمع المغنيات، أو غير ذلك من أعمال المعاصي.
ويجوز أن يستأجر إنسانًا ولو كان حرًّا لعملٍ مباحٍ ولو بطعامه أو كسوته، أو غير ذلك من المنافع، كما دل عليه قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح، والأدلةُ على ذلك من السُّنَّة متكاثرةٌ.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي إِجَارَةِ الأَرَضِينَ
(4)
، وَفِي إِجَارَةِ
(1)
أخرجه البخاري (1)(6689)(6953)، ومسلم (1907).
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 303) قال: أجمع كل مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم على أن إجارة المنازل والدواب جائزٌ إذا بين الوقت، والأجر، وكانا عالمين بالذي عقدا عليه الإجارة، وبينا من يسكن الدار، ويركب الدابة، وما يحمل عليها.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 408)، قال:"ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسةً، أو بيعةً، أو يتخذها لبيع الخمر، أو القمار، وبه قال الجماعة".
(4)
فال الماوردي في "الحاوي الكبير"(7/ 453): وقد اختلف الناس في إجارة الأرضين على ثلاثة مذاهب:
أحدها: ما ذهب إليه الحسن البصري وطاوس إلى أن إجارة الأرضين باطلة لا تجوز بحال.=
المِيَاهِ
(1)
، وَفِي إِجَارَةِ المُؤَذِّنِ، وَفي الإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ القُرْآنِ، وَفِي إِجَارَةِ نَزْوِ
(2)
الفُحُولِ).
أما إجارة الأرضين، فسيأتي ذكر الخلاف فيها قريبًا، وَاخْتَلفوا كذلك في إجارة المياه للنهي الوارد فيه، وسيأتي تفصيل الكلام فيه، وأما مَنْ
= والمذهب الثاني: ما قاله مالك بن أنس إنَّ إجارتها جائزة بالذهب والورق، ولا يجوز بالبر، والشعير، ولا بما ينبت من الأرض.
والمذهب الثالث: ما قاله الشافعي رضي الله عنه وأبو حنيفة وجماعة الفقهاء إنها تجوز بكل
معلوم من ذهب أو ورق أو عرض أو بما ينبت من الأرض من بر أو شعير أو غيره.
واستدل الحسن وطاوس على المنع من إجارتها بحديث رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يابن خديج، ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ فقال رافع لعبد الله بن عمر: سمعت عمي وكانا قد شهدا بدرًا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض، فقال عبد اللَّه: والله، لقد كنت أعلم في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض.
(1)
هذه المسألة تتبع مسألة كراء الأرضين السابقة، فقال ابن المنذر في "الأوسط" (193/ 11): "للرجل أن يكري من الرجل البيت الذي فيه رحى الماء، والرحى بآلتها، بأجر معلوم، ومدة معلومة. هكذا قال كل من أحفظ عنه من أهل العلم.
واختلفوا في المستأجر يتسلم ذلك، ثم ينقطع الماء.
فقال بعضهم: على المستأجر من الأجرة مقدار ما انتفع به، كذلك قال الشافعي وأبو ثور عنه.
وحكى أبو ثور قو، آخر: وهو أن الأجرة لازمة له، وهي آفة دخلت على المستأجر، وأبو ثور يميل إلى هذا القول.
وإن اختلف رب الرحى والمستأجر في انقطاع الماء، فقال المستأجر: انقطع عشرة أيام، وقال رب الرحى: انقطع خمسة أيام، ففي قول أبي ثور، وابن القاسم صاحب مالك: القول قول رب الرحى؛ لأن الأجرة قد لزمت المستأجر، ويريد البراءة منها بدعواه.
وقال أصحاب الرأي: القول قول المستأجر مع يمينه".
(2)
"النزو": الوثبان، ومنه نزو التيس، ولا يُقَال إلا للشاء والدواب والبقر في معنى السفاد. انظر:"لسان العرب"(15/ 319).
أجاز بيع الماء، فإنما أجازه بالنظر إلى التكلفة كحَمْله على سيارة لبيعه، وهذا لا إشكال فيه، لكن أن يمنع الماء من يحتاجه، فلا يجوز، وفي الحديث:"ثلَاثةٌ لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذاب أليم -ومنهم- رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل"
(1)
.
وكذلك اختلفوا في إجارة المؤذن؛ لأن الأذان قربة من القرب، وسيأتي تفصيل الكلام فيه.
وكذلك في الإجارة على تعليم القرآن، أما العلوم الأخرى كالحساب والجغرافيا ونحو ذلك، فإنها لا تدخل في هذا الخلاف.
وكذلك في إجارة نزو الفحول، أي: أن يستأجر فحلًا لينزو على ماشيته، والجمهور على المنع كما سيأتي.
قوله: (فَأَمَّا كِرَاءُ الأَرَضِينَ، فَاخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
شرع المؤلف في تفصيل ما كان قد أجمله، لكن تنبه إلى أن الجمهور يطلقون لفظ "الإجارة" على أي نوعٍ من أنواعها، عدا المالكية، فإنهم يطلقون الإجارة على استئجار الإنسَان، والكراء على ما يتعلق بالدواب والأرضين.
اختلاف العلماء في مسألة كراء الأرض:
للعلماء في هذه المسألة عدة أقوال:
القول الأول: أنه لا يجوز كراؤها مطلقًا.
القول الثاني: أنه يجوز كراؤها مطلقًا.
(1)
أخرجه البخاري (2358) ومسلم (108) واللفظ له، وتمامه:"ورجل بايع رجلًا بسلعة بعد العصر، فحلف له بالله لآخذها بكذا وكذا فصدقه، وهو على غير ذلك، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإنْ لم يعطه منها لم يف".
القول الثالث: أنه لا يجوز كراؤها إلا بالدراهم والدنانير.
القول الرابع: أنه يجوز كراؤها بالدراهم والدنانير ونحوها إلا الطعام.
القول الخامس: أنه يجوز كراؤها بكل شيءٍ إلا بالطعام، وبما يخرج منها.
القول السادس: لا يجوز كراؤها إلا بما يخرج منها.
فهذه أقوال العلماء من حيث الجملة، وسيأتي التفصيل.
قوله: (فَقَوْمٌ لَمْ يُجِيزُوا ذَلِكَ بَتَّةً، وَهُمُ الأَقَلُّ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ).
وقال به أيضًا الحسن البصريُّ رحمه الله
(1)
.
قوله: (وَقَالَ الجُمْهُورُ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا يَجُوزُ بِهِ كِرَاؤُهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ كِرَاؤُهَا إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ).
قال الجمهور بجواز كراء الأرض إلا أنهم اختلفوا فيما به تُكْرى، فذهب ربيعة -وهو ربيعة الرأي شيخ مالك- وابن المسيب إلى أنها لا تُكْرى إلا بالدراهم والدنانير
(2)
.
(1)
قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(7/ 453): "وقد اختلف الناس في إجارة الأرضين على ثلاثة مذاهب، أحدها: ما ذهب إليه الحسن البصري وطاوس إلى أن إجارة الأرضين باطلة لا تجوز بحالٍ".
(2)
يُنظر: "المدونة" لسحنون (3/ 550) قال: "مالك بن أنس، والليث وعبد الله بن طريف أبو خزيمة أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدَّثهم عن حنظلة بن قيس الدرقي أنه سأل رافع بن خديج عن كراء المزارع بالذهب والورق، فقال: لا بأس بكرائها بالذهب والورق .. ابن وهب، عن عبد الله بن عمر، عن نافع أن ابن عمر كان يكري أرضه بالدنانير والدراهم. رجال من أهل العلم، عن ابن المسيب وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عمر وسائر ولده، وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب وربيعة: أنهم كانوا لا يرون بكراء الأرض البيضاء بالدنانير والدراهم بأسًا".
قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِكُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا الطَّعَامَ، وَسَوَاءٌ أكَانَ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ الخَارِجِ مِنْهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَمَا عَدَا مَا يَنْبُتُ فِيهَا كانَ طَعَامًا، أَوْ غَيْرَهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ، وَاَكْثَرُ أَصْحَابِهِ).
ذهب مالكٌ وأكثر أصحابه إلى استثناء الطعام مطلقًا؛ سواء خرج منها أو من غيرها.
قوله: (وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ)، احتراز، فإن من المالكية مَنْ وافق مذهب الحنابلة كما سيأتي.
قوله: (وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِمَا عَدَا الطَّعَامَ فَقَطْ).
وهذا قولٌ لبعض المالكية
(1)
.
قوله: (وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ كِرَاءُ الأرْضِ بِكُلِّ العُرُوضِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَا لَمْ يَكُنْ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الطَّعَامِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
(2)
، وَغَيْرُهُ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
(3)
، وَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي "المُوَطَّإِ"
(4)
).
(1)
يُنظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين" لابن بزيزة (2/ 1070) قال: "قال القاضي رحمه الله: "وكراء الأرض جائز للزرع بما عدا الطعام" إلى آخره.
شرح: كراء الأرض جائز بالدنانير والدراهم وسائر العروض والحيوان (وسائر الأثمان) ما عدا الطعام، والدليل على ذلك ما رواه رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، فأما بالذهب والفضة فلا بأس به".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 63) قال: "وقال آخَرُون: جائز كراء الأرض بالذهب والوَرِقِ والطعام كله، وسائر العروض كلها إذا كان معلومًا، قالوا: وكل ما جاز أن يكون ثمنًا لشيء، فجائز أن يكون أجرةً في كراء الأرض ما لم يكن مجهولًا أو غررًا، وهو قول سالم وغيره".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (4/ 15) قال: "ولا بأس بكراء الأرض البيضاء بالذهب والورق والعروض، وقول سالم بن عبد الله أكثر، ورافع لم يخالفه في أن الكراء بالذهب والورق لا بأس به".
(4)
يُنظر: "الموطأ"(2/ 711، 712).
وهو مذهب أبي حنيفة
(1)
أيضًا.
وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الطَّعَامِ)، للفرق بينها وبين بيع المخابرة، وقد جاء النهي عنه.
(وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِكُلِّ شَيْءٍ، وَبِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالأَوْزَاعِيُّ
(2)
، وَجَمَاعَة، وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ كِرَاءَهَا بِحَالٍ: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ بِسَنَدِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ المَزَارعِ "، قَالُوا: وَهَذَا عَامٌّ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا رَوَى مَالِكٌ مِنْ تَخْصِيصِ الرَّاوِي لَهُ حِينَ رَوَى عَنْهُ. قَالَ حَنْظَلَةُ: فَسَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَائِهَا بِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ
(3)
).
(وَهَذَا عَامٌّ)، أيْ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض نهيًا
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (23/ 15) قال: "وعن ابن المسيب رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسًا بكراء الأرض البيضاء بذهب وفضة، وعن جبير أنه كان لا يرى. بأسًا بإجارة الأرض بدراهم، أو بطعامٍ مسمًّى، وقال: هل ذلك إلا مثل دار أو بيت؟ وهو حجة على مالك رحمه الله، فإنه لا يجوز إجارة الأرض بالطعام؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يستأجر بشيء منه"، ولكنا نقول: الأرض غير منتفع بها كالدار والبيت، وكل ما يصلح ثمنًا في البيع يصلح أجرةً في الإجارة، وتأويل النهي الاستئجار بأجرةٍ مجهولةٍ معدومةٍ هي على خطر الوجود كما يكون في المزارعة، وهذا ينعدم في الاستئجار بطعام مسمَّى، وربما يكون في هذا نوع رفق؛ لأن مَنْ يستأجر الأرض للزراعة، فأداء الطعام أجرة أيسر عليه من أداء الدراهم؛ لقلة النقود في أيدي الدهاقين".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 42) قال: "كراء الأرض ببعض ما تخرج ونحو هذا.
وقال ابن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف ومحمد: تجوز المساقاة والمزارعة جميعًا، وهو قول الأوزاعي والحسن بن حي وأحمد وإسحاق. وحُجَّتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقى يهود خيبر على شرط ما تخرج الأرض والثمرة".
(3)
أخرجه مالك في "الموطإ"(2/ 711)(1) وأحمد في "مسنده"(17258)، وصَحَّحه الأرناؤوط.
مطلقًا، فأخذوا بظاهر الحديث، ولم يأخذوا بما جاء من تخصيصٍ من قِبَلِ الراوي، وراوي الحديث أعلم به من غيره، وكان رافع (راوي الحديث) صاحب حقلٍ وزرعٍ.
قوله: (وَروَى هَذَا عَنْ رَافِعٍ ابْنُ عُمَرَ، وَأَخَذَ بِعُمُومِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكْرِي أَرْضَهُ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يُخَصُّ العُمُومُ بِقَوْلِ الرَّاوِي)
(1)
.
(ابْنُ عُمَرَ): عبد الله بن عمر من السابقين إلى الإسلام، أسلم مع والده رضي الله عنه قديمًا، وكان من أكثر الصحابة تتبعًا لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتَوقُّفه عن كراء أراضيه تَورُّعًا منه رضي الله عنه، لا لأنه لا يرى جواز ذلك.
قوله: (وَرُوِيَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِجَارَةِ الأَرَضِينَ"
(2)
).
(وَرُوِيَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ أَبِيهِ)، هذا وَهمٌ نبَّه عليه الإمام البخاري، وكذا الحافظ ابن حجر في كتابه "الإصابة"، والصحيح أنه رُوِيَ عن ابن رافع بن خديج، عن أبيه (يعني: رافع).
وقد أورد الحديث الإمام النسائي في كتابه في عدة مواضع، وكلها:"عن ابن رافع بن خديج، عن أبيه رافع بن خديج".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 61) قال: "قد روى عنه ابن عمر هذا الخبر، وَحَمله على العموم، فترك كراء المزارع، وروى معمر ويونس وعقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج كان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء المزارع، فترك ابن عمر كراءها".
(2)
أخرجه النسائي (3867) ولفظه: عن مجاهد، قال: أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على ابن رافع بن خديج، فحدثه، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن كراء الأرض"، فابى طاوس، فقال: سمعتُ ابن عبَّاس: "لا يرى بذلك بأسًا"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح النسائي"(8/ 439).
(إِجَارَةِ الأَرَضِينَ)، ومرَّ بلفظ (كِرَاء الأَرَضين)، وهما عند الجمهور بمعنًى خلافًا للمالكية كما سبق.
قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ ضَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ وَلَا يُؤَاجِرْهَا"، فَهَذِهِ هِيَ جُمْلَةُ الأَحَادِيثِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا مَنْ لَمْ يُجِزْ كِرَاءَ الأرْضِ)
(1)
.
(فَلْيَزْرَعْهَا)، أيْ: بنفسه أو مَنْ معه ممَّن هم تحت إمرته، (أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ وَلَا يُؤَاجِرْهَا)، فإما أن يمنحه إياها، أو أن يُشْركه معه فيها، هذا هو الأصل.
لكن هذا القول يضيق واسعًا، فليس كل أحد يستطع أن يزرع أرضه أو أن يجد مَنْ يعينه على زراعة أرضه، وقد يؤدي إلى تعطيل الأراضي عن زراعتها، والانتفاع بها.
قوله: (وَقَالُوا أَيْضًا مِنْ جِهَةِ المَعْنَى: إِنَّهُ لَمْ يَجُزْ كِرَاؤُهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ أَنْ يُصِيبَ الزَّرْعَ جَائِحَةٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ قَحْطٍ، أَوْ غَرَقٍ، فَيَكُونُ قَدْ لَزِمَهُ كِرَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ).
فَهَذا ما استدلَّ به أصحاب هذا القول من المعقول، فقالوا:(لَمْ يَجُزْ كِرَاؤُهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الغَرَرِ)، فقد تصيبها آفةٌ من مطر أو حرق أو غيره فتصبح جائحة، ولا ينتفع المستأجر منها بشيءٍ، وهذا غرر، لكن سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصى بوضع الجوائح
(2)
، وحضَّ على ذلك.
(1)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (3/ 33).
(2)
أخرجه مسلم (1554) ولفظه عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح".
قوله: (قَالَ القَاضِي: وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إِنَّ المَعْنَى فِي ذَلِكَ قَصْدُ الرِّفْقِ بِالنَّاسِ لِكَثْرَةِ وُجُودِ الأَرْضِ كَمَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِ المَاءِ
(1)
، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا أَصْلَا الخِلْقَةِ).
(قَالَ القَاضِي)، يحتمل أنه يقصذ نفسه، وكان المؤلف رحمه الله ممن تولوا القضاء.
قوله: (وَيُشْبِهُ
…
إلخ)، أي: يمكن أن يقال بأن القصد من ذلك هو الرفق بالناس لكثرة الأراضي، وأنه ينبغي للمسلم أن يمنح أخاه أرضًا إذا لم يكن له بها حَاجةٌ.
قوله: (كمَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِ المَاءِ
…
إلخ)، وذَلكَ أنَّ الله تعالى خلق آدم من طينٍ، وخلق الإنسان من ماءٍ مهينٍ.
قوله: (وَأَمَّا عُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ كِرَاءَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَحَدِيثُ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَيَزْرَعُهَا، وَرَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، وَرَجُلٌ اكْتَرَى بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ"
(2)
).
فَهَذا الحَديث نصٌّ في الدراهم والدنانير، وله تتمة لم يذكرها المؤلف، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمخابرة، وبعضهم ذكر أن هذه الزيادة من قول سعيد بن المسيب رحمه الله
(3)
.
(1)
معنى حديث أخرجه النسائي (4660) ولفظه عن جابر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح النسائي"(10/ 232).
(2)
أخرجه أبو داود (3400) وابن ماجه (2449)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(1715).
(3)
أخرجها موقوفًا من قول سعيد بن المسيب: النسائي (3891) من طريق إسرائيل بن يونس، و (3892) من طريق سفيان الثوري، كلاهما عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب قوله. وقال الأَلْبَانيُّ في "صحيح النسائي": صحيح مقطوع (7/ 41).
وأما "المحاقلة"، فهي أن تبيع الحَبَّ على الأرض بالحَبِّ في سنبله
(1)
.
وأما "المخابرة"، فهي أن تستأجر الأرض بجزءٍ مما يخرج منها كثُلُثها أو رُبُعها
(2)
.
قوله: (قَالُوا: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَدَّى مَا فِي هَذَا الحَدِيثِ، وَالأَحَادِيثُ الأُخَرُ مُطْلَقَةٌ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ، وَمِنَ الوَاجِبِ حَمْلُ المُطْلَقِ عَلَى المُقَيَّدِ).
أي: أن أحاديث المنع من كراء الأرض وتأجيرها جاءت مطلقةً، وهذا الحديث جاء مقيدًا لها، وعليه فيجوز استثناءً أن تؤجر بالدراهم والدنانير؛ وذلك أن لهما من القوة الشِّرائيَّة ما ليس لغيرهما، فهما أصل الأثمان.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ كِرَاءَهَا بِكُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا الطَّعَامَ، وَسَوَاءٌ أكَانَ الطَّعَامُ مُدَّخَرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ: حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلَا يُكْرِهَا بِثُلُثٍ، وَلَا رُبْعٍ، وَلَا بِطَعَامٍ مُعَيَّنٍ"
(3)
.
(وَسَوَاءٌ أكَانَ الطَّعَامُ مُدَّخَرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ)، هذا زيادة بيان عند المالكية، وللمالكية في هذه المسألة قولان
(4)
.
(1)
انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 416).
(2)
انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 7).
(3)
أخرجه النسائي (3897)، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(6513).
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(4/ 7) قال: " (وكراء أرض) صالحة للزراعة (بطعام) سواء أنبتته كالقمح أو لم تنبته كاللبن والعسل؛ لئلا يدخله الطعام بالطعام لأجلٍ مع التفاضل والغرر والمزابنة.=
وأما حديث يعلى بن حكيم -وهو صحيح- فهو حجة للمالكية على أحد قوليهم في المسألة حيث ذكر أنه لا يكريا بطعامٍ معينٍ.
قوله: (قَالُوا: وَهَذَا هُوَ مَعْنَى المُحَاقَلَةِ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا).
المُحَاقلة نسبة إلى الحقل، يعني: أن تبيع ما عندك من قمحٍ على الأرض؛ سواء ادخرته أو هو في حوزتك بهذا الذي في الحقل في سنبله
(1)
، وعلةُ النهي: الجهالةُ.
قوله: (وَذَكَرُوا حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ: وَالمُحَاقَلَةُ اسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالحِنْطَةِ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بالطعامِ نَسِيئَةً).
وهذا تعريفٌ آخر للمحاقلة
(2)
.
= (قوله: وكراء أرض) أي: وفسد كراء أرض صالحة للزراعة إذا أكريت للزراعة، أما إذا أكريت بما ذكره لبناءٍ أو جرين فيجوز، ولو كان شأنها أن تُزْرع كما هو ظاهر كلام أهل المذهب خلافًا لما أفتى به بعض شيوخ الشيخ أحمد الزرقاني من المنع. (قوله: أو لم تنبته) كاللبن والعسل، وكذلك الشاة المذبوحة، والحيوان الذي لا يراد إلا للذبح كخصي المعز والسمك وطير الماء والشاة اللبون، وأما شاة لا لبن فيها فَتَجوز الإجارة بها، ولو حصل فيها لبن قبل فراغ مدة الإجارة كجوازها بالماء، ولو ماء زمزم، وبتوابل الطعام كالفلفل والمصطكا عند مَنْ لا يجعلها من توابع الطعام لا عند من يجعلها من توابعه كالملح، فيمنع (قوله: مع التفاضل) الأَوْلَى حذفه؛ لأنه قاصر على ما إذا كان الطعام المؤجر به مما تنبته الأرض. وقوله: "والغرر"، أي؛ لأنه يحتمل أن يخرج له من الأرض قدر ما أكري به أو أقل أو أكثر، وهذا التعليل أيضًا قاصر على ما إذا كان الطعام المستأجر به مما تنبته الأرض. (قوله: والمزابنة)، أي: حيث باع المستأجر معلومًا -وهو الأرض- بمجهولٍ، وهو ما يخرج منها، وهذا ظاهر إذا كانا من جنس واحد".
(1)
انظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 416).
(2)
انظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 416).
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ كِرَاءَهَا بِالطَّعَامِ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا: أَمَّا بِالطَّعَامِ فَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ كِرَاءَهَا بِالطَّعَامِ، وَأَمَّا حُجَّتُهُ عَلَى مَنْعِ كِرَائِهَا مِمَّا تُنْبِتُ، فَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المُخَابَرَةِ. قَالُوا: وَهِيَ كِرَاءُ الأرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَكُلِّ أَصْحَابِهِ).
وَالمُخَابرةُ هي كراء الأرض بجزءٍ مما يخرج منها كالثلث والربع
(1)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ كِرَاءَهَا بِجَمِيعِ العُرُوضِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا: أَنَّهُ كِرَاءُ مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، فَجَازَ قِيَاسًا عَلَى إِجَارَةِ سَائِرِ المَنَافِعِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ ضَعَّفُوا أَحَادِيثَ رَافِعٍ).
وسبق أنه لا بد أن يكون المؤجر معلومًا، وكذلك الثمن لا ينبغي أن يكون مجهولًا.
وبهذا يتضح لنا الفرق بين الإجارة والجعالة، فالجعالة
(2)
نوعٌ من الإجارة، لكن لا يُشْترط فيها العلم بالقدر أو العمل
(3)
.
(1)
انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 7).
(2)
عرفها المالكية بأنها: أن يجعل الرجل للرجل أجرًا معلومًا ولا ينقده إياه على أن يعمل له في زمن معلوم أو مجهول مما فيه منفعة للجاعل، على أنه إن أكمل العمل، كان له الجعل، وإنْ لم يتمه فلا شيء له، مما لا منفعة فيه للجاعل إلا بعد تمامه. انظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (7/ 59).
عرفها الشافعية بأنها: التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم، أو مجهول يعسر ضبطه. انظر "حاشية البجيرمي على الخطيب"(3/ 219).
عرفها الحنابلة: بأنها تسمية مال معلوم لمَنْ يعمل للجاعل عملًا مباحًا ولو كان مجهولًا، أو لمن يعمل له مدةً ولو كانت مجهولةً. انظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 203) و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 372، 373).
(3)
تفترق الإجارة عن الجعالة في أن الجعالة إجارة على منفعة مظنون حصولها، ولا ينتفع الجاعل بجزءٍ من عمل العامل وإنما بتمام العمل، وأن الجعالة عقد غير لازم بخلاف الإجارة، وأن الجعالة قد تكون على مجهول بخلاف الإجارة. ويصح في=
قوله: (رُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرِهِ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: اكْتَرَى رَافِعٌ. قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ مَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا سَائِرُهَا قَالَ: "كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ المَدِينَةِ حَقْلًا قَالَ: وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ وَيَقُولُ: هَذِهِ القِطْعَةُ لِي، وَهَذِهِ لَكَ، وَرُبَّمَا أَخْرَجْتَ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "، خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ)
(1)
.
وكذلك أخرجه مسلم
(2)
.
وقوله: (كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ المَدِينَةِ حَقْلًا)، أي: أنهم كانوا أهل بساتين وزرع.
وقوله: (وَرُبَّمَا أَخْرَجْتَ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ)، يعني: ربما أنبتت هذه ولم تنبت هذه، وهذا كله بإرادة الله سبحانه وقدرته، فليست الأرض هي التي تنبت نفسها، قال تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} .
(وَأَمَّا مَنْ لَمْ يجِزْ كِرَاءَهَا بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَعُمْدَتُهُ النَّظَرُ وَالأَثَرُ، أَمَّا الأَثَرُ: فَمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ المُخَابَرَةِ).
وقَدْ مَرَّ هَذَا.
قوله: (وَمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خَدِيجٍ، عَنْ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ:"نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ أَمْرٍ كَانَ رِفْقًا بِنَا، فَقُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حَقٌّ. قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ ". قُلْنَا: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، وَعَلَى الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ،
= الجعالة الجمع بين تقدير المدة والعمل بخلاف الإجارة. انظر: "حاشية البجيرمي"(219/ 3)، و"كشاف القناع"(3/ 204) و"شرح المنتهى"(2/ 373).
(1)
أخرجه البخاري (2332).
(2)
حديث (1547).
وَالشَّعِيرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ زَارِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا"، وَهَذَا الحَدِيثُ اتَّفَقَ عَلَى تَصْحِيحِهِ الإِمَام البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ)
(1)
.
الأَوْسقُ جمع وَسقٍ، والوسقُ ستون صاعًا
(2)
، وقد وَرَد ذِكْرُهُ في قصة الرجل الذي جامع امرأتَه في نهار رمضان
(3)
.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ كِرَاءَهَا بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَعُمْدَتُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتُ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يُعْمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى نِصْفِ مَا تُخْرِجُهُ الأَرْضُ وَالثَّمَرَةُ"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2339) ومسلم (1548).
(2)
"الوَسَق " -بالفتح- ستون صاعًا، وهو ثلاث مئة وعشرون رطلًا عند أهل الحجاز، وأربع مئة وثمانون رطلًا عند أهل العراق، على اختلافهم في مقدار الصاع والمُدِّ. انظر:"النهاية" لابن الأثير (5/ 185).
(3)
أخرجه أبو داود (2213) عن سلمة بن صخر البياضي قال: كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئًا يتابع بي حتى أصبح، فظاهرتُ منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلةٍ، إذ تكشف لي منها شيءٌ، فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر، وقلت: امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا والله، فانطلقتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:"أنت بذاك يا سلمة؟ "، قلت: أنا بذاك يا رسول الله -مرتين- وأنا صابر لأمر الله، فاحكم فيما أراك الله. قال:"حرِّر رقبةً"، قلت: والذي بعثك بالحق، ما أملك رقبةً غيرها، وضربت صفحة رقبتي، قال:"فصم شهرين متتابعين"، قال: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام، قال:"فأطعم وسقًا من تمر بين ستين مسكينًا"، قلت: والذي بعثك بالحق، لقد بتنا وحشين ما لنا طعام، قال:"فانْطَلقْ إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر، وكُلْ أنت وعيالك بقيتها"، فرجعت إلى قومي، فقلت: وَجَدت عندكم الضيق، وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة، وحسن الرأي، وقد أمرني أو أمر لي بصدقتكم .. زاد ابن العلاء: قال ابن إدريس: بياضة بطن من بني زريق.
(4)
أخرجه مسلم (1551).
قَالُوا: وَهَذَا الحَدِيثُ أَوْلَى مِنْ أَحَادِيثِ رَافِعٍ رضي الله عنه؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرِبَةُ المُتُون، وَإِنْ صَحَّتْ أَحَادِيثُ رَافِعٍ، حَمَلْنَاهَا عَلَى الكَرَاهِيَةِ لَا عَلَى الحَظْرِ، بِدَلِيلِ مَا خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهَا، وَلَكِنْ قَالَ:"إِنْ يَمْنَحْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، يَكُنْ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا"
(1)
، قَالُوا: وَقَدْ قَدِمَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ اليَمَنَ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يُخَابِرُونَ فَأَقَرَّهُمْ"
(2)
).
قوله: (حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتُ): ذكر المؤلف في أول الكتاب أنه يقصد بالحديث الثابت أيْ: الحديث الذي أخرجه البخاري أو مسلم، ويقصذ بالحديث المشهور الحديث المتفق عليه، لكنه لم يلتزم منهجه، فَصَار يطلق الثابت على المتفق عليه، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن ليس هو حديثًا ثابتًا على مصطلحه الذي وضعه لنفسه، بل هو حديث مشهور؛ لأنه متفق عليه.
وفي هذا الحديث دليلٌ على جواز تأجير الأرض بجزءٍ مما يخرج منها.
قوله: (وَهَذَا الحَدِيثُ أَوْلَى مِنْ أَحَادِيثِ رَافِعِ رضي الله عنه
…
إلخ): الأَوْلَى في مثل هذا المقام أن يجمع بين الأحاديث، فالجمع أَوْلَى من الترجيح.
وَحَديثُ ابن عبَّاس هو فصل الخطاب في هذه المسألة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع من تَأْجير الأرض، لكن أرشد إلى ما هو أسمى وأجلُّ مما يجب أن يكون من التعاطف والتراحم والتعاون بين الناس.
قوله: (وَأَمَّا إِجَارَةُ المُؤَذِّنِ، فَإِنَّ قَوْمًا لَمْ يَرَوْا فِي ذَلِكَ بَأْسًا، وَقَوْمًا كَرِهُوا ذَلِكَ، وَالَّذِينَ كَرِهُوا ذَلِكَ وَحَرَّمُوهُ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ
(1)
أخرجه البخاري (2342) ومسلم (1550).
(2)
أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(4/ 114).
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا"
(1)
، وَالَّذِينَ أَبَاحُوهُ قَاسُوهُ عَلَى الأَفْعَالِ غَيْرِ الوَاجِبَةِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ الِاخْتِلَافِ (أَعْنِي: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؟).
اتَّفق أهل العلم على جواز أن يأخذ المُؤذِّن -وكذلك الإمام- رِزْقَه من بيت المال إذا كان محتاجًا إليه
(2)
، لكن اختلفوا في جواز أخذه الأجرة على الأذان والإمامة.
فَذَهب مالكٌ
(3)
والشافعي
(4)
وأحمد في روايةٍ
(5)
إلى جواز ذلك.
(1)
أخرجه أبو داود (531) وغيره، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1492).
(2)
ينظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 301) قال: "ولا نعلم خلافًا في جواز أخذ الرزق عليه. وهذا قول الأوزاعي والشافعي؛ لأن بالمسلمين حاجة إليه، وقد لا يوجد متطوع به، وإذا لم يدفع الرزق فيه يعطل، ويرزقه الإمام من الفيء؛ لأنه المعد للمصالح، فهو كأرزاق القضاة والغزاة، وإن وجد متطوع به لم يرزق غيره؛ لعدم الحاجة إليه". وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 456، 457).
(3)
"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 198)، قال: وجاز للمؤذن (أجرة) أي: أخذها (عليه) وحده. وانظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 236).
(4)
ينظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 205) قال: وأما الاستئجار على الأذان، ففيه أوجه:
أصحها: يجوز للإمام من بيت المال ومن مال نفسه، ولآحاد الناس من أهل المحلة وغيرهم من مال نفسه.
والثاني: لا يصح الاستئجار مطلقًا.
والثالث: يَجُوز للإمام، ومَنْ أذن له، ولا يجوز لآحاد الناس، وإذا جوزنا للإمام الاستئجار من بيت المال، فإنما يجوز حيث يجوز الرزق خلافًا ووفاقًا.
قال في "التهذيب": وإذا استأجر من بيت المال لم يفتقر إلى بيان المدة، بل يكفي أن يقول: استاجرتك لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة كل شهرٍ بكذا، ولو استأجر من مال نفسه، أو استأجر واحد من الرعية، ففي اشتراط بيان المدة وجهان:
قلت: أصحهما: الاشتراط، والله أعلم. والإقامة تدخل في الاستئجار للأذان، ولا يَجُوزُ الاستئجار للإقامة، إذْ لا كُلْفةَ فيها بخلاف الأذان، وليست هذه الصور بصَافيةٍ عن الإشكال. وانظر أيضًا:"الروضة"(5/ 187).
(5)
غير المشهور عنه، ينظر:"الإنصاف" للمرداوي (6/ 45) قال: قوله: (ولا يصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة). يعني: بكونه مسلمًا،=
وذهب أبو حنيفة
(1)
وأحمد في المشهور عنه
(2)
إلى عدم جواز ذلك، وبه قَالَ جَماعةٌ من السلف، مع اتفاقهم على أنَّ ترك الأجرة أفضل.
أدلة القائلين بالجواز:
أولًا: قصة زواج طلحه رضي الله عنه من أم سليم رضي الله عنها، وأن مهرها كان إسلام أبي طلحة
(3)
.
ثانيًا: حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:"زوجتكها بما معك من القرآن"
(4)
، وإذ جاز أن يكون تعليم القرآن مهرًا، جازت فيه الإجارة أيضًا.
= ولا يقع إلا قربةً لفاعله؛ كالحج، أي: النيابة فيه، والعمرة، والأذان، ونحوهما كالإقامة
…
وعنه: يصح كأخذه بلا شرطٍ .. نص عليه. وانظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 224).
(1)
"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين "رد المحتار"(6/ 55) قال: (لا تصح الإجارة
…
ولا لأجل الطاعات)، الأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها عندنا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:" "اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به"، وفي آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن العاص: "وإن اتخذتَ مؤذنًا فلا تأخذ على الأذان أجرًا"، ولأن القربة متى حصلت وقعت على العامل، ولهذا تتعين أهليَّته، فلا يجوز له أخذ الأجرة من غيره كما في الصوم والصلاة هداية.
(2)
يُنظر: " "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 637) قال: (و) وشرط (كون عمل لا يختص فاعله بمسلم)؛ كخياطةٍ ونساجةٍ ونحوهما، أما إن كان فاعله يختص بالمسلم (كأذان وإقامة وإمامة وتعليم قرآن وفقه وحديث ونيابة في حج وقضاء) بين الناس؛ فتحرم الإجارة عليه، ولا تصح، (ولا يقع إلا قربةً لفاعله)، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب. وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 45).
(3)
أخرجه النسائي (3341) وغيره، ولفظه عن أنس، قال:"خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله، ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، وما أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها"، قال ثابت:"فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم الإسلام، فدخل بها فولدت له"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح النسائي"(7/ 413).
(4)
أخرجه البخاري (5029)، (5030)، (5087)، ومسلم (1425)، عن سهل بْن سَعْدٍ، قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم،=
ثالثًا: حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه في رقية اللديغ على قطيعٍ من الغنم
(1)
.
رَابعًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"
(2)
، قالوا: هذا نصٌّ في المسألة، وقوله:"أحق"، أي: أعظم، ففيه دليلٌ على جواز أخذ الأجرة على الإمامة، وتعليم القرآن.
أدلة القائلين بعدم الجواز:
أوَّلًا: حديث عثمان بن أبي العاص، وفيه: قلت: يا رسول الله، اجعلني إمامًا في قومي، فقال لَه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنْتَ إمَامهم، فَاقْتَدِ بأَضْعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا"
(3)
.
وفي بعض الروايات قال: إن آخر ما عهد إليَّ رسول الله أنِ اتخذ
= فقال: "ما لي في النساء من حاجة"، فقال رجل: زوجنيها، قال:"أعطها ثوبًا"، قال: لا أجد، قال:"أعطها ولو خاتمًا من حديد"، فاعتل له، فقال:"ما مَعَك من القرآن؟ "، قال: كذا وكذا، قال:"فقد زَوَّجتكها بما معك من القرآن".
(1)
أخرجه البخاري (2276) ومسلم (2201)، عن أَبي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قال: انطلق نَفَرٌ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفْرةٍ سافروها، حتى نَزَلوا على حيِّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فَسَعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيءٍ؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا بِرَاقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلًا، فصالحوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فكأنما نشط منَ عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جُعْلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم فنَذْكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فَقَدموا على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فقال:"وما يدريك أنها رقية"، ثم قال:"قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا"، فضحك رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه البخاري (5737).
(3)
أخرجه أبو داود (531) وغيره، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1492).
مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا
(1)
. قالوا: فهذا أمرٌ، والأمر يقتضي الوقوف عنده.
ثانيًا: عن عُبَادة بن الصامت قال: علمت ناسًا من أهل الصفة، فأهدى لي رجلًا منهم قوسًا -قلت: قوسًا وليس بمالٍ- قال: قلت: أتقلَّد به في سبيل الله، ثم إنه رضي الله عنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنْ سَرَّك أن يقلّدك الله به قوسًا من النار فافعل"
(2)
.
ثالثًا: عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه كان يتردد على رجلٍ من أهل المدينة في بيته يعلمه القرآن، قال: فكان يأتيني بطعام ما أكلتَ أحسن منه في المدينة، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:"إنْ كان ذَاك طعامه وطعام أهله فكُلْ، وإنْ كان يُتْحفك به فلا"
(3)
.
رابعًا: أن المُؤذِّن قد حبس نفسه ووقته على الأذان، فَجَاز أخذ الأجرة عليه قياسًا على الأفعال غير الواجبة.
قوله: (وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ القُرْآنِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، وَكَرِهَهُ قَوْمٌ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ).
(1)
أخرجه الترمذي (209) وقال: حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرًا، واستحبوا للمؤذن أن يحتسب في أذانه، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1492).
(2)
أخرجه أبو داود (3416) ولفظه: عن عبادة بن الصامت قال: علمت ناسًا من أهل الففَّة الكتاب والقرآن، فأهدى إليَّ رجلٌ منهم قوسًا، فقلت: لَيْست بِمَالٍ، وأرمي عنها فِي سبيل الله عز وجل، لآتينَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتيته، فقُلْتُ: يا رسول الله، رجل أهدى إليَّ قوسًا ممن كنت أُعلِّمه الكتابَ والقرآنَ، وليست بمالٍ، وأرمي عنها فى سبيل الله، قال:"إنْ كنت تحب أن تطوق طوقًا من نار فاقبلها"، وَصَحَّحه الأُلْبَانيُ في "الإرواء"(1493).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 342)، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن حزم فىِ "المحلى"(7/ 19)، وسنده ضعيف لإرساله، وَضَعْف محمد بن ميسر شيخ ابن أبي شيبة.
والكلام في هذه المسألة على نحو الكلام في المسألة السابقة، إذْ أجازه المالكية
(1)
والشافعية
(2)
، وهو روايةٌ عن أحمد
(3)
، ومَنعَه أبو حنيفةَ
(4)
وأحمد في روايةٍ
(5)
.
قوله: (وَالَّذِينَ أَبَاحُوهُ قَاسُوهُ عَلَى سَائِرِ الأَفْعَالِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ "عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَقْبَلْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْنَا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ عِنْدَكُمْ دَوَاءٌ أَوْ رُقْيَةٌ، فَإِنَّ عِنْدَنَا مَعْتُوهًا فِي القُيُودِ، فَقُلْنَا لَهُمْ: نَعَمْ، فَجَاؤُوا بِهِ، فَجَعَلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً أَجْمَعُ بِرِيقِي، ثُمَّ أَتْفُلُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 16) قال: (و) جازت الإجارة (على تعليم قرآن مشاهرة) مثلًا ككل شهر بدرهم، أو كل سنة بدينار (أو على الحِذاق) بكسر الحاء والذال المعجمة أي: الحفظ لجميعه أو جزء معين بأجر معلوم.
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 292) قال: (وتصح) الإجارة لكل ما لا تجب له نية كما أفهمه كلامه
…
(وتعليم القرآن) كله أو بعضه، وَإنْ تعيَّن عليه تعليمه لخبر:"إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 45) قال: (ولا يصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة)، يعني: بكونه مسلمًا، ولا يقع إلا قربةً لفاعله؛ كالحج، أي: النِّيابة فيه،. والعمرة، والأذان، ونحوهما؛ كالإقامة، وإمامة صلاة، وتعليم القرآن
…
وعنه: يصح كأخذه بلا شرطٍ. نص عليه.
(4)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (10/ 278) قال: (وكذا الإمامة وتعليم القرآن والفقه). ش: أي: وكذا لا يجوز. قال الأترازي: خلافًا للشافعي. وقال الحاكم في "الكافي": ولا يجوز أن يستأجر رجل رجلًا أن يعلم ولدًا القرآن والففه والفرائض، أو يؤمهم في رمضان، أو يؤذن. وَفِي "خلاصة الفتاوى" ناقلًا عن الأصل: لا يَجُوز الاستئجار على الطاعات كتعليم القرآن والفقه والأذان والتذكير والتدريس والحج والقر، ويعني: الأجر. وانظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 191).
(5)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 45) قال: قوله: (ولا يصح الإجارة على عملٍ يختص فاعله أن يكون من أهل القربة)، يعني: بكونه مسلمًا، ولا يقع إلا قربة لفاعله؛ كالحج، أي: النيابة فيه، والعمرة، والأذان ونحوهما؛ كالإقامة، وإمامة صلاة، وتعليم القرآن. وانظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 224).
فَأَعْطَوْنِي جُعْلًا، فَقُلْتُ: لَا، حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ:"كُلْ فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ، فَلَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ")
(1)
.
(أَوْ رُقْيَةٌ)، الرُّقية إنْ كانت من القرآن أو من السُّنَّة أو الأدعية الواردة فهي مشروعةٌ، فقَدْ أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه، أما إذا اشتملت على شركياتٍ أو بدعٍ، فَهِيَ غير جَائِزَةٍ.
(مَعْتُوهًا فِي القُيُودِ)، يعني: مَرْبوط.
(فَلَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ)، هذا دليل مَنْ قال بالإباحة، وأجاب المانعون بأن هذا من باب الجعالة لا من باب الإجارة، والجُعْل يتوسع فيه بخلاف الإجارة، إذْ يجوز الجُعْل المجهول قدرًا وعملًا بخلاف الإجارة .. هذا أولًا.
وثانيًا: أن الرقيةَ نَوْعٌ من الدواء، وأَخْذُ الأجرة هنا إنما هو على الرقية التي هي نوعٌ من الدَّوَاء، وليس على تعليم القرآن.
" قوله: (وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فِي غَزَاةٍ، فَمَرُّوا بِحَيِّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَقَالُوا: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَاقٍ، فَإِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ قَدْ لُدِغَ، أَوْ قَدْ عُرِضَ لَهُ. قَالَ: فَرَقَى رَجُلٌ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فَبَرِئَ، فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنَ الغَنَمِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "بِمَ رَقَيْتَهُ؟ "، قَالَ: بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، قَالَ: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ " قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ فِيهَا بِسَهْمٍ"
(2)
، وَأَمَّا الَّذِينَ
(1)
أخرجه أبو داود (3420)(3896)(3901) وغيره، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(2027).
(2)
أخرجه البخاري (5736) ومسلم (2201).
كرِهُوا الجُعْلَ عَلَى تَعْلِيمِ القُرْآنِ فَقَالَ: هُوَ مِنْ بَابِ الجُعْلِ عَلَى تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ، قَالُوا: وَلَمْ يَكُنِ الجُعْلُ المَذْكُورُ فِي الإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ القُرْآنِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الرَّقْيِ، وَسَوَاءٌ أكَانَ الرَّقْيُ بِالقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا جَائِزٌ كَالعِلَاجَاتِ. قَالُوا: وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَى النَّاسِ، وَأَمَّا تَعْلِيمُ القُرْآنِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ).
وفي بعض الروايات أنهم أبوا أن يُضيِّفوهم، ثم لدغ سيد الحي فسألوهم الرقية، فاشترطوا جُعْلًا
(1)
وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين الرقية وتعليم القرآن إذ إنها أجرة أُخِذَتْ على كتاب الله، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ومَا يُدْريك أنها رقية"، فهذا على سبيل الإقرار لا الإنكار.
قوله: (قَالُوا: وَلَمْ يَكُنِ الجُعْلُ المَذْكُورُ فِي الإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ القُرْآنِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الرَّقْيِ)، والرُّقى نوعٌ من الدواء، والدواء يجوز أخذ الأجرة عليه، فكان أخذ الأجرة على المداواة، وليس على تعليم القرآن كما سبق.
قوله: (وَأَمَّا تَعْلِيمُ القُرْآنِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ): فليس تعلُّم القرآن كله واجبًا، وإنما يتعلم الإنسان ما يحتاج إليه، وإن أتم دراسته وحفظه، فهذا من أحسن وأعظم ما يُوفَّق إليه العبد.
قوله: (وَأَمَّا إِجَارَةُ الفُحُولِ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالدَّوَابِّ، فَأَجَازَ مَالِكٌ أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ فَحْلَهُ عَلَى أَنْ يَنْزُوَ
(2)
اَكْوَامًا مَعْلُومَةً، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا الشَّافِعِيُّ، وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ: مَا جَاءَ مِنَ
(1)
أخرجه البخاري (2276).
(2)
قال ابن فارس: "نَزَا يَنزو: وثَب. ونُزاء الذَّكر على أُنثاه. وهو ينزو إلى كذا إذا نازع إليه، كأنه سَمَا له". انظر: "مقاييس اللغة"(5/ 418).
النَّهْي عَنْ عَسِيبِ الفَحْلِ، وَمَنْ أَجَازَهُ شَبَّهَهُ بِسَائِرِ المَنَافِعِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ تَغْلِيبُ القِيَاسِ عَلَى السَّمَاعِ).
(إِجَارَةُ الفُحُولِ): الفُحُولُ جمع فَحْلٍ وهو الذَّكَر، وصورة المسألة: أن يؤجر إنسان ذكرًا من بهيمة الأنعام لينزو على أنثى، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز ذلك، وإليه ذَهَب أبو حنيفة
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد
(3)
، واحتجُّوا بما جاء عن ابْن عُمَر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (3/ 238)، قال:"ولا يجوز أخذ أجرة عسب التيس، وهو أن يؤجر فحلًا لينزو على الإناث؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن من السحت عسب التيس"، والمراد أخذ الأجرة عليه".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 379) قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عَسْب الفحل"، رواه البخاري (وهو) بفتح العين وسكون السين المهملتين وبالباء الموحدة (ضِرَابه) وهو بكسر الضاد: طروق الفحل للأنثى
…
(ويقال: أجرة ضرابه)، ورَجَّحه الخطابي في "غريب الحديث"، وجزم به صاحب "الكافي": أي إنه نهى عن بذل ذلك وأخذه. فإنْ قيل على هذا التقدير: ما الفرق بين التفسير الأول والثالث؟ .. أجيب بأن الأجرةَ على التفسير الأول مقدرة، وعلى الثالث ظاهرة. وهذا كافٍ في الفرق (فيحرم ثمن مائه) عملًا بالأصل في النهي من التحريم، والبيع باطل؛ لأنه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور التسليم (وكذا) يحرم (أجرته في الأصح) لما ذكر، ولم تصح إجارته؛ لأن فعل الضِّراب غير مقدور عليه للمالك، بل يتعلق باختيار الفحل، والثاني يجوز كالاستئجار لتلقيح النخل. وأجابَ الأوَّل بأن الأجير قَادرٌ على تسليم نفسه، وليس عليه عين حتى لو شرط عليه ما يلقح به فسدت الإجارة، وهاهنا المقصود الماء، والمؤجر عاجز عن تسليمه، وعلى الأول لمالك الأنثى أن يعطي مالك الفحل شيئًا هديةً، وإعارته للضِّراب محبوبة كما مر".
(3)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح مُنْتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 249) قال: " (أو نزو فحلٍ)، أي: لا تصح إجارة فحل الضِّراب؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن عَسْب الفحل .. متفق عليه، ولأن المقصود الماء الذي يخلف منه الولد وهو عين فيشبه إجارة الحيوان لأخذ لبنه بل أولى؛ لأن هذا الماء لا قيمة له، فإن احتيج إليه جاز بذل الكراء، وليس للمطرق أخذه .. ذكره في "المغني"، وإن أطرق فحله بلا إجارةٍ، ولا شرطٍ، وأُهْديَتْ له هدية، فلا بأس؛ لأنه فعل معروفًا، فجازت مجازاته عليه".
عن عسب الفحل
(1)
.
القول الثاني: أنه يجوز إذا كان على أكوامٍ معلومةٍ، وهو قول المالكية
(2)
، وحجتهم في ذلك القياس على الرضاعة، والله تعالى يقول:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، ولما جاز أخذ الأجرة على تأبير النخل
(3)
، جاز أخذ الأجرة على نزو الفحل
…
هذا أوَّلًا.
وثانيًا: المصلحة، فلما لم يفتح باب الإجارة في هذا ربما أدى ذلك إلى انقطاع النسل، فحصل الضرر، والضرر يُزَال.
وأجَاب الجمهور عن أدلة المالكية بأن هذا قياسٌ مع النص، فلا يجوز، وأما قولهم: إن منع الإجارة فيه يؤدي إلى انقطاع النسل، فهو ضعيف؛ لأنه قد جاء الحض على التبرع دون عِوَضٍ.
(1)
أخرجه البخاري (2284).
(2)
مذهب المالكيَّة، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 170) قال: "قوله: ولا بيع ما في ظهور الإبل"، المراد الفحول مطلقًا بأن يقول صاحب الفحل لصاحب الناقة: أبيعك ما يتكون من ماء فحل هذا في بطن ناقتك أو ناقتي، وإذا وقع العقد على شيءٍ من ذلك، فإنه يفسخ إلا أن يفوت المعقود عليه بما يفوت به البيع الفاسد. "قوله: ضِرَاب" بكسر الضاد وهو النزو كما يفيده "المصباح"، فالدليل لا يطابق المدعي تأمل. "قوله: النزو" مصدر بفتح النون على وزن قتل. قال في "المصباح": نزا الفحل نزوًا من باب قتل، ونزوانًا وثب. اهـ.
"قوله: بمرات أو زمان جاز"، أي: مرة أو مرتين أو ثلاث مرات أو يوم أو يومين، وعطف بـ "أو" لإفادة عدم الجمع بينهما كما في الواضحة إنْ سمى يومًا أو شهرًا لم يجز أن يُسمِّي نزوات، فإنْ حصل الحمل انفسخت الإجارة في الصورتين، وعليه بحساب ما انتفع. "قوله: كراهته" ظاهر بهرام أي: مطلقًا كان النزو مضبوطًا بما ذكر أو لا، وظاهره أن الكراهة للتنزيه، ومفاد الحديث الحرمة. وقوله: بعد لم يفسخ، ولم يرد ربما يقوي الكراهة، وعطف لم يرد تفسير. وقوله: للنهي عنه أي: ففي مسلم "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل".
(3)
أبرت النخل أبرًا من بابي ضرب وقتل لقحته وأبرته تأبيرًا مبالغة وتكثير. و "الأبور" وِزَان رسول: ما يؤبر به، والإبارُ وِزَان كتاب النخلة التي يؤبر بطلعه. انظر:"المصباح" المنير للفيومي (1/ 1).
قوله: (وَاسْتِئْجَارُ الكَلْبِ أَيْضًا هُوَ مِنْ هَذَا البَابِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(1)
وَلَا عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
).
أيضًا نفس الذين منعوا منعوا هذا والقصد استجار الكلب ليس .. استجار مثلًا كلب صيد أو ماشية أو غير ذلك هل يجوز استئجارها أو لا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حظر من اقتناء الكلب من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو حرث نقص من عمله كل يوم قيراط
(3)
في بعضها قيراطان
(4)
ومعلوم بأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب
(5)
وتعلمون قصة توقف الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه انقطع عنه فترة من الزمن فلما بحثوا وجدوا دلوًا يعني كلبًا صغيرًا تحت السرير فأخرجوه فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 446) قال: " (وكلب) مُعلَّم (للصيد) ونحوه كحراسة ماشية أو زرع أو درب لا يجوز استئجار كل من ذلك (في الأصح) في الجميع".
(2)
بل عند مالكٍ على العكس ينظر: "حاشية العدوي" على "كفاية الطالب الرباني"(1/ 573) قال: "ولجوز إجارة الضحية في حياتها وجلدها بعد ذبحها كما تجوز إجارة كلب الصيد".
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار"، و"حاشية ابن عابدين" "رد المحتار" (6/ 96) قال:"وفي الكلب" أي: كلب الصيد أو الحراسة (قوله: والبازي) بالتشديد. (قوله قولان) يعني روايتان حكاهما قاضي خان، الأولى: لا يجب الأجر. والثانية: إن بَيَّن وقتًا معلومًا يجب وإلا فلا، ولا يجوز في السنور لأخذ الفأر مطلقًا؛ لأن المستأجر يرسل الكلب والبازي، فيذهب بإرساله، فيصيد، وصيد السنور بفعله".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 561) قال: (ولا) يصح استئجار (خنزير ولا كلب ولو كان يصيد أو يحرس)؛ لأنه لا يصح بيعه.
(3)
أخرجه البخاري (2323) ومسلم (1576) ولفظه: "مَن اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا، ولا ضرعًا، نقص كل يوم من عمله قيراطٌ".
(4)
أخرجه البخاري (5481) ومسلم (1574) قال: "مَن اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا لصيدٍ أو كلب ماشيةٍ، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان".
(5)
أخرجه البخاري (3322) ومسلم (2106/ 83) ولفظه: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة".
بالوحي
(1)
فلا يظن أن الذين يربون أولئك الكلاب مهما عملوا فيها من النظافة وغيرها ذلك ليس دليل لكن الكلب متى تحتاج إليه حارسًا لصيد يستفيد منه في الصيد ففي أيضًا ما يتعلق بالمزارع نعم كما أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمون بأن الكلب فيه نجاسة وأن هذه النجاسة لا يزيلها إلا التراب ولذلك أرشد إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا أولهن بالتراب"
(2)
وفي بعضها وعفروه ثامنة بالتراب
(3)
وقد أثبت الطب الحديث بأن في لعابه أي: في لعاب الكلب مادة لزجة لا تخرج إلا بالتراب هل هناك مواد أخرى تخرجها الله أعلم وهذا أيضًا يعطينا أيها الإخوة ما في هذه الشريعة من الأسرار وأنها وحي الله سبحانه وتعالى أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ذلكم الرسول الكريم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وأنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب كما قال الله تعالى.
قوله: ({قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي}).
قوله: ({السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}).
قوله: لكنه يعلم من الغيب ما علمه الله سبحانه وتعالى ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عنه.
قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} * {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
(1)
أخرجه الترمذي (2806) وقال: حديث حسن، ولفظه عن أبي هريرة، قال:"قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصير كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر فليفطع ويجعل منه وسادتين منتبذتين توطآن، ومُرْ بالكلب فيخرج"، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك الكلب جروًا للحسن أو الحسين تحت نضد له، فأمر به فأخرج"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الترمذي"(6/ 306).
(2)
أخرجه مسلم (279)، بلفظ:"طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أُولَاهن بالتراب".
(3)
أخرجها مسلم (1573).
السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} * {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
قوله: (وَالشَّافِعِيُّ يَشْتَرِطُ فِي جَوَازِ اسْتِئْجَارِ المَنْفَعَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَقَوِّمَةً عَلَى انْفِرَادِهَا، فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ تُفَّاحَةٍ لِلشَّمِّ، وَلَا طَعَامٍ لِتَزْيِينِ الحَانُوتِ؛ إِذْ هَذِهِ المَنَافِعُ لَيْسَ لَهَا قِيَمٌ عَلَى انْفِرَادِهَا، فَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
، وَلَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(2)
).
أما عند الحنابلة -مثلًا- فيجوز أن يستأجر بقية الطيب لشمِّه
(3)
،
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 544) قال: الركن الثالث من أركان الإجارة المنفعة، ومن شُرُوطها: أنْ تكونَ متقومةً، فما لا تتقوم منفعته لا يصح استئجاره. ابن عرفة: فسروا المتقومة بما لها قيمة وهو قول الغزالي، لا يصح استئجار تفاحة للشم، والطعام لتزيين الحانوت فإنه لا قيمة له. انتهى.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 445) قال: (و) يشترط (كون المنفعة متقومةً)، لم يرد بالمتقومة هنا مقابلة المثلية، بَلْ ما لها قيمة ليحسن بَذْل المال في مقابلتها، كاستئجار دارٍ للسُّكنى، والمسك والرياحين للشم، فإنها إذا لم تكن لها قيمة إما لحُرْمتها، أو لخستها، أو قلتها، يكون بذل المال في مقابلتها سفهًا وتبذيرا، وهذا الشرط معطوف على قوله: معلومة، كما يعلم من التقدير. وضابط ما يجوز استئجاره كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها منفعة مباحة معلومة مقصودة تضمن باليد، وتُبَاح بالإباحة.
(3)
يُنظر: "شرح مُنْتهى الإرادَات" للبهوتي (2/ 249) قال: (و) يصح استئجار (عنبر) وصندل ونحو مما يبقى (لشم) مدة معينة ثم يرده؛ لأنه نفع مباح كالثوب للبس.
وينظر في مذهب الحنفية: "رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (6/ 45)، قال:(قوله: والباطل) كأن استأجر بميتة أو دم أو استأجر طيبًا ليشمه، أو شاة لتتبعها غنمه، أو فحلًا لينزو، أو رجلًا لينحت له صنمًا.
وهذه المسائل ونحوها من المسائل الجزئية التي وقع فيها الخلاف بين المذاهب.
قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ اخْتِلَافُ المَذْهَبِ فِي إِجَارَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
وَبِالجُمْلَةِ: كُلُّ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ: فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: لَا يَصِحُّ إِجَارَةُ هَذَا الجِنْسِ وَهُوَ قَرْضٌ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الأَبْهَرِيُّ
(1)
، وَغَيْرُهُ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ، وَتَلْزَمُ الأُجْرَةُ فِيهِ، وَإِنَّمَا منَعَ مِنْ إِجَارَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْ فِيهَا مَنْفَعَةً إِلَّا بِإِتْلَافِ عَيْنِهَا؛ وَمَنْ أَجَازَ إِجَارَتَهَا، تَصَوَّرَ فِيهَا مَنْفَعَةً، مِثْلَ أَنْ يَتَجَمَّلَ بِهَا، أَوْ يَتَكَثَّرَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ فِي هَذَا البَابِ، فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ مَسَائِلِ الخِلَافِ المُتَعَلِّقَةِ بِجِنْسِ المَنْفَعَةِ. وَأَمَّا مَسَائِلُ الخِلَافِ المُتَعَلِّقَةُ بِجِنْسِ الثَّمَنِ، فَهِيَ مَسَائِلُ الخِلَافِ المُتَعَلِّقَةُ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي المَبِيعَاتِ وَمَا لَا يَجُوزٌ).
اختلف أهل العلم في إجارة الدراهم والدنانير على قولين:
القول الأول: المنع من ذلك، وإليه ذَهَب أبو حنيفة
(2)
وابن القاسم
(3)
من المالكية.
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ"، لأبي الوليد الباجي (5/ 114) قال: أما ما لا يعرف بعينه كالمكيل والموزون، فلا تصح إجارته. قال القاضي أبو محمد: وإجارته قرضه، والأجرة ساقطة عن مستأجره، وهذا قول ابن القاسم، وكان شيخنا أبو بكر الأبهري وغيره يزعم أن ذلك يصح، وتلزم الأجرة فيه إذا كان المالك حاضرًا معه.
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 175) قال: "ولا تجوز إجارة الدراهم والدنانير، ولا تبرهما".
(3)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1091)، قال "إجارة الدراهم والدنانير وكل ما لا يعرف بعينه لا تصحُّ، وإجارته قرضه، والأجرة ساقطة عن مستأجره، هذا قول ابن القاسم"، وانظر:"الذخيرة" للقرافي (5/ 400).
القول الثاني: إنه يجوز إجارتها إنْ كان بقصد التحلي والوزن في مدة معلومة
(1)
، أما استئجارها للبيع والشراء فلا يجوز، وبه قال المالكية
(2)
والشافعية
(3)
والحنابلة
(4)
.
قوله: (وَمِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ فِيهِ مِنْ هَذَا البَابِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ عَسِيبِ الفَحْلِ
(5)
، وَعَنْ كَسْبِ الحَجَّامِ
(6)
وَعَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ).
أما عسيب الفحل فقَدْ مضى الكلام فيه، وأما كسب الحجام فسيأتي تفصيل القول فيه.
قوله: (قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَمَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ: هُوَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ دَفْعِ القَمْحِ إِلَى الطَّحَّانِ بِجُزْءٍ مِنَ
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 561) قال: (ويصح استئجار نقد) أي: دراهم ودنانير (للتحلي والوزن) مدة معلومة؛ لأن نفعه مباح يستوفى مع بقاء العين، (و) كذا (ما أحتيج إليه كالأنف) من ذهبٍ. (وربط الأسنان به) مدة معلومة، فتصح إجارته لذلك.
(2)
يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك" لابن الجلاب (2/ 135) قال: "ولا تجوز إجارة الدنانير والدراهم، وإجارتهما قراضهما، والأجرة عن مستأجرها ساقطة، وإنما يجوز فيها القرض".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 446)، قال: قوله: (فلا يصح) استئجار بياع على كلمة
…
(وكذا دراهم ودنانير للتزيين) للحوانيت ونحوها
…
(في الأصح) في الجميع؛ لأن منفعة التزيين بالنقد غير متقومة، فلا تقابل بمالٍ بخلاف إعارتها للزينة كما مر في بابها
…
والثاني: ينازع في مثل ذلك، ومثل التزيين في ذلك الضرب على سكتها والوزن بها، أما إذا لم يصرح بالتزيين
…
وخرج بالدراهم والدنانير الحلي، فتجوز إجارته حتى بمثله من ذهب أو فضة. وانظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 270).
(4)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 604) قال: (فلا تصح) الإجارة (في نقد وما بعده إن أطلقت)؛ بأن لم يذكر وزنًا، ولا تَحلِّيًا ونحوه، (ويكون قرضًا في ذمة قابض)؛ لأن الإجارة تقتضي الانتفاع، والانتفاع المعتاد بالنقد والطعام ونحوه إنما هو بأعيانها، فإذا أطلق الانتفاع حُمِلَ على المعتاد.
(5)
أخرجه البخاري (2284) ولفظه: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل".
(6)
أخرجه مسلم (1568) ولفظه عن رافع بن خديج، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "شر الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام".
الدَّقِيقِ الَّذِي يَطْحَنُهُ
(1)
، قَالُوا: وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَهُوَ اسْتِئْجَارٌ مِنَ المُسْتَأْجِرِ بِعَيْنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ، وَلَا هِيَ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ دُيُونًا عَلَى الذِّمَمِ، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا).
(الطَّحَاوِيُّ)، هو الإمَام أبو جعفر صاحب "العقيدة الطحاوية".
قوله: (وَمَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ
…
إلخ)، مثله أيضًا ذبح الأضحية وإعطاء الجازرَ أجرته منها، أو أن يعطى الجلد مقابل الذبح.
قوله: (وَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَوِ اسْتَأْجَرَ السَّلَّاخَ بِالجِلْدِ، وَالطَّحَّانَ بِالنُّخَالَةِ، أَوْ بِصَاعٍ مِنَ الدَّقِيقِ، فَسَدَ؛ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ)
(2)
.
اسْتئجَار السَّلَّاخ بالجلد أي: أن يسلخ الحيوان مقابل جلده، وأكثَرُ العلماء على مَنْعه لما فيه من الغرر والجهالة
(3)
؛ إذ لا يُدْرى أيخرج الجلد
(1)
يُنظر: "شرح مشكل الآثار"(2/ 188).
(2)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1024) ولفظه: "نَهَى عَنْ عَسْبِ الفَرَسِ، وَقَفِيزِ الطَّحَّانِ"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1476).
(3)
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" للشيخ عليش (7/ 443، 444) قال: " (وك) إجارة على سلخ بـ (جلد لسَلَّاخ) بفتح السين وشد اللام، فهي فاسدة للغرر بتقطع الجلد حال سلخه (وإجارة على طحن بـ (نُخَالة) بضم النون وإعجام الخاء (لطحان) للغرر للجهل بقدرها وصفتها. فيها لا تجوز الإجارة على سلخ شاة بشيءٍ من لحمها. ابن شاس: لو استأجر السلاخ بالجلد، والطحان بالنخالة فلا يجوز". وانظر: "جامع الأمهات" لابن الحاجب، (ص 434).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 445)، وفيه:(ولا) يصح أيضًا استئجار سلاخ (ليسلخ) الشاة (بالجلد) الذي عليها، (ولا) طحان على أن (يطحن) البر مثلًا (ببعض الدقيق) منه كربعه (أو بالنُّخَالة) منه للجهل بثخانة الجلد وبقدر الدقيق والنخالة، ولعدم القدرة على الأجرة حالًا.
وينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 560) قال: (ومثله) أيْ: مثل استئجاره على سلخ بهيمةٍ بجلدها في عدم الصحة استئجاره (لطحن قمح بنخالته، وعمل السمسم شيرجًا بالكسب) الخارج منه (والحلج) أيْ: حلج القطن (بالحب) الذي يخرج منه، فلا يصح للجهالة بالأجرة؛ لأنه لا يعلم ما يخرج منه.
سليمًا أم لا، ولا يُدْرى أيكون ثخينًا أم رقيقًا .. هذا أولًا.
وثانيًا: قياسًا على البيع، فكما أنه لا يجوز له أن يأخذ ذلك ثمنًا في البيع، كذلك لا يجوز له أن يأخذه عوضًا في الإجارة، وبهذا نَتَبيَّن وجود الربط القوي بين الإجارة وبين البيع.
قوله: (وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ، وَأُجْرَةُ الطَّحَّان ذَلِكَ الجُزْءُ وَهُوَ مَعْلُومٌ أَيْضًا).
وأما الأئمة أبو حنيفة
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد
(3)
فمنعوا ذلك.
(1)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي، و"حاشية ابن عابدين" (5/ 280) قال:(قوله: للطحان) أيْ: لمسألة قفيز الطحان، وهي كما في البزازية أن يستأجر رجلًا ليحمل له طعامًا، أو يطحنه بقفيز منه، فالإجارةُ فاسدةٌ ويجب أجر المثل لا يتجاوز به المسمى. (قوله: لأنه منصوص) أيْ: عدم الجواز منصوص عليه بالنهي عن قفيز الطحان، ودفع الغزل إلى حائك في معناه. قال البيري: والحاصل أن المشايخ أرباب الاختيار اختلفوا في الإفتاء في ذلك. قال في العتابية: قال أبو الليث: النسيج بالثلث والربع لا يجوز عند علمائنا، لكن مشايخ بلخ استحسنوه وأجازوه لتعامل الناس، قال: وبه نأخذ. قال السيد الإمام الشهيد: لا نأخذ باستحسان مشايخ بلخ، وإنما نأخذ بقول أصحابنا المتقدمين؛ لأن التعامل في بلدٍ لا يدل على الجواز ما لم يكن على الاستمرار من الصدر الأول، فيَكُونُ ذلك دَليلًا على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك، فيكون شرعًا منه، فَإذا لم يكن كذلك، لا يكون فعلهم حُجَّةً إلا إذا كان كذلك من الناس كافة في البلدان كلها، فيكون إجماعًا، والإجماع حجة، ألا ترى أنهم لو تعاملوا على بيع الخمر والربا لا يفتى بالحل. اهـ.
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 405) قال: (فصل لا يصح جعل الأجرة مما عمل فيه) الأجير (كالطحن) أي: كاكترائه للطحن (والرضاع بجزءٍ من الدقيق والرقيق) المرتضع (بعد الفطام) أو لسلخ الشاة بجلدها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن قفيز الطحان"، رواه البيهقي بإسنادٍ حسنٍ، وفَسَّروه باكتراء الطحان على طحن الحنطة ببعض دقيقها، وقيس به ما في معناه، ولأن الأجرة ليست في الحال بالهيئة المشروطة، فهي غير مقدورٍ عليها، وللجهل بها حِينَئذٍ، ولاشتمال العقد على استحقاق كلٍّ منهما على الآخر طحن قدر الأجرة، وهما متنافيان، وللأجير إذا عمل في ذلك أجرة عمله.
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 246)، قال:(ولا) يصح استئجاره على=
قوله: (وَأَمَّا كَسْبُ الحَجَّامِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَحْرِيمِهِ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا: كسْبُهُ رَدِئٌ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مُبَاحٌ وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ: فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ حَرَامٌ: احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنَ السُّحْتِ كَسْبُ الحَجَّامِ"
(1)
، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَسْبَ الحَجَّامِ
(2)
. وَرُوِيَ "عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: أشْتَرَى أَبِي حَجَّامًا فَكَسَرَ مَحَاجِمَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ يَا أَبَتِ كَسَرْتَهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ"
(3)
. وَأَمَّا مَنْ رَأَى إِبَاحَةَ ذَلِكَ، فَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ
(4)
، وَحَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دعَا أَبَا طَيْبَةَ فَحَجَمَهُ، فَسَأَلَهُ: كَمْ ضَرِيبَتُكَ؟ فَقَالَ: ثَلَاثَةُ آصُعٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ صاعًا
(5)
. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ أَمَرَ لِلْحَجَّامِ
= (طحن كُر) بضم الكاف مكيل بالعراق. قيل: أربعون إردبًّا، وقيل: ستون قفيزًا (بقفيز منه) أي: المطحون؛ لحديث الدارقطني مرفوعًا أنه نهى "عن عَسْب الفحل، وعن قفيز الطحان"، ولأنه جعل له بعض معموله أجرًا لعمله، فيصير الطحن مستحقًا له وعليه، ولأن الباقي بعد القفيز مطحونًا لا يُدْرى كم هو، فتكون المنفعة مجهولةً وتقدم لو استأجره بجزءٍ مشاعٍ منه كسُدُسه يصح.
(1)
أخرجه ابن حبان (11/ 315) وأبو عوانة في "مستخرجه"(3/ 357) واللفظ له: "مِنَ السُّحْتِ كَسْبُ الحَجَّام، وَثَمَنُ الكَلْبِ، وَمَهْرُ البَغِيِّ"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(2971).
(2)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 129).
(3)
أخرجه البخاري (2238).
(4)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 130)، ولفظه عن عبد الله بن عباس أنه قال: احتجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه ذلك.
(5)
أخرجه أبو يعلى في "معجمه"(ص 258).
بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَأَمَرَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ
(1)
. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِكَرَاهِيَتِهِ: فَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ رَافِعٍ، أَوْ رَافِعَ بْنَ رِفَاعَةَ جَاءَ إِلَى مَجْلِسِ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الحَجَّامِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نُطْعِمَهُ نَاضِحَنَا
(2)
. وَبِمَا رُوِيَ: عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ كانَ لَهُ حَجَّامٌ، وَبِمَا رُوِيَ: وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ دلِكَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ عَادَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ عَادَ فَنَهَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرْاجِعُهُ حَتَّى قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اغلِفْ كَسْبَهُ نَاضِحَكَ، وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ"
(3)
.
اختلف العلماء في كسب الحجام على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه محرمٌ، وهو رواية عن أحمد رحمه الله
(4)
.
القول الثاني: أنه مكروهٌ، وأثر هذا القول عن عثمان بن عفان وأبي هريرة رضي الله عنهما، وعن الحسن البصري وإبراهيم النخعي
(5)
، واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولًا: نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام.
ثانيًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كَسْب الحجام خبيث".
(1)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 130).
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(18998)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(6048)، وقال الأرناوؤط: هذا إسنادٌ لا يصح.
(3)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 131).
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 48) قال: (ويُكْره للحر أكل أجرته) يعني: على القول بصحة الاستئجار عليه
…
وهذا المذهب
…
وعنه: يحرم مطلقًا. واختار القاضي في التعليق أنه يحرم أكله على سيده.
(5)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 399) قال: وممَّن كره كسب الحجام: عثمان، وأبو هريرة، والحسن، والنخعي، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كسب الحجام خبيث"، رواه مسلم. وقال:"أَطْعمه ناضحك ورقيقك".
ثالثًا: ما رواه أبو داود عن ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام، فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى أمره أن أعلفه ناضحك ورقيقك
(1)
.
القول الثالث: أنه مباحٌ، وهو قول الجمهور (أبو حنيفة
(2)
ومالك
(3)
والشافعي
(4)
وأحمد في رواية
(5)
)، واستدلوا على ذلك بما جاء في "الصَّحيحَين" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام أجرَه، ولو يعلمه حرامًا لما أعطاه
(6)
.
(1)
أخرجه أبو داود (3422)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(4000).
(2)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 21) قال: (والحجام) أيْ: جاز أخذ أجرة الحجام لما روي أنه عليه الصلاة والسلام "احتجم وأعطى أجرته"، وبه جرى التعارف بين الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فانعقد إجماعًا.
(3)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (4/ 384) قال: ولا يَكْره مَالكٌ وأصحابه كسبَ الحجَّام، وإنما يعافه مَنْ تنزَّه عنه من ناحية التكرُّم، وقد أَعْطَى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طيبة على ذلك أجرًا، وكانت قريش تتنزه عنه.
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي وحواشي الشرواني والعبادي (9/ 388)، قال: ولم يحرم لأنه " صلى الله عليه وسلم أعطى حاجمه أجرته"، رواه البخاري، ولو حرم لم يعطه؛ لأنه حيث حرم الأخذ حرم الإعطاء.
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"(2/ 259) قال: (وصح استئجار لحجم كفصد)، ولا يحرم أجره؛ لحديث ابن عباس "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو علمه حرامًا لم يعطه"، متفق عليه. وفي لفظ:"لو علمه خبيثًا لم يعطه"، ولأنه نفع مباح أشبه البناء، ولدعاء الحاجة إليه (وكره لحرِّ أكل أجرته و) أكل (مأخوذ بلا شرط عليه)، أيْ: الحجم (ويطعمه) الحاجم (رقيقًا وبهائم)؛ لحديث: "كسب الحجام خبيث"، متفق عليه، وقال:"أطعمه ناضحك ورقيقك"، فعلم منه أنه ليس بحرام، وقد سمى عليه الصلاة والسلام الثوم والبصل خبيثين مع عدم تحريمهما، وإنما كرهه للحر تنزيهًا له لدناءة هذه الصناعة، وكذا أجرة كسح كنيف. وانظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 399).
(6)
أخرجه البخاري (5691)، ومسلم (1202)، ولفظه:"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام أجره، واستعط".
وأجابوا عن أدلة الفريق الأول بما يلي:
1 -
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "كَسْب الحجام خبيث"
(1)
، قالوا: هذا لا يدل على أنه محرمٌ، فإطلاق الخبث على الشيء لا يستلزم تحريمه، فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على الثوم والبصل نفس اللفظ، وهما من الأكل المباح باتفاق، لكن لما كانت الحجامةُ حرفةً بها نوع دناءة، أو لا تليق بالحر، وُصفَتْ بهذا الوصف، وإلا فإن الناس بحاجة إليها، والحاجة تنزل منزلة الضرورة أحيانًا.
2 -
وأما حديث محيصة رضي الله عنه ففيه: "أَعْلفه ناضحك ورقيقك"، وهذا دَليلٌ على إباحتها؛ لأن الرقيق لا يجوز لهم أن يأكلوا ما هو حرام، وهذا هو الرأي الذي نرجحه لدلالة الأدلة الصحيحة عليه، فقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجرَه، وحض أن يخفف عنه من ضريبته كما في حديث جابر الذي أورده المؤلف.
وهنا مسألة مهمةٌ لم يتعرض لها المؤلف، وهي أن الأمر هنا لا يتعلق بكلمة "حجام"، وإنما بالحجامة، فلو انتقل الحجام إلى صنعة أخرى أو عمل آخر كالحلاقة أو فصد الدم أو ختن الصغار، فإن أجره في هذه الحالة جائزٌ ولا حرج فيه
(2)
.
قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ أَيْضًا اخْتِلَافُهُمْ فِي إِجَارَةِ دَارٍ بِسُكْنَى دَارٍ أُخْرَى، فَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَعَلَّهُ رَآهَا مِنْ بَابِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ).
(1)
أخرجه مسلم (1568)، ولفظه عن رافع بن خديج، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 49) قال: يجوز استئجاره لغير الحجامة؛ كالفصد، وحلق الشعر، وتقصيره، والختان، وقطع شيء من جسده للحاجة إليه. قاله الأصحاب. قلت: لو خرج في الفصد من الحجامة لما كان بعيدًا، وكذلك التشريط كالصوم.
صورة المسألة: أن يقول رجلٌ لآخر: أؤجرك هذه الدار على أن أسكن دارك، فذهب مالك
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد
(3)
إلى جواز ذلك.
ومنعه أبو حنيفة
(4)
؛ لأنها من جنسٍ واحدٍ، فتكون من ربا النسيئة.
قُلْتُ: وهذا تعليل ضعيفٌ؛ لأن ربا النسيئة جاء في أصنافٍ معينةٍ، قال النبى صلى الله عليه وسلم:"الذَّهب بالذَّهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثلِ، يدًا بِيَدٍ، فإذا اختلفت هذه الأجناس فَبيعُوا كيف شئتم"
(5)
، فالدُّورُ ليستَ من الأجناس الربوية، فالراجح ما ذَهَب إليه الجمهور، وهو القول بالجواز.
(1)
يُنظر: "المدونة"(3/ 517) قال: في الرجل يستأجر الدار بسكنى داره، قُلْتُ: أرأيت إن استأجرت منك سكنى دارك هذه السنة بسكنى داري هذه، أيَجُوز هذا في قول مالكٍ؟ قال: هو عندي جائز ولا بأس به.
(2)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 251) قال: ويجوز إجارة المنافع من جنسها، ومن غير جنسها؛ لأنَّ المنافع في الإجارة كالأعيان في البيع، ثم الأعيان يجوز بيع بعضها ببعض، فكذلك المنافع.
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 556) قال: (ويجوز إجارة دار بسكنى دار) أخرى (و) بـ (خدمة عبد و) بـ (تزويج امرأة) لقصة شعيب صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعل النكاح عوض الأجرة، ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع، جاز عوضًا في الإجارة، فكما جاز أن يكون العوض عينًا، جاز أن يكون منفعةً؛ سواء كان الجنس واحدًا كالأول، أو مختلفًا كَالثَّانِي. قال المجد في "شرحه": فإذا دفعت عبدك إلى خياط أو قصار أو نحوهما ليعلمه ذلك العمل بعمل الغلام سنة، جاز ذلك فى مذهب مالك وعندنا.
(4)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي و"حاشية ابن عابدين"(6/ 62) قال: (إجارة المنفعة بالمنفعة تجوز إذا اختلفا) جنسًا، كاستئجار سكنى دار بزراعة أرض (وإذا اتحدا لا) تجوز كإجارة السكنى بالسكنى، واللبس باللبس والركوب، ونحو ذلك، لما تقرر أن الجنسَ بانفراده يحرم النساء، فيجب أجر المثل باستيفاء النفع كما مر لفساد العقد.
(5)
أخرجه مسلم (1587) ولفظه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد".
قوله: (فَهَذِهِ مَشْهُورَاتُ مَسَائِلِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِ الثَّمَنِ، وَبِجِنْسِ المَنْفَعَةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَوْصَافِهَا فَنَذْكُرُ أَيْضًا المَشْهُورَ مِنْهَا).
يشير المُؤلِّف هنا إلى مسألة تأجير الموصوف في الذمَّة دون رؤيته، وَقَد اختلف أَهْل العِلْمِ في هذه المسألة، وَالصَّحيحُ أنه يَجُوز؛ لأن الإجارَة نوعٌ من البيع كما عرفها بعضهم بأنها بيع منافع، والشافعية يعدُّون الإجارة من البيع كما سيأتي.
قوله: (فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ جُمْهُورَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ (مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ) اتَّفَقُوا بِالجُمْلَةِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الإِجَارَةِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا، وَالمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةَ القَدْرِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِغَايَتِهَا مِثْلَ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ، وَعَمَلِ البَابِ).
(أَنْ جُمْهُورَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ مَالِكٌ
(1)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
(1)
يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 110) قال: "الإجارة لا تصح إلا بشروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون أجلها معلومًا بشهر أو سنة، أو تكون محدودة بعمل كخياطة ثوب أو كتابة كراس.
وثانيها: أن يكون الأجرُ معلومًا للمتعاقدين ولو بالعوف، كأجرة الخياطة أو صبغ الثوب أو غيرهما مما تختلف أجرته عرفًا.
وثالثها: أن يكون العمل المستأجر عليه معلومًا للمتعاقدين، كما يشترط تعيين الذات المعقود عليها لتعليمها أو لركوبها. وانظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (181).
(2)
يُنظر: "بداية المبتدي" للمرغيناني (ص 186) قال: "الإجارة عقد على المنافع بعوض، ولا تصح حتى تكون المنافع معلومة، والأجرة معلومة، وما جاز أن يكون ثمنًا في البيع، جاز أن يكون أجرةً في الإجارة، والمنافعُ تارةً تصير معلومةً بالمدة كاستئجار الدور للسكنى والأرضين للزراعة، فيصح العقد على مدة معلومة أي مدة كانت، وَتارةً تصير معلومةً بالتسمية كَمَن استأجر رجلًا على صبغ ثوبه، أو خياطته، أو استأجر دابةً ليحمل عليها مقدارًا معلومًا، أو يركبها مسافةً سماها، وتارةً تصير المنفعة معلومةً بالتعيين والإشارة كَمَن استأجر رجلًا لأنْ ينقل له هذا الطعام إلى موضع معلوم".
وَالشَّافِعِيُّ
(1)
)، وَكَذلك أحمد
(2)
اتَّفقوا على (أَنَّ مِنْ شَرْطِ الإِجَارَةِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا، وَالمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةَ القَدْرِ)، كأن يقول: أجرتك هذه الدار سنة بألف ريال لتسكنها، فعرفنا المنفعة وهي السُّكنى، والثمن وهو الألف ريال، والمدة وهي السنة، فارتفعت الجهالة، وصحَّت الإجارة.
وقَدْ تكون بِغَايَةٍ مثل: خياطة الثوب، وعمل الباب، وبناء الجدار.
قوله: (وَإِمَّا بِضَرْبِ الأَجَلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهَا غَايَةٌ مِثْلَ: خِدْمَةِ الأَجِيرِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِالزَّمَانِ إِنْ كَانَ عَمَلًا، وَاسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةٍ مُتَّصِلَةِ الوُجُودِ مِثْلَ كِرَاءِ الدُّورِ وَالحَوَانِيتِ).
الأجير الذي يعمل عند شخصٍ بأجرٍ لا بد من تحديد الأجر، وتحديد العمل ما كنهه، وتوقيته ومدته.
قوله: (وَاسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةٍ مُتَّصِلَةِ الوُجُودِ مِثْلَ كرَاءِ الدُّورِ وَالحَوَانِيتِ)، أي: يحدد مدَّة الاستئجار.
قوله: (وَإِمَّا بِالمَكَانِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا مِثْلَ كِرَاءِ الرَّوَاحِلِ).
كراء الرَّواحل أو السيارات، كأن يستأجر سيارةً ليحمل عليها بضائعَ
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 453، 454) قال: يشترط في إجارة عينٍ أو ذِمَّةٍ فيما له منافع كدارٍ (كون المنفعة) في كلِّ منهما (معلومة) عينًا وصفةً وقدرًا، ولم يقل: وكون المنفعة معلومة كما قال سابقًا، وكون المؤجر قادزا على تسليمها لكثرة أبحاث هذا الشرط، فلا يصح إيجار أحد عبديه، ولا إجارة الغائب، ولا إجارة مدة غير مقدرة
…
(وتارةً) تقدر المنفعة (بعمل) أي: محله من غير مدة (كدَابَّةٍ) معينةٍ أو موصوفةٍ للركوب (إلى مكة) مثلًا، (وكخياطة ذا الثوب) المعين؛ لأن هذه المنافع معلومة في أنفسها فلم تفتقر إلى تقدير المدة.
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 551) قال: الشرط (الثاني) للإجارة (معرفة الأجرة)؛ لأنه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا كالثمن، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم:"مَن استأجر أجيرًا فليُعْلمه أجره"، ويصحُّ أن تكون في الذمة، وأن تكون معينةً (فما في الذمة) حكمه (كثمن)، فما صح أن يكون ثمنًا في الذمة، صح أن يكون أجرة (و) الأجرة (المعينة كمبيع) معين.
إلى مكانٍ ما، وربما يستأجرها أيامًا، فلا بد من ضرب الأجل، وتحديد المدة.
قوله: (وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى جَوَازِ إِجَارَاتِ المَجْهُولَاتِ مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ حِمَارَهُ لِمَنْ يَسْقِي عَلَيْهِ، أَوْ يَحْتَطِبُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ).
هذه مسألةٌ مهمةٌ تتعلق بالعصر الحاضر، وهي إجارة المجهولات (مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ حِمَارَهُ لِمَنْ يَسْقِي عَلَيْهِ، أَوْ يَحْتَطِبُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ)، ومثل أن يعطي إنسان آخَر سيارته ليعمل عليها بنصف دخلها أو بثلثها أو ربعها مثلًا، أو أن يحصد أرضه بجزءٍ معلومٍ مما يخرج منها، أو أن يرعى له غنمه على جزءٍ معلومٍ منها.
قال المؤلف رحمه الله: (وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى جَوَازِ إِجَارَاتِ المَجْهُولَاتِ)، فنسب القول بالجواز إلى أهل الظاهر
(1)
، وبه قال أحمد
(2)
رحمه الله، ولكن ابن رشدٍ ليس خبيرًا بمذهب أحمد، فلم يذكره.
والَّذين أَجَازوا هذه الصورة، أجازوها قياسًا على المضاربة والمساقاة، وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه لا فَرْقَ بين هذه الصورة وبين المضاربة والمساقاة، وهي جائزةٌ، أمَّا دعوى الجهالة فضعيفٌ، فمَنْ أعطى
(1)
يُنظر: "المُحلَّى"(7/ 44)، قال: ولا يحل في زرع الأرض إلا أحد ثلاثة أوجه
…
وإما أن يعطي أرضه لمَنْ يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزءٍ، ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى منها مسمى، إما نصف، وإما ثلث، أو ربع، أو نحو ذلك أكتر أو أقل، ولا يشترط على صاحب الأرض ألبتة شيء من كل ذلك، ويكون الباقي للزارع قل ما أصاب أو كثر، فَإنْ لم يصب شيئًا، فلا شيء له، ولا شيء عليه، فهذه الوجوه جائزة، فمَنْ أبي فليُمْسك أرضه.
(2)
يُنظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار (3/ 37) قال: "وَيصحُّ دفع عبدٍ أو دابَّةٍ لمن يعمل به بجزءٍ من أجرته، وخياطة ثوب، ونسج غزل، وحصاد زرع، ورضاع قن، واستيفاء مال، ونحوه".
سيارته لشخصِ يعمل عليها ليومٍ أو لشهرٍ على نصف ما يخرج منها أو ثلثه، هذا ليسَ فيه جهالة، فالعمل معلوم، وكذلك المدة والأجر.
كما أن القول بجواز هذه الصورة فيه تيسيرٌ على الناس، ومراعاةٌ لمصالحهم، وهذا أصلٌ من الأصول التي بُنيَتْ عليها هذه الشريعة.
قوله: (وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ: أَنَّ الإِجَارَةَ بَيْعٌ، فَامْتُنِعَ فِيهَا مِنَ الجَهْلِ -لِمَكَانِ الغَبْنِ- مَا امْتُنِعَ فِي المَبِيعَاتِ. وَاحْتَجَّ الفَرِيقُ الثَّانِي بِقِيَاسِ الإِجَارَةِ عَلَى القِرَاضِ
(1)
وَالمُسَاقَاةِ
(2)
).
"القراض": المضاربة
(3)
، وهو نوعٌ من أنواع الشركة، والقول بإباحته من باب التيسير على الناس.
قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ القِرَاضَ وَالمُسَاقَاةَ مُسْتَثْنَيَانِ بِالسُّنَّةِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا لِخُرُوجِهِمَا عَنِ الأُصُولِ).
وعند النظر، فالإجارة أيضًا مما جاء على خلاف الأصل؛ لأن الأصلَ دَفْعُ الثمن وقبض السلعة، أما في الإجارة فيسلم الأجر قبل الانتفاع، فإذا استأجرت دارًا لمدة عام، تسلم القيمة قبل أن تستفيد منها شيئًا، وهذا من أوجه الفرق بين الإجارة والبيع.
(1)
المقارضة المضاربة أيضًا، وأهل المدينة يستعملون هذه اللفظة مأخوذة من القرض، وهو القطع من حد ضرب سميت به لأن رب المال يقطع رأس المال عن يده، ويسلمه إلى مضاربه. وقيل: المقارضة المجازاة، فرب المال ينفع المضارب بماله، والمضارب ينفع رب المال بعمله. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 148).
(2)
"المُسَاقاةُ": أن يستعمل رجلٌ رجلًا في نَخيل أو كُروم ليقوم بإصلاحها على أن يكون له سهمٌ معلومٌ مما تُغلُّه. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2380)، و"معجم لغة الفقهاء" لرواس قلعجي وقنيبي (ص 425).
(3)
"المضاربة": معاقدة دفع النقد إلى من يعمل فيه على أنَّ ربحه بينهما على ما شرطا
مأخوذ من الضرب في الأرض، وهو السير فيها، سُمِّيت بها؛ لأن المضاربَ يضرب في الأرض غالبًا للتجارة طالبًا للربح في المال الذي دفع إليه. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 148).
قوله: (وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُمَا إِذَا ضُرِبَا لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا غَايَة أَمَدًا مِنَ الزَّمَانِ مَحْدُودًا، وَحَدَّدُوا أَيْضًا أَوَّلَ ذَلِكَ الأَمَدِ، وَكَانَ أَوَّلُهُ عَقِبَ العَقْدِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يُحَدِّدُوا أَوَّلَ الزَّمَانِ، أَوْ حَدَّدُوهُ وَلَمْ يَكُنْ عَقِبَ العَقْدِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ إِذَا حُدِّدَ الزَّمَانُ وَلَمْ يُحَدَّدْ أَوَّلُهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً بِكَذَا، أَوْ شَهْرًا بِكَذَا، وَلَا يَذْكُرُ أَوَّلَ ذَلِكَ الشَّهْرِ، وَلَا أَوَّلَ تِلْكَ السَّنَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَيَكُونُ أَوَّلُ الوَقْتِ عِنْدَ مَالِكٍ وَقْتَ عَقْدِ الإِجَارَةِ، فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالعَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُجِزِ الشَّافِعِيُّ إِذَا كَانَ أَوَّلُ العَقْدِ مُتَرَاخِيًا عَنِ العَقْدِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ).
بحث المؤلف هنا عدة مسائل تتعلق بالإجارة:
المسألة الأولى: إذا حدد مدة الإجارة في طرفيها؛ كأن يقول: أجرتك هذه الدار بكذا، من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا؛ فهذا مجمعٌ على جوازه
(1)
، ولا إشكال فيه.
المسألة الثانية: إذا حدد الزمان ولم يحدد أوله؛ كأن يقول: أجرتك هذه الدار سنةً، فذهب مَالكٌ
(2)
وأبو حنيفة
(3)
إلى جواز ذلك، وينصرف
(1)
قال ابن المنذر: "أجمع كل مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم على أن إجارة المنازل والدواب جائز إذا بُيِّن الوقت، والأجر، وكانا عالمين بالذي عقدا عليه الإجارة، وبينا من يسكن الدار، ويركب الدابة، وما يحمل عليها. انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" (6/ 303).
(2)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوَهَّاب (ص 1089)، قال: تجوز إجارة الأعيان كالدور
…
على ثلاثة أوجه
…
والثاني أن يذكر المدة، ولا يجدها من أي وقت يكون، فيقول: استأجرت منك هذه الدار شهرًا بدينار، ولا يبين أي شهرٍ هو، فيصح عندنا، ويكون من وقت العقد خلافًا للشافعي في قوله: إنَّه لا يصح إلا أن يُبيِّن أوله. و"الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(2/ 654).
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي (4/ 44)، قال: قوله:=
ذلك إلى ما جرت به العادة، والعادة محكمة
(1)
كما جاء في الأثر: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيئٌ"
(2)
، وجرت العادة على أن المدة تبدأ عقيب العقد.
وذهب الشافعي إلى المنع لأنه غررٌ
(3)
.
وذهب أحمد إلى التفصيل، فإذا كانت المدة متراخيةً عن العقد،
= (وعدم بيان الابتداء
…
إلخ)، يعني أن الإجارة تَجُوزُ مدةً معلومةً كقوله: أستأجر منك شهرًا أو سنةً من غير أن يذكر ابتداء ذلك، ويحمل ابتداء ذلك من يوم العقد (قوله: وجيبة
…
إلخ)، أي: سواء كان الكراء وجيبة، وهو ظاهر أو مشاهرة؛ لأنه لما كان متمكنًا من السكنى، وإنْ لم يكن العقد لازمًا، كفى ذلك ما لم يحل عن نفسه. (قوله: فإن وقع) أي: الكراء على شهر في أثنائه، فثلاثون يومًا من يوم العقد، فإن وقع العقد على شهرٍ وكان العقد في أوله، لزمه كله على ما هو عليه من نقصٍ أو تمامٍ، وكذا السنة إذا وقع العقد عليها، فإنْ كان في أول يومٍ منها لزمه اثنا عشر شهرًا بالأهلة، وإن كان بعدما مضى من السنة أيام لزمه أحد عشر بالأهلة وشهر ثلاثون يومًا.
(1)
ومعناها: أن العادة عامة كانت أو خاصة تجعل حكمًا لإثبات حكم شرعي لم ينص على خلافه بخصوصه، فلو لم يرد نص يخالفها أصلًا، أو ورد ولكن عامًّا، فإن العادةَ تعتبر. انظر:"الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص 79)، و"شرح القواعد الفقهية" للزرقا (ص 219).
(2)
أخرجه أحمد موقوفًا (3600)، عن ابن مسعود، ولفظه: "إنَّ الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمدٍ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسنٌ، وما رأوه سيئًا، فهو عند الله سيئٌ)، وحسن إسناده الأرناؤوط.
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 454) قال: (ثم تارةً تقدر) المنفعة (بزمان) فقط (كدار) أي: كإجارة دار وثوب وإناء (سنة) معينة متصلة بالعقد، فيقول: أجرتك هذه الدار بالسكنى سنةً، فإن قال: على أن تسكنها لم يصح كما في "البحر"، ولو أجره شهرًا مثلًا، وأطلق صح وجعل ابتداء المدة من حينئذ؛ لأنه المفهوم المتعارف. وإن قال ابن الرفعة: لا بد أن يقول من الآن، ولا تصح إجارة شهرٍ من هذه السنة وبقي فيها أكثر من شهر للإبهام، فإن لم يبق فيها غيره صح. وقوله: أجرتك من هذه السنة كل شهرٍ بدرهم أو أجرتك كل شهرٍ منها بدرهم، فاسد؛ لأنه لم يعين فيها مُدَّةً. وانظر:"المهذب" للشيرازي (2/ 246).
فلا يجوز، وإذا كانت عقيب العقد فهذا جائزٌ
(1)
.
المسألة الثالثة: أن يستأجر دارًا لزمنٍ آتٍ في المستقبل، فنحن الآن في سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة وألف، هل يجوز أن يستأجر دَارًا سنة خَمْسٍ وعشرين وأربع مئةٍ وألفٍ؟ خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنه يجوز، وهو مذهب الجمهور
(2)
،
…
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 324) قال: "لا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد، بل لو أجره سنة خمس، وهما في سنة ثلاث، أو شهر رجب في المحرم، صح، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يصح إلا أن يستأجرها مَنْ هي في إجارته، ففيه قولان؛ لأنه عقدٌ على ما لا يمكن تسليمُهُ في الحال، فأشبه إجارة العين المغصوبة. قال: ولا يجوز أن يكتري بعيرًا بعينه إلا عند خروجه؛ لذلك ولنا أن هذه مدة يجوز العقد عليها مع غيرها، فجاز العقد عليها مفردةً مع عموم الناس، كالتي تلي العقد، وإنما تُشْترط القدرة على التسليم عند وجوب التسليم كالمسلم فيه، ولا يشترط وجوده ولا القدرة عليه حال العقد، ولا فرق بين كَوْنها مشغولةً أو غير مشغولةٍ؛ لما ذكرناه، وما ذكروه يبطل بما إذا أجرها من المكتري، فإنه يصحُّ مع ما ذكروه .. إذا ثبت هذا، فإن الإجارة إن كانت على مدة تلي العقد، لم يحتج إلى ذكر ابتدائها من حين العقد، وإن كانت لا تليه، فلا بد من ذكر ابتدائها؛ لأنه أحد طرفي العقد، فاحتيج إلى معرفته، كالانتهاء، وإن أطلق فقال: أجرتك سنةً، أو شهرًا، صح، وكان ابتداؤه من حين العقد".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" مع "حاشية الشلبي"(5/ 148) قال: (وتصح الإجارة وفسخها
…
مضافًا)، أي: مضافًا إلى الزمان المستقبل؛ لأن الإجارة تتضمن تمليك المنافع، والمنافع لا يتصور وجودها في الحال، فتكون مضافةً ضرورةً.
(قوله: وهذا هو معنى الإضافة). قلت: وليس ما ذكر هو المراد بإضافتها، وإنما المراد إضافة العقد إلى الزمان المستقبل كأن يقول: آجرتك هذه الدار غدًا شهرًا بكذا، أو يقول وهو في يوم السبت مثلًا: آجرتك هذه الأرض يوم الجمعة سنةً بعشرةٍ، أو قال وهو في رجب أو في ربيع الأول: آجرتك دابَّتي هذه رأس شعبان شهرًا بكذا، ونحو ذلك، وقد اختلف المشايخ في هذه الإجارة، فاختار الشيخ ظهير الدين أن الإجارة المضافة لا تجوز. وقال صاحب "المحيط": إضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل جائزة. وقال في "الفصول": المختار أنها جائزة. وانظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين""رد المحتار"(5/ 243).
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(4/ 43) =
خلافًا للشافعية
(1)
، فإنهم أكثر المذاهب تشددًا في هذا الباب.
ولم يفصل المؤلف الكلام في هذه المسألة، وإنما أشار إليها إشارةً سريعةً كما سيأتي.
قوله: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ فِي اسْتِئْجَارِ الأَرْضِ غَيْرِ المَأْمُوتَةِ، وَالتَّغْيِيرِ فِيمَا بَعْدُ مِنَ الزَّمَان. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي مِقْدَارِ الزَّمَان الَّذِي تُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ المَنَافِعُ، فَمَالِكٌ يُجِيزُ ذَلِكَ السِّنِينَ الكَثِيرَةَ مِثْلَ أَنْ يَكْرِيَ الدَّارَ لِعَشَرَةِ أَعْوَام، أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا لَا تتغَيَّرُ الدَّارُ فِي مِثْلِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَكْثَرَ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ).
اختلف العلماء في مدة الانتفاع بالعين المؤجرة، فذهب مالك
(2)
= قال: (جاز كراء
…
ودار)، وربع فرن وحانوت ونحوها (غائبة)، فأولى حاضرة (كبيعها)، وهي غائبة، فلا بد من رؤية سابقة لا تتغير بعدها، ولو بعدت أو بوصف، ولو من المكري أو على خيار بالرفلة (أو) كراء (نصفها) مثلًا، والباقي له أو لشريكه.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 255) قال: "ولإجارة العين المعقود على منفعتها معينة كانت أو موصوفة في الذمة (صورتان): إحداهما: أن تكون (إلى أمد) كهذه الدار شهرًا أو فرسًا صفته كذا ليركبه يومًا (وشرط) في هذه الصورة (علمه) أي: الأمد كشَهْرٍ من الآن أو وقت كذا؛ لأنه الضابط للمعقود عليه، المعرف له، وإن استأجره سنةً وأطلق، حُملَت على الأهلة؛ لأنها المعهودة شرعًا؛ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، فإن قالا: سنة عددية أو بالأيام فثلاث مئة وستون يومًا، وإن قال: سنة رومية أو شمسية أو فارسية".
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب" للأنصاري (2/ 407) قال: (لا يصح إيراد إجارة العين على مستقبل كأجرتك الدابة سنة من غدٍ أو لتخرج) بها (غدًا)؛ لأن منفعتها في الغد أو نحوه غير مقدورة التسليم في الحال، فأشبه بيع العين على أن يسلمها غدًا.
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (7/ 11) قال: (ص) وعدم التسمية لكل سنة (ش) يعني أنه يجوز للشخص أن يستأجر الرقبة سنين معلومة بأجرة معلومة وإن لم يسم ما يخص كل سنة من الأجرة، كما يجوز له أن يستأجر الرقبة مدة سنة بأجرة معلومة وإنْ لم يسم ما يخص كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر من الأجرة.
وأبو حنيفة
(1)
وأحمد
(2)
إلى جواز استئجار العين المؤجرة أيَّ مدة كانت ما دام أنها لا تتغير خلال هذه المدة، فلم يَرِدْ نصٌّ من كتاب ولا سُنَّة يمنع من ذلك.
وعن الشافعي رحمه الله قولان
(3)
:
الأول: أن الإجارة لا تتجاوز سنةً، فإذا انتهت جاز تجديد العقد؛ لأن الحاجة لا تدعو لأكثر من ذلك.
الثَّانِي: أنها تجوز إلى ثلاثين سنةً، ولا تجوز إلى ما بعد ذلك؛ لأن العينَ المستأجرة تتغير غالبًا خلال ثلاثين سنةً.
وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح؛ لقول الله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} .
(1)
"بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 181) قال: ومنها: بيان المدة في إجارة الدُّور والمنازل، والبيوت، والحوانيت، وفي استئجار الظئر؛ لأن المعقود عليه لا يصير معلوم القدر بدونه، فترك بيانه يفضي إلى المنازعة، وسواء قصرت المدة أو طالت من يوم أو شهر أو سنة أو أكثر من ذلك بعد أن كانت معلومة، وهو أظهر أقوال الشافعي.
وفي بعضها أنه لا يجوز أكثر من سنة، وفي بعضها أنه لا يجوز أكثر من ثلاثين سنة، والقولان لا معنى لهما؛ لأن المانع إنْ كان هو الجهالة فلا جهالة، وإنْ كان عدم الحاجة، فالحاجة قد تدعو إلى ذلك، وسواء عين اليوم أو الشهر أو السنة أو لم يعين.
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 324)، قال: ولا تتقدر أكثر مُدَّة الإجارة، بل تَجُوز إجارة العين المدة التي تبقى فيها وإنْ كثرت .. وهذا قول كافة أهل العلم.
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 473) قال: " (يصح عقد الإجارة مدة) معلومة (تبقى فيها العين) المؤجرة (غالبًا) لإمكان استيفاء المعقود عليه، ولا يقدر بمدة، إذ لا توقيف فيه، والمرجع في المدة التي تبقى فيها العين غالبًا إلى أهل الخبرة، فيؤجر الدار والرقيق ثلاثين سنةً، والدابة عشر سنين، والثوب سنة أو سنتين على ما يليق به، والأرض مئة سنة أو أكثر، (وفي قول لا يُزَاد على سنةٍ) لاندفاع الحاجة بها، (وفي قولٍ) على (ثلاثين) سنةً؛ لأنها نصف العُمُر الغالب".
والشاهد: أنَّ موسى عليه السلام أجر نفسه عشر سنوات، وهي مدة طويلة يقوم فيها برعي الغنم.
قوله: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ وَابْنِ المَاجِشُونِ فِي أَرْضِ المَطَرِ، وَأَرْضِ السَّقْيِ بِالعُيُونِ، وَأَرْضِ السَّقْيِ بِالآبَارِ وَالأَنْهَارِ، فَأَجَازَ ابْنُ القَاسِمِ فِيهَا الكِرَاءَ السِّنِينَ الكَثِيرَةَ، وَفَصَّلَ ابْنُ المَاجِشُونِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ الكِرَاءُ فِي أَرْضِ المَطَرِ إِلَّا لِعَامٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا أَرْضُ السَّقْيِ بِالعُيُونِ فَلَا يَجُوزُ كرَاؤُهَا إِلَّا لِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ وَأَرْبَعَةٍ، وَأَمَّا أَرْضُ الآبَارِ وَالأَنْهَارِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا لِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ فَقَطْ).
اختلفَ المالكية في الأرض التى تُسْقى بالأمطار أو الآبار أو العيون، وهي فرع عن المسألة السابقة.
فذهب ابن القاسم إلى جواز الكراء السنين الكثيرة
(1)
.
وذهب ابن الماجشون وجماعة إلى التفصيل
(2)
:
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 229) قال: فأما جواز عقد الكراء فيها، فإنه جائز على مذهب ابن القاسم في "المدونة" فيها كلها من غير تفصيل، كانت مأمونةً أو غير مأمونة للسنين الكثيرة.
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 230) قال: وتنقسم الأرضون على مذهب ابن الماجشون في جواز عقد الكراء فيها والنقد على أربعة أقسام:
أحدها: أرض النيل المأمونة.
والثاني: أرض السقي بالأنهار والآبار.
والثالث: أرض السقي بالعيون.
والرابع: أرض المطر.
فأما أرض النبل المأمونة، فيجوز الكراء فيها للأعوام الكثيرة بالنقد وبغير النقد -قرب إبان شربها وريها- هذا قوله في "المدونة".
فأما أرض السقي بالأنهار والآبار، فيجوز الكراء فيها للعشرة الأعوام لا أكثر، والنقد فيها على مذهبه جائز، قاله الفضل.
وأما أرض السقي بالعيون، فلا يجوز كراؤها، إلا للثلاثة الأعوام والأربعة، ولا ينقد إلا سنة بسنةٍ، يريد أنه ينقد السنة الثانية قبل تمام الأولى بيَسِيرٍ وَإن لم ترو الأرض، هذا قوله ومذهبه في الواضحة.
* فإن كانت تُسقى بماء المطر، فلا يجوز لأكثر من عام واحد؛
لأنها غير مأمونة التغير.
* وإِنْ كَانَتْ تُسقى بالعيون فلا يجوز كراؤها إلا لثلاثة أعوام أو أربعة؛ فقد تجف العين أو يضعف ماؤها.
* وإن كانت تُسقى بالآبار والأنهار، فلا يجوز إلا لعشرة أعوام.
قوله: (فَالِاخْتِلَافُ هَاهُنَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي تَحْدِيدِ أَوَّلِ المُدَّةِ، وَفِي طُولِهَا، وَفِي بُعْدِهَا مِنْ وَقْتِ العَقْدِ).
هذا تلخيص لما سبق ذكره، وتفصيله أما تحديد أول المدة فكأن يقول: أجرتك سنةً، والشافعية على أنه لا يجوز لما فيه من الجهالة، والجمهور قالوا بالجواز وينصرف إلى ما جرت به العادة، وهي ما يلي العقد.
وأما طول المدة، فالجمهور على عدم تحديدها، وللشافعي قولان:
الأول: أنه لا تجوز الزيادة على سنة.
والثاني: أنها تجوز إلى ثلاثين سنة.
أما بعدها من وقت العقد فكأن يؤجر داره لسنوات لم تأتِ، والجمهورُ على جواز ذلك خلافًا للشافعية.
قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِذَا لَمْ يُحَدِّدِ المُدَّةَ، وَحَدَّدَ القَدْرَ الَّذِي يَجِبُ لِأَقَلِّ المُدَّةِ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَكْتَرِي مِنْكَ هَذِهِ الدَّارَ الشَّهْرَ بِكَذَا، وَلَا يَضْرِبَانِ لِذَلِكَ أَمَدًا مَعْلُومًا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ: أَبِيعُكَ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ بِحِسَابِ القَفِيزِ بِدِرْهَمٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَسَبَبُ الخِلَافِ: اعْتِبَارُ الجَهْلِ الوَاقِعِ فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ: هَلْ هُوَ مِنَ الْغَرَرِ المَعْفُوِّ عَنْهُ أَوِ المَنْهِيِّ عَنْهُ؟).
اختلف أهل العلم في تحديد القدر الذي يجب لأقل المدة دون تحديد المدة:
فذهب الشافعي إلى عدم الجواز لحصول الجهالة
(1)
، والجهالةُ نوعٌ من الغبن
(2)
، وقد نهى الإسلام عنه.
وذهب مالكٌ وأصحابه إلى الجواز
(3)
قياسًا على بيع القفيز من صبرة الطعام بدرهم، فيكون غررًا معفوًّا عنه.
واختلف الحنابلة
(4)
في هذه المسألة على نحو ما سبق.
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 454) قال: "ثمَّ تارةً تقدَّر المنفعة بزمانٍ فقط؛ كدارٍ أي: كإجارة دارٍ وثوب واناءٍ سنة معينة متصلة بالعقد، فيقول: أجرتك هذه الدار بالسكنى سنةً. فإن قال: على أن تسكنها، لم يصح كما في "البحر"، ولو أجره شهرًا مثلًا، وأطلق صح، وجعل ابتداء المدة من حينئذ؛ لأنه المفهوم المتعارف. وإن قال ابن الرفعة: لا بد أن يقول من الآن، ولا تصح إجارة شهر من هذه السنة، وبقي فيها أكثر من شهر للإبهام، فإنْ لم يبقَ فيها غيره صح. وقوله: أجرتك من هذه السنة كل شهرٍ بدرهمٍ، أو أجرتك كل شهرٍ منها بدرهمٍ فاسد؛ لأنه لم يعين فيها مدة.
فإن قال: أجرتك هذه السنة كل شهرٍ بدرهم صح؛ لأنه أضاف الإجارة إلى جميع السنة بخلافه في الصورة السابقة. وَلو قالً: أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد فبحسابه، صح في الشهر الأول".
(2)
هو ما يتغابن الناس في مثله من الغبن
…
وهو الخداع، يراد به ما يجري بينهم من الزيادة والنقصان، ولا يتحرزون عنه، وما لا يتغابن الناس فيه هو ما يتحرزون عنه من التفاوت في المعاملات. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 64).
(3)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" الدردير (4/ 44، 45) قال: " (و) جاز (عدم بيان الابتداء) لمكترٍ شهرًا أو سنة مثلًا من غير ذكر مبدأ (وحمل من حين العقد) وجيبة أو مشاهرة، فإن وقع على شهرٍ في أثنائه فثلاثون يومًا من يوم العقد
…
كوجيبة، وهي لقب لمدة محدودة كما أن المُشَاهرة لقب لمدة غير محدودة كما تقدم، وهو تشبيه في اللزوم المفهوم من قوله: فقدره نقد أو لا (بشهر كذا) بالإضافة أو سنة كذا، أو يوم كذا، أو عشرة أشهر أو أعوام أو أيام بكذا، فإن بَيَّن المبدأ والا فمن يوم العقد كما مر
…
واذ لم يُبيِّن المبدأ، حمل من حين العقد صار بمنزلة قوله: هذا الشهر".
(4)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 5) قال: " (ويشترط أن تكون المدة معلومةً)؛ لأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه المعرفة له، فاشترط العلم بها =
قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي البَيْعِ وَالإِجَارَةِ، أَجَازَهُ مَالكٌ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالبَيْعِ إِلَّا الإِجَارَةَ فَقَطْ).
أيْ: هل يجوز الجمع بين البيع والإجارة؟ كأنْ يَقُولَ: أبيعك هذه على أن تأجرني دارك، فهذا بيعٌ جرَّ منفعةً، فذهب أبو حنيفة
(1)
والشافعي
(2)
= كالمكيلات، ويشترط أيضًا أن (يغلب على الظن بقاء العين فيها، وإن طالت) المدة؛ لأن المصحح له كون المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة منها غالبًا، وظاهره: ولو ظن عدم العاقد قال في "الرعاية": ولا فرق بين الوقف والملك، بل الوقف أَوْلَى، قاله في "المبدع"، وفيه نظرٌ، (فإن قدر المدة بسنة مطلقة حمل على السنة الهلالية)؛ لأنها المعهودة، فإن وصفها به كان تأكيدًا".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 252) قال: "ولو كان المشتري تصرف فيه، فلا سبيل للبائع عليه؛ سواء كان تصرفًا يحتمل الفسخ كالبيع، والرهن، والإجارة، ونحوها أو لا يكون كالإعتاق ونحوه، بخلاف ما إذا قبضه بغير إذن البائع قبل نقد الثمن، وتصرف فيه تصرفًا يحتمل الفسخ أنه يفسخ، ويسترد؛ لأن هناك لم يوجد الإذن بالقبض، فكان التصرف في المبيع إبطالًا لحقه، فيرد عليه إذا كان محتملًا للرد، وهاهنا وجد الإذن بالقبض، فكان تصرف المشتري حاصلًا عن تسليط البائع فنفذ، وبطل حقه في الاسترداد كالمقبوض على وجه البيع الفاسد إذا تصرف فيه المشتري أنه يبطل حق البائع في الفسخ إلا أن في البيع الفاسد إذا أجر المبيع تفسخ الإجارة، وهاهنا لا تفسخ؛ لأنٍ الإجارة تفسخ بالعذر، وقد تحقق العذر في البيع الفاسد؛ لأنه مستحق الفسخ حقًّا للشرع دفعًا للفساد، فجعل استحقاق الفسخ بسبب الفساد عذرًا في فسخ الإجارة، ولا فساد هاهنا، فلا عذر في الفسخ، فلا يفسخ". وانظر: "فتح القدير" لابن الهمام (6/ 446).
(2)
وهو أحد الوجهين عند الشافعية. يُنظر: "فتح العزيز بشرح الوجيز = الشرح الكبير" للرافعي (8/ 419) قال: "وفي إجارة المبيع قبل قبضه وجهان (أحدهما) يصح؛ لأن مورد عقد الإجارة غير مورد عقد البيع، فلا يتوالى ضمانا عقدين من جنسٍ واحدٍ، (والثاني) لا يصحُّ لضعف الملك، ولأن التسليم مستحق فيها كما في البيع (والأصح) عند المعظم: الثاني، وعند صاحب الكتاب: الأول".
ويقصد بصاحب الكتاب الغزالي في "الوجيز"(1/ 300) قال: "ولا يقاس على البيع العتق (و) والهبة (و) والرهن، وكذلك لا يقاس عليه والإجارة التزويج على الأصح". وانظر: "فتح العزيز بشرح الوجيز= الشرح الكبير" للرافعي (8/ 413).
وأحمد
(1)
إلى المنع؛ لأن هذَا موضع شبهة، وأَجَازه مالكٌ
(2)
رحمه الله.
قوله: (وَلَمْ يُجِزْ مَالكٌ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالبَيْعِ إِلَّا الإِجَارَةَ فَقَطْ)، هكذا قال المؤلف، وقد مرت بنا صور أخرى أجاز مالكٌ أن تقترن بالبيع غير الإجارة.
قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي إِجَارَةِ المُشَاعِ، فَقَالَ مَالِكُ وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ جَائِزَةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الِانْتِفَاعَ
(1)
هي رواية عند الحنابلة. يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 31)، قال: "وفاسده أي: الشرط الفاسد ثلاثة أنواع: أحدها مبطل للعقد من أصله
…
أو شرط إجارة كـ: علَى أن تؤجرني دارك بكذا
…
لما تقدم "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعةٍ"، وهو (أي: هذا النوع) بيعتان في بيعة، المنهي عنه قاله أحمد، والنهي يقتضي الفساد. وانظر:"الإنصاف" للمرداوي (4/ 349).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 5) قال: "فلا تفسد (أي: الإجارة)، ولا يفسد البيع أيضًا إذ لا يمكن أن يكون العقد الواحد صحيحًا في شيء، وفاسدًا في شيء آخر
…
قوله: في الصورة الأولى، أي: وهي ما إذا كانت الإجارة في نفس المبيع
…
قوله: أو ضرب أجل الإجارة .. قال شيخنا: صوابه الواو إذ لا بد من الأمرين الشروع ولو حكمًا؛ كتأخيره ثلاثة أيام وضرب الأجل".
وهو الوجه الثاني عند الشافعية. يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 399) قال: "ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع كأن يقول: أجرتك داري شهرًا، وبعتك ثوبي هذا بدينار أو إجارة وسلم كأن يقول: أجرتك داري شهرًا، وبعتك صاع قمح في ذمتي سلمًا بكذا، صحَّا في الأظهر". وانظر: "الشرح الكبير" للرافعي (8/ 419).
* ورواية عند الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 30) قال: "وكل من البيع والإجارة يصح إفراده بالعقد، فجاز الجمع بينهما كالعينين، وما احتج به المخالف من نَهْيه صلى الله عليه وسلم عن بيعٍ وشرطٍ لم يصحَّ.
قال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع، وهذا يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد، فَإنْ لم يعلم النفع بأن شرط حمل الحطب على بائعه إلى منزله وهو لا يعلمه لم يصحَّ الشرط كما لو استأجره على ذلك ابتداءً، وكذا لو شرط بائع نفع غير مبيع، أو مشتر نفع بائع في غير مبيع، ويفسد البيع".
بِهَا مَعَ الإِشَاعَةِ مُتَعَذِّرٌ؛ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ مَعَ شَرِيكِهِ كَانْتِفَاعِ المُكْرِي بِهَا مَعَ شَرِيكِهِ (أَعْنِي: رَبَّ المَالِ)).
"المُشَاع": السلعة المشتركة بين اثنين كدارٍ أو أرضٍ، ولا يعرف كل منهما نصيبه على وجه التحديد، فإن أجرها على شريكه، فجائزٌ بلا خلاف.
واختلف العلماء فيما إذا أجرها على غير شريكه.
فذهب مالكٌ
(1)
والشافعي
(2)
وكذلك أحمد
(3)
إلى جواز ذلك؛ سواء كان المؤجر مما ينقسم أو مما لا ينقسم.
(1)
يُنظر: "أسهل المدارك" للكشناوي (2/ 332) قال: وتجوز إجارة المشاع كبيعه، يعني أنه يجوز إجارة الشيء المشاع قبل القسم. قال في "المدونة": سمعت مالكًا سئل عن رَجُلٍ اكترى نصف دار مشاعًا غير مقسوم، قال: لا بأس بذَلكَ. قُلْتُ: هل يجوز أن يكري نصف دار أو سدس دار مشاعًا غير مقسوم؟ قال: هو جائز. قال ابن القاسم: ولقد سألت مالكًا عن الرجلين يكتريان دارًا، فيريد أحدهما أن يكري نصيبه منها من رجلٍ من غير شريكه، أترى لشريكه فيها شفعةً؟ فقال: لا شفعة له، ولا يشبه هذا عندي البيع، فهذا من قول مالكٍ يدلك على أن الكراء في نصف الدار إنْ كان غير مقسومٍ أنه جائز، وكذلك بلغني عن مالك.
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (5/ 184) قال: ولو قال: أجرتك نصف الدابة إلى موضع كذا، أو أجرتك الدابة لتركبها نصف الطريق، صح، ويقتسمان بالزمان أو المسافة، وهذه إجارة المشاع، وهي صحيحةٌ كبيع المشاع. وانظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 278).
(3)
بل مذهب الحنابلة على المنع وعدم الجواز. يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 33) قال: قوله: (ولا يجوز إجارة المشاع مفردًا لغير شريكه)، هذا المذهب بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب. قال المصنف في "المغني": قال أصحابنا: ولا يجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجر الشريكان معًا، وجزم به في "الوجيز" وغيره، وقدمه في "الفروع" وغيره. قال في "الفائق": ولا يصح إجارة مشاع مفردًا لغير شَرِيكٍ أو معه إلا بإِذْنٍ. قال في "الرعاية": لا يصح إلا لشريكه بالباقي، أو معه لثالثٍ. انتهى. وعنه: ما يدلُّ على جوازه. اختاره أبو حفص العكبري، وأبو الخطاب، وصاحب "الفائق"، والحافظ ابن عبد الهادي في "حواشيه". وانظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 565).
وذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز ذلك
(1)
.
قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ اسْتِئْجَارُ الأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكسْوَتِهِ، وَكَذَلِكَ الظِّئْرُ، فَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالكٌ عَلَى الإِطْلَاقِ: (أَعْنِي: فِي كُلِّ أَجِيرٍ)؛ وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الظِّئْرِ فَقَطْ. وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ هِيَ إِجَارَةٌ مَجْهُولَةٌ، أَمْ لَيْسَتْ مَجْهُولَةً؟).
" الظئر": المرأة التي تُرْضع غير ولدها
(2)
.
واختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الجواز مطلقًا، وهو مذهب مالك
(3)
، ورواية عن أحمد
(4)
، وحجتهم ثبوت هذا الفعل عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعن
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 104) قال: "ولا تجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة إلا من الشريك".
(2)
انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 317).
(3)
يُنظر: "أسهل المدارك" للكشناوي (2/ 340) قال: "وتجوز إجارة الخادم والظئر بطعام وكسوته ويلزم المشبه"، يعني كما تقدم لابن جزي أنه قال: ويجوز استئجار الأجير للخدمة والظهر بطعامه وكسوته على المتعارف. اهـ. قال مالكٌ: لا بأس أن يؤاجر الحر العبد أجلًا معلومًا بطعام في الأجل أو بكسوته، وكذلك إنْ كان مع الكسوة أو الطعام دنانيرٍ أو دراهم أو عروض بعينها معجلة، فلا بأس به، هانْ كانت عروضًا مضمونة بغير عينها جاز تأخيرها إن ضربا لذلك أجلًا كأجل السلم.
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 12) قال: قوله (إلا أنه يصح أن يستأجر الأجير
بطعامه وكسوته، وكذلك الظئر)، وهذا المذهب مطلقًا. وعليه جماهير الأصحاب.
قال في "القواعد": من الأصحاب مَنْ لم يحك فيه خلافًا. قال الزركشي: هذا المشهور من الروايتين .. واختيار القاضي في التعليق وجماعة. قال الطوفي في "شرح الخرقي": هذا ظاهر المذهب. قال في "القواعد": هذا أصح. ونصره المصنف، والشارح، وابن رزين وغيرهم، وجزم به في "الوجيز" وغيره، وقدمه في "المحرر"، و"الفروع"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير"، و"التلخيص"، و"النظم"، و"الفائق". وانظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 551).
عليٍّ رضي الله عنه قال: كنت أدلو الدلو بتمرةٍ
(1)
، وكان أبو بكر، وعمر وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه يستأجرون الأُجَراء بطعامهم وكسوتهمً
(2)
، ولم يعلم لهم مخالفٌ من الصحابة، وقَدْ حكَى بعضهم الإجماع على ذلك
(3)
، والصحيح أن في المسألة خلافًا.
واحتجوا كذلك بما أخرجه ابن ماجه في "سننه"، عن عتبة بن المنذر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: "إن موسى صلى الله عليه وسلم أجر نفسه ثماني سنين أو عشرًا على عفة فرجه، وطعام بطنه"
(4)
.
قالوا: هذا دليلٌ على جواز ذلك، فـ "شرعُ مَنْ قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد نَسْخه"، وهذا استدلال قوي لولا ضعف الحديث.
القول الثاني: أنه جَائزٌ في الظئر فقط، وهو مذهب أبي حنيفة
(5)
، ورواية عن أحمد
(6)
، واحتجُّوا لقول الله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، فأوجب -سبحانه الله وتعالى - الطعام أي: الرزق والكساء مقابل الرضاعة.
القول الثالث: المنع مطلقًا، وهو مذهب الشافعي
(7)
، ورواية عن
(1)
أخرجه ابن ماجه (2447)، وحسَّنه الأَلْبَانيُّ في "صحيح ابن ماجه"(5/ 447).
(2)
لم أقف عليه.
(3)
حكاه البهوتي في "كشاف القناع"(3/ 551) قال: "
…
وأما الأجير فلما رُوِيَ عن أبي بكرٍ وعُمَر وأبي موسى رضي الله تعالى عنهم: أنهم استأجروا الأُجَراء بطعامهم وكسوتهم، ولم يظهر له نكير، فكان كالإجماع".
(4)
حديث (2444)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1488).
(5)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 104) قال: "ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة، ويجوز بطعامها وكسوتها، وليس للمستأجر أن يمنع زوجها من وطئها، فإن حبلت كان لهم أن يفسخوا الإجارة إذا خافوا على الصبي من لبنها، وعليها أن تصلح طعام الصبي وإنْ أرضعته في المدة بلبن شَاةٍ، فلا أجر لها".
(6)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 16) قال: وقال في القاعدة الثانية والسبعين: في استئجار غير الظئر من الأجر بالطعام والكسوة روايتان، أصحهما: الجواز كالظئر.
(7)
يُنظر: "المجموع" للنووي (15/ 29) قال: فهل يجوز أن يستأجر المرضعة بطعامها وكسوتها؟ مذهب الشافعي على أنَّ ذلك لا يجوز في الظئر، ولا في غيره من أنواع الإجارات.
أحمد
(1)
، وذلك لوجود الجهالة، فالرضاعة - مثلًا - تختلف من شخصٍ لآخر، وكذلك الرضعات وما يحتاج إليه الصبي، ولذلك اشترط العلماء في الإرضاع أن تكون الأجرةُ معلومةً، وكذلك المدة، وأن ترى المرأة الرضيع الذي تريد أن ترضعه؛ لأنه قد يكون كبيرًا، فينبغي أن تعرفه، في الجانب الآخر يشترطون في حق المرأة المرضعة أن تعتني بغذائها حتى تدر اللبن، فترضع ذلك الطفل الذي تم استئجارها لإرضاعه.
قوله: (فَهَذِهِ هِيَ شَرَائِطُ الإِجَارَةِ الرَّاجِعَةُ إِلَى الثَّمَنِ وَالمَثْمُونِ).
(الثَّمَنِ وَالمَثْمُونِ)، أَيْ: العَين المستأجرة، والأجرة نفسها.
قوله: (وَأَمَّا أَنْوَاعُ الإِجَارَةِ: فَإِنَّ العُلَمَاءَ عَلَى أَنَّ الإِجَارَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِجَارَةُ مَنَافِعِ أَعْيَانٍ مَحْسُوسَةٍ، وَإِجَارَةُ مَنَافِعَ فِي الذِّمَّةِ قِيَاسًا عَلَى البَيْعِ).
الإجارة على نوعين:
الأول: إجارة منافع أعيان محسوسة، كأن تؤجر دارًا أو دابةً أو سيارةً حاضرةً بعينها، أو أن تستأجر أجيرًا على عملٍ لمدة شهرٍ مثلًا، فتلك إجَارةٌ على مدةٍ معينةٍ.
الثاني: إجارة منافع في الذمة، أيْ: على شيءٍ موصوفٍ في الذمة كأن تقول: مَنْ يخيط لي هذا الثوب فله كذا وكذا، ويحدد أوصافه، وتلك إجارة على عملٍ، وهي جائزة قياسًا على البيع، كما ذكر المؤلف.
قوله: (وَالَّذِي فِي الذِّمَّةِ مِنْ شَرْطِهِ الوَصْفُ، وَالَّذِي فِي العَيْنِ مِنْ شَرْطِهِ الرُّؤْبَةُ أَوِ الصِّفَةُ عِنْدَهُ كَالحَالِ فِي المَبِيعَاتِ. وَمِنْ شَرْطِ الصِّفَةِ
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 364) قال: اختلفت الرواية عن أحمد، فيمن استأجر أجيرًا بطعامه وكسوته، أو جعل له أجرًا، وشرط طعامه وكسوته
…
وروي عنه رواية ثالثة: لا يَجُوز ذلك بحالٍ، لا في الظئر ولا في غيرها، وبه فال الشافعي
…
لأن ذلك يختلف اختلافًا كثيرًا متباينًا، فيكون مجهولًا، والأجر من شرطه أن يكون معلومًا.
عِنْدَهُ: ذِكْرُ الجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَذَلِكَ فِي الشَّىْءِ الَّذِي تُسْتَوْفَى مَنَافِعُهُ، وَفي الشَّيْءِ الَّذِي تُسْتَوْفَى بِهِ مَنَافِعُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَصْفِ المَرْكُوبِ مَثَلًا، وَالحِمْلُ الَّذِي تُسْتَوْفَى بِهِ مَنْفَعَةُ المَرْكُوبِ).
(وَالَّذِي فِي الذِّمَّةِ مِنْ شَرْطِهِ الوَصْفُ)، الدَّقيق؛ لأنك لا تراه، بَلْ هو شيءٌ في الذمة، فلا بدَّ أن يكون منضبطًا.
(وَالَّذِي فِي العَيْنِ مِنْ شَرْطِهِ الرُّؤْيَةُ أَوِ الصِّفَةُ)، كما هو الحال في البيع؛ لأن الإجارةَ عبارةٌ عن بيع منافع.
قال: (وَمِنْ شَرْطِ الصِّفَةِ عِنْدَهُ: ذِكْرُ الجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَذَلِكَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي تُسْتَوْفَى مَنَافِعُهُ
…
إلخ)، فإذا أراد استئجار سيارة مثلًا، فلا بد من معرفة نوعها وقدرة تحمُّلها، فإنْ ظهر بها عيب لا يحصل به المقصود، يعتبر هذا عيبًا يفسخ العقد به.
قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الرَّاكِبَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُوصَفَ
(1)
، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْتَاجُ إِلَى الوَصْفِ
(2)
).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" للدردير (4/ 35، 36) قال: "قوله: وعلى حمل آدمي"، أي: وجازت الإجارة على حمل آدمي لم يَرَه رب الدابة، ويلزمه حَمْل ما أتى به المستأجر من ذكرٍ أو أنثى حيث كان غير فادح، وأما الفادح فلا يلزمه حمله. (قوله: لم يره) أي: ولم يوصف له أيضًا، وإنْ لم يكن على خيار بالرؤية هذا، وقد استظهر ابن عرفة وجوب تعيين كون الراكب رجلًا أو امرأةً؛ لأنَّ ركوب النساء أشق، وهو خلاف ظاهر المصنف كالمدونة
…
(قوله: والرؤية هنا علمية) أي: والمعنى: جَازت الإجارة على حمل آدميِّ انتفى علم رب الدابة به؛ لكونه لم يره ببصره، ولم يُوصَف له (قوله: فليست) أي: الأنثى من الفادح مطلقًا، بل ينظر لها، فإن كانت فادحة لم يلزمه، وإلا لزمه. (قوله: ومثل الفادح المريض) أي: فإذا استأجره على حمل آدميٍّ أو رجلِ، فأتاه بمريض، لم يلزمه حمله، حيث جزم أهل المعرفة بأنه يتعب الدابة، وينبغي أن يَكون مثله من يغلب عليه النوم أو عادته عقر الدواب بركوبه".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 151) قال: "ويشترط في إجارة دابة لركوب عينًا أو ذمةً معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام له بنحو ضخامةٍ أو =
وإنما المطلوب هو ضبط الوصف في المستأجر، وهُوَ الشيء المركوب، أما الراكب فلا حاجة إلى وصفه .. هذا عند مالك، وأما عند الشافعي فلا بد من وصفه.
قوله: (وَعِنْدَ ابْنِ القَاسِمِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّاعِيَ عَلَى غَنَمٍ بِأَعْيَانِهَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ العَقْدِ اشْتِرَاطُ الخُلْفِ
(1)
، وَعِنْدَ غَيْرِهِ تَلْزَمُ الجُمْلَةُ بِغَيْرِ شَرْطٍ
(2)
).
" الخلف": هو الإتيان بالشيء كما اتفق عليه، أي: لا بد أن ينص على أن يكون كذا أو كذا، وهذا عند ابن القاسم دون غيره
(3)
.
=نحافةٍ؛ ليعرف زنته تخمينًا، وقول الجلال البلقيني:"لا بد من الوزن مع الوصف" ضعيف، وإنما اعتبروا في نحو المحمل الوصف مع الوزن؛ لأنه إذا عين لا يتغير، والراكب قد يتغير بسمن أو هزال، فلم يعتبر جميعهما فيه. وقيل: لا يكفي الوصف، وتتعين المشاهدة للخبر السابق "ليس الخبر كالمعاينة"، ولما يأتي أنه لا يكفي وصف الرضيع، وأطالوا في ترجيحه؛ لأنه الذي عليه الأكثرون، بل الأول بحث لهما فقط (وكذا الحكم فيما) معه من زاملةٍ ونحوها كما بأصله".
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 167) قال: "أحدها: أن يستأجره على عملٍ في شيءٍ بعينه لا غاية له إلا بضرب الأجل فيه، وذلك مثل أن يستأجره على أن يرعى له غنمًا بأعيانها، أو يتَّجر له في مالٍ بعينه شهرًا أو سنةً، وما أشبه ذلك؛ فهذا اختلف في حد جواز الإجارة فيه، فقيل: إنها لا تجوز إلا بشرط الخلف، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في "المدونة" وغيرها".
(2)
وهو مذهب سحنون وابن حبيب؛ كما حكاه ابن رشد الجد في "المقدمات الممهدات"(167/ 2) قال: "وقيل: إنها تجوز بغير شرط الخلف، والحكم يوجب الخلف، وهو قول سحنون وابن حبيب". وانظر: "المختصر الفقهي" لابن عرفة (5/ 322).
(3)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد (8/ 478) قال: "الاستئجار على الأعمال في الأشياء المعينات تنقسم على أربعة أقسام:
أحدها: أن يستأجره على عمل في شيء بعينه، لا غاية له إلا بضرب الأجل فيه، وذلك مثل أن يستأجره على أن يرعى له غنمًا بأعيانها، أو يتجر له في مال بعينه شهرًا أو سنة، وما أشبه ذلك، فهذا اختلف في حد جواز الإجارة فيه، فقيل: إنها لا تجوز إلا بشرط الخلف، وهو مذهب ابن القاسم"، وروايته عن مالك في "المدونة"، وغيرها.
قوله: (وَمِنْ شَرْطِ إِجَارَةِ الذِّمَّةِ أَنْ يُعَجَّلَ النَّقْدُ عِنْدَ مَالِكٍ لِيَخْرُجَ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ)
(1)
.
تعجيلُ النقد شرطٌ لا بد منه عند المالكية، خلافًا للشافعية
(2)
والحنابلة
(3)
، إذ يرون تقديم النقد، لكن ليس على جهة الوجوب، ولا الشرطية، فله أن يستأجر دارًا أو نحوها على أن تكون الأجرة منجمةً.
قوله: (كمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ إِجَارَةِ الأَرْضِ غَيْرِ المَأْمُونَةِ السَّقْيِ عِنْدَهُ أَلَّا يُشْتَرَطَ فِيهَا النَّقْدُ إِلَّا بَعْدَ الرَّيِّ).
الأرض غير مأمونة السقي هي التي قد ينقطع عنها الماء، واشترط مالكٌ ألا يُشْترط فيها النقد إلا بعد الري خشية ألا يأتي الماء، فيتضرر
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (5/ 394) قال: "اعلم أن التعيين تارةً يكون في الأجرة، وتارةً يكون في المنفعة المستأجرة، واعلم أنه يقضى بتعجيل الأجرة إذا شرط التعجيل؛ سواء كانت الأجرة شيئًا بعينه، أو شيئًا مضمونًا في الذمة، وكذلك يقضى بالتعجيل إذا كانت العادة التعجيل؛ سواء كانت الأجرة شيئًا معينًا، أو شيئًا مضمونًا، وسواء في ذلك الأجرة المعينة والمضمونة، وكذلك يقضى بالتعجيل إذا كانت المنفعة المستأجرة مضمونة في ذمة الأجير، وتأخر شروعه في العمل يومين، وأما لو أخَّره إلى يوم واحد، فيجوز التقديم والتأخير".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 126) قال: "وإجارةُ العين الأجرةُ فيها كالثمن في البيع، فحينئذٍ لا يُشْترط ذلك أي: قبض الأجرة المعينة، والتي في الذمة في المجلس فيها؛ كثمن المبيع، نعم يتعيَّن محل العقد لتسليمها على ما مَرَّ فيه في السلم، ويجوز في الأجرة فيها أي: إجارة العين التعجيل والتأجيل للأجرة، لكن إنْ كانت الأجرة في الذمة، إذ الأعيان لا تؤجل، والاستبدال عنها والحوالة بها وعليها، والإبراء منها مطلقًا".
(3)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (81/ 6) قال: "يجوز تأجيل الأجرة مطلقًا على الصحيح من المذهب. وعليه الأصحاب
…
وقيل: يجوز تأجيلها إذا لم تكن نفعًا في الذمة. وقيل: يجوز قَبْضها في المجلس أيضًا، فعلى المذهب: تكون الأجرة في الذمة غير مؤجلة، بل ثابتة في الحال، وإنْ تأخرت المطالبة بها".
المستأجر، وسيأتي في كلام المؤلف ذكر أنواع ما يطرأ على الإجارات كعَيْبٍ يمنع من الاستفادة منها، وأثر ذلك على العقد.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الكِرَاءِ: هَلْ يَدْخُلُ فِي أَنْوَاعِهِ الخِيَارُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِأ: يَجُوزُ الخِيَارُ فِي الصِّنْفَيْنِ مِنَ الكِرَاءِ المَضْمُونِ وَالمُعَيَّنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ).
ذَهب مالكٌ إلى جواز الخيار في الصِّنفين من الكراء المضمون والمعين
(1)
.
وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز، وذكر أنه قول أكثر العلماء
(2)
.
قوله: (فَهَذِهِ هِيَ المَشْهُورَاتُ مِنَ المَسَائِلِ الوَاقِعَةِ فِي هَذَا القِسْمِ الأَوَّلِ مِنْ هَذَا الكِتَابِ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى النَّظَرِ فِي مَجال هَذَا العَقْدِ وَأَوْصَافِهِ وَأَنْوَاعِهِ، وَهِيَ الأَشْيَاءُ الَّتِي تَجْرِي مِنْ هَذَا العَقْدِ مَجْرَى الأرْكَان، وَبِهَا يُوصَفُ العَقْدُ إِذَا كَانَ عَلَى الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ بِالصِّحَّةِ، وَبِالفَسَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ، وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي الجُزْءِ الثَّانِي، وَهُوَ أَحْكَامُ هَذَا العَقْدِ).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 4) قال: "إنْ وقع على أجرٍ غير معينِ، فإن شرط تعجيله أو جرى به عرف، وَجَب التعجيل أيضاً في الأربع صور، وإلَا فإن كانت المنافع معينةً، جاز تعجيله وتأخيره، وإنْ كانت مَضْمونةً، فإن وقع العقد في الإبان كالحج، فالواجب أحد الأمرين؛ إما تعجيل جميع الأجر إنْ كان يسيرًا، أو اليسير منه إن كان كثيرًا، وإما الشروع".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 126)، قال:"وإذا أُطْلقت الأجرة عن ذكر تأجيل أو تعجيل تعجلت؛ كثمن المبيع المطلق؛ ولأن المؤجر يملكها بالعقد، لكن لا يستحق استيفاءها إلا بتسليم العين، فإن تنازعا في البداءة، فكما مرَّ في البيع، وإن كانت الأجرة معينةً بأن ربطها بعينٍ، أو مطلقةً، أو في الذمة ملكت في الحال بنفس العقد، وإن كانت مؤجلةً كما يملكَ المستأجر المنفعة به في إجارة العين، لكنه ملكٌ مراعًى كلما مضى جزءٌ من الزمان على السلامة، بان أن ملك المؤجر استقر على ما يقابل ذلك".
يعني: ما جاء موافقًا للشروط الشرعية، فهو عقدٌ صحيحٌ، وما خالفه أو اختل فيه شرط أو أكثر، فهو عقد فاسد.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(القِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الكِتَاب وَهُوَ النَّظرُ فِي أَحْكَامِ الإِجَارَاتَ
وَأَحْكَامُ الإِجَارَاتِ كثِيرَةٌ، وَلَكِنَّهَا بِالجُمْلَةِ تَنْحَصِرُ فِي جُمْلَتَيْنِ).
ذكر أنَّ أحكام الإجارات كثيرة، فهناك استئجارُ حيوانٍ، واستئجارُ إنسانٍ، واستئجارُ آلة، واستئجارُ بئرٍ، واستئجارُ أرضٍ، واستئجارُ دكَّانٍ، واستئجارُ فَرشٍ، واستئجارُ ثيابٍ.
قوله: (الجُمْلَةُ الأولَى: فِي مُوجِبَاتِ هَذَا العَقْدِ وَلَوَازِمِهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ طَارِئٍ عَلَيْهِ).
لأنه قد يُوجد طارئٌ عليه فيؤثِّر فيه.
قوله: (الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِ الطَّوَارِئِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ تَنْقَسِمُ فِي الأَشْهَرِ إِلَى مَعْرِفَةِ مُوجِبَاتِ الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ).
موجِبات الضمان: هي ما يُوجب ضمانَ تلك السلعة؛ لأنه ربَّما يستأجر إنسانٌ سلعةً، فتذهب هذه السلعة، فمن الذي يضمنها؟
قوله: (وَمَعْرِفَةِ وُجُوبِ الفَسْخِ وَعَدَمِهِ، وَمَعْرِفَةِ حُكْمِ الِاختِلَافِ).
موجِبات الفسخ: فمثلًا إذا ذهبت العين يجب الفسخ؟ أو تعذرت الاستفادة بها؛ وجب الفسخ؟ أو إذا استخدمها الإنسان مدة ثم طرأ ما يمنع من الاستفادة بها يفسَخ؟
وإن قلنا: يجب الفسخ، فهل تَلزم الأجرة السابقة وتسقط اللاحقة حين أصبحت العين يتعذر الانتفاع بها؟
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الجُمْلَةُ الأُولَى:
وَمِنْ مَشْهُورَاتِ هَذَا البَابِ: مَتَى يَلْزَمُ المُكْرَى دَفْعُ الكِرَاءِ إِذَا أُطْلِقَ العَقْدُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ قبْضَ الثَّمَنِ؟ فَعِنْدَ مَالِكٍ
(1)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(2)
: أَنَّ الثَّمَنَ إِنَّمَا يَلْزَمُ جُزْءًا فَجُزْءًا بِحَسَبِ مَا يَقْبِضُ مِنَ المَنَافِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مُعَيَّنًا، أَوْ يَكُونَ كِرَاءً فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِنَفْسِ العَقْدِ).
الأئمة الأربعة رحمهم الله انقسموا في هذه المسألة إلى قسمين:
فالإمامان أبو حنيفة ومالك يقولان: يدفع الأجرة مقسطة؛ كأن يدفع كُلَّ شهر على حسب المنفعة، إلا أن يُوجَد شرطٌ؛ كأن يَشترط المُكري على المكرى دفعُ الإجارة مقدَّمًا.
والإمامان الشافعيُّ وأحمدُ
(4)
يقولان: تُدفع الأجرة عند أولى العقد، حتى وإن لم يستفد بالعين المؤجَّرة ولو لحظة.
قوله: (فَمَالِكٌ رَأَى أَنَّ الثَّمَنَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُقْبَضُ مِنَ العِوَضِ، وَالشَّافِعِيُّ كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ تَأَخُّرَهُ مِنْ بَابِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 4)، حيث قال:"ففي "المدونة"
…
الأكرية في دار أو راحلة أو في إجارة بيع السلع ونحوه فبقدر ما مضى".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 103)، حيث قال:"ومن استأجر دارًا فللمؤجر أن يطالبه لأجره كل يوم، إلا أن يبين وقت الاستحقاق بالعقد".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 125)، حيث قال:"لأنها سلم في المنافع، فيمتنع فيها تأجيل الأجرة، سواء أتأخر العمل فيها عن العقد أم لا؟! ".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 40)، حيث قال:"وتجب الأجرة بنفس العقد".
وجهة الذين قالوا: "تُدفع الأجرة مقسَّطة": أنَّه كيف يُقدِّم ثمنًا وهو لم يستفد بعدُ بالعين، ولم يستوفِ منافعَها؟
ووجهة الذين قالوا: "تُدفع الأجرة عند أول العقد": أنَّه إذا تمَّ العقدُ فقد مكَّنه من استيفائها، وليس من حقِّ المالك أن يتصرف في الدار، ولا أن يُخرجَه منها.
قوله: (وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافهُمْ فِيمَنِ اكتَرَى دَابَّةً أَوْ دَارًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ هَلْ لَهُ أَنْ يَكْرِيَ ذَلِكَ بِأكثَرَ مِمَّا اكْتَرَاهُ؟)
(1)
.
يعني: إذا استأجر إنسانٌ دارًا أو دُكَّانًا أو سيارةً، فهل له أن يُؤجِّرَها غيرَه بأكثر منها؟
اعلم أولًا: أنَّ العلماءَ مُجمعون على أنَّه من استأجر عينًا فله أن يؤجِّرَها بنفس القيمة أو أقلَّ منها
(2)
، ولكنَّهم اختلفوا فيما لو أجَّرها لغيره بأكثر.
قوله: (فَأَجَازَهُ مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ، قِيَاسًا عَلَى البَيْعِ).
الأئمة الثلاثة (مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ)
(5)
أجازوا ذلك؛ قياسًا على البيع، فلو أنَّك اشتريت سلعةً بألفٍ جاز لك أن تبيعَها بألفين وبعشرة وبمئة، فهكذا الإجارة.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 546)، حيث قال:"هذا موضع اختلف فيه الخلف والسلف".
(2)
قال ابن المنذر: "وللمرء أن يستأجر الدار قد عرفها وقتًا معلومًا بأجر معلوم على أن يسكنها، فإذا صحت الإجارة على هذا فللمستأجر أن يكري الدار بأقل مما اكتراه أو بأكثر وله أن يسكنها". انظر: "الإقناع"(1/ 270).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 546)، حيث قال: فقال مالك: "
…
فكذلك المكتري والمستأجر لما يستأجره يتصرف فيه ويكريه بما شاء من زيادة أو نقصان".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للشربيني (5/ 270)، حيث قال:"والقدرة على ذلك تشمل ملك الأصل وملك المنفعة، فدخل المستأجر فله إيجار ما استأجره".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 566)، حيث قال:" (وتصح) إجارة العين المؤجرة (لغير مؤجرها و) تصح (لمؤجرها بمثل الأجرة، و) بـ (زيادة) على الأجرة التي استأجر بها".
قوله: (وَمَنَعَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَأَصْحَابُهُ
(2)
، وَعُمْدَتُهُمْ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الأَصْلِ هُوَ مِنْ رَبِّهِ - أَعْنِي: مِنَ المُكْرِي - وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ).
أبو حنيفة رحمه الله منع ذلك؛ لأنَّه من باب ربح ما لم يُضمن.
مثال ذلك: إذا استأجرت بيتًا بعشرة آلاف، ثم أجَّرته بعشرين ألفًا، فقد ربحت عشرة آلاف، لكنَّ هذه الدار لو انهدمت فإنَّ الذي يضمنها هو المالك الأصليُّ، إذًا فقد ربحت شيئًا لست ضامنًا له فيما يطرأ عليه.
قال: (وَأَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ العُلَمَاءِ إِذَا أَحْدَثَ فِيهَا عَمَلًا)
(3)
.
إذا أحدث فيها عملًا؛ أي: أدخل عليها إضافات وتحسيناتٍ فله أن يؤجِّرها.
قلتُ: وبعضهم أجاز ذلك بشرط أن يُوافق مالكُ العين المؤجَّرة، وإلا فلا
(4)
.
(1)
لعل المصنف تبع في ذلك ما ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار"، عن عبد الرزاق (8/ 222) قال:"قال: سمعت الثوري، يقول لمعمر: ما كان ابن سيرين يقول في رجل اكترى من رجل، ثم ولاه آخر وربح عليه؟ قال معمر: وأخبرني أيوب أنه سمع ابن سيرين وسئل عن ذلك، فقال: "كل إخواننا من الكوفيين يكرهونه"".
(2)
محل المنع عند الحنفية: إذا استأجرها مُؤجِّرُه، أو تكون بأكثر من الأجرة الأولى.
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (6/ 28)، حيث قال:"وله السكنى بنفسه وإسكان غيره بإجارة وغيرها) وكذا كل ما لا يختلف بالمستعمل".
(3)
هذا مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (ص 574)، حيث قال:"ولو آجر بأكثر تصدق بالفضل إلا في مسألتين: إذا آجرها بخلاف الجنس أو أصلح فيها شيئًا".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 355)، حيث قال:"وعن أحمد رواية ثالثة، إن أذن له المالك في الزيادة جاز، وإلا لم يجز".
قوله: (وَمِمَّنْ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
(1)
، وَالجُمْهُورُ رَأَوْا أَنَّ الإِجَارَةَ فِي هَذَا شَبِيهَةٌ بِالبَيْعِ
(2)
).
والمذهب الصحيح هو مذهب جمهور الفقهاء؛ لأنَّه قد أصبح مالكًا للمنفعة؛ لأنَّ الإجارة هى ملك المنفعة، فأنت استأجرت هذا الدُكَّان فمن حقِّكَ أن تبقى فيه، وأن تُؤجِّرَه؛ لأنه ربما أصبحْتَ غير مستفيدٍ منه، ولا مانع أن يَدفَع لك هذا المستأجِرُ أجرةً أكثر.
قوله: (وَمِنْهَا: أَنْ يَكْرِيَ الدَّارَ مِنَ الَّذِي أَكْرَاهَا مِنْهُ).
مثال ذلك: إنسانٌ استأجر دارًا، فجاء المالكُ نفسُه فقال: أَكْرِني إيَاها، أو أَجَرني إيَاها.
قوله: (فَقَالَ مَالكٌ: يَجُوزُ)
(3)
.
وقال به الشافعيُّ
(4)
وأحمدُ
(5)
كذلك، فجمهور الفقهاء يقولون: إذا أجَّر إنسانٌ سلعةً لإنسان ثم جاء هو نفسُه ليستأجرها منه، جاز ذلك.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 222)، ولفظه: "أخبرنا الثوري، وسأله عن الرجل يستأجر ذلك، ثم يؤاجره بأكثر من ذلك، فقال: أخبرني عبيدة،
…
عن مجاهد "أنهم كانوا يكرهونه، إلا أن يحدث فيه عملًا"".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 165)، حيث قال:"وفيه قول ثالث: وهو أن [المكتري] إن أصلح فيما اكترى شيئًا فلا بأس بأن يؤاجرها بأكثر من ذلك".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 9)، حيث قال:" (و) جاز (استئجار المالك) المؤجر لداره أو دابته مثلًا (منه) أي من المستأجر إلا لتهمة سلف جر منفعة".
(4)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (7/ 354)، حيث قال:"إذا استأجر عينًا وقبضها .. فله أن يؤاجرها من المؤاجر، ومن غيره".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (4/ 31)، حيث قال:"ولمستأجر عين أن يؤجرها .... (حتى لمؤجرها)؛ لأن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز معه كالبيع (ولو بزيادة) ".
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: لَا يَجُوزُ، وَكأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فِي الكِرَاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ أَكلِ المَالِ بِالبَاطِلِ).
الذين أشكلوا ذلك أو منعوه قالوا: لا يتم القبض هنا؛ لأنه إنسان أجَّر ثم استأجر.
قوله: (وَمِنْهَا: إِذَا اكتَرَى أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً، فَأَرَادَ أَنْ يَزْرَعَهَا شَعِيرًا، أَوْ مَا ضَرَرُهُ مِثْلُ ضَرَرِ الحِنْطَةِ، أَوْ دُونَهُ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ ذَلِكَ
(2)
، وَقَالَ دَاوُدُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
(3)
).
اعلم أنَّ لهذه المسألة ثلاث صور:
الصورة الأولى: قال المؤجِّر للمستأجر: أُؤجِّوك هذه الأرض على أن تزرعها - فيُطلق ولا يُقيِّد - أو يقول: تزرعها ما شئت؛ فله أن يزرعَها أيَّ نوعِ من أنواع ما يُزرع، وسواء كان ضررُه على الأرض قليلًا أو متوسطًاَ أو كثيرًا؛ لأنَّ العقد مُطلق.
الصورة الثانية - وهي التي ذكرها المؤلِّف رحمه الله: إذا قال المؤجِّرُ
(1)
هذا مذهب الحنفية، ينظر:"الدر المختار" للحصكفي (ص 589)، حيث قال:" (للمستأجر أن يؤجر المؤجر) بعد قبضه قيل وقبله (من غير مؤجره، وأما من مؤجره فلا) يجوز".
(2)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (8/ 35)، حيث قال:"وإن استأجرها ليزرعها شعيرًا وأراد أن يزرعها حنطة، فلا يمنع إذا لم يضر".
(3)
الظاهرية لا يجيزون كراء الأرض إلا مشاعًا.
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 43)، حيث قال:"لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلًا". واعتبروا شرط الشيء الذي يزرع في العقد شرطا فاسدًا.
ويُنظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 61)، حيث قال: "فإن اتفقا تطوعًا على شيء يزرع في الأرض فحسن، وإن لم يذكرا شيئًا فحسن
…
إلا أنه إن شرط شيء من ذلك في العقد، فهو شرط فاسد وعقد فاسد؛
…
إلا أن يشترط صاحب الأرض أن لا يزرع فيها ما يضر بأرضه".
للمستأجر: أُؤجِّرك هذه الأرض على أن تزرعها حِنطةً؛ فله أن يزرعها حنطة أو ما هو أقل ضررًا منها، أو ما هو مساوٍ لها.
فمذهب مالك - والأئمة الأربعة كُلُّهم
(1)
- يُجيزون ذلك؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ المعتبر في ذلك هو الضرر؛ ولأن العقد إنما كان على منفعة الأرض-فإنما الأُجرة على الاستفادة من الأرض- فما دام الضرر منتفيًا، فالعتمد جائز.
وأهل الظاهر منعوا ذلك حتى قالوا: لو استأجر أرضًا على أن يزرعها حنطة بيضاء فليس له أن يزرعها حنطة سمراء
(2)
، أو استأجرها ليزرعها حنطة سمراء فليس له أن يزرعها بيضاء؛ قالوا: لأن هذا على خلاف ما ورد.
وحجَّة أهل الظاهر ضعيفة؛ لأن وجهتهم أنه غيَّر في العقد، حيثُ استأجرها ليزرعها حنطة فزرع غيرها.
ولكنَّه كما قال الجمهور: إن المقصود من الإجارة هو الاستفادة من الأرض بأيِّ نوع كان شريطة ألا يحصل ضرر، وما دام الضررُ لم يتجاوز موضِع العتمد فهو جائز.
الصورة الثالثة: قال المؤجِّرُ للمستأجر: أُؤجِّرك هذه الأرض على أن
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 36)، حيث قال:"إذا عين نوعًا للزراعة له أن يزرع مثله أخف لا أضر".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 182)، حيث قال:"استأجر لبر فزرع ذرة فلا يضمن الأرض؛ لأنه لم يتعد إلا في منفعتها، بل تلزمه أجرة مثل الذرة".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 15)، حيث قال:" (شرط زرع بر فقط) فلا يلزم الوفاء به وله زرع ما هو مثله ضررًا أو أقل".
(2)
يُنظر: "المنتقى" للباجي (4/ 242)، حيث قال:"البيضاء هي المحمولة؛ وهىِ نوع من الحنطة يكون بمصر، والسمراء نوع آخر يكون بالشام، وهي أفضل جودة من المحمولة".
تزرعها حِنطةً - مثلًا - فزرع فيها ما هو أكثر ضررًا؛ فلا يجوز.
قوله: (وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي كَنْسِ مَرَاحِيضِ الدُّورِ المُكْتَرَاةِ، فَالمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ القَاسِمِ أَنَّهُ عَلَى أَرْبَابِ الدُّورِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَى المُكْتَرِي
(1)
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
).
انظر دقَّة الفقهاء - رحمهم الله تعالى - فهذه مسائل تحصل في زماننا.
الإنسانُ إذا أجَّر دارًا، فهذه الدار فيها حمَّامات - وفيما مضى كانوا يُسمُّونها مراحيض، أو محل الغائط، أو الكنيف، أو البالوعات - فلو حصل سددٌ في البالوعة - أو البيَّارة كما نُسمِّيها الآن - فمن المسؤول عنها؟ كهل المؤجِّر أو المستأجر؟
اختلف الفقهاء:
الإمامان الشافعي وأحمد
(3)
قالا: المسؤول عنها المؤجِّر؛ لأنها حصلت بسببه.
وأبو حنيفة
(4)
يقول: القياس يقضي بأن المستأجر هو المطالب بنقل ما يمتلأ به البالوعة؛ لأنه حدث بفعله، فيلزمه نقله كالكناسة والرماد، إلا أن الحنفية استحسنوا وجعلوا نقله على صاحب الدار أخذًا بمقتضى العرف والعادة، إذ العادة بين الناس أن ما كان مغيبًا في الأرض فنقله على صاحب الدار.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (3/ 366)، حيث قال:"واختلف في كنس كنيف الدار المكتراة؛ فقيل: على ربها، وقيل: على المكتري، والقولان عن ابن القاسم".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 165)، حيث قال:"ومثلها رماد الحمام وغيره (على المكتري) ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 263)، حيث قال:" (و) على مكتر دار أو حمام ونحوه (تفريغ بالوعة وكنيف) ".
(4)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 80)، حيث قال:"وأما البالوعة وأشباهها فليس على المستأجر تفريغها استحسانًا. والقياس: أن يجب؛ لأن الشغل حصل من جهته".
وبهذا يتبين لنا دَورُ قاعدة "العادة محكَّمة"
(1)
؛ فإذا اصطلح الناس على أمر من الأمور؛ كما لو كان لهم عرفٌ يسيرون عليه في البيوت والعمائر: أنَّ البيَّارات إذا امتلأت فإنَّ الذي يتحمل مسؤوليتها هو المكري (المؤجِّر)، فإن الحنفيَّة يُعملون هذه القاعدة.
فائدة:
لم تكن المراحيض كما هي الآن، المراحيض الآن لا تحتاج إلى كنس، فقد كان فيما مضى البيت يُبنى ويوضع في مكان الخلاء لَبنَات على شكل لَبنَتين، ثُمَّ يحصُل التغوُّط أو التبول، فإذا امتلئ فإنَّ المسَؤول عن تفريغه الَمؤجر أو المستأجر، على اعتبار الخلاف.
وقد كان هناك أناسٌ يختصون بكنس البالوعات، ويأخذون الأجرة، فإنَّ الذي يُسلِّم الأُجرة المؤجِّر أو المستأجر -على اعتبار الخلاف، كما ذكرنا-.
والصحيح في هذه المسألة: أنَّ المستأجر هو المكلَّف بكنسها؛ لأنه هو الذي فعل ذلك وتسبَّب فيه.
فائدة:
كذلك الأصل أن الذي يُسلِّم رسوم الماء أو الكهرباء هو المستأجر، سواء كان في شقة أو عمارة، إلا إذا تحمَّل ذلك صاحب البيت.
(وَاسْتَثْنَى ابْنُ القَاسِمِ مِنْ هَذِهِ الفَنَادِقَ الَّتِي تَدْخُلُهَا قَوْمٌ وَتَخْرُجُ قَوْمٌ، فَقَالَ: الكَنْسُ فِي هَذِهِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ)
(2)
.
هذا هو رأيه رحمه الله والحقيقة أنَّها كذلك على المستأجر؛ لأنه هو
(1)
أي: هي المرجع عند النزاع؛ لأنه دليل يبتنى عليه الحكم، ينظر:"تهذيب الفروق والقواعد السنية"(3/ 14) لمحمد بن علي بن حسين.
(2)
يُنظر: "شفاء الغليل" للمكناسي (2/ 944)، حيث قال:"ومن اكترى دارًا فعلى ربها مرمتها وكنس المراحيض، فقيل: خلاف، وقيل: ما هنا فيما حدث، وما هناك فيما سبق، قيل: ما هنا في غير الفنادق".
الذي يستفيد منها، ومعلومٌ أنَّ الفنادق فيما مضى ليست كالفنادق في هذا العصر، ولكنَّها مهما كانت بيوت تُؤجَّر ويسكنها الناس.
قوله: (وَمِنْهَا: اخْتِلَافُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الِانْهِدَامِ اليَسِيرِ مِنَ الدَّارِ، هَلْ يَلْزَمُ رَبَّ الدَّارِ إِصْلَاحُهُ، أَمْ لَيْسَ يَلْزَمُ؟ وَيَنْحَطُّ عَنْهُ مِنَ الكِرَاءِ ذَلِكَ القَدْرُ؟ فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: لَا يَلْزَمُهُ، وَقَالَ غَيْر مِنْ أَصْحَابِهِ: يَلْزَمُهُ
(1)
).
لا شك أنَّ المؤجِّر إذا سلَّم الدارَ وفيها انهدامٌ أو خلل أو أخشاب مكسورة - وهذا بالنسبة للبيوت التي نسميها شعبية - فإن المؤجّر مسؤول عن وجود خللٍ في البيت؛ كشقوق في الجُدُر وتكسُّر الخشب، إلى غير ذلك من العيوب التي تؤثَر، لكن إذا حصل عيبٌ بعد ذلك فإنَّ هذا لا يخلو:
إما أن يكون بتفريط من المستأجر: فيلزمه إصلاحه.
وإما أن يكون ليس تفريطًا: ولكنَّه حصل مع مرور الزمن وتغيُّره، وأنَّ هذه الأشياء قد استُنفِذَت مدتها فأدى ذلك إلى تأثُّرها؛ كالخشب يمر عيه زمان فإنه يتأثَّر، وكذلك الجدُر التي مز الطين تتأثر بنزول المطر عليها وهكذا، فلا يلزمه.
قوله: (وَفُرُوعُ هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ قَصْدُنَا التَّفْرِيعَ فِي هَذَا الكِتَابِ).
يقصد بالفروع: الخللُ في السَّقف، والانكسارُ في الخشب، والخللُ في الحائط، والشقوقُ في الجدُر، إلى غير ذلك من الفروع الكثيرة التي يتحدث عنها الفقهاء رحمهم الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 54)، حيث قال:" (قوله: حدث) أي: موجب الإصلاح، وهو الهدم (قوله: وهو مذهب ابن القاسم) أي: وأما غيره - وهو ابن حبيب - فيقول: يجبر الآجر على الإصلاح".
(الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ النَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الطَّوَارِئِ
الفَصْلُ الأَوَّل مِنْهُ، وَهُوَ: النَّظَرُ فِي الفُسُوخِ)
النظر في الفسوخ؛ فقد يطرأ على الإجارة التي تمت واستقرَّت أمرٌ من الأمور فيؤثر عليها؛ كأن تكون دابة فتموت، أو عبدًا فيموت، أو جملًا فيشرد، أو أرضًا فتُغمَر بالماء فبُتعذَّر الاستفادة منها، أو ينقطع عنها الماء أصلًا، أو دارًا تتهدم، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة في هذا المقام.
قوله: (فَنَقُولُ: إِنَّ الفُقَهاءَ اخْتَلَفُوا فِي عَقْدِ الإِجَارَةِ؛ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ)
(1)
.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
ومعنى كونه لازمًا: أنَّه من العقود اللازمة الواجبة، فإذا ما تمَّ عقدٌ بين مستأجر ومؤجِّر يكون مُلزمًا لكلٍّ من الطرفين، فلا يجوز للمستأجر أن يُطالب بفسخ العقد بدعوى أنه لم يستفد من العين المؤجَّرة - مثلًا -، وهذا بخلاف الجعالة، ومن هنا تخالف الجعالة الإجارة؛ فالجعالة نوع من الإجارة، لكنَّها عقد غيرُ لازم؛ كأن يقول إنسان: من يردُّ لي ضالَّتي فله كذا، أو من يبني لي هذا الجدار فله كذا، فهذا عقد جائزٌ لكُلٍّ منهما أن يَعدِل عنه.
قوله: (وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ تَشْبِيهًا بِالجُعْلِ
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 332 - 333)، حيث قال:"والإجارة عقد لازم من الطرفين، ليس لواحد منهما فسخها، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي".
وَالشَّرِكَةِ
(1)
. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَنْفَسِخُ بِهِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ إِلَّا بِمَا تَنْفَسِخُ بِهِ العُقُودُ اللَّازِمَةُ مِنْ وُجُودِ العَيْبِ بِهَا أَوْ ذَهَابِ مَحِلِّ اسْتِيفَاءِ المَنْفَعَةِ
(4)
).
وكذلك أحمد
(5)
ذهب إلى أنَّه لا ينفسخ إلا بما تنفسخ به العقود اللازمة.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ فَسْخُ عَقْدِ الإِجَارَةِ لِلْعُذْرِ الطَّارِئِ عَلَى المُسْتَأْجِرِ، مِثْلُ أَنْ يُكْرِيَ دُكَّانًا يَتَّجِرُ فِيهِ فَيَحْتَرِقُ مَتَاعُهُ أَوْ يُسْرَقُ)
(6)
.
مثال ذلك: إنسانٌ يستأجر دُكَّانًا ليبيع فيه بضائعه، وإذا بالبضائع تحترق، أو أن يستأجر إنسانٌ دابةً ليحُجَّ عليها فتمرض، أو يكون هناك فوجًا معه ذاهبين إلى الحَجِّ فيتأخر الفوجُ فيتأخر معهم؛ لأنه مرتبط بهم.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 201) حيث قال: "وأما صفة الإجارة
…
وقال شريح: إنها غير لازمة وتفسخ بلا عذر؛ لأنها إباحة المنفعة فأشبهت الإعارة".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 29)، حيث قال:" (وفسخت) الإجارة (بتلف ما يستوفى منه) (لا) بتلف ما يستوفى (به) المنفعة".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 187)، حيث قال:" (وتنفسخ) الإجارة بتلف مستوفى منه عين في عقدها شرعًا".
(4)
يُنظر: "المعاني البديعة" للريمي (2/ 85)، حيث قال:"عند الشافعي ومالك وأبي ثور والثوري وأحمد وأكثر العلماء: لا يجوز فسخ الإجارة بالأعذار بغير عيب بعد لزومها".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 264)، حيث قال:" (وتنفسخ الإجارة بتلف) محل (معقود عليه) ".
(6)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 105)، حيث قال: "وتنفسخ الإجارة بالأعذار كمن استأجر دكانًا في السوق؛ ليتجر فيه فذهب ماله
…
".
فإنَّ أبا حنيفة رحمه الله يرى أن هذه الموانع وأمثالها مؤثِّرةٌ، وأنها تستدعي الفسخ.
مثال ذلك: أن يستأجر إنسانٌ دابةً فهلكت أو عبدًا فهلك، أو استأجر سيارة فصُدمَت وتعطَّلت، فلم يستطع أن يستفيد منها قبل أن يتسلمها، فهذه العين المؤجَّرة لا تخلو:
إما أن تكون العين المستأجرة هذه قد تعذر الانتفاع بها قبل قبضها: فالعقد هنا ينفسخ بإجماع العلماء.
وإما أن تكون العين المستأجرة هذه قد تعذر الانتفاع بها بعد قبضها: فجمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة
(1)
رحمهم الله على أن العقد يَنفسخ، وأبو ثور رحمه الله يرى أنَّه لا ينفسخ قياسًا على البيع؛ لأنه قبض هذه العين فهو مسؤول عنها
(2)
.
والجمهور يُجيبون على أبي ثور رحمه الله فيقولون: إنَّ الإجارة تختلف؛ لأن المقصود هو الاستفادة؛ لأن قبضها إنما يتم باستيفائها، والاستيفاء لم يتم بعد؛ لذا لا يصح القياس على البيع.
الصورة الثالثة: أن تكون العين المستأجرة هذه قد هلكت قبل تمام الاستيفاء؛
كأن يستأجر دابةً لمدة شهر، وقبل أن ينتهي من الاستفادة منها بعد خمسة عشر يومًا ماتت هذه الدابة.
نقول إنَّ العقد ينفسخ، لكنه في هذه الحالة مُطالب بدفع أجرةِ ما مضى، ويسقط عنه ما تبقى من المدة التي لم يستفذ منها.
(1)
يُنظر: "المعاني البديعة" للريمي (2/ 85)، حيث قال:"عند الشافعي ومالك وأحمد: إذا لم ينتفع المستأجر بالعين المؤجرة إجارة فاسدة بعد قبضها وجب عليه أجرة المثل، وعند أبي حنيفة لا يجب عليه شيء".
(2)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (2/ 85)، حيث قال:"إِلَّا أبا ثور، فإنّه قال: المنافع في هذا الموضع من ضمان المستأجر".
هذا هو الضرب والنوع الأول من أنواع الإجارة.
قوله: (وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وجه الدلالة من الآية: أنَّ هذا عقدٌ فيجب الوفاء به.
قوله: (لِأَنَّ الكِرَاءَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَنْفَسِخْ، أَصْلُهُ البَيْعُ).
الإجارة: عقد على معاوضة أصله البيع، والبيع: مبادلة مال بمال، يعني: تدفع ثمنًا تأخذ سلعة، وفي الإجارة كذلك معاوضة، يعطيك دارًا وتعطيه أجرة، قالوا: وكل ما صح أن يكون بيعًا صحَّ أن يكون إجارة.
قوله: (وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ شِبْهُ ذَهَابِ مَا بِهِ تُسْتَوْفَى المَنْفَعَةُ بِذَهَابِ العَيْنِ الَّتِي فِيهَا المَنْفَعَةُ)
(1)
.
الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: نحن نقول إذا ذهبت العين انفسخ العقد، فكذلك أيضًا هذا الذي استأجر أرضًا وذهب ما بيده، ما الذي سيستفيد به من هذه العين المؤجَّرة؟ لماذا نضره؟ لماذا يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟! فهذا رجل استأجر دكانًا يبيع فيه هذه البضاعة واحترقت البضاعة، فكيف نقول أنت مسؤول؟!
الجمهور يُجيبون على أبي حنيفة رحمه الله فيقولون: يتصرَّف فيه فيؤجره أو نحو ذلك.
قوله: (وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ إِذَا كَانَ الكِرَاءُ فِي غَيْرِ مَخْصُوصٍ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ مِنْ جِنْسٍ مَخْصُوصٍ
(2)
؛ فَقَالَ عَبْدُ الوَهَّابِ:
(1)
يُنظر: "التجريد" للقدوري (7/ 3574)، حيث قال:"لأنه تعذر استيفاء العمل بالشرع، فهو كما لو تعذر الاستيفاء بالهلاك".
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 16)، حيث قال:"ما تستوفى منه المنفعة إن كان معينًا فسخت الإجارة بتلفه، لا إن كان غير معين".
الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَحَلَّ اسْتِيفَاءِ المَنَافِعِ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الإِجَارَةِ، وَإِنْ عُيِّنَ فَذَلِكَ كَالوَصْفِ لَا يَنْفَسِخُ بِبَيْعِهِ أَوْ ذَهَابِهِ، بِخِلَافِ العَيْنِ المُسْتَأْجَرَةِ إِذَا تَلفَتْ، قَالَ: وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى رِعَايَةِ غَنَمٍ بِأَعْيَانِهَا، أَوْ خِيَاطَةِ قَمِيصٍ بِعَيْنِهِ، فَتَهْلِكَ الغَنَمُ وَيَحْتَرِقَ الثَّوْبُ فَلَا يَنْفَسِخُ العَقْدُ، وَعَلَى المُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِغَنَمٍ مِثْلِهَا لِيَرْعَاهَا، أَوْ قَمِيصٍ مِثْلِهِ لِيَخِيطَهُ)
(1)
.
مثال ذلك: إذا استُؤجر إنسانٌ لرعاية الغنم وحصل شيء، فلا يخلو: إما أن يقصِّر أو لا؛ لأنه لو كان راعيًا على غنم وأهملها، وجاء الذئب وأكل شيئًا منها يكون مقصِّرًا، وهذا الذي يخيط الثوبَ ويريد أن يكويَه، فيتساهل في كَيِّه فيحرقه أو جزءًا منه، فهذا مهملٌ وهو مسؤول عن ذلك؛ كما سيأتي في الضمان.
وسيأتي الكلام في الأجير المشترك والأجير الخاص، وهما يختلف حالهما؛ فالأجير المشترك ضامن إلا أن لا يكون مفرِّطًا، أما الأجير الخاص فلا يضمن.
قوله: (قَالَ: وقَدْ قِيلَ إِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَنْفَسِخُ العَقْدُ بِتَلَفِ المَحلِّ. وَقَالَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اخْتِلَافًا فِي المَذْهَبِ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المَحِلُّ المُعَيَّنُ لِاسْتِيفَاءِ المَنَافِعِ مِمَّا تُقْصَدُ عَيْنُهُ، أَوْ مِمَّا لَا تُقْصَدُ عَيْنُهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تُقْصَدُ عَيْنُهُ انْفَسَخَتِ الإِجَارَةُ؛ كَالظِّئْرِ إِذَا مَاتَ الطِّفْلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ عَيْنُهُ
(1)
يُنظر: "المعونة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1100)، حيث قال:"الظاهر من مذاهب أصحابنا: أن استيفاء المنافع لا يتعين في الإجارة، وإنه إن عين فذلك كالوصف لا ينفسخ العقد بتلفه بخلاف العين المستأجرة إذا تلفت، وذلك كما يستأجر على رعاية غنم بأعيانها، أو خياطة قميص بعينه، فتهلك الغنم ويحترق الثوب، فلا ينفسخ العقد وعلى المستأجر أن يأتيه بغنم مثلها ليرعاه أو قميص مثله ليخيطه".
لَمْ تَنْفَسِخِ الإِجَارَةُ عَلَى رِعَايَةِ الغَنَمِ بأعيانها، أَوْ بَيْعِ طَعَامٍ فِي حَانُوتٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ).
الظِّئْرُ: يقال: ظائرت فلانة بوزن فاعلت، إذا أخذت ولدًا ترضعه
(1)
.
مثلًا: استأجرتَ امرأة لتُرضع طفلًا فمات الطفل، إذًا: تعذَّر الاستفادة منها.
قوله: (وَاشْتِرَاطُ ابْنِ القَاسِمِ فِي المُدَوَّنَةِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ عَلَى غَنَمٍ بِأَعْيَانِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الخَلَفَ)
(2)
.
الخلف: سبق أن تكلمنا عنه، وهذا ما ذكره المالكية، وإلا فمعلوم بأن الراعي مسؤول عن رعاية الغنم والقيام بشؤونها، وأخذه الأجرة عليها كما هو معلوم جائز.
قوله: (هُوَ التِفَاتٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّهَا تَنْفَسِخُ بِذَهَابِ مَحِلِّ اسْتِيفَاءِ المُعَيَّنِ).
قوله: (لَكِنْ لَمَّا رَأَى التَّلَفَ سَائِقًا إِلَى الفَسْخِ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الغَرَرِ
(3)
، فَلَمْ يَجُزِ الكِرَاءُ عَلَيْهَا إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الخَلَفِ).
تكلمنا عن هذا وذكرنا له أمثلة، فيما يتعلق بتلف العين المستأجرة؛ كأن تنفق الدابة يعني تموت، أو كذلك العبد المستأجَر يموت، وبذلك تنفسخ الإجارة، وبينا تفصيلات العلماء في ذلك، ولم يعرض لها المؤلف رحمه الله.
(1)
الظئر: المرضعة غير ولدها، ويقع على الذكر والأنثى، انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 154).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 15)، حيث قال:"جواز الاستئجار على رعاية غنم (عينت) إن شرط الخلف لما يتلف منها، لا إن لم يشترطه فلا تصح".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 15)، حيث قال:" (إن شرط الخلف) لما يتلف من الثمن ليتم العمل الذي هو جزء من الثمن، وإلا أدى إلى الغرر".
قوله: (وَمِنْ نَحْوِ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يَنْفَسِخُ الكِرَاءُ بِمَوْتِ أَحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ، أَعْنِي: المُكْرِي أو المُكْتَرِيَ؟).
هذه مسألة مهمة؛ إذا استأجر إنسان عينًا ومات قبل أن يستوفيها فهل تبقى الإجارة؟ لأن الإجارة هي ملك المنافع، فأنت استأجرت دارًا فقد ملكتَ منافعها المدةَ التي استأجرتها فيها، فإذا ما مات هذا المستأجر أو مات المؤجر، والمستأجر بعد لم يستنفذ المدة، فلا شك أنه قد تم عقد بين الطرفين؛ المالك أخذ الأجرة، والمستأجر يستفيد من الانتفاع بهذه العين، هل تنقطع الاستفادة من العين بموت المؤجر أو تبقى؟ هذا هو محل الخلاف.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يَنْفَسِخُ وَيُورَثُ عَقْدُ الكِرَاءِ
(4)
).
فالجمهور -الأئمة الثلاثة (مالك والشافعي وأحمد) - قالوا: لا تنقطع بل تنتقل إلى الورثة، والورثة يحلون محل المؤجِّر فهم ورثته، والملك قد انتقل، فحلَّ الورثةُ الذين انتقل إليهم ذلك الملك محل المالك الأصلي الذي ورَّثهم ذلك المال، أو ورَّث المال بموته.
ووجهتهم: أنه عقد معاوضة، وعقد المعاوضة لا ينقطع ولا ينقسم بالموت، بل ينتقل كالحال في البيع تمامًا.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 29 - 30)، حيث قال:"لا تنفسخ الإجارة على الأصح بموت الشخص المستأجر للعين المعينة، ويقوم وارثه مقامه".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 187)، حيث قال:" (ولا تنفسخ) الإجارة بنوعيها (بموت العاقدين) أو أحدهما للزومها كالبيع".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 265)، حيث قال:" (ولا) تنفسخ بموت (مكر، أو) أي: ولا تنفسخ بموت (مكتر) للزومها كالبيع".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 166 - 167)، حيث قال: "الكراء على حاله، ولا ينقضه موتهما، ولا موت أحدهما
…
هذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور".
واحتجوا أيضًا: بأنه لو زوج أمَتَه ثم بعد ذلك مات فإنَّ النكاح لا ينفسخ.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ: يَنْفَسِخُ
(2)
).
أما أبو حنيفة رحمه الله فهو الذي خالف في ذلك.
ولا تظُنَّ أنه إذا خالف إمام من الأئمة غيرَه أن يكون قصده الرغبة في الخلاف أو الظهور، فلم يكن هذا هو هدف الأئمة رحمهم الله، بل لم يكن هدف من دونهم في العلم والفضل، بل كانوا جميعًا يريدون الوصول إلى الحق من أقرب طريق، وأهدى سبيل يوصلهم إليه، فهذه هي غايتهم؛ أن يعرفوا الحق.
فأبو حنيفة -رحمه الله تعالى- يرى أن هذا العقد قد تم بين طرفين؛ مؤجِّر ومستأجِر، فمات أحدهما، فلما مات أحدهما انتقل أصلُ هذه العين المؤجَّرة إلى مالك جديد - وهم الورثة - فتغيرت الحال؛ لأنَّه لا عقد بين المستأجر وبين الورثة، فينتهي بذلك عقد الإجارة ويُفسخ، ويسلِّم المستأجِر ما كان قد استفادة من هذه العين المؤجَّرة.
تنبيه: هذا الخلاف إذا كان هناك وارث، أما إذا لم يكن هناك وارث فكثير من العلماء قال بأنها تنفسخ في هذه الحالة.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالفَسْخِ: أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِ أَحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ، أَصْلُهُ البَيْعُ).
عقد المعاوضة: هو عقد له مقابل، فليس عارية ولا هبة
(3)
، وإنما
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 105)، حيث قال:"وإذا مات أحد المتعاقدين وقد عقد الإجارة لنفسه انفسخت الإجارة، وإن عقدها لغيره لم تنفسخ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 347)، حيث قال:"وقال الثوري، وأصحاب الرأي، والليث: تنفسخ الإجارة بموت أحدهما".
(3)
عقد المعاوضة: عقد يعطى كل طرف فيه نفس المقدار من المنفعة التي يعطيها الطرف الخر، انظر:"معجم لغة الفقهاء" لمحمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي (ص 438).
عقد معاوضة تُسلِّم شيئًا وتأخذ مقابله، فأنت في البيع تشتري السلعة، فتدفع الثمن وتأخذ السلعة، وفي الإجارة تستأجر العين، فتدفع الأجرة وتستخدم العين، فهي عقد معاوضة؛ أي: أنك تدفع في مقابل استعمالك لهذه العين والاستفادة منها عوضًا، سواء كان هذا العوض مالًا أو نوعًا آخر من العروض.
وقول المؤلف رحمه الله: "أصله البيع" يعني: قياسًا على البيع، ولو قال:"أصله الإجارة" يعني قياسًا، وهكذا.
قوله: (وَعُمْدَةُ الحَنَفِيَّةِ: أَنَّ المَوْتَ نقلَه لِأَصِلِ الرَّقَبَةِ المُكْتَرَاةِ مِنْ مِلْكٍ إِلَى مِلْكٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطل)
(1)
.
يعني نقل هذه الرقبة من ملك المؤجِّر إلى ملك الوارث، وهذا الملك في الأصل ما هو إلا ملكٌ للمؤجِّر، وإنما تحول إلى الورثة بموت مورثهم.
قوله: (أَصْلَهُ البَيْعُ فِي العَيْنِ المُسْتَأْجَرَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً - أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ-، فَلَمَّا كَانَ لَا يَجْتَمِعُ العَقْدَانِ مَعًا غَلَبَ هَاهُنَا انْتِقَالُ المِلْكِ، وَإِلَّا بَقِيَ المِلْكُ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ، وَذَلِكَ خِلَافَ الإِجْمَاعِ).
يعني: أصله بيع العين المؤجَّرة مدة طويلة، فلو أن إنسانًا أجَّر داره مدة عشرة أعوام، فليس له أن يبيعها وهي مؤجَّرة، وإن قلنا بأنها تُباع فليس للمالك أن يخرج المستأجر.
قلت سابقًا بأن الأئمة رحمهم الله عندما يأخذ أحدهم بقول يكون له وجهة نظر.
ولكنَّ هذا لا يسلِّمُ به الجمهور؛ لأنهم يقولون هذا أمر غير وارد،
(1)
يُنظر: "الهداية" للمرغيناني (3/ 247)، حيث قال:"وإذا مات أحد المتعاقدين وقد عقد الإجارة لنفسه انفسخت؛ لأنه ينتقل بالموت إلى الوارث وذلك لا يجوز".
والقياس هنا غير مسلَّم، وقياسُنا أولى وأقوى؛ لأن هذا عقد معاوضة، وانتقالُ الملك إلى الورثة لا يُغيِّر الحالَ؛ لأن الملك لم ينتقل عن طريق بيع وشراء، وإنما انتقل عن طريق إِرث؛ أي: حصل بأمر إجباري، فهذا مال يملكه إنسان فتحول إلى ورثته فهم أولاده.
قوله: (وَرُبَّمَا شَبَّهُوا الإِجَارَةَ بِالنِّكَاحِ؛ إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا اسْتِيفَاءَ مَنَافِعَ، وَالنِّكَاحُ يَبْطُلُ بِالمَوْتِ وَهُوَ بَعِيدٌ).
قول المؤلف رحمه الله: "ربَّما" يعني: أنَّها ليست حجة ظاهرة، والمؤلف لا يزال في سياق حُجج الحنفية، وهذا القياس - كما قال - بعيدٌ؛ لأنه قياس مع الفارق.
قوله: (وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى المَالِكِيَّةِ فَقَطْ بِأَنَّ الأُجْرَةَ عِنْدَهُمْ
(1)
تُسْتَحَقُّ جُزْءًا فَجُزْءًا بِقَدْرِ مَا يُقْبَضُ مِنَ المَنْفَعَةِ، قَالُوا: وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا، فَإِنْ مَاتَ المَالِكُ وَبَقِيَتِ الإِجَارَةُ، فَإِنَّ المُسْتَأْجِرَ يَسْتَوْفِي فِي مِلْكِ الوَارِثِ حَقًّا بِمُوجِبِ عَقْدٍ فِي غَيْرِ مِلْكِ العَاقِدِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ).
قيَّد المؤلِّف رحمه الله فقال: "وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى المَالِكِيَّة"؛ لأنهم لا يُمكنهم الاحتجاج على الشافعية والحنابلة فيما سيذكره؛ لأن الشافعية والحنابلة يرون أن الأُجرة تُستَحقُّ بمجرد العقد، فإذا ما عقد مؤجِّر ومستأجرٌ عقدًا في تأجير عين من الأعيان، فإن الأُجرة تُستحَقُّ عندهم بهذا العقد، أي: بنفاذ العقد - أعني: بتنفيذه وقيامه -، لكنَّ المالكيَّة مع الحنفية - كما سبق - يرون أن الأُجرة تُستَحقُّ جزءًا فجزءًا، كلما مضت مدة يَدفع المستأجِرُ أُجرتها.
وهذا تعليلٌ قويٌّ واعتراض وجيهٌ على المالكية؛ يقولون: أنتم تقولون - ونحن معكم؛ لأنَّ الحنفيَّة يقولون بهذا القول -: بأنَّ الأُجرة لا تستحق
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 4)، حيث قال:"ففي "المدونة":
" ..... الأكرية في دار أو راحلة أو في إجارة بيع السلع ونحوه فبقدر ما مضى".
إلا جزءًا فجزءًا؛ بمعنى: إذا مضى شهرٌ فإن المؤجِّر يستحقُ أُجرَة الشهر، فإذا ما مات انتقل الملك، فكأنه انتهى حقه بانتهاء هذا القسط الذي أُدِّي، فهذا اعتراض قويٌ على المالكية، لكنه لا يرد على الشافعية والحنابلة؛ لأنهم يرون أن الأُجرة تُستحق بمجرد العقد.
قوله: (وَإِنْ مَاتَ المُسْتَأْجِرُ فَتَكُونُ الأُجْرَةُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالمَيِّتُ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِإِجْمَاعٍ بَعْدَ مَوْتِهِ).
هذا المثال بالنسبة للمستأجر، يعني: إذا كان الميت هو المستأجر، فإذا مات وانتقل ماله إلى ورثته، وكان قد مضى وقت ثم جاء وقت آخر، فكيف تطالب ميتًا بأجرة؟! والميت لا يطالب بشيء!
قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَلَا يَلْزَمُهُمْ هَذَا؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الأُجْرَةِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ
(1)
بِنَفْسِ العَقْدِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ).
أما الشافعية والحنابلة
(2)
فلا يُلزمون بهذا؛ لأن هذا خلاف مذهبهم.
وهذا الذي دعا بعضَ العلماء بأن يقولوا: بأن الإجارة جاءت على خلاف القياس، وقالوا: ذلك شبيه بالمساقاة والمضاربة؛ لأن المعروف أنك إذا اشتريت سلعة تدفع ثمنها وتتسلَّمها وتنتفع بها، وفي الإجارة تدفع ثمن الأُجرة وأنت بعد لم تنتفع، فدفعت مالًا دون أن تستفيد، كذلك - كما في السلم - تدفع المال مقدَّمًا، وأنت بعد لم تستفد من الموصوف في الذمة.
قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّ أَرْضَ المَطَرِ إِذَا أُكْرِيَتْ فَمَنَعَ القَحْطُ مِنْ زِرَاعَتِهَا، أَوْ زَرْعِهَا، فَلَمْ يَنْبُتِ الزَّرْعُ لِمَكَانِ القَحْطِ).
يعني بأرض المطر: الأرض التي تُغرس أو تزرع بماء المطر؛
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 125)، حيث قال:"لأنها سلم في المنافع فيمتنع فيها تأجيل الأجرة سواء أتأخر العمل فيها عن العقد أم لا".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 40)، حيث قال:"وتجب الأجرة بنفس العقد".
لأنَّ المطر لا ينزل في كل وقت، وإنَّما له مواسم، فإذا ما جاء قحطٌ توقَّف المطرُ ولم ينزل، وهذا قد استأجر هذه الأرض، ولا يستطيع أن يزرعها، والزراعة إنما تحتاج إلى الماء، والمطر قد تأخَّر فأصبحت أرضَ قحطٍ، يعني: غير صالحة للزراعة، وقد استأجرها إنسانٌ ليزرعها بماء المطر، فلم ينزل مطرٌ، فما حكم ذلك؟
قوله: (أَنَّ الكِرَاءَ يَنْفَسِخُ)
(1)
.
ذكرت قبلُ أنَّ أسباب الفسخ متعددة، منها: أن يتعذر استعمال العين؛ إما بهلاكها، وإما بعدم الاستفادة منها كهذه التي معنا.
قوله: (وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَعْذَرَتْ بِالمَطَرِ حَتَّى انْقَضَى زَمَنُ الزِّرَاعَةِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ المُكْتَرِي مِنْ أَنْ يَزْرَعَهَا).
وكذلك إذا "استعذر" يعني: تعذَّر استعمالها بالمطر؛ أي: لوجود مطر غزير قد تجمَّع فيها ولا يمكن أن يزرعها، فينفسخ العقد.
وهذا من عناية الفقهاء رحمهم الله فهم حقيقةً لا يقفون فقط عند أمهات المسائل، بل يُدقِّقون في الجزئيات والفرعيات، فيدرسون ويناقشون، ويبينون الحكم فيها إن كان هناك دليل، وإن لم يكن هناك دليل ذكروا علةَ المسألة وبينوها، فهم يتتبعون هذه المسائل ويدققون فيها ويُصدرون أحكامها؛ لأن هذه الأرض التي غمرها الماء أو التي انقطع عنها الماء لا شك أن المستأجر سيتضرر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لا ضَرَرَ ولا ضِرَار"
(2)
، فهذا الذي يستأجر الأرض، رُبَّما استأجرها ليقتات منها؛ ليأكل منها، وليُنفق على أولاده.
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 584)، حيث قال: "هلاك الزرع إن كان لقحط المطر
…
سقط كراء الأرض، كان هلاكه في الإبان أو بعده".
(2)
أخرجه ابن ماجه (2340) وغيره، ولفظه: عن عبادة بن الصامت، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن لا ضرر ولا ضرار"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(896).
قوله: (وَسَائِرُ الجَوَائِحِ
(1)
الَّتِي تُصِيبُ الزَّرْعَ لَا يَحُطُّ عَنْهُ مِنَ الكِرَاءِ شَيءٌ
(2)
).
تكلمنا فيما مضى عن (الجوائح) في (أحكام البيوع)، ورأيتم أن مالكًا لا يرى اعتبار الجائحة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم - في قصة ذلك الرجل الذي جاء مع أمه - جاءت امرأة بابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت بأنه استأجر مزرعة، وأنه أصابها ما أصابها من السنا، وأخبرها بأن الرجل حلف ألا يحط عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حلف أن لا يفعل خيرًا، وأقسم أن لا يفعل خيرًا"
(3)
، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق، أرأيت إن منع الله الثمر؟ "
(4)
يعني: أرأيت لو توقف إنتاج الثمار؟ "بم يأخذ أحدكم مال أخيه"، وفي بعض
(1)
الجوائح: جمع الجائحة وهي الآفة تصيب الثمر من حر مفرط أو صر أو برد أو برد يعظم حجمه فينقص الثمر، ينظر:"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للهروي (ص 136).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 50)، حيث قال: " (وإن فسد) الزرع (لجائحة) لا دخل للأرض فيها؛ كجراد وجليد، وبرد وجيش وغاصب، وعدم نبات حب بخلاف نحو الدود والعطش
…
فيلزم الكراء".
(3)
أخرجه أحمد (24405)، ولفظه: عن عائشة قالت: "دخلت امرأة على النبي فقالت: أي بأبي وأمي، إني ابتعت أنا وابني من فلان ثمر ماله، فأحصيناه، وحشدناه، لا، والذي أكرمك بما أكرمك به، ما أصبنا منه شيئًا، إلا شيئًا نأكله في بطوننا، أو نطعمه مسكينًا رجاء البركة، فنقصنا عليه، فجئنا نستوضعه ما نقصنا، فحلف بالله: لا يضع لنا شيئًا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَأَلَّى لا أصنع خيرًا"، ثلاث مرار، قال: فبلغ ذلك صاحب الثمر، فجاءه، فقال: أي بأبي وأمي، إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال ما شئت؟ فوضع ما نقصوا". وقال الأرناؤوط: "إسناده حسن".
(4)
أخرجه البخاري (2198)، ومسلم (1555)، ولفظه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، فقيل له: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إذا منع اللّه الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ ".
الروايات: "بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق"
(1)
، ولا شك أن هذه الشريعة قامت على الإرفاق فهي دائمًا تراعي جانب البائع والمشتري، والمستأجر والمؤجِّر، ومن يقوم على المساقاة، والمالك وهكذا في شأن الأحكام؛ فإن الشريعة دائمًا تسعى إلى ما فيه مصلحة الطرفين؛ لأن هذه الشريعة هي كما أخبر الله - سبحان الله وتعالى - نبيه:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]؛ لأن هذه الشريعة أنزلها علام الغيوب، أنزلها لأنه يعلم أن بها صلاح أحوالهم واستقامة أمورهم، وهدايتهم إلى طريق السعادة والرشاد، أمَّا إذا اتبعوا أهوائهم وانحرفوا عن ذلك خرجوا عن طريق الهداية والرشاد.
والناس مهما سمت عقولهم إلى المعرفة، ومهما بلغوا القِمَّة في الذكاء والفطنة؛ لا يمكن أن يصل أحدهم إلى الغاية التي أرادها الله - سبحان الله وتعالى - في عمارة هذا الكون وفي استقامة أحوال الناس، إلا باتباع هذه الشريعة؛ لأنَّها من عند الله، أمَّا أن يستخدم الإنسان عقله بعيدًا عن هذه الشريعة فهذا هو الضلال المبين، كما في القوانين الوضعية، فإنَّ القوانين الوضعية هي من أفكار الناس، أقوال وأفكار عششت فيها الرذائل، يضعونها اليوم ويغيرونها غدًا، يقررون حكمًا ثم يجدون ما يناقضه، ويسهل الخروج عليها؛ لأنها إنما من وضع البشر، والاحتيال على ما يضعه البشر سهل؛ لأن الاحتيال على القانون لا يهمه، لكن الشريعة لو جاء إنسان ليحتال عليها يكون عنده ضمير يؤنبه ويؤلمه.
ولذلك يذكر العلماء أن الناس بالنسبة للمواعظ أنواع ثلاثة - يشبهونهم فيها بمن يضرب بالسياط -:
فبعض الناس إذا ضرب بالسياط مجرد أن يرفع السياط عنه ينتهي ألمه؛ فهذا الذي يجلس في دروس الواعظ ويخرج لا يستفيد شيئًا.
(1)
أخرجه مسلم (1554/ 14) بلفظ: عن جابر بن عبد الله، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بِعْتَ من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ".
وبعضهم يحس بالألم لمدة مؤقتة.
وبعضهم تبقى آثار السياط في بدنه؛ فأولئك الذين يتأثرون بالمواعظ ويستفيدون منها، وبها تستقيم أحوالهم وتصلح أمورهم، وهؤلاء لا شك هم الذين وفقهم الله -سبحان الله وتعالى- في هذه الحياة
(1)
، فعلينا جميعًا أن نُدرك قيمة هذه الشريعة، وأن نحس بعظَمِها، فهذه الشريعة هي التي أعز الله بها المسلمين عندما حورب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ثم حُوصروا من قِبل أقوام في شعب بني عامر ثلاثة أعوام، لا ينكحون ولا ينكحون، ولا يزوجون ولا يأكلون، إلى غير ذلك
(2)
من الأمور الكثيرة، ثم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه البلدة الطيبة، وينبغي للمسلم عندما يمر به حدث من الأحداث التي وقعت في هذه الشريعة أن يستفيد منها، حتى تكون حافزًا له على الاستقامة على دين الله، وانتقل المسلمون من أن كانوا قلة إلى أن كانوا أقوياء، بدل أن كانوا يُحارَبون في وطنهم وفي بيوتهم وفي طرقاتهم، إلى أن مكَّن الله -سبحان الله وتعالى- لهم في الأرض؛ فأقاموا أول دولة في الإسلام، أول دولة قامت على التوحيد في المدينة النبوية المباركة ومنها ارتفعت راية الإسلام خفَّاقة، ومنها ارتفعت راية الجهاد، وفي المسجد النبوي الكريم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الخير، كانت الآيات تنزل والألوية تُعقد في هذا المسجد، وانتشر المسلمون في كل مكان يدعون إلى الفضيلة والخير.
قوله: (وَعِنْدَهُ أَنَّ الكِرَاءَ الَّذِي بِوَقْتٍ مَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الوَقْتُ
(1)
هذا الكلام مستفاد من "صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص 23 - 25)، حيث قال: "الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفته من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها؛ لسببين؛ أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها
…
".
(2)
يُنظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (ص 309 - 328)، حيث قال: "قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يَبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك
…
".
مَقْصُودًا - مِثْلَ كِرَاءِ الرَّوَاحِلِ فِي أَيَّامِ الحَجِّ، فَغَابَ المُكْرِي عَنْ ذَلِكَ الوَقْتِ - أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الكِرَاءُ)
(1)
.
إذا غاب المكري؛ مثاله: إنسان عنده رواحل - أو كالسيارات فهي تحل محلها، والقطارات والبواخر أو غير ذلك - فعقد صفقة ثم تأخر صاحب هذه الراحلة، أو السفينة فإنَّ الإجارة تنفسخ؛ لأن الضرر وقع على المكري، والقاعدة تقول:"لا ضرر ولا ضرار".
قوله: (وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الوَقْتُ مَقْصُودًا فَإِنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ)
(2)
.
إذا لم يكن الوقت مقصودًا فإنه لا ينفسخ؛ لأن الإجارة عقد لازم فلا تنفسخ الإجارة بمجرد وجود سبب من الأسباب لا يكون مانعًا من استخدامها.
قوله: (هَذَا كُلُّهُ عِنْدَهُ فِي الكِرَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِي الأعْيَان، فَأَمَّا الكِرَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ).
في الذمة؛ إنسان اتفق مع إنسان على أن يخيط له ثوبًا، أو يصنع له أبوابًا، أو غير ذلك من الأعمال الكثيرة.
(فَإِنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ عِنْدَهُ بِذَهَابِ العَيْنِ الَّتِي قَبَضَ المُسْتَأْجِرُ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا المَنْفَعَةَ؛ إِذْ كَان لَمْ يَنْعَقِدِ الكِرَاءُ عَلَى عَيْنٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 34)، حيث قال: "إذا اكتراها أيامًا معينة فزاغ ربُّها حتى انقضى ذلك الزمن كلاَّ أو بعضًا فإن الإجارة تنفسخ فيما فات منها؛
…
لأنه أوقع الكراء على نفس الزمن".
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 34)، حيث قال:"أستأجر دابتك لأسافر عليها لبلد كذا فتخلف ربُّها أيامًا، ثم جاء بها، فلا تنفسخ الإجارة، هذا إذا لم يفت مقصوده".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 37)، حيث قال: "المعينة المكتراة إذا هلكت في أثناء الطريق يجوز الرضا بغيرها (إن لم ينقد)
…
وأما غير المعينة، وهي المضمونة إذا هلكت فجواز الرضا بالبدل ظاهر مطلقًا".
مثاله: إنسان أراد أن يؤجِّر دابة وصفها كذا، فهذا ليس متعين بدابة بعينها ولا بسيارة بعينها، فإذا تأخرت هو يأتيه بسيارة أخرى.
قوله: (وَفُرُوعُ هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ، وَأُصُولُهُ هِيَ هَذِهِ الَّتِي ذَكرْنَاهَا).
فالمؤلف لم يستقصِ ولم يستوعب كُلِّ الفروع، وإنَّما أتى بالأصول، ومن ضبط الأصول سهل عليه الإمساك بالفروع، فإذا ضبطت أصول المسائل سهل عليك أن تعرف الفروع، وذلك أنَّ عندك أصلًا فأيُّ فرع من الفروع رُدَّه إلى هذه الأصول، فإن وجدته مطابقًا له أو ذا علاقة به فحينئذٍ ألحقه به.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الفَصْلُ والثَّانِي: وَهُوَ النَّظَرُ فِي الضَّمَانِ)
هذه مسألة مهمة، فقد يحصل تعدي؛ فمثلًا الأجير قد يتعدى، تذهب إلى نجار ليصنع أبوابًا لبيتك تتفق على مواصفات معينة، فتجد أنه أخلَّ بالعقد، أو تتفق مع مقاول يبني لك بيتًا وتجد أنه لم يلتزم الشروط والمواصفات التي تم الاتفاق عليها.
واعلم أنَّ الأحكام لا تتعلق بزمن معيَّن؛ فكل ما جدَّ من أحكام تُلحق بغيرها، كذلك إذا اتفقت مع إنسان ليطبخ لك طبخًا، فأذهبه عليك فهو مسؤول عنه، أو ذهبت إلى خباز ليخبز لك خبزًا، وأنت الذي سلمته العجين، فهو مسؤول عن ذلك، وهذا كله سيأتي إن شاء الله مفصلًا.
قوله: (وَالضَّمَانُ عِنْدَ الفُقَهَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِالتَّعَدِّي، أَوْ لِمَكَانِ المَصْلَحَةِ، وَحِفْظِ الأَمْوَالِ).
قد يكون سبب الضمان التعدي؛ كإنسان تعدَّى على الدابة أو السيارة فيضمن ذلك.
وقد لا يكون متعديًا لكنَّ المصلحة المرسلة تقتضي ذلك؛ مثل الصناع إذا لم يتعدوا، فأنت إذا ذهبت إلى إنسان ليخيط لك ثوبًا، أو ليصبغه، أو إلى مصنع من المصانع، فهذا نسميه أجيرًا مشتركًا، ويقول عنه الفقهاء بأنه ضامن، سواء تعدى أو لم يتعدَّ؛ وكونه تعدى ظاهر، أو لم يتعدى هذا هو الذي يريد يشير إليه المؤلف في قوله:"المصلحة"، والفقهاء في ذلك يعتمدون على ما أُثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "أنه كان يضمن الصناع"
(1)
؛ لأن الصناع لو تُسُهِّل معهم وأعطوا الراحة في ذلك لربما ادعى كل إنسان أن هذا الثوب حصل في كذا ليس مني، أو كذا أو أنه ضاع أو غيره، فلما يَضمنون يحرصون على حقوق الناس، هذا أثرٌ عن علي، فهذا هو مستند القول في هذه المسألة والمؤلف سيذكر ذلك بشيء من التفصيل.
قوله: (فَأَمَّا بِالتَّعَدِّي: فَيَجِبُ عَلَى المُكْرِي بِاتِّفَاقٍ، وَالخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي نَوْعِ التَّعَدِّي الَّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ أَوْ لَا يُوجِبُهُ، وَفِي قَدْرِهِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ العُلَمَاءِ فِي القَضَاءِ فِيمَنِ اكْتَرَى دَابَّةً إِلَى مَوْضِعٍ مَا، فَتَعَدَّى بِهَا إِلَى مَوْضِعٍ زَائِدٍ عَلَى المَوْضِعِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الكِرَاءُ).
يعني: تجاوز، هذا متعد، وسمِّي تعديًا نسبة إلى التعدي؛ لأنه تعدَّى على حق غيره، اتفق على قدر من المسافة فتجاوزها.
انظر إلى دقة الفقهاء؛ فمثلًا استأجرتَ سيارة إلى جدَّة فذهبت بها إلى مكة، فقد تجاوزت عدة أميال، تجاوزت المسافة؛ فهل تترك على راحتك تتصرف في حقوق الآخرين؟
انظر إلى جدة - الفقهاء واختلافهم، وكل له وجهة نظر، حتى تعرف أنَّ هذا الفقه ما جاء سدى، لم يجمعه الفقهاء بين عشية وضحاها، ولا أنه
(1)
أخرجه البيهقي (6/ 202)، بلفظ: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي: أنه كان يضمن الصباغ والصائغ، وقال:"لا يصلح للناس إلا ذاك"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1496).
كلام مرتجل، وإنما أُناس أفنوا أعمارهم ووقفوا حياتهم في خدمة هذا الدين، أولًا: أمضوا جزءًا وشطرًا كبيرًا من حياتهم يتعلمون العلم، ثم أخذوا يعلمونه الناس، ودونوا علمهم في صحف وكتب منشورة كالتي بين أيدينا.
إذًا هذه جهود عظيمة، نحن نضع أيدينا عليها نجدها قد استخلصت ونقيت وهذبت، فما علينا إلا أن نقرأها ونتعلمها، لكنَّ أولئك سهروا، يقرأ أحدهم الآيات ثم يستخرج الأحكام منها، يقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستنبط منها، وقد لا يجد لهذه المسألة نصًّا فيرد بعض الأحكام إلى بعض، ويلحق بعضها ببعض وهكذا
…
وأتباع الأئمة لما جاؤوا أفنوا أيضًا أوقاتًا طيبة.
والفقه ليس فقهًا جامدًا؛ لأنه يتجدد بتجدد الأحكام؛ فهناك وقائع حصلت وجدت أمور بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن الصحابة وفي زمن التابعين وفي زمن الأئمة وبعدهم، ولا يزال في عصرنا الحاضر، وهو أكثر ما يكون فيه المسائل التي جدت، فنحاول أن نردها إلى المسائل السابقة، نبحث لها عن أدلة، فإن لم نجد نردها إلى أصول المذاهب.
قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَحْمَدُ
(2)
: عَلَيْهِ الكِرَاءُ الَّذِي التَزَمَهُ إِلَى المَسَافَةِ المُشْتَرَطَةِ).
وهذا في الحقيقة أجود الآراء؛ لأن هذا هو الرأي الذي يلتقي مع روح الشريعة، لا نقول: هذا هو الرأي الأصوب؛ لأنه قال به فلان أو فلان، لا، ولكنَّ هذا هو الحق.
إنسان تجاوز هذه المسافة، وغالبًا سبب تجاوزه المسافة لأنه جدَّت
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 183)، حيث قال:(لزمه) مع المسمى (أجرة المثل للزيادة) لتعديه بها".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 18)، حيث قال:"استأجر ليركب أو يحمل (إلى موضع) فجاوزه؛ فعليه المسمى وأجرة المثل للزائد".
أمور فاحتاج إلى أن يتجاوز، ويصعب عليه أن يعود إلى صاحب الحق فيتفاهم معه، وحتى ولو كان تجاوزه تعديًا، فإنه يأخذ منه مقابله؛ لأن هذه السيارة أو الدابة أو الراحلة إنما وضعت للأجرة.
قوله: (وَمِثْلُ كِرَاءِ المَسَافَةِ الَّتِي تَعَدَّى فِيهَا).
يعني: يأخذ منه الإيجار الذي اتفق عليه، ثم بعد ذلك هذا القدر الذي زاده يأخذ منه مقابله على ضوء ما تقدم.
وقد يسأل سائل فيقول: على أيِّ تقدير نأخذه؟
والجواب: الغالب أنه يرجع إلى أجرة المثل، فمثلًا الأجرة إلى المكان الفلاني محدَّدة - وخصوصًا في هذا الزمن الأجرة إلى كذا بمبلغ كذا - فالفرق واضح، وإذا لم يعرف فإنه يجتهد في ذلك ويرجع إلى أجرة المثل، وإذا لم يمكن فيرجع إلى أهل الخبرة والمعرفة بذلك، وأبوابها بحمد الله واسعة.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: رَبُّ الدَّابَّةِ بِالخِيَارِ في أَنْ يَأْخُذَ كِرَاءَ دَابَّتِهِ فِي المَسَافَةِ الَّتِي تَعَدَّى فِيهَا).
مالكٌ يوافق في الجزء الأول الحنابلة والشافعية؛ أن يأخذ أجرةَ المسافة التي زادت، فهنا يلتقي الإمام مالك مع الإمامين الشافعي وأحمد.
قوله: (أَوْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الدَّابَّةِ)
(1)
.
أو يضمن له قيمة الدابة؛ أي: يأخذها ويعطيه القيمة.
وهذا فيه غرابة، لكن الإمام مالكًا عندما قال به علَّل فقال: أنه نظر إلى الحبس، كأنه بزيادة المسافة حبس الدابة فترة من الزمن، فحبسها ومنع
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 42)، حيث قال:"فله الكراء الأول، ويخير بين أن يأخذ كراء الزائد أو قيمة الدابة فله الأكثر".
الاستفادة بها، فيعاقب بالنقيض؛ فيقال له: تدفع قيمتها وتأخذها، وهذا حقيقة فيه بعد.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كِرَاءَ عَلَيهِ فِي المَسَافَةِ المُتَعَدَّاةِ)
(1)
.
وهذا أيضًا غريب جدًّا؛ لأنه إذا تعدى إنسان فلم نأخذ على يديه فسوف يتعدى كل إنسان.
قوله: (وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ فِي المَسَافَةِ المُتَعَدَّاةِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا)
(2)
.
هذا ليس فيه خلاف؛ لأنه عندما يتجاوز فتلفت بمكان تعدى فيه وهو ضامن.
قوله: (فَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى المَنْفَعَةِ فَلَزِمَهُ أُجْرَةُ المِثْلِ، أَصْلُهُ التَّعَدِّي عَلَى سَائِوِ المَنَافِعِ).
يعني: قياسًا على سائر المنافع التي يُتعدى فيها، فكما أنه إذا تعدى على منفعة من المنافع يُأخذ منه مقابل التعدي؛ فكذلك هنا.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 215)، حيث قال:"لأنه خالف في المكان بالإمساك الخارج عن العادة، فصار غاصبًا، فيضمن إذا هلك، ولا أجرة عليه".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بداية المبتدي" للمرغيناني (ص 188)، حيث قال:"وإن استأجرها إلى الحيرة فجاوز بها إلى القادسية، ثم ردها إلى الحيرة، ثم نفقت - فهو ضامن".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 42)، حيث قال:"الدابة إذا عطبت بزيادة المسافة يضمن مطلقًا".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 184)، حيث قال:" (وإن تلفت بذلك) المحمول أو بسبب آخر (ضمنها) ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 18)، حيث قال:" (ضمن قيمتها) كلها لتعديه (سواء تلفت في الزيادة، أو) تلفت (بعد ردها إلى المسافة) ".
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَكَأَنَّهُ لَمَّا حَبَسَ الدَّابَّةَ عَنْ أَسْوَاقِهَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى عَلَيْهَا فِيهَا نَفْسِهَا فَشَبَّهَهُ بِالغَاصِبِ، وَفيهِ ضَعْفٌ).
أحسن المؤلف رحمه الله! مما يُعجبني بصاحب هذا الكتاب رحمه الله أنَّه مالكيٌّ مُنصف، فعندما يمر به رأي ضعيف يرى ضعفه في مذهب مالك لا يجامل، وهذا هو طالب الحق؛ ينبغي له أن يكون صادقًا صريحًا، لا يأخذه التعصب لمذهب، لا أقول -مثلًا-: أنا تعلمت وترعرعت ودرست مذهب الحنابلة، والحق هو مذهبهم، ولا توجد مسائل في المذاهب الأخرى أصح وأقوى، ولا يقول ذلك من درس مذهب الشافعية أيضًا.
ومنذ أن بدأنا في شرح هذا الكتاب ما رأينا مسألة يبدو فيها المؤلِّف رحمه الله متعصِّبًا؛ بل رأيناه يضعف مذهب المالكية أكثر من غيره، وهذا هو غاية الإنصاف، وهذا هو الذي يريد الوصول إلى الحق.
قوله: (وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَبَعِيدٌ جِدًّا عَمَّا تَقْتَضِيهِ الأُصُولُ الشَّرْعِيَّةُ).
لأن المتعدي متجاوز للحد، والله تعالى يقول:{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190].
هذا إنسان قد تعدى فيعامل مقابل تعديه، أما أن يتعدى إنسان فنكافئه، فنقول بردًا وسلامًا، فهذا سيفتح بابًا مُغلقًا، وسيكون مدخلًا لكثير من الناس ليتجرؤوا عليه فيقول: أنا إذا احتجت فأزيد فيحتال الناس.
قوله: (وَالأَقْرَبُ إِلَى الأُصُولِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ: هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ).
هو الأقرب لروح هذه الشريعة وأصولها وقواعدها التي قامت عليها؛ لأن من أصولها وقواعدها العدل، والعدل يقتضي أن يُنصف المؤجر والمستأجر، فلا يأخذ مثلًا بجانب المستأجر ويغفل جانب المؤجر.
قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّ عِثَارَ الدَّابَّةِ لَوْ كَانَتْ عَثُور
(1)
- تَعَدِّ مِنْ صَاحِبِ الدَّابَّةِ يَضْمَنُ بِهَا الحَمْلَ)
(2)
.
ربما أشكل على القارئ أنه قال: "كانت"، ولم يقل:"كان عثورًا"، هذه مما يجوز فيها التذكير والتأنيث.
وعمر رضي الله عنه من دقته وحرصه على أمور المسلمين كان يقول: "لو دابة عثرت في العراق لكنت مسؤولًا عنها"
(3)
؛ من إحساسه رضي الله عنه بالمسؤولية، وهذا هو واجب كل مسلم، ليس فقط من ولي أمور المسلمين، بل كل مسلم كبيرًا كان أو صغيرًا يتولى أي أمر من أمور المسلمين فهو مسؤول عن ذلك؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلكم راع، وكل راع مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته"
(4)
، وصاحب البيت أيضًا راع، والمدرس راع، والموظف المسؤول المدير راع، وهكذا كل واحد منا راع.
(1)
عثر الرجل يعثر عثورًا، إذا أصاب قوائمه شيء، فيصرع أو يتتعتع، انظر:"العين" للخليل (2/ 105).
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 555)، حيث قال:"من أكرى دابته عالمًا أنها عثور ولم يعلمه ذلك، فعثرت فانكسر ما عليها فهو ضامن".
(3)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (9/ 506) عن الأوزاعي بلاغًا قال: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: "لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخفت أن أسأل عنها".
ووصله البلاذري في "أنساب الأشراف"(10/ 354) قال: حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن عاصم بن عمر عن محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن عن حاطب عن أبيه عن عمر أنه قال: "لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضياعًا لخشيت أن يسألني الله عنها".
(4)
أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (1829)، بلفظ: عن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
إذًا هذه الدابة العثور، هذا عيب الدابة التي تعثر، يعني: تسقط، ربما لا تمشي مشيًا مستقيمًا لها عثور، وهذا العثور قد يُوقعها في الأرض، وهذه الدابة عليها بضاعة هذه البضاعة أيضًا قد تسقط عنها وربما تتكسر أو تتأثر، وربما تكون زجاجة أو فخارًا أو غير ذلك، وربما تكون سيارة هذه السيارة تتعطل، هذا تعطيل لصاحب الأجرة لا يجوز، وهو داخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"مَن غَشَّنا فَلَيس منا"
(1)
، يعني: إذا كان صاحب الدابة أو صاحب السيارة أو صاحب الدار التي يُعرف فيها عيوبًا يعرف أن في أُسِّها عيوبًا ويؤجِّرها غيرُه من المسلمين، أو أي سلعة من السلع يبيعها أو يؤجرها ويعرف أن فيها عيبًا يُغطيه عن أخيه المؤمن، أو حتى غير المؤمن لا يجوز له، لكنَّ المسلم ينبغي أن يكون قدوة في كل أموره في معاملاته وغيرها؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى صاحب الطعام فأدخل يده فيه، وجد بَلَلًا فيه، قال:"ما هذا يا صاحب الطعام"؟ قال: "أصابته السماء"، قال:"هلَّا أظهرته إلى الناس ليروه"
(2)
، لِمَ تدسُّه؟!
وهذا الآن يحصل كثيرًا من الذين يبيعون، فيضعون البضاعة التي فيها فساد أسفل، ويُزيَّن أعلى الصندوق أو الكرتونة أو غير ذلك، هذا غشٌّ لا يجوز، قد تكسب مبلغًا، لكن ربما تصيبك دعوة من هذا الإنسان الذي رأى هذا البريق الجيد، فإذا ما وصل إلى بيته وجد أسفله خاربًا، وربما يقول: لا وفقه الله، لا جزاه الله خيرًا، فهذه كلمة ليست بيسيرة قد توافق بابًا فتُستجاب دعوته، فلا ينبغي للمسلم أن يَغشَّ إخوانه أو المؤمنين، بل يكون صريحًا ورزقه على الله -سبحان الله وتعالى- والله تعالى يقول:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم تتوكلون
(1)
أخرجه مسلم (101)، بلفظ: عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا".
(2)
أخرجه مسلم (102)، بلفظ: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال:"ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال:"أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني".
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدوا خماصًا وتروح بطانًا"
(1)
.
وهذه من الأمور التي تميز بها الإسلام؛ حسن المعاملة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بين أنَّ:"الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وأن الرجل لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا"، قال:"وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"
(2)
، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفات المسلم، وعن وقوعه في بعض المعاصي من زنا وغيره فقال:"يحصل منه ويسرق"، ولما قيل:"أيكذب؟ " قال: "لا يكذب المسلم"
(3)
؛ لأن الكذب من صفات المنافقين؛ "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"
(4)
، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة الكذب، وفي بعضها: "أربع:
…
وإذا خاصم فجر"
(5)
، فينبغي للمسلم أن يبتعد
(1)
أخرجه الترمذي (2344) وغيره، بلفظ: عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(310).
(2)
أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607)، بلفظ: عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابًا".
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 990)(19)، بلفظ: عن صفوان بن سليم، أنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ فقال: "نعم"، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ فقال: "نعم"، فقيل له:"أيكون المؤمن كذابًا"؟ فقال: "لا".
وقال شعيب الأرناؤوط في هامش "مسند أحمد"(36/ 505): "إسناده صحيح إلا أنه مرسل أو معضل".
(4)
أخرجه البخاري (33)، ومسلم (107)، بلفظ: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
(5)
أخرجه البخاري (34)، ومسلم (106)، بلفظ: عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه =
عن سبيل المنافقين، ولأن من اتصف بصفات المنافقين كان منافقًا، ومن كان فيه خصلة من خصال المنافقين كان فيه خصلة من خصال النفاق فلنحذر ذلك.
قوله: (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الحِبَالُ رَثَّةً، وَمَسَائِلُ هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ).
كذلك أيضًا الحبال إذا كانت رثَّة قد أثرت فيها الشمس أو طول الزمن.
قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ إِلَّا مِنْ جِهَةِ المَصْلَحَةِ فَهُمُ الصُّنَّاعُ).
أي: الذين يقومون بالصناعات، وسموا بالصناع نسبة إلى الصنعة، فيدخل في ذلك: الخياط، والذي يقوم بكي الثياب، وصاحب المصنع، والطبَّاخ، وصاحب الفرن، والنجار والسباك وغير هؤلاء الذين يتحمَّلون أمورًا، ولكون عملهم فيه تعدٍ، وهذا سيقسمه المؤلف - كما قسمه غيره - إلى قسمين: أجير خاص، وأجير مشترك، وهما يختلفان من حيث الضمان.
قوله: (وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الأَجِيرَ لَيْسَ بِضَامِنٍ لِمَا هَلَكَ عِنْدَهُ مِمَّا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّى)
(1)
.
= خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (558)، حيث قال:"ولا يضمن ما هلك في يده وإن شرط عليه الضمان".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقى" لابن عرفة (4/ 28)، حيث قال:"فلا ضمان على أجير خاص".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 185)، حيث قال: "ولو تلف المال في يد أجير بلا تعد
…
لم يضمن".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 33)، حيث قال: "الأجير
…
ولا ضمان عليه فيما يتلف في يده".
اعلم أنَّ الأجير ينقسم إلى قسمين: أجير خاص، وأجير مشترك:
فالأجير الخاص: هو الذي يقع العقد معه على مدة معلومة، وسمِّي خاصًّا: لأنه يعمل لمصلحة المالك، يعني اختص بمنفعته دون غيره فلا يشركه غيره فيه؛ كأن يستأجر الإنسان إنسانًا ليعمل في مصنعه أو في متجره أو في دُكَّانه، أو في منزله، أو ليخيط له الثياب، أو ليعمل له أمورًا تتعلق بالكهرباء، أو النجارة، أو السباكة، ربما أفسد من غير تعدٍّ، قالوا: لا ضمان عليه؛ لأنه بمنزلة المالك، ينزل منزلته؛ لأنه استأجره، ووثق به وأقامه مقامه، فأيُّ تقصير منه حصل من غير تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه، وقاسوه على الوكيل؛ فإن الإنسان إذا وكَّل إنسانًا فاشترى له سلعة فخسر فيها ولم يكن قد أراد الوكيل قد أراد الضرر، فليس عليه شيء في ذلك، كذلك أيضًا الشريك في المضاربة، كل هؤلاء ليس عليهم شيء، هذا هو قول الأئمة: أبو حنيفة ومالك وأحمد، وهو قول للإمام الشافعي، وللشافعي قول آخر: يرى فيه أن الأجير الخاص يضمن أيضًا.
أما الأجير المشترك: وهو الذي يقع معه العقد على عمل معين دون أن يكون خاصًّا بذلك الإنسان، وسمِّي مشتركًا؛ لأنه لا يختص بالذي يتعامل مع وحده، بل قد يتعامل مع اثنين أو ثلاثة أو مئة أو أكثر أو أقل.
هذا ملخص لما سيذكره المؤلف رحمه الله ثُمَّ نعلِّق على كلامه.
مثاله: لو أن إنسانًا استأجر راعيًا على غنم ثم ماتت بعضُ تلك الماشية، لا يكون ضامنًا ما لم يُفرِّط أو يتعدَّى، فلو عاد عليها الذئب فأكل شيئًا منها - دون إهمال منه - لا يعتبر تفريطًا منه ولا ضمان عليه.
قوله: (مَا عَدَا حَامِلَ الطَّعَامِ، وَالطَّحَّانَ، فَإِنَّ مَالِكًا ضَمَّنَهُ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبِهِ)
(1)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 27)، حيث قال: "فمن دفع لطحان قمحًا في قفة ليطحنه له
…
فادعى ضياع الكل ضمن القمح".
استثنى مالك رحمه الله ذلك؛ لأنه رأى فيه المصلحة، وقد انفرد به مالكٌ رحمه الله.
يعمل عنده فسقط الطعام الذي معه، أو كان زجاجًا فانكسر، فذهبت مصلحته يضمن عنده، وكذلك الطحان الذي يطحن.
قوله (وَأَمَّا تَضْمِينُ الصُّنَّاعِ مَا ادَّعَوْا هَلَاكَهُ مِنَ المَصْنُوعَاتِ المَدْفْوعَةِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في ذَلِكَ).
وأما تضمين الصناع ما ادعوا تلفه من غير تقصير منهم، فهل يقبل قولهم في ذلك أو لا؟
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوُسُفَ: يَضْمَنُونَ مَا هَلَكَ عِنْدَهُمْ)
(1)
.
وكذلك الإمام أحمد
(2)
، وهذا هو رأي الجمهور؛ يرون أن الأجير المشترك يضمن ما تسبب في هلاكه أو فساده سواء تعدى أو لم يتعدَّ؛ لأنَّ يده أمينة على هذا العمل، فينبغي أن يؤديَه كما كان، ويستدلُّ هؤلاء بحديث. "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"
(3)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَضْمَنُ مَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَلَا الخَاصُّ
(4)
، وَبَضْمَنُ المُشْتَرَكُ، وَمَنْ عَمِلَ بِأَجْرٍ).
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 183)، حيث قال:"هم ضامنون، فهذا قول مالك بن أنس، وابن أبي ليلى، وكذلك قال يعقوب".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 33)، حيث قال:" (ويضمن) الأجير المشترك ما تلف بفعله ولو بخطئه".
(3)
أخرجه أبو داود (3561) وغيره، بلفظ: عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"على اليد ما أخذت حتى تؤدي"، ثم إن الحسن نسي، فقال:"هو أمينك لا ضمان عليه".
وضعفه الألباني فىِ "إرواء الغليل"(1516).
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 102)، حيث قال: "وأجير خاص فالمشترك: من=
من عمل بغير أَجر ولا الخاص هذان لا يضمنان عند أبي حنيفة، وكذلك أحمد
(1)
، وهو قولٌ للإمام الشافعي.
فبالنسمة لمالك وابن أبي ليلى التضمين مطلق، أما الأئمة الآخرون؛ أبو حنيفة وكذلك أحمد، وهو قول للشافعي: فلا ضمان على أجير خاص ولا على إنسان يعمل بغير أجر.
قوله: (وَلِلشَّافِعِيِّ
(2)
قَوْلَانِ فِي المُشَتَرَكِ. وَالخَاصُّ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يَعْمَل فِي مَنْزِلِ المُستَأْجِرِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لم يَنْتَصِبْ لِلناس
(3)
، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الخَاصِّ، وَهُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ ضَامِنٍ).
دليلُ مالكٍ وابنِ أبي ليلى اللذين أطلقا الضمان هو حديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"
(4)
، وجمهور العلماء الذين قالوا بأن الأجير الخاص والذي يعمل بغير أجر لا ضمان عليه ما لم يتعديا يستدلون بأنَّه
=لا يستحق الأجرة حتى يعمل
…
والمتاع أمانة في يده: إن هلك لم يضمن شيئًا عند أبي حنيفة".
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 269)، حيث قال: "ولا ضمان على أجير خاص
…
؛ لأن عمله غيو مضمون عليه، فلم يضمن ما تلف به".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 180)، حيث قال: "ولو تلف المال في يد أجير بلا تعد
…
لم يضمن
…
(و) القول الثاني يضمن كالمستعير".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفى (ص 583)، حيث قال:"وهو من يعمل لواحد عملًا مؤقتًا بالتخصيص".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 28)، حيث قال:" (إن نصب نفسه) لعموم الناس فلا ضمان على أجير خاص بشخص أو بجماعة مخصوصة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (ص 162)، حيث قال: "ولو تلف المال في يد أجير بلا تعد
…
لم يضمن إن لم ينفرد باليد؛ بأن قعد المستأجر معه أو أحضره منزله".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 269)، حيث قال:"أجير خاص، وهو من استأجر مدة سلم نفسه لمستأجر كأن عمل ببيته".
(4)
تقدم تخريجه.
أمين على ذلك العمل، وأنه حل محل المالك، وأنه كالوكيل على العمل وكالمضارب، كما أن الوكيل لا يضمن ما لم يُفرِّط، وكذلك - أيضًا - المضارب مع شريكه؛ يعني: الذي يعرف بالقراض لا ضمان عليه، وأولئك - أي: الذين قالوا بالتضمين - قاسوا ذلك على العارية؛ لأن العارية مؤدَّاة
(1)
.
قوله: (وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى هَذَا أَنَّ الصَّانِعَ المُشْتَرَكَ يَضْمَنُ، وَسَوَاءٌ عَمِلَ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَبِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ قَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ).
أعاد ما ذكره بأن الإمام مالكًا يرى تضمين المشترك، فالحقيقة أنَّ مذهب جمهور العلماء أن الأجير المشترك ضامن عند الجمهور، ما عدا الشافعي فله قولان: قول مع الجمهور، وقول انفرد به.
بل يرى الربيع بن سليمان - من أصحاب الإمام الشافعي - أن هذا هو رأيه، أنَّ الأجير الخاص يضمن، لأثر علي رضي الله عنه الذي أخرجه الشافعي في "مسنده" أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضمن الأجراء وقال:"لا يُصلح الناسَ إلا هذا"
(2)
.
(1)
جزء من حديث أخرجه الترمذي (1265) عن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخطبة عام حجة الوداع: "العارية مؤداة، والزعيم غارم، والدين مقضي" وصححه الألباني "إرواء الغليل"(1412).
(2)
لم أجده في "مسند الشافعي" وما في "الأم"(7/ 102): "وقد يروى من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله أن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - ضمن الغسال والصباغ وقال: "لا يصلح الناس إلا ذلك"، أخبرنا بذلك إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًّا - رضي الله تعالى عنه - قال ذلك، ويروى عن عمر تضمين بعض الصناع من وجه أضعف من هذا، ولم نعلم واحدًا منهما يثبت، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان لا يضمن أحدًا من الأجراء من وجه لا يثبت مثله".
وأما الجمهور الذين قالوا بتضمين المشترك دون الخاص فيستدلون - أيضًا - بأثر علي رضي الله عنه "أنه ضمن الصباغة والسوار"، أي: الصناع، وقال:"لا يصلح الناس إلا ذلك"
(1)
.
وأجابوا على أثر علي الذي أورده الشافعي في "مسنده": بأنه مرسل، وأن الثاني أصح، فيحمل هذا على ذاك، فيعتبرون هذا مطلقًا، وذاك مقيدًا؛ أي: أنه قام بتضمين الصناع، والصناع أهل الصنعة عمومًا، أما الأجير الخاص فلا ضمان عليه.
قد اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه كان يضمن الصناع، ويقول:"لا يُصلحِ الناس إلا ذلك"؛ لأن الصناع ربما يتساهلون في حقوق الناس، فمثلًا الخياط، تأتيه بثياب، وهذا يأتيه .. ، فيضعها ويهمل، فربما ترتب ضرر، كذلك غيره من الصناع؛ كالطباخ مثلًا يتكاثر عليه الناس، فالخباز قد يشعل النار ويوقدها بشكل زائد فيحرق له الخبز، وربما يفسد على الناس طبيخهم، فأراد أن يضع زاجرًا ورادعًا لأولئك حتى يهتموا بأمور الناس، وألا يأخذ الإنسان إلا القدر الذي يستطيع أن يقوم به على أكمل وجه.
قوله: (وإنْ كَانَ قَدِ اخْتُلِفَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ).
ورد عن عليٍّ في تضمين الصناع وتضمين الأجراء، والذي ثبت عنه أنه ضمن الصناع، وقال:"لا يصلح الناس إلا هذا"، أما الأجراء فاختلف فيه كما أشرنا.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَرَ الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ شَبَّهَ الصُّنَّاع بِالمُودَعِ عِنْدَهُ، وَالشَّرِيكِ، وَالوَكِيلِ، وَأَجِيرِ الغَنَمِ، وَمَنْ ضَمَّنَهُ فَلَا دَلِيلَ لَهُ إِلَّا النَّظَرُ إِلَى المَصْلَحَةِ وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ).
(1)
أخرجه البيهقي (6/ 202)، بلفظ: عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي:"أنه كان يضمن الصباغ والصائغ وقال: لا يصلح للناس إلا ذاك"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1496).
ولا شك أن النظر إلى المصلحة وسد الذرائع باب مطلوب؛ لأن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، ولا شك أنَّ من الأمور التي انفردت بها هذه الأمة واختصها الله به -سبحان الله وتعالى- ما جاء في قوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فهذه خصيصة بها هذه الأمة، وميزة ميزها الله -سبحان الله وتعالى- بها؛ لأنها تدعو إلى الخير وترشد إلى طريق الفلاح، ولا شك أن هذا عمل عظيم، وهو عكس ما كان عليه بنو إسرائيل {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 79]، بئس ذلك العمل، ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، إلا أنه على مراحل؛ المرحلة الأولى: التغيير باليد؛ كما في الحديث: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"
(1)
، فليس لكل أحد أن يغير منكرًا بيده، وإنما هذا لولي الأمر الذي بإمكانه أن يغيره، وأيضًا اللسان تنظر هل إذا دعوت بلسانك سيترتب عليه مصلحة أو أنه سيترتب عليه ضرر، فهذا الأمر بالمعروف الذي أوجبه الله تعالى، فإن كان سيترتب عليه ضرر أكبر أو مماثل فدعه، ومن هنا قال العلماء:"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"
(2)
، وهي قاعدة فقهية معروفة، ولها أمثلة كثيرة، ومنها هذا المثل الذي ذكرنا.
(1)
أخرجه مسلم (49)، بلفظ: عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
(2)
الأصل أن الشريعة جاءت لجلب المنافع، ودرء المفاسد، فإذا تعارضت مصلحة ومفسدة قدم دفع المفسدة غالبًا؛ لأن الشرع حريص بدفع الفساد، ويعتني بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات؛ لأن إزالة المفسدة أو درءها فيها منفعتان؛ المنفعة الأولى: عدم وقوع المفسدة.=
إذًا تغريم الصناع أو تضمينه هذا فيه مصلحة؛ لأنه إذا عرف الصانع - أو الصباغ الذي يصبغ الثياب، أو صاحب المصنع، أو الطباخ، أو الخباز، أو النجار، أو الحداد، أو السباك، أو الكهربائي - إذا عَرف هؤلاء بأنهم مسؤولون عن أعمالهم، وأنهم سيحاسبون عليها، لا شك أنهم سيجدون في ذلك، ولذلك أحيانًا تكون القوة رادعة لبعض الناس، فمن المصلحة هنا أن يشدد في هذا المقام، ولذلك لم يشدد في موضوع الأجير الخاص؛ لأنه موضع أمانة لكن لو تعدى كان ضامنًا أيضًا، أما هذا فإنه يضمن من باب يسد الذرائع.
"قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلُوا بِأَجْرٍ أَوْ لَا يَعْمَلُوا بِأَجْرٍ: فَلِأَنَّ العَامِلَ بِغَيْرِ أَجْرٍ إِنَّمَا قَبَضَ المَعْمُولَ لِمَنْفَعَةِ صَاحِبِهِ فَقَطْ، فَأَشْبَهَ المُودَعَ، وَإِذَا قَبَضَهَا بِأَجْرٍ فَالمَنْفَعَةُ لِكِلَيْهِمَا، فَغَلَبَتْ مَنْفَعَةُ القَابِضِ، أَصْلُهُ القَرْضُ وَالعَارِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ لَمْ يَنْصِبْ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ فِي تَضْمِينِهِ سَدُّ ذَرِيعَةٍ)
(1)
.
حتى إن بعض العلماء يرى - أيضًا - أن الذي يعمل بغير أجر ينقسم إلى قسمين:
إن حصل منه تعدٍ فهو ضامن.
- المنفعة الثانية: تركُ المرء سالمًا؛ لأن الضر إذا وقع على الإنسان فإنه يعيقه عن كثير من المصالح التي لا بد أن يتقدم لها.
ويشترط في تقديم درء المفسدة ألا يؤدي إلى مفسدة أخرى، فيلغى التقديم؛ لأن الشريعة مبناها على تحصيل الصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكان. انظر:"قواعد الأحكام في مصالح الأنام" للعز بن عبد السلام (1/ 98)، و"الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (3/ 14) و"القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه" لمحمد حسن عبد الغفار (12/ 3).
(1)
يُنظر: "الفروق" للقرافي (3/ 266)، حيث قال: "الذريعة هي الوسيلة للشيء وهي ثلاثة أقسام؛ منها: ما أجمع الناس على سده، ومنها ما أجمعوا على عدم سده، ومنها ما اختلفوا فيه، فالمجمع على عدم سده كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر
…
".
أما إذا لم يتعدَّ فلا؛ لأنه أصلًا عمل لمصلحة المستأجر أيضًا، يلحقون بذلك، إلا لو أن إنسانًا ذهب إلى آخر، وقال: اعمل لي هذه الأشياء، ولم يتفق معه على أجرة بل سكت عن ذلك، فهل في ذلك أجرة المثل؟ هل لو حصل تقصير أو تفريط من الصانع يأخذ؟ الجواب: نعم.
قوله: (وَالأَجِيرُ عِنْدَ مَالِكٍ كَمَا قُلْنَا لَا يَضْمَنُ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ تَضْمِينَ حَامِلِ القُوتِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَكَذَلِكَ الطَّحَّانُ)
(1)
.
يقصد به الأجير الخاص، يعني: الذي يعمل في بيت الإنسان أو في دكانه أو في مصنعه أو في بقالته أو في صيدليته أو في ورشته، هذا يُسمَّى أجيرٌ خاص؛ لأنه وقف نفسه على عمل هذا الإنسان، فهو استأجره مدة معينة يعمل له دون غيره، ألا وهو المراد.
قوله: (وَمَا عَدَا غَيْرَهُمْ فَلَا يَضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي، وَصَاحِبُ الحَمَّامِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ، هَذَا هُوَ المَشْهُورُ عَنْهُ
(2)
، وَقَدْ قِيلَ: يَضْمَنُ
(3)
. وَشَذَّ أَشْهَبُ
(4)
فَضَمَّنَ الصُّنَّاعَ مَا قَامَتِ البَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُمْ وَلَا تَفْرِيطٍ، وَهُوَ شُذُوذٌ).
وشذَّ أشهب من المالكية فقال بتضمين الصناع.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 27)، حيث قال: "فمن دفع لطحان قمحًا في قفة ليطحنه له
…
فادعى ضياع الكل ضمن القمح".
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 26)، حيث قال:"وأما صاحب الحمام فلا ضمان عليه اتفاقًا".
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 26)، حيث قال:"واستحسن بعض المتأخرين تضمينهم نظرًا لكونه من المصالح العامة".
(4)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 558)، حيث قال:"إلا أشهب؛ فإنه ضمنهم وإن قامت البينة على التلف".
قوله: (وَلَا خِلَافَ أَنَّ الصُّنَّاعَ لَا يَضْمَنُونَ مَا لَمْ يَقْبِضُوا فِي مَنَازِلِهِمْ)
(1)
.
هذه مسألة أخرى: هل هناك فرق بين أن تقدم إلى الصانع المشترك عملًا فيعمله في مصنعه أو في دكانه أو في داره، وبين أن يأتي إليك فيعملة في بيتك؟
يأتي الطباخ إلى دارك فيطبخ لك، أو يكون عندك تنور فيخبز لك، أو يكون عندك مثلًا مكائن فيخيط لك في بيتك، أو ينقل آلاته إلى بيتك، هل هذا يختلف؟ الجواب نعم.
فأكثر العلماء: يرودن أنه إذا عمل في بيت المستأجر فينزَّل منزلة الأجير الخاص، فلا يضمن ما لم يتعدَّ.
وهذا يجرُّنا إلى مسألة أخرى: لو أن الإنسان استأجر أجيرًا خاصًّا فعمل في بيت المستأجر ثم حصل - أيضًا - تقصير في العمل؛ كذهاب شيء من العمل فإنَّه يُنزَّل منزلة الأجير الخاص؛ إن حصل تفريط فعليه الضمان والا فلا.
قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِ المَصْنُوعِ، وَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُمْ؛ هَلْ تَجِبُ لَهُمُ الأُجْرَةُ أَمْ لَا، إِذَا كَانَ
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 16)، حيث قال:"فله الأجر لتسليمه بالوضع في بيته ولا غرم".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 28)، حيث قال:"فإن صنعها ببيته، ولو بغير حضوره أو صنعها بحضوره لم يضمن".
مذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (ص 162)، حيث قال:"لم يضمن إن لم ينفرد باليد بأن قعد المستأجر معه، أو أحضره منزله".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 269)، حيث قال: "ولا ضمان على أجير
…
لمستأجر كأن عمل ببيته".
هَلَاكُهُ بَعْدَ إِتْمَامِ الصَّنْعَةِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِ بَعْضِهَا؟ فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: لَهُمْ
(1)
.
وهذا قول الإمام أحمد
(2)
أيضًا.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ المَوَّازِ: لَهُمُ الأُجْرَةُ).
وهو من المالكية، وهناك خلاف في مذهب الشافعية
(3)
.
قوله: (وَوَجْهُ مَا قَالَ ابْنُ المَوَّازِ: أَنَّ المُصِيبَةَ إِذَا نَزَلَتْ بِالمُسْتَأْجِرِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْضِيَ عَمَلُ الصَّانِعِ بَاطِلًا، وَوَجْهُ مَا قَالَ ابْنُ القَاسِمِ: أَنَّ الأُجْرَةَ إِنَّمَا اسْتُوجِبَتْ فِي مُقَابَلَةِ العَمَلِ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ إِذَا هَلَكَ بِتَفْرِيطٍ مِنَ الأَجِيرِ).
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (6/ 73)، حيث قال:"ولو قامت بينة بضياعه؛ فقد قال ابن المواز: هو من صاحبه وعليه الأجرة، وقال ابن القاسم "في المدونة": لا أجرة عليه".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 33)، حيث قال:"لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجرة فيما عمل فيه".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 477) حيث قال: " (ولو تلف المال) أو بعضه (في يد أجير) قبل العمل فيه أو بعده (بلا تعد) منه فيه (كثوب استؤجر لخياطته أو صبغه) بفتح الصاد بخطه؛ لأن المراد بالمصدر ما لا يصبغ به (لم يضمن إن لم ينفرد) ذلك الأجير (باليد)، وفسر عدم الانفراد بها بقوله: (بأن قعد المستأجر معه أو أحضره منزله) ولم يقعد، وكذا لو حمله المتاع ومشى خلفه، كما قاله القاضي حسين؛ لأن يد المالك ثابتة على العين حكمًا، وإنما استعان بالأجير في شغله كالمستعين بالوكيل، (وكذا إن انفرد) باليد، سواء المشترك والمنفرد، فإن انتفى ما ذكر في القسم قبله لا يضمن (في أظهر الأقوال)، والثاني: يضمن كالمستام؛ لأنه أخذه لمنفعة نفسه. ودفع بأنه أخذه لمنفعة المستأجر أيضًا، فلا يضمن كعامل القراض، وقال الربيع: اعتقاد الشافعي أنه لا ضمان على الأجير، وأن القاضي يقضي بعلمه، وكان لا يبوح به خشية قضاة السوء وأجراء السوء، وقال الفارقي بعد أن صحح الأول: إلا أن يعمل به: أي: بالثاني لفساد الناس".
يعني أنَّ هذه الأجرة وجبت مقابل عمل يقدمه لمن استأجره، فإذا لم يقدم العمل فلا أجرة حينئذٍ، فأراد ابن القاسم أن لا تجتمع عليه مصيبتان؛ مصيبة أنه ضمن، ومصيبة أخرى أنه لا أجرة له على عمله.
قوله: (وَقَوْلُ ابْنِ المَوَّازِ أَقْيَسُ، وَقَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ أَكْثَرُ نَظَرًا إِلَى المَصْلَحَةِ؛ لِأنَّهُ رَأَى أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي المُصِيبَةِ).
أما ابن الموَّاز: فلأنه نظر إلى الضرر، وابن القاسم: قال أقرب للمصلحة؛ لأن فيه سدًّا لباب الذرائع.
قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي ضَمَانِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ
(1)
، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الضَّمَانُ إِلَّا مِنَ المَوْجِ)
(2)
.
قال أبو حنيفة والشافعي
(3)
وأحمد
(4)
أيضًا: عليه الضمان إلا من الأمور التي لا تدخل تحت قدرته وطاقته، أما إذا قصر صاحب السفينة في الجدف، أو في صيانة السفينة، أو تغير طريقها، إلى غير ذلك من المغامرات بها فإنه يضمن، لكن إذا جاءت أمواج فرفعت السفينة وغيرت اتجاهها، وربما ترتب عليها ضرر، فإنه في هذه الحالة لا ضمان عليه؛
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 27)، حيث قال: "عامل السفينة، أي: من ينسب سيرها
…
أما لو غرقت بعد تمام المسافة، وبعد مضي مدة يمكن إخراج الأحمال منها فإنه لا ضمان على النوتي".
(2)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 66)، حيث قال: "لأنها لو غرقت من ريح أو موج أو
…
فهلك ما فيها لا يضمن".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (7/ 47)، حيث قال: "وإذا غرقت سفينة الملاح فغرق الذي فيها، وقد حمله بأجر فغرقت من مده، أو معالجته السفينة
…
إذا فعل من ذلك الفعل الذي يفعل بمثلها في ذلك الوقت الذي فعل لم يضمن، وإذا تعدى ذلك ضمن".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 33)، حيث قال: " (و) يضمن أيضًا ما تلف بقوده وسوقه
…
وكذا
…
ملاح سفينة".
لأنه لا قدرة له في ذلك؛ إذ ذلك أمر خارج عن إرادته؛ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
قوله: (وَأَصْلُ مَذْهَب مَالِكٍ
(1)
: أَنَّ الصُّنَّاعَ يَضْمَنُونَ كُلَّ مَا أَتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ حَرْقٍ، أَوْ كَسْرٍ فِي المَصْنُوعِ، أَوْ قَطْعٍ إِذَا عَمِلَهُ فِي حَانُوتِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ قَاعِدًا مَعَهُ).
هذه مسألة جديدة، هل هناك فرق بين تضمين الصانع في حالة غياب صاحب الصنعة وبين أن يكون معه؟
ولو قُدِّر أن إنسانًا استأجر سيارة، ثم حمل بضائع فوق هذه السيارة ثم حصل خلل فهل يتغير الحال؟ أو استأجر جملًا - كما كان يذكر العلماء فيما مضى - فحصل أيضًا عيب فيما يتعلق بحمل البضائع، - كذلك أيضًا في غير ذلك - من الصناعات جاء عامل إلى دار إنسان فبدأ يعمل فحصل خلل وصاحب البيت ينظر إليه وهو ساكت، أو إنسان يعمل في الكهرباء، أو في الأبواب عمل أبوابًا ثم جاء صاحب البيت وقال: لا، أنا وضعتها على مواصفات كذا وأنت وضعتها على مواصفات كذا، هو كان موجودًا معه في هذه الحالة، فلماذا لم يطالبه بالتغير؟ يعني بإيجاز واختصار: هل وجود المستأجر مع الأجير يغير الحكم أو لا يغيره في حالة وجود ضرر؟
هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء؛ فبعض العلماء: يرى أن ذلك يؤثر، وأنه ما دام المستأجر موجودًا مع الأجير؛ أي: المشترك، وليس الخاص ما دام موجودًا معه فكان عليه أن ينبهه، وإن حصل- أيضًا - عيب فإنه يشترك فيه فلا ضمان عليه.
وبعضهم يرى أن وجوده لا أثر له، وأن هذا عقد يلزم الأجير
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 26)، حيث قال:"الجالس في حانوته فإنه يضمن مطلقًا".
المشترك عليه أن يقوم به؛ لأنه استأجر على وقع العقد معه على عمل معين في وقت محدد يلزمه أن يقوم فيه، فأي تقصير يحصل منه فإنه يجب عليه أن يتحمله ولا يشركه فيه صاحب الأجرة؛ أي: المستأجر.
قوله: (إِلَّا فِيمَا كَانَ فِيهِ تَغْرِيرٌ مِنَ الأَعْمَالِ، مِثْلُ ثَقْبِ الجَوَهِرِ).
هناك أعمال دقيقة قد تفوت أحذق الناس وأكثرهم مهارة، هناك أعمال يحصل فيها خلل، ولا شك أن للصانع تأثيرًا في ذلك، وهناك أعمال دقيقة جدًّا لا يستطيع أن يتخلص منها أحذق الصنِاع، فهل الأمر مختلف أو لا؟ هذا هو الذي يريد أن يذكره فقال:"مِثْلُ ثقْبِ الجَوَهِرِ"، هذا أمر دقيق يحتاج إلى عناية وإلى دقة.
قوله: (وَنَقْشِ الفُصُوصِ).
أي: فصوص الخواتم، فالخاتم له فصٌّ نقشه ليس بسهل، هل يكون لغيره لما أخطأ في الصناعات أو لا؟
قوله: (وَتَقْوِيمِ السُّيُوفِ).
كذلك أيضًا تقويم السيوف المعوجة، وربما يكون في هذا الزمن سهل الأمر؛ لوجود الآلات التي تعين لوجود المقايس وغير ذلك، لكنَّ الكلام هنا فيما مضى.
قوله: (وَاحْتِرَاقِ الخُبْزِ عِنْدَ القَرَّان، وَالطَّبِيبِ يَمُوتُ العَلِيلُ مِنْ مُعَالَجَتِهِ).
هذا موضع لطيف أمره مهم؛ الطبيب، والمطبب؛ كالحجام الذي يحجم.
والأمر ليس على إطلاقه كما ذكر المؤلف؛ فقد وضع العلماء شرطين أساسيين، إذا توفرا فلا ضمان على هؤلاء، لا ضمان على حجام ولا على طبيب ولا على ختان:
الشرط الأول: أن يكون حاذقًا في صنعته، عارفًا بصيرًا بها.
الشرط الثاني: أن لا يتعدى ولا يتجاوز؛ حتى ولو كان طبيبًا ماهرًا، فلو كان طبيبًا ماهرًا وتجاوز الحد فإنه حينئذٍ يتحمل المسؤولية، فلو جاء طبيب يختن إنسانًا فتجاوز الحد فقطع جزءًا من الذكر تحمل، وكذلك أجر عملية تحمل الأجر، إذن هذا يتحمله فليس على إطلاقه.
قوله: (وَكَذَلِكَ البَيْطَار
(1)
، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ تَعَدَّى فَيَضْمَنُ حِينَئِذٍ
(2)
.
قوله: (وَأَمَّا الطَّبِيبُ وَمَا أَشْبَهَهُ إِذَا أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ المَعْرِفَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ).
إذا أخطأ في فعله ولم يتعدَّ، أما إن تعدى فعليه الضمان، وقوله:"ليس عليه في النفس"، يقصد أن يأخذ من القصاص.
قوله: (وَالدِّيَةُ عَلَى العَاقِلَةِ فِيمَا فَوْقَ الثُّلُثِ، وَفِي مَالِهِ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ).
هذا عند المالكية، وعند كثير أنه يضمن مطلقًا، هذا إذا قلنا إذا كان متعديًا، أما إذا كان غير متعدٍ فلا.
قوله: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ المَعْرِفَةِ فَعَلَيْهِ الضَّرْبُ، وَالسَّجْنُ، وَالدِّيَةُ، قِيلَ: فِي مَالِهِ، وَقِيلَ: عَلَى العَاقِلَةِ)
(3)
.
(1)
البيطار: معالج الدَّواب، انظر:"تاج العروس" للزبيدي (10/ 213) و"المعجم الوسيط"(1/ 79).
(2)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 28)، حيث قال:"إلا أن يكون في صنعته تغرير؛ كثقب اللؤلؤ، ونقش الفصوص، وتقويم السيوف، وكذا الختان، والطب، فلا ضمان إلا بالتفريط".
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 28)، حيث قال:"كان أخطأ في فعله، والحال أنه من أهل المعرفة، فالدية على عاقلته، فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب، وفي كون الدية على عاقلته أو في ماله قولان".
هذا من باب المصلحة عند المالكية، ومن باب سد الذرائع، وهذا النوع من التعزير هو الذي لا يصل الحد، فإن الإنسان يجلد في التعزير إلى أن يصل إلى أقل الحدود، يعني ما ينقص عن الحد، ولو سوطًا واحدًا، فلا يجلد ثمانين سوطًا، بل تسعة وسبعين سوطًا فأقل، وهذا التعزير إنما وضع للردع في الأمور التي لا يَرتكب فيها الإنسان عملًا، أو يفعل معصية تستوجب إقامة الحد عليه.
والحدود معروفة؛ فهناك حد السرقة، وهناك حد القذف، وهناك حد القصاص، وكل هؤلاء معروفة، وهناك شيء من التعزير لتأديب الناس وإلزامهم الطريق، وعمر رضي الله عنه كان يحمل درَّته معه - يعني عصاه -، وكان يضرب بها إذا رأى مصلحة لذلك.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى:
(الفَصلُ الثَّالثُ: فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الاختِلَافِ)
انتهى المؤلف رحمه الله من الضمان، ولكن قد يحصل اختلاف، وهذا شأن هذه الحياة، ومن ذلك: ما يحصل بين البائع والمشتري، وبين المؤخر والمستأجر.
قوله: (وَهُوَ النَّظَرُ فِي الِاخْتِلَافِ، وَفِي هَذَا البَابِ أَيْضًا مَسَائِلُ: فَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا إِذَا اخْتَلَفَ الصَّانِعُ وَرَبُّ المَصْنُوعِ فِي صِفَةِ الصَّنْعَةِ).
إذا اختلف الصانع - الذي هو قائم بعمل الصنعة - وربُّ الصنعة - صاحبها الذي يقدمها للصناعة -، يقدم قطعة قماش، أو يذهب إلى طباخ ليطبخ له هذا الطبيخ، ثم يغير فيه، أو إلى فران أو غير ذلك.
قوله: (فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: القَوْلُ قَوْلُ رَبِّ المَصْنُوعِ
(1)
، وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: القَوْلُ قَوْلُ الصَّانِعِ
(3)
).
صانع ومستأجر، هذا يقول: أنا طلبت الصنعة على كذا، وهذا يقول لا بل على كذا، قال له - مثلًا -: اصبغ لي هذا الثوب كذا، فصبغه كذا، أو قال: اعمل لي كذا ونحو ذلك.
قال مالك وابن أبي ليلى وأحمد
(4)
وأكثر الفقهاء: القول قول الصانع، فهذا مدعي وهذا منكر، ودائمًا الفقهاء يغلبون جانب المنكر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى الناس دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"
(5)
.
قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ مَنِ المُدَّعِي مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَمَنِ المُدَّعَى عَلَيْهِ؟).
هذا هو هذا سر الخلاف: من المدعي ومن المدعى عليه؟!
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 104)، حيث قال:"فالقول قول صاحب الثوب مع يمينه عند أبي حنيفة".
(2)
بُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 56)، حيث قال:"القول للصانع إن خولف في الاستصناع، أو خولف في الصفة".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 198)، حيث قال:"إذا اختلف الأجير والمستأجر، فالقول قول الأجير".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 38)، حيث قال:"وإن قال الخياط لرب الثوب: أذنت لي في تفصيله قباء، فقال رب الثوب: بل قميصًا؛ فالقول قول الخياط".
(5)
أخرجه البيهقي (10/ 427) بلفظ: عن ابن أبي مليكة، قال: كنت قاضيًا لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين، قال: فكتبت إلى ابن عباس، فكتب ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"، وذكر الحديث. قال الأرناؤوط في حاشية "سنن أبي داود" (5/ 469):"إسناده حسن".
والظاهر أن المدَّعي: هو هذا الذي سلم هذه الصنعة لتصلح له، يعني: الذي قدر ثوب إنسان ليخيطه، هذا مدعي قول: أنا طلبت كذا، والمدعى عليه هو الذي يوصم بالتفصيل ألا وهو.
قوله: (وَمِنْهَا: إِذَا ادَّعَى الصُّنَّاعُ رَدَّ مَا اسْتُصْنِعُوا فِيهِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الدَّافِعُ؛ فَالقَوْلُ عِنْدَ مَالِكٍ قَوْلُ الدَّافِعِ، وَعَلَى الصُّنَّاعِ البَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُمْ كانُوا ضَامِنِينَ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ)
(1)
).
ادَّعى الصانع أنه أعاد الثوب إلى صاحبه، ونفى صاحبها وصولها إليه.
وهذا هو قول الإمام مالك وأحمد أيضًا؛ لأنهم كانوا ضامنين لما في أيديهم.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ المَاجِشُونِ: القَوْلُ قَوْلُ الصُّنَّاعِ إِنْ كانَ مَا دُفِعَ إِلَيْهِمْ دُفِعَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ كانَ دُفِعَ إِلَيْهِمْ بِبَيِّنَةٍ فَلَا يَبْرَؤُونَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ)
(2)
).
بعض العلماء وضع قيدًا أو قرينة لذلك؛ فمثلًا اختلفا في الصنعة، فقال: أنا طلبت منك كذا، فقالوا يُنظر لهذا الإنسان هل يلبس مثل هذه الصنعة؟ هل يستخدمها أو لا؟
فإن كان لا يستخدمها؛ فإنَّ الأولى والأحرى بأن يصدق المستأجر.
قوله: (وِإذَا اخْتَلَفَ الصَّانِعُ وَرَبُّ المَتَاعِ فِي دَفْعِ الأجْرَةِ؛ فَالمَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ: أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ الصَّانِعِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ قَامَ بِحِدْثَانِ
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 56)، حيث قال:"ادعى الصانع رد المصنوع لربه، وأنكر ربه أخذه؛ كان القول قول ربه؛ سواء كان الصانع قبضه ببينة أو بغيرها".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 587)، حيث قال:"وقال ابن الماجشون: إن الصناع مصدقون في رد المتاع إلى أهله مع أيمانهم، إلا أن يأخذوه ببينة فلا يبرؤوا إلا ببينة".
ذَلِكَ، وَإِنْ تَطَاوَلَ: فَالقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ المَصْنُوعِ)
(1)
.
إذا اختلفا في الأجرة: فأكثر العلماء - كالشافعية
(2)
والحنابلة
(3)
- قالوا يتحالفان؛ فيحلف كل منهما على ما ادعاه، ثم يُنظر في الأمر، فلا يخلو: إما أن يكون الاختلاف قبل القبض أو بعده.
فإن كان قبل القبض: تفاسخ وانتهى.
وإن كان بعد القبض وقبل الاشتغال به - أي: قبل الاشتغال بذلك العمل - فإنهما أيضًا يتفاسخان، إلا إذا رضي أحدهما بما قاله الآخر؛ فتحالفا ثم اقتنع أحدهما بقول الآخر، قال: ما دمت حلفتَ فقد رضيتُ بذلك؛ كما في الحديث: "من حُلِف له بالله فليرضَ"
(4)
، وأنت قد حلفتَ وأنا قد رضيتُ، ثم يقران على ذلك، فيصبح قد أقر بذلك.
هذا واضح في مذهب الإمامين الشافعي وأحمد، وهما ملتقيان في هذه المسألة.
قوله: (وَإِذَا اخْتَلَفَ المُكْرِي وَالمُكْتَرِي، أَوِ الأَجِيرُ وَالمُسْتَأْجِرُ، فِي مُدَّةِ الزَّمَان الَّذِي وَقَعَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ المَنْفَعَةِ، إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ المَنْفَعَةَ
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (4/ 57)، حيث قال:"امتنع ربه من دفع قيمة الصبغ (قوله: وبدأ الصانع) أي؛ لأنه بائع للمنافع فيحلف أنه استصنعه، ويحلف ربه أنه ما استصنعه".
(2)
ينظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" للشيرازي (2/ 269) حيث قال: "إذا اختلف المتكاريان في مقدار المنفعة أو قدر الأجرة ولم تكن بينة فتحالفا".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 236) حيث قال: "لو اختلف المؤجر والمستأجر في الأجرة .. (ولا بينة) لأحدهما، تحالفا (أو لهما) بينة (تحالفا) وسقطت بينتاهما لتعارضهما".
(4)
أخرجه ابن ماجه (2101) وغيره، بلفظ: عن نافع ابن عمر قال: سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يحلف بأبيه فقال: "لا تحلفوا بآبائكم؛ مَن حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله". وقال الألباني في "إرواء الغليل"(2698): وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما قال البوصيري في "الزوائد".
لَمْ تُسْتَوْفَ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ المَضْرُوبِ فِي ذَلِكَ، فَالمَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ: أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ المُكْتَرِي وَالمُسْتَأْجِرِ).
وعند الإمام أحمد قول المالك؛ لأنه منكر، وكل الخلاف في هذه المسألة يدور أيهما المدعي وأيهما المدعى عليه؟!
هذه المسألة تدور حول هذا دائمًا؛ المنكر يجعل أن القول قوله، لكنهم يختلفون أيهما المدعي؟!
في مذهب مالك أن أحيانًا تتحول القضية؛ بأن يكون المدعي مدعى عليه أو العكس، وقد مرَّ ذلك في البيوع لعلكم تذكرون، لكن الحديث:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال، أو لادعى أقوام دماء ناس وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"
(1)
وفي رواية: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"
(2)
.
قوله: (لِأَنَّهُ الغَارِمُ، وَالأُصُولُ عَلَى أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ الغَارِمِ).
وعند أحمد: القول هو قول المالك؛ لأنه منكر - كما ذكرنا - ولا أذكر بقية الآواء.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ المَاجِشُونِ: القَوْلُ قَوْلُ المُكْتَرِي لَهُ وَالمُسْتَأْجِرِ)
(3)
.
نبهت كثيرًا على أنَّ المؤلف مع أنَّه عُني بأصول المسائل وأمهاتها، والتزم أن لا يشتغل بالفروع، وأن يكون على مذهب جماهير الفقهاء؛ نراه في
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي (1341)، بلفظ: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:"البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"، وقال:"هذا حديث في إسناده مقال"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2661) لشاهد حديث ابن عباس السابق.
(3)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 49) حيث قال: "وأما الأجير الحر، فالقول قوله مع يمينه كان يختلف إليه، أو مأواه إليه، قبض الأجر أو لم يقبض، وقاله ابن الماجشون، ورواه عن مالك".
باب البيوع وفي الإجارة يتوسع في مذهب مالك، يدخل في الفروع وفي الخلافات في داخل المذهب، ولم يلتزم ما صار عليه في الشطر الأول من الكتاب؛ فإنه في النصف الأول من الكتاب التزم المنهج، وكان فعلًا يدور في ذلك الفلك، ولا يكثر من ذكر مذهب أحمد؛ لأنه لم يكن مشتهرًا في بلاد الأندلس؛ لأنَّ صاحب هذا الكتاب رحمه الله يعتمد على ابن عبد البر رحمه الله.
قوله: (إِذَا كَانَتِ العَيْنُ المُسْتَوْفَاةُ مِنْهَا المَنَافِعُ فِي قَبْضِهِمَا، مِثْلَ الدَّارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ فِي قَبْضِهِ مِثْلَ الأَجِيرِ فَالقَوْلُ قَوْلُ الأَجِيرِ).
لهذا تفصيل في مذهب مالك؛ ابن الماجشون وافق مالكًا، وهو من أتباعه في جزء مما قال، لكنه فصل القول في المسألة.
قوله: (وَمِنْ مَسَائِلِ المَذْهَبِ المَشْهُورَةِ فِي هَذَا البَابِ: اخْتِلَافُ المُتَكَارِيَيْنِ فِي الدَّوَابِّ وَفِي الرَّوَاحِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي قَدْرِ المَسَافَةِ، أَوْ نَوْعِهَا).
لأنهما قد يختلفان في المسافة، يقول: أجَّرتك مسافة كذا، ويقول المستأجر: بل إلى مسافة كذا، فقد مرَّ بنا إذا تجاوز المستأجر المسافة.
قوله: (أَوْ قَدْرِ الكِرَاءِ أَوْ نَوْعِهِ).
كُلُّ ذلك محل خلاف بينهم، يكون الخلاف في النوع، وفي قدر الكراء؛ أي: قدر الأجرة.
قوله: (فَإِنْ كانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي نَوْعِ المَسَافَةِ، أَوْ فِي نَوْعِ الكِرَاءِ: فَالتَّحَالُفُ وَالتَّفَاسُخُ كَاخْتِلَافِ المُتَبَايِعَيْنِ فِي نَوْعِ الثَّمَنِ)
(1)
.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" لابن عرفة (3/ 188)، جث قال: "إن اختلف المتبايعان في جنس الثمن
…
(قوله لذات أو منفعة) أشار بهذا إلى أن اختلاف المستأجرين والمكترين يجري فيه ما ذكر هنا".
هذا الذي مر في مذهبي الشافعية والحنابلة، عندما يحصل الخلاف في الأجرة يتحالفان، ثم لا يخلو الحال أن يكون ذلك حصل قبل القبض أو بعده؛ فإن كان قبل القبض تفاسخَا، وانتهى الأمر، وإن كان بعد القبض فكذلك، ما لم يتم الشروع في العمل، إلا أن يقر أحدهما ويرضى أحدهما بما حلف عليه صاحبه، حينئذٍ يقرَّان على ما كان، فإن لم يحصل فإنها تنفسخ، وإن شرع في العمل فله أجرة مثل أي عامل.
قوله: (قَالَ ابْنُ القَاسِمِ: انْعَقَدَ أَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ
(1)
، وَقَالَ غَيْرُهُ: القَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ إِذَا انْعَقَدَ، وَكَانَ يُشْبِهُ مَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي قَدْرِ المَسَافَةِ: فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوبِ، أَوْ بَعْدَ رُكُوبٍ يَسِيرٍ، فَالتَّحَالُفُ وَالتَّفَاسُخُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ رُكُوبِ كثِيرٍ، أَوْ بُلُوغِ المَسَافَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا رَبُّ الدَّابَّةِ: فَالقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابًّةِ فِي المَسَافَةِ إِن انْعَقَدَ، وَكَانَ يُشْبِهُ مَا قَالَ، وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ وَأَشْبَهَ قَوْلَهُ تَحَالَفَا).
هذا التفصيل كله في مذهب مالك، وقد عرفنا فيما مضى رأيَ المذاهب الأخرى.
قوله: (وَبُفْسَخُ الكِرَاءُ عَلَى أَعْظَمِ المَسَافَتَيْنِ، فَمَا جُعِلَ مِنْهُ لِلْمَسَافَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا رَبُّ الدَّابَّةِ أُعْطِيَهُ، وَكذَلِكَ إِن انْعَقَدَ وَلَمْ يُشْبِهْ قَوْلَهُ،
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (2/ 199) حيث قال: "إذا اختلفا في جملة المسافة، أو في نوع الكراء، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان من غير تفصيل، ومضى القول في حكم التحالف والتفاسخ في ذلك، وكذلك يتحالفان ويتفاسخان أيضًا إذا اختلفا في عدد الكراء قبل الركوب أو بعد الركوب بشيء يسير لا ضرر فيه في الرجوع عليهما تعد أو لم نقد
…
وكذلك يتحالفان ويتفاسخان أيضا إذا اختلفا في غاية المسافة قبل الركوب أو بعد الركوب بشيء يسير لا ضرر فيه عليهما في الرجوع منه نقد أو لم ينقد على مذهب ابن القاسم، وقال غيره: إذا نقد فالقول قول المكري، وعلى قول أشهب: يتحالفان ويتفاسحان، ركب أو لم يركب، نقد أو لم ينقد".
وَإنِ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَاتَّفَقَا عَلَى المَسَافَةِ: فَالقَوْلُ قَوْلُ المُكْتَرِي نَقَدَ أَوْ لَمْ يَنْقُدْ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ).
هذا هو الذي مر فيه تفصيل المذاهب الأخرى، إذا اختلف في الثمن - أي الأجرة - قال: لأنه مدعى عليه.
قوله: (وإِنِ اخْتَلَفَا فِي الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ فِي المَسَافَةِ وَالثَّمَنِ).
مثل أن يقول رب الدابة: إن اختلفا في المدة وفي الآجرة، يعني: اجتمعا.
قوله: (مثْلَ أَنْ يَقُولَ والدَّابَّة بِقُرْطُبَةَ: اكتَرَيْتُ مِنْكَ إِلَى قَرْمُونَةَ بِدِينَارينِ، وَيَقُولُ المُكْتَرِي: بَلْ بِدِينَارٍ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، فَإِنْ كَانَ أَيْضًا قَبْلَ الرُّكُوبِ أَوْ بَعْدَ رُكُوبٍ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِمَا فِي الرُّجُوعِ تَحَالَفَا، وَتَفَاسَخَا، وَإِنْ كانَ بَعْدَ سَيْرٍ كثِيرٍ أَوْ بُلُوغِ المَسَافَةِ الَّتِي يَدَّعِمهَا رَبُّ الدَّابَّةِ: فَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْقُدِ المُكْتَرِي شَيْئًا: كَانَ القَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الدَّابَّةِ فِي المَسَافَةِ، وَالقَوْلُ قَوْلَ المُكْتَرِي فِي الثَّمَنِ).
ينقد: أي: يدفع شيئًا من الثمن أو الثمن.
قوله: (ويُغَرَّمُ مِنَ الثَّمَنِ مَا يَجِبُ لَهُ مِنْ قُرْطُبَةَ إِلَى قَرْمُونَةَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الكِرَاءُ بِهِ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَوْلُ المُكْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ مَا قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ غُرِّمَ دِينَارينِ، وَإِنْ كَانَ المُكْتَرِي نَقَدَ الثَّمَنَ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ لِلْمَسَافَةِ الكُبْرَى، وَأَشْبَهَ قَوْلَ رَبِّ الدَّابَّةِ: كَانَ القَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الدَّابَّةِ فِي المَسَافَةِ، وَيَبْقَى لَهُ ذَلِكَ الثَّمَنُ الَّذِي قَبَضَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشيْءٍ مِنْهُ؛ إِذْ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي بَعْضِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: بَلْ هُوَ لِي وَزِيَادَةٌ، فَيَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ، وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَمْ يُقَرِّبْ بِهِ مِنَ المَسَافَةِ أَشْبَهَ مَا قَالَ، أَوْ لَمْ يُشْبِهْ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْبِهْ قُسِّمَ
الكِرَاءُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ المُكْتَرِي عَلَى المَسَافَةِ، فَيَأْخُذُ رَبُّ الدَّابَّةِ مِنْ ذَلِكَ مَا نَابَ المَسَافَةَ الَّتِي ادَّعَاهَا، وَهَذَا القَدْرُ كَافٍ لي فِي هَذَا البَابِ).
يعني: قسم الكراء على المسافة كلها، ثم نظر كم قطع من المسافة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[بسم الله الرحمن الرحيم]
[صَلَّى اللَّه عَلَى محمّد وآله وسلَّم تسليما]
([كِتَابُ الجُعْلِ
(1)
])
كتاب الجُعل أو الجعالة، جاءت بتثليث الجيم، الجُعَالة بضم الجيم، والجَعالة بفتحها، والجِعالة بكسرها.
والمراد بها: الالتزام بعوض معين مُقابل عمل معلوم أو مجهول.
والجعالة في حقيقتها من الإجارة
(2)
، لكنَّ العلماء فصَلوها عنها؛
(1)
الجعالة في اللغة: الجعل والجعالة بتثليث الجيم، والجعيلة ما يجعل للإنسان على عمله، وهو أعم من الأجر والثواب، وشرعًا: التزام مال معلوم في مقابلة عمل معلوم، لا على وجه الإجازة. انظر:"التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 127).
الجعالة في اصطلاح الفقهاء:
مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (5/ 3) حيث قال: "الجُعل بالضم: ما جعل للإنسان من شيء على شيء يفعله".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي" للخلوتي (4/ 79) حيث قال: "والجعالة بفتح الجيم وكسرها وضمها ما يجعل على العمل وهو رخصة فهو أصل منفرد لا يقاس عليه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 439) حيث قال: "التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو مجهول".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (2/ 394) حيث قال: "وهي جعل شيء معلوم: كأجرة لا من مال حربي فيصح مجهولاً لمن يعمل له عملًا مباحًا ولا مجهولًا، وعلى مدة ولو مجهولة".
(2)
الإجارة: العقد على المنافع بعوض وهو مال وتمليك المنفعة بعوض إجارة وبغيره إعارة". انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 38).
لأن الإجارة عقد لازم، ومن شرط العقد اللازم أن يكون العوض معلومًا، وأن تكون المدة معلومة، ولا يتحقق ذلك كله في الجعالة؛ فالجعالة يشترط فيها أن يكون العوض معلومًا؛ كأن يقول إنسانٌ: من ردَّ لي ضالتي فله مائة ريال، فقوله هنا:"من ردَّ ضالتي" الزمن فيه غير معلوم، فربما تطول به الأيام، وربما يجد الضالة خلال ساعة، وربما لا يجدها، فالمدة إذًا مجهولة في الجعالة في الغالب، وربما تكون المدة معلومة؛ كأن يقول: من ردَّ لي ضالتي من بلد كذا، أو ربما جعل ذلك عملًا، فقال: من خاط لي قميصًا فله كذا، أو من بنى لي هذا الجدار فله كذا.
إذًا: الإجارة والجعالة يلتقيان في أنَّ كل ما جاز أن يكون عوضًا في الإجارة جاز كذلك أن يكون عوضًا في الجعالة، وكما أن الإجارة يُشترط فيها أن يكون العوض معلومًا كذلك يُشترط - أيضًا - في الجعالة، وكما أنه يشترط في الجعالة أن يكون العوض مباحًا فلا يجوز أخذ العوض عن المحرمات، ولا على بعض القربات؛ كصلاة، كذلك - أيضًا - لا يجوز أخذ الجعل على أمر محرم، ولا على عبادة من العبادات التي يلزم الإنسان الإتيان بها، وقد عرفت فيما مضى في مواضع عدة اختلافَ العلماء في أخذ الأجرة على القربات؛ فبعضهم أجاز ذلك، وبعضهم منع، لكنهم متفقون على أن بعضها لا يجوز أخذ الجعل عليه كالصلاة، وكذلك الحال بالنسبة لما هو محرم.
وربما يضع الإنسان مبلغًا معينًا لشخص، وربما يضعه لأكثر، وهذا من الفوارق بين الجعالة والإجارة، فيقول مثلًا: من رد لي ضالتي فله كذا وكذا، وربما يقول: إن ردَّ فلان ضالتي فله كذا، وربما يقول: من رد ضالتي من مكان كذا، فلو ردها من غير ذلك المكان فلا جعل له، ولو أنه ردها من نصف المسافة يأخذ نصف الأجرة.
وهذه الجعالة التي اقتصر فيها المؤلف على صفحة تقريبًا فيها كلام كثير للعلماء، أوجزه أو لَخَّصه المؤلف رحمه الله.
قوله: (وَالجُعْلُ: هُوَ الإِجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَظْنُونٍ حُصُولُهَا).
لأن قوله: من رد ضالتي، أو من رد عبدي الآبق، أو من بنى لي حائطًا، هذه منفعة بلا شك، إذًا هو التزام بتقديم عوض محدد معين على عمل مضمون أو مجهول أو معلوم.
قوله: (مِثْلَ مُشَارَطَةِ الطَّبِيبِ عَلَى البُرْءِ، وَالمُعَلِّمِ عَلَى الحِذَاقِ، وَالنَّاشِدِ عَلَى وُجُودِ العَبْدِ الآبِقِ).
هل هذه من المسائل التي تعد جعلًا؟ أو هي مسائل الإجارة؟
لا شك أن هناك مسائل أجمع العلماء على أنها إجارة؛ كأن يقول: من رد ضالتي، أو عبدي الآبق، أو من بنى لي حائطًا، أو خاط لي قميصًا، هذه لا شك من الجعالة باتفاق بين العلماء، لكن الجعالة - كما قلنا - تختلف عن الإجارة، فهي عقد جائز؛ يعني يجوز لكُلِّ واحد من المتعاقدين فسخ العقد ما لم يتم العمل، يجوز لهما، لكن الإجارة عند الشروع لا يجوز، إلا إذا وجد سبب من الأسباب التي تُبطل العقد أو تفسخه.
قوله: (وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي مَنْعِهِ وَجَوَازِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي اليَسِيرِ بِشَرْطَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَضْرِبَ لِذَلِكَ أَجَلًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا).
الإجارة من حيث الجملة متفق عليها بين الأئمة الأربعة ليس كما ذكر المؤلف؛ فأبو حنيفة
(1)
ومالك
(2)
والشافعي
(3)
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 135) حيث قال: "قال المصنف في وجه الاستحسان، ولنا إجماع الصحابة على أصل الجعل".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (4/ 79) حيث يقول: "والجعالة - بفتح الجيم وكسرها وضمها - ما يجعل على العمل وهو رخصة، فهو أصل منفرد لا يقاس عليه، وقد أنكره جماعة من العلماء، ورأوا أنه من الغرر والخطر".
(3)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 439) حيث قال: "والأصل فيها قبل=
وأحمد
(1)
كلهم متفقون على جوازها، وأنها عقدٌ جائز، وأنها تجوز على مجهول، وأنها مما خففت فيه هذه الشريعة ويسوت فيها؛ لأن هناك أعمالًا لا يمكن أن تتم عن طريق الإجارة لوجود الجُعالة فيها، فطريقها إنما هو الجعالة.
بل إنَّ من العلماء من ذكر أنه لا خلاف في جوازها.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ؛ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ).
المعروف أن للشافعي قولًا واحدًا!
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72].
هذه الآية التي أشار إليها المؤلف هي في سورة يوسف، في قصته مِع إخوته عندما قالوا:{نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} ؛ أي: ضامن وكفيل، وهذه الآية استدل بها العلماء على مشروعية الجعالة.
والجعالة مشروعة بالكتاب والسنة وبما يقتضيه العقل:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} .
فحِمل البعير كان جُعلًا لمن يأتي بذلك الصاع، فهذه الآية دليل على الجعالة.
= الإجماع قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} وكان معلومًا عندهم كالوسق، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد ما يؤيده، وهو هنا خبر الذي رقاه الصحابي بالفاتحة على قطيع من الغنم".
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 206) حيث قال: "والأصل في مشروعيتها قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} وكان معلومًا عندهم كالوسق، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يكن في شرعنا ما يخالفه. وحديث اللديغ شاهد بذلك، مع أن الحكمة تقتضيه، والحاجة داعية إليه؛ فإنه قد لا يوجد من يتبرع بالعمل، فاقتضت جواز ذلك".
وأما من السنة: فحديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه: أن أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حيًّا من أحياء العرب فلم يقروهم؛ أي: لم يقدموا لهم القراء الذي يُقدم للضيوف، بينما هم كذلك إذ لدغ سيد ذلك الحي، فسألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيكم راق؟ قالوا: لا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجعلوا لهم قطيع شياه، فأخذ رجل - وفي بعض الروايات أنه: أبو سعيد
(1)
- يقرأ بأمِّ القرآن ويجمع بزاقه - يعني ريقه - ويتفل على الرجل فبرأ، فأعطوهم ما التزموا به - أي: أعطوهم قطيع الشياه - فأخذوا ذلك، لكنهم لم يتصرفوا فيه حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث جاء في الحديث: لا نأخذه حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك، فقال:"وما أدراك أنها رقية؟ خذوه واضربوا لي معكم بسهم"
(2)
.
وانظر إلى الصحابة رضي الله عنهم وتحريهم للحق، وحرصهم على أن يكون ما يأكلونه أو يشربونه مما أحله الله -سبحان الله وتعالى-، وأن لا يُخلط بحرام، وهم مع أنهم بأشد الحاجة إلى ما بأيديهم؛ لأنهم قدموا على أولئك الأقوام فبخلوا عليهم أن يقدموا لهم قراء الضيف؛ ولكن الصحابة رضي الله عنهم لم يتسرعوا في أخذ ذلك، بل أبقوه حتى استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بين لهم جوازه اطمأنت له نفوسهم، بل قال:"وما يدريكم أنها رقية حق؟ خذوها واضربوا لي معكم بسهم"؛ ليزيدهم اطمئنانًا واستئناسًا، يجعلوا له أيضًا نصيبًا مما أخذوه.
وأما المعقول: فلأن الحاجة تقتضي ذلك؛ لأنك لا تجد إنسانًا متبرعًا يرد لك ضالتك، أو يرد لك عبدك الذي شرد، أو يبني لك ما تحتاج إليه، أو يخيط لك ثوبًا، أو غير ذلك؛ ولذلك اقتضت الحاجة مشروعية ذلك.
(1)
كما في الرواية التي أخرجها ابن ماجه (2156) وفيها قال أبو سعيد الخدري: "فقلت: نعم، أنا، ولكن لا أرقيه حتى تعطونا غنمًا".
(2)
أخرجه البخاري (5736)، ومسلم (2201)،
قوله: (وَإِجْمَاعُ الجُمْهُورِ عَلَى جَوَازِهِ فِي الإِبَاقِ وَالسُّؤَالِ)
(1)
.
عاد المؤلف رحمه الله إلى الإجماع، وأما المسائل التي ذكر فيها اختلافًا فليست هي مطلق الجعالة، هناك في الجعالة مسائل هي محل خلاف، هل هي جعالة أو إجارة؟ أما الجعالة من حيث الجملة: فكما ذكرها أخيرًا هي موضع إجماع بين العلماء.
ونصَّ على الإباق؛ يعني: العبد إذا أبق؛ أي: خان سيده ففرَّ منه، فلجأ إلى بلد أو مكان.
والسؤال: هل الضالة إذا ضاعت من إنسان يطلب لها ناشدًا؟ أي: يسأل عنها، من وجد الضالة كذا، الإبل كذا التي لونها كذا في مكان كذا إلى آخره.
قوله: (وَمَا جَاءَ فِي الأَثَرِ مِنْ أَخْذِ الثَّمَنِ عَلَى الرُّقْيَةِ بِأُمِّ القُرْآن)
(2)
.
وهذا الذي أشرت إليه آنفًا؛ حديث أبي سعيد المتفق عليه.
قوله: (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ).
مراد المؤلف أن الحديث تقدم، وقد تقدم في عدة مواضع، تقدم في النكاح، وتقدم عند الكلام عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وكذلك في أخذ الأجرة على الحج، من يحج عن غيره؛ هل يأخذ أجرًا أو لا؟
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَهُ: الغَرَرُ الَّذِي فِيهِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الإِجَارَاتِ).
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 97) حيث قال: "ووجه الرواية الأولى، ما روى عمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في جعل الآبق - إذا جاء به خارجًا من الحرم - دينارًا، وأيضًا فإنه قول من سَمَّينا من الصحابة، ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفًا، فكان إجماعًا".
(2)
أي: حديث أبي سعيد الخدري، وقد سبق تخريجه.
أما القياس على سائر الإجارات فهو قياس مع الفارق؛ لأن الإجارة يُشترط فيها السلامة من الغرر ومن الجهالة، فهي كالبيع تمامًا، ولكن الجعالة استثنيت من ذلك، وخصت بحاجة الناس إليها، وشريعتنا الغراء من أصولها التي بُنيت عليها مراعاة مصالح الناس، وفي هذا مصلحة للناس ورفق بهم ورعاية لشؤونهم وتخفيف عليهم؛ ولذلك صحت الجعالة.
قد جاء في حديث: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن في أخذ الجعل من العبد الآبق
(1)
".
قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
(2)
أَنَّ الجُعْلَ لَا يُسْتَحَقُّ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا بِتَمَامِ العَمَلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ).
يعني لا يستحق جزءًا منه إلا مقابل العمل، وأنه لو أن إنسانًا ذهب مثلًا ليبحث عن عبد آبق، أو ضال فلم يجده لا يستحق شيئًا في الجعالة، وكذلك لو ذهب إلى بلد معين، فقال: من رد عبدي من مكان كذا، ورده من مكان آخر، فلا يستحق أيضًا، ومن قال: إن رد ضالتي فلان فله كذا؛ فردها غيره فلا يستحق شيئًا؛ لأنه قيد ذلك بغيره، ولو قال: أي من فلان أو فلان رد ضالتي فله كذا؛ فمن يردها فله كذلك، ولو أطلق فقال: من ردَّ ضالتي؛ فأيُّ إنسان يردها يأخذ ذلك.
ومسائل الفقهاء كثيرة جدًّا.
قوله: (وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ
(3)
وَأَصْحَابُهُ فِي هَذَا البَابِ فِي كِرَاءِ السَّفِينَةِ؛ هَلْ هُوَ جُعْلٌ أَوْ إِجَارَةٌ؟).
(1)
يُنظر: "مصنف عبد الرزاق"(8/ 207) وفيه: عن عمرو بن دينار: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الآبق يوجد في الحرم بعشرة دراهم".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (4/ 80) حيث قال: "ومفهومه أنه إذا لم يتم العمل فلا يستحق شيئًا".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 61) حيث قال: "وإلا لم يستحق شيئًا؛ ككراء السفن، هذا تشبيه في أنه لا يستحق فيه الأجر إلا بتمام العمل، وهو إجارة لا جعالة".
أكثر العلماء على أنَّ إجارة كراء السفن ككراء الرواحل إنما هو إجارة.
قوله: (فَقَول مَالِك: لَيْسَ لِصَاحِبِهَا كِرَاءٌ إِلَّا بَعْدَ البُلُوغِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ
(1)
ذَهَابًا إِلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الجُعْلِ).
قصده إلا بعد بلوغ الغاية التي تنتهي إليها.
مثال ذلك: إن استأجر إنسان سفينة لتحمل له بضاعة، فيستحق هذا الإنسان الأجرة إذا بلغ الغاية؛ أي: المكان الذي استُأجِر ليصل ببضاعته إليه، أما دون ذلك فلا؛ لأنه ربما تذهب عليه البضاعة.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ
(2)
مِنْ أَصْحَابِهِ: لَهُ قَدْرُ مَا بَلَغَ مِنَ المَسَافَةِ، فَأَجْرَى حُكْمَهُ مَجْرَى الكِرَاءِ).
وهذا هو رأي أكثر العلماء؛ بأن استئجار السُّفن هو إجارة وليس جعلًا.
قوله: (وَقَالَ أَصْبَغُ
(3)
: إِنْ لَجَجَ
(4)
فَهُوَ جُعْلٌ).
يعني: إن كان في البحر لجج، والمراد باللجج: الأمواجِ؛ كما قال تعالى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور: 40].
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 752) حيث قال: "وكراء السفينة عند مالك وابن القاسم على البلاغ لا شيء لصاحبها حتى يبلغ المكان"، وينظر أيضًا:"منح الجليل شرح مختصر خليل" لعليش (8/ 61) حيث قال: "قول ابن القاسم وروايته أنه على البلاغ".
(2)
يُنظر: "المدونة" لمالك (3/ 500) حيث قال: "وقال غيره: وهو ابن نافع له بحساب ما بلغت السفينة".
(3)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (8/ 61) حيث قال: "قال أصبغ اللخمي: كراء السفن جعل وإجارة".
(4)
اللجة: أصوات القوم إذا اجتمعوا، انظر:"جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 494).
قوله: (وَإِنْ لَمْ يَلْجَجْ فَهُوَ إِجَارَةٌ لَهُ بِحَسَبِ المَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ).
لأنه إن حصلت لجج كان الأمر خطيرًا وفيه مغامرة.
قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا البَابِ فِي جَوَازِهِ، وَمَحِلِّهِ).
عرفنا أنه جائزٌ؛ فقد أجمع العلماء على جواز الجعالة، وأنها عقد جائز وليس بلازم، وأن محلها هو المنافع التي يشير إلى شيء منها، وأن هذا العقد يجوز لكل واحد من المتعاقدين قبل استكمال العمل أن يطالب بفسخه؛ لأنه جائز، وأنه يشترط فيه أن يكون العوض معلومًا ولا يشترط ذلك في المدة.
قوله: (وَشُرُوطِهِ، وَأَحْكَامِهِ).
أما شروطه: فذكر شرطين عن الإمام مالك
(1)
، وشروطه أن يكون العوض معلومًا، ولا يشترط أن يكون مجهولًا، وأن يكؤن في مباح، وأن يكون العوض مما تجوز فيه الإجارة، وكل ما جاز عوضًا في الإجارة جاز عوضًا في الجعالة.
قوله: (وَمَحِلُّهُ هُوَ مَا كَانَ مِنَ الأَفْعَالِ لَا يَنْتَفِعُ الجَاعِلُ بِجُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَعَ الجَاعِلُ بِجُزْءٍ مِمَّا عَمِلَ المُلْتَزِمُ لِلْجُعْلِ وَلَمْ يَأْتِ بِالمَنْفَعَةِ الَّتِي انْعَقَدَ الجُعْلُ عَلَيْهَا).
الجاعل: هو الذي يدفع الجعل، فأنت عندما تقول: من رد لي ضالتي فله كذا استفدت؛ لأن الضالة ترد لك، ومن يرد الضالة يستفيد؛
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (4/ 81) حيث قال: "وشرطها؛ أي: شرط صحتها أمران؛ الأول: عدم شرط النقد للجعل، فشرط النقد يفسدها؛ للتردد بين السلفية والثمنية، وأما تعجيله بلا شرط فلا يفسدها، والثاني: عدم شرط تعيين الزمن".
لأنه يأخذ جعلًا ثمنًا على ذلك؛ إذًا الاستفادة مشتركة بينهما، لكن لو ذهب المجعول له وقطع المسافات الطويلة، فأفنى قدميه وعاد بخفي حُنَين
(1)
لا يستحق شيئًا، هذا هو مراد المؤلف.
قوله: (وَقُلْنَا عَلَى حُكْمِ الجُعْلِ إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالمَنْفَعَةِ الَّتِي انْعَقَدَ الجُعْلُ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ).
وقلنا إنَّ هذا الكلام على حكم الجعل؛ أي: الموضوع له الأجرة أو العوض لم يأت بالمطلوب؛ لأنه لا يستحق شيئًا، مع أنه أفنى وقتًا طويلًا.
فليست كالإجارة فإنَّ فيها تحديدًا للمسافة، وأنه يأخذ على قدر ما مضى.
قوله: (فَقَدِ انْتَفَعَ الجَاعِلُ بِعَمَلِ المَجْعُولِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْ عَمَلِهِ بِأَجْرٍ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ).
يعني: كأنه استفاد لمَّا أمضى ليالي وأيامٍ يبحث عنه وجاء بدونه، فربما يأتي به غيره، وربما الضالة نفسها تعود إلى صاحبها، إذًا تعب ولم يستفد شيئًا.
قوله: (وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ الفُقَهَاءُ فِي كَثِيرٍ مِنَ المَسَائِلِ هَلْ هُوَ جُعْلٌ أَوْ إِجَارَةٌ؟ مِثْلَ: مَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ المُتَقَدِّمَةِ: هَلْ هِيَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهَا الجُعْلُ، أَوْ لَا يَجُوزُ؟ مِثْلَ اخْتِلَافِهِمْ فِي المُجَاعَلَةِ عَلَى حَفْرِ الآبَارِ).
(1)
يُنظر: "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 296) وفيه: "قال أبو عبيد: أصلُه أن حُنَينًا كان إسكافًا من أهل الحِيرة، فساوَمَه أعرابي بخُفَّين، فاختلفا حتى أغْضَبه، فأراد غَيْظَ الأعرابي، فلما ارتَحَلَ الأعرابي أخذ حنينٌ أحدَ خفيه وطَرَحه في الطريق، ثم ألقى الآخر في موضع آخر، فلما مرَّ الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخفَّ بخف حنين ولو كان معه الآخر لأخذته، ومضى، فلما انتهى إلى الآخر نَدِمَ على تركه الأولَ، وقد كَمنَ له حنينٌ، فلما مضى الأعرابي في طلب الأول محمد حنينٌ إلى راحلته وما عليها فذهب بها، وأقبل الأعرابي وليس معه إلا الخُفَّانِ، فقال له قومه: ماذا جئت به من سفرك؟ فقال: جئتكم بِخُفَّي حُنَين، فذهبت مثلًا، ويضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة".
الأظهر في حفر الآبار أنها إجارة؛ كأن تتفق مع إنسان ليحفر لك البئر بأجرةِ كذا ومدة كذا، لكن ربما تعتريه أمور؛ كأن تكون الأرض فيها صخر مثلًا، فبعد أن يقطع مسافة في الحفر، والأرض تربة، يمرُّ بعد ذلك بصخر، فيتغير الحال من جعلها جعالة؛ لأن المدة يصعب ضبطها، ومن جعلها إجارة قال: إنَّ المدة وإن لم يمكن ضبطها فإنها تقريبية، فحفر الآبار يُعتبر من الإجارة، وبعضهم قال: هي جعالة.
قوله: (وَقَالُوا فِي المُغَارَسَةِ
(1)
: إِنَّهَا تُشْبِهُ الجُعْلَ مِنْ جِهَةٍ، وَالبَيْعَ مِنْ جِهَةٍ).
المغارسة والمزارعة
(2)
- سيأتي الكلام عنهما إن شاء الله -: أن يدفع إنسانٌ أرضًا إلى شخص ليغرس فيها غرسًا، أو يزرع فيها زرعًا.
قوله: (وَهِيَ عِنْدَ مَالِكٍ
(3)
: أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ لِرَجُلٍ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهِ عَدَدًا مِنَ الثِّمَارِ مَعْلُومًا، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الثَّمَرَ كانَ لِلْغَارِسِ جُزْء الأَرْضِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
هناك ما يُعرف بالمغارسة أو المزارعة وهناك ما يُعرف بالمساقاة
(4)
، وهذا سيأتي الكلام عنه قريب جدًّا إن شاء الله.
(1)
يُنظر: "شرح حدود ابن عرفة" للرصاع (ص 391) حيث قال: "عقد على تعمير أرض بشجر بقدر معلوم؛ كالإجارة أو كالجعالة، أو بجزء من أصل". وانظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 417).
(2)
المزارعة: معاقدة دفع الأرض إلى من يزرعها على أن الغلة بينهما على ما شرطا". انظر: "طلبة الطلبة" لنجم الدين النسفي (ص 149)، وانظر: "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 185).
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 546) حيث قال: "إعطاء أرض لرجل ليغرس فيها شجرًا من عنده".
(4)
المساقاة: "دفع الشجر إلى مَن يصلحه بجزء من ثمره". انظر: "التعريفات" للجرجاني (ص 212)، و"الصحاح" للجوهري (6/ 2380).
[بسم الله الرحمن الرحيم]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(كِتَابُ القِرَاضِ)
(1)
هناك من يسميه قراضًا، وهناك من يسميه مضاربة، وهذا المسمى أو المصطلح يختلف باختلاف الأماكن؛ فأهل الحجاز يسمونه قراضًا، وأهل العراق يسمونه مضاربة، ولذلك تجد أن المذاهب انقسمت فيه إلى قسمين: فإن مالكًا
(2)
والشافعي
(3)
يقولان: قراضٌ؛ ولذلك لما كان المؤلف مالكيًا أعدَّ له كتابًا فقال: "كتاب القراض".
وأما أبو حنيفة
(4)
وأحمد
(5)
: فلأن الإمامين عاشا في العراق،
(1)
القراض: المضاربة في لغة أهل الحجاز، يقال: قارضه يقارضه قراضًا ومقارضة
…
أصلها من القرض في الأرض، وهو قطعها بالسير فيها، وكذلك هي المضاربة أيضًا، من الضرب في الأرض". انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 41)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 269).
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 688) حيث قال: "ونص "المدونة" قال مالك: لا ينبغي أن يقارض رجلًا على أن لا يشتري إلا البز، إلا أن يكون موجودًا في الشتاء والصيف، فيجوز ثم لا يعدوه إلى غيره". فسماه مالك قراضًا.
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 52) وفيه: "قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألف درهم قراضًا".
(4)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (8/ 93) حيث قال: "عن أبي حنيفة في رجل دفع إلى رجل مالًا مضاربة".
(5)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 519) حيث قال: "قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فيمن دفع إلى رجل ألفًا، وقال: اتجر فيها بما شئت، فزرع زرعًا، فربح فيه؛ فالمضاربة جائزة".
أبو حنيفة كان في الكوفة وأحمد كان في دار السلام (بغداد)، فيسميانه مضاربة.
والقراض: مأخوذ من القرض، وهو القطع، يقال: قرضت الفأرةُ الثوب؛ يعني قطعته، أو أكلت جزءًا منه، فسمي قراضًا؛ لأن الإنسان يقطع فيها شيئًا؛ كأنه يقطع جزءًا من ماله فيسلمه للآخر.
وشرعًا: أن يدفع رجلٌ إلى آخر مالًا ليتَّجر به، والربح بينهما
(1)
.
فالمال من جانب، والعمل من جانب آخر، أحد الرجلين يدفع المال، والآخر يتَّجر بذلك المال ويضارب به.
ومن سمَّاه مضاربة سماه بذلك أخذًا من الضرب في الأرض؛ كما جاء ذكر ذلك في الكتاب العزيز، وكلا التسميتان صحيحتان.
والقراض أو المضاربة من العقود الجائزة وليست الواجبة.
وشرع القراض أو المضاربة للحاجة إليه؛ فالقراض يعتريه نوع من الجهالة، لكنَّ الشريعة خفَّفَت فيه من باب التيسير على الناس، والشريعة قامت على أصول ثابتة منها العدل، ومنها مراعاة مصالح الناس، ومنها التيسير الذي في القراض أو المضاربة، ودين الله يسر "ولو شاد الدِّينَ أحدٌ
(1)
القراض في اللغة: القراض والمقارضة: المضاربة، .. وصورته: أن يدفع إليه مالًا ليتجر فيه، والربح بينهما. انظر:"القاموس المحيط"، للفيروز آبادي (ص 652).
وفي اصطلاح الفقهاء:
عرفه الحنفية بأنه: عقد شركة في الربح بمال من جانب، وعمل من جانب. انظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين "رد المحتار" (5/ 645).
عرفه المالكية بأنه: دفع مالك مالًا من نقد مضروب مسلم معلوم لمن يَتَّجر به. انظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" للخلوتي (3/ 682).
عرفه الشافعية بأنه: أن يدفع المالك إلى العامل مالًا؛ ليتجر فيه، والربح مشترك. انظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 398).
عرفه الحنابلة بأنه: أن يدفع إنسان ماله إلى آخر يتجر فيه، والربح بينهما. انظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (2/ 151).
لغلبه"
(1)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يسروا ولا تعسروا"
(2)
، وقال:"يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا"
(3)
.
والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقال جل شأنه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
ولأنه ليس كل الناس عنده من الخبرة والمراس ما يستطيع أن يضرب في الأرض ويعمل بالتجارة، ومن الناس من عنده هذه الخبرة وهذه الموهبة لكن لا مال بين يديه، فيكون أحد الرجلين عنده مال لكنه ليس قادرًا على الكياسة والمماكسة
(4)
والبيع والشراء والضرب في الأرض، فيجد آخر لديه هذه الموهبة، وتتوفر فيه هذه الخبرة، ويتحلى بهذه الصفة، فهو ماهر في التجارة، خبير بها، قادر على الضرب في الأرض، على أن يبيع ويشتري، ويتحرى، ويعرف ما فيه كسب وما ليس فيه إلى غير ذلك، فيدفع هذا ماله لذاك ليتجر به، على أن يكون الربح بينهما.
لكن يُشترط أن يكون الربح معلومًا، وأن يكون عند قدر معين؛ كأن يعطيه ماله ليضارب به على أن يكون الربح بينها نصفين، أو يكون للمضارب الثلث أو الربع وغير ذلك.
فهذا الدين العظيم نزل وبعث محمد صلى الله عليه وسلم في أمة أمية يسودها الجهل، وتنتشر بينها البدع، ويخيم فيها الشرك وعبادة الأصنام، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى تطهير عقائدهم من الشرك ومن عبادة الأصنام والأوثان،
(1)
معنى حديث أخرجه البخاري (1/ 16): عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
(2)
أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1732).
(3)
أخرجه البخاري (3038)، ومسلم (1733).
(4)
المماكسة في البيع: انتقاص الثمن واستحطاطه والمنابذة بين المتبايعين، انظر:"لسان العرب" لابن منظور (6/ 220).
ودعاهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده الواحد الأحد الفرد الصمد، ودعاهم أيضًا إلى إصلاح ما كانوا عليه من معاملات فاسدة، فجاء الإسلام فأبطل ما كان فاسدًا من المعاملات ورده؛ كالربا وغيره من البيوع المحرمة، وكذلك نكاح الجاهلية، ووأد البنات إلى غير ذلك.
والإسلام عندما جاء وجد أن أهل الجاهلية متصفون بصفات حميدة؛ منها: الشجاعة فأقرها الإسلام، ومنها: الوفاء فأقره الإسلام، ومنها: المحافظة على الجار.
ومن ذلك: المضاربة التي نحن بصدد الحديث عنها، فإن الإسلام أقرها، ومن المعاملات ما أقره الإسلام لكنه أضاف إليها تهذيبًا وتصحيحًا.
فهذا الدين جاء ليصلح عقائد الناس، ويصلح نفوسهم، ولينظم علاقاتهم بربهم، وعلاقات بعضهم ببعض، وما يعرف بالمعاملات التي منها البيع والإجارة والسلم والقراض وغير ذلك من المعاملات الكثيرة التي مرت بنا؛ كالنكاح، وكذلك أيضًا ما سيأتي من المساقاة، وكذلك القضاء، والعلاقات الدولية، إلى غير ذلك من أمور كثيرة.
قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنِ المُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ القِرَاضِ
(1)
، وَأَنَّهُ مِمَّا كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهُ الإِسْلَامُ
(2)
، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ صِفَتَهُ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ المَالَ عَلَى أَن يَتَّجِرَ بِهِ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ يَأْخُذُهُ العَامِلُ مِنْ رِبْحِ المَالِ، أَيَّ جُزْءٍ كَانَ، مِمَّا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ ثُلُثًا، أَوْ رُبُعًا، أَوْ نِصْفًا، وَأَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنَ الإِجَارَةِ المَجْهُولَةِ).
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 91) حيث قال: "كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في القرآن والسنة نعلمه، ولله الحمد، حاشا القراض فما وجدنا له أصلاً فيهما البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (6/ 202) حيث قال: "ولا خلاف في جواز القراض بين المسلمين وكان في الجاهلية فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسلام".
أجمعوا على صفته وهي: أن يدفع رجلٌ إلى رجل آخر مالًا ليتَّجر به، على أن يكون الربح بينهما، ويكون الربح معلومًا، لا مجهولًا.
وأجمع العلماء على أنه عقد جائز أيضًا.
وهذا من مزايا هذه الشريعة ومن محاسنها، ومن لطفها بعباد الله سبحانه وتعالى ومن التيسير عليهم ومن الرفق بهم، ومن فتح منافذ ليسعى كل إنسان على رزقه ليأكل مالًا حلالًا.
ومعلوم أنه وُجد - بحمد الله - في هذا العصر إلى جانب البنوك التي تتعامل بالفوائد بنوك أقامت صرحها على ما يُعرف بالمضاربة وقد وُفِّقت في ذلك كثيرًا.
فالمضاربة هي طريق لإنسان لا مال عنده، ولا يستطيع أن يُنفق على من يعولهم، فييسر الله سبحانه وتعالى له رجلًا عنده المال ولكنه لا يحسن يتصرف فيه، فيدفعه إليه، فصاحب المال يستفيد والمضارب به كذلك يستفيد.
قوله: (وَأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ لِمَوْضِعِ الرِّفْقِ بِالنَّاسِ، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى العَامِلِ فِيمَا تَلِفَ مِنْ رَأْسِ المَالِ إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ، وَإِنْ كَانَ اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ تَعَدِّ مِمَّا لَيْسَ بِتَعَدٍّ).
ولا شك أنه إذا بذل جهدًا، وحرص على المال، ولم يفرط فيه ولم يقصر فلا يضمن شيئًا؛ لأنَّه لم يحصل له تفريط ولا تقصير، فهو كالوكيل، فأنت إذا وكَّلت إنسانًا ليقوم بعمل نائبًا عنك في بيع أو شراء أو إجارة أو تصرف، وأدى ما عليه ولم يُقصِّر، وضاع ذلك المال أو حصل عيب أو نحو ذلك لا يُلام على ذلك؛ لأنه أدَّى ما عليه.
كذلك في الشركة أيضًا؛ إذا اشترك شخصان أو أكثر فحصل عيب في سلعة ما أو حصل على يد أحد الشريكين ما يؤثر على الشركة دون تفريط فإنه لا يضمن.
قوله: (وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا
(1)
بِالجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَرْطٌ يَزِيدُ فِي مَجْهَلَةِ الرِّبْحِ أَوْ فِي الغَرَرِ الَّذِي فِيهِ).
كُلُّ ما يزيده جهالة وغررًا فإنه ممنوع.
قوله: (وَإِنْ كَانَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ مِمَّا لَا يَقْتَضِي، وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ)
(2)
.
اتفق العلماء بل أجمعوا على جوازه بالدنانير والدراهم، وهذا أمر متعين؛ لأن الدنانير والدراهم - ويمثلها الآن الريال أو الدولار أو الجنيه أو نحو ذلك - هي قيم السلع وأثمان المبيعات؛ فأنت تبيع وتشتري بهذه الدراهم والدنانير، وبها أيضًا تقدر المتلفات، لذلك لا خلاف بين العلماء بأن المضاربة تكون بالدينار والدرهم؛ يدفع شخص إلى آخر عشرة آلاف ريالٍ، فيقول: خذ يا فلان؛ ضارب بهذه الريالات، أو ألف جنيه، فيقول: ضارب به، ونحو ذلك.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَبِالجُمْلَةِ فَالنَّظَرُ فِيهِ؛ فِي صِفَتِهِ، وَفِي مَحِلِّهِ، وَفِي شُرُوطِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِي بَابٍ باب مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الأَبْوَابِ مَشْهُورَاتِ مَسَائِلِهِ).
وسيأتي ما اختلفوا فيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 92) حيث قال: "واتفقوا أن القراض إذا لم يشترط فيه أحدهما درهمًا لنفسه فأقل أو أكثر، ولا فلسًا فصاعدًا، ولا لغيرهما، ولا اشترط أحدهما لنفسه نفقة، ولا غير ذلك من الأشياء لا من المال ولا من غيره، ولا شرطا ذلك لغيرهما ولا شرط أحدهما للآخر ربح دراهم من المال معلومة، أو ربح دنانير منه معلومة، ولا شرط لغيرهما جزءًا من الربح، وسميا ما يقع لكل واحد منهما من الربح، ولم يذكرا ما للواحد وسكتا عما للثاني فهو قراض صحيح".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 92) حيث قال: "واتفقوا أن القراض بالدنانير والدراهم من الذهب والفضة المسكوكة الجارية في ذلك البلد جائز".
(البَابُ الأَوَّلُ: فِي مَحِلِّهِ
أَمَّا صِفَتُهُ: فَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهَا).
تقدمت قبل قليل؛ أن يدفع رجل إلى رجل آخر مالًا ليتجر به، والربح بينهما، مع معرفة قدر الربح يعني نصيب كل منهما.
قوله: (وَأَمَّا مَحِلُّهُ: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ).
كرر العبارة، فقد أجمل أولًا، والآن عاد مرة أخرى.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي العُرُوضِ).
يعني: عروض التجارة، وهي السلع المعروفة.
مثال ذلك: إنسانٌ عنده ملابس، أو أدوات كهربائية، أو ثلاجات، أو سيارات، أو غير ذلك من السلع، فهل يجوز أن يقول: هذه العروض ضارب بها؟ بع بها واشتري أو لا؟
قوله: (فَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(1)
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ القِرَاضُ
(1)
مذهب الحنفية، ينظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(5/ 647) حيث قال: "وشرطها أمور سبعة: كون رأس المال من الأثمان".
ومذهب المالكية، ينظر:"حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 682) حيث قال: "دفع مالك؛ من إضافة المصدر لفاعله. (مالًا) مفعوله من نقد ذهب أو فضة، خرج به العرض".
ومذهب الشافعية، ينظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 380) حيث قال: "ويشترط كونه نقدًا خالصًا معلومًا معينًا مسلمًا للعامل، فلا يصح إلا على الدراهم والدنانير، لا المغشوشة والفلوس والحلي والتبر وسائر العروض كما صرح به بعد".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"الإقناع" للحجاوي (2/ 259) حيث قال: "وهي دفع مال وما في معناه معين معلوم قدره".
وينظر: "الشرح الكبير على متن المقنع" لابن قدامة (5/ 112) حيث قال: "وفيه رواية أخرى أن الشركة والمضاربة تجوز بالعروض".
بِالعُرُوضِ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى
(1)
).
فقهاء الأمصار هم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، والمشهور في مذهب أحمد؛ أي: المعتمد.
قوله: (وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ: أَنَّ رَأْسَ المَالِ إِذَا كَانَ عُرُوضًا كَانَ غَرَرًا).
لأن هذه العروض لا تخلو عند المضاربة؛ إما أن تقصد أعيانها، أو قيمتها، أو أثمانها.
أما الأعيان: فلو حصل خلاف بين المضارب وصاحب الحق حصل الخلاف، أو يريد المفاصلة، وأما القِيَم: فيصعب تحديدها؛ لأنها تختلف من حال إلى حال، وأما الثمن: فغير معروف عند العقد.
هذا هو السبب في قولهم بعدم جواز المضاربة بعروض التجارة، لكن هل يجوز أن يبيع العروض فيتخذها رأس مال للمضاربة؟
أيضًا فيها الخلاف المذكور في نفس العقد.
قوله: (لِأَنَّهُ يَقْبِضُ العَرَضَ وَهُوَ يُسَاوِي قِيمَةً مَا، وَيَرُدُّهُ وَهُوَ يُسَاوِي قِيمَةً غَيْرَهَا).
لأن الدراهم والدنانير قيمتها ثابتة ويندر أن تتغيَّر قيمتها في دولةٍ ما، أمَّا العروض فتختلف بين يوم وآخر، تشتري هذه السلعة بألف ريال فتأتي غدًا لتبيعها لا تساوي إلا خمسمئة، وربما يكون العكس.
قوله: (فَيَكُونُ رَأْسُ المَالِ وَالرِّبْحُ مَجْهُولًا).
فالسلعة مهما اشتريتها - ولو بقيت على حالها - إذا أردت أن تبيعها
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (22/ 33) حيث قال: "فإن كان رأس المال مكيلًا أو موزونًا من غير النقود؛ فالمضاربة فاسدة أيضًا عندنا، وقال ابن أبي ليلى رحمه الله: هي جائزة".
لا تجد رأس المال، فلو اشتريت سيارة جديدة اليوم وعرضتها غدًا، فيصعب عليك أن تحصل على المبلغ الذي دفعته إلى المعرض، هذا صعب ويندر حدوثه، إلا أن يأتيك إنسان ليساعدك.
إذًا: العروض فيها هذا الذي أشار إليه المؤلف؛ لأنك إما أن تنظر إلى الأعيان، وهذا يحصل الخلل فيه عند المفاصلة، وإما أن تنظر إلى الثمن، والثمن غير معروف عند العقد، وإما أن تنظر إلى القيمة، وهي التي عللها المؤلف هذه التعليلات.
قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ رَأْسُ المَالِ مَا بِهِ يُبَاعُ العُرُوضُ، فَإِنَّ مَالِكًا
(1)
مَنَعَهُ وَالشَّافِعِيُّ
(2)
أَيْضًا، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
.
هنا انضم أبو حنيفة إلى أحمد
(4)
في قوله الآخر؛ لأن لأحمد رحمه الله في هذه المسألة رأيين.
وأبو حنيفة يُجيز ذلك؛ لأنه أخف، فأنت تأخذ هذه العروض
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 68) حيث قال: "ولا يجوز اعتبار قيمته رأس مال".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 381) حيث قال: "فإن قارضه على عرض كمنفعة أو على ثمنه إن باعه، أو على ما في ذمة فلان لم يصح".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (8/ 447) حيث قال: "ولو دفع إليه عرضًا وقال: بعه واعمل مضاربة في ثمنه جاز له".
(4)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 522) حيث قال: (كقول رب المال للعامل: إذا قدم زيد فضارب بهذا المال، أو بع هذا العرض، وما حصل من ثمنه فقد ضاربتك به صح).
وللقول الثاني لأحمد ينظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 253) حيث قال: "فلا تصح شركة العنان، ولا المضاربة بعرض ولو مثليًّا، ولا بقيمته، ولا بثمنه الذي اشترى به، ولا بثمنه الذي يباع به".
وتصح المضاربة (معلقة)؛ لأنها إذن في التصرف، فجاز تعليقه على شرط مستقبل؛ كالوكالة، كقول رب المال للعامل:(إذا قدم زيد فضارب بهذا) المال، (أو بع هذا) العرض، وما حصل من ثمنه فقد ضاربتك به صح".
وتبيعها، ثم بعد ذلك تُضارب بقيمتها، لكنَّ في هذا ضرر أيضًا، كما سيذكره المؤلف.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّهُ قَارَضَهُ عَلَى مَا بِيعَتْ بِهِ السِّلْعَةُ، وَعَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ نَفْسِهَا، فَكَأَنَّهُ قِرَاضٌ، وَمَنْفَعَةٌ، مَعَ أَنَّ مَا يَبِيعُ بِهِ السِّلْعَةَ مَجْهُولٌ).
انظر إلى دقة الفقهاء - رحمهم الله تعالى - كيف استنبط الإمام مالك أو انتهى إلى أن هذا التصرف فيه شبهةٌ؛ لأنَّه عندما يأخذ هذه السلعة ويبيعها يُشَمُّ منها رائحة رفع المضارب، لا المضارب له، أي: العامل، فكأن هذا جرَّ نفعًا، وقد نُهيَ عن كُلِّ قرض جرَّ نفعًا، وهذا يشبه القرض.
قوله: (فَكَأَنَّهُ إِنَّمَا قَارَضَهُ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مَجْهُولٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا إِنَّمَا مَنَعَ المُقَارَضَةَ عَلَى قِيَمِ العُرُوضِ لِمَكَانِ مَا يَتَكَلَّفُ المُقَارِضُ فِي ذَلِكَ مِنَ البَيْعِ، وَحِينَئِذٍ يَنِضُّ
(1)
رَأْسُ مَالِ القِرَاضِ).
يعني يُحوَّل رأس المال إلى دراهم ودنانير، فمعنى نضُّ المال: تحويله إلى دراهم ودنانير؛ أي: إلى نقدين أو أحدهما.
قوله: (وَكَذَلِكَ إِنْ أَعْطَاهُ العَرَضَ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ الوُجُوهِ إِلَى الجَوَازِ).
قد يشتري هذا العرض بعشرة آلاف ريال، فيعطيه إياه بنفس الثمن، ويقول هذه الثياب اشتريتها بعشرة آلاف ريال، فخذ وضارب بها، على أنني أعطيتك عشرة آلاف، هذا هو الذي يريده المؤلف.
(1)
"أهل الحجاز يسمون الدراهم والدنانير (النض) و (الناض) إذا تحول عينًا بعد أن كان متاعًا، ويقال: خذ ما (نض) لك من دين أي ما تيسر، وهو (يستنض) حقه من فلان: أي: يستنجزه، ويأخذ منه الشيء بعد الشيء". انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص 313).
قوله: (وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَوَّزَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى
(1)
، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ حَكَوْا عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ ثَوْبًا يَبِيعُهُ، فَمَا كانَ فِيهِ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا).
هذا الذي قاله المؤلف فَهم له، وإلا فإنَّ الذين أجازوا ذلك إنما أجازوا أن يُباع العرض ويضارب بقيمته، وهذه تعتبر مسألة من مسائله.
قوله: (وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَا أَصْلَ المَالِ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الثَّوْبَ).
قلنا: إنما على الأعيان والقيم والأثمان، هنا أصبح الثمن معلومًا، فهل هذا يجوز؟
قوله: (وَيُشْبِهُ أَيْضًا إِنْ جَعَلَ رَأْسَ المَالِ الثَّمَنَ أَنْ يَتَّهِمَ المُقَارِضُ فِي تَصْدِيقِهِ رَبَّ المَالِ بِحرْصِهِ عَلَى أَخْذِ القِرَاضِ مِنْهُ).
يتهم؛ لأنه بحاجة إلى أن يقارض، وبحاجة إلى هذا المال ليبيع فيه ويشتري ويستفيد.
قوله: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي القِرَاضِ بِالنَّقْدِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ).
لا أدري معنى قول المؤلف رحمه الله: "بالنقد"، ولعل هنا تصحيف، وقد يكون المراد:"النقرة"
(2)
والمراد بالنقرة: القطعة التي تُذاب من الذهب والفضة.
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (22/ 33) حيث قال: "فإن كان رأس المال مكيلًا أو موزونًا من غير النقود، فالمضاربة فاسدة - أيضًا- عندنا، وقال ابن أبي ليلى رحمه الله: هي جائزة".
(2)
النقرة من الذهب والفضة وغيرهما: ما سبك مجتمعًا. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 795).
وأما النقد إذا أُطلق هنا فإنه ينصرف إلى النقدين، أما إذا كان مُصطلحًا على أن النقد يُقصد به القطع من السبائك فهذا وارد، لكن يظهر لي -والله أعلم-، ولم أتحقق من ذلك - بأن في العبارة تصحيفًا، وأن المراد: النقرة، فعلينا أن نتأكَّد.
قوله: (فَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ
(1)
مَنْعَ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ القَاسِمِ
(2)
جَوَازَهُ، وَمَنَعَهُ فِي المَصُوغِ، وَبِالمَنْعِ فِي ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَالكُوفِيُّ
(4)
).
وأحمد
(5)
أيضًا.
ومنعوا ذلك؛ لأنه يُشبه عروض التجارة، وهذا مما يدل على أن المراد بالنقد غير الدينار والدرهم؛ لأنها سبائك تباع وتشترى فهي قابلة للزيادة والنقص، بخلاف ما يُضرب من الدراهم والدنانير فأسعارها ثابتة مستقرة.
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 243) حيث قال: "في إجازة القراض بنقار الذهب والفضة، وأجازه ابن وهب، وكرهه الليث وشدد فيه، وأجازه مالك، من رواية أشهب"، وينظر "البيان والتحصيل" لابن رشد (12/ 340).
(2)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (7/ 320) حيث قال: "وروى ابن القاسم أن مالكًا - رضي الله تعالى عنهما - سهل في ذلك، وأجازه ولم يجزه بالمصوغ، وروي عنه في "المدونة" و"العتبية" الكراهة زاد في "العتبية" وإن نزل فلا يفسخ".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 310) حيث قال: "فلا يجوز على تبر -وهو الذهب والفضة- قبل ضربهما".
(4)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 170) حيث قال: "قال: ولا تجوز الشركة بما سوى ذلك، إلا أن يتعامل الناس بالتبر والنقرة فتصح الشركة بهما، هكذا ذكر في الكتاب "وفي الجامع الصغير": ولا تكون المفاوضة بمثاقيل (ذهب أو فضة) ومراده التبر، فعلى هذه الرواية التبر سلعة تتعين بالتعيين فلا تصح رأس المال في المضاربات والشركات".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 210) حيث قال: "ولا تصح شركة عنان ولا مضاربة بنقرة وهي الفضة، وكذا من الذهب التي لم تضرب".
قوله: (فَمَنْ مَنَعَ القِرَاضَ بِالنَّقْدِ شَبَّهَهَا بِالعُرُوضِ، وَمَنْ أَجَازَهُ شَبَّهَهَا بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ؛ لِقِلَّةِ اخْتِلَافِ أَسْوَاقِهَا).
الأظهرُ لي أنها النقرة.
قوله: (وَاخْتَلَفَ أَيْضًا أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي القِرَاضِ بِالفُلُوسِ)
(1)
.
المراد بالفلوس: ما يُضرب من النقود من غير الذهب والفضة، مما يُتعامل به الآن في وقتنا الحاضر.
فهناك ما يُضرب من النحاس، وهناك ما يُضرب من المعادن التي نسميها بالقروش، هذه ليست ذهبًا ولا فضة، وهي تُحدد أثمانها وهي غالبًا - كما نرى في هذا الوقت - تجد أن أثمانها قليلة جدًا، لكنها لو تجمعت لتكاثرت.
أما الذهب والفضة؛ فإنه قد عُرف ضربها دراهم أو دنانير منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعامل به المسلمون، ووُجدت نقودٌ ضُربت في العصر الأمويِّ، وفي العصر العباسيِّ، وتتابعت النقود الإسلامية ولا زالت يُحتفظ بنماذج منها في كثير من الدور التي تُعنى بمثل هذا النوع من التراث.
فما حكم المضاربة بالفلوس؟ أي: ما يُضرب نقودًا من غير الذهب أو الفضة.
أكثر العلماء يمنع ذلك، وبعضهم يجيزه.
قوله: (فَمَنَعَهُ ابْنُ القَاسِمِ
(2)
، وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ
(3)
، وَبِهِ قَالَ
(1)
الفلس يجمع على أفلس في القلة، والكثير فلوس، وقد أفلس الرجل: صار مفلسًا، كأنما صارت دراهمه فلوسًا وزيوفًا، وقد فلسه القاضي تفليسًا: نادى عليه أنه أفلس". انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 959).
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (12/ 339) حيث قال: "قال أصبغ: قلت لابن القاسم: فالفلوس أيقارض بها؟ قال: لا، أنا أكرهه وكره القراض بها".
(3)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 244) حيث قال: "وفي أمهات أشهب، أنه أجاز القراض بالفلوس".
مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ
(1)
.
قفز المؤلف رحمه الله دون أن يُشير إلى المذاهب الأخرى، فإنَّ الأئمة الثلاثة أبا حنيفة
(2)
والشافعي
(3)
وأحمد
(4)
يمنعون ذلك، وعند الحنابلة
(5)
رواية قياسًا على العروض، أو يعامل معاملة العروض، على أنه يجوز المضاربة به.
فجمهور العلماء يمنعون المضاربة بالفلوس، وقليل من الفقهاء يُجيز ذلك.
قوله: (وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ مَالِكٌ
(6)
، وَالشَّافِعِيُّ
(7)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(8)
عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْن لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ لَهُ قِرَاضًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ).
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 244) حيث قال: "قال محمد: النقار أخف، ولا يجوز بالفلوس".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 167) حيث قال: "ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير، والفلوس النافقة".
(3)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 380، 381) حيث قال: "فلا يصح إلا على الدراهم والدنانير لا المغشوشة والفلوس والحلي والتبر وسائر العروض".
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 253) حيث قال: "فلا تصح شركة العنان ولا المضاربة بعرض ولو مثليًا ولا بقيمته ولا بثمنه الذي اشترى به ولا بثمنه الذي يباع به ولا بمغشوش كثيرًا ولا فلوس".
(5)
يُنظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد" للكلوذاني (ص 285) حيث قال: "فعلى هذا لا تصح بالمغشوش منها ولا بالفلوس في أحد الوجهين".
(6)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 682) حيث قال: "لا بدين عليه: أي: على العامل بأن يقول له: اتجر في الدين الذي عليك، والربح بيني وبينك".
(7)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 381) حيث قال: "وإن قال لمدينه اعزل مالي الذي في ذمتك، فعزله ولم يقبضه، وقارضه عليه فاشترى له - أي للقراض- (بعينه) شيئًا؛ فكالفضولي يشتري. بعين ماله للغير؛ فلا يصح".
(8)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (8/ 447) حيث قال: "وكذا إذا قال له: اقبض ما لي على فلان واعمل به مضاربة جاز لما قلنا، بخلاف ما إذا قال له: اعمل بالدين الذي في ذمتك حيث لا تصح المضاربة".
مثال ذلك: لو كان لك دين على رجل، فهل لك أن تقول له: يا فلان ضارب بالدَّين الذي عندك؟
جمهور العلماء (أبو حنيفة
(1)
ومالك
(2)
والشافعي
(3)
وأحمد
(4)
) يمنعون ذلك، بل فرعوا على ذلك مسألة أخرى، فيما لو قال الدائن للمدين - أي: صاحب الحق للذي عليه الحق -: اعزل ما عندك من دين وضارب به، قالوا: لا يجوز أيضًا ذلك؛ لأنَّ المدين إذا اشترى بما عنده من الدين الذي عليه - أي: الذي في ذمته لصاحب الحق - إذا اشترى به عرضًا أو غير ذلك؛ فإن ذلك المشترى يكون حقًّا له حتى ولو كان ما يشتريه في الذِّمة، فما يشتريه يكون ملكًا له، لا ملكًا للدائن، وإنما يكون ملكًا للدائن عندما يقبضه بنفسه، أو يوكِّل عليه، كما سيأتي في الصورة الأخرى.
فلا يجوز أن يقول له: يا فلان لي عليك عشرة آلاف ريال، فاعمل بها مضاربة، على أن يكون لك النصف والثلث والربع؛ لأن هذا المال لا يزال ملكًا للمدين ولم يكن بعدُ ملكًا للدائن.
أما لو أن إنسانًا أودع مبلغًا من المال عند رجل آخر، فله أن يقول: يا فلان ضارب بذلك المال؛ لأن ذلك هو حقه، وهو أمانة عند هذا الرجل، فله أن يضارب به، والصورتان مختلفتان.
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (8/ 447) حيث قال: "وكذا إذا قال له: اقبض ما لي على فلان واعمل به مضاربة جاز لما قلنا، بخلاف ما إذا قال له: اعمل بالدين الذي في ذمتك حيث لا تصح المضاربة".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 682) حيث قال: "لا بدين عليه: أي على العامل بأن يقول له: اتجر في الدين الذي عليك والربح بيني وبينك".
(3)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 381) حيث قال: "وإن قال لمدينه: اعزل مالي الذي في ذمتك: فعزله ولم يقبضه، وقارضه عليه فاشترى له أي للقراض (بعينه) شيئًا؛ فكالفضولي يشتري بعين ماله للغير، فلا يصح".
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 263) حيث قال: "وإن قال: ضارب بالدين الذي عليك أو بديني الذي على زيد فأقبضه، أو قال: هو قرض عليك شهرًا ثم هو مضاربة؛ لم يصح".
والمؤلف قال: (وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ)، قلتُ: وأحمد أيضًا، فإنَّ الأئمة الأربعة متفقون على هذا.
قوله: (أَمَّا العِلَّةُ عِنْدَ مَالِكٍ: فَمَخَافَةُ أَنْ يَكُونَ أَعْسَرَ بِمَالِهِ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَزِيدَ فِيهِ، فَيَكُونُ الرِّبَا المَنْهِيَّ عَنْهُ).
إذًا العلة هي القبض، فالقبض يُغيِّر الحال، فمتى ما قُبض تحول لصاحبه الذي له الحق - أي: الدائن -، أما قبل القبض فيبقى ملكًا للمدين.
هذا احتمالٌ، وهو تعليل الإمام مالك رحمه الله، وما سيأتي من تعليل الأئمة الثلاثة هو الأظهر.
قوله: (وَأَمَّا العِلَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ).
وأحمد أيضًا.
قوله: (فَإِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَحَوَّلُ وَيعُودُ أَمَانَةً).
هذا هو الصحيح، وأيضًا - كما ذكرت - فإنَّ التفصيل الأكثر عند الحنابلة: أنه حتى ولو اشترى بذلك عروضًا فإنه لا يجوز؛ لأن ما يشتريه يكون ملكًا له، وليس ملكًا لصاحب الحق الذي طلب المضاربة، أي: الدائن.
وهنا ترى دقة الفقهاء رحمهم الله وكيف أنهم يستنظرون الأحكام، وكيف يقفون عند تعليلها، وكيف أنهم يذكرون الفوارق بينها، فربما تقرأ مسألتين، ترى أن لا فرق بينهما، بينما تجد أن الفقهاء يبينون الفرق بينها؛ كما ترى في الماء إذا خالطه غيره مما يؤثر فيه يغير لونه وطعمه، قالوا: هذا لا يكون طهورًا بينما لو تكاثر عليه التراب فإنه يبقى طهورًا، مع أنَّ هذا غَيَّر اللون، وهذا غيَّر اللونَ أيضًا.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْبِضَ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ، وَيَعْمَلُ فِيهِ عَلَى جِهَةِ القِرَاضِ).
هذه صورة تختلف عن الأولى: رجلٌ وكَّل آخر - إذًا هذا من باب الوكالة
(1)
-، فقال: يا فلان قد وكَّلتُك أن تقبض ما عند زَيدٍ من الناس من المال، فإذا ما قبضتَه وأصبح في يدك فضارِب به، على أن يكون الربحُ بيننا كذا وكذا.
قوله: (فَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ مَالِكٌ
(2)
، وَأَصْحَابُهُ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ ازْدَادَ عَلَى العَامِلِ كَلْفَةً، وَهُوَ مَا كلَّفَهُ مِنْ قَبْضِهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مَنِ اشْتَرَطَ مَنْفَعَةً زَائِدَةً فِي القِرَاضِ أَنَّهُ فَاسِدٌ). ثُمَّ قال: (وَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَالكُوفِيُّ)
(4)
.
قلتُ: وأجاز ذلك الإمام أحمد
(5)
رحمه الله أيضًا.
(1)
"الوكالة: لغةً: التفويض إلى الغير، ورد الأمر إليه.
وشرعًا: استنابة جائز التصرف مثله فيما له عليه تسلط أو ولاية ليتصرف فيها". انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 340).
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 682) حيث قال: "لا بدين عليه: أي: على العامل
…
أو محال به: أي كما إذا قال له اقبض الدين الذي لي على فلان واتجر فيه".
(3)
يُنظر: "الغرر البهية في شرح البهجة الوردية" لزكريا الأنصاري (283/ 3) حيث قال: "ولو قارضه على دراهم عند غيره وديعة، أو مغصوبة، أو غيرهما صح لتعينها في يده بخلاف ما في الذمة".
(4)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (8/ 447) حيث قال: "وكذا إذا قال له: اقبض ما لي على فلان واعمل به مضاربة جاز لما قلنا، بخلاف ما إذا قال له: اعمل بالدين الذي في ذمتك حيث لا تصح المضاربة".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 218 - 219) حيث قال: "و (لا) تصح إن قال: (ضارب بديني عليك أو) ضارب بديني (على زيد فاقبضه)؛ لأن الدين في الذمة ملك لمن هو عليه، ولا يملكه ربه إلا بقبضه، ولم يوجد .... ويصح إن قال: ضارب بوديعة لي عند زيد أو عندك مع علمهما قدرها". =
وهو يُعبِّر في الكتاب بالكوفي، ويقصد به أبا حنيفة؛ لأنه هو الذي عاش بالكوفة من الأئمة وتربى فيها.
وله صولات وجولات؛ فإنه أول ما بدأ تعلمه انشغل بعلم الكلام، وكانت له مواقف جليلة ومشاهد كريمة وأعمال تكتب له، فإنه كان - رحمه الله تعالى - عندما كان متكلمًا، أي: منشغلًا بعلم التوحيد، كان يذهب من الكوفة إلى البصرة لينازع فِرَق المعتزلة
(1)
ويرُد عليهم، ويدحض شُبههم، ويبين أنها أقوال واهية وضعيفة، وكان يُقيم عليهم الحجة.
وكان -رحمه الله تعالى- من قوة حُجَّته يُحكى عنه أنه يستطيع أن يقيم من السارية أنها من ذهب، يعني لم يكن ينقطع لقوة حجته، لكنه بعد ذلك تحول إلى علم الفقه لأسباب ذكرناها عدة مرات ونحن نتحدث في هذا المقام؛ لأنه رأى أن الاشتغال به أنفع، وأنه جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"
(2)
، وقال:"هلك المتنطعون"
(3)
.
= ويُنظر أيضًا: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (5/ 431) حيث قال: "وإن قال: ضارب بالدين الذي عليك: لم يصح. هذا المذهب .... وعنه: يصح. وهو تخريج في "المحرر"، واحتمال لبعض الأصحاب، وبناه القاضي على شرائه من نفسه. وبناه في "النهاية" على قبضه من نفسه لموكله. وفيهما روايتان. فوائد: منها: لو قال: إذا قبضت الدين الذي على زيد، فقد ضاربتك به: لم يصح وله أجرة تصرفه. قال في "الرعاية" قلت: يحتمل صحة المضاربة. إذ يصح عندنا تعليقها على شرط".
(1)
يُنظر: "الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار" للعمراني (1/ 68 - 69) حيث قال: المعتزلة هم أتباع واصل بن عطاء الغزال تلميذ الحسن البصري، وكان زمنه بين أيام عبد الملك بن مروان وأولاده الثلاثة وعمر بن عبد العزيز، وكان اعتزل الحسن البصري بسبب قوله في مرتكب الكبيرة
…
، فقال الحسن البصري:"اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة، ثم استقر مذهب الاعتزال بعد ذلك على خمسة أصول".
(2)
أخرجه البخاري (2457)، ومسلم (2668).
(3)
أخرجه مسلم (2670).
وقصته معروفة وطويلة، وكذلك حكايته مع الإمام الشعبي رحمهما الله
(1)
.
قوله: (قَالُوا: لِأنَّهُ وَكَّلَهُ عَلَى القَبْضِ، لَا أَنَّهُ جَعَلَ القَبْضَ شَرْطًا فِي المُصَارَفَةِ).
يُعلِّلُون بأنه جعل القبض شرطًا في المصارفة، فكأنه جَرَّ نفعًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد نَهى عن القرض الذي يَجزُ نفعًا
(2)
، وأمَّا جمهور العلماء فقالوا: هذا أصله الوكالة؛ أي: قاسوه على الوكالة، فلك أن توكِّل إنسانًا ليأخذ لك مبلغًا من زيد ويبيع فيه ويشتري، فهذا مثله كذلك.
قوله: (فَهَذَا هُوَ القَوْلُ فِي مَحِلِّهِ، وَأَمَّا صِفَتُهُ: فَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا).
صفته مرَّت بنا في مطلع القراض، وهو: أن يدفع رجلٌ إلى رجل آخر مالًا ليتجر به، على أن يكون بينهما ربخٌ معلوم، لكن هناك أمورٌ لم يُشر إليها المؤلف رحمه الله، ولعله يُشير إليها بعد ذلك.
فهناك شروط معينة؛ لا بد أن يكون رأس المال الذي يضارب به
(1)
يُنظر: "أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة" للخميس (ص 74) حيث قال: "قال أبو حنيفة: مررت يومًا على الشعبي وهو جالس، فدعاني، وقال: إلى من تختلف؟ فقلت: أختلف إلى السوق، وسميت له أستاذي، فقال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم، فقال لي: لا تفعل، وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة، قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم فنفعني الله بقوله". وانظر: "مناقب أبي حنيفة" للمكي (ص 54).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 573)، والحارث في "مسنده"(1/ 500)، وفيه سوار بن مصعب وهو متروك. وانظر:"البدر المنير" لابن الملقن (6/ 621).
معلومًا، وألا يكون جزافًا
(1)
؛ لأنه لو كان غير معلوم القدر أو كان جزافًا كان في ذلك جهالة، والجهالة يُشترط نفيها عن القراض؛ أي: المضاربة، فلا بد بأن تكون معلومة، أما بالنسبة للجعالة - التي مرت بنا - فقد رأينا أنه معفو عن الجهالة فيها؛ للحاجة إلى ذلك، لكن يُشترط فيها - أيضًا - أن تكون الأجرة معلومة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(البَابُ الثانِي: في مَسَائِل الشُّرُوطِ
وَجُمْلَةُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ عِنْدَ الجَمِيعِ: هِيَ مَا أَدَّى عِنْدَهُمْ إِلَى غَرَرٍ، أَوْ إِلَى مَجْهَلَةٍ زَائِدَةٍ).
ما أوقع في غررٍ أو أدَّى إلى جهالة زائدة فلا يجوز؛ كأن تكون المضاربة على دَين أو مبلغ مؤجَّل، فإن هذا فيه نوع من الجهالة.
قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنِ العُلَمَاءِ
(2)
أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا زَائِدًا غَيْرَ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ القِرَاضُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ).
لا يجوز؛ لأن هذا نوع من الجهالة، فقد اتفقا على أن الربح بينهما نصفين، أو على أن للمضارب الثلث أو الربع أو أقل أو أكثر، ثم يأتي
(1)
الجزف والجزاف: المجهول القدر، مكيلًا كان أو موزونًا. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 269).
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 92) حيث قال: "واتفقوا أن القراض إذا لم يشترط فيه أحدهما درهما لنفسه فأقل أو أكثر، ولا فلسًا فصاعدًا، ولا لغيرهما، ولا اشترط أحدهما لنفسه نفقة، ولا غير ذلك من الأشياء، لا مِن المال، ولا من غيره، ولا شَرَطَا ذلك لغيرهما، ولا شرط أحدهما للآخر ربح دراهم من المال معلومة، أو ربح دنانير منه معلومة، ولا شرط لغيرهما جزءًا من الربح، وسميا ما يقع لكل واحد منهما من الربح، ولم يذكرا ما للواحد وسكتا عما للثاني؛ فهو قراض صحيح".
بعد ذلك ويشترط ربحًا زائدًا، فهذا سيُخِلُّ في العقد، ويؤثر عليه، ويُدخل الجهالة عليه.
قوله: (لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ القِرَاضُ مَجْهُولًا، وَهَذَا هُوَ الأَصْلُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ القِرَاضِ بَيْعٌ، وَلَاكرَاءٌ، وَلَا سَلَفٌ، وَلَا عَمَلٌ، وَلَا مِرْفَقٌ يَشْتَرِطُهُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَعَ نَفْسِهِ).
هذا أيضًا يسري بالنسبة للقرض؛ فلو ذهب إنسان إلى آخر يطلب منه قرضًا، فأقرضه مبلغًا من المال، وشرط عليه أن يستخدم سيارته، أو أن يسكن داره مدة، أو أن يعمل له عملًا؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه قرضٌ جَرَّ نفعًا.
قوله: (فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصيلِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ إِذَا شَرَطَ العَامِلُ الرِّبْحَ كُلَّهُ لَهُ).
أو العكس؛ كأن يشترط ذلك ربُّ المال، فقد يشترطه هذا، أو يشترطه هذا، فهل يكون ذلك قراضًا؟ أو يكون قرضًا؟
ننظر الآن إلى آراء العلماء في ذلك:
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: هُوَ قَرْضٌ لَا قِرَاضٌ).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 523) حيث قال: "وجاز (الربح) أي: جعله كله (لأحدهما) رب المال أو العامل (أو لغيرهما) أي: لأجنبي، وحينئذ خرج عن كونه قراضًا حقيقة".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 383) حيث قال: " (ولو قال خذ المال وتصرف) فيه (والربح كله لك فقرض صحيح أو) كله (لي فإبضاع) أي: توكيل بلا جعل، كما لو قال: أبضعتك. (ولو قال: قارضتك والربح كله لك، أو) كله (لي) أو سكت عن الربح (أو) قال (أبضعتك ولك نصف الربح) أو لك كله".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(5/ 647) حيث قال: "ودفع المال إلى آخر مع شرط الربح كله (للمالك بضاعة) فيكون وكيلًا متبرعًا (ومع شرطه للعامل قرض) لقلة ضرره".
قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله -: هو قرض وليس قراضًا؛ لأنه إذا قال له: خذ هذا المال واتَّجر به والربح لك، فإنَّ هذه العبارة تحتمل المضاربة، وتحتمل القرض، فتُصرف إلى أقربهما، والأقرب هو القرض؛ لأنه من المعلوم في القراض أن الربح يكون بينهما.
قوله: (فَمَالِكٌ رَأَى أَنَّهُ إِحْسَانٌ مِنْ رَبِّ المَالِ وَتَطَوُّعٌ، إِذْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الجُزْءَ القَلِيلَ مِنَ المَالِ الكَثِيرِ).
قالوا: هو إحسان وتفضل وإرفاق منه ومساعدة، فيكون قرضًا حسنًا؛ كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245].
قوله: (وَالشَّافِعِيُّ رَأَى أَنَّهُ غَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ خُسْرَانٌ فَعَلَى رَبِّ المَالِ، وَبِهَذَا يُفَارِقُ القَرْضَ، وإِنْ كَانَ رِبْحٌ فَلَيْسَ لِرَبِّ المَالِ فِيهِ شَيْءٌ).
وسكتَ عن الإمامين أبي حنيفة وأحمد
(1)
رحمهما الله، ويَظهرُ أنَّ رأيهما هو الراجح في هذه المسألة؛ لأنهما قالا: هو أطلق، فقال: خذ هذا فاتَّجر به، فهذا يحتمل المضاربة ويحتمل القِراض، ونحن نصرفه إلى ما يمكن أن يجوز، فيحوَّل إلى القرض فيكون جائزًا.
قوله: (وَمِنْهَا: إِذَا شَرَطَ رَبُّ المَالِ الضَّمَانَ عَلَى العَامِلِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: لَا يَجُوزُ القِرَاضُ وَهُوَ فَاسِدٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 217) حيث قال: "قال (خذه مضاربة ولك) ربحه لم يصح وله أجرة مثله، (أو) قال خذه مضاربة (ولي ربحه لم يصح) ولا أجرة له؛ لأن المضاربة الصحيحة تقتضي كون الربح بينهما نصفين".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 687) حيث قال: "أو قراض ضمن للعامل -بضم الضاد وتشديد الميم -: أي شرط فيه على العامل ضمان رأس المال إذا أتلف أو ضاع بلا تفريط ففاسد. ولا يعمل بالشرط، وفيه قراض المثل في الربح إن عمل".
حَنِيفَةَ
(1)
، وَأَصْحَابُهُ: القِرَاضُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ).
الإمام أحمد
(2)
وافق الإمام أبا حنيفة في هذا القول، وقد تُلاحظ توافقًا في مسائل كثيرة بين الإمامين أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله.
والشرط باطلٌ؛ لأن هذا شرط أُضيف إليه، ونحن نطرحه كالشروط التي نطرحها في النكاح وكذلك في البيوع، فإنها تُلغى ويبقى العقد صحيحًا.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَان زِيَادَةُ غَرَرٍ فِي القِرَاضِ نفسه، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَشَبَّهَهُ بِالشَّرْطِ الفَاسِدِ فِي البَيْعِ عَلَى رواية أَنَّ البَيْعَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ اعْتِمَادًا عَلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ
(3)
المُتَقَدِّمِ).
في قصة بريرة عندما عرضت عليها عائشة رضي الله عنهما عتقها: أن تدفع لها، على أن يكون لها الولاء، ولكن أهلها - أي: الذين ملكوها قبل ذلك - اشترطوا أن يكون لهم الولاء، فذكرت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقالت: فقال: "اطلبي العتق، واشترطي لهم الولاء"، ثم قال:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط"، قال: دفعت لها ما تعتق به، ثم قال:"اشترطي لهم الولاء"
(4)
؛ لأن هذا الشرط لا يؤثر؛ لأنه شرط فاسد؛ فليس في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة ما يؤيده، وإذا لم يكن كذلك فإنه يكون باطلًا، فقال:"اشترطي لهم الولاء"
(5)
، ثم بين العلة، ثم قام خاطبًا للناس، فقال: "ما بال أقوام
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (8/ 452) حيث قال: "اشتراط الوضيعة على المضارب، فإن الشرط هناك باطل والمضاربة صحيحة".
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 515) حيث قال: "فلو قال مع ذلك: وعليك ضمانه؛ لم يضمنه؛ لأن العقد يقتضي كونه أمانة غير مضمون ما لم يتعد أو يفرط، فلا يزول ذلك بشرطه، والإبضاع والقرض ليسا بشركة ولا مضاربة؛ لعدم تحقق معناهما فيهما".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
أخرجه البخاري (2168)، ومسلم (1504).
(5)
سبق تخريجه.
يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟! كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط"
(1)
؛ لأن شريعة الله -سبحان الله وتعالى- إنما تستمد من الكتاب والسنة، فليس لأحد كائنًا من كان أن يزيد فيها؛ لأن هذه الزيادة لا تجوز، وكذلك - أيضًا - ليس لأحد أن ينقص من شريعة الله -سبحان الله وتعالى- شيئًا إلا فيما جاء في الرخص التي أباحتها هذه الشريعة؛ كما نرى في قصر الصلاة، وأيضًا الإفطار في نهار رمضان، وفي مسح المسافر ثلاثة أيام، هذه بحمد الله أحكام كثيرة مرَّت بنا في أبواب شرحناها.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي المُقَارِضِ يَشْتَرِطُ رَبُّ المَالِ عَلَيْهِ خُصُوصَ التَّصَرُّفِ، مِثْلَ: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ تَعْيِينَ جِنْسٍ مَا مِنَ السِّلَعِ).
هذه مسألة مهمة، هل لربِّ المال - الذي دفع المال - أن يشترط على المضارب تصرفًا معينًا؟ فيقول - مثلًا -: لا تضارب في البلد الفلاني، أو في السلعة الفلانية، أو تكون مضاربتك كذا أو كذا، أو ليس له ذلك؟
قوله: (أَوْ تَعْيِينَ جِنْسٍ مَا مِنَ البَيْعِ، أَوْ تَعْيِينَ مَوْضِعٍ مَا للتِّجَارَةِ، أَوْ تَعْيِينَ صِنْفٍ مَا مِنَ النَّاسِ يَتَّجِرُ مَعَهُمْ).
أو يسافر أو لا يسافر، فهناك شروط كثيرة يذكرها الفقهاء، والمهم هل له أن يقيِّده أو لا، أو يعطيه الحرية؛ لأنه صاحب المال؟
وبعض العلماء يرى أنه ما دام صاحب المال فالحق له، وله أن يشترط ما يرى فيه المصلحة، أما لو كانت شروطه فيها تعسفٌ وتعدٍّ وفيها إضرارٌ بالمضارب فإنَّ الصورة تختلف، لكن إن قال له: ضارب في البلد الفلاني؛ لأن البلد الفلاني نشط في التجارة، ولا تُضارب في المكان الفلانيِّ؛ لأن التجارة فيه كاسدة، ولا تتعامل مع فلان؛ لأن فلانًا ربما لا يرد لك حقك، وتعامل مع فلان؛ لأنه مالي وهكذا
…
، فيجوز.
(1)
أخرجه البخاري (2155)، ومسلم (1504).
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
فِي اشْتِرَاطِ جِنْسٍ مِنَ السِّلَعِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الجِنْسُ مِنَ السِّلَعِ لَا يَخْتَلِفُ وَقْتًا مَا مِنْ أَوْقَاتِ السَّنَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: يَلْزَمُهُ مَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مَا اشْتُرِطَ عَلَيْهِ ضَمِنَ).
وقال أحمد
(4)
رحمه الله بقول أبي حنيفة.
قوله: (فَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: رَأَيَا أَنَّ هَذَا الِاشْتِرَاطَ مِنْ بَابِ التَّضْيِيقِ عَلَى المُقَارِضِ، فَيَعْظُمُ الغَرَرُ بِذَلِكَ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَخَفَّ الغَرَرَ المَوْجُودَ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ جِنْسًا مَا مِنَ السِّلَعِ لَكَانَ عَلَى شَرْطِهِ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ).
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 690) حيث قال: " (أو) اشتراط (تعيين محل) للتجر لا يتعداه لغيره (أو) اشتراط تعيين (زمن) له لا يتاجر في غيره (أو) تعيين (شخص للشراء) منه بحيث لا يشتري شيئًا من غيره أو البيع له بحيث لا يبيع سلعة لغيره فيفسد القراض في ذلك كله للتحجير المخالف لسنة القراض".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 382) حيث قال: "وإن شرط أن لا يشتري أو لا يبغ (إلا من زيد، أو) لا يشتري إلا (هذه السلعة لم يصح) للتضييق على العامل، ولأن الشخص المعين قد لا يعامله، وقد لا يجد عنده ما يظن فيه ربحًا، وقد لا يبيع إلا بثمن غال، أو لا يشتري إلا بثمن بخس، والسلعة المعينة قد لا يجد فيها ربحًا".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (8/ 454) حيث قال: " (وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه أو في سلعة بعينها لم يجز له أن يتجاوزها) لأنه توكيل. وفي التخصيص فائدة فيتخصص، وكذا ليس له أن يدفعه بضاعة إلى من يخرجها من تلك البلدة؛ لأنه لا يملك الإخراج بنفسه فلا يملك تفويضه إلى غيره، قال: فإن خرج إلى غير ذلك البلد فاشترى ضمن".
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 257) حيث قال: "صحيح: مثل أن يشترط ألا يتجر إلا في نوع من المتاع أو بلد بعينه أو لا يبيع إلا بنقد كذا أو لا يسافر بالمال أو لا يبيع أو لا يشتري إلا من فلان".
قوله: (وَلَا يَجُوزُ القِرَاضُ المُؤَجَّلُ عِنْدَ الجُمْهُورِ)
(1)
.
هذا عند الأئمة الثلاثة، وأحمد في رواية.
قوله: (وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
إِلَّا أَنْ يَتَفَاسَخَا).
وأحمد في رواية
(3)
، وهذا النوع - تقريبًا - هو الذي تتعامل به المصارف الإسلامية الآن، وفي الحقيقة لا نرى مانعًا من ذلك.
قوله: (فَمَنْ لَمْ يجِزْهُ رَأَى أَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى العَامِلِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَزِيدُ غَرَرٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا بَارَتْ عِنْدَهُ سِلَعٌ فَيَضْطَرُّ عِنْدَ بُلُوغِ الأَجَلِ إِلَى بَيْعِهَا، فَيَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ. وَمَنْ أَجَازَ الأَجَلَ شَبَّهَ القِرَاضَ بِالإِجَارَةِ).
نُلاحظ في هذا الكتاب - كتاب القراض - أنه لم يرد دليل ولا أثر، وكلُّ ما ذكره المؤلف رحمه الله هو كلام الفقهاء، فلم يرد في ذلك شيء، ولكن وردت في الشركة عمومًا أدلة.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 519) حيث قال: "أو قراض (أجل) كـ اعمل به سنة أو سنة من الآن، أو إذا جاء الوقت الفلاني فاعمل به فيه - ففاسد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 382) حيث قال: "ولو قارضه سنة لم يصح لإخلال التأقيت بمقصود القراض".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 50) حيث قال: "وقال أبو الخطاب: في صحة شرط التأقيت روايتان؛ إحداهما، هو صحيح، وهو قول أبي حنيفة والثانية، لا يصح، وهو قول الشافعي، ومالك. واختيار أبي حفص العكبري".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(5/ 650) حيث قال: "ولا يملك أيضاً (تجاوز بلد أو سلعة أو وقت أو شخص عينه المالك)؛ لأن المضاربة تقبل التقييد المفيد ولو بعد العقد ما لم يصر المال عرضًا".
(3)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 262) حيث قال: "ويصح تأقيتها بأن يقول: ضاربتك على هذه الدراهم سنة، فإذا مضت السنة فلا تجع ولا تشتر".
ولذلك إذا لم تُوجد أدلة فربما لا يكون تعليقي كثيرًا.
قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ رَبِّ المَالِ زَكلاةَ الرِّبْحِ عَلَى العَامِلِ فِي حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ).
لأن في هذا إجحافًا به، فلماذا يكون في حصته هو؟!
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ فِي المُوَطَّا
(1)
: لَا يَجُوزُ، وَرَوَاهُ عَنْهُ أَشْهَبُ
(2)
، وَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ
(3)
، وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
.
وأحمدُ
(5)
أيضًا.
(1)
يُنظر: "الموطأ" لمالك (2/ 692) حيث قال: "ولا يصلح لمن دفع إلى رجل مالًا قراضًا أن يشترط عليه الزكاة في حصته من الربح خاصة؛ لأن رب المال إذا اشترط ذلك فقد اشترط لنفسه فضلًا من الربح ثابتًا فيما سقط عنه من حصة الزكاة التي تصيبه من حصته".
(2)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (5/ 163) حيث قال: "لا يصلح لمن دفع إلى رجل مالًا قراضًا أن يشترط عليه. الزكاة في حصته من الربح خاصة؛ لأن رب المال إذا أشترط ذلك فقد اشترط لنفسه فضلًا من الربح ثابتًا فيما سقط عنه من حصة الزكاة التي تصيبه من حصته".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 522) حيث قال: "وجاز (زكاته) أي: الربح المعلوم، أي: اشتراط زكاته (على أحدهما) رب المال أو العامل".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 522) حيث قال: "وجاز (زكاته)، أي: الربح المعلوم، أي: اشتراط زكاته (على أحدهما) رب المال أو العامل، وأما رأس المال فزكاته على ربه، ولا يجوز اشتراطه على العامل، (وهو) أي: الجزء المشترط".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 392) حيث قال: "وليس لعامل إخراج زكاة تلزم رب المال بلا إذنه نصًّا فيضمنها؛ لأنه ليس وليًّا له ولا وكيلًا عنه، ويصح شرط كل منهما، أي: من رب المال والعامل زكاة حصته من الربح على الآخر؛ لأنه بمنزلة شرطه لنفسه نصف الربح وثمن عشره مثلًا".
قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ: أَنَّهُ تَعُودُ حِصَّةُ العَامِلِ وَرَبِّ المَالِ مَجْهُولَةً).
يعني: ترجع حصة العامل مجهولة.
قوله: (لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ يَكُونُ المَالُ فِي حِينِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَتَشْبِيهًا بِاشْتِرَاطِ زَكَاةِ أَصْلِ المَالِ عَلَيْهِ - أَعْنِي: عَلَى العَامِلِ -، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ، وَحُجَّةُ ابْنِ القَاسِمِ: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى جُزْءٍ مَعْلُومِ النِّسْبَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ القَدْرِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مَعْلُومَةُ النِّسْبَةِ مِنَ المَالِ المُزَكَّى، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِي الرِّبْحِ الثُّلُثَ إِلَّا رُبُعَ العُشْرِ، أَوِ النِّصْفَ إِلَّا رُبُعَ العُشْرِ).
المهم: أنه أضاف جزءًا غير موجود في القِراض، فكان سببًا في وجود الجهالة، والجهالة ممنوعة في هذا العقد.
قوله: (أَوِ الرُّبُعَ إِلَّا رُبُعَ العُشْرِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَيْسَ مِثْلَ اشْتِرَاطِهِ زَكاةَ رَأْسِ المَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومُ القَدْرِ غَيْرُ مَعْلُومِ النِّسْبَةِ، فَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يُحِيطَ بِالرِّبْحِ، فَيَبْقَى عَمَلُ المُقَارِضِ بَاطِلًا، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ المُقَارِضُ عَلَى رَبِّ المَالِ؟ فِي المَذْهَبِ فِيهِ قَوْلَان: قِيلَ: بِالفَرْقِ بَيْنَ العَامِلِ وَرَبِّ المَالِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَهُ العَامِلُ عَلَى رَبِّ المَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَهُ رَبُّ المَالِ عَلَى العَامِلِ، وَقِيلَ عَكْسُ هَذَا).
أطال المؤلف رحمه الله الكلام في التعليلات؛ لخبرته بمذهبه.
والخلاصة: هل لصاحب الحق - أي: طالب المضاربة - أن يشترط أن تكون الزكاة على المضارب أو العكس - فيشترط المضارب ذلك على صاحب الحق -؟ هذا - كما قلنا فيه إجحاف وفيه إضافة، وربما أوقع في
الجهالة، والأسلم هو تركه، وأن تكون الزكاة من مجموع الربح، لا يُخصُّ بها العامل، بدليل أنَّ لربِّ المال أن يشترط على العامل أن يكون ربحُه أقلَّ من النصف، له أن يكون الثلث، أو الربع، بدلًا من أن يدخل في ذلك الزكاة فيضيف شرطًا قد يؤدي إلى الجهالة، والجهالة ممنوعة في العقد.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ العَامِلِ عَلَى رَبِّ المَالِ غُلَامًا بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْغُلَامِ نَصِيبٌ مِنَ المَالِ).
مثال ذلك: أن يشترط المضارب على ربِّ المال، فيقول: لا مانع أن تعطيني هذا المال أضارب به وأعمل، بشريطة أن تجعل معي غلامك؛ أي: عبدك ومملوكك يعمل معي في هذه التجارة، فهل هذا جائز أو لا؟
قوله: (فَأَجَازَهُ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
.
وأجازه أحمد
(4)
أيضًا، فالأئمة الأربعة كلهم أجازوا ذلك؛ لأنه
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 523) حيث قال: "وجاز (شرطه) أي: العامل على رب المال (عمل غلام ربه أو دابته) أو هما على المعتمد (في) المال (الكثير) مجانًا والمشترط هنا العامل وما تقدم رب المال فلا تكرار".
(2)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 381) حيث قال: " (ولو شرط عمل عبده معه معينًا) له (لا شريكًا) له (في الرأي جاز كشرط) إعطاء (بهيمته) له ليحمل عليها؛ لأن عبده وبهيمته مال؛ فجعل عملهما تبعًا للمال، بخلاف المالك، وبخلاف عبده إذا جعله شريكًا في الرأي؛ لما مر، ويشترط أن يكون العبد والبهيمة معلومين بالرؤية أو الوصف".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (8/ 464) حيث قال: "وإذا شرط المضارب لرب المال ثلث الربح ولعبد رب المال ثلث الربح على أن يعمل معه ولنفسه ثلث الربح فهو جائز".
(4)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 523) حيث قال: "وإن شرط العامل (فيهن) - أي المضاربة والمساقاة والمزارعة - (عمل مالك، أو) شرط عمل (غلامه) =
لا يُغيِّر شيئًا في الحكم، هو أراد أن يستعين به على تحقيق الغاية، على ما هو مراد لهما معًا من المماكسة والضرب في الأرض، وكذلك أيضًا السعي إلى الكسب الحلال، فإذا وُجد معه إنسان أعانه؛ لأن الإنسان قليلٌ بنفسه كثيرٌ بأخيه أو بإخوانه، فإذا وُجد معه من يُعضدِّه ويعينه كان ذلك خيرًا على خير، فلا مانع من ذلك.
قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ
(1)
مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ).
لا يجوز عنده؛ لأنه أضاف شرطًا، ولا ينبغي أن يكون هناك شرط.
قوله: (فَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ شَبَّهَهُ بِالرَّجُلِ يُقَارِضُ الرَّجُلَيْنِ).
الرجل يُقارض الرجلين ولم يذكر، فهل هذا جائز؟
والجواب: نعم، يجوز لرجل أن يعطي رجلين هذا ألفًا وهذا ألفًا، ويقول اعملا بها مضاربة، ولكل واحد منكما قدر كذا وكذا، أو الربح بيني وبينكم كذا وكذا، كُلُّ هذا جائز.
قوله: (وَمَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ رَأَى أَنَّهَا زِيَادَة ازْدَادَهَا العَامِلُ عَلَى رَبِّ المَالِ، فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَطَ العَامِلُ غُلَامَهُ).
فأما إن اشترط غلامه، أي: غلام ربِّ المال -يعني: نصَّ عليه -، الأولى: أغلق، والثانية: نصَّ عليه، وهي أيضًا جائزة عند الجمهور.
=- أي: رقيقه - (معه) - أي العامل - بأن شرط أن يعينه في العمل؛ (صح كـ) شرطه عليه عمل بهيمة".
(1)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (3/ 900) حيث قال: "ولو شرط أن يعمل معه غلام المالك، على أن يكون للغلام نصيب من الربح جاز، وقال أشهب: لا يجوز".
قوله: (فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَللْغُلَامِ فِيمَا عَمِلَ أُجْرَةُ المِثْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَظَّ العَامِلِ يَكُونُ عِنْدَهُ مَجْهُولًا).
قوله: لا يجوز؛ لأنه حينئذٍ أضاف شيئًا هو تكلفة على المضاربة، سيكون له حق.
وأولئك يقولون: إذا كان غلام السيد فما يأخذه سيكون لسيده، فلا جهالة هنا؛ لأن ما سيأخذه هذا الغلام سيرجع إلى سيده؛ "أنت ومالك لسيدك"، "من ابتاع غلامًا له مال فماله للذي ابتاعه إلا أن يشترطه المبتاع"
(1)
، وهذا حديث صحيح في "الصحيحين" معروف.
فمعلوم أنَّ العبد لا يملك، وهل يملك إذا ملكه سيده؟
المسألة فيها خلاف، وقد مرَّت بنا، هذه المسألة مبسوطة في كتاب البيوع.
* * *
[الْبَابُ الثَّالِثُ: الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْقِرَاضِ]
(2)
يلحظ أن المسائل بدأت تخف بعد تجاوز المسائل الدقيقة في هذا الكتاب؛ كالتي مرت في أحكام البيوع، وكبعض ما مَرَّ بنا في أول
(1)
أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1543).
(2)
يطلق عليه الحنفية والحنابلة: المضاربة، ويطلق عليه المالكية والشافعية: القراض. يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 79)، و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 508)، و"الشرح الكبير" للدردير (3/ 517)، و"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 219).
الكتاب، أما الآن فما بقي إلا مسائل ميسرة؛ لأنها تتعلق بأمور واضحة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَالْأَحْكَامُ: مِنْهَا مَا هِيَ أَحْكَامُ الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ، وَمِنْهَا مَا هِيَ أَحْكَامُ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ. وَأَحْكَامُ الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ، مِنْهَا مَا هِيَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ).
يعني: من لوازم العقد ومقتضياته، فهناك رأس مال لا بد أن يكون موجودًا، وأن يكون معلومًا وألا يكون جزافًا، ولا بدَّ أن يكون الربح محددًا بينهما.
قوله: (أَعْنِي: أَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمُوجِبِ الْعَقْدِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا هَلْ هِيَ تَابِعَة أَوْ غَيْرُ تَابِعَةٍ؟، وَمِنْهَا أَحْكَامُ طَوَارِئٍ تَطْرَأُ عَلَى الْعَقْدِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُوجِبُهُ مِنْ نَفْسِ الْعَقْدِ، مِثْلَ التَّعَدِّي، وَالِاخْتِلَافِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَنَبْدَأُ مِنْ ذَلِكَ بِمُوجِبَاتِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ).
هو لا يريد أن يستقصي، ولكن يذكر ما اشتهر، فمن عرف ما اشتهر وضبط الأصل سهل عليه إلحاق الفرع به.
قوله: (إِنَّهُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللُّزُومَ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ عَقْدِ الْقِرَاضِ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 162) قال: "في كافي الحاكم لو قال: أقرضني دانق حنطة فأقرضه ربع حنطة، فعليه أن يرد مثله، وإذا استقرض عشرة أفلس، ثم كسدت لم يكن عليه إلا مثلها في قول أبي حنيفة، وقالا: عليه قيمتها من الفضة يستحسن ذلك وإن استقرض دانق فلوس أو نصف درهم فلوس، ثم رخصت أو غلت لم يكن عليه إلا مثل عدد الذي أخذه، وكذلك لو قال: أقرضني عشرة دراهم غلة بدينار، فأعطاه عشرة دراهم فعليه مثلها، ولا ينظر إلى غلاء الدراهم، ولا إلى رخصها، وكذلك كل ما يكال ويوزن فالقرض فيه جائز، وكذلك ما يعد من البيض والجوز". اهـ. =
مراده أن العلماء أجمعوا على أن القراض (المضاربة) عقد جائز وليس بلازم.
وهذا من قبيل اللف والنشر، فهو يريد أن يقول: إن عقد القراض جائز وليس بلازم، فقال: إن العلماء أجمعوا على أن اللزوم ليس من شرطه.
إذًا، فالقراض من العقود الجائزة؛ كالوكالة والجعالة التي سبق ذكرها، والشركة الآتي ذكرها بعد، فهذه عقود جائزة، وهناك عقود مختلف فيها كالمساقاة الآتي ذكرها بعد.
قلنا في الإجارة: إنها عقد لازم، وكذلك في البيع، فلا يجوز أن يُفْسخ البيع أو الإجارة دون سبب يقتضي ذلك، لكن في المضاربة يجوز
=ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (4/ 417) قال: "وأما القراض والبيع فإنما لم يجز أن يجتمعا في صفقة واحدة من أجل أن القراض مخالف للبيع في وجهين: أحدهما أن القراض من العقود الجائزة، والثاني أنه إجارة مجهولة، يجوز بالإجماع والاتباع والقياس على المساقاة". وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 355).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيثمي (6/ 82) قال: "القراض
…
أن يدفع إليه مالًا ليتجر فيه والربح مشترك بينهما، فخرج ليدفع مقارضته على دين عليه أو على غيره، وقوله: بع هذا وقارضتك على ثمنه واشتر شبكة واصطد بها فلا يصح، نعم يصح البيع وله أجرة المثل
…
وأركانه ستة: عاقدان وعمل وربح ومال وصيغة
…
ويشترط لصحته كون المال دراهم أو هي مانعة خلو لا جمع دنانير خالصة
…
فلا يجوز على تبر وهو ذهب أو فضة لم يضرب سواء
…
وحلي وسبائك لاختلاف قيمتها، ومغشوش وإن راج وعلم قدر غشه واستهلك، وجاز التعامل به، وقيل: يجوز عليه إن استهلك غشه
…
وعروض مثلية أو متقومة
…
وكونه معلومًا قدره وجنسه وصفته فلا يجوز على نقد مجهول القدر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 508) قال: "وتنعقد المضاربة بما يؤدي معنى ذلك؛ أي معنى المضاربة والقراض من كل قول دل عليها؛ لأن المقصود المعنى فجاز بكل ما يدل عليه، وهي - أي المضاربة - أمانة ووكالة؛ لأنه متصرف لغيره بإذنه، والمال تحت يده على وجه لا يختص بنفعه
…
وإن فسدت المضاربة فإجارة؛ لأن العامل يأخذ أجرة عمله
…
ومن شرط صحتها - أي المضاربة - تقدير نصيب العامل من الربح؛ لأنه لا يستحقه إلا بالشرط".
لكل من المتعاقدين الفسخ وإن لم يوجد سبب، إلا ما كان بعد الشروع في العمل، ففيه خلاف بين العلماء.
قوله: (وَأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخَهُ مَا لَمْ يَشْرَعِ الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ).
وما دأم عقدًا جائزًا، فيجوز لكل منهما أن يطالب بفسخه؛ لأنه غير ملزم له، وما دام غير ملزم له فله أن يطالب بالفسخ، وبالمفاصلة، وهذه من أسباب كونه عقدًا غير لازم، وذلك مما جعل العلماء لا يجيزون القراض في عروض التجارة؛ لأنه - كما أشرنا قبل - إما أن يكون العقد على عينه، أو على قيمته، أو على أثمانه، والأثمان تختلف من وقت إلى وقت، وكذلك لا يجوز على الأعيان؛ لأنها عروض أيضًا.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا شَرَعَ الْعَامِلُ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ لَازِمٌ).
إذن إذا شرع العامل في العمل وقد أخذ هذا المال الذي أعطيه، هل يجوز فسخه أو لا؟
نحن نعلم بالنسبة للعبادات أن الإنسان إذا دخل في نافذة لزمه إتمامها، كمن يحرم في حج غير مفروض، فإنه يلزمه إتمامه، وكذلك إذا دخل الإنسان في سنة، كما قال تعالى: قوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمد: 33] لكن بالنسبة للسنة إذا أقيمت الصلاة، يأتي الخلاف: إذا أقيمت الصلاة وأنت تصلي سنة أو نافلة فهل لك أن تقطعها وتبدأ بالصلاة المكتوبة؛ لأنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، فتأخذ بهذا الحديث وتقطع؟ أم تخفف وتتم
(1)
عملًا بعموم قوله تعالى: قوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمد: 33]؟
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (1/ 377 - 378) قال: "وكذا يكره تطوع عند إقامة صلاة مكتوبة
…
إلا سنة فجر إن لم يخف فوت جماعتها، ولو بإدراك تشهدها، فإن خاف تركها أصلًا، وما ذكر من الحيل مردود، وكذا يكره غير المكتوبة عند ضيق الوقت، وقبل صلاة العيدين مطلقًا، وبعدها بمسجد=
هذه الشريعة أحكامها مرتبط بعضها ببعض، وإذا وجدت شجرة - دوحة عظيمة - لها أصل ثابت في الأرض وأغصان ممتدة، فمن أين تتغذى هذه الأغصان؟ من هذا الأصل.
فهذا الأصل هو عقيدة التوحيد؛ عقيدة الإسلام، وفروع هذه الشريعة هي الأغصان التي تلتقي وتتغذى هذا الأصل.
والأصل: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله.
وهما الينبوعان الصافيان العذبان اللذان منهما نأخذ أحكام هذه الشريعة، ومنهما نستمد، وإليهما نرجع عند الاختلاف، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] والرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى سُنته صلى الله عليه وسلم بعد مماته.
فهذه شريعة عظيمة يرتبط بعضها ببعض؛ لا انفصال فيها، تتصل فيها العقيدة بالعبادة، وهما متصلتان بالأخلاق، وكل ذلك متصل بالمعاملة، فهي الشريعة الكاملة.
= لا ببيت في الأصح، وبين صلاتي الجمع بعرفة ومزدلفة، وكذا بعدهما".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير" للخلوتي (1/ 409) قال: "وإن أقيمت الصبح: أي صلاته، بأن شرع المقيم في الإقامة ولم يكن شخص صلى الفجر وهو بمسجد أو رحبته تركها وجوبًا ودخل مع الإمام في الصبح وقضاها بعد حل النافلة للزوال، وإن أقيمت الصبح وهو خارجه
…
ركعها خارجه إن لم يخش
…
فوات ركعة من الصبح مع الإمام".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 500) قال: "ولا يبتدئ مريد فعل الفريضة المقام لها مع الجماعة الحاضرة ندبًا نفلًا بعد شروعه، أي: المقيم فيها، أي: الإقامة، بل يكره له ذلك
…
فإن كان فيه، أي: النفل أتمه ندبًا إن لم يخش، أي: يخف بإتمامه فوت الجماعة بسلام الإمام".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 459) قال: "فلا صلاة إلا المكتوبة، فلا يشرع في نفل مطلق، ولا راتبة من سنة فجر أو غيرها في المسجد أو غيره ولو ببيته
…
فإن فعل - أي: شرع في نافلة بعد الشروع في الإقامة - لم تنعقد
…
وإن أقيمت - وهو فيها، أي: النافلة، ولو كان خارج المسجد أتمها خفيفة، ولو فاتته ركعة".
وقد جاءت الشرائع السابقة عليها لتعالج أحوال أقوام في أوقات معينة، جاءت ليقضى بها في فترات ثم تنتهي.
أمَّا هذه الشريعة الإسلامية فهي المهيمنة، هي شريعة الله الخالدة إلى أن يرث الله -سبحان الله وتعالى- هذا الكون ومن عليه، ستبقى أبد الدهر أبد الآبدين ودهر الداهرين، لا تنتهي حتى تقوم الساعة، حتى إن عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان فإنه يحكم بهذه الشريعة الإسلامية التي عزف عنها كثير من المنتسبين إليها، وأخذوا يتحاكمون إلى قوانين وأفكار من وضع البشر.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا شَرَعَ الْعَامِلُ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ لَازِمٌ، وَهُوَ عَقْدٌ يُورَثُ، فَإِنْ مَاتَ وَكَانَ لِلْمُقَارِضِ بَنُونَ أُمَنَاءُ كَانُوا فِي الْقِرَاضِ مِثْلَ أَبِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِأَمِينٍ).
الإمام مالك يرى أن العقد في أصله غير لازم، لكن إذا شرع العامل في العمل أصبح لازمًا؛ لما يترتب على الانفصام والانفصال من الضرر؛ لأنه يكون قد أمضى وقتًا، فلو مات أحدهما ورَّثَه صاحبُه
(1)
.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 536) قال: "وإن مات العامل قبل النضوض، فلوارثه الأمين لا غيره أن يكمله على حكم ما كان مورثه، وإلا يكن الوارث أمينًا أتى؛ أي: عليه أن يأتي بأمين كالأول في الأمانة والثقة، وإلا يأت بأمين كالأول سلموا - أي: الورثة - المال لربه هدرًا؛ أي بغير شيء من ربح أو أجرة".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 415، 416) قال: "ولو مات أحدهما أو جن أو أغمي عليه انفسخ عقد القراض كالوكالة، وللعامل إذا مات المالك أو جن - الاستيفاء والتنضيض بغير إذن الورثة في الأولى، والولي في الثانية اكتفاء بإذن العاقد كما في حال الحياة
…
بخلاف ما لو مات العامل، فإن ورثته لا تملك المبيع بدون إذن المالك
…
فإن امتنع المالك من الإذن في البيع تولاه أمين من جهة الحاكم، ولا تقرر ورثة المالك العامل على القراض كما لا يقرر المالك ورثة العامل عليه".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي و"حاشية ابن عابدين"(5/ 654، 655) قال: "وتبطل المضاربة بموت أحدهما؛ لكونها وكالة، وكذا بقتله، وحجر يطرأ على أحدهما، وبجنون أحدهما مطبقًا
…
وفي البزازية: مات المضارب والمال عروض=
وأحمد
(1)
.
قوله: (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْفَسْخُ إِذَا شَاءَ، وَلَيْسَ هُوَ عَقْدٌ يُورَثُ. فَمَالِكٌ أَلْزَمَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرٍ، وَرَاهُ مِنَ الْعُقُودِ الْمَوْرُوثَةِ).
جمهور العلماء - الأئمة الثلاثة - يخالفون في ذلك، فيرون أنه لا يتغير عن حالته الأولى، فهو عقد جائز حتى ولو شرع العامل في العمل. قالوا: ولذلك اشترطنا فيه أن يكون دنانير ودراهم؛ لأنه عند الانفصام يرجع إلى هذا الأصل الذي لا يتغير، ولذلك عللوا بأنه لو كان عروضًا ثم حصل الانفصال فحينئذ يحصل الضرر؛ لأن قيم عروض التجارة تتغير؛ إذ إنها - كما هو معلوم - قد يصيبها كساد، وقد تكون نافقة رائجة، وهذا أمرٌ معروف، فتجد بعض السلع في بعض الفترات ترتفع أسعارها، وتنخفض في فترات أخرى، وقد يستمر الكساد سنين عديدة، فهو لا يقتصر على فترة معينة، ولا على فصل من فصول السنة، نحن نعرف أن الحاجة في الشتاء تدعو إلى الثياب الشتوية والصوف وأمثال
= باعها وصيه، ولو مات رب المال، والمال نقد تبطل في حق التصرف، ولو عرضا تبطل في حق المسافرة لا التصرف، فله بيعه بعرض ونقد، وبالحكم بلحوق المالك مرتدًّا
…
ولو ارتد المضارب، فهي على حالها، فإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب".
(1)
للحنابلة تفصيل في هذه المسألة: يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 522) قال: "وإذا مات أحد المتقارضين أو جن جنونًا مطبقًا، أو توسوس بحيث لا يحسن التصرف، أو حجر عليه لسفه - انفسخ القراض؛ لأنه عقد جائز من الطرفين فبطل بذلك كالوكالة، فإن كان الميت أو المجنون ونحوه رب المال، فأراد الوارث الجائز التصرف، أو وليه إن لم يكن الوارث جائز التصرف إتمامه أي القراض أي البقاء عليه
…
وإن كان المال عرضًا وأرادوا - أي الوارث مع العامل - إتمامه - أي القراض - لم يجز؛ لأن القراض قد بطل بالموت
…
وإن كان الميت أو المجنون ونحوه هو العامل وأراد رب المال ابتداء القراض مع وارثه، أي: وارث العامل، أو مع وليه إن لم يكن الوارث جائز التصرف، والمال ناض - جاز لعدم المانع".
ذلك، وفي الصيف يحتاج الناس إلى الثياب الخفيفة، وبخاصة الثياب البيضاء. وكذلك الأمر بالنسبة للمأكولات، قد يحتاج إلى نوع بعينه في وقت أكثر من غيره.
وقد ألزمه مالك لرؤيته أن ذلك من باب المصلحة، ومعلوم أن الفقه المالكي عني بالمصالح المرسلة كثيرًا، ورأى أنه بعد أن يشرع في العمل ثم بعد ذلك يحصل الانفصال وقطع العقد والانتهاء منه يتضرر، والآخرون يقولون لا.
قوله: (وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ شَبَّهَتِ الشُّرُوعَ فِي الْعَمَلِ بِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ).
ما قبل الشروع في العمل متفق عليه، لا خلاف بين الأئمة أنه عقد جائز.
أي: شبهت ما بعد الشروع في العمل بما قبل الشروع في العمل؛ فالأئمة الثلاثة لا يرون فرقًا بين أن يكون قد شرع، وبين أن لم يكن قد شرع.
قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُقَارِضَ إِنَّمَا يَأْخُذُ حَظَّهُ مِنَ الرِّبْحِ بَعْدَ أَنْ يَنِضَّ
(1)
جَمِيعُ رَأْسِ الْمَالِ
(2)
.
لا يحصل تصرف من أحد العاقدين إلا بحضور الآخر؛ فهذا حق مشترك بين اثنين، لا يحق لأحدهما أن ينفرد بشيء منه حتى يلتقيا ويصفيا حسابهما، ويعرف كل واحد منهما حقه، فإنه يعرف رأس المال، ثم بعد
(1)
"نض": اسم الدراهم والدنانير عند أهل الحجاز؛ وإنما يسمونه ناضَّا، إذا تحول عينًا بعد أن يكون متاعًا. انظر:"تهذيب اللغة" للهروي (11/ 322)، و"المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص 467).
(2)
تقدمت أقوال الأئمة في هذه المسألة ضمن المسألة السابقة لتداخلهما.
ذلك يعرف ما تم ربحه، وربما كان هذا الزائد عروضًا فتحتاج إلى أن تنض - أي: تحول - إلى نقد؛ إلى دراهم ودنانير.
فإنه اشترى سلعة فربح بضاعة كثيرة، كما حصل في القصة التي ذكرتها قبل - قصة عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهما اقترضا مالًا من أبي موسى الأشعري والي العراق في الكوفة، ثم بعد ذلك اشتريا بضائع من العراق، فقدما بها المدينة وربحا فيها
(1)
، وبعد ذلك حصل ربح في المال، والربح قد يكون عروضًا.
قوله: (وَأَنَّهُ إِنْ خَسِرَ، ثُمَّ اتَّجَرَ، ثُمَّ رَبِحَ جَبَرَ الْخُسْرَانَ مِنَ الرَبْحِ).
المراد: أنه يجبر الخسران من المكسب، وهذا هو شأن التجارة؛ فالدنيا دواليك، تجد بعض الناس قصير النفس إذا دخل ميدان التجارة وبدأ يماكس فيها، ربما يخسر مرة أو مرتين فيتوقف عن التجارة. وبعضهم يتشاءم مثلًا يقول: أنا ليس لي حظ، ثم يتوقف، وهذا ينطبق على
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 687) وغيره: "عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرَّا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة، فرحب بهما وسهل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه فتبتاعان به متاعًا من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك. ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه، مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر بن الخطاب: "ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما، أديا المال وربحه". فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين، هذا لو نقص هذا المال - أو هلك لضمناه؟ فقال عمر: أدياه. فسكت عبد الله، وراجعه عبيدالله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضًا؟ فقال عمر: قد جعلته قراضًا. فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال"، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1470).
أصحاب المزارع، تجد أنه يحرث الأرض ثم يزرعها، وربما تأتي آفة من السماء، وربما تأتي دويبات فتهلكه عامًا بعد عام، ثم تتغير الأحوال ويبارك الله له.
فعلى الإنسان أن يتوكل على الله، والله -سبحان الله وتعالى- قد أحل البيع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أطيب ما أكل الرجل من كسبه"
(1)
؛ فأطيب ما يأكله الرجل من كسب يده.
وهؤلاء الأئمة الذين نقرأ الآن أقوالهم ماذا كانوا؟
كان أبو حنيفة
(2)
خزازًا
(3)
، وكان مِن آمن الناس في الاشتغال بعمل البزازة الذي نسميه القماش الآن؛ فهو رجل مشغول بالعلم، ومع ذلك عنده وإن، وكان يربح وينفق على تلاميذه؛ لأنهم كانوا قد وقفوا أنفسهم على طلب العلم، فهم يحضرون الدروس ولا وقت عندهم، فلم يكونوا كطلاب العلم الآن، بل كانوا يتحولون من درسٍ إلى درسٍ، ومن معلمٍ إلى معلمِ، فيصلون أيامهم بلياليهم، إلى وقت الراحة، يقرأَ الواحد منهم في اليومَ خمسة كتب أو أربعة أو ثلاثة، فلذلك كان علمهم غزيرًا متنوعًا؛ والآن قد تغير الشيوخ وتغير الطلاب أيضًا!
وهذه هي الحقيقة التي ينبغي ألا ننكرها؛ لأن الأذهان تشتتت وتوزعت وانصرفت، وكانوا فيما مضى يقفون أنفسهم على العلم ويندفعون إليه، ولم تكن هناك غايات غير طلب العلم؛ فالصورة إذًا قد تغيرت.
(1)
أخرجه أبو داود (3528)، وغيره: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما اكل الرجل من كسبه؛ وإن ولد الرجل من كسبه"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1626).
(2)
قال أحمد العجلي: "أبو حنيفة
…
كان خزازا يبيع الخز". انظر: "الثقات" للعجلي (2/ 314).
(3)
"الخز": ثياب تنسج من صوف وإبريسم. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 28)، و"تاج العروس" للزبيدي (136/ 15).
وكان الإمام أحمد يحمل على رأسه، ثم يأكل من عمله
(1)
، ولما ذهب ومعه زميله وقرينه وصديقه إسحاق بن راهويه، وكان إسحاق - وهو أيضًا صاحب مال - قد استأجر بيتًا في اليمن، فعرض على الإمام أحمد الإعانة فأبى
(2)
، فكان يحمل فإذا حصل ما يسد جوعته أكله وانتهى. وكان أحدهم يبحث عن رزقه في يومه
(3)
، والآن تجد الإنسان عنده المال الكثير ولا يكتفي به، وتغيرت الأحوال.
كان الأئمة يعملون ويأكلون من كسب أيديهم، وما أجمل هذا! وليس ذلك عيبًا؛ بل إن أبا بكر رضي الله عنه الصحابي الجليل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل بالتجارة، فلما تولى الخلافة نزل السوق، فقال الصحابة: الآن وقتك ليس لك، وقتك لعمل المسلمين، فحُدِّد له نصيب يكفيه ويكفي أولاده
(4)
.
أصبح وقته أثمن من أن ينزل ويذهب إلى الأسواق، ويبيع ويشتري،
(1)
قال صالح بن أحمد بن حنبل: "وكان أبي ربما أخذ القدوم وخرج إلى دار السكان، يعمل الشيء بيده". انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 209).
(2)
قال إسحاق بن راهويه: "لما خرج أحمد إلى عبد الرزاق، انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وعرض عليه أصحابه المواساة، فلم يأخذ". انظر: "سير أعلام النبلاء"(11/ 214).
(3)
قال الخلال: "عن إسحاق بن راهويه، قال: كنت مع أحمد بن حنبل عند عبد الرزاق، وكانت معي جارية، وسكنا فوق، وأحمد أسفل في البيت. فقال لي: يا أبا يعقوب، هو ذا يعجبني ما أسمع من حركتكم. قال: وكنت أطلع، فأراه يعمل التكك - وهي الأشياء التي تربط الإزار أو السراويل حتى لا تقع - يعملها، ويبيعها، ويتقوت بها، هذا أو نحوه". انظر: "سير أعلام النبلاء"(11/ 193).
(4)
قال أبو بكر: "لا والله ما يصلح أمر الناس التجارة، وما يصلح لهم إلا التفرغ والنظر في شأنهم، وما بد لعيالي مما يصلحهم، فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يومًا بيوم، ويحج ويعتمر، وكان الذي فرضوا له كل سنة ستة آلاف درهم، فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين، فإني لا أصيب من هذا المال شيئًا". يُنظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 186).
بل عليه أن يجلس للمسلمين ويسعى في حاجاتهم وحل مشكلاتهم، وبيت المال مسؤول عنه في هذه الناحية، فثمة قضايا ودروس كثيرة في تاريخنا الإسلامي الذي ربما جهله كثير منا، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"مَن أصبح معافى في بدنه، آمنًا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما سيقت له الدنيا"
(1)
، "معافى في بدنه" في صحة وعافية، "آمنًا في سربه"
(2)
عبر عن سكن الإنسان بالسرب؛ أي: الجحر، كأنه يسكن فيه، "عنده قوت يومه وليلته"، "فكأنما سيقت له الدنيا" كأنها أمامه بحذافيرها.
وقال الله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] في قصة بني إسرائيل في سورة المائدة، قال: ملوكًا؛ لأن الإنسان إذا كان عنده بيت وزوجة وخادم ودابة أصبح ملكًا.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَدْفَعُ إِلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَيَهْلِكُ بَعْضُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، ثُمَّ يَعْمَلُ فِيهِ فَيَرْبَحُ، فَيُرِيدُ الْمُقَارِضُ أَنْ يَجْعَلَ رَأْسَ الْمَالِ بقِيمة الْمَالِ بَعْدَ الَّذِي هَلَكَ، هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟).
له ذلك إذا ادعى هذه الدعوى ووافقه صاحب المال؛ لكن لو حصل خلاف فحينئذ ينظر إلى هذه المسألة.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
(3)
: إِنْ صَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ،
(1)
أخرجه الترمذي (2346) وغيره، ولفظه: عن عبيدالله بن محصن الخطمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا"، وحسنه الألباني في "الصحيحة"(2318).
(2)
قال ابن الأثير: "يقال فلان آمن في سربه - بالكسر -: أي في نفسه". انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 356).
(3)
مذهب الحنفية ينظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 659، 660) قال: "اشترى بألفها عبدًا، وهلك الثمن قبل النقد للبائع لم يضمن؛ لأنه أمين، بل دفع المالك للمضارب ألفًا أخرى ثم، وثم أي كلما هلك دفع أخرى إلى غير نهاية، ورأس المال جميع ما دفع بخلاف الوكيل؛ لأن يده ثانيًا يد استيفاء لا أمانة. معه ألفان، فقال للمالك: دفعت إليَّ ألفًا وربحت ألفًا، وقال المالك: دفعت ألفين،=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فالقول للمضارب؛ لأن القول في مقدار المقبوض للقابض أمينًا، أو ضمينًا، كما لو أنكره أصلًا، ولو كان الاختلاف مع ذلك في مقدار الربح فالقول لرب المال في مقدار الربح فقط؛ لأنه يستفاد من جهته، وأيهما أقام بينة تقبل، وإن أقاماها فالبينة بينة رب المال في دعواه الزيادة في رأس المال، وبينة المضارب في دعواه الزيادة في الربح، قيد الاختلاف بكونه في المقدار؛ لأنه لو كان في الصفة، فالقول لرب المال، فلذا قال: معه ألف".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 536) قال: "والقول للعامل في دعوى تلفه كله أو بعضه
…
وهذا إذا لم تقم قرينة على كذبه، وإلا ضمن وفي دعوى خسره بيمين، ولو غير متهم على المشهور إلا لقرينة تكذبه. وفي دعوى رده إلى ربه إن قبض بلا بينة مقصودة للتوثق بيمين، ولو غير متهم اتفاقًا، فإن نكل حلف رب المال؛ لأن الدعوى هنا دعوى تحقيق، بخلاف ما تقدم فيغرم بمجرد نكوله؛ لأنها دعوى اتهام، فلو قبض ببينة غير مقصودة للتوثق فكما لو قبض بلا بينة، وكذا إن أشهد العامل على نفسه أنه قبض، وأما المقصودة للتوثق وشهدت على معاينة الدفع والقبض معًا فلا يقبل قوله معها في الرد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 242، 243) قال: "ويصدق العامل بيمينه في قوله: لم أربح شيئًا أصلًا، أو لم أربح إلا كذا، عملًا بالأصل فيهما، ولو أقر بربح قدر ثم ادعى غلطًا في الحساب، أو كذبًا لم يقبل؛ لأنه أقر بحق لغيره فلم يقبل رجوعه عنه. نعم له تحليف المالك، وإن لم يذكر شبهة، ويقبل قوله بعد خسرت إن احتمل كأن عرض كساد
…
أو اشتريت هذا للقراض، وإن كان خاسرًا أولى، وإن كان رابحًا حيث وقع العقد على ما في الذمة؛ لأنه مأمون وهو أدرى بقصده
…
ويصدق العامل بيمينه أيضًا في جنس، أو قدر رأس المال، وإن كان هنا ربح؛ لأن الأصل عدم دفع زيادة إليه
…
وفي دعوى التلف
…
لأنه أمين، ومن ثم ضمن بما تضمن به".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 522، 523) قال: "والعامل أمين في مال المضاربة
…
لا ضمان عليه فيما تلف من مال المضاربة بغير تعد ولا تفريط
…
القول قوله - أي العامل - في قدر رأس المال؛ لأن رب المال يدعي عليه قبض شيء وهو ينكره
…
وفيما يدعيه من هلاك وخسران؛ لأن تأمينه يقتضي ذلك، ومحل ذلك: إن لم تكن لرب المال بينة تشهد بخلاف ذلك. وإن ادعى الهلاك بأمر ظاهر كلف بينة تشهد به، ثم حلف أنه تلف به، والقول قوله
…
ويقبل أيضًا قول العامل في نفي ما يدعي عليه من خيانة، أو جناية، أو مخالفته شيئًا مما شرطه رب المال عليه؛ لأن الأصل عدم ذلك".
أَوْ دَفَعَ رَجُلٌ مَالًا قِرَاضًا لِرَجُلٍ فَهَلَكَ مِنْهُ جُزْءٌ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَصَدَّقَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَكُونُ الْبَاقِي عِنْدَكَ قِرَاضًا عَلَى الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُفَاصِلَهُ، وَيَقْبِضَ مِنْهُ رَأْسَ مَالِهِ وَيَنْقَطِعَ الْقِرَاضُ الْأَوَّلُ).
حتى تزول الشبهة؛ لأن الأمر تغير، وذلك حتى لا تكون هناك جهالة.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ - مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ -: إِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلُ، وَيَكُونُ الْبَاقِي قِرَاضًا
(1)
، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الطَّوَارِئِ، وَلَكِنْ ذَكرْنَاهَا هُنَا لِتَعَلُّقِهَا بِوَقْتِ وُجُوبِ الْقِسْمَةِ، وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ).
ليست هذه المسألة من مشهورات المسائل التي ذكر المؤلف منهجه سائرًا عليها، وإنما هي مسألة جزئية طارئة قد تطرأ على الأصل، والغالب بحمد الله أن الإنسان يحفظ المال؛ لكن قد يحصل مثل هذه الطوارئ التي تطرأ على الإنسان.
لقد درسنا الحج سابقًا، ورجحنا أن الحج ينبغي أن يكون على الفور
(2)
، وأن من قال من أهل العلم بأنه ليس على الفور
(3)
استدلوا
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 281، 282) قال: "قال ابن حبيب: ما لم يقر أنه اشترى السلعة على اسم القراض، فإن أقر بها فالربح على القراض، ولم يخرجه ذلك من الضمان".
(2)
وهو مذهب أبي حنيفة في أصح الروايتين عنه وأبي يوسف ومالك في الراجح عنه وأحمد. انظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 132)، و"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 2) و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 389، 390).
(3)
ولا يأثم المستطيع بتأخيره، وهو مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة. انظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 444)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 119).
بالصلاة؛ قالوا: الصلاة لها وقت موسع ومضيق، فللإنسان أن يصلي في أول الوقت أو في وسطه وآخره، ولا يعد آثمًا.
وقد رُدَّ على هؤلاء فقيل: وقت الصلاة محدود، والغالب أن الإنسان يعيش في مثل هذه الفترة ويندر الموت، لكن الحج كل عام، فسترجئ عامًا ولا تضمن البقاء، وإن بقيت فلا تضمن المال والنفقة والراحلة التي توصلك؛ فقد تطرأ أمور تغير الحال، وكذلك الأمر هنا في مثل هذه المسائل.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلْعَامِلِ نَفَقَتُهُ مِنَ الْمَالِ الْمُقَارَضِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟).
هذه مسألة مهمة جدًّا، فهذا العامل يقصد به المضارب، والآخر صاحب المال نسميه برب المال أو المضارب له، فهل للعامل النفقة أو لا؟ وهل له ذلك اشترط إذا اشترطه أو ليس له إلا أن يضارب بالمال ونفقته عليه هو، على أن يكون الربح حسب ما اتفق عليه على جزء معلوم؟
هذه مسألة فيها أقوال متعددة وخلاف كبير بين العلماء؛ وهي كما يلي:
القول الأول: المنع من ذلك والقول بأن لا نفقة له؛ لأن هذا أمر خارج عن العقد.
القول الثاني: له النفقة والحق؛ لأنه كالوكيل تمامًا، فهو أمين على هذا المال، فلا مانع أن يأكل ويشرب ويكسو نفسه في حدود الحاجة، دون أن يبالغ في ذلك، في حدود المعتاد، فلا ضرر ولا ضرار.
الثالث: جواز ذلك في السفر؛ لأنَّ السفر له مخاطره، وربما يحتاج الإنسان فيه إلى ما لا يحتاج في الحضر، فثمة فرق بينهما.
الرابع: له أن يأكل من هذا المال في حالة المرض؛ لأنه في حالة مرضه سيتعطل عن العمل، فيصبح عاجزًا.
هذا مجمل الأقوال التي سيذكرها المؤلف.
قوله: (عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ).
الأقوال أكثر؛ لكنه أخذ جملتها.
قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِهِ: لَا نَفَقَةَ لَهُ أَصْلًا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَقَالَ قَوْمُ: لَهُ نَفَقَتُهُ).
أشهر أقوال الإمام الشافعي أن لا نفقة له
(1)
؛ إذًا فالشافعي له أقوال؛ له قولان آخران؛ قول يرى فيه أنه يستحق النفقة في السفر وحده
(2)
، وفي رواية ثالثة: له النفقة
(3)
.
قوله: (وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ)
(4)
.
(1)
ينظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 235) قال: "ولا ينفق منه على نفسه حضرًا لاقتضاء العرف ذلك، وكذا سفراً في الأظهر كالحضر؛ إذ النفقة قد تستغرق الربح فيلزم انفراده به، وقد تزيد عليه فيلزم أخذه من رأس المال، وهو ينافي مقتضاه".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 235) قال: "والثاني ينفق ما يزيد بسبب السفر كالخف والإداوة وسفرة؛ لأنه حبسه عن التكسب بالسفر لأجل القراض فأشبه حبس الزوجة بخلاف الحضر، ومراده بالنفقة ما يعم سائر المؤن، ولو شرط ذلك في العقد فسد".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 318) قال: "الفصل الثالث: وهو نفقة العامل فينقسم قسمين: أحدهما: ما يختص العامل بالتزامه؛ وهو نفقة حضره في مأكوله وملبوسه لعلتين: إحداهما: اختصاص العامل بالربح دون رب المال، وذلك لا يجوز.
والثانية: أن نفقة إقامته لا تختص بعمل القراض فلم تلزم في مال القراض.
والقسم الثاني: نفقة سفره، فالذي رواه المزني في مختصره هنا أن له النفقة بالمعروف، وقال في جامعه الكبير والذي أحفظ له أنه لا يجوز القراض إلا على نفقة معلومة في كل يوم، وثمن ما يشتريه فيكتسبه، وروى في مختصره وجامعه وجوب النفقة، وجعلها في جامعه معلومة كنفقة الزوجات، وفي مختصره بالمعروف كنفقات الأقارب، فهذا ما رواه المزني".
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 222) قال: "وممن رأى للمضارب أن ينفق من المال: الحسن البصري والنخعي".
وأحمد
(1)
؛ لكنه قيده بأن يذكر ذلك في العقد، يعني أن يذكر ذلك في العقد، لكن إذا لم يحصل شرط فلا.
قوله: (وَهُوَ أَحَدُ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ).
يعني أن هذا هو القول الثاني للإمام الشافعي
(2)
.
قوله: (وَقَالَ آخَرُونَ: لَهُ النَّفَقَةُ فِي السَّفَرِ مِنْ طَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ فِي الْحَضَرِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
وَالثَّوْرِيُّ
(5)
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
(6)
).
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 516، 517) قال: "وليس للمضارب نفقة من مال المضاربة، ولو مع السفر بمال المضاربة؛ لأنه دخل على أن يستحق من الربح شيئًا، فلا يستحق غيره، إذ لو استحقها لأفضى إلى اختصاصه به حيث لم يربح سوى النفقة، إلا يستحق غيره، كوكيل، قال الشيخ تقي الدين: أو عادة، فإن شرطها، أي: النفقة، رب المال له، أي: المضارب، وقدرها فحسنٌ؛ قطعًا للمنازعة، فإن لم يقدرها، أي: النفقة، واختلفا، أي: تشاحا في قدر النفقة، فله نفقة مثله عرفًا من طعام وكسوة كالزوجة؛ لأن إطلاق النفقة يقتضي جميع ما هو ضروراته المعتادة، فكان له النفقة والكسوة، وهي إباحة فلا ينافي ما تقدم إن شرطا دراهم معلومة يبطلها".
(2)
تقدم نقله عنه.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 530) قال: "وأنفق العامل أي جاز له الإنفاق من مال القراض على نفسه، ويقضى له بذلك بشروط أشار لأولها بقوله: إن سافر؛ أي شرع في السفر، أو احتاج لما يشرع به فيه لتنمية المال، ولو دون مسافة قصر؛ من طعام وشراب وركوب ومسكن وحمام وحجامة وغسل وثوب ونحو ذلك، على وجه المعروف حتى يعود لوطنه، ومفهوم الشرط أنه لا نفقة له في الحضر، قال اللخمي: ما لم يشغله عن الوجوه التي يقتات منها، وهو قيد معتبر".
(4)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (5/ 657) قال: "وإذا سافر ولو يومًا فطعامه وشرابه وكسوته وركوبه
…
ما يركب ولو بكراء، وكل ما يحتاجه عادة - أي: في عادة التجار - بالمعروف في مالها لو صحيحة لا فاسدة؛ لأنه أجيز، فلا نفقة له كمستبضع ووكيل وشريك كافي، وفي الأخير خلاف".
(5)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 43) قال: "وقال الثوري: نفقته في الذهاب من المضاربة، وفي الرجوع إلى بلده عليه خاصة".
(6)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 222) قال: "قال الأوزاعي:=
وذلك لأن الحاجة في السفر أكثر منها في الحضر؛ فالمسافر تعتريه أمور فيحتاج إلى أن ينفق على نفسه، والمشقة أكبر، ولذلك نرى أن الشريعة راعت أمور المسافر وخففت عنه كثيرًا من الأحكام، وكذلك أيضًا هذا المسافر بحاجة إلى أن تكون رعايته أكثر، فلا مانع من أن ينفق على نفسه في السفر؛ لكنه يكون في الحضر بين أهله وذويه، فلا حاجة لأنْ ينفق من مال المضاربة.
قوله: (إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إِذَا كانَ الْمَالُ يَحْمِلُ ذَلِكَ).
وهذا قيد جيد؛ لأنه ربما يكون الربح يذوب ويذهب بالنفقة؛ لأن الربح قد لا يكون كثيرًا، فإذا ما أنفق العامل منه استوعبت نفقة العامل الربح، فيخرج المال كما كان كحاله عندما سلمه ربه.
قوله: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُنْفِقُ ذَاهِبًا، وَلَا يُنْفِقُ رَاجِعًا)
(1)
.
ينفق ذاهبًا؛ لأنه في الذهاب ذهب ليتجر ويبحث عن التجارة، لكن بالنسبة للعودة فقد انتهت مهمته، فلم يبق عليه سوى إيصال ما كان لديه من تجارة.
قوله: (وَقَالَ اللَّيْثُ: يَتَغَدَّى فِي الْمِصْرِ وَلَا يَتَعَشَّى
(2)
. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهُ نَفَقَتَهُ فِي الْمَرَضِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهُ فِي الْمَرَضِ
(3)
).
= ينفق بالمعروف إذا شخص بالمال، وبه قال أبو ثور، وإسحاق، وأصحاب الرأي، ولا نفقة له في قولهم جميعًا حتى يشخص بالمال عن البلد".
(1)
تقدم قوله.
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 44) قال: "وقال الليث: له أن ينفق في الحضر مقدار ما يتغدى به ولا يتعشى، ولا يكنس؛ لأنه يكون بالغداة مشغولًا بمال المضاربة، وفي السفر نفقته في مال المضاربة، فإن خرج بمال نفسه معه كانت النفقة على قدر المالين بالحصص".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 319) قال: "فإن دخل في سفره بلدًا فله النفقة=
عرفنا فيما مضى أن أي عقد من العقود لا ينبغي أن تلحق به منفعة، وقد نهي عن البيع إذا كانت معه منفعة، وقد نهى الرسول عن بيع وسلف
(1)
، وعن القرض إذا جر نفعًا
(2)
، إلى غير ذلك من الأمور؛ حتى لا يكون ذلك هدفًا.
قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ: أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فِي الْقِرَاضِ فَلَمْ يَجُزْ. أَصْلُهُ الْمَنَافِعُ).
يقول: حجة من أجازه أن هذا كان في العهد الأول، في زمن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، فإن هذا كان سائدًا في ذلك الوقت، فينبغي أن يكون أساسًا يقاس عليه فيما يتعلق بنفقة العامل من المال.
قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّل، وَمَنْ أَجَازَهُ فِي الْحَضَرِ شَبَّهَهُ بِالسَّفَرِ. وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الرِّبْحِ إِلَّا بِحَضْرَةِ رَبِّ الْمَالِ).
هذه مسألة مهمة؛ لأن العقد قام على طرفين؛ أحدهما: رب المال،
= ما أقام في مقام المسافر ما لم يتجاوز أربعًا، فإن زاد على إقامته أكثر من أربع نظر؛ فإن كان لغير مال القراض من مرض طرأ، أو عارض يختص به فنفقته في ماله دون القراض". وانظر:"المجموع" للنووي (14/ 382).
(1)
أخرجه أحمد في "المسند"(11/ 203) وغيره: عن عبد الله بن عمرو: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وعن بيع وسلف، وعن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما ليس عندك". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1396).
(2)
روي مرفوعًا عن أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقرض أحدكم قرضًا، فأهدى له، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك". أخرجه ابن ماجه (2432)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1400)، لكنه صح موقوفًا عن ابن عباس؛ أخرجه البيهقي في "الكبرى"(5/ 572) عن ابن عباس أنه قال في رجل كان له على رجل عشرون درهمًا، فجعل يهدي إليه وجعل كلما أهدى إليه هدية باعها حتى بلغ ثمنها ثلاثة عشر درهمًا، فقال ابن عباس:"لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1397).
والآخر: هو العامل، وإذا ما حصل ربح فلا بد من أن يكون بحضورهما معًا؛ حتى يعرف رأس المال ثم يستخرج بعد ذلك الربح فيصبح موزعًا بينهما، كل يأخذ حصته، لكن لو تصرف العامل في ذلك لكان منفردًا في تصرف في أمر لا يجوز له أن يفعله إلا أن يشركه فيه رب المال.
قوله: (وَأَنَّ حُضُورَ رَبِّ الْمَالِ شَرْطٌ فِي قِسْمَةِ الْمَالِ، وَأَخْذِ الْعَامِلِ حِصَّتَهُ)
(1)
).
(1)
مذهب الحنفية لهم تفصيل في هذه المسألة: يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 97) قال: "رب المال لا يخلو: إما إن كان أطلق الربح في عقد المضاربة، ولم يضفه إلى المضارب
…
وإما أن أضافه إلى المضارب
…
فإن أطلق الربح ولم يضفه إلى المضارب، ثم دفع المضارب الأول المال إلى غيره مضاربة بالثلث فربح الثاني، فثلث جميع الربح للثاني
…
فكان ثلث جميع الربح بعض ما يستحقه الأول، فجاز شرطه للثاني، فكان ثلث جميع الربح للثاني، ونصفه لرب المال
…
فانصرف شرطه إلى نصيبه لا إلى نصيب رب المال، فبقي نصيب رب المال على حاله، وهو النصف، وسدس الربح للمضارب الأول؛ لأنه لم يجعله للثاني فبقي له بالعقد لأول، ويطيب له ذلك؛ لأن عمل المضارب الثاني وقع له، فكأنه عمل بنفسه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد القيرواني (7/ 271) قال: "قال ابن القاسم: ولا يصلح للعامل أخذ حصته من الربح، وإن أذن له رب المال حتى يتفاصلا، ولو أخذ مائة قراضًا، فأخذ له اللصوص خمسين، فأراه ما بقي: فأتم له المائة لتكون هي رأس المال، فإن رأس المال في هذا خمسون ومائة حتى يقبض ما بقي على المفاصلة، وكذلك لو رضي أن يبقى ما بقي رأس المال، ولم ينفع ذلك".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (7/ 454) قال: "الركن السادس من أركان القراض: قسمة الربح على جزئية صحيحة، وحصر عوض المقارض فيما يسمى له من الربح، وبيان ذلك: أن رب المال والعامل ينبغي أن يتشارطا الربح بينهما على جزئية معلومة حالة المعاقدة، ويذكرا ذلك ذكر العوض في مقابلة المعوض المطلوب من العامل، وهو عمله، وعوض عمله الجزء الذي يسمى له من الربح، فيقول رب المال: قارضتك، أو ضاربتك، أو عاملتك، على التصرف في هذا المال، ولك من ربح يرزقه اللّه نصفه، ولي نصفه، أو لك ثلثه، ولي ثلثاه، على ما يتفقان عليه". =
وهذا أمر لا يختلف فيه العلماء؛ لأن هذا الربح حظ لكل منهما، فلا ينفرد به العامل فيأخذ نصيبه، وأيضًا هو محل شبهة؛ لأنه لو تصرف فقسم فأخذ ما يخصه لربما كان في ذلك أيضًا شبهة.
قوله: (وَأَنَّهُ لَيْسَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَقسِمَهُ بِحُضُورِ بَيِّنَةٍ، وَلَا غَيْرِهَا).
يعني لا يكفي أيضًا أن يكون عنده شاهد أو شاهدان أو علامات تدل على ذلك؛ لأن حضور الطرف الآخر متعين في ذلك، حتى يرفع النزاع ويذهب الخلاف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الطَّوَارِئِ)
ثمة أحكام ثابتة في القراض قد عرفناها فيما يتعلق برأس المال، وفي كيفية توزيعه، وفي الثمن وفي الشراء، وفي المضاربة، لكن قد تطرأ أمور أخرى تعرف بأحكام الطوارئ التي تجِدُّ على ما يتعلق بالقراض.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَخَذَ الْمُقَارِضُ حِصَّتَهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ، أَوْ بَعْضُهُ).
عرفنا في المسألة السابقة أن العلماء أجمعوا أنه ليس للعامل أن يأخذ نصيبه دون حضور رب المال، لكن لو قدر أنه تصرف فأخذ نصيبه فطرأ شيء وهو ذهاب ذلك المال، ففي هذا اختلاف.
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 519) قال: "وتحرم قسمته أي الربح والعقد باق إلا باتفاقهما على قسمته؛ لأنه مع امتناع رب المال وقاية لرأس ماله؛ لأنه لا يأمن الخسران فيجبره بالربح، ومع امتناع العامل لا يأمن أن يلزمه رد ما أخذ في وقت لا يقدر عليه، فلا يجبر واحد منهما".
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ فَالْعَامِلُ مُصَدَّق فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الضَّيَاعِ)
(1)
.
مصدق لأنه أمين، فهو بمنزلة الوكيل، وبمنزلة ولي اليتيم، فكونه قد سلمه ماله دليل على أنه قد أمنه على ذلك، فهو كمن يحفظ الوديعة وكالوكيل والشريك، فهو إذن موضع أمانة، وإذا كان كذلك فعند مالك ينبغي أن يكون مصدقًا.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
وَالثَّوْرِيُّ
(4)
: مَا أَخَذَ الْعَامِلُ يَرُدُّهُ وَبَجْبُرُ بِهِ رَأْسَ الْمَالِ).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (536/ 3) قال: "والقول للعامل في دعوى تلفه كله أو بعضه؛ لأن ربه رضيه أمينًا، وإن لم يكن أمينًا في الواقع، وهذا إذا لم تقم قرينة على كذبه وإلا ضمن، وفي دعوى خسره بيمين ولو غير متهم على المشهور إلا لقرينة تكذبه".
(2)
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (7/ 481) قال: "إذا عامل الرجل على مقدار من المال، ثم استرد بعضه، لم يخل: إما أن يكون ذلك قبل ظهور الربح والخسران، وإمَّا أن يسترد بعد ظهور الخسران في رأس المال. فإن لم يكن ظهر ربح ولا خسران، حط ذلك المقدار المسترد من رأس المال، ولم يخف رجوع رأس المال إلى المقدار الباقي، فعليه يبنى الربح والخسران، وكأن المعاملة وقعت على ذلك المقدار أول مرة، وإن ظهر ربح في المال، وفرض استرداد طائفة".
(3)
يُنظر: "درر الحكام" لملا خسرو (2/ 316) قال: "الهالك من الربح يعني أن ما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال، والهالك يصرف إلى التبع لا الأصل
…
فإن زاد لم يضمن، أي إن زاد الهالك على الربح لم يضمن المضارب؛ لأنه أمين فلا يكون ضميناً
…
يعني اقتسما الربح والمضاربة بحالها ثم هلك المال أو بعضه ترادا الربح، ليأخذ المالك رأس ماله؛ لأن الأصل أن القسمة لا تصح حتى يستوفي المالك رأس ماله؛ لأن الربح زيادة على الأصل، وهي لا تكون إلا بعد سلامة الأصل، فإذا هلك ما في يد المضارب أمانة ظهر أن ما أخذه من رأس المال، فيضمن المضارب ما أخذه؛ لأنه أخذه لنفسه، وما أخذه المالك محسوب من رأس المال، وإذا استوفى رأس المال فما فضل يفسم بينهما؛ لأنه ربح، وما نقص لم يضمن المضارب؛ لأنه أمين".
(4)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 62) قال: "إذا اقتسما الربح ومال=
لأنه تصرف دون إذن من رب المال، ودون أن يكون حاضرًا معه، فلما أخذ ذلك كالربح ضاع رأس المال، فينبغي أن يرد ذلك فيجبر به رأس المال، حتى وإن كان أقل فإنه يكون أساسًا له.
قوله: (ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ فَضْلًا إِنْ كَانَ هُنَالِكَ).
يعني إن كان الربح يبلغ درجة رأس المال ويزيد، فحينئذ يقتسمان الربح، فرأس المال حق للمقارض وما زاد فإنه يقتسم؛ لأنه ربما يكون الربح كبيرًا، وربما يكون الربح قليلًا لا يصل إلى رأس المال.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا هَلَكَ مَالُ الْقِرَاضِ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَى الْعَامِلُ بِهِ سِلْعَةً مَا وَقَبْلَ أَن يَنْقُدَهُ الْبَائِعَ).
هذه أيضًا طارئ من الطوارئ، قد يشتري العامل سلعة من السلع، وقبل أن ينقل ثمنها إلى البائع يذهب ذلك المال.
يعني: لو أن مقارضًا رأس المال معه عشرة آلاف، فاشترى به سلعًا، وقبل أن يسلم هذا المبلغ نقدًا للبائع الذي اشترى منه تلك السلعة ضاع ذلك المال - يعني ضاع من يد المضارب - فالحكم مختلف فيه، لكن لو سلمه إليه وضاع فلا علاقة له بذلك؛ لأن البائع قد قبض حقه فأصبح في مسؤوليته، وقد سبق ذلك في البيع وغيره.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: الْبَيْعُ لَازِمٌ لِلْعَامِلِ، وَرَبُّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ دَفَعَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً، ثُمَّ تَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا مِنَ الْمُقَارَضَةِ، وَإِنْ شَاءَ تَبَرَّأَ عَنْهَا)
(1)
.
= المضاربة على حاله، فضاع بعد ذلك، فإن قسمتها باطلة، وما أخذه رب المال محسوب من رأس ماله، وما أخذه المضارب يرده، وهو قول الثوري".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 529) قال: "وإن حصل تلف بعضه قبل عمله في المال فالمبالغة راجعة للتلف فقط؛ لأنه الذي يكون قبل تارةً وبعد أخرى، إلا أن =
وأبو حنيفة وأحمد اتفقا من حيث الجملة، واختلفا في التفصيل.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ الشِّرَاءَ رَبُّ الْمَالِ، شبّهه بِالْوَكِيلِ)
(1)
).
الإمامان أبو حنيفة وأحمد
(2)
يقولان: الشراء لازم هنا، وعلى رب المال أن يدفع مالًا آخر؛ لأن المضارب التزم بشراء سلعة، وقد فقد
= يقبض المال؛ أي يقبضه ربه من العامل أي ثم يعيده له فلا يجبر بالربح بعد ذلك؛ لأنه صار قراضًا مؤتنفًا
…
فإن تلف جميعه فأتاه ربه بدله فربح الثاني فلا يجبر ربحه الأول، وهو ظاهر؛ لأنه قراض ثان، وله أي لرب المال التالف بيد العامل كله أو بعضه الخلف لما تلف كلًّا أو بعضًا، فإن تلف جميعه لم يلزم الخلف؛ أي لم يلزم العامل قبوله، وأما إن تلف بعضه فيلزمه قبوله إن تلف البعض بعد العمل لا قبله؛ لأن لكل منهما الفسخ. وإذا اشترى العامل سلعة للقراض فذهب ليأتي لبائعها بثمنها فوجد المال قد ضاع وأبى ربه من خلفه؛ لزمته السلعة التي اشتراها، فإن لم يكن له مال بيعت عليه وربحها له وخسرها عليه".
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 113) قال: "إذا هلك مال المضاربة قبل أن يشتري المضارب شيئًا، فإن هلك بعد الشراء بأن كان مال المضاربة ألفًا، فاشترى بها جارية ولم ينقد الثمن البائع حتى هلكت الألف، فقد قال أصحابنا: الجارية على المضاربة، ويرجع على رب المال بالألف، فيسلمها إلى البائع، وكذلك إن هلكت الثانية التي قبض يرجع بمثلها على رب المال، وكذلك سبيل الثالثة والرابعة، وما بعد ذلك أبدًا حتى يسلم إلى البائع، ويكون ما دفعه أولًا رب المال، وما غرم كله من رأس المال، وإنما كان كذلك لأن المضارب متصرف لرب المال، فيرجع بما لحقه من الضمان بتصرفه كالوكيل".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 518) قال: "وإن تلف بعض رأس المال قبل تصرفه أي العامل فيه انفسخت فيه أي التالف المضاربة، وكان رأس المال هو الباقي خاصة؛ لأنه مال هلك على جهته قبل التصرف
…
وإن تلف المال قبل التصرف ثم اشترى المضارب سلعة في ذمته للمضاربة، فهي - أي: السلعة - له، أي: للمضارب، وثمنها عليه
…
إلا أن يجيزه رب المال فيكون له
…
وإن تلف مال المضاربة بعد الشراء قبل نقد ثمنها، أي: السلعة
…
، أو تلف هو أي مال المضاربة، والسلعة، فالمضاربة باقية بحالها
…
والثمن على رب المال
…
ويصير رأس الثمن دون التالف لفواته، ولصاحب السلعة مطالبة كل منهما - أي: من رب المال والعامل - بالثمن".
المبلغ بعد أن تم الاتفاق بينهما، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وقد تمَّ ذلك لكن قبل أن ينقده الثمن.
قوله: (إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ الْقِرَاضِ الثَّمَنَيْنِ).
هذا موضع خلاف بين الإمامين أبي حنيفة وأحمد:
أبو حنيفة يرى أن رأس المال الثمنان؛ التالف والمضاف، فأحدهما موجود ثابت والآخر متصور.
وهو بذلك يراعي الرفق بصاحب المال حتى لا يتضرر؛ لأن من أضاع المال هو المضارب، فلا يتحمل صاحب المال ذلك دون أن يتحمل معه أو يشركه الذي ضارب معه.
ورأى أبو حنيفة أنه يدفع الثمن الجديد لكن يؤسس رأس المال على الأول والثاني، فإذا ما وصل إلى المالين فما زاد يكون ربحًا.
وأما الإمام أحمد فيرى أن رأس المال إنما هو هذا الذي اشتري به أخيرًا، أما ذاك فقد ذهب وانتهى وقد ذهب من يد أمينة قد استأمنت على ذلك، ولم يحصل تفريط ولا تعد، لكن لو حصل تفريط أو تعَدٍّ فإن ذلك يلزم المضارب، أما إذا لم يفرط فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فينبغي أن يقتصر رأس المال على الثمن الأخير الذي سلم.
وهكذا نرى أن كل إمام من الأئمة عندما يقول قولًا يكون له رأي وله تعليل يعرضه، فهو يذكر تعليلًا، وربما يكون رأي هذا الإمام أقوى، ورأي هذا كذا، لكن لكل منهما فهم فيما يقوله، فهو عندما يرجح رأيًا أو يقول قولًا، ينتهي إلى أمر قد وصل إليه فهم في تلك المسألة أو غيرها.
أراد أبو حنيفة أن يشرك رب المال والمضارب في المصيبة، فلا ينبغي أن ينفرد بها رب المال، وعند أحمد يكون الثمن الأخير هو رأس المال، والإمام أحمد يقول: إن الذي يعتبر هنا هو الموجود، وذاك مال قد ذهب وهو غير واقع، ثم إن الذي ذهب منه لم يفرط ولم يتعد ورب المال قد ائتمنه فهو أمين، وهو عرضة أيضًا لأن يضيع منه المال، وربما
تصيبه جائحة، وربما يخسر، إلى غير ذلك من الجوائح والنكبات التي قد تصيب الأموال.
قوله: (وَلَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِهِ عَيْنًا).
إلا بعد أن يجمع رأس المال الأول والثاني، فما زاد بعد ذلك يكون عند أبي حنيفة هو الربح، وعند أحمد الربح هو ما زاد على الثمن الأخير.
قوله: (أَعْنِي: ثَمَنَ تِلْكَ السِّلْعَةِ الَّتِي تَلِفَتْ أَوَّلًا، وَالثَّمَنَ الثَّانِيَ الَّذِي لَزِمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ).
أعتقد أن الأمر واضح؛ يعني لا بد أن يتوفر الثمن؛ الثمن الأول التالف، والثمن الأخير، فإذا ما اجتمع بعد الضرب - يعني بعد البيع والشراء - فما زاد فهو الربح.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الْعَامِلِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بَعْضَ سِلَعِ الْقِرَاضِ).
اختلفوا في جواز بيع العامل بعض السلع من رب المال، أو العكس وهو أن يشتري العامل.
قوله: (فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ
(2)
).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 528) قال: "ولا يجوز اشتراؤه أي العامل من ربه أي المال سلعًا للقراض؛ لأنه يؤدي إلى جعل رأس المال عرضًا؛ لأن الثمن رجع إلى ربه، والمشهور في هذا الفرع الكراهة خلافًا لظاهره. وأمَّا اشتراؤه منه لنفسه فجائز، أو اشتراؤه سلعًا للقراض بنسيئة - أي: دين - فيمنع، وإن أذن ربه فإن فعل ضمن والربح له وحده ولا شيء منه لرب المال؛ إذ لا ربح لمن لا يضمن".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (5/ 659) قال: "ولو شرى من رب المال بألف عبدًا شراه رب المال بنصفه رابح بنصفه وكذا عكسه؛ لأنه وكيله، ومنه علم جواز شراء المالك من المضارب وعكسه".
هذه المسألة: هل يجوز أن يبيع من رب المال أو لا؟
فيها خلاف كما نرى.
فأحمد له روايتان في الجواز وعدمه
(1)
.
فوجهة من منع ذلك من أهل العلم أنه مالك، فكيف يبيع على نفسه؟!
فمال المضاربة هو مال المالك؛ مال رب المال، فكيف يبيع عليه العامل؟! كأنه يبيع على نفسه، وهذا لا يجوز.
ومن أجازوا ذلك من أهل العلم قالوا: وما المانع أن يشتري ما دام سيشتري بحق؟
نعم هو أصل ماله؛ لكن شاركه فيه غيره، وهو العامل، فله أن يبيع من هذا المال الذي تحول بعد ذلك إلى سلع. له أن يبيع عليه، هذه كلها مسائل اجتهادية، ولذلك كثر الخلاف فيها وتنوعت أفهام العلماء.
قوله: (وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا قَدْ تبَايَعَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 514، 515) قال: "وليس له - أي: المضارب- الشراء من مال المضاربة إن ظهر في المضاربة ربح؛ لأنه شريك لرب المال فيه، وإلا بأن لم يظهر ربح صح كشراء الوكيل من موكله، فيشتري من رب المال، أو من نفسه بإذن رب المال".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 233) قال: "ولا يعامل المالك بمال القراض؛ أي لا يبيعه إياه لأدائه إلى بيع ماله بماله، بخلاف ما لو اشترى له منه بعين أو دين يمتنع لكونه متضمنًا فسخ القراض، ولهذا لو اشترى ذلك منه بشرط بقاء القراض بطل فيما يظهر، وإن أوهم كلام بعضهم الصحة مطلقًا، ولو كان له عاملان مستقلان فهل لأحدهما معاملة الآخر؟
وجهان، أوجههما: نعم إن أثبت المالك لكل منهما الاستقلال بالتصرف، أو الاجتماع فلا كالوصيين على ما قاله الأذرعي فيهما ورجحه غيره، لكن المعتمد كما في "أدب القضاء" للإصطخري منع بيع أحدهما من الآخر، فيأتي نظير ذلك في العاملين".
يعني: إذا انتفت الشبهة، إذا تبايعا البيع المعروف بين الناس كأنه يبيع على أجنبي، فحينئذ تنتفي الشبهة، وإذا انتفت الشبهة وزال الشك فلا مانع عند الإمام الشافعي؛ لأنه إذا باع عليه يحتمل أنه واطأه؛ لأنه رب المال فخفض له فأضر بنفسه، ويحتمل - أيضًا - وجهًا آخر أنه زاد عليه ليستغله؛ لأنه وثق به وأمنه، فالشبهة إذًا قائمة، لكن إذا حصل البيع في ضوء ووفق ما يتعامل به مع غيره - أي: مع غير رب المال، بحيث لا يحصل غبن لأحد الطرفين؛ لا لرب المال بغبنه لبيعه عليه بالزيادة، ولا للعامل؛ لأن العامل يريد رضاء رب المال فربما باعه بالبخس فيلحق الضرر العامل؛ لأن ذلك سيسري إلى الربح أيضًا.
قوله: (وَوَجْهُهُ مَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ يُرَخِّصُ لَهُ فِي السِّلْعَةِ مِنْ أَجْلِ مَا قَارَضَهُ).
يعني: أن مالكًا لم يقل بعدم الجواز؛ لكنه يرى أن يترك ذلك تورعًا وكراهة، وإلا فلو فعله لجاز، لكنه يجوز مع الكراهة.
قوله: (فَكَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَخَذَ مِنَ الْعَامِلِ مَنْفَعَةً سِوَى الرِّبْحِ الَّذِي اشْتَرَطَ عَلَيْهِ).
هذه هي الشبهة القائمة، وبعض أهل العلم يقول: ربما تواطأ معه فأقل له، وربما غبنه أيضًا؛ لأن بعض الناس يغبن، وهذا يرى في هذه الحياة، فأحيانًا تجد جارين أو صديقين يثق أحدهما بالآخر فهو يظن أنه إذا ذهب إلى هذا الجار أو إلى هذا الصديق فسوف تكون المعاملة كما ينبغي، فتجد أن هذا الجار يستغل ثقته به، وربما زاد عليه، وترى نماذج من ذلك في هذا الزمان خصوصًا، كأن ترى إنسانًا يثق بآخر فيشتري له سلعًا لا يماكسه، فيبيع عليه بأغلى، مع أن المفروض عليه أن أقل ما يكون أن يعامله كغيره إن لم يراع حقوقه عليه.
قوله: (وَلَا أَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ إِنْ تَكَارَى الْعَامِلُ عَلَى السِّلَعِ إِلَى بَلَدٍ فَاسْتَغْرَقَ الْكِرَاءُ قِيَمَ السِّلَعِ وَفَضَلَ عَلَيْهِ فَضْلَةٌ
أَنَّهَا عَلَى الْعَامِلِ لَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 649) قال: " [فروع مهمة] له أن يرهن، ويرتهن لها، ولو أخذ نخلًا أو شجرًا معاملة على أن ينفق في تلقيحها وتأبيرها من المال لم يجز عليها، وإن قال له: اعمل برأيك، فإن رهن شيئًا من المضاربة ضمنه، ولو أخر الثمن جاز على رب المال ولا يضمن بخلاف الوكيل الخاص، ولو حط بعض الثين أن العيب طعن فيه المشتري وما حط صحته أو أكثر يسيرًا جاز، وإن كان لا يتغابن الناس في الزيادة يصح، ويضمن ذلك من ماله لرب المال وكان رأس المال ما بقي على المشتري
…
قوله: ولا تفسد؛ لأن حق التصرف للمضارب، (قوله: والاستئجار) أي استئجار العمال للأعمال والمنازل لحفظ الأموال والسفن والدواب".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 521، 522) قال: "أو عين زمنًا لهما ولو تعدد؛ كلا تشتر، أو لا تبع إلا في الشتاء، أو اشتر في الصيف وبع في الشتاء، أو محلًّا للتجر لا يتعداه لغيره كسوق أو حانوت - ففاسد للتحجير، وفيه أجرة المثل، والربح لرب المال، والخسارة عليه في الجميع؛ كأن أخذ العامل من شخص مالًا ليخرج - أي على أن يخرج به لبلد معين، فيشتري منه سلعًا ثم يجلبه لبلد القراض للبيع ففاسد، وفيه أجرة المثل، وعليه - أي على العامل - ما جرت العادة أن يتولاه؛ كالنشر والطي الخفيفين، وعليه الأجر في ماله إن استأجر على ذلك لا في مال القراض، ولا في ربحه، وجاز للعامل جزء من الربح قلَّ أو كثر؛ كالمساوي بشرط علمه لهما كما تقدم، ولو كدينار من مائة أو مائة من مائة وواحد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 223، 224) قال: "ووظيفة العامل التجارة، وهي الاسترباح بالبيع والشراء دون الطحن والخبز؛ إذ لا يسمى فاعلها تاجرًا، بل محترفًا، وتوابعها مما جرت العادة أن يتولاه بنفسه كنشر الثياب وطيها، وذرعها وجعلها في الوعاء، ووزن الخفيف، وقبض الثمن، وحمله لقضاء العرف بذلك
…
وهذه مضبوطة بتيسر الاستئجار عليها فلم تشملها الرخصة، ولو اشتراها وطحنها من غير شرط لم ينفسخ القراض فيها، ثم إن طحن من غير إذن لم يستحق أجرة له، ولو استأجر عليه لزمته الأجرة وصار ضامنًا، ويغرم أرش ما نقص بالطحن، فإن باعه لم يضمن الثمن لعدم التعدي فيه، وإن ربح فهو بينهما عملًا بالشرط".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 226) قال: "والعامل أمين؛ لأنه يتصرف في المال بإذن ربه، ولا يختص بنفعه أشبه الوكيل بخلاف المستعير، فإنه يختص بنفع العارية".
هذه مسألة مهمة، لكن كان ينبغي على المؤلف أن يقدم لها، ولكننا لا نؤاخذه؛ لأنه -كما قال- يعني بمشهور المسائل وأمهاتها.
وفيما يتعلق بالعامل هل هو مسؤول تجاه مال القراض أو غير مسؤول؟
لا شك أن العلماء مجمعون على أنه مسؤول، فهو أمين عليه، وينبغي أن يحافظ عليه، وألا يفرط في ذلك المال
(1)
، فلا يجوز له أن
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 86، 87) قال: "أحكام [المضاربة] الصحيحة فكثيرة بعضها يرجع إلى حال المضارب في عقد المضاربة
…
أما الذي يرجع إلى حال المضارب في عقد المضاربة فهو أن رأس المال قبل أن يشتري المضارب به شيئًا أمانة في يده بمنزلة الوديعة
…
فإذا اشترى به شيئًا صار بمنزلة الوكيل بالشراء والبيع
…
فيكون شراؤه على المعروف؛ وهو أن يكون بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس في مثله
…
ولو اشترى شراء فاسذا يملك إذا قبض لا يكون مخالفًا، ويكون الشراء على المضاربة، وكذا إذا باع شيئًا من مال المضاربة بيعًا فاسذا لا يصير مخالفًا ولا يضمن".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير لأقرب المسالك وحاشية الصاوي" للدردير (3/ 706، 707) قال: "والعامل أمين؛ فالقول له في دعوى تلفه أي المال، ودعوى خسره ورده لربه بيمين في الكل ما لم تقم على كذبه قرينة أو بينة إن قبضه بلا بينة توثق: هذا شرط في دعوى رده فقط؛ أي ادعى رده لربه، فالقول للعامل بيمين إن لم يكن قبضه ببينة مقصودة للتوثق بها خوف دعوى الرد بأن قبضه بلا بينة أصلًا، أو بينة لم يقصد بها التوثق، فإن قبضه ببينة قصد رب المال بها التوثق خوفًا من دعواه الرد؛ فلا يقبل قوله إلا ببينة تشهد به، أو قال العامل: هو قراض، وقال ربه: هو بضاعة عندك لتشتري لي به سلعة كذا بأجر معلوم، وعكسه: فالقول للعامل فيهما".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 408) قال: "ويتصرف العامل محتاطًا في تصرفه كالوكيل، وحينئذ يجب عليه أن يحبس المبيع حتى يقبض الثمن الحال، ولا يتصرف بغبن فاحش في بيع أو شراء، ولا نسيئة في ذلك بلا إذن من المالك في الغبن والنسيئة؛ لأنه في الغبن يضر بالمالك، وفي النسيئة ربما هلك رأس المال، فتبقى العهدة متعلقة بالمالك فيتضرر أيضًا، فإن أذن جاز، ويجب الإشهاد في البيع نسيئة".
يشتري بأكثر من ثمن المثل، ولا يجوز له أن يبيع بأقل من ثمن المثل؛ إلا أن يتفق مع البائع.
وليس له أن يسلك بهذه السلع طريقًا مخوفًا أو غير آمن؛ لأنه ربما سلك ذلك الطريق حتى وإن كان أقرب وأدى ذلك إلى ذهاب المال؛ فقد يكون هذا الطريق مشهورًا معروفًا بوجود لصوص فيه، وقد يوجد فيه بعض قطاع الطرق، وهناك طريق سالك آمن ليس فيه خوف، فكان ينبغي أن يسلكه وإن طالت المسافة؛ لأنه عرج على ذلك الطريق، وهذا الطريق ربما يعرض بضائعه إلى النهب، فيكون بذلك قد أضر به، فهذا لا يجوز.
وهنا مسألة أخرى: هل عمل المضارب في المضاربة موقوف أو محصور في البيع والشراء، أم أنه مطالب بأمور أخرى؟ وهل هو مسؤول عن حراسته؟ وهل هو مسؤول عن ترتيبه؟ وهل هو مسؤول عن ربط ما يحتاج إلى ربط وفك ما يحتاج إلى فك وترتيب ما يحتاج إلى ترتيب؟
لا شك أنه مطالب بما يقوم به رب المال، فالأشياء التي جرت العادة أن يقوم بها رب المال فهو يقوم بها أيضًا؛ لأنه أمين على ذلك؛ لكن ليس مسؤولًا عن نقل البضائع؛ لأن نقل البضائع يحتاج إلى عداد، فكانت فيما مضى تحتاج إلى الرواحل، وفي زمننا هذا تحتاج إلى السيارات أو البواخر أو الطائرات، وهذا يكلف، فلا يقال بأنه مسؤول عن ذلك؛ حتى ولو كان يتاجر ويضارب في نفس البلد، فإنه يحتاج إلى نقله من مكان إلى مكان، ويحتاج إلى مستودعات هذه الأمور التي لم تجر العادة بها، والعامل غير مطالب بها، وعليه أن ينفق عليها من مال المضاربة، هذا هو المعروف.
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 511)، قال:"وحكم المضاربة: حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله من البيع والشراء، أو القبض والإقباض وغيرها، أو لا يفعله كالقرض، وكتابة الرقيق وتزويجه ونحوه، وفيما يلزمه فعله كنشر الثوب وطيه، وختم الكيس والإحراز ونحوه".
أمَّا ما جرت العادة أن يقوم به؛ كحبلٍ يريد أن يفكه، أو غير ذلك من الأمور اليسيرة التي لا تتطلب شيئًا، قال أهل العلم: إنه يُنزل نفسه منزلة المالك، فعليه أن يقوم بما يقوم به، ويستعين بما لا يقوم به المالك فيما يتعلق بهذا الأمر.
ثم تأتي المسألة التي ذكر المؤلف، وهي أنه قد يشتري بضائع ثم بعد ذلك يستأجر وسائل نقل لتشحن، فيستغرق ذلك المال وزيادة، فما الذي يفعله؟
هذه هي المسألة التي قال عنها: ليس فيها خلاف.
قوله: (لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِنَّمَا دَفَعَ مَالَهُ إِلَيْهِ لِيَتَّجِرَ بِهِ).
أي؛ ليربح.
قوله: (فَمَا كانَ مِنْ خُسْرَانِ فِي الْمَالِ فَعَلَيْهِ).
لأن رب المال دفع إليه هذا لمال ليتجر به، وما دفعه إلا ليطلب الربح، فهو ما يريد منه أن يفني ماله، وقد تحصل أمور خارجة عن إرادته كما عرفنا فيما مضى؛ كضياع المال قبل النقل، لكن أن يستأجر عليه ثم تكون نفقات الأجرة تفني ذلك المال، وتكون -أيضًا- هناك زيادة فيصبح الطالب مطلوبًا، فهذا هو الذي قال المؤلف: إنه لا يعرف فيه خلافًا بين العلماء
(1)
.
قوله: (وَكَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى الْمَالِ وَاسْتَغْرَقَهُ).
هذه من المسائل التي يذكرها الفقهاء، وقد سبق مثلها في عدة أبواب؛ كالمريض في حالة مرضه، هل ما يتخذه من عقود يصبح ساربًا؟
وعرفنا فيما مضى اختلاف العلماء في تطليق المريض في مرض
(1)
تقدمت أقوال أهل العلم في هذه المسائل.
الموت هل يقع أو لا يقع؟ وإن وقع فهل تحرم المرأة من الميراث أو لا تحرم؟
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (2/ 251) قال: "وإذا طلق الرجل امرأته في مرض موته طلاقًا بائنًا فمات وهي في العدة ورثته، وإن مات بعد انقضاء العدة فلا ميراث لها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 752)، قال: "وإن سألته الطلاق وهو مريض فطلقها ورثته
…
ولأنه لما ثبت وجوب الميراث بالطلاق في المرض لأجل التهمة بإخراجها من الميراث، فلم يفترق الحكم بين إذنها وعدمه؛ لأن الإذن في باب سقوط الميراث غير معتبر، بدليل أن الوارث لو قال: لست أحتاز له إرثًا - لم يلتفت إلى قوله وورث، ولأن الإنسان قد يضيق على زوجته حتى تسأله الخلع، فحسم الباب بتوريثها في المرض على كل وجه، ولأنها مطلقة في المرض كالتي لم تسأل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 149، 150) قال: "وإن كان الطلاق في المرض فعلى ضربين؛ أحدهما: أن يكون غير مخوف
…
والضرب الثاني: أن يكون مخوفًا، فعلى ضربين:
…
والضرب الثاني: أن لا يتعقبه الصحة فهذا على ضربين؛ أحدهما: أن يكون الموت حادثًا عن طريق غيره
…
والضرب الثاني: أن يكون حدوث الموت منه فهو الطلاق في المرض، فإن كان الطلاق رجعيًّا توارثا في العدة، سواء مات الزوج أو الزوجة، وإن كان الطلاق بائنًا فإن ماتت الزوجة لم يرثها إجماعًا، وإن مات الزوج فقد اختلف الفقهاء في ميراثها على مذاهب شتى
…
أحدها: لا ميراث لها منه، كما لا ميراث له منها
…
والمذهب الثاني: أن لها الميراث ما لم تنقض عدتها فإن انقضت فلا ميراث لها
…
والمذهب الثالث: أن لها الميراث ما لم تتزوج وإن انقضت عدتها، فإن تزوجت فلا ميراث لها .... والمذهب الرابع: أن لها الميراث أبدًا وإن تزوجت".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 480؛ 481) قال: "وإن طلقها في مرض الموت المخوف أو غيره طلاقًا لا يتهم فيه بقصد الفرار بأن سألته الطلاق أو الخلع فأجابها إليه، فكطلاق الصحيح
…
أو خيَّرها - أي: خير المريض زوجته - فاختارت نفسها فكطلاق الصحيح؛ لأنه لا يتهم في ذلك كله بقصد الحرمان
…
قلت: ولعل المراد إذا لم تكن سألته الطلاق على عوض، فإن كان كذلك لم ترثه؛ لأنها سألته الإبانة وقد أجابها إليها، وإن كان يتهم فيه
…
بقصد حرمانها الميراث كمن طلقها ابتداء بلا سؤال منها في مرض موته المخوف
…
لم ترث".
وعرفنا هناك أن كثيرًا من العلماء يرى أنها لا تحرم؛ ليعامل هذا المطلق بنقيض قصده؛ لأنه ربما طلقها وهو في هذه الحالة ليحرمها من الميراث، ولم يكن الدافع له إرادة تطليقها حقيقة، فهو طلقها إذًا لعلة، لشيء في نفسه، ليحرمها من الميراث، حتى لا تتمتع به، فقال هؤلاء العلماء: يعامل بالنقيض. وهنا لو أن المريض في مرض الموت أعطى مالًا للمضاربة به فهل ينفذ ذلك؟
الجواب: نعم؛ لأن هذا لا يشك فيه؛ لأن المضاربة أصلًا تكون للمصلحة، فدفع هذا المال لمصلحته ومصلحة الورثة، فحينئذ لا يتهم في هذا المقام، فلذلك ينْفُذُ
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 616) قال: "مريض عليه دين محيط فأقر بقبض وديعة أو عارية أو مضاربة كانت له عند وارثه صح إقراره؛ لأن الوارث لو ادعى رد الأمانة إلى مورثه المريض وكذبه المورث يقبل قول الوارث".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 538) قال: "وحاص رب القراض ونحوه غرماءه في المال المخلف عنه، وتعين القراض ومثله الوديعة والبضاعة بوصية إن أفرزه وشخصه بها كهذا قراض فلان أو وديعته، وقدم صاحبه أي صاحب القراض ونحوه المعين له الغرماء الثابت دينهم في الصحة والمرض، وسواء ثبت دينه بإقرار أو بينة، فقوله: في الصحة إلخ، متعلق بمحذوف تقديره الثابت؛ أي: قدم على الدين الثابت في الصحة والمرض، ولا ينبغي - أي: يحرم لعامل في مال القراض - هبة لغير ثواب بكثير ولو للاستئلاف".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص 120) قال: "وإن قارض في المرض اعتبر الربح من رأس المال، وإن زاد على أجرة المثل، وإن مات وعليه دين قدم العامل على سائر الغرماء".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 521) قال: "وإن قارض المريض في المرض المخوف ومات فيه فالربح من رأس المال، وإن زاد على تسمية المثل أي ما يسمى لمثله، ولا يحتسب من ثلثه، ويقدم به على سائر الغرماء؛ لأن ذلك لا يأخذه من ماله، وإنما يستحقه بعمله من الربح الحادث، ويحدث على ملك المضارب دون المالك؛ بخلاف ما لو حابى الأجير في الأجر فإنه يحتسب بما حاباه من ثلثه؛ لأن الأجر يؤخذ من ماله. وإن ساقى المريض، أو زارع في مرض موته المخوف حسب الزائد من الثلث؛ لأنه من عين المال، بخلاف الربح في المضاربة".
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ يَسْتَدِينُ مَالًا فَيَتَّجِرُ بِهِ مَعَ مَالِ الْقِرَاضِ).
إذا أخذ العامل مالًا من رب المال، من المضارب معه؛ لكنه رأى أن يضيف إلى ذلك المال مالًا آخر؛ لأنه ربما حل في مكان أو في بلد فوجد أنواعًا من السلع التي ظهر له أنه لو زاد في شرائها وضاعف كمياتها لتضاعف الربح عنده، فوجد من يستدين منه فأعطاه مبلغًا من المال، فهل له أن يضيف ذلك إلى مال المضاربة ويدخله فيها أو لا؟ وكيف يكون ذلك؟
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ لَا يَجُوزُ
(1)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ جَائِزٌ
(3)
.
(1)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 645) قال: "لا يجوز أن يقارضه على أن يستدين على مال القراض، ويكون الربح بينهما، ولا يجوز ذلك للعامل
…
ودليلنا: أن ذلك قراض وعقد شركة، وقد منعناه، ولأن عقد شركة الوجوه عندنا باطلة لو انفردت، فإذا انضمت إلى القراض كان أولى بالبطلان، ولأنه لو قال لو ابتداء: استدن وأتجر على أن يكون الربح بيننا نصفين لم يجز؛ لأنها مضاربة بغير مال، فكذلك إذا انضم إليه مال؛ لأن قدر ما يستدين ليس لرب المال رأس مال فيه، ولأنه لو دفع إليه مائة نقدًا وعرضًا بمائة قراضًا لم يجز مع كون العرض مالًا مجملًا، فإذا قال: استدن بمائة كان بالمنع أولى، ولأن كل ما لو انفردتُ المضاربة به لم يجز، فكذلك إذا انضم إلى رأس ماله، أصله القرض".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 233، 234) قال: "ولا يشتري للقراض بأكثر من رأس المال والربح إلا بإذن المالك كما دل عليه كلام المصنف. على أنه يمكن رجوع بغير إذنه إلى هذه أيضًا وهو ظاهر، وإن قال الأذرعي: لم أره نضًّا؛ وذلك لأن المالك لم يرض به، فإن فعل فسيأتي، ولا بغير جنس ماله أيضًا، فلو كان ذهبًا ووجد ما يباع بدراهم باع الذهب بدراهم ثم اشترى ذلك بها، ولا بثمن المثل ما لا يرجو فيه ربحًا: أي إلا بعد زمن طويل لا يبقى له القراض غالبًا فيما يظهر".
(3)
مذهب الحنفية في هذه المسألة ليس كما نقله المصنف؛ بل على العكس من ذلك وبتقييد: ينظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 90) قال: "وأمَّا القسم الذي ليس =
وأحمد
(1)
قال بذلك أيضًا، فهذا أضاف مصلحة إلى المال؛ لأن حقيقة وجهة هؤلاء العلماء الذين أجازوا - وهم الجمهور - أنهم قالوا: ربما يزيد ربح البضائع ويتضاعف لو كثرت، فلا مانع من ذلك، ثم إن رب المال لا ضرر عليه، وإن كان قد أخذ هذا المال واستفاد، نعم لو أنه اتجر وأخذ مالًا ثم اشترى لنفسه وتساهل في مال المضارب معه، وانشغل بماله هو، فحينئذ يكون متهمًا، فلا يجوز له ذلك، لكن هو أخذ هذا المال وأدخله ضمن مال المضاربة واتجر به.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ جَائِز، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا).
على ما يشترطان ويتفقان عليه في ذلك الأمر، فإذا ما استدان مالًا أو أضاف مالًا، فكيف يقتسمان الربح بعدُ؟ على ما يتفقان عليه من الشروط التي تسير وفق شروط المضاربة ونظامها.
• قوله: (وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى
= للمضارب أن يعمله إلا بالتنصيص عليه في المضاربة المطلقة، فليس له أن يستدين على مال المضاربة، ولو استدان لم يجز على رب المال، ولكون دينًا على المضارب في ماله؛ لأن الاستدانة إثبات زيادة في رأس المال من غير رضى رب المال، بل فيه إثبات زيادة ضمان على رب المال من غير رضاه؛ لأن ثمن المشترى برأس المال في باب المضاربة مضمون على رب المال
…
فلو جوزنا الاستدانة على المضاربة لألزمناه زيادة ضمان لم يرض به، وهذا لا يجوز".
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 507، 508) قال: "ولا أن يستدين عليها - أي: الشركة - بان يشتري بأكثر من المال، أو يشتري بثمن ليس معه من جنسه؛ لأنه يدخل فيه أكثر مما رضى الشريك بالشركة فيه، أشبه ضم شيء إليه من ماله، غير النقدين؛ بأن يشتري بفضة ومعه ذهب، أو بالعكس؛ لأن عادة التجار قبول أحدهما عن الآخر، ولا يمكن التحرز منه إلا بإذن شريكه في الكل
…
فإن أذنه في شيء منها جاز، وإن أخر أحدهما حقه من دين جاز
…
وما استدان بدون إذن شريكه؛ بأن اقترض شيئًا واشترى به بضاعة، وضمها إلى مال الشركة، أو اشترى نسيئة بثمن ليس من النقدين؛ فعليه وحده المطالبة به، وربح ما استدانه له".
الْمُقَارَضَةِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ دَيْنًا فِيهَا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ بِالدَّيْنِ إِذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ رَبُّ الْمَالِ؟).
هذه مسألة مهمة، فرق بين أن تبيع نسيئة وبين أن تبيع حالًّا، لو اشترى المضارب سلعًا فهو بين أمرين، إما أن يبيعها نسيئة يعني مؤجلة، وإما أن يبيعها حالة.
قال بعض العلماء: ليس له ذلك، إلا أن يأذن له رب المال.
وفريق آخر من أهل العلم قال: له ذلك؛ لأنه ما دام أذن له في التصرف وأطلق له، فلا مانع، ثم يعلل هؤلاء العلماء الذين أجازوا بأن الغالب أن الأرباح تأتي أكثر عن طريق الديون المؤجلة، فإن الإنسان إذا أراد أن يشتري سلعة فدفع الثمن في الوقت الحاضر لكان الربح قليلًا، وإذا أجلت يكون الربح أكثر.
ولذلك نرى أن أهل الجاهلية استغلوا ذلك وأضروا بغيرهم، وجاء الإسلام فحارب ذلك في الربا، أما هذا ففي أمر مباح، فلك أن تذهب إلى مكان من الأماكن فتسوم سلعة فيبيعك إياها بائعها نقدًا بألف، لكنك لو طلبت أن تؤجل عليك إلى سنة، فربما يقول بألف وخمسمائة.
لكن الذي يختلف فيه العلماء هو أنه لو قال لك: إما أن تشتريها حاضرًا بألف أو مؤجلًا بألفين هذا هو محل الخلاف.
قال بعض أهل العلم: لأنك كأنك بعت إحدى السلعتين بالسلعة الأخرى، وهذا سبق الكلام عنه.
ومنعه أكثر العلماء.
وبعضهم يجيزه
(1)
.
(1)
تقدم الكلام على هذه المسألة، عند الكلام على حديث:"بيعتين في بيعة".
وخلاصة المسألة: أجاز ذلك مالك، ومنعه أبو حنيفة والشافعي وأحمد. يُنظر:"الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (3/ 93)، و"الأصل المعروف المبسوط" للشيباني (5/ 91)، و"التنبيه" للشيرازي (ص 89)، و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 174).
لكن لو ذهبت إليه وقلت له: بكم تبيعه لمدة عام أو عامين؟ فقال لك مثلًا: بعشرة آلاف. وأنت تعلم أنه يبيعه نقدًا بخمسة آلاف، لكنك محتاج وليس معك نقد، أو معك نقد ولكن ستستخدمه في شيء آخر، وبعض الناس عنده من المهارة والمعرفة بطرق الكسب ما ليس عند غيره، فيقول الواحد منهم مثلًا: لماذا أذهب وأشتري لي بيتًا بمليون، وأسكن فيه ويكون رأس المال في السكن؟ أنا أذهب وأستأجر بعشرة آلاف أو بعشرين وأعمل في هذا المليون، ومع مرور الأيام يتضاعف، فالناس يختلفون في طرق كسب المعيشة وفي طرق التجارة، وبعض الناس يهبه الله سبحانه وتعالى خبرة، ولا ننسى توفيق الله سبحانه وتعالى، فلا يظننَّ ظان أن القضية قضية ذكاء.
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل
…
ويُكدي الفتى في دهره وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تأتي على الحجا
…
هلكن إذًا من جهلهن البهائم
(1)
فأنت لو ألقيت نظرة سريعة على الناس لوجدت أن بعض الناس يتصف بالهدوء وقلة الحركة، ومع ذلك تجد أن الأرزاق تنساق إليه، وأن الأموال تأتي إليه منقادة، وتجد أن بعض الناس يلهث ليلًا ونهارًا ولا يصل إلا إلى القليل، هذه هي أرزاق كتبها الله سبحانه وتعالى للعباد كما كتب آجالهم؛ فإنه سبحانه وتعالى قد كتب أجل كل عبد ورزقه وشقي أو سعيد
(2)
، لكن ليس معنى هذا أن نتقاعس، فقد يقول قائل: ما دام الرزق قد كتب فسوف أضع المخدة وأنام، وهذا لا يصح؛ لأنَّ الأمر كما قالوا: السماء لا تمطر
(1)
البيتين لأبي تمام، من البحر الطويل، ينظر:"شرح ديوان أبي تمام" للخطيب التبريزي (2/ 89).
(2)
هذا معنى حديث أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643) عن عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال:"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة".
ذهبًا ولا فضة
(1)
. والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] و"ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا"
(2)
، وفي الحديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويتصدقون بفضول أموالهم
…
"
(3)
.
لكن لا ينبغي أن تكون الدنيا شاغلة لنا عن طاعة الله، فلا ينبغي أن ننشغل بالفانية وندع الباقية، فهذه دار ممر وتلك دار مقر وقرار، هذه دار عبور وتلك دار استقرار وثبات ودوام، هذه معيشتها في نكد وتنغيص، وتلك معيشتها كلها راحة وطمأنينة، ليس فيها نصب ولا تعب.
• قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ
(4)
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
).
(1)
هذا القول عزاه ابن عبد ربه في "العقد الفريد"(2/ 342)، والغزالي في "إحياء علوم الدين"(2/ 62) لعمر بن الخطاب، ولم أقف على إسناده.
(2)
وهو بيت أنشده "أبو دلامة" للخليفة المنصور، وقد سأله عن أشعر بيت في المقابلة فأنشده:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
…
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
انظر: "تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر" لابن أبي الإصبع العدواني (ص 181)، وينسب أيضًا لعلي بن أبي طالب بلفظ:
ما أحسن الدين والدنيا إِذا اجتمعا
…
لا باركَ الله في الدنيا بلا دينِ
انظر: "مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي" لأحمد قبش (2/ 187).
(3)
أخرجه مسلم (1006) عن أبي ذر: أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال:"أَوَلَيس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال:"أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".
(4)
يُنظر: "الشرح الصغير للدرير ومعه حاشية الصاوي"(3/ 695) قال: "أو باع سلعة من سلع القراض أو أكثر بدين بلا إذن، فإنه يضمن".
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 231، 232) قال: "ويتصرف العامل محتاطًا =
وأحمد أيضًا
(1)
.
• قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ)
(2)
.
لكن أحمد له رواية أخرى توافق أبا حنيفة
(3)
.
وعلة من منع ذلك من أهل العلم: أن البيع بالدين إنما يؤجل الثمن ويعرضه للذهاب.
هذه وجهة هؤلاء العلماء؛ لأنك إذا بعت سلعة لإنسان بالدين
= لا بغبن فاحش في نحو بيع أو شراء، ولا نسيئة في ذلك للغرر، ولاحتمال تلف رأس المال فتبقى العهدة متعلقة بالمالك بلا إذن كالوكيل، فإن أذن جاز؛ لأن المنع لحقه وقد زال بإذنه، ويأتي في التعرض في النسيئة في قدر المدة ما مر في الوكالة
…
ويجب الإشهاد وإلا ضمن، بخلاف الحال؛ لأنه يحبس المبيع إلى استيفاء ثمنه، ومتى أذن في التسليم قبل قبض الثمن لم يجب إشهاد لعدم جريان العادة بالإشهاد في البيع الحال
…
وله البيع ومثله الشراء كما قاله جمع متقدمون بعرض وإن لم يأذن له المالك؛ إذ الغرض الربح وقد يكون فيه، وبه فارق الوكيل".
(1)
للحنابلة روايتان في ذلك: ينظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 29) قال: "والمضارب إذا باع بنسيئة بغير أمر، ضمن في إحدى الروايتين، والأخرى لا يضمن
…
وفي البيع نسيئة روايتان: إحداهما: ليس له ذلك
…
لأنه نائب في البيع، فلم يجز له البيع نسيئة بغير إذن صريح فيه، كالوكيل؛ وذلك لأن النائب لا يجوز له التصرف إلا على وجه الحظ والاحتياط، وفي النسيئة تغرير بالمال، وقرينة الحال تقيد مطلق الكلام، فيصير كأنه قال: بعه حالًّا.
والثانية: أنه يجوز له البيع نساء
…
لأن إذنه في التجارة والمضاربة ينصرف إلى التجارة المعتادة، وهذا عادة التجار، ولأنه يقصد به الربح، والربح في النساء أكثر. وإن قال له: اعمل برأيك. فله البيع نساء. وكذلك إذا قال له: تصرف كيف شئت".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 87) قال: "أما بيعه فعلى الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه - رضي الله تعالى عنهم - في التوكيل بمطلق البيع أنه يملك البيع نقدًا ونسيئة، وبغبن فاحش في قول أبي حنيفة رحمه الله فالمضارب أولى؛ لأن المضاربة أعم من الوكالة، وعندهما لا يملك البيع بالنسيئة، ولا بما لا يتغابن الناس في مثله".
(3)
تقدم ذكرها.
لا تضمن أن تحصل عليها، وربما تقع في يد مماطل، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطل
(1)
الغني ظلم؛ يحل عرضه وعقوبته"
(2)
، وقال: "من أحيل على مليء
(3)
ليحتل فليحتال إن ذهب إليه"
(4)
.
فمطل الغني إذًا ظلم، وما أكثر الذين يماطلون في الناس.
فمن منع ذلك من أهل العلم قال: إذا باع بدين فقد يكون ذلك سببًا في ذهاب ماله، فليس كل الناس مستعدين للوفاء وعندهم الخشية؛ بل بعض الناس إذا سقطت أموال الناس في جيوبهم صعب إخراجها، هم يسعون إلى الوصول، بل يحصل ذلك في القرض أيضًا، فقد تجد بعض الناس يحتاج إلى مالٍ فيذهب إلى أخ هو لا يستطيع أن يحصل على المال، فربما يقترض له هذا الذي قصده، ويعطيه حياءً منه وتقديرًا له، لكنه إذا أرد حقه فإنه يجد كل مشقة وعنت، وربما يضيع هذا المال ولا يتحصل عليه إن كان من الذين يستحون ولا يريد أن يشتكي، هذا يحصل وما أكثره في هذه الحياة!
فهؤلاء العلماء الذين منعوا قالوا: عندما يبيع بالدين فهذا الدين قد لا يعود إلى رأس المال، ومن أباحوا ذلك قالوا: لا، الأصل عندما يعطيه الحرية أنه مطلق التصرف، ويدخل في ذلك البيع نسيئة وحاضرًا، ثم إن
(1)
"المطل": التسويف والمدافعة بالعدة والدين ولِيَّانه. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (11/ 624).
(2)
الشارح جمع حديثين في حديث: الأول لفظه: "مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع"
…
أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564)، والشطر الثاني: "يحل عرضه وعقوبته
…
"، أخرجه أبو داود (3628) وغيره، ولفظه: عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته"، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1434).
(3)
"المليء": الغني القادر على إيفاء الدين. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 141)، و"المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص 58).
(4)
أخرجه أحمد (16/ 47) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، ومَن أحيل على مليء فليحتل"، وصحح إسناده الأرناؤوط.
الربح يكون أكثر في البيع نسيئة، في البيع المؤجل، وهو بيع الدين.
• قوله: (وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يَجِبُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ غَالِبًا فِي أَكْثَرِ الْأحْوَالِ)
(1)
.
نرى فيما يتعلق باليتيم أن الله سبحانه وتعالى نهى عن أكل حقه، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10].
والإنسان إذا وفقه الله سبحانه وتعالى فكان راعيًا واليًا على يتيم فعليه أن يحسن الرعاية، وعليه أيضًا أن يعنى بأمر اليتيم، فإن كان له مال فعليه أن يتعاهده ويتجر به حتى لا تأكله الصدقة، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
؛ لأنه لو كان له مال وفي كل عام تخرج منه الزكاة، فإنه يذهب، وهذا اليتيم عادة يكون له أمين، وما لم يكن والده أوصى على وليه، فإن القاضي يتخذ له أمينًا، فهل لهذا الأمين أن يأكل من ماله إذا كان يرعاه ويقوم بشئونه ويتصرف فيه في مصلحة اليتيم؟
قال بعض العلماء: إن كان بحاجة، فهنا أيضًا فيما يتعلق بهذه المسألة مسألة المضاربة، هذا الذي أخذ مال إنسان ليتجر به هو أمين عليه، فكأنه وضعه وديعة وأمانة عنده، والله تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"
(3)
،
(1)
تقدم نقل ذلك عنهم.
(2)
وهذا معنى حديث أخرجه الترمذي (641) عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة".
وقال الترمذي: "في إسناده مقال"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(788).
(3)
أخرجه أبو داود (3535)، وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"، وصححه الألباني في "الصحيحة"(423).
فإن أداء الأمانات واجب، وهذه صفة من صفات المؤمنين، فالمؤمن يحرص على أداء الأمانة، وهي صفة كريمة وموهبة عظيمة، وخلق جليل، إذا ما اتصف به إنسان أحرز رضى الناس وكان موضع ثقة فيهم، وفي آخر الزمان يبحث عن رجلٍ أمينٍ فيقال: في البلد الفلاني
(1)
.
فهذا الذي أعطاك المال قد وثق بك، وينبغي أن تكون عند حسن ظنه، وأنت أمين على ذلك كالشريك مع شريكه، والوكيل بالنسبة لموكله، وولي اليتيم بالنسبة لليتيم، فعلى هذا المضارب أن يتقي الله سبحانه وتعالى في هذا المال، وأن يحافظ عليه، وألا يتصرف فيه إلا بما هو في مصلحة الطرفين.
• قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّصَرُّفَ بِالدَّيْنِ خَارجٌ عَمَّا يَتَصَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ فِي الْأَغْلَبِ لَمْ يُجِزْهُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِمَّا يَتَصَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ أَجَازَهُ).
علة من منع ذلك من أهل العلم هي أنه قد لا يعود إليه ماله؛ لأن الدين قد لا يأتي، قد يعسر صاحبه وقد يكون مماطلًا، وفريق من أهل العلم قال: لا؛ لأنه إذا أطلق فيدخل فيه الدين، ومعروف أن عادة الناس أن يبيعوا حالًّا ومؤجلًا، بل إن الربح عادة يكون أكثر في المؤجل، وهذه من المسائل التي يختلف فيها العلماء.
فكل مسألة لا نجد فيها نصًّا صريحًا عن الله سبحانه وتعالى، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم نرى فيها أن الخلاف يتشعب، ولكنه اختلاف - كما قلت
(1)
معنى حديث أخرجه مسلم (143) عن حذيفة، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر؛ حدثنا:"أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة"، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرًا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله - فيصبح الناس يتبابعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا،
…
" الحديث.
مرارًا - ينتهي إلى وفاق؛ لأن كل هؤلاء الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم كلهم - لهم قصد؛ وهذا القصد الذي يرومون الوصول إليه هو الوصول إلى الحق، وهم أيضًا يريدون الوصول إلى الحق من أقرب طرقه وأهداها، دون الطرق التي فيها التواء أو عوج، إذن فهم يريدون أن يعرفوا الحق، وهذا الحق لا يلزم أن يكون عن طريق واحد بعينه، بل لو كان مع أخيه لرجع إليه، فهم مجتهدون، فرحمهم الله سبحانه وتعالى ورضي عنهم، وجزاهم عن الإسلامِ خيرًا.
(وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
وَاللَّيْثُ
(4)
فِي الْعَامِلِ يَخْلِطُ مَالَهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ كلُّهُمْ مَا عَدَا مَالِكًا: هُوَ تَعَدٍّ، وَيَضْمَنُ).
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير"(3/ 521) قال: "قوله: (أو يخلط) أي أو شرط عليه رب المال أن يخلط المال بماله، فإن وقع وخسر المال إن فض - الخسر عليهما بقدر كل، وللعامل على رب المال أجرة مثله فيما عمله في مال القراض، سواء حصل ربح أو خسر، أو لم يحصل واحد منهما، ويقبل قوله في الخسر والتلف، وفي قدر ما تلف بيمينه
…
(قوله: إلا بإذن رب المال) أي: بعد العقد (قوله: وإلا ضمن) أي: خسره وتلفه".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 420) قال: "وإن قارضه على مالين في عقدين فخلطهما ضمن لتعديه في المال؛ بل إن شرط في العقد الثاني بعد التصرف في المال الأول ضم الثاني إلى الأول فسد القراض في الثاني وامتغ الخلط؛ لأنَّ الأول استقر حكمه ربحًا وخسرانًا، وإن شرط قبل التصرف صح وجاز الخلط، وكأنه دفعهما إليه معًا. نعم، إن شرط الربح فيهما مختلفًا امتنع الخلط. ويضمن العامل أيضًا لو خلط مال القراض بماله، أو قارضه اثنان فخلط مال أحدهما بمال الآخر، ولا ينعزل بذلك عن التصرف كما نقله الإمام عن الأصحاب".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (5/ 649، 655) قال: "لا يملك المضاربة والشركة والخلط بمال نفسه إلا بإذن، أو اعمل برأيك إذ الشيء لا يتضمن مثله". وانظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 95، 96).
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 23) قال: "اتفق الشافعي والليث وأبو حنيفة في العامل يخلط ماله بمال القراض بغير إذن رب المال أنه ضامن إلا أن يأخذ، قال: إن قيل له: اعمل فيه برأيك فخلطه لم يضمن".
هؤلاء العلماء معهم أحمد
(1)
، ومالك هو الذي انفرد.
• قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بِتَعَدٍّ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ هَؤُلَاءِ الْمَشَاهِيرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ).
يعني هذه من المسائل التي اختلف فيها هل هي تعد أو لا؟ وقد عرفنا فيما مضى أن المضارب لا يضمن إلا إذا تعدى، إذا فرط فحينئذ يضمن، أما إذا لم يتعد ولم يفرط، فهو أمين في عمله، لا ينبغي أن يضمن ما لم يتعد فيه، فمثل هذه المسألة، خلط ماله مع مال القراض؟ مال يخصه فيدخله دون أن يتفق مع رب المال.
• قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفْ هَؤُلَاءِ الْمَشَاهِيرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ إِنْ دَفَعَ الْعَامِلُ رَأْسَ مَالِ الْقِرَاضِ إِلَى مُقَارِضٍ آخَرَ أَنَّهُ ضَامِنٌ إِنْ كَانَ خُسْرَان).
أولًا: قوله: (المشاهير) هذا مصطلح عرف عند الفقهاء، فبعضهم يقول: الأئمة الأربعة المشهورون؛ لأنه اشتهر في كتب الفقه وبين العلماء، وبين طلاب العلم؛ إذ سخر الله سبحانه وتعالى لهم تلاميذ جهابذة من العلماء، وقفوا أنفسهم وسهروا ليلهم، ووصلوا كلال الليل بكلال النهار، فوقفوا على تركة أولئك الأئمة، فأخذوا يمحصون دراسة وبحثًا عن العلل، حتى تمكنوا من معرفتها بالأدلة فخرجوا عليها ودونوها في كتب مسطورة، فسخر الله لهم تلاميذ حفظوا ثروتهم الفقهية.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 225) قال: "ولا يخلط عامل رأس مال قبضه من واحد في وقتين بلا إذنه نصًّا؛ لإفراده كل مال بعقد، فلا تجبر وضيعة أحدهما بربح الآخر، كما لو نهاه عنه، وإن أذن له رب المالين في خلطهما قبل تصرفه في المال الأول أو بعده؛ أي: بعد تصرفه في الأول، وقد نضَّ - أي: صار نقدًا كما أخذه - جاز، وصار مضاربة واحدة، كما لو دفعها إليه مرة واحدة. وإن كان إذنه فيه بعد تصرفه في الأول ولم ينض حرم الخلط؛ لأن حكم العقد الأول استقر فربحه وخسرانه يختص به، فضم الثاني إليه يوجب جبران خسران أحدهما بربح الآخر، فإذا شرط ذلك في الثاني فسد".
وأما مثل الإمام الثوري فيقال: ضيعه تلاميذه؛ بمعنى: أن تلاميذه ما حفظوا فقهه، أي: ما جمعوه؛ على الرغم من أن فقهه كثير موجود في كتب الأئمة وغيرها، لكنه ليس كالأئمة الأربعة، وليس معنى هذا أن نأتي فنقول: إن الثوري أقل علمًا من الإمام أبي حنيفة، أو الليث أقل علمًا من مالك، لا؛ فهؤلاء كلهم علماء جهابذة، كلهم قد وصلوا وبلغوا القمة في حفظ العلم وفي فهمه.
• قوله: (وَإِنْ كَانَ رِبْح، فَذَلِكَ عَلَى شَرْطِهِ، ثُمَّ يَكُونُ لِلَّذِي عَمِلَ شَرْطُهُ عَلَى الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ).
هذا لو أنه اتفق مع رب المال، مع الأصل، على أنه سيدفع إلى مقارض آخر، فيعود إلى أصل القراض.
• قوله: (فَيُوَفِّيِهِ حَظَّهُ مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ
(1)
. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ
(1)
يفصل أصحاب المذاهب في هذه المسألة تفصيلًا طويلًا نختصر أقوالهم فيها:
فمذهب الحنفية، ينظر:"الدر المختار" للحصكفي (5/ 652، 653) قال: "ضارب المضارب آخر بلا إذن المالك لم يضمن بالدفع ما لم يعمل الثاني ربح الثاني أو لا على الظاهر؛ لأن الدفع إيداع وهو يملكه، فإذا عمل تبين أنه مضاربة فيضمن، إلا إذا كانت الثانية فاسدة فلا ضمان وإن ربح؛ بل للثاني أجر مثله على المضارب الأول، وللأول الربح المشروط، فإن ضاع المال من يده - أي يد الثاني - قبل العمل الموجب للضمان فلا ضمان على أحد، وكذا لا ضمان لو غصب المال من الثاني، وإنما الضمان على الغاصب فقط، ولو استهلكه الثاني أو وهبه فالضمان عليه خاصة، فإن عمل حتى ضمنه خير رب المال إن شاء ضمن المضارب الأول رأس ماله، وإن شاء ضمن الثاني، وإن اختار أخذ الربح، ولا يضمن ليس له ذلك
…
فإن أذن المالك بالدفع ودفع بالثلث وقد قيل للأول: ما رزق الله فبيننا نصفان؛ فللمالك النصف عملًا بشرطه، وللأول السدس الباقي، وللثاني الثلث المشروط، ولو قيل: ما رزقك الله
…
فللثاني ثلثه، والباقي بين الأول والمالك نصفان باعتبار الخطاب، فيكون لكل ثلث".
ومذهب المالكية، ينظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 526، 527) قال: "أو شارك العامل غيره بمال القراض بلا إذن فيضمن، وإن شارك عاملًا آخر لرب القراض أو غيره، أو باع بدين أو قارض أي دفعه لعامل آخر قراضًا بلا إذن في المسائل الأربع =
الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا أُجْرَةُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ عَلَى فَسَادٍ
(1)
.
المزني من الأئمة المشهورين، وهو من تلاميذ الإمام الشافعي، بل
= إلا أن الإذن في الأولى من الورثة، وغرم العامل الأول للعامل الثاني الزائد إن دخل؛ أي عقد معه على أكثر مما دخل عليه الأول مع رب المال، فإن دخل معه على الأقل فالزائد لرب المال، كخسره تشبيه في غرم العامل الأول
…
وإن حصل قبل عمله؛ أي عمل الأول
…
وإطلاق الخسر على ما قبل العمل مجاز فالمراد النقص، والربح لهما؛ أي لرب المال والعامل الثاني في مسألة ما إذا قارض بلا إذن، ولا شيء للعامل الأول لتعديه وعدم عمله، وشبه بما تضمنه قوله: والربح لهما من أنه لا شيء للأول".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 90، 91) قال: "ولو قارض العامل آخر بإذن المالك ليشاركه في العمل والربح لم يجز؛ أي لم يحل ولم يصح في الأصح؛ لأنه خلاف موضوع القراض الخارج عن القياس؛ لأن أحدهما مالك لا عمل له، والآخر عامل لا مال له، فلا يعدل إلى أن يعقده عاملان
…
ومقارضته آخر بغير إذنه أي المالك تصرف فاسد لما فيه من الافتيات
…
فإن تصرف الثاني في المسألة الأولى صح تصرفه مطلقًا فيما يظهر لعموم الإذن، والفاسد إنما هو خصوصه
…
ولا شيء له في الربح، بل إن طمعه المالك لزمه أجرة مثله، وإلا فلا، ولا شيء له على العامل فيما يظهر أيضًا، أو في المسألة الثانية فتصرف غاصب؛ لأن الإذن صدر ممن ليس بمالك ولا وكيل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 217، 218) قال: "وإن قيل - أي: قال رب المال لعامل -: اعمل برأيك، أو بما أراك الله تعالى، وهو أي: العامل مضارب بالنصف، فدفعه - أي: المال - لعامل آخر ليعمل به بالربع من ربحه صح، وعمل به نصًّا؛ لأنه قد يرى دفعه إلى أبصر منه، وإن قال: أذنتك في دفعه مضاربة صح، والمقول له وكيل لرب المال في ذلك، فإن دفعه لآخر ولم يشترط لنفسه شيئًا من الربح صح العقد، وإن شرط لنفسه منه شيئا لم يصح؛ لأنه ليس من جهته مال ولا عمل، والربح إنما يستحق بواحد منهما".
(1)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 221) قال: "وإن قارض العامل بالمال آخر بغير إذن صاحبه فهو ضامن، فإن ربح فلصاحب المال شطر الربح، ثم يكون للذي عمل شطره فيما يبقى. (قال المزني): هذا قوله قديمًا، وأصل قوله الجديد المعروف أن كل عقد فاسد لا يجوز، وإن جوز حتى يبتدأ بما يصلح، فإن كان اشترى بعين المال فهو فاسد، وإن كان اشترى بغير العين فالشراء جائز، والربح والخسران للمقارض الأول، وعليه الضمان، وللعامل الثاني أجر مثله في قياس قوله".
من كبارهم، وله كتاب "المختصر"
(1)
، وكذلك الربيع من تلاميذ الإمام الشافعي الكبار
(2)
، والبويطي
(3)
، كل هؤلاء من تلاميذ الإمام الشافعي، والمزني له آراء كغيره من تلاميذ الأئمة الآخرين، ينفرد بها عن إمامه؛ لأن أولئك الأئمة مجتهدون، لكنهم مجتهذون منتسبون؟ بمعنى أنهم يأخذون بأصول إمامهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ)
الآن سيدخل المؤلف في القراض الفاسد، متى يكون القراض فاسدًا؟
• قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ فَسْخُهُ وَرَدُّ الْمَالِ إِلَى صَاحِبِهِ) لأنه اختلت الشروط التي التزم بها، فأصبح القراض فاسدًا. ولا شك أنه إذا فسد القراض فإنه يفسخ.
• قوله: (وَرَدُّ الْمَالِ إِلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَفُتْ بِالْعَمَلِ
(4)
. وَاخْتَلَفُوا
(1)
هو: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني. انظر: "السير" للذهبي (12/ 492) وما بعدها.
(2)
هو: الربيع بن سليمان المرادي. انظر: "السير" للذهبي (12/ 587) وما بعدها.
(3)
هو: يوسف بن يحيى المصري، البويطي. انظر:"السير" للذهبي (12/ 587) وما بعدها.
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 108) قال: "وأما حكم المضاربة الفاسدة، فليس للمضارب أن يعمل شيئًا مما ذكرنا أن له أن يعمل في المضاربة الصحيحة، ولا يثبت بها شيء مما ذكرنا عن أحكام المضاربة الصحيحة، ولا يستحق النفقة، ولا الربح المسمى، وإنما له أجر مثل عمله، سواء كان في المضاربة ربح أو لم يكن
…
والربح كله يكون لرب المال؛ لأن الربح نماء ملكه
…
والقول قول المضارب في دعوى الهلاك والضياع والهلاك في المضاربة الفاسدة مع يمينه، هكذا ذكر في ظاهر الرواية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 519، 520) قال: "أو قراض ضُمّن - بضم الضاد وتشديد الميم - أي شرط فيه العامل ضمان رأس المال إن تلف =
إِذَا فَاتَ بِالْعَمَلِ مَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ فِيهِ فِي وَاجِبِ عَمَلِهِ، عَلَى أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرُدُّ جَمِيعَهُ إِلَى قِرَاضٍ مِثْلِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمَاجشُون عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَوْلُ أَشْهَبَ
(1)
. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَرُدُّ جَمِيعَهُ إِلَى إِجَارَةِ مِثْلِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ
= بلا تفريط، أو أنه غير مصدق في تلفه فقراض فاسد؛ لأنه ليس من سنة القراض، وفيه قراض المثل إن عمل، والشرط باطل لا يعمل به".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مختصر المزني"(8/ 221) قال: "ولا يجوز أن يقارضه إلى مدة من المدد، ولا يشترط أحدهما درهمًا على صاحبه، وما بقي بينهما، أو يشترط أن يوليه سلعة أو على أن يرتفق أحدهما في ذلك بشيء دون صاحبه، أو يشترط أن لا يشتري إلا من فلان، أو لا يشتري إلا سلعة بعينها واحدة، أو نخلًا، أو دوابًا يطلب؛ ثمر النخل ونتاج الدواب، وبحبس رقابها، فإن فعل فذلك كله فاسد، فإن عمل فيه فله أجر مثله، والربح والمال لربه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 215) قال: "لا يصح ضارب بإحدى هذين الكيسين، تساوى ما فيهما أو اختلف، علما ما فيهما أو جهلاه؛ لأنها عقد تمنع صحته الجهالة فلم تجز على غير معين كالبيع، معلوم قدره فلا تصح بصبرة دراهم أو دنانير؛ إذ لا بدَّ من الرجوع إلى رأس المال عند الفسخ؛ ليعلم الربح ولا يمكن ذلك مع الجهل لمن يتجر فيه؛ أي المال".
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 250) قال: "وقال أشهب، وابن الماجشون: يرد في كل قراض فاسد إلى قراض مثله. وروي عن مالك أنه يرد في بعض ذلك إلى أجر مثله، أي بعضه إلى قراض مثله. وبهذا أخذ ابن القاسم، وابن عبد الحكم، وابن نافع، ومطرف، وأصبغ". وانظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 520).
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 315) قال: "إذا كان القراض فاسدًا فعمل العامل فيه قبل منعه من العامل واسترجاع المال منه كانت عقود بيوعه وشرائه صحيحة مع فساد القراض لصحة الإذن بها، واختصاص الفساد بنصيبه من ربح القراض، وإذا كان كذلك كان جميع الربح لرب المال والخسران عليه، وللعامل أجرة مثله، سواء أكان في المال ربح أو لم يكن
…
كل عمل ملدًا لعامل فيه المسمى في العقد الصحيح ملك في أجرة المثل في العقد الفاسد كالإجارة، ولأن كل ما ملكه في الإجارة الفاسدة ملكه في المضاربة الفاسدة قياسًا عليه لو كان في المال ربح".
(3)
يُنظر: "درر الحكام" لملا خسرو (2/ 310، 311) قال: "وإجارة فاسدة إن فسدت =
أَصْحَابِ مَالِكٍ)
(1)
.
هذا هو رأي جمهور العلماء
(2)
.
• قوله: (وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنَّهَا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ)
(3)
.
هذا هو رأي جمهور العلماء في حقيقة الأمر.
• قوله: (والثالث أنه يرد إلى قراض مثله).
هذه المسألة فصل فيها كثيرًا في مذهب مالك، والآن عرفنا رأي الأئمة الثلاثة، وهو يتفق مع رأي أحد المالكية.
• قوله: (وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُرَدُّ إِلَى قِرَاضٍ مِثْلِهِ مَا لَم يَكُنْ أَكْثَرَ مِمَّا سَمَّاهُ، وَإِنَّمَا لَهُ الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى، أَوْ قِرَاضٍ مِثْلِهِ إِنْ كَان رَبُّ الْمَالِ هُوَ مُشْتَرِطَ الشَّرْطِ عَلَى الْمُقَارِضِ، أَوِ الْأَكْثَرِ مِنْ قِرَاضٍ مِثْلِهِ، أَوْ مِنَ الْجُزْءِ
= فإن الواجب للمضارب فيها أجر المثل كالإجارة الفاسدة، وهو بدل عمله؛ لأنه لا يستحق المسمى لعدم الصحة، ولم يرض بالعمل مجانًا، فيجب أجر المثل، فلا ربح حينئذ؛ لأنه يكون في المضاربة الصحيحة، ولما فسدت صارت إجارة بل أجر عمله، كما هو حكم الإجارة الفاسدة مطلقًا؛ أي سواء ربح أو لا، بلا زيادة على المشروط، كما هو حكم الإجارة الفاسدة
…
ولا ضمان فيها أي في المضاربة الفاسدة كالصحيحة؛ لأنه أمين فلا يكون ضمينًا".
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد القيرواني (7/ 250) قال: "كان عبد العزيز بن أبي سلمة يرد العامل في القراض الفاسد كله إلى أجرة مثله".
(2)
وهو قول للحنابلة أيضًا يُنظر: "الكافي" لابن قدامة (2/ 156) قال: "إذا تعدى المضارب بفعل ما ليس له، فهو ضامن؛ لأنه تصرف بغير إذن المالك فضمن كالغاصب، والربح لرب المال ولا أجرة له؛ لأنه عمل بغير إذن، أشبه الغاضب، وعنه له أجرة مثله ما لم تحط بالربح، كالإجارة الفاسدة".
(3)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 589، 590) قال: "إذا عمل العامل في القراض الفاسد فحصل في المال ربح، فقد اختلف قول مالك فيه
…
وقد قال أيضًا: للعامل أجرة مثله؛ سواء كان في المال ربح أو وضيعة، والربح والخسارة لرب المال، وبه قال أبو حنيفة والشافعي".
الَّذِي سَمَّى لَهُ إِنْ كَانَ الْمُقَارِضُ هُوَ مُشْتَرِطَ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا فَسَدَ الْقِرَاضُ).
هذا سنقرؤه؛ لأنه كله تفصيل في مذهب مالك، ثم ننتقل إلى الذي بعده.
• قوله: (وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَخَرَّجُ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ
(1)
. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُرَدُّ إِلَى قِرَاضٍ مِثْلِهِ فِي كُلِّ مَنْفَعَةٍ اشْتَرَطَهَا أَحَدُ الْمُتَقَارِضَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْمَالِ مِمَّا لَيْسَ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِهَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِلَى إِجَارَةِ مِثْلِهِ فِي كُلِّ مَنْفَعَةٍ اشْتَرَطَهَا أَحَدُ الْمُتَقَارِضَيْنِ خَالِصَةً لِمُشْتَرِطِهَا مِمَّا لَيْسَتْ فِي الْمَالِ، وَفِي كُلِّ قِرَاضٍ فَاسِدٍ مِنْ قِبَلِ الْغَرَرِ وَالْجَهْلِ، وَهُوَ قَوْلُ مُطَرِّفٍ، وَابْنِ نَافِعٍ، وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَأَصْبَغَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَبِيبٍ
(2)
).
استطرد المؤلف هنا في بيان أقوال المالكية، فهذه خلافات داخل المذهب.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 519، 520) قال: "أو مبهم
…
أي أو كقراض مبهم بأن قال: اعمل فيه قراضًا، ولم يتعرض لذكر الجزء أصلًا، أو قال بجزء، أو بشيء في ربحه، ولم يبينه فله قراض مثله؛ أي ولا عادة أيضًا، أو قراض أجلك اعمل به سنة، أو سنة من الآن، أو إذا جاء الوقت الفلاني فاعمل به فيه، ففاسد وفيه قراض المثل إن عمل لما فيه من التحجير الخارج عن سنة القراض، أو قراض ضمن - بضم الضاد وتشديد الميم - أي شرط فيه العامل ضمان رأس المال إن تلف بلا تفريط، أو أنه غير مصدق في تلفه فقراض فاسد؛ لأنه ليس من سنة القراض، وفيه قراض المثل إن عمل، والشرط باطل لا يعمل به".
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (12/ 356) قال: "والرابع: أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه في المال ليست بخارجة عنه ولا منفصلة منه ولا خالصة لمشترطها، هالى إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه خارجة عن القراض ومنفصلة عنه وخالصة لمشترطها، وفي كل غرر وحرام خرجا به عن سنة القراض. وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وقول مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، وإياه اختار ابن حبيب". وينظر: "المقدمات"(3/ 12).
• قوله: (وَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْقِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَبَعْضُهَا وَهُوَ الْأَكْثَرُ قَالَ: إِنَّ فِيهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: فِيهَا قِرَاضُ الْمِثْلِ
(1)
. فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ اخْتِلَافَ قَوْلِهِ فِيهَا عَلَى الْفَرْقِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَمُطَرِّفٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَبِيبٍ، وَاخْتِيَارُ جَدِّي رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ)
(2)
.
جده ابن رشد، صاحب المقدمات، له كتب مشهورة، وهو أيضًا الإمام المعتمد في مذهب مالك، فإذا أطلق فالمقصود به صاحب المقدمات.
• قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعَلِّلْ قَوْلَهُ، وَقَالَ: إِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ كُلَّ قِرَاضٍ فَاسِدٍ فَفِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ إِلَّا تِلْكَ الَّتِي نُصَّ فِيهَا قِرَاضُ الْمِثْلِ وَهِيَ سَبْعَةٌ
(3)
:
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد القيرواني (7/ 250 - 252) قال: "وروي عن مالك، أنه يرد في بعض ذلك إلى أجر مثله، وفي بعضه إلى قراض مثله. وبهذا أخذ ابن القاسم
…
ومن العتبية، روى عيسى، عن ابن القاسم، فيمن أخذ مالًا قراضًا، على أن يدفعه إلى آخر قراضا، ويكون الضمان على الآخر، قال ابن القاسم: يردان إلى قراض مثلهما، وهو كما لو دفعه إليه نفسه على الضمان، وليس عليه ضمان".
(2)
يُنظر: "المقدمات" لابن رشد الجد (3/ 13) قال: "فوجه قول من قال: إن القراض الفاسد يرد العامل فيه كله إلى إجارة المثل جملة من غير تفصيل أن القراض إجارة بغرر؛ لأن العامل يعمل في المال على جزء مما يربح فيه إن كان فيه ربح، إلا أنه استثني من الأصول للضرورة، فإنما يجوز إذا وقع على وجهه وسنته. فإذا وقع على خلاف ذلك فليس بقراض وإن سمياه قراضًا، وإنما هو إجارة فاسدة فيرد فيها إلى إجارة مثله، وإنما يكون قراضًا إذا عملا على سنة القراض".
(3)
(يُنظر: "المقدمات" لابن رشد الجد (3/ 12) قال: "وكان يمضي لنا عند الشيخ أبي (3) عفر بن رزق رحمه الله أن الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في "المدونة" أن العامل يرد في القراض الفاسد كله إلى إجارة مثله حاشا سبع مسائل: وهي القراض بالعروض، والقراض بالضمان، والقراض إلى أجل، والقراض المبهم، وإذا قال له: اعمل على أن لك في المال شركًا. وإذا اختلف المتقارضان وأتيا بما لا يشبه فحلفا =
1 -
الْقِرَاضُ بِالْعُرُوضِ. 2 - وَالْقِرَاضُ بِالضَّمَان. 3 - وَالْقِرَاضُ إِلَى أَجَلٍ. 4 - وَالْقِرَاضُ الْمُبْهَمُ. 5 - وَإِذَا قَالَ لَهُ: اعْمَلْ عَلَى أَنَّ لَكَ فِي الْمَالِ شرْكاء. 6 - وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَقَارِضَان، وَأَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ فَحَلَفَا عَلَى دَعْوَاهُمَا. 7 - وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ عَلَى أَلا يَشْتَرِيَ بِهِ إِلَّا بِالدَّيْنِ فَاشْتَرَى بِالنَّقْدِ، أَوْ عَلَى أَلا يَشْتَرِيَ إِلَّا سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا وَالسِّلْعَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، فَاشْتَرَى غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ يجِبُ أَنْ تُرَدَّ إِلَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِلَّا فَهُوَ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ).
ترد إلى علة واحدة، أما رأي الأئمة الثلاثة فقد رأيناه واضحًا جليًّا.
• قوله: (وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ
(1)
عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ فَصَّلَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْفَسَادُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ رُدَّ إِلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ زِيَادَةٍ ازْدَادَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ رُدَّ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ).
لا يزال حديث المصنف حول القراض الفاسد - إذا تم العمل - على مذهب ابن القاسم، فقوله مشكل؛ إذ أحال في مواضع على أجرة المثل، وفي مواضع على قراض المثل، وقد سبق أن بين المصنف أنه نص على قراض المثل في المسائل السبع السابقة، ولم يرض ابن رشد رحمه الله بالتفريق، ورأى أنه لا بد من رد هذه المسائل السبع إلى علة واحدة - وهذا شأن الفقهاء ذوي الألباب -، إذ الشريعة لا تفرق بين متماثلين، فحكى هذا الفرق عن القاضي عبد الوهاب حكاية عن ابن القاسم، ومحصل
= على دعواهما، وإذا دفع إليه المال على أن لا يشتري به إلا بالدين فاشترى بالنقد أو على ألا يشتري إلا سلعة كذا وكذا والسلعة غير موجودة فاشترى غير ما أمره به. فهذا قول خامس في المسألة على هذا التأويل".
(1)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1128) قال: "وفصل ابن القاسم فقال: إن كان الفساد من جهة العقد رد إلى قراض المثل، وإن كان من جهة الزيادة زادها أحدهما على الآخر رد إلى أجرة المثل".
هذا الفرق أن ما كان من الفساد من قبل العقد مما تضمن الإخلال بشرط من شروطه
(1)
، كاشتراط شيءٍ معين من الربح، أو كون رأس المال دينًا، أو مجهولًا، أو الجهل بالربح، أو قدّرا للقراض أجلًا، فهنا: الواجب قراض المثل.
وما كان من قبل الزيادة كاشتراط الزرع بمال القراض
(2)
فإنها زيادة زادها ربُّ المال عليه، وهو عمله في الزرع؛ ففيه أجرة المثل، ونحو ذلك: كل زيادة زادها أحدهما خارج المال.
وقد انتقد رحمه الله هذا المسلك؛ فقال: (وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي هَذَا بِالْعَكْس).
أي: أن يقدر أجرة المثل إذا كان الإخلال بالعقد، ويُقدر قراض المثل إذا كان الإخلال بزيادة لأحدهما.
ووجه قوله رحمه الله: إنما تتبين بتعليل القولين، وقد بينهما ابن رشد الجد أتمّ بيان، فقال: فوجه قول من قال إن القراض الفاسد يرد العامل فيه كله إلى إجارة المثل جملة من غير تفصيل أن القراض إجارة
(1)
ينظر: "منح الجليل شرح مختصر خليل" لعليش (7/ 321). حيث قال: "نقد رأس المال للعامل، وكونه معلومًا، وكونه غير مضمون عليه، وكونه بما يتابع أهل البلد من العين مسكوكًا كان أو غير مسكوك، ومعرفة الجزء الذي تقارضا عليه من ربحه، وكونه مشاعًا لا مقدرًا بعدد ولا تقدير، وأن لا يختص أحدهما بشيء معين سواه إلا ما يضطر إليه العامل من نفقة ومؤنة في السفر واختصاص العامل بالعمل، وأن لا يضيق عليه بتحجير أو بتخصيص يضر بالعامل، وأن لا يضرب له أجل اهـ. قوله وكونه مما يتابع به إلخ ربما يفهم منه ما قاله الشيخ زروق. أبو الحسن قوله لا تقدير فسره ابن شاس بأنه مثل ما قارض به فلان، ثم قال القاضي فإن توفرت هذه الشروط جاز القراض وإن اختل شرط منها فسد. اهـ. ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 521). حيث قال: " (أو) يشترط عليه أن (يزرع) بمال القراض؛ لأن ذلك زيادة زادها رب المال عليه، وهو عمله في الزرع".
بغرر؛ لأن العامل يعمل في المال على جزء مما يربح فيه إن كان فيه ربح، إلا أنه استثني من الأصول للضرورة، فإنما يجوز إذا وقع على وجهه وسنته. فإذا وقع على خلاف ذلك فليس بقراض وإن سمياه قراضًا، وإنما هو إجارة فاسدة فيرد فيها إلى إجارة مثله، وإنما يكون قراضًا إذا عملا على سنة القراض. ألا ترى أنه لو قارضه على أن يعمل له بالمال إلى أجل كذا وكذا في كذا وكذا وله كذا وكذا لكانت إجارة ولم يكن قراضًا، فلا معنى للاعتبار بذكر القراض إلا إذا عمل به على سنَّته. وأيضًا فإن القراض عقد صحيح يوجب عوضًا مسمًّى للعامل بالعمل، فإذا كان فاسدًا وجب له أجر المثل في عمله لفواته. أصله إذا استأجره إجارة فاسدة ففاتت بالعمل أو باعه بيعًا فاسدًا ففاتت السلعة المبيعة.
ثم قال: ووجه قول من قال: إنه يرد إلى قراض مثله جملة من غير تفصيل أن القراض أصل في نفسه وعقد منفرد على حياله، والأصول موضوعة على أن كل عقد فاسد أو على شبهة مردود إلى صحيحه لا إلى صحيح غيره من العقود كالنكاح والبيوع والإجارة. فكما يرد فاسد البيع وغيره من العقود إلى صحيحها لا إلى صحيح غيرها فكذلك يجب أن يرد فاسد القراض إلى صحيحه
(1)
. انتهى.
فإذا نظرنا إلى التعليل؛ فتفريق المؤلف أوجه؛ فإن اعتبار الفساد في العقد موجبًا عود القراض إلى أصله (وهو الإجارة)، فيجب أجرة المثل، واعتبار الإخلال بشيء زائد عن العقد أقل خطرًا، فنعتبر القراض كالصحيح، ونمضي قراض المثل أقرب في التصور الصحيح مما ذكره القاضي عبد الوهاب رحمه الله.
• قوله: (وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ وَقِرَاضِ الْمِثْلِ أَنَّ الْأُجْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، سَوَاءٌ أكَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقِرَاضُ الْمِثْلِ هُوَ عَلَى
(1)
ينظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 13 - 14).
سُنَّةِ الْقِرَاضِ إِنْ كانَ فِيهِ رِبْحٌ كانَ لِلْعَامِلِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ)
(1)
.
ذيَّل المسألة بما يترتب على القولين من فرق؛ فالأجرة تتعلق بذمة ربِّ المال
(2)
- لا الربح - فطالما عمل العامل استحق الأجرة، ولو كان في المال خسارة.
وأما قراض المثل؛ فعلى سَنَنِ القراض الصحيح، لا يستحق قراض المثل إلا مع الربح، وإذا كانت خسارة، لم يكن للعامل شيء.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَقَارِضَيْنِ)
ندخل في مسألة أخرى، هي خلاف المتقارضين.
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ إِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي تَسْمِيَةِ الْجُزْءِ الَّذِي تَقَارَضَا عَلَيْهِ).
المراد بتسمية الجزء تسمية قدر رأس مال المضاربة، فالخلاف قد يكون في رأس مال المضاربة، وربما يكون في ثمن الشراء، وربما يكون في البيع بالدين
(3)
، فالمؤلف هنا خلط الأمور، وبعض ذلك موضع
(1)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1129) قال: "وفائدة الفرق بين أجرة المثل وقراض المثل: أن أجرة المثل تتعلق بذمة رب المال كان في المال ربح أم لا، وقراض المثل يتعلق بربح إن كان في المال، فإن لم يكن فيه ربح فلا شيء للعامل".
(2)
هذا هو مشهور مذهب المالكية، وفيه خلاف لابن حبيب. يُنظر:"المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 14). حيث قال: "وإذا رد المقارض إلى أجرة مثله فالمشهور في المذهب أن الإجارة متعلقة بذمة رب المال لا بربح المال. وذهب ابن حبيب إلى أنها متعلقة بربح المال، فإذا لم يكن في المال ربح لم تكن له إجارة وهو بعيد".
(3)
قد مر الكلام على هذه المسألة: فذهب المالكية والشافعية والحنابلة في رواية إلى المنع من ذلك، والحنابلة في رواية أخري والحنفية إلى جوازها. يُنظر:"الشرح الصغير للدرير ومعه حاشية الصاوي"(3/ 695)، و"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 231، 232)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 29)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 87).
إجماع؛ فمثلًا إذا كان الخلاف في قدر رأس المال - أي: رأس مال المضاربة - فالعلماء مجمعون على أن القول إنما هو قول العامل؛ لأنه أمين على ذلك، وينبغي أن يصدق، ورب المال عندما دفع ماله إليه كان واثقًا به مطمئنًا إليه، وهو لا يدفع ماله لإنسان يشك فيه، وتدور حوله ريبة في نفسه، مترددة في صدره، فهو إذًا واثق به.
ولذلك فقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك
(1)
.
أمَّا إذا كان الاختلاف في ثمن شراء مال المضاربة أو في البيع في الدين، فهنا يأتي الخلاف الذي أشار إليه المؤلف.
• قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مُؤْتَمَنٌ)
(2)
.
هذا قول الأئمة كلهم
(3)
، حكى ابن المنذر الإجماع عليه، إذا كان الخلاف في قدر رأس المال؛ أي: رأس مال المضاربة، فابن المنذر حكى الإجماع عليه، وقال: لا أعلم خلافًا في ذلك.
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 106) قال: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا دفع إلى الرجل مالًا مضاربة، ثم اختلفا، وقد جاء العامل بألفي درهم، فقال رب المال: كان رأس المال ألفي درهم. وقال العامل: رأس المال ألف درهم والربح ألف درهم - أن القول قول العامل المدفوع إليه المال مع يمينه، وذلك إذا لم يكن لرب المال بينة. كذلك قال الثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. قال أبو بكر: وبه نقول".
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (2/ 387، 388) قال: "اختلفا في رأس المال؛ فقال رب المال: مالي مائتا دينار وهو جميع ما أتى به العامل، وقال العامل: بل رأس المال مائة، فقال: القول قول العامل في رأس المال؛ لأنه لم يقر أنه قبض إلا مائة دينار، قال: فإن كانت لصاحب المال بينة وإلا فيمين العامل، فإن نكل العامل عن اليمين إذا لم يكن لرب المال بينة قيل لرب المال: احلف وخذ المائتين، فإن نكل عن اليمين لم يكن إلا ما أقر به العامل، فإن أقام المدعي البينة وهو رب المال، وأقام العامل البينة، وتكافأت البينتان في العدالة سقطت البينتان، وكانا كمن لا بينة لهما، وكان الجواب فيهما كما وصفت لك، قال: وإن كانت البينتان مختلفتين في العدالة أخذ بأعدل البينتين".
(3)
لأهل العلم تفصيل في هذه المسألة سيأتي ذكره.
ثم سرد أقوال العلماء ومنهم الأئمة الأربعة.
إذًا هذه المسألة ليس فيها خلاف؛ إنما الخلاف هو في ثمن الشراء، أو في البيع بالدين، وقد مرت الإشارة إلى ذلك قبل.
• قوله: (وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ فِي جَمِيعِ دَعَاوِبهِ إِذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُحْمَلُ عَلَى قِرَاضٍ مِثْلِهِ
(1)
، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِذَا أَتَى بِمَا لَا يُشْبِهُ).
الآن رأينا أن العلماء اتفقوا على أنه إذا كان الخلاف في قدر المسمى - أي: رأس مال المضاربة - فإن القول قول العامل، وإذا كان الخلاف في ثمن الشراء، فالقول قول العامل أيضًا عند الإمامين مالك وأحمد وعند الإمام الشافعي أن القول قول المالك، وهو رب المال.
• قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ
(2)
، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ
(3)
).
وهذا أيضًا هو قول الشافعي
(4)
.
(1)
تقدم نقله عنه.
(2)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (10/ 152) قال: "وإذا كان مع المضارب ألفان فقال: ش: - أي المضارب - م: (دفعت)
…
م: (إلي ألفًا وربحت ألفًا. وقال رب المال: لا) ش: أي: ليس الأمر كما ذكرت م: (بل دفعت إليك ألفين) ش: مضاربة م: (فالقول قول المضارب، وكان أبو حنيفة يقول: أولًا القول قول رب المال، وهو قول زفر؛ لأن المضارب يدعي عليه الشركة في الربح وهو) ش: أي: رب المال م: (ينكر، والقول قول المنكر، ثم رجع) ش: أي: أبو حنيفة م: (إلى ما ذكره في الكتاب) ش: أراد به
…
م: (لأنَّ الاختلاف في الحقيقة في مقدار المقبوض) ش: قيد به؛ لأن الاختلاف إذا كان في الصفة فالقول لرب المال على ما يجيء".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (10/ 576) قال: "فقالت طائفة: القول قول رب المال مع يمينه. كذلك قال الثوري".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 104) قال: "ويصدق العامل بيمينه - أيضًا - في =
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ، وَيَتَفَاسَخَانِ، وَيَكُونُ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ"
(1)
).
المعروف عن الشافعي كمذهب أبي حنيفة، وربما يكون هذا قول آخر له.
• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ).
إذن رأيتم الان بأن الإمام أحمد
(2)
مع مالك في هذه المسألة الأولى كلهم متفقون عليها فالمؤلف دمج بينها.
• قوله: (اخْتِلَافُهُمْ فِي سَبَبِ وُرُودِ النَّصِّ بوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هَلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، أَوْ لِأنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ أَقْوَى
= جنس أو قدر رأس المال، وإن كان هناك ربح؛ لأن الأصل عدم دفع زيادة إليه
…
لأنه أمين مثله، ومن ثم ضمن بما يضمن به كأن خلط مال القراض بما لا يتميز به، ومع ضمانه لا ينعزل كما مر فيقسم الربح على قدر المالين".
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (10/ 577) قال: "وفيه قول ثالث: وهو أنهما يتحالفان، وعلى رب المال أجر مثل العامل فيما عمل. هذا قول الشافعي".
لكن ذكر الجويني في "نهاية المطلب"(7/ 542) خلاف ذلك قال: "ولو قال رب المال: رأس المال كان ألفًا، وقال العامل: بل كان خمسمائة، فالذي ذهب إليه المحققون أن هذا ليس من صور التحالف، بل القول فيه قول العامل؛ فإنه مؤتمن، وأدنى درجات الائتمان أن يصدق في مقدار المقبوض، وإذا لم يجر التحالف في هذه الصورة، حلفنا العامل، وميزنا رأس المال أخذا بقوله، وقسمنا الفاضل على موجب التشارط. وذكر العراقيون وجهًا في أن الاختلاف في رأس المال يوجب التحالف، ثم أثره ارتداد الربح بكماله إلى المالك، ورجوع العامل إلى أجر المثل، وهذا ضعيف مزيف. وليس ما ذكرناه كالاختلاف في جزئية الربح؛ فإن ذلك تنازع في صفة العقد".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 523) قال: "والقول قول رب المال في رده - أي: المال - إليه؛ أي: إذا اختلفا في رد مال المضاربة فالقول قول رب المال بيمينه؛ لأنه منكر، والعامل قبض المال لنفع له فيه، فلم يقبل قوله في رده كالمستعير، والقول قول رب المال أيضًا".
شُبْهَةً؟ فَمَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ قَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ. وَمَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ أَقْوَاهُمَا شُبْهَةً فِي الْأَغْلَبِ قَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ؛ لأنَّهُ عِنْدَهُ مُؤْتَمَنٌ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَاسَ اخْتِلَافَهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ في ثَمَنِ السِّلْعَةِ. وَهَذَا كَافٍ فِي هَذَا الْبَابِ).
هذه مسألة تكررت، وستأتي أكثر تفصيلًا وبيانًا في أحكام القضاء، وفي الدعاوى والبينات، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم؛ ولكن البينة على المدعى عليه"
(1)
، وفي رواية في غير "الصَّحيحين":"ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"
(2)
، فهنا مَن هو المنكر ومن هو المدعي؟ هذا هو سبب الخلاف في الجزئيتين الأخيرتين.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم، ذكروها بالله واقرؤوا عليها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 77] " فذكروها فاعترفت، فقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليمين على المدعى عليه".
(2)
أخرج هذه الزيادة البيهقي في "الكبرى"(10/ 427) عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر". وصححها الألباني في "إرواء الغليل"(2685).
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
[كتاب المساقاة]
نحن عند مقدمة كتاب المضاربة وكتاب القراض، بينا أن المضاربة أن يدفع إنسان ماله إلى آخر ليتجر به، فهناك طرفان؛ طرف يملك المال، وآخر لا مال عنده، لكن لديه القدرة والخبرة على أن يضارب بهذا المال حتى يربح بإذن الله سبحانه وتعالى، وبينا هناك أنَّ الناس ليسوا جميعًا على دراية ومعرفة بالتجارة، فمن الناس من لديه المال لكنه لا يعرف أصول التجارة، ولا يستطيع أن يمارس فيبيع ويربح.
وآخر لديه الخبرة والدراية والمعرفة والمكانة، لكن لا مال بين يديه، فيدفع هذا ماله إلى ذاك؛ ليتجر به على جزء معلوم من الربح، هذا قد مضى، والمساقاة فيها نوع من الشبه، وإن كانت المضاربة بهما رأينا كانت موضع إجماع من حيث الجملة، لكن المساقاة تختلف، وأشد منها المزارعة؛ ولذلك لم يعقد المؤلف لها بابًا في هذا الكتاب نهجًا على مذهبه؛ لأن المالكية لا يرون المزارعة، لكنه أشار إليها إشارات خفيفة ضمن المساقاة.
نأتي الآن إلى المساقاة، ومعناها
(1)
: أن يدفع رجل شجره أو زرعه إلى
(1)
المساقاة لغة: مفاعلة من السقي. وشرعًا: دفع فلان إلى فلان نخله أو كرمه يستعمله =
آخر؛ ليقوم بسقيه وما يحتاج إليه من أعمال، على أن يكون له جزء معلوم من الثمر، أي: مما تخرج هذه الأشجار أو الزروع من الثمار، سواء كان نصفًا أو ربعًا أو ثلثًا أو أقل أو أكثر، هذا هو وصف المساقاة.
والأمر فيها - أيضًا - كالمضاربة فليس كل الناس عنده الخبرة في أمور الزراعة، فربما تكون له مزرعة ورثها، أو يكون قد عجز عن العمل فيها، فيحتاج إما إلى من يعمل فيها عن طريق الأجرة، وإما أن يسلمه إلى آخر؛ ليعمل فيها مقابل جزء معلوم من الربح.
وبعض الناس قد لا يجد أجرة ليستأجر العمال للعمل، وربما يجد لكنه لا يمكن أن يحصل الإحكام والإنتاج الذي يحصل لو تولاها إنسان غيره؛ لأنه إذا سلمها للآخر، وعلم أن له جزءًا معلومًا من الربح، أي: أنه شريك في ذلك، فسيجد ويجتهد، وسيبذل كل طاقته وغاية جهده؛ ليصل بها إلى أعلى مستوى، حتى يستفيد هو ويفيد غيره، لكن العامل مهما كان مخلصًا، فإنه يعمل بأجر، فلا يكون كالذي يعمل لنفسه، ومن هنا كانت المساقاة طريقًا.
والمساقاة لا تقوم على عمل واحد هو السقي، بمعنى أن الأشجار يرسل عليها الماء فحسب، بل إنها تحتاج إلى عناية، وهناك من الأشجار ما يحتاج إلى التلقيح، هناك أيضًا قطع الأشجار، هناك تنقيتها هناك حفر الآبار، هناك إجراء المياه، هناك التنظيف، أشياء كثيرة جدا، وإنما سميت بالمساقاة؛ لأن أهم ما تقوم عليه هذه المعاملة هو السقي، والسقي إنما هو إرسال الماء إليها، ولا شك أن هذا الماء له مكانة عظيمة كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] فلا يستطيع إنسان أن يعيش بدون الماء، ولا يستطيع نبات أن يبقى قائما على ساقيهِ دون ماء أيضًا، وكذلك الحيوان، فهو إذن ضروري لحياة الإنسان والحيوان
= على أن يعمره ويسقيه ويقوم بمصلحته، وللعامل سهم مما تغله، والباقي لمالك النخل، وأهل العراق يسمونها المعاملة. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (14/ 394)، و"أنيس الفقهاء" للقونوي (ص 102).
والنبات، فلا بد منه، وقيل سميت بالمساقاة؛ لأن بلاد الحجاز كاذت تقوم أعمالهم من حيث الري على الاستقاء، يحفرون الآبار ويستقون منها، فهذه هي المساقاة
(1)
.
والان نبدأ في الكتاب، ثم بعد ذلك نتبين ما أشار إليه المؤلف من خلاف؛ من قال بالمساقاة، ومن قال بعدمها، أي: من أجازها ومن منعها، ولماذا أجازها أكثر العلماء ومنعها قليل منهم؛ وبخاصة أن ممن منعوها أحد الأئمة الأربعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي الْمُسَاقَاةِ
(2)
أَمَّا أَوَّلًا: فَفِي جَوَازِهَا).
لا شك أن المساقاة مشروعة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت في ذلك أحاديث صحيحة، ويأتي في مقدمتها ما حصل من معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر، فإنه صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، وكانت خيبر تشتهر بالنخيل، ولا يزال النخيل موجودًا فيها، فلذلك جاءت السنة بمشروعية المساقاة.
أدلة مشروعيتها:
الأول: قال بعض العلماء: الدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر مما يخرج منها من ثمر أو زرع، كما في حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه، قال: "عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج
(1)
قال الرملي في "نهاية المحتاج"(5/ 244): "المساقاة
…
وهي مأخوذة من السقي - بفتح السين وسكون القاف - المحتاج إليه فيها غالبًا، لا سيما بالحجاز فإنهم يسقون من الآبار لأنه أنفع أعمالها وأكثرها مؤنة". وينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 532).
(2)
ويسميها أهل العراق (الحنفية): المعاملة. يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 185) قال: "معنى المعاملة لغة: فهو مفاعلة من العمل، وفي عرف الشرع عبارة عن العقد على العمل ببعض الخارج مع سائر شرائط الجواز".
منها من ثمر وزرع"
(1)
. هذا الحديث متفق عليه، وهو دليل من الأدلة التي جاءت في السنة.
الثاني: قد حكى بعض العلماء الإجماع
(2)
، قالوا: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته حتى لحق بالرفيق الأعلى، ومات صلى الله عليه وسلم وهو يعامل أهل خيبر على ذلك؛ أي على المساقاة، وعمل بعده الخلفاء الراشدون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم أهْلُوهم، واستمر المسلمون على ذلك فترة، قال هؤلاء العلماء: فكان ذلك إجماعًا
(3)
.
ومن العلماء من قال بأن المساقاة لا تجوز؛ لأنها معاملة مقابل شيء لم يخلق، ولو قدر أنه خلق فهو مجهول لا يعلم قدره، وما ذكر أن
(1)
أخرجه البخاري (2329)، ومسلم (1551).
(2)
قال ابن المنذر في "الإقناع"(2/ 574): "ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من تمر أو زرع
…
ولا أعلم أحدًا خالف ما ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا النعمان، ولا يعلم له معنى؛ إذ هو مخالف للسنة".
(3)
إن كان الشارح يقصد بقوله: عمل بعده الخلفاء الراشدون
…
إلخ، باليهود فلا، وإن قصد بإباحة المعاملة (المساقاة) فنعم:
فقد ذكر ابن المنذر في "الأوسط"(11/ 109): "أن أبا بكر أقر اليهود فيها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم عمر صدرًا من إمارته". انتهى.
وقد أجلاهم عمر في خلافته؛ فقد أخرج البخاري (2730) عن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم، وقال:"نقركم ما أقركم الله"، وأن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك، فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم، فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين، أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا، فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة". فقال: كانت هذه هزيلة من أبي القاسم. قال: كذبت يا عدو الله. فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر، مالا وإبلًا وعروضًا من أقتاب وحبال وغير ذلك. وعلق البخاري (3/ 104) آثارًا عن جملة من الصحابة والتابعين قال: وزارع علي، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين. انتهى. فلعل الشارح قصد العموم. والله أعلم.
عبد الله بن عمر راوي الحديث الذي استُدِلَّ به على جواز المساقاة، نقل عنه أنه قال: بقينا أربعين سنة حتى حدثنا رافع بن خديج: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، أي: عن كراء الأراضي، وهذا سيأتي الحديث عنه إن شاء الله أثناء التعليق على الكتاب.
• قوله: (وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الْفَسَادِ وَالصِّحَّةِ فِيهَا).
المؤلف هنا يقدم لنا مقدمات يبين فيها المشروعية، وقد قلنا: إنها مشروعة بالسنة، وهناك من حكى الإجماع.
وهناك شروط صحة وشروط فساد؛ لأن هناك أمرًا مطلوبًا من رب الأرض؛ من رب الثمر، وهناك أيضًا أعمال أخرى يطالب بها العامل القائم على ذلك.
• قوله: (وَالثَّالِثُ: فِي أَحْكَامِهَا. الْقَوْلُ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ فَأَمَّا جَوَازُهَا: فَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ).
عليه جمهور العلماء، ومنهم الأئمة؛ مالك والشافعي وأحمد، بل نقل ذلك عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة وعن التابعين، وغير هؤلاء.
• قوله: (فَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
،
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدرير ومعه حاشية الصاوي (3/ 712)، قال: "المساقاة
…
عقد من رب الحائط أو الزرع مع غيره، على القيام بمئونة - أي: خدمة شجر أو نبات -: مقثأة أو غيرها
…
أي على التزام خدمته من سقي وتنقية وتقليم وغير ذلك
…
بجزء من غلته لا مكيلة، ولا بجزء من غلة غيره. هذا هو الأصل فلا ينافي قولها: لا بأس بالمساقاة، على أن كل الثمرة للعامل".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 244، 245) قال: "المساقاة
…
هي معاملة على تعهد شجر بجزء من ثمرته، والأصل فيها قبل الإجماع والحاجة داعية إليها، والإجارة فيها ضرر بتغريم المالك حالًا مع أنه قد لا يطلع شيء، وقد يتهاون الأجير في العمل لأخذ الأجرة".
وَالثَّوْرِيُّ
(1)
، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
وَأَحْمَدُ
(3)
وَدَاوُدُ
(4)
.
ذكر المؤلف أحمد مع الجمهور، وقلت: إن المؤلف يغفل ذكر أحمد لا لأنه لا يراه فقيهًا كما يدعي البعض، لكن لأنه لا يعرف مذهبه تمامًا، فهو يعول على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر.
• قوله: (وَهِيَ عِنْدَهُمْ مُسْتَثْنَاةٌ بِالسُّنَّةِ مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخْلَقْ).
وهي عندهم مستثناة بالسُّنة؛ لأنك إذا نظرت إليها وجدت فيها جهالة؛ لأنك تدفع شجرًا أو ثمرًا لم يثمر بعد، على أن يعمل فيه إنسان مقابل جزء مما يخرج منه من ثمر، فهذا شيء لم يخلق، شيء معدوم غير موجود، فيصح ذلك لأنه مستثنى. وهناك كثير من المعاملات التي استثنيت في هذه الشريعة تخفيفًا على الناس وتيسرًا، ورفقًا بهم، وقد مرَّ بنا نماذج كثيرة من ذلك.
(1)
قال ابن المنذر في "الإشراف"(6/ 273): "أجاز ذلك فريق، وممن أجاز ذلك سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله
…
والثوري
…
وإسحاق، وأبو ثور، ويعقوب، ومحمد". وانظر:"المحلى" لابن حزم (8/ 229).
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 185) قال: "أمَّا شرعيتها: فقد اختلف العلماء فيها؛ قال أبو حنيفة
…
: إنها غير مشروعة، وقال أبو يوسف ومحمد
…
: مشروعة".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 532) قال: "تجوز المساقاة في كل شجر له ثمر مأكول، وإن لم يكن نخلًا ولا كرمًا".
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 229) قال: "المعاملة في الثمار
…
المعاملة فيها سنة، وهي أن يدفع المرء أشجاره أي شجر كان من نخل، أو عنب، أو تين، أو ياسمين، أو موز، أو غير ذلك، لا تحاش شيئًا مما يقوم على ساق ويطعم سنة بعد سنة لمن يحفرها ويزبلها ويسقيها إن كانت مما يسقى بسانية، أو ناعورة، أو ساقية، ويؤبر النخل، ويزبر الدوالي، ويحرث ما احتاج إلى حرثه ويحفظه حتى يتم ويجمع، أو ييبس إن كان مما ييبس، أو يخرج دهنه إن كان مما يخرج دهنه، أو حتى يحل بيعه إن كان مما يباع كذلك، على سهم مسمى من ذلك الثمر، أو مما تحمله الأصول كنصف أو ثلث، أو ربع، أو أكثر، أو أقل".
• قوله: (وَمِنَ الْإِجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ)
(1)
.
وقد مر بنا أن من العلماء من يجيز بعض الإجارات المجهولة.
• قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ أَصْلًا)
(2)
.
فالذي خالف من الأئمة هو أبو حنيفة، وسيذكر المؤلف رأيه.
وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة خالفاه في ذلك
(3)
؛ لأنهما رأيا وجود أدلة تدل على الجواز فذهبا إليه، وأبو حنيفة عندما خالف في هذه المسألة لم يكن مقصده هو الخلاف، لكنه انقدح في ذهنه وفهمه أن هذه المعاملة تخالف الأصول الثابتة في الشريعة، فلا تصح لذلك.
• قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي إِجَازَتِهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا، عَلَى أَنْ يُعْمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَطْرُ ثَمَرِهَا"
(4)
.
الشطر في الغالب يطلق على النصف، ويطلق على الجهة
(5)
. قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: جهته. وشطر الشيء إنما هو نصفه، وقد دار خلاف كثير حول حديث:"الطهور شطر الإيمان"
(6)
،
(1)
وقد مر الكلام على هذه المسائل.
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 185) قال: "قال أبو حنيفة
…
: إنها غير مشروعة
…
ولأبي حنيفة
…
أن هذا استئجار ببعض الخارج، وأنه منهي عنه".
(3)
تقدم نقل ذلك عنهما.
(4)
أخرجه مسلم (1551) عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، "أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها، على أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها".
(5)
الشطر: الجهة والناحية، وشطر الشيء: نصفه وجزؤه. يُنظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (1/ 415)، "تاج العروس" للزبيدي (12/ 169).
(6)
أخرجه مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها".
فقال بعض أهل العلم: كيف يكون الطهور شطر الإيمان أي: نصفه؟ وتكلمنا عن هذه المسألة وفصلنا القول فيها في أبواب الطهارة، والشاهد هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر، وهذا الحديث متفق عليه والمؤلف قد نص في منهجه على أن المشهور في مصطلحه بمعنى المتفق عليه، والثابت ما رواه أحد الشيخين - البخاري ومسلم - وهو خالف منهجه، فقال الثابت وهو متفق عليه، والذي ذكرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من تلك الأرض؛ من زرع أو ثمر، وهذا حديث متفق عليه، وهو نص في هذه المسألة.
• قوله: (خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
(1)
).
قال الثابت. وقال: خرَّجه البخاري ومسلم.
• قوله: (وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَاقَاهُمْ عَلَى نِصْفِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَالثَّمَرَة
(2)
").
وهذه الرواية أيضًا موجودة في "الصحيحين"؛ أي: في البخاري ومسلم
(3)
، ومعلوم أن البخاري ومسلمًا وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد يروون الأحاديث، وربما جاء الحديث من عدة طرق وبألفاظ متعددة، فهم يوردونها، فهذا الحديث جاء بألفاظ وفي هذه الرواية:"ساقاهم"
(4)
.
(1)
اللفظ الذي ذكره المصنف لفظ النسائي، وأما لفظ البخاري (2329)، ومسلم (1551) فعن ابن عمر قال:"عامل النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ".
(2)
أخرجه أبو عوانة في "المستخرج"(3/ 310) وغيره عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم "ساقى يهود خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر أو زرع".
(3)
لعل الشارح رحمه الله لم ينتبه لذلك، فهذا اللفظ ليس في "الصَّحيحين"، إنما الذي عندهم أصل الحديث.
(4)
لم أقف على هذه اللفظة إلا عند ابن عبد البر في "الاستذكار"(21/ 234) قال: "وفي حديث جابر ورافع ما يدل على أن النهي عن ذلك كان بعد خيبر؛ لأن =
• قوله: (وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ أَيْضًا مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ يَوْمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ: "أُقِرُّكمْ عَلَى مَا أَقَرَّكمُ اللهُ، عَلَى أَنَّ الثَّمرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
(1)
").
وفي رواية: "أن الثمرة"
(2)
.
• قوله: (قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: "إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي").
أولًا: هذا حديث مرسل؛ أي: أنه ليس متصلًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الحديث المرسل، وهذا الحديث من العلماء من وصله، فجاء من بعض الطرق موصولًا
(3)
، ومعلوم أن مراسيل سعيد بن المسيب من أصح المراسيل
(4)
.
= رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرج الأرض والثمرة على حسب ما كانوا عليه قبل أن ينهى، ثم نهى عن ذلك ونهى عن المخابرة".
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 703) رقم (1).
(2)
أخرجه أبو داود (3410)، وغيره عن ابن عباس قال: "افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر واشترط أن له الأرض، وكل صفراء، وبيضاء، قال: أهل خيبر نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة، ولنا نصف
…
" الحديث. قال الألباني في "صحيح أبي داود" (2/ 352): "حسن صحيح".
(3)
كالذي أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 190) عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال:"لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر دعا يهود فقال: "نعطيكم نصف الثمر على أن تعملوها، أقركم ما أقركم الله عز وجل، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله يخرصها ثم يخيرهم أن يأخذوها أو يتركوها، وأن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ذلك فاشتكوا إليه، فدعا عبد الله بن رواحة فذكر له ما ذكروا، فقال عبد الله: يا رسول الله، هم بالخيار، إن شاؤوا أخذوها، وإن تركوها أخذناها، فرضيت اليهود وقالت: بهذا قامت السماوات والأرض
…
" الحديث.
(4)
اختلف العلماء في مراسيل كبار التابعين كابن المسيب، فمنهم من صححها، ومنهم من قال: هي كغيرها من المراسيل. انظر: "مقدمة" ابن الصلاح (ص 51 - 56)، و"اختصار علوم الحديث" لابن كثير (ص 47 - 49).
هذه ناحية، وهذا الأثر أخرجه مالك في "موطئه"، وجاء من عدة طرق عند البيهقي
(1)
والدارقطني
(2)
وغيرهما
(3)
، وجاء في بعض الطرق موصولًا؛ أي: متصلًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث نعود إليه مرة أخرى حتى نبين ما فيه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم إذًا على ذلك الأمر: هل هم الذين طلبوا أو الرسول عرض عليهم؟ هذا جاء في عدة روايات، والمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.
وقد اشتهر عبد الله بن رواحة شتهر بالخرص، وكان دقيقًا في ذلك الأمر، وقد مر بنا ذكره رضي الله عنه في كتاب (الزكاة)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه خارصًا للتمر وللعنب، فهو إذًا قد اشتهر بذلك، وسيأتي في المرسل الثاني - أيضًا - قصة حصلت مع عبد الله بن رواحة، وهي قصة تشهد لنزاهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• قوله: (فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: "إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي"، وَكَذَلِكَ مُرْسَلُهُ أَيْضًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فِي مَعْنَاهُ).
مرسله؛ أي: مرسل مالك، الذي أخرجه مالك في "الموطأ"
(4)
، فعندنا الآن مرسل سعيد بن المسيب، وكذلك - أيضًا مرسل - ابن يسار، ومرسل ابن يسار أشار إليه المؤلف دون أن يذكر ما فيه، وهو يحمل على
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
لم أقف عليه عنده.
(3)
كالبزار في "المسند"(14/ 221).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 703، 704) عن سليمان بن يسار: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حليًّا من حلي نسائهم، فقالوا له: هذا لك، وخفف عنا، وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سحت، وإنا لا نأكلها. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض".
معان سامية تدل على أهمية هذه الشريعة، وأنها إذا انغرست في قلب المؤمن واستقرت فيه واستقام قلبه عليها مخلصًا، تجرد من كل أمور الدنيا، فابتعد عن كل ما يشينه.
ولذلك جاء في هذا المرسل من بعض الطرق مطولًا ومختصرًا: أن يهود خيبر جمعوا حليًّا من حلي النساء، فقدموه فباعوه لعبد الله بن رواحة، وقالوا: على أنْ تخفِّفَ علينا القسم - أرادوا أن يرشوه - فقال لهم عبد الله بن رواحة: والله إني أقدمت من عند أحب الناس إلي، وإنكم أبغض الناس إلي، وإن بغضي لكم لا يدفعني أن أحيف عليكم. ثم ذكر أنه قال: وتريدون أن تدفعوا إلي هذا السحت لآكله؟!
ثم بين حرمة ذلك، فقالوا: بذلك قامت السماوات والأرض. هم يعلمون الحق، ويعلمون أن ما فعلوه إنما هو أمر باطل، وأن قصدهم هو الضلال، فأدركوا ما كان عليه عبد الله بن رواحه، وأنه قدم من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم واثقًا به؛ ليخرص عليه، فأرادوا أن يقدموا له شيئًا، فبين لهم أنه قدم من عند أحب الناس إليه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم أبغض الناس إليه؛ لكن بغضه لهم لا يدفعه إلى أن يحيف عليهم، أي: أن يميل عليهم.
ثم نبههم إلى خطورة ما قدموه له، وأنه سحت، وأن هذه رشوة، وأن دين الإسلام حرم الرشوة، "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش"
(1)
، فلما رأوا موقفه وأنه وقف عند الحق قالوا: بذلك قامت السماوات والأرض، بالعدل؛ لأنه بين لهم أن كرهه لهم لا يدفعه إلى أن يظلمهم في هذا المقام، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. وهم بذلك صادقون يعرفون الحقَّ؛ لكنهم يعرضون عنه.
(1)
أخرجه أحمد (37/ 85)، وغيره عن ثوبان قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش"، يعني: الذي يمشي بينهما، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(1235).
ومعلومٌ ما كان عليه اليهود ولا يزالون، فهم أهل الحيل، وأهل المكر وأهل الكذب، وهم قتلة الأنبياء، وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وهم الذين اعتدوا يوم السبت، وسيئاتهم كثيرة جدًّا، نبه الله سبحانه وتعالى عليها في كتابه العزيز، وأشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذرنا من أن نقتدي بأفعالهم أو أن نسلك مسالكهم.
فينبغي على العامل أن يكون أمينًا، وأن يحافظ على ما وكل إليه، وليس ذلك في الخرص فحسب بل:"كلكم راع، وكللكم مسؤول عن رعيته"
(1)
.
فكل مسلم مسؤول عن جماعة أو عن أفراد، عليه أن يخلص في عمله، وأن يتقي الله سبحانه وتعالى، وألا يحيف فيميل إلى جانب دون جانب، وإلى شخص دون شخص؛ لكون من مال إليه صاحب مكانة أو وجاهة أو نسب أو قرابة أو غير ذلك.
لا ينبغي للمسلم أن يميل إلى إنسان، بل ينبغي أن يحكم بالحق، ولذلك لما جاء ابن اللتبية الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرص في الزكاة، فقال: هذا لكم وهذا لي.
لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يعلم الناس الخير، ويرشدهم إلى طريق الهداية، ويأخذ بأيدهم إلى طريق النجاة -: ما قال ابن اللتبية؟ لم يقل هذا؛ لأن هذا منهج الإسلام؛ فالإسلام لا يُشهِّر بالمسلمين، ولا يحاول فضحهم، ولكن الإسلام يسعى إلى إصلاح النفوس وتطهيرها، دون أن يجرح أصحاب تلك الأمور، فوقف النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال: "ما بال
(1)
أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829) عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته". قال: وحسبت أن قد قال: "والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته".
أحدكم يأتي فيقول هذا لكم وهذا لي؟ هَلَّا جلس في بيت أبيه وأمه لينظر أَيُهدى إليه أم لا يهدى إليه شيء"
(1)
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّن المنهج، فهذا عبد الله بن رواحة قد تربى في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهل من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فارتوى منها وتغذى غذاءً كاملًا فاستقام أمره وصلح قلبه، فجاء عمله موافقًا لذلك، هكذا الصحابة رضي الله عنهم، وكثيرًا ما ننبه إلى هذا، فإنهم رضي الله عنهم كانوا قدوة بأعمالهم قبل أن يكونوا قدوة بأقوالهم، فهم لا يضعفون أمام الدنيا، وإذا أردت أن تمتحن شخصًا فامتحنه في أمور الدنيا؛ ليتبين لك ضعفه، فمن الناس من إذا رأى الدرهم والدينار ضعفت نفسه، ومن الناس من تراه قويًّا.
وقد ذكرت قصة الإمام أحمد قبل ولم أتمها؛ فإنه رحمه الله ابتلي بالضراء فصبر، وابتلي بالسراء أيضًا فشكر، وقلت: إن الشيطان قد يعجز عن أن يغزو الإنسان عن طريق المال، فهو يريد أن يدفع الإنسان إلى المال، فيعزف عنه، فيدفعه إلى المنصب فيبتعد عنه، فيسلك مسلكًا آخر ليبث فيه العُجْب بنفسه، بأنه فلان لا مثلَ له، وهذا ما حصل بالنسبة للإمام أحمد، فإن الإمام أحمد رحمه الله لما خرج من السجن أكْرِم، بدأ الناس يتكلمون: الإمام أحمد فعل وفعل. وكانوا يقولون: "أبو بكر يوم الردة، وأحمد يوم الفتنة"
(2)
، يعني: فتنة خَلْق القرآن، فلم يغير ذلك من
(1)
أخرجه البخاري (6979) عن أبي حميد الساعدي، قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم وهذا هدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا". ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أمَّا بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفنَّ أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه يقول: "اللهم هل بلغت" بصر عيني وسمع أذني.
(2)
يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 201) وذكر بسنده إلى المزني أنه قال: "أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة
…
".
صفاته، بل إنه تواضع لله فخفض جناحه، ولا شك أن من تواضع لله رفعه، وهذا هو شأن كل مسلم يسعى إلى البقاء ولا تشغله الفانية، سيكون هذا بإذن الله تعالى هو طريقه ومنهجه.
• قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: فَعُمْدَتُهُمْ مُخَالَفَةُ هَذَا الْأَثَرِ لِلأصُولِ مَعَ أَنَّهُ حُكْمٌ مَعَ الْيَهُودِ).
مخالفته للأصول؛ لأن الأصول أنه لا يجوز بيع ولا إجارة شيء لم يخلق، يعني غير موجود، وهذا شيء لم يوجد فكيف يتم التعامل فيه؟
لكننا قلنا: جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، والله تعالى يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ورسول الله صلى الله عليه وسلم ظل طيلة حياته يتعامل مع اليهود حتى مات صلى الله عليه وسلم.
• قوله: (وَالْيَهُودُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَبِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ ذِمَّةٌ، إِلَّا أَنَّا إِذَا أَنْزَلْنَا أَنَّهُمْ ذِمَّةٌ كانَ مُخَالِفًا لِلأُصُولِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ).
مما يستدل به الحنفية أيضًا أنهم قالوا: إن راوي هذا الحديث الذي استدل به الجمهور - وهو حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر - رجع عنه.
قالوا: لأن ابن عمر قال: بقينا أو مكثنا أربعين سنة نخابر - أي نعمل بالمخابرة في كراء الأرض - حتى حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة
(1)
.
ما هي المخابرة؟
(1)
أخرجه النسائي (3917) عن ابن عمر قال: "كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1478).
هي كراء الأرض
(1)
، هكذا قالت الحنفية؛ لكن الجمهور أجابوا عن ذلك وقالوا: أولًا لو قدر أن عبد الله بن عمر رجع عن هذا الحديث إلى فعله، فروايته مقدمة على فعله، هذه ناحية.
الناحية الأخرى أن حديث رافع بن خديج جاء بعدة طرق وبعدة ألفاظ، حتى حكم عليه بعض العلماء بأنه حديث مفترق وإن كان في "صحيح مسلم"، وأيضًا جاء في بعض طرقه أن رافع بن خديج قال: كنا نكري الأرض فنقول: هذه للعامل وهذه لنا، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
(2)
.
يعني نهاهم عن هذا الطريق، قال: ولم يكن ذهب ولا ورق، ولم ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب والورق.
وقال "طاوس" التابعي المعروف: كان ابن عباس أعلمهم. ثم قال إنه قال: لم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكن قال:"لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يؤجرها، أو أن يؤجره إياها خراجًا معلومًا"
(3)
.
فجاء حديث ابن عباس مبينًا للمراد أيضًا، وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع بن خديج
(4)
.
(1)
المخابرة: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 7).
(2)
أخرجه البخاري (2327) عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر أهل المدينة مزدرعًا، كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض"، قال:"فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا، وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ".
(3)
أخرجه البخاري (2330)، ومسلم (1550) عن عمرو: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، قال - أي عمرو -: إني أعطيهم وأغنيهم وإن أعلمهم، أخبرني - يعني ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال: "أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا".
(4)
أخرجه أبو داود (3390) وغيره عن زيد بن ثابت قال: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه؛ إنما أتاه رجلان - قال مسدد: من الأنصار - ثم اتفقا، =
إذًا حديث عبد الله بن عباس هو واسطة العقد؛ فإنه بين أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نهى عن ذلك لم ينه عنه لعدم جوازه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وهبه الله سبحانه وتعالى كرم الخلق، وأعظم السجايا، وأراد أن يبقى المسلم كريما سخيًّا باذلًا، فمن الخير له أن يدفع أرضه التي لا يحتاج إليها لأخيه المسلم؛ ليتولى سقيها ورعايتها والعناية بها حتى يستفيد، فذلك خير له من أن يأخذ أجرًا عليها، ولذلك يقوله الله سبحانه وتعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] فعلامة سلوكك طريق البر ألا تكون بخيلًا، فتبذل أعز ما عندك من المال بنفس طيبة، دون شحٍّ أو بخلٍ، فإذا وصلت إلى هذه الدرجة، وأصبح الريال والدرهم لا قيمة له عندك، في سبيل الخير؛ لا في سبيل التبذير ولا في سبيل الفساد - فذلك دليل سلوك طريق البر.
وقلنا: في سبيل الخير؛ لأن التبذير أمر ممنوع، {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [ألإسراء: 27] لكن أن تبذل المال في سبيل الخير، وأن تراعي من تعول فلا تجعلهم عالة يتكففون الناس، فهذه هي علامة من علامات الصلاح، ومن علامات التقى، ومن علامات قبول العمل إن شاء الله.
ولذلك نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد من الريح؛ يعني كان صلى الله عليه وسلم أشد سخاءً من الريح، وكان أكثر ما يكون بذلًا في رمضان
(1)
، ومعلوم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير
(2)
، فالرسول بذلك
= قد اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع"، زاد مسدد، فسمع قوله:"لا تكروا المزارع". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود".
(1)
هذا معنى حديث أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308) عن ابن عباس قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
(2)
أخرجه البخاري (2916) عن عائشة قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، بثلاثين صاعًا من شعير".
أرشد الناس إلى أن يكون من أعمالهم أعمال يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، وأن تكون هذه الأعمال قد طابت بها نفوسهم، وزكت بها أفئدتهم، وقدموها إلى إخوانهم المؤمنين حتى يصلوا إلى رتبة من قدم غيره على نفسه أو سواه بنفسه، فهذا هو شأن الأنصار رضي الله عنهم:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. والله يقول في وصف أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] إذن لا شك أن هذه أحكام الشريعة، هذا الفقه الإسلامي، إلى جانب أنه فقه وأحكام فهو أيضًا مطَعَّم مرصع متوج بالأخلاق الإسلامية الكريمة، فعندما تدقق في أي حكم من الأحكام ستقف فيه على كرم الخلق، وسجايا المؤمنين؛ على البذل والعطاء، فهذه أحكام ولكنها - كما قلت -: أحكام الشريعة متصلة، مرتبط بعضها ببعض، فلا تنقسم ولا تنفك أبدًا، عقيدة ومعاملة، عقيدة وعبادة، خلق ومعاملة، هذه هي أحكام الشريعة الإسلامية، لا نرى بينها انفصامًا، ولا نرى بينها انقطاعًا، بل هي سلسلة متصلة، عقيدة ترسخ في النفس، فيصلح القلب بها ثم تجد بعدها عبادة
…
خالصة لله سبحانه وتعالى، ترى أخلاقًا كريمة، كالذين قال الله فيهم:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} [االفرقان: 63، 64] إلى آخر الآيات.
تجد أيضًا معاملة صادقة صافية، إلى جانب كونها فيها أخذ ورد؛ لكن ينبغي أن تقوم على الصدق، وينبغي أن تقوم على البذل، وعلى مراعاة مصلحة الطرفين.
• قوله: (وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنَ الْمُزَابَنَةِ، (وَهُوَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا
(1)
) ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (5/ 65) قال: "والمزابنة هي بيع الرطب على النخل بتمر مقطوع مثل كيله تقديرًا شروح مجمع، ومثله العنب بالزبيب عناية للنهي ولشبهة الربا. قال المصنف: فلو لم يكن رطبًا جاز لاختلاف الجنس".
عرفنا المزابنة
(1)
، وقد مرت قبل، ومرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه
(2)
، لكن الشريعة الإسلامية - مع ما في المزابنة من غرر - قد استثنت منها بيع العرايا؛ وبيع العرايا نوع من المزابنة، لكن خص به صاحب الحجة على أن يأكلها رطبًا، وفي خمسة أوسق اتفاقًا، أو فيما دونها على خلاف، وقد مر تفصيل ذلك فيما مضى.
• قوله: (لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْخَرْصِ بَيْعُ الْخَرْصِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ لِلأُصُولِ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عِنْدَ الْخَرْصِ:"إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَتَضْمَنُونَ نَصِيبَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي وَأَضْمَنُ نَصِيبَكُمْ"
(3)
. وَهَذَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعٍ).
= ومذهب المالكية، يُنظر:"إرشاد السالك" لابن عسكر (ص 78) قال: "لا يجوز المزابنة؛ وهي بيع مجهول بمجهول أو معلوم من جنس ومنها رطب كل جنس بيابسه وحب بدهنه ولبن بجبن أو زبد وسمن إلا المخيض ولبن الإبل ودقيق بعجين وحيوان بلحم من جنسه وطري حوت بمالح، إلا ما نقلته صنعة كالمطبوخ بالنيء وحنطة مقلوة بنيئة أو سويق أو عجين بخبز".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 471) قال: "ولا بيع الرطب على النخل بتمر، وهو المزابنة من الزبن، وهو الدفع سميت بذلك لبنائها على التخمين الموجب للتدافع والتخاصم؛ وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عنهما
…
ويرخص في بيع العرايا جمع عرية، وهي ما يفرد للأكل لعروها عن حكم باقي البستان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 68) قال: "ولا بيع المزابنة
…
وهي بيع الرطب على النخل بالتمر
…
إلا في العرايا
…
وهي بيعه أي الرطب على النخل خرصًا بمثل ما يؤول إليه الرطب إذا جف وصار تمرًا كيلًا؛ لأن الأصل اعتبار الكيل من الجانبين، فسقط في أحدهما وأقيم الخرص مكانه للحاجة، فيبقى الآخر على مقتضى الأصل فيما دون خمسة أوسق".
(1)
"المزابنة": بيع التمر على رؤوس النخيل بالتمر كيلًا. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 150).
(2)
أخرجه البخاري (2171)، ومسلم (1542) عن عبد الله بن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة".
(3)
لم أقف عليه في أي من كتب السنة، لكن ذكره ابن رشد الجد في "المقدمات" =
أولًا: هذا حرام لو بقي على ظاهره؛ لكن على أساس أنه تسلم بأيديهم ويكون الخراج، فهذا جائز، أو أنه لكم ولنا والنصف، اخترتم هذا أو اخترتم هذا. نعم، هذا إلى جانب أن هذا فيه مقال.
• قوله: (وَرُبَّمَا قَالُوا: النَّهْي الْوَارِد عَنِ الْمُخَابَرَةِ هُوَ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ بِخَيْبَرَ. وَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُخَابَرَةَ هِيَ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا).
هذا هو الذي جاء في تفسيرها على أرجح الأقوال؛ كراء الأرض بجزء مما يخرج منها، ولا شك أن أدلة الجمهور هي الأقوى، وهي الصواب إن شاء الله؛ لأن هذه معاملة فعلها الرسول، وغادر الدنيا وهو باق عليها، وفعلها خلفاؤه الراشدون؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهذا هو راوي المخالفة رافع بن خديج، وعاش مع الصحابة رضي الله عنهم، وما نقل لهم تحريم ذلك، ولا شك أن أحرص الناس على اقتفاء سنة رسول الله هم خلفاؤه الراشدون، وأصحابه الكرام رضي الله عن الجميع، فهم قد فعلوا ذلك وتعاملوا به، وفعله أهلوهم، حتى إن عمر رضي الله عنه خير نساء سول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يأخذن ما كان يخصص لهن من وسق، وبين الأرض، وقد اختارت عائشة الأرض
(1)
، فذلك إذن قد انتشر واشتهر وعمَّ بين الصحابة، وفعلوه ولا نكر له، ولذلك حكاه بعض العلماء إجماعًا.
• قوله: (قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ رَافِعٍ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِمَا
= (2/ 549)، وابن أبي زيد في "الفواكه الدواني"(2/ 124)، واللكنوي في "التعليق الممجد"(3/ 309)، والعظيم آبادي في "عون المعبود"(9/ 198)، كلهم يذكره دون سند أو عزو.
(1)
أخرجه البخاري (2328)، ومسلم (1551) عن ابن عمر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسق تمر، وعشرون وسق شعير"، فقسم عمر خيبر فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض، أو يمضي لهن؛ فمنهن من اختارت الأرض، ومنهن من اختارت الوسق، وكانت عائشة اختارت الأرض".
يَخْرُجُ مِنْهَا
(1)
؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ).
بين العلماء أيضًا أن ذلك له عدة تفسيرات؛ منها ما ذكره رافع؛ لأن رافعًا كانت لهم آراء، وكانت كثيرة، وربما أجروا بعضها وبقي بعضها تحت أيديهم، فربما خرجت هذه ولم تخرج تلك
(2)
.
• قوله: (وَهُوَ خَاصٌّ أَيْضًا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ أَحَادِيثِ الْمُسَاقَاةِ، وَلهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَقُلْ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مَالِكٌ، وَلَا الشَّافِعِيُّ؛ أَعْنِي: بِمَا جَاءَ مِنْ: "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَاقَاهُمْ عَلَى نِصْفِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَالثَّمَرَةُ"
(3)
. وَهِيَ زِيَادَةٌ صَحِيحَة وَقَالَ بِهَا أَهْلُ الظَّاهِرِ).
قوله: "وهو خاص" يعني: حديث: النهي عن المخابرة.
وهذا الحديث أخرجه البخاري
(4)
، ومسلم
(5)
عن ابن عمر، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع"
(6)
،
(1)
أخرجه البخاري (2339)، ومسلم (1547) عن رافع بن خديج بن رافع، عن عمه ظهير بن رافع، قال ظهير:"لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا، قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حق، قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما تصنعون بمحاقلكم؟ ". قلت: نؤاجرها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال: "لا تفعلوا، ازرعوها، أو أزرعوها، أو أمسكوها ". قال رافع: قلت: سمعًا وطاعة".
(2)
أخرجه البخاري (2722)، ومسلم (1547) عن رافع بن خديج يقول:"كنا أكثر الأنصار حقلًا، فكنا نكري الأرض، فربما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
(2329).
(5)
(1551).
(6)
وقد وقع نفس الإلغاز للبخاري رحمه الله فإنه روى هذا الحديث، وبوب عليه: باب إذا لم يشترط السنين في المزارعة.
قال في "فتح البارى" لابن حجر (5/ 14): "قال ابن التين: قوله إذا لم يشترط السنين ليس بواضح من الخبر الذي ساقه كذا قال ووجه ما ترجم به الإشارة إلى أنه لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث مقيدًا بسنين معلومة وقد ترجم له بعد أبواب =
ولم أجده بلفظ المؤلف. والزيادة هي قوله صلى الله عليه وسلم: "نقركم ما أقركم الله"
(1)
.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ)
ننتهي إذًا إلى أن المساقاة صحيحة، وأن دليلها ما جاء في السنة الصحيحة، وفي فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون نكيرٍ، وتوقف عبد الله بن عمر عن ذلك قال فيه العلماء: ربما توقف عن بعض أنواع المعاملات؛ لأن بعض أنواع المعاملات فيها ما لا يجوز.
• قوله: (وَالنَّظَرُ فِي الصِّحَّةِ رَاجِعٌ إِلَى النَّظَرِ فِي أَرْكَانِهَا، وَفِي وَقْتِهَا، وَفِي شُرُوطِهَا الْمُشْتَرَطَةِ فِي أَرْكانِهَا. وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَة: الْمَحِلُّ الْمَخْصُوصُ بِهَا، وَالْجُزْءُ الَّذِي تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ، وَصِفَةُ الْعَمَلِ الَّذِي تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ، وَالْمُدَّةُ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا وَتَنْعَقِدُ عَلَيْهَا).
هذا كله مجمل سيفصله المؤلف.
• قوله:
= إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله ولم يذكر أجلًا معلومًا فهما على تراضيهما وساق الحديث وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "نقركم ما شئنا هو ظاهر فيما ترجم له".
قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري"(6/ 479): "اعتل من دفع بأنها كانت من النبي عليه السلام إلى غير أجل معلوم، لقوله عليه السلام لليهود: "أقركم ما أقركم الله" وكل من أجاز المساقاة فإنما أجازها إلى أجل معلوم، إلا ما ذكر ابن المنذر عن بعض أصحابه أنه تأول في قوله عليه السلام لليهود: "أقركم ما أقركم الله" جواز المساقاة بغير أجل، وقد تقدم ذكره في باب (إذا لم يشترط السنين في المزارعة). والذي عليه أئمة الفتوى أنها لا تجوز إلا بأجل معلوم".
وينظر للفائدة: شرح صحيح البخاري لابن بطال (6/ 479).
[شرح صحيح البخاري لابن بطال 6/ 470].
(1)
أخرج البخاري (2730) وفيه: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر، قام عمر خطيبًا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم، وقال:"نقركم ما أقركم الله".
(الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: فِي مَحِلِّ الْمُسَاقَاةِ
وَاخْتَلَفُوا فِي مَحِلِّ الْمُسَاقَاةِ؛ فَقَالَ دَاوُدُ: لَا يمُونُ الْمُسَاقَاةُ إِلَّا فِي النَّخِيلِ فَقَطْ).
المراد بالمحل الشيء الذي تكون فيه، أفي الشجر المثمر؟ أو في النخل وحده؟ أو في النخيل والكرم الذي هو العنب، لوجود تشابه بينهما في أمور كثيرة؟ أو أنها لا تجوز أصلًا كما في مذهب الحنفية؟
اختلف العلماء في المحل على ثلاثة مذاهب؛ وهي:
الأول: مذهب أهل الظاهر
(1)
، وهو قصر الأمر على النخيل، بدعوى أن أهل خيبر لم يكن في مزارعهم إلا النخيل.
ويرد ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر
(2)
، فعمم ذلك، وهذا يرد به على أهل الظاهر.
الثاني: مذهب الشافعية في المشهور عنهم
(3)
: وهو إضافة الكرم إلى النخيل، وحجتهم في ذلك وجود تشابه كبير بين العنب وبين الرطب، أو
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 229) قال: "المعاملة فيها سنة، وهي أن يدفع المرء أشجاره؛ أي شجر كان من نخل، أو عنب، أو تين، أو ياسمين، أو موز، أو غير ذلك، لا تحاش شيئًا مما يقوم على ساق".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 246، 247) قال: "وموردها النخل ولو ذكورًا كما اقتضاه إطلاقه
…
وقد ينازع فيه بأنه ليس في معنى المنصوص عليه، وبأنه بناه على اختياره للقديم الآتي، والعنب للنص في النخل، وألحق به العنب
…
ولم يعبر بالكرم بدل العنب لورود النهي عن تسميته به، والأصح تفضيل الرطب على العنب
…
وجوزها القديم في سائر الأشجار المثمرة؛ كتين وتفاح لوروده في الخبر من ثمر أو زرع ولعموم الحاجة
…
والجديد المنع؛ لأنها رخصة فتختص بموردها، وعليه تمتنع في المقل
…
وتصح على أشجار مثمرة تبغا للنخل والعنب إذا كانت بينهما، وإن كثرت، وإن قيدها الماوردي بالقليلة".
بين التمر والزبيب، فقالوا: هذا تأخذ زكاته، وهذا تأخذ زكاته، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل من يخرص التمر، والرطب، ويخرص العنب أيضًا، وكلاهما يدخر ويقتات ويجفف، فوجود أنواع متعددة من الشبه بينهما هو الجامع بينهما في الحكم.
الثالث: مذهب الإمامين مالك
(1)
وأحمد
(2)
وأكثر العلماء
(3)
-: وهو أن المساقاة تجوز في كل شجر له ثمرة تخرج، ولا شك أن هذا هو الأقرب للأحاديث.
ومعلوم أن أهل الظاهر يقفون دائمًا عند ظواهر النصوص، ولا يأخذون بالقياس لأنهم يقولون: إن القياس مبناه على العقل، وأحكام الدين لا تصدر عن العقل، وعلى بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:"لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"
(4)
؛ لأن أسفل الخف
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 539) قال: "إنما تصح مساقاة شجر
…
فهي مصب الحصر فلا ينافي ما يأتي له من أنها تكون في الزرع والمقثأة ونحوهما، وإن بعلًا، وهو ما يشرب بعروقه من نداوة الأرض ولا يحتاج لسقي؛ لأن احتياجه للعمل يقوم مقام السقي، ذي ثمر أي بلغ حد الإثمار بأن كان يثمر في عامه، سواء كان موجودًا وقت العقد أم لا
…
لم يحل بيعه عند العقد أي لم يبد صلاحه إن كان موجودًا فإن بدا صلاحه، وهو في كل شيء بحسبه لم تصح مساقاته لاستغنائه، ولم يخلف
…
أي شجر ذي ثمر وشجر لم يخلف، فإن كان يخلف لم تصح مساقاته".
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 554) قال: "المساقاة
…
دفع أرض وشجر مغروس، معلوم للمالك والعامل برؤية أو صفة لهما
…
بعلًا وهو الذي يشرب بعروقه، أو سقيًا وهو الذي يحتاج إلى سقي
…
له ثمر مأكول لمن يعمل عليه أي على الشجر ويقوم بمصلحته".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 110) قال: "قال أبو ثور: والمساقاة في النخل جائزة، وكذلك الشجر، والكرم، وكل شيء له أصل قائم بما يقام عليه، ويسقى، ويكسح، ويلقح".
(4)
أخرجه أبو داود (162) وغيره، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال:"لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(103).
هو الذي يتعرض للأرض، ولبعض القاذورات وغيرها، أما أعلاه فهو نظيف، فكيف يمسح؟!
فالأمر إذًا تعبُّدي، توقيفي، لا يدركه العقل، فكيف تحكمون العقل؟! وهذه مسألة طويلة، والكلام فيها معروف
(1)
، وهذه دعوى غير مسلمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل بالقياس، وكذلك عمل به الخلفاء واشتهر من الصحابة من عمل بالقياس، كعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ فَقَطْ)
(2)
.
الكرم هو العنب وقلت: إن علة ذلك وجود تشابه بينهما، الخرص فيهما، ووجوب الزكاة، كون كل منهما غذاء؛ لأنَّ العنب
…
يتخذ في بعض البلاد غذاء، بل ربما يقتصر الإنسان عليه لو لم يجد طعامًا غيره، وإن كان لا يصل إلى درجة الرطب أو التمر في كونه غذاء؛ لكنه يتخذ غذاء، حتى ذكر بعض الأطباء السابقين أن الإنسان لو مكث فترة من الزمن لا يأكل إلا العنب، فإنه علاج لكافة الأمراض وبعض الناس جربه، لكنه يحتاج إلى جلدٍ وصبرٍ، والمهم أن الإنسان إن لم يجد إلا العنب أو الزبيب وتغذى عليه، فإنه يحفظه، يحفظ عليه حياته.
• قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ فِي كُلِّ أَصْلٍ ثَابِتٍ كالرُّمَّانِ، وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)
(3)
.
هذا التفصيل الذي يذكره المؤلف فيه خلاف في المذهب المالكي، لكن نحن نقول: عند الإمامين مالك وأحمد تجوز المساقاة في كل شجر
(1)
انظر: "المستصفى" للغزالي (ص 283)، و"روضة الناظر" للموفق ابن قدامة (2/ 77)، و"الأشباه والنظائر" للسبكي (2/ 174).
(2)
تقدم نقله.
(3)
تقدم نقله.
له ثمر، أما الأشياء الأخرى من البقول ونحوها، فهذه فيها خلاف بين العلماء، وقد اضطرب المؤلف في هذا كما سنبينه.
وقال مالك؛ تجوز في كل أصل ثابت؛ كالرمان والتين والزيتون؛ لأن هذه أشجار.
• قوله: (وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَتَكُونُ فِي الْأُصُولِ غَيْرِ الثَّابِتَةِ كَالْمَقَاثِئِ، وَالْبطِّيخِ).
هذه فيها خلاف عند المالكية
(1)
، والمقاثئ هي القثاء والخيار، وكذلك البطيخ بجميع أنواعه، سواء منه الأحمر أو الأصفر أو الأبيض، الذي نسميه الجح أو غير ذلك، هذا كله يدخل تحت مسمى البطيخ، كذلك أيضًا الدباء ونحو ذلك.
• قوله: (وَتَكُونُ فِي الْأُصُولِ غَيْرِ الثَّابِتَةِ كالْمَقَاثِئِ، وَالْبِطِّيخِ مَعَ عَجْزِ صَاحِبِهَا عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ
(2)
).
كأنه قيدها بعجز صاحبها عنها.
(1)
قال ابن عبدوس: "القياس عندي في ألا تجوز مساقاة الزرع
…
قال مالك: فإن ساقاه قصب السكر، فجائز إذا ظهر وعجز عنه صاحبه، ولا يجوز أن يشترط خلفته، وكل ما يجذ أصله، مثل الموز والقصب
…
فلا يجوز سقاه وإن عجز عنه ربه. محمد: كذلك اللفت والبصل، والأصول المغيبة مما لا يدخر وهو كالبقل. وقاله ابن عبد الحكم، وهو أحب إلينا، وقد اختلف فيه، قال: وإذا كان في الحائط أنواع مختلفة، فحل بيع بعضها، وباقيه لم يحل بيعه، ولم يتم فجمع ذلك كله في المساقاة، فإن كان ما أزهى الأقل في الحائط، جازت المساقاة، وإن كثر، لم تجز، ولا فيه ولا في غيره، وإن ساقاه نخلًا وفيها شجر من رمان أو عنب قد طاب، فإن كانت لزيقة النخل، وتشرب معها، فجائز". انظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 298).
(2)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 298): "قال في رواية ابن وهب، عن مالك في الزرع يعجز عنه ربه، فيساقيه: أرجو أن يكون خفيفًا، وليس بـ "الموطأ": كالنخل، وقال أيضًا: جائز. وقال ابن أبي سلمة: وكذلك المقتاة، وقصب السكر. وقال في المقتاة في رواية أشهب: إنما سمعت ذلك في الزرع يعجز عنه ربه".
• قوله: (وَلَا تَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْبُقُولِ عِنْدَ الْجَمِيعِ)
(1)
).
هنا قيل: ولا تجوز في شيء من البقول. وبعد بحث قليل سيقول: وقال الجمهور بجواز البقول، وسنعرف هناك أي القولين أصح.
• قوله: (إِلَّا ابْنَ دِينَارٍ، فَإِنَّهُ أَجَازَهَا فِيهِ إِذَا نَبَتَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْتَغَلَّ
(2)
. فَعُمْدَةُ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى النَّخْلِ: أَنَّهَا رُخْصَةٌ).
قال أهل العلم: الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر، ولم يكن في مزارعهم ولا بساتينهم إلا النخل، مع أن الحديث فيه:"فيما يخرج فيها من ثمر أو زرع"
(3)
فعمم؛ فكلمة ثمر أشمل من كلمة نخل، وكلمة زرع أيضًا أضافت شيئًا جديدًا، فهذا في "الصحيحين".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (11/ 515) قال: "وفي "الجواهر": أركان المساقاة أربعة؛ الأول: متعلق العقد، وهي الأشجار، وسائر الأصول المشتملة على شروط؛ وهي أن تكون مما يجيء ثمرته ولا تخلف، واحترزنا به عن الموز، والقصب، والقرظ، والبقل؛ لأنه بطن بعد بطن، وجزء بعد جزء".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 541، 542) قال: "فتصح مساقاة
…
بشروط خمسة؛ الأول:
…
أن يكون مما لا يخلف؛ أي: بعد قطعه، فلا يجوز في القضب
…
والقرط
…
والبقل كالكراث، وكذا البرسيم فإنه يخلف، وقد علمت أن معنى الإخلاف هنا غير معناه في الشجر".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (5/ 150) قال: "القسم الثاني: ما لا ساق له، كالبطيخ، والقثاء، وقصب السكر، والباذنجان، والبقول التي لا تثبت في الأرض ولا تجز إلا مرة واحدة، فلا تجوز المساقاة عليها، كما لا تجوز على الزرع. فإن كانت تثبت في الأرض وتجز مرة بعد مرة، فالمذهب المنع. وقيل: وجهان: أصحهما: المنع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 533) قال: "ولو ساقاه على ما يتكرر حمله من أصول البقول والخضراوات كالقطن الذي يؤخذ مرة بعد أخرى، وكالمقاثي من نحو بطيخ وقثاء، وكالباذنجان ونحوه لم تصح؛ لأن ذلك ليس بشجر وتصح المزارعة عليه".
(2)
ينظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (12/ 166) قال: "وظاهر قول ابن دينار أن المساقاة في البقل قبل أن يحل بيعه إذا عجز عن عمله جائزة، وإن اشترط خلفه".
(3)
تقدم تخريجه.
• قوله: (فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَدَّى بِهَا مَحِلَّهَا الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ السَّنَةُ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَأَى أَنَّهَا رُخْصَةٌ يَنْقَدِحُ فِيهَا سَبَبٌ عَامّ، فَوَجَبَ تَعْدِيَةُ ذَلِكَ إِلَى الْغَيْرِ).
بل لفظ الحديث: "من زرع أو ثمر".
• قوله: (وَقَدْ يُقَاسُ عَلَى الرُّخَصِ عِنْدَ قَوْمٍ إِذَا فُهِمَ هُنَالِكَ أَسْبَابٌ أَعَمُّ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عُلِّقَتِ الرُّخَصُ بِالنَّصِّ بِهَا، وَقَوْمٌ مَنَعُوا الْقِيَاسَ عَلَى الرُّخَصِ، وَأَمَّا دَاوُدُ فَهُوَ يَمْنَعُ الْقِيَاسَ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَالْمُسَاقَاةُ عَلَى أُصُولِهِ مُطَّرِدَةٌ).
يحني يمنع القياس جملة وتفصيلًا، فأهل الظاهر لا يرون القياس، مع أن الله تعالى يقول:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} والاعتبار هو نوع من المقايسة، وعد العلماء ذلك دليلًا من الكتاب، والرسول صلى الله عليه وسلم قاس في قصة الرجل الذي جاءه وقال بأن امرأته ولدت غلامًا يخالف لون أبيه وأمه
(1)
، وفعل الصحابة رضي الله عنه، والقياس الصحيح لا يعارض نصًّا، ولا يعارضه نص صريح؛ لأنه يلتقي مع الفطرة، وهذا الدين إنما هو دين الفطرة؟ فطرة الله التي فطر الناس عليها.
ومعلومة قصة الجارية التي أحضرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء بها الصحابي ليعتقها، فسألها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها:"أين الله؟ ". قالت: في السماء. قال له: "أعتقها؟ فإنها مؤمنة"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (7314)، ومسلم (1500) عن أبي هريرة: أن أعرابيًّا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"هل لك من إبل؟ ". قال: نعم. قال: "ما ألوانها؟ ". قال: حمر. قال: "فهل فيها من أورق؟ ". قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنى هو؟ ". قال: لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق له. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "وهذا لعله يكون نزعه عرق له".
(2)
أخرجه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي قال: وكانت لي جارية ترعى =
ولذلك يقول العلماء: لو ذهبت إلى إنسان أو جارية عاشت في الصحراء ولا تعلم شيئًا، فلم تتعلم ولم تلتق بأحد عنده علم، وسئلت: أين الله؟ لقالت: في السماء. وذلك بفطرتها، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه"
(1)
ولم يقل: أو يسلمانه؛ لأنه هو بفطرته مسلم؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} .
• قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّمَا أَجَازَهَا فِي الْكَرْمِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمُسَاقَاةِ هُوَ بِالْخَرْصِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ الْحُكْمُ بِالْخَرْصِ قِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ).
هذا الحديث سبق ذكره في البيوع، عندما تكلمنا عن الخرص، والحديث تكلم فيه العلماء وورد من عدة طرق؛ لكنه في الجملة حديث صحيح.
وقد رواه أصحاب السنن
(2)
وأحمد
(3)
، وهو حديث صحيح.
= غنمًا لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال:"ائتني بها". فأتيته بها، فقال لها:"أين الله؟ ". قالت: في السماء. قال: "من أنا؟ ". قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة".
(1)
أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658) عن أبي هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ".
(2)
أخرجه أبو داود (1603)، والنسائي (2618)، وابن ماجه (1819) عن عتاب بن أسيد قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب، كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا"، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود".
(3)
لم أقف عليه عند أحمد.
• قوله: (وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ).
يعني: مر بنا في الزكاة.
• قوله: (فَكَأَنَّهُ قَاسَ الْمُسَاقَاةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الزَّكَاةِ).
قد ذكرت قبل وجه الشبه بين شجر النخيل وبين شجر الكرم، وبين ثمرة هذا وبين ثمرة هذا.
• قوله: (وَالْحَدِيثُ الَّذِي وَرَدَ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ هُوَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُصَ الْعِنَبَ وَتُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا، كمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا". وَدَفَعَ دَاوُدُ حَدِيثَ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ لِأَنَّهُ مُرْسَل).
هذا الطريق الذي ذكره المؤلف مرسل صحيح، وقد وُصِل هذا الحديث فهو حديث صحيح، وحجة
(1)
.
• قوله: (وَلِأنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ).
عبد الرحمن بن إسحاق خَرَّج له مسلم في "صحيحه"، كما هو معلوم
(2)
، ولم ينفرد به كما ادعى المؤلف بل وافقه غيره عليه
(3)
، وجاء من عدة طرق، ونحن لا ندخل في تفصيلات الأحافى يث وفي بيانها؛ لأننا لو دخلنا في ذلك لأخذ منا وقتًا طويلًا، وهذا موضوع علم الحديث، لكن قوله:"رواه عبد الرحمن بن إسحاق" فقد أورده مسلم في صحيحه. هذه واحدة.
الأمر الآخر: أنه لم ينفرفى به، فهناك من وافقه، فزالت هذه الدعوى
(1)
تقدم تخريجه موصولًا.
(2)
عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث: صدوق رمي بالقدر من السادسة. يُنظر: "تقريب التهذيب"(3800).
(3)
تابعه عليه محمد بن صالح التمار عند أبي داود (1604)، والترمذي (644)، وسأذكر حكم الألباني عليه في التعليق التالي.
أو هذه العلة القادحة التي ذكرها المؤلف، فالحديث حجة، وهو صحيح
(1)
.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ مَعَ النَّخْلِ أَرْضٌ بَيْضَاءُ أَوْ مَعَ الثِّمَارِ).
هذه هي الإشارة إلى المزارعة التي ذكرتها قبل، ولذلك لم يعقد لها بابًا، ولو نظرنا في بعض الكتب ككتاب "المغني" أو "المجموع" أو غيرهما لوجدنا أنها قد بحثت بحثًا لا يقل عن المساقاة؛ لأن المزارعة هي أن يدفع إنسان أرضًا إلى آخر؛ ليقوم بزرعها على جزء معلوم من الثمر
(2)
، وفي المساقاة يكون الشجر قائمًا لكنه غير مثمر، فيعطيه شخصًا، وهناك أرض بيضاء لكنها أرض زراعية صالحة للزراعة، فيسلمها لآخر على أن يقوم بحرثها وسقيها - سيأتي الكلام عن البذر وعلى من يكون - ثم يكون الثمر بينهما على ما يتفقان عليه. وسيأتي أيضًا أن المزارعة صحيحة، ومالك خالف في المزارعة، فانضم إلى أبي حنيفة؛ فأبو حنيفة يمنع المساقاة والمزارعة، ومالك لا يرى المزارعة، والشافعي يراها لكن مع غيرها من الثمر لا منفصلة، والإمام أحمد وعلماء الحديث وأكثر العلماء يرون أن المزارعة صحيحة، ودليلهم هو الأدلة التي جاءت في خيبر.
• قوله: (هَلْ يَجُوزُ أَنْ تُسَاقَى الْأَرْضُ مَعَ النَّخْلِ بِجُزْءٍ مِنَ النَّخْلِ، أَوْ بِجُزْءٍ مِنَ النَّخْلِ وَبِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ؛ فَذَهَبَ إِلَى
(1)
ليست علة الحديث تفرد عبد الرحمن بن إسحاق كما ذهب الشارح؛ بل العلة كما قال أبو داود عقيب الحديث: قال أبو داود: سعيد لم يسمع من عتاب شيئًا، وقال الألباني في "الإرواء" (3/ 283):"عبد الرحمن بن إسحاق المتابع للتمار هو العامري القرشي، وهو حسن الحديث، وفي حفظه ضعف كالتمار، فوصلهما للإسناد مع إرسال أولئك الثقات له مما لا تطمئن النفس لقبوله".
(2)
المزارعة: معاقدة دفع الأرض إلى من يزرعها على أن الغلة بينهما على ما شرطا. يُنظر: "طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية" للنسفي (ص 149).
جَوَازِ ذَلِكَ طَائِفَةٌ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ
(1)
، وَاللَّيْثُ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(4)
، وَجَمَاعَةٌ
(5)
.
وعلماء الحديث أكثر العلماء الذين قالوا بالجواز.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(6)
وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(7)
: لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلَّا
(1)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء"(4/ 21) قال: "وأبو يوسف ومحمد:
…
تجوزان جميعًا، وقال محمد: لا تجوز المزارعة في الأرض البيضاء، وتجوز المساقاة في أصل نخل وكرم ورمان وما أشبهه، وتجوز المزارعة في الأرض البيضاء بين النخل على وجه التبع، وتجوز أن يساقيه النخل وعلى أن يزرع الأرض والخارج من الأرض أو بينهما؛ لأنها تبع، وإنما تجوز إذا كانت الأرض التي بين النخل الثلث والنخل الثلثين ونحوه".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 22) قال: "والليث لا يجيزها، ويجيز المساقاة".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 240) قال: "من زارع أو أجر شخصًا أرضًا وساقاه على شجر بها صح؛ لأنهما عقدان يجوز إفراد كل منهما، فجاز الجمع بينهما كالبيع والإجارة، وسواء قل بياض الأرض أو كثر نصًّا، ما لم يكن ذلك حيلة على بيع الثمرة قبل وجودها أو بدو صلاحها، ومعها أي: الحيلة إن جمعهما، أي: الإجارة والمساقاة في عقد واحد، فتفريق صفقة فيصح في الإجارة ويبطل في المساقاة".
(4)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 21) قال: "وقال ابن أبي ليلى والثوري:
…
تجوزان جميعًا".
(5)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 22) قال: "يقول الأوزاعي والحسن بن حي: تجوز المزارعة".
(6)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 247، 248) قال: "فلو كان بين النخل أو العنب بياض، أي أرض لا زرع فيها ولا شجر - صحت المزارعة عليه مع المساقاة على النخل أو العنب تبعًا للمساقاة؛ لعسر الإفراد
…
بشرط اتحاد العامل؛ أي لا يكون من ساقاه غير من زارعه، وإن كان متعددًا؛ لأن إفرادها بعامل يخرجها عن التبعية، وعسر
…
ويؤيد ذلك قوله الآتي: وإن كثير البياض كقليله
…
إقرار النخل بالسقي وإفراد البياض بالعمارة أي الزراعة؛ لأن التبعية إنما تتحقق حينئذٍ بخلاف تعسر أحدهما ".
(7)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 211) قال: "ولا يحل في زرع الأرض إلا أحد ثلاثة =
فِي الثَّمرِ فَقَطْ. وَأَمَّا مَالِكٌ
(1)
فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ تَبَعًا لِلثَّمَرِ، وَكَانَ الثَّمَرُ أَكْثَرَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهَا فِي الْمُسَاقَاةِ).
قصده أن الشافعي قال: لا تجوز إلا تبعًا للمساقاة، لا منفردة، فأجمل المؤلف وكلامه يوهم؛ يعني إذا كانت تبعًا للمساقات فهي جائزة، أما إذا انفردت فلا، وكونها منفردة هو الذي قال به أحمد ومن معه من أهل العلم.
• قوله: (اشْتَرَطَ جُزْءًا خَارِجًا مِنْهَا، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَحَدُّ ذَلِكَ الْجُزْءِ بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ فَمَا دُونَهُ؛ أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ كِرَاءِ الْأَرْضِ الثّلثَ مِنَ الثَّمَرِ فَمَا دُونَهُ).
وسنرى أن المؤلف سيضعف هذا التحديد، مع أنه رأي مذهبه.
= أوجه: إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه. وإما أن يبيح لغيره زرعها، ولا يأخذ منه شيئًا، فإن اشتركا في الآلة والحيوان، والبذر، والأعوان دون أن يأخذ منه للأرض كراء فحسن. وإما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء، ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى منها مسمى، إما نصف، وإما ثلث، أو ربع، أو نحو ذلك أكثر أو أقل، ولا يشترط على صاحب الأرض ألبتة شيء من كل ذلك، ويكون الباقي للزارع قل ما أصاب أو كثر، فإن لم يصب شيئًا فلا شيء له، ولا شيء عليه، فهذه الوجوه جائزة، فمن أبي فليمسك أرضه".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 542، 543) قال: "وكبياض نخل الأولى شجر
…
أو زرع تجوز مساقاته؛ أي إدخاله في عقد المساقاة، سواء كان منفردًا على حدة أو كان في خلال النخل أو الزرع، بشروط ثلاثة
…
إن وافق الجزء في البياض الجزء في الشجر أو الزرع، فإن اختلفا لم يجز
…
وكان كراء البياض ثلثًا فدون بالنظر إليه مع قيمة الثمرة بإسقاط كلفة الثمر كأن يكون كراؤه منفردًا مائة وقيمة الثمرة على المعتاد منها بعد إسقاط ما أنفقه عليها مائتان، فقد علم أن كراءه ثلث، وإلا بأن اختل شرط من الثلاثة فسد العقد؛ كاشتراطه ربه أي رب الحائط البياض اليسير لنفسه؛ أي ليعمل فيه لنفسه فلا يجوز ولفسد؛ لنيله من سقي العامل، فهي زيادة اشترطها على العامل".
• قوله: (وَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَشْتَرِطَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاضَ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ ازْدَادَهَا عَلَيْهِ).
هذه هي المزارعة، والمؤلف أدخلها في المساقات، وكان الأولى به اتباعًا لغيره من الفقهاء الذين سبقوه أن يفردها في كتاب، أو على الأقل في باب أو فصل، لكنه أشار إليها إشارة يسيرة؛ وسبب ذلك أن المالكية لا يرون المزارعة مستقلة.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ الْمُسَاقَاةَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا (أَعْنِي: عَلَى الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا): حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ
(1)
(.
وقد مر، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر، فيصلح للمساقاة، ويصلح للمزارعة.
• قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ كرَاءِ الْأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا).
قيل: هذا نوع من كراء الأرض، يدفعها إلى من يزرعها مقابل جزء مما يخرج منها، وبينا أن هذا الحديث له عدة تأويلات، وبينا تفسيراته فيما مضى.
• قوله: (فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه
(2)
).
وقد تقدم أيضًا هذا الحديث، وهو حديث متفق عليه، لكن أجاب عنه العلماء بعدة أجوبة كما أشرنا إلى ذلك عندما وازنا بينه وبين حديث عبد الله بن عمر، وأن عبد الله بن عمر عندما بلغه حديث رافع بن خديج
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
قال: كنا نخابر أربعين سنة حتى زعم رافع بن خديج
…
وذكر الحديث
(1)
.
وهذا تقدم الحديث عنه، وهو دليل أبي حنيفة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض بما يخرج منها، ونهى صلى الله عليه وسلم عن المخابرة
(2)
، وهذا هو الحديث، وتفسيره كراء الأرض بما يخرج منها، وقد ذكرنا جواب جمهور العلماء عنه، وقد أجازوا المساقاة، وبينوا أن عبد الله بن عمر راوي الحديث المتفق عليه في المساقاة لم يذكر أنه رجع عندما بلغه حديث رافع بن خديج.
• قوله: (وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَحَادِيثُ رَافِعٍ مُضْطَرِبَةُ الْأَلْفَاظِ)
(3)
.
هذا مما ذكر عن الإمام أحمد، لكن ذكر العلماء لها عدة تأويلات أجابوا بها عنه؛ لأنه في بعض روايات رافع بن خديج أنهم كانوا يكرون بعض الأرض للعامل وبعضها يبقى لصاحب الملك؛ أي: للمالك، فربما أخرجت هذه ولم تخرج تلك، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
(4)
.
ومن ذلك أيضًا قوله "طاوس": كان أعلمهم - يعني عبد الله بن عباس - وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه. يعني عن كراء الأرض أو الأرضين، ثم بين ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا" وهو حديث صحيح
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 71) قال: "قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، فقال: رافع يروى عنه في هذا ضروب، كأنه يريد أن اختلاف الرواية عنه يوهن ذلك الحديث". وينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 233).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
• قوله: (وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ. وَأَمَّا تَحْدِيدُ مَالِكٍ ذَلِكَ بِالثُّلُثِ فَضَعِيفٌ).
معلوم أن مالكًا حدَّد ذلك بالثلث، ومر بنا مثل ذلك في مسائل عدة، ولا شك أن الثلث اعتبر في مسائل ورد فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر في الوصية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة سعد قال له في الوصية:"الثلث، والثلث كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس"
(1)
، فهل ورود الثلث في عدة مسائل جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أحاديث يعد أصلًا يلحق به غيره؟ أو أن ذلك لا بدَّ له من دليل في كل مسألة يحدد فيها كالوصية؟ ومر بنا كذلك اعتبار الثلاثة أيام، كما في المسح
(2)
، وأن رسول الله أذن للمهاجرين أن يمكثوا بمكة ثلاثة أيام
(3)
، وغير ذلك من المسائل الكثيرة.
• قوله: (وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِ الْأُصُولِ).
هذا كلام جيد من المؤلف؛ فإنه - كما قلنا - ليس متعصبًا، وهذا هو المسلك الرشيد، والطريق السوي الذي ينبغي أن يسير عليه كل طالب علم، ينبغي أن يكون هدفه هو الوصول إلى الحق، وأن يكون سنده في
(1)
أخرجه البخاري (2742)، ومسلم (1628) عن سعد بن أبي وقاص قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال:"يرحم الله ابن عفراء". قلت: يا رسول الله، أوصي بمالي كله؟ قال:"لا". قلت: فالشطر؟ قال: "لا". قلت: الثلث؟ قال: "فالثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة، فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى فِي امرأتك، وعسى الله أن يرفعك، فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون"، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة.
(2)
أخرجه أبو داود (157) عن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(الأم)(1/ 278).
(3)
أخرجه مسلم (1352) عن العلاء بن الحضرمي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة".
ذلك هو أدلة الكتاب والسُّنة، فمتى جاء دليل من الكتاب والسنة يؤيد رأيًا أخذ به، ولو خالف رأي مذهبه وقوله إمامه، فهذا هو الحق.
وقد مرت بنا عشرات المسائل، نجد أنه يأخذ على مذهب مالك الذي نشأ وترعرع فيه، ونقده للمذهب ليس تقليلًا من شأن المذهب، فهو من المذاهب المعروفة، وإمامه إمام دار الهجرة، وكانت تضرب إليه أكباد الإبل، لكن هذا هو الإنصاف الذي ينبغي أن يتحلى به طالب العلم، كما ينبغي أن يتجنب التعصب في كل أمر، ويأتي في مقدمة ذلك التعصب للباطل في أمر العقيدة.
• قوله: (لِأَنَّ الْأُصُولَ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْجَائِزِ مِنْ غَيْرِ الْجَائِزِ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ).
نعم قد يتسامح في القليل النزر، كما رأينا ذلك في الجهالات التي مرت بنا في البيوع وفي الإجارة ربما تغتفر، وكذلك ما لا يدركه الطرف مما ينقله الذباب أو غيره، ومثله ما يحدث بالنسبة للذرة أو القمح عندما تدوسه الدواب، فإنه ربما يحصل شيء من ذلك، فهذه أمور استثنيت؛ لأنها أمور لا تدرك، أو خففت فيها الشريعة الإسلامية تيسيرًا على الناس، ولله الحمد.
• قوله: (وَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمُسَاقَاةِ فِي الْبَقْلِ).
هذه مسألة اضطرب فيها المؤلف ثلاث مرات، فذكر مرة - كما سبق - أنه لم يجزها إلا ابن دينار - يقصد عمر بن دينار - وهنا عد الجواز مذهب الجمهور، وسيأتي بعد ذلك أن القوله بالمساقاة في البقوله - وهي جمع بقل - لم يأخذ به إلا قلة من العلماء، فكلامه غير منتظم، وهو محل نظر، فينبغي أن يحرر.
والبقل ما له بذر يبذر في الأرض فينتج عنه
(1)
، والبقول كثيرة جدًّا، مثل الفاصوليا واللوبيا والفول، وغير ذلك كثير جدًّا، هذا البذر الذي
(1)
"بذر": أول ما يخرج من الزرع والبقل والنبات. وقيل: هو ما عزل من الحبوب للزرع والزراعة. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 50)، و"تاج العروس" للزبيدي (10/ 145).
تضعه في الأرض ثم تتعهده بالسقي والرعاية والمتابعة إذا أنبت، هل هذا فيه مساقاة أو لا؟ فيه خلاف.
• قوله: (فَأَجَازَهَا مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ
(2)
).
الحقيقة أن كلام المؤلف غير دقيق في هذه المسألة، فالشافعي لم يجز ذلك، ومثله الإمام أحمد
(3)
، وكذلك الإمام مالك اختلف القول عنه، فروي عن المالكية جواز ذلك، بل نص ابن عبد البر - وهو من كبار علماء المذهب - نقلًا عن الإمام مالك، أنه لا يرى ذلك
(4)
، ونقل عن الإمام مالك ما يدل على الجواز
(5)
، وأبو حنيفة عرفنا رأيه؛ فهو لا يرى المساقاة ولا المزارعة أصلًا
(6)
، فقوله قد انتهى وعرف، يبقى الأئمة الثلاثة،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 541، 542) قال: "فتصح مساقاة
…
بشروط خمسة: الأول
…
أن يكون مما لا يخلف أي بعد قطعه فلا يجوز في القضب
…
والقرط
…
والبقل كالكراث، وكذا البرسيم فإنه يخلف، وقد علمت أنَّ معنى الإخلاف هنا غير معناه في الشجر".
(2)
الشافعية لم يجيزوها كما قال المؤلف، ينظر:"روضة الطالبين" للنووي (5/ 150) قال: "القسم الثاني: ما لا ساق له، كالبطيخ، والقثاء، وقصب السكر، والباذنجان، والبقول التي لا تثبت في الأرض ولا تجز إلا مرة واحدة، فلا تجوز المساقاة عليها، كما لا تجوز على الزرع. فإن كانت تثبت في الأرض وتجز مرة بعد مرة، فالمذهب المنع. وقيل: وجهان. أصحهما: المنع".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 533) قال: "ولو ساقاه على ما يتكرر حمله من أصول البقول والخضراوات كالقطن الذي يؤخذ مرة بعد أخرى، وكالمقاثي من نحو بطيخ وقثاء، وكالباذنجان ونحوه لم تصح؛ لأن ذلك ليس بشجر وتصح المزارعة عليه".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 42) قال: "قال مالك: ولا تجوز المساقاة في كل ما يجنى ثم يخلف نحو القصب والموز والبقول؛ لأن بيع ذلك جائز، وبيع ما يجنى بعده".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 42، 43) قال: "قال مالك: وتجوز المساقاة في الزرع إذا استقل على وجه الأرض، وعجز صاحبه عن سقيه، ولا تجوز مساقاته إلا في هذه الحال بعد عجز صاحبه عن سقيه. قال مالك: لا بأس بمساقاة القثاء والبطيخ إذا عجز عنه صاحبه، ولا تجوز مساقاة الموز والقصب بحال".
(6)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 21) قال: "قال أبو حنيفة وزفر رحمهما الله: لا تجوز المزارعة ولا المساقاة".
فالإمامان الشافعي وأحمد وقوله للإمام مالك أنها لا تجوز في البقول، ومن العلماء من أجاز ذلك؛ إذن هو ليس قول الجمهور، بل العكس هو قوله الجمهور؛ فإن الجمهور يمنع ذلك.
• قوله: (وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
(1)
. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الْبَقْلِ
(2)
).
هذا الذي قال به الليث هو رأي الجمهور، وسيذكر علة مذهب الجمهور.
• قوله: (وَإِنَّمَا أَجَازَهَا الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا سَقْيٌ فَيَبْقَى عَلَيْهِ أَعْمَالٌ أُخَرُ، مِثْلُ الإِبَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا اللَّيْثُ فَيَرَى السَّقْيَ بِالْمَاءِ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْمُسَاقَاةُ، وَلمَكَانِهِ وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِيها).
أهم شيء في ذلك هو السقي، ولذلك سميت بالمساقاة، ويتبع ذلك كل ما يحتاج إليه من العمل، وكذلك الجذاذ والحصد وغير ذلك، وسيذكر المؤلف ذلك بعد.
• قوله: (الرُّكْنُ الثَّانِي:
وَأَمَّا الرُّكْنُ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ).
وهذا مهم جدًّا؛ لأن هذا الركن يحدد فيه واجب العامل، وواجب المالك؛ المساقي والمساقى له، فما الذي يجب على هذا؟ وما الذي يجب على ذاك؟
(1)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 21) قال: "وقال ابن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله: تجوزان جميعًا".
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 22)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 42).
هل هناك أمور محددة يلزم أن يقوم بها المالك وأخرى لا بد أن يأتي بها العامل؟ وهل للشرط تأثير في ذلك؟
هل للمالك أن يشترط بعض الأمور؛ ليقوم بها العامل، وهي أصلًا مما يقوم به المالك؟ وهل يصح عكس ذلك؟ هذه مسائل مهمة جدًّا، وسيذكرها المؤلف بشيءٍ من التفصيل.
• قوله: (فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ بِالْجُمْلَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ هُوَ السَّقْيُ وَالْإِبَارُ)
(1)
).
(1)
بعض العلماء يفصل فيها، والبيع يجمل القول فيها:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين الدر المختار"(6/ 286) قال: " (قوله إلى من يصلحه) بتنظيف السواقي والسقي والتلقيح والحراسة وغيرها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 54) قال: "وعمل العامل وجوبًا جميع ما يفتقر الحائط إليه عرفًا، ولو بقي بعد مدة المساقاة كإبار، وهو تعليق طلع الذكر على الأنثى، وتنقية لمنافع الشجر ودواب، وأجراء يصح تسليط عمل عليهما بالتضمين؛ أي: لتضمنه معنى لزم؛ أي: يلزمه الإتيان بهما إن لم يكونا في الحائط، ويصح أن يقدر لهما عامل يناسبهما، أي: وحصل الدواب والأجراء قال فيها، وعلى العامل إقامة الأدوات كالدلاء والمساحي والأجراء والدواب".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 256، 257) قال: "وعلى العامل بنفسه أو نائبه عمل ما يحتاج إليه لصلاح الثمرة واستزادته مما يتكرر كل سنة كسقي إن لم يشرب بعروقه، ويدخل في السقي توابعه
…
وتنقية نهر؛ أي مجرى الماء من طين وغيره، وإصلاح الأجابين؛ وهي الحفر حول النخل التي يثبت فيها الماء
…
وتلقيح
…
وتنحية؛ أي إزالة حشيش ولو رطبًا
…
وقضبان مضرة
…
وتعريش جرت به عادة
…
وكذا حفظ الثمر على الشجر من سراق وطير وزنبور، فإن لم يتحفظ به لكثرة السراق أو كبر البستان فالمؤنة عليه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 567) قال: "وعلى عامل
…
كل ما فيه نمو أو صلاح لثمر وزرع من سقي بماء حاصل لا يحتاج إلى حفر بئر ولا إدارة دولاب، وإصلاح طريقه
…
وإصلاح محله بتسوية ما ارتفع من الأرض مع ما انخفض منها لتشرب العروق
…
وتشميس ما يحتاج إليه، وإصلاح موضع الشمس، وحرث وآلته وبقره وزبار
…
وهو تخفيف الكرم من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة بقطعها بمنجل ونحوه
…
وتلقيح
…
طلع الفحال في طلع =
بدأ بالعامل هنا؛ لأن العامل هو الذي يتسلم المزرعة، وهو الذي يسأل عن سقيها، فما الذي يضاف إلى ذلك؟
هناك أمور مسلمة، وأمور مختلف فيها، ثم هذه الأشجار وكذلك الزروع، تحتاج إلى عناية، وليس الأمر أن يرسل الماء فقط، فهناك أشواك تحتاج إلى إزالة، وهناك أشجار تحتاج إلى إزالة، وهناك أيضًا أغصان رديئة تحتاج إلى أن تقص وأن تبعد، وهناك أيضًا أوساخ وأتربة يجب أن تزال، وهناك أيضًا ما يؤدي إلى حفظ هذه الأشجار، ولذلك فقد أوجز بعض العلماء القول في ذلك، وهو بمثابة قاعدة، وهو قول دقيق، حيث قال بعض العلماء: كل ما كان فيه صلاح للثمرة وزيادة، فهو من اختصاص العامل. يعني كل ما يسهم ويعين على إصلاح الثمر ونمائه، فإنه يكون على العامل، وكل ما فيه حفظ للأصل فهو من اختصاص رب المال.
فتحويط المزرعة مثلًا، ووضع الأسلاك الشائكة - كما نقول الآن - وحفر الآبار، وإيصال الماء إليها والكهرباء، وإقامة الماكينات والغطاسات التي جدت الآن، هذه تعتبر أصولًا لا بدَّ منها، فمن يقوم بها هو رب المال.
وهناك أمور يكون هناك فيها صلاح للثمرة، وزيادة نماء، وفي مقدمتها سقي الأشجار، كذلك الجذاذ، والحصاد، ولقط الثمار، وتنظيف الطرق، وإخراج الماء، وحفر شراج الماء، وإزالة الأشواك، وإزالة الأغصان الرديئة من العنب، وهو ما يعبر عنه المؤلف وغيره من الفقهاء بالزبار
(1)
، وهو زَبر الكرم، ولا يختص بالأغصان الرديئة، فربما تدخل في
= التمر، وقطع حشيش مضر
…
وشجر يبس، وآلة قطع كفأس ومنجل، وتفريق زبل و
…
سباخ .. ونقل ثمر ونقل زرع ليبدر ويصطلح وحصاد ودياس ولقاط لنحو قثاء وباذنجان، وتصفية زرع وتجفيف ثمرة وحفظها على الشجر، وحفظ زرع في الجرين، إلى قسمة وإصلاح حفر أصول نخل، وتسمى الأجاجين يجمع بها الماء".
(1)
"الزِبار": تخفيف الكرم من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة بقطعها بمنجل ونحوه. يُنظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 315).
ذلك الجيدة؛ لأنه إذا قل وخفف طلع النخل، وفي الكرم يؤدي إلى جودته، ومعلوم أن النخلة التي تكثر عروقها يصغر رطبها جدًّا، وربما يكون رديئًا، وكلما قلت الأعراق وزادت العناية أدى ذلك إلى كبر الحجم ونضارته، وهذا يعرفه الذين يشتغلون بأمور الزراعة.
إذًا هناك شيء يخص العامل، وآخر يخص رب العمل، فهذا يقوم بواجبه، وهذا بواجبه.
• قوله: (هُوَ السَّقْيُ
…
).
السقي معروف؛ وهو أن توصل الماء إلى النخل وإلى الشجر أيضًا، فالعامل مسؤول عن الأحواض التي تحيط بالنخلة، وهي التي تحفر على شكل دائرة، فإنه ينقيها ويحفظها، وكلما تراكم عليها الطين والتراب والحجارة نظفها، حتى تأخذ ماء أكثر، هذا أيضًا يساعد حتى ترتوي هذه النخلة، أو هذه الشجرة.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِذَاذِ عَلَى مَنْ هُوَ؟)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 291) قال: "ما قبل الإدراك كسقي وتلقيح وحفظ فعلى العامل، وما بعده كجذاذ وحفظ فعليهما، ولو شرط على العامل فسدت اتفاقًا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 542) قال: "وأقتت المساقاة بالجذاذ؛ أي قطع الثمر ظاهره أنه لا بد أن تؤقت بالجذاذ؛ أي: يشترط ذلك، وأنها إن أطلقت كانت فاسدة
…
فالتوقيت بالجذاذ ليس شرطًا في صحتها، فالمراد أنها إذا أقتت لا يجوز أن تؤقت بزمنٍ يزيد على زمن الجذاذ عادة، يعني أنه منتهى وقتها الجذاذ سواء صرح به أو أطلق، أو قيدت بزمن يقتضي وقوع الجذاذ فيه عادة؛ احترازًا مما إذا قيدت بزمن يزيد على مدة الجذاذ فإنها تكون فاسدة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 256، 257) قال: "وعلى العامل بنفسه أو نائبه
…
جذاذه أي قطعه وتجفيفه في الأصح؛ لأنها من مصالحه، والثاني ليس عليه؛ لأن الحفظ خارج عن أعمالها، وكذا الجذاذ والتجفيف لأنهما بعد كمال الثمرة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 567، 568) قال: =
الجذاذ معروف، وهو أخذ الثمرة فقط، ويعبر عنه بالصرم أيضًا
(1)
، وهو مختلف فيمن يقوم به، هل الذي يقوم به هو المالك أم العامل؟ لا شك أن ظاهره أنه من اختصاص العامل.
• قوله: (وَفِي سَدِّ الْحِظَارِ، وَتَنْقِيَةِ الْعَيْنِ وَالسَّانِيَةِ).
الحظار
(2)
هو الذي يبنى من جريد النخل وسعفه، وليس المراد بذلك البيوت، ففرق بين الحظار وسد الحائط؛ يعني إقامة سور عليه؛ إمَّا من اللبن أو الحجارة أو الأسلاك أو غير ذلك، المهم أنه يحفظ عن الدواب حتى لا يتعدى عليه، فتكون المزرعة عرضة لأن تسلب ثمارها.
• قوله: (أَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ فِي "الْموطأ"
(3)
: السُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ الَّتِي يَجُوزُ لِرَبِّ الْحَائِطِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ سَدُّ الْحِظَارِ، وَخَمُّ الْعَيْنِ).
معنى خم العين: كنسها
(4)
، وهي لغة معروفة، ففي بعض المناطق في المملكة يقولون: خم القمامة أو خم الدار أو خم البيت بمعنى كنسه ونظفه، فإذا كان لديك فرالش عليه أتربة أو حوش أو نحو ذلك، فتنظيفه هو خمه، ومعلوم أن العيون والآبار تتراكم فيها الأتربة، فمن فترة إلى فترة تحتاج إلى تنظيف، وهذا معروف عند من يشتغلون بالزراعة، وحتى الآبار التي ليست للزراعة، فإنها تحتاج إلى تنقية، إلى تنظيف وإخراج لما فيها؛
= "وعليهما أي: العامل ورب المال بقدر حصتيهما جذاذًا
…
أي: قطع ثمرة؛ لأنه إنما يكون بقدر تكامل الثمر وانقضاء المعاملة
…
ويصح شرطه
…
على عامل نصًّا؛ لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد، فصح".
(1)
صرم النخل: جده، وأصرم النخل: حان له أن يصرم، والصرام: جداد النخل. يُنظر: "مختار الصحاح"(ص 175، 176).
(2)
الحظار والحظيرة تُعمل للإبل من شجر؛ لتقيها البرد والريح. يُنظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص 76).
(3)
يُنظر: "الموطأ"(2/ 705).
(4)
"خم العين": كنسها وتنظيفها. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 190).
لأنه ربما تتساقط على الحجارة، وربما تصل إليها بعض الأتربة وغيرها من الرياح، فهي تحتاج إلى تنظيف.
• قوله: (وَشُرْبُ الشَّرَابِ).
أي: إيصال الشراب - وهو الماء - إلى ما يحتاج إلى أن يشرب.
• قوله: (وَإِبَارُ النَّخْلِ، وَقَطْعُ الْجَرِيدِ).
إبار النخل هو ما يعرف بالتلقيح
(1)
، يؤخذ من الذكر ثم يمرر على غير الذكر، وهذا التلقيح لا بد منه والذي يقوم به هو العامل.
• قوله: (وَقَطْعُ الْجَرِيدِ).
معلوم أن الجريد أحيانًا يكون فيه غير الجيد، مصفرًّا أو يابسًا، فهذا يحتاج إلى إزالة؛ لأن إزالة الرديء منه فيها إعانة للنخلة أو الشجرة؛ لأن هذا - أيضًا - من باب ما يصلح الثمرة ويزيد في نمائها.
• قوله: (وَجَذُّ الثَّمَرِ، هَذَا وَأَشْبَاهُهُ هُوَ عَلَى الْعَامِلِ).
وجذ الثمر يعني قطعه
(2)
، وبعضهم يقول: التقاط الثمر. يعني أخْذَهُ.
• قوله: (وَهَذَا الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ دُخُولُ هَذِهِ فِي الْمُسَاقَاةِ بِالشَّرْطِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ دُخُولُهَا فِيهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ).
أكثر العلماء على أن هذا حق ثابت على العامل، كما قلنا؛ السقي، الجذاذ، اللقاح، تعبيد الطرق التي تمر بها المياه، تنظيف الساقية، أخذ الأشواك التي تقع على الأشجار، إلى غير ذلك من مثل إزالة الأغصان
(1)
"تأبير النخل": تلقيحه وإصلاحه. يُنظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص 11)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 3، 4).
(2)
"الجداد" بالفتح والكسر: صرام النخل، وهو قطع ثمرتها، يقال: جد الثمرة يجدها جدًّا. يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (1/ 244).
الرديئة التي ينبغي أن تزال، وكل ما يعين الثمرة أو الشجرة على الصلاح، فإن هذا يقوم به العامل.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ عَلَيْهِ سَدُّ الْحِظَارِ)
(1)
.
الحظار يرى الإمام الشافعي أنه لا علاقة له بصلاح الثمر؛ يعني موضوع الحظار وما يجلس فيه، هذا يختلف عن المكان الذي يعد للثمرة، إذا كان هذا الحظار قد أعد لتجمع فيه الثمرة وتنقى وتنظف أيضًا هذا مطلوب، وأيضًا إذا كانت هذه الثمرة تحتاج إلى تشميس حتى تجف كما هي الحال بالنسبة للعنب لمن أراد أن يجففه أو الرطب، فهذا أيضًا من اختصاص العامل.
• قوله: (لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ الثَّمَرَةِ مِثْلَ الْإِبَارِ وَالسَّقْيِ).
أما سد الحظار فهذا أمر داخل البستان، وأما سد الحائط أو بناء الحائط أو صيانة الحائط، فهذا المراد به ما يحفظ البستان، فهذا من اختصاص رب المال؛ أي: المالك.
• قوله: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَيْسَ عَلَيْهِ تَنْقِيَةُ السَّوَانِي وَالْأَنْهَارِ
(2)
. وَأَمَّا الْجِذَاذُ، فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
وَالشَّافِعِيُّ
(4)
: هُوَ عَلَى الْعَامِلِ؛
(1)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 257) قال: "وما قصد به حفظ الأصل ولا يتكرر كل سنة كبناء الحيطان ونصب نحو باب، أو دولاب، وفاس، ومنجل ومعول، وبقر تحرث، أو تدير الدولاب، وحفر نهر جديد فعلى المالك، فلو شرطه على العامل في العقد بطل العقد".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 32) قال: "وقال محمد في الزارعة: إذا شرط على المزارع كري الأنهار وإصلاح المسنيات كانت المزارعة فاسدة".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 49) قال: "قال مالك ما وصفنا عليه جماعة أصحابه إلا أنهم قالوا: إن اشترط المساقي على رب المال جذاذ الثمر وعصر الزيتون جاز، وإن لم يشترطه فهو على العامل، ومن اشترط عليه منهما جاز".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 256، 257) قال: "وعلى العامل بنفسه أو =
إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إِن اشْتَرَطَهُ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ جَازَ).
وهذه أيضًا رواية للإمام أحمد
(1)
.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ وَتَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ إِنْ وَقَعَ)
(2)
.
لماذا قال الإمام الشافعي: لا يجوز؟ لأن هذا من اختصاص العامل، فكيف يشترطه على رب المال؟ هذا جزء من عمله، فينبغي أن يقوم به، وعليه أن يلتزم به.
• قوله: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْجِذَاذُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
(3)
. وَقَالَ الْمُحَصِّلُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ)
يعني المحصلين في العلم، الذين وصلوا إلى رتبة في العلم والمعرفة، وليس قصده المحصلين في المزارع، بل المقصود بهم الذين لديهم دراية وفهم للعلم، وبخاصة الفهم في الفقه.
= نائبه
…
جذاذه أي قطعه وتجفيفه في الأصح؛ لأنها من مصالحه، والثاني ليس عليه لأن الحفظ خارج عن أعمالها، وكذا الجذاذ والتجفيف لأنهما بعد كمال الثمرة".
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 567، 568) قال: "وعليهما أي: العامل ورب المال بقدر حصتيهما جذاذ
…
أي: قطع ثمرة؛ لأنه إنما يكون بقدر تكامل الثمر وانقضاء المعاملة
…
ويصح شرطه
…
على عامل نصًّا؛ لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد، فصح".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 257) قال: "وكذا ما على العامل لو شرطه في العقد على المالك بطل العقد".
(3)
ينظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 31، 32) قال: "قال محمد في كتاب المزارعة: السقي والتلقيح والحفظ حتى يصير ثمرًا على العامل، فإذا بلغ الجداد فالجداد عليهما نصفان إذا كان الشرط نصفين ولو أن صاحب النخل اشترط في أصل المعاملة الجداد والحفظ بعدما يبلغ على العامل فالمعاملة فاسدة".
• قوله: (إِنَّ الْعَمَلَ فِي الْحَائِطِ عَلَى وَجْهَيْنِ).
وهذا القول الذي سيذكر هو الذي جاء أيضًا ما يشبهه تفصيلًا في مذهب أحمد. إن العمل في الحائط على وجهين؛ عمل ليس له تأثير في إصلاح الثمرة، وعمل له تأثير في إصلاحها.
• قوله: (عَمَلٌ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلَاحِ الثَّمَرَةِ، وَعَمَلٌ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلَاحِهَا. وَالَّذِي لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلَاحِهَا مِنْهُ مَا يَتَأَبَّدُ وَيَبْقَى بَعْدَ الثَّمَرِ).
نعم، مثل حفر الآبار، وتوصيل المياه والكهرباء، فهذه أمور تستمر، وهناك أمور تزول، فإن السقي ينتهي بانتهاء هذه الأشجار، وهذا إذا انتهت المساقاة.
• قوله: (وَمِنْهُ مَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الثَّمَرِ. فَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلَاحِ الثَّمَرِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُسَاقَاةِ لَا بِنَفْسرِ الْعَقْدِ، وَلَا بِالشَّرْطِ إِلَّا الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلَاحِ الثَّمَرِ وَيَبْقَى بَعْدَ الثَّمَرِ فَيَدْخُلُ عِنْدَهُ بِالشَّرْطِ فِي الْمُسَاقَاةِ لَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، مِثْلُ إِنْشَاءِ حَفْرِ بِئْرٍ، أَوْ إِنْشَاءِ ظَفِيرَةٍ لِلْمَاءِ).
" الظفيرة": هي المكان الذي يجتمع فيه الماء، وهو سيفسرها بعد قليل، والظفيرة والضفيرة تطلق على عدة معان، والمراد بهما الشيء الذي يجتمع عنده
(1)
، ومعلومة ضفيرة المرأة وكيف كانت تغتسل، في حديث أم سلمة:"تجمع ضفائرها"
(2)
، وسميت ضفيرة لأنها جمعت جملة من
(1)
"الظفيرة": عيدان تنسج وتظفر وتطين، يجتمع فيها الماء كالصهريج. انظر:"المختصر الفقهي" لابن عرفة (8/ 104)، و"تفسير الموطأ" للقنازعي (2/ 562).
(2)
أخرجه مسلم (330) عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال:"لا؛ إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين".
الشعر، فصار يطلق عليها ضفيرة. وكذلك في الحج تأخذ قدر أنملة من كل ضفيرة
(1)
، والقصد هنا: الجمع، فهذا المكان يوضع على شكل بركة أو حفرة يجتمع فيها الماء، وهو المكان الذي يجتمع عنده الماء فيصب فيه.
• قوله: (أَوْ إِنْشَاءِ غَرْسٍ، أَوْ إِنْشَاءِ بَيْتٍ يُجْنَى فِيهِ الثَّمَرُ. وَأَمَّا مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلَاحِ الثَّمَرِ، وَلَا يَتَأَبَّدُ، فَهُوَ لَازِمٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْحَفْرِ، وَالسَّقْيِ، وَزَبْرِ الْكَرْمِ، وَتَقْلِيمِ الشَّجَرِ
(2)
).
لقد نبهت مرات إلى أن من مزايا الكتب القديمة أنها تحفظ لنا أصول اللغة، فتجد أن الفقهاء في تعبيراتهم لا يختارون الألفاظ السهلة القريبة إلى الأذهان دائمًا، كما نفعل الآن في كتاباتنا، نتخير الألفاظ التي يعرفها المبتدئ، وإن وصل إلى درجة أعلى، أو حتى إلى القمة.
لكن الفقهاء المتقدمين يأتون بالألفاظ التي لا يفهمها أكثر الناس إلا بالرجوع إلى القواميس، كزبر الكرم، وكلمة ضفيرة، فما علاقة ضفيرة بالماء؟ فالضفيرة تنصرف أكثر إلى ضفيرة الشعر، فيأتون بمثل هذه العبارات التي تحتاج منا إلى وقفة، فنحن نحاول أن نفهم معناها ولفظها، وكلما أعملت فكرك وبذلت جهدك وكددت في إعمال ذهنك، فإن هذا يعينك أكثر، فيصبح العلم الذي تتعلمه سهلًا بعد ذلك، لكن إذا عودت نفسك على المسائل اليسيرة والمسهلة تعود ذهنك على هذا فأصابه الخمول والكسل، فيصعب على الإنسان أن يفهم مثل هذه العبارات.
ومن هنا يأتي الفرق بيننا وبين العلماء السابقين، فعندما تقرأ كتابات العلماء السابقين تجد فيها جزالة اللفظ، وقوة المعاني، وأما الآن فتجد الألفاظ سهلة، وربما تجد التأثر بعبارات دخيلة على اللغة العربية، فالقراءة
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 146) عن ابن عمر قال: "تجمع المحرمة شعرها، ثم تأخذ قدر أنملة".
(2)
تقدم الكلام ضمنًا على هذه الأمور فيما على العامل فعله.
في الكتب القديمة لها فوائد عدة؛ ففيها كد للذهن، وإعمال للفكر، وهذا مما يعين طالب العلم على أن يتعود فهم دقائق المسائل.
• قوله: (وَزَبْرِ الْكَرْمِ).
المراد بالزبار تخفيف الأغصان الرديئة
(1)
، إذا جئت إلى شجرة العنب الكبيرة، أو النخلة، فوجدت فيها أغصانًا رديئة فإنك تزيلها، وقد تحتاج إلى إزالة الجيد؛ لتخفف حتى تنمو هذه الشجرة وتكون أحسن مما لو كانت قد حملت حملًا ثقيلًا، فكلما خففت وجدت أن الثمرة أقوى وأنفع، سواء في العنب أو في النخل.
• قوله: (وَتَقْلِيمِ الشَّجَرِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالْجِذَاذِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ).
الأشجار تحتاج إلى عناية وتحتاج إلى قص، والمقصود بالتقليم قطعها وقطع ما لا ينفع منها، وبالنسبة لزبر الكرم فهو قطع الأغصان بمنجل أو نحوه من الآلات التي تزال بها هذه الأشياء التي تؤثر على نمو الشجرة.
فانظر إلى دقة الفقهاء رحمهم الله، فهم في الغالب ليسوا ممن يشتغلون في الزراعة؛ لأنهم تفرغوا للعلم، لكنك تجد أنهم يدققون ويتعرفون، وهم يختلفون عنا، فلا تجد أن أحدهم يصدر حكمه على قضية إلا بعد أن يعرفها ويتعلق بها، فهو يريد أن يعرف كل شيء، ولذلك ترون أنهم كانوا - كما مر في أحكام الطهارة؛ في الحيض ومسائله الدقيقة، والنفاس - يسألون النساء لخبرتهنَّ في ذلك، وفي مجال الصناعة يسألون أهل الصنعة، وفي مجال الطب يسألون أولئك أيضًا، فيأخذون رأي أهل الخبرة ممن يوثق به، فالفقيه يحتاج إلى أن يعرف ما عند أرباب الصناعات حتى يطبقها على ما عنده من العلم، فانظر كيف كان الفقهاء يدققون ويشتغلون بهذه المسائل؟!
(1)
"الزبر": تخفيف الكرم من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة بقطعها بمنجل ونحوه، زبرت الشيء: قطعته. انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع"(ص 314، 315).
والخلاصة أنه - كما قلت في المقدمة - كل ما كان فيه صلاح للثمرة وزيادة في نمائها فهذا من اختصاص العامل، وكل ما كان فيه حفظ للأصل فإن هذا من اختصاص رب المال، يحفر الآبار، ويوصل المياه، ويقيم السور على مزرعته، هذا من اختصاصه، والبذر على الرأي الصحيح من اختصاص صاحب المزرعة، إلا إذا اشترط ذلك.
• قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ فِي الْحَائِطِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْعَبِيدِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِّ الْعَامِلِ
(1)
. وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطِ الْعَامِلِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسَاقِي).
إذا كان ما في الحظائر مما له علاقة بالعمل، كالبقر أو الثيران التي تقوم بالحرث، فيرى أكثر الفقهاء أن هذا أيضًا من اختصاص العامل؛ لأن له علاقة بالحرث، والحرث من اختصاص العامل، فهو يحرث الأرض وينقيها ويصفيها، ويخرج ما فيها من الحجارة، وكل ما يعوق نمو الأشجار.
• قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْحَائِطِ
(1)
مذهب الحنفية لم أقف عليه.
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 540) قال: "ولا تصح باشتراط نقص؛ أي بإخراج من في الحائط من رقيق أو دواب كانت موجودة فيها يوم العقد، قال في الرسالة: ولا تجوز المساقاة على إخراج ما في الحائط من الدواب أو الرقيق". ومذهب الشافعية ينظر: "مختصر المزني"(8/ 224) قال: "قال الشافعي: ولا بأس أن يشترط المساقي على رب النخل غلمانًا يعملون معه، ولا يستعملهم في غيره". ومذهب الحنابلة لم أقف عليه.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 540) قال: "ولا تصح باشتراط نقص، أي: بإخراج من في الحائط من رقيق أو دواب كانت موجودة فيها يوم العقد، قال في "الرسالة": ولا تجوز المساقاة على إخراج ما في الحائط من الدواب أو الرقيق. انتهى. فالمضر شرط إخراج ما كان موجودًا، بخلاف لو أخرجها بلا شرط، ولا باشتراط تجديد على العامل، أو على رب الحائط لشيء من ذلك لم يكن موجودًا وقت العقد".
قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ. وَأَمَّا إِن اشْتَرَطَ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَائِطِ فَلَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَائِطِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
(2)
).
وهو قول أحمد أيضًا
(3)
.
• قوله: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
(4)
: لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَلَوِ اشْتَرَطَهُ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ جَازَ ذَلِكَ، وَوَجْهُ كَرَاهِيَتِهِ ذَلِكَ).
المعروف أن محمد بن الحسن لا يرى ذلك، حتى وإن اشترطه؛ لأنه يرى أن ذلك شرط ينافي مقتضى العقد، وكل شرط ينافي مقتضى العقد فإنه لا يعتد به ولا يعتبر، هذا نقل عن محمد بن الحسن، وربما كان له هذا الرأي الذي ذكره المؤلف، والله أعلم.
* * *
(1)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 224) قال: "قال الشافعي: ولا بأس أن يشترط المساقي على رب النخل غلمانًا يعملون معه، ولا يستعملهم في غيره".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 375) قال: "وقال ابن نافع ويحيى: وإذا كان في الحائط رقيق لا يدخلون إلا بشرط".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 540) قال: "ويلزم العامل
…
والحرث وآلته وبقره".
(4)
يُنظر: "الحجة على أهل المدينة" للشيباني (4/ 178، 179) قال: "إذا دفع الرجل إلى الرجل نخلًا مساقاة، واشترط عليه أن رقيقًا بأعيانهم مسمين معلومين يعملون معه من رقيق صاحب المال كانوا يعملون في ذلك النخل يوم ساقاه، أو كانوا يعملون في غيره، أو لم يكونوا يعملون في شيءٍ، فإن هذا جائز كله في جميع ما اشترط؛ لأنه اشترط رقيقًا معلومًا معروفًا".
• قوله: (مَا يَلْحَقُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْجَهْلِ بِنَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ، وَمَنْ أَجَازَهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ تَافِهٌ وَيَسِيرٌ. وَلتَرَدُّدِ الْحُكْمِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ اسْتَحْسَنَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي الرَّقِيقِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحَائِطِ فِي وَقْتِ الْمُسَاقَاةِ وَمَنَعَهُ فِي غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَنْفَعَةِ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُمَا عَلَى الْعَامِلِ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَاقَاةِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِيَدِهِ).
هناك مسألة لا أدري عرض لها المؤلف أو لا
(1)
، وهي: لو شرط العامل - كما مر في المضاربة - على رب المال أن يقدم له غلامًا من غلمانه، أو عبدًا من عبيده ليعمل معه، هل هذا جائز؟
نعم، أجاز الفقهاء ذلك.
• قوله: (وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْمُسَاقَاةِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ النَّفَقَةُ كُلُّهَا عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ وَلَيْسَ عَلَى الْعَامِلِ إِلَّا مَا يَعْمَلُ بِيَدِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ
(2)
؛ لأنَّهَا إِجَارَةٌ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ، فَهَذِهِ هِيَ صِفَاتُ هَذَا الرُّكْنِ، وَالشُّرُوطُ الْجَائِزَةُ فِيهِ وغَيْر الْجَائِزَةِ).
(1)
نعم، سبق منذ قليل الكلام عليها، ونقلت أقوال الفقهاء فيها.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 186) قال: "الشرائط المفسدة للمعاملة فأنواع
…
ومنها: شركة العامل فيما يعمل فيه؛ لأن العامل أجير رب الأرض، واستئجار الإنسان للعمل في شيء هو فيه شريك المستأجر لا يجوز
…
ولا يجوز الاستئجار لعمل فيه الأجير شريك المستأجر، وإذا عمل لا يستحق الأجر على شريكه لما عرف في الإجارات، ولا يشبه هذا المزارعة؛ لأن الأرض إذا كانت مشتركة بين اثنين دفعها أحدهما إلى صاحبه مزارعة على أن يزرعها ببذره، وله ثلثا الخارج أنه تجوز المزارعة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 546، 547) قال: "وجاز
…
إعطاء أرض لرجل ليغرس فيها شجرًا من عنده، فإذا بلغت حد الإثمار مثلًا كانت الحائط بيده مساقاة سنين سماها له أو أطلق، ثم يكون الغرس ملكًا لرب الأرض =
هذا من أهم الأركان في المساقاة والمزارعة؛ لأنه يحدد ما يخص العامل وما يخص رب المال.
• قوله:
(الرُّكْنُ الثَّالِثُ:
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَجُوزُ بِكُلِّ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَرِ، فَأَجَازَ مَالِكٌ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْعَامِلِ كَمَا فَعَلَ فِي الْقِرَاضِ،
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْحَةٌ لَا مُسَاقَاةٌ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ)
(1)
.
= كما في النص فلا يجوز، فإن نزل فسخت المغارسة ما لم يثمر الشجر، أو أثمر ولم يعمل، وللعامل أجرة مثله وقيمة ما أنفقه وقيمة الأشجار يوم غرسها، فإن أثمر الشجر وعمل لم تنفسخ المساقاة وكان له مساقاة مثله. وأما لو دخلا على أن الأرض والشجر بينهما جاز إن عين ما يغرس في الأرض وكانت مغارسة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 249) قال: "والأصح أنه لا يجوز أن يخابر تبعًا للمساقاة؛ لعدم ورود ذلك. والثاني تجوز كالمزارعة، وأجاب الأول بأن المزارعة في معنى المساقاة من حيث إنه ليس على العامل فيها إلا العمل؛ بخلاف المخابرة فإنه يكون عليه البذر والعمل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 535) قال: "ولو دفع أرضه لمن يغرسها على أن الأرض والغراس بينهما فسد، قال في المغني: ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه شرط اشتراكهما في الأصل، كما لو دفع إليه الشجر المغروس مساقاة؛ ليكون في الأصل والثمرة بينهما، أو شَرَطَا في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما فلا يصحان".
(1)
هذه ثلاث مسائل، أجملها المصنف:
فالأقوال الثلاثة في المذهب المالكي، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 545) قال: "وجاز تقايلهما ولو قبل العمل للزومها بالعقد، بخلاف القراض هدرًا؛ أي: حال كون التقايل خاليًا من شيء يأخذه أحدهما من الآخر، ومفهوم هدرًا أنه لو وقع التقايل على شيء فظاهر "المدونة" المنع مطلقًا، والمذهب قول ابن رشد: أنه إن كان بجزء مسمى من الثمرة ولم تطب جاز إن تقايلا قبل العمل اتفاقًا؛ لأنه هبة من رب الحائط للعامل، وأما بعده فأجازه ابن القاسم ومنعه أصبغ، كما لو طابت الثمرة أو كان الجزء غير مسمى، وأما لو كان التقايل بدراهم ونحوها فلا نص إلا ما يفهم من "المدونة" من المنع". =
وهذا هو الأظهر، أنها تكون منحة، كما مر في (القراض)، وعرفنا رأي أبي حنيفة
(1)
، ورأي الإمام أحمد
(2)
أنه إذا جعل الربح كله
= ومذهب الحنفية عدم الجواز، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 182، 183) قال: "المزارعة الفاسدة فأنواع
…
منها: أن الخارج يكون كله لصاحب البذر، سواء كان رب الأرض أو المزارع؛ لأن استحقاق صاحب البذر الخارج لكونه نماء ملكه لا بالشرط لوقوع الاستغناء بالملك عن الشرط، واستحقاق الأجر الخارج بالشرط وهو العقد فإذا لم يصح الشرط استحقه صاحب الملك ولا يلزمه التصدق بشيءٍ؛ لأنه نماء ملكه".
وقال الشافعية والحنابلة بالتفصيل.
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (5/ 249) قال: "فإن أفردت أرض بالزراعة فالمغل للمالك؛ لأنه نماء ملكه، وعليه للعامل أجرة عمله ودوابه وآلاته إن كانت له وسلم الزرع لبطلان العقد، ولا يمكن إحباط عمله مجانًا، أما إذا لم يسلم فلا شيء للعامل على ما أخذه من تصويب المصنف لكلام المتولي في نظيره من الشركة الفاسدة فيما إذا تلف الزرع أنه لا شيء للعامل؛ لأنه لم يحصل للمالك شيء، ورد بأن قياسه على القراض الفاسد أقرب لاتحاد البابين في أكثر الأحكام، فالعامل هنا أشبه في القراض من الشريك، وكان الفرق بين العامل والشريك أن الشريك يعمل في ملك نفسه فاحتيج في وجوب أجرته لوجود نفع شريكه؛ بخلاف العامل في القراض والمساقاة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 535، 536) قال: "ومن شرط صحة المساقاة؛ تقدير نصيب العامل بجزء مشاع من الثمرة، كالثلث والربع والخمس
…
فلو جعل رب شجر للعامل جزءًا من مائة جزء جاز، أو جعل رب الشجر الجزء من مائة جزء لنفسه والباقي للعامل جاز ما تراضوا عليه؛ لأنَّ الحق لا يعدوهما، ما لم يكن شرطهما لرب الشجر جزءًا من مائة جزء والباقي للعامل حيلة على بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فلا يصح
…
ولو جعل رب الشجر له - أي: للعامل - آصعًا معلومة كعشرة لم تصح؛ لأنه قد لا يخرج إلا ذلك فيختص به العامل، أو جعل له دراهم ولو معلومة لم تصح؛ لأنه قد لا يخرج من النماء ما يساوي تلك الدراهم، أو جعلها أي: الآصع المعلومة أو الدراهم مع الجزء المشاع المعلوم بأن ساقاه على الثلث وخمسة آصع أو خمسة دراهم فسدت المساقاة؛ لخروجها عن موضوعها، وكذلك تفسد إن شرط رب الشجر له - أي: للعامل - ثمر شجر بعينه؛ لأنه قد لا يحمل غيره أو لا يحمل بالكلية فيحصل الضرر والغرر".
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (5/ 647) قال: "ودفع المال إلى آخر مع شرط الربح كله للمالك بضاعة، فيكون وكيلًا متبرعًا، ومع شرطه للعامل قرض لقلة ضرره".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 216) قال: "وقول رب المال لآخر: اتجر =
للمضارب، وهو العامل، فإن ذلك يكون قرضًا لا قراضًا، وهنا يكون منحة.
• قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا اشْتِرَاطُ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ).
هذا معروف؛ لأن أي قرض أو مصلحة جرت نفعًا فإنها ينبغي أن تطرح
(1)
، وقد مر ذلك في البيع والإجارة ومسائل كثيرة.
• قوله: (مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبهِ زِيَادَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُسَاقَاةِ)
(2)
.
= به وكله؛ أي: الربح لك قرض لا مضاربة؛ لأنه قرن به حكم القرض فانصرف إليه، فإن قال معه: ولا ضمان عليك لم ينتف كما لو صرح به، لا حق لربه، أي: الدافع فيه أي: الربح".
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 142) قال: "أجمعوا على أن السلف إذا شرط عقد السلف هدية أو زيادة، فأسلفه على ذلك، أن أخذه الزيادة على ذلك ربًا".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 186) قال: "الشرائط المفسدة للمعاملة فأنواع
…
(ومنها) شرط عمل تبقى منفعته بعد انقضاء مدة المعاملة نحو: السرقنة، ونصب العرائش، وغرس الأشجار، وتقليب الأرض، وما أشبه ذلك؛ لأنه لا يقتضيه العقد ولا هو من ضرورات المعقود عليه ومقاصده".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 540، 541) قال: "ولا باشتراط زيادة خارجة عن الحائط لأحدهما كأن يعمل له عملًا في حائط أخرى أو يزيده عينًا أو عرضًا أو منفعة كسكنى دار ونحو ذلك؛ إلا إن كانت قليلة أو دابة أو غلامًا في الحائط".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 114) قال: "ويشترط لصحة المساقاة أن لا يشترط على العامل ما ليس من جنس أعمالها
…
أنها عليه فلا اعتراض عليه خلافًا لمن زعمه
…
فإذا شرط عليه ذلك كبناء جدار الحديقة لم يصح العقد؛ لأنه استئجار بلا عوض، وكذا شرطهما على العامل على المالك كالسقي، ونص البويطي أنه لا يضر شرطه على المالك".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5363) قال: "أو شرط عليه عملًا في غير الشجر الذي ساقاه عليه بأن ساقاه على بستان بنصف ثمره على أن يعمل له في بستان آخر، أو شرط عليه عملًا في غير السنة، بأن قال له: اعمل في هذا البستان سنة بنصف ثمره على أن تعمل فيه السنة الآتية فسد العقد؛ لأن هذا كله يخالف موضوع المساقاة".
لا يجوز ذلك؛ لأن هذه الثمرة لم تخلق بعد، ولم تقدر، وربما كان هذا الشرط، هذه الدراهم والدنانير تزيد عن التمرة، أي: تكون أكثر مقارنة بالثمرة، فيكون في ذلك ضرر والضرر مطروح، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لا ضَرَر ولا ضِرَار"
(1)
.
فهذه ثمرة لم تخلق بعد، وهي غير موجودة، ولم يعرف قدرها، فكيف يضاف إليها شرط آخر من أحد الطرفين؟
ربما يكون هذا الشرط المضاف؛ من دراهم أو دنانير، مساويًا لما تخرجه هذه الأرض من الثمر، وربما يكون زائدًا عليها، وقد تكررت فيما سبق قصة القلادة، وهي في صحيح مسلم
(2)
وعند أبي داود
(3)
وغيرهما
(4)
، وفيها أن قلادة بيعت بسبعة دنانير وتسعة، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بفصلها وإخراج ما فيها من الذهب وإفرازها عما فيها من الخرز، وقد وجد أن الذهب الموجود فيها أكثر من الدنانير التي اشتريت بها، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
• قوله: (إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ عِنْدَ مَالِكٍ مِثْلَ سَدِّ الْحِظَارِ، وَإِصْلَاحِ الظَّفِيرَةِ وَهِيَ مُجْتَمَعُ الْمَاءِ)
(5)
).
(1)
أخرجه ابن ماجه (2340) وغيره، عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن "لا ضرر ولا ضرار"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(896).
(2)
مسلم (1591) عن فضالة بن عبيد، قال:"اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تُباع حتى تُفصل".
(3)
أبو داود (3351).
(4)
النسائىِ (4574)، والترمذي (1255).
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 544، 545) قال: "وجاز اشتراط رب الحائط على العامل إصلاح جدار وكنس عين والعادة كالشرط، فإن لم يكونا فعلى رب الحائط، وسد
…
حظيرة
…
الزرب بأعلى الحائط يمنع التسور وشده - بالشين المعجمة - يكون بنحو الحبال - وبالسين المهملة - يكون بأعواد ونحوها لما انفتح منه، وإصلاح ضفيرة
…
مجتمع الماء كحاصل وصهريج، وجاز اشتراط الأربعة المذكورة على العامل ليسارتها وعدم بقائها بعد مدة المساقاة غالبًا، فإن لم يشترطه على العامل فعلى ربه، أو ما قل غير ما تقدم مما لا يبقى بعد المساقاة كناطور".
الظفيرة: هي مجتمع الماء وملتقاه؛ يعني المكان الذي يتجمع فيه الماء، وهي التي نسميها الآن: البركة
(1)
.
• قوله: (وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يُسَاقِيَ عَلَى حَائِطَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى جُزْءٍ، وَالْآخَرُ عَلَى جُزْءٍ آخَرَ
(2)
، وَاحْتَجَّ بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي خَيْبَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ سَاقَى عَلَى حَوَائِطَ مُخْتَلِفَةٍ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ
(3)
، وَفِيهِ خِلَافٌ).
المسألة فيها خلاف بين العلماء
(4)
، وليس الخلاف في مذهب مالك.
(1)
"الظفيرة": عيدان تنسج وتظفر وتطين، يجتمع فيها الماء كالصهريج. يُنظر:"المختصر الفقهي" لابن عرفة (8/ 104)، و"تفسير الموطأ" للقنازعي (2/ 562).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 543) قال: "وجاز حوائط - أي: مساقاتها - بعقد واحد، وإن اختلفت تلك الحوائط في الأنواع بأن كان بعضها نخلًا وبعضها رمانًا وبعضها عنبًا بجزء متفق في الجميع، وكان الأوضح أن يقول: إن اتفق الجزء، فإن اختلف لم يجز، إلا أن يكون مساقاتها في صفقات متعددة، فيجوز اختلاف الجزء، فالاستثناء من مفهوم قوله بجزء".
(3)
أخرجه البخاري (2285)، ومسلم (1551) عن ابن عمر قال:"أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود: أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (4/ 29) قال: "في نخل حائطين معاملة
…
قال محمد: يجوز ذلك".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (5/ 153، 154) قال: "حديقة بين اثنين مناصفة، ساقى أحدهما صاحبه وشرط له ثلثي الثمار، صح وقد شرط له ثلث ثمرته. وإن شرط له ثلث الثمار، أو نصفها، لم يصح؛ لأنه لم يثبت له عوضًا بالمساقاة، فإنه يستحق النصف بالملك. وإذا عمل، ففي استحقاقه الأجرة الوجهان. ولو شرط له جميع الثمار فسد، وفي الأجرة وجهان؛ لأنه لم يعمل له إلا أنه انصرف إليه. قلت: أصحهما: له الأجرة
…
ولو شرط في المساقاة مع الشريك أن يتعاونا على العمل، فسدت".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 233) قال: "أو ساقاه على بستانين: أحدهما بالنصف والآخر بالثلث ونحوه، أو ساقاه على بستان واحد ثلاث سنين، السنة الأولى بالنصف، والثانية بالثلث، والثالثة بالربع ونحوه جاز".
• قوله: (وَأكثر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْقِسْمَة بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمُسَاقِي فِي الثَّمَرِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْكَيْلِ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكةِ)
(1)
).
هذا هو رأي أكثر العلماء؛ حتى تتجنب الجهالة، وبعضهم أجاز الخرص؛ لأن ذلك مما يجوز فيه قياسًا على خرص الثمار، وقد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا تُباع بالتمر خرصًا
(2)
، فالتمر الذي على الأرض يكال، لكن الذي على النخل يخرص، هذا الذي في الأرض بين أيدينا نكيله، وأما المعلق فهذا يخرص خرصًا.
(1)
ومذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 177) قال: "فصل في الشرائط التي ترجع إلى الخارج من الزرع (فصل): وأما الذي يرجع إلى الخارج من الزرع فأنواع
…
ومنها: أن يكون ذلك البعض من الخارج معلوم القدر من النصف والثلث والربع ونحوه؛ لأن ترك التقدير يؤدي إلى الجهالة المفضية إلى المنازعة؛ ولهذا شرط بيان مقدار الأجرة في الإجارات كذا هذا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 540) قال: "والتبعية المسائل في الثلاث الثلث فدون
…
المراد بالجزء ما قابل المعين كثمرة نخلة بعينها، أو آصع، أو أوسق لا ما قابل الكل؛ إذ يجوز أن يكون جميع الثمرة للعامل أو لرب الحائط، قل الجزء كعشر، أو كثر شاع في جميع الحائط احترازًا مما إذا كان شائعًا في نخلة معينة، أو نخلات وعلم قدره كربع احترازًا مما إذا جهل نحو لك جزء، أو جزء قليل أو كثير
…
ويشترط في الجزء أيضًا أن يكون مستويًا في جميع أنواع الحائط، فلو دخلا على أنه في التمر النصف وفي الزيتون مثلًا الربع لم يجز".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 110، 111) قال: "وطريق جعل الغلة لهما ولا أجرة في إفراد المزارعة أن يستأجره - أي: المالك العامل - بنصف البذر شائعًا ليزرع له النصف الآخر من البذر في نصف الأرض مشاعًا، ويعيره نصف الأرض مشاعًا
…
أو يستأجره بنصف البذر ونصف منفعة الأرض شائعين ليزرع له النصف الآخر من البذر في النصف الآخر من الأرض، فيشتركان في الغلة مناصفة، ولا أجرة لأحدهما على الآخر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 534) قال: "وتصح إجارتها - أيضًا - بجزء مشاع معلوم؛ كالنصف والثلث مما يخرج منها، سواء كان طعامًا؛ كالبر والشعير، أو غيره؛ كالقطن والكتان، وهو إجارة حقيقة، كما لو أجرها بنقد".
(2)
أخرجه البخاري (2184)، ومسلم (1539) عن زيد بن ثابت:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب، أو بالتمر، ولم يرخص في غيره".
ولا شك أن الخرص حكم شرعي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره، لكن له أهله، وهم أهل الخبرة؛ لأن الذي يخرص ينبغي أن يكون قد مارس ذلك العمل وتعوده، ولذلك من تعود الخرص لا تجد إلا فرقًا يسيرًا بين تقديره وبين الكيل والميزان حقيقة؛ فلو أخذت إنسانًا يعمل في عمل في الميزان فتجد أنه لكثرة الممارسة لو أحضرت له فاكهة أو أرز أو غيره ليزنه، فستجده يقرب لك، يقول لك: هذا كيلو أو أكثر أو نحو ذلك، فتجد أنه يصيب في الغالب، وإن زاد فهو قليل، وإن قلَّ فهو كذلك؛ لشهرته في ذلك من كثرة ما يحمل في يده ويضع ويقيس، فأصبح عنده خبرة ودراية. كذلك الخارص، ولذلك اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة؛ لمهارته في ذلك وخبرته
(1)
.
• قوله: (وَأَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِالْخَرْصِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ قِسْمَتَهَا بِالْخَرْصِ. وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، فَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ مِنَ الثِّمَارِ فِي الرِّبَوِيَّةِ، وَبَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ
(2)
، وَقِيلَ: يَجُوزُ بِإِطْلَاقٍ إِذِ اخْتَلَفَت حَاجَةُ الشَّرِيكَيْنِ).
لا شك أن الأحوط هو الكيل؛ فالكيل يرفع الخلاف ويزيل محل الشك، ودعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك
(3)
.
• قوله: (وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُهُ الْفَسَادُ مِنْ جِهَةِ الْمُزَابَنَةِ، وَبَدْخُلُهُ بَيْعُ الرُّطَب بِالتَّمْرِ، وَبَيْعُ الطَّعَام بِالطَّعَامِ نَسِيئَةً. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ قِسْمَتَهَا بِالْخَرْصِ تَشْبِيهُهَا بِالْعَرِيَّةِ، وَبِالخَرْصِ فِي الزَّكاةِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَأَقْوَى مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ الْخَرْصِ فِي مُسَاقَاةِ خَيْبَرَ مِنْ
(1)
تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسله ليخرص على اليهود.
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 373) قال: "ص (بجزء قل، أو كثر). ش: لا مفهوم لقوله: بجزء، وإنما نبه به على أنه لا تجوز المساقاة بكيل مسمى من الثمرة، ولم يرد أنه لا بد أن يكون المأخوذ جزءًا من الثمرة، بل تجوز المساقاة على أن تكون الثمرة جميعها للعامل".
(3)
جزء من حديث أخرجه النسائي (5397) عن ابن مسعود.
مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ)
(1)
.
مرسل سعيد بن المسيب مر قبل، وقلنا: رواه مالك في "الموطأ"، وكذلك رواه غيره، وهو مرسل صحيح، ومن العلماء من وصله.
وأما الثاني فهو ليس عطاء، وإنما هو سليمان بن يسار، وقد مر أيضًا قبل، وقلنا: هو مرسل صحيح، وهناك من وصله؛ فجاء عند البيهقي وعند غيره موصولًا، فهما مرسلان حجة.
•
قوله: (الرُّكْنُ الرَابعُ:
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْوَقْتِ فِي الْمُسَاقَاةِ: فَهُوَ صِنْفَانِ: وَقْتٌ هُوَ مُشْتَرَطٌ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ).
هذا التقسيم الذي يسلكه المؤلف يقرب المعلومات إلى ذهن الدارس؛ لأن هذا فيه تقريب للمسائل؛ لأنك لو خلطت بعضها ببعض لاحتجت إلى عناية أكثر؛ لتميز بعضها من بعض، لكن كونه يقسمها ويرتبها، يجعله سهل المأتى، من غير صعوبة، وكلامه هنا يتعلق بقضية: هل هناك وقت محدد للمساقة أو لا؟
الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر مما يخرج منها، فهل حدد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتًا معينًا ينتهي إليه؛ أو أنه ترك الأمر؛ هناك اختلاف بين العلماء في التوقيت، والتوقيت له علاقة وثيقة بحكم المساقاة، ونحن بعد لم نأخذ حكمها من حيث العقد، هل هي عقد لازم أو هي عقد جائز؟ هل هي عقد لازم كالإجارة؛ لأنها مقابلة عوض بعوض؟ أو هي عقد جائز كالمضاربة والشركة والقراض؟
هذه المسألة التي سيتعرض لها المؤلف؛ لما لها من علاقة بالحكم، لكنه قدم الوقت، ثم بعد ذلك يعقبه بما يتعلق بالحكم.
(1)
تقدم تخريجه.
• قوله: (وَوَقْتٌ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُحَدِّدُ لِمُدَّتِهَا).
هناك وقت يتعلق بحكم العقد؛ هل هو جائز أو لازم؟ ووقت يتعلق بتحديد المدة: هل هناك مدة أو لا؟
• قوله: (فَأَمَّا الْوَقْتُ الْمُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ عَقْدِهَا: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَجُوزُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ)
(1)
.
كان الأولى بالمؤلف ألا يقول: قبل بدو الصلاح. وأن يقول: قبل الثمر، يعني: قبل أن تثمر؛ لأن عندنا الآن طرفًا يقابل طرفًا، هذه الأشجار قدمت؛ لأنها لم تثمر بعد، وقولنا: قبل بدو الصلاح؛ يعني: أنها أثمرت؛ لكن الثمرة لم تصفر بعد ولم تحمر، يعني: ما بدت العلامة، وقوله وإن كان له وجه من النظر، لكن الأسلم أن يقال: ثمرة، يقابلها عدم ثمرة؛ لأنه كان يتكلم عن المساقاة، والمساقاة أن تقدم أشجارًا غير مثمرة لم تخلق فيها الثمرة، فكيف نقول بأنه لم يبد صلاحها؟ هذا هو وجه الملاحظة.
ومراد المؤلف هنا أن العلماء متفقون على جواز المساقاة قبل الثمرة.
ومعلوم أن أبا حنيفة لا يرى المساقاة مطلقًا.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 285، 286) قال: "دفع الشجر والكروم
…
إلى من يصلحه بجزء معلوم من ثمره".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 539) قال: "المساقاة، وهي عقد على خدمة شجر وما ألحق به".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 106، 107) قال: "المساقاة: هي معاملة على تعهد شجر
…
وموردها: النخل والعنب؛ للنص في النخل، وألحق به العنب بجامع: وجوب الزكاة، وإمكان الخرص، وتجويز صاحب الخصال لها على فحول النخل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 532) قال: "دفع أرض وشجر له ثمر مأكول
…
لمن يغرسه ويعمل عليه
…
أو دفع شجر له ثمر مأكول مغروس معلوم بالمشاهدة لمن يعمل عليه ويقوم بمصلحته".
فالمقصود: أن الذين أجازوا المساقاة أجازوها قبل أن تثمر، لكن بعد أن تثمر اختلفوا. فما وجهة هؤلاء ووجهة هؤلاء؟
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمُسَاقَاةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْدَ بدو الصَّلَاحِ)
(1)
.
الجمهور - وهو كما ذكر المؤلف أكثر العلماء - يرون أنه لا يجوز.
فمذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أن ذلك لا يجوز، لكن عندما ننظر نظرة فقهية إلى ما بعد وجود الثمرة نجد أن الجهالة قد خفيت؛ لأنه بعد أن تظهر الثمرة تكون الجهالة أوشكت على الزوال؛ لأن الثمرة تكون قد بدت، والعلة التي ذكرها أبو حنيفة أن الثمرة لم تخلق ولم توجد، قد زالت بوجود الثمرة، فكيف يقول الجمهور بذلك؟
لا شك أنَّ للجمهور وجهة نظر في هذا؛ لأن القصد من ذلك أن العامل ماذا يقدم إذا كانت قد أسقيت ونمت وظهرت الثمرة؟ هذه هي ملاحظة جمهور العلماء، وسيبين المؤلف هذا.
• قوله: (وَقَالَ سَحْنُونٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ).
وهي أيضًا رواية للإمام أحمد، فمذهب الأئمة مالك
(2)
والشافعي، وأحمد في المشهور
(3)
: أن ذلك لا يجوز، وأما قبل وجود الثمر فنعم.
(1)
سأذكر أقوال أهل العلم لأن المسألة فيها اختلاف أقوال.
(2)
يُنظر: "المدونة" لمالك (3/ 566) قال: "قلت: أرأيت إن كان لرجل حائط فيه نخل قد أطعم، ونخل لم يطعم، أيجوز أن آخذ الحائط كله مساقاة في قول مالك؟ قال: لا يجوز ذلك؛ لأن فيه منفعة لرب الحائط يزدادها على العامل في الحائط؛ لأن بيعه قد حل. ولأن الحائط إذا زها بعضه ولم يزه بعضه حل بيعه".
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 469، 470) قال: "وهل تصح على ثمرة موجودة؛ يعني: إذا لم تكمل؟ على روايتين
…
إحداهما: تصح، وهي المذهب. وعليها أكثر الأصحاب
…
والرواية الثانية: لا تصح".
• قوله: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ؛ فَمَرَّةً قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَمَرَّةً قَالَ: يَجُوزُ)
(1)
.
وهذا هو الأشهر أيضًا، فالشافعي له قولان؛ لكن المشهور في مذهبه والمعتبر هو أنه لا يجوز، إذن هو قول لمالك وقول مشهور للإمامين الشافعي وأحمد.
• قوله: (وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: إِنَّهَا لَا تَجُوزُ إِذَا خُلِقَ الثَّمَرُ).
ما الذي سيعمله العامل وقد انتهت وبدا نضجها، وأصبحت مهيأة على سوقها؟
لم تبق إلا أشياء يسيرة، كأن يقوم - مثلًا - بجذاذ أو التقاط أو نحو ذلك، وهذا عمل يسير، لكن المهم فيه السقي، والعناية، والتنظيف، وخم العين، وإزالة الأشواك، وغير ذلك، فهذا هو أكثر العمل وقد ذهب وانقضى، ولم يبق إلا النزر اليسير.
• قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مُسَاقَاةَ مَا بَدَا صَلَاحُهُ مِنَ الثَّمَرِ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ، وَلَا ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمُسَاقَاةِ؛ إِذْ كَانَ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ).
يعني بإمكان صاحب هذه المزرعة أن يبيع على غيره جملة، وهذا معروف، ومر نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
(2)
، أما وقد بدا صلاحها، فله أن يبيعها، ولا حاجة بأن يأتي بمن يساقيه طيها.
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 112) قال: "والأظهر صحة المساقاة بعد ظهور الثمرة، كما قبل ظهورها بل أولى؛ لأنه أبعد عن الغرر، ولوقوع الآفة فيه كثيرًا، نزل منزلة المعدوم، فليس اشتراط جزء منه كاشتراط جزء من النخل، لكن لا مطلقًا بل قبل بدو الصلاح؛ لبقاء معظم العمل بخلافه بعده، ولو في البعض كالبيع فيمتنع قطعًا، بل قيل: إجماعًا".
(2)
أخرجه البخاري (1486)، ومسلم (1534) عن ابن عمر:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وكان إذا سئل عن صلاحها قال: "حتى تذهب عاهته"".
• قوله: (قَالُوا: وَإِنَّمَا هِيَ إِجَارَةٌ إِنْ وَقَعَتْ).
كأن جمهور العلماء يقولون: إن هذه المساقاة إنما هي للحاجة، ولا شك أن الحاجة ملاحظة فيها بالنسبة للطرفين كما أشرنا سابقًا، فصاحب المزرعة، وصاحب العمل، قد لا يستطيع أن يقوم بنفسه وربما لا يستطيع أن يأتي بالأجرة، ولو جاء بالأجرة ربما لا يحسن المستأجر كما يحسن الذي يتولاها ويأخذ جزءًا من ثمرها، والعامل أيضًا بحاجة إلى أن يأكل ويشرب وينفق على أولاده، فهو يأخذ هذه المزرعة؛ ليستفيد من ثمرها مقابل عمل.
• قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَهَا: أَنَّهُ إِذَا جَازَتْ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الثَّمَرُ فَهِيَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَجْوَزُ).
يعني: إذا جازت قبل بدو الصلاح فمن باب أولى أن تجوز بعد بدوه، هذا هو معنى كلام المؤلف.
ونحن نقول: قبل أن تخلق وأن تولد؛ إذ هي معدومة ولا نعرف هل ستثمر أو لا؟ فهناك جهالة، وإن أثمرت فما مقدارها؟ وما نوعها من حيث الصحة والفساد؟ وأقصد بذلك هل ستثمر ثمرة طيبة أو رديئة؟ بينما الكلام عنها هنا في حال كونها قد أثمرت وأصبحت بادية.
• قوله: (وَمِنْ هُنَا لَمْ تَجُزْ عِنْدَهُمْ مُسَاقَاةُ الْبُقُولِ)
(1)
.
نرى أن المؤلف هنا مضطرب فيما يتعلق بالبقول، إلا إذا كان في ذهنه شيء لم يظهر، فالله أعلم. فربما يكون قصده أنها بقول تقوم على السيل، يعني الماء الجاري.
(1)
تقدم قبل قليل ذكر اختلاف أهل العلم في مسألة البقول، ونبه الشارح على أن المؤلف اضطرب في قوله.
• قوله: (لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا (أَعْنِي: عِنْدَ الْجُمْهُورِ). وَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي مدة الْمُسَاقَاةِ).
هذا هو الجزء الثاني من الوقت؛ فالوقت الأول في حكم الجواز وتكلمنا على ما قبل وجود الثمرة وما بعدها، والآن يتكلم عن الجزء الثاني وهو الوقت الذي هو شرط في مدة المساقاة، فما حكم ذلك؟
• قوله: (فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يَكُونُ مَجْهُولًا (أَعْنِي: مُدَّةً غيْرَ مُؤَقَّتَةٍ)
(1)
، وَأَجَازَ طَائِفَة أَنْ يَكُونَ إِلَى مُدَّةٍ غَيْرِ مُؤَقَّتَةٍ مِنْهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ)
(2)
.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 542) قال: "وأقتت المساقاة بالجذاذ، أي: قطع الثمر، ظاهره أنه لا بد أن تؤقت بالجذاذ
…
وأنها إن أطلقت كانت فاسدة؛ مع أن ابن الحاجب صرح بأنها إن أطلقت كانت صحيحة، وتحمل على الجذاذ، وسيأتي أنها تجوز سنين ما لم تكثر جدًّا، فالتوقيت بالجذاذ ليس شرطًا في صحتها، فالمراد أنها إذا أقتت لا يجوز أن تؤقت بزمن يزيد على زمن الجذاذ عادة
…
سواء صرح به أو أطلق أو قيدت بزمن يقتضي وقوع الجذاذ فيه عادة؛ احترازًا مما إذا قيدت بزمن يزيد على مدة الجذاذ، فإنها تكون فاسدة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 114، 115) قال: "ويشترط لصحة المساقاة
…
معرفة العمل جملة لا تفصيلًا، بتقدير المدة كسنة أو أقل؛ إذ أقل مدتها ما يطلع فيه الثمر ويستغني عن العمل، أو أكثر إلى مدة تبقى فيها العين غالبًا للاستغلال فلا تصح مطلقة ولا مؤبدة
…
والسنة المطلقة عربية
…
ولا يجوز التوقيت بإدراك الثمر، أي: جذاذه
…
في الأصح للجهل به".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 534) قال: "وتصح إجارة أرض معلومة مدة معلومة".
(2)
وأيضًا الحنفية لم يشترطوها:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 286، 287) قال: "والرابع بيان المدة ليس بشرط هنا استحسانًا للعلم بوقته عادة، وحينئذ يقع على أول ثمر يخرج في أول السنة، وفي الرطبة على إدراك بذرها أن الرغبة فيه وحده، فإن لم يخرج في تلك السنة ثمر فسدت. ولو ذكر مدة لا تخرج الثمرة فيها فسدت، ولو تبلغ الثمرة فيها، أو لا تبلغ صح؛ لعدم التيقن بفوات المقصود". =
وهو مذهب أحمد
(1)
لا مذهب أهل الظاهر، وسيأتي دليل ذلك.
والجمهور على أنه لا يجوز أن يكون مجهولًا؛ أعني: مدة غير مؤقتة، التفسير لكلمة مجهول، فمعنى هذا أنه لا بد من أن تكون مدة محددة.
• قوله: (إِلَى مُدَّةٍ غَيْرِ مُؤَقَّتَةٍ)، أي: مطلقة غير محددة.
• قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ: مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ. وَعُمْدَةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ مَا وَقَعَ فِي مُرْسَلِ مَالِكٍ).
قلت قبل: إن مشكلة المؤلف أنه لا يعرف مذهب أحمد استقلالًا، فجعله مذهب أهل الظاهر، وهو يعتمد على كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر، ولكن هذا في الحقيقة هو مذهب أحمد، ودليله قوي، وليس هو المرسل الذي ذكره، بل هو حديث في صحيح مسلم
(2)
.
ومرسل مالك الذي يعنيه المؤلف هو ما رواه مالك عن ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب وقد تكلمنا عنه قبل، فهذا هو الدليل الذي أشار إليه المؤلف هنا، لكن الواقع أنه لو وقف على مذهب الحنابلة ورأى دليلهم لوقف على غير ذلك، وهم يستدلون بما في صحيح مسلم
(3)
من أن
= ومذهب الظاهرية، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (8/ 225) قال: "ولا يحل عقد المزارعة إلى أجل مسمى، لكن هكذا مطلقًا؛ لأن هكذا عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا مضى جميع الصحابة رضي الله عنهم
…
فكان اشتراط مدة في ذلك شرطًا ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وخلاف لعمله عليه السلام".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 537، 538) قال: "والمساقاة والمزارعة عقدان جائزان
…
ولا يفتقرإن إلى ضرب مدة يحصل الكمال فيها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدة ولا خلفاؤه من بعده، ولكل منهما فسخها؛ أي: المساقاة أو المزارعة متى شاء".
(2)
هو في الصحيحين؛ ليس مسلم وحده.
(3)
هو في الصحيحين؛ البخاري (3152)، ومسلم (1551) عن ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر =
أهل خيبر عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبقى المزارع بأيديهم، على أن يعطوه أو يعطوا المسلمين شطرًا مما يخرج منها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نُقِرُّكم على ذلك ما شئنا".
إذًا نحن الذين نحدد أو لا نحدد، فالوقت هنا غير محدد، "نقركم على ذلك ما شئنا".
هذا هو الدليل الذي يتمسك به أصحاب هذا القول، فهم قالوا: هذا غير محدد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أقرهم وسكت، بل قال:"نقركم على ذلك ما شئنا" أي: وقتًا، نحن الذين نريده دون قيد، ولذلك أخذوا من هذا الحديث أنه دليل على أن المدة لا تحدد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد لهم، ولو كان التحديد واجبًا ومتعينًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(1)
، فكان إطلاقه دليلًا على جوازه.
• قوله: (مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "أُقِرُّكُمْ على مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ"
(2)
).
هذا كلام مجمل؛ لكن الحديث الاخر أكثر دلالة من هذا وأقوى، إضافة إلى أن هذا مرسل، ومهما قلنا بأنه صحيح ووصل عند البعض، فإنه محل خلاف، أما ذاك فهو في صحيح مسلم
(3)
.
= على أهل خيبر، أراد أن يخرج اليهود منها، وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين، فسأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نقركم على ذلك ما شئنا"، فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحا".
(1)
مسألة: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ من القواعد الفقهية المعتبرة، ونقل الشاطبي الاتفاق عليها.
انظر: "الموافقات" للشاطبي (4/ 140)، و"المستصفى" للغزالي (ص 192)، و"المحصول" للرازي (1873).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
والبخاري أيضًا كما تقدم.
• قوله: (وَكرِهَ مَالِكٌ الْمُسَاقَاةَ فِيمَا طَالَ مِنَ السِّنِينَ، وَانْقِضَاءُ السِّنِينَ فِيهَا هُوَ بِالْجَذِّ لَا بِالْأَهِلَّةِ
(1)
. وَأَمَّا هَلِ اللَّفْظُ شَرْطٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ).
لا شك أن هذا استحسان من الإمام مالك، فهو لا يرى إطالتها، وإنما ينبغي أن تكون إلى حد، فإذا حددت فلا ينبغي أن يكون الوقت سنين طويلة.
ورأينا ما يتعلق بالإجارة، ومر بنا ما يشبه هذا، ورأينا أن الإمام الشافعي خالف في ذلك، وأنه لا ينبغي أن تزيد على السنة في روايته المشهورة، وفي رواية أخرى أن الإجارة لا ينبغي أن تزيد عن أكثر من ثلاثين عامًا
(2)
، وذكر العلة في ذلك، وهي أن العين المؤجرة يندر أن تبقى أكثر من ذلك، فإن كانت دارًا أو حانوتًا تهدمت، لكن الوضع تغير الآن، كما هو معلوم، فربما تبقى الدار أكثر من مائة سنة؛ لأنها الآن أصبحت تبنى بالمسلح، أما فيما مضى فكانت تبنى بالطين وجريد النخل وسعفه، وربما توضع على السقف جذوع النخل، فمثل هذه تتهدم، مع أنه قد يمضي عليها سنين طويلة، وهذا أمر مشاهد.
(1)
يُنظر: "المدونة" لمالك (3/ 570) قال: "لا تجوز مساقاة النخل أشهرًا ولا سنة؛ وإنما المساقاة إلى الجداد. قلت: أرأيت إن أخذت شجرًا معاملة، وهي تطعم في السنة مرتين، ولم أسم الأجل الذي أخذت إليه، أيكون معاملتي إلى أول بطن أو السنة كلها؟ قال: سمعت مالكًا يقول: إنما معاملة النخل إلى الجداد، وليس يكون فيها أشهر مسماة، فهو عندي على ما ساقاه، فإن لم يكن له شرط فإنما مساقاته إلى الجداد الأول".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 305) قال: "يصح عقد الإجارة على العين مدة تبقى فيها تلك العين بصفاتها المقصودة كما هو ظاهر غالبًا؛ لإمكان استيفاء المعقود عليه حينئذ؛ كسنة في نحو الثوب، وعشر سنين في الدابة، وثلاثين سنة في العبد على ما يليق بكل منها، وكمائة سنة أو أكثر في الأرض، طلقًا كانت أو وقفًا لم يشترط واقفه لإيجاره مدة".
• قوله: (فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ
(1)
: فَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ).
هذه المسألة مهمة، وهذا الكتاب فيه نوع من الإجمال، لكن إذا دققت النظر فيه تجد أن فيه وضوحًا، هل نقف عند لفظ المساقاة، فنقول: ساقيتك على هذه المزرعة؟ أو نأتي بأي لفظ يؤدي المعنى فيقول القائل: عاملتك على مزرعتي؟ أو أن يقول له: فالحتك؟ لأنه معلوم أن من يشتغل في الزراعة يسمى فلاحًا، والذي يشتغل في البناء يسمى بناء، والصانع يسمى صانعًا، وهكذا.
هل نقف عند اللفظ؟ أو نأتي بلفظ إجارة: أجرتك أو آجرتك هذه المزرعة فتؤدي معنى المساقاة؟ أو يقول القائل: عاملتك؟ أو يقول: فالحتك؟ أو يقول: استأجرتك؟ أو: أريدك أن تعمل في مزرعتي هذه حتى يكتمل نموها؟
هذا كله يتكلم عنه العلماء؛ فالحنابلة يجيزون ذلك ما عدا لفظ الإجارة الذي يشير إليه المؤلف فهناك رأيان في المذهب؛ رأي يمنع ورأي يجيز، والمؤلف اقتصر على كلمة الإجارة، يعني هل تحل الإجارة محل المساقاة؟
المساقاة فيها خلاف من حيث كونها عقدًا لازمًا أو غير لازم، والإجارة عقد لازم، ومن قال من أهل العلم بأن المساقاة عقد لازم يقيسون على الإجارة؛ لأنه عوض مقابل عوض، والإجارة مبادلة عوض بعوض أيضًا.
فلو نظرنا في مسائل المعاملات لوجدنا أن ثمة روابط تربطها، فلا ينفصل بعضها عن بعض ولا يبتعد.
نعم، قد لا تلتقي من كل وجه، لكن الروابط تصل بعضها ببعض، وهذا ينبغي أن يكون دافعًا لطالب العلم ألا ينسى ما مضى، ونحن الآن
(1)
سيأتي ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة.
نعاني من مشكلة، ويشكو منها طلاب العلم، وهي أنه إذا قرأ مبحثًا فإنه يقول بعد فترة: نسيته، فمن فعل ذلك فما استفاد من العلم، ينبغي أن أربط العلم بعضه ببعض كي يبقى في ذهني، وثمة مشكلة اليوم، وهي مشكلة الجزئية التي تنافي الشمولية.
والخلاصة: أن الإخلاص هو أساس كل شيء؛ قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282]، فإذا ما اتقيت الله وأخلصت في طلب العلم فلا بد - أيضًا - من مثابرة وجد وطول زمان، لن تنال العلم إلا بستة، كما قال ابن القيم رحمه الله
(1)
، وهو قد جرَّب ذلك، وخير دليل على ذلك النظر إلى كتابه العظيم "زاد المعاد"، وقد كتبه في سفرٍ، فلم يكن عنده كتب، كان في رحلة، مشغول البال وكتب ذلكم الكتاب العظيم "زاد المعاد"، وشيخ الإسلام كتبه دائمًا يحررها بقلمه دون أن يرجع إلا في النادر، ربما في شرح "عمدة الأحكام" رجع فطلب "المغني" وهو في مصر، وكذلك في غيره؛ لكن كثيرًا من كتبه كان يكتبها دون الرجوع، وانظر: هل يستطيع أحدنا أن يكتب مثلها وأمامه الكتب والمراجع؟
• قوله: (وَأَمَّا هَلِ اللَّفْظُ شَرْطٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ
…
).
هذه تكلمنا عنها، والمقصود: هل لا بد من الوقوف عند لفظ المساقاة فيقول: ساقيتك، أو يجوز أن ينوب عنها؟ أشرنا إلى أن بعض العلماء كالحنابلة يقولون: يجوز أن يحل محلها غيرها، كأن يقول:
(1)
تكملة الأبيات:
أخي لن تنال العلم إلا بستة
…
سأنبئك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص وافتقار وغربة
…
وتلقين أستاذ وطول زمان
وهذه الأبيات تُنسب للجويني وللدِّينَوري، ولم نَقِف على مَن نسَبها لابن القيم. يُنظر:"ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار (1/ 45)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 208)، و"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص 705).
عاملتك أو فالحتك أو اعمل في مزرعتي هذه حتى تتم، ولهم رواية في إجازتها بلفظ الإجارة.
• قوله: (فَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا أَنْ لَا تَنْعَقِدَ إِلَّا بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَنْعَقِد بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ
(1)
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ سَحْنُونٍ)
(3)
.
جاء لفظ المساقاة في حديث ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل على خيبر
(1)
يُنظر: "الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي"(3/ 712) قال: "وقال ابن القاسم: لا تنعقد إلا بـ (ساقيت) فقط؛ أي: لا بلفظ إجارة أو شركة أو بيع فلا تنعقد بذلك، أي: من البادئ منهما، ويكفي من الثاني أن يقول: قبلتُ، أو رضيتُ، ونحو ذلك".
(2)
للشافعية في هذا قولين، وبه قال الحنابلة.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 430، 431) قال: "الركن الخامس وهو الصيغة،
…
وصيغتها أي المساقاة: ساقيتك على هذا النخل أو العنب بكذا
…
أو سلمته إليك لتتعهده، أو اعمل في نخيلي، أو تعهد نخيلي بكذا لأدائه معناه
…
ولو ساقاه بلفظ الإجارة لم يصح على الأصح في الروضة كأصلها، قالوا: لأنَّ لفظ الإجارة صريح في عقد آخر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 234) قال: "وتصح مساقاة بلفظها كساقيتك على هذا البستان ونحوه، وتصح بلفظ معاملة ومفالحة، وبلفظ: اعمل بستاني هذا
…
ونحوه مما يؤدي ذلك المعنى؛ لأنه القصد، فأي لفظ دل عليه انعقدت به كالبيع، وتصح مساقاة بلفظ إجارة مع مزارعة
…
بلفظ إجارة كـ: استأجرتك لتعمل على هذا البستان
…
أو استأجرتك لتزرع هذا الحب بهذه الأرض
…
لأنَّ هذا اللفظ مؤد للمعنى".
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير"(3/ 540) قال: " (قوله: واحترز بذلك عن لفظ الإجارة
…
إلخ) هذا يقتضي أن هذا متفق عليه عند ابن القاسم وسحنون؛ وليس كذلك بل هو من محل الخلاف بينهما كما في كلام ابن رشد والمتيطي، ونص الأول منهما والمساقاة أصل في نفسها لا تنعقد إلا بلفظ المساقاة على مذهب ابن القاسم؛ فلو قال رجل: استأجرتك على العمل في حائطي هذا بنصف ثمرته لم يجز على مذهبه، كما لا تجوز الإجارة عنده بلفظ المساقاة بخلاف قول سحنون فإنه يجيزها ويجعلها إجارة، وكلام ابن القاسم أصح".
بشطر مما يخرج منها، وجاء في بعض روايات الصحيحين:"ساقاهم"
(1)
، وأعتقد أن ما يؤدي المعنى كاف في ذلك، إلا أن توجد شبهة أو لبس، فينبغي أن يتجه إلى اللفظ الذي لا يتطرق إليه شك أو شبهة.
•
قوله: (الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الصِّحَّةِ:
وَالْمُسَاقَاةُ عِنْدَ مَالِكٍ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ بِاللَّفْظِ لَا بِالْعَمَلِ)
(2)
.
وهي كذلك عند الإمام الشافعي
(3)
، وقد عرفتم مذهب أبي حنيفة، وهو عدم جواز المساقاة ولا المزارعة، فلا يرد قوله هنا، أمَّا الإمامان مالك والشافعي فيريان أنها عقد لازم، وهي رواية ليست بالمشهورة في مذهب أحمد
(4)
، وأمَّا المشهور في المذهب فهي عقد جائز
(5)
.
(1)
لم أقف على هذه اللفظة في "الصَّحيحين"، بل خارجهما عند أبي عوانة في "المستخرج" (3/ 310) وغيره: عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم "ساقى يهود خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر أو زرع".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير للدردير"(3/ 713) قال: "وهي لازمة؛ أي من العقود اللازمة، فليس لأحدهما فسخها بعد العقد دون الآخر ما لم يتراضيا عليه؛ هذا هو المذهب".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 118) قال: "والمساقاة لازمة من الجانبين قبل العمل وبعده؛ لأن عملها في أعيان باقية بحالها، فأشبهت الإجارة دون القراض".
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 472) قال: "وقيل: هي عقد لازم. قاله القاضي. واختاره الشيخ تقي الدين. وقدمه في المذهب، ومسبوك الذهب، والخلاصة، وأطلقهما في الهداية، والمستوعب. واختار في التبصرة: أنها جائزة من جهة العامل؛ بل لازمة من جهة المالك. مأخوذ من الإجارة".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 537) قال: "والمساقاة والمزارعة عقدان جائزان من الطرفين
…
ولو كان لازمًا لم يجز بغير توقيت مدة، ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم؛ ولأنها عقد على جزء من نماء المال فكانت جائزة كالمضاربة، يبطلان بما تبطل به الوكالة".
حجة من قال من أهل العلم بأنها عقد لازم:
حجتهم في ذلك أمران:
الأمر الأول: أنها معاوضة؛ عوض مقابل عوض، فتكون عقدًا لازمًا، قياسًا على الإجارة؛ لأن الإجارة مبادلة عوض بعوض، تسلمه دارًا ويعطيك عوضها، وهنا أيضًا إنسان يعمل في هذه الأشجار أو في هذا البستان، ولأخذ مقابل عمله جزءًا من الثمرة، فهو إذن عوض يقابله عوض، هذا تعليل أول للذين قالوا بأنها عقد لازم، فقاسوه على الإجارة.
الأمر الثاتي: أنهم قالوا: لو كانت عقدًا جائزًا لجاز لرب المال أن يفسخها عند صلاح الثمر، فحينئذ يتضرر العامل، فينبغي أن يكون عقدًا لازمًا.
حجة من قال من أهل العلم باتها عقد جائز:
القول بأنها عقد جائز هو المشهور في مذهب أحمد
(1)
، ومن قالوا من أهل العلم بهذا القول، فحجتهم الحديث الذي أوردناه قبل، وهو أن أهل خيبر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم على خيبر - أي: على تلك المزارع أن تبقى بأيديهم - على أن يعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شطرًا مما يخرج منها من زرع أو ثمر، ووجه الدلالة من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابهم بقوله في آخر الحديث:"نقركم على ذلك ما شئنا". وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم
(2)
.
فالرسول لم يحدد وقتًا، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه جعل وقتًا، ولو جعل تحديدًا ووقتًا لذلك لنُقِل؛ لأن ذلك قد اشتهر بين الناس، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك فيه دليل على أن التوقيت ليس شرطًا؛ لأن هذا
(1)
تقدم نقله.
(2)
تقدم تخريجه، وهو عند البخاري أيضًا.
بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما عرف ذلك في أصول الفقه
(1)
.
فالخلاصة إذن أن العلماء انقسموا إلى قسمين؛ فقال بعضهم: إنها عقد لازم، وهي رواية للحنابلة، وبعضهم - وهم قلة - قالوا: إنها عقد جائز.
• قوله: (بِخِلَافِ الْقِرَاضِ عِنْدَهُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِالْعَمَلِ لَا بِاللَّفْظِ، وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ عَقْدٌ مَوْرُوثٌ)
(2)
.
سبق القول بأن القراض جائز
(3)
، وسيأتي - أيضًا - أن الشركة جائزة.
وإذا كان عقد المساقاة لازمًا فينبغي أن يكون موروثًا؛ أي: إذا مات العامل انتقل إلى ورثته، ولو مات رب العمل أيضًا انتقل العمل إلى ورثة العامل، والمسألة فيها خلاف
(4)
.
(1)
تقدم هذه المسألة.
(2)
يُنظر: "المدونة" لمالك (3/ 574) قال: "قلت: أرأيت العامل في النخل إذا مات ما أنت قائل لورثته؟ قال: يقال لهم: اعملوا كما كان صاحبكم يعمل. فإن أبوا كان ذلك في مال الميت لازمًا لهم. قلت: أفيسلم الحائط إليهم إذا كانوا غير أمناء؟ قال: لا أرى ذلك، وأرى أن يأتوا بأمين. قلت: أرأيت إن مات رب النخل؟ قال: لا تنتقض المساقاة بموت واحد منهما، وهو قول مالك".
(3)
تقدمت هذه المسألة، وأقوال أصحاب المذاهب:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 162).
ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (4/ 417).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 82).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 508).
(4)
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 435) قال: "ولو مات العامل المساقي في ذمته قبل تمام العمل، وخلف تركة أتم الوارث العمل منها بأن يستأجر عليه؛ لأنه حق وجب على مورثه فيؤدي من تركته كغيره، وفي معنى التركة نصيبه من الثمرة
…
وله أن يتم العمل بنفسه أو بماله إن اختار، ويستحق المشروط
…
فإنها تنفسخ بالموت كالأجير المعين، ولا تنفسخ بموت المالك في أثناء المدة، بل يتم العامل، ويأخذ نصيبه". =
• قوله: (وَلِوَرَثَةِ الْمُسَاقِي أَنْ يَأْتُوا بِأَمِينٍ يَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ).
هذا عند مالك في حالة خيانة العامل، وعند الإمامين الشافعي
(1)
وأحمد
(2)
يوضع من يشرف عليه، فإن لم يجد ذلك استؤجر إنسان ليعمل، على أن يكون على حسابه هو.
• قوله: (وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ إِنْ أَبَى الْوَرَثَةُ مِنْ تَرِكَتِهِ)
(3)
.
يعني هؤلاء الذين انتقل إليهم إن لم يكونوا أمناء فحينئذ يتخذ الأجراء، فالمؤلف يتكلم عن الورثة لكن العامل نفسه قد لا يكون أمينًا.
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 235) قال: "ومتى انفسخت المساقاة بفسخ أحدهما، أو موته ونحوه، وقد ظهر ثمر فيما ساقاه عليه فالثمرة بينهما على ما شرطاه في العقد، وعلى عامل أو وارثه تمام العمل
…
فإن حدثت ثمرة أخرى بعد الفسخ فلا شيء له فيها
…
وإن باع عامل أو وارثه نصيبه لمن يقوم مقامه جاز".
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 436) قال: "ولو ثبت خيانة عامل فيها بإقراره أو ببينة أو يمين مردودة ضم إليه مشرف إلى أن يتم العمل، ولا تزال يده؛ لأن العمل حق عليه، ويمكن استيفاؤه منه بهذا الطريق
…
وأجرة المشرف عليه
…
فإن لم يتحفظ به - أي المشرف - أزيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من مال العامل من يتم العمل لتعذر استيفاء العمل الواجب عليه منه، والقدرة عليه بهذا الطريق".
(2)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 563)، قال:"فإن مات العامل في المساقاة والمناصبة فوارثه يقوم مقامه في الملك والعمل؛ لأنه حق ثبت للمورث وعليه، فكان لوارثه، ولا يجبر إن أبى الوارث أن يأخذ ويعمل، واستؤجر من تركته من يعمل، فإن لم تكن تركة، أو تعذر الاستئجار فيها؛ بيع من نصيب العامل ما يحتاج إليه تكميل العمل، واستؤجر من يعمله، أو إن باعه أي: نصيب العامل هو أو وارثه لمن يقوم مقامه؛ فيصح العمل على مشتر؛ لأنه صار ملكه".
(3)
يُنظر: "المدونة" لمالك (3/ 574) قال: "قلت: أرأيت العامل في النخل، إذا مات ما أنت قائل لورثته؟ قال: يقال لهم: اعملوا كما كان صاحبكم يعمل، فإن أبوا كان ذلك في مال الميت لازمًا لهم. قلت: أفيسلم الحائط إليهم إذا كانوا غير أمناء؟ قال: لا أرى ذلك، وأرى أن يأتوا بأمين. قلت: أرأيت إن مات رب النخل؟ قال: لا تنتقض المساقاة بموت واحد منهما، وهو قول مالك".
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكلة سَلَّمَ إِلَى الْوَرَثَةِ رَبُّ الْمَالِ أُجْرَةَ مَا عَمِلَ، وَفَسَدَ الْعَقْدُ).
معنى هذا أنها تفسخ، ويأخذ أجرة العمل على أنها نوع من الإجارة، فينزل منزلة الإجارة.
• قوله: (وَإِنْ كانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ لَزِمَتْهُ الْمُسَاقَاةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ بِالْعَجْزِ، وَلَمْ يُفَصِّلْ
(2)
. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا عَجَزَ وَقَدْ حَلَّ بَيْعُ الثَّمَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُسَاقِيَ غَيْرَهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ).
هذه المسألة فيها تفصيل في مذهب الإمامين الشافعي وأحمد
(3)
؛ لأن عجز العامل لا يخلو أن يكون واحدًا من أمرين؛ إمَّا أن يكون ضعفًا، وإمَّا أن يكون عجزًا كليًّا؛ يعني أن يحل الضعف في بدن الإنسان فلا يستطيع أن ينهض، فعليه أن يستأجر من يعينه على ذلك، وإن كان عجزًا كليًّا فعليه أيضًا أن يستأجر من يقوم برعاية وخدمة مزرعته؛ لأنه مطالب بتوفية ذلك؛ لأن هذا عقد قد التزم به، وعليه توفيته، فهذا أمر لازم له.
(1)
يُنظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 291) قال: "ولو مات المساقي في ذمته قبل تمام عمله، وخلف تركة عمل وارثه إما منها بأن يكتري عليه؛ لأنه حق واجب على مورثه، أو من ماله أو بنفسه، ويسلم له المشروط، فلا يجبر على الإنفاق من التركة، ولا يلزم المالك تمكينه من العمل بنفسه إلا إذا كان أمينًا عارفًا بالأعمال، فإن لم تكن تركة، فللوارث العمل ولا يلزمه، وخرج بزيادتي في ذمته المساقي على عينه فتنفسخ بموته كالأجير المعين، ولا تنفسخ المساقاة بموت المالك، بل تستمر ويأخذ العامل نصيبه".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 120) قال: "فإن عجز حينئذٍ عن العمل والإنفاق ولم تظهر الثمرة فله الفسخ، وللعامل أجرة عمله، وإن ظهرت فلا فسخ وهي لهما".
(3)
يُنظر: "الكافي" لابن قدامة (2/ 166) قال: "وإن عجز العامل عن العمل؛ لضعفه أو عن بعضه، أقام مقامه من يعمله، فإن لم يفعل، فهو كهربه، وإن استأذن رب المال، فأنفق بإذنه، رجع عليه".
وأما في حالة ما إذا حصل خيانة من هذا العامل أو شك في أمانته، فإنه يتخذ إنسانًا من قبل رب المال ليشرف عليه، فإن لم ينفع ذلك استأجر إنسانًا على حسابه، وقام مقامه في ذلك؛ لأن وضع يديه على هذه المزرعة أصبح غير صالح؛ إذ إنه لا يتحلى بالأمانة، فهذا هو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد.
* قولُهُ: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ اسْتُؤْجِرَ مِنْ حَظِّهِ مِنَ الثَّمَرِ)
(1)
.
ومالك يرى أنها لا تؤخذ من يده، لكن يستأجر ويبقى هو المسؤول مطلقًا، حتى ولو شك في أمره وفي أمانته.
* قولُهُ: (وَإِذا كَانَ الْعَامِلُ لِصًّا أَوْ ظَالِمًا لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ بِذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
. وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ لِلْعَمَلِ
(3)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا هَرَبَ الْعَامِلُ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ اسْتَأْجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 359) قال: "وإذا عجز، فليؤاجر غيره أو يساقي غيره، إلا أن يسترجع رب الحائط حائطه بغير شيء يعطي أحدهما الآخر ويتفقان على ذلك، ولا يعطيه شيئًا من غير الثمرة، ولا خبر في أن يقويه رب الحائط بعد أن عمل وعجز ليثبت فيه، ولا يقول: خذ ما أنفقت وأخرج، وإن رضيا".
(2)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 649) قال: "إذا كان العامل لصًّا أو ظالمًا لم يفسخ العقد لذلك ولم يمنع، ولكن يتحفظ منه
…
ودليلنا أن عقد المساقاة قد لزم، وكون العامل سارقًا فسق، لم يوجب فسخ العقد كما لو فسق بغير السرقة، ولأن ذلك لا يوجب تعذر السقي ولا منع القيام على الثمرة، وإنما يقتضي ضررًا ولا يمنع استيفاء المنافع فلا يفسخ لأجله السقي، أصله إذا كان ظالمًا وانتصف من معاملته، ولأن من أكرى رجلًا دارًا فوجده ينقب ويسرق لم يجز له فسخ الكراء، وقيل له: تحفظ منه، فكذلك المساقاة".
(3)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 224) قال: "وإن علم منه سرقة في النخل وفسادًا منع من ذلك وتكوري عليه من يقوم مقامه ".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 258) قال: "فلو هرب العامل أو حبس أو مرض=
وقريب من ذلك قول أحمد
(1)
.
* قولُهُ: (وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَشْتَرِطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الزَّكَاةَ بِخِلَافِ الْقِرَاضِ)
(2)
.
عرفنا قبل حكم اشتراط ذلك في القراض، فهل لرب المال أن يشترط على العامل الزكاة أو العكس؟
رأْيُنا أن ذلك لا يجوز
(3)
.
= قبل الفراغ من العمل وإن لم يشرع فيه وأتمه المالك متبرعًا بالعمل أو بمؤنته عن العامل -بقي استحقاق العامل لما شرط له، كما لو تبرع عنه أجنبي بذلك، علم به المالك أم جهله
…
فلو تبرع عنه بجميع العمل كان كذلك، ولو عمل في مال نفسه غير متبرع عنه، أو عمل الأجنبي عن المالك لا العامل استحق العامل فيما يظهر، بخلاف نظيره من الجعالة للزوم ما هنا".
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 571) قال: "فإن خان عامل في مساقاة أو مزارعة فمشرف يمنعه الخيانة، إن ثبتت بإقراره أو بينة أو نكول؛ فيضم إليه من يمنعه
…
فإن تعذر منعه من الخيانة، بأن لم يمكن المشرف حفظ المال، فعامل يستعمل مكانه ليحفظ المال، وأجرتهما أي: المشرف والعامل مكانه منه أي: الخائن، لقيامه عنه بما عليه من العمل، كما لو عجز العامل عن عمل لضعفه مع أمانته، فيضم إليه قوي أمين، ولا تنزع يده
…
فإن عجز العامل بالكلية أقام هو مقامه من يعمل، والأجرة عليه في الموضعين
…
وإن اتهم، أي: اتهمه رب المال بخيانة، حلف العامل، لاحتمال صدق المدعي، ولمالك اتهم عاملًا ضم أمين إليه بأجرة من مال نفسه أي: المالك، لعدم ثبوت خيانته ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 544) قال: "وجاز اشتراط جزء الزكاة أي: زكاة الحائط بتمامه على أحدهما بأن يخرجها من حصته لرجوعه بجزء معلوم، فإن سكتا عن اشتراطها بدئ بها ثم قسم الباقي على ما شرطا من الجزء فإن قصر الخارج عن النصاب ألغي الشرط وقسما الثمرة على ما شرطا على الراجح، وقيل لمشترطه قياسًا على القراض ".
(3)
قال الحنابلة بالتفصيل، ولم ينصوا على الاشتراط: ينظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 354) قال: "فإذا ثبت هذا، فإنه يلزم كل واحد منهما زكاة نصيبه، إذا بلغت حصته نصابًا
…
وإن لم تبلغ النصاب إلا بجمعهما، لم تجب
…
وعنه أنها تؤثر، فتؤثر هاهنا، فيبدأ بإخراج الزكاة ثم يقسمان ما بقي. وإن كانت حصة أحدهما تبلغ نصابًا دون الآخر، فعلى من بلغت حصته نصابًا الزكاة دون الآخر
…
إلا أن يكون=
* قولُهُ: (بِخِلَافِ الْقِرَاضِ، وَنِصَابُهُمَا عِنْدَهُ نِصَابُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الشُّرَكَاءِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ، وَالْعَامِلُ فِي مِقْدَارِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْمُسَاقَاةُ مِنَ الثَّمَرِ).
معلوم الآن شأن العقود، فهي قد لا تخلو من خلاف، نعم ربما تسير حتى نهايتها دون أن يحصل خلاف، لكن ربما يحصل تقصير أو عدم فهم أو نسيان، فيدعي أحد العاقدين شيئًا لا يوافقه عليه الآخر؛ كاختلافهم في قدر ما اتفقا عليه: هل هو على النصف أو الثلث أو الربع؟
فإذا اختلفا فالقول قول من؟ هل هو قول رب المال؟ أم هو قول المساقي، العامل؟
هذه فيها خلاف، هل يتحالفان؟ كل ذلك مر بنا ما يشبهه في المضاربة، وفي القراض، وسبب الخلاف تحديد المدعي والمدعى عليه، فسبب الخلاف هنا هو سبب الخلاف الذي كان هناك في القراض.
* قولُهُ: (فَقَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا أَتَى بِمَا يُشْبِهُ)
(1)
.
قراءتك كلها صحيحة سواء كنت تذهب إلى الجر على تقدير مع، أو إلى الرفع على أنه معطوف على رب.
ويرى الك أن القول قول العامل؛ لأنه هو المنكر، ويرى الإمام
= لمن لم تبلغ حصته نصابًا ما يتم به النصاب من مواضع أخر، فتجب عليهما جميعًا الزكاة، وكذلك إن كان لأحدهما ثمر من جنس حصته، يبلغان بمجموعهما نصابًا، فعليه الزكاة في حصته ".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 549) قال: "وأما مع اتفاق الجزء أو في صفقات فيجوز كما مر كاختلافهما بعد العمل في قدر الجزء ولم يشبها فمساقاة المثل، فإن أشبه أحدهما فقوله بيمينه، فإن أشبه أحدهما فقوله بيمينه، فإن أشبها معًا فالقول للعامل بيمينه، فإن اختلفا قبل العمل تحالفا وتفاسخا ولا ينظر لشبه ".
أحمد
(1)
أن القول قول رب المال، أي: المالك، والشافعي يقول: يتحالفان ويتفاسخان، فأقوال العلماء ثلاثة.
* قولُهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ، وَتَكُونُ لِلْعَامِلِ الْأُجْرَةُ، شَبَّهَهُ بِالْبَيْعِ)
(2)
.
يعني: تكون له أجرة المثل.
* قولُهُ: (وَأَوْجَبَ مَالِكٌ الْيَمِينَ فِي حَقِّ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تجِبُ عَلَى أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ شُبْهَةً).
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء ناس وأموالهم "، أو "لادعى ناس دماء رجال وأموالهم؛ لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"
(3)
أي: المنكر.
رأينا في مسائل كثيرة مرت أن الإمام مالكًا أحيانًا يقلب المسألة، فالأصل أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، فنجد مالكًا أحيانًا يعكس، يقول: لوجود شبهة، أي: قرينة بجانب الطرف الآخر تقوي
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 303، 304) قال: "وإن اختلفا في الجزء المشروط للعامل، فالقول قول رب المال
…
ولنا أن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل، فيكون القول قولُهُ
…
فإن كان مع أحدهما بينة، حكم بها، وإن كان مع كل واحد منهما بينة، ففي أيهما تقدم بينته؟ وجهان، بناءً على بينة الداخل والخارج".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4363) قال: "ولو اختلفا في قدر المشروط للعامل ولا بينة لأحدهما، أو لهما بينتان وسقطتا تحالفا وفسخ العقد كما في القراض، وللعامل على المالك أجرة عمله إن فسخ العقد بعد العمل وإن لم يثمر الشجر، وإلا فلا أجرة له. وإن كان لأحدهما بينة قضي له بها، وتصح الإقالة في المساقاة".
(3)
أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) واللفظ له عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه ".
رأيه، فيرى أنه يكون القول قولُهُ، وهذا هو سر الخلاف بين الإمامين أحمد ومالك في هذه المسألة.
* قولُهُ: (وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّ الَّتِي اشْتُهِرَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هِيَ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا).
مثل أن يساقي عدة مزارع، أو يعني أن هناك مسائل كثيرة تأتي في المساقاة، أو يشترط أحدهما مثلًا شروطًا، وهذه فيها جهالة، وربما يشير إليها في المسألة الأخرى إشارة أو يذكر أمثلة لها.
* قول: ([لقول في] أحكام المساقاة الفاسدة).
المساقاة الفاسدة هي التي تتطرق إليها الجهالة، أي: التي يكون فيها جهالة بنصيب كل واحد من الطرفين، وبيان ذلك يحتاج إلى أمثلة، وهذه من الأمثلة التي لم يعرض لها المؤلف، وهي كما يلي:
المثال الأول:
أن يشترط أحدهما -مثلًا- أن يكون نصيبه في ناحية، وهذا في ناحية أخرى، كأن يكون مثلًا العامل نصيبه -أي: زرعه- في الناحية الشمالية، وهذا زرعه في الناحية الجنوبية، أو هذا في الشرقية، وهذا في الغربية، إذا حدد كل منهما مكانًا فهذا لا يجوز، وتعد إجارة فاسدة؛ لأن فيها جهالة، وهذه الجهالة تضر بكل واحد منهما، وإن كان الضرر في النهاية سيقع على أحدهما؛ لأن إحدى الناحيتين ربما تخرج، والأخرى لا تخرج، فيكون قد غبن أحدهما ولحق به الضرر، والآخر هو الذي ظفر بالثمرة
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (11/ 514)، قال: "تسمية الجزء مشاعًا فى المساقاة:
م: (قال: ويشترط تسمية الجزء مشاعًا) ش: يتعلق بقوله: وسمى جزءًا من الثمرة مشاعًام: (لما بينا في المزارعة) ش: أشار به إلى قولُهُ: ولا تصح المزارعة إلى=
وبعض الروايات التي جاءت في حديث رافع، تأولها العلماء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك في حديث رافع حينما قال: كنا نكرم المزارع فيزرع العامل هنا ونزرع هنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا". ثم بين العلة؛ لأنها ربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه
(1)
، فهذا هو الضرر، فالجهالة التي تسري إلى نصيب كل واحد منهما تكون سببًا في فساد المساقاة.
المثال الثاني:
لو أن أحدهما اشترط -مثلًا- أن يكون ما ينبت على السواقي، على الجداول، يكون من حقه، ومعلوم أن هذه السواقي، وهذه الجداول، يمر عليها الماء كثيرًا فما يكون عليها يأخذ نصيبًا أكثر مما يأخذه غيره، فربما كانت ثمرتها أكثر وأجود، ولذلك قالوا أيضًا: هذا لا يجوز، سواء شرطه أحدهما منفردًا فقال: نصيبي ما يكون على الجداول وعلى الأنهار، وعلى مواضع تجمع الماء، أو غير منفرد كقوله: يضاف ما يكون على
= قولُهُ: إلا أن يكون الخارج بينهما مشاعًا تحقيقًا لمعنى الشركة. م: (إذ شرط جزء معين يقطع الشركة) ش: أي لأن اشتراط جزء معين من الخارج لأحدهما أو لغيرهما يقطع الشركة فتفسد المعاملة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 540) قال: "بجزء
…
والمراد بالجزء ما قابل المعين كثمرة نخلة بعينها أو آصع أو أوسق لا ما قابل الكل؛ إذ يجوز أن يكون جميع الثمرة للعامل أو لرب الحائط، قل الجزء كعشر أو كثر شاع في جميع الحائط، احترازًا مما إذا كان شائعًا في نخلة معينة أو نخلات، وعلم قدره كربع احترازًا مما إذا جهل، نحو: لك جزء أو جزء قليل أو كثير".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (7/ 377) قال: "قال المزني: ولو ساقاه على حائط فيه أصناف من دقل وعجوة وصيحاني على أن له من الدقل النصف ومن العجوة الثلث ومن الصيحاني الربع، وهما يعرفان كل صنف كان كثلاثة حوائط معروفة، وإن جهلا أو أحدهما كل صنف لم يجز".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 544) قال: "أو شرط لأحدهما زرع ناحية معينة فسدت، قال في المغني والمبدع: بإجماع العلماء".
(1)
تقدم تخريجه.
الجداول إلى نصيبي، نصيبي كذا ويضاف إليه كذا، فهذا أيضًا لا يجوز
(1)
.
المثال الثالث:
إذا اشترط أحدهما -كما مر- إلى جانب نصيبه أن يأخذ مبلغًا من الدراهم أو الدنانير، فقد بينا العلة في ذلك سلفًا، وأن العلماء قالوا ببطلان هذ! الشرط؛ لأنه ربما يكون ما يحصل من الثمر أقل مما اشترطه العامل أو رب المال، فكل ما يؤدي إلى جهالة نصيب كل واحد منهما، أو ما فيه غرر فإنه لا يجوز، هذا هو الذي أشار إليه المؤلف
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام شرح غرر الأحكام" لمنلا خسرو (2/ 326) قال: "فتفسد إن
…
شرطا لأحدهما ما يخرج من موضع معين أو ما على الماذيانات
…
والسواقي
…
وهي أكبر من الجدول وأصغر من النهر، فإنه أيضًا مفسد؛ لاحتمال أن لا يخرج إلا من ذلك الموضع فيكون الشرط قاطعًا للشركة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 307) قال: "قال مالك في "العتبية": ولا ينبغي للمساقي أن يشترط ما على ربيع الماء من النخل، ولا بأس أن يشترط الجداول إذا كانت يسيرة أن يسقيها، والربيع الساقية، والجداول الشجر الصغار من البحار كلها".
ومذهب الشافعية: لم نقف عليه.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 544) قال: "أو يشترط لأحدهما ما على الجداول إما منفردًا أو مع نصيبه فسدت المزارعة والمساقاة".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (23/ 160) قال: "وإذا شرط المزارع على رب الأرض مع حصته من الزرع دراهم معلومة أو شيئًا من العمل- فسدت المزارعة؛ لأن باشتراط شيء من العمل عليه تنعدم التخلية، وباشتراط الدراهم عليه يجتمع الإجارة مع الشركة في الخارج، وذلك مفسد للمزارعة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (21/ 141) قال: "بخلاف إذا اشترط أحدهما على صاحبه زيادة من دنانير أو دراهم أو عروضًا أو عملًا كثيرًا يعظم نفقته ويتأبد لرب الحائط منفعته، فإن هذا كله وما أشبهه يرد فيه إلى إجارة مثله، فهذا أصل فيما يرد فيه إلى مساقاة مثله ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 427) قال: "ولا يصح كون العوض غير الثمر، فلو ساقاه بدراهم أو غيرها لم تنعقد مساقاة ولا إجارة إلا إذا فصل الأعمال، وكانت معلومة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 544) قال: "أو شرط لأحدهما دراهم معلومة لم تصح؛ لأنه ربما لا يخرج من الأرض إلا ذلك فيؤدي إلى الضرر".
* قولُهُ: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي جَوَّزَهَا الشَّرْعُ أَنَّهَا تَنْفَسِخُ مَا لَمْ تَفُتْ بِالْعَمَلِ)
(1)
.
ما لم تفت يعني: ما لم يكن قطع شوطًا في العمل، يعني المساقاة إذا كانت في أولها تفسد، لكن فأتت بالعمل.
(وَاخْتَلَفُوا إِذَا فَاتَتْ بِالْعَمَلِ مَاذَا يَجِبُ فِيهَا؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى إِجَارَةِ الْمِثْلِ فِي كلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيُّ)
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام" لملا خسرو (2/ 329) قال: "تبطل أي: المساقاة بموت أحدهما ومضي مدتها والثمر نيء
…
وإنما بطلت؛ لأن صاحب الأرض استأجر العامل ببعض الخارج، ولو استأجره بدراهم بطلت الإجارة بموت أحدهما، فكذا إذا استأجره ببعض الخارج
…
ولا تفسخ إلا بعذر كما في الإجارات، ومنه كون العامل عاجزًا عن العمل ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي"(3/ 722) قال: "وتفسخ المساقاة الفاسدة قبل العمل مطلقًا، سواء وجبت فيها أجرة المثل أو وجبت مساقاة المثل ".
ومذهب الشافعية: لم نقف عليه.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 556) قال: " (فائدة: إذا غرس له الشجر ثم أخذ في العمل، فلا يستحق بهذا العمل الأول ثمرة تظهر، ثم إن استمر العمل استحق ما يظهر كل عام وإلا فلا، وظاهر كلامهم أنه لو كان شجره لا تظهر ثمرته إلا بعد سنين وأخذه مساقاة؛ لا يستحق بعمله إلا ثمرة أول عام؛ لأنها عقد جائز، فإن دخل عليه غرر أو ضرر فهو الذي أدخله على نفسه، وإن فسخ قبل ظهور الثمرة فلا شيء له، صوإن فسخ رب المال، فعليه أجرة المثل؛ بخلاف المناصبة فإنه هنا يستحق ثمرة كل سنة؛ لأنه يلزمه العمل إلى أن تبيد".
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (5/ 151) قال: "إذا ساقاه على ودي ليغرسه ويكون الشجر بينهما، أو ليغرسه ويتعهده مدة كذا، والثمرة بينهما -فهو فاسد على الصحيح. وقيل: يصح فيهما للحاجة. وقيل: يصح في الثاني. فعلى الصحيح: إذا عمل في هذا الفاسد، استحق أجرة المثل إن كانت الثمرة متوقعة في هذه المدة، وإلا فعلى الوجهين في شرط الكل للمالك ".
وكذلك الإمام أحمد
(1)
.
* قولُهُ: (وَقِيَاسُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ
(2)
. وَقِيلَ: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةِ الْمِثْلِ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجشُونِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ
(3)
. وَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ فِي بَعْضِهَا: تُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةٍ مِثْلِهَا، وَفِي بَعْضِهَا: إِلَى إِجَارَةِ الْمِثْلِ
(4)
. وَاخْتَلَفَ التَّأْوِيلُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ).
سيسرد المؤلف قول ابن القاسم تفصيلًا لعدم وجود دليل، لكن نحن عندنا أصول، نحن ننظر إلى الجهالة فما يحصل من جهالة نرى أنه يؤثر في العقد، لكن بعد أن التزم كل منهما وصار العقد، وانقطع العمل وبدأت الثمرة وإن لم يحصل نضج، فإن العامل لا يتركها لهذا هو السبب، وهو أنه قطع مرحلة في العمل.
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/ 575) قال: "وحيث فسدت المزارعة والمساقاة؛ فالزرع في المزارعة لرب البذر، أو الثمر إذا فسدت المساقاة لربه: أي الشجر؛ لأنه عين ماله ينقلب من حال إلى حال، وينمو كالبيضة تحضن فتصير فرخًا، وعليه أي: رب البذر والشجر أجرة مثل عامل؛ لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له، فرجع إلى بدله وهو أجرة المثل ".
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 375) قال: "فإن فأتت بالعمل فقياس قول ابن القاسم أن يرد إلى إجارة مثلهم، وإن عمل بهم من غير شرط منع من ذلك، ولا يفسد العقد بذلك ".
(3)
يُنظر: "الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي"(3/ 722، 723) قال: "أو تفسخ في أثنائه: أي العمل إن وجبت فيها أجرة المثل، لا إن وجبت مساقاة المثل فلا تفسخ إن اطلع عليها بعد الشروع في العمل، وبين ما يجب فيه أجرة المثل بقوله: بأن خرجا عنها: أي: عن المساقاة إلى إجارة فاسدة أو بيع فاسد كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وإنما فسخت في أثناء العمل؛ لأن للعامل فيها أجر ما عمل قل أو كثر، فلا ضرر عليه في الفسخ ".
(4)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 385، 386) قال: " (الحالة الثالثة: أن يطلع على فساد المساقاة بعد تمام العمل، والحكم فيها على مذهب ابن القاسم أنه يجب في بعض الصور إجارة المثل، وفي بعضها مساقاة المثل
…
فمذهب ابن القاسم أنه يجب في بعض الصور إجارة المثل، وفي بعضها مساقاة المثل ".
وأما ابن القاسم فقال في بعضها ترد إلى مساقاة مثلها، وفي بعضها إلى إجارة المثل، واختلف التأويل عنه في ذلك، وقيل في مذهبه أنها ترد إلى إجارة المثل، إلا في أربع مسائل، وابن القاسم -كما هو معلوم- هو تلميذ للإمام مالك، وهو من أصحابه، وهو أيضًا راوي "المدونة" عنه، وكان إذا توقف الإمام في مسألة أجاب، وربما وجدت مسائل لم يجب عليها مالك فيجيبها هو، وهذه هي رواية سحنون عن ابن القاسم عن مالك، فليس كل ما في "المدونة" من قول مالك، فكثير منه من قول ابن القاسم.
* قولُهُ: (فَقِيلَ فِي مَذْهَبِهِ: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى إِجَارَةِ الْمِثْلِ إِلَّا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ، فَإِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةِ مِثْلِهَا: إِحْدَاهَا: الْمُسَاقَاةُ فِي حَائِطٍ فِيهِ تَمْرٌ قَدْ أَطْعَمَ)
(1)
.
" أطعم "، يعني: بدت ثمرته.
* قولُهُ: (وَالثَّانِيَةُ: إِذَا اشْتَرَطَ الْمُسَاقِي عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ)
(2)
.
إذا اشترط على رب المال أن يعمل معه أو أن يعمل معه غلامه، فهذا الشرط صحيح، وقد سبق في المقارضة.
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (5/ 386) قال: "مساقاته مع ثمر أطعم يشير إلى قولُهُ في "المدونة": ومن طابت ثمرة نخله، فساقاه هذه السنة وسنتين بعدها لم يجز وفسخ، وإن وجد العامل الثمرة كان له أجرة مثله، وما أنفق فيها، فإن عمل بعد جداد الثمرة لم تفسخ بقية المساقاة، وله استكمال الحولين الباقيين، وله فيهما مساقاة مثله، ولا أفسخهما بعد تمام العام الثاني؛ إذ قد تقل ثمرة العام الثاني، وتكثر في الثالث، فأظلمه، وهذا كأخذ العرض قراضًا إن أدرك بعد بيعه، وإن أدى وبعد أن يعمل فسخ، وله أجر بيعه ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 548 - 549) قال: "فمساقاة المثل وذكر لذلك تسع مسائل بقوله
…
أو اشترط العامل عمل ربه معه في الحائط لجولان يده، وأما لو كان المشترط رب الحائط ففيه أجرة المثل
…
أو اشترط العامل عمل دابة أو غلام لرب الحائط وهو أي: الحائط صغير".
* قولُهُ: (وَالثَّالِثَةُ: الْمُسَاقَاةُ مَعَ الْبَيْعِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ)
(1)
.
المساقاة مع البيع في صفقة واحدة جرت منفعة، فهنا يأتي الخلاف في ذلك.
* قولُهُ: (وَالرَّابِعَةُ: إِذَا سَاقَاهُ فِي حَائِطٍ سَنَةً عَلَى الثّلثِ وَسَنَةً عَلَى النِّصْفِ
(2)
. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ إِذَا لَحِقَهَا الْفَسَادُ مِنْ قِبَلِ مَا دَخَلَهَا مِنَ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ مِنْ قِبَلِ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِطُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ زِيَادَةٍ رُدَّ فِيهَا إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ).
يعني: يشترط أحدهما بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهذا يعتبر من العيوب؛ لأن الثمرة تباع بعد بدو الصلاح حتى يعرف كل واحد منهما نصيبه منها.
* قولُهُ: (مِثْلَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى أَنْ يَزِيدَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ
(3)
).
هذا من الأمثلة التي ذكرنا، وقد مرت، يعني يشترط زيادة دراهم أو دنانير، أو يشترط موقعًا معينًا في البستان يكون له.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 548، 549) قال: "أو وقعت مع بيع لسلعة أي: ساقاه بجزء معلوم، وباعه سلعة من المساقاة صفقة واحدة، وينبغي أن كل ما يمتنع اجتماعه مع المساقاة من إجارة وجعالة ونكاح وصرف كذلك؛ أي تفسخ وفيها مساقاة المثل ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 549) قال: "أو اختلف الجزء الذي للعامل بسنين وقع العقد عليها جملة كأن يعاقده على سنتين أو أكثر على أن له النصف في سنة والثلث مثلًا في أخرى، أو اختلف الجزء في حوائط أو حائطين صفقة واحدة أحدهما بالثلث والآخر بالنصف مثلًا فمساقاة المثل ".
(3)
مرت هذه المسألة وذكرنا أقوال الفقهاء فيها.
* قولُهُ: (وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ إِنْ كَانَتْ مِنْ رَبِّ الْحَائِطِ كَانَتْ إِجَارَةً فَاسِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَامِلِ كَانَتْ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ. وَأَمَّا فَسَادُهُ مِنْ قِبَلِ الْغَرَرِ مِثْلُ الْمُسَاقَاةِ عَلَى حَوَائِطَ مُخْتَلِفَةٍ فَيُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةِ الْمِثْلِ
(1)
).
يعني: أن يأخذ رجل عدة مزارع يساقي عليها.
* قولُهُ: (وَهَذَا كلُّهُ اسْتِحْسَانٌ جَارٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ).
استحسان جاري على غير قياس؛ لأن القياس له أصول، وله علة، فهو إلحاق فرع بأصل لعلة تجمع بينهما
(2)
، لكن قد تستحسن مسائل على غير قياس، ورأْيُنا أن الاستحسان ما لم يخالف نصّا صحيحًا فهو مقبول، وعمل به علماء
(3)
، وحتى من قيل بأنه أنكره -وهو الإمام الشافعي- قد عمل به، لكن الاستحسان الذي يبنى على الهوى أو على الرغبات أو نحو ذلك هو هذا الذي نبذه العلماء وحاربوه.
* قولُهُ: (وَفِي الْمَسْاَلَةِ قَوْلٌ رَابعٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ يُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةِ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَكثَرَ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ إِنْ كانَ لِلْمُسَاقِي، أَوْ أَقَلَّ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْمُسَاقِي
(4)
، وَهَذَا كَافٍ بِحَسَبِ غَرَضِنَا).
(1)
مرت هذه المسألة وذكرنا أقوال الفقهاء فيها.
(2)
اشترط الفقهاء للقياس أربعة أركان: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم. انظر:"المستصفى" للغزالي (ص 280) وما بعدها، و"الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 183) وما بعدها.
(3)
اتفق العلماء على أن القياس إذا خالف أو عارض النص أو سنة صحيحة، فإنه لا يجوز استعماله ويسقط. انظر:"العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى الفراء (4/ 1281) وما بعدها، و"الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (1/ 554) وما بعدها، و"المستصفى"(102) وما بعدها.
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 549) قال: "وأما مع اتفاق الجزء أو في صفقات فيجوز كما مر كاختلافهما بعد العمل في قدر الجزء ولم يشبها فمساقاة المثل ".
يقصد أنه كاف في مباحث المساقاة، ففي غرضه أن يقتصر على أمهات المسائل، والحقيقة أنه في البيوع بدأ يدخل بعض الفروع، ويفصل في مذهب مالك.
* * *
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
قال المصنف رحمه الله تعالى
[كِتَاب الشَّرِكَةِ]
[الرُكنُ الْأَوَلُ: مَحِل شركة العنان مِنَ الْأَمْوَالِ]
* قولُهُ: (وَالنَّظَرُ فِي الشَّرِكةِ: فِي أَنْوَاعِهَا، وَفِي أَرْكَانِهَا الْمُوجِبَةِ لِلصِّحَّةِ فِي الْأَحْكَامِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمَا اشْتَهَرَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا قَصَدْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالشَّرِكَةُ بِالْجُمْلَةِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: شَرِكَةُ الْعِنَانِ، وَشَرِكَةُ الْأَبْدَانِ، وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ).
الآن بعد أن أجمل المؤلف وعدد لنا أنواع الشركات الأربعة، ولا حاجة لأن نذكر الخامسة؛ لأنه قدمها، أخذناها في بحث مستقل، وهي شركة المضاربة، والتي عبر عنها هو بالقراض
(1)
.
(1)
والبعض جعلها ستة؛ قال الدردير في "الشرح الكبير"(3/ 351): "الشركة ستة أقسام: مفاوضة وعنان وجبر وعمل وذمم ومضاربة، وهو القراض ".
شركة العنان: سميت شركة العنان لتساوي الشريكين في المال والتصرف؛ من هنا سميت شركة عنان؛ لأن كل واحد منهما دفع مالًا، وكل واحد منهما يتصرف في هذه الشركة، فهما تساويا في التصرف وفي المال؛ كالفارسين إذا سويا عنان فرسيهما، أي: سارا جميعًا، هذا يأتي فيضع فرسه بجوار هذا، كأن عنان هذا مع عنان هذا، فيسيران سويًّا.
فالمراد بذلك التساوي، فهذه هي شركة العنان، وبعضهم قال: مشتقة من عانن، وبعضهم: من عن له الشيء، بمعنى عن له أن يشارك أخاه، إلى غير ذلك، والأشهر أنها من عنان الفرس
(1)
.
* قولُهُ: (وَاحِدَةٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ شَرِكَةُ الْعِنَان
(2)
، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا اللَّفْظَ، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ شُرُوطِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ. وَالثَّلَاثَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَمُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِ شُرُوطِهَا عِنْدَ مَنِ اتَّفَقَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا).
هذه الأصول أو الأركان التي سيبحثها المؤلف، كعادته يقدم ويعطي كشافًا لما سيتكلم عنه، فهو أعطانا الآن تصورًا مجملًا عما سيتحدث عنه بعد ذلك، وسيأخذها واحدًا واحدًا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
شركة عنان: اشتراكهما في مالين متساويين، كأن ذلك الشيء عنَّ لهما؛ أي: عرض، يقال: عن لي الشيء يعن ويعن، وقال قوم: بل ذلك من عنان الدابة، أي: استويا في الشيء، فكان لكل واحد منهما أن يعن؛ أي يمنع صاحبه من التصرف، وذلك إذا أراد فسخ الشركة. يُنظر:"حلية الفقهاء" لابن فارس (ص 144)، و"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 200).
(2)
مذهب الحنفية: انظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (4/ 311).
ومذهب المالكية: انظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 359).
ومذهب الشافعية: انظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 283).
ومذهب الحنابلة: انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 207).
(الْقَوْلُ فِي شَرِكةِ الْعِنَانِ)
* قولُهُ: (وَأَرْكَانُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ ثَلَاثَةٌ؛ الْأَوَّلُ: مَحِلُّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الرِّبْحِ مِنْ قَدْرِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ. الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْعَمَلِ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ قَدْرِ الْمَالِ.
الرُكنُ الْأَوَلُ: فَأَمَّا مَحِلُّ الشَّرِكةِ).
محلها: هو الشيء الذي تجوز فيه، ومعلوم أن هناك نقودًا، يعني دراهم ودنانير، وريالات ودولارات في وقتنا الحاضر، الأصل العملة المعروفة مهما اختلفت، وهناك عروض تجارة، وعروض التجارة هل تصلح أن تكون رأس مال؟ وإن قلنا بصلاحيتها فهل لا بد من تقويمها أو أن التقويم لا يجوز ولا بدَّ من بيعها وجعل ثمنها هو رأس المال؟
* قولُهُ: (فَمِنْهُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَجُوزُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنَ الْعَيْنِ؛ أَعْنِي: الدَّنَانِيرَ، وَالدَّرَاهِمَ)
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (4/ 299) قال: "وركنها في شركة العين اختلاطهما، وفي العقد اللفظ المفيد له ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (3/ 348) قال: "إنما تصح
…
بذهبين أو ورقين متعلق بتصح أي: بذهب من أحدهما وذهب من الآخر أو ورق كذلك لا بذهب من جانب وورق من الآخر".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 286) قال: "وتصح الشركة في كل مثلي إجماعًا في النقد، وعلى الأصح في المغشوش الرائج؛ لأنه باختلاطه يرتفع تميزه كالنقد، ومنه التبر
…
فما وقع للشارح من اعتماد أنها لا تجوز فيه ينبغي حمله على نوع منه لا ينضبط دون المتقوم".=
يقصد بالعين النقدان، فإنه يعبر عنهما بذلك، ونحن نتحدث عن الدراهم والدنانير لأن هذه لغة الفقهاء، وما كان يعرف إلا الدينار والدرهم، وبهما قدرت الزكاة كما عرفنا، وفي قطع يد السارق لا قطع إلا في ربع دينار، والخلاف في ذلك قائم
(1)
.
والمعتبر الآن عندنا هو الريالات، وهناك الدولار، وهناك اليمن، إلى غير ذلك من المعاملات المعتبرة؛ لأن هذه وإن كنا نراها ورقًا لكن لها
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 208) قال: "نقدًا ذهبًا أو فضة، مضروبًا أي: مسكوكًا ولو بسكة كفار، معلومًا قدرًا وصفة، ولو كان النقد مغشوشًا قليلًا؛ لعسر التحرز منه لا كثيرًا، أو كان النقد من جنسين كذهب وفضة، أو كان متفاوتًا بأن أحضر أحدهما مائة والآخر مائتين، أو كان شائعًا بين الشركاء إن علم كل منهم قدر ماله
…
وعلم منه أنها لا تصح على عرض نصًّا".
(1)
اختلف أهل العلم فيما يجب فيه قطع يد السارق:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (4/ 82) قال: "أخذ مكلف
…
ناطق بصير فلا يقطع أخرس لاحتمال نطقه بشبهة، ولا أعمى لجهله بمال غيره عشرة دراهم لم يقل مضروبة لما في المغرب: الدراهم اسم للمضروبة جيادًا أو مقدارها، فلا قطع بنقرة وزنها عشرة لا تساوي عشرة مضروبة، ولا بدينار قيمته دون عشرة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 333) قال: "بسرقة طفل
…
ذكر أو أنثى حر يخدع، وكذا المجنون من حرز مثله كدار أهله أو مع كبير حافظ له، فإن كان الطفل كبيرًا واعيًا، أو لم يكن في حرز مثله لم يقطع سارقه، أو بسرقة ربع دينار شرعي أو ثلاثة دراهم شرعية خالصة من الغش كانت لشخص أو أكثر، أو بسرقة ما يساويها من العروض والحيوان رقيقًا أو غيره ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (9/ 124، 125) قال: "يشترط لوجوبه في المسروق أمور كونه ربع دينار؟ أي: مثقال ذهبًا مضروبًا
…
وشذ من قطع باقل منه وخبر: "لعن الله السارق يسرق البيضة أو الحبل فتقطع يده" إما أريد بالبيضة فيه بيضة الحديد وبالحبل ما يساوي ربعًا أو الجنس
…
خالصًا وإن تحصل من مغشوش بخلاف الربع المغشوش؛ لأنه ليس ربع دينار حقيقة، أو كونه فضة كان أو غيرها يساوي قيمته بالذهب المضروب الخالص حال الإخراج من الحرز".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 367، 368) قال: "الشرط الثالث كون المسروق مالًا؛ لأن غير المال ليس له حرمة المال ولا يساويه فلا يلحق به، والأخبار مقيدة للآية".
أصول محفوظة، فحلت محل النقد، فالدراهم والدنانير لا خلاف فيها؛ لأنها رأس الأثمان، وهي قيمة المتلفات، فهي التي يرجع إليها في كل أمر، بهما يباع ويشترى، وكذلك الريالات والجنيهات والدولارات؛ إذًا هي قيمة الأثمان، وهي رؤوس الأموال، وهي أيضًا قيمة المتلفات، فهذه ليس فيها خلاف، وهي لا تتغير، بل هي ثابتة وأسعارها محفوظة.
* قولُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْعًا لَا تَقَعُ فِيهِ مُنَاجَزَةٌ، وَمِنْ شَرْطِ الْبَيْعِ فِي الذَّهَبِ وَفِي الدَّرَاهِمِ الْمُنَاجَزَةُ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ خَصَّصَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الشَّرِكَةِ).
يعني شبه هذا بالبيع، فهذا يضع وهذا يضع كأنه بيع، لكن هذه استثنيت كما ذكر المؤلف، وكم من الأحكام التي رأينا أنها استثنيت من المنع! كما سبق -مثلًا- أن العرايا استثنيت من المزابنة، وكما استثنيت بعض أنواع من البيوع، وكذلك الجعالة استثنيت أيضًا مسائلها، وأحكام الإجارة، ولذلك جعل الفقهاء لها مباحث مستقلة.
* قولُهُ: (وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى الشَّرِكَةِ بِالْعَرْضَيْنِ يَكُونَانِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ)
(1)
.
هكذا قال فيما علم، وأحسن رحمه الله في هذا القول؛ لأن أكثر الفقهاء قال بذلك، لكن قد يكون ثمة من يخالف.
وهذا نص عليه الشافعي، يعني في العرضين إذا اتحدا وتماثلا.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِي الشَّرِكةِ بِالْعَرْضَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَبِالْعُيُونِ الْمُخْتَلِفَةِ).
في العرضين المختلفين يعني من أجناس مختلفة ثياب أطعمة وغير ذلك.
* قولُهُ: (وَبِالْعُيُونِ الْمُخْتَلِفَةِ، مِثْلَ الشَّرِكةِ بِالدَّنَانِيرِ مِنْ أَحَدِهمَا وَالدَّرَاهِمِ مِنَ الآخَرِ).
(1)
نعم ثمة خلاف يسير، وقد تقدم أقوال الفقهاء في ذلك.
إذا كان هذا يقدم دراهم، وهذا يقدم دنانير، وهذا يقدم ريالات، وهذا يقدم دولارات، فهل هذا جائز أو لا؟ سيأتي الكلام في كلٍّ؛ سيبحثه المؤلف إن شاء الله وسنعلق عليه.
* قولُهُ: (وَبِالطَّعَامِ الرِّبَوِيِّ إِذَا كَانَ صِنْفًا وَاحِدًا، فَهَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ)
(1)
.
عرفنا الطعام الربوي وتكرر؛ البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، وما أُلحق بذلك، ذلك أيضًا مما مر ذكره قبل.
* قولُهُ: (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى).
الآن سيدخل في تفصيل ما أجمله.
* قولُهُ: (فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَكَا فِي صِنْفَيْنِ مِنَ الْعُرُوضِ، أَوْ فِي عُرُوضٍ وَدَرَاهِمَ أوْ دَنَانِيرَ، فَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ)
(2)
.
وأحمد
(3)
، لكن مذهب أحمد بالنسبة للدراهم والدنانير، أما العروض فسيأتي الكلام فيها من حيث جوازها وعدمه.
* قولُهُ: (وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ
(4)
. وَسَبَبُ الْكَرَاهِيَةِ: اجْتِمَاعُ
(1)
سيأتي ذكرها مفصلة.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 349) قال: "وتصح بهما أي: بالذهب والفضة منهما أي: من كل من الشريكين، وتعتبر مساواة ذهب كل وفضته لما للآخر في الأمور الثلاثة المتقدمة، وبعين من جانب وبعرض من آخر، وبعرضين من كل واحد عرض مطلقًا اتفقا جنسًا أو اختلفا، ودخل فيه ما إذا كان أحدهما عرضًا والآخر طعامًا".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 208) قال: "وعلم منه أنها لا تصح على عرض نصًّا؛ لأن الشركة إما أن تقع على عين العرض أو قيمته أو ثمنه، وعينها لا يجوز عقد الشركة عليها
…
وقيمتها لا يجوز عقدها عليها
…
واشترط كون النقد مضروبًا دراهم ودنانير؛ لأنها قيم المتلفات وأثمان المبيعات وغير المضروب كالعروض ".
(4)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير"(3/ 351) قال: " (قولُهُ: ولو=
الشَّرِكَةِ فِيهَا وَالْبَيْعُ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَرْضَانِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاعَ جُزءًا مِنْ عَرَضِهِ بِجُزْءٍ مِنَ الْعَرَضِ الْآخَرِ. وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ فِي الْعُرُوضِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا الشَّرِكَةُ الْقِيَمَ).
وأحمد أيضًا
(1)
.
* قولُهُ: (وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ إِلَّا عَلَى أَثْمَانِ الْعُرُوضِ)
(2)
.
عرفنا الآن أن مالكًا يقول في العروض بأنها تجوز، لكن الجواز يكون على قيمتها، تقدر قيمتها فتجعل رأس المال، وهذا هو مذهب أحمد، لكن الإمام أحمد له روايتان
(3)
؛ الرواية الأولى: أنه لا تجوز الشركة في عروض التجارة، والرواية الأخرى: أن الشركة تجوز في عروض التجارة، فنأخذ هذا القول الأخير الذي يلتقي به مع مالك، فيلتقي به مع مالك حكمًا وتقديرًا، فالإمامان مالك وأحمد يريان أن هذه العروض تقدر قيمتها.
= اتفقا نوعًا وصفة وقدرًا) رد بلو على ما روي عن ابن القاسم من جوازها حينئذٍ قياسًا على العين (قولُهُ: لأنه يؤدي إلخ) هذا التعليل لعبد الحق قال ابن فرحون: واعترض ذلك بأنه أجاز في المدونة الشركة بالنقد والطعام، والعرض والطعام، ولو كان المنع لما ذكر من العلة لمنع؛ لأن فيه بيع الطعام قبل قبضه اهـ
…
وقد تقدم الجواب عن هذا بأنهم إنما أجازوا الشركة بالنقد والطعام، والعرض والطعام تغليبًا لجانب النقد والعرض على الطعام، وإذا كانت الشركة بطعامين فليس هناك شيء آخر غير الطعام يغلب جانبه ".
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 258) قال: "لا تصح على عرض نصًّا؛ لأن الشركة إما أن تقع على عين العرض أو قيمته أو ثمنه وعينها لا يجوز عقد الشركة عليها؛ لأنها تقتضي الرجوع عند فسخها برأس المال أو مثله ولا مثل لها يرجع إليه، وقيمتها لا يجوز عقدها عليها
…
واشترط كون النقد مضروبًا دراهم ودنانير؛ لأنها قيم المتلفات وأثمان المبيعات وغير المضروب كالعروض ".
(2)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 207) قال: "والذي يشبه قول الشافعي أنه لا تجوز الشركة في العرض ".
(3)
تقدم نقله عنه.
فما معنى تقدير القيمة؟
يعني -مثلًا- تقدر هذه العروض بما تساويه من ريالات، فيقال مثلًا: تساوي عشرة آلاف ريال، فيكون رأس المال هو العشرة آلاف، التي هي قيمة هذه العروض.
والإمام الشافعي يخالف في ذلك ويقول: هذا لا يغير من المعنى شيئًا؛ لأن هذه العروض تتغير،" فربما قلت قيمتها وربما زادت، وربما قلت قيمة بعضها وزادت قيمة البعض الآخر، فهي إذن غير منضبطة، فقال: تكون بالأثمان، تباع وثمن هذه العروض يكون أصل المال، هذا هو الفرق.
فالمؤلف يشير إشارات دقيقة ينبغي أن ننتبه لها وهي تؤدي المعنى، فعند مالك وأحمد تجوز الشركة بالعروض على أن يكون رأس المال هو قيمة هذه العروض، فتقدر عند بدء الشركة، عند العرض، فتكون هي رأس المال، وعند الإمام الشافعي لا بد من الثمن، أي: تباع بثمن، وثمن العروض يكون هو رأس مال الشركة.
* قولُهُ: (وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَب اِلشَّافِعِيِّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ مِثْلَ الْقِرَاضِ لَا تَجُوزُ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ).
لأول مرة يذكر أبا حامد، لم يذكره في الكتاب قبل، فمنذ أن بدأنا ما أذكر أنه عرض له، وهو من الشافعية، ومن العلماء المعروفين، وهو محمد بن محمد الغزالي الطوسي، صاحب كتاب "البسيط " و"الوسيط" و"الوجيز" في فقه الشافعية، وصاحب كتاب "إحياء علوم الدين "، وهو من العلماء الذين يعدون بحرًا في العلوم؛ لكن عليه مآخذ معروفة، وبخاصة في كتاب الإحياء، ومعلوم أثر الفلسفة في كثير من العلماء، والغزالي قد تأثر بالفلسفة هو ومجموعة من العلماء، ومن العلماء من يقول بأنه تغير آخر حياته، فنسأل الله لنا وله الرحمة.
* قولُهُ: (قَالَ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْإِشَاعَةَ فِيهَا تَقُومُ مَقَامَ الْخَلْطِ)
(1)
.
الإشاعة من شاع؛ يعني: انتشر
(2)
.
* قولُهُ: (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا إِنْ كانَ الصِّنْفَانِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّسَاءُ مِثْلَ الشَّرِكةِ بِالدَّنَانِيرِ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا، وَالدَّرَاهِمِ مِنْ عِنْدِ الآخَرِ، أَوْ بِالطَّعَامَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ).
عرفنا أن هذا لا يجوز، يعني إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد
(3)
، وإذا لم يكن يدًا بيد فمعناه التأجيل وهو النساء، وهو معنى قول المؤلف؛ لأن هذه حتى وإن اختلفت دراهم ودنانير لا يجوز فيها النَّسْءُ؛ أي التأجيل؛ لأن في الحديث:"فإذا اختلفت هذه الأجناس فييعوا كيف شئتم" ثم جاء القيد -الشرط- "إذا كان يدًا بيد" أي: غير مؤجل.
* قولُهُ: (أَوْ بِالطَّعَامَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ).
أو بالطعامين المختلفين أيضًا، قمح مع تمر مثلًا، وهذه أيضًا من الأطعمة الربوية، فيجوز ذلك لكن شريطة أن يكون يدًا بيد.
* قولُهُ: (فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ، فَأَجَازَهُ مَرَّةً
(4)
، وَمَنَعَهُ
(1)
يُنظر: "الوجيز" للغزالي (1/ 358) قال: "وإشارة النص إلى أنه لا بد وأن تكون نقدًا كالقراض؛ لأن مقصوده التجارة، والأقيس: أنه يجوز في كل مال مشترك، والاشتراك بالشيوع هو الأصل، ويقوم مقامه الخلط الذي يعسر معه التمييز؛ فإنه يوجب الشيوع ".
(2)
"شاع ": انتشر، تقول: شاع يشيع شيوعًا. يُنظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 56).
(3)
معنى حديث أخرجه مسلم (1587) عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد".
(4)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 318) قال: "قال مالك: وأما الشركة بالعرضين من عمل الناس، فأرجو ألا بأس به، يبيع هذا نصف متاعه بنصف متاع=
مَرَّةً
(1)
. وَذَلِكَ لِمَا يَدْخُلُ الشَّرِكَةَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا، وَالدَّنَانِيرِ مِنْ عِنْدِ الآخَرِ).
أنا أعتقد أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة جيد وكاف.
* قولُهُ: (مِنَ الشَّرِكَةِ وَالصَّرْفِ مَعًا، وَعَدَمِ التّناجُزِ، وَلِمَا يَدْخُلُ الطَّعَامَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَعَدَمِ التَّنَاجُزِ؛ وَبِالْمَنْعِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(2)
، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذِهِ الْعِلَلَ أَجَازَهَا)
(3)
.
هذه تعليلات ذكرها المؤلف، لكن هل يسلم لها الآخرون؟ سنرى.
= الآخر، وإن لم يلفظ بالبيع، فهو بيع، ولا تجوز الشركة بقمح وشعير وإن تبايعاه، فإن خلطاه ثم باعاه، فرأس مال كل واحد قيمة طعامه ".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 351) قال: "لا تجوز الشركة بذهب من جانب وبورق من آخر، ولو عجل كل ما أخرجه لصاحبه لاجتماع الصرف والشركة
…
ولا بطعامين ولو اتفقا نوغا وصفة وقدرًا؛ لأنه يؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه وذلك ".
(2)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 318) قال: "وأجاز ابن القاسم الشركة بما ليس بصفة واحدة، وكذلك سائر الطعام إذا اتفقت الصفة. وكره ذلك مالك، وإنما كرهه عندنا لخلط الجيد الدنيء، وإذا لم يخلطا لم تجز الشركة؛ لأنه ليس بيع تقايض ".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (4/ 311، 312) قال: "ولذا تصح عامًّا وخاصًّا ومطلقًا ومؤقتًا، ومع التفاضل في المال دون الربح وعكسه، وببعض المال دون بعض، وبخلاف الجنس كدنانير من أحدهما ودراهم من الآخر، وبخلاف الوصف كبيض وسود".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 286) قال: "وتصح الشركة في كل مثلي إجماعًا في النقد، وعلى الأصح في المغشوش الرائج؛ لأنه باختلاطه يرتفع تميزه كالنقد ومنه التبر
…
دون المتقوم
…
لتمايز أعيانه، وإن اتفقت قيمتها، وحينئذ تتعذر الشركة؛ لأن بعضها فد يتلف فيذهب على صاحبه وحده، وقيل: تختص بالنقد المضروب الخالص ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 208) قال: "نقذا ذهبًا أو فضة مضروبًا أي: مسكوكًا ولو بسكة كفار، معلومًا قدرًا وصفة، ولو كان النقد مغشوشًا قليلًا لعسر التحرز منه لا كثيرًا، أو كان النقد من جنسين كذهب وفضة، أو كان متفاوتًا بأن أحضر أحدهما مائة والآخر مائتين ".
* قولُهُ: (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالطَّعَامِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ).
وهؤلاء العلماء الذين أجازوا الدراهم بالدنانير هم الحنفية
(1)
والحنابلة
(2)
، وأمَّا الشركة في الطعام من صنفٍ واحدٍ.
* قولُهُ: (فَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ قِيَاسًا عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِهَا فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ
(3)
، وَمَنَعَهَا مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ -وَهُوَ الْمَشْهُورُ-
(4)
بِعَدَمِ الْمُنَاجَزَةِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ؛ إِذْ رَأَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَلَّا يُقَاسَ عَلَى مَوْضِعِ الرُّخْصَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ وَجْهَ كَرَاهِيَةِ مَالِكٍ لِذَلِكَ أَنَّ الشَّرِكَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى الِاسْتِوَاءِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْبَيْعُ يَفْتَقِرُ إِلَى الِاسْتِوَاءِ فِي الْكَيْلِ، فَافْتَقَرَتِ الشَّرِكَةُ بِالطَّعَامَيْنِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ إِلَى اسْتِوَاءِ الْقِيمَة، وَالْكَيْلِ، وَذَلِكَ لَا يَكَادُ يُوجَدُ، فَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي جِنْسِ مَحِلِّ الشَّرِكةِ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ مِنْ شَرْطِ مَالِ الشَّرِكةِ أن يختلط أو لا يختلط؟ فقال مَالِكٌ: إن من شرط الشركة أَنْ يَخْتَلِطَا إِمَّا حِسًّا، وَإِمَّا حُكْمًا)
(5)
.
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 111) قال: "ويجوز أن يشتركا ومن جهة أحدهما دراهم، ومن جهة الآخر دنانير وما اشتراه كل واحد منهما للشركة طولب بثمنه دون الآخر ثم يرجع على شريكه بحصته منه ".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 208) قال: "أو كان النقد من جنسين كذهب وفضة، أو كان متفاوتًا بأن أحضر أحدهما مائة والآخر مائتين ".
(3)
يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (7/ 318) قال: "وأجاز ابن القاسم الشركة بما ليس بصفة واحدة، وكذلك سائر الطعام إذا اتفقت الصفة".
(4)
يُنظر: "الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (3/ 462) قال: "ولا تصح بطعامين اختلفا جنسًا أو صفة؟ بل وإن اتفقا قدرًا وصفة؛ خلافًا لابن القاسم في جواز المتفقين. وعللوه ببيع الطعام قبل قبضه؛ لأن كل واحد منهما باع نصف طعامه بنصف طعام الآخر ولم يحصل قبض لبقاء يد كل واحد على ما باع. فإذا باعا لأجنبي كان كل منهما بائعًا لطعام المعاوضة قبل قبضه من بائعه ".
(5)
يُنظر: "الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (3/ 462) قال: "الضمان إذا تلف=
معنى أن يختلطا حسًّا وحكمًا، أي: أن يذوب مال كل واحد منهما في الآخر، أو يبقى مال كل واحد منهما بيده شريطة أن يحضره، وأن يعرف قدره، وهذه المسألة فيها خلاف أيضًا
(1)
.
* قولُهُ: (مِثْلَ أَنْ يَكُونَا فِي صُنْدُوقٍ وَاحِدٍ وَأَيْدِيهُمَا مُطْلَقَةً عَلَيْهِمَا).
يعني يؤتى بمال هذا ومال هذا فيخلطان خلطًا كاملًا، فيوضعان في مكانٍ واحد، في صندوق معين أو في مكان، أو في خزينة، في مكان ما، يعني يجاء بالمال ويجمع.
* قولُهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ حَتَّى يَخْلِطَا مَالَيْهِمَا خَلْطًا).
الإمام الشافعي يرى الخلط أيضًا كالإمام مالك، لا بد من خلط ماليهما، وإذا لم يخلطا فلا يجوز.
* قولُهُ: (لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مَالُ أَحَدِهِمَا مِنْ مَالِ الآخَرِ)
(2)
.
أي: خلطًا لا تستطيع معه أن تميز هذا من هذا، أصبح مالًا واحدًا، لا يستطيع أحد أن يقول: هذا مالي وهذا مالك.
= أحد المالين أو بعضه لا يحصل إلا بخلطهما ولو حكمًا بقوله: وما تلف من مال الشركة قبل الخلط الحقيقي، ولو الخلط الحكمي، فمن ربه دون صاحبه؛ أي: لا يتوقف الضمان منه على الخلط الحقيقي، بل على عدمه حقيقة أو حكمًا".
(1)
سنذكر قول كل فريق منهم.
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 286، 287) قال: "ويشترط خلط المالين قبل العقد بحيث لا يتميزان، وإن لم تتساو أجزاؤهما في القيمة
…
ولا يكفي الخلط مع اختلاف جنس كدنانير ودراهم، أو صفة كصحاح ومكسرة، وأبيض وغيره، كبر أبيض بأحمر؛ لإمكان التميز وإن عسر، ولو كان لكل علامة مميزة عند مالكه دون بقية الناس فوجهان أوجههما عدم الصحة".
" قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(1)
وأحمد كذلك
(2)
.
قولُهُ: (تَصِحُّ الشَّرِكَةُ، وَإِنْ كَانَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِهِ).
لكن يشترط الإمامان أن يحضر كل واحد منهما ماله، وأن يعرف قدره، ولا مانع أن يبقى مال كل بيده يشتغل به، لكن رأس مال الشركة قد عرف، ويعملان معًا بهذا المال، أما عند الشافعية والمالكية فلا بد من الخلط كما سبق.
لكن الشافعية يشددون أكثر، فلا بد عندهم من الخلط بحيث لا يعرف مال أحدهما من مال الآخر، كأنهما مال رجل واحد.
وأبو حنيفة وأحمد يقولان: يجوز أن يكون مال كل بيده، والقصد من ذلك هو البيع والشراء، والبحث عن الكسب والرزق، فلا يمنع أن يبقى مال كل واحد منهما بيده؛ لأنهما لم يشتركا إلا وكل منهما يثق بالآخر ويراه أمينًا، فلا شبهة في ذلك.
* قولُهُ: (فَأَبُو حَنِيفَةَ اكْتَفَى فِي انْعِقَادِ الشَّرِكةِ بِالْقَوْلِ
(3)
. وَمَالِكٌ اشْتَرَطَ إِلَى ذَلِكَ اشْتِرَاكَ التَّصرُّفِ فِي الْمَالِ
(4)
؛ وَالشَّافِعِيُّ اشْتَرَطَ إِلَى
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (4/ 313، 314) قال: "ومع عدم الخلط؛ لاستناد الشركة في الربح: إلى العقد لا المال، فلم يشترط مساواة واتحاد وخلط، ويطالب المشتري بالثمن فقط لعدم تضمن الكفالة".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 209) قال: "ولا يشترط للشركة خلط أموالها، ولا أن تكون بأيدي الشركاء
…
ولذلك صحت على جنسين، ولأن مورد العقد العمل وبإعلام الربح بعلم العمل والربح نتيجته أي: العمل؛ لأنه سببه والمال تبع للعمل، فلم يشترط خلطه، فما تلف من أموال الشركاء قبل خلط فهو من ضمان الجميع ".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (4/ 299) قال: "وركنها في شركة العين اختلاطهما، وفي العقد اللفظ المفيد له ".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (3/ 348) قال: "الشركة إذن من كل واحد منهما،=
هَذَيْنِ الِاخْتِلَاطَ
(1)
. وَالْفِقْهُ أَنَّ بِالِاخْتِلَاطِ يَكُونُ عَمَلُ الشَّرِيكَيْنِ أَفْضَلَ وَأَتَمَ).
يعني عندما تدقق في الفقه وفي المسائل، تجد أنك إذا خلطت المالين فإن ذلك يكون أحرى وأولى؛ بخلاف ما إذا فصلتهما.
* قولُهُ: (لِأَنَّ النُّصْحَ يُوجَدُ مِنْهُ لِشَرِيكِهِ كَمَا يُوجَدُ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الرُّكْنِ وَفِي شُرُوطِهِ).
والنصح موجود ما دام الربح بينهما شركة، وما داما قد تساويا في التصرف، وفي المال.
* * *
[الرُّكنُ الثَّانِي: كيْفِيَّةُ اقْتِسَامِ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا في شركة العنان
(2)
]
* قولُهُ: (فَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي (وَهُوَ وَجْهُ اقْتِسَامِهِمَا الرِّبْحَ): فَإِنَّهُمُ
= أو منهم للآخر في التصرف أي: في أن يتصرف في مال لهما أي: للمأذونين معًا، وهو متعلق بالتصرف ".
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 284 - 286) قال: "ويشترط فيها لفظ صريح من كل منهما، أو من أحدهما للآخر يدل على الإذن للمتصرف من كل منهما أو أحدهما في التصرف بالبيع والشراء الذي هو التجارة أو كناية تشعر بذلك
…
ويشترط خلط المالين قبل العقد بحيث لا يتميزان، وإن لم تتساو أجزاؤهما في القيمة لتعذر إثبات الشركة مع التميز".
(2)
"العِنان" في اللُّغة: الاعتراض للشخص من أحد جانبيه -من عن يمينه، أو من عن شماله- بمكروه. والعَن: المصدر، والعَنَن: الاسم، وهو الموضع الذي يعن فيه العان، ومنه سمي العنان من اللجام عنانًا؛ لأنه يعترضه من ناحيتيه، لا يدخل فمه=
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرِّبْحُ تَابِعًا لِرُؤُوسِ الْأَمْوَالِ).
سبق بيان المراد بشركة العنان، وهنا الحديث عن الربح وحالاته، وأوجه اقتسامه.
فللربح إذا كان تابعًا لرؤوس الأموال حالتان:
- حالة تساوي المالين.
- حالة اختلاف المالين.
* قولُهُ: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرِّبْحُ تَابِعًا لِرُءُوسِ الْأَمْوَالِ، أَعْنِي: إِنْ كَانَ أَصْلُ مَالِ الشَّرِكَةِ مُتَسَاوِييْنِ، كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ)
(1)
.
ففي حالة تساوي المالين اتفقوا على أنَّ الربح يكون بينهما نصفين؛
= منه شيء. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 290).
وفي اصطلاح الفقهاء:
عرفها الحنفية بأنها: "أن يشترك اثنان في نوع بر، أو طعام، أو يشتركا في عموم التجارات، ولا يذكران الكفالة". انظر: "بداية المبتدي" للمرغيناني (ص 127).
عرفها المالكية بأنها: "أن يجعل كل واحد من الشريكين مالًا ثم يخلطاه، أو يجعلاه في صندوق واحد، ويتجرا به معًا، ولا يستبد أحدهما بالتصرف دون الآخر".
انظر: "الفروق" للقرافي (ص 187).
عرفها الماوردي من الشافعية بقوله: "أن يخرج كل واحد منهما ما، مثل مال صاحبه، ويخلطاه فلا يتميز، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر بالمال فيما رأى من صنوف الأمتعة على أن يكون الربح بينهما على قدر المالين، والخسران كذلك ". انظر: "الحاوي الكبير"(6/ 473).
عرفها الحنابلة بأنها: "أن يشترك اثنان فأكثر بماليهما، ليعملا فيه ببدنيهما وربحه بينهما، أو يعمل أحدهما بشرط أن يكون له من الربح أكثر من ربح ماله ". انظر: " الإقناع " للحجاوي (2/ 252).
(1)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (6/ 172) حيث قال: "أجمع أهل العلم على أنَّ الشركة الصحيحة،
…
من أنواع التجارات على أن ما كان فيه من فضل وربح فلهما، وما كان من نقصان فعليهما، فإذا فعلا ذلك صحت الشركة".
مثاله: إذا كان مال أحدهما عشرة آلاف والآخر يساويه؛ فالربح بينهما نصفين.
ولا خلاف في اشتراط كون رأس المال متساويًا، ويجوز -على الصحيح- أن يكون ربح أحدهما أكثر من الآخر؛ لاختلاف الناس في الإنتاج بحسب العمل وما وهبهم الله تعالى من خبرة ودراية ومعرفة بأمور التجارة والضرب في الأرض.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ رُؤُوسُ أَمْوَالِهِمَا وَيَسْتَوِيَانِ فِي الرِّبْحِ؟).
واختلفوا كذلك في جواز أن يكون رأس مال أحدهما أكثر من الآخر، مع تساوي الربح بينهما.
* قولُهُ: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
: "ذَلِكَ لَا يَجُوزُ". وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: "يَجُوزُ ذَلِكَ"
(3)
).
منع مالك والشافعي جواز اختلاف رؤوس الأموال مع تساوي الربح بينهما. وأجازه أبو حنيفة
(4)
وأحمد
(5)
وأهل العراق عامة، وقولهم هذا
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 460) حيث قال: "فإن فسدت -أي: الشركة- كما لو وقعت على التفاضل في الربح: كما لو تساويا في المال وشرط لأحدهما ثلثا الربح ".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 292) حيث قال: "كأن شرطا تساوي الربح والخسر مع تفاضل المالين أو عكسه (فسد العقد) لمنافاته لوضع الشركة".
(3)
يُنظر: " مختصر القدوري "(ص 111)، حيث قال:"وأمَّا الشركة العنان: فتنعقد على الوكالة دون الكفالة ويصح التفاضل في المال، ويصح أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح ".
(4)
سبق تبيان مذهب الحنفية.
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 498) حيث قال: "شروط شركة عنان
…
(سواء شرطا لكل واحد منهما على قدر ماله من الربح، أو) شرطا (أقل) منه (أو أكثر) لأنَّ الربح مستحق بالعمل، وقد يتفاضلان فيه ".
أقرب لروح الشريعة؛ لأنه مع جواز اختلاف المال، قد يختلف الإنتاج بحسب عملهم وما وهبهم الله من الخبرة- كما سبق.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَنَّ تَشْبِيهَ الرِّبْحِ بِالْخُسْرَانِ).
الصواب أن يقال: أنَّهُ تَشْبيهُ -بإثبات ضمير الحال- أو: أنَّ تشبيهَ -على حذف الضمير، أو تحذف "أن" فيكون الكلام: وعُمْدةُ مَن منَعَ ذلك تشبيهُ الرِّبحِ بالخُسْرانِ.
قوله: (فَكَمَا أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا مِنَ الْخُسْرَانِ لَمْ يَجُزْ كَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَطَ جُزْءًا مِنَ الرِّبْحِ خَارِجًا عَنْ مَالِهِ. وَرُبَّمَا شَبَّهُوا الرِّبْحَ بِمَنْفَعَةِ الْعَقَارِ الَّذِي بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ؛ أَعْنِي: أَنَّ الْمَنْفَعَةَ بَيْنَهُمَا تَكُونُ عَلَى نِسْبَةِ أَصْلِ الشَّرِكَةِ).
القراض أو المضاربة: هو أن يدفع رجل ماله إلى آخر؛ ليَتَّجِرَ فيه، والربح بينهما على ما اصطلحا عليه؛ فقد يتساوى نصيب كل منهما، وقد يقل أحدهما
(1)
.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: تَشْبِيهُ الشَّرِكَةِ بِالْقِرَاضِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْقِرَاضِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ
(2)
، وَالْعَامِلُ لَيْسَ يَجْعَلُ مُقَابِلَهُ إِلَّا عَمَلًا فَقَطْ).
هذه المضاربة أو القراض شركة عند كل من أهل العراق وأهل الحجاز، مع اختلاف التسمية؛ فهي عند أهل العراق (الحنفية والحنابلة)
(1)
يُنظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للهروي (ص 164) حيث قال: "القراض: أن يدفع الرجل إلى الرجل عينًا أو ورقًا ويأذن له بأن يتجر فيه على أن الربح بينهما على ما يتشارطانه ".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4983) حيث قال: "الربح مستحق بالعمل وقد يتفاضلان فيه؛ لقوة أحدهما وحذقه، فجاز أن يجعل له حظًا من ربح ماله كالمضارب ".
مضاربة
(1)
؛ وسماها أهل الحجاز (المالكية والشافعية) قراضًا
(2)
.
* قولُهُ: (كانَ فِي الشَّرِكةِ أَحْرَى أَنْ يجْعَلَ لِلْعَمَلِ جُزْءًا مِنَ الْمَالِ إِذَا كَانَتِ الشَّرِكَةُ مَالًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَمَلًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنَ الرِّبْحِ مُقَابِلًا لِفَضْلِ عَمَلِهِ عَلَى عَمَلِ صَاحِبِهِ).
لما شبه أهل العراق الشركة بالقراض، وجاز في القراض احتساب جزء من الربح في مقابل العمل؛ كان ذلك أحرى عندهم أن يكون للعمل في الشركة جزء من الربح في مقابله. فإن عمل الشريكين يتفاضل بحسب الخبرة -كما مر، وهذه هي العلة التي شرطها المؤلف؛ قال:
* قولُهُ: (فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعَمَلِ كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ).
فإنك إذا راقبتَ ما يقوم به عاملان في مصنع، ربما تجد أحدَهما يزيد على الآخر في الإنتاج، وما يكلف به من عمل؛ مما يدل على تحقق التفاوت في أعمال التجارة من باب أولى.
* * *
[الرُّكْنُ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْعَمَلِ في شركة العنان]
* قولُهُ: (وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ: فَإِنَّهُ تَابعٌ كمَا قُلْنَا
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5073) حيث قال: " (الثاني: المضاربة: وهي)
…
تسمية أهل العراق ".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 397)، حيث قال:" [كتاب القراض] هو بكسر القاف لغة أهل الحجاز".
عِنْدَ مَالِكٍ لِلْمَالِ
(1)
، فَلَا يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ. وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ مَعَ الْمَالِ
(2)
. وَأَظُنُّ أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُجِيزُ الشَّرِكَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَالَاهُمَا مُتَسَاوِبَيْنِ الْتِفَاتًا إِلَى الْعَمَلِ).
جمهور العلماء -وفيهم الأئمة الأربعة- لا يشترطون أن يكون مال الشريكين متساويًا، وخالفهم بعض الشافعية -وهم مَن قصدهم بقوله: وأظن أن من العلماء- فقالوا باشتراط ذلك؛ التفاتًا إلى العمل.
* قولُهُ: (فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْغَالِبِ مُسْتَوٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّسَاوِي كَانَ هُنَالِك غبن على أحدهما في العمل).
يوضح بذلك علة بعض الشافعية في اشترط تساوي المالين في الشركة، ومخالفتهم لإمامهم الشافعي الذي وافق الجمهور في عدم اشتراط ذلك.
* قولُهُ: (وَلهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الشَّرِكةِ الَّتِي يُخْرِجُ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مَالًا مِثْلَ مَالِ صَاحِبِهِ مِنْ نَوْعِهِ (أَعْنِي: دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ)، ثُمَّ يَخْلِطَانِهِمَا حَتَّى يَصِيرَا مَالًا وَاحِدًا لَا يَتَمَيَّزُ)
(3)
.
فعند تساوي المالين لا خلاف في جواز الشركة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 352) حيث قال: "قولُهُ: إذا تساويا في عمل الشركة) أي: وإلا فسدت، والمراد بتساويهما فيه أن يكون عمل كل واحد على قدر ما له من المال، فإذا كان مالهما متساويًا كان على كل نصف العمل، وإن كان المالان الثلث والثلثين كان العمل كذلك ".
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (6/ 186) حيث قال: "المقصود من عقد الشركة تحصيل الربح على الاشتراك، وهو لا يقتصر على المال بل جاز بالعمل ".
(3)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(6/ 172)، و"الأوسط" لابن المنذر (10/ 507، 508).
* قولُهُ: (عَلَى أَنْ يَبِيعَا وَيَشْتَرِيَا مَا رَأَيَا مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، وَعَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا بِنِصْفَيْن، وَمَا كَان مِنْ خَسَارَةٍ فَهُوَ كذَلِكَ).
فما كان من فضل ربح، أو خسارة؛ فهو بينهما بنصفين.
* قولُهُ: (وذَلِكَ إِذَا بَاعَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ، وَاشْتِرَاطُهُ هَذَا الشَّرْطَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ خِلَافًا).
يبين بهذا الشرط الخلافَ عند الشافعية -ممن قال باشتراط تساوي المالين- عند عدم تساوي المالين. وهو خلاف يسير داخل المذهب
(1)
؛ ولكن الصحيح هو قول جمهور العلماء من عدم منع التساوي في الربح مع اختلاف رأس المال من حيث القدر.
* قولُهُ: (وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ)
(2)
.
أصل الشركة قائم على الأمانة في المال الذي قامت عليه الشركة، فكل من الشريكين كأنه وكيل عن الآخر في التصرف في المال؛ لأن الإنسان لا يشارك خائنًا أو معروفًا بالتفريط أو الغش؛ وذلك ما جعل الجمهور لا يشترطون أن يبيع كل واحد منهما بحضرة صاحبه؛ لما فيه من تضييق.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (6/ 477) حيث قال: "والضرب الثالث: أن يتفاضلا في المالين ويتفاضلا بحسبه في الربحين
…
فمذهب الشافعي جواز هذه الشركة؛ لأن الربح فيها مقسط على قدر المالين، ومن أصحابنا من ذهب إلى بطلانها حتى يتساوى الشريكان في رأس المال ".
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (6/ 172) حيث قال: "ثم ليس لأحد منهما أن يبيع ويشتري إلا مع صاحبه؛ إلا أن يجعل كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر في ذلك بما يرى، فإن فعلا قام كل واحد منهما مقام صاحبه وانفرد بالبيع والشراء، حتى ينهاه صاحبه ".
وإذا ما اشترط أحدهما حدًّا في التصرف، كأن يبيع نوعًا معينًا من البضائع في بلدٍ معين، فعلى الآخر أن يلتزم به. وإذا أذن له في التصرف مطلقًا، جاز له ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ)
(1)
المفاوضة: أن يفوض كل واحد من الشريكين صاحبه في التصرف، وهذه تدخل فيها أنواع الشركات: شركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه.
(1)
المفاوضة في اللغة: رد الأمر إلى آخر، والشركة والمساواة، يقال: فوض إليه الأمر تفويضًا: رده إليه.
وقوم فوضى بوزن سكرى، أي: متساوون، لا رئيس لهم، وتفاوض الشريكان في المال: اشتركا فيه أجمع، وهي شركة المفاوضة. يُنظر:"مختار الصحاح" للرازي (ص 224).
وفي اصطلاح الفقهاء:
عرفها الحنفية بأنها: "أن يشترك الرجلان فيتساويا في مالهما، وتصرفهما، ودينهما". انظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (6/ 156).
عرفها الطرطوشي من المالكية بأنها: "أن يفوض كل واحد التصرف للآخر في البيع والشراء، والضمان، والكفا لة، والتوكيل، والقراض، وما فعله لزم الآخر إن كان عائدًا إلى تجارتهما، ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة متفاضلًا أم لا، إذا كان الربح والعمل على قدر ذلك ". انظر: "الذخيرة" للقرافي (8/ 53).
عرفها الشافعية بأنها: "أن يشترك اثنان، ليكون بينهما كسبهما بأموالهما وأبدانهما، وعليهما ما يعرض من غرم، ولو بغير الشركة كغصب، وإتلاف، وبيع فاسد". انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 212) و"المهذب" للشيرازي (2/ 158).
عرفها الحنابلة بتعريفين: "أحدهما: أن يشتركا في جميع أنواع الشركة، مثل أن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان، فيصح ذلك؛ لأنَّ كل نوع منها يصح على انفراده، فصح مع غيره.
والثاني: أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث، أو يجده من ركاز أو لقطة، ويلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر من أرش جناية، وضمان غصب، وقيمة متلف، وغرامة الضمان، أو كفالة، فهذا فاسد
…
". انظر: "المغني" لا بن قدامة (5/ 22) و"الإنصاف" للمرداوي (5/ 464 - 465).
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفا فِي شَرِكةِ الْمُفَاوَضَةِ: فَاتَّفَقَ مَالِكٌ
(1)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
بِالْجُمْلَةِ عَلَى جَوَازِهَا؛ وَإِنْ كَانَ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ شُرُوطِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ
(3)
).
اختلفت أقوال العلماء في جواز شركة المفاوضة:
- أبو حنيفة وأحمد
(4)
يجيزان أنواع الشركات الخمس.
- مالك يجيز شركة المفاوضة على اعتبار كونها بيعًا، ولا يشترط تساوي المالين.
- الشافعي لا يجيز شركة المفاوضة، ولا شركة الأبدان، ولا شركة الوجوه؛ وإنما يجيز من الشركات شركتين فقط: شركة المضاربة، وشركة العنان.
* قولُهُ: (وَمَعْنَى شَرِكةِ الْمُفَاوَضَةِ: أَنْ يُفَوِّضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ إِلَى صَاحِبِهِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ، وَذَلِكَ وَاقِعٌ عِنْدَهُمْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُمْتَلَكَاتِ).
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 465) حيث قال: "قولُهُ: [وله أن يشارك في شيء معين]: ظاهره كانت الشركة في ذلك المعين مفاوضة أو غيرها، وهو كذلك كما قاله ".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 118)، حيث قال:"فأما شركة المفاوضة فهي: أن يشتري الرجلان فيستويان في مالهما وتصرفهما ودينهما، فتجوز بين الحرين المسلمين العاقلين البالغين ".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 223) حيث قال: "قال الشافعي رضي الله عنه: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فلا باطل أعرفه في الدنيا، أشار إلى كثرة الغرر والجهالات فيها".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 531) حيث قال: "شركة المفاوضة (تفويض كل منهما إلى صاحبه شراء
…
وارتهانًا، وضمانا) أي: تقبل (ما يرى من الأعمال) كخياطة وحدادة (فـ) هي (صحيحة) ".
"شركة المفاوضة": أن يفوض كل واحد من الشريكين صاحبه في التصرف في ماله مع غيبتة وحضوره، وهو عندهم في جميع أنواع الممتلكات من عقار وغيره.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّ اسْمَ الشَّرِكَةِ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى اخْتِلَاطِ الْأَمْوَالِ
(1)
، فَإِنَّ الْأَرْبَاحَ فُرُوعٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفُرُوعُ مُشْتَرَكَةً إِلَّا بِاشْتِرَاكِ أُصُولِهَا).
يحتج الشافعي في قولُهُ بعدم جواز شركة المفاوضة إلى اشتراط تحقق اختلاط المالين بحيث يصيرًا مالًا واحدًا، ثم يستدل بأن الأرباح فروع عن هذه الشركة؛ ولا بد من اشتراك أصول الشركة؛ حتى يجوز أن تكون الفروع مشتركة.
مالكٌ يرى أن يوضع المالان في صندوق واحد في حانوت واحد بيد وكيل
(2)
؛ فمذهبه قريب جدًّا من مذهب الحنفية والحنابلة.
* قولُهُ: (وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحًا لِصَاحِبِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ وَمِمَّا لَا يَجُوزُ).
فلم تصح شركة المفاوضة عند الشافعية؛ لعدم تحقق الخلط بين المالين.
* قولُهُ: (وَهَذِهِ صِفَةُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ. وَأَمَّا مَالِكٌ: فَيَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ بَاعَ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ، ثُمَّ وَكَّلَ وَاحِدٌ
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 230) حيث قال: "ولو اشترك مالك أرض
…
لم يصح ذلك شركة لعدم اختلاط المالين ".
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 462) حيث قال: "والحكمي: أن يكون كل مال في صرة على حدة، وجعلا في حوز واحد كصندوق أو خزانة تحت أحدهما أو أجنبي (إن كان) مال الشركة (مثليًّا) كعين ".
مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْجُزْءِ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِهِ
(1)
).
وأمَّا مالكٌ فيحتج لشركة المفاوضة بأن كل واحد منهما قد باع جزءًا من ماله بجزء من مال شريكه، وعلى هذا الأساس؛ صار كل منهما وكيلًا عن الآخر.
* قولُهُ: (وَالشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ الشَّرِكَةَ لَيْسَتْ هِيَ بَيْعًا، وَوَكَالَةً
(2)
. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَهُوَ هَاهُنَا عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُرَاعِي فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ إِلَّا النَّقْدَ فَقَطْ
(3)
. وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِنْ شُرُوطِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ التَّسَاوِيَ فِي رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ
(4)
، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا)
(5)
.
فالشافعي يخالف ما قال به الإمام مالك من كون الشركة بيعًا ووكالة، فلا يرى ذلك الشافعي.
(1)
نظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 348) حيث قال: " (باب الشركة)
…
أي: أن يأذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في أن يتصرف للآذن ولنفسه في مال ".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 222) حيث قال: "ومقصود الباب شركة تحدث بالاختيار بقصد التصرف وتحصيل الربح، وليست عقدًا مستقلًّا، بل هي في الحقيقة وكالة وتوكيل ".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(5/ 76)، حيث قال:" (قولُهُ وشركات) أي: إذا كان مال أحدهما دراهم ومال الآخر دنانير، فإنها تنعقد شركة العنان بينهما".
(4)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (4/ 306) حيث قال: "إما مفاوضة من التفويض؛ بمعنى المساواة في كل شيء (إن تضمنت وكالة وكفالة) لصحة الوكالة بالمجهول ضمنًا لا قصدًا (وتساويا مالًا) تصح به الشركة".
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 352) حيث قال: "قولُهُ: (إذا تساويا في عمل الشركة) أي: وإلا فسدت، والمراد بتساويهما فيه أن يكون عمل كل واحد على قدر ما له من المال، فإذا كان مالهما متساويًا كان على كل نصف العمل، وإن كان المالان الثلث والثلثين كان العمل كذلك ".
وأما الإمام أبو حنيفة، فهو على أصله في شركة العنان إنما يعتبر في الشركة النقد فقط.
ووجه الاختلاف بين أبي حثيفة ومالك؛ في اشتراط أبي حنيفة تساوي رؤوس الأموال في شركة المفاوضة، وهو ما لا يشترطه مالكٌ وأحمد.
* قولُهُ: (ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِشَرِكَةِ الْعِنَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الشَّرِكَةِ. وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ اسْمَ الْمُفَاوَضَةِ يَقْتَضِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ -أَعْنِي: تَسَاوِيَ الْمَالَيْنِ وَتَعْمِيمَ مِلْكِهِمَا-).
يعني: تعميم المفاوضة كأنَّ كل واحد منهما فوض صاحبه؛ فكل ما تحت يده من المال يدخل في ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي شَرِكةِ الْأَبْدَانِ)
(1)
شركة الأبدان: أن يشترك اثنان فأكثر فيما يعملان ببدنيهما ولا مال معهما، وما يكون من ربح فهو مشترك بينهما؛ مثل الخياطين، والذين
(1)
"شركة الأبدان" في اللغة: أصلها شركة بالأبدان؛ لكن حذفت الباء، ثم أضيفت لأنهم بذلوا أبدانهم في الأعمال لتحصيل المكاسب. يُنظر:"المصباح المنير" للفيومي (1/ 39).
وفي اصطلاح الفقهاء: عرفها الحنفية بأنها: "أن يشترك خياطان، أو خياط وصباغ على أن يتقبلا الأعمال، ويكون الكسب بينهما". انظر: "مجمع الأنهر" لشيخي زاده (1/ 726).
عرفها المالكية بأنها: "عقد على عمل بينهما، والربح بينهما بما يدل عليه عرفًا". انظر: "الشرح الصغير" للدردير (3/ 456).
عرفها الشافعية بانها: "أن يشترك الدلالان أو الحمالان أو غيرهما من أهل الحرف على ما يكسبان ليكون بينهما متساويًا أو متفاضلًا
…
سواء اتفقا في الصنعة أو اختلفا". انظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 279).
عرفها الحنابلة بأنها: "أن يشترك اثنان فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم، فما رزق الله تعالى فهو بينهم، وإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح كالحطب، والحشيش، والثمار المأخوذة من الجبال
…
فهذا جائز". انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 5).
يشغلون في جمع الحطب، أو الصيد، وغير ذلك من الأعمال.
* قولُهُ: (وَشَرِكَةُ الْأَبْدَان بِالْجُمْلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
(1)
، وَالْمَالِكِيَّةِ
(2)
جَائِزَةٌ).
وكذلك شركة الأبدان جائزة عند أحمد
(3)
.
* قولُهُ: (وَمَنَعَ مِنْهَا الشَّافِعِيُّ)
(4)
.
وذلك لما يرى فيه من الغرر كما مر.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الشَّرِكَةَ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِالْأَمْوَالِ لَا بِالْأَعْمَالِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ فَهُوَ غَرَز عِنْدَهُمْ؛ إِذْ كَانَ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولًا عِنْدَ صَاحِبِهِ).
الشافعية يقولون بعدم جواز شركة الأبدان؛ لأنها لا تقوم على مال يضبط حق الشريكين؛ وإنما تقوم على العمل، والعمل يختلف بين الشريكين.
أمَّا الجمهور فيرون ذلك جائزًا؛ لأن الاشتراك في العمل مما أباحه الله؛ فهو جائز أن تقوم الشركة على أساسه؛ كما في قصة سعد
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعي (3/ 320، 321) حيث قال: "وتقبل إن اشترك خياطان
…
وتسمى شركة الصنائع وشركة الأعمال، وهذه الشركة جائزة عندنا".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 361) حيث قال: "ثم ذكر شركة العمل وتسمى شركة الأبدان أيضًا فقال: (وجازت بالعمل) ".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 527) حيث قال: "القسم الرابع (شركة الأبدان)
…
فكان ذلك من قبيل المباحات، ولا يشترط لصحتها اتفاق الصنعة فتصح ".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 282) حيث قال: " (شركة الأبدان كشركة الحمالين وسائر المحترفة ليكون بينهما كسبهما) بحرفتهما (متساويًا أو متفاوتًا مع اتفاق الصنعة أو اختلافها) وهي باطلة لما فيها من الغرر والجهل ".
وعمَّار وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم يوم بدر، فإنهم اتفقوا على أن ما يحصل عليه أحدهم فهو شركة بينهم، فجاء سعد بأسيرين، ولم يأت الآخران بشيءٍ، فاشتركوا في ذلك.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ: اشْتِرَاكُ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ).
دليل المالكية على جواز شركة الأبدان: اشتراك الغانمين في الغنيمة.
وقد رد العلماء على من استدل بأمر الاشتراك في الغنيمة؛ بأنه أمر لم يقره الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن الأصل ألا يشترك أحد في المغانم؛ لأنها عامة لا ينفرد بها أحد ونردُّ عليهم بأن اشتراك الغانمين في الغنيمة أمر مشهور، بل لم يُنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنكاره، وأن الأصل في المعاملات الإباحةُ، وقد جاء الأثر أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد رخص لمن وجد شيئًا أن يأخذه في غزوة بَدْر.
* قولُهُ: (وَهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِالْعَمَلِ. "وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ شَارَكَ سَعْدًا يَوْمَ بَدْرٍ).
كانوا يقاتلون في وقعة بدر، واشترك ابن مسعود وسعد وعمار؛ فأصاب سعد أسيرين فاشتركوا فيهما؛ وما كان بينهم إلا هذا العمل.
* قولُهُ: (فَأَصَابَ سَعْدٌ فَرَسَيْنِ).
الصحيح: أصاب (أسيرين) لا (فرسين)؛ والحديث رواه أحمد
(1)
وأبو داود
(2)
والنسائي
(3)
وابن ماجه
(4)
وجمعٌ من العلماء، ولم يرد فيه ذكر (فرسين)، ولعلها تصحيف من (فارسين).
(1)
لم أقف عليه في "مسند أحمد".
(2)
حديث (3388)، ولفظه عن عبد الله، قال:"اشتركت أنا وعمار وسعد، فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيءٍ".
(3)
حديث (3947).
(4)
حديث (2288)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1474).
" قوله: (وَلَمْ يُصِبِ ابْنَ مَسْعُودٍ شَيْئًا، فَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمَا ").
واعتمد مجيزو هذه الشركة في الاحتجاج بهذا الأثر:
- أنَّه لا يخفى ذلك على الرسول؛ فقد اشتهرت هذه الحادثة ولم يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أنكرها؛ فدل على جوازها.
- أنه لا يمكن أن يتصرف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك دون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أتقى الناس وأشدهم حرصًا على الحلال والورع والزهد في الدنيا، ومن أمثلة ورع وزهد الصحابة؛ ما كان من تورعهم في اقتسام أجر الرقية حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه؛ فقال:"أَصَبْتُمُ، اقْتَسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ"
(1)
.
- أن ابن مسعود وسعدًا وعمارًا من أكابر الصحابة وفقهائهم، فلا يمكن أن يُقْدِموا على عمل يشكون أحلال هو أو حرام.
* قولُهُ: (وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ إِنَّمَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْعَمَلِ، فَجَازَ أَنْ تَنْعَقِدَ عَلَيْهِ الشَّرِكَةُ).
(1)
أخرجه البخاري (2276)، ومسلم (2201) ولفظه: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيْءٍ لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه. فقال بعضهم: اقسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: "وما يدريك أنها رقية؟! ". ثم قال: "قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهمًا". فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
هذا من الاحتجاج على الشافعية؛ فإنه لما جازت الشركة بالمضاربة المنعقدة على العمل، جاز قياسًا شركة الأبدان المنعقدة على العمل.
* قولُهُ: (وَلِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ خَارِجَةٌ عَنِ الْأُصُولِ).
هذا ينطبق على شركة المضاربة لا المفاوضة؛ وقد استثنيت شركة المضاربة وجاء على خلاف الأصول؛ لأن فيها جهالة، وهذه الجهالة استثنيت. فالصحيح أن تكون المضاربة لا المفاوضة؛ لأنَّ الشافعية لا يرون جواز المفاوضة.
* قولُهُ: (فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا)
(1)
.
هذا أمر واضح جدًّا لا شك فيه؛ فلا يقاس عليها، لكن عندما تقول: المفاوضة خارجة عن الأصول لا يقاس عليها؛ لو قيل المضاربة تقاس عليها؛ ربما يقال: إن نفس المضاربة خارجة عن الأصول.
* قولُهُ: (وَكَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ خَارِجًا عَنِ الشَّرِكَةِ).
ليس خروج حكم الغنيمة عن الشركة شرطًا؛ لأنها تنتهي إلى أن تقسم، ويأخذ كل واحد منهم نصيبه. وقد جاء النهي بعد ثبوت تقسيمها عن الغل؛ قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ؛ والصحابة رضي الله عنهم عندما أخذوا بإذن رسول الله، ثم منع الأخذ من الغنيمة حتى يتم القسم.
* قوله: (وَمِنْ شَرْطِهَا عِنْدَ مَالِكٍ اتِّفَاقُ الصَّنْعَتَيْنِ وَالْمَكَانِ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 255) حيث قال: " (قولُهُ وشركة المفاوضة إلخ) وجه بطلانها
…
ولأنه عقد خالف موجبه موجب سائر العقود في الأصول؛ فوجب أن لا يصح ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 361، 362)، حيث قال: "لأنه قد تروج صنعة أحدهما دون صنعة الآخر
…
ينضم لذلك عدم افتراقهما أي: في المكان ".
اشترط مالك وأحمد
(1)
اتفاقَ الصنعتين؛ فتكون بين نجار ونجار، خياط وخياط، وهكذا، فلا يجوز اختلاف الصنعتين كخياط مع نجار، أو صائد سمك مع بنَّاء؛ لوجود الغرر في ذلك. فلذلك اشترط مالك وأحمد اتحاد الصنعتين.
* قولُهُ: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ مَعَ اخْتِلَافِ الصَّنْعَتَيْنِ
(2)
، فَيَشْتَرِكُ عِنْدَهُ الدِّبَاغُ وَالْقِصَارُ، وَلَا يَشْتَرِكَانِ عِنْدَ مَالِكٍ).
القصد بالقصار قصار الثياب، والدباغ الذي يدبغ الجلود.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: زِيَادَةُ الْغَرَرِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّنْعَتَيْنِ أَوِ اخْتِلَافِ الْمَكَافي. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ: جَوَازُ الشَّرِكَةِ عَلَى الْعَمَلِ).
يتفق مالك وأحمد في هذه المسألة.
فعمدة مالك وأحمد -كما مر- لتضييق رقعة الغرر الحاصل باختلاف الصنعتين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ)
(3)
" الوجوه": جمع وجه؛ كأنه نسبها إلى الوجه؛ والمراد أن شركة
(1)
لم يشترط الحنابلة اتفاق الصنعتين لصحتها. يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 230) حيث قال: " (ولا يشترط) لصحتها (اتفاق صنعة) الشريكين. فلو اشترك حداد ونجار أو خياط وقصار فيما يتقبلان في ذممهما من عمل صح لاشتراكهما في كسب مباح "، وسبق تبيان المالكية في الحاشية السابقة.
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (4/ 221، 222)، حيث قال:"وتسمى شركة صنائع وأعمال وأبدان (إن اتفق) صانعان (خياطان أو خياط وصباغ) فلا يلزم اتحاد صنعة ومكان ".
(3)
"شركة الوجوه" لغةً: مستقبل كلِّ شيء، جمعه: أوجه، ويطلق أيضًا على سيد القوم، وجمعه: وجوه، وهو كالوجيه من الوجاهة، وجمعه: وجهاء. انظر: "القاموس المحيط" للفير وزآبادي (ص 1620).
الوجوه من الوجاهة، يقال: فلانٌ وجيهٌ، أي: له وجاهة عند قومه. ويقال: "وجهاء القوم" أي: أعالي القوم. ووصف الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} .
فشركة الوجوه كأن الإنسان أخذ فيها بجاهه، وهي شركة لا تقوم على المال، لكن لمعرفة الناس بهذين الرجلين وثقتهم بهما، واتصافهما بالأخلاق الكريمة والسجايا الحسنة كالصدق والأمانة؛ فإن التجار يثقون بهما، فإذا أعطوا الشريكين أو أحدهما بضاعة فلأنهم يرون أنها تساوي من يدفع قيمه وأكثر. وهذا موجود -بحمد الله- عند كثيرٍ من الناس ممن يهبه الله الأمانة والصدق في القول، وإخلاص العمل، والبر والتقوى في كل تصرفاته؛ فمثله يريد له الجار الخير، وهذا من تيسير الله للإنسان عندما يتصف بالخير؛ كما في حديث: "إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، وبوضعِ له القبول في الأرض. وإنَّ الله إذا أبغض عبدًا نادى جبريل: إني أبغض فلانًا فأبغضه
…
" الحديث
(1)
.
فالناس إذا عرفوا فلانًا يبيع بالصدق ويتعامل به؛ فإنه يكثر زبائنه، ويتردد الناس عليه. أمَّا إذا عرفوا أنه يمكر بالناس ويخادعهم ويحتال عليهم؛ فإن الناس يبتعدون عنه.
= تعريفها في الاصطلاح:
عرَّفها الأحناف بأنها: أن يشترك وجيهانِ من الناس، من غير أن يكون لهما رأس مال على أن ما يشتريان بذممهما بالنَّسيئة؛ "أي: بمؤجل"، ويبيعان بالنقد بمالِهما من وجاهة عند الناس. انظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (5/ 30).
وعرفها المالكية بأنها: "أن يشتركا على غير مال، ولا عمل، وهي الشركة على الذمم بحيث إذا اشتريا شيئًا كان في ذمتهما، وإذا باعاه اقتسما ربحه ". انظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 187).
والشافعية والحنابلة يُعرِّفونها بما يطابق هذا المعنى عند الحنفية. انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 212)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 12).
(1)
أخرجه البخاري (7485)، ومسلم (2637).
وهذا معنى شركة الوجوه أن كلا الشريكين يأخذان بجاههما، أي: بمعرفة التجار لثقتهما؛ فيعطيهم التجار بضاعة لبيع، فيبيعانها وما يكون من الربح فهو بينهما.
* قولُهُ: (وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
وَالشَّافِعِيِّ
(2)
بَاطِلَةٌ).
فمالك والشافعي لا يجيزان شركة الوجوه؛ لأنها عندهما لا تقوم على أساس، لكنها عند أبي حنيفة
(3)
وأحمد
(4)
جائزة.
فينبغي أن ندقق في الأحكام الفقهية، ونعلم أن الشريعة جاءت لتوسع على الناس، ولترفع عنهم الحرج والمشقة، لا لتضيق عليهم، فالله سبحانه وتعالى يبين لنا في القرآن الكريم أنه يريد بنا اليسر، ويريد أن يخفف عنا، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الناس ويأمرهم بذلك:"بَشِّروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا"
(5)
.
فشركة الوجوه بمفهومها القائم على اعتبار الوجاهة من الصدق والأمانة تيسر على الناس، وتتفق بذلك مع روح الشريعة التي تنظر إلى مصالح الناس.
* قولُهُ: (وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ هِيَ الشَّرِكَةُ عَلَى الذِّمَمِ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ وَلَا مَالٍ).
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 477) حيث قال: "ومن ذلك النهي عن شركة الوجوه".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 282) حيث قال: " (وشركة الوجوه بأن يشترك الوجيهان) عند الناس
…
والكل باطل إذ ليس بينهما مال مشترك ".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 111)، حيث قال:"وأما شركة الوجوه: فالرجلان يشتركان ولا مال لهما على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا فتصح الشركة على هذا".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (5/ 228) حيث قال: "والضرب الثالث: شركة الوجوه
…
وتجوز لاشتمالها على مصلحة بلا مضرة".
(5)
أخرجه البخاري (69)، مسلم (1732).
شركة الوجوه قائمة على الذمم؛ فلا مال فيها، بل يعطيه التاجر على أساس ذمته.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ الشَّرِكَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ عَلَى الْمَالِ، أَوْ عَلَى الْعَمَلِ، وَكِلَاهُمَا مَعْدُومَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاوَضَ صَاحِبَهُ بِكَسْبٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ بِصِنَاعَةٍ وَلَا عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَمِدُ أَنَّهُ عَمَلٌ مِنَ الأعْمَالِ، فَجَازَ أَنْ تَنْعَقِدَ عَلَيْهِ الشَّرِكةُ).
عمدة مالك والشافعي -رحمهما الله- في عدم القول بجواز شركة الوجوه أن الشركة إنما تقوم على المال والعمل، وهما معدومان في هذه الشركة.
والحقيقة أن هذه الشركة تنتهي إلى العمل؛ بأخذ المال والعمل فيه، وإلا لو أخذ المال دون العمل فيه لأدى إلى ضياع حقوق الآخرين.
أمَّا أبو حنيفة وأحمد فيريان شركة الوجوه عملًا من الأعمال -كما مر- والله سبحانه وتعالى أباح العمل، وحثنا رسوله صلى الله عليه وسلم -عليه، ورغب فيه، وأنكر على السائل سؤاله، وأمره بأن يعمل؛ بأن يأخذ حبلًا وفأسًا ويحتطب.
وشركة الوجوه تقوم على عمل مؤسس على وجاهة الشريكين، فما الماح منه؟!
فالمؤلف ألمح لشركة الوجوه، والحقيقة -كما مر- أنها قائمة على الصدق والمعاملة الحسنة، والناس لا يعطون أموالهم إلا لمن يثقون فيه؛ لذلك سُميت "شركة الوجوه".
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الشَّرِكَةِ الصَّحِيحَةِ
وَهِيَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ لَا مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ)
(1)
.
(1)
اختلف الفقهاء في عقد الشركة: هل يعتبر من العقود اللازمة، أو من العقود الجائزة؟ =
لا شك أن الشركة من العقود الجائزة وليست عقدًا لازمًا، فلكل واحد من الشريكين أن يفسخها. وأدلة هذه الشركة كما جاء في القرآن الكريم؛ في قولُهُ تعالى:{فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} إلى آخر الآية.
= فقيل: الشركة عقد جائز مطلقًا قبل خلط المالين وبعده، وهذا مذهب الجمهور، واختيار ابن رشد الجد، والمصنف من المالكية. يُنظر: مذهب الحنفية "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 77) حيث قال: "أما صفة عقد الشركة، فهي أنها عقد جائز غير لازم، حثى ينفرد كل واحد منهما بالفسخ، إلا أن من شرط جواز الفسخ أن يكون بحضرة صاحبه، أي: بعلمه، حتى لو فسخ بمحضر من صاحبه جاز الفسخ، وكذا لو كان صاحبه غائبًا، وعلم بالفسخ، وإن كان غائبًا، ولم يبلغه الفسخ؛ لم يجز الفسخ ولم ينفسخ العقد؛ لأن الفسخ من غير علم صاحبه إضرار بصاحبه، ولهذا لم يصح عزل الوكيل من غير علمه، مع أن الشركة تتضمن الوكالة، وعلم الوكيل بالعزل شرط جواز العزل، فكذا في الوكالة التي تضمنته الشركة". وانظر: "غمز عيون البصائر" للحموي (3/ 437).
ومذهب ابن رشد الجد من المالكية ينظر: "المقدمات الممهدات"(3/ 42) حيث قال: "وهي من العقود الجائزة، لكل واحد من المتشاركين أن ينفصل عن شريكه متى ما أراد، ولا يلزمه البقاء معه على الشركة إلا على التكافي والاعتدال ".
ومذهب الشافعية، ينظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (6/ 483، 484) حيث قال: "وهذا صحيح، وقد ذكرنا أن عقد الشركة يجري عليه في تصرف كل واحد منهما في حق شريكه حكم الوكالة فيصير عقد الشركة من العقود الجائزة".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"مطالب أولي النهى"(3/ 453) حيث قال: " (والوكالة والشركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والوديعة والجعالة) والمسابقة والعارية (عقود جائزة من الطرفين)؛ لأن غايتها إذن وبذل نفع، وكلاهما جائز".
وقيل: الشركة عقد لازم مطلقًا، قبل الشروع وبعده، ويستمر اللزوم إلى أن ينض المال أو يتم العمل الذي تقبل، أو يتفقا على الفسخ.
وهو مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي" للخلوتي (3/ 457) حيث قال: "قوله: أولزمت به، لزومها بما يدل عليها، قاله ابن يونس وعياض، وهو مذهب ابن القاسم، ومذهب غيره أنها لا تلزم إلا بخلط المالين، انضم لذلك صيغة أم لا. ثم إن ظاهر قولُهُ: (ولزمت به) إلخ ولو كانت شركة زرع، وهو أحد قولين. والآخر: لا تلزم إلا بالعمل المخصوص الذي هو البذر ونحوه كما يأتي. الأول لسحنون، والثاني لابن القاسم. وانظر: "منح الجليل" لعليش (6/ 251).
وكذلك ما جاء في قصة البراء بن عازب وزيد بن أرقم عندما كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"أمَّا النقد فنعم"؛ فأمرهم "أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردو"
(1)
.
إذن الشركة من العقود الجائزة، وليست لازمة، فلكل واحد من الشريكين أن يفسخ لكن بشرط ألا يترتب عليه ضرر كما علمنا عند الحديث عن شركة المضاربة.
* قولُهُ: (أَيْ: لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنَ الشَّرِكَةِ مَتَى شَاءَ، وَهِيَ عَقْدٌ غَيْرُ مَوْرُوثٍ).
ما دامت عقدًا جائزًا؛ فهو غير موروث.
* قولُهُ: (وَنَفَقَتُهُمَا وَكسْوَتُهُمَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ إِذَا تَقَارَبَا فِي الْعِيَالِ، وَلَمْ يَخْرُجَا عَنْ نَفَقَةِ مِثْلِهِمَا).
يعني نفقتهما المعتادة التي لا يكون فيها إسراف من أحدهما بأن يجاوز الحد في الإغداق على نفسه، ولا تقتير من الآخر بأن يدخر.
* قولُهُ: (وَبَجُوزُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُبْضِعَ، وَأَنْ يُقَارِضَ، وَأَنْ يُودِعَ).
يبضع بمعنى: أن يعطي غيره بضاعة.
(1)
أخرجه أحمد (19306)، ولفظه: عن أبي المنهال: "أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب رضي الله عنهم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه". وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
* قولُهُ: (وَأَنْ يُقَارِضَ).
يقارض بمعنى: أن يدفع مال الشركة قراضًا يعني مضاربة.
* قولُهُ: (وَأَنْ يُودِعَ).
يوح بمعنى: أن يأخذ جزءًا من المال فيضعه وديعة وأمانة؛ فهي إشارة إلى التصرف.
* قولُهُ: (وَأَنْ يُودِعَ إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ).
لا تجوز الهبة من مال الشركة؛ لأن الهبة إنما هي إذهاب للشيء، وهذا لا يكون إلا للإنسان الذي له التصرف الكامل في ماله المستقل. أما الهبة من مال الشركة دون موافقة شريكه فلا تجوز؛ لأن هذا المال سيخرج بلا عوض.
* قولُهُ: (وَلَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ إِلَّا تَصَرُّفًا يَرَى أَنَّهُ نَظَرٌ لَهُمَا).
فما كان ظاهره أنه يؤدي لضياع مال الشركة لا يجوز تصرفه؛ فينبغي أن يكون تصرفه في موضع إمعان النظر والحكمة، هذا بخلاف تصرفه في غير ما خطئ ثم ترتب عليه خسارة؛ فلا يؤاخذ به.
* قولُهُ: (فَأَمَّا مَنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ أَوْ تَعَدَّى فَهُوَ ضَامِنٌ).
الشريك إذا أهمل أو قصر مجاوزًا الحد؛ فإنه يتحمل أمر إهماله وتعديه.
* قولُهُ: (مِثْلَ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا مِنَ التِّجَارَةِ فَلَا يَشْهَدُ، وَيُنْكِرُهُ الْقَابِضُ؛ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ قَصَّرَ إِذْ لَمْ يُشْهِد).
فإن الله أمرنا بالكتابة والإشهاد؛ وتركُهما يعد إهمالًا من الشريك؛ فيضمن عند ذلك.
فهو أمر من الله؛ فلا ينبغي أن يستحيي الناس من كتابة الحقوق، وعدم التفريط في ذلك؛ لأن هذا هو توجيه الله عز وجل، ولا يقدح في الثقة بين الناس.
* قولُهُ: (وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الشَّيءَ الْمَعِيبَ فِي الشِّرَاءِ).
إذا رأى المصلحة في ذلك؛ كأن يشتري سلعة فيها نوع من العيب، ثم تباع بعد ذلك بثمن أكثر، أو يكون العيب في جزء واحد في السلعة أو في بعضها وليس فيها كلها؛ فإذا ما أخرج ما فيه عيب؛ حصل الربح في الباقي غير المعيب.
* قولُهُ: (وَإِقْرَارُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي مَالٍ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَتَجُوزُ إِقَالَتُهُ
(1)
، وَتَوْلِيَتُهُ
(2)
، وَلَا يَضْمَنُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِ
(1)
الإقالة في البيع: نقضه وإبطاله. انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 285).
(2)
التولية: أن يشتري شيئًا ثم يقول لغيره: وليتك هذا العقد؛ فيصح العقد في غير المسلم فيه. "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص 192).
اختلف الفقهاء في الشريك: هل له أن يقايل ما اشتراه الآخر؟ على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية، والأصح في مذهب الحنابلة: أن الشريك له أن يقايل فيما بيع من مال الشركة، سواء أكان هو البائع أم شريكه.
مذهب الحنفية، ينظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 71) حيث قال: "ولأحدهما أن يقايل فيما باعه الآخر؛ لأن الإقالة فيها معنى الشراء، وأنه يملك الشراء فيملك الإقالة".
وقيد المالكية الجواز بأن لا يكون في ذلك محاباة للبائع، وأن يكون في ذلك مصلحة للشركة. وهذا القيد معتبر عند الفقهاء في كل من تصرف لغيره.
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 80، 81): "وإقالة أحدهما فيما باعه هو أو شريكه، وتوليته لازمة كبيعه، ما لم تكن فيه محاباة، فيكون كالمعروف لا يلزم إلا ما جرَّ به إلى التجارة نفعًا، وإلا لزمه قدر حصته منه، وإقالة لخوف عدم الغريم ونحوه من النظر". وانظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (6/ 43).
التِّجَارَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ أَنْ يُقَارِضَ غَيْرَهُ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ)
(1)
.
نعم؛ لأن هذه من الأمور الهامة، إلا إذا أعطاه تفويضًا مطلمًا.
* قولُهُ: (وَيَتَنَزَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْزِلَةَ صَاحِبِهِ).
يعني: كل واحد منهما يحل محل الآخر في التصرف في المال؛ فكل منهما وكيل عن صاحبه.
* قولُهُ: (فِيمَا لَهُ وَفِيمَا عَلَيْهِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كثِيرَةٌ).
حقيقة ما ذكر في الشركات هو أصول المسائل وأهمها، وقد اتسعت الشركات وأصبح هناك ما يعرف بالأسهم، وقد اتسعت هي الأخرى؛ وإذا تم معرفة الأصول؛ فكل ما يجِدُّ يُعرض على هذه الأصول؛ فما وافقها أُخذ به، وما خالفها يُردُّ، ولا ينظر إليه.
* * *
= ومذهب الحنابلة، ينظر:"الإنصاف" للمرداوي (5/ 413) حيث قال: "قولُهُ: (وأن يقايل). هذا الصحيح من المذهب قال في الكافي، والشرح، والفروع: ويقايل في الأصح. وقال في المغني: الأولى: أنه يملك الإقالة؛ لأنها إذا كانت بيعًا فهو يملك البيع. وإن كانت فسخًا فهو يملك الفسخ بالرد بالعيب إذا رأى المصلحة فيه. فكذلك يملك الفسخ بالإقالة إذا كان فيه حظ. فإنه يشتري ما يرى أنه قد غبن فيه.
القول الثاني: مذهب الشافعية، والحنابلة في أحد القولين.
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 401) حيث قال: "المال المشترك لا يستقل بها أحد الشريكين حتى يحضر الآخر أو يرفع الأمر إلى القاضي ".
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 413) حيث قال: "وقيل: ليس له ذلك -يعني: الإقالة- وأطلقهما في الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والهادي، والتلخيص، والرعايتين، والحاوي الصغير".
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (7/ 80) حيث قال: "ولا يجوز لأحدهما أن يقارض شريكًا إلا بإذن شريكه.