الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا)
[كِتَابُ الوَصَايَا]
(1)
* قوْله: (وَالنَّظَرُ فِيهَا يَنْقَسِمُ أَوَّلًا قِسْمَيْنِ؛ القِسْمُ الأوَّلُ: النَّظَرُ فِي الأَرْكَانِ).
(1)
الوصية في اللغة: مأخوذة من وصيت الشيء بالشيء أصيه -من باب وعد- وصلته وأوصيت إليه بمال جعلته له. والوصية تطلق أيضًا على الموصى به. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 662) و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 1343).
الوصية بالمال في الاصطلاح:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين "رد المحتار"(6/ 648)، هي تمليك مضاف إلى ما بعد الموت عينًا كان أو منفعه بطريق التبرع.
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي" على "الشرح الكبير"(4/ 422) قال: هي جمع وصية مأخوذة من وصيت الشيء بالشيء إذا وصلته به كأن الموصى لما أوصى بها وصل ما بعد الموت بما قبله في نفوذ التصرف. وانظر: "شرح حدود ابن عرفة" للرصاع (ص 528).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 66) قال: والإيصاء يعمُّ الوصية، والوصايا لغة، والتفرقة بينهما من اصطلاح الفقهاء، وهي تخصيص الوصية بالتبرع المضاف لما بعد الموت، والوصاية بالعهد إلى مَنْ يقوم على من بعده.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 335) قال: وهي مأخوذة من=
والوَصَايا: جمع وصيةٍ، كأن يُقَال: هدايا جمع هدية، وعطايا جمع عطية، والوصية في المال إنما هي التبرع به بعد الموت، والوصية سيأتي كلام العلماء فيها، وأنها ليست بواجبةٍ عند جماهير العلماء
(1)
، لكنها تَجب في بعض الحالات، وهذه من الأشيَاء التي ينتفع الإنسان فيها؛ لأنه ربما يكون على الإنسان دَين ولا يعلم به، لا يعلم به ورثته، فيحتاج إلى أن يوصي بذلك، وربما تكون عنده أمانات فينبغي أن تؤدى، وأن يوصي بها، وربما تَكُونُ عليه حقوق لله سبحانه وتعالى كأن يترك زكاة المال فلم يؤدها حتى مات، أو أن عليه شيئًا من الكفارات، فهو في مثل هذه الأمور يحتاج إلى أن يوصي، وفي هذه الحالات تكون الوصية واجبة، أما فيما عدا ذلك فإنها على الصحيح من أقوال العلماء غير واجبة، بل هي مشروعة، وسيأتي الكلام والبيان في ذلك بمزيدٍ من التفصيل إنْ شاء الله.
* قوله: (وَالثَّانِي: فِي الأَحْكَامِ).
والمؤلف كعادته يقسم أيَّ كتاب يدخل فيه إلى أقسامٍ، وربما يجعله جملًا، وقلنا: إن ذلك بمثابة إضاءة لذلك الكتاب، وتوطئةً وتمهيد له حتى يكون الإنسان على تصور لذلك الباب، فهو قسمه إلى قسمين:
القسم الأول: يتحدث فيه عن الأركان.
والقسم الثاني: يتحدث فيه عن أحكام الوصية، وهو في الحقيقة لم يستوعب أحكام الوصية، بل إنه لم يمرَّ إلا على القليل منها، والسبب في ذلك معروف بيَّنه المؤلف؛ لأنه ذكر أنه لم يدون في كتابه هذا إلا أمهات
= وصيت الشيء أصيه إذا وصلته، فإن الميت وصل ما كان فيه من أمر حياته بما بعده من أمر مماته.
(1)
أجمع الجمهور على أن الوصيَّة غير واجبة إلا على مَنْ عليه دينٌ أو عنده وديعة فيوصي بذلك، وشذ أهل الظاهر، فأوجبوا الوصية إذا ترك مالًا كثيرًا أو لم يوقتوا في وجوبها شيئًا.
انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 75). وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 260).
المسائل، أي: كُبْرَياتها، ومن هنا سمى بعضُ العلماء كتابَه كتابَ قواعد.
" قَوْله: (وَنَحْنُ فَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ مِنْ هَذِهِ فِيمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ المَسَائِلِ المَشْهُورَةِ).
فلَنْ يستوعب كل مسائل الباب كما ذكرنا، بل إنه سيعرِّج حول المسائل المشهورة التي اختلف حولها العلماء.
* قَوْله: (القَوْلُ فِي الأَرْكَانِ: وَالأرْكَانُ أَرْبَعَةٌ: المُوصِي، وَالمُوصَى لَهُ).
والمُوصِي هو الذي يوصِي لغيره، والموصَى لَه هو الذي يوصَى له بشيءٍ من المال أو بشيءٍ من المنفعة.
" قوله: (وَالمُوصَى بِهِ).
هو الشيء الذي يوصَى به كأن تكون دارًا أو مالًا أو غير ذلك.
* قولُهُ: (وَالوَصِيَّةُ).
هي التي يمْتب وتُدوَّن.
* قولُهُ: (أَمَّا المُوصِي، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كُلُّ مَالِكٍ صَحِيحِ المِلْكِ)
(1)
.
(1)
ذهب المالكية والشافعية في أحد الوجهين، والحنابلة في المذهب إلى أنه يشترط لصحة الوصية أن يكون الموصى به المعين ملكًا للموصي حين الوصية، فلا تصحُّ الوصية بمال الغير ولو ملكه الموصى بعد الوصية لفساد الصيغة بإضافة الحال إلى غيره. وذهب الحنفية والشافعية في الوجه الآخر، والحنابلة في قول إلى أنه لا يشترط لصحة الوصية أن يكون الموصى به ملكًا للموصي حين الوصية؛ لأنه حينئذٍ يكون فضوليًّا.
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" للزيلعي (6/ 164) قال: وأما وصية الفضولي=
فلا بدَّ أن يكون مالكًا لما يوصِي به، أما أن يوصِي بمال غيره فلا يجوز؛ لأن هذا من أكل أموال الناس بالباطل والتعدي عليه، والله تعالى قد نهى عن ذلك.
* قوله: (وَيَصِحُّ عِنْدَ مَالِكٍ)
(1)
.
= كما إذا أوصى بألفٍ من مال غيره أو بعينٍ من ماله، فأجاز المالك فهو مخير إنْ شاء سلمها، وإن شاء لم يسلم كالهبة كذا في القنية من الوصايا، "ألا ترى" أنه لم يعتبر عقله في حق الطلاق والعتاق؛ لأن ذلك يضره باعتبار أصل الوضع، فكذلك تمليك المال بطريق الثبرع فيه ضرر باعتبار أصل الوضع.
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (8/ 168) قال: "يشترط في الموصى أن يكون حرًّا، فالعبد -ولو بشائبة- لا تصح وصيته
…
وأن يكون مالكًا لما أوصى به ملكًا تامًّا، فمستغرق الذمة وغير المالك لا تصح وصيَّتهما ".
مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (6/ 119) قال: إِنْ أوصى بمال الغير فقال: أوصيت بهذا العبد، وهو ملك غيره، أو بهذا العبد إن ملكته، فوَجْهَان، أحدهما: تصحُّ؛ لأنها تصحُّ بالمعدوم، فذا أولى. والثاني: لا؛ لأن مالكه يملك الوصية به، والشيء الواحد لا يكون محلًّا لتصرف شخصين، وبهذا قطع الغزالي. قلت: الأول أفقه وأجرى على قواعد الباب.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 367) قال: فـ "لا، تصح الوصية "بمال الغير ولو ملكه بعد" بأن قال: وصيت بمال زيد، فلا تصح الوصية ولو ملك الموصى مال زيد بعد الوصية لفساد الصيغة بإضافة المال إلى غيره. وانظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 489).
(1)
ينظر "حاشية الدسوقي" على "الشرح الكبير"(4/ 422) قال: "قولُهُ مع شروطه" أي: وهي ثلاثة. "قولُهُ مميز" في حاشيهَ السيد على عبق إن الموصى مدع، فعليه إثبات أن الوصية وقعت في حالة التمييز. "قولُهُ: مالك للموصى به" أي: وليس المراد مالكًا لأمر نفسه؛ لئلا يناقضه قولُهُ بعده وإنْ كان سفيهًا. "قولُهُ: فمستغرق الذمة
…
إلخ"، تعقب شيخنا بأن مستغرق الذمة من أفراد غير المالك وليس خارجًا بقيد التمام، وإنما خرج به العبد؛ لأن ملكه غير تائم وهو قد خرج بالحرية، وحينئذٍ فلا حاجة لقيد التمام، وقد يقال: بل مستغرق الذمة مالك لما بيده وإلا لما وفيت منه ديونه، وتقدم أن عتقه ماض حيث أرباب التبعات نعم يمنع من التصرف ولو رزق بما يفي لم يتعرض له .. تأمل. "قولُهُ: وإن سفيهًا" أي: سواء كان مولى عليه أو غير مولى عليه، كلما في (ح)، قال في "التوضيح": وإذا تداين المولى عليه ثم مات لم يلزمه ذلك إلا أن يوصي به، فيجوز من ثلثه. ولابن القاسم: إذا باع المولى عليه فلم يرد=
والشافعي
(1)
وأحمد
(2)
.
* قولُهُ: (وَصِيَّةُ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ القُرَبَ).
فجمهور العلماء يصحِّحُون وصيَّة الصغير، لكن ذلك ليس على إطلاقه، فمن العلماء من قال: كل صغير قد ميَّز فإنه تجوز وصيَّته، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"مُرُوا أبنَاءكم بالصَّلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشر"
(3)
، فاعتبر بعضهم أن سنَّ التمييز هو سبعٌ، وهذا مرويٌّ عن الحنابلة، ورُوِيَ عنهم عشر سنوات، ورُوِيَ عنهم اثنتا عشرة سنة
(4)
، ومن العلماء مَنْ لم
= بيعه حتى مات يلزمه بيعه. ابن زرقون فعلى هذا يلزمه الدين بعد موته فتأمله، ونحوه لابن مرزوق انظر بن. (قولُهُ: لأن الحجر
…
إلخ) أي: وإنما صَحَّت وصيتهما؛ لأن الحجر
…
إلخ.
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 67) قال: "تصح وصية كل مكلف حر"
…
"وكذا محجور عليه بسفه" تصح وصيته "على المذهب" لصحَّة عبارته، ونقل فيه ابن عبد البر والأستاذ أبو منصور وغيرهما الإجماع
…
والطريق الثاني قولان، أحدهما: لا تصح للحجر عليه، فالسفيه بلا حجر تصح وصيته جزمًا، وخرج بالسفيه حجر الفلس، فَتَصح الوصية معه جزمًا كما قاله القاضي حسين، ثم شرع في محترز قولُهُ: مكلف، فقال:"لا مجنون "، ومعتوه ومبرسم "ومغمى عليه وصبي "، فلا تصح وصية كل منهم، إذْ لا عبارة لهم
…
"وفي قول" تصح الوصية "من صبي مميز" كما نص عليه في الإملاء، ورَجَّحه جمع من الأصحاب، ولأنها لا تزيل ملكه في الحال، وتفيد الثواب بعد الموت.
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 185) قال: قولُهُ: "ومن السفيه في أصح الوجهين ". وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب. وجزم به في "الوجيز"، وغيره، وصححه في الفائق، والحارثي. وغيرهما
…
قولُهُ: "ومن الصبي العاقل إذا جاوز العشر"، إذا جاوز الصبي العشر: صحت وصيته .. على الصحيح من المذهب. نص عليه في رواية الجماعة، وعليه الأصحاب. حتى قال أبو بكرٍ: لا يختلف المذهب: أنَّ من له عشر سنين تصح وصيته. انتهى. وانظر "المغني" لابن قدامة (6/ 216).
(3)
أخرجه أبو داود (495)، وأحمد (6689)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(247).
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 215) قال: "ومن جاوز العشر سنين؛ فوصيته جائزة إذا وافق الحق "، هذا المنصوص عن أحمد، فإنه قال في رواية صالح وحنبل: تجوز وصيته إذا بلغ عشر سنين. قال أبو بكر: لا يختلف المذهب أنَّ من له عشر سنين=
يحدد في ذلك حدًّا كالإمام مالك، بل ترك ذلك إلى حال الصبي، فإنه يوجد من الصغار مَنْ يهبه الله تعالى ذكاءً وفطنةً ووعيًا وإدراكًا، فيتميز على غيره من الكبار، وربما تجد إنسانًا قد تقدم به العمر وهو لا يزال في سن الصبيان.
* قَوْله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ
(1)
، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ القَوْلَانِ
(2)
وَكَذَلِكَ وَصِيَّةُ الكَافِرِ تَصِحُّ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يُوصِ بِمُحَرَّمٍ
(3)
).
= تصح وصيته، ومَنْ له دون السبع لا تصحُّ وصيته، وما بين السبع والعشر، فعلى روايتين
…
وقال القاضي وأبو الخطاب: تصح وصية الصبي إذا عقل. ورُوِيَ عن عمر رضي الله عنه أنه أجاز وصية الصبي، وهو قول عمر بن عبد العزيز
…
قال إسحاق: إذا بلغ اثنتي عشرة.
(1)
ينظر: "الدر المختار" للحصكفي، وحاشية ابن عابدين "رد المحتار"(6/ 656)، قال:"ولا من صبي غير مميز أصلًا"، ولو في وجوه الخير خلافًا للشافعي "وكذا" لا تصح "من مميز إلا في تجهيزه وأمر دفنه "، فتجوز استحسانًا، لكنه تُرَاعى فيه المصلحة لما قال في الخلاصة عن الروضة: لو أوصى بأن يكفن بألف دينار يكفن بكفن وسط، ولو أوصى بأن يكفن في ثوبين لا يراعى شرائط الوصية، ولو أوصى بأن يكفن في خمسة أثواب أو ستة أثواب يراعى شرائطه. وانظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 405).
(2)
تقدم قولُهُ.
(3)
لَا يُشْتَرط إسلَام الموصى لصحة الوصية باتفاق الفقهاء في الجملة، فَتَصحُّ وصية غير المسلم بما تَصحُّ به وصية المسلم.
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 399)(قال) ش: أي القدوري: م: "وَيجُوز أن يوصي المسلم للكافر والكافر للمسلم" ش: أراد بالكافر الذمي لا الحربي؛ لأن الحربي لا يجوز له الوصية .. م: (والثاني): ش: وهو وصية الكافر للمسلم م: (لأنهم) ش: أي أن أهل الذمة م: (بعقد الذمة ساووا المسلمين في المعاملات، ولهذا جاز التبرع من الجانبين في حالة الحياة، فكذا بعد الممات) ش: وهذا لا خلاف فيه لأهل العلم
…
وذكر مُحمَّد في "السير الكبير" ما يدل على جواز الوصية لهم.
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (8/ 168) قال: (ص) وكافرًا إلا بكَخَمْرٍ لمسلم (ش) يعني أن الكافر تصح وصيته لانطباق الحد عليه، إذ هو حر مميز مالك إلا إذا أوصى لمسلم بشيءٍ لا يملكه المسلم كخمر ونحوه، أما إن=
والله تعالى يقول في شأن الكافرين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} ، ويقول:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} .
ولذلك، اختلفَ العلماء في مسألةٍ معروفةٍ، وهي: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
(1)
فبعضهم قالوا: غير مخاطبين؛ لأن عملهم مردود، ولا أثر له
(2)
، وبعضهم قال: لا، يُخَاطبون بها، والمخاطبة
= أوصى بذلك لكافر، فإن وصيته تصح؛ لأن الكافر يملك ذلك.
مذهب الشافعية، ينظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 67) قال: قال: "تصح وصية كل مكلف حر" مختار بالإجماع؛ لأنها تبرع "وإنْ كان كافرًا" ولو حربيًّا كما قاله الماوردي، وَإن استرق بعدها، وماله عندنا بأمان كما بحثه الزركشي.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 400) قال: (تصح وصية كافر إلى مسلم إنْ لم تكن تركته خمرًا أو خنزيرًا ونحوهما) كالسرجين النجس، فإن كانت تركته كذلك لم تصح الوصية إلى مسلم بالنظر فيها لعدم إمكانه.
(1)
مذهب الجمهور هو جواز خطاب الكفار بالفروع عقلًا، أما خطاب الكفار بالفروع شرعًا فهو قول الشافعية والحنابلة في الصحيح، وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه، ومذهب عامة مشايخ أهل العراق من الحنفية.
قال ابن النجار: "والكفار مخاطبون بفروع الإسلام كالصلاة والزكاة والصوم ونحوها، عند الإمام أحمد والشافعي والأشعرية وأبي بكر الرازي والكرخي وظاهر مذهب مالك، فيما حكاه القاضي عبد الوهاب وأبو الوليد الباجي، وذلك لورود الآيات الشاملة لهم، مئل قولُهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا}، وقوله تعالى: {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ}. انظر: "شرح الكوكب المنير" (1/ 500 - 502)، وانظر: "البحر المحيط " للزركشي (2/ 125 - 127).
(2)
قال الزركشي في "البحر المحيط"(2/ 127): والقول الثاني: هو قول جمهور الحنفية، وبه قال عبد الجبار من المعتزلة، والشيخ أبو حامد الإسفراييني من أصحابنا كما رأيته في كتابه. عبارته: إنه هو الصحيح عندي، ووقع في "المنتخب" نسبته لأبي إسحاق الإسفراييني، وهو غلط، فإن أبا إسحاق يقول بتكليفهم كما نقله الرافعي عنه في أول كتاب الجراح وهو كذلك موجود في كتابه في الأصول: ظاهر كلام الشافعي يدل عليه، قال: والصحيح من مذهبه: ما بدأنا به. اهـ. وقال الإبياري: إنه ظاهر مذهب مالك، واختاره ابن خويز منداد المالكي.
المقصود بها العقاب، أي: أنهم يعاقبون على هذه الأعمال زيادةً على عقابهم بسبب كفرهم بالله سبحانه وتعالى
(1)
، فهل في وصية الكافر منفعة؟
وهذه قضية ناقشها بعض العلماء، وقال: إن القصد من الوصية إنَّما هو طلب الخير وفعل الخير، وأن يستفيد الإنسان بعد وفاته، فما الذي سيستفيده الكافر؟ وقالوا: إن ذلك جائز قياسًا على إعتاقه؛ لأن له أن يعتق، والعتق فيه مصلحة، ومن هنا ذَهَب جمهور العلماء إلى أن الكافر له أن يوصي ما لم يوصِ بمحرمٍ كما ذكر المؤلف.
* قَوْله: (وَأَمَّا المُوصَى لَهُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ)
(2)
.
لأن هذا هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حقٍّ حقه، فلا وصية لوارث"
(3)
.
* قولُهُ: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ").
وهذا الحديث صحيح.
* قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ تَجُوزُ لِغَيْرِ القَرَابَةِ؟).
وهذه مسألة أخرى، فالله سبحانه وتعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
(1)
قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير"(1/ 503): "والفائدة أي: فائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام كثرة عقابهم في الآخرة، لا المطالبة بفعل الفروع في الدنيا، ولا قضاء ما فات منها". اهـ. وانظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 121).
(2)
قال ابن القطان: "وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم من أهل المدينة وأهل مكة والكوفة والشام ومصر وسائر العلماء وأصحاب الحديث وأهل الرأي على أن لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة، وجاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما اتفق عليه أهل العلم، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" (2/ 77).
(3)
أخرجه أبو داود (2870) وغيره، وصَحَّحه الأَلْبَانى في "المشكاة"(3073).
الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، فالآية فيها الوصية للوالدين والأقربين، وجمهور العلماء يقولون: إن هذه الآية نسخت، ونسختها آيات المواريث، كما جاء ذلك عن عبد الله بن عمر
(1)
، وكذلك عن عبد الله بن عباس
(2)
رضي الله عنهم، نسخت لأهل المواريت، وبقي الأقربون، فالأقربون هم موجودون في هذه الآية، أما الذي يرث فإنه لا وصية له.
* قولُهُ: (فَقَالَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ).
ومنهم الأئمة الأربعة
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(3/ 391) عن عبد الله بن بدر قال: سمعت ابن عمر يقول في قولُهُ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال: نسختها آيةُ الميراث.
(2)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(3/ 391) عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا، فقرأ عليهم سورة البقرة ليبين لهم منها، فأتى على هذه الآية:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال، نُسخت هذه.
وفي روايةٍ أخرى: عن ابن عباس أنه قرأ قولُهُ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، فقال: نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 331): قال: وإن كان ورثته أغنياء، فالأفضل الوصية بالثلث، ثم الوصية بالثلث لأقاربه الذين لا يرثون أفضل من الوصية به للأجانب، والوصية للقريب المعادي أفضل من الوصية للقريب الموالي؛ لأن الصدقة على المعادي تكون أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء
…
ولأن الوصية للمعادي سبب لزوال العداوة، وصيانة للقرابة عن القطيعة، فَكَانت أولى هذا إذا استوى الفريقان في الفضل، والدين والحاجة، وأحدهما معادي "فأما" إذا كان الموالي منهما أعفهما، وأصلحهما وأحوجهما، فالوصية له أفضل؛ لأن الوصية له تقع إعانةً على طاعة الله تبارك وتعالى.
مذهب المالكية، يُنظر:"روضة المستبين" لابن بزيزة (2/ 1422) قال: وفي قسم المكروه منها أن تكون له قرابة فقراء، فأوصى لأجنبي مع وجود القرابة الفقراء، وفي قسم المكروه منها أن تكون قرابة فقراء فأوصى لأجنبي مع وجود القرابة الفقراء، فلا خلاف إنْ جعلها في الأجنبي أنها مكروهة مع وجود القرابة.
ومذهب الشافعية، ينظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 188) قال: "الوصية على ثلاثة أقسام: قسم لا يجوز، وقسم يجوز ولا يجب، وقسم مختلف في وجوبها.
فأما الذي لا يجوز: فالوصية للوارث. وروى شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا=
* قَوْله (إِنَّهَا تَجُوزُ لِغَيْرِ الأَقْرَبِينَ مَعَ الكَرَاهِيَةِ، وَقَالَ الحَسَنُ، وَطَاوُسٌ: تُرَدُّ الوَصِيَّةُ عَلَى القَرَابَةِ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ
(1)
).
فلو أوصى لغير قريبٍ، فإن الوصيَّة تجوز مع الكراهة.
* قولُهُ: (وَحُجَّةُ هَؤُلَاء ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]، وَالأَلِفُ وَاللَّامُ تَقْتَضِي الحَصْرَ).
لَكن العلَمَاء كما ذكرت قالوا: إنَّ ذلك نسخٌ بالنسبة لأهل الميراث، وَبقيَ لغيرهم، والأقربون يأخذون، لكن ليس هناك ما يمنع بدليل هذا الحديث.
* قَوْله (وَاحْتَجَّ الجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ المَشْهُورِ وَهُوَ "أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ، فَأَقْرَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً"
(2)
، وَالعَبِيدُ غَيْرُ القَرَابَةِ).
= أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللهَ تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ".
وأما التي تجوز ولا تجب، فالوصية للأجانب، وهذا مجمعٌ عليه، فقد أوصى البراء بن معرور للنبي صلى الله عليه وسلم بثلث ماله، فقبله ثم رده على ورثته.
وأما التي اختلف فيها: فالوصية للأقارب ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 140) قال: والأفضل أن يجعل وصيته لأقاربه الذين لا يرثون، إذا كانوا فقراء
…
فإن أوصى لغيرهم وتركهم، صحت وصيته في قول أكثر أهل العلم.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"(7/ 265) قال: واختلفوا فيمن أوصى لغير قرابته، وترك قرابته الذين لا يرثون، فقال طاوس: ترد وصيته على قرابته، ورُوِيَ عن الحسن مثله، وبه قال إسحاق بن راهويه. وانظر "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (4/ 403، 404).
(2)
أخرجه مسلم (1668) ولفظه عن عمران بن حصين، "أن رجلًا أعتق ستة مملوكين وأرق أربعة، وقال له قو، شديدًا" له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا".
وفي هذا دليل بأن الإنسان ليس له حقيقة أن يوصي بجميع ماله، أَوْ أن ينفق جميع ما عنده من مالٍ، ثم بعد ذلك يبقى هو في حياته وأولاده عالةً على غيرهم، وربما لا يكون له كسبٌ، وربما لا يكون صاحب وظيفة أو صنعة، فيبقى محتاجًا للمال، وبعد وفاته ينبغي أيضًا أن يترك شيئًا للأولاد.
* قَوْله: (وَأَجْمَعُوا -كَمَا قُلْنَا- أَنَّهَا لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ إِذَا لَمْ يُجِزْهَا الوَرَثَةُ. وَاخْتَلَفُوا -كَمَا قُلْنَا- إِذَا أَجَازَتْهَا الوَرَثَةُ، فَقَالَ الجُمْهُورُ
(1)
: تَجُوزُ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
وَالمُزَنِيُّ
(3)
: لَا تَجُوزُ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي، وحاشية ابن عابدين (6/ 655) قال:"ولا لوارثه وقاتله مباشرة لا تسبيبًا كما مر "إلا بإجازة ورثته" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارثٍ إلا أن يجيزها الورثة"، يَعْني: عند وجود وارثٍ آخر كما يفيده آخر الحديث "، وانظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي وحاشية الشلبي (6/ 182).
مذهب المالكية، يُنظر:"التلقين في الفقه المالكي " للقاضي عبد الوهاب (2/ 218) قال: والوصية لغير وارث جائزة، وللوارث موقوفة على إجازة الورثة كان ما أوصى به قليلًا أو كثيرًا.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 73) قال: "و" تصح الوصية وإن لم تخرج من الثلث "لوارث" خاص غير جائز بغير قدر إرثه "في الأظهر إن أجاز باقي الورثة" المطلقين التصرف، وقلنا بالأصح: إن إجازتهم تنفيذ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا وَصِيَّةَ لوارثٍ إلا أن تجيز الورَثة"، رواه البيهقي بإسناد قال الذهبي: صالح.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (7/ 193، 194) قال: قوله: "ولا يَجُوز لمَنْ له وارث الوصية بزيادة على الثلث لأجنبي، ولا لوارثه بشيءٍ إلا بإجازة الورثة"، يحرم عليه فعل ذلك، على الصحيح من المذهب. نص عليه
…
قولُهُ: "إلا بإجَازة الورثة"، يعني: أنها تصحُّ بإجازة الورثة، فتكون مَوْقوفة عليها، وهذا الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، صححه في "الفروع "، وغيره، وجزم به في "المحرر"، و"الوجيز"، وغيرهما. قال المصنف والشارح: هذا ظاهر المذهب.
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 356) قال: مسألة: ولا تحل الوصية لوارث أصلًا، فَإِنْ أوصَى لغير وَارِثٍ فصار وارثًا عند موت الموصى: بطلت الوصية له، فإن أوصى لوارث ثم صار غير وارث لم تجز له الوصية؛ لأنها إذ عقدها كانت باطلًا، وسواء جوز الورثة ذلك أو لم يُجوِّزوا! لأن الكواف نفلت: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصيَّة لوارث ".
(3)
يُنظر: "النجم الوهاج في شرح المنهاج" للدميري (6/ 230) قال: قال: "ولوارث في=
فإذا أوصى لوارثٍ، فهل تجوز الوصية أو أنها موقوفةٌ على إجازة الوَرثة؟ جمهور العلماء قالوا: إذا أجَازَ ذلك الورثَة جازت، وأهل الظاهر والمزني من الشافعية قالوا: لا تَجُوز.
* قَوْله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ هَلِ المَنْعُ لِعِلَّةِ الوَرَثَةِ أَوْ عِبَادَةٍ؟).
أَيْ: هل العلة في المنع هو الضرر الذي يلحق بقية الورثة أو أنَ العلة في ذلك ألا يدع ورثته عالةً يتكففون الناس.
* قَوْله: (فَمَنْ قَالَ: عِبَادَةٌ، قَالَ: لَا تَجُوزُ وَإِنْ أَجَازَهَا الوَرَثَةُ).
فالذي ورد في علة المنع إما أن يكون الأمر للتعبد، وإما أن يكون لمصلحة الورثة، فإن كان لمصلحة الورثة فإنه أمر معقول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لسعد:"إنَّك إنْ تدِع ورثتك أغنياء خيرًا من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس "
(1)
، وإنْ كان لأمْرٍ تَعبديٍّ، فينبغي أن نسلِّم له؛ لأنه توقيفي لا مجال للرأي فيه.
وَالظَّاهر من الحديث أنه يدل على أن مصلحةَ الورثة قد رُوعيَت في ذلك، لكن الجمهور أيضًا يحتجُّون بما جاء في حديث:"إن الله أعطى ممل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"
(2)
.
= الأظهر إن أجاز باقي الورثة" أي: المطلقين التصرف، سواء كانت الوصية بالثلث أو دونه كما في الوصية للأجنبي بالزائد على الثلث .. وقال الشافعي رضي الله عنه: لم يختلف أهل العلم: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث "، ووجدتهم مُجْمعين عليه. والثَّانِي: أنها باطلة وإنْ أجاز الوارث، واختاره المزني. وانظر: "(الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 213).
(1)
أخرجه البخاري (1295)، ولفظه عن سعد بن أبي وقاص، قال: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يعودنىِ عام حجة الوداع من وجع اشتدَّ بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لا"، فقلت: بالشطر؟ فقال: "لا"، ثم قال:"الثك والثلث كبير -أو كثير- إنك أن نذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك "
…
الحديث.
(2)
أخرجه أبو داود (2870) وغيره، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(3073).
وجاء في بعض روايات هذا الحديث زيادة: "إلا أن يجيزها الورثة "
(1)
.
وفي روايةٍ: "إلا أن يشاء الورثة"
(2)
.
وهذه الزيادة تكلم عليها علماء الجرح والتعديل، وانتهوا إلى أن هذه الطرق إذا جمعت مع ضعفها تصبح صالحةً للاحتجاج بها.
* قَوْله: (وَمَنْ قَالَ بِالبيعِ لِحَقِّ الوَرَثَةِ أَجَازَهَا إِذَا أَجَازَهَا الوَرَثَةُ.
وَتَرَدُّدُ هَذَا الخِلَافِ رَاجِعٌ إِلَى تَرَدُّدِ المَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، هَلْ هُوَ مَعْقُولُ المَعْنَى أَمْ لَيْسَ بِمَعْقُولٍ؟).
فإن كان معقول المعنى، فيكون روعي في ذلك حق الورثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أن تاع ورثتك أغنياء خير من تدعهم عالة يتكففون الناس "
(3)
، وهنا العلة واضحة؛ لأن الوَرَثة روعيت أحوالهم، أو أن ذلك أمر غير معقول أي: تعبدي، فلا مجال للرأي فيه، والذي يظهر أن العلة واضحة، وأيضًا يؤيد ذلك رواية:"إلا أن يجيزها الورتة".
* قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الوَصِيَّةِ لِلْمَيِّتِ، فَقَالَ قَوْمٌ: تَبْطُلُ بِمَوْتِ المُوصَى لَهُ، وَهُمُ الجُمْهُورُ
(4)
).
(1)
أخرجه الدارقطني (5/ 267)، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 433)، عَنْ عمرو بن خارجة، قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة"، وضَعَّفه البيهقي، وقال: رُوِيَ من وجهٍ آخر، والأَلْبَاني في "إرواء الغليل"(6/ 97).
(2)
أخرجه الدارقطني (5/ 171) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة"، ورجح ابن حجر إرساله في "التلخيص الحبير"(3/ 205) وضَعَّفه الأَلْبَانى في "إرواء الغليل"(1656).
(3)
تقدم.
(4)
ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى بطلان الوصية للميت:
مذهب الحنفية: "البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 415) قال: "ولو كان فلان الآخر ميتًا حين أوصى، فالوصية الأولى على حالها"، ش: يعني لو قال: كل وصية=
فإذا مات الموصَى له في حياة الموصِي، بطلت الوصية، وهذا رأي الأئمة.
* قَوْله: (وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَبْطُلُ
(1)
، وَفِي الوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ خَطَأً وَعَمْدًا).
ومسألة جواز الوصية للقاتل -وهذه مسألة اختلف فيها العلماء- فأجاز ذلك الإمام مالك
(2)
، وهو أيضًا وجهٌ عند الحنابلة
(3)
، وأظهر
= أوصيت بها لفلان الآخر حين أوصى له ميتًا لم يصح الرجوع؛ لأنه لم يصح النقل عن الوصية الأولى؛ لأن الوصية للميت باطلة، فصار كأنه لم يوص لأحد بعد الوصية الأولى.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 87) قال: "فإن مات الموصى له قبله " أي: الموصى "بطلت" أي: الوصية؛ لأنها قبل الموت غير لازمة فبطلت بالموت كما لو مات أحد المتبايعين قبل القبول "أو" مات "بعده" قبل قبوله ورده "فيقبل وارثه" الوصية أو يرد؛ لأنه فرعه فقام مقامه في ذلك، ولو قال: قام وارثه مقامه لدخلت صورة الرد. وانظر "روضة الطالبين" للنووي (6/ 116).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 365) قال: "ولا" تصح الوصية "لملَك" بفتح اللام أحد الملائكة "ولا لميت، ولا لجني، ولا لبهيمة إنْ قَصَد تمليكها"؛ لأنه تمليك فلم يصح لهم كالهبة.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 426) قال: "و" صح الإيصاء "لميت علم" الموصى "بموته" حين الوصية "ففي دينه" تصرف إن كان عليه "أو وارثه" إن لم يكن عليه دين، فإن لم يكن وارث بطلت، ولا تعطى لبيت المال. وانظر:"شرح صختصر خليل "للخرشي (8/ 170).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 426) قال: "و" صح الإيصاء من مقتول إلى"قاتل" له "علم الموصى بالسبب "، أَيْ: بسبب القتل أي: علم بأنه هو الذي ضربه عمدًا أو خطأً، وتكون الوصية في الخطإ في المال والدِّية، وفي العمد في المال فقط إلا أن ينفذ مقتله ويقبل وارثه الدية، ويعلم المقتول بها، فتكون فيها أيضًا "وإلا" يعلم الموصى بالسبب بأن ضربه زيد ولم يعلم أنه الذي ضربه، وأوصى له بشيءٍ "فتأويلان" في صحة إيصائه له وعدمها، وشمل كلامه في هذه والتي قبلها ما إذا طرأ القتل بعد الوصية ولم يغيرها.
(3)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 233) قال: قولُهُ: "وقال أصحابنا: في الوصية=
القولين عند الشافعية
(1)
، وحجة الذين أجازوها أنهم قاسوها على الهبة، لأنهم يَقُولون: هذه الوصية هي بمثابة عَطيَّةٍ وَهبَةٍ، لكنها مؤجلة بعد الموت، لكن اشترط العلماء القبض فيها، وبخاصة في المكيل والموزون.
والحنابلة لهم ثلاثة أوجه في المسألة، الوجه الأول: أنها جائزة، والشافعي له قولان، أظهرهما في المذهب أن ذلك جائز، وذهب أبو حنيفة رحمه الله
(2)
وهو القول الثاني للإمام الشافعي ووجه عند الحنابلة بأنها لا تجوز، وقاسوا ذلك على الميراث وقالوا: إذا كان القاتل لا يرث المقتول، والميراث أقوى من الوصية، فمن باب أولى ألا تجوز الوصية.
= للقاتل: روايتان "، قاله في "المحرر"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير". وقيل: في الحالين روايتان. وقال في "الفروع"، وقال جماعة: في الوصية للقاتل روايتان، سواء أوصى له قبل الجرح، أو بعده.
إحداهما: تصح، اختارها ابن حامد.
والثانية: لا تصح، اختارها أبو بكر. فتلخص لنا في صحة الوصية للقاتل ثلاثة أوجه: الصحة مطلقًا، اختاره ابن حامد. وعدمها مطلقًا، اختاره أبو بكر، والفرق بين أن يوصى له بعد الجرح: فيصح، وقبله: لا يصح، وهو الصحيح من المذهب. وانظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 223، 224).
(1)
يُنظر: "روضة الطالبين"(6/ 107) في صحة الوصية للقاتل قولان، أظهرهما عند العراقيين والإمام والروياني: الصحة، كالهبة
…
وقيل: القولان في القتل ظلمًا، وَتَصح للقاتل بحق قطعًا، كالقصاص. وقال القفال: إن ورثنا القاتل بحق صحت، وإلا فعَلى هذا الخلاف. وقيل: القولان فيمَنْ أوصى لجارحه ثم مات، أمَّا مَنْ أوصى لرجل، فقتله فباطلة قطعًا؛ لأنه مستعجل، فحرم كالوارث. وقيل: تصح في الجارح قطعًا .. والقولان في الآخر، والمذهب الصحة مطلقًا.
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (6/ 655) قال: "قولُهُ: وقاتله مباشرةً"؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لقاتل "، ولأنه استعجل ما أخَّره الله فيحرم الوصية، كالميراث؛ سواء أوصى له قبل القتل ثم قتله، أو أوصى له بعد الجرح لإطلاق الحديث. زيلعي. أقول: والمراد بالاستعجال ما يظهر من حال القاتل، وإلا فمذهب أهل الحق أن المقتول ميت بأجله .. تأمل. وانظر:"فتح القدير" للكمال بن الهمام (10/ 421).
* قولُهُ: (فِي هَذَا البَابِ فَرْعٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ إِذَا أَذِنَ الوَرَثَةُ لِلْمَيِّتِ هَلْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ فَقِيلَ: لَهُمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُمْ)
(1)
.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير، وحاشية الدسوقي (4/ 437) قال:"ولزم إجازة الوارث" ليس مراده أنه يلزمه أن يجيز، وإنَّما مراده أن الوارثَ إذا أجاز وصية مورثه قبل موته فيما له رده بعده كما لو كانت لوارث أو أكثر من الثلث فتلزمه الإجازة، ليس له رجوع بعد ذلك فيما أجازه متمسكا بأنه التزام شيءٍ قبل وجوبه، وإنما تلزمه الإجازة بِشُرُوطٍ، أَوَّلها كون الإجازة "بمرض" للموصي أي: فيه سواء كانت الوصية فيه أو في الصحة، ولا بد من كَوْن المرض مخوفًا كما يؤخذ من الشرط الثاني وهو قولُهُ:"لم يصح" الموصى "بعده"، فإن أجازه في صحته أو في مرض صح منه صحة بينة، ثم مرض ومات لم يلزم الوارث ما أجازه، وأشار لثالث الشروط وهو ألَّا يكون معذورًا بقوله:"إلا لتبين عذر" للوارث في الإجازة "بكونه" أي: الوارث "في نفقته" أي: الموصىِ، فأجاز مخافة قطعها عنه "أو" لأجل "دينه" الذي له عليه "أو" لخوف "سلطانه"، أي: الموصى فأجَاز مخافة سطوته عليه. الشرط الرابع: ألَّا يكون المجيز ممن يجهل أن له الرد والإجازة.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 195) قال: "إنْ كان له وارث: كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده، فإن ردها رجعت الوصية إلى الثلث، وإنْ أَجَازها صحت، ثم فيها قولان:
أحدهما: إنَّ إجازة الورثة ابتداء: عطية منهم لا تتم إلا بالقبض، وله الرجوع فيها ما لم يقبض، وإن مات قبل القبض بطلت كالهبة.
والقول الثاني: إجازة الورثة إمضاء لفعل الموصى، فلا تفتفر إلى قبضٍ، وتتم بإجازة الوارث، وقبول الموصى له، ليس الرجوع بعد الإجازة، ولا تبطل الوصيَّة بموته بعد إجازته، وقبل إقباضه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 147)، قال: ولا يعتبر الرد والإجازة إلا بعد موت الموصى، فلو أجازوا قبل ذلك، ثم ردوا، أو أذنوا لموروثهم في حياته بالوصية بجميع المال، أو بالوصية لبعض ورثتِهِ، ثم بدا لهم فردوا بعد وفاته، فلهم الرد، سواء كانت الإجازة في صحة الموصى أو مرضه .. نص عليه أحمد، في رواية أبي طالب. وروي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول شريح .. وابن أبي ليلى: ذلك جائز عليهم؛ لأن الحق للورثة، فإذا رضوا بتركه سقط حقهم، كما لو رضي المشتري بالعيب. وقال مالك: إنْ أذنوا له في صحته، فلهم أن يرجعوا، وإنْ كان ذلك في مرضه، وحين يحجب عن ماله، فَذَلك جائزٌ عليهم، ولنا=
وهذه المسألة فيها خلاف فى كل المذاهب، والأَوْلَى ألَّا يرجعوا؛ لأن هذا يتعارض مع عزة النفس، وبعض العلماء يرون أنهم لو رجعوا، فهذا حق لهم، وبعضهم يقول: لا، قد نفذت وانتهى الأمر.
* قَوْله: (وَقِيلَ بِالفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الوَرَثَةُ فِي عِيَالِ المَيِّتِ، أَوْ لَا يَكُونُوا، أَعْنِي أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ كَانَ لَهُمُ الرُّجُوعُ، وَثَلَاثَةُ الأَقْوَالِ فِي المَذْهَبِ)
(1)
.
والخلاف في غير مذهب مالك.
= أنهم أسقطوا حقوقهم فيما لم يملكوه، فلم يلزمهم، كالمرأة إذا أسقطت صداقها قبل النكاح
…
ولأنها حالة لا يصح فيها ردهم للوصية، فلم يصح فيها إجازتهم كما قبل الوصية.
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" على الشرح الكبير (4/ 437، 438)"قولُهُ: ليس مراده أنه" أي: الوارث يلزمه أن يجيز وصية مورثه. "قولُهُ فتلزمه الإجازة" ظاهره مطلقًا؛ سواء تبرع الوارث بها بأن أجاز قبل أن يطلبها منه الموصى أو طلبها منه الموصى، وَهُوَ ما ذهب إليه غير واحد من شيوخ عبد الحق، واختاره بعض الصقليين. وقال بعض القرويين: إنْ أجاز الوارث قبل أن يطلبها منه الموصى لم يكن له رجوع مطلقًا؛ كان في عيال الموصى أو لم يكن في عياله، وإنْ أجاز بعد أن طلب الموصى منه الإجازة كان له الرجوع، هاليه نحا ابن يونس.
"قولُهُ: وليس له رجوع بعد ذلك" أي: بعد موت الموصى.
"قولُهُ: لم يصح بعده" أي: بعد ذلك المرض الذي أجاز فيه الوارث.
"قولُهُ: لم يلزم الوارث ما أجازه "، أيْ: في الصحة أو في المرض الأول.
"قولُهُ: ألا يكون معذورًا"، أي: فَإنْ كان الوارث معذورًا، فلا تلزم إجازته
…
"قولُهُ: وأنها في الثلث "، أي: وإنْ علم أن الوصية إنَّما تكون في الثلث لا في زائدٍ عليه. "قولُهُ: وأن له" أي: ويعلم أن للوارث إجازة الوصية للوارث وبزائد الثلث، وله ردها. "قولُهُ: وبقي شرط خامس
…
إلخ "، قد يقال: هو المأخوذ من قول المصنف، ولزم إجازة الوارث؛ لأن اللزوم إنما يكون للرشيد. "قولُهُ: لا بصحة" هذا قول مالك في "الموطأ" و"العتبية" قال: لا يلزمهم ذلك؛ لأنهم أذنوا في وقت لا مغ لهم فيه أبو عمر، هذا هو المشهور من المذهب، وخرج ابن الحاج في نوازله عليه إن رد ما أوصى له به في صحة الموصى ثم قبله بعد موته صح قبوله؛ لأنه لم تجب له الوصية إلا بموت الموصى. اهـ.
* قولُهُ: (القَوْلُ فِي المُوصَى بِهِ: وَالنَّظَرُ فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ، أَمَّا جِنْسُهُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الوَصِيَّةِ فِي الرِّقَابِ
(1)
، وَاخْتَلَفُوا فِي المَنَافِعِ
(2)
).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 495) قال: "وإنْ أَوْصَى أن يعتق عنه بهذه المئة عبدًا فهلك منها درهم لم تنفذ" بخلاف الحج، وهذا قول أبي حنيفة في العتق، وقالا: يعتق عنه بما بقي؛ لأنه وصية بنوع قربةٍ، فيجب تنفيذها ما أمكن قياسًا على الوصية بالحج، وله أنه وصية بالعتق بعبد يشترى بمئة من ماله، وتنفيذها فيمن يشتري بأقل منه تنفيذ في غير الموصى له، وذلك لا يجوز بخلاف الوصية بالحج؛ لأنها قربة محضة هي حق الله تعالى، والمستحق لم يتبدل، وصار كما إذا أوصى لرجل بمئة فهلك بعضها يدفع إليه الباقي.
ومَذْهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد القيرواني (11/ 518): "قال أشهب في الكتابين: وإن أوصى أن يعتق عنه بماله كله، فلم يجز الورثة؟ فليعتق عنه بالثلث، ولا قول لمَنْ قال: تبطل الوصية".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 93) قال: "أو أوصى "بإعتاق رقاب فثلاث "؛ لأنه أقل الجمع على الراجح، ومن قال: أقله اثنان، جوز الاقتصار عليهما، ولو قال: اشْتَروا بثلث مالي رقابًا، وأعتقوهم اشتروا ثلاثًا لما مر فأكثر. قال الشافعي رضي الله عنه: والاستكثار مع الاسترخاص أولى من الاستقلال مع الاستغلاء
…
ولا يجوز صرف ما وصَّى به إلى رَقَبتين مع إمكان ثلاث، فلو صرفه ضمن الوصي الثالثة، وهل يضمن ثلث ما نفذت الوصية أو أقل ما يجد به رقبة؟ فيه خلاف، والراجح الثَّانِي "فإن عجز ثلثه عنهن" أي: عن ثلاث رقاب "فالمذهب "، وفي الروضة وأصلها الأصح ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 377) قال: "وإذا قال: اشتروا بثلثي رقابًا فأعتقوهم لم يجز صرفه إلى المكاتبين "؛ لأنه أوصى بالشراء لا بالدفع إليهم، وإن اتسع الثلث لثلاثة لم يجز شراء أقل منها، فإن قدر أن يشتري أكثر من ثلاثة فهو أفضل، وإن أمكن شراء ثلاثة رخيصة وحصة من رابع، فثلاثة غالية أولى، ويقدم مَنْ به ترجيح من عفةٍ ودينٍ وصلاح، ولا يجزئ إلا رقبة مسلمة سالمة من العيوب كالكفارة".
(2)
المنافع: تطلق المنفعة ويراد بها معنيان:
أحدهما: الأعراض التي تقوم بالأعيان كالركوب بالنسبة للسيارة والدابة، والسكنى بالنسبة للدار.
قال السرخسي: "المنفعة عرض يقوم بالعين ". انظر: "المبسوط"(11/ 80).=
فَكَما مرَّ بنا في الهبة: هناك هبة عين، وهناك هبة منفعة، فهنا في الوصية وصية رقاب، ووصية منفعة، ولا خلاف بين العلماء في جواز الوصية في الرقاب، أيْ: في الأعيان، لكن الخلاف بينهم في جوازها في المنافع.
* قَوْله: (فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ: ذَلِكَ جَائِزٌ)
(1)
.
= وعرف البعلي المنفعة والمنافع: الانتفاع بالأعيان كسكنى الدار، وركوب الدواب، واستخدام العبيد". انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع"(491)، والمقصود بالمنافع في باب الوصيَّة هو المعنى الثاني.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 202) قال: "وتصحُّ الوصية بخدمة عبده، وسكنى داره مدة معلومة وأبدًا"؛ لأن المنافع يصح تمليكها في حالة الحياة ببدل وبغير بدل، فكذا بعد الممات لحاجته كما في الأعيان، ويكون محبوسًا على ملك الميت في حق المنفعة حتى يتملكها الموصى له على ملكه.
مذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 1012) قال: بمسألة: تصحُّ
الوصية بسكنى دار، وخدمة عبدٍ، وغلَّة أرض وبستان. وقال ابن أبي ليلى: لا يصحُّ،
قال الطحاوي: وهو القياس؛ فدليلنا أن المانع يصحح إفرادها بالعقد بدليل جواز
الإجارة عليها، فصحت الوصية بها، كالأعيان، ولأنه تمليك منافع بغير بدل، كالعارية.
مذهب الشَّافعيَّة، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 153) قال: "تصح" الوصية "بمنافع عبدٍ" ونحوه من الدواب "ودار" ونحوها من العقارات "و" نحو "غلة حانوت " كثمرة بستان مؤقتة ومؤبدة، والإطلاق يقتضي التأبيد؛ لأنها أهوال مقابلة بالأعواض، فكانت كالأعيان، وضبط الإمام المنافع بما يملك بالإجارة، وغلة عطف على منافع، وهو مشعر بمغايرتها لها. قال السبكي: والمنافع والغلة متقاربان، وكل عين فيها منفعة فقد يحصل منها شيءٌ غير تلك المنفعة؛ إما بفعله كالاستغلال أو بعوضٍ عن فعل غيره، أو من عند الله تعالى، وذلك الشيء يُسمَّى غلة، فالموصى له به يملكه من غير ملك العين، ولأنَّ المنفعة كأجرة العبد والدار والحانوت وكسب العبد وما ينبت في الأرض كله غلة تصح الوصية به كما تصح بالمنفعة.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 373): (فصل وتصح الوصية بالمنفعة المفردة) عن الرقبة؛ لأنه يصح تمليكها بعقد المعاوضة، فصحت الوصية بها كالأعيان، وقياسًا على الإعارة (ك) ما لو أوصى لإنسان بـ "خدمة عبد وغلة دار وثمرة بستان أو" ثمرة "شجرة سواء وصى بذلك" أي: بما ذكر من المنفعة "مدة معلومة أو" وصى "بجميع الثمرة والمنفعة في الزمان كله "؛ لأن غايتَه جهالة القدر، وجهالة القدر لا تقدح.
لأنه ليس هناك ما يمنعه، فلو أوصى له بسكنى هذه الدار، وأن يستفيد من هذا البستان، فهذه وصية يُسْتفاد بها، وجمهور العلماء لا يرون مانعًا من ذلك، وعلتهم في ذلك كأنهم يقولون: هذه المنافع إنما هي تملك في عقود المُعَاوضات، فَكَذلك أيضًا هنا تجوز، فأنت تستأجر الدار، وتدفع أجرتها، ولا تستفيد من الحين، فقد لا تسكنها ولو ليومٍ واحدٍ، وذكرت ذلك التعليل؛ لأن المؤلف لم يُشِرْ إليه.
* قَوْله: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ
(1)
، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
: الوَصِيَّةُ بِالمَنَافِعِ بَاطِلَةٌ).
وهذا خلاف قول الجمهور، ومنهم الأئمة؛ لأنه إذا لم يصرح بذكر أحد الأئمة، فمعنى ذلك أنه داخل في قول الجمهور.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ أَنَّ المَنَافِعَ فِي مَعْنَى الأمْوَالِ. وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ المَنَافِعَ مُنْتَقِلَةٌ إِلَى مِلْكِ الوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ المَيِّتَ لَا مِلْكَ لَهُ، فَلَا تَصِحُّ لَهُ وَصِيَّةٌ بِمَا يُوجَدُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ).
لكنه عندما أوصى كان ذلك في حياته، وعندما أوصى كان ذلك داخلًا في ملكه، فهو لم يوص بما لم يملكه، بل هُوَ ملكٌ انتقل إلى غيره، فلَوْ كان عليه دَين مع أنَّ هذا المَال قد انتقل من ملكه، فمن غير شك أنه يؤدَّى الدَّين من ذلك المال، وكذلك أيضًا الوصية، لو كانت عنده
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (7/ 279) قال: وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة الوصية بكل ذلك (أي: بخدمة العبد وغلة البساتين وسكنى المساكين) باطلة غير جائزة. وانظر "المغني" لابن قدامة (6/ 182).
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 370)، قال: قال أبو محمد: فاتفق من ذكرنا على جواز الوصية بخدمة العبد، وغلة البستان، وسكنى الدار -ووافقهم على ذلك سوار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن العنبريان، وإسحاق بن راهويه. وقال ابن أبي ليلى، وأبو سليمان، وجميع أصحابنا: لا يجوز شيء من ذلك.
أماناتٌ للآخرين، فيجب أن تؤدَّى، فهَذا هو حقيقة مذهب جمهور العلماء، وهُوَ الراجح في هذه المسألة.
* قَوْله (وَإِلَى هَذَا القَوْلِ ذَهَبَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ
(1)
).
وَأَمَّا القَدْرُ: فَإِنَّ العُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الوَصِيَّةُ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ تَرَكَ وَرَثَةً
(2)
. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يَتْرُكْ وَرَثَةً، وَيي القَدْرِ المُسْتَحَبِّ مِنْهَا، هَلْ هُوَ الثّلثُ أَوْ دُونَهُ؟)
(3)
.
وقد تعرَّض المؤلف لشيءٍ، وَتَرك شيئًا آخر، وربما يكون للمؤلف وجهة نظر؛ لأن هذا لم ينته العلماء فيه إلى شيءٍ، ولكننا انتهينا إلى أن الوصية مشروعةٌ، وأنَّ الله تعالى حضَّ عليها، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رغب فيها، وإنْ كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوصِّ، فإن الرسول لم يترك شيئًا؛ لأن عائشة رضي الله عنها ذكرت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا بعيرًا ولا شاةً
(4)
، وجاء في حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوصى بكتاب الله"
(5)
، وما أعظمَها من وَصيَّةٍ! ومن أعظم ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقوى الله
(6)
، ولا شك بأن خير وصية وأن
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 279) قال قال أبو عمر: قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة ومَنْ تابعهما قول صحيح في النظر والقياس وإنْ كان على خلافه أكثر الناس.
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 111) قال: "واتفقوا أنه لا يجوز لمن ترك ورثة أو وارئْا أن يوصي بأكثر من ثلث ماله لا في صحته، ولا في مرضه ".
(3)
سيأتي قريبًا.
(4)
أخرجه مسلم (1635) عن عائشة قالت: "ما ترك رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم دينارًا، ولا درهمًا، ولا شاة، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء".
(5)
أخرجه البخاري (2740) ومسلم (1634) من طريق طلحة بن مصرف، قال: سألتُ عبدَ الله بن أبي أوفَى رضي الله عنهما: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؛ فقال: "لا"، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية؟ قال: "أوصى بكتاب الله ".
(6)
أخرجه أبو داود (4657) والترمذي (2676) وقال: حسن صحيح عن العرباض بن=
خير ما يفعله الإنسان هو أن يتمسك بما في هذا الكتاب العظيم.
* قَوْله: (وَإِنَّمَا صَارَ الجَمِيعُ إِلَى أَنَّ الوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ لَهُ وَارِثٌ).
وفي الحقيقة فإنهم اختلفوا في ذلك القدر المعين الذي إذا امتلكه الإنسان يوصي، فلم يَرِدْ فيه شيءٌ مستقرٌّ، وقد أثر عن بعض الصحابة: مَنْ كان عنده سبع مئة درهم فلا يوصي
(1)
، وبعضهم ثمان مئة
(2)
، وبعضهم قال: ألف درهم
(3)
، وبعضهم قال: أربع مئة دينار
(4)
، وبعضهم قال: يوصي إذا بلغ ما عنده ألفًا وخمس مئة درهم
(5)
، فهم مختلفون في هذا القدر، ولذلك نجد أنه أمر نسبي لا يمكن تحديدُهُ، ولذلك لما سأل رجلٌ عائشةَ بأنه يملك ثلاثة آلاف درهم وعنده أربعة أولاد، فأمرته بأن يترك
= سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بلحغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فإذا تعهد إلِنا يا رسول الله؟ قال:"أوصيكم بتقوى الله .... ". الحديث. وصححه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(165).
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 229)، عن ابن عباس قال:"إذا ترك الميت سبع مئة درهم فلا يوصي".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(9/ 63)، عن طاوس أنه كان يقول: لا يجوز لمن كان له مال قليل، وورثته كثير أن يوصي بثلث ماله، قال: وسئل ابن عباس عن ثمان مئة درهم فقال: "قليل ذلك "، فقلت لابن طاوس: فكان سمى حينئذٍ شيئًا؟ قال: لا يصلح، كان أبي يصلح بينهم.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 229) عن قتادة: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} قال: "خير المال كان يقال: ألف درهم فصاعدًا".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(9/ 63)، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، أن عائشة سُئلَت عن رجل مات وله أربع مئة دينار وله عدة من الولد، فقالت عائشة:"ما في هذا فضل عن ولده ". وفي روايةٍ أخرى: قال: "فلامته عائشة وقالت: إنَّ ذلك لقليل ".
(5)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(3/ 138)، عن إبراهيم النخعي، في قولُهُ:" {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} قال: ألف درهم إلى خمسمائة".
ذلك لأولاده، وقالت:"دعهم لأولادك"
(1)
، فلم يرد تحديد في ذلك، ولذلك لم يتعرض له المؤلف، والأمر نسبي، فلا يقاس هذا الزمان بذاك الزمان، فثلاثة آلاف في ذاك الزمان تعادل شيئًا كثيرًا بالنسبة لهذا الزمان، فالآن الذي يملك مئة ألفٍ لا يعتبر يملك شيئًا، فقد تجد عليه الديون الكثيرة، وربما يملك المليون، ويختلف أيضًا باختلاف الأشخاص، قد تجد شخصًا عنده مئة ألف دينار، لكنه عنده وظيفة أو صنعة يشتغل فيها ويكسب كسبًا طيبًا، فعنده دَخْل، فهذا يوصي بأي شيء، وربما تجد آخر عنده مال لكنه ينفق هذا المال، فليس عنده أي مصدر من المصادر التي تضيف إليه شيئًا من الكسب، فهم يختلفون.
* قَوْله: (وَإِنَّمَا صَارَ الجَمِيعُ إِلَى أَنَّ الوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ لَهُ وَارِثٌ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَادَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَلَغَ مِنِّي الوَجَعُ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا"، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: "لَا"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذْرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ "، فَصَارَ النَّاسُ لِمَكَانِ هَذَا الحَدِيثِ إِلَى أَنَّ الوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَاخْتَلَفُوا فِي المُسْتَحَبِّ مِنْ ذَلِكَ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَا دُونَ الثُّلُثِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي هَذَا الحَدِيثِ:"وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 229) عن عائشة قال: قال لها رجل: إني أريد أن أوصي، قالت:"كم مالك؟ "، قال: ثلاثة آلاف، قالت:"فكم عيالك؟ "، قال: أربعة، قالت:"فإن الله يقول: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، وإنه شيء يسير، فدعه لعيالك، فإنه أفضل ".
(2)
تقدم تخريجه.
وهذَا هو رَاي جمهور العلماء، ومنهم الأئمة
(1)
.
(1)
صرح الحنفية والمالكية والشافعية في المعتمد والحنابلة في المذهب بأنه يستحب ألا يسوعب الموصى الثلث بالوصية وإن كان غنيًّا.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 64) قال: "ويستحب أن ينقص من الثلث "؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "والثلث كثير"، أي: في الوصيهَ، وعن عليّ رضي الله عنه: لأَنْ أوصي بالخمس أحب إليَّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليَّ من أن أوصي بالثلث، ولأن فيه صلة القريب بتَرْكه حقه لهم، ولا صلة فيما أوصي بالثلث تامًّا؛ لأنه استوفى حقه فلا صلة. قال:"وإنْ كانت الورثة فقراء لا يستغنون بنصيبهم فتركها أفضل "؛ لما فيه من الصلة والصدقة عليهم
…
لأنه فقير فيكون صدقة، وقريب فيكون صلة، وإن كانوا أغنياء أو كانوا يستغنون بميراثهم، قيل: الوصية أولى، وقيل: يخير لأن الوصية صدقة أو مبرة، وتركها صلة، والكل خير.
مذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات"لابن رشد الجد (1173) قال: وإنما قلنا: إن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز .. وقد استحب جماعة من العلماء ألا يوصي الرجل إلا بأقل من الثلث؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والثلث كثير"
…
وقد استحب جماعة من العلماء الثلث في الوصية؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله أعطَاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة، رضيت لنفسي في وصيتي بما رضي الله لنفسه من الغنيمة"، وتلا:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} . وقال إبراهيم النخعي: "كان في أعمالكم "، وهذا إنما ينبغي أن يفعل فيه بالاجتهاد في قلة المال وكثرته، فإذا كان قليلًا فإبقاؤه على الورثة أفضل، والله أعلم؛ لأن الله تعالى أعطاه ثلث ماله عند وفاته يجعله حيث يراه من وجوه البر، فإذا أبقاه على الوارث نظرًا .. فهو أفضل له من صدقته على الأجنبيين، والله أعلم.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 77) قال: "ينبغي" أي: يطلب منه على سبيل الندب "ألا يوصي بأكثر من ثلث ماله" لخبر "الصحيحين": "أن سعد بن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني
…
فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من المرض ما ترى وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لا"، قلت: فالشطر؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير"، أو "كبير"، فالوصية بالزائد مكروهة كما قاله المتولي وغيره، وَإنْ قال القاضي وغيره بحرمتها. وانظر:"حاشية الجمل"(4/ 49).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 139) قال: والأَوْلَى ألا يستوعب الثلث بالوصية وإن كان غنيًّا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والثلث كثير". قال ابن عباس: لو=
* قَوْله: (وَقَالَ بِهَذَا كَثيرٌ مِنَ السَّلَفِ
(1)
. قَالَ قَتَادَةُ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالخُمْسِ، وَأَوْصَى عُمَرُ بِالرُّبْعِ
(2)
، وَالخُمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ).
وقد اختلفَ العُلَماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث والثلث كثير"، فلم يقل الثلث وسكت، وإنما قال:"الثلث والثلث كثير"، فمن العلماء مَنْ فهم من ذلك أن الأَوْلَى هو ما دون الثلث، ومنهم مَنْ فهم أن الحد الأعلى هو الثلث، فقال: يوصي بالثلث، وأكثر العلماء على أن المستحب هو ألا يصل إلى الثلث، وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللَّهَ تصدق عليكم بصدقةٍ عند وفاتكم زيادةً في أعمالكم ألا وهي الوصية"
(3)
.
ثمَّ أشَار المؤلف إلى اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، فرُوِيَ عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه تصدَّق بالخمس، وأوصى بالخمس، ولما سُئِلَ قال:"أفعل ما فعله الله سبحانه وتعالى"، والله سبحان وتعالى يقول:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ، وقال: "أستحب ما استحبه الله سبحانه وتعالى
(4)
، فنرى أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه له مأخذ دقيق، وأنه عندما اختار الخمس بنى ذلك على قول الله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ، وأثر عن عمر رضي الله عنه أنه أوصى
= أن الناس غَضُّوا من الثلث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الثلث كثير"، متفق عليه. وقال القاضي وأبو الخطاب: إن كان غنيًّا استحب الوصية بالثلث، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد:"والثلث كثير"، مع إخباره إياه بكثرة ماله، وقلة عياله، فإنه قال في الحديث:"إن لي مالًا كثيرًا، ولا يرثني إلا ابنتي ".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 139)، قال: فالأفضل للغني الوصية بالخمس، ونحو هذا يروى عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهو ظاهر قول السلف، وعلماء أهل البصرة.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(9/ 66) عن قتادة، أن أبا بكر أوصى بالخمس وقال:"أوصي بما رضي الله به لنفسه "، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ، وأوصى عمرُ بالربع.
(3)
سيأتي الكلام عنه.
(4)
تقدم تخريجه.
بالربع
(1)
، وأثر ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه
(2)
، ومن العلماء من قال: العُشْر
(3)
، ومنهم من قال: السدس
(4)
إلى غيره.
* قَوْله: (وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ المُسْتَحَبَّ هُوَ الثُّلُثُ، فَإِنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَكُمْ فِي الوَصِيَّةِ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ"
(5)
.
لأنَّ المقصود هنا هو الأجر والثواب، والله سبحانه وتعالى يبارك الأعمال، دقد تعمل أعمالًا قليلةً تقصد بها وجه الله، فيباركها لك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا تحقرنَّ من المعروف ولَوْ أن تلقى أخاك بوجهٍ طليقٍ"
(6)
، وفي الحديث: أن الإنسان لو تصدق بعدل تمرة وكانت حلالًا، فالله سبحانه وتعالى يربيها كما يربي أحدنا فَلُوَّه حتى تكون كالجبل
(7)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 227) عن علي قال: "لأنْ أوصي بالخمس أحب إليَّ من أن أوصي بالربع، ولأنْ أوصي بالربع أحب إليَّ من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث لم يترك ".
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 130) عن العلاء بن زياد، قال: جاء شيخ إلى عمر فقال: "يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير، وإن مالي كثير، وترثني أعراب موال، كلالة، منزوح نسبهم، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير، ومالي كثير، ويرثني أعراب موال، كلالة، منزوح نسبهم، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: فلم يزل يحطه حتى بلغ العُشْرَ".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 227) عن منصور قال: قال إبراهيم: "كان يقال: السدس خير من الثلث في الوصية".
(5)
أخرجه ابن ماجه (2709) والبيهقي في "الكبرى"(6/ 441) ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم ".
(6)
أخرجه مسلم (2626).
(7)
معنى حديث أخرجه البخاري (1410)، ومسلم (1014)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإنَّ الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل ".
* قَوْله: (وَهَذَا الحَدِيثُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ)
(1)
.
لكن له عدة طرق، وقد جمعها العلماء، فحسنوا سنده، فيصبح حُجَّةً لمن أخذ به
(2)
.
* قَوْله: (وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاسُ فِي الوَصِيَّةِ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبْع لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ؛ لِا"نَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"
(3)
.
فمَا دَامِ الرَّسول قد سماه كثيرًا، فينبغي أن يغض إلى الربع أو الخمس كما ثبتَ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
* قَوْله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ الوَصِيَّةِ بمكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَإِنَّ مَالِكًا
(4)
لَا يجِيزُ ذَلِكَ وَالأَوْزَاعِيُّ
(5)
، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ
(1)
ضعفه البوصيري في "الزوائد"(3/ 143) وابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 200)، والغماري في "تخريج البداية"(8/ 236) والأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(6/ 77).
قال ابن الملقن: وفي إسناده طلحة بن عمرو المكي راويه عن عطاء، عن أبي هريرة، وقد ضغَفوه. قال أحمد: لا شيء، متروك الحديث. ولينه البزار، فقال: لم يكن بالحافظ.
(2)
قال ابن حجر: وكلها ضعيفة، لكن قد يقوى بعضها ببعض. انظر:"بلوغ المرام"(ص 372).
(3)
أخرجه البخاري (2743)، ومسلم (1629).
(4)
هو قول مالك والشافعي:
أما مذهب المالكية فينظر: "المنتقى شرح الموطإ"، للباجي (6/ 156، 157) قال: "مسألة" فإن لم يكن له وارث فهل له أن يوصي بماله كله، فمذهب مالك: أنه لا يجوز، وبه قال الشافعي وهو قول زيد بن ثابت، وجوز ذلك أبو حنيفة، وروي ذلك عن ابن مسعود وعلي بن أبي طالب، والدليل على ما نقوله أن له من يعقل عنه، فلم يكن له أن يوصي بأكثر من الثلث أصل ذلك مَنْ يرثه بنوه.
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (8/ 156) قال: وإذا أوصى بما زاد على ثلث ماله: فإن لم يكن له وارث متعين، لم تصح الوصية بما زاد على الثلث، وبه قال مالك وأهل المدينة.
(5)
يُنظر: "الاستذكار"("273)، وقال زيد بن ثابت: لا يجوز لأَحَدٍ أن يوصي بماله=
أَحْمَدَ
(1)
، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ
(3)
، وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلْ هَذَا الحُكْمُ خَاصٌّ بِالعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَهُ بِهَا الشَّارعُ أَمْ لَيْسَ بِخَاصٍّ).
وَيُقْصد بالشارع هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي جاء بتشريع هذه الأحكام المبلغة له عن الله سبحانه وتعالى عن طريق جبريل.
* قوله: (وَهُوَ أَلَّا يَتْرُكَ وَرَثتهُ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، كمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"
(4)
.
فلا شكَّ أن العلة ظاهرة، والأمر واضح، وأنَّ كل إنسان يحب
= كله كان له بنون، أو ورث كلالة، أو ورثه جماعة المسلمين، وبهذا القول قال مالك والأوزاعي.
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 192).
قولُهُ: "فأما مَنْ لا وارث له: فتجوز وصيته بجميع ماله "، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، منهم أبو بكر، والقاضي، والشريف وأبو الخطاب، والشيرازي، والمصنف، وغيرهم، وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في "الفروع "، و"المحرر"، و"الرعايتين "، و"الحاوي الصغير"، و"الفائق"، وغيرهم، وصححه في النظم، وغيره. وعنه: لا تجوز إلا بالثلث .. نص عليه في رواية ابن منصور. قال أبو الخطاب في "الانتصار": هذه الرواية صريحة في منع الرد، وتوريث ذوي الأرحام، وأطلقهما في "الهداية" و"المستوعب ". وقيل: تجوز بماله كله إذا كان وارثه ذا رحم. قال الشارح: وهو ظاهر كلام الخرقي. وأطلق في "الفائق" في ذوي الأرحام وجهين.
(2)
يُنظر: "النتف في الفتاوى" للسُّغْدي (2/ 843) قال: وأما الموصى له فلو أن رجلًا لا يكون له وارث بوجه من الوجوه، فأوصى بماله لرجل، فإنه جائز، ويكون المال للموصى له جميعًا في قول أبي حنيفة وصاحبيه، وأبي عبد الله وشريك.
(3)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (8/ 4271، 4272) قال: قلت: للرجل أن يوصي بماله كله إن لم يكن له وارث؟
قال: لا؛ لأن زيد بن ثابت رضي الله عنه ردَّ ما بقي إلى بيت المال - بيت المال له عصبة.
قال إسحاق: له أن يوصي بماله كله لما قال ابن مسعود رضي الله عنه ذلك.
(4)
تقدم تخريجه.
أبناءه، وإذا كان يحبهم ويشفق عليهم في حياته فينبغي أن تدوم هذه المحبة وأن تستقر، وهم بحاجة إليه بعد وفاته أكثر، وهو لا يستطيع أن يقدم لهم نفعًا بعد أن يموت إلا عن طريق هذا المال الذي يتركه لهم.
* قَوْله: (فَمَنْ جَعَلَ هَذَا السَّبَبَ خَاصًّا، وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ الحُكْمُ بِارْتِفَاعِ هَذِهِ العِلَّةِ، وَمَنْ جَعَلَ الحُكْمَ عِبَادَةً وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّلَ بِعِلَّةٍ، أَوْ جَعَلَ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ فِي هَذَا المَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الوَرَثَةِ، قَالَ: لَا تَجُوزُ الوَصِيَّةُ بِإِطْلَاقٍ بِأَكثَرَ مِنَ الثُّلثِ).
لأنَّ الحكم تعبديٌّ وتوقيفيٌّ، فلا تجوز الزيادة على الحدِّ الذي ذكره الشارع، أما مَنْ يُجوِّزُ الزيادة على الثلث، فإنه يربط الحكم بالعلَّة، فإذا زالت العلَّة كان للحكم أن يرتفع ويتغيَّر معها.
* قَوْله: (القَوْلُ فِي المَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لفْظُ الوَصِيَّةِ).
فالوصيَّة لها لفظٌ خاصٌّ، وسيتكلم المؤلف عن عددٍ من المسائل بإيجاز ثم ينتقل إلى مبحث آخر يفصل القول فيه؛ لأنه قد فصل في مذهب المالكية.
* قولُهُ: (وَالوَصِيَّةُ بِالجُمْلَةِ هِيَ هِبَةُ الرَّجُلِ مَالَهُ لِشَخْصٍ آخَرَ).
وهذا هو مصطلح المالكية؛ لأنهم يعبرون عنها بلفظ الهبة، فلو قال: وهبت كذا وقصد الوصية، فإن ذلك يصلح.
* قولُهُ: (أَوْ لِأَشْخَاصٍ بَعْدَ مَوْتِهِ).
وربما يكون لغير الأشخاص، وربما يكون لأَشْخَاصٍ غير محصورين كما سنبين إن شاء اللّه.
* قولُهُ: (أَوْ عَتْقُ غُلَامِهِ، سَوَاءٌ صَرَّحَ بِلَفْظِ الوَصِيَّةِ أَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ).
وقد يكون عتق غلامًا أو أكثر من غلام، لكن المهم أنه يقصد به الثواب ووجه الله تعالى.
* قولُهُ: (وَهَذَا العَقْدُ هُوَ مِنَ العُقُودِ الجَائِزَةِ بِاتِّفَاقٍ)
(1)
.
وهذه من المواضع التي أجمل فيها المؤلف، فقال: هو عقد من العقود الجائزة، ووجه هذا ودلالته أن الوصية ليست بواجبةٍ، وهذا في الحقيقة هو مذهب جمهور العلماء
(2)
؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في شأن الوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} ، فذهب بعض العلماء من التابعين إلى أن الوصية واجبة، أي: أنها لا تزال واجبة، وأن الذي نُسِخَ إنما هو إيجابُها في حق الوالدين ومَنْ له حق الإرث من الورثة، أما ما عدا هؤلاء من القرابة فإن الوصية باقية في حقهم بقاءً واجبًا، وأُثِرَ ذلك عن الإمام الزهري من التابعين
(3)
، وعن مسروق وقتادة، وكذلك أيضًا عن ابن جرير الطبري
(4)
المفسر المَعْروف، وهو قول داود
(1)
يُنظر: "الإجماع "، لابن المنذر (ص 77)، وفيه قال: وأجمعوا أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 242) قال: الوصية غير واجبة، وهي مستحبة، ولا تجوز الوصية لوارث.
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(4/ 579) قال: "الوصية مندوبة"، ولو لصحيحٍ؛ لأن الموت ينزل فجأةً.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 66) قال: وكانت أول الإسلام (الوصية) واجبة بكل المال للوالدين والأقربين .. ثم نسخ وجوبها بآيات المواريث، وبقي استحبابها في الثلث.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتى (4/ 338) قال: والوصية ببعض المال ليست واجبة لما قدمنا "بل مستحبة"؛ لأنها برٌّ ومعروف.
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (4/ 401)، وفيه قال: واختلفوا في وجوب الوصية على من خلف مالًا، فقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر الآية، كان الزهري يقول: جعل الله الوصية حقًّا مما قل أو كثر.
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 137) قال: وَحُكِيَ ذلك عن مسروق، وطاوس، وإياس، وقتادة، وابن جرير، واحتجوا بالآية، وخبر ابن عمر، وقالوا: نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين، وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين.
الظاهري
(1)
، وأثر أيضًا عن غير هؤلاء، واستدلُّوا بالكتاب والسُّنَّة:
* أما الكتاب، فالآية التي قد ذكرناها، وقالوا: إن الآية باقية على أصلها، وما نسخ منها إنما يتعلق بالوالدين والأقربين، وفي ذلك إشارة إلى قول الله سبحانه وتعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ، {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
* واستدلوا من السُّنة بحديث عبد الله بن عمر المتفق عليه الذي مر بنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حَقُّ امرئٍ مسلم له مال يوصي فيه لا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"
(2)
، وفي بعضهًا:"ثلاثًا"
(3)
، وفي بعضها:"ليلة"
(4)
، قالوا: فهذا الحديث أيضًا يدل على الوجوب.
أمَّا جماهير العلماء وهم الذين اكتفى المؤلف بقولهم، ومن بينهم الأئمة الأربعة وإنْ كان يوجد في بعض المذاهب مَنْ يرى وجوبها في حق مَن ذكرنا، لكن رأي الأئمة الأربعة والذي أشار إليه المؤلف نقلًا عن ابن عبد البر: بأن الوصية ليست بواجبة
(5)
، ودليلهم على عدم وجوبها بأنه لم ينقل عن كثيرٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوصوا، ولم ينقل أيضًا ما ينكر ذلك؛ لأنه أنكر على بعضهم بأنه لم يوصِ، قالوا: فدل ذلك على أنها غير واجبةٍ.
(1)
"المحلى" لابن حزم (8/ 349) قال: مسألة الوصية فرض على كل من ترك مالًا
…
وهو قول عبد الله بن أبي أوفَى، وطلحة بن مطرف، وطاوس، والشعبي، وغيرهم، وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا.
(2)
أخرجه البخاري (2738)، ومسلم (1627) ولفظه عن عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ".
(3)
أخرجه مسلم (4/ 1627) عن الن عمر ولفظه: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة".
(4)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(6/ 445) ولفظها: عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حقُّ امرئٍ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتين ليست وصيته مكتوبة عنده ".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 260)، قال: وأجمع الجمهور على أن الوصية غير واجبة على أحد.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا} حَقًّامهو، فقالوا: ذكر المعروف في الآية يدل على عدم الوجوب؛ لأن المعروف إنما هو التطوع، فليست بواجبة.
وَاستدلُّوا أيضًا بما أُثِرَ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "آية الوصية نسخها قول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} "
(1)
، وأيضًا جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:"نَسَختها -آية الوصية- آيةُ المواريث"
(2)
.
وَأجَابوا عن دليل الفريق الأول فَقَالوا: إنَّ الآية -كما ذكرنا- نُسخَت، وأجَابوا عن الحديث الذي ذكرناه أيضًا:"ما حق امرئ مسلم له مال يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه"
(3)
، بأن المقصود به مَنْ توفي وعليه واجب كأن يكون عليه دَين، أو عنده أمانة أو وديعة، أو غير ذلك مما يجب عليه، فهذا في حقه، وبهذا يَتَبيَّن أن جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- يرون أن الوصية قد انتقلت من الوجوب الذي كان أوَّلًا قبل أن يكونَ هناك ميراث، ثم بعد ذلك أصبحت مستحبةً وسُنَّةً من السنن خلافًا لما خالف في ذلك.
* قولُهُ: (أَعْنِي: أَنَّ لِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا أَوْصَى بِهِ)
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
ذهب الفقهاء إلى أن الوصية لا تلزم في حق الموصى ما دام حيًّا، فله أن يرجع عنها في حياته متى شاء؛ لأنها عقد تبرع لم يتم، إذ تمامها بموت الموصى، فجاز رجوعه عنها قبل تمامها.
فمذهب الحنفية ينظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (10/ 436) قال: "ويجوز للموصي الرجوع عن الوصية"، الرجوع عن الوصية جائز لوجهين:
أحدهما: أنه تبرع لم يتم؛ لأن تمامها بموت الموصى، والتبرع التام كالهبة جاز الرجوع فيه ففيما لم يتم أولى.=
ولَوْ قال: باتفاق الجمهور كما قال ابن عبد البر مصدره لَكان أَوْلَى.
* قولُهُ: (إِلَّا المُدَبَّرَ
(1)
، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ).
فإذَا أوصَى إنسانٌ لآخر بدارٍ وبستانٍ، فله أن يرجع في وصيته، فيسترد تلك الدار وذلك البستان، أما إذا توفي وكان قد حصل القبول ممن أوصي له، فإنَّ الأمر قد انتهى وأصبحت مُتَعَينةً في حق الموصى له، وأصبحت حقًّا من حُقُوقه، ففي هذه الحالة له قبل الموت أن يرجع في
= والثاني: أن القبول يتوقف على الموت، والإيجاب المفرد يجوز إبطاله في المعاوضات كما في البيع، ففي التبرع أولى، ثم الرجوع قد يكون صريحًا، وهو أن يقول: رجعت عما أوصيت به لفلان، وقد يكون دلالة وله أنواع، ذكر المصنف لها في الكتاب ضوابط هي جامعة واضحة.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 428) قال: "و" بطلت الوصية "برجوع فيها" من الموصى؛ سواء وقع منه الإيصاء في صحة أو مرض بعتق أو غيره؛ لأنها من العقود الجائزة إجماعًا، فيجوز له الرجوع فيها ما دام حيًّا.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 112) قال: "له " أي الموصى "الرجوع عن الوصية" أي عن التبرع المتعلق بالموت بالإجماع كما حكاه الأستاذ أبو منصور، ولأنه عطية لم يزل عنها ملك معطيها فأشبهت الهبة قبل القبض "وعن بعضها" كمن أوصى بشيءٍ ثم رجع عن بعضه، لما روى البيهقي عن عمر رضي الله عنه يغير الرجل من وصيته ما شاء. وانظر:"نهاية المحتاج"(6/ 94).
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 348) قال: "ويجوز الرجوع في الوصية، وفي بعضها ولو بالإعتاق "؛ لقول عمر رضي الله عنه: "يغير الرجل ما شاء في وصيته "، ولأنها عطية تنجز بالموت، فجاز له الرجوع عنها قبل تنجيزها كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه، وتفارق التدبير فإنه تعليم على شرط، فلم يملك تغييره كتعليقه على صفة في الحياة "فإذا قال" الموصى:"قد رجعت في وصيتي أو أبطلتها أو غيرتها"، أو فسختها بطلت لأنه صريح في الرجوع "أو قال" الموصى "في الموصى به هو لورثتي أو" هو "في ميراثي فهو رجوع" عن الوصية؛ لأن ذلك ينافي كونه وصية.
(1)
المُدَبَّرَ الذي أعتق عن دبر أي. بعد موت المولى. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 26).
وصيته كلها أو بعضها، والمؤلف قال: له أن يرجع في وصيته، والمراد: له أن يرجع بجميع ما أَوْصَى به، وله أن يرجع في بعضه، وقال: إلا المدبر، وكان الأَوْلَى حقيقةً أن يذكر العتق
(1)
؛ لأنَّ هذا فيه خلافٌ بين العلماء، فلو أوصى بعتق شخص كما ذكر المؤلف: بعتق غلام أو أكثر، فهل له أن يرجع في ذلك أو لا؟ وقد أخذ المؤلف برأي أكثر العلماء، فإن العتق عند كثير من العلماء، وله أيضًا أن يرجع فيه كالحَال بالنسبة أيضًا لغير العتق
(2)
، ومن العلماء مَنْ قال: ليس له أن يرجع فيه، وهذا
(1)
العتق والعتاق والعتاقة: زوال الرق. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 63).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"النتف في الفتاوى"، للسُّغْدي (2/ 821)، قال فيه:"ويجوز للموصي أن يرجع عن الوصية، ويجوز أن يزيد فيها، ويجوز أن ينقص منها. والرجوع على وجهين بقول أو بفعل؛ فالقول: أن يقول: رجعت عنها، وأما الرجوع بالفعل فهو أن يوصي بعبد لرجل أو قال: اعتقوه ثم باعه أو وهبه، فإق رجوع عن الوصية، فإن اشتراه في مرضه أو ورثه أو ملكه بوجهٍ من الوجوه لم تعد الوصية، فإن مات كان للورثة".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (6/ 369) قال: ص "وبرجوعه فيها، وإن بمرض" ش قال في "التوضيح" قال في "الوثائق المجموعة": إذا قال: اشهدوا أني قد أبطلت كل وصية تقدمت فإنها تبطل إلا وصية قال: لا رجوع لي فيها، فإنها لا تبطل حتى ينص عليها .. انتهى. ونقل عن ابن عرفة أنه قال في "مختصر الحوفية": فلو التزم عدم الرجوع لزمه على الأصح .. وفي، (مختصره الفقهي ": فلو التزم عدم الرجوع ففي لزومه خلاف بين متأخري فقهاء تونس ابن علوان ثالثها إن كانت بعتق. ص "بقول " ش: يعني أن الدال على الرجوع إما قول أو فعل، والفعل يكون بأحد وجهين، أحدهما: ما ينقل الملك، ويمنع من نقله كالبيع والعتق والاستيلاد، والثاني: أن يفعل فعلًا يبطل رسم الموصى به .. انتهى. وانظر "شرح مختصر خليل" للخرشي (8/ 172).
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 63) قال: "تصح في التبرع المعلق" ولو في الصحة "بالموت" كقوله: إذا مت فأعطوا فلانًا كذا، أو فأعتقوا عبدي "لا المنجز" ولو في المرض "الرجوع" عنه وعن بعضه؛ لأنه عقد تبرع لم يَتَصل به القبض، فكان كالهبة، ولأن القبول في الوصية إنما يُعْتبر بعد الموت، وكل عقد لم يقترن بإيجابه القبول، فللموجب فيه الرجوع، وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر وعائشة رضي الله عنها يغير الرجل من وصيته ما شاء، وإنما لم يرجع في المنجز وإن كان معتبرًا من الثلث حيث جرى في المرض كالمعلق بالموت؛ لأن=
أيضًا قد أُثِرَ عن بعض التابعين ممن نقل عنه ذلك الشعبي وهو من التابعين، وكذلك ابن سيرين، ونقل أيضًا عن قتادة
(1)
وعن غير هؤلاء
(2)
.
* قَوْله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْمُوصَى لَهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ المُوصِي)
(3)
.
لأنه قبل موته بإمكانه أن يرجع فيها في أي وقت من الأوقات كما مرَّ، لكن عندما يحصل قبولٌ من الموصَى له وَيمُوت المُوصِي، أصبحت متعينةً وحقًّا ثابتًا وملكًا مستقرًّا للموصى له.
* قَوْله (وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ المُوصَى لَهُ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
: قَبُولُ المُوصَى لَهُ إِيَّاهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
= المقتضي للرجوع في الوصية كون التمليك لم يتم لتوقفه على القبول بعد الموت، والتبرع المنجز عقد تام بإيجاب وقبول، فأشبه البيع من وجه، ويحصل الرجوع "بالقول كنقضت الوصية وأبطلتها" أو رجعت فيها وفسختها.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 460) قال: "تبطل وصية بقول موص: رجعت في وصيتي أو أبطلتها، أو غيرتها أو فسختها ونحوه" كرددتها؛ لأنه صريح في الرجوع؛ لقول عمر: يغير الرجل ما شاء من وصيته، ولأنها عطية تنجز بالموت، فجاز له الرجوع عنها قبل تنجيزها كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه، وتفارق التدبير، فإنه تعليق على شرط، فلم يملك تغييره كتعليقه على صفة في الحياة "وإن قال" موص "عن موصى به هذا لورثتي" أو هذا في ميراثي؛ فهو رجوع عن الوصية؛ لأن ذلك ينافي كونه وصية "أو" قال "ما وصيت به لزيد فلعمرو؛ فهو رجوع" عن الوصية الأولى؛ لمنافاته لها ورجوعه عنه.
(1)
لم أقف عليه.
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (4/ 454)، وفيه قال: وقالت طائفة: يغير الرجل ما شاء من وصية إلا العتاقة، كذلك قال الشعبي وابن شبرمة وابن سيرين والنخعي.
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 82) قال: وأجمعوا أن الوصية تصح بموت الموصى، وقبول الموصى له إياها بعد الوصي.
(4)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(4/ 424) قال: "قولُهُ وقبول المعين" أي: لغير عتقه، وأما العتق فلا يحتاج لقبول. "قولُهُ: قبل هوت الموصى" أي: ولم يستمر على القبول بعده.
الوَصِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ القَبُولُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا
(1)
،
= "قولُهُ: حتى لو رد الموصى له قبل موت الموصى" أي: ولو كان رده لها حياءً من الموصى كما يقع كثيرًا، وأما إن ردها بعد موت الموصى فليس بعد ذلك.
"قولُهُ: ولو مات المعين قبل قبوله" صادق بما إذا كان موته قبل موت الموصى أو بعد موته. "قولُهُ: فوارثه يقوم مقامه" أي: في القبول، سواء مات المعين قبل علمه بالوصية أو بعد علمه بها، اللهم إلا أن يريد الموصى الموصى له بحينه، فليس لوارثه القبول.
"قولُهُ: كما يقوم مقام غير الرشيد" أي: في القبول وليه، فهو الذي يقبل له، ولا عبرة بقبوله هو خلافًا لظاهره، فالقبول هنا مخالف للحوز في الوقف والهبة، إذ يكفي حوز الصغير والسفيه كما مر.
مذهب الحنفية: "البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 403) قال: م: (قال) ش: أي القدوري: م: "الموصى به يملك بالقبول" ش: يملك على صيغة المجهول، وبه قال جمهور العلماء: إذا كانوا بالغين يمكن القبول منه.
أما إذا كان لغير معين كالفقراء والمساكين ومَنْ لا يمكن حصره كبني هاشم أو على مصلحة مسجد أو حج لم يفتقر إلى قبولٍ، ولزمت بمجرد الموت؛ لأن الوصية لهم كالوقف عليهم م:(خلافًا لزفر رحمه الله تعالى)، ش: فإن عنده لا يتوقف على القبول م: (وهو) ش: أي قول زفرم: (أحد قولي الشافعي رحمه الله ش: وهو قول غير مشهور عنه.
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 86): "وإن أوصى لغير معين" بأن أوصى لجهة عامة "كالفقراء" أو لمعين غير محصور كالهاشمية والمطلبية "لزمت بالموت بلا" اشتراط "قبول" لتعذره، ويجوز الاقتصار على ثلاثة منهم، ولا تجب التسوية بينهم.
تنبيه: أشعر كلامه أنه لو أوصى لفقراء بلدة وكانوا محصورين أنه يشترط قبولهم كالمعين وهو كذلك "أو" أوصى "لمعين" محصور كزيد "اشترط القبول" كالهبة، فلو فبل بعض الموصى به ففيه احتمالان للغزالي، ونظيره الهبة، وقدمت في بابها أنه يصح كما رجَّحه بعض اليمانيين، فكذا هنا خلافًا لبعض المتأخرين، والفرق بينهما وبين البيع فيما إذا قبل بعضه حيث لم يصح أن البيع فيه المعاوضة، فلم يغتفر فيه ما اغتفر فيهما. تنبيه: دخل في المعين المتعدد المحصور كبني زيد فيتعين قبولهم، ويجب استيعابهم والتسوية بينهم، ولو كانت الوصية لمحجور عليه قبل له وليه، والظاهر أنه أراد بالمعين الآدمي، أما لو كانت لمعين غير آدمي كمسجد فهل نقول: ناظر الوقف كالولي، أَوْ يكون كالوصية لجهة عامة؟ قال الأذرعي: لم يحضرني فيه نص، والثاني أقرب
…
وقال ابن الرفعة: لا بد من قبول قيم المسجد فيما نظنه. اهـ. وهذا -كما قال شيخي- أوجه، وظاهر كلامهم أن المراد القبول اللفظي وهو كذلك، وإن بحث=
وَمَالِكٌ شَبَّهَهَا بِالهِبَةِ
(1)
).
وهذه المسألةُ حقيقةً تحتاج إلى تفصيل، والمؤلف أجمل في هذه المواضع، فالموصَى له لا يخلو إما أن يكون معينًا أو غير معينٍ، أي: منحصرًا أو غير منحصرٍ، فلو أوصى لرجلٍ أو لرجلين أو عشرة وسماهم، فجمهور العلماء يَشْتَرطون القبول، أما إذا كان لا ينحصر كأن يوصي لقبيلة حرب أو تميم أو قريش أو غير ذلك من القبائل، أو يوصي على فعل عملٍ من أعمال البر بناء المساجد وشق الطرقات، وكذلك أيضًا حفر الآبار وبناء المستشفيات والمدارس وغير ذلك، فإن هذا حقيقة لا يحصل بالتعيين، فلا يحتاج إلى قبول، وإنما يصبح واجبًا متعينًا لازمًا بعد الموت، لكن لو تبرع لجمعية من الجمعيات أو لمؤسسة من المؤسسات وكان عليها قيد، فحينئذ يقال بحصول القبول، فإن كانت الوصية لمعين، فيشترط فيها عند جمهور العلماء أن يحصل القبول من الموصى عليه، لكن هناك وجه عند الحنابلة
(2)
وأيضًا قول عند
= الزركشي الاكتفاء بالفعل وهو الأخذ كالهدية قال: ومحل اشتراط القبول من المعين في غير العتق، فلو قال: أعتقوا عبدي بعد موتي لم يفتقر إلى قبول العبد؛ لأن فيه حقّا لله تعالى، فكان كالجهة العامة، ومثله التدبير، وإذا قلنا: إنه وصية، أي: على رأي، فإنه يتنجز بالموت من غير توقف على قبول كما قاله الرافعي في الكلام على رهن المدبر. نعم لو قال: أوصيت له برقبته ففي افتقار القبول وجهان أصحهما نعم؛ لاقتضاء الصيغة القبول .. ذكره الرافعي قبيل المسائل الحسابية.
(1)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 366 - 167): "وقبول المعين شرط بعد الموت فالملك له بالموت "، ش: هذه نحو عبارة ابن الحاجب، قال في "التوضيح" في شرحها: أي: وقبول الموصى له المعين للوصية شرط في وجوبها له؛ لأنها أحد أنواع العطايا فاشترط فيها القبول كالهبة، وغيرها. انتهى.
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 459) قال: "وما وصى به لغير محصور كفقراء أو غزاة وبني هاشم""أو" وصى به لـ "مسجد ونحوه" كثغر ورباط وحج "لم يشترط قبوله" لتعذره فتلزم الوصية بمجرد الموت "وإلا" تكن الوصية كذلك، بل لآدمي معين ولو عددًا يمكن حصره "اشترط" قبوله؛ لأنها تمليكٌ له كالهبة، ولا يتعين القبول باللفظ، بل يجزي ما قام مقامه كأخذ وما دل على الرضا. وانظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 156).
الشافعية
(1)
فإنهم أيضًا لا يشترطون ذلك، فالمؤلف لم يذكر فيما مرَّ إلا قليلًا منها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(القَوْلُ فِي الأَحْكَامِ؛ وَهَذِهِ الأَحْكَامُ مِنْهَا لَفْظِيَّةٌ، وَمِنْهَا حِسَابِيَّةٌ، وَمِنْهَا حُكْمِيَّةٌ).
فمنها حسابيَّة؛ لأن هناك مسائل في الوصايا تشتبه مع الفرائض التي ستأتي بعد هذا الكتاب، ولا شك أنه إذا مات، ترتب على موته البدء بتجهيزه، ومؤنة هذا التجهيز إنما تُؤْخذ من ماله، ثم بعد ذلك تُسَدَّد عنه الدُّيون، والدَّينُ ينقسمُ إلى قسمين، وهذا سنأخذه تفصيلًا في كتاب الفرائض، ثم تأتي الوصية بعد ذلك، وهذا يدل على أهمية الوصية، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الإرث.
* قولُهُ: (فَمِنْ مَسَائِلِها المَشْهُورَةِ الحُكْمِيَّةِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَعَيَّنَ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ فِي مَالِهِ مِمَّا هُوَ الثُّلُثُ).
وَالوصية بالثُّلُث ليس فيها إشكالٌ، وإنما الإشكال في تحديده الثلثَ لرجلِ معينٍ، وهذا محلُّ خِلَافٍ بين المالكية والجمهور، بَلْ إن الجمهور أنكروَا على الإمام مالكٍ فيها.
* قولُهُ: (فَقَالَ الوَرَثَةُ: ذَلِكَ الَّذِي عَيَّنَ أَكْثَرُ مِنَ الثُّلُثِ).
لأنه عندما حدد قالوا: إنَّ هذا المحدد مالًا أو عقارًا يزيد على الثلث، والرَّسول صلى الله عليه وسلم قال:"الثلث والثلث كثير"، ثم ذكر العلة عليه
(1)
يُنظر: "البيان " للعمراني (8/ 171، 172) قال: وإنْ كانت الوصية لمعين، كالوصية لرجل مسمى أو لقوم محصورين .. فلا بد من القبول من الموصى له، هل القبول شرط في الملك؟ فيه وجهان .. والثاني: قال ابن الصباغ: ينبغي أن يقال: إن القبول في الوصية ليس بشرط في صحة الملك، وإنما يتبين به اختياره للملك حال الموت، فتبين حصول الملك باختياره، ولا يصح القبول إلا بعد موت الموصى؛ لأن إيجاب الوصية بعد الموت، فكان القبول بعده.
الصلاة والسلام، وقد رأينا من العلماء من يستحب ألا تصل الوصية إلى الثلث، بل ينبغي أن تكون دون ذلك، فقد أوصى أبو بكر بالخمس، وقال: "أختار ما اختار الله سبحانه وتعالى لنفسه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}
(1)
.
* قَوْله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: الوَرَثَةُ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ ذَلِكَ الَّذِي عَيّنهُ المُوصِي أَوْ يُعْطُوهُ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ مَالِ المَيِّتِ).
أَيْ: هذا القدر الذي أوْصَى به وحدَّده يسلمه له الورثة، وبعد ذلك يصبح المال لهم، وهذَا هو الرأي الأول.
أما الرأي الثاني عند الإمام مالك: أنهم يجعلونه شريكًا معهم، وبعد ذلك يُقوَّم المال، ويأخذُ الثلثَ، وقد خالفه في ذلك الأئمة الثلاثة وغيرهم، وقالوا: لَا خيارَ في هذا المقام، ولا رأي للورثة؛ لأنه حدَّد، ولا ينبغي أن يرجع إلى ذلك، وهذه المسألة تُسمَّى عند المالكية مسألة خلع الثلث
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 384) قال: "وإن أوصى بمنفعة معين إلى قولُهُ ثلث الجميع "، ش: أخذ المؤلف رحمه الله يتكلم على بعض مسائل من خلع الثلث، فذكر ثلاث مسائل، الأولى: إذا أوصى بمنفعة معين، كما لو أوصى بخدمة عبد أو سكنى دار، فإن الحكم في ذلك أن ينظر إلى ذلك المعين الموصى بمنفعته، فإن حمله الثلث نفذت الوصية، وإن كان الثلث لا يحمل قيمة ذلك المعين الموصى بمنفعته، فإنه يخير الورثة بين أن يجيزوا ما أوصى به الميت أو يخلع ثلث جميع ما ترك الميت من ذلك المعين وغيره
…
واحترز بقوله: "منفعة" مما إذا أوصى له بمعين كعبد أو دابة أو دار إن لم يحمله الثلث.
قال في "المدونة": فإن قول مالك اختلف في هذه المسألة، فقال مرة مثل ما تقدم، وقال مرة: يخيرون بين الإجازة وبين أن يقطعوا له بمبلغ ثلث جميع التركة في ذلك الشيء بعينه، قال: وهذا أحب إليَّ. انتهى. قال ابن عبد السلام: وهذا هو المشهور أعني: التفرقة بين الوصية بالمنافع وبالمعين، والله أعلم. وانظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(4/ 445، 446).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 280) قال: قال مالك في الذي يوصي في ثلثه=
* قَوْله: (وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَدَاوُدُ
(5)
، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الوَصِيَّةَ قَدْ وَجَبَتْ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَوْتِ المُوصِي وَقَبُولِهِ إِيَّاهَا بِاتِّفَاقٍ).
= فيقول: لفلانٍ كذا وكذا ولفلانٍ كذا وكذا يسمي مالًا من ماله فيقول ورثته: قَدْ زاد على ثلثه، فإن الورثَة يُخيَّرون بين أن يعطوا أهل الوصايا وصاياهم، ويأخذوا جميع مال الميت وبين أن يقسموا لأهل الوصايا ثلث مال الميت، فيسلموا إليهم ثلثه، فتكون حُقُوقُهم فيه إنْ أرادوا بالغًا ما بلغ.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 333) وما بعدها قال: "وليس للوَرَثة أن يعطوه غير ذلك لما بينا: أن الوصية عقد مضاف إلى الموت، فكأنه قال في تلك الحالة: لفلان شاة من غنمي، فيستحق شاة من الموجود دون ما قبله، قال: فإن ولدت الغنم قبل أن يموت الموصى، أو ولدت الجواري قبل موته، فلحقت الأولاد الأمهات، ثم مات الموصى، فإن للورثة أن يعطوه إن شاؤوا من الأمهات، وإن شاؤوا من الأولاد؛ لأن الاسم يتناول الكل عند الموت، فكان المستفاد بالولادة كالمستفاد بالشراء قال: فإن اختار الورثة أن يعطوه شاة من غنمه، ولها ولد قد ولدته بعد موت الموصى، فإن ولدها يتبعها.
(2)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (8/ 203) قال: "أن الموصى قصد تخصيص الموصى له يملك عين معينة من ماله، فلم يجز للوارث نقل ذلك إلى غيره، كما لو كان المال كله حاضرًا".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 280)، قال: وخالفهم فيها أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور
…
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 377) قال: "فصل: ومَنْ أوصي له بشيء معين كعبد وثوب""فتلف قبل موت الموصى أو" تلف "بعده قبل القبول، بطلت الوصية" حكى ابن المنذر إجماع مَنْ يحفظ عنه من أهل العلم؛ لأن الموصى له إنما يستحق المعين، فإذا ذهب زال حقه كما لو تلف في يده، والتركة في يد الورثة غير مضمونة عليهم؛ لأنها حصلت في أيديهم بغير فعلهم، ولا تفريط منهم، فلم يضمنوا شيئًا "وإن تلف المال كله غيره" أي: غير المعين الموصى به "بعد موت الموصى، فهو للموصى له "؛ لأن حقوق الورثة لم تتعلق به لتعيينه للموصى له بدليل أنه يملك أخذه بغير رضاهم، فتعين حقه فيه دون سائر ماله. قال ابن حمدان: إنْ كان عند الموت قدر الثلث أو أقل والا ملك منه بقدر الثلث.
(5)
يُنظر: "الاستذكار"(7/ 280) قال: وَخَالفهم فيها أبو حنيفة والشافعي
…
وداود وأصحابهم.
وما دامت قد أصبحت حقًّا له، فهي من خالص ماله، وليس لأحد أن يتعدى عليه، أو أن يأخذ منه ولو فلسًا إلا عن طيب نفسٍ، وإعطاء الورثة الخيار في ذلك كأنه تعدٍّ على الموصَى، وتصرف في حق قد ثبت له شرعًا.
* قَوْله: (فَكَيْفَ يُنْقَلُ عَنْ مِلْكِهِ مَا وَجَبَ لَهُ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، وَتُغَيَّرُ الوَصِيَّةُ).
وَيشير إشارةً إلى الحديث الذي مرَّ بنا دون أن يذكره: "لا يحلُّ مَالُ امْرِئٍ مسلمٍ إلا بطيب نَفْسٍ منه"
(1)
، وكونه يرجع ويدَّعي الورثة ثم تعاد وتصفى الأموال ويعطى الثلث، هذا تصرف أيضًا في الوصية، وتدخل فيها.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ إِمْكَانُ صِدْقِ الوَرَثَةِ فِيمَا ادَّعَوْهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا رَأَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ).
لأنَّ ابن عبد البر هو مَنْ ساق هذه المسألة في كتابه "الاستذكار"، وقد نقل عنه المؤلف، واستحسن رأيه؛ لأنه جَاء برأيٍ وسطٍ في المسألة.
* قَوْله (وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ادَّعَى الوَرَثَةُ ذَلِكَ، كلِّفُوا بَيَانَ مَا ادَّعَوْا، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ، أَخَذَ مِنْهُ المُوصَى لَهُ قَدْرَ الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ المُوصَى بِهِ، وَكَانَ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ)
(2)
.
لَكن الجمهور رحمهم الله يَرَوْن غلق هذا الباب، وعدم التدخُّل فيه، وأن هذه وصية يجب أن تنفذ، وما دامت في حدود الثلث وحددها
(1)
أخرجه الدارقطني (3/ 424)، وأبو يعلى في "مسنده"(3/ 140) وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1459).
(2)
يُنظر: "الاستذكار"(7/ 280)، قال أبو عمر: الذي أقول به أن الورثة إذا ادعوا أن الشيء الموصى به أكثر من الثلث، كلفوا بيان ذلك، فإذا ظهر ذلك وكان كما ذكروا أكثر من الثلث يأخذ من الموصى له قدر ثلث مال الميت، وكان شريكًا للورثة بذلك فيه، وإن كان الثلث فأقل أجبروا على الخروج عنه إلى الموصى له.
الموصى، فلا ينبغي حقيقةً التصرف فيها، وأن التصرف فيها تعدٍّ، وأما دعوى الورثة فإنها دعوى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو يُعْطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم"
(1)
، حتى وَإنْ كان الورثة، فإنَّه لا ينظر إليهم؛ لأن المال هو مال الموصى، وقد رضي بذلك وقدره بالثلث.
* قَوْله: (وَإِنْ كانَ الثُّلُثَ فَأَقَلَّ جُبِرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ المُوصَى بِهِ هُوَ فَوْق الثّلُثِ، قَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الوَرَثَةَ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ مَا أُوصِيَ لَهُ بِهِ، أَوْ يُفْرِجُوا لَهُ عَنْ جَمِيعِ ثُلُثِ مَالِ المَيِّتِ).
وهذا كلام ابن عبد البر، وفيه استحسان منه رحمه الله تعالى، وأنَّ الورثة مطالبون بالبينة على ما ادَّعوا، فإذا ما ثبت أنه أعطى أكثر من الثلمث، يكون فيه حيف فيرجع، لكن جمهور العلماء رأوا أن ذلك من باب سد الذرائع
(2)
، وهو قاعدة معروفة في الشريعة الإسلامية؛ لأن ذلك لو أخذ به لفتح بابًا، وربما قام كثير من الورثة؛ لأنه ليس كل الوارثين عندهم من التُّقَى ما يعصمهم من ذلك، فربما حب المال والتعلق به ووجود صعوبة أن يُخْرج شيءٌ من مال مورثهم لغيرهم ربما يرون أن ذلك أمر يضايقهم، ولذلك يسعون إلى هذا، فرأى جمهور العلماء غَلْق هذا الباب سدًّا للذرائع، والمالكية دائمًا ما يطبقون هذا المبدأ، لَكنهم في هذا المقام لم يأخذوا بها؛ لأنهم نَظَروا إلى التُّهمة في المورِّث.
* قَوْله: (إِمَّا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، وَإِمَّا فِي جَمِيعِ المَالِ عَلَى
(1)
أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711)، ولفظه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه ".
(2)
"الذرائع ": جمع ذريعة، وهي الوسيلة إلى الشيء، ومعناها حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة. انظر:"الصحاح" للجوهري (3/ 1211)، و"الفروق" للقرافي (2/ 32).
اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
: لَهُ ثُلُثُ تِلْكَ العَيْنِ، وَيَكُونُ بِبَاقِيهِ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ فِي جَمِيعِ مَا تَرَكَ المَيِّتُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الثُّلُثِ، وَسَبَبُ الخِلَافِ أَنَّ المَيِّتَ لَمَّا تَعَدَّى فِي أَنْ جَعَلَ وَصِيّتَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَهَلِ الأَعْدَلُ فِي حَقِّ الوَرَثَةِ أَنْ يُخَيَّرُوا بَيْنَ إِمْضَاءِ الوَصِيَّةِ أَوْ يُفْرِجُوا لَهُ إِلَى غَايَةِ مَا يَجُوزُ لِلْمَيِّتِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ، أَوْ يَبْطُلَ التَّعَدِّي وَيعُودَ ذَلِكَ الحَقُّ مُشْتَرَكًا، وَهَذَا هُوَ الأَوْلَى إِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّعَدِّي هُوَ فِي التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ أَكثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (أَعْنِي: أَنَّ الوَاجِبَ أَنْ يَسْقُطَ التَّعْيِينُ)).
(1)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (4/ 534) قال: "ولو أوصى بغلة عبده أو بغلة داره يجوز أيضًا؛ لأنه بدل المنفعة، فأخذ حكم المنفعة في جواز الوصية به، كيف وأنه عين حقيقة لأنه دراهم أو دنانير، فكان بالجواز أولى، ولو لم يكن له مال غيره كان له ثلث غلة تلك السنة؛ لأنه عين مال يحتمل القسمة بالأجزاء، فلو أراد الموصى له قسمة الدار بينه وبين الورثة ليكون هو الذي يستغل ثلثها، لم يكن لَهُ ذلك إلا في رواية عن أبي يُوسُف، فإنه يقول: الموصى له شريك الوارث وللشريك ذلك، فكذلك للموصى له، إلا أنَّا نقول: المطالبة بالقسمة تُبْتنى على ثبوت الحق للموصى له فيما يلاقيه القسمة إذ هو المطالب، ولا حق له في عين الدار، وإنما حقه في الغلة، فلا يملك المطالبة بقسمة الدار، ولو أوصى له بخدمة عبده ولآخر برقبته وهو يخرج من الثلث، فالرقبة لصاحب الرقبة والخدمة عليها لصاحب الخدمة؛ لأنه أوجب لكلِّ واحدٍ منهما شيئًا معلومًا عطفًا منه لأحدهما على الآخر، فتُعْتَبر هذه الحالة بحالة الانفراد".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 27، 28) قال: "ولو أوصى بعين حاضرة هي ثلث ماله وباقيه" دين أو "غائب "، وليس تحت يد الوارث "لم تدفع كلها" ولا بعضها فيما يظهر أخذًا مما يأتي في التصرف، وإن أمكن الفرق "إليه في الحال" لجواز تلف الغائب فلا يحصل للورثة مثلًا ما حصل له "والأصح أنه لا يتسلط" من غير إذنهم "على التصرف" كالاستخدام "بثلث" من العين "أيضًا كثلثيها اللذين لا خلاف فيهما وذلك؛ لأن تسلطه يتوقف على تَسلُّطهم على مثلي ما تسلط عليه، وهو متعذر لاحتمال سلامة الغائب فتكون له ومن تصرف فيما منع منه، ثم بان له صح كما علم مما مر آخر رابع شروط البيع وعلم من قولي دين أنه لو أوصى بثلث ماله وله عين ودين، دفع للموصى له ثلث العين، وكلما نض من الدين شيء دفع له ثلثه ".
فالتعدي بالتعيين هو الذي يثير الخلاف، لكن لو قال: الثلث، فتكون المسألة منتهية.
* قَوْله: (وَأمَّا أَنْ يُكَلَّفَ الوَرَثَةُ أَنْ يُمْضُوا التَّعْيِينَ، أَوْ يَتَخَلَّوْا عَنْ جَمِيعِ الثّلثِ، فَهُوَ حَمْلٌ عَلَيْهِمْ).
وهذا كلُّه تعقيبٌ على كلام ابن عبد البر، ولكن الأَوْلَى في مثل هذا ألا تفتح الأبواب، وما دام الموصِي قد قيَّد ذلك، فينبغي أن تنفذ وصيته.
* قولُهُ: (وَمِنْ هَذَا البَاب اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَمَاتَ وَلَمْ يُوصِ بِهَا، فَهَلْ هِيَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ مِنْ رَأْسِ المَالِ؟).
الزكاةُ ركنٌ من أركان الإسلام، ولا يجوز لمسلم أن يفرط فيها، فلو قُدِّرَ أنَّ إنسانًا تسَاهل في الزكَاة، ثم بعد ذلك أوصىً بإخراجها، والخلاف هنا: هل تُخْرج من الثلث الذي أوصى به أو أنها تُخْرج من المال قبل أن يؤخذ منه الثلث؟ وهذه واجبات لو قصر الإنسان فيها أو أخَّرها فأدركته المنيَّة قبل أن يؤدي هذه الأمور الواجبة عليه، فما الحكم؟ وهل هناك فرق بين الزَّكاة وبين الدُّيون التي للآخرين؟ لأننا قلنا بأن أوَّل ما يخرج من تَرِكَةِ الميت ما يتعلق به هو، وهذا يدلُّ على أن الشريعة الإسلامية تظل مع الإنسان حتى مماته.
* قَوْله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا لَمْ يَلْزَمِ الوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا).
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي" على الشرح الكبير (4/ 441، 442) قال: "قولُهُ: ثم زكاة لعين أو غيرها"، أي: وجبت عليه لعام ماض وفرط فيها وأوصى بإخراجها في المرض أي: أو أشهد في مرضه ببقائها في ذمته، فإنْ لم يوص بإخراج تلك الزكاة التي فرط فيها ولم يشهد ببقائها في ذمته لم تخرج في الثلث، ولا من رأس المال لحمله على أنه كان أخرجها ما لم يتحقق عدم إخراجه لها، وإلا أخرجت من رأس ماله، فإذا قال: وجب عليَّ عشرة ريال أو شاة أو أردب قمح زكاة في سنة كذا ولم أخرجه، أوصيتكم بإخراجه أو اشهدوا أن ذلك باقٍ في ذمتي إلى الآن، أخرج من=
وهناك فرق بين أن يوصي أو لا يوصي عند مالك وأبي حنيفة
(1)
، أما عند الإمامين الشافعي وأحمد
(2)
فإنهما يريان أنها تخرج من أصل المال، وليس من الثلث.
* قَوْله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: يَلْزَمُ الوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَأْسِ المَالِ).
وَسَيأتي أن من أسباب الخلاف أنَّ ذلك دَينٌ وحقٌّ مشترك، فَهي حقٌّ لله سبحانه وتعالى لأنَّ ذلك واجبٌ وفريضةٌ، وهي أيضًا حق لمصارف الزكاة، فتصبح الزكاة فيها حقًّا مشتركًا بين الخالق والمخلوق.
= ثلثه؛ لأنه لا يُدْرى أصدق في بقائها أم لا، وإذا قال: وجب علي كذا وكذا زكاة عن السنة الفلانية الماضية ولم أخرجه، ولم يوص بإخراجه ولم يشهد ببقائه في ذمته، لم يخرج من ثلث، ولا من رأس مال لحمله على أنه كان أخرجها ما لم يتحقَّق عدم إخراجه لذلك، وإلا أخرجت من رأس المال كَمَا مرَّ.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 53) قال: "وجملة الكلام فيه أنَّ من عليه الزكاة إذا مات قبل أدائها، فلا يخلو إما أن كان أوصى بالأداء، وإما إنْ كان لم يوص، فإنْ كان لم يوص تسقط عنه في أحكام الدنيا حتى لا تؤخذ من تَرِكَتِهِ، ولا يؤمر الوصي أو الوارث بالأداء من تركته عندنا، وعنده (أي: الشافعي) تؤخذ من تركته، وعلى هذا الخلاف إذا مات من عليه صدقة الفطر، أو النذر، أو الكفارات، أو الصوم، أو الصلاة، أو النفقات، أو الخراج، أو الجزية؛ لأنه لا يستوفى من تركته عندنا، وعنده يُسْتَوفَى من تركته ".
(2)
يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (3/ 56) قال: "وتخرج الواجبات التي على الميت من رأس المال أوصى بها أو لم يوص كقضاء الدَّين والحج والزكاة". وانظر: "كشاف القناع"(4/ 351)، وانظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 41).
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 157) قال: "وحجة الإسلام" وإنْ لم يوص بها تُحْسب على المشهور "من رأس المال" كسَائر الديون وأوْلَى، وكذا كل واجب بأصل الشرع كالعمرة، والزكاة، والكفارة، سواء أوصى به في الصحة أم في المرض، وحجة النذر كحجة الإسلام على الأصح كذا قالاه. قال ابن الرفعة: ومحله إذا التزمه في الصِّحَّة، فإن التزمه في المرض فين الثلث قطعًا، قاله الفوراني، ونقله البلقيني عن الإمام، وقال: ينبغي الفتوى به.
قَوْله: (وَإِذَا وَصَّى؛ فَعِنْدَ مَالِكٍ
(1)
يَلْزَمُ الوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا وَهِيَ عِنْدَهُ مِنَ الثُّلُثِ
(2)
).
وأحمد
(3)
.
قَوْله: (وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(4)
فِي الوَجْهَيْنِ مِنْ رَأْسِ المَالِ شَبَّهَهَا
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 441، 442) قال: "قولُهُ: إلا أن يعترف بحلولها
…
إلخ " أي: وببقائها في ذمته من غير إخراج لها، وذلك بأن يقول: وجب علي في هذه السنة زكاة عشرة دنانير وهي باقية في ذمتي أوصيكم بإخراجها. وحاصل ما في المقام أن زَكَاة العين في عام الموت لها أحوال أربعة إن اعترف بحلولها وبقائها في ذمته وأوصى بإخراجها، فمن رأس المال جبرًا على الورثة، وإن اعترف بحلولها ولم يعترف ببقائها ولم يوص بإخراجها، فلا يجبرون على إخراجها لا من ثلث، ولا من رأس مال، وإنما يؤمرون من غير جبر إلا أن يتحقق الورثة عدم إخراجها، فتخرج من رأس المال جبرًا، وإنْ لم يعترف ببقائها، وأوصى بإخراجها، أخرجت من الثلث جبرًا، وإن اعترف ببقائها، ولم يوص بإخراجها، لم يقض عليهم بإخراجها، وإنما يُؤمَرون من غير جَبْرِ لاحتمال أن يكون أخرجها، فإن علموا عدم إخراجه، أُجْبروا عليها من رأس المال.
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 107، 108): "فإن أوصى بها من رأس المال أو" من "الثلث عمل به "، وهو في الأولى تأكيد؛ لأنه المعتبر بدونها، وَفِي الثانية قصد الرفق بالورثة لتوفير الثلثين فتزاحم الوصايا
…
"وإن أطلق الوصية بها" أي: بحجة الإسلام بأنْ لم يقيدها برأس مال ولا ثلث "فمن رأس المال "، كما لو لم يوص، وتحمل الوصية بها على التأكيد والتذكار بها "وقيل: من الثلث "؛ لأنه مصرف الوصايا، فيحمل ذكر الوصية عليه.
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للحجاوي (4/ 351) قال: "فإن وصى معها" أي: الواجبات "بتبرع اعتبر الثلث من الباقي بعد إخراج الواجب كمَنْ تكون تركته أربعين، فوصى بثلث ماله وعليه دَين عشرة، فتخرج العشرة أولًا، ويدفع إلى الموصى له عشرة وهي ثلث الباقي بعد الدين "؟ لما تقدم من تقديمه عليها "وإنْ لم يف ماله" أي: الميت "بالواجب الذي عليه تحاصوا" أي: وزع ما تركه على جميع الدُّيُون بالحصص؛ سواء كانت دينَ آدميٍّ أو لله أو مختلفة.
(4)
يُنظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" لزكريا الأنصاري (1/ 1341)، وفيه قال: ولو اجتمع زكاة ودين آدمي في تركة "بأن مات قبل أدائها وضاقت التركة عنهما" قدمت على الدين تقديمًا لدين الله .. وفي خبر "الصحيحين": "فدَيْن الله أحق بالقضاء". وانظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 231).
بِالدَّيْنِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضى"
(1)
.
ويشير المؤلِّف إلى الحديث المتفق عليه الذي رواه عبد الله بن عباس أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فهل أصوم عنها؟ فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ كَان علَى أمكَ دَين أَكنتَ قضيتَه؟ "، قال: نعم. قال: "فَدَين الله أحقُّ أن يُقْضى".
قَوْله:: (وَكَذَلِكَ الكَفَّارَاتُ الوَاجِبَةُ، وَالحَجُّ الوَاجِبُ عِنْدَهُ).
وَضمَّ المؤلِّف الكفارات ككفارة مَنْ جامع في نهار رمضان، وكفارة الظِّهار وكفارة القتل، وكفارة اليمين، وغير ذلك؛ لأنها متعينةٌ، وتقيُّده بالحج الواجب؛ لأن الحجَّ منه ما هو واجبٌ، ومنه ما هو تطوعٌ، والحج يجب مرَّةً في العمر، وقد سُئلَ عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت ثم قال:"مرة"
(2)
.
قَوْله:: (وَمَالِكٌ
(3)
يَجْعَلُهَا مِنْ جِنْسِ الوَصَايَا بِالتَّوْصِيَةِ بِإِخْرَاجِهَا
(1)
أخرجه الحخاري (1953) ومسلم (1148).
(2)
لعله يقصد هذا الحديث الذي أخرجه مسلم (1337) عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيها النَّاس، قد فرض الله عليكم الحج فحجّوا"، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فَسَكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لو قُلْت: نَعَمْ لوجبت، ولما استطعتم "، ثم قال:"ذَرُوني ما تركتكم، فإنما هلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 441، 442) قال: "ثم زكاة" لعين أو غيرها "أوصى بها" أي: بإخراجها، وقَدْ فرط فيها، وإنما قدم مدبر الصحة وصداق المريض عليها؛ لأنهما معلومان، والزكاة لا يُدْرى أصدق في بقائها في ذمته، وانه فرط فيها أم لا، فإن لم يوص بها فلا تخرج، ويُحْمَل على أنه كان أخرجها، فهذا في زكاةٍ اعترف بها عن عام ماضٍ، وأنها في ذمته، وأوصى بها، فالاستثناء في قولُهُ:"إلا أن يعترف بحلولها" عليه أي: في عام موته منقطع؛ لأن الاعتراف بالحلول إنما يكون بالنظر للحاضر لا للماضي "ويوصي" بإخراجها "فمن رأس المال" تخرج، فإن اعترف بحلولها ولم يوص بها، فإن الورَثة لا تُجْبَر على إخراجها، ولم تكن في ثلث، ولا رأس مال، اللهم إلا أن تعلم أنه لم يخرجها فمن رأس المال.
بَعْدَ المَؤتِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا فِي الحَيَاةِ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ المَالِ وَلَوْ كَانَ فِي السِّيَاقِ).
وَهذه لفتةٌ جيدةٌ من المؤلف، أنه لو أخرجها في الحياة تكون من رأس المال، وتصحُّ حتى ولو كان في السياق، أي: في نزعات الموت.
قَوْله: (وَكأَنَّ مَالِكًا اتَّهَمَهُ هُنَا عَلَى الوَرَثَةِ (أَعْنِي: فِي تَوْصِيَتِهِ بِإِخْرَاجِهَا)، قَالَ: وَلَوْ أُجِيزَ هَذَا لجَازَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَخِّرَ جَمِيعَ زَكَاتِهِ طُولَ عُمُرِهِ حتى إِذَا دَنَا مِنَ المَوْتِ وَصَّى بِهَا).
لأنَّ بعضَ الناس يُؤخِّرون زكاتهم، ويتمتعون بكثرة المال، ويحبون المال حبًّا جمًّا، فإذا أحسوا بقرب أجلهم حينئذٍ يبادرون ويخرجون، والمؤمن الذي يخشى الله ويخافه، يعلم بأنه ليس هناك حدٌّ مقدرٌ لهذه الحياة.
قَوْله:: (فَإِذَا زَاحَمَتِ الوَصَايَا الزَّكَاةُ، قُدِّمَتْ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: هِيَ وَسَائِرُ الوَصَايَا سَوَاءٌ، يُرِيدُ فِي
(1)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 760، 761) قال: "قولُهُ: وأمَّا دَين الله تعالى
…
إلخ "، محترز قولُهُ من جهة العباد، وذلك كالزكاة والكفارات ونحوها، قال الزيلعي: فإنها تسقط بالموت، فلا يلزم الورثة أداؤها إلا إذا أوصى بها؟ أو تبرعوا بها هم من عندهم؛ لأن الركن في العبادات نية المكلف وفعله، وقد فات بموته، فلا يتصوَّر بقاء الواجب. اهـ. وتمامه فيه، أقول: وظاهر التعليل أن الورثة لو تبرعوا بها لا يسقط الواجب عنه لعدم النية منه، ولأن فعلهم لا يقوم مقام فعله بدون إذنه، تأمل. "قولُهُ: من ثلث الباقي" أي: الفاضل عن الحقوق المتقدمة، وعن دين العباد، فإنه يقدم لو اجتمع مع دَين الله تعالى؛ لأنه تعالى هو الغني ونحن الفقراء كما في "الدر المنتقى".
"قولُهُ: ثم تقدمت وصيته" أي: على القسمة بين الورثة. قال الزيلعي: ثم هذا ليس بتقديم على الورثة في المعنى، بل هو شريك لهم حتى إذا سلم له شيء سلم للورثة ضعفه أو أكثر، ولا بد من ذلك، وهذا ليس بتَقْدِيم في الحقيقة بخلاف التجهيز والدين، فإن الورثة والموصى له لا يأخذون إلا ما فضل عنهم.
المُحَاصَّةِ، وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّ الوَصَايَا الَّتِي يَضِيقُ عَنْهَا الثُّلُثُ إِذَا كَانَتْ مُسْتَوِيَةً أَنَّهَا تتحَاصُّ
(1)
فِي الثُّلُثِ
(2)
).
وهذه مسألة مهمة، فإذا أوصى بعدة وصايا، فهذه الوصايا لا تخلو من أمرين: إما أَنْ تكون متساويةً، أو غير متساويةٍ من حيت الأهمية، فإن كانت في أهميتها متساويةً كأن أوصى لفلانٍ وفلانٍ، فإنهم حِينَئذٍ يتحاصون، أي: كلّ منهم يأخذ حصته ويلحقه النقص، وهذا ليس مذهب مالك وحده، بل هذا عند العلماء جميعًا.
قَوْله: (وَإِذَا كَانَ بَعْضُهَا أَهَمَّ مِنْ بَعْضٍ قُدِّمَ الأَهَمُّ).
وَهذِهِ مسألة أخرى، فلو كان فيها وصية لأحدٍ من الناس، وفيها إعتاق رقبة، فإن عتق الرقبة أهمُّ، ولذلك اختلَف العلماء في العتق، هل العتق يعتبر خَارجًا عن ذلك، فيأتي أوَّلًا فيعتق هذا الغلام أو هذا الشيخ، فإذا ما أعتق يرجع حينئذٍ، فإن كان بقي شيء من الثلث أخذوه متحاصين، ويَلْحقهم النقص كلّ على قَدْر ما أُوصِيَ له، وهذه المسألة أكثر العلماء
(1)
تحاصَّ القومُ يَتَحاصُّونَ، إذا اقتسموا حِصَصًا، وكذلك المُحاصَّةُ. انظر:"الصحاح" للجوهري (3/ 1033).
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" الدردير (4/ 441)، قال: ثم ذكر أمورًا تخرج من الثلث إذا ضاق عنها، فقال:"و" لو أوصى بوصايا أو لزمه أمور تخرج من الثلث وضاق عن جميعها "قدم لضيق الثلث" عما يجب إخراجه منه وصية أو غيرها "فك أسير" أوصى به ولم يتعين عليه قبل موته وإلا فمن رأس المال "ثم مدبر صحة"، ومنه مدبر مريض صح من مرضه صحة بينة "ثم صداق مريض" لمنكوحة فيه، ودخل بها، ومات فيه، أوصى به أو لا، وتقدم في النكاح أن لها الأقل من المسمى وصداق المثل من الثلث "ثم زكاة" لعين أو غيرها "أوصى بها" أي: بإخراجها، وقد فرط فيها، وإنما قدم مدبر الصحة وصداق المريض عليها؛ لأنهما معلومان، والزكاة لا يُدْرى أصدق في بقائها في ذمته وأنه فرط فيها أم لا، فَإِنْ لَمْ يوص بها فلا تخرج، ويُحْمل على أنه كان أخرجها، فهذا في زكاةٍ اعترف بها عن عام ماض وأنها في ذمته، وأوصى بها، فالاستثناء في قولُهُ:"إلا أن يعترف بحلولها" عليه أي: في عام موته منقطع، لأن الاعترافَ بالحلول إنما يكون بالنظر للحاضر لا للماضي، "ويوصي" بإخراجها.
قالوا فيها بقولِ مالكٍ
(1)
، فهي قول أبي حنيفة
(2)
، وهي أيضًا رواية للإمامين الشافعي
(3)
...........................................
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (13/ 148) قال: "قال ابن القاسم: قال مالك: مَنْ أوصى بوصايا لقوم، وأوصى لرجلٍ ببقية ثلثه، فأقام أيامًا، فأوصى بعتق رقيق له، وأوصى بوصايا لقوم آخرين، ولم يغير من الوصية الأولى شيئًا، ثم مات، قال مالك: يبدأ العتق، ثم يكون أهل الوصايا الأولين والآخرين في الثلث سواء، إن وسعهم الثلث، كانت لهم وصاياهم، وإن ضاق الثلث عليهم تحاصوا في الثلث بعد العتق على قدر وصاياهم، ولا يكون للموصى له ببقية الثلث شيء إلا بعد العتق، وبعد أخذ أهل الوصايا الأولين والآخرين وصاياهم، فإن فضل عنهم من الثلث شيء، كان له ما فضل، وإن لم يفضل شيء فلاشيء له ".
(2)
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (4/ 528، 529) قال: "قال: ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى، قدمت الفرائض منها قدمها الموصى أو أخرها مثل الحج والزكاة والكفارات ".
لأن الفريضة أهم من النافلة، والظاهر منه البداءة بما هو الأهم "فَإِنْ تساوت في القوة بدئ بما قدمه الموصى إذا ضاق عنها الثلث "؛ لأن الظاهر أنه يبتدئ بالأهم. وذكر الطحاوي أنه يبتدئ بالزكاة ويقدمها على الحج، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وفي روايةٍ عنه أنه يقدم الحج وهو قول محمد. وجه الأولى أنهما وإن استويا في الفريضة فالزكاة تعلق بها حق العباد، فكان أَوْلَى. وجه الأخرى أن الحج يقام بالمال والنفس والزكاة بالمال قصرًا عليه، فكان الحج أقوى، ثم تفدم الزكاة والحج على الكفارات لمزيتهما عليها في القوة، إذْ قَدْ جاء فيهما من الوعيد ما لم يَأْتِ في الكفارات، والكفارة في القتل والظهار واليمين مقدمة على صدقة الفطر؛ لأنه عرف وجوبها دون صدقة الفطر، وصدقةُ الفطر مقدمة على الأضحية للاتفاق على وجوبها بالقرآن، والاختلاف في الأضحية، وعلى هذا القياس يقدم بعض الواجبات على البعض.
قال: "وما ليس بواجبٍ قدم منه ما قدمه الموصى" لما بينَّا، وَصَار كما إذا صرح بذلك. قالوا: إن الثُّلُث يقسم على جميع الوصايا ما كان لله تعالى، وما كان للعبد، فما أصاب القرب صرف إليها على الترتيب الذي ذكرناه، ويقسم على عدد القرب، ولا يجعل الجميع كوصية واحدةٍ؛ لأنه إنْ كان المقصود بجميعها رضا لله تعالى، فكل واحدة في نفسها مقصود، فتنفرد كما تنفرد وصايا الآدميين ".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 67، 68) قال: "وأما القسم الثالث من اشتمال الوصية على العتق والعطايا إذا ضاق الثلث عنهما، ففيه قولان:
أحدهما: يقدم العتق على الوصايا، لدخوله في حقوق الله تعالى، وقوته بالسراية.=
وأحمد
(1)
، لكن هناك رواية أخرى للإمامين هي رواية لأحمد
(2)
وقول للشافعي
(3)
إلى أن العتق لا يختلف عن غيره، فإنهم كلهم يتحاصون، ولا يقدم
= والقول الثاني: أنهما سواء لاعتبارهما من الثلث واستحقاقهما بالموت، فيقسط الثلت عليهما بالحصص، فما حصل للعتق أقرع بينهم فيه، وما حصل للعطايا اشتركوا فيه، ولم يقرعوا، فلو اجتمع مع العطايا عتق وتدبير، ففيه ثلاثة أقاويل:
أَحدها: يقدم التدبير عند ضيق الثلث عن العتق والعطايا لانتجازه بالموت، فإن فضل عن التدبير صرف في العتق دون الوَصايا.
والقول الثاني: يشترك بين التدبير والعتق، ويقدمان على العطايا.
والقول الثالث: أنَّ كل ذلك سواء، ويقسط الثلث على الجميع بالحصص، ثم يكون الإقراع في سهم العتق والتدبير على ما ذكرنا".
(1)
يُنظر: "الكافي" لابن قدامة (2/ 273) قال: "وإن عجز الثلث عن التبرعات، قدمت العطايا على الوصايا؛ لأنها أسبق، فإن عجز الثلث عن العطايا، بدئ بالأول فالأول، عتقًا كان أو غيره؛ لأن السابق استحق الثلث، فلم يسقط بما بعده، وانْ وقعت دفعةً واحدةً، تحاصوا في الثلث، وأدخل النقص على كل واحد بقدر عطيته، لأنهم تساووا في الحق، فقسم بينهم كالميراث.
وعنه: أن العتق يقدم؛ لأنه آكد، لكونه مبنيًّا على التغليب والسراية، فإن كان العتق لأكثر من واحد، أقرع بينهم فكمل العتق في بعضهم؛ لحديث عمران، ولأن القصد تكميل الأحكام في العبد، ولا يحصل إلا بذلك، وإن قال: إن أعتقت سالمًا، فغانم حر، ثم أعتق سالمًا، قدم على غانم؛ لأن عتقه أسبق. وإن قال: إن أعتقت سالمًا فغانم حر مع حريته، فكذلك؛ لأننا لو أعتقنا غانمًا بالقرعة، لرق سالم، ثم بطل عتق غانم؛ لأنه مشروط بعتق سالم، فيُفْضي عتقه إلى بطلان عتقه، وإنْ كانت التبرعات وصايا، سوي بين المتقدم والمتأخر؛ لأنها توجد عقيب موته دفعةً واحدةً، فتساوت كلها".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 195) قال: "وإنْ لَمْ يف الثلث بالوصايا: تحاصوا فيه، وأدخل النقص على كل واحد بقدر وصيته "، هذا المذهب، وعليه الأصحاب. وعنه: يقدم العتق ولو استوعب الثلث، فعليهما: هل يبدأ بالكتابة؛ لأنه المقصود بها، أو لأن العتق تغليبًا ليس للكتابة؟ فيه وجهان ذكرهما القاضي، والمصنف، والحارثي، وغيرهم.
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 288، 289) قال: "وإن ضاق الثلث عن قيمته، ولم يخرج جميعها منه، فلا يخلو أن تكون معه وصايا أو لا تكون، فإن لم تكن معه وصايا، توفر الثلث كله في قيمته، وكُوتِبَ منه بقدر ثلثه، وإن كانت معه وصايا فقد اختلف قول الشافعي في الوصايا والعتق إذا اجتمعا في الوصية، هل يقدم=
العتق على غيره، ولا شكَّ أن الأَوْلَى هو تقديم العتق، وهذَا هو رأي الأكثر.
* قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا فِي التَّرْتِيبِ عَلَى مَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ الحِسَابِيَّةِ المَشْهُورَةِ).
وانتهى المؤلف من الكلام عن اللفظ والأحكام، وبقيت المسائل الحسابية.
قَوْله: (فِي هَذَا البَابِ، إِذَا أَوْصَى لِرَجُلِ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثَيْهِ، وَرَدَّ الوَرَثَةُ الزَّائِدَ، فَعِنْدَ مَالِكٍ
(1)
وَالشَّافِعِيِّ
(2)
).
= العتق، أو يكون أسوة جميع العطايا؟ على قولين مضيا في الوصايا.
أحدهما: يكون العتق أسوةً الوصايا، فعلى هذا تكون الكتابة أسوة جميع العطايا والوصايا يتحاصون في الثلث على قدر حقوقهم.
والقول الثاني: أن العتق مقدم على جميع العطايا والوصايا؛ لفضل مرتبته بالسراية التي تختص به، فعلى هذا اختلف أصحابنا في الكتابة، هل تجري في ذلك مجرى العتق المحض أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: أنها تجري مجرى العتق المحض، لإفضائها إليه، فعلى هذا تقدم الكتابة على جميع الوصايا كما يقدم العتق.
والوجه الثاني: أنها لا تجري مجرى العثق المحض لما فيه من استحقاق العوض، فصار بالمعاوضات في ابتدائه أشبه، ولا يوجب إفضاؤه إلى العتق أن يكون مقدمًا على الوصايا كلها كما لو أوصى الرجل بأبيه لم يقدم على الوصايا، وإنْ أفْضَى إلى عتقه، فعلى هذا يكون أسوة جميع الوصايا، ويقسم الثلث على جميعها بالحصص ".
(1)
يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 134، 135) قال: "وإذا ضاق الثلث" أي: لم يسع جميع ما أوصى به "تحاص أهل الوصايا التي لا تبدئة فيها" كما تتحاص غرماء المفلس في المال الذي يتحصل من أثمان ما بغ عليه، فإنه يقسم بينهم بنسبة ديونهم بعضها لبعضِ، والوصايا التي لا تبدئة فيها هي التي لم يرتبها الموصى ولا الشارع، كأن يوصيَ لشخص بنصف ماله مثلًا، ولآخر بثلثه، وإن أجازت الورثة الوصيتين فلا إشكال في أخذ أحدهما نصفه والآخر ثلثه؛ لأن مقام النصف من اثنين والثلث من ثلاثة، وهم متباينان، فيضرب أحدهما في الآخر بستة، هذا حاصل مخرج الوصيتين لصاحب النصف ثلاثة والثلث اثنان والباقي واحد للورثة، وإن لم تجز الورثة الزائد اقتسما الثلث على النصف والثلث، وهما متباينان.
(2)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (8/ 241) قال: إذا أوصى لرجل=
وأحمد
(1)
.
قَوْله: (أَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: بَلْ يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بِالسَّوِيَّةِ، وَسَبَبُ الخِلَافِ هَلِ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ السَّاقِطِ هَلْ يَسْقُطُ الِاعْتِبَارُ بِهِ فِي القِسْمَةِ كَمَا يَسْقُطُ فِي نَفْسِهِ بِإِسْقَاطِ الوَرَثَةِ؟ فَمَنْ قَالَ: يَبْطُلُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَبْطُلُ الِاعْتِبَارُ بِهِ فِي القِسْمَةِ إِذ كَانَ مُشَاعًا، قَالَ: يَقْتَسِمُونَ المَالَ أَخْمَاسًا، وَمَنْ قَالَ: يَبْطُلُ الِاعْتِبَارُ بِهِ كمَا لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا، قَالَ: يَقْتَسِمُونَ البَاقِيَ عَلَى السَّوَاءِ، وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ اللَّفْظِيَّةِ فِي هَذَا البَابِ إِذَا أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ وَلَهُ مَالٌ يَعْلَمُ بِهِ).
ومالٌ لا يعلم به، وهذا يحصل أكثر في هذا الزمان، وبخاصَّةٍ مَنْ يشتغلون في عدة أنواع من التجارة، فهل الثلث يؤخذ من الجميع؟ أو يؤخذ مما هو معلوم؟
* قولُهُ: (فَعِنْدَ مَالِكٍ
(3)
أَنَّ الوَصِيَّةَ تَكُونُ فِيمَا عَلِمَ بِهِ دُونَ مَا لَمْ
= بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، فإن أجاز الورثة، قسمت التركة على ستة أسهم، وإن لم يجيزوا، قسموا المال على خمسة عشر سهمًا
…
وبه قال الحسن، والنخعي، ومالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق.
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 345) قال: "وإن لم يف الثلث بالوصايا، ولم تجز الورثة تحاصوا فيه "، أي: الثلث.
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 374) قال: "فَإِنْ كان بأن أوصى لرجلِ بثلث ماله، ولآخر بالنصف، فإن أجازت الورثة فلكل واحد ما أوصى له به، فَالثلث للموصى له بالثلث، والنصف للموصى له بالنصف، أصل المسألة من ستة: للموصى له بالثلث سهمان، وللموصى له بالنصف ثلاثة، وذلك خمسة، والباقي للورثة، وإن لم تجز الورثة فالثلث بينهما نصفين في قول أبي حنيفة لكل واحد منهما سهم من ستة، وعند أبي يُوسُف ومحمد رحمهما الله على خمسة: لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب النصف الثلث سهمان. وانظر: "الدر المختار" للحصكفي، و"حاشية ابن عابدين" (6/ 667).
(3)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (3/ 1230)، قال: الرابع: فيما يدخل فيه=
يَعْلَمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(1)
.
وأحمد
(2)
.
قَوْله: (تَكُونُ فِي المَالَيْنِ، وَسَبَبُ الخِلَافِ هَلِ اسْمُ المَالِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ يَتَضَمَّنُ مَا عَلِمَ وَمَا لَمْ يَعْلَمْ، أَوْمَا عَلِمَ فَقَطْ؟).
وَالصَّحيح أنه يشمل المالَين؛ لأنه لو أطلق وقال: ثلث مالي، فماله لا يتجزأ، ولا فرق بين الغائب وبين الحاضر؛ سواء كان الغائب دينًا عند أشخاص، أو كان في مكانٍ لا يعرف أو يُحْتاج إلى التحرِّي عنه.
قَوْله: (وَالمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ
(3)
أَنَّ المُدَبَّرَ يَكُونُ فِي المَالَيْنِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ المَالِ الَّذِي يَعْلَمُ).
فَمالأ استثنَى؛ لأن ذلك يكون فيه مصلحة المدبر، وربما لو كان
= الوصايا. قال في كتاب محمد، وفي المجموعة نحوه، قال مالك وأصحابه: لا تدخل وصايا الميت إلا في ثلث ما علم به من ماله. وانظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 267).
(1)
يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (3/ 63) قال: لو "أوصى بنصيب من ماله أو بجزء أو حظ أو قسط أو شيء أو قليل أو كثير" أو عظيم أو سهم أو نحوها "فالتفسير" له يرجع فيه "إلى الوارث ويقبل، تفسيره "بأقل متمول" كما في الإقرار لوقوع هذه الألفاظ على القليل والكثير "فلو ادعى" الموصى له "زيادة" على ذلك "حلف الوارث أنه لا يعلم إرادتها"؛ لأن الأصلَ عدم علمه "ولو أوصى بالثلث إلا شيئًا قبل التفسير" من وارثه "و" كونه "بأقل متمول وحمل" الشيء "المستثنى على الأكثر" ليقع التفسير بالأقل "وكذا" الحكم "لو قال" أعطوه ثلث مالي "إلا قليلًا".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 372) قال: "وتنفذ الوصية فيما علم" الموصى من ماله، وما لم يعلم منه لعموم اللفظ، فإن المال يعم معلومه ومجهوله، وقياسًا على نذر الصدقة بالثلث.
(3)
يُنظر: "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (3/ 1230) قال: "وأما ما كان يعلمه مثل المدبر المرض، وكل دار ترجع بعد موته من عمرى أو حبس هو من ناحية التعمير، فالوصايا تدخل فيه، ويرجع فيه من انتقص من وصيته ولو بعد عشرين سنة". وانظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 267).
في المال الحاضر لا يصل به ذلك إلى العتق لذلك قال: "في المَالين ".
* قولُهُ: (وَفِي هَذَا البَابِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ وَكلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى هَذِهِ الثَّلاثَةِ الأَجْنَاسِ).
اللفظية والحكمية والحسابية.
قَوْله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَوْلَادِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ خِلَافَةٌ جُزْئِيَّة كَالخِلَافَةِ العُظْمَى الكُلِّيَّةِ الَّتِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُوصَى بِهَا)
(1)
.
فَللرَّجل أن يوصي بعد موته بأولاده، أيْ: يجعل وصيًّا عليهم، والمسألة فيها تفصيل، فبالنسبة لأولاده الصغار القُصَّر الذين يعتبرون أيتامًا، وكذلك مَن عنده سفهٌ، وكذلك لو كان له أولاد عقولهم مختلة، فإنه يتخذ رجلًا ليكون وصيًّا عليهم، أما لو كان أولاده راشدين عاقلين، وكذلك بالنسبة لإخوته، فليس له حقيقةً أن يتخذ وصيًّا على هؤلاء.
ثم نأتي إلى مسائلَ خلافية في هذا، فالحنفية
(2)
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 451) قال: "و""إن""قال: فلان وصيي فقط" أي: لم يقيد بشيء بأن أطلق فلفظه هذا "يعم" كل شيء حتى تزويج بناته البالغات بإذنهن، وكذا الصغيرة بشروطها، ولا جبر له؛ لأن التعميم لا يقتضيه، وإنما يجبر إنْ أمره به أو عين له الزوج وإلا فخلاف كما قدمه في النكاح، ويمكن أن يدخل هذا في الخلاف وهو ظاهر "و" إن قيد بأن قال وصيي "على كذا" لشيءٍ عينه فإنه "يخص به "، ولا يتعدَّاه، فإن تعداه لم ينفذ "كوصيي حتى يقدم فلان "، فإنه يكون وصيًّا في جميع الأشياء حتى يقدم فلان، فإن قدم انعزل بمجرد قدومه ولو لم يقبل إلا لِقَرِينَةٍ، فإن مات قبل قدومه استمر الأول وصيًّا "أو" قال: فلان وصيي "إلى" أو إلا "أن يتزوج" هو فهو بياء تحتية "زوجتي" فلا حق له عمل بذلك، ويحتمل أنه التاء الفوقية أي قال: زوجتي وصيتي إلى أن تتزوج فإنه يعمل به.
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي، و"حاشية ابن عابدين" "رد المحتار" (6/ 714) قال: "قولُهُ: ووصي أبي الطفل أحق
…
إلخ "، الولاية في مَال الصَّغير للأب ثم=
والشافعية
(1)
يرون أن للجد الولاية على ابن الابن وإنْ نزل، لماذا؟ قالوا: لأنه علاقته به ولادةً وتعصيبًا، فالجدُّ هو أبُ الأب، وهذا هو ابن الابن، واللُّحْمة متصلة بينهما، والميراث أيضًا تعصيبًا، والجد أبٌ، وخالفهم غيرهم من الفقهاء كالحنابلة
(2)
فقالوا: ليس له ذلك؛ لأن للأب أن يتخذ وصيًّا؛ لأن الأب إنما هو يدلي بدون واسطة، فعلاقته بالابن بدون واسطة، أما الجد علاقته بابن الابن بواسطة، والواسطة هو هذا الأب، فيقوم بمنزلة الإخوة؛ لأنهم يدلون بواسطة.
* * *
= وصيه ثم وصي وصيه ولو بعد، فلو مَات الأب ولم يوص فالولاية لأبي الأب ثم وصيه ثم وصي وصيه، فإن لم يكن فللقاضي ومنصوبه، ولو أوصى إلى رجلٍ والأولاد صغار وكبار فمات بعضهم وترك ابنًا صغيرًا، فوصيُّ الجد وصيٌّ لهم يصح بيعه عليه كما صح على أبيه في غير العقار فليحفظ.
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 119) قال: "ويشترط" في الموصى "في أمر الأطفال" والمجانين، وكذا السفهاء الذين بلغوا كذلك "مع هذا" السابق من حرية وتكليف "أن يكون له" أي الموصى "ولاية" مبتدأة من الشرع "عليهم" أي من ذكر لا بتفويض فتثبت الوصاية للأب والجد وإن علَا، ويخرج الأخ، والعم، والوصي، والقيم، وكذا الأب والجد إذا نصبهما الحاكم في مال من طرأ سفهه؛ لأن وليه الحاكم دونهما في الأصح.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير على متن المقنع" لابن قدامة (6/ 590)"ولا تصح الوصية إلا في معلوم يملك الموصى فعله كقضاء الدين وتفريق الوصية والنظر في أمر الأطفال"؛ لأن الوصي يتصرف بالإذن، فلم يجز إلا في معلوم يملك الموصى فعله كالوكالة، فيجوز أن يوصي إليه بقضاء ديونه واقتضائها ورد الودائع واستردادها؛ لأنه يملك ذلك، فملكه وصية، فأما النظر لورثته في أموالهم فإن كان ذا ولاية عليهم كأولاده الصغار والمجانين ومن لم يؤنس رشده، فله أن يوصي إلى من ينظر لهم في أموالهم بحفظها، ويتصرف لهم فيها بما لهم الحظ فيه، فأما مَنْ لا ولاية له عليهم كالعقلاء الراشدين وغير أولاده من الإخوة والأعمام وسائر مَنْ عدا الأولاد، فلا تصح الوصية عليهم؛ لأنه لا ولاية للموصي عليهم في الحياة، فلا يكون ذلك لنائبه بعد الممات، ولا نعلم في هذا كله خلافًا.
*قوله:
([كِتَابُ الفَرَائِضِ])
(1)
والفرائض: جمع فريضة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة
(2)
؛ لأن فعيل يأتي بمعنى مفعول أي: مفروضة، أي: هذا الكتاب والذي يذكر فيه أحكام الفرائض، وهو مستمدٌّ من الكتاب العزيز، ومن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الإجماع، وهو العلم الذي يذكر فيه من يستحق الإرث من غيره، وما قَدْر ما يستحق هذا الإنسان، ونعلم بأن أصحاب
(1)
أصل الفرض التقدير، والمراد بالفرائض الأنصباء المقدرة شرعًا بسبب الميراث من فرض وتعصيب. انظر:"شرح حدود ابن عرفة" للرصاع (ص 532).
وأمَّا مذاهب العلماء في تعريف هذا العلم:
فمذهب الحنفية: "الدر المختار"، وحاشية ابن عابدين "رد المحتار" (6/ 757) قال: هي علم بأصولٍ من فقهٍ وحسابٍ تعرف حق كل من التركة والحقوق.
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(4/ 456) قال: ويسمى علم المواريث، وهو علمٌ يعرف به مَنْ يرث ومَنْ لا يرث، ومقدار ما لكل وارث.
مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"(6/ 3) قال: "الفقه المتعلق بالإرث والعلم الموصل لمعرفة قدر ما يجب لكل ذي حق من التركة".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (3/ 81) قال: "العلم بقسمة المواريث وموضوعه التركات لا العدد".
(2)
يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 469) قال: "والفريضة فعيلة بمعنى مفعولة، والجمع فرائض، قيل: اشتقاقها من الفرض الذي هو التقدير؛ لأنَّ الفرائض مقدرات، وقيل: من فرض القوس، وقد اشتهر على ألسنة الناس، تعلموا الفرائض وعلموها الناس؛ فإنها نصف العلم ".
المواريث ليسوا على نسق واحد، وليسوا على درجة واحدة، فمنهم مَنْ يرث على كل حال، ومنهم مَنْ يرث في حال دون حال، ومنهم من لا يرث لو كان وحده، لكنه يرث لو كان مع غيره، كما سنَرى في بعض المسائل التي ستمرُّ بنا.
* قَوْله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الكِتَابِ فِيمَنْ يَرِثُ، وَييمَنْ لَا يَرِثُ، وَمَنْ يَرِثُ هَلْ يَرِثُ دَائِمًا أَوْ مَعَ وَارِثٍ دُونَ وَارِثٍ، وَإِذَا وَرِثَ مَعَ غَيْرِهِ، فَكَمْ يَرِثُ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَرِثَ وَحْدَ كَمْ يَرِثُ؟ وَإِذَا وَرِثَ مَعَ وَارِثٍ).
فلو مات إنسان وترك ابنًا وحيدًا، فإنه يأخذ جميع المال، وكذلك الحال بابن الابن والأب، فهناك مَنْ يأخذ المال كله، وهناك صاحب فرض لا يتجاوزه، فلو مات إنسان وترك بنتا فإنها تأخذ النصف، والباقي إن وجد من أهله أَخَذَ حسب نصيبه وإلا يرجع إلى بيت المال، وهل ذوو الأرحام يرثون؟ المسألة فيها خلاف، وسيعرض لها المؤلف.
" قَوْله: (فَهَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ وَارِثٍ وَارِثٍ أَوْ لَا يَخْتَلِفُ؟).
نعم، تتغيَّر المسائل بتغيُّر الورثة الموجودين، فلو تُوفِّي إنسان وبرك ابنًا، فإنه يأخذ جميع المال، ولو ترك ابنًا وبنتًا {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، وقد تغير الحكم هنا، فالولد يأخذ سهمين، والبنت تأخذ سهمًا، فهو يأخذ الثلثين، وهيِ تأخذ الثلث، ولو توفي رجل وترك ابنًا وبنتين {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، فيأخذ الابن النصف، وكلًّا من البنتين تأخذ الربع، وهكذا.
قَوْله: (وَالتَّعْلِيمُ فِي هَذَا يُمْكِنُ عَلَى وُجُوهٍ كثِيرَةٍ قَدْ سَلَكَ أَكْثَرَهَا أَهْلُ الفَرَائِضِ).
فَهنَاك عدة مسائل وطرق يسلكها مَنْ يتعلم هذا العلم، وليس هناك طريق واحد، فهناك مَنْ يَبْني تعلم هذا العلم على الحفظ، وهناك من يضيف إلى الحفظ الفهم، وهناك من يزيد على هذا التطبيق العملي.
قَوْله: (وَالسَّبِيلُ الحَاضِرَةُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُذْكَرَ حُكْمُ جِنْسٍ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الوَرَثَةِ إِذَا انْفَرَدَ ذَلِكَ الجِنْسُ، وَحُكْمُهُ مَعَ سائِرِ الأَجْنَاسِ البَاقِيَةِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الوَلَدِ إِذَا انْفَرَدَ كَمْ مِيرَاثُهُ، ثُمَّ يُنْظَرَ حَالُهُ
مَعَ سَائِرِ الأَجْنَاسِ البَاقِيَةِ مِنَ الوَارِثِينَ، فَأَمَّا الأَجْنَاسُ الوَارِثَةُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ: ذُو نَسَبٍ، وَأَصْهَارٌ، وَمَوَالٍ).
فأسباب ميراث الورثة ثلاثة: وهي نكاح، وولاء، ونسب، ما بعدهن للمواريث سبب، وهذه التي تُعْرف في علم الفرائض بأسباب المواريث، فَالنِّكاح هو الذي عبَّر عنه المؤلف بالمصاهرة التي تحصل بين الزوجين، فالزوج إذا ماتت زوجته، يرث النصف إنْ لم يكن لها ولدٌ، فإن كان لها ولدٌ، فإنه يرث الربع، والمرأة ترث الربع من مال زوجها إنْ لم يكن له ولد، فإن كان له ولد، فإنها ترث الثُّمُن، وإن تعددت الزوجات فنصيبهن أيضًا الثُّمُن يشترك بينهم، فإن كانتا اثنتين اشتركن في الثمن، والثلاثة والأربع يشتركن.
والولَاء يكون لمَنْ أعتق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة:"إنما الولاء لمن أعتق"
(1)
؛ لأنه هو صاحب النعمة، فهو الذي تفضَّل على المعتق بهذا الإعتاق.
أما النَّسبُ -وهو القرابة- فهو أوسع الأسباب، فيدخل فيه الأبناء وإن نزلوا، والآباء وإنْ علوا، والإخوة وأبناؤهم، وعلى أي نوع كانوا، وكذلك بالنسبة إلى الأعمام وأبنائهم.
قَوْله: (فَأَمَّا ذو النَّسَبِ، فَمِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَأَمَّا المُتَّفَقُ عَلَيْهَا فَهِيَ الفُرُوعُ (أَعْنِي: الأَوْلَادَ)، وَالأُصُولُ (أَعْنِي: الآبَاءَ وَالأَجْدَادَ) ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا).
فَقضيَّة الفُرُوع ليست على إطلاقها، كالابن، وابن الابن، وبنت الابن أيضًا، لكن بنات البنات يدخلن في ذوي الأرحام.
* قولُهُ: (وَكَذَلِكَ الفُرُوعُ المُشَارِكَةُ لِلْمَيِّتِ فِي الأَصْلِ الأَدْنَى (أَعْنِي: الإِخْوَةَ ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا).
(1)
أخرجه البخاري (456) ومسلم (1504) عن عائشة، قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئت أعطيت أهلك، ويكون الولاء لي، وقال أهلها: إن شئت أعطيتها ما بقي- وقال سفيان مرة: إن شئت أعتقتها، ولكون الولاء لنا -فلمَّا جَاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ابتاعيها فأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق "
…
الحديث.
الأصل الأدنى: هو الأب وإن علا، والأم وإن علت، والوارث الذي يشاركه في هذا الأصل الأدنى هم: الإخوة الأشقاء أو لأب، والإخوة لأم قد يرثونه دون أبنائهم.
* قَوْله: (أَوِ المُشَارِكَةَ الأَدْنَى أَوِ الأَبْعَدَ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُمُ الأَعْمَامُ وَبَنُو الأَعْمَامِ)، وَذَلِكَ الذُّكُورُ مِنْ هَؤُلَاءِ خَاصَّةً فَقَطْ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا فُصِّلُوا كَانُوا مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةً، وَمِنَ النِّسَاءِ سَبْعَةً).
وَالصَّحيح أن هذا إجمالٌ، ولو فصلوا لبلغوا خمسةَ عشرَ.
* قَوْله: (أَمَّا الرِّجَالُ: فَالِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفُلَ، وَالأَبُ وَالجَدُّ أَبُو الأَبِ وَإِنْ عَلَا، وَالأَخُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ (أَعْنِي: لِلأمِّ وَالأَبِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا)، وَابْنُ الأَخِ وَإِنْ سَفُلَ، وَالعَمُّ وَابْنُ العَمِّ وَإِنْ سَفُلَ، وَالزَّوْجُ، وَمَوْلَى النِّعْمَةِ).
وَالمُؤلِّف قال عند التفصيل عشرة، والواقع أنها عند التفصيل أكثر، فنحن نقول: الابن وابن الابن والأب والجد والأخ الشقيق والأخ للأب والأخ للأم وابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأم والعم الشقيق وابن العم الشقيق والعم للأب وابن العم للأب، وبعد ذلك الزوج والمولى، فبلغوا خمسة عشر، لكن المؤلف ذكر الإخوة على تنوعهم ولم يفصلهم.
* قَوْله: (وَأَمَّا النِّسَاءُ: فَالِابْنَةُ وَابْنَةُ الِابْنِ وَإِنْ سَفُلَتْ، وَالأُمُّ وَالجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ، وَالأُخْتُ، وَالزَّوْجَةُ، وَالمَوْلَاةُ).
فهم سبعة إجمالًا، لكن ذكر العلماء -تفصيلًا- عشرة، فالبنت وبنت الابن ثم الأم ثم الجدة من أب ثم الجدة من أم، وهنا أجمل، ثم نأتي إلى الأخت الشقيقة والأخت لأب والأخت لأم، ثم بعد ذلك الزوجة والمعتقة.
* قَوْله: (وَأَمَّا المُخْتَلَفُ فِيهِمْ، فَهُمْ ذَوُو الأَرْحَامِ
(1)
، (وَهُمْ مَنْ لَا فَرْضَ لَهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا هُمْ عَصَبَةٌ)).
(1)
"ذوو الأرحام ": هو كل قريب ليس بذي سهمٍ ولا عصبةٍ؛ كالعمة وبنات الأخ وكل جدة أدلت بأنثى والخالات انظر: "التعريفات" للجرجاني (ص 108) و"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 468).
أَيْ: لم يذكروا في كتاب الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى ذكر أهل الفرائض فقال:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} .
* قولُهُ: (وَهُمْ بِالجُمْلَةِ بَنُو البَنَاتِ، وَبَنَاتُ الإِخْوَةِ، وَبَنُو الأَخَوَاتِ، وَبَنَاتُ الأَعْمَامِ، وَالعَمُّ أَخُو الأَبِ لِلْأُمِّ فَقَطْ، وَبَنُو الإِخْوَةِ لِلأمِّ، وَالعَمَّاتُ، وَالخَالَاتُ، وَالأخْوَالُ).
وكذلك العم والخالة وغيرهما مع أن العم يرث، والعمة لا ترث، فالذَّكَر يرث، والأنثى لا ترث من هؤلاء، وهذه هي قسمة الله، فالله هو الذي وضع هذه القسمة بنفسه، وهو العليم الخبير بذلك.
* قولُهُ: (فَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(1)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 624) قال: اختلف في توريث ذوي الأرحام ممَّن لا سهله في القرآن، وهم: أولاد البنات ذكورًا وإناثًا، وأولاد الإخوة للأم ذكورًا وإناثًا، وبنات الأخ وبَنات العم والخال والخالة والعمة، والجد أبو الأم، والعم أخو الأب لأمه وبنيه، والجدة أم أبي الأم، ومَنْ أدلى بهم، فذهب مالكٌ والشَّافعيُّ إلى أنَّهم لا يرثون، ويرجع مال الميِّت لبيت المال، وبه قال زيد بن ثابت.
وفي "روضة المستبين" لابن بزيزة (2/ 1438) قولُهُ: "ولا ميراث لذوي الأرحام ": وهذا مذهب مالك
…
واعتمد مالك في منع ذوي الأرحام على عمل أهل المدينة، إنه لنعم الدليل ".
(2)
يُنظر: "النجم الوهاج في شرح المنهاج" للدميري (6/ 123)، قال: فأَصْلُ المذهب: أنه "لا يورث ذوو الأرحام "؛ لما روى الحاكم وقال؛ صحيح الإسناد -عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على حمار فلقيه رجل فقال: يا رسول الله؛ رجل=
وَزيدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
(1)
إِلَى أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُمْ).
وعاد المؤلف ليتكلم عن ميراث ذوي الأرحام، ويبين أن المسألة ليسس متفقًا عليها، بل أكثر العلماء على أنهم يستحقون الميراث، لكن العلماء الذين قالوا: لا يرثون، إنما قالوا ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد تولى قسمة المواريث بنفسه، فلم يذكرهم ضمن أهل الفرائض، والآخرون عارضوا في ذلك، وأخذوا ذلك من بعض عموم الأدلة، وكذلك أيضًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* قَوْله: (وَذَهَبَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَفُقَهَاءُ العِرَاقِ وَالكُوفَةِ وَالبَصْرَةِ وَجَمَاعَةُ العُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الآفَاقِ إِلَى تَوْرِيثِهِمْ)
(2)
.
فأكْثَر الصحابة يرون أن ذوي الأرحام يستحقون الميراث، وكَذا جماعة من العلماء من بينهم الإمامان أبو حنيفة
(3)
وأحمد
(4)
.
= خلف عمته وخالته لا وارث له غيرهما، فرفع رأسه إلى السماء، وقال:"اللهم، رجل ترك عمته وخالته لا وارث له غيرهما"، ثم قال:"أين السائل؟ "، قال: هأنذا، قال:"لا ميراث لهما". وانظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 73).
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 317)، وكان زيد لا يورثهم، ويجعل الباقي لبيت المال. وبه قال مالك، والأوزاعي، والشافعي رضي الله عنهم وأبو ثور، وداود، وابن جرير. وانظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 364).
(2)
قال ابن عبد البر: "وأما سائر الصحابة فإنهم يورثون ذوي الأرحام كلهم من كانوا، وبهذا قال فقهاء أهل العراق والكوفة والبصرة وجماعة العلماء في سائر الآفاق". انظر: "الاستذكار"(5/ 364) وانظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 73) و"المغني" لابن قدامة (6/ 317).
(3)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 105) قال: "فصل في ذوي الأرحام، قال عامة الصحابة رضي الله عنهم بتوريث ذوي الأرحام وهو مذهبنا". وانظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (6/ 791، 792).
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 455) قال: (باب ذوي الأرحام وكيفية توريثهم)
…
واختلف في مواريثهم، فروي عن عمر وعليٍّ وعبد الله وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء رضي الله عنهم توريثهم عند عدم العصبة وذوي الفروض=
* قولُهُ: (وَالَّذِينَ قَالُوا بِتَوْرِيثِهِمُ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ تَوْرِيثِهِمْ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(1)
إِلَى تَوْرِيثِهِمْ عَلَى تَرْتِيبِ العَصَبَاتِ
(2)
، وَذَهَبَ سَائِرُ وَرَّثَهُمْ إِلَى التَّنْزِيلِ
(3)
).
= غير الزوجين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد والشافعية إذا لم ينتظم بيت المال، وكان زيد لا يورثهم، ويجعل الباقي لبيت المال، وبه قال مالك وغيره، ولنا قولُهُ تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، وحديث سهل بن حنيف "أنَّ رَجلًا رمى رجلًا بسَهْم فقتله، ولم يترك إلا خالًا، فكتب فيه أبو عُبَيدة لعمرَ، فكتب إليه عمر: إنَي سَمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الخال وارث من لا وارث له "، رواه أحمد. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى المقداد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخال وارث مَنْ لا وارث له، يعقل عنه ويرثه "، أخرجه أبو داود. وانظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 535).
(1)
مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد.
أما مذهب الحنفية، فينظر:"حاشية ابن عابدين"(6/ 792) قال: "قولُهُ: بالقرابة" أشار به إلى أن توريث ذوي الأرحام عندنا باعتبار القرابة كالتعصيب، فيقدم الأقوى قرابةً إما بقرب الدرجة، أو بقوة السبب، ويأخذ المنفرد الكل، ولذا سمى علماؤنا أهل القرابة.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 456) قال: واختلف القائلون بتوريثهم في كيفيته على مذاهب هُجِرَ بعضها، والباقي لم يهجر، مذهبان، أحدهما: مذهب أهل القرابة، وهو أنهم يورثون على أنهم يورثون على ترتيب العصبة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو رواية عن الإمام.
(2)
العصبات جمع عاصب، وعصبة الرجل: بنوه وقرابته لأبيه، هائما سفُوا عصبةً؛ لأنَّهم عَصَبوا به أي: أحاطوا به، فالأب طرف، والابن طرف، والعم جانب والأخ جانب.
والعصبة: هم كل مَنْ لم يكن له سهم مقدر من المُجْمع على توريثهم، فيرث المال إن لم يكن معه ذو فرض، أو ما فضل بعد الفروض. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 182)"شرح السراجية" للجرجاني (70)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 605)، و"نهاية المحتاج"(6/ 23).
(3)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(4/ 468) قال: "واعلم أن في كيفية توريث ذوي الأرحام مذاهب، أصحها مذهب أهل التنزيل، وحاصله أن ننزلهم منزلة من أدلوا به للميت درجة درجة، فيقدم السابق للميت، فإن استووا فاجعل المسألة لمن أدلوا به كما سبق، ثم لكل نصيب من أدلى=
وهذه مسألةٌ خلافيةٌ بين الذين يورثونهم، فهل يرثون على ترتيب العصبات كما يرث أهل التعصيب أو على التنزيل؟ والذين قالوا بالتنزيل اختلفوا فيما بينهم، فهل ينزل كلُّ واحدٍ منهم منزلةً، فالحمة هي أخت الأب، فهل تنزل منزلتها أو تنزل منزلة الأب، والخالة هل تنزل منزلتها أو منزلة الأم؟ وقد اختلف فيها الصَّحابة والعلماء، لكن بقي أصل الخلاف: هل ذوو الأرحام يرثون أو لا؟ فَريقٌ من العلماء قال: لا يرثون؛ لأنهم لم يُذكروا ضمن أهل الفرائض، ولم يرد نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بتوريثهم، أما الفريق الآخر فلهم أدلة، ومنها قولُهُ تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، وقوله:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الأقربون أوْلَى بالمعروف"
(1)
.
* قَوْله: (وَهُوَ أَنْ يُنَزَّلَ كُلُّ مَنْ أَدْلَى مِنْهُمْ بِذِي سَهْمٍ أَوْ عَصَبَةٍ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ الَّذِي أَدْلَى بِهِ)، وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ
(2)
= به كأن مات عنه إلا أولاد ولد الأم يستوون، والا أخوال إخوة الأم من أمها {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 14)، وفي كيفية توريثهم مذهبان: مذهب أهل التنزيل، وهو أن ينزل كل فرع منزلة أصله الذي يُدْلي به إلى الميت، ومذهب أهل القرابة، وهو توريث الأقرب فالأقرب كالعصبات، والأول هو الأصح.
مذهب الحنابلة: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 456) قال: "واختلف القائلون بتوريثهم في كيفيته على مذاهب، هجر بعضها، والباقي لم يهجر مذهبان: "و" المذهب الثاني: وهو المختار أنهم "يورثون بالتنزيل وهو أن تجعل كل شخص" منهم "بمنزلة من أدلى به فولد البنات" وإن نزل كالبنات "وولد بنات الابن" كبنات الابن "وولد الأخوات كأمهاتهم" شقيقات كُنَّ أو لأب أو لأم "وبنات الإخوة" كالإخوة أشقاء كانوا، أو لأب، أو لأم ".
(1)
قال الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الضعيفة"(376): لا أصل له بهذا اللفظ. ويُغْني عنه ما أخرجه البخاري (2318) ومسلم (998) عن أنس بن مالك وفيه .... أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة: "وإنِّي أرَى أن تجعلها في الأقربين "، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
(2)
كالشافعية والحنابلة.
أَنَّ الفَرَائِضَ لَمَّا كانَتْ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا، كانَ الأَصْلُ أَلَّا يَثْبُتَ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ).
والفرائض توقيفية، لا مجال للقياس فيها، وكما أن أمور العبادات ليس فيها مجال للقياس، كذلك بعض الأحكام الأخرى إِنْ جاءت نصوصٌ تنص عليها فلا مجال للقياس فيها.
* قولُهُ: (وَجَمِيعُ ذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ).
فيقولون: إنَّ الايات لم تعرض لذوي الأرحام، ولم تعطهم شيئًا مع أنها ذكرت الأبناء والبنات والأخوات والزوج والزوجة، فكيف يورثون عند هؤلاء؟ فلا دليل من كتابٍ عندهم، ولا من سنةٍ، والقياس هنا لا مجال فيه؛ لأن هذه فرائض.
* قولُهُ: (وَأَمَّا الفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ، فَزَعَمُوا أَنَّ دَلِيلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالقِيَاسِ.
أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 75]، {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7]، وَاسْمُ القَرَابَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى ذَوِي الأَرْحَامِ، ويُرَى المُخَالِفُ أَنَّ هَذِهِ مَخْصُوصَةٌ بِآيَاتِ المَوَارِيثِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاحْتَجُّوا بِمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، وَالخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ").
وهَذا نصٌّ في المسألة، والحديث حسن أخرجه الترمذي
(1)
وابن ماجه
(2)
وأحمد
(3)
، وقالوا: إنَّ هذا نص بالنسبة للخال، ويحتجُّون بحديثٍ
(1)
حديث (2103)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1700).
(2)
حديث (2737) وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1705).
(3)
حديث (189)، وحسن إسناده الأرناؤوط.
آخر بأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم "ذهب إلى قباء، واستخار الله تعالى في توريث العمة والخالة، فلم يورثهما، فنزل عليه عدم توريثهم"
(1)
، لكن الحديث فيه مقال، ويبقى الخلاف الكبير في هذه المسألة.
* قولُهُ: (وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ المَعْنَى فَإِنَّ القُدَمَاءَ).
(المتقدمين).
* قَوْله: (مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ
(2)
قَالُوا: إِنَّ ذَوِي الأرْحَامٍ أَوْلَى مِنَ المُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اجْتَمَعَ لَهُمْ سَبَبَانِ: القَرَابَةُ وَالإِسْلَامُ فَأشْبَهُوا تَقْدِيمَ الأَخ الشَّقِيقِ عَلَى الأَخِ لِلْأَب (أَعْنِي: أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ سَبَبَانِ أَوْلَى مِمَّنْ لَهُ سَبَبٌ وَاحِدٌ"
(3)
.
وَمُرَاده أنه إذا وجد وارث ولم يستوعب جميع التَّركة، فَهَل يذهب
(1)
أخرجه أبو داود في "المراسيل"(ص 263) والدارقطني (5/ 173) عن عطاء بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير في ميراث العمة والخالة، فأنزل عليه:"لا ميراث لهما"، قال أبو داود: ومعناه: لا سهم لهما، ولكن يورثون للرحم، وضَعَّفه ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 184).
(2)
كأبي يُوسُف ومحمد بن الحَسَن، ينظر:"المبسوط" للسرخسي (30/ 3، 4) واختلفت الروايات فيمن يكون مقدمًا منهم، فروى عيسى بن أبان عن مُحمَّد عن أبي حنيفة أن الجد أب الأب مقدم على أولاد البنات، وفي ظاهر الرواية ذكر أن أولاد البنات يقدمون على الجد أب الأم في قول أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف ومحمد
…
"ألا ترى" أن الأنثى في درجته تكون صاحبة فرض، وهي أم الأم بخلاف الأنثى في درجة ابن البنت، ولأن من الناس مَنْ يجعل الأنثى التي تدلي بالجد أب الأم صاحبة فرض وهي أم أب لأم ولا يوجد مثل ذلك في حق أولاد البنات ثم الجد أب الأم مقدم على بنات الإخوة وأولاد الأخوات في قول أبي حنيفة، وعند أبي يُوسُف ومحمد تقدم بنات الإخوة وأولاد الأخوات على الجد أب الأم.
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (4/ 120)، قال: ويدلُّ عليه من جهة النظر: وهو أنَّ مَنْ جعله لبيت المال، فإنما جعله لجماعةٍ من المسلمين لأجل إسلامهم، وذوو الأرحام معهم إسلام ونسب، فكانوا أَوْلَى؛ لأن ذا السببين أولى من ذي السبب الواحد، مثل الأخ من الأب والأم، مع الأخ من الأب.
المال لبيت المال (بيت المال لعموم المسلمين)؟ فالأَوْلَى ذوو الأرحام، وهذا هو مراد الحنفية في المناقشة؛ لأن بيت المال يجمعه بالميت الإسلام، لَكن هؤلاء جَمعوا بين صفتين: الإسلام والقرابة، والإنسان إذا اجتمعت فيه صفتان يقدم، والصِّفة الموجودة في المسلمين موجودة في هذا القريب.
* قولُهُ: (وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ).
أبو زيد الدبوسي وهو عالمٌ من كبار الحنفية وفقهائهم.
* قَوْله: (وَمُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ
(1)
فَشَبَّهُوا الإِرْثَ بِالوِلَايَةِ وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ وِلَايَةُ التَّجْهِيزِ وَالصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ فَقْدِ أَصْحَابِ الفُرُوضِ
(2)
وَالعَصَبَاتِ لِذَوِي الأرْحَامِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ وِلَايَةُ الإِرْثِ، وَلِلْفَرِيقِ الأَوَّلِ اعْتِرَاضَاتٌ -فِي هَذِهِ المَقَايِيسِ- فِيهَا ضَعْفٌ).
فالمُؤلِّف يميل إلى القول الثاني، وهذا ظاهرٌ مع أنه لم يصرح، ولكن نرى عرضه للمسائل وللأدلة، ثم إضعاف الاعتراضات، تستطيع أن تفهمَ منه بأنه يميل إلى القول الثاني.
* قَوْله: (وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ هَذَا، فَلْنَشْرَعْ فِي ذِكْرِ جِنْسٍ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الوَارِيينَ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الأُصُولِ مِنَ المَسَائِلِ المَشْهُورَةِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَالمُخْتَلَفِ فِيهَا).
فَليسَ لأحدٍ أن يعترض على هذا الكتاب فيقول: لماذا لم يأت بكثيرٍ من الفروع؟ ومَنْ عرف أصول المسائل، سهل عليه أن يمسكَ بفروعها، لأن الأصول تعتبر قواعد تُرَدُّ إليها الفروع.
(1)
لم أقف عليهم.
(2)
أصحاب الفرائض: هم الذين لهم سهام مقدرة في الكتاب أو السنة أو الإجماع. انظر: "التعريفات" للجرجاني، و"شرح السراجية" للجرجاني (ص 29).
* قولُهُ: (مِيرَاثُ الصُّلْبِ).
والصلب يطلق على الظهر الذي فيه الفقرات
(1)
، كما قال الله تعالى:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} ، فالصلب بالنسبة للرجل، والترائب بالنسبة للمرأة، ويقصد به الذي يدلي إلى الميت مباشرةً كالابن وابن الابن من الصُّلب بالنسبة للميت؛ لأنه أدلى بِوَاسطةٍ.
* قَوْله: (وَأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مِيرَاثَ الأولَادِ مِنْ وَالِدِهِمْ وَوَالِدَتِهِمْ إِنْ كَانُوا ذُكُورًا وِإنَاثًا مَعًا هُوَ أَنَّ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثيَيْنِ)
(2)
.
وَهذَا ليس مَحلَّ جدَالٍ؛ لأنه قد نص عليه في كتاب الله عز وجل، فيقول الله تعالى:{فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، ولذلك أجمع العلماء عليه.
* قولُهُ: (وَأَنَّ الِابْنَ الوَاحِدَ إِذَا انْفَرَدَ، فَلَهُ جَمِيعُ المَالِ، وَأَنَّ البَنَاتِ إِذَا انْفَرَدْنَ فَكَانَتْ وَاحِدَةً أَنَّ لَهَا النِّصْفَ).
وهذا أيضًا لا خلاف فيه.
* قَوْله: (وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَمَا فَوْقَ فَلَهُنَّ الثّلثَانِ).
فإن لم يكن مع البنت وارثٌ يشاركها ويمنعها من أخذ النصف ترث النصف، وإنْ كنَّ ثلاثًا فأكثر يأخذن الثلثين، وإن كنَّ اثنتين فهذه محل خلاف؛ لأن الآية نَصَّتْ على أكثر من اثنتين.
(1)
يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 345)، والصلب كل ظهر له فقار. وانظر:" الصحاح " للجوهري (1/ 164).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 89) قال: "وَجَعَل الله تبارك وتعالى مال الميت بين جميع ولدِهِ، للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم يكن معهم أحد من أصحاب الفرائض، فإذا كان معهم مَنْ له فرض معلوم، بدئ بفرضه فأعطيه، وجعل له أقل من المال بين الولد، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم. وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 323).
* قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الِاثْنَتَيْنِ، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ).
ويقصد بالجمهور: العلماء عمومًا، ومنهم الأئمة الأربعة
(1)
.
* قولُهُ: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ)
(2)
.
فالعلماء كافة قالوا بأن لهن الثلثين، وهو أيضًا رأي كافة الصحابة والتابعين، وخالف في ذلك ابن عباس، واعتبر رأيه شاذًّا
(3)
في هذه المسألة فيما يتعلَّق بأنهن يأخذن النصف، وسبب الخلاف يعود إلى فهم الآية:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، فالآيةُ ذُكِرَ فيها {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ولم يقل: لو كُنَّ اثنتين، فذكر "فوق اثنتين" أوجد هذا الخلاف،
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" و"حاشية ابن عابدين""رد المحتار"(6/ 773) قال: "والثلثان لكل اثنين فصاعدًا ممن فرضه النصف "، وهو خمسة: البنت وبنت الابن والأخت لأبوين والأخت لأب والزوج. وانظر: "مختصر القدوري"(ص 245). مذهب المالكية، ينظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(4/ 622): "والثلثان لأربعة": أي لكل نوع من الأنواع الأربعة المشار إليها بقوله: "لذوات النصف إن تعددن ": وهي البنت وبنت الابن والأخت الشقيقة والأخت للأب. وانظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 459).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 17) قال: "و" رابعها "الثلثان" وهو "فرض" أربعة: فرض "بنتين فصاعدًا" بالنصب على الحال، وناصبه واجب الإضمار، أي: ذاهبًا من فرض عدد الابنتين إلى حالة الصعود عن الابنتين، ولا يجوز فيه غير النصب، وإنما يُسْتَعمل بالفاء وثم، لا بالواو كما في "المحكم ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 421) قال: "ولابنتين فصاعدًا الثلثان "؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، ولأنه صلى الله عليه وسلم "أمر بإعطاء ابنتي سعد الثلثين "، رواه أبو داود، وصححه الترمذي والحاكم وقياسًا على الأختين.
(2)
يُنظر: "تفسير القرطبي"(6315) قال: "الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف ".
(3)
قال البهوتي: وشذ عن ابن عباس أن البنتين فرضهما النصف لظاهر الآية. انظر: "كشاف القناع"(4/ 421). وانظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 271).
و"فوق اثنتين" لا شك هي الثلاث فما فوقها، وما دون الاثنتين هي واحدة، ولا خلاف بين العلماء بأن الواحدة لا تأخذ إلا النصف، فلا تأخذ ثلثين، فبقي الخلاف في الاثنتين، فهل الآية على ظاهرها أو أن "فوق" كما يقول بعض العلماء هي صلة، وأن تقدير الآية:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ؟، والمسألة فيها احتجاجات أخرى سيأتي الحديث عنها.
* قولُهُ: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ المَفْهُومِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، هَلْ حُكْمُ الِاثْنَتَيْنِ المَسْكُوتُ عَنْهُ يَلْحَقُ بِحُكْمِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بِحُكْمِ الوَاحِدَةِ؟ وَالأظْهَرُ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الخِطَابِ أَنَّهُمَا لَاحِقَان بِحُكْمِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بِحُكْمِ الوَاحِدَةِ).
وَدليل الخطاب هو دَليل المخالفة، وما يخالف الدليل المنطوق به
(1)
.
* قَوْله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ المَشْهُورَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ قَوْلِ الجُمْهُورِ).
أَيْ: حُكِيَ عن ابن عباس أنه رجع إلى قول الجمهور وقال بقولهم
(2)
.
* قَوْله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ جَابِرٍ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أعْطَى البِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ ". قَالَ فِيمَا
(1)
وهو: أن يكونَ المسكوت عنه مخالفًا للمنطوق في الحكم يعني: أَنَّ ما فهم من مدلول اللفظ من معانٍ وأحكام يكون مخالفًا لما فهم من اللفظ نفسه. انظر: "معجم لغة الفقهاء" لرواس قلعجي وَقنيبي، و"معجم مصطلح الأصول" لهيثم هلال (ص 314).
(2)
نقل البهوتي عن الشريف الأرموي أنه قال: صحَّ عن ابن عباس رجوعه عن ذلك، وصار إجماعًا. انظر:"كشاف القناع"(4/ 421).
أَحْسَبُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ
(1)
، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَقِيلٍ: قَدْ قَبِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ حَدِيثَهُ
(2)
، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ
(3)
).
والمُؤلِّف حقيقةً لم يوفِّ الغرض من الحديث وبمَنْ روَاه، ودرجة الحديث، وكان الأَوْلَى أن يأتي بمَا هو أَوْلَى، ومما هو يدل على وجه الدلالة، فبالنسبة للحديث فقد رواه الإمام أحمد في "مسنده"
(4)
، وكذلك أيضًا أبو داود
(5)
والترمذي
(6)
وابن ماجه
(7)
، فقد رواه الخمسة إلا النسائي، وهو حديث حسن، وقال عنه الترمذي: حسن صحيح
(8)
، فهو حجة.
وَالحديث له قصَّة: فإن امرأة سعد بن الربيع جاءت إلى
(1)
يُنظر: "الاستذكار"(5/ 324) قال: وعبد الله بن محمد بن عقيل قد قبل جماعة من أهل العلم بالحديث حديثه، واحتجوا به، وخالفهم في ذلك آخرون.
(2)
كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه.
يُنظر: "سنن الترمذي"(1/ 9) قال: وسمعت محمد بن إسماعيل، يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي، يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عقيل. وانظر:"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 84).
(3)
كالإمام مالك ويحيى القطان.
يُنظر: "تهذيب الكمال" للمزي (16/ 80) قال: قال الحسن بن علي الحلواني عن علي بن المديني، عن بشر بن عمر الزهراني: كان مالك لا يروى عنه.
قال علي بن المديني: وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه.
(4)
حديث (14798) ولفظه: عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أُحُد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالًا، ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال: فقال: "يقضي الله في ذلك "، قال: فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال:"أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك ".
(5)
حديث (2891) و (2892).
(6)
حديث (2092).
(7)
حديث (2720)، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1677).
(8)
انظر: "سنن الترمذي"(4/ 414).
رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد بن الربيع، فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا سعد بن الربيع، قُتِلَ أبوهما يوم أُحُد معك شهيدًا، فأخذ عَمُّهُما مالهما ولم يترك لهما شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقضي الله في ذلك "، فانتظر فنزلت آية المواريث {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، فأَرْسَل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أخي سعد عم البنتين، فأُحْضر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَمَرَه بأن يعطي البنتين الثلثين، وأن يعطي أُمَّهما الثُّمُن، وما بقي قال:"فَهُوَ لك "، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في هذه المسألة بعد أن نزل عليه الوحي، وهذا يدلنا على أهمية الفرائض وقيمتها، وأنه ينبغي العناية بها، وهذا دليل على مذهب جمهور العلماء؛ لأن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما فعل.
قوله: (وَسَبَبُ الِاتِّفَاقِ فِي هَذِهِ الجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إِلَى قَوْلِهِ {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، وَأَجْمَعُوا مِنْ هَذَا البَابِ عَلَى أَنَّ بَنِي البَنِينَ يَقُومُونَ مَقَامَ البَنِينَ عِنْدَ فَقْدِ البَنِينَ)
(1)
.
وَهذه مسألةٌ مهمةٌ، فإذا فقد الابن الصلب الذي هو يدلي مباشرة بالأب، فأبناء الأبناء يحلُّون محل الأبناء.
* قولُهُ: (يَرِثُونَ كَمَا يَرِثُونَ، وَبَحْجُبُونَ كَمَا يَحْجُبُونَ).
فيحلُّون محلَّ آبائهم فيما يتعلق بالميراث والحجب
(2)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 95) قال: "وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن بني الابن وبنات الابن يقومون مقام البنين والبنات، ذكورهم كذكورهم، وإناثهم كإناثهم إذا لم يكن للميت ولد لصلبه ".
(2)
"الحجب" في اللغة: المنع. وفي اصطلاح أهل العلم: منع شخص معين عن ميراثه: إما كله أو بعضه، بوجود شخص آخر. انظر:"مختار الصحاح" للرازي، و"شرح السراجية" للجرجاني.
* قَوْله: (إِلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ
(1)
أَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ الِابْنِ لَا يَحْجُبُونَ الزَّوْجَ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، كَمَا يَحْجُبُ الوَلَدُ نَفْسَهُ، وَلَا الزَّوْجَةَ مِنَ الرُّبْعِ إِلَى الثُّمُنِ، وَلَا الأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ).
وهذا قول ضعيف، ومجاهد من التابعين، ومع جلالة قدره فقد خالف غيره، والمسألة مُسلَّمة عند كافة العلماء.
* قولُهُ: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِبَنَاتِ الِابْنِ مِيرَاثٌ مَعَ بَنَاتِ الصُّلْبِ إِذَا اسْتَكْمَلَ بَنَاتُ المُتَوفَّى الثّلثَيْنِ)
(2)
.
والمؤلف قيَّد قيدًا مهمًّا، وهو أنهم أجمعوا على أنه لا ميراث لبنات الابن إذا استوفى البنات الثلثين، فإن كانت ابنة واحدة، فإن ابنة الابن تأخذ السدس تكملة الثلثين، وأيضًا لو كان معها إخوة سواء كانوا في درجتها أو دونها، فإنهم يعصبونها، أو إن كان واحد يعصبها {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
* قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ مَعَ بَنَاتِ الِابْنِ ذَكَرٌ ابْنُ ابْنٍ فِي مَرْتبَتِهِنَّ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُنَّ).
فلَيْسَ شرطًا عند جمهور العلماء أن يكون في الدرجة، بَلْ ربما يكون أقل منها، وبنت الابن لا ترث في هذا المقام؛ لأنه أخذ ما يمكن أن تأخذه، فإنه قد استكمل الثلثين، فوجود ابن الابن حتى وإنْ كان أنزل منها، كان سببًا في جلب الخير لها بأنها ترث.
(1)
انظر: "الاستذكار"(5/ 325).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 90) قال: "وأجمع أهل العلم على أن لا ميراث لبنات الابن إذا استكمل البنات الثلثين
…
".
* قَوْله: (فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ: إِنَّهُ يُعَصِّبُ بَنَاتِ الِابْنِ فِيمَا فَضَلَ عَنْ بَنَاتِ الصُّلْبِ).
فينقلهنَّ إلى التعصيب، والتعصيب هو الشد والجمع، وعصبة الإنسان هم الذين يلتفون حوله ويَقُونه، وأهلُ الفرض عرفنا أنهم يأخذون أمورًا مقدرةً، لكن بالنسبة إلى أهل التعصيب، فلا يأخذون شيئًا مقدرًا، قد يأخذون فرضًا وتعصيبًا، وربما يأخذون تعصيبًا، ثم يرد إليهم شيء، وهكذا فإنهم لا يكونون على نسقٍ واحدٍ.
* قولُهُ: (فَيُقَسِّمُونَ المَالَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ)
(1)
.
وهذا هو قول جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة
(2)
، وغالب
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 326) قال: قال أبو عمر: قد تقدم أنه لا ميراث لولد الأبناء مع ولد الصلب إلا أن يكون من ولد الصلب ذو فرض، فلا يُزَاد على فرضه، ويدخل ولد الابن فيما زاد على ذلك الفرض إلا أن في هذا اختلافًا قديمًا وحديثًا، فالذي ذكره مالك هو مذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت. وانظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 272).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" لفخر الدين الزيلعي (6/ 235) قال: "وحجبن ببنتين" أي: تحجب بنات الابن ببنتين صلبيتين؛ لأن إرثهن كان تكملةً للثلثين، وقد كمل ببنتين فسقطن، إذ لا طريق لتوريثهن فرضا وتعصيبًا. قال رحمه الله:"إلا أن يكون معهن أو أسفل منهن ذكر فيعصب مَنْ كانت بحذائه، ومَنْ كانت فوقه ممن لم تكن ذات سهم، وتسقط من دونه " أراد بقوله: "معهن" أن يكون الغلام في درجتهن؛ سواء كان أخًا لهن أو لم يكن .. وهذا مذهب علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وبه أخذ عامة العلماء.
مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 256) قال: أما الابن، فإن انفرد أخذ المال وإن كان ابنان فأكثر قسموه بالسواء، وإن اجتمع ذكور وإناث {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، وأما البنت فإن كانت واحدةً دون ابن، فلها النصف، وإن كان ثلاث بنات فأكثر فلهن الثلثان بإجماع، وإن كان ابنتان فلهما الثلثان أيضًا عند زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما والأربعة خلافًا لابن عباس فلهما عنده النصف، وأما ابن الابن فإذا عدم قام مقامه وإن كان مع بنت أو بنات أخذ ما بقي=
المسائل التي مرت بنا هي مسائل إجماع؛ لأن كثيرًا منها جاء ذِكْرها في كتاب الله عز وجل، فلا مجال للرأي والقياس والاختلاف.
* قَوْله: (وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ
(1)
وَدَاوُدُ
(2)
أَنَّهُ إِذَا السْتَكْمَلَ البَنَاتُ
= بالتعصيب، وأما بنت الابن فإن كان معها ابن ابن في درجتها أو دونها عصبها فورثت معه للذكر مثل حظ الأنثيين؛ سواء كانت واحدة أو أكثر.
مذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 100)، مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فإذا استكمل البنات الثلثين، فلا شيء لبنات الابن إلا أن يكون للميت ابن ابن، فيكون ما بقي له ولمن في درجته أو أقرب إلى الميت منه من بنات الابن ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين ".
قال الماوردي: "وهذا كما قال: متى استكمل بنات الصلب الثلثين، فلا شيء لبنات الابن إذا انفردن عن ذكر في درجتهن أو أسفل منهن وسقطن إجماعًا، فإن كان معهن ذكرٌ في درجتهن كبنت ابن وابن ابن من أب واحد أو من أبوين أو كان الذكر أسفل منهن بأن يكون مع بنت الابن ابن ابن، فإنه يعصبهن، ويكون الباقي بعد الثلثين فرض البنات بين بنات الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهكذا إذا كان الذكر أسفل منهن، وهذا قول الجماعة من الصحابة والفقهاء".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (16/ 271، 272) قال: "وأجمع أهل العلم على أن بنات الصلب متى استكملن الثلثين، سقط بنات الابن ما لم يكن بإزاثهن، أو أسفل منهن ذكر يعصبهن؛ وذلك لأن الله تعالى لم يفرض للأولاد إذا كانوا نساء إلا الثلثين، قليلات كُنَّ أو كثيرات، وهؤلاء لم يخرجن عن كونهن نساءً من الأولاد، وقد ذهب الثلثان لولد الصلب، فلم يبقَ لهن شيء، ولا يمكن أن يشاركن بنات الصلب؛ لأنهن دون درجتهن، فإنْ كان مع بنات الابن ابن في درجتهن، كأخيهن، أو ابن عمهن، أو أنزل منهن كابن أخيهن، أو ابن ابن عمهن، أو ابن ابن ابن عمهن، عصبهن في الباقي، فجعل بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين .. وهذا قول عامة العلماء".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 326) قال: وخالف في ذلك ابن مسعود، فقال: إذا استكمل البنات الثلثين، فالباقي لابن الابن أو لبني الابن دون أخواتهم ودون مَنْ فوقهم من بنات الابن ومن تحتهم، وإلى هذا ذهب أبو ثور. وانظر:"المغني" لابن قُدَامة (6/ 272).
(2)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (8/ 268) مسألة: ولا ترث أخت شقيقة ولا غير شقيقة مع ابن ذكر ولا مع ابنة أنثى، ولا مع ابن ابن وإن سفل، ولا مع بنت ابن وإن سفلت، والباقي بعد نصيب البنت وبنت الابن للعصبة كالأخ، وابن الأخ،=
الثُّلُثَيْنِ أَنَّ البَاقِيَ لِابْنِ الِابْنِ دُونَ بَنَاتِ الِابْنِ، كلنَّ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ الذَّكَرِ، أَوْ فَوْقَهُ، أَوْ دُونَهُ).
فأخرج بنت الابن بدعوى أنها لما كانت وحدها لا ترت؛ لأنه عندما أخذت البنتان من الصلب الثلثين وبنت الابن موجودةً فلم تستحق شيئًا، فلما جاء الذكر استحق، والجمهور يقولون: لا؛ لأنه وإنْ كان سببًا في أخذها الميراث لكن ذلك لا يمنعها من أن تكون شريكةً له، فهو يأخذ سهمين، وهي تأخذ سهمًا واحدًا.
* قَوْله: (وَكانَ ابْنُ مَسْعُودٍ
(1)
يَقُولُ فِي هَذِهِ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إِلَّا أَنْ يَكُونَ الحَاصِلُ لِلنِّسَاءِ أَكثَرَ مِنَ السُّدُسِ، فَلَا تُعْطَى إِلَّا السُّدُسَ).
= والعم، وابن العم، والمعتق وعصبته إلا ألا يكون للميت عاصب، فيكون حينئذٍ ما بقي للأخت الشقيقة، أو للتي للأب إنْ لم يكن هنالك شقيقة، وللأخوات كذلك -وهو قول إسحاق بن راهويه- وبه نأخذ.
وهنا قولان غير هذا.
قال: أحدهما: أن الأخوات عصبة البنات، وأن الأخت المذكورة أو الأخوات المذكورات يأخذن ما فضل عن الابنة، أو بنت الابن، أو ما فضل عن البنتين أو بنتي الابن فصاعدًا- وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي وأحمد -وصح عن ابن مسعود وزيد، وابن الزبير في ذلك روايات لا متعلق لهم بها.
وصح في الأخت والبنت عن معاذ، وأبي موسى، وسلمان -وقد روي عن عمر كذلك أيضًا.
والثاني: أنه لا ترث أخت أصلًا مع ابنة، ولا مع ابنة ابن -وصح عن ابن عباس- وهو أول قول ابن الزبير، وهو قول أبي سليمان.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 326) قال: "جمهور العلماء من العراقيين والحجازيين والشاميين وأهل المغرب أن ابن الابن يعصب مَنْ بإزائه وأعلى منه من بنات الابن في الفاضل عن الابنة والابنتين، ويكون ذلك بَيْنه وبينهنَّ للذكر مثل حظ الأنثيين، وخالف في ذلك ابن مسعود، فقال: إذا استكمل البنات الثلثين، فالباقي لابن الابن أو لبني الابن دون أخواتهم، ودون مَنْ فوقهم من بنات الابن ومَنْ تحتهم ".
فمعاملة بنت الابن بالأبَرِّ لها، فَإنْ كَان ميراثها مع ابن الابن الذي هو في مرتبتها أو دون يجعلها تأخذ أكثر من السدس، فهذا لا يجوز عند عبد الله بن مسعود، ولا تأخذه، أما ما يكون دون السدس فذلك، فهو يعاملها بالأضر، وهذه مسألة قال العلماء عنها: إحدى المسائل الست التي خالف فيها عبد الله بن مسعود جمهور الصحابة.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]).
وهذا عامٌّ.
* قَوْله: (وَأَنَّ وَلَدَ الوَلَدِ وَلَدٌ مِنْ طَرِيقِ المَعْنَى، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ ابْنُ الِابْنِ يُعَصِّبُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ فِي جُمْلَةِ المَالِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يُعَصِّبَ فِي الفَاضِلِ مِنَ المَالِ).
فلو كان هو وأخته يرثان فهو يعصبها، ولا تأخذ فرضًا هنا، ولكن يقسم المال بيمهما أو ما يخصهما، له نصيبان ولها سهم واحد {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
* قوْله: (وَعُمْدَةُ دَاوُدَ وَأَبِي ثَوْرٍ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اقْسِمُوا المَالَ بَيْنَ أَهْلِ الفَرَائِضِ عَلَى كتَابِ اللَّهِ عز وجل فَمَا أَبْقَتِ الفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
(1)
).
وهذا الحديث مُتَّفقٌ عليه.
* قَوْله: (وَمِنْ طَرِيقِ المَعْنَى أَيْضًا أَنَّ بِنْتَ الِابْنِ لَمَّا لَمْ تَرِثْ مُفْرَدَةً مِنَ الفَاضِلِ عَنِ الثّلثَيْنِ، كَانَ أَحْرَى أَلَّا تَرِثَ مَعَ غَيْرِهَا).
(1)
أخرجه البخاري (6732) ومسلم (1615) بلفظ: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأَوْلَى رجلٍ ذكرٍ".
ولَيْست القضية قضية تعليلٍ، فلو وُجِدَ أبوان وإخوة، فإن الأخ يحجب في هذا المقام، ويتسبب في إنقاص قدر الأم في نصيبها، لكن الأب يحجبه، فهو يحجب ولا يأخذ، فهذا دليل على أن الإنسان قد يكون وارثًا ويحجب، لكن يوجد مانعٌ آخر أقوى فيمنعه، لا لمعنًى موجودٍ في علة، ولكن لسبب آخر وهو وجود مَنْ هو أقوى منه فحجبه.
* قَوْله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ القِيَاسِ وَالنَّظَرِ فِي التَّرْجِيحِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ بَنَاتِ الِابْنِ لَمَّا كُنَّ لَا يَرِثْنَ مَعَ عَدَمِ الِابْنِ أَكْثَرَ مِنَ السُّدُسِ، لَمْ يجِبْ لَهُنَّ مَعَ الغَيْرِ أَكْثَرُ مِمَّا وَجَبَ لَهُنَّ مَعَ الِانْفِرَادِ).
ويَرَى ابن مسعود رضي الله عنه أنهن لا يزدن عما كان أصلًا لهن فيما لو كُنَّ منفردات، فإذا وجد من يعصبهن، فلا يمكن أن يأخذن أكثر من ذلك، ومذهب الجمهور هو الأوضحُ في ذلك.
* قَوْله: (وَهِىَ حُجَّةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ حُجَّةِ دَاوُدَ، وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَكَرَ وَلَدِ الِابْنِ يُعَصِّبُهُنَّ؛ كانَ فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَطْرَفَ مِنْهُنَّ).
كأن تكون بنت ابن وهو يكون ابن ابن ابن، وقد يكون أنزل بدرجات، فإنَّه يصعد فيعصبها، فيأخذ على أنه {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
* قَوْله: (وَشَذَّ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ
(1)
فَقَالَ: لَا يُعَصِّبُهُنَّ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي مَرْتبَتِهِنَّ).
وَهذا أيضًا قولٌ ضعيفٌ.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 328) قال: وقد شذ أيضًا بعض المتأخرين من الفرضيين فقال: الذكر من بني البنين يعصب مَنْ بإزائه دون من عدَاه من بنات الابن والجماعة على ما ذكره مالك.
* قَوْله: (وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ
(1)
عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ المُتَوفَّى بِنْتًا لِصُلْبٍ وَبِنْتَ ابْنٍ أَوْ بَنَاتِ ابْنٍ لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ أَنَّ لِبَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثّلثَيْنِ).
يعني: إذا تُوفِّي إنسانٌ وترك بنتَ ابنٍ أو بنات ابنٍ، فنصيب البنت النصف ولا تزاد على ذلك؛ لأنها واحدة، ومعلوم أنها لو كانت معها بنت بأخرى لاجتمعتا فأخذتا الثلثين، فلما لم توجد البنت الأخرى والبنت أولى من بنت الابن فأخذت فرضها هنا، والتي ستشركها ليست شريكًا لها معادلة؛ لأنها جَاءَت في طَبقَةٍ مُتَأخرةٍ، فتأخذ السُّدُسَ تكملةً للثُّلثين،
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 789) قال: "قولُهُ: "لو نصف وسدس" كبنت وبنت ابن أو بنت وأم؛ لأن المسألة أيضًا من ستة، ومجموع السهام المأخوذة منها أربعة: ثلاثة للبنت، وواحد لبنت الابن أو الأم، فاجعل المسألة من أربعة، واقسم التركة أرباعًا، ثلاثة أرباعها للبنت، وربع منها للأم أو بنت الابن. اهـ ".
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 465) قال: "وللثانية" أي: جنس الثانية وهي بنت الابن أو الأخت للأب "مع الأولى" أي: البنت أو الأخت الشقيقة "السدس" تكملة الثلثين "وإن كثرن" أي: بنات الابن مع البنت أو الأخوات للأب مع الشقيقة.
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 18) قال: "و" سادسها "السدس" وهو "فرض سبعة" فرض "أب وجد" وارث "لميتهما ولد أو ولد ابن" ذكرًا كان أو أنثى؛ لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} الآية [النساء: 11]، وولد الابن كالولد كما مرَّ، والجد كالأب "و" فرض "أم لميتها ولد أو ولد ابن" وارث "أو اثنين" فأكثر "من الإخوة والأخوات" لما مر في الآيتين.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 512، 513) قال: "ولبنت ابن فأكثر مع بنت الصلب السدس" تكملة الثلثين؛ لحديث ابن مسعودٍ وقد سُئِلَ عن بنت وبنت ابن وأخت فقال: "أقضي فيها بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت "، رواه البخاري مختصرًا "مع عدم معصب" لبنت الابن فأكثر
…
"وكذا بنت ابن ابن" فلها السدس "مع بنت ابن" ولا معصب "وعلى هذا" القياس: فبنت ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن، للعليا النصف، وللسفلى السدس تكملة الثلثين.
ولا فرق بين أن تكون واحدة أو أكثر، فلو تُوفِّي إنسان وترك بنتًا وخمس بنات لابن، فإنه في هذه الحالة تأخذ البنت النصف، والخمس البنات للابن يشتركن في السدس.
* قولُهُ: (وَخَالَفَتِ الشِّيعَةُ فِي ذَلِكَ).
وهؤلاء خلافُهُم لا يعتدُّ به.
* قولُهُ: (فَقَالَتْ: لَا تَرِثُ بِنْتُ الِابْنِ مَعَ البِنْتِ شَيْئًا كالحَالِ فِي ابْنِ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ، فَالِاخْتِلَافُ فِي بَنَاتِ الِابْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ: مَعَ بَنِي الِابْنِ).
فيمَا يتعلَّق بالتعصيب، ومع البنتين بالنسبة للسدس، وليس كلُّ خلافٍ يرد يكون مقبولًا؛ لأن من الخِلَافَات ما يكون شاذًّا، وبخاصَّةٍ إذا كان الدليل الذي بين أيدينا قطعيًّا؛ كالأدلة التي نجدها في كتاب الله عز وجل.
* قَوْله: (وَمَعَ البَنَاتِ فِيمَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ وَفَوْقَ النِّصْفِ، فَالمُتَحَصِّلُ فِيهِنَّ إِذَا كنَّ مَعَ بَنِي الِابْنِ أَنَّهُ قِيلَ: يَرِثْنَ، وَقِيلَ: لَا يَرِثْنَ، وَإِذَا قِيلَ يَرِثْنَ فَقِيلَ: يَرِثْنَ تَعْصِيبًا مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَرِثْنَ تَعْصِيبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ السُّدْسِ).
والقَوْل الأوَّل هو مَذْهب الجمهور، والقول الثاني قول ابن مسعود رضي الله عنه الذي مرَّ.
* قَوْله: (وَإِذَا قِيلَ يَرِثْنَ، فَقِيلَ أَيْضًا: إِذَا كَانَ ابْنُ الِابْنِ فِي دَرَجَتِهِنَّ، وَقِيلَ كَيْفَمَا كَانَ).
وهو مذهب الجمهور.
* قولُهُ: (وَالمُتَحَصِّلُ فِي وِرَاثَتِهِنَّ مَعَ عَدَمِ ابْنِ الِابْنِ فِيمَا فَضَلَ عَنِ النِّصْفِ إِلَى تَكْمِلَةِ الثُّلُثَيْنِ قِيلَ: يَرِثْنَ. وَقِيلَ: لَا يَرِثْنَ).
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(مِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ)
ولا شك أن مسائل المواريث لا مجال للاجتهاد فيها، ولا مجال للقياس، فما جاء محددٌ في كتاب الله عز وجل، ولذلك فإن المسائل التي اختلف فيها في الفرائض قليلة جدًّا كما سيأتي في العُمَريَّتين، وبعض التي فيها خلاف إنما هو خلاف ناشئ، أي: متأخر، كمَا سيأتي في مَسْأَلةٍ خالف فيها عبد الله بن عباس.
*قوْله: (وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِيرَاثَ الرَّجُلِ مِن امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَلَدَ ابْنٍ: النِّصْفُ، ذَكَرًا كَانَ الوَلَدُ أَوْ أُنْثَى)
(1)
.
وَهَذا إجماعٌ كما ذكر المؤلف؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قد نص عليه في كتابه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وفي كَثِيرٍ من آيات المواريث يذكر الله عز وجل:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وليس في هذا المقام، بل في آخر آية في سورة النساء أيضًا:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} ، {أَوْ دَيْنٍ} ، فالتنصيص على الدَّين والوصية يدلُّ أنهما يقدمان على الميراث.
فَوَلدُ الابن في هذه الحالة بمنزلة الابن، فهو يحجب الزوج، وَكَذلك الحال بالنسبة للزوجة تمامًا.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 93) قال: "وأجمع أهل العلم على أن الرجل يرث من زوجته إذا هي لم تترك ولدًا، ولا ولد ابن النصفَ، فإن تركت ولدًا أو ولد ابن: ذكرًا أو أنثى، ورثها زوجها الربع، ولا ينقص منه شيئًا".
* قولُهُ: (إِلَّا مَا ذَكَرْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ)
(1)
.
لأنه ذكر عدة أمور، منها: أن ابن الابن لا يحجب الزوج عن النصف، ولا الزوجة عن الربع، وهو قول ضعيف أيضًا.
* قولُهُ: (وَأَنَّهَا إِنْ تَرَكَتْ وَلَدًا فَلَهُ الرُّبُعُ، وَأَنَّ مِيرَاثَ المَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا إِذَا لَمْ يَتْرُكِ الزَّوْجُ وَلَدًا وَلَا وَلَدَ ابْنٍ - الرُّبُعُ).
كما نصت الآية: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فتأخذ الرُّبُع في حالة عدم وجود الفرع الوارث، فَإنْ وُجِدَ هذا الفرع، فإنها لا تأخذ إلا الثُّمُن.
* قوْله: (فَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا أَوْ وَلَدَ ابْنٍ فَالثُّمُنُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يَحْجُبُهُنَّ أَحَدٌ عَنِ المِيرَاثِ، وَلَا يَنْقُصُهُنَّ إِلَّا الوَلَدُ).
فمن الذين لا يحجبون الزوج والزوجة، وهما اللذان وَرِثَا عن طريق المصاهرة، أو ما يُعْرف بالنِّكَاح.
* قَوْله: (وَهَذَا لِوُرُودِ النَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} الآية [النساء: 12]).
فلَا اجتهَاد مع النَّصِّ، والآية صريحة فيما يتعلق بالزوجين، وقد جاء بجزء من الآية، فعرض ما يتعلق بالرجل، وفي بقية الآية ما يتعلق بالزوجة.
* * *
(1)
انظر: "الاستذكار"(5/ 325).
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(مِيرَاثُ الأَبِ وَالأُمِّ)
الآن سننتقل إلى الأصول، فالمؤلف تحدث فيما مضى عن الفروع، والآن سينتقل إلى الأصول، أؤَلًا يبدأ بالأبوين المباشرين: أبو الميت مباشرةً (صلبه) وكذلك أمه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الجدِّ والجدَّة.
* قَوْله: (وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الأبَ إِذَا انْفَرَدَ كَانَ لَهُ جَمِيعُ المَالِ، وَأَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ الأَبَوَانِ كَانَ لِلأمِّ الثُّلُثُ، وَللأبِ البَاقِي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11])
(1)
.
وَسَبَق أنْ نبَّه المؤلف على أن الابن إذا انفرد، أخَذ المال كله، وهنا أيضًا الأب إذا انفرد، أخذ المال كله تعصيبًا، وإذا اجتمع الأبوان وحدهما فللأم الثلث، والباقي للأب، فالأمُّ هنا فرضها الثلث، لعدم وجود مَنْ يحجبها عن الثلث.
* قَوْله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَرْضَ الأبَوَيْنِ مِنْ مِيرَاثِ ابْنِهِمَا إِذَا كَانَ لِلِابْنِ وَلَد أَوْ وَلَدُ ابْنٍ السُّدُسَانِ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 329) قال: "أبو عمر الأب عاصب وذو فرض إذا انفرد أخذ المال كله
…
فإن لم يترك المتوفَّى غير أبويه فلأمه الثلث، وباقي ماله لأبيه؛ لأن الله عز وجل لما جعل ورثة المتوفَّى أبويه، وأخبر أن للأم من ماله الثلث، علم أن للأب ما بقي بدليل قولُهُ عز وجل:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ، وهذا كله إجماع من العلماء واتفاق من أصحاب الفرائض والفقهاء".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 329)، قال مالك:"الأمر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن ميراث الأب من ابنه أو ابنته أنه إن ترك المتوفى ولدًا أو ولد ابن ذكرًا، فإنه يفرض للأب السدس فريضة، فإن لم يترك المتوفَّى ولدًا ولا ولد ابن ذكرًا، فإنه يبدأ بمن شرك الأب من أهل الفرائض فيعطون فرائضهم، فإن فضل من المال السدس، فما فوقه كان للأب، وإن لم يفضل عنهم السدس فما فوقه فرض للأب السدس فريضة".
كما قال تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} .
* قولُهُ: (أَعْنِي أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]).
وأما إذا لم يكن له ولدٌ، فلأمه الثلث.
* قَوْله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الوَلَدَ هُوَ الذَّكَرُ دُونَ الأُنْثَى)
(1)
.
وخالفهم في ذلك مَنْ شذَّ، ومَنْ شذَّ فلا يلتفت إلى قولُهُ.
* قَوْله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الأَبَ لَا يُنْقَصُ مَعَ ذَوِي الفَرَائِضِ مِنَ السُّدُسِ وَلَهُ مَا زَادَ)
(2)
.
(1)
الذي وَقَفتُ عليه أنهم لا يُفرِّقون بينهما، بل يقولون: لا فرق بينهما:
فمذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (13/ 292) قال: "الولد يقع على الواحد وعلى الجميع، وعلى الذكر والأنثى وقوعًا واحدًا في اللسان العربي من أجل أن الولد قد يعرف عند عامة الناس بالولد الذكر دون الأنثى، فإذا سألت منهم مَنْ له بنات: هل له ولد؟ يقول: لا ولد لي، وإنما لي بنات، فلما كان لا يعرف أن الولد يقع على الذكر والأنثى إلا الخاص من الناس، حمل قول الموصى على ما يُعْرَف من مقصد عامتهم، فهذا وجه هذه الرواية. والمشهور في المذهب أن يُحْمَل قول الموصى على ما يقتضيه اللسان العربي، وهو نص ما في "المدونة". قال فيها فيمن أوصى لولد فلان: إنه يدخل في ذلك ذكور ولده وإناثهم ونحوه في الموطإ ".
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 509) قال: "قال رحمه الله: ولولد فلان للذكر، والأنثى سواء"، يعني: لو أوصى لأولاد فلان للذكر والأنثى سواء؛ لأن اسم الولد يشمل الكل، وليس في اللفظ شيء يقثضي التفضيل، فتكون الوصية بينهم على السواء.
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (6/ 274) قال: "الولد يشمل الذكر والأنثى ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 278) قال: "الولد يقع على الواحد، والجمع، والذكر، والأنثى، كما قاله أهل اللغة".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 329) قال أبو عمر
…
فإنْ كان معه من ذوي=
فوربما يكون المال من ستة، فيأخُذُ خمسة أسداس، يأخذ سدسه ثم يرد إليه أربعة أسداس، فيأخذ خمسةً ويبقى السدسُ السادسُ للأم.
* قَوْله: (وَأَجْمَعُوا مِنْ هَذَا البَابِ عَلَى أَنَّ الأُمَّ يَحْجُبُهَا الإِخْوَةُ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ)
(1)
.
فالأمُّ لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: التي تأخذ فيها الثلث إذا لم يوجد ابن ولا إخوة، كما قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} .
الحالة الثانية: تأخذ فيها السدس إذا وجد له ابن، كما قال تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} .
الحالة الثالثة: وتأخذ فيها السدس أيضًا إنْ كان له إخوة، كما قال الله تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} .
فهناك حالتان تأخذ فيهما الأمُّ السدسَ، وحالة تأخذ فيها الثلث.
* قَوْله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلَّ مَا يَحْجُبُ الأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ مِنَ الإِخْوَةِ، فَذَهَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه
(2)
وَابْنُ مَسْعُودٍ
(3)
إِلَى أَنَّ الإِخْوَةَ الحَاجِبِينَ هُمَا اثْنَان فَصَاعِدًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ).
= الفروض مَنْ يجب لهم أكثر من خمسة أسداس المال، فرض له السدس، وصار ذا فرض وسهم مسمى معهم، ودخل العول على جميعهم إنْ ضاق المال عن سهامهم
…
وهذا كله إجماع من العلماء واتفاق من أصحاب الفرائض والفقهاء.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 98) قال: والأخوان يحجبان الأم من الثلث إلى السدس لا خلاف فيه.
(2)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(7/ 393) عن إبراهيم في قول علي وعبد الله وزيد: إذا كان أخوان وأختان لأب، أو لأم، أو لأب وأم، أو مختلفان، حجبا الأم عن الثلث وصار لها السدس.
(3)
لم أقف عليه.
وأبو حنيفة
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد
(3)
وكافة العلماء من الفقهاء
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 772) قال: "وللأم" ثلاثة أحوال "السدس مع أحدهما أو مع اثنين من الإخوة أو" من "الأخوات" فصاعدًا من أَيِّ جِهَةٍ كانَا ولو مختلطين، والثلث عند عدمهما، وثُلُث الباقي مع الأب وأحد الزوجين".
وقال ابن عابدين: "قولُهُ مع أحدهما" أي: الولد وولد الابن ذكرًا أو أنثى. "قولُهُ: من أي جهةٍ كانا" أي: سواء كان الاثنان فأكثر لأبوين أو لأب أو لأم "قولُهُ: ولو مختلطين" أي: ذكورًا وإناثًا من جهةٍ واحدةٍ أو أكثر "قولُهُ: والثلث عند عدمهم "، أي: عدم الولد وولد الابن والعدد من الإخوة والأخوات وعند عدم الأب مع أحد الزوجين فافهم، "قولُهُ: وثلث الباقي
…
إلخ" تحته صورتان كما سيأتي قال ط: وإنما ذكر الشارح هاتين الحالتين يعني الثلث وثلث الباقي مع ذكر المصنف لهما فيما سيأتي للإشارة إلى أن الأولى جمع حالات الأم متوالية.
"قولُهُ: مطلقًا أي لأم" أو لأب كما مثل. "قولُهُ: أي صحيحات" الجدة الصحيحة من ليس في نسبتها إلى الميت جد فاسد
…
"قولُهُ: مطلقًا" أي: سواء كانت القربى أو البعدى من جهة الأم أو الأب وسواء كانت القربى وارثة كأم الأب عند عدمه مع أم أم الأم أو محجوبة بالأب عند وجوده.
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 396، 397) قال: "والسدس فرض سبعة أب وجد" لم يدل بأنثى "لميتهما ولد أو ولد ابن" وارث للآية، والجد كالأب فيها "وأم لميتها ولد أو ولد ابن" وارث "أو اثنان من إخوة وأخوات"، وَإنْ لم يرثا لحجبهما بالشخص دون الوصف كما يعلم مما يأتي كأخٍ لأب مع شقيقٍ ولأمٍّ مع جدٍّ، ولو كانا ملتصقين ولكلِّ رأس ويدان ورجلان وفرج، إذ حكمهما حكم الاثنين في سائر الأحكام كما نقلوه عن ابن القطان وأقروه، وظاهر أن تعدُّد غير الرأس ليس بشرط، بل متى علم استقلال كل بحياة كأن نام دون الآخر كانا كذلك.
(3)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" الرحيباني (4/ 549) قال: "والثلث لثلاثة: لولدي الأم فأكثر يستوي فيه ذكر وأنثى"؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، "وللجد في بعض أحواله" مع الإخوة، وقد يرث ثلث الباقي في بعض أحواله معهم، ويأتي في باب الجد والإخوة "وللأم حيث لا فرع وارث لميت" من ولد أو والد "ولا جمع من إخوة" اثنين فأكثر "أو أخوات" أو خناثى، ولا فرق في الإخوة بين كونهم أشقاء أو لأب أو لأم أو مختلفين، ولا بين كونهم وارثين أو محجوبين أو بعضهم حجب شخص بخلاف المحجوب بالوصف من الأولاد والإخوة؛ فإنَّ وجودَه كالعدم، والأصل في ذلك قولُهُ تعالى: {فَإِنْ لَمْ=
وغيرهم
(1)
.
* قوْله: (وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُمْ ثَلَاثَة فَصَاعِدًا)
(2)
.
وأكثر الخلاف هنا يدور حول أقل الجمع وأكثره، هل اثنان يعتبر جمعًا أو لا؟ فهناك مَنْ يرى من أهل اللغة -وهو رأي الأكثر- بأن أقلَّ الجمع ثلاثة، وهناك مَنْ يرى -وهم قلة- بأن أقل الجمع اثنان، وهؤلاء الذين قالوا: بأن أقل الجمع اثنان أيضًا اختلفوا، فمنهم مَنْ قال: هو جمع حقيقي، فيعتبر الاثنان وهو حقيقةً، وبعضهم قال: يسمى "الاثنان" جمعًا مجازيًّا، فجمهور العلماء اعتبروا ذلك، وأيضًا استدلوا بعد ذلك في آخر آية الكلالة بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} ، فقالوا: كلمة "إخوة" المقصود هناك إنما هو أخ وأخته، ومع ذلك قال الله تعالى:{إِخْوَةً} ، فذكر "الإخوة" لا يدل على أن المقصود ما زاد عن اثنين، وقد حاج عبد الله بن عباس، عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: ليس أخوان إخوة في
=يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] مع مَفْهوم قولُهُ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وقال ابن عباس لعثمان: ليس الإخوان إخوة في لسان قومك، فلم تحجب بهما الأم، فقال: لا أستطيع أن أرد شيئًا كان قبلي، ومضى في البلدان، وتوارث الناس به، وهذا من عثمان يدل على اجتماع الناس على ذلك قبل مخالفة ابن عباس.
(1)
قال ابن المنذر في "الأوسط"(7/ 391، 392): "فقال عامة أهل العلم: إذا كان للميت اثنان من الإخوة فصاعدًا، ذكورًا أو إناثًا، من أب وأم، أو من أب، أو من أم، حجبا الأم عن الثلث، وصار لها السدس، روي هذا القول عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وبه قال مالك بن أنس، ومَنْ تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثوري، وسائر أهل العراق، والشافعي وأصحابه، وكل من نحفظ عنه من أهل العلم غير ابن عباس ".
(2)
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(7/ 392)، وابن حزم في "المحلى"(9/ 258) عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يردان الأم إلى السدس، إنما قال الله جل ذِكْر:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} "فالأخوين " في لسان قومك "ليسوا" بإخوة، فقال عثمان رضي الله عنه: لا أستطيع أنقض أمرًا قد كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار.
لسان قومك
(1)
، يعني في لسان العرب، فَبِمَ ردَّ عليه عثمان رضي الله عنه؟ قال: ذاك أمرٌ قد سَبَق، وَمَضَى ذلك في البلاد، وتوارث الناس به جيلًا بعد جِيلٍ، فلا يمكن أن آتي وأخالف في ذلك، وقد اعتبر العلماء قول عثمان حُجَّةَ في هذه المسألة.
* قولُهُ: (وَأَنَّ الِاثْنَيْنِ لَا يَحْجُبَان الأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَالخِلَافُ آيِلٌ إِلَى أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَمْعِ، فَمَنْ قَالَ: أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَمْعِ ثَلَاثَةٌ قَالَ: الإِخْوَةُ الحَاجِبُونَ ثَلَاثَةٌ فَمَا فَوْقُ).
والرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: "الاثنَان فمَا فوق فهُمَا جماعةٌ"
(2)
، فإذا وُجِدَ اثنان فصليا فصلاتهما تكون صلاة جماعة، والجماعة معناها الجمع، فاثنان فما فوقهما جماعة، والواحد لا يُقَال له: جماعة، وإنْ كان الاثنان أقل الجمع.
* قَوْله: (وَمَنْ قَالَ: أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَمْعِ اثْنَانِ قَالَ: الإِخْوَةُ الحَاجِبُونَ هُمَا اثْنَان، أَعْنِي فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى يَدْخُلَانِ تَحْتَ اسْمِ الإِخْوَةِ فِي الآيَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الجُمْهُورِ).
فلَا خلافَ هنا بالنسبة للحجب بين الذكور والإناث، فإن الأخ ذكرًا كان أو أنثى إذا وجد هذا العدد، حجب الأم، ولله في ذلك حكمةٌ،
(1)
أخرجه الحاكم (4/ 372)، وصحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 373)، عن ابن عباس:"أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث، قال الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} "فالأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة"، فقال عثمان بن عفان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس "، وضعفه الأَلْبَاني في "إرواء الغليل"(1678).
(2)
أخرجه ابن ماجه (972) ولفظه: عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنان فما فوقهما جماعة"، وضعفه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(489).
فالله سبحانه وتعالى هو الذي تولى قسمة هذه المواريث، وهو سبحانه وتعالى العليم بما يصلح شؤون هذا الكون.
* قولُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ).
ولعله ابن حزم
(1)
.
* قولُهُ: (لَا أَنْقُلُ الأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِالأَخَوَاتِ المُنْفَرِدَاتِ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِنَّ اسْمُ الإِخْوَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ أَخٌ لِمَوْضِعِ ثَغْلِيبِ المُذَكَّرِ عَلَى المُؤَنَّثِ، إِذِ اسْمُ الإِخْوَةِ هُوَ جَمْعُ أَخ، وَالأَخُ مُذَكرٌ).
وكلمة "إخوة" دائمًا إذا وُجِدَ ذكر وأنثى، فهناك ما يُعْرف بالتغليب، فدائمًا يغلب الذَّكر على الأنثى.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِيمَنْ يَرِثُ السُّدُسَ الَّذِي تُحْجَبُ عَنْهُ الأُمُّ بِالإِخْوَةِ، وَذَلِكَ إِذَا ثَرَكَ المُتَوفَّى أَبَوَيْنِ وَإِخْوَةً).
والمراد بالأبوين: أب وأم، فالأم في هذه المسألة تُحْجب بالإخوة، وتأخذ السُّدُس؛ لأن الأمَّ تنزل من الثُّلث إلى السدس في حَالةٍ من حالتين: إذا وجد ابن أو وجد إخوة، وهنا وجد الإخوة، فالأم هنا لا تأخذ إلا السدس، وهذه الخمسة أسداس إنما يأخذها الأب، فالإخوة هنا تكون سببًا في حَجْب الأم من الثلث إلى السدس، ومع ذلك لا يأخذون شيئًا لوجود مَنْ يحجبهم، وهذه مسألة تكلم عنها الفقهاء: هل يوجد مَنْ يَحجب غيره ويُحْجب هو؟
الجواب: نعم، هي هذه المسألة، وحجب الإخوة هنا ليس لنقص
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 271) قال: "ولا خلاف في أنها لا ترد عن الثلث إلى السدس بأخ واحد، ولا بأخت واحدة، ولا في أنها ترد إلى السدس بثلاثة من الإخوة -كما ذكرنا- إنما الخلاف في ردها إلى السدس باثنين من الإخوة".
فيهم، ولكن لوجود مَنْ هو أقوى منهم، لوجود مَنْ يُدْلي بعصبةٍ وهو أقوى منهم؛ لأنه لما ذهب الابن، جاء الأب، فهو الذي في هذا المقام يحجز الإخوة، ويَمْنعهم عن الميراث، فهم قد حَجبوا وحُجبوا.
قَوْله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ
(1)
: ذَلِكَ السُّدُسُ لِلْأَبِ مَعَ الأَرْبَعَةِ الأَسْدَاسِ).
فَالأبُ قد أخذ خمسة أسداس، وأخذت الأم سدسًا واحدًا.
(1)
لم أقف على صورة المسألة، لكن وجدت جزءًا منها يتعلق بالحجب:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم (8/ 560) قال: "وهذا كما يقول في الأخوين مع الأب برد الأم من الثلث إلى السدس، ومع ذلك لا يرثان مع الأب".
مذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (8/ 431) قال: "فإن ترك المتوفَّى أبوين وأخوين، فللأم السدس، وما بقي للأب، إذ لا يرث الإخوة معه شيئًا؛ لأنه أحق بالتعصيب منهم، ولا اختلاف في هذا إلا ما يُرْوى عن ابن عباس أنه كان يعطي الإخوة هنا السدس الذي منعوا الأم أن تأخذه، وهو شاذ خلاف ما أجمع عليه الفقهاء من أن الإخوة لا يرثون مع الأب".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 109) قال: "للأب في ميراثه ثلاثة أحوال:
حال يرث فيها بالتعصيب، وذلك مع عدم الولد وولد الابن، فإن لم يكن معه ذوو فرض لا يسقط بالأب كالأم أخذت الأم فرضها كاملًا إنْ لم يحجبها الإخوة وهو الثلث، وكان الباقي للأب؛ لقوله تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ، فدل ذَلِكَ على أن الباقي للأب وإن حجب الأم إخوة كان لها السدس، وكان الباقي بعد سدس الأم للأب؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وكان ابن عباس في روايةٍ شاذَّةٍ عنه يجعل السدس للذي حَجَبه الإخوة عن الأم لهم، ولا يرده على الأب، وقد تقدم الكلام معه، فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة، فقد ذكرنا أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوج والزوجة، والباقي للأب فهذه حال".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 515) قال: "ومَنْ لا يرث" لمانع "لا يحجب" نصًّا حرمانًا ولا نقصانًا. روي عن عمر وعلي والمحجوب بالشخص يحجب نقصانًا كالإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وإنْ كانوا محجوبين بالأب.
قَوْله: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
أَنَّ ذَلِكَ السُّدُسَ لِلْإِخْوَةِ الَّذِينَ حَجَبُوا، وَللأبِ الثُّلُثَان؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الأُصُولِ مَنْ يَحْجُبُ، وَلَا يَأْخُذُ مَا حُجِبَ إِلَّا الإِخْوَةُ مَعَ الآبَاءِ، وَضَعَّفَ قَوْمٌ الإِسْنَادَ بِذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
فقالوا: إن الطريق الذي يوصل إلى عبد الله بن عباس هو ضعيف، فنسبة ذلك إلى عبد الله بن عباس فيه ضَعفٌ.
قَوْله: (وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ القِيَاسُ).
لأنَّه قَاس، والأمُّ في الأصل ينبغي أن تأخذ الثلث، لكن وجد مَنْ يحجبها، لكن لما حجبت هي أيضًا، فَالإخوة يأخذون ذلك الذي حجبت عنه الأم، فَهُمْ أَوْلَى في هذا.
قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي الَّتِي تُعْرَفُ بِالغَرَّاوَيْنِ)
(2)
.
واشتهرت هذه المسألة بالعُمَريتين
(3)
، فهما مسألتان؛ لأن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه قضَى فيهما، وتابعه في ذلك عثمان بن عفان ووافقه، وكذلك عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأثر ذلك عن عليِّ بن أبي طالبٍ، وهو أيضًا قول الأئمة المعروفين، بل قول الفقهاء عامَّة.
(1)
أخرجه الطبري (6/ 468) عن طاوس، عن ابن عباس، قال:"السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أمهم".
(2)
يُلقَّبان بالغراوين لشهرتهما تشبيهًا لهما بالكوكب الأغر، ولأن الأم غرت فيهما؛ لأنَّ الذي أخذته ربع في المسألة الأولى، وسدس في الثانية، وهو خلاف المسمى لها في الآية. انظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 25) و"الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 251).
(3)
لأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول مَنْ قضى فيهما للأم بثلث الباقي بعد إعطاء الزوج الباقي فريضته. "نهاية المحتاج" للرملي (6/ 20) و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 25).
• قوله: (وَهِيَ فِيمَنْ تَرَكَ زَوْجَةً وَأَبَوَيْنِ، أَوْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ).
فهما مسألتان: إما زوج وأبوان، أو زوجة وأبوان، ففي المسألة الأولى: زوج وأبوان، فالزوج نصيبه هنا النصف، لكن بالنسبة للأبوين، لماذا لا تأخذ الأم الثلث؟ هل يوجد فرع وارث؟ هل يوجد ابن يمنعها؟ هل يوجد إخوة يحجبونها إلى السدس؟ الجواب: لا، فلماذا - إِذَنْ - أعطاها عمر رضي الله عنه السُّدُس؟، وأيضًا أثر ذلك عن أبي موسى، ولمَّا ذهب صاحب القضية إلى عبد الله بن مسعودٍ أنكر ذلك العمل، وقال: أقضي فيها بقضاء رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
• قَوْله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ
(2)
: فِي الُأولَى لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَهُوَ الرُّبُعُ مِنْ رَأْسِ المَالِ، وَللْأَبِ مَا بَقِيَ وَهُوَ النِّصْفُ).
(1)
أخرجه أبو داود (2890) عن هزيل بن شرحبيل الأودي، قال: جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري، وسلمان بن ربيعة فسألهما، عن ابنة، وابنة ابن، وأخت لأب وأم، فقالا: وللأخت من الأب، والأم النصف، ولم يورثا ابنة الابن شيئًا، وَائْتِ ابن مَسْعُودٍ، فإنه سيتابعنا، فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، ولكني سأقضي فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم "لابنته النصف، ولابنة الابن سهم تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت من الأب والأم"، وصححه الَألْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(ص 2).
(2)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 461، 462) قال: "ولما كان الثلث فرض الأم حيث لا ولد ولا ولد ابن ولا من الإخوة ذو عدد، وكان كل من الغراوين كذلك، ومع ذلك لم تأخذ الثلث، جعلوا لها ثلث الباقي عن الفرض ليصدق عليها أنها أخذت الثلث في الجملة، فأشار لذلك المصنف بقوله: "ولها ثلث الباقي في" زوجة ماتت عن "زوج، وأبوين" أصلها من اثنين مخرج نصيب الزوج يبقي واحدة على ثلاثة، إِذْ هي حظ ذكرٍ وأنثى يدليان بجهةٍ واحدةٍ {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، وهو لا ينقسم على ثلاثة، فتُضْرب الثلاثة في أصل المسألة، تكون ستة، للزوج النصف (ثلاثة)، ولها ثلث الباقي (واحد من ستة)، ولو كان بدل الأب جد لكان لها الثلث من رأس المال.
وأشار لثانية الغراوين بقوله: "و" لها ثلث الباقي أيضًا في زوج مات عن "زوجة، وأبوين" فهي من أربعة: للزوجة الربع وللأم ثلث الباقي وللأب الباقي، هذا مذهب الجمهور، وذهب ابن عباس إلى أنَّ لها ثلث جميع المال في المسألتين نظرًا لعموم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ".
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي، و"حاشية ابن عابدين"(6/ 772، 773) قال: "قوله: عند عدم مَنْ لها معه السدس"، أي: أو ثلث الباقي "قوله: بعد فرض أحد الزوجين" متعلق بالباقي أي: ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجة أو الزوج "قوله: وأم" لفظ "أم" في الموضعين زائد، أفاده (ح) أي لأنها أحد الأبوين "قوله: فلها حينئذٍ الربع"؛ لأن للزوجة الربع، ومخرجه من أربعة، يبقى ثلاثة للأم ثلثها واحد، وهو ربع الأربعة، وللأب الباقي "قوله: فَلَها حينئذٍ السدس"؛ لأنها تصح من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأم ثلث ما يبقى، وهو واحد، وللأب الباقي. "قوله: تأدبًا
…
إلخ "؛ لأن المراد من قوله تعالى: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ، ثلث ما ورثه الأبوان؛ سواء كان جميع المال أو بعضه للأدلة المذكورة في المطولات، فالثلث هنا صمان صار في الحقيقة ربع جميع المال أو سدسه إلا أن الأدب التعبير به تبركًا بلفظ القرآن، وتباعدًا عن إيهام المخالفة.
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 404) قال: "ولها في مسألتي زوج أو زوجة وأبوين ثلث ما بقي بعد الزوج"، أصلها من اثنين، للزوج واحد، يبقى واحد على ثلاثة لا يصح، ولا يوافق، تضرب اثنين في ثلاثة، للزوج ثلاثة، وللأب اثنان، وللأم واحد، ثلث ما بقي "أو الزوجة" أصلها من أربعة؛ لأنَّ فيها ربعًا وثلث ما يبقى، ومنها تصح للزوجة واحد، وللأم ثلث الباقي، وللأب الباقي، وجعل له ضعفاها؛ لأن كل أنثى مع ذكر من جنسها له مثلاها. وقال ابن عباس بعد إجماع الصحابة على ما تقرر، وخرق الإجماع: إنما يحرم على مَنْ لم يكن موجودا عنده كما يأتي في العَوْل لها الثلث كاملًا لظاهر القرآن، وأجاب الآخرون بتخصيصه بغير هذين الحالين لنص القرآن على أن له مثليها عند انفرادهما، فكذا عند اجتماع غيرهما معهما، إذْ لا يتعقل بين الحالين فرق، ولم يعبروا بسدبر في الأول، وربع في الثاني تأدبًا مع ظاهر لفظ القرآن، وزعم أنه لا تأدُّب مع مخالفة معناه ليس في محله؛ لأن المخالفة للدليل كما هنا واجبة، فلتعذر مخالفة المعنى وإمكان موافقة اللفظ كانت الموافقة له تأدبًا أي تَأدُّبٍ.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 507، 508) قال: "والحال الثالث ذكره بقوله: "وفي أبوين وزوج أو زوجة لها" أي: الأم "ثلث الباقي بعد فرضيهما" أي: الزوجين نصًّا؛ لأنهما استويا في السبب المدلى به، وهو الولادة، وامتاز الأب بالتعصيب بخلاف الجد، .. وقال ابن عباس: لها الثلث كاملًا لظاهر الآية، والحجة معه لولا انعقاد الإجماع من الصحابة على خلافه، ولأن الفريضة إذا جمعت أبوين وذا فرض، كان للأم ثلث الباقي كما لو كان معهم بنت".
فالأم لم أخذت الثلث، ولو أنها أخذت الثلث لزَاد نصيبها، وَالزَّوجة لهَا الرُّبُع؛ لأنها ليست مَحلَّ خِلَافٍ، لكن هنا الأم أخذت الثُّلُث الباقي، والأب أخذ النصف، وهذا فيما يتعلق بمسألة الزوجة.
• قوله: (وَقَالُوا فِي الثَّانِيَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَللأمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَهُوَ السُّدُسُ مِنْ رَأْسِ المَالِ، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ وَهُوَ السُّدُسَانِ).
فَالثَّانية من سِتَّةٍ، فيأخذ الزوج النصف وهو ثلاثة أسداس، وتأخذ الأمُّ ثلث الباقي الذي هو السدس، ويأخذ الأب الثلث وهو سدسان، والأم لم تأخذ الثلث مع أن مَنْ يحجبها عن الثلث غير موجود هنا، فلا ابن يوجد، ولا إخوة في هذه المسألة، ومع ذلك قَضَى فيها عُمَرُ رضي الله عنه، ووافقه أيضًا جمعٌ من الصَّحابة، وهذا هو الذي أخذ به جَماهير العلماء رحمهم الله تعالى.
• قَوْله: (وَهُوَ قَوْلُ زَيْدٍ
(1)
، وَالمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ عَلِي
(2)
رضي الله عنه.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الأُولَى
(3)
: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ مِنْ رَأْسِ المَالِ،
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(10/ 254)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 242) عن عكرمة، قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن تابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال:"للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب الفضل".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 241)، عَنْ سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت سئل عن امرأة وأبوين "فأعطى المرأة الربع، والأم ثلث ما بقي، وما بقي للأب".
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في "السنن"(1/ 56)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 241) عن عليٍّ، أنه قال:"في زوج وأبوين، للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي".
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 241) عن عليٍّ في امرأة وأبوين: "للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب".
(3)
أخرجه الدارمي في "السنن"(4/ 1897)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 24) عن إبراهيم قال: خالف ابن عباس أهل الصلاة في امرأةٍ وأبوين وزوج وأبوين قال: "للأم الثلث من جميع المال". =
وَللأُمِّ الثُّلُثُ مِنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْضٍ، وَللَأبِ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ عَاصِبٌ، وَقَالَ أَيْضًا فِي الثَّانِيَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَللْأُمِّ الَثُّلُثُ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْضٍ مُسَمًّى).
فَابْنُ عَبَّاس رضي الله عنهما بَقي على الَأصْل، ولكن جمهور العلماء يرون أنَّه لو حكم في القضية بهذا لاختل الميزان، وستأخذ الأم أكثر من الأب في إحدى المسألتين، وفي هَذِهِ الحَال يكون خروجًا عن الأصول.
• قَوْله: (وَللْأَب مَا بَقِيَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ القَاضِي
(1)
وَدَاوُدُ
(2)
، وَابْنُ سِيرِينَ
(3)
وَجَمَاعَةٌ
(4)
، وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ أَنَّ الَأبَ وَالأُمَّ لَمَّا كَانَا إِذَا انْفَرَدَا بِالمَالِ كَانَ لِلأمِّ الثُّلُثُ، وَلِلَأبِ البَاقِي).
= وأخرج الدارمي في "السنن"(4/ 1897)، عن ابن عباس أنه قال في زوج وأبوين:"اللزوج النصف، وللأم ثلث جميع المال، وما بقي فللأب".
(1)
قال ابن المنذر في "الأوسط"(7/ 396): "وكذلك روي عن شريح أنه قال في زوج وأبوين: للزوج النصف، وللأم الثلث". وينظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 260).
(2)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 260) قال: "فإن كان الميت ترك زوجة وأبوين أو ماتت امرأة وتركت زوجًا وأبوين: فللزوج النصف، وللزوجة الربع، وللأم الثلث من رأس المال كاملًا، وللأب من ابنته السُّدُس، ومن ابنه الثلث، وربع الثلث".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 241)، عن ابن سيرين قال:"ما يمنعهم أن يَجْعَلوها من اثني عشر سهمًا، فيعطون المرأة ثلاثة أسهم، وللأم أربعة أسهمٍ، وللأب خمسة أسهم".
(4)
منهم عمر وعثمان:
فأَخْرَجه عبد الرزاق في "المصنف"(10/ 252)، وَسَعيد بن منصور في "السنن"(1/ 55) عن أبي قلابة، أن رجلًا تُوفِّي، وترك امرأته وأبويه في خلافة عثمان "فجعلها عثمان من أربعة أسهم، أعطى امرأته سهمًا، وأمه ثلث الفضل، وأباه ما بقي".
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 241)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 372) عن الأسود قال: قال عبد الله: "إن عمر كان إذا سلك طريقًا فسلكناه وجدناه سهلًا، وأنه أُتِيَ في امرأةٍ وأبوين، فأعطى للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي للأب". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
كان هذَا هو الأصل.
• قَوْله: (وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الحَالُ كَذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ المَالِ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنْ يَكُونَ مِيرَاثُ الأُمِّ أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِ الأَبِ خُرُوجًا عَنِ الُأصُولِ).
فلو طُبِّق ذلك على الأصل، فأخذت الثُّلُث، يكون حِينَئذٍ خروجًا عن الأصول؛ لأنها سَتزيد على الأب.
• قَوْله: (وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الآخَرِ أَنَّ الُأمَّ ذَاتُ فَرْضٍ مُسَمًّى، وَالأَبَ عَاصِبٌ، وَالعَاصِبُ لَيْسَ لَهُ فَرْضق مَحْدُود مَعَ ذِي الفُرُوضِ).
فكأنهم يقولون: الأم لها نصيب مفروض مقدر، فيَنْبغي أن تأخذه، لكن الأب يأخذ بالتعصيب، والتعصيب غير مقدر، ولذلك عرفوا التعصيب بأنه أَخْذُ الشيء دون تقديرٍ، يعني دون غلق؛ لأنه يتفاوت فيأخذ كثيرًا أحيانًا، وأحيانًا يأخذ قليلًا، لكن الفروض ثابتة.
• قوله: (بَلْ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ. وَمَا عَلَيْهِ الجُمْهُورُ مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيلِ أَظْهَرُ، وَمَا عَلَيْهِ الفَرِيقُ الثَّانِي مَعَ عَدَمِ التَّعْلِيلِ أَظْهَرُ، وَأَعْنِي بِالتَّعْلِيلِ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ أَحَقُّ سَبَبَيِ الإِنْسَانِ أَوْلَى بِالإِيثَارِ (أَعْنِي: الأَبَ مِنَ الُأمِّ)).
لأنه يأخذ من هنا وهنا، فهو يشارك هنا مرةً، ويأخذ مرةً أيضًا في التعصيب، فهو يدلي بسببين.
* * *
[مِيرَاثُ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ]
أنواع الإخوة:
أولًا: إخوة أشقاء وهم الذين يجتمعون في أبٍ وأمٍّ، وُيسمَّون بالإخوة الأعيان.
ثانيًا: إخوة لعلَّات؛ وهم الإخوة لأب؛ أبوهم واحد وأمهاتهم شَتَّى.
ثالثًا: إخوة أخياف، وهم الإخوة لأم؛ فهم بنو الأم الواحدة من آباء شتى
(1)
.
وقدَّم المؤلف رحمه الله ميراثَ الإخوة لأم على ميراث الإخوة الأشقاء والإخوة لأب؛ لأنهم من أصحاب الفروض، وقدَّم المصنف الكلام عن أصحاب الفروض على العصبات.
• قوله: (وأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلأمِّ إِذَا انْفَرَدَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنَّ لَهُ السُّدُسَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلثِ عَلَى السَّوِيَّةِ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَى سَوَاءً)
(2)
.
(1)
الأخ لغةً: من ولده أبوك وأمك، أو أحدهما. فإن كانت الولادة لأبوين فهو الشقيق، ويقال للأشقاء: الإخوة الأعيان؛ لأنهم بنو أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدة، وهذه الأخوَّة تسمَّى اليعاينة. وإن كانت الولادة من الأب فهو الأخ لأب، ويقال للإخوة والأخوات لأب: أولاد علات؛ لأنهم بنو أبٍ واحد وأمهاتٍ شتى. وإن كانت الولادة من الأم فهو الأخ لأم، ويقال للإخوة والأخوات لأم: الأخياف؛ لاختلافهم في نسب الآباء.
انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2171)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 186)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 306).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 96) قال: "فإذا لم يترك المتوفى أحدًا ممن ذكرنا أنهم يحجبون الإخوة من الأم، وإن ترك أخًا أو أختًا لأم، فله أو لها السدس فريضة، فإن ترك أخًا وأختًا من أمه فالثلث بينهما سواء، لا فضل للذكر منهما على الأنثى. وإن ترك إخوة وأخوات من الأم، فالثلث بينهما سواء، لا فضل للذكر منهما على الأنثى، وكل ذلك إجماع".
وجاء ذلك نصًّا في القرآن العزيز؛ قال تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} ، للذكر منهم مثل حظ الأنثى سواء، على خلاف الإرث بالتعصيب - كما سيأتي - وهذا مما ينفرد به الإخوة لأم.
• قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ أَرْبَعَةٍ، وَهُمُ: الْأَبُ وَالْجَدُّ أَوِ الْأَبُ وَإِنْ عَلَا، وَالْبَنُونَ ذُكْرَانُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَبَنُو الْبَنِينَ وَإِنْ سَفُلُوا ذُكْرَانُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَهَذَا كلُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} الآية [النساء: 12]، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ فَقَطْ، وَقَدْ قُرِئَ:"وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ"
(1)
.
يُحجب الإخوة لأم حجبَ حرمانٍ
(2)
مع الأصناف الأربعة التي ذكرها المؤلف؛ وهم: الأبُ والجدُّ وإن علا، والابن وابن الابن وإن نزل، فحيثما وُجد واحدٌ من هؤلاء فلا نصيب للإخوة للأم من الميراث.
وقد يُحجبون حجب نقصان
(3)
؛ فيأخذ الواحد منهم ما دون السدس، ذكرًا كان أو أنثى، وذلك إذا كانوا اثنان فأكثر ذكورًا أو إناثًا أو مختلطين؛ قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} .
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 96) قال: "واتفق أهل العلم على أن الإخوة من الأم لا يرثون مع ولد الصالب، ذكرًا كان الولد أو أنثى، ولا مع ولد الابن وإن سفل، ذكرًا كان أو أنثى، ولا مع أب ولا مع جد أب وإن بعد".
(2)
وهو منع شخص معين عن الإرث بالكلية لوجود شخص آخر. انظر: "قرة عين الأخيار لتكملة رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (7/ 373).
(3)
وهو: حجبه من فرض مقدر إلى فرض أقل منه لوجود آخر. انظر: "قرة عين الأخيار لتكملة رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (7/ 373).
وقد انعقد الإجماع
(1)
على أنَّ المقصود بهذه الآية هم الإخوة للأم فقط، وقد قُرئ:{ووله أخ أو أخت من أمه}
(2)
، فجاءت هذه القراءة لتؤكد أن المراد بالإخوة هنا إنما هم الإخوة لأم.
• قوله: (وَكذَلِكَ أَجْمَعُوا - فِيمَا أَحْسَبُ - هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ هِيَ فَقْدُ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنَ النَّسَبِ - أَعْنِي: الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ وَالْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنِينَ -).
نصَّ العلماء على أنَّ الكلالة
(3)
من لا والد له ولا ولد، ونُقل ذلك عن أبي بكر وعمر وغيرهما
(4)
، ويدخل فيها - أي: الكلالة - التفصيل الذي ذكره المؤلف في ميراث الإخوة لأم؛ قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ
(1)
يُنظر: "تفسير القرطبي"(5/ 78) قال: "فأمَّا هذه الآية فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عنى بها الإخوة للأمِّ".
(2)
وهي قراءة سعد بن أبي وقاص، كما أخرجها الطبري في "تفسيره" (8/ 62) عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص قرأ: {وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت من أمه} .
(3)
و"الكلالة": مصدر الكل
…
وهو الذي لا ولد له ولا والد له؛ بل له إخوة وأخوات. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 170).
(4)
"الكلالة": مصدر من تكلله النسب؛ أي: أحاط به .... فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة. هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم. انظر: "تفسير القرطبي"(5/ 76).
أمَّا أثر أبي بكر وعمر: فقد أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(10/ 304) عن الشعبي، قال:"كان أبو بكر يقول: الكلالة من لا ولد له، ولا والد. قال: وكان عمر يقول: الكلالة من لا ولد له". فلما طعن عمر قال: "إني لأستحيي الله أن أخالف أبا بكر؛ أرى الكلالة ما عدا الولد والوالد".
أما أثر عليٍّ: فقد ذكره ابن المنذر في "الإشراف على مذاهب العلماء"(4/ 325) فقال: "واختلفوا في الأب؛ فروي عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت والحكم، والزهري، أنهم قالوا: الكلالة ما عدا الولد والوالد".
يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}.
[مِيرَاثُ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ]
• قوله: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلأبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ فَقَطْ يَرِثُونَ فِي الْكَلَالَةِ أَيْضًا، أَمَّا الْأُخْتُ إِذَا انْفَرَدَتْ فَإِنَّ لَهَا النِّصْفَ، وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلْثَانِ كَالْحَالِ فِي الْبَنَاتِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا ذُكورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَحَالِ الْبَنِينَ مَعَ الْبَنَاتِ؛ وَهَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]
(1)
.
ذكر المؤلف أن هذه الأصناف لا تحرمهم الكلالة من الميراث بالإجماع:
فإذا انفردت الأخت أخذت النصف؛ لقول الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا}
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 356) قال: "لا يشكل على أحد لاتفاق العلماء على أن الإخوة للأب والأم لا يرثون إلا من يورث كلالة، ولا يورث كلالة إلا من لا ولد له ولا والد؛ ألا ترى إلى ما ذكرنا من إجماع السلف أن الكلالة من لا ولد له ولا والد".
قال أبو عمر: " (ذكر الله عز وجل الكلالة في كتابه في موضعين، ولم يذكر فيهما وارثًا غير الإخوة؛ فأما الآية التى في صدر سورة النساء قوله عز وجل:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. فقد أجمع العلماء على أن الإخوة في هذه المسألة عنى بهم الإخوة للأم، وأجمعوا أن الإخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا.
تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}، وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} .
وقال: (كَالْحَالِ فِي الْبَنَاتِ)؛ لأنَّه مر بنا أن البنت إذا انفردت - أي: ليس معها أخ - فلها النصف، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان على الراجح، قال تعالى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} كَحَالِ الْبَنِينَ مَعِ الْبَنَاتِ؛ لقول الله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
• قوله: (إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ هَاهُنَا فِي أَشْيَاءَ وَاتَّفَقُوا مِنْهَا فِي أَشْيَاءَ يَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأَبِ وَالْامع مِّ ذُكْرَانًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ شَيْئًا وَلَا مَعَ وَلَدِ الْوَلَدِ، وَلَا مَعَ الْأبِ شَيْئًا)
(1)
.
لأنهم يُحجبون بهم حجبَ حرمان، وسبق أنَّ الابن الذكر إذا انفرد فإنه يرث المالَ كُلَّه.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ لِلَأبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْبِنْتِ أَوِ الْبَنَاتِ؛ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ
(2)
إِلَى أَنَّهُنَّ
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 99) قال: "واتفقوا أن الإخوة كلهم لا يرثون مع الولد الذكر ولا مع الذكور من ولد الولد الراجعين بأنسابهم إلى الميت".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 566) قال: (والبنت وبنت الابن) يعني يعصب الأخوات البنت وبنت الابن لقوله عليه الصلاة والسلام: "اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة"، "وورث معاذ رضي الله عنه البنت النصف والأخت النصف ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ يومئذ". وروي "أنه صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة وابنة ابن وأخت؟ للبنت الخصف، ولابنة الابن السدس، والباقي للأخت". وجعل المصنف البنت ممن يعصب الأخوات وهو مجاز، وفي الحقيقة لا تعصبهن وإنما يصرن عصبة معها؛ لأن البنت =
عُصْبَةٌ يُعْطَوْنَ مَا فَضَلَ عَنِ الْبَنَاتِ، وَذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيِّ الظَّاهِرِيُّ
(1)
وَطَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْأُخْتَ لَا تَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ شَيْئًا، وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ:"إِنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلأخْت"
(2)
، وَأَيْضًا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْبَنَاتِ، فَكَذَلِكَ الْأَخَوَاتُ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176] فَلَمْ يَجْعَلْ لِلأخْتِ شَيْئًا إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا اسْمَ الْوَلَدِ هَاهُنَا عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ).
قال المؤلف بأنَّهم اختلفوا في ميراث الإخوة للأب، والمراد الأخوات وليس الإخوة:
= بنفسها ليست بعصبة في هذه الحالة فكيف تعصب غيرها بخلاف الإخوة على ما يجيء عن قريب، وهذا قول جمهور الصحابة رضي الله عنهم".
مذهب المالكية، يُنظر:"المنتقى شرح الموطأ"(6/ 230) قال: "الإخوة للأب والأم لا يرثون مع الابن ولا مع ابن الابن ولا مع الأب شيئًا؛ وذلك أنهم إنما يرثون بالتعصيب ويدلون بالأب فلا يرثون معه بالتعصيب
…
وهم يرثون مع البنات وبنات الابن ما لم يترك المتوفى أبا أب ما فضل من المال يكونون عصبة؛ يريد إذا لم يكن في الورثة أحد ممن ذكرنا أنه يحجبهم ولم يكن فيهم جد يقاسمهم كانوا عصبة يرثون ما فضل من المال عن البنت الواحدة".
مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (6/ 17) قال: "الأخوات للأب مع البنات وبنات الأب عصبات كالإخوة".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 513) قال: " (وأخت فأكثر) لأبوين أو لأب (مع بنت أو بنت ابن فأكثر عصبة) لا فرض لهن معها؛ بل (يرثن ما فضل كالإخوة).
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 268)، قال:"والثاني: أنه لا ترث أخت أصلَّا مَع ابنة، ولا مع ابنة ابن، وصح عن ابن عباس، وهو أول قول ابن الزبير، وهو قول أبي سليمان".
(2)
سيأتي قريبًا.
فذهب الجمهور إلى أنَّهن عصبة مع البنات، واستدلُّوا على ذلك بالأثر والنظر.
فأما الأثر: فبما رواه الجماعة
(1)
إلا مسلمًا والنسائي، عن هزيل بن شرحبيل قال:"سئل أبو موسى - وفي رواية: جاء رجل إلى أبي موسى وسلمان بن ربيعة فسألهما - عن بنت وابنة بنت وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وأتِ ابن مسعود فسيتابعني". فسئل ابن مسعود وأُخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم:"لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأخْتِ"". فهذا استناد إلى قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا النظر: فقياسًا على توريث الإخوة مع البنات.
وذهب أبو داود بن علي الظاهري وطائفة: إلى أن الأخت لا ترثُ مع البنت شيئًا، واستدلوا على ذلك بعموم قوله تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} أي: أنها ترث إذا لم يكن هناك ولد، وفي هذه الصورة وُجِد الولد فلا ترث.
• قوله: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْإِخُوَّةَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يَحْجُبُونَ الْإِخْوَةَ لِلَأبِ عَنِ الْمِيرَاثِ قِيَاسًا عَلَى بَنِي الْأَبْنَاءِ مَعَ بَنِي الصُّلْبِ
(2)
. قَالَ أَبُو عُمَرَ
(3)
: وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ مِنْ رِوَايَةِ
(1)
أخرجه البخاري (6736)، وأبو داود (2890)، والترمذي (2093)، والنسائي في "الكبرى"(6294)، وابن ماجه (2721)، وأحمد في مسنده (3691)، والدارمي في سننه (2932). ذكر الشارح أنه ليس موجودًا في سنن النسائي "المجتبى" ولكن الحديث موجود في الكبرى.
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 405) قال: "وأجمع أهل العلم على أن الإخوة والأخوات من الأب لا يرثون مع الإخوة والأخوات من الأب والأم شيئًا". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 333).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 333) قال: "وقد روي بذلك حديث حسن في رواية الآحاد العدول".
الْآحَادِ الْعُدُولِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعِلَّاتِ"
(1)
).
وهذا يُسمَّى في علم الفرائض حجب حرمان، فيحجب الإخوةُ الأشقاء الإخوةَ للأب؛ لأنهم أولى فيقدَّمون في الميراث.
وقول المؤلف رحمه الله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ
…
إلخ) هو يوسف ابن عبد البر.
وقد مضى ذكر الفرق بين بني الأعيان وبني العلَّات.
• قوله: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَخَوَاتِ لِلْأبِ وَالْأمِّ إِذَا اسْتَكْمَلْنَ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلإخَوَاتِ لِلأَبِ مَعَهُنَّ شَيْءٌ كَالْحَالِ فِي بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ بَنَاتِ الصُّلْبِ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَاحِدَةً فَلِلأخَوَاتِ لِلْأَبِ مَا كَانَ بَقِيَّةَ الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ السُّدُسُ)
(2)
.
(الأخوات للأب والأم) أي: الشقيقات، فإن كانت واحدة فلها النصف، وللأخت لأب تكملة الثلثين، وإن كنَّ اثنتين أو أكثر فلهن الثلثين، ولا شيء للأخت لأب لاستغراق الشقيقات الثلثين.
(كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب) فإن كانتا اثنتين فأكثر أخذن الثلثين ولا شيء لبنات الابن، وإن كانت واحدة فلها النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2739)، ولفظه عن علي بن أبي طالب قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: "أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات؛ يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه، دون إخوته لأبيه"". وحسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(6/ 239).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 99) قال: "وأجمع أهل العلم على أن لا ميراث [للأخوات] من الأب إذا استكمل الأخوات من الأب والأم الثلثين؛ إلا أن يكون معهم ذكر، فإن كان معهم ذكر كان الفاضل من الأخوات من الأب والأم للإخوة والأخوات من الأب للذكر مثل حظ الأنثيين؛ إلا في قول ابن مسعود".
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا كانَ مَعَ الْأَخَوَاتِ لِلأبِ ذَكرٌ؛ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُعَصِّبُهُنَّ وَيَقْتَسِمُونَ الْمَالَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثيَيْنِ كَالْحَالِ فِي بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ بَنَاتِ الصُّلْبِ).
اختلفوا فيما إذا وجد مع الأخت لأب أخ: فهل ينتقل من الفرض إلى التعصيب؟
فذهب الجمهور
(1)
إلى أنه يعصبهن فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين، ولذلك سمَّاه بعض أهل العلم ب: الأخ المبارك
(2)
؛ لأن وجوده خيرٌ على أخواته.
• قوله: (كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب) لأنهن إذا
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 245) وفيه قال: "وإذا استكمل البنات الثلثين سقطت بنات الابن؛ إلا أن يكون بإزائهن أو أسفل منهن ابن ابن فيعصبهن".
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح زروق على متن الرسالة"(2/ 1179) قال: "والإخوة لأب في عدم الشقائق كالشقائق ذكروهم وإناثهم، فإن كانت أخت شقيقة وأخت أو أخوات لأب فالنصف للشقيقة، ولمن بقي من الأخوات لأب السدس ولو كانتا شقيقتين لم يكن للأخوات لأب شيء؛ إلا أن يكون معهن ذكر فيأخذن ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين".
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (6/ 406، 407) قال: "ثم إن كان ولد الأب ذكرًا أو مع إناث أخذوا الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، أو أنثى أو أكثر فلها أو لهما مع شقيقة السدس تكملة الثلثين، ومع شقيقتين لا شيء لهما إلا إن كان معهما أخ يعصبهما، ويسمى الأخ المبارك لا ابن أخ كما قال (إلا أن بنات الابن يعصبهن من في درجتهن أو أسفل) ".
مذهب الحنابلة انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 513) قال: "وكذا أخوات لأب مع أخوات لأبوين فتسقط الأخت فأكثر لأب بأختين لأبوين إذا لم تعصب الأخت لأب؛ فإن عصبها أخوها فالباقي لهم للذكر مثل حظ الأنثيين (إلا أنه لا يعصبهن إلا أخوهن)؛ لأن ابن الأخ لا يعصب من في درجته من الإناث فمن هي أعلى منه أولى".
(2)
الذي لولاه لسقطت أخته. انظر: "حاشية الصاوي" للخلوتي (4/ 627)، "إعانة الطالبين" لأبي بكر (المشهور بالبكري)(3/ 270).
استغرقن الثلثين فلا شيء لبنت الابن؛ إلا أن يوجد معها ابن ابن في درجتها أو أنزل منها فيكون عاصبًا لها.
• قوله: (وَاشْتَرَطَ مَالِكٌ
(1)
أَنْ يَكُونَ فِي دَرَجَتِهِنَّ).
ولم يشترط مالك هذا الشرط في بنات الابن؛ بل يرى أن ابن الابن وإن نزل يعصب بنات الابن وإن كنَّ أعلى منه؛ لكنه رأى رحمه الله أن الأمر في مسألة الأخوات لأب أضعف فاشترط هذا الشرط، ولم يوافقه عليه غيره من الأئمة.
• قوله: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ
(2)
: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْأَخَوَاتُ الشَّقَائِقُ الثُّلُثَيْنِ فَالْبَاقِي لِلذُّكُورِ مِنَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(3)
، وَخَالَفَهُ دَاوُدُ
(4)
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ بَنَاتِ الصُّلْبِ وَبَنِي الْبَنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْنَ الثُّلُتَيْنِ، فَلِلذَّكَرِ عِنْدَهُ مِنْ بَنِي الْأَبِ مِثْلُ حَظِّ الْأنْثَيَيْنِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ لِلنسَاءِ أَكْثَرَ مِنَ السُّدُسِ
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (8/ 586) قال: "يحجب بنات الابن الواحد من ذكور ولد الصلب ويسقطن - أيضًا - مع الاثنين فصاعدًا من بنات الصلب؛ إلا أن يكون معهنَّ ذكر في درجتهن أو تحتهن، وكذلك الأخوات للأب يحجبهن الواحد من الأشقاء، ويسقطن - أيضًا - بشقيقتين إذا لم يكن معهنَّ ذكر".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (13/ 56، 57) قال: "وانفرد ابن مسعود بخمسة
…
وإذا استكمل الأخوات الشقائق الثلثين جعل الباقي للإخوة للأب دون أخواتهم".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 336، 337) قال: "وما أعلم أحدًا تابعه عليه ابن مسعود ولا قال بقوله إلا علقمة بن قيس وأبا ثور، وهو قوله في الأخوات للأب والأم يجتمعن في فريضة مع الإخوة والأخوات للأب أنهن إذا استكملن الثلثين فالباقي للأخوة للأب دون الأخوات للأب. وقال أبو ثور بقول ابن مسعود فيهما جميعًا".
(4)
ينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 336) قال: "وذهب داود بن علي إلى قول ابن مسعود في ولد الابن مع بنات الابن، وخالفه في الأختين الشقيقتين مع الإخوة والأخوات لأب، فقال في هذا بقول عليٍّ وزيد".
كَالْحَالِ فِي بِنْتِ الصُّلْبِ مَعَ بَنِي الِابْنِ. وَأَدِلَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِيَ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ بِأَعْيَانِهَا).
ووجه قول داود: أنَّ الأخت شريكة في الميراث بدليل أنها تأخذ السدس إذا انفردت فلا تمنع من الإرث في هذه الحالة.
• قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عِنْدَ فَقْدِهِمْ كالْحَالِ فِي بَنِي الْبَنِينَ مَعَ الْبَنِينَ)
(1)
.
فإذا مات ميتٌ ولم يكن له إخوة أشقاء انتقل الإرث إلى الإخوة لأب فيقومون مقامهم (كالحال في بني البنين مع البنين) فإن أبناء الابن لا يرثون مع وجود الابن، فإذا عدموا انتقل الإرث إليهم.
• قوله: (وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ عَصَّبَهُنَّ بِأَنْ يَبْدَأَ بِمَنْ لَهُ فَرْضٌ مُسَمًّى، ثُمَّ يَرِثُونَ الْبَاقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَالْحَالِ فِي الْبَنِينَ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ وَهِيَ الْفَرِيضَةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَهِيَ امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتَهَا لِأُمِّهَا وَإِخْوَتَهَا لِأَبِيهَا وَأُمَّهَا، فَكَانَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
(2)
يُعْطُونَ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْإِخْوَةِ لِلأُمِّ الثّلُثَ، فَيَسْتَغْرِقُونَ الْمَالَ فَيَبْقَى الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِلَا شَيْءٍ، فَكَانُوا يُشْرِكُونَ الْإِخْوَةَ لِلأَبِ وَالْأُمِّ
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 406) قال: "وأجمع أهل العلم على أنَّ الإخوة والأخوات من الأب يقومون مقام الإخوة والأخوات من الأب والأم، ذكورهم كذكورهم هاناثهم كإناثهم، إذا لم يكن للميت إخوة ولا أخوات لأب وأم".
(2)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (9/ 73) قال: "وإن ماتت امرأة وخلفت زوجًا، وأمَّا، واثنين من ولد الأم، وأخا وأختًا لأب وأم .. كان للأم السدس - وهو سهم - من ستة، وللزوج النصف - ثلاثة - وللأخوين للأم الثلث - سهمان - ويشاركهما في هذين السهمين الأخ والأخت للأب والأم، يقتسمونه بينهم، الذكر والأنثى فيه سواء. وتصح من اثني عشر: للأم سهمان، وللزوج ستة، ولكل واحد من الإخوة والأخوات سهم، وبه قال عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت".
فِي الثُّلُثِ مَعَ الْإِخْوَةِ لِلأمِّ يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَبِالتَّشْرِيكِ قَالَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
وَالثَّوْرِيُّ
(3)
، وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مُوسَى الَأشْعَرِيُّ
(4)
لَا يُشْرِكُونَ إِخْوَةَ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي الثُّلُثِ مَعَ إِخْوَةِ الْأُمِّ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ، وَلَا يُوجِبُونَ لَهُمْ شَيْئًا فِيهَا، وَقَالَ بِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 466) قال: "ولما كان للإخوة رتبتان أبدل منهم لبيان التفصيل. قوله: (الشقيق ثم الأب) عند عدم الشقيق فقوله: (وهو كالشقيق عند عدمه) مستغنى عنه لكنه ذكره ليرتب عليه قوله (إلا) في (الحمارية) نسبة للحمار (والمشتركة) عطف مرادف
…
وسميت مشتركة لمشاركة الشقيق فيها الإخوة للأم؛ أي فليس الأخ للأب في الحمارية كالشقيق عند عدمه بل يسقط؛ لأنه عاصب، والشقيق فيها ورث بالفرض تبعًا للإخوة لأمه، وأركانها أربعة أشار لها بقوله:(زوج وأم أو جدة) بدلها (وأخوان) فصاعدًا (لأم) ليكون لهما الثلث، فلو انفرد الأخ للأم لأخذ السدس والباقي للعاصب".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 27) قال: " (الإخوة والأخوات لأبوين إن انفردوا) عن الإخوة والأخوات للأب (ورثوا كأولاد الصلب) فللذكر الواحد فأكثر كل المال، وللأنثى النصف وللثنتين فصاعدًا الثلثان، وعند اجتماع الصنفين للذكر مثل حظ الأنثيين (وكذا إن كانوا) أي: الإخوة والأخوات (لأب) وانفردوا عن الإخوة والأخوات للأبوين ورثوا كأولاد الصلب (إلا) أي لكن (في المشركة) - بفتح الراء المشددة بخطه - أي: المشرك فيها بين الشقيق وولدي الأم، وقيل: بكسرها بمعنى فاعلة التشريك (وهي زوج وأم) أو جدة (وولدا أم) فصاعدًا (وأخ لأبوين) فأكثر، (فيشارك الأخ) الشقيق ولو كان معه من يساويه من الإخوة والأخوات (ولدي الأم في الثلث) بأخوة الأم لاشتراكهم في القرابة التي ورثوا بها الفرض، فأشبه ما لو كان أولاد الأم بعضهم ابن عم فإنه يشارك بقرابة الأم وإن سقطت عصوبته".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 155) قال: "فمذهب الشافعي أنَّ ولد الأب والأم يشاركون ولد الأم في ثلثهم ويقتسمونه بالسوية بين ذكورهم وإناثهم، وبه قال من الفقهاء
…
والثوري".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 155) قال: "ولد الأم يختصون بالثلث، ولا يشاركهم فيه ولد الأب والأم، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وأُبي بن كعب وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم".
(5)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 127) قال: "المشركة =
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(1)
، وَأَحْمَدُ
(2)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(3)
، وَدَاوُدُ
(4)
وَجَمَاعَة
(5)
. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلأَبِ وَالْأُمِّ يُشَارِكُونَ الْإِخْوَةَ لِلأمِّ فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يَسْتَوْجِبُونَ الْإِرْثَ، وَهِيَ الْأُمُّ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْفَرِدُوا بِهِ دُونَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يُوَرَّثُونَ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي الْمِيرَاثِ. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ الْإِخْوَةَ الشَّقَائِقَ عَصَبَةٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ إِذَا أَحَاطَتْ فَرَائِضُ ذَوِي السِّهَامِ بِالْمِيرَاثِ).
(إذا كان معهنَّ ذكر عصبهن) فانتقلن من الفرض إلى التعصيب؛ لقوله الله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
= زوج وأم واثنان من ولد الأم وإخوة وأخوات من الأبوين، للزوج النصف، وللأم السدس، ولأولاد الأم الثلث ويسقط الباقون، وكذا لو كان مكان الأم جدة، هذا قول أبي بكر وعُمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم وهو مذهب أصحابنا".
(1)
"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 155، 156) قال: "ولد الأم يختصون بالثلث ولا يشاركهم فيه ولد الأب والأم، وبه قال
…
ومن الفقهاء ابن أبي ليلى وأبو يوسف
…
وأبو ثور وداود".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 518) قال: " (فإن لم يبق) للعصبة (شيء سقط) لمفهوم الخبر (كزوج وأم وإخوة لأم) اثنين فأكثر، ذكورًا وإناثًا، أو ذكرًا وأنثى فأكثر، (وإخوة لأب أو لأبوين) ذكر فأكثر، (أو أخوات) واحدة فأكثر (لأب أو لأبوين معهن أخوهن) فالمسألة من ستة (للزوج نصف) ثلاثة (وللأم سدس) واحد (وللإخوة من الأم الثلث) اثنان (وسقط سائرهم) أي: باقيهم لاستغراق الفروض التركة، (وتسمى) هذه المسألة (مع ولد الأبوين) الذكر فأكثر، أو الذكر مع الإناث (المشركة والحمارية)؛ لأنه روي: أن عمر أسقط ولد الأبوين فقال بعضهم - أي: بعض الصحابة -: يا أمير المؤمنين، هب أن أبانا حمارًا؛ أليس أمنا واحدة؟ فشرك بينهم".
(3)
"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 155، 156) قال: "ولد الأم يختصون بالثلث، ولا يشاركهم فيه ولد الأب والأم، وبه قال
…
ومن الفقهاء ابن أبي ليلى
…
".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 155، 156) قال: "ولد الأم يختصون بالثلث ولا يشاركهم فيه ولد الأب والأم، وبه قال
…
ومن الفقهاء
…
وأبو ثور وداود".
(5)
من الصحابة: علي بن أبي طالب وأُبي بن كعب وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، ومن التابعين: الشعبي، ومن الفقهاء: أبو يوسف ومحمد. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 155، 156).
فلو هلك هالك عن أخ لأب وأختين لأب، تكون المسألة من أربعة؛ للأخ اثنان - أي: النصف - ولكل واحدة من الأختين واحدًا - أي: الربع.
ولو هلك هالك وترك إخوة لأب وصاحب فرض كالأم مثلًا؛ فلصاحب الفرض فرضه، وللإخوة الباقي تعصيبًا للذكر مثل حظ الأنثيين.
"المسألة المشركة"
(1)
: وصورتها: امرأة توفيت عن زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء؛ فللزوج النصف، وللأم السدس لوجود الإخوة، ويبقى الثلث للإخوة لأنهم يرثون فرضًا، ولا شيء للإخوة الأشقاء، وقد وقعت إحدى صور تلك المسألة في زمن عمر رضي الله عنه وقضى بحجب الإخوة الأشقاء فقالوا: هبْ أن أبانا حجرًا في اليم، ولذا سُميت أيضًا بالمسألة الحجرية.
وقد اختلف العلماءُ في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول: التشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم، وبه قال مالك
(2)
والشافعي
(3)
.
القول الثاني: عدم التشريك بينهما، وبه قال أبو حنيفة
(4)
وأحمد
(5)
وجماعة؛ لأن هذا مقتضى النص.
(1)
وهي التي يستوي فيها المقتسمون، وهي: زوج، وأم، وأخوان لأم، وأخوان لأب وأم؛ للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوين للأم الثلث، ويشركهم بنو الأب والأم؛ لأن الأب لما سقط سقط حكمه، وكان كان لم يكن، وصاروا بني أم معًا،
…
وحكم فيها عمر رضي الله عنه فجعل الثلث للأخوين لأم، ولم يجعل للإخوة للأب والأم شيئًا، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هب أن أبانا كان حمارًا، فأشركنا بقرابة أمنا! فأشرك بينهم؛ فسُميت الفريضة مشركة
…
وأيضًا حجرية لأنه روي أنهم قالوا: هب أن أبانا كان حجرًا ملقى في اليم. وبعضهم سماها يمية لذلك. وسُميت أيضا عُمرية لقضاء عمر رضي الله عنه فيها. انظر: "تاج العروس" للزَّبيدي (27/ 227).
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
تقدم.
• قوله: (وَعُمْدَتُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخًا وَاحِدًا لِأُمٍّ وَإِخْوَةً شَقَائِقَ عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ يَسْتَحِقُّ هَاهُنَا السُّدُسَ كَامِلًا، وَالسُّدُسُ الْبَاقِي بَيْنَ الْبَاقِينَ مَعَ أَنَّهُمْ مُشَارِكون لَهُ فِي الْأُمِّ).
أي: أنهم متفقون على هذه المسألة: من ترك زوجًا وأمًّا وأخًا واحدًا لأم وإخوة أشقاء عشرة أو أكثر أن الأخ لأم يستحق هاهنا السدس كاملًا، والسدس الباقي بين الباقين مع أنهم جميعًا لأم، وأنتم - أيها المخالفون - لا تخالفون في هذه المسألة؛ فلماذا خالفتم هناك؟!
• قوله: (فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ هُوَ تَعَارُضُ الْمَقَايِيسِ وَاشْتِرَاكُ الْأَلْفَاظِ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ).
أكثر مسائل الفرائض مجمع عليها وما اختلف فيه منها فمرجعه إلى المقاييس التي اجتهد فيها العلماء - كما في هذه المسألة - كلهم ينتسبون إلى هذه الأم، فلماذا يفضل هؤلاء على أولئك؟
الجواب: أنهم أصحاب فرض بنصِّ القرآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألحقوا الفرائضَ بأهلها"
(1)
، وأصحاب الفروض
(2)
مقدمون على العصبات
(3)
، فيقدمون على الإخوة الأشقاء.
(1)
أخرجه البخاري (6732)، ومسلم (1615) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر".
(2)
أصحاب الفروض: هم الذين لهم سهام مقدرة في الكتاب أو السُّنة أو الإجماع. انظر: "التعريفات" للجرجاني (ص 28)، و"شرح السراجية" للجرجاني (ص 29).
(3)
العصبات: جمع عاصب، وعصبة الرجل: بنوه وقرابته لأبيه، وإنَّما سمُّوا عصبةً؛ لأنَّهم عَصَبوا به؛ أي: أحاطوا به؛ فالأب طرف والابن طرف، والعم جانب والأخ جانب.
والعصبة: هم كل من لم يكن له سهم مقدر من المجمع على توريثهم، فيرث المال إن لم يكن معه ذو فرض، أو ما فضل بعد الفروض. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 182)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 605)، و"نهاية المحتاج"(6/ 23)، و"شرح السراجية" للجرجاني (70).
[مِيرَاثُ الْجَدِّ]
قال الشعبي رحمه الله: "أول جَد ورث في الإسلام عمر بن الخطاب"
(1)
.
وروى الدارقطنيُّ في "سُننه"
(2)
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ يَوْمًا فَأَذِنَ لَهُ وَرَأسُهُ فِي يَدِ جَارِيةٍ لَهُ ترجلُهُ فَنَزَعَ رَأسَهُ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: دَعْهَا تُرَجِّلُكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ جِئْتُكَ. فَقَال عُمَرُ: إِنَّمَا الْحَاجَةُ لِي إِنِّي جِئْتُكَ لَنَنْظُرَ فِي أَمْرِ الْجَدِّ. فَقَالَ زَيْدٌ: لَا وَاللهِ مَا تَقُول فِيهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هُوَ بِوَحْي حَتَّى نَزِيدَ فِيهِ وَنُنْقِصَ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ تَرَاهُ؛ فَإِنْ رَأَيْتَهُ وَافَقْتَنِي تَبِعْتُهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ فِيهِ شَيْءٌ، فَأَبَى زَيْدٌ، فَخَرَجَ مُغْضَبًا، وَقَالَ: قَدْ جِئْتُكَ وَأَنَا أَظُنُّكَ سَتَفْرُغُ مِنْ حَاجَتِي. ثُمَّ أَتَاهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي السَّاعَةِ الَّتِي أَتَاهُ الْمَرَّةَ الْأُولَى فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ: فَسَأَكْتُبُ لَكَ فِيهِ. فَكَتَبَهُ فِي قِطْعَةِ قَتَبٍ وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا: "إِنَّمَا مَثَلُهُ مِثْلُ شَجَرَةٍ تُنْبِتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ فَخَرَجَ فِيهَا غُصْنٌ ثُمَّ خَرَجَ فِي غُصْنٍ غُصْنٌ آخَرُ، فَالسَّاقُ يَسْقِي الْغُصْنَ، فَإِنْ قَطَعْتَ الْغُصْنَ الْأَوَّلَ رَجَعَ الْمَاءُ إِلَى الْغُصْنِ، وَإِنْ قَطَعْتَ الثَّانِي رَجَعَ الْمَاءُ إِلَى الْأَوَّلِ"، فَأُتِيَ بِهِ فَخَطَبَ النَّاسَ عُمَرُ ثُمَّ قَرَأَ قِطْعَةَ الْقَتَبِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَدْ قَال فِي الْجَدِّ قَوْلًا وَقَدْ أَمْضَيْتُهُ، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ أَوَّلَ جَدٍّ كَانَ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ كلَّهُ مَالَ ابْنِ ابْنِهِ دُونَ إِخْوَتِهِ، فَقَسَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه".
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(10/ 261) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 261)، (7/ 251).
(2)
أخرجه الدارقطني (5/ 164)، وعنه البيهقي في "الكبرى"(6/ 404).
• قوله: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَبَ يَحْجُبُ الْجَدَّ)
(1)
.
حالات ميراث الجد:
أولًا: يحجب حجب حرمان بالأب، وهذا بإجماع، فمن أدلى
(2)
إلى الميت بواسطة يحجب بتلك الواسطة. فيحجب الجد بالأب، كما يحجب ابن الابن بالابن.
• قوله: (وَأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الَأبِ مَعَ الْبَنِينَ، وَأَنَّهُ عَاصِبٌ مَعَ ذَوِي الْفَرَائِضِ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الْأبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ الشَّقَائِقِ، أَوْ حَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ؟ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنهما وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَحْجُبُهُمْ
(3)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ
(5)
، وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدُ
(6)
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 99) قال: "وأجمع أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجد أب الأب لا يحجبه عن الميراث غير الأب، وأنزلوا الجد منزلة الأب في الحجب والميراث".
(2)
"أدلى الدلو": أرسلها في البئر؛ ليستقي بها، وأدلى بالحجة: أحضرها، وأدلى إلى الميت بالبنوة: وصل بها. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص 167)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 199).
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (433) قال: "وأنزلوا الجد منزلة الأب في الحجب والميراث
…
فكان أبو بكر الصديق يجعل الجد أبًا، وقال مثل قوله عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وروي ذلك عن عثمان بن عفان".
(4)
يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 565) قال: "فإن كان له جد أب الأب فالجد عند أبي حنيفة يحجب الأخوات كلها كالأب".
(5)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 240) قال: "والجد لا يرث مع الأب، فإن لم يكن أب فالجد بمنزلة الأب إن لم يكن الميت ترك أحدًا من ولد أبيه الأدنين أو أحدًا من أمهات أبيه، وإن عالت الفريضة إلا في فريضتين زوج وأبوين أو امرأة وأبوين، فإنه إذا كان فيهما مكان الأب جد صار للأم الثلث كاملًا".
(6)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 122) قال: "فاختلف الصحابة ومن بعدهم في =
وَجَمَاعَةٌ
(1)
. وَاتَّفَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
(2)
رضي الله عنه وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
(3)
، وَابْنُ مَسْعُودٍ
(4)
عَلَى تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجِدِّ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا قِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ عَلَى مَا أَقُولُهُ بَعْدُ).
ثانيًا: أنه يقوم مقام الأب عند عدم الأب، إلا في مسألة واحدة، وهي ميراث الجد مع الإخوة فحصل فيها خلاف بين أهل العلم: فهل
= سقوط الإخوة والأخوات بالجد
…
وقال به من الفقهاء ..... وأبو ثور
…
وابن سريج وداود".
(1)
من التابعين: عطاء وطاوس والحسن
…
ومن الفقهاء: إسحاق بن راهويه. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 122).
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 437) قال. "المعروف عند أهل العلم بالفرائض من قول عليٍّ أنه كان يقاسم بالجد الإخوة للأب والأم، إذا كانوا ذكورًا، أو ذكورًا وإناثًا إلى السدس، ولا ينقصه من السدس، فإن اجتمع إخوة لأب وأم ذكورًا أو ذكورًا وإناثًا، وإخوة لأب، وجد، قاسم بالجد الإخوة للأب والأم، ولم يدخل الإخوة للأب في المقاسمة، ولم يعتد بهِم، فإن لم يكن للميت إخوة لأب وأم، وكان له إخوة لأب ذكورًا أو ذكورًا وإناثًا، أقامهم مقام الإخوة للأب والأم مع الجد، فإن لم يترك الميت إخوة لأب وأم، وترك أخوات لا ذكر معهن أعطاهن فرائضهن [ولم يقاسم] بهن الجد، وجعل ما فضل عنهنَّ للجد".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 440، 441) قال: "وأما التفسير فتفسير أبي الزناد على معاني زيد قال: وميراث الجد أبي الأب أنه لا يرث مع الأب دنيا شيئًا وهو مع الولد (الذكور)، ومع ابن الابن يفرض له السدس، وفيما سوى ذلك ما لم يترك المتوفى أخًا أو أختًا من أبيه يخلف الجد، ويبدأ بأحد إن شركه من أهل الفرائض فيعطى فريضته، وإن فضل من المال السدس فأكثر منه كان للجد، وإن لم يفضل السدس فأكثر منه فرض للجد السدس فريضة".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 439) قال: "المعروف عند أهل العلم بالفرائض أن عبد الله بن مسعود كان يقاسم بالجد الإخوة للأب والأم، ذكورًا كانوا أم ذكورًا وإناثًا إلى الثلث، وكان لا يدخل الإخوة من الأب مع الإخوة للأب والأم في المقاسمة، ولا يعتد بهم
…
، وكان يعطي الأخوات إذا لم يكن معهنَّ ذكر فرائضهن ولا يقاسم بهن الجد، وكان لا يورث الإخوة من الأب ذكورًا كانوا أو ذكورًا وإناثًا مع الأخت أو الأخوات لأب والأم والجد شيئًا يجعل الفاضل بعد نصيب الأخت والأخوات للجد".
يحجبهم حجب حرمان كالأب، أم أنهم يرثون معه؟ ومن قال بتوريثه اختلفوا في كيفية التوريث كما سيأتي في كلام المؤلف.
• قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ جَعَلَ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْمَعْنَى؛ أَعْنِي مِنْ قِبَلِ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَبٌ لِلْمَيِّتِ وَمِنِ اتِّفَاقِهِمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى اتِّفَاقِهِمَا فِيهَا حَتَّى إِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: أَمَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأبِ أَبًا
(1)
).
• (اتفاقهما في المعنى) أي: إذا أطلق كلمة (أب) فإنها تنصرف إلى الأب وكذلك إلى الجد، فيدخل الجد تحت مسمى الأب من حيث المعنى، كما يدخل ابن الابن تحت مسمى الابن أيضًا.
ولهذا أخذ ابن عباس على زيد بن ثابت رضي الله عنهما أنه يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل الجد أبًا مع أن هذا يأتي في الدرجة الثانية بالنسبة للبنوة، وهذا أيضًا في الدرجة الثانية بالنسبة للأبوة.
• قوله: (وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي أَحْكَامٍ أُخْرَى سِوَى الْفُرُوضِ مِنْهَا أَنَّ شَهَادَتَهُ لِحَفِيدِهِ كَشَهَادَةِ الْأَبِ، وَأَنَّ الْجَدَّ يَعْتِقُ عَلَى حَفِيدِهِ كلمَا يَعْتِقُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَصرُّ لَهُ مِنْ جَدٍّ كَمَا لَا يُقْتَصُّ لَهُ مِنْ أَبٍ)
(2)
.
(1)
أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 970) عن ابن عباس بدون إسناد قال: "قال ابن عباس: ليتق الله زيد، أيجعل ولد الولد بمنزلة الولد، ولا يجعل أبا الأب بمنزلة الأب؟! إن شاء باهلته عند الحجر الأسود".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 100) قال: "وأجمعوا أن الجد كالأب في الشهادة لابن ابنه. وأجمعوا أنه كالأب فيما يعتق عليه، وأنه لا يقتص له من جده وأن له السدس مع الولد الذكر، وأنه عاصب وذو فرض، وليس ذلك لأحد غيره وغير الأب".
فهناك أحكام يلتقي فيها الجد مع الأب؛ منها:
أولًا: أن شهادته لحفيده كشهادة الأب لأنه متهم فيها؛ إذن هو بمنزلة الأب.
ثانيًا: أنه يعتق على حفيده لو اشتراه كما يعتق الأب.
ثالثًا: أنه لا يُقتل بحفيده كالأب.
فهذه ثلاثة أحكام ذكرها المؤلف، ونضيف عليها:
رابعًا: أنه لا يُحد إذا سرق من ماله
(1)
.
(1)
ذهب الجمهور - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى عدم قطع يد الجد إذا سرق من مال ولد الولد، وإن سفل درءًا للشبهة. ويرى المالكية أن الجد تقطع يده إذا سرق من مال حفيده.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 75) قال: "ولا قطع على من سرق من ذي رحم محرم عندنا، سواء كان بينهما أولاد، أو لا،
…
لأن كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه بغير إذن عادة، وذلك دلالة الإذن من صاحبه فاختل معنى الحرز، ولأن القطع بسبب السرقة فعل يفضي إلى قطع الرحم. وذلك حرام، والمفضي إلى الحرام حرام".
مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (8/ 96) قال: " (ص): تام الملك لا شبهة له فيه، وإن من بيت المال، أو الغنيمة، أو مال شركة إن حجب عنه وسرق فوق حقه نصابًا لا الجد ولو لأم، ولا من جاحد، أو مماطل لحقه. (ش): يعني أن من شروط القطع في المال المسروق أن يسرق ممن ملكه تام لا ملك للسارق فيه، ولا شبهة له فيه قوية، يحترز بالشرط الأول عن الشريك إذا سرق من مال الشركة الذي لم يحجب عنه، فإنه لا قطع عليه كما يأتي، وبالثاني عن الأب والأم إذا سرقا من مال ولدهما، فإنه لا قطع عليهما، ومثلهما الجد، ولو لأم إذا سرق من مال ابن ابنه، أو ابن ابنته؛ لقوة الشبهة لقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك". وانظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1427).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج في شرح المنهاج" للدميري (9/ 158) قال: " (فلا قطع بسرقة مال أصل وفرع)؛ لشبهة الحق في المال، وفي حديث الحسن: "أنت ومالك لأبيك" والأجداد والجدات من كل جهة كالأب والأم، سواء اتفق دينهما أو اختلف". =
خامسًا: أنه لا يُحد حد القذف إذا قذفه
(1)
.
سادسًا: أنه تجب على حفيده النفقة عليه كما تجب عليه نحو أبيه
(2)
.
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 141) قال: " (ويترط للقطع) في السرقة (انتفاء الشبهة) لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم"، (فلا يقطع بسرقة مال ولده وإن سفل) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، (وسواء في ذلك الأب والأم والابن والبنت والجد والجدة من قبل الأم والأب) لأن بينهم قرابة تمنع شهادة أحدهم للآخر، فلم يقطع بالسرقة منه كالأب بسرقة مال ابنه".
(1)
اختلف الفقهاء في وجوب الحد على الجد إذا قذف حفيده:
فقد ذهب الحنفية والشافعبة والحنابلة إلى عدم وجوب الحد عليه بقذف حفيده وإن سفل؛ لأنَّ الأبوة معنى يسقط القصاص فمنعت الحد.
أمَّا المالكية فقالوا لإقامة الحد لعموم الأدلة.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 42) قال: "وأما الذي يرجع إليهما جميعًا فواحد، وهو أن لا يكون القاذف أب المقذوف ولا جده وإن علا، ولا أمه ولا جدته وإن علت، فإن كان - لا حد عليه؛ لقول الله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، والنهي عن التأفيف نصًّا، نهي عن الضرب دلالة؛ ولهذا لا يقتل به قصاصًا؟ ولقوله تبارك وتعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، والمطالب بالقذف ليس من الإحسان في شيء، فكان منفيًّا بالنص؛ ولأن توقير الأب واحترامه واجب شرعًا وعقلًا، والمطالبة بالقذف للجد ترك التعظيم والاحترام فكان حرامًا".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على شرح مختصر خليل" للخرشي (8/ 90) قوله: " (وله حد أبيه) أراد به ما يشمل الأم وهل أراد الأب دنية فغيره بالأولى أو الجنس فيتناول الأبوين والجد لأب أو أم؟ كل صحيح".
مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنووي (10/ 106) قال: "ولا يحد الأب والجد بقذف الولد وولد الولد".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 307) قال: "ولأنه لا يقتل بقتل ابن ابنه، ولا يحد بقذفه، ولا يقطع بسرقة ماله
…
كالأب سواء، فدل ذلك على قوته".
(2)
ذهب جمهور الفقهاء - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى أن نفقة الجد واجبة على حفيده أو حفيدته بشروطها، سواء أكان هذا الجد من جهة الأب أو من جهة الأم، وسواء أكان وارثًا أم غير وارث، ولو اختلف دينهما.
أمَّا المالكية فيرون عدم وجوب نفقة الحفيد على الجد.
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 174) قال: "وعلى الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وجداته إذا كانوا فقراء، وإن خالفوه في دينه، ولا تجب النفقة =
سابعًا: أنه لا يجوز أن يعطيه من زكاته
(1)
.
= مع اختلاف الدين إلا للزوجة والأبوين والأجداد والجدات والولد وولد الولد، ولا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد".
مذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 629) قال: "ولا يلزم الإنفاق على جد ولا على جدة من قبل الأب ولا من قبل الأم". وانظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 148).
مذهب الشافعية: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 183) قال: " (يلزمه) أي: الشخص، ذكرًا كان أو غيره (نفقة الوالد) الحر (وإن علا) من ذكر أو أنثى، (والولد) الحر (وإن سفل) من ذكر أو أنثى. والأصل في الأول قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، ومن المعروف القيام بكفايتهما عند حاجتهما، وخبر: "أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه، فكلوا من أموالهم" رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه". قال ابن المنذر:"وأجمعوا على أن نفقة الوالدين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد، والأجداد والجدات ملحقون بهما إن لم يدخلوا في عموم ذلك كما ألحقوا بهما في العتق والملك وعدم القود ورد الشهادة وغيرهما".
مذهب الحنابلة: "الشرح الكبير على متن المقنع" لابن قدامة (9/ 276) قال: " (مسألة) (ويلزمه نفقة سائر آبائه وإن علوا وأولاده وإن سفلوا) وبذلك قال الشافعي والثوري وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا تجب النفقة عليهم ولا لهم؛ لأنَّ الجد ليس باب حقيقي".
(1)
ذهب جمهور الفقهاء - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى أنه لا يجوز للحفيد أن يدفع زكاته إلى جده وإن علا. كما لا يجوز للجد أن يدفع زكاته لولد ولده وإن سفل؛ لأن كلًّا منهما ينتفع بمال الآخر. أما المالكية فيرون أنه يجوز لكل منهما أد يدفع زكاته للآخر ما لم يكن ألزم نفسه بنفقته.
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 49) قال: "ومنها أن لا تكون منافع الأملاك متصلة بين المؤدي وبين المؤدى إليه؛ لأن ذلك يمنع وقوع الأداء تمليكًا من الفقير من كل وجه؛ بل يكون صرفًا إلى نفسه من وجه، وعلى هذا يخرج الدفع إلى الوالدين وإن علوا والمولودين وإن سفلوا؛ لأن أحدهما ينتفع بمال الآخر".
مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 343) قال: "قال ابن الحاجب: ويشترط فيهما - أي الفقير والمسكين - الإسلام والحرية اتفاقًا، وأن لا يكون ممن تلزم نفقته مليًّا، وكذلك إن كانت لا تلزم ولكنه في نفقته وكسوته،
…
فإن انقطعت النفقة أو الكسوة عن أحد الشخصين فإنه يجوز أن يدفع له من الزكاة ما يقدر عليه من النفقة والكسوة، انتهى". =
• قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ وَرَّثَ الْأَخَ مَعَ الْجَدِّ أَنَّ الْأَخَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنَ الْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ أَبُو أَبِي الْمَيِّتِ، وَالْأَخَ ابْنُ أَبِي الْمَيِّتِ، وَالِابْنُ أَقْرَبُ مِنَ الْأَبِ).
هكذا ذكر المؤلف، لكن عمدة من ورثهم أن الله سبحانه قد ورَّثهم؛ قال تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ،
= تنبيهات:
الأول:
…
وفي البرزلي عن السيوري: "من له ولد غني وأبى مَن طلب نفقته منه يعطى من الزكاة البرزلي؛ لأنها لا تجب إلا بالحكم فكأنه لم يكن له ولد، فلو كان الأمر على العكس ففيه نظر على مذهب ابن القاسم وأشهب، انتهى". وفي "المدونة" قال ابن القاسم: "وإذا كان رجل فقير وله أب غني لا يناله رفقه، فلا بأس أن يعطى من الزكاة، فإن كان يناله رفقه فغيره ممن لا يناله رفق أحد أولى أن يؤثر، انتهى".
مذهب الشافعية ينظر: "روضة الطالبين" للنووي (2/ 309، 310) قال: "فرع: المكفي بنفقة أبيه أو غيره ممن تلزمه نفقته، والفقيرة التي ينفق عليها زوج غني، هل يعطيان من سهم الفقراء؟
…
فيه أربعة أوجه.
…
وأما مسألة الزكاة، فإن قلنا: لا حق لهما في الوقف والوصية، فالزكاة أولى، وإلا فيعطيان على الأصح. وقيل: لا يعطيان، وبه قال ابن الحداد. والفرق أن الاستحقاق في الوقف باسم الفقر، ولا يزول اسم الفقر بقيام غيره بأمره. وفي الزكاة الحاجة، ولا حاجة مع توجه النفقة، فأشبه من يكسب كل يوم كفايته، حيث لا يجوز له الأخذ من الزكاة، وإن كان معدودًا في الفقراء. والخلاف في مسألة القريب إذا أعطاه غير من تلزمه نفقته من سهم الفقراء أو المساكين، ويجوز أن يعطيه من غيرهما بلا خلاف".
مذهب الحنابلة ينظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 482) قال: "مسألة: قال: (ولا يعطى من الصدقة المفروضة للوالدين، وإن علوا ولا للولد، وإن سفل) .... ولأن دفع زكاته إليهم تغنيهم عن نفقته، وتسقطها عنه، ويعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه، فلم تجز، كما لو قضى بها دينه، وقول الخرقي "للوالدين" يعني الأب والأم. وقوله: "وإن علوا" يعني آباءهما وأمهاتهما، وإن ارتفعت درجتهم من الدافع، كأبوي الأب، وأبوي الأم، وأبوي كل واحد منهم، وإن علت درجتهم، من يرث منهم ومن لا يرث
…
نص أحمد فقال: لا يعطي الوالدين من الزكاة، ولا الولد ولا ولد الولد، ولا الجد ولا الجدة".
وقال في حق الأختين: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} ، إذن الأصل أن ميراثهم ثابت بنص القرآن، وليس ثم دليل على أنهم لا يرثون مع الجد.
• قوله: (وَأَيْضًا فَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ ابْنَ الْأَخِ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَمِّ، وَهُوَ يُدْلِي بِالْأَبِ، وَالْعَمُّ يُدْلِي بِالْجَدِّ)
(1)
.
وتلك هي الحجة الثانية التي أوردها المؤلف لهذا القوله، وواضح أن المؤلف إنما نظر إلى الفروع لا إلى الأصول في هذه المسألة.
• قوله: (فسَبَبُ الْخِلَافِ تَعَارُضُ الْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ الْقِيَاسَيْنِ أَرْجَحُ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ؟ قُلْنَا: قِيَاسُ مَنْ سَاوَى بَيْنَ. الْأَبِ وَالْجَدِّ، فَإِنَّ الْجَدَّ أَبٌ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ، كَمَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ ابْنٌ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ، وَإِذَا لَمْ يَحْجُبِ الِابْنُ الْجَدَّ وَهُوَ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ، فَالْجَدُّ يَجِبُ أَنْ يَحْجُبَ مَنْ يَحْجُبُ الِابْنُ، وَالْأَخُ لَيْسَ بِأَصْلٍ لِلْمَيِّتِ وَلَا فَرْعٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْأَصْلِ، والأصل أحق بالشيء من المشارك له في الأصل، وَالْجَدُّ لَيْسَ هُوَ أَصْلًا لِلْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ بَلْ هُوَ أَصْلُ أَصْلِهِ، وَالْأَخُ يَرِثُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلِ الْمَيِّتِ، فَالَّذِي هُوَ أَصْلٌ لِأَصْلِهِ أَوْلَى مِنَ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ لِأَصلِهِ).
إذًا سبب الخلاف - كما ذكر المؤلف - المقايسة الواردة في ذلك؛ وهي القياس على الأب ثم القياس على الابن، وأيهما أقوى؟
وذهب المؤلف رحمه الله إلى أن قياس من ساوى بين الأب والجد أقوى، فينزل الجد منزلة الأب لوجهين:
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 343) قال: "وقد أجمعوا أن ابن الأخ يقدم على العم، وهو يدلي بالأخ، والعم يدلي بالجد؛ فدلَّ هذا كله على أن الجد ليس بأولى من الأخ".
الأول: أن الابن مع قوته لا يحجب الجد؛ لأنه في مقام الأب، ويحجب الإخوة؛ فوجب أن يحجب الجد من كان يحجبهم الأب وهم الإخوة.
الثاني: أن الأخ ليس أصلًا للميت ولا فرعًا له؛ إنما هو من حواشيه ومشارك له في الأصل، والجد أصل أصل الميت، فهو الأحق من المشارك له في الأصل.
• قوله: (وَلِذَلِكَ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَخَ يُدْلِي بِالْبُنُوَّةِ، وَالْجَدَّ يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ، فَإِنَّ الْأَخَ لَيْسَ ابْنًا لِلْمَيِّتِ وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ أَبِيهِ، وَالْجَدُّ أَبُو الْمَيّتِ، وَالْبُنُوَّةُ إِنَّمَا هِيَ أَقْوَى فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْأُبُوَّةِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ أَعْنِي: الْمَوْرُوثَ. وَأَمَّا الْبُنُوَّةُ الَّتِي تَكُونُ لِأَبٍ مَوْرُوثٍ، فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ الْمَوْرُوثِ أَقْوَى مِنَ الْأُبُوَّةِ الَّتِي تَكُونُ لِأَبِ الْمَوْرُوثِ؛ لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ الَّتِي لِأَبِ الْمَوْرُوثِ هِيَ أُبُوَّةُ مَا لِلْمَوْرُوثِ أَعْنِي بَعِيدَةً، وَلَيْسَ الْبُنُوَّةُ الَّتِي لِأَبِ الْمَوْرُوثِ بُنُوَّةَ مَا لِلْمَوْرُوثِ لَا قَرِيبَةً وَلَا بَعِيدَةً، فَمَنْ قَالَ: الْأَخُ أَحَقُّ مِنَ الْجَدِّ؛ لِأَنْ يُدْلِي بالشيء الذي من قبله كان الميراث بالبنوة وهو الأب والجد يدلي بِالْأُبُوَّةِ هُوَ قَوْلٌ غَالِطٌ مُخَيَّلٌ لِأنَّ الْجَدَّ أَبٌ مَا، وَلَيْسَ الْأَخُ ابْنًا مَا).
ضعَّف المؤلف رحمه الله في هذه المناقشة القول الأول وهو توريث الإخوة مع الجد، ولا يلزم من هذا ميله إلى هذا القول، ولكنه الإنصاف في المناقشة وعرض الأقوال.
وسبق أن أقوى ما استدل به القائلون بتوريث الإخوة مع الجد أن الكتاب العزيز نصَّ على توريثهم ولم يرد ما يدل على أنهم لا يرثون.
• قوله: (لأن الجد أب ما، وليس الأخ ابنًا ما).
أي: أنه يصح أن يقال عن الجد أب، كما قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}، بخلاف الأخ فإنه لا يقال: إنه ابن وإنما أخ.
• قوله: (وَبِالْجُمْلَةِ الْأَخُ لَاحِقٌ مِنْ لَوَاحِقِ الْمَيِّتِ، وَكَأَنَّهُ أَمْرٌ عَارِضٌ وَالْجَدُّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَالسَّبَبُ أَمْلَكُ لِلشَّيْءِ مِنْ لَاحِقِهِ).
أي: أنَّ الجد كان سببًا من أسباب وجود الابن، بل هو سبب أصله - أي: أبيه - بخلاف الإخوة فالأخ لاحق به لا أصل له.
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ وَرَّثُوا الْجَدَّ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي كيْفِيَّةِ ذَلِكَ. فَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ زَيْدٍ
(1)
فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَهُ سِوَى الْإِخْوَةِ ذُو فَرْضٍ مُسَمًّى أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ذُو فَرْضٍ مُسَمًّى أُعْطِيَ الْأَفْضَلَ لَهُ مِنِ اثْنَيْنِ؛ إِمَّا ثُلُثَ الْمَالِ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْإِخْوَةِ الذُّكُورِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ ذُكْرَانًا أَوْ إِنَاثًا أَوِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَهُوَ مَعَ الْأَخِ الْوَاحِدِ يُقَاسِمُهُ الْمَالَ، وَكَذَلِكَ مَعَ الِاثْنَيْنِ وَمَعَ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ يَأْخُذُ الثُّلُثَ، وَهُوَ مَعَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ إِلَى الْأَرْبَعِ يُقَاسِمُهُنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ، وَمَعَ الْخَمْسِ أَخَوَاتٍ لَهُ الثُّلُثُ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ لَهُ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ، فَهَذِهِ هِيَ حَالُهُ مَعَ الْإِخْوَةِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ مُسَمًّى فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِأَهْلِ الْفُرُوضِ فَيَأْخُذُونَ فُرُوضَهُمْ، فَمَا بَقِيَ أُعْطِيَ الْأَفْضَلَ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، إِمَّا ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ حُظُوظِ ذَوِي الْفَرَائِضِ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ ذَكَرٍ مِنَ الْإِخْوَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطَى السُّدُسَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ، ثُمَّ مَا بَقِيَ يَكُونُ لِلْإِخْوَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فِي الْأَكْدَرِيَّةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ مَذْهَبَهُ فِيهَا مَعَ سَائِرِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا عَلِيٌّ
(2)
رضي الله عنه فَكَانَ يُعْطِي الْجَدَّ الْأَحْظَى لَهُ مِنَ السُّدُسِ أَوِ
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
الْمُقَاسَمَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ غَيْرُهُمْ مِنْ ذَوِي الْفَرَائِضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْقُصْهُ مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّ الْأبْنَاءَ لَا يَنْقُصُونَهُ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ أَحْرَى أَنْ لَا يَنْقُصَهُ الْإِخْوَةُ، وَعُمْدَةُ قَوْلِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ فَلَمْ يَحْجُبْ عَمَّا يجِبُ لَهُمْ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَبِقَوْلِ زَيْدٍ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَجَمَاعَة، وَبَقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ).
كيفية توريث الجد مع الأخوة:
اختلف القائلون بتوريث الجد مع الأخوة في كيفية توريثهم على قولين:
القول الأول - وهو قول زيد رضي الله عنه، واختاره مالك
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد
(3)
(1)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (21/ 475 - 477) قال: " (فصل في ميراث الجد مع الإخوة) ثم اختلفوا في حكمه مع الإخوة المذكورين
…
وكان من قول زيد: إنما مثله مثل الشجرة نبتت على ساق فخرج منها غصن، ثم خرج من الغصن غصنان، فالساقي يسقي الغصن، فإن قطعت إحدى الغصنين رجع الماء إلى الآخر. فورث عمر رضي الله عنه عند ذلك الإخوة مع الجد
…
وروي عن عثمان وعلي في الجد الروايتين: أنه كالأب، ومرة أشركوا الإخوة معه، ولكن المشهور عن علي وعثمان الاشتراك، وهو الصحيح عنهما. وهو مذهب ابن مسعود وزيد بن ثابت".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 37) قال: "واختلفوا بعد ذلك على مذهبين:
…
والمذهب الثاني: أنه يشارك الإخوة، وهو قول عمر وعثمان وزيد بن ثابت وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وبه قال الأئمة الثلاثة، ولذلك قال المصنف:(فإن لم يكن معهم ذو) أي: صاحب (فرض، فله الأكثر من ثلث) جميع (المال، و) من (مقاسمتهم كأخ) ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 502) قال: " (فصل) في ميراث الجد مع الإخوة ذكورًا كانوا أو إناثًا، والجد أب الأب لا يحجبه غير الأب. حكاه ابن المنذر إجماعًا. واختلف في الجد مع الإخوة أو الأخوات لأبوين أو لأب؛ فذهب الصديق وابن عباس وابن الزبير إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات من جميع الجهات كالأب
…
وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريثهم معه ولا يحجبونهم به على اختلاف بينهم".
والثوري
(1)
وجماعة
(2)
-: أن للجد مع الإخوة حالتين:
الحالة الأولى: أن يستقل الجد مع الإخوة بالميراث، فللجد في هذه الحالة الأحظ - أي: الأفضل - من اثنين:
- إمَّا أن يأخذ ثلث المال.
- وإمَّا أن يعامل معاملة أحدهم.
الحالة الثانية: أن يكون معه سوى الإخوة ذو فرض مسمى، فله الأفضل من ثلاث:
- إمَّا أن يأخذ ثلث ما بقي بعد حظوظ أصحاب الفرائض.
- وإمَّا أن ينزل بمنزلة ذَكَر من الإخوة.
- وإمَّا أن يعطى السدس من رأس المال، فلا يأخذ أقل من السدس في أي حال من الأحوال؛ لإجماعهم على أنَّ السدس فرضه لا يأخذ أقل منه في حال عدم وجود الأب.
القول الثاني - وهو قول علي رضي الله عنه، وبه أخذ أبو حنيفة
(3)
-: أن يعطى الجد الأحظ له من السدس أو المقاسمة، سواء كان معهم غيرهم من أصحاب الفروض أو لم يكن.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 343) قال: "وذهب إلى قول زيد بن ثابت في الجد خاصة
…
وسفيان الثوري".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 343) قال: "وذهب إلى قول زيد بن ثابت في الجد خاصة
…
والأوزاعي وابن سيرين
…
وأبو يوسف ومحمد وعبيد الله بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي
…
وأبو عبيد".
(3)
يُنظر: "النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 836، 837) قال: "وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقاسم الجد مع الإخوة والأخوات كأحد الذكور ما لم ينقص الجد عن السدس؛ فإن نقص الجد عن السدس أعطي سدس المال كاملا، وما بقي فللأخوة والأخوات".
• قوله: (وَأَمَّا الْفَرِيضَةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَكْدَرِيَّةِ
(1)
وَهِيَ امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ وَتَرَكتْ زَوْجًا وَأُمَّا وَأُخْتًا شَقِيقَةً وَجَدًّا؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا؛ فَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه وَابْنُ مَسْعُودٍ يُعْطِيَانِ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَللأمِّ السُّدُسَ، وَللأخْتِ النِّصْفَ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْعَوْلِ، وَكانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَزَيْدٌ يَقُولَانِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَللأُمِّ الثُّلُثُ، وَللأخْتِ النِّصْفُ، وَللْجَدِّ السُّدُسُ فَرِيضَةً؛ إِلَّا أَنَّ زَيْدًا يَجْمَعُ سَهْمَ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ، فَيَقْسِمُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ زَيْدٍ).
مذاهب العلماء في المسألة الأكدرية:
ذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما
(2)
إلى: أن للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخت النصف، وللجد السدس، وذلك على جهة العول.
• قوله: (وذلك على جهة العول)، العول لغة
(3)
: الجور، ويطلق - أيضًا - على المجاوزة والظلم؛ يقال: عال فلان بمعنى: ظلم وتجاوز الحد وجار.
(1)
الأكدرية: هي إحدى المسائل الملقبات في الفرائض، وهي: زوج، وأم، وجد، وأخت لأب وأم، أو لأب.
انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 527)، والقاموس المحيط (ص 469).
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 313) قال: "وقال عمر وابن مسعود: للزوج النصف، وللأخت النصف، وللأم السدس، وللجد السدس، وعالت إلى ثمانية. وجعلوا للأم السدس كي لا يفضلوها على الجد". وانظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 131).
(3)
العول في اللغة: مصدر عال يعول عولًا، وهو مأخوذ من الميل؛ وذلك أن الفريضة إذا عالت فهي تميل على أهل الفريضة جميعًا فتنتقصهم. انظر:"الصحاح" للجوهري (5/ 1778)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص 247).
والعول عند الفرضيين
(1)
: زيادة في السهام مع نقصان في الأنصبة.
وأصول المسائل التي تعول ثلاثة:
الأصل الأول: (الستة)، وتعول إلى السبعة وإلى الثمانية وإلى التسعة وإلى العشرة، إذًا هي تعول أربع مرات، وهذا يختلف باختلاف المسائل.
الأصل الثاني: (الاثنا عشر)، وتعول إلى ثلاثة عشر وإلى خمسة عشر وإلى سبعة عشر.
الأصل الثالث: (الأربع والعشرون)، ولا تعول إلا إلى سبعة وعشرين
(2)
.
فمسألتنا هذه أصلها من ستة فعالت إلى تسعة، ونجمع نصيب الجد والأخت ليقتسماه تعصيبًا؛ لأنه الأحظ له في هذا المقام؛ فتكون رؤوس هذه المسألة ثلاثة فتضرب في عول المسألة تسعة فتبلغ سبعة وعشرين، للزوج تسعة، وللأم ستة، وللجد والأخت اثنا عشر، للجد ثمانية وللأخت أربعة.
وذهب علي بن أبي طالب وزيد
(3)
رضي الله عنهما إلى: أن للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس فريضة، (إلا أن زيدًا
(1)
العول في الاصطلاح: أن يزاد على المخرج شيء من أجزائه، كسدسه أو ثلثه أو نحو ذلك من الكسور الموجودة فيه إذا ضاق المخرج عن فرض، أو هو زيادة سهام الفروض عن أصل المسألة بزيادة كسورها عن الواحد. انظر:"شرح السراجية" للجرجاني (ص 95).
(2)
انظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 97)، "والمعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1689)، "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 135، 136)، "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (3/ 92، 93).
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 313) قال: "قال علي وزيد: للزوج النصف، وللأخت النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، وعولاها إلى تسعة، ولم يحجبا الأم عن الثلث؛ لأن الله تعالى إنما حجبها بالولد والإخوة، وليس هاهنا ولد ولا إخوة". وانظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 131، 132).
يجمع سهم الأخت والجد، فيقسم ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين)؛ لأنه لو لم يجمع بينهم لأخذت الأخت ما يساوي نصيب الزوج، ويأخذ الجد السدس فقط.
• قوله: (وزعم بعضهم أن هذا ليس من قول زيد) قيل: إن الذي قال به ابنه خارجة، ثم أبو الزناد، ثم عبد الرحمن بن أبي الزناد ومالك، فأفتوا بها وقسموها على أصول زيد بن ثابت رضي الله عنه
(1)
.
وعند التأمل فإن المذهبين يلتقيان في الزوج، ويختلفان في الأم؛ فعلى المذهب الأول لها السدس، وعلى المذهب الثاني لها الثلث.
• قوله: (وَضَعَّفَ الْجَمِيعُ التَّشْرِيكَ الَّذِي قَالَ بِهِ زَيْدٌ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ، وَبِقَوْلِ زيدٍ قَالَ مَالِكٌ).
بل إن أكثر الأئمة استحسنوا ذلك القول وأفتوا به، وهو المعروف عنهم والمدوَّن في كتبهم؛ فبه قال مالك
(2)
والشافعي
(3)
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير على المقنع" لابن قدامة (7/ 14) قال: "وقد روي عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: ما قال ذلك زيد؛ وإنما قاس أصحابه على أصوله، ولم يبين هو شيئًا".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 464، 465) قال: "المسألة (الأكدرية والغراء)
…
وأركانها أربعة: (زوج، وجد، وأم، وأخت شقيقة أو لأب) المسألة من ستة؛ للزوج ثلاثة نصفها، وللأم ثلثها اثنان، يبقى واحد للجد، وهو لا ينقص عنه بحال، ولا يجوز إسقاط الأخت بحال (فيفرض) النصف (لها، و) السدس (له) فقد عالت بفرض النصف إلى تسعة".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 39، 45) قال: " (إلا في الأكدرية)
…
(وهي زوج وأم وجد وأخت لأبوين أو لأب) هي من ستة؛ (فللزوج) منها (نصف) وهو ثلاثة، (وللأم) منها (ثلث) وهو اثنان لعدم من يحجبها عنه، (وللجد) منها (سدس) وهو واحد لعدم من يحجبه، (وللأخت نصف) وهو ثلاثة لعدم من يسقطها منه ومن يعصبها؛ فإن الجد لو عصبها نقص حقه وهو السدس، فتعين الفرض لها (فتعول) بنصيب الأخت وهو ثلاثة إلى تسعة، (ثم) بعد ذلك (يقتسم الجد والأخت نصيبهما) =
وأحمد
(1)
.
• قوله: (وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمّيَتِ الْأَكدَرِيَّةَ لِتَكَدُّرِ قَوْلِ زَيْدٍ فِيهَا
(2)
، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى الْعَوْلَ).
سميت هذه المسألة بالأكدرية؛ لأنها كدرت على زيد بن ثابت أصوله، وقيل: سُميت بالأكدرية نسبة إلى رجل كان له معرفة بالفرائض يسمى الأكدر، فسأله الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عن هذه المسألة فأفتى فيها فأخطأ، فسُميت بالأكدرية نسبة إليه.
• قوله: (وَبِالْعَوْلِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَار، إِلَّا ابْنَ
= وهما الأربعة من التسعة (أثلاثًا له الثلثان) ولها الثلث، فانكسرت على مخرج الثلث، فاضرب ثلاثة في تسعة تبلغ سبعة وعشرين؛ للزوج تسعة وللأم ستة وللجد ئمانية وللأخت أربعة، وإنما قسم الثلث بينهما؛ لأنه لا سبيل إلى تفضيلها على الجد كما في سائر صور الجد والأخوة ففرض لها بالرحم، وقسم بينهما بالتعصيب رعاية للجانبين".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 409، 410) قال: " (في الأكدرية وهي: زوج وأم وأخت وجد)
…
(فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، وللأخت النصف) فتعول إلى تسعة، (ثم يقسم نصف الأخت وسدس الجد) وهما أربعة من تسعة (بينهما) أي الجد والأخت (على ثلاثة) لأنها لا تستحق معه إلا بحكم المقاسمة، وإنما أعالها زيد لأنه لو لم يفرض لها لسقطت، وليس في الفريضة من يسقطها. فإن قيل: هي عصبة بالجد فتسقط باستكمال الفروض. فالجواب أنه إنما يعصبها إذا كان عصبة، وليس الجد بعصبة مع هؤلاء، بل يفرض له". وانظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 313).
(2)
ولقبت بالمسألة الأكدرية؛ لأن امرأة من بني أكدر ماتت وتركت: زوجًا، وأمًّا، وجدًّا، وأختًا لأب وأم، أو لأب، واشتبه على زيد مذهبه فيها فنسبت إليها. وقيل: إن شخصًا من هذه القبيلة كان يحسن مذهب زيد في الفرائض، فسأله عبد الملك بن مروان عن هذه المسألة فأخطأ في جوابها، فنُسبت إلى قبيلته. وقيل: سُميت بذلك لأنها كدرت على زيد بن ثابت أصوله في التوريث. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 527)، و"القاموس المحيط"(ص 469)، وانظر:"حاشية الدسوقي"(4/ 464)، و"العزيز شرح الوجيز" للرافعي (6/ 490).
عَبَّاسٍ
(1)
فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَعَالَ الْفَرَائِضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَايْمُ اللهِ لَوْ قَدَّمَ مَنْ قَدَّمَ اللهُ وَأَخَّرَ مَنْ أَخَّرَ اللهُ مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ، قِيلَ لَهُ: وَأَيُّهَا قَدَّمَ اللهُ، وَأَيُّهَا أَخَّرَ اللهُ؟ قَالَ: كُلُّ فَرِيضَةٍ لَمْ يُهْبِطْهَا اللهُ عز وجل عَنْ مُوجَبِهَا إِلَّا إِلَى فَرِيضَةٍ أُخْرَى فَهِيَ مَا قَدَّمَ اللهُ، وَكُلُّ فَرِيضَةٍ إِذَا زَالَتْ عَنْ فَرْضِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا مَا بَقِيَ فَتِلْكَ الَّتِي أَخَّرَ اللهُ؛ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الزَّوْجَةِ وَالْأُمِّ، وَالْمُتَأَخِّرُ مِثْلُ الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ، قَالَ: فَإِذَا اجْتَمَعَ الصِّنْفَان بُدِئَ مَنْ قَدَّمَ اللهُ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَلِمَنْ أَخَّرَ اللهُ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ، قِيلَ لَهُ: فَهَلَّا قُلْتَ هَذَا الْقَوْلَ لِعُمَرَ؟! قَالَ: هِبْتُهُ
(2)
).
لم يقع العول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن أبي بكر رضي الله عنه حيث لم تحصل مسألة فيها عول، وأول قضية حصل فيها العول كانت زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولأجل ذلك حصل فيها الخلاف بين الصحابة ومن بعدهم.
• قوله: (وَذَهَبَ زَيْدٌ
(3)
إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ
(1)
قال ابن المنذر: "اختلف أهل العلم في إعالة الفرائض؛ فقال أكثرهم: الفرائض تعول. روي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت
…
وكل من نحفظ عنه من أهل العلم غير ابن عباس
…
". انظر: "الأوسط" (7/ 425 - 428).
(2)
أخرجه الحاكم (4/ 378) وقال: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 414)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1706).
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 441، 442) قال: "قال: وميراث الإخوة من الأب مع الجد إذا لم يكن معهم إخوة لأب وأم، كميراث الإخوة من الأم والأب، سواء ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم، فإذا اجتمع الإخوة من الأم والأب، والإخوة من الأب، فإن بني الأم والأب يعادون الجد ببني أبيهم فيمنعونه كثرة الميراث،
…
(وإن) كانت امرأة واحدة، فإنها تعاد الجد ببني أبيها ما كانوا، فما حصل لها ولهم من شيء كان لها دونهم ما بينها وبين أن تستكمل نصف المال كله، فإن كان فيما يجاز لها ولهم فضل عن نصف المال كله، فإن ذلك الفضل يكون بين بني الأب للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم".
الشَّقَائِقِ إِخْوَةٌ لِأَبٍ، أَنَّ الْإِخْوَةَ الشَّقَائِقَ يُعَادُونَ الْجَدَّ بِالْإِخْوَةِ لِلأب فَيَمْنَعُونَهُ بِهِمْ كَثْرَةَ الْمِيرَاثِ، وَلَا يَرِثُونَ مَعَ الْإِخْوَةِ الشَّقَائِقِ شَيْئًا إِلًّا أَنْ يَكُونَ الشَّقَائِقُ أُخْتًا وَاحِدَةً، فَإِنَّهَا تُعَادِي الْجَدَّ بِأُخُوَّتِهَا لِلأبِ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَكْمِلَ فَرِيضَتَهَا - وَهِيَ النِّصْفُ - وَإِنْ كانَ فِيمَا يُحَازُ لَهَا وَلِإِخْوَتِهَا لِأَبِيهَا فَضْلٌ عَنْ نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَهُوَ لِإِخْوَتِهَا لِأَبِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ عَلَى النِّصْفِ فَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ).
هذه المسألة تعرف في باب الفرائض بالمعادَّة
(1)
؛ وهي أن يعد الإخوة الأشقاء أولاد الأب على الجد؛ أي: يستعينون بالإخوة لأب فيعادوهم - أي: يحسبوهم في العدد - معهم ليقل نصيب الجد؛ لكن لا يأخذ الإخوة لأب شيئًا؛ لأنهم محجوبون بالإخوة الأشقاء حجب حرمان، إلا أن تكون الموجودة شقيقة واحدة فتأخذ كمال فرضها، وما بقي فهو لولد الأب.
• قوله: (فَأَمَّا عَلِيٌّ رضي الله عنه فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ هُنَا لِلْإِخْوَةِ لِلْأَبِ لِلْإِجْمَاعِ؛ عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ الشَّقَائِقَ يَحْجُبُونَهُمْ، وَرلأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ - أَيْضًا
(1)
المعادة في اللغة: المساهمة؛ يقال: عادهم الشيء: تساهموه فساواهم، وهم يتعادون: إذا اشتركوا فيما يعاد فيه بعضهم بعضًا من مكارم أو غير ذلك من الأشياء كلها. والعدائد: المال المقتسم والميراث. وفي التهذيب: العدائد: الذين يعاد بعضهم بعضًا في الميراث. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (3/ 282)، و"تهذيب اللغة" للأزهري (1/ 69).
والمعادة في الاصطلاح: هي الحالة التي يقاسم فيها الجد الإخوة في الميراث، فيعد أولاد الأبوين أولاد الأب على الجد لينقص نصيبه في الميراث؛ وذلك لاتحاد أولاد الأبوين مع أولاد الأب في الأخوة، ولأن جهة الأم في الشقيق محجوبة بالجد فيدخل ولد الأب معه في حساب القسمة على الجد. انظر:"العذب الفائض شرح عمدة الفارض" لإبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الفرضي الحنبلي (1/ 113 - 115).
- مُخَالِفٌ لِلُأصُولِ؛ أَعْنِي: أَنْ يَحْتَسِبَ بِمَنْ لَا يَرِثُ"
(1)
.
فعليٌّ رضي الله عنه لا معادة عنده؛ لأن الإجماع قد استقر على أنه الإخوة لأب يحجبون بالأشقاء حجب حرمان.
وأيضًا أن هذا مخالف للأصول؛ إذ كيف يحتسب من لا يرث ويعتد به؟! فالأصل أن الذي لا يرث لا يعتد به في الميراث، وهذا هو ما أشار إليه المؤلف بقوله:(ولأن هذا الفعل أيضًا مخالف للأصول؛ أعنى أن يحتسب بمن لا يرث).
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْفَرِيضَةِ الَّتِي تُدْعَى الْخَرْقَاءَ).
وسميت بالخرقاء لكثرة الأقوال الواردة فيها، فقد اختلف الصحابة فيها إلى سبعة أقوال ذكر المؤلف الخمسة المشهورة مثها، فكأنها تخرقت لكثرة الأقوال
(2)
؛ وإن كان في نسبة تلك الأقوال الواردة فيها إلى الصحابة نظر.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 343) قال: "قال أبو عمر: انفرد زيد بن ثابت من بين الصحابة - رضوان الله عليهم - بقوله في معاداته الجد بالإخوة للأب مع الإخوة للأب والأم، ثم يصير ما وقع لهم في المقاسمة إلى الإخوة للأب والأم، لم يقله أحد غيره إلا من اتبعه فيه قد خالفه فيه طائفة من الفقهاء القائلين بقوله في الفرائض؛ لإجماع المسلمين أن الإخوة للأب لا يرثون شيئًا مع الإخوة للأب والأم، فلا معنى لإدخالهم معهم وهم لا يرثون؛ لأنه خيف على الجد في المقاسمة".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 128) قال: "الخرقاء: أم وجد وأخت؛ سُميت خرقاء؛ لأن أقاويل الصحابة تخرقتها".
مذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" للحطاب (9/ 618)"سميت هذه خرقاء لخرقها ستة أقوال للصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ومثلثة ومربعة ومخمسة ومسدسة ومسبعة وعثمانية وحجاجية".
مذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 133) قال: "منها الخرقاء وهي: أم، وأخت، وجد. واختلف الصحابة فيها على ستة أقاويل: أحدها - وهو =
• قوله: ("وَهِيَ: أُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ" عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ لِلأمِّ الثُّلُثَ وَالْبَاقِيَ لِلْجَدِّ، وَحَجَبُوا بِهِ الْأُخْتَ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِهِمْ فِي إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الْأَبِ
(1)
).
وهذا واضح، فالجد عندهم يحجب الإخوة أشقاءً كانوا أو لأب.
• قوله: (وَذَهَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِلَى أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَللأُخْتِ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ لِلْجَدِّ)
(2)
.
وهو السدس، والسدس فرضه لا يجوز انتقاصه عنه بحال.
• قوله: (وَذَهَبَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إِلَى أَنَّ لِلأمِّ الثُّلُثَ، وَللأخْتِ
= قول أبي بكر ومن تابعه من الصحابة رضي الله عنهم والفقهاء -: أن للأم الثلث، والباقي للجد. والثاني - وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن للأم السدس، وللأخت النصف، والباقي للجد؛ لأنه لا يفضل أمًّا على جدء والثالث - وهو قول عثمان رضي الله عنه: أن للأم الثك، وللأخت الثلث، وللجد الثلث. والرابع - وهو قول علي عليه السلام: أن للأم الثلث، وللأخت النصف، والباقي للجد؛ لأنه لا يفضل أمًّا على جد. والخامس - وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه: أن للأخت النصف، والباقي بين الأم والجد نصفان. والسادس - وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه: للأم الثلث، والباقي بين الأخت والجد على ثلاثة، وتصح من تسعة".
مذهب الحنابلة ينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 505) قال: " (وتسمى) هذه المسألة (الخرقاء لكثرة أقوال الصحابة فيها) كان الأقوال خرقتها. وفيها سبعة أقوال: أحدها ما ذكر. وهو قول زيد بن ثابت، والثاني قول الصديق وموافقيه: للأم الثلث والباقي للجد. والثالث قول عليئ: للأخت النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس. والرابع: قول عمر: للأخت النصف، وللأم ثلت الباقي، وللجد ثلثاه. والخامس قول ابن مسعود: للأخت النصف، وللأم السدس والباقي للجد. وهو في المعنى كالذي قبله. والسادس - ويروى أيضًا عن ابن مسعود -: للأخت النصف، والباقي بين الأم والجد نصفين، فالمسألة من أربعة، وهي إحدى مربعات ابن مسعود. والسابع قول عثمان: للأم الثلث، وللأخت الثلث، وللجد الثلث".
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
الثُّلثَ، وَيلْجَدِّ الثُّلُثَ)
(1)
؛ وذلك لأنهم كلهم متساوون في الحقوق فلا يزيد بعضهم على بعض.
• قوله: (وَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إِلَى أَنَّ لِلأخْتِ النّصْفَ، وَللْجَدِّ الثُّلُثَ، وَللْأمِّ السُّدُسَ، وَكَانَ يَقُولُ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أُفَضِّلَ أُمًّا عَلَى جَدٍّ)
(2)
؛ وذلك لأنه يرى أن الجد ينزل منزلة الأب في عدم وجود الأب.
• قوله: (وَذَهَبَ زَيْدٌ رضي الله عنه إِلَى أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثيَيْنِ)
(3)
.
وذلك بناءً على مذهبه وقد سبق بيانه.
* * *
[مِيرَاثُ الْجَدَّاتِ]
الجدات جمع جدَّة؛ والجدة التي ترث هي أم الأب، وأم الأم، وأم أم الأم، وإن علون بمحض الإناث.
• قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ أَمِّ الْأُمِّ السُّدُسَ مَعَ عَدَمِ الْأُمِّ، وَأَنَّ لِلْجَدَّةِ أَيْضًا أُمِّ الْأبِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ السُّدسَ، فَإِنِ اجْتَمَعَا كَانَ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا)
(4)
.
(1)
تقدم.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 373) وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، ولفظه عن ابن مسعود:"ما كان الله تعالى ليراني أفضّل أمًّا على جد".
(3)
تقدم.
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 415، 416) قال: "وأجمع أهل العلم علي أن =
فميراث الجدة عند فقد الأم السدس، سواء كانت أم أم أو أم أب، وإن اجتمعا فالسدس بينهما؛ فعن قبيصة بن ذؤيب قال:"جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال لها: ما لكِ في كتاب الله شيء، وما لكِ في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس؛ فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة؛ فأنفذه لها أبو بكر. قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها فقال: ما لكِ في كتاب الله شيء؟ ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها". وسيأتي شرح هذا الحديث.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَذَهَبَ زيدٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنَّ الْجَد أُمَّ الْأُمِّ مِّ يُفْرَضُ لَهَا السُّدُسُ فَرِيضَةً، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجَدَّتَانِ كَانَ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَ تَعَدُّدُهُمَا سَوَاءً)
(1)
.
قوله: (إذا كان تعددهما سواء) يعني: إذا كانت في منزلتها أو في قربها من الميت.
• قوله: (أَوْ كَانَتْ أَمُّ الْأَبِ أَقْعَدَ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّ الْأُمِّ أَقْعَدَ (أَيْ: أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ) كَانَ لَهَا السُّدُسُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ شَيْءٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيُّهُمَا أَقْعَدُ كلانَ لَهَا السُّدُسُ
(2)
، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه).
= للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم. وقد أجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأم الأب، وأجمعوا على أن الأب لا يحجب الجدة أم الأم".
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 419) قال: "اختلف أهل العلم في الجدتين تجتمعان وإحداهما أقرب من الأخرى وهما من وجهين مختلفين؛ فقالت طائفة: السدس لأقربهما من أي الوجهين كانت من قبل الأب أو من قبل الأم. وروي عن علي وزيد بن ثابت أنهما قالا في رجل ترك جدتيه، قالا: السدس لأقربهما".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 270)، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 389).
يعني: كأن الميل إلى أمِّ الأم أكثر بالنسبة للميراث.
• قوله: (وَمِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ يُوَرِّثُونَ إِلَّا هَاتَيْنِ الْجَدَّتَيْنِ الْمُجْتَمَعَ عَلَى تَوْرِيثِهِمَا، وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ يُوَرِّثَانِ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ؛ وَاحِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، وَاثْنَتَانِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ: أُمّ الْأَبِ، وَأُمُّ أَبِي الْأَبِ (أَعْنِي: الْجَدَّ)، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُوَرِّثُ أَرْبَعَ جَدَّاتٍ: أُمُّ الْأُمِّ، وَأُمُّ الْأَبِ، وَأُمُّ أَبِي الْأَبِ (أَعْنِي: الْجَدَّ)، وَأمُّ أَبِي الْأُمِّ (أَعْنِي: الْجَدَّ)، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُشْرِكُ بَيْنَ الْجَدَّاتِ فِي السُّدُسِ دُنْيَاهُنَّ وَقُصْوَاهُنَّ مَا لَمْ تَكُنْ تَحْجُبُهَا بِنْتُهَا أَوْ بِنْتُ بِنْتِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسْقِطُ الْقُصْوَى بِالدُّنْيَا إِذَا كَانتَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ).
اختلف العلماء في تعدد الجدات من حيث الإرث وعدمه إلى عدة أقوال:
القول الأول: أنه لا ترث إلا الجدتان (أم الأم وأم الأب). وذكر المؤلف أنه قول فقهاء الأمصار
(1)
.
القول الثاني: أنه لا ترث إلا ثلاث جدات (أم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب). وهو مذهب الأوزاعي
(2)
وأحمد
(3)
؛ بل وكثير من العلماء.
(1)
يُنظر: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري" للعبادي (2/ 359) قال: " (قوله: وإذا اجتمع الجدات فالسدس لأقربهن) اعلم أنه إذا كان بعض الجدات أقرب من بعض، فإن عليًّا كرَّم الله وجهه يجعل السدس للقربى من أي جهة كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه".
وينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 349) قال: "وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجدات كقول زيد بن ثابت
…
وبه يقول الثوري
…
وأبو ثور".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 349) قال: "وكان الأوزاعي يورث ثلاث جدات ولا يورث أكثر منهنَّ واحدة من قبل الأم واثنتين من قبل الأب".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 419) قال: " (ولجدة فأكثر) إلى ثلاث (إذا =
القول الثالث: أنه لا ترث إلا أربع جدات (أم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب، وأم أبي الأم). وهو مذهب ابن مسعود، وبه قال الحسن وابن سيرين
(1)
.
• وقوله: (دنياهن وقصواهن
…
إلخ) أي: القريبة والتي أعلى منها، ما لم تكن الأم موجودة.
• قوله: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجَدَّةَ كَالْأُمِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمٌّ، وَهُوَ شَاذٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَكِنْ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْقِيَاسِ)
(2)
.
يعني: ينزلها منزلة الأم، وهذا القول له حظ من النظر قياسًا للجد على الأب عند فقده، وجمهور العلماء على تضعيف هذا القول.
• قوله: (فَعُمْدَةُ زَيْدٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِمَذْهَبِ زَيْدٍ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ
(3)
أَنَّهُ قَالَ: "جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه تَسْأَلُهُ
= تحاذين) أي: تساوين في الدرجة (السدس) إجماعًا، ذكره في "المغني" لحديث عبادة بن الصامت:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى للجدتين في الميراث بالسدس بينهما". رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند". (و) الجدة (القربى ولو) كانت (من جهة الأب تحجب) الجدة (البعدى)؛ لأنها جدة قربى فتحجب البعدى كالتي من قبل الأم، ولأن الجدات أمهات يرثن ميراثًا واحدًا من جهة واحدة، فإذا اجتمعن فالميراث لأقربهن كالآباء والأبناء والإخوة والبنات. وقال مالك والشافعي في الصحيح عنه: لا تحجب القربى من جهة الأب البعدى من الأم لقوتها، (ولا يرث أكثر من ثلاث جدات) وهنَّ: (أم الأم، وأم الأب، وأم الجد) أبي الأب فقط، (ومن كان من أمهاتهن وإن علون أمومة) ".
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 423) قال: "اختلف أهل العلم في عدد من يرث من الجدات
…
وروي عن ابن عباس، وجابر بن زيد، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين أنهم كانوا يورثون أربع جدات".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 350) قال: "وروي عن ابن عباس قول شاذ أن الجدة كالأم إذا لم تكن أم. وهذا باطل عند العلماء؛ لأنهم أجمعوا أن لا ترث جدة ثلثًا ولو كانت كالأم ورثت الثلث، وأظن الذي روى هذا الحديث عن ابن عباس قاسه على قوله في الجد لما جعله أبًا، ظن أنه يجعل الجدة أمًّا".
(3)
سيأتي.
عَنْ مِيرَاثِهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا لَكِ فِي كتَابِ اللهِ - عزو جل - شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ، فَأَنْفَذَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهَا، ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل شَيْءٌ، وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قَضَى بِهِ إِلَّا لِغَيْرِك، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الفَرَائِضِ، وَلَكِنَّهُ ذَلِكَ السُّدُسُ، فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ فَهُوَ لَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا انْفَرَدَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا").
هذا الحديث رواه مالك
(1)
وأحمد
(2)
وأصحاب السُّنن
(3)
والحاكم
(4)
، وقد تكلم بعض العلماء في سنده لأنه من رواية قبيصة بن لؤي
(5)
، وقد اختلف العلماء فيه: هل ولد عام الفتح أو عام الهجرة؟ فإن كان قد ولد عام الفتح فيبعد أنه قد سمع ذلك من أبي بكر، وإن كان ولد عام الهجرة فسماعه منه محتمل، فالحديث رواته ثقات، لكن الأشبه أنه مرسل لترددهم في تاريخ ولادة قبيصة بن لؤي.
وفي الحديث: أن الجدة أتت إلى أبي بكر رضي الله عنه فسألته ميراثها فقال:
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 513)(4).
(2)
أخرجه أحمد (17980).
(3)
أخرجه أبو داود (2894)، والترمذي (2101) وقال:"حسن صحيح"، والنسائي في "الكبرى"(6312)، وابن ماجه (2724).
(4)
أخرجه الحاكم (4/ 376) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(5)
والحديث مشهور، وإسناده صحيح لثقة رجاله؛ إلا أن صورته مرسل؛ فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة. انظر:"التلخيص الحبير"(3/ 186)، و"الأحكام الوسطى" للإشبيلي (3/ 328)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1680).
"ما لكِ في كتاب الله شيء"، وفي رواية:"لا أجد لك في كتاب الله شيء"
(1)
، أي: مما يتعلق بميراثك، فسأل الناس فشهد المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر:"هل معك غيرك؟ "، وذلك ليستوثق، فشهد محمد بن مسلمة على ذلك فأعطاها السدس.
• قوله: (وَرَوَى مَالِكٌ
(2)
أَيْضًا أَنَّهُ أَتَتِ الْجَدَّتَانِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ السُّدُسَ لِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، فَقَالَ لَهُ رَجُل: أَمَا إِنَّكَ تَتْرُكُ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ وَهُوَ حَيٌّ كَانَ إِيَّاهَا يَرِثُ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ السُّدُسَ بَيْنَهُمَا. قَالُوا: فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَتَعَدَّى فِي هَذَا هَذِهِ السُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ).
وجاء في بعض الروايات تسمية هذا الرجل كما في "الموطأ"، ولا شك أن رأيه كان صوابًا، ولذا رجع إليه أبو بكر رضي الله عنه.
• قوله: (وَأَمَّا عُمْدَةُ مَنْ وَرَّثَ الثَّلَاثَ جَدَّاتٍ؛ فَحَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرَّثَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ: اثْنَتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَوَاحِد مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ"
(3)
.
وعلى هذا يكون الحديث مرسلًا؛ لأن إبراهيم - وهو النخعي - لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء كذلك من طريق إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد، وهو مرسل أيضًا، وجاء كذلك عن الحسن مرسلًا
(4)
، والمرسل الصحيح
(5)
حجة عندهم.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(10/ 274)، ولفظه: وفيه "
…
لا أجد لك في الكتاب شيئًا
…
الحديث".
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 513)(5).
(3)
أخرجه الدارقطني (5/ 161)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1682).
(4)
أخرجه أبو داود في "المراسيل"(ص 261)، والبيهقي في الكبرى (6/ 387).
(5)
الاحتجاج بالمرسل مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل في أشهر الروايتين عنه، وجماهير المعتزلة كأبي هاشم. وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة =
• قوله: (وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَعُمْدَتُهُ الْقِيَاسُ فِي تَشْبِيهِهَا بِالْجَدَّةِ لِلأبِ لَكِنَّ الْحَدِيثَ يُعَارِضُهُ).
مراده رحمه الله بقول ابن مسعود ما أورده قبل ذلك من قوله: وكان ابن مسعود يورث أربع جدات: أم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب (أعني: الجد)، وأم أبي الأم (أعني: الجد)، وبه قال الحسن، وابن سيرين.
فكأن ابن مسعود رضي الله عنه يشبه الجدة: "أم أبي الأم" بالجدة: "أم أبي الأب".
والحديث الذي يعارضه ما أورده كدليل لزيد رضي الله عنه وأهل المدينة "جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله عن ميراثها، فقال أبو بكر: ما لكِ في كتاب الله عز وجل شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال: محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه أبو بكر لها، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها، فقال لها: ما لكِ في كتاب الله عز وجل شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها".
ووجه معارضة الحديث لقول ابن مسعود أنه تضمن قصر فريضة الجدات لأم الأم، وأم الأب، فلا يجوز إعطاء "أم أبي الأم".
= والتابعين وتابعي التابعين، ومن هو من أئمة النقل مطلقًا، دون من عدا هؤلاء. انظر:"مقدمة ابن الصلاح"(ص 130)، و"الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (2/ 123). وقال النووي في "تقريبه":"وقال مالك، وأبو حنيفة في طائفة: صحيح، فإن صح مخرج المرسل بمجيئه من وجه آخر مسندًا أو مرسلًا أرسله من أخذ عن غير رجال الأول كان صحيحًا". انظر: "تدريب الراوي على شرح تقريب النواوي" للسيوطي (1/ 222).
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَحْجُبُ الْجَدَّةَ لِلْأَب ابْنُهَا وَهُوَ الْأبُ، فَذَهَبَ زَيْدٌ
(1)
إِلَى أَنَّهُ يَحْجُبُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَدَاوُدُ
(5)
، وَقَالَ آخَرُونَ: تَرِثُ الْجَدَّةُ مَعَ ابْنِهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
(6)
، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ
(7)
، وَأَحْمَدُ
(8)
، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ
(1)
ظاهر صنيع المؤلف أنه لم يقل بذلك من الصحابة إلا زيد رضي الله عنه، والأمر بخلاف ذلك، فقد نُسِب هذا القول إلى خليفتين راشدين. يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 351). حيث قال: "والعلماء مختلفون في توريث الجدة مع ابنها فكان علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت يقولون: لا ترث الجدة مع ابنها؛ يعنون أنها لا ترث أم الأب مع الأب، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، وإليه ذهب داود بن علي".
ومن العجيب أن المصنف لخص هذا الفصل من الاستذكار، ومع ذلك أغفل هذا النقل.
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" للخلوتي (4/ 651) قال: (و) تحجب الجدة (لأب بأب) لإدلائها به.
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 21) قال: (و) الجدة (للأب يحجبها الأب)؛ لأنها تدلي به.
(4)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 782) قال: " (قوله: وتسقط الجدات إلخ) الأصل أن لكل من اتحاد السبب، والإدلاء تأثيرًا في الحجب فأم الأب تحجب به للإدلاء فقط". وانظر: "المبسوط" للسرخسي (29/ 169).
(5)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 301 - 302) قال: "وأما هل ترث الجدة أم الأب والأب حي؟ فطائفة قالت: لا ترث ....... وروي عن داود".
(6)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 417) قال: "وقالت طائفة: تورث الجدة مع ابنها. روي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وأبي موسى الأشعري". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 352).
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 352) قال: "وقال آخرون ترث الجدة مع ابنها
…
وبه قال شريح والحسن وعطاء وبن سيرين". وانظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 418).
(8)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 419) قال: (و) ترث (أم الجد وابنهما حي سواء كان أبًا أو جدًّا) فلا يحجب الأب أم نفسه ولا أم أبيه وكذلك الجد لا يحجب أمه =
الْمِصْرِيِّينَ
(1)
. وَعُمْدَةُ مَنْ حَجَبَ الْجَدَّةَ بِابْنِهَا أَنَّ الْجَدَّ لَمَّا كَانَ مَحْجُوبًا بِالْأَبِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَدَّةُ أَوْلَى بِذَلِك).
أي: أن حجة من منع إرث أم الأب مع الأب، هو القياس؛ فالجد:"أب الأب" يُحجب بـ "الأب"، فقِيسَ عليه: حجب أم الأب، بالأب.
• قوله: (وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَتْ أُمُّ الْأُمِّ لَا تَرِثُ بِإِجْمَاعٍ مَعَ الْأُمِّ شَيْئًا كَانَ كَذَلِكَ أَمُّ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ).
وهذا قياس آخر: حجب أمِّ الأب بالأب، قياسًا على حجب أمِّ الأم بالأم.
ويُمكن لمثبتي إرث أمِّ الأب مع الأب منع القياسين بأنَّ أمَّ الأب،
= (كما لو كان عمًّا) روي عن ابن عمر وابن مسعود وأبي موسى وعمران بن حصين وأبي الطفيل.
(1)
هذه العبارة، وقعت في عامة نسخ بداية المجتهد، كطبعة العبادي، وحلاق، والعلامة: محمد شاكر، ودار الحديث، وغيرها، ولا تخلو من إشكال، وليست معتادة للمؤلف، فراجعت مصدر المسألة - الاستذكار - فوجدتها (5/ 352):"فقهاء البصريين":
ونص عبارته: "وقال آخرون ترث الجدة مع ابنها. روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبي موسى وعمران بن حصين وأبي الطفيل عامر بن واثلة، وبه قال شريح والحسن وعطاء وابن سيرين وسليمان بن يسار وجابر بن زيد أبو الشعثاء، وهو قول فقهاء البصريين وشريك القاضي وأحمد بن حنبل وإسحاق والطبري، واختلف فيها عن الثوري وروي عنه أنه كان يورثها مع ابنها وروي عنه أنه كان لا يورثها".
وابن عبد البر يُكثر من استعمال هذه العبارة أو نحوها في كتابه.
ومما يدل على صحة ما ذكرت أن ابن رشد لم يستعمل عبارة "المصريين" في غير هذا الموضع، مع أنه كرر "البصريين".
ومن فقهاء البصرة: الحسن، وبكر المزني، ومحمد بن سيرين، وإياس القاضي، وأيوب السختياني، وعثمان البتي، وأبو قلابة، وغيرهم.
ترث ميراث "أم" لا ميراث "أب"؛ فالذي يحجبها هي: "الأم" لا "الأب" بخلاف "أم الأم" فإنها ترث ميراث "أم" فتحجبها "الأم"؛ لأنها أقرب.
ومما يدلُّ على صحَّة هذا القول أنه قول عمر وابن مسعود وغيرهم، والصحابة أقوم الناس بالقياس، وأفهمهم لمقاصد الشرع.
• قوله: (وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: أَوَّلُ جَدَّةٍ أَعْطَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُدُسًا جَدَّةٌ مَعَ ابْنِهَا وَابْنُهَا حَيٌّ).
وهذا الأثر رواه الترمذي
(1)
، والدارقطني
(2)
، والبيهقي
(3)
، وهو ضعيف
(4)
.
• قوله: (قَالُوا: وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ لَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ وَأُمُّ الْأُمِّ لا يُحْجَبْنَ بِالذُّكُورِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ جَمِيعِ الْجَدَّاتِ).
وهذا قياس آخر معضد لقول من يرى توريثها مع ابنها، وهو أن "الأم"، و"أم الأم" لا يُحجبن بالذكور، فكذلك:"أم الأب"، لا تُحجَب بابنها الذكر، و"أم الجد" لا تحجب بـ "الأب، أو الجد".
• قوله: (وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَالِكًا لَا يُخَالِفُ زيدًا إِلَّا فِي فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ، (وَهِيَ: امْرَأَةٌ هَلَكَتْ وَتَرَكَتْ: زَوْجًا، وَأُمًّا، وَإِخْوَةً لِأُمٍّ، وَإِخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَجَدًّا) فَقَالَ مَالِكٌ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ مَا بَقِيَ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَلَيْسَ لِلْإِخْوَةِ الشَّقَائِقِ شَيْءٌ، وَقَالَ زَيْدٌ: لِلزَّوْجِ
(1)
أخرجه الترمذي (2102) ولفظه عن عبد الله بن مسعود قال في الجدة مع ابنها: "إنها أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا مع ابنها وابنها حي".
(2)
لم أقف عليه في "سنن الدارقطني"!
(3)
والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 370).
(4)
قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1687).
النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ لِلْإِخْوَةِ الشَّقَائِقِ، فَخَالَفَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلَهُ مِنْ أَنَّ الْجَدَّ لَا يَحْجُبُ الْإخْوَةَ الشَّقَائِقَ وَلَا الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّهُ لَمَّا حَجَبَ الْإِخْوَةَ لِلأمِّ عَنِ الثُّلُثِ الَّذِي كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ دُونَ الشَّقَائِقِ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَأَمَّا زَيْدٌ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْجُبُهُمْ).
اعلم أن أهل المدينة - بل وأهل الحجاز عمومًا - في الفرائض على مذهب زيد بن ثابت كخارجة وأبي الزناد وابنه عبد الرحمن، وانتهى علم أهل المدينة إلى مالك رحمه الله
(1)
.
ولم يخالف مالك رحمه الله زيدًا رضي الله عنه إلا في مسألة واحدة، وهي:(امرأة هلكت وتركت: زوجًا، وأمًّا، وإخوة لأم، وإخوة لأب وأم، وجدًّا). فقال زيد رضي الله عنه: للزوج النصف، وللأم السدس، وما بقي فللإخوة الشقائق.
وقال مالك رحمه الله: للزوج النصف، وللأم السدس، وللجد ما بقي وهو الثلث، وليس للإخوة الشقائق شيء.
هذا الذي خالف فيه مالك زيدًا، مع أنه يرى توريثهم؛ إلا أنه جرى في هذه المسألة على خلاف مذهبه، وأشار المؤلف رحمه الله إلى ذلك فقال: (فخالف مالك في هذه المسألة أصله
…
إلخ)، وحجة مالك رحمه الله (أنه لما حجب الإخوة للأم عن الثلث الذي كانوا يستحقونه دون الشقائق كان هو أولى به) دونهم.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 340) قال أبو عمر: "في هذا الخبر من العلم فضل زيد بن ثابت وامامته في علم الفرائض، وأنه كان المسؤول عما أشكل منها والمكتوب إليه من الآفاق فيها لعلمه بها، وأن المدينة كان يفزع إلى أهلها من الَافالتى في العلم. وعلى مذهب زيد بن ثابت في الفرائض رسم مالك رحمه الله كتابه هذا، وإليه ذهب وعليه اعتمد، وكان القائم بمذهب زيد في ذلك ابنه خارجة، ثم أبو الزناد ثم ابنه عبد الرحمن ومالك وجماعة علماء المدينة على مذهب قلد بن ثابت في ذلك، وهو مذهب أهل الحجاز وكثير من علماء البلدان في سائر الأزمان".
[بَابٌ فِي الْحَجْبِ]
" الحجب": هو المنع
(1)
.
وهو على قسمين: حجب نقصان
(2)
وحجب حرمان
(3)
.
• قوله: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَخَ الشَّقِيقَ يَحْجُبُ الْأَخَ لِلْأَبِ)
(4)
.
لأنَّ الأخ الشقيق يدلي بسببين وهما: الأب والأم؛ بخلاف الأخ لأب فهو يدلي بسبب واحد وهو الأب فقط، فيقدم؛ لأنه أقرب لحمة وصلة.
• قوله: (وَأَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ يَحْجُبُ بَنِي الْأَخِ الشَّقِيقِ، وَأَنَّ بَنِي
(1)
الحجب لغة: مصدر حجب الشيء يحجبه حجبًا إذا ستره. وتحجب إذا اكتن من وراء حجاب. وحجبه: أي منعه عن الدخول. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 298).
واصطلاحًا في مذاهب الفقهاء:
مذهب الحنفية، ينظر:"مجمع الأنهر" لشيخي زاده (2/ 756) قال: "منع شخص معين عن ميراثه إما كله ويسمى حجب الحرمان، أو بعضه ويسمى حجب النقصان بوجود شخص آخر". وقال ابن عابدين: "منع من يتأهل للإرث بآخر عما كان له الولاء". انظر: "حاشية ابن عابدين"(6/ 780).
وتكاد تتفق باقي المذاهب على التعريف.
فمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي" للخلوتي (4/ 649).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 19).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 423).
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 339) قال أبو عمر: "ما رسم مالك في هذا الباب من حجبه الاخوة للأب بالإخوة للأب والأم إجماع من العلماء كلهم، يحجب الأخ للأب عن الميراث بالأخ الشقيق".
الْأَخِ الشَّقِيقِ يَحْجُبُونَ أَبْنَاءَ الْأَخِ لِلْأَبِ)
(1)
.
وهذا من العدالة في الإسلام؛ فكلما كان الإنسان أقرب كان أولى بالميت.
• قوله: (وَبَنُو الْأَخِ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ بَنِي ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ).
هذا القدر تابع للإجماع الذي حكاه المصنف أول هذا الباب (الحجب) حيث قال: "وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب
…
".
فأفاد أن بني الأخ للأب أقرب من بني ابن الأخ الشقيق، وذلك لأن ابن الأخ يُدلي بالأخ، وهو أقرب من ابن الأخ، ولو كان شقيقًا.
• قوله: (وَبَنُو الْأَخِ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنَ الْعَمِّ أَخِي الْأَبِ).
بل ومن العم الشقيق؛ لأن ابن الأخ، يدلي بالأخ، وهو متفرع من الأب، وأما العم، فيدلي بالجد؛ قال ابن رشد في "المقدمات الممهدات" (3/ 143):"وابن الأخ وإن سفل يحجب العم الشقيق".
• قوله: (وَابْنُ الْعَمِّ أَخِي الْأَبِ الشَّقِيقِ أَوْلَى مِنِ ابْنِ الْعَمِّ أَخِي الْأَبِ لِلْأَبِ، وَكلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَحْجُبُونَ بَنِيهِمْ، وَمَنْ حَجَبَ مِنْهُمْ صِنْفًا فَهُوَ يَحْجُبُ مَنْ يَحْجُبُهُ ذَلِكَ الصِّنْفُ).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 360) قال: "قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا في ولاية العصبة - أن الأخ للأب والأم أولى بالميراث من الأخ للأب، والأخ للأب أولى بالميراث من بني الأخ للأب والأم، وبنو الأخ للأب والأم أولى من بني الأخ للأب، وبنو الأخ للأب أولى من بني ابن الأخ للأب والأم، وبنو ابن الأخ للأب أولى من العم أخي الأب للأب والأم، والعم أخو الأب للأب والأم أولى من العم أخي الأب للأب، والعم أخو الأب للأب أولى من بني العم أخي الأب للأب والأم، وابن العم للأب أولى من عم الأب أخي أبي الأب للأب والأم".
فالأخ يحجب ابن الأخ، والعم يحجب ابن العمِّ، وطالما أن الأخ يحجب ابن الأخ، وابن الأخ يحجب العمَّ، فالأخ بالأولى يحجب العمَّ.
• قوله: (وَبِالْجُمْلَةِ، أَمَّا الْإِخْوَةُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ، فَإِذَا اسْتَوَوْا حَجَبَ مِنْهُمْ مَنْ أَدْلَى بِسَبَبَيْنِ (أُمٍّ وَأَبٍ) مَنْ أَدْلَى بِسَبَبٍ وَاحِدٍ (وَهُوَ الْأَبُ فَقَطْ)، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَامُ الْأَقْرَبُ مِنْهُ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ، فَإِفي اسْتَوَوْا حَجَبَ مِنْهُمْ مَنْ يُدْلِي مِنْهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ بِسَبَبَيْنِ مَنْ يُدْلِي بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، أَعْنِي: أَنَّهُ يُحْجَبُ الْعَمُّ أَخُو الْأَبِ لِأَبٍ وَابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخُو الْأَبِ لِأَبٍ فَقَطْ).
قوله: "يُحجب العم .. لأب" بالبناء لما لم يُسمَّ فاعله، أي: يُحجب بالعمِّ الذي أدلى بسببين (العم لأب وأم)، وكذلك ابن العم.
• قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ الشَّقَائِقَ وَالْإِخْوَةَ لِلأبِ يَحْجُبُونَ الْأَعْمَامَ
(1)
؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ بَنُو أَبِ الْمُتَوَفَّى، وَالْأَعْمَامَ بَنُو جَدِّهِ، وَالْأَبْنَاءُ يَحْجُبُونَ بَنِيهِمْ، وَالْآبَاءُ أَجْدَادُهُمْ، وَالْبَنُونَ وَبَنُوهُمْ يَحْجُبُونَ الْإِخْوَةَ، وَالْجَدُّ يَحْجُبُ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الْأَجْدَادِ بِاِجْمَاعٍ، وَالأبُ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ وَبَحْجُبُ مَنْ تَحْجُبُهُ الْإِخْوَةُ).
كبني الأخ؛ فالأب يحجبهم كالإخوة وأولى.
• قوله: (وَالْجَدُّ يَحْجُبُ الْأَعْمَامَ بِإِجْمَاعٍ
(2)
وَالْإِخْوَةَ لِلأمِّ،
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 362) قال: "ولا خلاف أيضًا بين العلماء أن الإخوة الأشقاء والذين للأب يحجبون الأعمام".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 362) قال: "والأب يحجب من فوقه من الأجداد بإجماع كما يحجب الأب الأعمام وبنيهم بإجماع؛ لأنهم به يدلون إلى الميت ويحجب الإخوة للأم ذكورهم وإناثهم بإجماع ويحجب بني الإخوة للأب والأم وبني الإخوة للأب وبني الإخوة للأم بإجماع، والبنات وبنات البنين يحجبن الإخوة من الأم".
وَبَحْجُبُ بَنُو الْإِخْوَةِ الشَّقَائِقِ بَنِي الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ، وَالْبَنَاتِ وَبَنَاتُ الْبَنِينَ يَحْجُبْنَ الْإِخْوَةَ لِلأمِّ).
لأنهم لا يرثون إلا كلالة، والكلالة: من لا له أب، ولا ولد.
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمِّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلأمِّ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَالثَّوْرِيّ
(4)
: لِلأخِ لِلأمِّ السُّدُسُ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ أَخٌ لِأمٍّ وَهُوَ فِي بَاقِي الْمَالِ مَعَ ابْنِ الْعَمِّ الْآخَرِ عَصَبَةٌ يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَزيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ
(5)
.
وهو قول غيرهم من الصحابة أيضًا، وبه قال أحمد
(6)
رحمه الله.
(1)
يُنظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 254) قال: "وكذلك الأخ للأم يكون ابن عم عند الثلاثة وفافًا لزيد وعلي رضي الله عنهما فإن كانا ابني عم أحدهما أخ لأم ورث الأخ للأم السدس واقتسما الباقي بالتعصيب عند علي وزيد والثلاثة". وانظر: "المعونة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1689).
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 115) قال: "فأما إذا ترك ابني عم أحدهما أخ لأم فللذي هو أخ للأم السدس فرضًا بالأم والباقي بينهما بالتعصيب، وبه قال علي وزيد رضي الله عنهما، وهو الظاهر من قول عمر وقول أبي حنيفة ومالك والفقهاء". وانظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (9/ 73).
(3)
يُنظر: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري" للعبادي (2/ 306 - 307) قال: (قوله ومن ترك ابني عم أحدهما أخ لأم فللأخ من الأم السدس والباقي بينهما نصفان)؛ لأن له قرابتين من جهتين.
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 451 - 453) قال: "اختلف أهل العلم في رجل خلف ابني عم أحدهما أخ لأم. فقالت طائفة: الأخ من الأم أحق بالميراث ..... وقالت طائفة: يعطى الأخ من الأم سهمه ويقسم الباقي بينهما .... وبه قال سفيان الثوري".
(5)
يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (21/ 399 - 400) قال: "واختلفوا في ابني عم أحدهما أخ لأم،
…
وكان علي وزيد وابن عباس يعطون للأخ فرضه، ويقسمون الباقي بينهما". وانظر:"الأوسط" لابن المنذر (7/ 452).
(6)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 283 - 384) قال: "مسألة قال: وإذا كانا ابنا عم، =
هذا هو القول الأول - وحجته ظاهرة - فهو يرث بالسببين، ويبقى لابن العم الذي ليس بأخ لأم سببًا يرث به.
قال ابن رشد: (4/ 136): "وقال قوم: المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ سدسه بالأخوة وبقيته بالتعصيب؛ لأنه قد أدلى بسببين. وممن قال بهذا القول من الصحابة ابن مسعود، ومن الفقهاء داود، وأبو ثور، والطبري، وهو قول الحسن وعطاء.
والقول الأول أقرب، فإن ثبوت إرث ابن العم - الذي ليس بأخ لأم - هو الأصل، وكون الآخر، يجعله صاحب فرض يرث به مع التعصيب، لا أنه يستقل بالميراث.
• قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ يَأْخُذُ سُدُسَهُ بِالْأُخُوَّةِ وَبَقِيّتهُ بِالتَّعْصِيبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدْلَى بِسَبَبَيْنِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ
(1)
، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: دَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ
(2)
).
وهذا قول ضعيف في نظري؛ لأنه أخذ ما يتعلق بقرابته وما تميز به عن الآخر، فلا وجه لأخذه المال كله.
* * *
= أحدهما أخ لأم، فللأخ للأم السدس، وما بقي بينهما نصفين هذا قول جمهور الفقهاء".
(1)
"الأوسط" لابن المنذر (7/ 451) قال: "اختلف أهل العلم في رجل خلف ابني عم أحدهما أخ لأم؛ فقالت طائفة: الأخ من الأم أحق بالميراث، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 361، 362) قال: "وإن كان أحد ابني العم أخًا لأم فإن العلماء فد اختلفوا في ذلك على قولين؛ أحدهما: أن لابن العم الذي هو أخ الأم المال كله؛ سدس منه بالفريضة والباقي بالتعصيب لأنه أدلى بقرابتين. وممن قال بهذا
…
وعطاء والحسن .. والنخعي، وإليه ذهب أبو ثور وداود والطبري".
[حُكْمُ الرَّدِّ
(1)
عَلَى ذَوِي الْفَرَائِضِ]
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ عَلَى ذَوِي الْفَرَائِضِ إِذَا بَقِيَتْ مِنَ الْمَالِ فَضْلَة لَمْ تَسْتَوْفِهَا الْفَرَائِضُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُعَصِّبُ، فَكَانَ زَيْدٌ لَا يَقُولُ بِالرَّدِّ وَيَجْعَلُ الْفَاضِلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ جُلُّ الصَّحَابَةِ بِالرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفَرَائِضِ مَا عَدَا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، وَأَجْمَعَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ يَكُونُ لَهُمْ بِقَدْرِ سِهَامِهِمْ فَمَنْ كَانَ لَهُ نِصْفٌ أَخَذَ النِّصْفَ مِمَّا بَقِيَ، وَهَكَذَا فِي جُزْءٍ جُزْءٍ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ قَرَابَةَ الدِّينِ وَالنَّسَبِ أَوْلَى مِنْ قَرَابَةِ الدِّينِ فَقَطْ؛ أَيْ: أَنَّ هَؤُلَاءِ اجْتَمَعَ لَهُمْ سَبَبَانِ وَلِلْمُسْلِمِينَ سَبَبٌ وَاحِدٌ).
مسائل الرد من أهم المسائل في باب الفرائض، فلو هلك هالك عن بنت وبنت ابن، فأخذت البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين، اختلف أهل العلم فيما فضل من المال بعد استيفاء أصحاب الفروض فروضهم، ولم يكن ثَمَّ عاصب إلى قولين:
القول الأول: أن يجعل الفاضل إلى بيت المال ولا يرد إلى الورثة. وبه قال زيد
(2)
رضي الله عنه، وإليه ذهب مالك
(3)
والشافعي
(4)
.
(1)
الرد في اللغة: الرجع. يقال: رجعت بمعنى رددت. ومنه: رددت عليه الوديعة، ورددته إلى منزله فارتد إليه. انظر:"المصباح المنير" للفيومي (1/ 224).
وفي الاصطلاح: دفع ما فضل عن فرض ذوي الفروض النسبية إليهم بقدر حقوقهم عند عدم استحقاق الغير. انظر: "شرح الفناري على السراجية"(ص 228).
(2)
"الأوسط" لابن المنذر (7/ 573) قال: "وقالت صائفة: يعطي أصحاب الفرائض فرائضهم ويجعل ما فضل من المال في بيت مال المسلمين. وروي هذا القول عن زيد بن ثابت".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 468) قال: " (ولا يرد) على ذوي السهام عند عدم العاصب، بل يدفع الباقي لبيت المال".
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 12) قال: " (لا يرد) ما بقي (على أهل الفرض) =
القول الثاني: أن يرد على ذوي الفرائض ما عدا الزوج والزوجة، وبه قال أكثر الصحابة
(1)
، وإليه ذهب أبو حنيفة
(2)
وأحمد
(3)
وغيرهم.
كيفية الرد:
يكون الرد إلى الورثة بقدر سهامهم، ففي المثال المذكور للبنت نصف الباقي، وهكذا.
وعمدة أصحاب هذا القوله: (أن قرابة الدين والنسب أَوْلَى من قرابة الدين فقط).
= فيما إذا فضل عنهم شيء، وهذا لولا ما قدرته لكان لا تعلق له بما قبله؛ إذ صورة المتن فقد الكل فيكون استئنافًا لفقد البعض، فإذا وجد ذو فرض كالبنتين والأختين أخذتا فرضيهما، ولا يرد عليهما الباقي؛ لقوله تعالى:{فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]، والرد يقتضي أخذهما الكل (بل المال) كله في فقدهم كلهم أو الباقي في فقد بعضهم بعد الفروض (لبيت المال)، سواء انتظم أمره بإمام عادل يصرفه في جهته أم لا؛ لأن الإرث للمسلمين، والإمام ناظر ومستوف لهم، والمسلمون لم يعدموا، وإنما عدم المستوفي لهم فلم يوجب ذلك سقوط حقهم، هذا هو منقول المذهب في الأصل".
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 105) قال: "وأما الرد فقال سائر الصحابة به، واختلفوا في كيفيته".
(2)
يُنظر: "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" لشيخي زاده (2/ 762، 763) قال: " (والرد ضد العول) إذ بالعول ينتقض سهام ذوي الفروض ويزداد أصل المسألة، وبالرد يزداد السهام وينتقض أصل المسألة، وذلك (بأن لا تستغرق السهام الفريضة مع عدم) المستحق من (العصبة فيرد الباقي على ذوي السهام) الفريضة (سوى الزوجين بقدر سهامهم)، وهو قول عامة الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - أي جمهورهم، وبه أخذ أصحابنا".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 433) قال: "فصل: وقد اختلف فيه والقول به وروي عن عمر وعلي وابن عباس وكذا عن ابن مسعود في الجملة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه
…
(وإذا لم تستوعب الفروض المال) كما لو كان الوارث بنتًا وبنت ابن ونحو ذلك (ولم يكن عصبة) مع ذوي الفروض (رد الفاضل) عن الفروض (على ذوي الفروض بقدر فروضهم) كالغرماء يقتسمون مال المفلس على قدر ديونهم (إلا الزوج والزوجة فلا رد عليهما)؛ لأنهما ليسا من ذوي القرابة".
• قوله: (وَهُنَاكَ مَسَائِلُ مَشْهُورَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا تَعَلُّقٌ بِأَسْبَابِ الْمَوَارِيثِ يَجِبُ أَنْ نَذْكُرَهَا هُنَا؛ فَمِنْهَا أَنَّهُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ
(1)
؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، وَلمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ"
(2)
.
شرع المؤلف رحمه الله في ذكر بعض المسائل التي اشتهر الخلاف فيها بين أهل العلم، ومن هذه المسائل: ميراث المسلم من الكافر، بعد أن اتفقوا على أنه لا يرث الكافرُ المسلمَ؛ لقول الله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} فدلت بعمومها على أن الكافر لا يرث من المسلم؛ لأن هذا الإرث سيكون طريقًا يصل به إليه ويوهم الأخوة بينه وبينه.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"
(3)
فهذا الحديث نص في المسألة. وأجمع العلماء على أن الكافر لا يرث المسلم.
* * *
[هَلْ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ أَوِ الْمُرْتَدَّ؟]
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ، وَفِي مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ الْمُرْتَدَّ؛ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 109) قال: "والكافر لا يرث المسلم بإجماع".
(2)
أخرجه البخاري (6764)، ومسلم (1614).
(3)
تقدم.
الْأَمْصَارِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ بِهَذَا الْأَثَرِ الثَّابِتِ، وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمَسْرُوق مِنَ التَّابِعِينَ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِنِسَائِهِمْ فَقَالُوا: كمَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ نِسَاءَهُمْ وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُنْكِحَهُمْ نِسَاءَنَا، كَذَلِكَ الْإِرْثُ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مُسْنَدًا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَشَبَّهُوهُ أَيْضًا بِالْقِصَاصِ فِي الدِّمَاءِ الَّتِي لَا تتكَافَأُ).
ميراث المسلم من الكافر:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول: أنه لا يرث المسلم الكافر، وبه قال الأئمة الأربعة
(1)
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"(5/ 100) قال: " (ولا يتوارثان) ش: أي المسلم والكافر، فلا يرث المسلم من الكافر". وانظر: "مختصر القدوري"(ص 246).
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 486) قال: " (ولا) يرث (مخالف في دين كمسلم مع مرتد) (أو غيره) من يهودي أو نصراني أو مجوسي (وكيهودي مع نصراني) فلا توارث بينهما؛ إذ كل ملة مستقلة". وانظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(4/ 714).
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 41، 44) قال: "فصل: لا يتوارث مسلم وكافر هذا أحدها، وهو اختلاف الدين لخبر "الصَّحيحين": "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"، ولانقطاع الموالاة بينهما، وانعقد الإجماع على أن الكافر لا يرث المسلم. واختلفوا في توريث المسلم منه؛ فالجمهور على المنع، وقيل: نرثهم كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا. وفرق الأول بأن التوارث مبني على الموالاة والمناصرة، ولا موالاة بين المسلم والكافر بحال".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 476) قال: "واختلاف الدين من موانع الإرث فـ (لا يرث المسلم الكافر) لحديث أسامة بن زيد مرفوعًا: "لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر" متفق عليه".
وأكثر فقهاء الأمصار، وهو المأثور عن جمهور الصحابة والتابعين
(1)
.
وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرت المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"
(2)
، وقد تقدم.
القول الثانى: أنه يرث، وإليه ذهب عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ومعاوية
(3)
رضي الله عنهم، وبعض التابعين؛ كسعيد ومسروق
(4)
.
وعللوا ذلك بأنه ليس في إرثه منه ظهور للكافر على المسلم. هذا أولًا.
وثانيًا: قالوا: إذا جاز للمسلم أن يتزوج من الكتابية جاز أن يرثها.
وثالثًا: استدلوا بما رواه أبو داود
(5)
والحاكم
(6)
والبيهقي
(7)
والدارقطني
(8)
: عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلِ رضي الله عنه أنَّهُ أُتِيَ فِي مِيرَاثِ يَهُودِيٍّ وَلَهُ وَارِثٌ مُسْلِم فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ".
وأخَّر المؤلف هذا الدليل وكان حقه التقديم، ولكن يبدو - والله أعلم
(1)
قال ابن القطان: "وجمهور التابعين بالحجاز والعراق على أن لا يرث المسلم الكافر، كما لا يرث الكافر المسلم، هو قول جل العلماء". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 109).
(2)
تقدم.
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 462، 463) قال: "وممن روي عنه أنه قال كذلك: عمر بن الخطاب
…
وروي ذلك عن معاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 368) قال: "وممن قال بقول معاذ ومعاوية أن المسلمين يرثون قراباتهم من الكفار ولا يرثهم الكفار
…
وسعيد بن المسيب ومسروق".
(5)
أخرجه أبو داود (2912)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(1123).
(6)
أخرجه الحاكم (4/ 383) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووأفقه الذهبي.
(7)
أخرجه البيهقي في الكبرى (6/ 338)، (6/ 416، 417).
(8)
لم أجده في "سنن الدارقطني".
- أنه ما وقف عليه؛ لأن ابن عبد البر
(1)
رحمه الله أشار إليه دون أن يذكره، والمؤلف كثيرًا ما يعتمد في هذا الكتاب على نقل عبارات "ابن عبد البر".
أمَّا هذا الحديث فقد جاء من رواية أبي الأسود الدؤلي عن معاذ، فهو حديث منقطع؛ لأن أبا الأسود لم يدرك معاذًا، وجاء عند أبي داود عن أبي الأسود الدؤلي: أن رجلًا حدثه عن معاذ، ثم ساق الحديث، فالواسطة بين أبي الأسود ومعاذ مجهول أيضًا
(2)
. هذا من حيث السند.
أمَّا من حيث المتن فإن الحديث ليس نصًّا في ما ذهبوا إليه. قال المؤلف: (قال أبو عمر: وليس بالقوي عند الجمهور)
(3)
أي: من حيث السند، وهذا ما مال إليه المؤلف.
ويحتمل أن المراد بقوله: (ليس بالقوي) أي: في دلالته على أن المسلم يرث الكافر لا نصًّا ولا ظاهرًا، ولذا قال البيهقي في "سننه الكبرى" - وهو ممن خرج هذا الحديث -:"المراد بقوله: "الإسلام يزيد ولا ينقص" أي: أن الإسلام في ازدياد ولا ينقصه ردة المرتد"
(4)
. أي: مهما ارتد من المرتدين فإن الإسلام لا ينقم.
• قوله: (وَأَمَّا مَالُ الْمُرْتَدِّ إِذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ: هُوَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَرِثُهُ قَرَابَتُهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ زيدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَجُمْهُورُ الْكُوفِيِّينَ وَكثِيرٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ
(1)
انظر: "الاستذكار"(5/ 368).
(2)
يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 417) قال: "
…
وهذا رجل مجهول، فهو منقطع".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 368) قال: "ورووا فيه حديثًا ليس بالقويِّ مسندًا".
(4)
يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 417) قال: "فورث المسلم وإن صح الخبر فتأويله غير ما ذهب إليه، إنما أراد أن الإسلام في زيادة ولا ينقص بالردة".
قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما، وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ عُمُومُ الْحَدِيثِ، وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ؛ وَقِيَاسُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قَرَابَتَهُ أَوْلَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِسَبَبَيْنِ: بِالْإِسْلَامِ وَالْقَرَابَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَرُبَّمَا أَكَّدُوا بِمَا يَبْقَى لِمَا لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي الْحَالِ حَتَّى يَمُوتَ فَكَانَتْ حَيَاتُهُ مُعْتَبَرَةً فِي بَقَاءِ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ لِمَالِهِ حُرْمَة إِسْلَامِيَّةٌ، وَيذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَى الِارْتِدَادِ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرِ).
ميراث المرتد:
والمرتد: هو من خرج من الإسلام بعد أن دخل فيه
(1)
.
وحدُّه: القتل.
واختلف أهل العلم في ميراث المرتد على قولين:
القول الأول: أن ميراثه لجماعة المسلمين ولا يرثه قرابته، وهو قول الجمهور- ما لك
(2)
والشافعي
(3)
....................................
(1)
المرتد لغة: الراجع؛ يقال: ارتد مرتد: إذا رجع.
وفي الاصطلاح: هو الرجوع من الدين الحق إلى الباطل، أو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 22)، و"أنيس الفقهاء" للقونوي (ص 67).
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي على الرح الصغير" للخلوتي (4/ 714) قال: "مال المرتد فيء للمسلمين إذا مات أو قتل على ردته، فلا يرث ولا يورث".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 44) قال: "و (لا يرث مرتد) بحال؛ إذ لا سبيل إلى توريثه من مثله؛ لأن ما خلفه فيء، ولا من كافر أصلي للمنافاة بينهما؛ لأنه لا يقر على دينه وذاك يقر، ولا من مسلم للخبر المار، دان عاد إلى الإسلام بعد موت مورثه، وما ادعاه ابن الرفعة من أنه إذا أسلم بعد موت مورثه أنه يرثه رده السبكي =
وأحمد في رواية
(1)
- وقال به من الصحابة زيد بن ثابت
(2)
رضي الله عنه.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر"
(3)
، وهذا قد كفر بردته.
القول الثاني: أن ميراثه لورثته من المسلمين، وبه قال أبو حنيفة
(4)
والثوري
(5)
، ورواية عن أحمد
(6)
، وهو قول علي وابن مسعود
(7)
من الصحابة.
= وقال: إنه مصادم للحديث وخرق للإجماع، قال: وممن نقل الإجماع على أن المرتد لا يرث من المسلم شيئًا وإن أسلم بعد ذلك الأستاذ أبو منصور البغدادي، (ولا يورث) بحال، بل ماله يكون فيئًا لبيت المال، سواء اكتسبه في الإسلام أم في الردة".
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 478) قال: " (ولا يرثه) أي: المرتد أحد من المسلمين؛ لأن المسلم لا يرث من الكافر ولا من غير المسلمين؛ لأنه يخالفهم في حكمهم؛ لأنه لا يقر على ما هو عليه من الردة، (فإن مات) المرتد ولو أنثى (في ردته، فماله فيء) يوضع في بيت المال للمصالح العامة وليس وارثًا". وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 352).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 369) قال: "واختلفوا في
…
ميراث المرتد على قولين؛ أحدهما: أن ماله إذا قتل على ردته في بيت المال لجماعة المسلمين، وهو قول زيد بن ثابت".
(3)
تقدم.
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 246، 247) قال: "ومال المرتد لورثته من المسلمين، وما اكتسبه في حال ردته فيء". وانظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (7/ 274).
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 369) قال: "وقال أبو حنيفة والثوري وجمهور الكوفيين وكثير من البصريين: إذا قتل المرتد على ردته ورثه ورثته من المسلمين".
(6)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 352) قال: "قوله: (وإن مات في ردته فماله فيء). هذا الصحيح من المذهب. وعليه جماهير الأصحاب
…
وعنه: أنه لورثته من المسلمين اختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله".
(7)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 465) قالا: "اختلف أهل العلم في ميراث المرتد، فقالت طائفة: ميراثه لورثته من المسلمين. روي هذا القول عن علي وعبد الله".
وحجتهم في ذلك: أن قرابته أولى من المسلمين؛ لأنهم يدلون بسببين: الإسلام والقرابة؛ بخلاف غيرهم من المسلمين فإنهم يدلون بسبب واحد وهو الإسلام.
وأجاب الجمهور بأن تلك الرابطة قد انقطعت بردته وخروجه عن هذا الدين.
وأما قولهم: إنه لا يؤخذ ماله في الحال حتى يموت، فكانت حياته معتبرة في بقاء ماله على ملكه.
فالجواب عن ذلك: أن المرتد لا يقتل مباشرة حال ردته ليعطى الفرصة للتوبة والرجوع إلى الدين؛ لا لأن حياته معتبرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن بَدَّل دينه فاقتلوه"
(1)
.
قوله: (بخلاف الكافر) مراد المؤلف رحمه الله أن الكافر لو بقي على كفره والتزم بما هو مطلوب منه كدفع الجزية ونحوها فإنه يترك؛ قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ، أما المرتد فإمَّا أن يعود إلى الدين، وإمَّا أن يقتل.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: يُؤْخَذُ بِقَضاءِ الصَّلَاةِ إِذَا تَابَ مِنَ الرِّدَّةِ فِي أَيَّامِ الرِّدَّةِ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى يَقُولُ: يُوقَفُ مَالُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ حُرْمَةً إِسْلَامِيَّةً، وَإِنَّمَا وُقِفَ رَجَاءَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ اسْتِيجَابَ الْمُسْلِمِينَ لِمَالِهِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الْإِرْثِ، وَشَذَّتْ طَائِفَة فَقَالَتْ: مَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا يَرْتَدُّ، وَأَظُنُّ أَنَّ أَشْهَبَ
(2)
مِمَّنْ يَقُولُ بِذَلِكَ).
(1)
أخرجه البخاري (3017)(6922).
(2)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (8/ 339) قال: "وقال أشهب: مال المرتد - مذ يرتد - لبيت مال المسلمين".
ذهب الشافعية
(1)
وكذلك الحنابلة
(2)
إلى أن المرتد إذا تاب من ردته فإنه يُطالَب بما فاته أيام الردة.
* * *
[تَوْرِيثُ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا]
اختلف أهل العلم في الكفر: هل هو ملة واحدة أو ملل شتى؟
والذي لا شك فيه أن الكفر إذا كان في مقابل الإسلام فهو ملة واحدة، وأما الكفر من حيث هو ملل متعددة أو ملة واحد، اختلف أهل العلم في ذلك، ومن فروع هذا الاختلاف مسألة توريث بعضهم من بعض. فقد اختلف فيها أهل العلم على التفصيل الذي سيأتي.
• قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى تَوْرِيثِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا)
(3)
فيرث اليهودي من اليهودي، والنصراني من النصراني، والمجوسي من المجوسي وهكذا، بلا خلاف بين العلماء.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَجَمَاعَة إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا يَتَوَارَثُونَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَبِهِ
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 89) قال: "إذا ارتد الرجل عن الإسلام، ثم أسلم كان عليه قضاء كل صلاة تركها في ردته".
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 223) قال: " (ويقضي) المرتد إذا عاد إلى الإسلام (ما فاته قبل ردته) لاستقراره في ذمته، و (لا) يقضي ما فاته (زمنها) أي: زمن ردته لعدم وجوبه عليه كالأصلي".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 108) قال: "واتفقوا أن النصراني يرث النصراني، وأن المجوسي يرث المجوسي، وأن اليهودي يرث اليهودي".
قَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ: الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ يَتَوَارَثُونَ. وَكَانَ شُرَيْحٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ يَجْعَلُونَ الْمِلَلَ الَّتِي لَا تَتَوَارَثُ ثَلَاثًا: النَّصَارَى وَالْيَهُودَ وَالصَّابِئِينَ مِلَّةً، وَالْمَجُوسَ وَمَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِلَّةً، وَالْإِسْلَامَ مِلَّةً).
اختلف أهل العلم في هذه المسألة إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن أهل الملل المختلفة لا يتوارثون، وبه قال مالك
(1)
وأحمد في رواية عنه
(2)
.
واستدل أصحاب هذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"، وهو حديث صحيح رواه أحمد
(3)
وأصحاب السنن
(4)
والبيهقي
(5)
والدارقطني
(6)
، فقوله:"ملتين" على ظاهره؛ فاليهودية ملة، والنصرانية ملة، وهكذا.
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 693) قال: " (وكيهودي مع) قريب أو زوج أو مولى (نصراني وسواهما) أي اليهودية والنصرانية من أنواع الكفر كله (ملة) بكسر الميم وشد اللام واحدة. ابن يونس
…
أن الإسلام ملة واليهودية ملة، والنصرانية ملة، والمجوسية وما سواها ملة؛ لأنهم لا كتاب لهم
…
لكن كلام ابن مرزوق يفيد أن المعتمد أن غير اليهودية والنصرانية ملل، وهو ظاهر نص الأمهات ونص المدونة، ولا يتوارث أهل الملل من أهل الكفر". وانظر:"حاشية الصاوي" للخلوتي (4/ 715).
(2)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 477) قال: " (ويرث الكفار بعضهم بعضًا إن اتحدت ملتهم، وهم ملل شتى مختلفة، فلا يرثون مع اختلافها)، روي عن علي لقوله جميه: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"، رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. فاليهودية ملة، والنصرانية ملة، والمجوسية ملة، وعبدة الأوثان ملة، وعبدة الشمس ملة". وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 350).
(3)
أخرجه أحمد في "مسنده"(6664)(6844)، وحسنه الأرناؤوط لغيره.
(4)
أخرجه أبو داود (2911)، والترمذي (2108)، والنسائي في "الكبرى"(6348)، وابن ماجه (2731).
(5)
أخرجه البيهقي في الكبرى (6/ 358).
(6)
أخرجه الدارقطني (5/ 132)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1719).
القول الثاني: أنهم يتوارثون، وبه قال الشافعي
(1)
وأبو حنيفة
(2)
وأبو ثور والثوري
(3)
وداود
(4)
وأحمد في رواية
(5)
.
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولًا: قول الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} ، ولم يقل:"أديانكم"، فدلَّ على أنهم ملة واحدة.
ثانيًا: قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ، ولم يقل:"مللهم" فاعتبرهم مع تنوعهم واختلافهم ملة واحدة.
ثالثًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"
(6)
، فدل بدليل الخطاب
(7)
- أي: مفهوم المخالفة - أن المسلم يرث المسلم والكافر يرث الكافر.
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 44، 45) قال: " (ويرث الكافر الكافر) على حكم الإسلام (وإن اختلفت ملتهما) كيهودي من نصراني، ونصراني من مجوسي، ومجوسي من وثني وبالعكوس؛ لأن جميع ملل الكفر في البطلان كالملة الواحدة".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفى وحاشية ابن عابدين "رد المحتار"(6/ 767) قال: " (قوله: إسلامًا وكفرًا) قيد به؛ لأن الكفار يتوارثون فيما بينهم وإن اختلفت مللهم عندنا؛ لأن الكفر كله ملة واحدة".
(3)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 474) قال: "وكذلك أهل الشرك يرث بعضهم بعضًا، يرث اليهودي النصراني، والنصراني المجوسي، هذا قول
…
وسفيان الثوري
…
وأبو ثور".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 370) قال: "وقال الشافعي
…
وداود
…
: الكفار كلهم يتوارثون، والكافر يرث الكافر على أي كفر كان؛ لأن الكفر كله عندهم ملة واحدة".
(5)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 350) قال: "قوله: (ويرث أهل الذمة بعضهم بعضا، إن اتفقت أديانهم. وهم ثلاث ملل: اليهودية، والنصرانية، ودين سائرهم). هذا إحدى الروايات، قال الزركشي: هذا قول القاضي، وعامة الأصحاب. وجزم به في الوجيز". وانظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 368).
(6)
تقدم تخريجه.
(7)
قال الغزالي: "ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه، =
ولكن اعترض عليه بأنه استدلال ضعيف من وجهين:
الوجه الأول: أن القول بدليل الخطاب ضعيف، ومن أهل العلم من أنكر دلالته أصلًا.
الوجه الثاني: إن قلنا بمفهوم المخالفة فهو مقيد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"
(1)
.
القول الثالث: توارث اليهود والنصارى والصائبين من بعضهم، والمجوس ومن لا كتاب له من بعضهم، وبه قال جماعة من السلف كشريح وابن أبي ليلى
(2)
.
• قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ).
قول مالك المشار إليه هو ما قدمه من قوله: "فذهب مالك وجماعة أن أهل الملل المختلفة لا يتوارثون كاليهود والنصارى".
وقول ابن أبي ليلى الأول، هو المشار إليه بقوله:"وكان شريح، وابن أبي ليلى وجماعة يجعلون الملل التي لا تتوارث ثلاثًا: النصارى واليهود والصابئين ملة، والمجوس ومن لا كتاب له ملة، والإسلام ملة".
فأفاد رحمه الله أن ابن أبي ليلى له قول موافق لقول مالك أن أهل الملل كاليهود والنصارى لا يتوارثون.
= ويسمى مفهومًا؛ لأنه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق، وإلا فما دل عليه المنطوق - أيضًا - مفهوم، وربما سمي هذا دليل الخطاب، ولا التفات إلى الأسامي، وحقيقته: أن تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة". انظر: "المستصفى" (ص 265).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 371)، قال: "وقال شريح القاضي ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى
…
: يجعلون الكفر ثلاث ملل: اليهود والسامرة ملة، والنصارى والصابئون ملة، والمجوس وَمَن لا دين له ملة، والإسلام ملة على اختلاف عن شريك وابن أبي ليلى في ذلك أيضًا؛ لأنهما قد روي عنهما مثل قول مالك أيضًا في ذلك".
وعمدة مالك ومن قال بقوله ما روى الثقات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ".
وهذا الحديث يحتمل احتمالين: إما أن يكون دليلًا لمالك؛ لأن اليهودية ملة، والنصرانية ملة، ويحتمل: أنه دليل التوارث؛ لأن الكفار بعضهم من بعض؛ قال في "معالم السنن"(4/ 101 - 102): "عموم هذا الكلام يوجب أن لا يرث اليهودي النصراني ولا المجوسي اليهودي، وكذلك قال الزهري وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل.
وقال أكثر أهل العلم: الكفر كله ملة واحدة يرث بحضهم بعضًا، واحتجوا بقول الله سبحانه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وقد علق الشافعي القول في ذلك وغالب مذهبه أن ذلك كله سواء".
• قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ"، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ يَرِثُ الْكَافِرَ. وَالْقَوْلُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِيهِ ضَعْفٌ وَخَاصَّةً هُنَا).
دليل الخطاب، هو مفهوم المخالفة، وقوله:"فيه ضعف"؛ يعني: الضعف النسبي بالنسبة للمنطوق، والعموم، وغيرها من الأدلة، ولا يقصد أنه ليس بحجة، فالجمهور يحتج بدليل الخطاب في الجملة، وإنما هذا نظير قوله رحمه الله (3/ 211):"إنما الربا في النسيئة"، وهذا ليس يفهم منه إجازة التفاضل إلا من باب دليل الخطاب، وهو ضعيف، ولا سيما إذا عارضه النصُّ.
وقوله: "خاصة هنا"؛ لأن المفهوم هنا مفهوم لقب، و"اللقب": تعليق الحكم باسم عام، وهو أضعف صور مفهوم المخالفة.
قال في مراقي السعود:
أَضْعَفُهَا اللَّقَبُ وَهُوَ مَا أُبِي
…
من دُويهِ نَظْمُ الْكَلَامِ الْعَرَبِي
فكون الكافر يرثُ الكافر عمومًا - مع إغفال كونه يهوديًا أو نصرانيًا أو غير ذلك - لا يُأخذ إلا من اللقب، وهو ضعيف، فلا يُعارض الحديث السابق.
* * *
[تَوْرِيثُ الْحُمَلَاءِ]
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْحُمَلَاءِ؛ وَالْحُمَلَاءُ هُمُ الَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ بِأَوْلَادِهِمْ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ يَدَّعُونَ تِلْكَ الْوِلَادَةَ الْمُوجِبَةَ لِلنَّسَبِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ؛ قَوْل: إِنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِمَا يَدَّعُونَ مِنَ النَّسَبِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَاِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ
(1)
، وَقَوْل: إِنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى أَنْسَابِهِمْ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ
(2)
، وَقَوْل: إِنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ أَصْلًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ الثلَاثَةُ الْأَقْوَال؛ إِلَّا أَنَّ الْأَشْهرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ إِلَّا مَنْ وُلِدَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ
(3)
وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيز
(4)
).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 374) قال أبو عمر: "والرواية الثالثة عن عمر وذكرها أبو بكر عن وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: قال عمر: كل نسب يتواصل عليه بالإسلام فهو وارث موروث، وهو قول إبراهيم وطائفة من التابعين، وإليه ذهب إسحاق".
وانظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" لإسحاق الكوسج (8/ 4255) قال: "قال إسحاق: كلما تواصلوا في الإسلام، ورث بعضهم من بعض".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"(5/ 373) قال: "وهو قول شريح وعطاء والشعبي والحسن وابن سيرين والحكم وحماد".
(3)
ينظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 486) قال: "إن عثمان كان لا يورث بولادة أهل الشرك".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 487) قال: "وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وقال: لا يتوارثون حتى يشهد على النسب".
الحملاء جمع حميل وهو المنتقل من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، فهل يُقر على ما يدعيه من نسب؟ وهل يحصل التوارث بينهم أم لا؟
وقيل: الحميل هو الذي يحمل نسبه على غيره ولا يعرف ذلك إلا من قوله
(1)
.
واختلف أهل العلم في مسألة توريثهم على أقوال:
القول الأول: أنهم يتوارثون بما يدعون من النسب.
القول الثاني: أنهم لا يتوارثون أصلًا.
القول الثالث: أنهم لا يتوارثون إلا ببينةٍ.
وعن عمر رضي الله عنه الثلاثة الأقوال، أوردها ابن عبد البر بأسانيدها، وأشهرها أنهم لا يتوارثون إلا ببينة، واشتهر هذا القول أيضًا عن أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنه.
القول الرابع: أنه لا يرث إلا من ولد في بلاد العرب.
• قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنْ لَا يُوَرَّثُوا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ
(2)
، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنْ لَا يُوَرَّثُوا أَصْلًا وَلَا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ
(1)
"الحميل": هو الذي يحمل من بلاده صغيرًا إلى بلاد الإسلام، وقيل: هو المجهول النسب؛ وذلك أن يقول الرجل لإنسان: هذا أخي، - أو ابني - ليزوي ميراثه عن مواليه، فلا يصدق إلا ببينة. انظر:"النهاية" لابن الأثير (1/ 442)، و"الصحاح" للجوهري (4/ 1678).
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (14/ 229) قال: "
…
والثاني الذي رجع إليه أنه لا يتوارث بها إلا أن يثبت النسب بالبينة العدلة، متل الأسارى من المسلمين يكونون عندهم، أو الحربيين يأتون بأمان فيسلمون، أو يسبون فيحتقون ويسلمون، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب؛ ذكر ابن أبي شيبة عن الشعبي: أن عمر بن الخطاب كتب إلى شريح: ألا يورث الحميل إلا ببينة. وإلى هذا ذهب ابن القاسم".
أَصْحَابِ مَالِكٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجشُونِ
(1)
، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي أَهْلِ حِصْنٍ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ، وَهَذَا يَتَخَرَّجُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِلَا بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ مَالِكًا لَا يُجَوِّزُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ
(2)
).
كأن المؤلف رحمه الله يشير إلى أن هذا يتعارض مع أصل مالك رحمه الله، وهو أنه لا يُجوِّز شهادة الكافر على الكافر، فكيف تقبل شهادة أهل الحصن بعضهم لبعض؟! ولكن لعل هذا مما دعت إليه الضرورة، إذ لا يمكن توفر شهود عدول في مثل هذه الحالة، والله أعلم.
• قوله: (قَالَ: فَأَمَّا إِنْ سُبُوا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَبِنَحْوِ هَذَا التَّفْصِيلِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ
(3)
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (14/ 228، 229) قال: "اختلف قول مالك في ولادة الشرك: هل يتوارث بها في الإسلام أم لا؟ على قولين؛ أحدهما: وهو قوله الأول أنه لا يتوارث بها في الإسلام وإن ثبت النسب بعدول من المسلمين على ظاهر ما روي من أن عمر بن الخطاب أَبَى أن يورث أحدًا من الأعاجم إلا أحدًا ولد في العرب، وهو قول ابن الماجشون".
(2)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (8/ 425) قال: "قال الإمام مالك - رضي الله تعالى عنه -: أما أهل البيت والنفر اليسير يحملون إلى أرض الإسلام ويسلمون فلا يتوارثون بقولهم، ولا تقبل شهادة بعضهم لبعض؛ إلا أن يشهد لهم بذلك من كان ببلدهم من المسلمين. وأما أهل الحصن والعدد الكثير يحملون إلى أرض الإسلام ويسلمون فتقبل شهادة بعضهم لبعض ويثوارثون بذلك".
وينظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (14/ 228) قال: "قال ابن القاسم: وقال لي مالك: لو أن أهل حصن أسلموا أو جماعة لهم عدد فتحملوا إلى بلد المسلمين، رأيت أن يتوارثوا بأنسابهم؛ وأما النفر اليسير مثل الثمانية والسبعة، فلا أرى أن يتوارثوا، قال ابن القاسم: والعشرون عندي عدد يتوارثون، قال سحنون: لا أرى العشرين عددًا يتوارثون".
(3)
يُنظر: "الأم" للشافعي (6/ 244) فال: "قال: وإذا ادعى الأعاجم بولادة الشرك إخوة بعضهم لبعض، فإن كانوا جاؤونا مسلمين لا ولاء لأحد عليهم بعتق قبلنا دعواهم كما قبلنا دعوى غيرهم من أهل الجاهلية الذين أسلموا، فإن كانوا مسبيين عليهم، =
وَأَحْمَدُ
(1)
وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ خَرَجُوا إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ يَدٌ قُبِلَتْ دَعْوَاهُمْ فِي أَنْسَابِهِمْ، وَأَمَّا إِنْ أَدْرَكهُمُ السَّبْيُ وَالرِّقُّ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ).
لأنهم إذا كانوا من سبي المسلمين فلا يقبل قولهم في ذلك؛ لأنهم أصبحوا موالي، ولا يخرجون من ذلك إلا بإعتاق رقابهم.
• قوله: (فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: اثْنَان طَرَفَانِ، وَاثْنَانِ مُفَرِّقَانِ).
هذا تلخيص للأقوال في هذه المسألة:
الأول: أنهم لا يورثون، والثاني: أنهم يورثون مطلقًا، والثالث: أنهم يرثون ببينة، والرابع: أنهم يرثون إذا ولدوا في بلاد الرب.
• قوله: (وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
(3)
مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَمِنَ الصَّحَابَةِ
= ورقوا أو عتقوا فيثبت عليهم ولاء لم تقبل دعواهم إلا ببينة تثبت على ولاد ودعوى معروفة كانت قبل السبي، وهكذا من قل منهم أو كثر. أهل حصن كانوا أو غيرهم".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 281) قال: "وإن كانوا سبيًا، فأقر بعضهم بنسب بعض، وقامت بذلك بينة من المسلمين، ثبت أيضًا، سواء كان الثاهد أسيرًا عندهم أو غير أسير. ويسمى الواحد من هؤلاء حميلًا؛ أي محمولًا، كما يقال للمقتول قتيل، وللمجروح جريح؛ لأنه حمل من دار الكفر. وقيل: سمي حميلًا؛ لأنه حمل نسبه على غيره. وإن شهد بنسبه الكفار لم تقبل. وعن أحمد رواية أخرى: أن شهادتهم في ذلك تقبل؛ لتعذر شهادة المسلمين به في الغالب، فأشبه شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر، إذا لم يكن غيرهم".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 201) قال: "وقال أبو ثور: إذا ادعى رجل ابن رجل قد مات، فقال: هذا ابن ابني، ولم يكن الأب يقر بذلك لم تجز دعوته، وكذلك لو كانت امرأة، فادعت صبيًّا وأقر الصبي بذلك ثبت نسبه بقولها
…
وقال أبو ثور: إذا لم يكن له وارث يعرف فهو في بيت المال. وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: إذا أقر الرجل بابن من امرأة، وصدقته فهو ثابت النسب منهما".
(3)
اتفق فقهاء المذاهب ومن سبقهم من علماء السلف وعامة الصحابة على أن من لا يرث لمانع فيه كالقتل أو الرق لا يحجب غيره؛ لا حرمانًا ولا نقصانًا، بل وجوده =
عَلِيٌّ وَزَيْدٌ، وَعُمَرُ
(1)
أَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ مِثْلَ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْقَاتِلِ عَمْدًا، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ
(2)
يَحْجُبُ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ دُونَ أَنْ يُوَرِّثَهُمْ؛ أَعْنِي: بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْعَبِيدِ وَبِالْقَاتِلِينَ عَمْدًا، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ
(3)
، وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْحَجْبَ فِي مَعْنَى الْإِرْثِ وَأَنَّهُمَا
= كالعدم. وخالفهم في ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: إن المحروم من الإرث يحجب غيره حرمانًا ونقصانًا.
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين "رد المحتار"(6/ 780) قال: " (قوله: والمحروم) أي من قام به مانع عن الإرث لمعنى في نفسه (قوله: عندنا) وعليه عامة الصحابة. وعن ابن مسعود أنه يحجب نقصانًا لا حرمانًا كالابن الكافر مثلًا مع أحد الزوجين، وعنه أيضًا أنه يحجب الأخ لأم بابن كافر حجب حرمان. (فوله: أصلًا) أي: لا نقصانًا ولا حرمانًا. (قوله: ويحجب المحجوب) أي: المحجوب حرمانا يحجب غيره حرمانًا ونقصانًا".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطابى الرباني"(2/ 376) قال: " [قوله: أن يكون حرًّا مسلمًا] أي لا إن كان عبدًا أو كافرًا؛ لأن من لا يرث لا يحجب وارثًا إلا ما يأتي استثناؤه. [قوله: غير قاتل] لا يخفى أن القاتل - أي القاتل للميت - المتعلق به الإرث إذا كان متعمدًا لا يرث من مال ولا دية، وإذا كان مخطئًا لا يرث من الدية ويرث من المال، فيحجب فيما يرث فيه، ولا يحجب فيما لا يرث فيه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 22) قال: "من لا يرث لمانع من رق أو نحوه لا يحجب غيره حرمانًا ولا نقصانًا".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 424) قال: " "ومن لا يرث لمانع فيه من رق أو قتل أو اختلاف دين لم يحجب) أحدًا لا حرمانًا؛ بل ولا نقصانًا، ووجوده كعدمه".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 375) قال: "وقال علي بن أبي طابى وزيد بن ثابت: لا يحجب من لا يرث بحال من الأحوال".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 375) قال: "فذهب ابن مسعود وحده من بين الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى أن الكافر والعبد والقاتل يحجبون وإن كانوا لا يرثون".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 375) قال: "وقال بقوله - أي ابن مسعود - أبو ثور وداود؛ على أن أصحاب داود اختلفوا في ذلك".
مُتَلَازِمَانِ. وَحَجَّةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْحَجْبَ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِالْمَوْتِ).
أي: أن القتل والكفر والرق موانع من الإرث، ولا تأثير لواحد من هذه الأصناف الثلاثة في بقية الورثة.
* * *
[تَوَارُثُ الْمَفْقُودِينَ
(1)
]
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الَّذِينَ يُفْقَدُونَ فِي حَرْبٍ، أَوْ غَرَقٍ، أَوْ هَدْمٍ وَلَا يُدْرَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ صَاحِبِهِ كيْفَ يَتَوَارَثُونَ إِذَا كَانُوا أَهْلَ مِيرَاثٍ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ
(2)
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُوَرَّثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَأَنَّ مِيرَاثَهُمْ جَمِيعًا لِمَنْ بَقِيَ مِنْ قَرَابَتِهِمُ الْوَارِثِينَ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لهُمْ قَرَابَةٌ تَرِثُ، وَبِهِ قَالَ
(1)
"المفقود": اسم مفعول من فقدت الشيء غاب عني، وأنا فاقد والشيء مفقود. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص 364)، و"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 374).
واصطلاحًا: هو الغائب الذي انقطع خبره، ولا يدرى حياته من موته. انظر:"شرح السراجية" للجرجاني (ص 225).
(2)
يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" للخلوتي (4/ 715 - 716) قال: (ولا من جهل تأخر موته)، أي: أن الجهل بتأخر الموت مانع من الإرث؛ لأن شرط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، فرجع إلى أن موجب عدم الإرث هو الشك في الشرط. فإذا مات قوم من الأقارب تحث هدم أو في حرق فنقدر أن كل واحد كأنه لم يخلف صاحبه، وإنما خلف الأحياء من ورثته. فلو مات رجل وزوجته وثلاثة بنين له منها تحت هدم مثلًا وجهل موت السابق منهم، وترك الأب زوجة أخرى، وتركت الزوجة ابنًا لها من غير زوجها الميت؛ فللزوجة الربع، وما بقي للعاصب، ومال الزوجة لابنها الحي، وسدس مال البنين لأخيهم لأمهم، وباقيه للعاصب. وانظر:"الجامع لمسائل المدونة" لابن يونس (10/ 621).
الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَة
(2)
وَأَصْحَابُهُ فِيمَا حَكَى عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ، وَذَهَبَ
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 48 - 49) قال: " (ومن أسر)، أي: أسره كفار أو غيرهم (أو فقد وانقطع خبره) وله مال وأريد الإرث منه (ترك)، أي: وفف (ماله) ولا يقسم (حتى تقوم بينة بموته أو) ما يقوم مقام البينة بأن (تمضي مدة) يعلم أو (يغلب على الظن أنه)، أي: المفقود (لا يعيش فوقها) فلا يشترط القطع بأنه لا يعيش أكثر منها وإذا مضت المدة المذكورة (فيجتهد القاضي) حينئذٍ (ويحكم بموته)؛ لأن الأصل بقاء الحياة فلا يورث إلا بيقين. أما عند البينة فظاهر. وأما عند مضي المدة مع الحكم فلتنزيله منزلة قيام البينة".
تنبيه: ومن أُسِر أو فُقِد وانقطع خبره وله مال وأريد الإرث منه ترك ماله ولا يقسم حتى تقوم بينة بموته أو ما يقوم مقام البينة بأن تمضي مدة يعلم أو يغلب على الظن أن المفقود لا يعيش فوقها .... (ثم يعطي ماله من يرثه وقت) إقامة البينة أو (الحكم) بموته فإنه فائدة الحكم، فمن مات قبل ذلك ولو بلحظة لم يرث منه شيئا لجواز موته فيها.
(2)
ينظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (8/ 434 - 436) قال: "قال أبو جعفر: (ولو أن هذا المفقود أتى عليه من المدة وهو مفقود ما لا يعيش مثله إلى مثلها: قضي بموته، ثم قسم ماله يوم قضي بموته بين ورثته الموجودين يومئذ)، ولا يرثه من مات قبل ذلك، ولا يرث المفقود منه أيضًا
…
ولا يكون محكومًا بحياته أيضًا فيما يستحقه هو من ميراث من مات من ورثته قبل هذه المدة، بل يرث كل واحد منهم ورثته؛ لأنا لم نتيقن تقدم موت أحدهما على الآخر، فصار كالقوم يغرقون جميعًا، أو يقع عليهم البيت، فيورث الأحياء من الأموات، ولا يرث الأموات بعضهم من بعض، وصاروا في هذا الوجه كأنهم ماتوا جميعًا معًا".
وأما مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 465 - 466) قال: "القسم الئاني من انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك وهو المشار إليه بقوله: (وإن كان غالبها)، أي: غالب أحوال غيبته (الهلاك، كمن غرق مركبه فسلم قوم دون قوم، أو فقد من بين أهله، كمن يخرج إلى الصلاة) فلا يعود (أو) يخرج (إلى حاجة قريبة فلا يعود، أو) فقد (في مفازة مهلكة، كمفازة الحجاز) قال في المبدع: مهلكة
…
وهي أرض يكثر فيها الهلاك انتهى.
.... (قسم ماله) بين ورثته (واعتدت امرأة عدة الوفاة وحلت للأزواج) لاتفالتى الصحابة على ذلك .... (ولا يرثه)، أي: المفقود (إلا الأحياء من ورثته وقت قسم ماله) وهو عند تتمة المدة من التسعين، أو الأربع على ما تقدم
…
و (لا) يرث من =
عَلِيٌّ، وَعُمَرُ
(1)
رضي الله عنهما، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ الطَّحَاوِيِّ عَنْهُ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ، وَصِفَةُ تَوْرِيثِهِمْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ يُوَرِّثُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ فِي أَصْلِ مَالِهِ دُونَ مَا وَرِثَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضر أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُضَمُّ إِلَى مَالِ الْمُوَرِّثِ مَا وَرِثَ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَتَوَارَثُونَ الْكُلَّ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ وَاحِدٌ كَالْحَالِ فِي الَّذِينَ يُعْلَمُ تَقَدُّمُ مَوْتِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِتَالُ ذَلِكَ: زَوْجٌ وَزَوْجَتُةٌ تُوُفِّيَا فِي حَرْبٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ هَدْمٍ وَيكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَيُوَرَّثُ الزَّوْجُ مِنَ الْمَرْأَةِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتُوَرَّثُ الْمَرْأَةُ مِنَ الأَلْفِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ الزَّوْجِ دُونَ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي وَرِثَ مِنْهَا رُبُعَهَا وَذَلِكَ مِائَتَان وَخَمْسُونَ).
فيرثون تلاد المال (القديم) دون طارفه (ما يرثه ممن شاركه في الموت، ولم نعلم أيهما تقدم).
* * *
= المفقود (من مات) من ورثته (قبل ذلك)، أي: الوقت الذي يقسم ماله فيه؛ لأنه بمنزلة من مات في حياته؛ لأنها الأصل".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 376) قال: "وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب .. أنه يورث كل واحد من الغرقى والقتلى ومن مات تحت الهدم ومن أشبههم ممن أشكل أمرهم فلا يدرى أيهم مات أولَّا من صاحبه .. وبه قال
…
وسائر الكوفيين وجمهور البصريين".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 376 - 377) قال: "وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وإياس بن عبد الله المزني رضي الله عنه أنه يورث كل واحد من الغرقى والقتلى ومن مات تحت الهدم ومن أشبههم ممن أشكل أمرهم فلا يدرى أيهم مات أولًّا من صاحبه، روي ذلك عن عمر وعلي من وجوه ذكرها بن أبي شيبة وغيره، .... وبه قال شريح وعبيدة السلماني والشعبي وإبراهيم النخعي وأبو يوسف فيما ذكره الفراض وغيرهم عنهم وسفيان الثوري وسائر الكوفيين وجمهور البصريين".
[مِيرَاثُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ
(1)
وَوَلَدِ الزِّنَى]
• قوله: (وَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدِ الزِّنَا).
إذا نفي الولد في اللعان انقطعت صلته بمن انتفى منه، وتكون صلته من جهة أمه، فما حكم ميراث ولد الملاعنة؟
• قوله: (فَذَهَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ يُوَرَّثُ كمَا يُوَرَّثُ غَيْرُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأُمِّهِ إِلَّا الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ)
(2)
.
وذلك أن الأصل في ميراث الأم هو الثلث.
• قوله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ إِخْوَة لِأُمٍّ، فَيَكُونُ لَهُمُ الثُّلُثُ، أَوْ تَكُونُ أُمُّهُ مَوْلَاةً فَيَكُونُ بَاقِي المال لِمَوَالِيهَا، وَإِلَّا فَالْبَاقِي لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
وَالشَّافِعِيُّ
(4)
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
(5)
؛ إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
(1)
الملاعنة بين الزوجين: إذا قذف الرجلُ امرأته أو رماها برجلٍ أنه زنى بها. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 388).
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 461) قال: "وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: لأمه الثلث، ولأخيه السدس، وما بقي فلبيت المال".
(3)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 637) قال: "ولد الزنى وولد الملاعنة، يرث أمه وإخوته لأمه حقوقهم، وما فضل يكون لموالي أمه إن كانت معتقة لأحد، وكذلك إن كانت وحدها أخذت الثلث، وما بقي لمواليها، وإن كانت عربيَّة فما بقي لبيت المال، وهو قول زيد رضي الله عنه، والزهري وسعيد بن المسيب وسعد رضي الله عنه، والأوزاعي والشَّافعي وداود".
(4)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (6/ 43) قال: "اللعان يقطع التوارث بين الملاعن والولد؛ لانقطاع النسب، وكذا يقطع التوارث بين الولد وكل من يدلي بالملاعن، كابيه وأمه وأولاده
…
وأما الولد مع الأم، فيتوارثان توارث سائر الأولاد والأمهات".
(5)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين "رد المحتار"(6/ 776، 777) =
عَلَى مَذْهَبِهِ يَجْعَلُ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا عَلَى قِيَاسِ مَنْ يَقُولُ بِالرَّدِّ يُرَدُّ عَلَى الْأُمِّ بَقِيَّةُ الْمَالِ).
ووجه ذلك: أن الأم هي عصبته فتأخذ جميع المال.
• قوله: (وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى أَنَّ عَصَبَتَهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ؛ أَعْنِي: الَّذِينَ يَرِثُونَهَا
(1)
. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ كانوا لَا يَجْعَلُونَ عَصَبَتَهُ عَصَبَةَ أُمِّهِ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأُمِّ، وَكَانُوا يُنْزِلُونَ الْأُمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
، وَابْنُ حَنْبَلٍ
(3)
= قال: "إن كانت الملاعنة حرة الأصل فالميراث لمواليهما؛ وهم إخوتهما وسائر عصبة أمهما، وإن كانت معتقة فالميراث لمعتقها، ونحوه ابن المعتق وأخوه وأبوه
…
فهو صريح في أنه إذا كان هو أو أمه حر الأصل فلا يرث أو يورث بالعصوبة إلا إذا كان له ولد، أي ابن أو ابن ابن،
…
وقلنا الميراث إنما يثبت بالنص، ولا نص في توريث الأم أكثر من الثلث، ولا في توريث أخ من أم أكثر من السدس،
…
ولأن العصوبة أقوى أسباب الإرث والإدلاء بالأم أضعف،
…
". وقال في "المجتبى شرح القدوري" قوله: "وعصبة ولد الزنا وولد الملاعنة مولى أمهما. معناه - والله أعلم -: أن الأم ليست بعصبة له ولا عصبة الأم كما ذهب إليه ابن مسعود رضي الله عنه، إنما عصبته مولى الأم إذا كان لها مولى، وما ذهب إليه أصحابنا مذهب علي وزيد بن ثابت
…
ووجهه أن الأم لما لم تكن عصبة في حق غير ولد الزانية والملاعنة، فكذا في حقه كذوي الأرحام ". اهـ.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 378) قال: "وأما علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر فإنهم جعلوا عصبته عصبة ولده".
(2)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 637) قال: "وروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أن الباقي لعصبة الأم إذا لم يخلف ذا رحم له سهم، وإلى هذا ذهب الحسن وابن سيرين وسفيان الثَّوري".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 508) قال: " (وعصبته) أي: من لا أب له شرعًا (بعد ذكور ولده وإن نزل) من ابنه وابن ابنه وابن ابن ابنه وإن نزل، وهكذا (عصبة أمه) روي عن علي وابن عباس وابن عمر، إلا أن عليًّا يجعل ذا السهم من ذوي الأرحام أحق ممن لا سهم له؛ لحديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" متفق عليه. وقد انقطعت العصوبة من جهة الأب. فبقي أولى =
وَجَمَاعَةٌ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، فَقَالُوا: هَذِهِ أُمٌّ، وَكُلُّ أُمِّ لَهَا الثُّلُثُ، فَهَذِهِ لَهَا الثُّلُثُ).
فهذا دليل الذين يقولون بميراث ابن الملاعنة، وجاء في الحديث:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ميراث ابن الملاعنة لأمة ولورثته"
(1)
، ولكنهم اختلفوا في عصبة أمه.
• قوله: (وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ "عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ أَلْحَقَ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ بِأُمِّهِ"
(2)
، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:"جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلوَرَثَتِهِ"
(3)
، وَحَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْمَرْأَةُ تَحُوزُ ثَلَاثَةَ أَمْوَالٍ: عَتِيقَها، وَلَقِيطَهَا وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ"
(4)
.
"عتيقها" أي: الذي أنعمت عليه وأعتقته، "ولقيطها" هو الذي التقطته، "وولدها الذي لاعنت عليه" هو محل المبحث هنا.
• قوله: (وَحَدِيثِ مَكْحُولٍ عَنِ "النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ" خَرَّجَ جَمِيعَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ
(5)
وَغَيْرُهُ
(6)
.
= الرجال به أقارب أمه؛ فيكون ميراثه بعد أخذ ذي الفرض فرضه لهم. وعن عمر: أنه ألحق ولد الملاعنة بعصبة أمه".
(1)
سيأتي.
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(4953)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط الشيخين".
(3)
أخرجه أبو داود (2908) والبيهقي في "الكبرى"(6/ 424).
(4)
أخرجه الترمذي (2115) وقال: "حسن غريب"، ولفظه:"المرأة تحرز ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عنه"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1576).
(5)
أخرجه أبو داود (2907).
(6)
كالدارمي في "سننه"(3010)، والبيهقي في "الكبرى"(6/ 424).
أي: بمثل الحديث الأول الذي جاء في ابن الملاعنة.
• قوله: (قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآثَارُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ خَصَّصَتْ عُمُومَ الْكِتَابِ).
قوله: (قال القاضي): يقصد المؤلف نفسه "القاضي ابن رشد الحفيد".
والتخصيص: هو قصر العام على بعض أفراده بدليل
(1)
.
أنواع المخصصات:
أولًا: المخصص المتصل
(2)
؛ وهو ما جاء متصلًّا بالعموم كما في قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، فالربا نوع من البيع؛ لكن خصه الله من البيع لما فيه من الضرر.
ثانيًا: المخصص المنفصل
(3)
، كما في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، خُصَّ ذلك بقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، وبقوله في المطلقة قبل الدخول:{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} .
وهذه الأمثلة المذكور في تخصيص الكتاب بالكتاب، وقد يأتي تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة كما في قوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} خُصَّت هذه الآية بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث"
(4)
.
(1)
انظر: "كشف الأسرار" لعلاء الدين البخاري (1/ 306)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 325).
(2)
هو: ما لا يستقل بنفسه؛ بل مرتبط بكلام آخر. انظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 281).
(3)
هو: ما يستفل بنفسه بأن لم يكن مرتبطًا بكلام آخر. انظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 277).
(4)
أخرجه أبو داود (2870) وغيره، عن أبي أمامة بلفظ:"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1655).
وقد يخصص الكتاب بخبر الآحاد؛ ولكن هذا محل خلاف بين الفقهاء؛ فالجمهور
(1)
على أنه سائغ، خلافًا للحنفية
(2)
.
وأما تخصيص الكتاب بالكتاب وبالسنة المتواترة، فهذا متفق عليه بين العلماء
(3)
؛ خلافًا لبعض أهل الظاهر
(4)
الذين منعوا تخصيص الكتاب بالكتاب؛ وذلك أن التخصيص بيان، والبيان إنما يكون بالسنة.
• قوله: (وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ يُخَصَّصُ بِهَا الْكِتَابُ، وَلَعَلَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَوْ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ
(1)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 482) قال: "يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد عند الجمهور، وهو المنقول عن الأئمة الأربعة، فإن الخبر يتسلط على فحواه، وفحواه غير مقطوع به. قال إمام الحرمين: ومن شك أن الصديق لو روى خبرًا عن المصطفى في تخصيص عموم الكتاب لابتدره الصحابة قاطبة بالقبول، فليس على دراية في قاعدة الأخبار".
(2)
يُنظر: "كشف الأسرار" لعلاء الدين البخاري (1/ 294) قال: "قوله: (العام الذي لم يثبت خصوصه) يعني العام من الكتاب والسنة المتواترة لا يحتمل الخصوص؛ أي لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد والقياس؛ لأنهما ظنيان، فلا يجوز تخصيص القطعي بهما لأن التخصيص بطريق المعارضة، والظني لا يعارض القطعي، هذا - أي ما ذكرنا من عدم جواز التخصيص بهما - هو المشهور من مذهب علمائنا، ونقل ذلك عن أبي بكر الجصاص وعيسى بن أبان، وهو قول أكثر أصحاب أبي حنيفة".
(3)
يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (2/ 318) قال: "اتفق العلماء على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب خلافًا لبعض الطوائف، ودليله المنقول والمعقول ". وقال الآمدي أيضًا (2/ 321): "تخصيص السنة بالسنة جائز عند الأكثرين، ودليله المعقول والمنقول". وانظر: "المحصول" للرازي (3/ 77، 78) و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص 202)، و"المعتمد" لأبي الحسين البصري (1/ 255).
(4)
يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 478) قال: "يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب في قول جمهور الأمة؛ خلافًا لبعض الظاهرية المتمسكين بأن المخصص بيان للمراد باللفظ، فيمتنع أن يكون بيانه إلا من السنة؛ لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ولنا أنه وقع؛ لأن الله تعالى قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] الآية، وهي عامة في الحوامل وغيرهنَّ، فخص أولات الحمل بقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وخص به أيضًا المطلقة قبل الدخول بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ".
مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ
(1)
، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَاشْتِهَارهُ فِي الصَّحَابَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْآثَارِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ يُسْتَنْبَطُ بِالْقِيَاسِ، وَاللهُ أَعْلَمُ).
فاشتهار هذا القول بين الصحابة دليل على صحته، وقد تتبعنا هذه الآثار وتبين أنها إما أحاديث صحيحة أو حسنة، فهي حجة يحتج بها في هذا المقام. وقول المؤلف:(هذا ليس يستنبط بالقياس) أي: لا يجعل القياس أساسًا فيه، وإنما يعتمد فيه على نصٍّ، وقد توافرت النصوص.
• قوله: (وَمِنْ مَسَائِلِ ثُبُوتِ النَّسَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِيرَاثِ).
أسباب الميراث ثلاثة: إما نسب، أو مصاهرة، أو ولاء، والولاء لم نتعرض له بعدُ، فوجود النسب سبب من أسباب الميرات، فلو قُدِّر أن شخصًا ادَّعى نسبة كأن يموت ميِّت ويترك ابنين فيعترف أحدهما بأخ ثالث وينكره الثاني فحينئذ يأخذُ كل منهم نصيبه من الميراث، لكن ما هي الطريقة التي يرث بها ذلك الأخ الذي اعترف به أحد الوريثين وأنكره الآخر؟
• قوله: "اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ ثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الثَّانِي، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
).
(1)
ذكر ابن عبد البر في "الاستذكار"(5/ 379، 380)"عن الشعبي قال: بعث أهل الكوفة رجلًا إلى الحجاز في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه يسأل عن ميراث ابن الملاعنة فجاءهم الرسول أنه لأمه وعصبتها. وعن ابن عباس قال: اختصم إلى علي رضي الله عنه في ميراث ولد الملاعنة؛ فأعطى أمه الميراث وجعلها عصبته".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 417) حيث قال: "إذا أقرَّ وارث عدل كأخ باخ ثالث، وأنكره الأخ الثاني حلف المقر به وورث، أي: أخذ ثلثًا من غير أن يثبت نسبه".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 100) حيث قال: "ومن مات أبوه فأقرَّ بأخ له لم يثبت نسب أخيه ويشاركه في الميراث".
وهو قول أحمد
(1)
أيضًا.
• قوله: (يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنَ الْمِيرَاثِ يَعْنُونَ الْمُقِرَّ، وَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ نَسَبُهُ).
فالمنكِرُ أنكَرَ وأمره إلى الله سبحانه وتعالى فقد أنكر أن يكون هذا أخًا له، وربما يكون صادقًا في إنكاره؛ لأنه لا يعلم ذلك، وربما يكون عالمًا ولكنه يخشى أن ينقص ما بيده من المال فهو يريد النصف ولا يريد الثلث لكن الآخر دفعته خشية الله سبحانه وتعالى إلى أن يعترف بهذا الأخ حتى وإن أدى ذلك إلى أن يذهب جزء مما يخصُّه من الميراث، فهناك أمران: نسب وميراث، والنسب لا بد في إثباته من شهادة عدلين، فلو اعترف الآخر انتهى الأمر لكنَّ المعترفَ واحد فنقصت الشهادة فلا يكون النسب موجودًا إلا فما سيأتي في رواية عند الشافعية.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُقِرِّ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْئًا)
(2)
.
وهذه إحدى الروايتين عن الإمام الشافعي والإمام الشافعي له رواية أخرى يرى أن النسب يثبت في هذة الحالة ويجب أيضًا الميراث
(3)
.
• قوله: (وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَدْرِ).
ومعهم كذلك الإمام أحمد.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 559) حيث قال: " (ومتى لم يثبت نسبه)، أي: المقر به من ميت بان أقر به بعض الورثة ولم يشهد بنسبه عدلان (أخذ) المقر به (الفاضل بيد المقر) عن نصيبه على مقتضى إقراره".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 115) حيث قال: " (والأصح) فيما إذا أقر أحد حائزين بثالث أو بزوجة للميت وأنكره الآخر أو سكت (أن المستلحق لا يرث) لانتفاء ثبوت نسبه،
…
(ولا يشارك المقر في حصته) ".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 115) حيث قال: "والثاني يشارك المقر في حصته دون المنكر".
• قوله: (الَّذِي يجِبُ عَلَى الْأَخِ الْمُقِرِّ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ الْأَخُ الثَّانِي وَثَبَتَ النَّسَبُ)
(1)
.
أي: يجب عليه ما كان يجب عليه لو كان الثالث الذي أُنكِر معهم وكان شريكًا معهم في هذا المال الذي هو النصف فيكون بين ثلاثة فيأخذ الأخ المقر ثلث المال الذي بيد الأخ المقر به، وهذا عند الإمامين مالك وأحمد
(2)
، وأما أبو حنيفة فيرى أنه يأخذ النصف
(3)
؛ لأنه قد اعترف به وأقره أخًا له، وهذا المال الذي أخذه ينبغي أن يأخذ شطره أيضًا.
• قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ).
فأبو حنيفة يرى أن يضرب صفحًا عن الأخ الثالث وكأن المال الموجود هو الذي بيد الأخ المقر، وبما أن هذه أخوة فيكون المال بينهما نصفين.
• قوله: (وَكذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ
(4)
، وَأَبِي حَنِيفَةَ
(5)
فِيمَنْ تَرَكَ ابْنًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ آخَرَ، أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَبجِبُ الْمِيرَاثُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَان).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 417) حيث قال: "والمعتمد أنه ليس للمقر به إلا ما نقصه المقر بسبب إقراره كان المقر عدلًا، أو غير عدل".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 559) حيث قال: " (ومتى لم يثبت نسبه)، أي: المقر به من ميت باْن أقر به بعض الورثة ولم يشهد بنسبه عدلان (أخذ) المقر به (الفاضل بيد المقر) عن نصيبه على مقتضى إقراره".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 619) حيث قال: "وفي الزيلعي: فإذا قبل إقراره في حقِّ نفسه يستحق المقر له نصف نصيب المقر مطلقًا عندنا".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 417) حيث قال: "وقوله ولا يثبت النسب، أي: لإجماع أهل العلم على أنه لا يثبت النسب بغير عدول - أي: أكثر من واحد - ولو كانوا حائزين للميراث".
(5)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (5/ 619) حيث قال: " (ومن مات أبوه فأقرَّ بأخ شاركه في الإرث) فيستحق نصف نصيب المقر (ولم يثبت نسبه) لما تقرر".
رواية يرى فيها ثبوت النسب والميراث بشهادة واحد، وأخرى لا يرى فيها نسبًا ولا ميراثًا.
• قوله: (أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَجِبُ الْمِيرَاثُ
(1)
. وَالثَّانِي
(2)
: يَثْبُتُ النَّسَبُ وَبَجِبُ الْمِيرَاثُ
(3)
، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ تَنَاظُرُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الطَّبْلُولِيَّةِ وَبَجْعَلُهَا مَسْأَلَةً عَامَّةً، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَحُوزُ الْمَالَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ).
ولنفترض أن أحد الأخوين قد حاز المال، أي: أخذ نصفه، وما دام قد ثبتت حيازة المال في حقِّه فله أيضًا أن يثبت النسب عن طريقه إذا ادَّعى أخوه.
• قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، (أَعْنِي: الْقَوْلَ الْغَيْرَ الْمَشْهُورِ): أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَحَيْثُ لَا يَثْبُتُ فَلَا مِيرَاثٌ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ أَصْلٌ وَالْمِيرَاثَ فَرْعٌ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْأَصْلُ لَمْ يُوجَدِ الْفَرْعُ).
فالإمام الشافعي رحمه الله جعل الميراث فرعًا عن ثبوت النسب، فكيف يثبت ميراث لشخص لم يثبت نسبه؟ فما دام نسبه لم يثبت فلا يثبت ميراثه؛ لأن الميراث يكون بأحد أمور إما بثبوت النسب أو بالولاء أو
(1)
يُنظر: "المجموع" للنووي (20/ 339) حيث قال: "مات رجل وترك ابنًا فأقرَّ بأخ هل يثبت نسبه من الميت؟ اختلف فيه، قال أبو حنيفة ومحمد لا يثبت النسب بإقرار وارث واحد".
(2)
وهو قول الحنابلة، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 461) حيث قال: " (وإن أقر بنسب أخ أو عم في حياة أبيه أو جده لم يقبل)؛ لأن قرار الإنسان على غيره غير مقبول (وإن كان) إقراره بنسب الأخ أو العم (بعد موتهما)، أي: الأب والجد (وهو)، أي: المقر (الوارث وحده صحَّ إقراره وثبت النسب) ".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (5/ 114) حيث قال: "فلو مات وخلف ابنًا واحدًا فأقر بأخ آخر ثبت نسبه وورث، أو مات عن بنين وبنات اعتبر اتفاق جميعهم".
بالنكاح الذي هو المصاهرة، وهنا يقول لم يثبت النسب، فلم يوجد الأصل الذي هو النسب فمن باب أولى ألا يوجد الفرع، وهذا في نظر الشافعية، أما الجمهور فيخالفون في ذلك.
• قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ هو حَقٌّ مُتَعَدٍّ إِلَى الْأَخِ الْمُنْكِرِ).
يقول المؤلف: إنَّ ثبوت النسب متعدٍّ إلى الأخ المنكِرِ فهو يقوم على اعتراضه فلو اعترف بنسبه إلى جانب أخيه المُقِر لثبت ذلك وهذا منكر، وربما يكون إنكاره لحرصه على ألا يشركه في المال.
• قوله: (فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَأَمَّا حَظُّهُ مِنَ الْمِيرَاثِ الَّذِي بِيَدِ الْمُقِرِّ فَإِقْرَارُهُ فِيهِ عَامِل؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحَاكِمِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ نَفْسِهِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الْمِيرَاثِ - حَظَّهُ مِنْهُ).
لأنه من باب أكل أموال الناس بالباطل، فإذا علم إنسان بأن فلانًا أخوه وشريكه في الميراث فنفى ذلك وأنكره لأجل أن يأكل ذلك المال فإنه لا شك داخل في قول الله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
• قوله: (وَأَمَّا عُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ فِي إِثْبَاتِهِمُ النَّسَبَ بِإِقْرَارِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْمِيرَاثُ: فَالسَّمَاعُ وَالْقِيَاسُ).
وهذا في الرواية الأخرى التي يثبت فيها النسب، فقد بنوها على دليلين هما: السماع أي: دليل من السنة، والقياس.
• قوله: (أَمَّا السَّمَاعُ: فَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ، قَالَتْ: "كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ).
أوصى أخيه.
• قوله: (سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ).
الوليدة: هي الجارية الصغيرة.
• قوله: (زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ كانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ).
كما جاء في هذا الأثر ساقه، أي: أخذه معه.
• قوله: (فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ).
وعبد بن زمعة هو أخو زوج الرسول صلى الله عليه وسلم.
• قوله: (فَقَالَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَاهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: "احْتَجِبِي مِنْهُ"، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَتْ: فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ عز وجل
(1)
، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِأَخِيهِ، وَأَثْبَتَ نَسَبَهُ بِإِقْرَارِهِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ وَارِثٌ مُنَازِعٌ لَهُ").
وهذا هو دليل الشافعي في ثبوت النسب دون أن يشترط فيه شهادة عدلين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبته بمطالبة أخو هذا الذي ولد على فراش أبيه.
• قوله: (وَأَمَّا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ لِخُرُوجِهِ عِنْدَهُمْ عَنِ الْأَصْلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ).
فالأصل الذي التقى حوله الفقهاء جميعًا أن النسب لا يثبت إلا
(1)
أخرجه البخاري (6749)، ومسلم (1457).
بشهادة عدلين؛ لأن إثبات النسب ليس أمرًا سهلًا، فكل إنسان ربما يدَّعيه فلا بد من شهادة اثنين وأن يكون الاثنين عدلين حتى لا تكون مجرد شهادة، لكن هذا الحديث ليس فيه شهادة اثنين فكأنه خرج عن الأصل المتفق عليه.
• قوله: (وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَثْبَتَ نَسَبَهُ بِإِقْرَارِ أَخِيهِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبٌ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٍ).
لأنه لما وقع ذلك وفي حديث صحيح وواضح الدلالة تأول العلماء بعد ذلك، وحاولوا أن يبحثوا عن إجابة لذلك.
• قوله: (فَقَالَتْ طَائِفَةٌ
(1)
: إِنَّهُ إِنَّمَا أَثْبَتَ نَسَبَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَأةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِ أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْأَمَةَ كَانَ يَطَؤُهَا زَمْعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَنَّهَا كانَتْ فِرَاشًا لَهُ).
كأن هؤلاء يقولون لعلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بعلمه وأنه علم بأن تلك الوليدة كان يطؤها زمعة وبخاصة زمعة؛ لأنه صهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو والد إحدى زوجاته وهو قريب الصلة به ويعرف ما يدور حوله.
• قوله. (قَالُوا: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ صِهْرَهُ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ كَانَتْ زَوْجَتَهُ عليه الصلاة والسلام، فَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهَا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ).
وهذة مسألة معروفة وفيها خلاف، وسيأتي الكلام عنها، هل للقاضي أن يقضي بعلمه
(2)
؟ فقد يأتي الحكمان المتخاصمان فيجلسان بين يدي
(1)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 165).
(2)
المراد بعلم القاضي: ظنُّه المؤكد الذي يجوز له الشهادة مستندًا إليه. انظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 259).
القاضي فيدعي هذا دعوة وذاك يدعي دعوة أخرى أو هذا يدعي وذاك ينفي، والقاضي في قرارة نفسه يعلم الحق، فهل له أن يقضي بعلمه أو يقضي بما يثبت بين يديه؟ لأنه قد يأتي المدعي بشهود وهو صاحب باطل وذاك لا يكون عنده شهداء وهو صاحب الحق فهل يقضي القاضي بعلمه أو يقضي بما تثبت به البينة؟ وهذه مسألة انقسم فيها الأئمة الأربعة إلى قسمين فنجد بأن من الأئمة من يرى أنه لا يقضي بعلمه كمالك
(1)
، وأحمد
(2)
، وهناك من يرى بأنه محل ثقة وله أن يقضي بعلمه ما دام يعلم الحق كأبي حنيفة
(3)
، والشافعي
(4)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 158)، حيث قال:" (ولا يستند) في حكمه - أي: القاضي - (لعلمه) في الحادثة بل لا بد من البينة، أو الإقرار (إلا في التعديل) لشاهد فيستند لعلمه بعدالته، ولكن يقبل فيه تجريح من جرح؛ لأن التجريح يقدم على التعديل".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 519) حيث قال: "و (لا) يحكم قاض (بعلمه في غير هذه) المسألة (ولو في غير حد) للخبر ولقول الصديق: "لو رأيت حدًّا على رجل لم آخذه حتى تقوم البينة"، ولأن تجويز القضاء بعلم القاضي يؤدي إلى تهمته وحكمه بما يشتهي مع الإحالة على علمه، لكن يجوز الاعتماد للحاكم على سماعه بالاستفاضة؛ لأنها من أظهر البينات".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(5/ 438 - 439) حيث قال: "وشرط جوازه عند الإمام أن يعلم في حال قضائه في المصر الذي هو قاضيه بحق غير حد خالص لله تعالى من قرض أو بيع أو غصب، أو تطليق أو قتل محمد أو حد قذف، فلو علم قبل القضاء في حقوق العباد: ثم ولي فرفعت إليه تلك الحادثة أو علمها في حال قضائه في غير مصره ثم دخله فرفعت لا يقضي عنده،
…
وأما في حد الشرب والزنا فلا ينفذ قضاؤه بعلمه اتفاقًا،
…
(قوله: إلا أن المعتمد)، أي: عند المتأخرين لفساد قضاة الزمان، وعبارة الأشباه: الفتوى اليوم على عدم العمل بعلم القاضي في زماننا كما في جامع الفصولين".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 259) حيث قال: " (يقضي بعلمه) إن شاء، أي: بظنه المؤكد الذي يجوز له الشهادة مستندًا إليه، وإن استفاده قبل ولايته
…
ولا بد أن يصرح بمستنده فيقول علمت أن له عليك ما ادعاه وقضيت أو حكمت عليك بعلمي، فإن ترك أحد اللفظين لم ينفذ حكمه، ومقابل الأظهر علل بأن فيه تهمة ويقضي بعلمه في الجرح والتعديل والتقويم قطعًا".
• قوله: (وَلَا يَلِيقُ هَذَا التَّأوِيلُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي عِنْدَهُ بِعِلْمِهِ، وَيَلِيقُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ، أَعْنِي: الَّذِي لَا يثْبُتُ فِيهِ النَّسَبُ.
وَالَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالُوا: إِنَّمَا أَمَرَ سَوْدَةَ بِالْحَجْبَةِ احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ الشَّبَهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا، وَقَالَ لِمَكَانِ هَذَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَحْجُبَ الْأُخْتَ عَنْ أَخِيهَا
(1)
).
فالشافعية جعلوا ذلك دليلًا بأن للأخ
(2)
أن يحجب الأخت عن أخيها.
• قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَمْرُهُ بِالِاحْتِجَابِ لِسَوْدَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْ نَسَبَهُ بِقَوْلِ عُتْبَةَ وَلَا بِعِلْمِهِ بِالْفِرَاشِ وَافْتَرَقَ هَؤُلَاءِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "هُوَ لَكَ"، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا أَرَادَ هُوَ عَبْدُكَ؛ إِذَ كَانَ ابْنَ أَمَةِ أَبِيكَ، وَهَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ لِتَعْلِيلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَللْعَاهِرِ الْحَجَرُ"، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ
(3)
: إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ"، أَيْ: يَدُكَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ يَدُ اللَّاقِطِ عَلَى اللُّقَطَةِ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ تَضْعُفُ لِتَعْلِيلِةِ عليه الصلاة والسلام وَحُكْمُهُ بِأَنْ قَالَ:"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"
(4)
.
(1)
يُنظر: "النجم الوهاج في شرح المنهاج" لأبي البقاء الدميري (5/ 128) حيث قال: "وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالاحتجاب منه وإن كان أخاها شرعًا؛ لما فيه من الورع لأجل شبهه بعتبة. ويجوز للزوج أن يمنع زوجته من الخروج لأخيها المحقق فالمشكوك فيه أولى".
(2)
لعله سبق قلم فهو يقصد الزوج.
(3)
انظر: "شرح مشكل الآثار"(11/ 17).
(4)
تقدم تخريجه.
فالمؤلف قد ضعف هذه التأويلات لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بالعلة في ذلك.
• قوله: (وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي يَعْتَمِدُهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، فَهُوَ أَنَّ إِقْرَارَ مَنْ يَحُوزُ الْمِيرَاثَ هُوَ إِقْرَارُ خِلَافَةٍ
(1)
(أَيْ: إِقْرَارُ مَنْ حَازَ خِلَافَةَ الْمَيِّتِ)).
فالشافعية لاحظوا المعنى فقالوا: إن إقرار مَن يحوز الميراث هو إقرار خلافة وليس ثبوت نسب وفرق بين الأمرين؛ لأنه لو كانت القضية قضية نسب فلا بد من وجود شاهدين، لكن هذا إقرار خلافة؛ لأن الوارث يخلف المورث في التركة.
• قوله: (وَعِنْدَ الْغَيْرِ أَنَّهُ إِقْرَارُ شَهَادَةٍ لَا إِقْرَارَ خِلَافَةٍ، يُرِيدُ أَنَّ الْإِقْرَارَ الَّذِي كَانَ لِلْمَيِّتِ انْتَقَلَ إِلَى هَذَا الَّذِي حَازَ مِيرَاثَهُ)
فغير الشافعية قالوا: إن هذا إقرار شهادة وليس إقرار خلافة
(2)
.
* * *
[هَلْ يُلْحَقُ أَوْلَادُ الزِّنَى بِآبَائِهِمْ]
• قوله: (وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الزِّنَى لَا يُلْحَقُونَ بِآبَائِهِمْ إِلَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 407) حيث قال: "لأنه إن لم يرث الميت لم يكن خليفته، وكذا إن لم يستغرق تركته؛ لأن القائم مقامه مجموعهم لا خصوص المستلحق".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 417) حيث قال: "ومراد المصنف بالإقرار الشهادة؛ لأن النسب لا يثبت بالإقرار؛ لأنه قد يكون بالظن ولا يشترط فيه عدالة بخلاف الشهادة فإنها لا تكون إلا بتَّا ويشترط فيها العدالة".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 345) حيث قال: "إلا أن ولد الملاعنة يلحق الملاعن إذا استلحقه، وولد الزنى لا يلحق الزاني في قول الجمهور".
فأولاد الزنى لهم حكمان: حكم في الجاهلية، وحكم في الإسلام، لكن هناك أولاد زنى لم يحكم بإلحاقهم ثم جاء الإسلام فكيف يعاملون؟ هذا الذي سيورد فيه المؤلف قصة عمر رضي الله عنه، لكن الجمهور اتفقوا على أن أولاد الزنى لا يلحقون بآبائهم إلا في الجاهلية فلا يلحقون بآبائهم في الإسلام؛ لأن الإسلام قد جبَّ ما قبله
(1)
وتغير الحكم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك شريعة تضبط الأمر وقد أقرت ذلك.
• قوله: (عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
(2)
عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَلْتَحِقُ وَلَدُ الزِّنَا فِي الْإِسْلَامِ (أَعْنِي: الَّذِي كَانَ عَنْ زِنًا فِي الْإِسْلَامِ)
(3)
. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِالْفِرَاشِ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ
(4)
).
لأن أقل مدة يحصل فيها الحمل والولادة هي ستة أشهر كما قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ، وهذه القصة وقعت في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (121) عن عمرو بن العاص وفيه "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ "
(2)
سيأتي.
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 345) حيث قال: "وقال الحسن، وابن سيرين: يلحق الواطئ إذا أقيم عليه الحدُّ ويرثه. وقال إبراهيم: يلحقه إذا جُلد الحد، أو ملك الموطوءة. وقال إسحاق: يلحقه. وذكر عن عروة، وسليمان بن يسار نحوه".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (9/ 520) حيث قال: "وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها الرجل أن الولد غير لاحق به".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 349) وغيره، أن عمر رضي الله عنه "أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهمَّ برجمها" فبلغ ذلك عليًّا رضي الله عنه فقال:"ليس عليها رجم" فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأرسل إليه فسأله فقال: " {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} ثلاثون شهرا فستة أشهر حمله حولين تمام لا حدَّ عليها أو قال: لا رجم عليها" قال: "فخلى عنها ثم ولدت".
• قوله: (إِمَّا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَإِمَّا مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ، وَأَنَّهُ يُلْحَقُ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ إِلَى أَقْصَرِ زَمَان الْحَمْلِ، أَوْ إِنْ كَانَ قَدْ فَارَقَهَا وَاعْتَزَلَهَا)
(1)
.
لأن العقد قد يتم وتحصل فترة بين الوطء وبين العقد فالمعتبر في ذلك هو الوطء.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَطْوَلِ زَمَانِ الْحَمْلِ الَّذِي يُلْحِقُ بِهِ الْوَالِدُ الْوَلَدَ، فَقَالَ مَالِكٌ: خَمْسُ سِنِينَ
(2)
، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: سَبْعٌ
(3)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْبَعُ سِنِينَ
(4)
، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: سَنَتَانِ
(5)
).
فرواية الحنفية ومن معهم: سنتان وهي رواية غير مشهورة أو غير صحيحة عن الإمام أحمد ولكنها رواية عنه
(6)
، وهناك من قال: سبع كبعض أصحاب مالك، وهناك من قال: خمس من الأئمة كمالك، وهناك
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 70 - 71) حيث قال: "وأجمع المسلمون جميعًا أن الرجل إذا عقد على [ .... ] عليه وكان جاهلًا بذلك فأتت المرأة بالولد لستة أشهر من وقت العقد وإمكان الوطء أن الولد لاحق بالزوج".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 474) حيث قال الدردير: "وهذا الاستشكال مفرَّع على أن أقصى أمد الحمل خمس، وأما على أنه أربع فلا إشكال".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 474) حيث قال: "ثالث روايات القاضي سبعًا".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 243) حيث قال: "أكثر مدة الحمل أربع سنين بالاستقراء".
(5)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 171) حيث قال: "وأكثر مدة الحمل سنتان وأقله ستة أشهر".
(6)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 121) حيث قال: "وروي عن أحمد أن أقصى مدته - أي: الحمل - سنتان".
من قال: أربع وهو مذهب الإمام الشافعي، والرواية الصحيحة عن الإمام أحمد
(1)
.
• قوله: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ).
من المالكية.
• قوله: (سَنَةٌ
(2)
، وَقَالَ دَاوُدُ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ
(3)
، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرْجُوعٌ فِيهَا إِلَى الْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ).
وهذة قضية مهمة وبها يتبين لنا بأن العادة معتبرة وهي التي جعلت العلماء يضعون تلك القاعدة: (العادة محكمة)
(4)
، واستنبطوا ذلك من أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ)
(5)
، وكون العادة معتبرة ليست على الإطلاق وليس معنى هذا أن يتخذ الإنسان العادة حجة بأن يتعود أهل مكان أو أهل بلد عادة من العادات التي تخالف نصًّا فيقول وجدنا آباءنا على ذلك، وإنما المراد بالعادة أنه إذا لم يوجد نص في مسألة فحينئذ يُرجع إلى العادة.
• قوله: (وَيَقُولُ ابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ وَالظَّاهِرِيَّةِ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْمُعْتَادِ، وَالْحُكْمُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُعْتَادِ لَا بِالنَّادِرِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلًا).
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (5/ 590) حيث قال: " (وأكثرها)، أي: مدة الحمل (أربع سنين)؛ لأن ما لا تقدير فيه شرعًا يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد من تحمل أربع سنين.
قال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين".
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 170).
(3)
كذا في الأصول، والصواب: تسعة أشهر. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 170)، و"المحلى" لابن حزم (10/ 316).
(4)
أي: هي المرجع عند النزاع؛ لأنه دليل يبتني عليه الحكم. انظر: "تهذيب الفروق" للشيخ محمد بن علي بن حسين (3/ 14).
(5)
أخرجه أحمد في المسند (3600) وغيره، وحسن إسناده الأرناؤوط.
فالمؤلف يقول إذا أُيِّد الحكم فيحكم بالمعتاد أو ما هو قريب منه لكن لا تأتي بشيء نادر أو أندر من النادر وربما يكون مستحيلًا.
• قوله: (وَذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
إِلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ).
أي: بعد مرور وقت بين العقد والوطء؛ لأنه إذا دخل بها وأغلق الستار فهذا شيء بينه وبين الله، يُحكم عليه بأنه وطئها.
• قوله: (وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ لَا مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِلَّا إِذَا أَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ).
لكن لو جاءت به من وقت الدخول فإنه يلحق به؛ لأن الأصل أنه إذا دخل بها لوطئها.
• قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: هِيَ فِرَاشٌ لَهُ وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ).
لأنه نظر إلى العقد، لكن جمهور العلماء نظروا إلى المدة وإلى أقل
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 473) حيث قال: "قال مالك: وإن نكحت بعد حيضة فهو للثاني إن وضعته لستة أشهر فأكثر من يوم دخل بها الثاني وإن وضعته لأقل فهو للأول".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 214) حيث قال: " (وإنما يعلم) أنه ليس منه (إذا
…
ولدته لدون ستة أشهر) من الوطء ولو لأكثَر منها من العقد".
وهو مذهب الحنابلة "المغني" لابن قدامة (8/ 80) قال: "ولو تزوج رجل امرأة في مجلس، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي بمغربية، ثم مضت ستة أشهر، وأتت بولد، لم يلحقه. وبذلك قال مالك، والشافعي". وقال أبو حنيفة: "يلحقه نسبه؛ لأن الولد إنما يلحقه بالعقد، ومدة الحمل".
(3)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (3/ 50) حيث قال: "لو ظهر بها حمل يكون من الزوج؛ لأن الفراش له، .... ، لكن هذا ما لم تلده لأقل من ستة أشهر من وقت العقد، فلو ولدته لأقل لم يصحَّ العقد".
مدة حمل، وأنها لا تكون أقل من ستة أشهر، وأبو حنيفة يرى أنه بمجرد العقد أصبحت فراشا له وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"الولدُ للفراشِ"
(1)
، وإذا أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم للفراش فينبغي أن يكون ولدًا له.
• قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ إِلَّا بِإِمْكَانِ الْوَطْءِ وَهُوَ مَعَ الدُّخُولِ.
وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" وَكأَنَّهُ يَرَى أَنَّ هَذَا تَعَبُّدٌ بِمَنْزِلَةِ تَغْلِيبِ الْوَطْءِ الْحَلَالِ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ؛ وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقَافَةِ)
(2)
.
والقيافة كان يُعمل بها فيما مضى فهناك إناس خصَّهم الله سبحانه وتعالى بمعرفة الشبه وتتبع الأثر فإذا نظر إلى أعضاء الغلام قال هذا الغلام هو ولد لفلان، وأيضًا عُرفوا في تتبع الأثر فكانوا يُستخدَمون في البحث عن الجناة من السراق ونحوهم؛ لأنهم يعرفون أثر الأقدام.
• قوله: (وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَطَأُ رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ بِنِكَاحٍ).
وهذا كان كثيرًا في الجاهلية وربما يقع في الإسلام فيأتي شريكان في جارية فيقعان عليها هذا يرى أنها ملكه وهذا يرى أنها ملكه، أو يقع إنسان على امرأة وُطِئت بشبهة فتحمل فلا يُدْرى أمِن هذا أو من هذا فيُلْحق بأحدهما أو بهما معًا، فلو جاءت القافة وألحقته بالاثنين وستأتي قصة عمر في ذلك عندما ضرب ذلك القائف بالدِّرَّة، (أي: العصا) لما ألحقه باثنين
(1)
سبق تخريجه.
(2)
القائف: الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع: القافة. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 121).
وسنتكلم عن ذلك وأن الحنفية يحتجون بكون عمر ضرب القائف دليلًا على أن القيافة لا اعتبار لها وأن العلماء ردُّوا عليهم ذلك واعتبروا ذلك من التعسف في هذه الأمور وأن هذا أمر واضح وأن أمر القيافة قد اشتهر وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ به وأقره.
• قوله: (وَيُتَصَوَّرُ أَيْضًا الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ فِي اللَّقِيطِ الَّذِي يَدَّعِيهِ رَجُلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ).
فيحتاج إلى القيافة في مواقف كثيرة عندما تلتبس الأمور ولا يتبين ذلك وفد رأينا أن هذا مذهب جمهور الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، حتى إن بعض العلماء قالوا بأن هؤلاء لم يخالفهم أحد من الصحابة
(1)
فيكون إجماعًا.
• قوله: (وَالْقَافَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: هُمْ قَوْمٌ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِفُصُولِ تَشَابُهِ أَشْخَاعىِ النَّاسِ، فَقَالَ بِالْقَافَةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ
(5)
. وَأَبَى الحُكْمَ بِالْقَافَةِ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 173) حيث قال: "وأما قول أهل الحجاز في القضاء بالقافة: فروي عن عمر، وابن عباس وأنس بن مالك، ولا مخالف لهم من الصحابة".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2/ 261) حيث قال: "فالقافة فمن ألحقته به فهو ابن له وتعتق عليه فإن لم تلحقه بواحد عتق عليهما كأن لم تكن قافة".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 439) حيث قال: "فإقراره صلى الله عليه وسلم على ذلك - أي: على قول مجزز - يدلُّ على أن القافة حق".
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: "فلو لم يعتبر قوله لمنعه من المجازفة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، ولا يسر إلا بالحق اهـ".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 622) حيث قال: " (فإن تعذر) تعيين وارث له (أرى القافة) كل منهما فمن ألحقته به منهما تعين".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 173) حيث قال: "وبه قال
…
والليث والأوزاعي .. وأبو ثور".
الْكُوفِيُّونَ
(1)
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَدًا كَانَ الْوَلَدُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا فِرَاشٌ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَقِيطًا أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِرَاشًا مِثْلَ: الْأَمَةِ أَوِ الْحُرَّةِ يَطَؤُهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ).
فعندما يطَأُ رجلان امرأة في شبهة ويكون ذلك في طهر فيختلط ماءهما فكلُّ واحد منهم يدعي ذلك كما سيأتي في الحديث الذي سيورده المؤلف أو في الأثر الذي أثر عن عمر رضي الله عنه.
قوله: (وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ لِلِابْنِ الْوَاحِدِ أَبَوَانِ فَقَطْ
(2)
، وَقَالَ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ
(3)
: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِثَلَاثَةٍ إِنِ ادَّعَوْهُ).
والخلاف يعود إلى إختلاط الماء هل من الممكن أن يتكون الجنين من أكثر من ماء واحد؟
قوله: (وَهَذَا كُلّهُ تَخْلِيطٌ وَإِبْطَالٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ).
ولا أدري إن كان قوله: (تخليط وإبطال للمعقول والمنقول) يعود إلى كلام الحنفية فهو مسلم؛ لأنهم ينكرون ويردون القافة، وأما قوله: تخليط مخالف للمعقول إن كان يقصد القائلين بمجيء الولد من أبوين فهذا أيضًا مردود على المؤلف؛ لأن ذلك حصل في عهد عمر رضي الله عنه وأقره وإن كان في الأول أنكره لكن بعد ذلك أقره كما سيأتي في الأثر.
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(4/ 273) حيث قال: "وكلما لم يترجح دعوى واحد من المدعيين يكون ابنًا لهما. وعند الشافعي يرجع إلى القافة ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (22/ 185) حيث قال: "قالوا: وإن ادعى رجلان مسلمان ولدًا جعل بينهما وجعلت الأمة أم ولد لهما".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (6/ 113) حيث قال: "وعند محمد لا يلحق بأكثر من ثلاثة ".
قوله: (وَعُمْدَةُ اسْتِدْلَالِ مَنْ قَالَ بِالْقَافَةِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ
(1)
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَلِيطُ).
(يليط) أي: يلحقهم وينسبهم لآبائهم في الجاهلية
(2)
أما في الإسلام فلا يجوز.
قوله: (أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ اسْتَلَاطَهُمْ (أَيْ: بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ)، فَأَتَى رَجُلَانِ كِلَاهُمَا يَدَّعِي وَلَدَ امْرَأَةٍ).
فقد يأتي شخص في الإسلام يدَّعي أن فلانًا ابن له، وربما يختلف فيه اثنان كما سيأتي في نفس هذا الأثر، فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، أي: كل منهم يدعي الولد.
قوله: (فَدَعَا قَائِفًا).
وهذا دليل على أن عمر رضي الله عنه يأخذ بالقافة وفي ذلك رُدَّ على الحنفية الذين أخذوا شاهد من هذا الأثر بأن عمر لا يأخذ بالقافة، وكونه دعى القائف واستمع إلى رأيه دليل أنه يأخذ بالقافة لكن عمر استنكر ذلك كما سيأتي بهذا الأثر.
قوله: (فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْقَائِفُ: لَقَدِ اشْتَرَكا فِيهِ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ).
لأن عمر استبعد أنه قد يولد ولد من ماء رجلين فهذا هو محل الاستنكار، ولذلك أخذ عمر رضي الله عنه الدِّرة وضرب بها الرجل وعمر رضي الله عنه مشهور بأن معه عصًا يضرب بها إذا رأى مناسبة لذلك، وقد رأى ذلك أمرًا غريبًا وهو أنه كيف يشترك اثنان؟ لكن سيتبين أن عمر بعد ذلك عندما دعا المرأة تغير رأيه في الحكم.
(1)
أخرجه مالك (5/ 740)(22) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1578).
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 365)، و"النهاية" لابن الأثير (4/ 285).
قوله: (ثُمَّ دَعَا الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: أَخْبَرِينِي بِخَبَرِكِ، فَقَالَتْ: كَانَ هَذَا - لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ - يَأْتِي فِي إِبِلٍ لِأَهْلِهَا فَلَا يُفَارِقُهَا حَتَّى يَظُنَّ وَنَظُنَّ أَنَّهُ قَدِ اسْتَمَرَّ بِهَا حَمْلٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا فَأُهْرِيقَتْ عَلَيْهِ دَمًا، ثُمَّ خَلَفَ).
أي: أعقبها شخص آخر فوطئها.
قوله: (هَذَا عَلَيْهَا (تَعْنِي: الْآخَرَ)، فَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ، فَكَبَّرَ الْقَائِفُ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْغُلَامِ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ).
أي: انتسب إلى أحدهما كما شئت.
قوله: (قَالُوا: فَقَضَاءُ عُمَرَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْقَافَةِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ كالْإِجْمَاعِ).
فعمر دعا القائف ثم بعد ذلك ضربه ثم دعا المرأة فجاء قول المراة مؤيدًا للقائف ثم إن عمر رضي الله عنه خيَّر ذلك الابن.
قوله: (وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
إِذَا قَضَى الْقَافَةُ بِالِاشْتِرَاكِ أَنْ يُؤَخَّرَ الصَّبِيُّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَلَا يَلْحَقُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
).
فالإمام مالك هو أحد الأئمة الذين قالوا بالقافة لكن استنبط الإمام مالك من أن عمر قال للغلام: (انتسب إلى أيهما شئت) أن الغلام كان كبيرًا؛ لأنه في زمن عمر وهذا كان في الجاهلية، فالإمام مالك يرى أنه
(1)
يُنظر: " الشرح الكبير" للدردير وحاشية الدسوقي (4/ 414) حيث قال: " (قوله وله إذا بلغ موالاة أحدهما)
…
وأما قبل البلوغ فنفقته عليهما فيوالي كلا منهما".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 441) حيث قال: " الرابع أن يمكن كونه من كل منهما بأن ولدته لما بين ستة أشهر وأربع سنين من وطء كل منهما وادعياه أو أحدهما فيعرض على القائف، فإن تعذر أمر بالانتساب إذا بلغ ".
ينتظر حتى إذا كبر وشبَّ وأدرك وعرف ما ينفعه فله أن يختار أيهما شاء، ويرى الإمامان مالك والشافعي أنه لا يلحق واحد باثنين، وأحمد مع أبو ثور يريان أنه يلحق باثنين، أما أبو حنيفة فلا يرى الحكم بالقافة.
قوله: (وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ)
(1)
.
وأحمد
(2)
.
قوله: (يَكُونُ ابْنًا لَهُمَا إِذَا زَعَمَ الْقَائِفُ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِيهِ).
ويستدل بقصة المرأة التي وطئها رجلان في طهر واحد فجيء بها إلى عمر رضي الله عنه فألحقه، أي: الغلام بالرجلين معًا
(3)
، وأُثر ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه وقال:" يرثهما ويرثانه "
(4)
، فهذا قد صحَّ عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذه حجة للذين يقولون بجواز إلحاق الولد باثنين.
قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ يَكُونُ ابْنًا لِلِاثْنَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}
(5)
[الحجرات: 13]).
نعم هذه الآية وهذا هو الأصل لكن قد يأتي هذا الذي تكلم عنه الآخرون ويكون أمرًا نادرًا وقليلًا، والحكم جاء بالنسبة للغالب والأصل،
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 175) حيث قال: "وقال أبو ثور: يكون ابنهما إذا قال القائف قد اشترك فيه، يرثهما، ويرثانه".
(2)
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (2/ 324) حيث قال: "يرث اللقيط (كلا منهما)، أي: الاثنين الملحق بهما (إرث ولد) فإن لم يخلفا غيره ورث جميع مالهما (ويرثانه) جميعًا (إرث أب) واحد ".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 286) عن إبراهيم، قال:"دعا عمر أمة فسألها من أيهما هو؟ فقالت: ما أدري وقعا علي في طهر، فجعله عمر بينهما".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 286). عن الشعبي، قال:"قضى علي في رجلين وطئا امرأة فى طهر واحد، فولدت فقضى أن جعله بينهما، يرثهما ويرثانه، وهو لآخرهما حياة ".
(5)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (10/ 243)، حيث قال:" أي: كل واحد من ذكر وأنثى ولأنه العادة ".
فالأصل أن الإنسان يخلق من ماء واحد، أي: من ماء الرجل وماء المرأة.
قوله: (وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَافَةِ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ مِحْرِزٌ الْمُدْلِجِيُّ لِزَيْدٍ وَأُسَامَةَ، وَرَأَى أَقْدَامَهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"
(1)
).
فانظر إلى موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين في هذا الحديث وهو في " الصحيحين " وسيأتي في رواية فيها مزيد أيضًا في البخاري: "وعليهما قطيفةً قد غَطَّيا رؤوسَهما، وَبَدَتْ أقدامُهما"
(2)
، فالحديث الأول: لما جاء المدلجي وزيد بن حارث وأسامة وقد غطى رؤوسهم بقطيفة فهو لا يراهم وقد بدت أقدامهما، فماذا قال بحكم معرفته؟ قال:" إن هذه الأقدام بعضها من بعض "، مع أن إحدى القدمين بيضاء والأخرى سوداء، فنفى بذلك تلك الشبهة والفرية التي كانت تُدَّعى في الجاهلية وتلصق بأسامة، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا: لأن في ذلك تزكية وتطهيرًا للمؤمن من الوقوع في المعصية، وفرح كذلك لما كان لزيد وأسامة من مكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يملك الأمر عندما دخل على عائشة فقال لها:" ألم تري؟ "، والرؤية هنا ليست بصرية لكنها علمية أو خبرية فرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها بما حصل وبأن ذلك الرجل الذي اشتهر بالقافة مرَّ وأسامة مغطًى بقطيفة مع والده ولم تبد إلا أقدامهما فلما نظر قال:"هذه الأقدام بعضها من بعض "، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برقت أسارير وجهه ولمعت، أي: الخطوط التي في جبهته عليه الصلاة والسلام.
قوله: (قَالُوا: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ).
فقضية القافة قد اشتهرت وعرفت في الجاهلية وأقرها الإسلام ويكفي
(1)
البخاري (6770)، ومسلم (1459).
(2)
حديث (6771).
فيها هذا الحديث وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل هذا المشهد أمامه ثم دخل على عائشة يبشرها بما حصل ودخل عليها وهو في غاية السرور، وهذا دليل على صحة العمل بالقافة.
قوله: (وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْوَلَدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ فِرَاشٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " فَإِذَا عُدِمَ الْفِرَاشُ أَوِ اشْتَرَكَا لِلْفِرَاشِ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا، وَكأَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ بُنُوَّةً شَرْعِيَّةً لَا طَبِيعِيَّةً).
فكما مرَّ أن الحنفية ومن معهم لا يرون القافة وقد رأينا أن الصحابة رضي الله عنه عملوا بها، والرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا أثبت الحكم بالقافة.
قوله: (فَإِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ وَاحِدٍ عَنْ أَبَوَيْنِ بِالْعَقْلِ أَنْ لَا يَجُوزَ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ. وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ عَنْ عُمَرَ
(1)
، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ
(2)
).
هذا الذي قالوه وأخذوا به أيضًا من أثر عمر أنه ضرب القائف بالدرة، قالوا: تلك ضربة في أول الأمر؛ لأن عمر رضي الله عنه استبعد أن يولد شخص من ماءين فلما جاءت المرأة وقصت عليه القصة وأخبرته رجع بعد ذلك وحكم أيضًا في مسألة أخرى ذكر القائف بأنهما اشتركا فيها فألحقة عمر بالاثنين وفعل ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: لَا يُقْبَلُ فِي الْقَافَةِ إِلَّا رَجُلَانِ).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه عبد الرزاق فى "المصنف"(7/ 359) عن علي قال: أتاه رجلان وقعا على امرأة في طهر فقال: "الولد لكما وهو للباقي منكما".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 375) حيث قال: " (فلا يصح الإلحاق إلا من (حر ذكر) كالقاضي والثاني لا كالمفتي (لا عدد) فيكفي قول واحد والثاني لا بد من اثنين كالمزكى".
ثم يأتي العلماء فيختلفون في مسألة جزئية، هل يكفي في حكم القافة واحد أو لا بد فيه أكثر من واحد؟ والذي اشتهر هو قائف واحد فقد حضر في قضيتين أمام عمر رضي الله عنه قائف واحد.
قوله: (وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ قَائِفٍ وَاحِدٍ
(1)
، وَالْقَافَةُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ
(2)
إِنَّمَا يُقْضَى بِهَا
(3)
فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَطْ لَا فِي النِّكَاحِ).
فمالك يقضي فيها في المملوكين دون الحرائر وهذة مسألة اختلفوا فيها، وكونه يقضي فيها في المملوكين يحتاج إلى دليل، ولكن أكثر العلماء لا يرون التفريق.
قوله: (وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
(4)
: فِي هَذَا حَدِيث حَسَنٌ مُسْنَدٌ أَخَذَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الشَّعْبِيِّ، عَنْ زيدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: "كَانَ عَلِيٌّ بِالْيَمَنِ فَأُتِيَ بِامْرَأَةٍ وَطِئَهَا ثَلَاثَةُ أُنَاسٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُقِرَّ لِصَاحِبِهِ بِالْوَلَدِ فَأَبَى، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَقَضَى بِالْوَلَدِ لِلَّذِي أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 417) حيث قال: "ويكفي قائف واحد على المشهور؛ لأنه مخبر".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 417) حيث قال: "القافة تكون في ملكين، ونكاح وملك اتفاقًا، وهل تكون في النكاحين، أو لا قولان، والمذهب أنها تكون فيهما، وهل تكون في نكاح ومجهول، أو لا؟ قولان، والمعتمد الأول ".
(3)
الأصوب: يُقْضَى بِهَا.
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 175).
فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْجَبَهُ، وَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ "
(1)
، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إِنْفَاذُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ، وَإِلْحَاقُ الْوَلَدِ بِالْقُرْعَةِ).
فقد ادَّعى ثلاثة رجال ابنًا وأراد عليٌّ رضي الله عنه أن يقضي بينهم وبأن يعترف كلُّ واحد منهم للآخر بأنه ابن لفلان فأبى بهل واحد منهم، فانتقل إلى حكم آخر من الأحكام التي أقرتها الشريعة وهو أن يقرع بين هؤلاء الثلاثة؛ لأنه لا طريق لذلك إلا هذا الطريق والقرعة معتبرة شرعًا وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه
(2)
كما هو معلوم في الأحاديث الصحيحة، فأقرع بينهم فأصابت القرعة واحدًا منهم لكن ليس معنى هذا إصابة القرعة أحدهم أنه صاحب الحق ولكن هذا هو الطريق الذي يُنتهَى إليه في الحكم، فانظر إلى دقته في الحكم، فهم ثلاثة ولو كانت هناك دية اشتركوا فيها لثلِّثت بينهم، وهذا الذي أخذ الغلام عليه أن يدفع ثلثي الدية ثلث لهذا وثلث للآخر؛ لأنه قد ظفر بالابن، فنقلت هذه القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه، أي: مقرًّا لذلك.
وفي بعض الروايات: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الحكم في ذلك، فقال:"لا حكم غير ذلك "
(3)
، وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
* * *
(1)
أخرجه أبو داود (2270) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"- الأم (7/ 36).
(2)
أخرجه البخاري (2593)، ومسلم (2770) عن عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه .... الحديث ".
(3)
أخرجها الحميدي في "مسنده"(2/ 39)(803)، والطبراني في "الكبير" (5/ 173) بلفظ:" لا أعلم فيها إلا ما قضى علي ".
[مِيرَاثُ الْقَاتِلِ]
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مِيرَاثِ الْقَاتِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ أَصْلًا مَنْ قَتَلَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَرِثُ الْقَاتِلُ وَهُمُ الْأَقَلُّ).
والمؤلف انتقل بنا إلى حكم آخر؛ لأن القتل ذكره العلماء بأنه مانع من موانع الإرث؛ لأن موانع الإرث منها اختلاف الدين ومنها الرق ومنها القتل، والقتل على نوعين، هناك من يَقتُل عمدًا وهناك من يَقتُل خطأً، فإذا قتل إنسان آخر وكان وارثًا له فهل له أن يرث منه أو لا؟ وهل هناك فرق بين أن يكون قتله عمدًا أو قتله خطأً؟ وهذه مسألة تكلم عنها العلماء وهي في الحقيقة تنقسم إلى قسمين؛ لأن القتل على نوعين قتل محمد، وقتل خطإٍ، فإذا قتل وارث مورثه عمدًا فقد حكي إجماع العلماء على أنه لا يرثه بأن القاتل لا يرث المقتول
(1)
، وقالوا: قد خالف في ذلك إمامان هما سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير
(2)
وهما من التابعين لكن العلماء اعتبروا رأيهما شاذًا في ذلك " لأنه قد صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه أعطى دية ابن قتادة المدلجي لأخيه دون أبيه؛ لأن أباه قد رماه بسيف فقتله
(3)
ثم إن
(1)
يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 74) حيث قال: "وأجمعوا على أن القاتل عمدًا لا يرث من مال من قتله، ولا من ديته شيئًا ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 364) حيث قال: " أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئًا، إلا ما حكي عن سعيد بن المسيب وابن جبير، إنهما ورثاه، وهو رأي الخوارج؛ لأن آية الميراث تتناوله بعمومها، فيجب العمل بها فيه، ولا تعويل على هذا القول؛ لشذوذه، وقيام الدليل على خلافه ".
(3)
أخرجه ابن ماجه (2646) وغيره. عن عمرو بن شعيب، أن أبا قتادة -رجل من بني مدلج- قتل ابنه، فأخذ منه عمر مائة من الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، فقال: أين أخو المقتول؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس لقاتل ميراث" وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2215).
ذلك قد حصل بمشهد من الصحابة وانتشر بينهم فلم يُعرَف بينهم معارض فكان إجماعًا ثم بعد أن حكم عمر رضي الله عنه بذلك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس للقاتل شيء"، وهو حديث صحيح
(1)
، وفي حديث عمرو بن شعيب:" لا يرث القاتل "
(2)
، وفي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه ذكر ألَّا يرث القاتل المقتول وإن لم يوجد وارث غيره، وقد رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
فمن حيث الجملة الذين قالوا: لا يرث مطلقًا، هم الأئمة الثلاثة، ومالك وافقهم في العمد، وخالفهم في الخطإ لكنه قيده بأنه لا يرث من ديته، يعني: يرثه لكن لا يرث من الدية.
قوله: (وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ، فَقَالُوا: لَا يَرِثُ فِي الْعَمْدِ شَيْئًا، وَيَرِثُ فِي الْخَطَإِ إِلَّا مِنَ الدِّيَةِ).
الذي فرق هو مالك وأصحابه.
قوله: (وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَمْدِ قَتْلٌ بِأَمْرٍ وَاجِبٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاجِبٍ).
ولهذا يختلف الذي يقتل بالحق. فلا يدخل في ذلك، فالقاتل الذي ينفذ حقًّا من الحقوق وإن كان فيه خلاف يختلف أمره والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"لحدٌّ يقام في الأرض خير من أن يُمطَر الناس أربعين يومًا"
(4)
، فهذه الحدود التي تطبق فيها تطهير لصاحبها، وفي نفس الوقت فيها حفظ للمجتمع من أن تنتشر فيه الفاحشة، وأن ينتشر فيه الإثم، وأن يتعدَّى بعض
(1)
أخرجه أبو داود (4564) وغيره، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(5421).
(2)
انظر ما قبله.
(3)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 404). عن ابن عباس قال: "من قتل قتيلًا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده، قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس لقاتل ميراث، وقضى أن لا يقتل مسلم بكافر".
(4)
أخرجه أحمد (8738) وضعفه الألباني في " السلسلة الضعيفة "(989).
الناس على بعض، فمن الناس من لا يردعه إلا القوة والله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وقال الله تعالى في شأن المحاربين:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} ، فلا يخلو زمان من وجود مفسدين ومن وجود عصاة حتى في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتكبت الموبقات فما بالكم بغيره.
قوله: (مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَبِالْجُمْلَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ أَوْ لَا يُتَّهَمُ).
والتُّهمة كما هو معلوم معتبرة في مذهب المالكية ومرت بنا في عدة مسائل، يعني: عندما يتَّهم الإنسان يوقف، حتى إنهم أحيانًا كما جاء في الحديث:"البينة على المدعي واليمين على من أنكر"
(1)
فأحيانًا يقلبون الأمر فيجعلون اليمين على المدعي مع أنه صاحب البينة إذا وجدت شبهة.
قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ أَصْلِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِلنَّظَرِ الْمَصْلَحِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ الْمَصْلَحِيَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَرِثَ؛ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ النَّاسُ مِنَ الْمَوَارِيثِ إِلَى الْقَتْلِ وَاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ).
يقول المؤلف: لو نظرنا أيضًا للمصلحة ومن باب ردع الجناة والمعتدين فالمصلحة تقتضي ألا يرث، وهذا ما نسميه بسدِّ باب الذرائع
(2)
؛ لأنه إذا أُغلِق هذا الباب فلن يفكر أحد فيه، كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، يعني: لو لم يعلم كثير من الناس أصحاب
(1)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(10/ 427)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2384).
(2)
"الذرائع ": جمع ذريعة، وهي الوسيلة إلى الشيء، ومعناها حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة. انظر:"الصحاح" للجوهري (3/ 1211). و"الفروق" للقرافي (2/ 32).
النفوس الشريرة بأنهم سيُقتلَون عند أتفه الأمور فربما يقتل غيرهم لو اختلف أحدهم مع شخص آخر، فإذا فكر الإنسان أنه سيجازى والجزاء من جنس العمل هذا إلى جانب ما يترتب من العقاب.
قوله: (وَالتَّعَبُّدُ يُوجِبُ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا قَصَدَ لَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الشَّارعُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64].
فالمؤلف يضعف ذلك القول أو ذلك التعليل، التعليل بأن لو ورث القاتل من مقتوله ربما أدَّى ذلك لأن يتساهل بعض الناس بالقتل فيقتل مورثه حتى يرث منه، قالوا: وهذا ضعيف، والحقيقة أنه ليس بضعيف؛ لأن أصحاب النفوس المريضة هذا طريقهم، فهو قول ضعيف وتعليل عند من يخشى الله سبحانه وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} ، أما الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى فالإنسان والحيوان عندهما سيان.
قوله: (كمَا تَقُولُ الظَّاهِرِيَّةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَارِثِ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْلِمٍ يُسْلِمُ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ الْمُسْلِمِ وَقَبْلَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ).
فلو توفي إنسان وله ورثة غير مسلمين وقبل أن تقسم تركته أسلم ذلك الرجل وهو ممن يرث أي: يستحق الميراث، فلا خلاف بين العلماء بأنه لو أسلم قبل موته ولو بلحظات حتى في وقت الغرغرة أنه يرث، لكنه أسلم بعد أن مات، فهل إسلامه لأجل أن يرث أو لأنه أسلم فعلًا ودخل في الإسلام؟ هذه ليست هي المقصودة، والقصد مَن يسلم بعد موت من يستحق الميراث منه لو كان مسلمًا ولكن قبل قسمة التركة، هل له أن يدلي بدلوه ويأخذ مع الورثة أو لا؟ وهذه مسألة اختلف فيها العلماء، فجمهورهم على أنه لا يرث ومنهم الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي، ومن العلماء من يرى أنه يرث كالإمام أحمد وجماعة.
قوله: (كَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُوَرِّثُهُ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الْمَوْتِ).
والجمهور هم الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة ومالك والشافعي) ومعهم غيرهم، يعني: أكثر العلماء قالوا: إن إسلامه بعد موت هذا الذي يستحق منه الإرث لا يجوِّز له الإرث؛ لأن المعتبر في ذلك هو الحياة، بأن يكون مسلمًا قبل الموت، أما بعد موته فإن التركة حينئذٍ أصبحت مستحقة ومستحقة لأناس معينين هم الورثة الذين يجوز لهم أن يدلوا بذلك ولا يوجد مانع، أما ذاك فوجد مانعًا يمنع منه وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يرث الكافر المسلم "، وهذا قد كان كافرًا قبل أن يموت هذا الإنسان.
قوله: (فَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَارِثُهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ لَمْ يَرِثْهُ أَصْلًا سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ أَوْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَان مُوَرّثُهُ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ الْوَارِثُ يَوْمَ مَاتَ غَيْرَ مُسْلِمٍ وَرِثَهُ ضَرُورَةً سَوَاءٌ أَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْقَسْمِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ).
ومنهم الإمام أحمد في المشهور عنه.
قوله: (الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ يَوْمُ الْقَسْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ).
فهذا مروي عن بعض الصحابة ومنهم عمر رضي الله عنه، وقالوا: ذلك أيضًا حافز لمثل هذا أن يدخل في الإسلام، وتعلمون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطي المؤلَّفة قلوبهم، والله سبحانه وتعالى عدَّ المؤلفة قلوبهم من أصحاب الزكاة فقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، فلماذا كان يعطي المؤلفة قلوبهم مع أنهم ليسوا بحاجة لتأليفهم في الإسلام وترغيبهم فيه وتحبيبهم فيه ليكون دافعًا لهم؟ وهكذا كل داعية يبذل غاية جهده ليحبب الناس في الإسلام ويرغبهم فيه ويبين ما فيه من المزايا، وما فيه من الحكمة، وما فيه من العفو، والإحسان، والخصال الكثيرة.
قوله: (وَعُمْدَةُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " أَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ قُسِّمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ).
وهذا دليل أورد في هذه المسألة لكن أصحاب القول الأول الذين يمنعون يقولون: بأن لما حصل إسلامه كان بعد موت صاحب التركة وهو لما كان حيًّا كان هذا على غير دين الإسلام، فاستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يرث الكافر المسلم "
(1)
، وأولئك كما قلت احتجوا بحديث آخر لم يورده المؤلف وهو:"من أسلم على شيء فهو له"
(2)
، فهذا قد أسلم ولما أسلم ووجد تركة لم تقسم وهو واحد ممن يرثون تلك التركة لكن بوجود المانع من ذلك وهو الكفر وقد زال ذلك المانع قبل أن تقسم التركة فكان له الحق بأن يكون واحدًا من مستحقيه.
قوله: (وَأَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَدْرَكَهَا الْإِسْلَامُ وَلَمْ تُقْسَمْ فَهِيَ عَلَى مَا قَسَمَ الْإِسْلَامُ"
(3)
).
فما كان قسم في الجاهلية قد انتهى؛ لأن الإسلام كما هو معلوم أعرض عما كان في الجاهلية، وأما ما أدركه الإسلام فإنه يقسم على الإسلام؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، والإسلام شريعة وهذه الشريعة تطبق منذ وقت نزولها.
قوله: (فَمَنِ اعْتَبَرَ وَقْتَ الْقِسْمَةِ حَكَمَ لِلْمَقْسُومِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ وُجُوبَ الْقِسْمَةِ حَكَمَ فِي وَقْتِ الْمَوْتِ لِلْمَقْسُومِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ).
والذين لاحظوا أمرًا معنويًّا قالوا: إن في توريث مثل هؤلاء ما
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور (1/ 96، 97) وغيره، عن عروة وابن أبي مليكة، وحسنه الألباني في " إرواء الغليل "(1716).
(3)
أخرجه مالك (2/ 746)(35)، وغيره.
يشجعهم على الدخول في الإسلام، وواجب المسلم أن يبذل كلَّ وسيلة ويسلك كل طريق في تحبيب الناس في الإسلام وترغيبهم فيه عن طريق القول أو العمل فهو يدعو إلى الحق بحكمة وبصيرة وأن يكونوا قدوة في أعمالهم يمثلوا في ذلك الإسلام حتى يُقبل الناس على الإسلام ويحبونه ويدخلون فيه كما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمن أصحابه.
قوله: (وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ "أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - نَصِيبَهُ "
(1)
، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ فِيمَنْ أُعْتِقَ مِنَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَسْمَةِ.
فَهَذ هِيَ الْمَسَائِلُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي تتَعَلَّقُ بِهَذَا الْكِتَابِ).
أي: التي تتعلق بكتاب الفرائض، نعم لم يستوعب المؤلف جميع ما فيها ولم يعرج على أكثرها بل أخذ أصولها وأمهاتها وترك كثيرًا من المسائل، ولكن منهج هذا الكتاب بأنك إذا ربطت الأصل استطعت أن تلحق به ما يمكن أن يتبعه من فروع، وتعلمون أن الفرائض لها أصول، وهناك أسس تقوم عليها فإذا ربطت تلك الأصول عرفت أصحاب الفروض
(2)
ونصيبهم، وأهل التعصيب وأنواعهم، ثم تأتي بعد ذلك إلى الولاء الذي سننتقل إليه، فإذا عرفت هذا كله وعرفت موانع الإرث أمكنك أن تكون على بينة مما يتعلق بهذا العلم.
قوله: (قَالَ الْقَاضِي
(3)
: وَلَمَّا كَانَ الْمِيرَاثُ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: إِمَّا بِنَسَبٍ، أَوْ صِهْرٍ، أَوْ وَلَاءٍ، وَكَانَ قَدْ قِيلَ فِي الَّذِي يَكُونُ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ).
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
" أصحاب الفروض ": هم الذين لهم سهام مقدرة في الكتاب أو السنة أو الإجماع. انظر: "التعريفات " للجرجاني، و"شرح السراجية" للجرجاني (ص 29).
(3)
أي: ابن رشد المصنف.
أسباب الميراث كما عرفنا ثلاثة: نكاح ونسب وولاء.
قوله: (فَيَجِبُ أَنْ نَذْكُرَ هَاهُنَا الْوَلَاءَ، وَلمَنْ يَجِبُ فِيهِ مِمَّنْ لَا يَجِبُ، وَمَا أَحْكَامُهُ؟).
إذًا سيشرع المؤلف رحمه الله في بيان أحكام السبب الثالث من أسباب الميراث وهو الولاء.
* * *
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(بَابٌ فِي الْوَلَاءِ
(1)
:
فَأَمَّا مَنْ يَجِبُ لَهُ الْوَلَاءُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ لِهَذَا الْبَابِ. الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ وَلَاءَهُ لَهُ وَأَنَّهُ يَرِثُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ)
(2)
.
(1)
وهو ولاء العتق فإذا أعتق عبدًا، أو أمة، صار له عصبة في جميع أحكام التعصيب عند عدم العصبة من النسب، كالميراث، وولاية النكاح، والعقل وغير ذلك. والولي هو الحليف والناصر والمعتق، والموالاة معاقدة تجرى بين من أسلم ولا قريب له يرثه وبين مسلم يقول له: واليتك على أن تعقل عني وترثني. انظر: "طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية" لنجم الدين النسفي (ص 65)، "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (1/ 378). وقال الجرجاني: الولاء هو ميراث يستحقه المرء بسبب عتق شخص في ملكه، أو بسبب عقد الموالاة. "التعريفات" للجرجاني (ص 255).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فَتح القدير" للكمال ابن الهمام (9/ 219) حيث قال: (وإذا أعتق المولى مملوكه فولاؤه له).
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 415) حيث قال: "الولاء ثابت (لمعتق) تنجيزًا أو تأجيلًا أو تدبيرًا أو كتابة أو بسراية أو تمثيل أو غير ذلك ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 468) حيث قال: =
قال المؤلف: أجمع العلماء على أن من أعتق مملوكه (عبده) عن نفسه فإن ولاءه له، وفائدة قيد (عن نفسه)؛ لأن كلمة:(عن نفسه) لها مفهوم وقد قصدها المؤلف؛ لأن فيها خلافًا سيأتي لو أعتق عن غير نفسه، لأنه قد يعتق إنسانًا عبدًا عن غيره فمن الذي يكون المولى هل هو المعتق أو المعتق عنه؟ وسيأتي الكلام في هذه المسألة، فالشخص الذي يجب له الإرث إذا أعتق عن نفسه إجماعًا، أي: لو أن إنسانًا كان عنده مملوك فأعتقه أو اشترى مملوكًا فأعتقه أو كانت عليه كفارة فأعتق بها رقبة أو كاتب مملوكًا أو بعضه أو دبَّره أو غير ذلك من الأمور الكثيرة، فإنه بذلك يكون مولاه وهو الذي يستحق الإرث منه، ومعنى هذا بأن ورثة الميت يقدَّمون حتى وإن كان فيما مضى رقيقًا فإن ورثته يقدمون فيأخذون كما يأخذ الذين ذكرنا أحوالهم في النسب، وكذلك المصاهرة، لكن عندما يبقى شيء يقدم صاحب الولاء على الرد وعلى ذوي الأرحام عند من يقول بتوريثهم.
قوله: (وَأَنَّهُ عَصَبَةٌ لَهُ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ وَرَثَةٌ لَا يُحِيطُونَ بِالْمَالِ).
فهو يرث تعصيبًا، ويسمى تعصيبًا؛ لأن التعصيب بسبب، والسبب هو هذه النعمة التي أنعم بها المعتق على عتيقه.
قوله: (فَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ:" إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ "
(1)
.
وبريرة هذه كانت مملوكة وكان لها زوج واختلف في هذا الزوج،
= "من عتق عليه رقيق أو مبعض بإعتاق منجز إما استقلالًا أو بعوض كبيع العبد من نفسه أو ضمنًا كقوله: اعتق عبدك عني. فأجابه، أو معلقًا على صفة وجدت أو كتابة) بأداء نجوم وتدبير واستيلاد وقرابة كأن ورث قريبه الذي يعتق عليه أو ملكه ببيع أو هبة أو وصية وسراية
…
أو بإعتاق غيره رقيقه عنه بإذنه فولاؤه له ".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 675) حيث قال: "فمن أعتق قِنًّا أو أعتق بعضه فسرى العتق لباقيه فله عليه الولاء".
(1)
أخرجه البخاري (1492)، ومسلم (1504).
هل كان مملوكًا أو كان حرًّا؟ فهناك من يرى بأنه كان حرًّا، وابن عباس وهو ممن شاهد ذلك قال: بأنه كان مملوكًا
(1)
، وأن عائشة رضي الله عنه ساعدت بريرة على أن تدفع لأهلها ما يؤدي إلى عتقها
(2)
، وأنهم وافقوا على ذلك وأصروا شريطة أن يكون الولاء لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أعتقيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق "
(3)
، "إنما" أداة حصر سيتكلم عنها المؤلف، وفي بعض الروايات:" الولاء لمن أعتق "
(4)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ غَيْرِهِ).
أجمعوا على إذا أعتق عن نفسه أن الولاء له، لكن إذا أعتق عن غيره فما الحكم هنا؟
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ لَا الَّذِي بَاشَرَ الْعِتْقَ)
(5)
.
فإذا أعتقت عن إنسان عتيقًا فالإمام مالك يقول: الولاء للمعتق عنه وأنت المعتق لا شيء لك؛ لأنك نويت وقصدت به فلانًا، وجمهور العلماء خالفوا في ذلك فقالوا: لا، بل هو للمعتق وإن كان عن فلان؛ لأنه هو صاحب اليد البيضاء فهو المحسن وهو السبب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" إنما الولاء لمن أعتق "
(6)
، والذي أعتق هو هذا لا من أعتق عنه.
(1)
يُنظر: "صحيح البخاري"(6751، 6754) حيث قال: "وقال ابن عباس: رأيته عبدًا ".
(2)
أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504).
(3)
أخرجه البخاري (3563)، ومسلم (1504).
(4)
أخرجه البخاري (2565).
(5)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 416) حيث قال: "من أعتق عن غيره بإذنه أو بغير إذنه فمشهور مذهب مالك عن أصحابه أن الولاء للمعتق عنه ".
(6)
سبق تخريجه.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
).
وأحمد
(3)
.
قوله: (إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ عِلْمِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فَالْوَلَاءُ لِلْمُبَاشِرِ لِلْعِتْقِ).
إن كان عالمًا بذلك فاتَّفق معه على أن يعتق عنه فالولاء للمعتَقِ عنه، أما إذا لم يكن على علم ولم يتفق معه فالولاء يكون للمباشر العتق.
قوله: (وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ "
(4)
.
وفي رواية وهي في "الصحيحين" وهي المشهورة: " إنما الولاء لمن أعتق "
(5)
.
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (9/ 219) حيث قال: "وإذا أعتق المولى مملوكه فولاؤه له
…
قال صاحب العناية: وجه الاستدلال أن الحكم إذا ترتب على مشتق دلَّ على أن المشتق منه علة لذلك الحكم اهـ. أقول: لا يذهب عليك أن حل هذا المحل بهذا الوجه ليس بسديد؛ إذ لا شكَّ أن المطلوب بهذه المسألة بيان من له الولاء لا بيان علة الولاء، والوجه المذكور إنما يفيد الثاني دون الأول فلا يتم التقريب، والصواب: أن وجه الاستدلال هاهنا هو أن لام الجنس في قوله عليه الصلاة والسلام: "الولاء" ولام الاختصاص في قوله: "لمن أعتق" تدلان على أن جنس الولاء لمن أعتق دون غيره ".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 375) حيث قال: "ومن أعتق عن غيره، أو عن كفارة غيره بعوض، أو غيره، وقد قدر انتقال ملكه للغير قبيل عتقه فولاؤه لذلك الغير".
(3)
يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (3/ 126) حيث قال: "وإن أعتقه عنه بأمره فالولاء للمعتق عنه، وإذا قال: أعتق عبدك عني مجانًا أو على ثمنه أو أعتقه عني ويطلق ففعل والعتق والولاء للقائل ".
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
قوله: (وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ")
(1)
.
وهذا الذي أشرنا إليه من قبل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شبَّه الولاء، وقال بأنه لحمة كلحمة النسب، والقصد هنا الارتباط، فالرابط بين المعتِق والمعتَق هي رابطة قوية كالعلاقة التي تجمع بين الأب وابنه، كعلاقة اللحمة التي تكون بينهما، فهنا علاقة وهناك علاقة، وهما متشابهان فيها وقد بيَّنت ذلك فيما مضى.
قوله: (قَالُوا: فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَحِقَ نَسَبٌ بِالْحُرِّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ).
فلا يمكن أن ينسب أحد إلى الحرِّ إلا أن يوافق عليه فكذلك الولاء.
قوله: (وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى؛ فَلأنَّ عِتْقَهُ حُرِّيَّةٌ وَقَعَتْ فِي مِلْكِ الْمُعْتِقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ).
وهذه قد أشرنا إليها وقلنا كأن هذا الرقيق غير موجود؛ لأنه سلعة تباع وتشترى فلا يملك شيئًا، وقد مر أنه إذا بيع فماله إن كان قد ملكه سيده فهو لسيده إلا أن يشترط ذلك المبتاع، فهو لا يتصرف ولا يملك شيئًا، فأصبح كأن لم يكن، لذلك عندما يأتي العلماء فيعدون أسباب التخفيف في الشريعة الإسلامية فيأتون إلى ما يتعلق بالنقص، يعني: من أسباب التخفيف التنقص فيعدون من ذلك الرقيق.
قوله: (أَصْلُة إِذَ أَعْتَقَهُ مِنْ نَفْسِهِ).
قياسًا على إعتاقه له عن نفسه لا عن غيره، فكما أنه إذا أعتقه عن
(1)
أخرجه ابن حبان (11/ 326)، والدارمي (3203)، وصححه الألباني في " إرواء الغليل "(1668).
نفسه فالولاء له دون خلاف كذلك إذا أعتقه عن غيره؛ لأن القصد هو السبب، والمتسبب هو الذي أعتق.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْهُ فَقَدْ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ).
فكأنه ملَّكه إياه وجعله ملكًا له، ولكن مذهب الجمهور أقوى في ذلك وأولى.
قوله: (وَلذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُعْتَقُ عَنْهُ كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ لَا لِلْمُبَاشِرِ).
وهذا يسمى مولى نعمة
(1)
، أي: صاحب نعمة ويدٍ على هذا الإنسان، فالذي أنعم عليه هو الذي يستحق أن يقابل بالإحسان، وهو الذي يستحق أن يرد إليه، والذي يستحق أن يأخذ المكافأة على ذلك حتى أنه فيما يتعلق بالعتق الذي يسمى السائبة، ومن العلماء من يرى أن الولاء باقٍ حتى وإن أعتقه سائبة.
قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ
(2)
أَنَّهُ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ وَللْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَهُمْ يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ).
فالجمهور تمسكوا بالأصل الذي جاء في الأحاديث: " إنما الولاء لمن أعتق "
(3)
، وهذا هو المعتق هو الذي باشر العتق وهو الذي يستحقه.
(1)
" الْمُعْتِقُ ": هو مولى النعمة أنعم على عبده بعتقه .. انظر: " المغرب في ترتيب المعرب " للمُطَرِّزِيّ (ص 496)، و" تهذيب اللغة " للأزهري (15/ 324).
(2)
"الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي " للخلوتي (4/ 572): حيث قال: "وهو أي الولاء ثابت لمن أعتق حقيقة كقوله لعبده: أنت حر، أو بعد سنة، أو مدبر، أو كاتب. أو استولد ولو قال المعتق: ولا ولاء لي عليك، فإن قوله لغو. خلاف لابن القصار القائل، إنه يكون للمسلمين ".
(3)
سبق تخريجه.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ هَلْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ؟).
وهذه مسألة أخرى، إنسان دعى إنسانًا آخر غير مسلم إلى الإسلام فهل يكون له ولاؤه مقابل أنه كان سببًا في دخوله في هذا الدين العظيم الذي خالط بشاشة قلبه فالتحق به، ولا شكَّ أن هذه نعمة من نعم الله ومن أجلِّ ما يتقرب به المسلم إلى الله سبحانه وتعالى ومما يرفعه درجات؛ ولذلك لمَّا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب وقبله لما قال:
"لأعطين الراية غدًا رجلًا يحبُّه الله ورسوله ويحب الله ورسوله "، فارتفعت وتطلعت أعين الصحابة وارتفعت أعناقهم من يكون ذلك؟ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علي بن أبي طالب فقيل: إنه أرمد، فدعاه فبسق في عينه فبرئ، والشاهد أنه قال:"فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمر النعم"
(1)
، والمقصود بـ "حُمر النعم" الإبل، وكانت أغلى وأثمن تجارة عند العرب في ذاك الوقت، فهي التي كان يُضرَب بها المثل، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم:" لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمر النعم "
(2)
، ففي ذلك فضل عظيم فما بالكم فيمن يهدي به الله سبحانه وتعالى على يديه عددًا من الناس، فإذا دعى مسلم غيره إلى الإسلام فأسلم على يديه فهو صاحب فضل وإحسان وسينال جزاء ذلك من الله سبحانه وتعالى، أما ذاك الأول (الرقيق) فإنه يختلف؛ لأنه كان كالمقيد كالطير الذي وُضِع في قفص وأُغلِق عليه ثم فُتِح ذلك القفص فأصبح يحلق في جوِّ السماء، فالأمر يختلف، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء؛ هل يكون له الولاء أو لا يكون؟ أما الأجر والثواب فأجره بلا شكٍّ عظيم وهو عند الله سبحانه وتعالى أيضًا مدون أو مسجل له في سجل حسناته.
(1)
أخرجه البخاري (2942)، ومسلم (1807).
(2)
سبق تخريجه.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
وَالثَّوْرِيُّ
(3)
وَدَاوُدُ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ: لَا وَلَاءَ لَهُ).
هؤلاء قالوا: لا ولاء له، ومعهم أيضًا الإمام أحمد في المشهور عنه
(5)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(6)
: لَهُ وَلَاؤُهُ إِذَا وَالَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَالِيَ رَجُلًا آخَرَ فَيَرِثَهُ وَبَعْقِلَ عَنْهُ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ وَلَائِهِ إِلَى وَلَاءِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ يَكُونُ لَهُ وَلَاؤُهُ).
(1)
يُنظر: " حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني "(2/ 247) حيث قال: "وإذا أسلم كافر على يد مسلم فإنه لا يكون الولاء عليه لمن أسلم على يده وإنما هو لجماعة المسلمين ".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج في شرح المنهاج"(10/ 375): "ولا يثبت الولاء بسبب آخر غير الإعتاق كإسلام شخص على يد غيره ".
(3)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" لبدر الدين العيني (11/ 30) حيث قال: " لا يثبت الولاء بمجرد الإسلام ما لم يعقد عقد الموالاة، وهذا هو مذهب أصحابنا والشعبي ومالك والثوري ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 358) حيث قال: "فأما الذي يسلم على يديه رجل أو يواليه فقال مالك: لا ميراث للذي أسلم على يديه ولا ولاء له وميراث ذلك المسلم إذا لم يدع وارثًا لجماعة المسلمين وهو قول الشافعي والثوري وابن شبرمة والأوزاعي وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الولاء لمن أعتق " ينفي ذلك أن يكون الولاء إلى المعتق، وهو قول أحمد وداود".
(5)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 434) حيث قال: "فإن أسلم الرجل على يدي الرجل، لم يرثه بذلك. في قول عامة أهل العلم، منهم الحسن، والشعبي، ومالك، والشافعي وأصحاب الرأي. وقد روي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى، أنه يرثه. وهو قول إسحاق. وحكي عن إبراهيم أن له ولاءه ويعقل عنه ". وانظر: "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح"(2/ 215).
(6)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (9/ 228) حيث قال: "وإذا أسلم رجل على يد رجل ووالاه على أن يرثه ويعقل عنه أو أسلم على يد غيره ووالاه فالولاء صحيح وعقله على مولاه، فإن مات ولا وارث له غيره فميراثه للمولى".
وهذا هو قول إسحاق بن راهويه
(1)
، وهي الرواية الأخرى للإمام أحمد
(2)
، ورجَّحها بعض المحققين من الحنابلة كابن القيم
(3)
، إذًا القول الأول: بأنه لا ولاء له، وهذا قول الجمهور، الثاني: له الولاء وقيده الحنفية، الثالث: بأن له الولاء، وهناك من فرق بين أن يعقل عنه أو لا يعقل عنه، فقالوا: إن عقل عنه فهو مولاه، وهذا قال به سعيد بن المسيب
(4)
، ومنهم من قال: هو مولاه وإن لم يعقل عنه وإن لم يواله - لم تحصل موالاة - ولكنه كان سببًا في إسلامه وهذا أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(5)
، وعن عمر بن عبد العزيز
(6)
.
(1)
يُنظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" للبغوي (5/ 44) حيث قال: "وقال إسحاق: إذا أسلم على يديه رجل - يثبت له عليه الولاء".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 434) حيث قال: "فإن أسلم الرجل على يدي الرجل، لم يرثه بذلك. في قول عامة أهل العلم، منهم الحسن، والشعبي، ومالك، والشافعي وأصحاب الرأي. وقد روي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى، أنه يرثه. وهو قول إسحاق. وحكي عن إبراهيم أن له ولاءه ويعقل عنه ".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن القيم على سنن أبي داود"، حيث قال:" لو صح - أي: الحديث المستشهد به - كان معناه هو أحق به يواليه وينصره ويبره ويصله ويرعي ذمامه ويغسله ويصلي عليه ويدفنه فهذه أولويته به لا أنها أولويته بميراثه وهذا هو التأويل ".
(4)
يُنظر: "شرح مشكل الآثار"(7/ 282)(2856) حيث قال: "عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: إذا جاء كافر فأسلم على يدي مسلم بأرض عدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه ومنهم سعيد بن المسيب ".
(5)
يُنظر: "شرح مشكل الآثار"(7/ 283)(2856) حيث قال: "عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم، فوالى رجلًا، هل بذلك بأس؟ فقال: لا بأس به قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ".
(6)
ينظر: "شرح مشكل الآثار"(7/ 280)(2856) حيث قال: "عن تميم الداري قال: قلت يا رسول الله، الرجل من المشركين يسلم على يد الرجل من المسلمين؟ قال: "هو أولى الناس بمحياه وبمماته" قال: فكان فيما رويناه من حديث تميم هذا إثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إسلام الرجل على يدي الرجل يوجب له أنه أولى الناس بمحياه وبمماته، فتعلق قوم بهذا الحديث، فأثبتوا به الولاء للذي كان الإسلام على يده من الذي أسلم على يده وجعلوه به مولاه وورثوه منه، منهم عمر بن عبد العزيز ".
قوله: (فَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
(1)
).
وهذا لم يعتق لكنه كان سببًا فيما هو أعظم من العتق؛ لأن العتق ثوابه عظيم والله سبحانه وتعالى حضَّ على ذلك ورغَّب فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن ثواب من تكون عنده جارية فيعلمها ويحسن تعليمها ويؤدبها فيحسن تأديبها ثم يعتقها
(2)
، له فضل عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فإعتاق الرقاب أجره عظيم، لكن هذا انتشل هذا الإنسان من ظلمة الكفر إلى رحاب الإسلام ونور الإيمان، فنقله إلى ما فيه سعادته، وحوله من نار جهنم بأن فتح له الطريق إلى الجنة، ولا شك أن الأمر عظيم من حيث النتيجة.
قوله: (وَإِنَّمَا هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْحَاصِرَةَ
(3)
).
فالولاء هنا حصر في المعتق، فلا يتجاوزه.
قوله: (وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ هِيَ عِنْدَهُمْ لِلْحَصْرِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَاصًّا بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَا يُشَارِكهُ فِيهِ غَيْرُهُ).
يعني: قصر الحكم هنا على المولى.
قوله: (أَعْنِي: أَنْ لَا يَكُونَ وَلَاءٌ بِحَسَبِ مَفْهُومِ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِلْمُعْتِقِ فَقَطِ الْمُبَاشِرِ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ بِالْمُوَالَاةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]).
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (2547) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل كانت له جارية، فأدبها فأحسن تأديبها، وأعتقها، وتزوجها فله أجران، وأيما عبد أدَّى حق الله وحق مواليه فله أجران ".
(3)
يأتي تعريف الحصر قريبًا في كلام المؤلف.
وهذه الآية الأخيرة سبق الكلام عنها وأن ذلك كان في الجاهلية وفي أول الإسلام وأن هناك من قال بأن آية المواريث نُسخت ذلك، وأيضًا هناك من قال كالحسن البصري: نسخها قول الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(1)
.
قوله: (وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: الْوَلَاءُ يَكُونُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ
(2)
).
وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن
(3)
، وكذلك الإمام أحمد
(4)
، والبيهقي
(5)
، وجمع
(6)
.
وهو مختلف فيه صحة وضعفًا، فمن العلماء من يصححه
(7)
، ومنهم مَن يضعفه
(8)
، وقد جاء من عدة طرق.
قوله: (قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُشْرِكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ
(1)
يُنظر: "ناسخ القرآن ومنسوخه" لابن الجوزي (2/ 368) حيث قال: "وقال الحسن: كان الرجل يعاقد الرجل، على أنهما إذا مات أحدهما ورثه الآخر، فنسختها آية المواريث ".
(2)
يأتي تخريجه.
(3)
أخرجه أبو داود (2918)، والترمذي (2112) وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن وهب ويقال: ابن موهب عن تميم الداري، وقد أدخل بعضهم بين عبد الله بن موهب وبين تميم الداري قبيصة بن ذؤيب
…
وهو عندي ليس بمتصل "، والنسائي في "الكبرى" (6378)، وابن ماجه (2752).
(4)
أخرجه أحمد في " مسنده "(16944).
(5)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(10/ 500)، وصححه الألباني في " إرواء الغليل "(2316).
(6)
كالدارمي (3076) وأبي يعلى في "مسنده"(7165)، والدارقطني (5/ 320)، والحا كم (2/ 239).
(7)
كأبي زرعة الدمشقي حيث قال: هو حديث حسن المخرج متصل. والحاكم. انظر: "حاشية المسند"(28/ 146).
(8)
كالشافعي والإمام أحمد والبخاري. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 46).
مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: "هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِحَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ").
وهذا ليس صريحًا في الولاء ولا في الإرث، فهو أحق الناس بحياته ومماته، وأيضًا الذين قالوا: بأنه لا ولاء هنا قالوا: بأن الحديث فيه مقال، والأمر الآخر بأنه ليس صريحَ الدلالة على ما يتعلق بالإرث وإنما قال:"بحياته ومماته".
قوله: (وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(1)
، وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] مَنْسُوخَة بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ).
هذه مرت بنا: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
قوله: (وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ).
والذي كان في صدر الإسلام هو ولاء الحلف، فكان الرجل يعقد حلفًا مع آخر فيما يتعلق بالعهد والمدافعة وأيضًا الدفاع عن الذمم ثم بعد ذلك لكي يرث كلُّ واحد منهما الآخر، ثم قال العلماء: إنه نسخ، ومما نسخه آيات المواريث.
قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَلَاءِ وَلَا هِبَتُهُ لِثُبُوتِ نَهْيِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ ذَلِكَ إِلَّا وَلَاءَ السَّائِبَةِ).
قال المؤلف: أجمع العلماء؛ لأنه ورد في ذلك نص صريح وهو حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
(1)
يُنظر: "شرح مشكل الآثار" للطحاوي (7/ 280 رقم 2856)، و"المعجم" لابن المقرئ (1/ 366 رقم 1210)، وفيه:"عن عبد العزيز بن عمر، عن عبد الله بن موهب، عن تميم الداري قال: قلت يا رسول الله: الرجل من المشركين يسلم على يدي رجل من المسلمين قال: "هو أحق الناس بمحياه ومماته" قال: وكان عمر بن عبد العزيز يقضي بذلك ".
الولاء وهبته"
(1)
، فالولاء ليست سلعة تُباع، وإنما هو ثابت لصاحب النعمة للمنعم وأيضًا لا يوهَبُ فليس لأحد أن ينقله إلى غيره.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْتَ سَائِبَةٌ). وهذا الأمر كانوا يعملون به في الجاهلية، فيأتي السيد المالك فيقول لمملوكه: أنت سائبة
(2)
، وقال الله فيما يتعلق بالإبل:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103] فهذا كان معروفًا في الجاهلية، لكن ذاك يتعلق بتلك التي كانوا يسرحونها لأصنامهم، والمراد بالسائبة هنا هو المملوك الذي يسيبه سيده، أي: يقول له: أنت سائبة، أو يقول له: أنت عتيق حرٌّ ليس لأي أحد عليك ولاية، وهنا ثمرة الخلاف هي ما يترتب على ذلك فلو قُدِّر أن هذا مات ثم لا يكون له ورثة يرثونه فهل لهذا الذي سيبه أن يرثه؟ وهذا كان موجودًا في الجاهلية، وقد جاء ذلك قصة ابن شرحبيل عندما قال: جاء رجل إلى عبد الله، يعني: عبد الله بن مسعود، فقال:"إني سيبت أو تركت مملوكًا لسائبة وإنه مات ولا وارث له "، فقال له عبد الله بن مسعود:" إن أهل الإسلام لا يسيبون وإنما الذين يسيبون هم أهل الجاهلية"
(3)
، ثم قال له:" إن شئت ورثته وإن تأثمت أو تحرجت فدعه لنا في بيت المال "، فهذه قصة وقعت وأيضًا ورد في حديث هزير بن شرحبيل في "صحيح مسلم ": جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود يستفتيه في هذا الأمر ويخبره بأنه سيب عبدًا له، بمعنى: أنه أعتقه وبأن هذا العبد مات وترك مالًا فما يصنع به؟ فقال له عبد الله بن مسعود:
(1)
أخرجه البخاري (2535)، ومسلم (1506).
(2)
"السائبةُ": العبدُ، كان الرجل إذا قال لغلامه أنت سائبةٌ فقد عَتَقَ. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 150).
(3)
أخرجه البخاري (6753) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون ". وقال الصنعاني في "فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار"(3/ 1371): رواه البرقاني على شرط الصحيح، وللبخاري منه:" إن أهل الإسلام لا يسيبون وإن أهل الجاهلية كان يسيبون ".
"إن أهل الإسلام لا يسيبون وأهل الجاهلية يسيبون"
(1)
، إذًا لا سائبة في الإسلام، وهذا معنى قول عبد الله بن مسعود، "ولك أن ترثه وإن تحرجت فدعه لنا في بيت المال "، إذًا إذا كنت متحرجًا أو لا تريد ذلك فاترك هذا الأمر يدخل في بيت مال المسلمين، وهذا حديث صحيح
(2)
.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: وَلَاؤُهُ وَعَقْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعْتَقَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْعِتْقِ فَقَطْ، فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ).
وقد ورد أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أعتق مملوكًا له سائبة
(4)
، وهذا كان جائزًا في أول الأمر، ثم إن ذلك المملوك تُوفي وترك مالًا، ولا وارث له، فأخذه عبد الله بن عمر فأعتق به الرقاب، ولذلك تردد قول الإمام أحمد في هذه المسألة
(5)
، فإنه حكى في ذلك قول عبد الله بن عمر، فهل هذا هو مذهبه أو أنه يستحب ذلك ومذهبه مع الجمهور الذي أورده المؤلف أو لا؟
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(6)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(7)
: وَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقِ عَلَى
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 25)، ولفظه:"عن هزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال له: كان لي عبد فأعتقته وجعلته سائبة في سبيل الله فقال له عبد الله: " إن أهل الإسلام لا يسيبون إنما كان يسيب أهل الجاهلية، وأنت أولى الناس بنعمته، وأحق الناس بميراثه فإن تحرجت من شيء، فأرناه فجعله في بيت المال ".
(2)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(10/ 505). وقال الصنعاني في "فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار"(3/ 137): "رواه البرقاني على شرط الصحيح ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 417) حيث قال: "من قال لعبده أنت سائبة وقصد به العتق عتق وولاؤه للمسلمين ".
(4)
"مصنف عبد الرزاق "(9/ 27).
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 568) حيث قال: "ويثبت الولاء للمعتق حتى لو أعتقه سائبة".
(6)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 376) حيث قال: "ولو أعتق عبده على أن لا ولاء له عليه، أو على أن يكون سائبة، أو على أنه لغيره لم يبطل ولاؤه ولم ينتقل كنسبه ".
(7)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (9/ 221) حيث قال: " فإن شرط أنه سائبة فالشرط باطل والولاء لمن أعتق؛ لأن الشرط مخالف للنص فلا يصح ".
كُلِّ حَالٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ
(1)
، وَدَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ
(2)
).
عدَّ المؤلف هذه على أنها رواية لأحمد، وقال بها الحنابلة، والإمام أحمد كما ذكرت أُثِر عنه أنه أخذ بما جاء تطبيقًا عن عبد الله بن عمر عندما أعتق عبدًا سائبًا فترك ميراثًا فاشترى به رقابًا فأعتقها، هل هذا الذي فعله عبد الله بن عمر هو هذا الذي يفعل أو أنه تجنب ذلك المال ورأى أن يعتق به الرقاب ولذلك قال: الحنابلة، واعتُبر من الإمام أحمد استحبابًا؟
قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُ أَنْ يَجْعَلَ وَلَاءَهُ حَيْثُ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُوَالِ أَحَدًا كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ
(3)
. وَكَان إِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ
(4)
يَقُولَانِ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ وَلَاءِ السَّائِبَةِ وَهِبَتِهِ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ هِيَ الْحُجَجُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا).
وقد أوردت لكم ما يتعلق بالموضوع وأوردت لكم قصة عبد الله بن مسعود وهو نصٌّ في حديث هزيل بن شرحبيل
(5)
.
قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ بَيْعَهُ فَلَا أَعْرِفُ لَهُ حُجَّةً فِي هَذَا الْوَقْتِ).
(1)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 676) حيث قال: ويثبت الولاء للمعتق حتى لو كان أعتقه سائبة، قوله: أعتقتك سائبة أوقال: أعتقتك ولا ولاء لي عليك لعموم حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 368) حيث قال: "وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ولاء السائبة لمعتقه لا لأحد غيره وليس له أن يوالي أحدًا ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 367) حيث قال: " وكان بن شهاب ويحيى بن سعيد وطائفة يرون للسائبة أن يوالي من شاء فإن والى من شاء أحدًا كان ميراثه له وعقله عليه فإن لم يوالِ أحدًا كان ميراثه وعقله على جماعة المسلمين، وبه قال الأوزاعي والليث ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 367) حيث قال: "وكان الشعبي وإبراهيم يقولان لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته ".
(5)
سبق تخريجه.
وهو كما قال المؤلِّف من أجاز بيعه لا حجة له؛ لأن هذا المعتق لا يباع ولا يوهب، ولكن ربما حجة من قال ببيعه؛ لأنه خرج وأصبح سائبًا لا مولى له؛ لأنه في بعض الصور التي يريدونها أن يقول: أنت سائبة ليس لأحد عليك ولاية، فكأنه جعله حرًّا من الأصل.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَلَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إِذَا أَعْتَقَهُ النَّصْرَانِيُّ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ لِمَنْ يَكُونُ؟).
فلو كان مولى عند نصراني - وهذا يحصل - فأعتقه النصراني، والعتق جائز هنا ومقبول أيضًا؛ لأن فيه مصلحة، فإذا ما أعتق نصرانيٌّ مسلمًا كان مولًا له فما الحكم في هذه المسألة؟ هل يرث النصرانيُّ المسلم؛ لأنه مولاه " إنما الولاء لمن أعتق "
(1)
، أو أنه يكون واليًا له وليس له أن يرثه كما هو المعروف إلا لو أسلم فإنه يتغير الحال؟
فمراده هل الولاء يثبت للنصرانيِّ أو لا؟ لأنه إذا أعتق مسلمٌ مسلمًا فإن الولاء له إجماعًا إذا أعتقه عن نفسه، وإذا أعتقه عن غيره ففيه خلاف، والصحيح أن ولاءه للمعتق إلا أن يكون بمعرفة وعلم من المعتق عنه، بمعنى: أنه طلب منه ذلك أو رغب فيه أو أخبره بذلك، لكن هنا هذا النصراني أعتق هذا المسلم فهل يحتفظ بالولاء أو لا يحتفظ؟ أما بخصوص الإرث فإنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم مع أن هناك خلافًا قد مر بنا في إرث المسلم من الكافر.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
(2)
: وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَلَاؤُهُ وَلَا مِيرَاثُهُ).
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 416) حيث قال: "واستثنى من قوله الولاء لمعتق قوله (إلا) (كافرًا أعتق مسلمًا) سواء ملكه مسلمًا أو أسلم عنده أو أعتق عنه فلا ولاء للكافر على المسلم بل ولاؤه للمسلمين ولا يعود له إن أسلم على المذهب ".
والإمام مالك قد تشدَّد في هذا الأمر، فقال: إذا أعتق نصرانِيٌّ مسلمًا فإنه لا ولاء للنصراني على المسلم لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141]، وأيضًا لو أسلم النصرانِيُّ بعد ذلك فإنه لا يرثه، وهذا هو قول الإمام مالك، وخالف الجمهور مالكًا في أحد شطري قوله كما سيأتي.
قوله: (وَقَالَ الْجُمْهُورُ
(1)
: وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ).
لأن الحديث الذي جاء عن من لا ينطق عن الهوى عام، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال:" إنما الولاء لمن أعتق "
(2)
، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلَّم عن الإرث قال:" لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم "
(3)
، ولكنه عندما قال:"إنما الولاء لمن أعتق "
(4)
لم يقيده الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك خاصًا بالمسلم بالنسبة للولاء لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول مطالب بالبيان، والله تعالى يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فوظيفة الرسول أن يبين عن الله سبحانه وتعالى وهذه مسألة تحتاج إلى بيان فقالوا: إن الرسول سكت عنها فدلَّ على أنها عامة، ثم إن هذا
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:" الدر المختار وحاشية ابن عابدين "(6/ 120) حيث قال: " من عتق؛ أي: حصل له عتق (بإعتاق) فولاؤه ولو من وصية (أو بفرع له) ككتابة وتدبير واستيلاد (أو يملك قريب) فولاؤه لسيده (ولو امرأة أو ذميًّا أو ميتًا حتى تنفذ وصاياه وتقضى ديونه) منه (ولو شرط عدمه) لمخالفته للشرع فيبطل ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 375) حيث قال: " يثبت الولاء للكافر على المسلم ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 570) حيث قال: "وإن قال كافر لمسلم: أعتق عبدك المسلم عني وعلي ثمنه ففعل "، أي: أعتقه عن الكافر (صحَّ) عتقه عنه؛ لأنه إنما يملكه زمنًا يسيرًا ولا يستلمه، فاغتفر يسير هذا الضرر لتحصيل الحرية للأبد (وولاؤه للكافر)؛ لأن المعتق كالنائب عنه (ويرث) الكافر (به)، أي: بالولاء من المعتق المسلم ".
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (6764)، ومسلم (1614).
(4)
سبق تخريجه.
النصراني مُنعم فحتى ولو كان غير مسلم فإنه أنعم على هذا المسلم فقدَّم له جميلًا فأعتقه، فتبقى الولاية لكن جاء فيما يتعلق بالإرث ما يمنع من ذلك فيبقى على أصله، ويقصد بالجمهور: بقية الأئمة الثلاثة.
قوله: (فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَ لَهُ مِيرَاثُهُ).
وفي نظري أن مذهب الجمهور هو الأقرب والأولى، وهو الذي يلتقي مع روح الشريعة، أولًا قالوا: هناك ولاء وميراث فإذا ما أعتق النصراني مسلمًا فإن الولاء يبقى لذلك النصراني؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الولاء لمن أعتق "
(1)
، وهذا قد أعتق فيكون له الولاء، والرسول لم يخصَّ ذلك بالمسلم فيبقى عامًّا، لكن لا يرث؛ لأنه ورد فيه نص مستقلٌّ " لا يرث الكافر المسلم " فنمنعه من الميراث، لكن لو أسلم هذا النصراني وهو والي النعمة لهذا فإنه يرثه، وهذا لا شكَّ أقرب وفي هذا يرى تشجيعًا على ما يتعلق بإعتاق الرقيق.
قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ الْأَبُ بَعْدَ إِسْلَامِ الِابْنِ أَنَّهُ يَرِثُهُ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ).
وهذا قياسٌ جيد من المؤلف حيث يقول: الولاء كالنسب فإذا ما أسلم الأب بعد ابنه، أسلم الابن ثم تلاه الأب ألا يرث منه؟ الجواب: نعم، فما الفرق بين هذا وذاك؟ هذا أب وهذا مولى وذكرنا من قبل بأن كل واحد من النوعين صاحب نعمة، فهذا صاحب نعمة على ابنه؛ لأنه هو السبب في وجوده بعد الله سبحانه وتعالى وهو الذي يقوم برعايته وهو الذي ينفق عليه، وهو الذي يسهر عليه، وهو الذي يسعى في سعادته، وهو الذي يشقى إذا شقي، كذلك أيضًا هذا المولى أخرجه من عبودية المخلوقين فأصبح حرًّا طليقًا يتصرف في نفسه كيف شاء.
(1)
سبق تخريجه.
قوله: (وَأَمَّا عُمْدَةُ مَالِكٍ فَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141]).
فقالوا: هذه الآية عامة وليس هناك سبيل، وهذا فيما يتعلق بالسلطة، لكن هذه ولاية نعمة وهي ثابتة ونحن لا نقول بتوريثه؛ لأن الرسول نهى عن ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" الولاء لمن أعتق "
(1)
، وفي حديث آخر أيضًا:"الولاء لمن أعطى الورق"
(2)
، والورق
(3)
إنما هي الدراهم، والمراد بها الفضة؛ لأنها تسمى الورق، فمن دفع الورق فهو صاحب الولاء.
قوله: (فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَهُ الْوَلَاءُ يَوْمَ الْعِتْقِ لَمْ يجِبْ لَهُ فِيمَا بَعْدُ.
وَأَمَّا إِذَا وَجَبَ لَهُ يَوْمَ الْعِتْقِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْمَانِعُ أَنَّهُ يَعُودُ الْوَلَاءُ لَهُ، وَيذَلِكَ اتَّفَقُوا أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ النَّصْرَانِيُّ الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ النَّصْرَانِيَّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْوَلَاءَ يَرْتَفِعُ).
وسيأتي أن المؤلف سينقد هذا القول ويبين بأنه أقرب إلى الفرق من الوقوع، وأن هذا أمر مقدر.
قوله: (فَإِنْ أَسْلَمَ الْمَوْلَى عَادَ إِلَيْهِ. وَإنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي الْحَرْبِيِّ يُعْتِقُ عَبْدَهُ وَهُوَ عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ يَخْرُجَان إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (2536).
(3)
"الوَرِق": الفضة بفتح الواو وكسر الراء
…
وهو اسم للدراهم المضروبة. انظر: "طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية" للنسفي (ص 18).
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 417) حيث قال: "وإن أعتق كافر عبده الكافر ثم (أسلم العبد) الذي أعتقه الكافر فالولاء للمسلمين إن لم يكن للمعتق بالكسر عصبة مسلمون، وإلا فالولاء لهم كما في المدونة فإن أسلم =
هُوَ مَوْلَاهُ يَرِثُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: لَا وَلَاءَ بَيْنَهُمَا، وَلِلْعَبْدِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْوَلَاءِ وَالتَّحَالُفِ).
وهذه قضية اختلاف الملل في الميراث وسبق أن تكلمنا عنها.
قوله: (وَخَالَفَ أَشْهَبُ)
(2)
.
من المالكية.
قوله: (مَالِكًا فَقَالَ: إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْمَوْلَى لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمَوْلَى وَلَاؤُهُ أَبَدًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(3)
: يَعُودُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ مَالِكًا يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْعِتْقِ.
= السيد (عاد الولاء بإسلام السيد) له، وكذا إن أسلم قبل إسلام العبد أو أسلما معًا بالأولى".
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 123): " (ولو أعتق حربي في دار الحرب عبدًا حربيًّا لا يعتق) بمجرد إعتاقه (إلا أن يخلي سبيله فإذا خلاه عتق حينئذٍ ولا ولاء له) حتى لو خرجا إلينا مسلمين لا يرثه خلافًا للثاني (وكان له أن يوالي من شاء؛ لأنه لا ولاء لأحد) عليه ".
(2)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (11/ 193) حيث قال: "قال أشهب عتق الحربي فى دار الحرب باطل ولا ولاء سه به وإنما أعتق هذا العبد خروجه إلينا ولو مات عندنا بعثنا بتركته إليه؛ لأن القاعدة أن عتق النصراني باطل إلا أن يسلم أحدهما وإنما يصح كلام أشهب إذا أسلم العبد بعد خروجه وعليه يدل كلام محمد أما قبل خروجه فينتفي الوفاق عليه؛ لأن أشهب يجعله حرًّا بإسلامه وإن لم يخرج إلينا ولم يعتقه سيده فكيف إذا أعتقه فيكون ولاؤه لمولاه؛ لأنه أعتقه وهو على دينه فإذا قدم مولاه فأسلم رجع إليه ولاؤه في قول ابن القاسم وأشهب ".
(3)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (11/ 194) حيث قال: " إن أسلم عبد الحربي بيده قال ابن القاسم لا حرية له إلا أن يخرج قبل سيده فيكون حرًّا بخروجه فإن جاء سيده فلا ملك له ولا ولاء له أو جاء سيده قبله كافرًا أو مسلمًا وإن له رقًّا، وكذلك لو تقدم معه يوم يبيعه من مسلم إن لم يسلم وذلك أنه خرج قبل سيده فقد غنم نفسه كما لو غنم غيره وإن أسلم سيده قبل خروج العبد الذي أسلم لبقي ملكله عليه وإن خرج العبد قبله وجعله أشهب حرًّا بإسلامه ".
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ كلُّهَا هِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي الْقَوْلِ لَا تَقَعُ بَعْدُ).
يعني: لا تقع بين أولئك أصحاب تلك الديانات، وإنما هي مفروضة فرضًا، وتعلمون بأن هناك ما يعرف بالفقه الفرضي أو التقديري، يعني: لا تكون هناك واقعة، فيفرض إنسان لو وقعت المسألة الفلانية أو حدثت فما الحكم فيها، فهذا يعرف بالفقه التقديري وهذا محل خلاف بين العلماء، وكان الصحابة رضي الله عنه إذا سُئل أحدهم عن مسألة قال: أوقعت أو لا؟ فإن قيل: نعم، أجاب فيها، وإن لم يكن قال: حتى تقع، وأكثر العلماء توسعًا في الفقه التقديري هم الحنفية
(1)
فإنهم توسعوا في هذا المقام فرضوا مسائل كثيرة لم تقع ثم أفتوا فيها ووافقهم الشافعية في بعضها، وقد نبَّهت على هذا، وقال بعض العلماء إجابة عن الشافعي: بأن الشافعي رحمه الله إنما احتاج إلى فرض المسائل عندما وضع كتابه الرسالة
(2)
في أصول الفقه فإنك لكي تضع أصلًا وهو أول من دوَّن هذا العلمَ وأخرجه على الرأي الصحيح فإنه يحتاج إلى أن يجرب تلك الأصول ويمحصها ولا تتضح تلك الأصول إلا عن طريق تطبيق الفروع عليها، أي: تخريج الفروع عليها، فإذا انضبط ذلك الأصل وما اختلَّ اندرجت تحته تلك الفروع، وكان ذلك طريقًا لصحة ذلك الأصل.
قوله: (فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ النَّصَارَى أَنْ يَسْتَرِقَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا مِنْ دِينِ الْيَهُودِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ مِلَلِهِمْ).
(1)
يُنظر: "المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد" للشيخ بكر أبي زيد (1/ 138) حيث قال عن الفقه التقديري: "هي الفروع التي بشتغل الفقيه بفرضها، ثم التَّوْليد منها بتقدير وقوعها، ثم بفرض الحكم الفقهي لها".
وانظر: " الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري " للدكتور عبد المجيد محمود (ص 61).
(2)
يُعَدّ هذا الكتاب أقدم ما دُون في أصول الفقه، وضع فيه الشافعي رحمه الله الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد لبيان الأحكام الشرعية لكل حديث.
وهذا مع الأسف يأخذونه على المسلمين الآن ويقولون إن المسلم يسترق الإنسان، فيرون فيه ذلًّا وتعديًا وهذا لعدم إدراكهم روح الإسلام وعدم معرفتهم به وأن هذا الرق لا يأتي أصلًا مباشرًا فى ون سبب، ولكن هذا الإنسان قد أخذ أسيرًا فحفظت رقبته من أن تقطع وأخذته أسيرًا ومع ذلك نجد أن الإسلام فتح كلَّ الطرق والمنافذ ورغب ودعى إلى إعتاق الرقيق، حتى العتق في الكفارات: كمن يجامع في نهار رمضان، أو من ظاهر من امرأته، أو كفارة اليمين أيضًا، ففيه ترغيب وحض للمالكين للرقاب عن طريق الإحسان، وعن طريق المكاتبة، وعن طريق التبعيض، وهناك طرق كثيرة جدًّا رغب الإسلام فيها.
قوله: (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَجْمَعَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ لَهُنَّ مَدْخَل فِي وِرَاثَةِ الْوَلَاءِ)
(1)
.
فلا ينتقل إليها عن طريق الميراث، فلو قُدِّر أن لها وارثًا ترثه فأعتق عتيقًا فإنها لا ترث ذلك، لكن ميراثها مقصور على من أعتقته أو أعتق من أعتقته، وهذا الثاني يعرف بجر الولاء، أو بالنسبة لابن معتقها.
قوله: (إِلَّا مَنْ بَاشَرْنَ عِتْقَهُ بِأَئفُسِهِنَّ أَوْ هَاجَرَ إِلَيْهِنَّ مَنْ بَاشَرْنَ عِتْقَهُ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:" الدر المختار وحاشية ابن عابدين "(6/ 122) حيث قال: "وليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن ".
ومذهب المالكية، ينظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 420) حيث قال: "والولاء لا ترثه؛ أي: لا تستحقه أنثى مطلقًا ولو كانت عاصبة بغيرها أو من غيره ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 376) حيث قال: "ومن ثم لا ترث امرأة بولاء؛ لأن الولاء أضعف من النسب المتراخي، وإذا تراخى النسب ورث الذكور فقط ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (3/ 127) حيث قال: " ولا يرث النساء بالولاء إلا من أعتقن أو أعتق من أعتقن وأولادهما ومن جروا ولاءه أو كاتبن أو كاتب من كاتبن ".
كما في قصة عائشة رضي الله عنه مع بريرة
(1)
، أو أن هذا الذي أعتقته أعتق غيره فإنه ينجر الولاء إلى تلك المرأة أو ابنها، هذا فيما يتعلق بها، وكذلك أيضًا يشمل ذلك الكتابة، فلو كاتبت أحدًا فإنه أيضًا يدخل في ذلك وينجر الولاء، فالولاء كما هو معلوم بأيِّ طريق كان سواء كان عن طريق العتق إنجازًا أو العتق المؤجل أو الكتاب أو بأي طريق كان سواء كان واجبًا كما يحصل في بعض الكفارات أو النذور أو كان غير واجب، وسواء بدأ بعتق بعضه أو أعتقه كاملًا فإن الولاء يثبت للمعتق.
قوله: (إِمَّا بِوَلَاءٍ أَوْ بِنَسَبٍ، مِثْلَ مُعْتَقِ مُعْتَقِهَا أَوِ ابْنِ مُعْتَقِهَا).
الذي يكون عن طريق النسب، أما ذلك عن طريق الولاء ولاء جرٍّ.
قوله: (وَأَنَّهُنَّ لَا يَرِثْنَ مُعْتَقَ مَنْ يًرِثْنَهُ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ
(2)
).
فلو قُدِّر أن أخاها أعتق مملوكًا فإنها لا ترثه مع أنها ترث أخاها لكن هنا لا ترثه فلا ترث الولاء عن طريق من ترثه، لكنها ترث من أعتقته هي، أو من أعتق من أعتقته، أو ولد معتقها، أما من ترثهم فلو أعتق أحدهم عتيقًا فإنه لا يكون لها الولاء عليه ولا ترثه.
قوله: (وَعُمْدَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا كانَ لَهَا وَلَاءُ مَا أَعْتَقَتْ بِنَفْسِهَا كانَ لَهَا وَلَاءُ مَا أَعْتَقَهُ مُوَرِّثُهَا قِيَاسًا عَلَى الرَّجُلِ).
فالمسألة مقايسة، وهناك قول ولكن ليس قول الجمهور بأنه يثبت لهما الولاء بالنسبة لمن أعتق من ترثه، يعني: معتق من ترثه يثبت لها
(1)
سبق تخريج حديث بريرة.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 365) حيث قال: "وروي عن الزبير أنه كان يقول إن الولاء يورث كما يورث المال وأن من احرز من المال شيئًا احرز مثله من ولاء الموالي إلا النساء، وبه قال شريح وطائفة".
وينظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 511) حيث قال: "وقال شريح: يمضي الولاء على وجهه كما يمضي الميراث، ولكن لا يورث الولاء أنثى إلا شيئًا أعتقته ".
الولاء عليه؛ لأنها ترثه فكذلك الولاء فقاسوا بين الأمرين، يعني: قاسوا الولاء على الإرث.
قوله: (وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى
(1)
، وَهُوَ أَرْفَعُ مَرَاتِبِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُوهِنُهُ الشُّذُوذُ).
قياس المعنى؛ لأن هذا إرث وهذا إرث، فهي ترث هذا فلماذا لا يكون الولاء؟ وألحقوا هذا بهذا عن طريق المعنى، ولكن الشهود كما قال بأن الولاء لا ينجر في هذه الحالة ولكنه قاصر على معتقها أو معتق من يعتقه معتقها.
قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَلَاءَ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنِّعْمَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ).
فبسبب ذلكم الإحسان، تلك النعمة التي أسداها المعتِق للمعتَق فإنه خلصة من رقِّ الملك وأخرجه إلى دنيا الحرية.
قوله: (وَهَذِهِ النِّعْمَةُ إِنَّمَا تُوجَدُ فِيمَنْ بَاشَرَ الْعِتْقَ، أَوْ كَانَ مِنْ سَبَبٍ قَوِيٍّ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَهُمُ الْعَصَبَةُ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "المعتمد" لأبي الحسين البصري (2/ 298) حيث قال: " أما قياس المعنى فهو أن يكون شبه فرعه بأصله لا يعارضه شبه آخر فإن عارضه كان خفيًا جدًّا كرد العبد إلى الأمة في تنصيف حدِّ الزنا ".
ويُنظر: "البرهان في أصول الفقه" للجويني (2/ 55) حيث قال: "قياس المعنى هو الذي يستند إلى معنى يناسب الحكم المطلوب بنفسه من غير واسطة".
(2)
"عصبة الرجل": بنوه وقرابته لأبيه، وإنَّما سمُّوا عصبة؛ لأنَّهم عَصَبوا به، أي: أحاطوا به، فالأب طرف والابن طرف، والعم جانب، والأخ جانب.
و"العصبة": هم كل من لم يكن له سهم مقدر من المجمع على توريثهم فيرث المال إن لم يكن معه ذو فرض، أو ما فضل بعد الفروض. انظر:"الصحاح" للجوهري: (1/ 182)"شرح السراجية" للجرجاني (ص 70)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 605)، ونهاية المحتاج (6/ 23).
أما المرأة فليست من العصبة.
قوله: (قَالَ الْقَاضِي).
هو ابن رشد.
قوله: (وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ مَنْ لَهُ وَلَاءٌ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ وَلَاءٌ).
وسيفرع المؤلف على هذه المسألة مسألة أخرى وربما يعتبرها أصلًا، هل ترتيب الولاء في الميراث كترتيبه في الميراث الذي مر بنا في النسب أو لا يكون كذلك أو يختلف؟ لا شكَّ أنه يختلف، فما هو المعتبر في ذلك هل ينظر إلى الأكبر المتقدم رتبة، أو أنه كما درسنا فيما يتعلق بالمواريث؟ لا شكَّ أنه يختلف منهجًا عن المنهج الذي درسناه بالنسبة للإرث.
قوله: (فَبَقِيَ النَّظَرُ فِي تَرْتِيبِ أَهْلِ الْوَلَاءِ في الْوَلَاءِ؛ فَمِنْ أَشْهَرِ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَسْأَلَةُ التِي يَعْرِفُونَهَا بِالْوَلَاءِ لِلْكِبَرِ
(1)
).
ويقصد بالكبر هنا ليس الكبر سنًّا، ولكنه الأقرب درجة.
قوله: (مِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَخَوينِ أَوِ ابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ وَتَرَكَ ابْنًا، أَوْ أَحَدُ الِابْنَيْنِ).
فهل ينتقل له الميراث أو لا؟ وقد مر بأنه لو هلك هالك، كان له أبناء ومات أحدهم قبل هذا الذي ترك التركة فلا يرث، لكن لو قُدِّر أنه مات وله أبناء فإنهم يشتركون، فحق هذا الابن الذي توفي بعد استحقاقه الإرث ينتقل إلى أقرب ورثته ويأتي في المقدمة أبناؤه.
(1)
قال الكاساني: "ومعنى قولهم الولاء للكبر؛ أي: للأقرب، وهو أقرب العصبة إلى المعتق، يُقال: فلان أكبر قومه إذا كان أقربهم إلى الأصل الذي ينسبون إليه ".
انظر: "بدائع الصنائع"(4/ 164)، وانظر:"روضة الطالبين" للنووي (12/ 175).
أي: بقي أحد الأخوين ومات الآخر وترك ابنًا أو مات الابن وترك ابنًا.
قوله: (فَقَالَ الْجُمْهُورُ)
(1)
.
وهم الأئمة الأربعة.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (9/ 227) حيث قال: "ولو ترك المولى ابنًا وأولاد ابن آخر معناه بني ابن آخر (فميراث المعتق للابن دون بني الابن؛ لأن الولاء للكبر) هو المروي عن عدة من الصحابة رضي الله عنه منهم عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، ومعناه القرب على ما قالوا، والصلبي أقرب ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 420) حيث قال: "وقدم في الإرث به (عاصب النسب) على عاصب الولاء وهو المعتق بالكسر وعصبته (ثم) إذا لم يكن عاصب نسب قدم (المعتق) له مباشرة على عصبته (ثم) إذا لم يوجد المعتق مباشرة ورثه (عصبته)، أي: عصبة المعتق بالكسر".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (4/ 461) حيث قال: " (ولو مات المعتق عن ابنين أو أخوين فمات أحدهما وخلف ابنًا فالولاء لعمه دونه)، وإن كان هو الوارث؛ لأن المعتق لو مات يوم موت عتيقه كان عصبته الابن دون ابن الابن وهذه الصورة ونحوها معنى ما روي عن عمر وعثمان رضي الله عنه أن الولاء للكُبر بضم الكاف، أي: الكبير في الدرجة والقرب دون السن (فلو مات الآخر وخلف تسعة بنين فالولاء بين العشرة بالسوية)، فإذا مات العتيق ورثوه أعشارًا؛ لأنه لو مات المعتق يومئذ ورثوه كذلك؛ لأنهم سواء في القرب إليه وهذا بخلاف ما لو ظهر له مال فإن نصفه لابن الابن ونصفه الآخر للتسعة؛ لأنهم ورثوه عن آبائهم والولاء لم يرثوه، فإذا مات العتيق فمن هو أحق؛ إذ ذاك من عصباته فهو أحق به وهؤلاء العشرة سواء في ذلك ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 682) حيث قال: "الولاء أقرب عصبة السيد؛ أي: المعتق إليه يوم موت عتيقه وهو؛ أي: هذا الذي ذكرناه المراد بالكُبر بضم الكاف وسكون الموحدة المذكور في حديث عمرو بن شعيب السابق وهو "ميراث الولاء للكبر من الذكور"، (فلو مات سيد)؛ أي: معتق (عن ابنين، ثم) مات (أحدهما)؛ أي: الابنين (عن ابن، ثم مات عتيقه)؛ أي: السيد (فإرثه لابن سيده) دون ابن ابنه؛ لأن الولاء للكبر، ولأنه أقرب عصبته إليه ".
قوله: (فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ حَظَّ الْأَخِ الْمَيِّتِ مِنَ الْوَلَاءِ لَا يَرِثُهُ ابْنُهُ).
وإنما الذي يرث هنا هو الذي يرث الأخ لأنه أقرب درجة فليس المعتبر هنا القوة كما عرفنا في المواريث، لكن المعتبر هنا الأقرب للميت في درجته.
قوله: (وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنِ ابْنِهِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ).
لأن الولاء يأتي درجات الأقرب فالأقرب.
قوله: (لِأَنَّ الْحَجْبَ فِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَيِّتِ، وَهُنَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْمُبَاشِرِ لِلْعِتْقَ).
فهذا أخوه في درجته.
قوله: (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
(1)
، وَعَلِيٍّ
(2)
، وَعُثْمَانَ
(3)
، وَابْنِ مَسْعُودٍ
(4)
، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
(5)
مِنَ الصَّحَابَةِ).
فهذا القول هو قول أولئك الصحابة رضي الله عنه، وقد اشتهر ذلك عنهم، ومن هنا رأينا اتفاق الأئمة الأربعة على الأخذ بذلك القول.
قوله: (وَقَالَ شُرَيْحٌ
(6)
وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: حَقُّ الْأخِ الْمَيِّتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِبَنِيهِ).
(1)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(9/ 30)، و" السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 510).
(2)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 294)، و"مصنف عبد الرزاق"(9/ 30).
(3)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 510).
(4)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 294).
(5)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 294)، و"مصنف عبد الرزاق"(9/ 30)، و" السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 510).
(6)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 294).
فقاسوا ذلك على الإرث.
قوله: (وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ تَشْبِيهُ الْوَلَاءِ بِالْمِيرَاثِ، وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْوَلَاءَ نَسَبٌ مَبْدَؤُهُ مِنَ الْمُبَاشِرِ).
أي: من المباشر للعتق.
قوله: (وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَسْأَلَةُ التِي تُعْرَفُ بِجَرِّ الْوَلَاءِ
(1)
).
فمن مصالح الولاء أنه يجرُّ ولاءً آخر.
قوله: (وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ عَبْدٌ لَهُ بَنُونَ مِنْ أَمَةٍ، فَأُعْتِقَتِ الأمَةُ ثُمَّ أُعْتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ).
فعندما أُعتقت الأمةُ وأصبحت حرة فإن أولادها تابعون لها، لكن بعد ذلك أعتق الأب، فلما أعتق الأب صار حرًّا فهل عتقه وانتقاله من الرقِّ إلى الحرية يجعله يجرُّ ولاء الأولاد إليه فيكونون تبعًا لمواليه؟ لا يكونون تبعًا لموالي الأم، والأم في الأول أصبحت حرة فكانت أولى، فهؤلاء ولائهم لمواليهم، لكن العبد، أي: الزوج أُعتق فصار حرًّا، فهل بعتقه وانتقاله إلى الحرية يجر ولاء الأبناء إليه، ويكون ذلك أيضًا ينجر تبعًا لمواليه؟
(1)
"جر الولاء" وهو ما إذا أعتق الجد هل يجر ولاء الحافد إلى مولاه أم لا؟. يُنظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (3/ 292).
ويُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1458) حيث قال: "وصفة جر الولاء: أن يتزوج عبد معتقة فيولدها فإن ولاء ولدها منه لمواليها الذين أعتقوها فإن أعتق العبد جر ولاء ولده إلى مواليه الذين أعتقوه ولو تزوج حرة لا ولاء عليها كان بقية ميراث الولد بعد حصة أمه للمسلمين وإذا أعتق العبد رجع إلى مواليه، وكذلك الجد فيجر الولاء أيضًا بجر الولاء ما دام الأب عبدًا فإذا أعتق العبد عاد الولاء إليه ". وانظر: "كفاية النبيه في شرح التنبيه" لابن الرفعة (12/ 460).
قوله: (فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا لِمَنْ يَكُونُ وَلَاءُ الْبَنِينَ إِذَا أُعْتِقَ الْأبُ؟
وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهُمْ بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ يَمَسَّ الْمَوْلُودَ الرِّقُّ فِي بَطْنِ أُمِّهِ).
يعني: إذا لم يلحقه الرقُّ وهو في بطن أمِّه، والأصل فيه أنه يكون رقيقًا ما دامت الأم كانت مملوكة.
قوله: (وَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا تَزَوَّجَهَا الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَبْلَ عِتْقِ الْأَبِ هُوَ لِمَوَالِي الْأُمِّ).
وهذه المسألة ليس فيها خلاف.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا أُعْتِقَ الْأَبُ هَلْ يَجُرُّ وَلَاءَ بَنِيهِ لِمَوَالِيهِ أَمْ لَا يَجُرُّ؟).
يعني: أصبح العبد، أي: الأب حرًّا كالحال بالنسبة للأم والولد ينتسب إلى أبيه لا إلى أمه، فهل هذا الذي أصبح حرًّا يجر الولاء معه ويعود أبناؤه إليه ويكون الولاء لمواليه؟
قوله: (فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
).
(1)
يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" للخلوتي (4/ 573) حيث قال: "وجر العتق أو الولاء: أشار الشارح إلى أن فاعل جر ضمير عائد على العتق أو الولاء، فالمعنى على الأول جر العتق ولاء ولد المعتق وعلى الثاني وجر الولاء لعتيق ولاء ولد المعتق، قوله: أي أولاد المعتق بالفتح، أي: ولو كان ذلك الولد حرًّا بطريق الأصالة كمن أمه حرة وأبوه رقيق ثم عتق الأب فالولد حر بطريق الأصالة؛ لأنه يتبع أُمَّه وولاء ذلك الولد لمعتق أبيه ".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 119) حيث قال: " ولو تزوجت عبدًا أو مكاتبًا فالولاء لمواليها فإذا أعتق الأب جر الولاء إلى مواليه ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (10/ 377) حيث قال: "ولو نكح عبد معتقة فأتت بولد فولاؤه لموالي الأم؛ لأنهم أنعموا عليه لعتقه بعتقها، فإن أعتق =
وأحمد
(1)
.
قوله: (وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُرُّ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ
(2)
رضي الله عنه وَابْنُ مَسْعُودٍ
(3)
وَالزُّبَيْرُ
(4)
، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
(5)
، وَقَالَ عَطَاءٌ
(6)
، وَعِكْرِمَةُ
(7)
، وَابْنُ شِهَابٍ
(8)
وَجَمَاعَةٌ: لَا يَجُرُّ وَلَاءَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَقَضَى بهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِمَا حَدَّثَهُ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَبْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
(9)
، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
(10)
مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَلَاءَ مُشَبِّهٌ بِالنَّسَبِ، وَالنَّسَبُ لِلْأَبِ دُونَ الْأُمِّ).
فلا ينتسب إلى أُمِّه، وإنما ينتسب إلى أبيه.
قوله: (وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ الْبَنِينَ لَمَّا كَانُوا فِي الْحُرِّيَّةِ
= الأب انجرَّ الولاء؛ أي: بطل وانقطع من حين عتق الأب عن موالي الأم إلى مواليه؛ لأن الولاء فرع النسب إلى مواليه، والنسب إليه، وإن علا دونها وإنما ثبت لمواليها عند تعذره من جهة الأب برقه ".
(1)
يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (3/ 128) حيث قال: " في جر الولاء من ثبت له ولاء رقيق بمباشرة عتق أو سبب لم يزل عنه بحال فأما أن تزوج العبد ومثله المكاتب والمدبر والمعلق عتقه بصفة معتقه فأولدها فولاء ولدها لمولى أمه فأن أعتق العبد أنجر ولاؤه إلى معتقه ولا يعود إلى مولى أمه بحال فأن نفاه الأب باللعان عاد ولاؤه إلى موالي الأم ".
(2)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(9/ 40)، و"السنن الكبرى"(10/ 517).
(3)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(9/ 40).
(4)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(9/ 41).
(5)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(9/ 42)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 516).
(6)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(9/ 43).
(7)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 293) رواه عكرمة عن يزيد بن عبد الملك.
(8)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 293).
(9)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(9/ 44).
(10)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 515، 516).
تَابِعِينَ لِأُمِّهِمْ كَانُوا فِي مُوجِبِ الْحُرِّيَّةِ تَابِعِينَ لَهَا، وَهُوَ الْوَلَاءُ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَجُرُّ وَلَاءَ حَفَدَتِهِ إِذَا كَانَ أَبُوهُمْ عَبْدًا)
(1)
.
فإذا كان الأب عبدًا أو كان قد مات فهل الجد يجرُّ الولاء؟ وقد أطلق المؤلف، والمراد: إذا كان الجد حرًّا والأب رقيقًا، فهل يجر الجد ولاءَ أحفاده أو لا؟ يرى الإمام مالك ذلك وهي رواية أخرى، لكن الرواية المشهورة عن الإمام أحمد مع الفريق الآخر
(2)
.
قوله: (إِلَّا أَنْ يُعْتَقَ الْأَبُ).
فإذا عتق الأب رجع حينئذٍ إليه؛ لأنه هو الأقرب؛ لأن الجد إنما يدلي أصلًا بواسطة الأب فعاد الأب إلى الحرية فعادت له سلطته وأولويته.
قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ)
(4)
.
(1)
يُنظر: " الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 419) حيث قال: "من معتق الجد والأم؛ أي: جد الأولاد وأمهم
…
أن المعتقة بفتح التاء إذا تزوجت بعبد له أب عبد أيضًا وأتت منه بأولاد وأبوهم وجدهم رقيقان فولاء أولادها لمن أعتقها؛ لأنه لا نسب لهم من حر فإن أعتق الجد رجع الولاء لمعتقه من معتق الأم؛ لأن الأولاد صار لهم حينئذٍ نسب من حر فإن أعتق الأب رجع الولاء لمن أعتقه من معتق جدهم ولو أعتق الأب قبل عتق الجد رجع الولاء لمن أعتقه من معتق الأم ".
(2)
يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (3/ 128) حيث قال: "وأن اعتق الجد ولو قبل الأب أو بعد موته لم يجر ولاءهم ".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 471) حيث قال: " (فإن أعتق الجد والأب رقيق انجر) الولاء من موالي الأم إلى موالي الجد أيضًا لما مرَّ (فإن أعتق الأب بعده)، أي: الجد (انجر) من موالي الجد (إلى مواليه)، أي: الأب؛ لأن الجد إنما جره لكون الأب كان رقيقًا، فإذا عتق كان أولى بالجر؛ لأنه أقوى من الجد في النسب، وإذا انقرض موالي الأب لا يعود إلى موالي الجد، ولا إلى موالي الأم بل يبقى لبيت المال (وقيل) لا ينجر إلى موالي الجد بل (يبقى لموالي الأم حتى يموت الأب فينجر إلى موالي الجد)؛ لأنه إنما لم ينجرَّ لبقاء الأب رقيقًا، فإذا مات زال المانع ".
(4)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 121) حيث قال: "الجد لا يجر ولاء حافده في ظاهر الرواية سواء كان الأب حيا أو ميتًا".
والكوفيون هم أبو حنيفة وأصحابه.
قوله: (وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَلَاءَ الْجَدِّ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِمُعْتِقِ الْجَدِّ عَلَى الْبَنِينَ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ وَلَاءٌ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ لِلْجَدِّ.
وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ عُبُودِيَّةَ الْأَبِ هِيَ كَمَوْتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْوَلَاءُ إِلَى أَبِي الْأَبِ).
حتى وإن كان الأب موجودًا فإنه رقيق فكأنه غير موجود.
قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْعَصَبَةِ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْأَبْنَاءَ أَحَقُّ مِنَ الْآبَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْعَمُودِ الْأَعْلَى إِلَّا إِذَا فَقَدَ الْعَمُودَ الْأَسْفَلَ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ عِنْدَهُمْ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنَ الْأُبُوَّةِ).
وهذا أمر عرفناه.
قوله: (وَالْأَبُ أَضْعَفُ تَعْصِيبًا، وَالْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ أَقْعَدُ عِنْدَ مَالِكٍ مِنَ الْجَدِّ)
(1)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 419) حيث قال: " قوله رجع الولاء لمن أعتقه)، أي: لكونه أقرب من معتق الجد. قوله فلو كان إلخ هذا شروع في حل قول المصنف أو استلحق وقوله: فلو كان أبوهم من الرقيق إلخ أي: والموضوع بحاله أن الأم معتقة قبل أن تلد؛ إذ لو تأخر عتقها عن الولادة لكان الولد قد مسَّه رق وهو يمنع جر ولائه لمعتق جده أو أبيه. والحاصل: أن ولاء الولد إنما يرجع في المسألتين لمعتق الجد أو لمعتق الأب إذا كان لم يمسه الرق في بطن أمه بأن تزوجت الأمة بعد عتقها أو قبله وعتقت قبل أن تحمل، وأما إذا مسه الرق في بطن أمه كما لو تزوجت وهي قن ثم حملت وهي كذلك ثم عتقت بعد الولادة أو وهي حامل فلا ينتقل الولاء عن معتق الأم إذا أعتق الجد ثم الأب أو استلحق =
بالنسبة للولاء، وكلمة " أقعد" بمعنى: أقرب، أو أولى.
قوله: (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْجَدُّ أَقْعَدُ مِنْهُمْ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مَنْ أَقْرَبُ نَسَبًا وَأَقْوَى تَعْصِيبًا؟ وَلَيْسَ يُورَثُ بِالْوَلَاءِ جُزْءٌ مَفْرُوضٌ وَإِنَّمَا يُورَثُ تَعْصِيبًا، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ أَصْلًا، أَوْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ لَا يُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ كَانَ عَاصِبُهُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى).
متى يرث المولى؟ يرث في عدم وجود أصحاب فروض أو عصبة بالنسبة لأولاد أو عصبة هذا الرجل من إخوته، فحينئذ ينتقل إلى الولاء، يعني: لو قُدِّر أن هذا المملوك مات وترك بنتًا فإنها تأخذ نصيبها (النصف)، وما بقي يرجع إلى المولى.
قوله: (وَكَذَلِكَ يُعَصِّبُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى كُلَّ مَنْ لِلْمَوْلَى الْأَعْلَى عَلَيْهِ وِلَادَةُ نَسَبٍ (أَعْنِي: بَنَاتِهِ وَبَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ)؛ وَفِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ وَهِيَ: إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا وَلَاءٌ وَوَلَدٌ وَعَصَبَةٌ لِمَنْ يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ؟).
هل هو للعصبة أو للولاء؟ وهذه قضية اختصم فيها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنه عند عمرَ رضي الله عنه
(1)
.
= الأب الولد بعد اللعان لما مرَّ أن الولد المنسوب لرق أو مسه عتق لآخر لا يجر ولاء أبيه ولاءه. قوله: أو قبله، أي: أو قبل عتق الجد، يعني: ثم عتق الجد حتى ينجر الولاء لسيده ".
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 116) وفيه: "عن إبراهيم النخعي قال: اختصم علي والزبير إلى عمر في مولى صفية، فقال علي: مولى عمتي وأنا أعقل عنه، وقال الزبير: مولى أمي وأنا أرثه، فقضى عمر للزبير بالميراث وقضى على علي بالميراث .. قال إبراهيم: فالولاء لآل الزبير ما بقي لهم عقب، قلت. وما العقب؟ قال: ولد ذكر، فإذا لم يكن ولد ذكر رجع الولاء إلى علي ".
قوله: (فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لِعَصَبَتِهَا؛ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهَا، وَالْوَلَاءُ الْعَصَبَةُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: لِابْنِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَهْلِ هَذَا السَّلَفِ؛ لِأنَّ ابْنَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ مِنْ عَصَبَتِهَا، تَمَّ كتَابُ الْفَرَائِضِ وَالْوَلَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ).
وجمهو العلماء كالأئمة الأربعة أبو حنيفة
(1)
، ومالك
(2)
، والشافعي
(3)
، وأحمد
(4)
، وهذه القضية اختصم فيها كلٌّ من علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنه، وكما هو معلوم أن علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لصفية مولى، فاختصما فيه، فقال علي بن أبي طالب: أنا أولى به؛ لأننا نعقله؛ (أي: علينا عقله) لأنه مولى لعمتي، وقال الزبير: بل هو مولى لأمي وأنا
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (5/ 178) حيث قال: "وكذا الولاء لابن المعتقة دون أخيها وعقل جنايتها على أخيها؛ لأنه من قوم أبيها وجناية معتقها كجنايتها فتكون عليهم ".
(2)
يُنظر: "المدونة"(2/ 578) حيث قال: "قال: قال: مالك: عقل ما جرموا إليها من جريرة على قومها وما تركوا من ميراثهم فهو لولد المرأة إن كان لها ولد وإن كانت ميتة، فإن لم يكن لها ولد فلولد ولد الذكور من ولدها وولد ولدها الذكور دون الإناث ".
(3)
يُنظر: "المجموع" للنووي (16/ 46) حيث قال: "إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لرجل فأتت منه بولد ثبت المولى الأم الولاء على الولد؛ لأنه عتق بإعتاق الأم فكان ولاؤه لمولاها، فإن أعتق بعد ذلك مولى العبد عبده انجر ولاء الولد من موالي الأم إلى موالي العبد".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير على متن المقنع" لعبد الرحمن بن قدامة المقدسي (7/ 244) حيث قال: "ثم يرث به عصباته الأقرب فالأقرب وجملة ذلك أن العتيق إذا لم يخلف من نسبه من يرثه كان ماله لمولاه، فإن كان مولاه ميتًا فهو لأقرب عصبته سواء كان ولدًا أو أخا أو عمًّا أو أبًا أو غيره من العصاب، وسواء كان المعتق ذكرًا أو أنثى فإن لم يكن له عصبة من أقاربه كان الميراث لمولاه ثم لعصباته الأقرب فالأقرب ثم لمولاه وكذلك أبدًا".
أرثها فأنا أولى به، فاختصما عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقضى بالميراث للزبير بن العوام، فانضم قول عمر إلى قول الزبير، فعلي رضي الله عنه نظر إلى ما يتعلق إلى العقل، والزبير قال: هي أمي وهذا مولاها وأنا أولى به فكما أنني أرث الأم كذلك أن أولى بميراث هذا المولى، فحكم عمر بالميراث للزبير بن العوام وعلى أن العقل على علي بن أبي طالب
(1)
، ومن هنا أخذ جمهور العلماء بالقول الثاني الذي قضى به عمر رضي الله عنه.
(1)
"السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 187).
[كِتَابُ الْعِتْق]
والعتق في اللغة: هو الخلوص
(1)
فكل شيء يخلص منه يقول له خلص، فالذي يعتق إنسانًا خلصه من الرق ولذلك نجد أن المعنى اللغوي له ارتباط بالمعنى الاصطلاحي، أما المعنى الاصطلاحي الفقهي: فهو عتق الرقيق وتخليصه من الرق
(2)
، وقد جاء العتق في كتاب اللّه عز وجل وفي سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونجد أن اللّه سبحانه وتعالى عندما أمر بعبادته وببر الوالدين في قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} ، فاللّه سبحانه وتعالى دعا إلى عبادته وإلى بر الوالدين وإلى الإحسان إلى الوالدين وإلى الأقارب وابن السبيل واليتيم والمسكين ثم قال:{وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، إذًا لقد دعا الإسلام إلى الإحسان إلى الرقيق والإحسان إليهم يكون بعتق رقابهم واللّه تعالى يقول:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}
(1)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 235)، ومن معانيه الخلوص. ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير، أي: خالصتها، وسمي البيت الحرام عتيقًا؛ لخلوصه من أيدي الجبابرة. انظر:"المغني" لابن قدامة (10/ 290).
(2)
قال ابن قدامة العتق في الشرع: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق. انظر: "المغني"(10/ 291).
ولا شكَّ أن إعتاق الرقيق من الإحسان، واللّه سبحانه وتعالى رغَّب في الإحسان والإحسان كما جاء في حديث جبريل ركن واحد وهو:"أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
(1)
، وبالنسبة إلى الرقيق كما جاء في سورة المجادلة:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، وقال في سورة البلد:{فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)} ، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم فضل إعتاق الرقيق ومكانته وما أعدَّه اللّه سبحانه وتعالى لمن يعتق رقبة في سبيل اللّه ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من أعتق رقبة مؤمنة أعتق اللّه بكل إرب منها أربًا منه من النار"
(2)
"أيما رجل مسلم أعتق رجلًا مسلمًا كان فكاكه من النار"
(3)
.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَمَنْ لَا يَصِحُّ، وَمَنْ يَلْزَمُهُ وَمَنْ لَا يَلْزَمُهُ (أَعْنِي: بِالشَّرْعِ)، وَفِي أَلْفَاظِ الْعِتْقِ، وَفِي الْإِيمَانِ بِهِ).
والعتق مشروع في كتاب اللّه عز وجل وفي سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء على فضيلته وأنه قربة من القرب التي يتقرب بها العبد إلى اللّه سبحانه وتعالى وأنه طريق وسبيل لنجاة المؤمن من النار
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (8) عن عمر قال: "بينما نحن عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إِلَّا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله، ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن باله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
…
الحديث".
(2)
أخرجه البخاري (6715)، ومسلم (1509).
(3)
أخرجه الترمذي (1547) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(4/ 47).
(4)
مذهب الحنفية، ينظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 429) حيث قال: =
* قوله: (وَفِي أَحْكَامِهِ وَفِي الشُّرُوطِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ. وَنَحْنُ فَإِنَّمَا نَذْكُرُ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ أَكْثَرُهَا بِالْمَسْمُوعِ).
فالمؤلف يبيِّن أن هذه المسائل ما نطق بها النص المسموع فهو يأخذ بالنص أو الظاهر.
* قوله: (فَأَمَّا مَنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُ الْمَالِكِ التَّامِّ الْمِلْكِ الصَّحِيحِ الرَّشِيدِ الْقَوِيِّ الْجِسْمِ الْغَنِيِّ غَيْرِ الْعَدِيمِ)
(1)
.
ومن يصحُّ عتقه هو البالغ الراشد العاقل ولا يشترط الإسلام أيضًا في هذة الحالة كما قلنا من قبل الذمي يعتق وأيضًا الحربي على خلاف فيه، فيشترط في المعتق أن يكون كامل الملك لهذه الرقبة كما ذكر المؤلف فليس من حقه أن يعتق رقبة غيره لكن إذا كانت هناك رقبة مشتركة فإنه
= "الإعتاق تصرف مندوب إليه، فكان العتق إحياء له معنى، ولذا واللّه أعلم كان جزاؤه عند اللّه تعالى إذا كان العتق خالصًا لوجهه الكريم الإعتاق من نار الجحيم التي هي الهلاك الأكبر".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 359) حيث قال: "العتق مندوب وهو من أعظم القرب ولذا جعل كفارة للقتل وكثير من الفقهاء يذكره بعد ربع العبادات نظرًا؛ لأنه قربة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 351) حيث قال: "العتق، أي: الإعتاق المحصل له، وهو إزالة الرق عن الآدمي من عتق سبق أو استقل ومن عبر بإزالة الملك احتاج لزيادة لا إلى مالك تقربًا إلى اللّه تعالى".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 509) حيث قال: "أجمع العلماء على صحَّته وحصول القربة به".
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 162) حيث قال: "واتفقوا أن من أعتق عبده أو أمته اللذين ملكهما ملكًا صحيحًا وهو حر بالغ عاقل غير محجور ولا مكره وهو صحيح الجسم عتقًا بلا شروط ولا أخذ مال منهما ولا من غيرهما وهما حيان مقدور عليهما وليس عليه دين يحيط بقيمتهما أو بقيمة بعضهما وهما غير مرهونين ولا مؤاجرين ولا مخدمين أن عتقه جائز".
يعتق ما يخصُّه ثم يسري بعد ذلك إلى نصيب شركائه فإنه يقوم ويدفع لهم ذلك الملك التام ملكًا صحيحًا وأن يكون رشيدًا فلا يكون محجورًا عليه.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْقِ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَفِي عِتْقِ الْمَرِيضِ وَحُكْمِهِ.
فَأَمَّا مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ).
أي: عنده مال ولكن عنده دين يحيط بماله بحيث لو وفَّى الغرماء لم يبق عنده شيء، فهل له أن يعتق هؤلاء العبيد الذين عنده؟ على العبد أن يتخلص من حقوق العبيد ثم بعد ذلك يفعل الخير بالنسبة إلى أعمال البر ونحوها.
* قوله: (فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ عِتْقِهِ، فَقَالَ أكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مَالِكٌ وَغَيْر: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ)
(1)
.
فالأئمة انقسموا إلى قسمين: فريق يمنع ذلك وهو الإمام مالك
(2)
، وأحمد
(3)
، والفريق الآخر يجيز، وهما الإمامان الشافعي
(4)
،
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 334) حيث قال: "أما قوله في الذين عليهم الدين أن يحيطه بماله، أنه لا يجوز عتقه، فعلى ذلك أكثر أهل المدينة، وبه قال الأوزاعي، والليث".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 359) حيث قال: "ولا يصح عتق السفيه إِلَّا لأم ولده؛ لأنه ليس له فيها إِلَّا الاستمتاع ويسير الخدمة (و) بلا (إحاطة دين) بماله، فإن أحاط به لم يصحَّ عتقه".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 591) حيث قال: " (ومن أعتق في مرضه) المخوف (ستة) أعبد أو إماء (قيمتهم سواء، وثلثه يحتملهم) ظاهرًا (ثم ظهر) على معتقهم (دين يستغرقهم)، أي: الستة (بيعوا) كلهم (فيه)، أي: الدين، لتبين بطلان عتقهم لظهور الدين".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (5/ 359) حيث قال: "ولو أمر بإعتاق أخيه في الصحة عتق وورث إن لم يحجبه غيره، أو بإعتاق عبد في الصحة وعليه دين مستغرق لتركته عتق".
وأبو حنيفة
(1)
.
* قوله: (وَقَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ
(2)
: وَذَلِكَ جَائِزٌ حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكمُ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى التَّحْجِيرَ مِنْهُمْ، وَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْجَوَازُ قِيَاسًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ
(3)
).
فما نُقِل عن مالك هو المنع لكن هناك ما يعرف بالتخريج، أي: تخريج مسائل عن أصول مالك، وقد مرَّ في الرهن شيء ممكن، فيقال: يجوز ذلك على أصول مالك لكن الذي نقل عنه هو المنع.
* قوله: (وَإِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِ الرَّاهِنِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ.
وَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَ عِتْقَهُ أَنَّ مَالَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مُسْتَحَقٌّ لِلْغُرَمَاءِ).
فلا يعتبر مالًا له؛ لأنه لو وفَّى الحقوق لم يبق عنده شيء.
* قوله: (فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي بِهَا يَحْجُرُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَ).
(1)
يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (9/ 300)، حيث قال:"وإن لم يكن الدين محيطًا بماله جاز عتقه".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 334) حيث قال: "وخالفهم فقهاء الحجاز، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه فقالوا: عتق ما عليه الدين وهبته، وإقراره جائز، كل ذلك عليه، كان الدين محيط بماله، أو لم يكن حتى يفلسه الحاكم، ويحبسه، ويبطل إقراره، ويحجر عليه، فإذا فعل الفاضي ذلك، لم يجز إقراره، ولا عتقه، ولا هبته".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"(3/ 263) حيث قال: "يجوز للمدين الذي أحاط الدين بماله أن يرهن بعض ما بيده لبعض غرمائه في معاملة حادثة أو قديمة على الإحاطة إذا أصاب وجه الرهن وكان ذلك المدين صحيحًا أو مريضًا على أحد القولين كان المرتهن ممن لا يتهم عليه أم لا (قوله أي لمن أحاط الدين بماله)، أي: ولم تقم عليه الغرماء".
فإذا اشتكى أصحاب الحقوق هذا المدين ورفعوا الأمر إلى الحاكم، فالحاكم حينئذٍ يحجر عليه.
* قوله: (وَالْأَحْكَامُ يَجِبُ أَنْ تُوجَدَ مَعَ وُجُودِ عِلَلِهَا، وَتَحْجِيرُ الْحَاكِمِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ وَاجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِلَّةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِوُقُوعِهِ).
أما قبل ذلك فلا، ومجرد إحاطة الدين غير كافية بدليل أنه قد تحصل منه بعض التصرفات.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَيُحْبِلَهَا وَلَا يَرُدَّ شَيْئًا مِمَّا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ حَتَّى يَضْرِبَ الْحَاكِمُ عَلَى يَدَيْهِ)
(1)
.
وقد مرَّ بنا أنه إذا حُجِر عليه فإنه يحدد له جزء من المال ينفق منه على نفسه وعلى عياله وعلى أولاده، وليس معنى هذا أن تُؤخذ أمواله وتسلب من بين يديه فلا يأكل ولا يشرب فهناك مصالح تتعارض، والحفاظ على النفس تأتي في المقدمة.
* قوله: (فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِهِ هَذَا الْحُكْمَ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
(2)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 334) حيث قال: "وخالفهم فقهاء الحجاز وابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه فقالوا عتق ما عليه الدين وهبته وإقراره جائز كل ذلك عليه كان الدين محيط بماله أو لم يكن حتى يفلسه الحاكم ويحبسه ويبطل إقراره ويحجر عليه فإذا فعل القاضي ذلك لم يجز إقراره ولا عتقه ولا هبته، وهو معنى ما ذكره المزني عن الشافعي واحتج بالإجماع على أن له أن يطأ جاريته ويحبلها ولا يرد شيء أنفقه من مال فيما شاء حتى يضرب الحاكم على يده ويحجر عليه".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 368) حيث قال: "فإن كان عليه)، أي: المريض (دين) مستغرق له عند موته (فقيل: لا يصح الشراء)؛ لئلا يملكه من غير عتق (والأصح صحته)؛ إذ لا خلل فيه (ولا يعتق، بل يباع للدين) ".
وَلَا خِلَافَ عِنْدِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ غَيْرُ الْمُحْتَلِمِ مَا لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةً مِنْهُ
(1)
).
وغير المحتلم أمر لا يختلف فيه العلماء، فإن العتق من المحتلم، وليس المراد أنه يُعتَق، بل المراد هل يعتِق المحتلم أو لا؟ وهذا هو الظاهر، فلا يجوز أن يعتق الصغير.
* قوله: (وَكَذَلِكَ الْمَحْجُورُ)
(2)
.
سواء كان الحجر لمصلحة الغرماء أو أحجر عليه لكونه غير رشيد كأن يكون كبيرَ السنِّ لكن لا يحسن التصرف في ماله فيحجر عليه.
* قوله: (وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عِتْقُهُ لِشَيْءٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ إِلَّا مَالِكًا وَأَكْثَرَ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا عِتْقَهُ لِأُمِّ وَلَلِإِ
(3)
، وَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُ إِنْ صَحَّ وَقَعَ).
وإعتاق المريض فيه كلام كثير للعلماء لا يتعلق بالعتق وحده، بل
(1)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 162) حيث قال: "واتفقوا أن من أعتق عبده أو أمته اللذين ملكهما ملكًا صحيحًا وهو حر بالغ عاقل غير محجور ولا مكره وهو صحيح الجسم عتقًا بلا شروط ولا أخذ مال منهما ولا من غيرهما وهما حيان مقدور عليهما، وليس عليه دين يحيط بقيمتهما أو بقيمة بعضهما وهما غير مرهونين ولا مؤاجرين ولا مخدمين أن عتقه جائز".
(2)
المحجور: الممنوع من التصرف على وجه ينفذ فعل الغير عليه شاء أم أبي كما هو حال أهليته. "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 300).
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(2653) حيث قال: "ولا يمنع من تصرف غير مالي (كخلعه) لما فيه من أخذ مال (وطلاقه) ولو أدى إلى حلول مؤخر الصداق وتحاصص به (وقصاصه) من جان عليه أو على وليّه؛ إذ ليس فيه مال بالأصالة (وعفوه) عن قصاص أو حد مما لا مال فيه بخلاف الخطإ والعمد الذي فيه مال (وعتق أم ولده) التي أحبلها قبل التفليس الأخص ولو بعد الأعم (و) إذا أعتقها (تبعها مالها إن قل) بل ولو كثر على المذهب؛ إذ لا يلزم بانتزاع مال رقيقه (وحل به)، أي: بالفلس الأخص".
يتعلق أيضًا بإعطاء بعض ماله لغيرهم وكذلك فيما يتعلق بطلاقه لزوجته في مرضه المخوف الذي هو مرض الموت فهل يكون ذلك مانعًا لها من الميراث أم لا؟ وقد مر بنا عدة مسائل بأن المريض له أحكام تخصه.
* قوله: (وَإِنْ مَاتَ كَانَ مِنَ الثُّلُثِ)
(1)
.
إن صحَّ وشفي من مرضه فإنه من الصحيح كأن يكون متصرفًا في حال صحته ولكن إن مات فإن ذلك محصور في الثلث كما مرَّ في كتاب الوصية.
* قوله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ مِثْلُ عِتْقِ الصَّحِيحِ
(2)
، الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ).
(1)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 377) حيث قال: "جمهور أهل العلم في هبات المريض وصدقاته وعتقه أن ذلك من ثلثه لا من جميع ماله وهو قول مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وعامة أهل الحديث والرأي وحجتهم حديث عمران بن حصين".
ويُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 121) حيث قال: "وإذا أعتق الرجل في مرضه ما يخرج من ثلثه كان العتق جائزًا، ولا تنازع بين أهل العلم في ذلك".
(2)
علل ابن حزم في "المحلى"(7/ 174 - 175) ذلك بثلاثة وجوه:
أولها: أنه ليس فيه إِلَّا العتق وحده، فإقحامهم مع العتق جميع أفعال المريض خطأ وتعد لحدود اللّه تعالى، والقياس باطل، ولو كان حقّا لكان هاهنا باطلًا؛ لأنهم يفرقون بين حكم العتق وسائر الأحكام، فيوجبون فيمن أعتق شقصًا له من عبد أن يقوم عليه باقيه فيعتقه، ولا يرون فيمن تصدق بنصف عبده أو أوقف نصف داره، أو نصف فرسه، أو تصدق بنصف ثوبه أو بنصف ضيعته: أن يقوم عليه باقي ذلك، وينفذ فعله في جميعه -: فمن أين وجب أن يقاس على العتق هاهنا؟ ولم يجب أن يقاس عليه هنالك؟ إن هذا لتحكم فاسد؟
والوجه الثاني: أنه ليس فيه: من فعل المريض كلمة، ولا دلالة، ولا إشارة بوجه من الوجوه: إنما فيه "أعتق عند موته" فكان الواجب عليهم: أن يجعلوا هذا الحكم فيمن أعتق عند موته صحيحًا أو مريضًا. فمات إثر ذلك، لا فيمن أعتق مريضًا، أو صحيحًا، ثم تراخى موته، فإن هذا لم يعتق عند موته بلا شك وهذا مما خالفوا فيه =
فأهل الظاهر يأخذون بعموم الدليل، وقد أورد المؤلف دليل الجمهور في قصة الرجل الذي أعتق ستة أعبدٍ لا يملك غيرهم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثًا فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة.
* قوله: (أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ، الْحَدِيثُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ).
والحديث مر بنا وهو حديث صحيح وأحد روايات الإمام مسلم في الصحيح
(1)
، وأخرجه أيضًا أصحاب السنن
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْعِتْقُ كَرْهًا فَهُمْ ثَلَاثَة: مَنْ بَعَّضَ الْعِتْقَ).
فهناك من يدخل عليهم العتق كرها، أي: يلزمه العتق وهم أصناف ثلاثة: كمَن يملك رقيقًا فأعتق جزءًا منه وهو أيضًا ملكه لا يشركه غيره فيه، فهذا بلا شك يسري العتق إلى جميعه فأصبح العتق في حقِّه كرها، أي: أنه ملزم بذلك وهذا ما عبر عنه المؤلف.
* قوله: (وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ قِسْمَيْهِ).
فلا يختلف العلماء في أن مَن أعتق بعض مملوك له كأن أعتق ربعَه
= الخبر الذي احتجوا به فيما فيه، وأقحموا فيه ما ليس فيه واحتجوا به فيما ليس فيه منه شيء أصلًا، وهذه قبائح موبقة نعوذ باللّه منها.
والثالث: أن هذا الخبر حجة لنا عليهم قاطعة؛ لأن هذا الإنسان لم يبق لنفسه شيئًا أصلًا، هكذا في الحديث أنه لم يكن له مال غيرهم، وهذا عندنا مردود الفعل صحيحًا كان أو مريضًا.
(1)
أخرجه مسلم (1668). عن عمران بن حصين، "أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا".
(2)
أبو داود (3958)، والترمذي (1364)، والنسائي (1957/ 1) وابن ماجه (2345).
أو نصفه أو ثلثه وهو يملكه فلا خلاف بين العلماء في أنه يعتق جميعًا
(1)
، وهذا الذي يريده المؤلف.
* قوله: (وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا وَهُمَا مَنْ مَلَكَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ).
فلو ملك إنسان ذا رحم وسيأتي الخلاف في هذه المسألة: من هم الذين إذا ملكهم إنسان عتقوا عليه هل هم الأصول الآباء وإن علو أو
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 175) حيث قال: "فإذا قال لعبده أو أمته أنت حر أو محرر أو قد حررتك أو أعتقتك فقد عتق نوى المولى العتق أو لم ينو وكذلك إذا قال: رأسك حر أو وجهك أو رقبتك أو بدن: أو قال لأمته: فرجك حر".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 369) حيث قال: " (و) عتق (بالحكم جميعه)، أي: العبد (إن أعتق) سيده الحر المكلف المسلم الرشيد (جزءًا) من رقيقه القنِّ أو المدبر أو المعتق لأجل أو أم ولد أو المكاتب (والباقي له)، أي: لسيده المعتق".
ويُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 325) حيث قال: "إن ربيعة، وأبا حنيفة، وعبيد اللّه بن الحسن العنبري - قاضي البصرة - كانوا يقولون في الرجل يعتق بعض عبده، إِلَّا أنه لا يعتق منه إِلَّا ما عتق، وأن العبد يسعى لسيده في قيمته ما لم يعتق منه، وأن ذلك قد روي عن علي رضي الله عنه، وبه قال الحسن، والشعبي. وذكرنا الحديث الذي نزع به من قال ذلك، وأن أهل الظاهر قالوا به أيضًا، ومنهم من لم ير على العبد سعاية. وذكرنا أن مالكًا، والشافعي، وأبا يوسف، ومحمدًا والثوري، ومن سميناه معهم، قالوا: يعتق عليه كله".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 354) حيث قال: " (و) تصح (إضافته إلى جزء) من الرقيق معين كيد، ويظهر ضبطه بما مر في الطلاق مما يقع بإضافته إليه أو مشاع كبعض أو ربع (فيعتق كله) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 515) حيث قال: " (ومن أعتق جزءًا من رقيقه غير شعر وسن وظفر وريق ونحوه) كدمع وعرق ولبن ومني وبياض وسواد وسمع وبصر وشم ولمس وذوق (معينًا) كان الجزء الذي أعتقه غير ما استثنى كيده ورجله و (كرأسه وأصبعه أو مشاعًا كنصفه وعشر عشره ونحوه) كجزء من ألف جزء منه (عتق) الرقيق (كله) ".
الأصول الأبناء وإن نزلوا أو يدخل في ذلك الحواشي كالأخوة أو أنه مقصور على الآباء والأبناء ويخرج الإخوة؟ الأول: مذهب المالكية
(1)
، والثاني: مذهب الشافعية
(2)
، والثالث: مذهب الحنفية
(3)
والحنابلة
(4)
بأنه يعتق كل ذي رحم محرم، وأيضًا لو تعدى الملك على مملوكه وقد مرت الأحاديث التي أوصت بالمحافظة على الرقيق وأن "من أعتق رقبة مسلمة أعتق اللّه سبحانه وتعالى عنه بكل إرب منها إربًا منه من نار جهنم"، أي: يعتق اللّه تعالى بكل عضو منها ما يقابله عضو منه من النار حتى لا يعتق اليد باليد والرجل بالرجل والفرج بالفرج وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى.
* قوله: (فَأَمَّا مَنْ بَعَّضَ الْعِتْقَ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: مَنْ وَقَعَ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ مِنْهُ وَليْسَ لَهُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا الْجُزْءُ الْمُعْتَقُ).
وهذا يسمى بالذي له شريك، أي: أعتق بعضه ولكنه لا يملك إِلَّا هذا الجزء الذي أعتقه وهذا أيضًا ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون موسرًا
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 366) حيث قال: "ثلاث مسائل العتق بالقرابة والعتق معسرًا والعتق معسرًا ورتبها هكذا فقال (وعتق بنفس الملك)، أي: بذات الملك والإضافة للبيان، أي: بالملك، أي: بمجرد الملك من غير توقف على حكم (الأبوان) نسبًا لا رضاعًا (وإن علوا والولد) نسبا (وإن سفل) مثلث الفاء (كبنت) بكاف التمثيل وفي نسخة باللام، أي: وإن سفل حال كونه لبنت وهي أولى للنص على المتوهم (و) عتق بالملك (أخ وأخت) نسبًا (مطلقًا) شقيقين أو لأب أو أم وضابط ما ذكره المصنف أنه يعتق بالملك الأصول والفروع والحاشية القريبة ومحل العتق في الجميع".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 366 - 367) حيث قال: "إذا (ملك) ولو قهرًا (أهل تبرع أصله) من النسب، وإن علا الذكور، والإناث (أو فرعه)، وإن سفل كذلك (عتق) ".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 175) حيث قال: "وإذا ملك الرجل ذا رحم محرم منه عتق عليه".
(4)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 696) حيث قال: "يحصل العتق (يملك) من مكلف رشيد وغيره (لذي رحم محرم بنسب) كأبيه وجده، وإن علا، وولده وولد ولده وإن سفل، وأخيه وأخته وولدهما وإن نزل، وعمه وعمته وخاله وخالته".
أو يكون معسرًا، أي: قادرًا على أن يشتري نصيب شريكه فيقوم عليه فيعتق هاما أن يكون عاجزًا.
* قوله: (وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَمْلِكُ الْعَبْدَ كُلَّهُ وَلَكِنْ بَعَّضَ عِتْقَهُ اخْتِيَارًا مِنْهُ).
فهذا الرقيق عنده عبد اسمه أحمد أو محمد أو علي فأعتق بعضه وهو يملكه نقول بأنه قد أعتق جميعًا.
* قوله: (فَأَمَّا الْعَبْدُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يُعْتِقُ أَحَدُهُمَا حَظَّهُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
(3)
: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ).
فهذا هو رأي جمهور العلماء، فإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه، أي: نصفة مثلًا وبقي النصف الآخر وكان هذا المعتق موسرًا، أي: عنده مال
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 370) حيث قال: " (قوله: فأعتق أحد الشركاء نصيبه)، أي: أو أعتق بعضًا من نصيبه وصار الباقي بلا عتق له ولغيره كعبد بين اثنين مناصفة فيعتق أحدهما ربعه فيكمل عليه بالحكم ربعه الباقي من نصيبه ونصف شريكهء (قوله: إن دفع القيمة يومه)، أي: حالة كونها معتبرة يومه (قوله: لا يوم العتق)، أي: لحصته (قوله: أنه لا يشترط الدفع بالفعل)، أي: وإنما الشرط دفعها بالقوة بأن يكون موسرًا بها".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 452) حيث قال: " (وإذا كان بينهما)، أي: الشريكين سواء كانا مسلمين أم كافرين أم مختلفين (عبد فأعتق أحدهما كله أو نصيبه) أو بعضه بنفسه أو وكيله (عتق نصيبه) ولو كان معسرًا (فإن كان معسرًا) عند الإعتاق (بقي الباقي) من العبد (لشريكه) ولا يسري لمفهوم الحديث الآتي (وإلا) بأن لم يكن معسرًا (سرى) العتق عليه (إليه)، أي: نصيب شريكه".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 516) حيث قال: " (وإن أعتق) أحد شريكين (شركًا له في عبد) أو أمة بأن أعتق حصته أو بعضها (أو) أعتق (العبد) المشترك (كله) أو أعتق الأمة المشتركة كلها. (وهو)، أي: الشريك الذي باشر العتق (موسر بقيمة باقيه يوم)، أي: حين (عتقه على ما ذكر في زكاة فطر عتق) العبد (كله) أو الأمة كلها (وعليه)، أي: الشريك المباشر للعتق (قيمة باقيه لشريكه) ".
ويستطيع بهذا المال أن يشتري النصف الباقي من شريكه فإنه يقوم عليه قيمة عدل، أي: دون زيادة أو نقصان فيقوم كما هي قيمته ويدفع للآخر فيكون الولاء حينئذٍ للمعتق؛ لأن هذه نعمة أنعم بها المعتق وكان يستحق ولاؤه دون الآخر الذي أخذ مقابل العتق لكن لو اشترك في العتق كان الولاء بينهما.
* قوله: (فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى شَرِيكِهِ وَعَتَقَ الْكُلَّ عَلَيْهِ وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَبَقِيَ الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ عَبْدًا وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْعَبْدِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ لِلسَّيِّدِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ حَظَّهُ مِنْهُ وَهُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَعْتَقَ حَظَّهُ مِنْهُ
(1)
).
ومعنى سعى هو أن يعطيه فرصة كأن يعمل عنده يومًا، ويعمل خارج عمل سيده يومًا آخر؛ فيجمع شيئًا من المال فيدفعه إلى سيده، وهذا هو السعي المذكور ثم بعد ذلك يتحرر، وهذا هو قول أبي يوسف ومحمد وهي رواية للإمام أحمد ومعهم جماعة من التابعين
(2)
.
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 472) حيث قال: " (وقال أبو يوسف ومحمد: إن كانا موسرين فلا سعاية عليه) لواحد منهما (لأن كل واحد منهما يتبرأ عن سعايته) وإنما يدعي الضمان على صاحبه الأن يسار المعتق يمنع السعاية عندهما إِلَّا أن الدعوى لم تثبت عليه لإنكاره والبراءة من السعاية قد ثبتت لإقراره على نفسه) بثبوت سببها حيث أقر بعتق الشريك مع يساره (وإن كانا معسرين سعى لهما؛ لأن كل واحد منهما يدعي السعاية عليه صادقًا كان أو كاذبًا) لفرض أن المعتق معسر. وقوله (على ما بيناه)، أي: من أن العبد مملوكه أو مكاتبه إِلَّا أن عندهما لا يكون مكاتبًا بل حر مديون (وإن كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا سعى للموسر منهما) ". وينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (23/ 123) حيث قال: "قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن. وفي قولهم: يكون العبد كله حرًّا ساعة أعتق الشريك نصيبه، فإن كان موسرًا ضمن لشريكه نصف قيمة عبده، وإن كان معسرًا سعى العبد في ذلك للذي لم يعتق، ولا يرجع على أحد بشيء، والولاء كله للمعتق".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 303) حيث قال: "وروي عن أحمد، أن المعسر إذا =
* قوله: (وَهُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَعْتَقَ حَظَّهُ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(1)
، وَجَمَاعَةُ الْكُوفِيِّينَ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى
(2)
جَعَلَا لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِمَا سَعَى فِيهِ مَتَى أَيْسَرَ).
لأن الولاء أصبح له فقالوا: يرجع عليه، وهذا خلاف مذهب الفريق الأول.
* قوله: (وَأَمَّا شَرِيكُ الْمُعْتِقِ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُقَوِّمَ نَصِيبَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ).
الشريك الذي أعتق شريكه نصيبه وبقي نصيبه مخير في رأي الجمهور بين أن يعتق نصيبه فحينئذ يشارك الأول في الولاء، وبين أن يطلب القيمة فيعطيه الشريك الذي أعتق النصف الخاص به ويصبح الولاء للأول الذي أعتق.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: لِشَرِيكِ المُوسِرِ ثَلَاثَةُ خِيَارَاتٍ؛
= أعتق نصيبه، استسعى العبد في قيمة حصة الباقين حتى يؤديها، فيعتق. وهو قول ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد".
(1)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (7/ 514) حيث قال: "إذا أعتق أحد الشريكين العبد صار العبد كله حرًّا، فإن كان موسرًا ضمن حصة شريكه في ماله، وإن كان معسرًا سعى العبد في حصة شريكه حتى يؤدي قيمته، هذا قول سفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة. ثم اختلفوا في رجوع العبد بما يسعى فيه عليه إذا أيسر فأوجب ابن أبي ليلى، وابن شبرمة للعبد الرجوع بما سعى فيه على المعتق. وانظر:
"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 314).
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 469) حيث قال: " (ولا يرجع المستسعى) على المفعول، أي: العبد (على المعتق بشيء بإجماع بيننا) خلافا لابن أبي ليلى فإنه يرجع عنده على المعتق إذا أيسر، وإنما لا يرجع بالاتفاق".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 462) حيث قال: "وإذا كان العبد بين شريكين فأعتق أحدهما نصيبه عتق)، أي: زال ملكه عنه (فإن كان) المعتق (موسرًا =
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتِقَ كَمَا أَعْتَقَ شَرِيكُهُ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ. وَالْخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ تُقَوَّمَ عَلَيْهِ حِصَّتُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُكَلَّفَ الْعَبْدُ السَّعْيَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا).
ويكون الولاء بينهما مع أنه حينئذٍ لم يفعل الآخر شيئًا، وهنا خالف الجمهور في هذه الجزئية.
* قوله: (وَللسَّيّدِ الْمُعْتِقِ عَبْدَهُ عِنْدَهُ).
أي: عند أبي حنيفة.
* قوله: (إِذَا قَوَّمَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ نَصِيبَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْعَى فِيهِ وَيَكُونَ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ).
على أساس أنه يرجع إلى الأول.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ).
وكذلك أحمد
(1)
.
= فشريكه بالخيار إن شاء أعتق نصيبه) منجزًا أو مضافًا، وينبغي إذا أضافه أن لا تقبل منه إضافته إلى زمان طويل؛ لأنه كالتدبير معنى، ولو دبره وجب عليه السعاية في الحال فيعتق كما صرحوا به فينبغي أن يضاف إلى مدة تشاكل مدة الاستسعاء (وإن شاء ضمن المعتق) قيمته إذا لم يكن بإذنه، فإن كان بإذن الشريك فلا ضمان عليه له (وإن شاء استسعى العبد) فيها. (فإن ضمن رجع المعتق على العبد والولاء للمعتق، وإن أعتق أو استسعى فالولاء بينهما في الوجهين)، أي: في الإعتاق والسعاية (وهذا) كله (عند أبي حنيفة رحمه الله) ".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 315) حيث قال: "وقال أحمد بن حنبل بحديث ابن عمر في هذا الباب، وقوله فيه، نحو قول الشافعي، قال: إن كان للمعتق من الشريكين مال ضمن، وإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق، وكان الآخر على نصيبه، ولا يستسعي العبد. هذا يدلُّ على أن حديث ابن عمر عند أحمد أصح من حديث أبي هريرة، وأنه لم يصح عنده ذكر السعاية، وأحمد إمام أهل الحديث في المعرفة بصحيحه من سقيمه".
* قوله: (حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ).
وهذا الحديث والذي يليه خُرِّج في "الصحيحين"، ومع ذلك قيل عن الأول بأن أحد رواته شكَّ في هذه الزيادة التي ستأتي في آخره:"عتق منه ما عتق"، وأيضًا سيأتي في الحديث الآخر حديث أبي هريرة أمر الاستسعى، هل هو مدرج أو لا؟ فسيذكر المؤلف اعتراض الجمهور على الحنفية واعتراض الحنفية أو الكوفيين على الجمهور.
* قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَاذ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْلِ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدَ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"
(1)
).
وهنا الزيادة في هذا الحديث الذي رواه مالك عن نافع ورواه عنه أيضًا أيوب، وقد تردَّد أيوب فيما يتعلق بهذه الفقرة، ومن هنا وقع الخلاف فأخذ الحنفية منها اعتراضًا أوردوه عن الجمهور.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْد فَخَلَاصُهُ مَالُهُ إِنْ كلانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"
(2)
).
غير إلحاق المشقة أيضًا بهذه الفقرة، اختلف فيها هل هي من كلام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو من كلام قتادة التابعي راوي هذا الحديث؟ هناك من قالوا: إن تلك الزيادة: "عتق منه ما عتق بعضهم"، تردد فيها أيوب ومالك وجزم بها وبأنها من الحديث وهناك أيضًا أصحاب قتادة كشعبة وهشام
(1)
أخرجه البخاري (2522)، ومسلم (1501).
(2)
أخرجه البخاري (2527)، ومسلم (1503/ 3).
وكذلك همام قالوا: لم يذكر هذه الزيادة، وانفرد بها سعيد بن أبي عروبة فما الذي يقدم؟ قالوا: إن أولئك أحفظ ..
* قوله: (وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصحِيحِ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِي تَرْجِيحِ حَدِيثِهِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ. فَمِمَّا وَهَّنَتْ بِهِ الْكُوفِيَّةُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ شَكَّ فِي الزِّيَادَةِ الْمُعَارِضَةِ فِيهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ).
فالذي شكَّ هو أيوب، والراوي الذي جزم هو الإمام مالك، وقد تكلم العلماء عن هذه المسألة وبيَّنوا أن الإمام مالكًا أحفظ الرواة عن نافع لكثرة ملازمته له وكثرة روايته له ومن دافعوا عن هذة المسألة الإمام الشافعي
(1)
، فإنه بين مكانة مالك وحفظه وأنه لا يُسَاوى في حفظ هذا المكان، وأيضًا تكلَّم عن ذلك الحافظ ابن حجر من المتأخرين
(2)
، والشافعي من المتقدمين ويكفي في ذلك أن الشيخين البخاري ومسلمًا خرَّجا هذا الحديث مرفوعًا دون تردد فيه.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"، فَهَلْ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ-، أَمْ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ، وَأنَّ فِي أَلْفَاظِهِ أَيْضًا
(1)
يُنظر: "اختلاف الحديث" للشافعي (8/ 674) حيث قال: "لا أحسب عالمًا بالحديث وروايته يشك في أن مالكًا أحفظ لحديث نافع من أيوب؛ لأنه كان ألزم له من أيوب، ولمالك فضل حفظ لحديث أصحابه خاصة، ولو استويا في الحفظ فشك أحدهما في شيء لم يشك فيه صاحبه، لم يكن في هذا موضع؛ لأن يغلط به الذي لم يشك".
(2)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 154) حيث قال: "ولم يختلف عن مالك في وصلها ولا عن عبيد الله بن عمر لكن اختلف عليه في إثباتها وحذفها كما تقدم والذين أثبتوها حفاظ فإثباتها عن عبيد الله مقدم وأثبتها أيضًا جرير بن حازم كما سيأتي بعد اثني عشر بابًا وإسماعيل بن أمية عند الدارقطني وقد رجح الأئمة رواية من أثبت هذه الزيادة مرفوعة".
بَيْنَ رُوَاتِهِ اضْطِرَابًا. وَمِمَّا وَهَّنَ بِهِ الْمَالِكِيُّونَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ قَتَادَةَ فِيهِ عَلَى قَتَادَةَ فِي ذِكرِ السِّعَايَةِ).
فننتهي من ذلك إلى أن كثيرًا من العلماء المحققين يذهبون إلى أن ما في الحديث الأول وما في الحديث الثاني يتعلق بالاستسعاء فإنها جاءت في الحديث وأنها من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق بين أن يكون القول من قول قتادة ومن قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن كونه من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو حكم ويكون ملزمًا أما قول قتادة فيكون فتوى منه رضي الله عنه.
* قوله: (وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَاعْتَمَدَتِ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَزِمَ السَّيِّدَ التَّقْوِيمُ إِنْ كلانَ لَهُ مَالٌ لِلضَّرَرِ الَّذِي أَدْخَلَهُ عَلَى شَرِيكِهِ وَالْعَبْدُ لَمْ يُدْخِلْ ضَرَرًا فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ).
فالعبد لم يدخل ضررًا وإنما الذي أعتق هو الشريك فترتب عليه أن يعتق نصيب الآخر، أما المملوك فلا ضرر حصل منه ولا أثر، ثم إن هذا لا يسمى ضررًا بل هو مصلحة لكل من الطرفين.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْكُوفِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَقٌّ شَرْعِيٌّ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهُ، فَإِذَا كَانَ الشَّرِيكُ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا عَتَقَ الْكُلَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ وَفِيهِ مَعَ هَذَا رَفْعُ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَى الشَّرِيكِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْعَبْدِ وَرُبَّمَا أَتَوْا بِقِيَاسٍ شَبَهِيٍّ).
قياس شبه
(1)
.
(1)
قال ابن قدامة: "هو أن يتردد الفرع بين أصليين حاظر ومبيح مثلًا ويكون شبهه بأحدهما أكثر نحو أن يشبه المبيح في ثلاثة أوصاف ويشبه الحاظر في أربعة فلنلحقه بأشبههما به.
ومثاله: تردد العبد بين الحر وبين البهيمة في أنه يملك، فمن لم يملكه قال: حيوان يجوز بيعه، ورهنه وهبته وإجارته وإرثه أشبه بالدابة، ومن يملكه قال يثاب ويعاقب =
* قوله: (وَقَالُوا: لَمَّا كَانَ الْعِتْقُ يُوجَدُ مِنْهُ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ؛ نَوْعٌ يَقَعُ بِالِاخْتِيَارِ، وَهُوَ إِعْتَاقُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ ابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ).
إذًا المؤلف قسم العتق إلى نوعين نوع بالاختيار وآخر بغير اختيار. * قوله: (وَنَوْعٌ يَقَعُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَهُوَ أَنْ يَعْتِقَ عَلَى السَّيِّدِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ بِالشَّرِيعَةِ مِلْكُهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ بِالسَّعْيِ كَذَلِكَ. فَالَّذِي بِالِاخْتِيَارِ مِنْهُ هُوَ الْكِتَابَةُ. وَالَّذِي هُوَ دَاخِلٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ هُوَ السَّعْيُ. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ).
في أحد قوليه يرجع إلى الشافعي.
* قوله: (إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا هَلْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْحُكْمِ أَوْ بِالسِّرَايَةِ؟ أَعْنِي: أَنَّهُ يَسْرِي وُجُوبُ عِتْقِهِ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ).
فالإمام أحمد
(1)
مع الشافعي
(2)
في هذه المسألة بأنه يعتق سراية، والحديث يدل على ذلك.
= وينكح ويطلق ويكلف أشبه الحر فيلحق بما هو أكثرهما شبها وقيل: الشبه الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم من جلب المصلحة أو دفع المفسدة". انظر: "روضة الناظر" (2/ 241 - 242).
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 583) حيث قال: " (و) إن قال شريك في رقيق: (أعتقت النصيب ينصرف إلى ملكه) من الرقيق (ثم يسري) إلى نصيب شريكه إن كان المعتق موسرًا بقيمته".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 452) حيث قال: " (وإذا كان بينهما)، أي: الشريكين سواء كانا مسلمين أم كافرين أم مختلفين (عبد فأعتق أحدهما كله أو نصيبه) أو بعضه بنفسه أو وكيله (عتق نصيبه) ولو كان معسرًا (فإن كان معسرًا) عند الإعتاق (بقي الباقي) من العبد (لشريكه) ولا يسري لمفهوم الحديث الآتي (وإلا) بأن لم يكن معسرًا (سرى) العتق عليه (إليه)، أي: نصيب شريكه، (أو) سرى (إلى ما أيسر به) ".
* قوله: (فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ:).
ومعهم الحنابلة.
* قوله: (يَعْتِقُ بِالسَّرَايَةِ، وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: بِالْحُكْمِ
(1)
؛ وَاحْتَجَّتِ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِالسَّرَايَةِ لَسَرَى مَعَ الْعَدَمِ وَالْيُسْرِ).
سواء كان المعتق موسرًا أو معسرًا، وقد أورد عليه اعتراض؛ لأنه كيف يسري إذا كان قد أعتق نصيبه وذلك ملك للآخر.
* قوله: (وَاحْتَجَّتِ الشَّافِعِيَّةُ بِاللَّازِمِ عَنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ").
لأن كون قومه عليهم قيمة العدل فيلزم من ذلك السراية؛ لأنه لو كان التقويم لازمًا فلا يتم إِلَّا عن طريق السراية ولا يحتاج إلى حكم حاكم.
* قوله: (فَقَالُوا: مَا يجِبُ تَقْوِيمُهُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ إِتْلَافِهِ فَإِذَنْ بِنَفْسِ الْعِتْقِ أَتْلَفَ حَظَّ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَقْوِيمُهُ فِي وَقْتِ الْإِتْلَافِ).
فالذي كان يملكه أذهبه عليه، ولكنه أخذ عوضه.
* قوله: (وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ حَاكِمٌ).
أي: لا يحتاج إلى حكم حاكم.
* قوله: (وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يُعْتِقَ نَصِيبَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَذَ الْعِتْقُ وَهَذَا بَيِّن).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 369) حيث قال: " (قوله: وعتق بالحكم إلخ) ما ذكره من توقف العتق على الحكم إذا أعتق جزءًا من عبد وكان الباقي له أو لغيره هو المشهور من المذهب".
وهذه من لفتات المؤلف ومن دقته، فإن إشارته هذه تدلُّ على أنه مع مذهب الشافعية والحنابلة.
* قوله: (وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
(1)
في هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ).
لا هو مع حديث ابن عمر ولا حديث أبي هريرة؛ لأنه أيضًا خالف أصحابه في المسألة.
* قوله: (وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا خِلَافٌ شَاذٌّ، فَقِيلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّهُ جَعَلَ حِصَّةَ الشَّرِيكِ فِي بَيْتِ الْمَالِ
(2)
، وَقِيلَ عَنْ رَبِيعَةَ فِيمَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ: أَنَّ الْعِتْقَ بَاطِلٌ
(3)
؛ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُقَوَّمُ عَلَى الْمُعْسِرِ الْكُلُّ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيمَا أَعْتَقَ. وَقَالَ قَوْمٌ بِوُجُوبِ التَّقْوِيمِ عَلَى الْمُعْتِقِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا وَيَتْبَعُهُ شَرِيكُهُ، وَسَقَطَ الْعُسْرُ فِي بَعْضِ الرّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الْأَحَادِيثِ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الْأَحَادِيثُ).
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 462) حيث قال: " (وإذا كان العبد بين شريكين فأعتق أحدهما نصيبه عتق)، أي: زال ملكه عنه (فإن كان) المعتق (موسرًا فشريكه بالخيار إن شاء أعتق نصيبه) منجزًا أو مضافًا، وينبغي إذا أضافه أن لا تقبل منه إضافته إلى زمان طويل؛ لأنه كالتدبير معنى، ولو دبره وجب عليه السعاية في الحال فيعتق كما صرحوا به فينبغي أن يضاف إلى مدة تشاكل مدة الاستسعاء (وإن شاء ضمن المعتق) قيمته إذا لم يكن بإذنه، فإن كان بإذن الشريك فلا ضمان عليه له (وإن شاء استسعى العبد) فيها. فإن ضمن رجع المعتق على العبد (والولاء للمعتق، وإن أعتق أو استسعى فالولاء بينهما في الوجهين)، أي: في الإعتاق والسعاية (وهذا) كله (عند أبي حنيفة رحمه الله) ".
(2)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 284) حيث قال: "وقد ذكر محمد بن سيرين عن بعضهم أنه جعل قيمة حصة الشريك في بيت المال".
(3)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 284) حيث قال: "وقد قيل في هذه المسألة أقوال غير ما قلنا شاذة ليس عليها أحد من فقهاء الأمصار أهل الفتيا اليوم منها قول ربيعة بن عبد الرحمن قال فمن أعتق حصة له من عبد إن العتق باطل موسرًا كان المعتق أو معسرًا".
وقال المؤلف وهذا كلُّه خلاف الأحاديث؛ لأن هذه الأقوال بنيت على الرأي ولا تلتقي مع حديث، وقد رأينا الأقوال التي بنيت على الأحاديث ولا شكَّ أن الراجح يتردد بين قولين حتى مذهب أبي حنيفة انفرد به عن أصحابه فهو ضعيف في هذه المسألة.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا فِي فَرْع وَهُوَ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَأُخِّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِإِسْقَاطِ التَّقْوِيمِ حَتَّى أَيْسَرَ، فَقِيلَ: يُقَوَّمُ، وَقِيلَ: لَا يُقَوَّمُ
(1)
. وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْآثَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ بِاخْتِيَارِهِ شِقْصًا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ عَبْدٍ: أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ الْبَاقِي إِنْ كانَ مُوسِرًا إِلَّا إِذَا مَلَكَهُ بِوَجْهٍ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِمِيرَاثٍ).
وهذة المسألة إذا ملك عن طريق الميراث فيها كلام للعلماء.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْيُسْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْم: فِي حَالِ الْيُسْرِ بِالسِّعَايَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا. وَإِذَا مَلَكَ السَّيِّدُ جَمِيعَ الْعَبْدِ فَأَعْتَقَ بَعْضَهَ، فَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ
(2)
مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ،
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 373) حيت قال: "إذا انتفى الحكم رأسًا وكان معسرًا وقت العتق ثم أيسر فلا تقويم إن كان بين العسر وحضر العبد".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 316) حيث قال: "وأما من أعتق حصته من عبده الذي لا شركة فيه لأحد معه، فإن جمهور العلماء بالحجاز، والعراق يقولون: يعتق عليه كله، ولا سعاية عليه".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 369) حيث قال: " (و) عتق (بالحكم جميعه)، أي: العبد (إن أعتق) سيده الحر المكلف المسلم الرشيد (جزءا) من رقيقه القن أو المدبر أو المعتق لأجل أو أم ولد أو المكاتب (والباقي له)، أي: لسيده المعتق".
(4)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 354) حيث قال: " (و) تصح (إضافته إلى جزء) من الرقيق معين كيد، ويظهر ضبطه بما مر في الطلاق مما يقع بإضافته إليه أو مشاع كبعض أو ربع (فيعتق كله) ".
وَأَحْمَدُ
(1)
، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ
(2)
يَقُولُونَ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ كُلُّهُ).
فلو ملك سيد عبدًا ملكًا تامًّا لا يشاركه فيه غيره وأعتق بعضه نصفه أو ثلثه فيعتق عليه جميعًا؛ لأنه لا شريك له في ذلك فلا سحاية ولا تقويم ومع ذلك خالف البعض في هذه المسألة.
* قوله: (وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(4)
: يُعْتَقُ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي عُتِقَ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَحَمَّادٍ
(5)
).
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 515) حيث قال: " (ومن أعتق جزءًا من رقيقه غير شعر وسن وظفر وريق ونحوه) كدمع وعرق ولبن ومني وبياض وسواد وسمع وبصر وشم ولمس وذوق (معينًا) كان الجزء الذي أعتقه غير ما استثنى كيده ورجله، و (كرأسه وأصبعه أو مشاعًا كنصفه وعشر عشره ونحوه) كجزء من ألف جزء منه (عتق) الرقيق (كله) ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 316) حيث قال: "أبو يوسف، ومحمد، وزفر، فأعتقوا العبد كله دون سعاية، وهو قول مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن بن صالح، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، كلهم قال: يعتق عليه كله إذا كان العتق منه في الصحة".
(3)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 457) حيث قال: "قوله وإذا أعتق المولى بعض عبده عتق ذلك القدر ويسعى في بقية قيمته لمولاه عند أبى حنيفة".
(4)
المشهور من مذهب الظاهرية ينظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (8/ 185) حيث قال: "ومن أعتق بعض عبده فقد عتق كله بلا استسعاء. ولو أوصى بعتق بعض عبده أعتق ما أوصى به وأعتق باقيه واستسعي في قيمة ما زاد على ما أوصى بعتقه لما ذكرنا قبل، فلو أوصى بعتق عبده فلم يحمله ثلثه أعتق منه ما حمل الثلث، وأعتق باقيه واستسعي لورثته فيما زاد على الثلث، ولا يعتق في ثلثه؛ لأن ما لم يوص به الميت فهو للورثة، فالورثة شركاؤه فيما أعتق - ولا مال للميت -: فوجب أن يستسعى لهم".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 316) حيث قال: "وقال أبو حنيفة وربيعة، وهو قول طاوس وحماد: يعتق منه ذلك النصيب، ويسعى لمولاه في بقية فيمته موسرًا كان أو معسرًا وبه قال أهل الظاهر".
ولكن في الحقيقة هذا ضعيف؛ لأنه يتعارض مع عموم الأدلة فهؤلاء يقولون لو ملكه وأعتق بعضه فإنه يبقى العتق في بعضه ويطالَب بالاستسعاء، وهو قياس مع الفارق.
* قوله: (وَعُمْدَةُ اسْتِدْلَالِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لمَّا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ فِي إِعْتَاقِ نَصِيبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ لِحُرْمَةِ الْعِتْقِ كلانَ أَحْرَى أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ).
فالجمهور يقولون إذا ثبت أن أحد الشريكين أعتق نصيبه فسار هذا العتق إلى نصيب الآخر فقُوِّم فأخذ فما بالك بما يملكه الإنسان، إذا كان إنسان أعتق جزءًا له في مملوكه فيتعدى ذلك إلى أن يشتري القسم الآخر فيعتقه فهذا الشيء بين يديه فلا يحتاج إلى الشراء فهو أولى.
* قوله: (وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِتْقِ عَلَى الْمُبَعِّضِ لِلْعِتْقِ هُوَ الضَّرَرُ الدَّاخِلُ عَلَى شَرِيكِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كلُّهُ مِلْكًا لَهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ ضَرَرٌ).
وأبو حنيفة إنما نظر إلى الضرر والجمهور نظروا إلى معنى أدق وهو ما يتعلق بأمر العتق والترغيب فيه.
* قوله: (فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هَلْ عِلَّةُ هَذَا الْحُكْمِ حُرْمَةُ الْعِتْقِ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهِ تَبْعِيضٌ)، أَوْ مَضَرَّةُ الشَّرِيكِ؟).
هل هي حرمة العتق وأن هذا العتق له مكانة في الإسلام؛ لأن الإسلام رغب فيه ونادى بإعتاق الرقيق، فلا شكَّ أن هذا حكمته ظاهرة وغايتة بينة وبارزة أو أن القصد عدم إدخال الضرر على الشريك؟ ولا أعتقد أن هذا مقصود وأن الأقرب لروح الشريعة هو قول جمهور العلماء.
* قوله: (وَاحْتَجَّتِ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِتْقَهُ
(1)
.
وهذا له عدة احتمالات، الأول: هو أن الحديث فيه مقال وقد اختلفوا في صحته، الأمر الآخر: أنه أعتق نصفه لاحتمال أنه لا يملك غيره واحتمال أنه لا يستطيع أن يعتق الباقي.
* قوله: (وَمِنْ عُمْدَةِ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
(2)
، وَأَبُو دَاوُدَ
(3)
عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَتَمَّمَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عِتْقَهُ، وَقَالَ:"لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ").
فأجازه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وفي رواية لابن كثير أجازه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:"وليس للّه شريك"، يؤيد مذهب الجمهور؛ لأن هذا القدر الذي يعتق من هذا العبد أصبح به العبد حرًّا طليقًا ليس متعبدًا إِلَّا للّه وحده سبحانه وتعالى فلا سلطة لأحد عليه في هذا الجزء، ولمَّا كان هذا الجزء حُرِّر للّه كصلىتَ فينبغي أن لا يكون هناك شريك للّه سبحانه وتعالى-والترغيب على عتق باقيه لا شكَّ أن هذا ملحظ جيد أخذ به جمهور العلماء واستمدوه من هذا النص وهو حديث صحيح.
* قوله: (وَعَلَى هَذَا فَقَدَ نَصَّ عَلَيَّ الْعِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْجُمْهُورُ).
(1)
أخرجه أحمد (15402) عن إسماعيل بن أمية، عن أبيه عن جده، قال: كان لهم غلأم يقال له: طهمان - أو ذكوان - فأعتق جده نصفه، فجاء العبد إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"تعثق في عتقك، وترق في رقك" قال: وكان يخدم سيده حتى مات. وضعف إسناده الأرناؤوط.
(2)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(4951).
(3)
حديث (3933) ولفظه عن أبي المليح، عن أبيه: أن رجلًا، أعتق شقصًا له من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ليس لله شريك". وصححه الألباني في "المشكاة"(3397).
فهذا الحديث دلَّ على العلة التي أخذ بها الجمهور والعلماء وليس كما قال أبو حنيفة: هو إدخال الضرر على الشريك، وليس المراد هذا، وإنما المراد كما قال الجمهور: هو حرمة العتق والقصد والمحافظة على العتق والدفع إليه والترغيب فيه؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس للّه شريك"، فهو يدفع إلى إعتاق الباقي حتى يكون خالصًا للّه سبحانه وتعالى، وليس القصد بالعبودية وإنما القصد من ذلك هي الرقّ، أما العبودية بمعنى العبادة فهذه لا تجوز إِلَّا للّه سبحانه وتعالى ولا يختلف فيها إنسان عن آخر إذا كان حرًّا أو مملوكًا.
* قوله: (وَصَارَتْ عِلَّتُهُمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنَ الْمُسْتَنْبَطَةِ).
فالجمهور أوردوا علَّةً، والحنفية أوردوا علة، وكأن المرأَة متردد بينهما فلما جاء هذا الحديث:"ليس للّه شريك"، في قصة ظاهرة تبين لنا أن علة الجمهور هي الصحيحة، وأن علة الجمهور منصوص عليها، وعلة أبو حنيفة إنما هي مستنبطة مفهومة، فكيف نقدم علة استنبطها أحد العلماء على علة جاء ذكرها في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟
* قوله: (فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ وَتَعَارُضُ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ الَّذِي يَكُونُ بِالْمُثْلَةِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ: مَالِكٌ
(1)
وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ
(2)
: مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ أَعْتَقَ عَلَيْهِ، وَقَالَ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(36814) حيث قال: "إن مثل الرشيد الحر المسلم برقيقه ولو كافرًا عتق عليه بالحكم". وهو قول أحمد ينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 580 - 581) حيث قال: "قال أبو السعادات مثلت بالحيوان أمثل تمثيلًا إذا قطعت أطرافه والعبد إذا جدعت أنفه ونحوه (ولو) كان التمثيل (بلا قصد برقيقه فجدع أنفه أو أذنه أو نحوهما) كما لو خصاه (أو خرق) عضوًا منه ككفه بنحو مسلة (أو حرق) بالنار (عضوًا منه) كإصبعه (عتق) نصًّا بلا حكم حاكم".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 333) حيث قال: "اختلف العلماء فيمن مثل =
أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
: لَا يُعْتِقُ عَلَيْهِ، وَشَذَّ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِ غَيْرِهِ أَعْتَقَ عَلَيْه
(3)
).
فلو أن إنسانًا تعدَّى فمثَّل بعبد لغيره فإنه يعتق على هذا الممثل، أي: الذي مُثِّل به.
* قوله: (وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُضَمَّنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ
(4)
).
لأنة تعدَّى عليه.
* قوله: (فَمَالِكٌ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ اعْتَمَدَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ "أَنَّ زِنْبَاعًا وَجَدَ غُلَامًا لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ، فَقَطَعَ ذَكرَهُ وَجَدَعَ أَنْفَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ " فَقَالَ: فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ"
(5)
. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ عِتْقُهُ"
(6)
).
= بملوكه عامدًا، فقال بعضهم: يعتق عليه، وممن قال بذلك: مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 333) حيث قال: (وقال أبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما: من مثل بمملوكه لم يعتق عليه، ومملوكه ومملوك غيره في ذلك سواء.
(2)
يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (6/ 416) حيث قال: "لو كان للرجل عبد فجني عليه بقطع الأنف أو قلع العين لا يزول ملكه".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (دم 333) حيث قال: "وقال الأوزاعي: إن مثل بمملوك غيره ضمن، وعتق عليه".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 333) حيث قال: "والجمهور على أنه يضمن ما نقص العبد لسيده".
(5)
أخرجه أبو داود (4519) وغيره، وحسنه الألباني في "الإرواء"(1744).
(6)
أخرجه مسلم (1657).
وليس هذا الأمر إيجابًا لكن كفارة هذا العمل هو أن يعتقه، وقضية الكفارة تدلُّ على أنه تكفير للذنب.
* قوله: (قَالُوا: فَلَمْ يَلْزَمِ الْعِتْقُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نُدِبَ إِلَيْهِ. وَلَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ هُوَ أَنَّهُ لَا يُكْرِهُ السَّيِّدَ عَلَى عِتْقِ عَبْلِإِ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ).
والأصل في الشرع أن الإنسان لا يُجبر على إعتاق عبده تأييدًا لمذهب الجمهور.
* قوله: (وَأَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ مِنَ الْقُوَّةِ أَنْ يُخَصَّصَ بِهَا مِثْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ).
وحديث عمرو بن شعيب اختلفوا فيه لكن الحديث جاءت له متابعات وشواهد وأدلة لكن لا يقارن بالحديث الآخر؛ لأنه جاء في "صحيح مسلم" فلا شكَّ أن الحديث الثاني أصحُّ وأقوى؛ لأنه في "صحيح مسلم" وفي كتب السنن
(1)
.
* قوله: (وَأَمَّا هَلْ يَعْتِقُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَحَدٌ مِنْ قَرَابَتِهِ، وَإِنْ عَتَقَ فَمَنْ يَعْتِقُ؟).
فإذا اشثرى إنسان قريبًا له فهل يعتق عليه أو لا يعتق؟ وهل المراد بالقريب أيُّ قريب يكون له أو قريب محدد؟
* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ بِالقَرَابَةِ).
الجمهور يرون هذا من حيث الجملة لكن عند التفصيل يحصل الخلاف.
(1)
أخرجه أبو داود (5168) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2173).
* قوله: (إِلَّا دَاوُدَ وَأَصْحَابَهُ
(1)
، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَنْ يُعْتِقَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ قِبَلِ قُرْبَى. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْعِتْقِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُعْتَقُ مِمَّنْ لَا يُعْتَقُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ أَبُوهُ وَوَلَدُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ؛ أَحَدُهَا: أُصُولُهُ، وَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ وَالْأُمَّهَاتُ، وَآبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ وِلَادَةٌ. وَالثَّانِي: فُرُوعُهُ، وَهُمُ: الْأَبْنَاءُ وَالْبَنَاتُ وَوَلَدُهُمْ مهمَا سَفُلُوا، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ لِلرَّجُلِ عَلَيْهِ وِلَادَةٌ بِغَيْرِ تَوَسُّطٍ أَوْ بِتَوَسُّطِ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَالثَّالِثُ: الْفُرُوعُ الْمُشَارِكَةُ لَهُ فِي أَصْلِهِ الْقَرِيبِ، وَهُمُ: الْإِخْوَةُ، وَسَوَاءٌ أَكَانُوا لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ فَقَطْ، أَوْ لِأُمٍّ فَقَطْ، وَاقْتَصَرَ مِنْ هَذَا الْعَمُودِ عَلَى الْقَرِيبِ فَقَطْ، فَلَمْ يُوجِبْ عِتْقَ بَنِي الْإِخْوَةِ).
في العمود الأول والثاني استقصى، وفي العمود الثالث اقتصر على العمود القريب فقوله قريب جدًّا من مذهب الحنفية والحنابلة
(3)
.
(1)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (8/ 187) حيث قال: "وقال أبو سليمان: لا يعتق أحد على أحد".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 366) حيث قال: "ثلاث مسائل العتق بالقرابة والعتق معسرًا والعتق معسرًا ورتبها هكذا فقال: (وعتق بنفس الملك)، أي: بذات الملك والإضافة للبيان، أي: بالملك، أي: بمجرد الملك من غير توقف على حكم (الأبوان) نسبًا لا رضاعًا (وإن علوا والولد) نسبًا (وإن سفل) مثلث الفاء (كبنت) بكاف التمثيل وفي نسخة باللام، أي: وإن سفل حال كونه لبنت وهي أولى للنص على المتوهم (و) عتق بالملك (أخ وأخت) نسبًا (مطلقًا) شقيقين أو لأب أو أم وضابط ما ذكره المصنف أنه يعتق بالملك الأصول والفروع والحاشية القريبة ومحل العتق في الجميع".
(3)
يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 696) حيث قال: "يحصل العتق (يملك) من مكلف رشيد وغيره (لذي رحم محرم بنسب) كأبيه وجده، وإن علا، وولده وولد ولده وإن سفل، وأخيه وأخته وولدهما وإن نزل، وعمه وعمته وخاله وخالته".
* قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
(1)
فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْعَمُودَيْنِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَخَالَفَهُ فِي الْإِخْوَةِ فَلَمْ يُوجِبْ عِتْقَهُمْ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
فَأَوْجَبَ عِتْقَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ بِالنَّسَبِ كَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَبَنَاتِ الْأَخِ، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ هُوَ مِنَ الْإِنْسَانِ ذُو مَحْرَمٍ).
فيدخل في ذلك العمود الأعلى وهم الآباء وإن علوا، والعمود الأسفل وهم الأبناء وإن سفلوا، وهذا عند المالكية والشافعية، وكذلك الإخوة عند مالك، وكل أنثى يكون محرم لها، فهذا المذهب هو أشمل تلك المذاهب.
" قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِ أَهْلِ الظَّاهِرِ مَعَ الْجُمْهُورِ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ الثَّالِثِ).
فسبب الخلاف بين الجمهور وأهل الظاهر في إثبات الأصل.
" قوله: (وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ
(3)
وَالتِّرْمِذِيُّ
(4)
وَأَبُو دَاوُدَ
(5)
وَغَيْرُهُمْ
(6)
).
(1)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 366 - 367) حيث قال: "إذا (ملك) ولو قهرًا (أهل تبرع أصله) من النسب، وإن علا الذكور، والإناث (أو فرعه)، وإن سفل كذلك (عتق) ".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 175) حيث قال: "وإذا ملك الرجل ذا رحم محرم منه عتق عليه".
(3)
حديث (1510).
(4)
حديث (1906) وقال: "حسن صحيح".
(5)
حديث (5137).
(6)
ابن ماجة (3659)، وأحمد في "المسند"(7143)، وقال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط مسلم".
لا يجزي، أي: لا يساوي ولا يكفي ولا يوازي ولد ما عمل له والده إِلَّا أن يشتريه فيعتقه؛ لأنه حرره من الرق.
* قوله: (فَقَالَ: الْجُمْهُورُ: يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَاهُ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ
(1)
. وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: الْمَفْهُومُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ وَلَا عِتْقُهُ إِذَا اشْتَرَاهُ
(2)
).
وجاءت رواية أخرى تنفي هذه التعليلات التي ذكرها أهل الظاهر ولم يوردها المؤلف، ولا شكَّ أن قولهم ضعيف، وقول الجمهور هو الظاهر.
* قوله: (قَالُوا: لِأَنَّ إِضَافَةَ عِتْقِهِ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مِلْكِهِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوا صَوَابًا، لَكَانَ اللَّفْظُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَ عَلَيْهِ).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 366) حيث قال: " (وعتق بنفس الملك)، أي: بذات الملك"، و"مختصر القدوري" (ص 175) حيث قال:"وإذا ملك الرجل ذا رحم محرم منه عتق عليه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 366 - 367) حيث قال: "إذا (ملك) ولو قهرًا (أهل تبرع أصله) من النسب (عتق) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (4/ 696) حيث قال: "يحصل العتق (يملك) من مكلف رشيد وغيره (لذي رحم محرم بنسب) ".
(2)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (8/ 189) حيث قال: "وأما من قال: لا يعتق أحد على أحد فإنهم ذكروا ما صح عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "لا يجزي ولد والدًا إِلَّا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه".
قال أبو محمد: هذا حجة عليهم؛ لأن اللّه تعالى يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] فافترض عز وجل شكر الأبوين وجزاؤهما هو من شكرهما، فجزاؤهما فرض، فإذ هو فرض، وجزاؤهما لا يكون إِلَّا بالعتق فعتقهما فرض، وما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا. ثم نظرنا: فيما احتج به الأوزاعي فوجدنا من حجته قول اللّه تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] قال علي: وهذا لا يوجب العتق؛ لأن الإحسان فرض إلى العبيد، ولا يقتضي ذلك عتقهم فرضًا، ولو وجب ذلك في ابن العم، وابن الخال لوجب في كل مملوك؛ لأن الناس يجتمعون في أب بعد أب إلى آدم عليه السلام، ولا يجوز أن يخص بهذا ابن العم، وابن الخال: دون ابن ابن العم وابن ابن الخال، وهكذا صعدا، فبطل هذا القول بيقين".
هذا كلُّه تعليل أهل الظاهر ولكنه مردود.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ فَهُوَ حُرٌّ"
(1)
، وَكَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ).
والشافعي يقول: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، ولو صحَّ عندهم الحديث لعملوا به فنحن لا نلزمهم؛ لأنه لم يصحَّ عندهم وصحَّ عند غيرهم فعملوا به.
* قوله: (وَقَاسَ مَالِكٌ الْإِخْوَةَ عَلَى الأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ، وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِهِمُ الشَّافِعِيُّ وَاعْتَمَدَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فَقَطْ، وَقَاسَ الْأَبْنَاءَ عَلَى الْآبَاءِ. وَقَدْ رَامَتِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ تَحْتَجَّ لِمَذْهَبِهَا).
رامت أي: قصدت، وسيأتي المؤلف بكلام غريب جدًّا وسينقذه بنفسه.
* قوله: (بِأَنَّ الْبُنُوَّةَ صِفَةٌ هِيَ ضِدُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَجْتَمِعُ مَعَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 92]{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] وَهَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ هِيَ مَعْنًى غَيْرِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا).
وقد بدأ المؤلف يرد عليهم فيقول: إن العبودية ذكرت هنا لكن غير المعنى المراد؛ لأن هذه العبودية التي تكون بين العبد وبين سيده هي عبودية السلطة أو هيمنة عليه أما عبودية اللّه سبحانه وتعالى فهي عبودية الخضوع والذل والطاعة والاستكانة وعبادة اللّه سبحانه وتعالى فهذه لا تشبه تلك وليس مجرد كلمة عبودية يلتقي فيها.
(1)
أخرجه أبو داود (3949) وغيره، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1746).
* قوله: (فَإِنَّ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةَ مَعْقُولَةٌ وَبُنُوَّةٌ مَعْقُولَةٌ).
هذه العبودية التي للّه عبودية خضوع وطاعة وذلّ له سبحانه وتعالى وكذلك البنوة التي نفيت هي لا تليق باللّه سبحانه وتعالى، فالعبودية والبنوة التي تقع بين المخلوقين واردة، لكن في هذا المقام لا تجتمع؛ لأنه لا يجتمع رقّ وابن في وقت واحد والقصد بذلك الحرية.
وما سنشرع في شرحه من المصنف رحمه الله تابع لكلامه على الاختلاف في عتق القريب بالشراء، فقد ذكر أولا الفرق بين الجمهور وأهل الظاهر؛ فإن أهل الظاهر لم يلزموا شراء القريب، ولا جعلوه يعتق بالشراء، وأما الجمهور؛ فخالفوهم: واتفقول على أن الأصول والفروع يعتقون، وزاد مالك الحواشي، أي: الإخوة، وخالفه الشافعي. بينما وسعه أبو حنيفة ليشمل الرحم المحرم كالعمة والخالة.
ثم شرع رحمه الله يقرر مذهب المالكية؛ فقال: " (وقد رامت المالكية أن تحتج لمذهبها بأن البنوة صفة هي ضد العبودية وأنه ليس تجتمع معها لقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} ".
إيضاحه أن الآية دلَّت على أن العبودية تنافي الولدية؛ فأفاد أن الولد لا يكون عبدًا لأبيه
(1)
.
وقد اعترض ابن رشد ذلك باعتراض دقيق، وهو أن العبودية في الآية الكريمة تختلف عن العبودية المقصودة في باب العتق؛ فقال: "وهذه العبودية هي معنى غير العبودية التي يحتجون بها فإن هذه العبودية للّه
(1)
يُنظر هذا الدليل عند المالكية في: البيان والتحصيل (15/ 24) لابن رشد الجد، الذخيرة، للقرافي (11/ 151).
ومن أوائل من استدلا به القاضي عبد الوهاب في "المعونة على مذهب عالم المدينة"(ص 1448).
المذكورة في الآية معقولة المعنى، وكذلك البنوة معقولة. بخلاف العبودية المرادة في كتاب العتق".
* قوله: (وَالْعُبُودِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ وَلِلْوِلَايَةِ هِيَ عُبُودِيَّةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالطَّبْعِ (أَعْنِي: بِالْوَضْعِ) لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ كَمَا يَقُولُونَ فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ).
مراده: أن العبودية التي نقررها في هذا الكتاب (العتق) والتي بين المخلوقين بعضهم بعضًا، ويترتب عليها ثبوت الولاية بينهما؛ إذ المعتِق عصبة سببية لعبده يرثه إن لم يكن له وارث.
فهذه عبودية بالشرع، وليست بمقتضى الطبع؛ فلولا أن اللّه شرع هذه الأحكام، لما أمكن الاستقلال بفهمها، وتقريرها بحجج العقول.
وقوله: "وهو احتجاج ضعيف"، يعني: احتجاج المالكية بالآية، فهو ضعيف على ما بيَّنه رحمه الله.
* قوله: (وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبُنُوَّةَ تُسَاوِي الْأُبُى في جِنْسِ الْوُجُودِ أَوْ فِي نَوْعِهِ
(1)
أَعْنِي: أَنَّ الْمَوْجُودَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبٌ وَالْآخَرُ ابْنٌ هُمَا مُتَقَارِبَانِ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ جِنْسٍ وَاحِدٍ).
يعني: بخلاف ما بين العبد وربه؛ كما سيبين.
* قوله: (وَمَا دُونَ اللَّهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَلَيْسَ يَجْتَمِعُ مَعَهُ سُبْحَانَهُ فِي جِنْسٍ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ، بَلِ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا غَايَةُ التَّفَاوُتِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هَاهُنَا شَيْءٌ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ نِسْبَةُ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ، بَلْ إِنْ كَانَ نِسْبَةُ الْمَوْجُودَاتِ إِلَيْهِ نِسْبَةَ الْعَبْدِ إِلَى السَّيِّدِ كَانَ أَقْرَبَ
(1)
يُنظر: "الفروق اللغوية" للعسكري (ص 163). حيث قال: "النوع ما يقع تحته أجناس بخلاف ما يقوله الفلاسفة أن الجنس أعم من النوع وذلك أن العرب لا تفرق الأشياء كلها فتسميها بذلك".
إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مِنْ نِسْبَةِ الِابْنِ إِلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ التَّبَاعُدَ الَّذِي بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ فِي الْمَرْتَبَةِ أَشَدُّ مِنَ التَّبَاعُدِ الًّذِي بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَعَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا شَبَهَ بَيْنَ النِّسْبَتَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْجُودَاتِ نِسْبَةٌ أَشَدُّ تَبَاعُدًا مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ (أَعْنِي: تَبَاعُدَ طَرَفَيْهِمَا فِي الشَّرَفِ وَالْخِسَّةِ) ضُرِبَ الْمِثَالُ بِهَا (أَعْنِي: نِسْبَةَ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ)).
معلوم أن ابن رشد رحمه الله مُعرِق في الفلسفة، ومُتقن جدًّا لأبواب حجج العقول، وقد أجاد هنا نقد دليل المالكية، فالمراد في الآية الكريمة ذكر الفرق الهائل بين العبد وربه، مما يستحيل معه أن يكون ولدًا له. ولا تعرض في الآية للعبودية بالمعنى الشرعي (الرقّ لآدمي)، وفرق كبير جدًّا بين العبوديتين، كما قرَّر.
* قوله: (وَمَنْ لَحَظَ الْمَحَبَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرَّحْمَةَ وَالرَّأْفَةَ وَالشَّفَقَةَ أَجَازَ أَنْ يَقُولَ فِي النَّاسِ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ عَلَى ظَاهِرِ شَرِيعَةِ عِيسَى).
هذا استطراد من المؤلف، يزيد فيه بيان ضعف دليل المالكية؛ فيقول: أنه جاء في شريعة عيسى إطلاق "ابن الله" على مُحِبه، فهذه تسمية مجازية على بعض ظواهر الإنجيل، وليس مفادها البنوة الحقيقية، فبطل دليل المالكية؛ إذا صححنا هذه النسبة: فلان ابن اللّه، يعني: محبّه. أي: فهو مع كونه عبده، يُسمَّى ولده؛ فالولدية بهذا المعنى لا تنافي العبودية، فبطل استدلالهم بالآية
(1)
.
(1)
يُنظر: اللّه واحد أو ثلاثة، لمرجان (ص 30 - 31) لبيان بعض ما ورد وفهمه؛ قال: وخاطبهم داود قائلًا: "قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجدًا وعزًّا"(المزمور 29/ 1).
ومثله قوله: "لأنه من في السماء يعادل الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله"(المزمور 89/ 6).
وفي سفر أيوب: "كان ذات يوم أنه جاء بنو اللّه، ليمثلوا أمام الرب"(أيوب 1/ 6). =
ولا نرى داعيًا لمثل هذا الاستدلال، فشريعة عيسى قد نُسِخت، ولا ندري أهذا مما فيها أمما حرفوه منها، وكان تقريره أوَّلًا كافيًا في الاستدلال.
ومع أن كلامه في التسمية بابن اللّه له وجه مجازي؛ كما يقال: ابن السبيل، ابن الكتب،
…
إِلَّا أن المنع من إطلاق هذه العبارات الموهمة هو الأصل، لا سيما والمؤلف مالكي يتوسع في سدِّ الذرائع.
* قوله: (فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعِتْقِ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى الْإِنْسَان بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ).
أي: أنه فرغ من مقصود ببيان هذه الثلاث التي يعتق فيها العبد على سيده بغير اختياره، والتي أشار إليها آنفًا بقوله: "فهم ثلاثة من بعض العتق
= وقال الإنجيل عنهم: "طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم أبناء اللّه يُدعون"(متى 5/ 9).
وعن المؤمنين يقول بولس: "فإذ نحن ذرية اللّه، لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان"(أعمال 17/ 29)، فوسم المؤمنين بأنهم ذرية الله، أي: المحبون والمطيعون لله.
كما نرى في التوراة هذا الإطلاق على الشرفاء والأقوياء من غير أن يفهم منه النصارى أو غيرهم الألوهية الحقيقية، فقد جاء فيها: "أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتَّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا
…
إذ دخل بنو الله على بنات الناس، وولدن لهم أولادًا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" (التكوين 6/ 2).
وعليه فلا يمكن النصارى أن يجعلوا من النصوص المتحدثة عن بنوة المسيح للّه أدلة على ألوهيته ثم يمنعوا إطلاق حقيقة ذات اللفظ على آدم وسليمان و
…
، وتخصيصهم المسيح بالمعنى الحقيقي يحتاج إلى مرجح لا يملكونه ولا يقدرون عليه. معنى البنوة الصحيح:
والمعنى المقصود للبنوة في كل ما قيل عن المسيح عليه السلام وغيره إنما هو معنى مجازي بمعنى: حبيب الله أو مطيع اللَّه، أو المؤمن بالله.
لذلك قال مرقس وهو يحكي عبارة قائد المائة الذي شاهد المصلوب وهو يموت فقال: "حقًّا كان هذا الإنسان ابن الله"(مرقس 15/ 39). انتهى.
وهذا متفق عليه في أحد قسميه واثنان مختلف فيهما وهما من ملك من يعتق عليه ومن مَثَّل بعبده".
* قوله: (وَقَدِ اخْتَلَفُوا مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ فِي مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالسَّمَاعِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ. فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
وَأَصْحَابُهُمَا، وَأَحْمَدُ
(3)
، وَجَمَاعَة: إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ وَلَا
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 378) حيث قال: " (وإن أعتق) سيد (عبيدًا)، أي: بتل عتقهم (في مرضه) ولم يحملهم الثلث (أو أوصى بعتقهم ولو سماهم)، أي: عينهم بأسمائهم (ولم يحملهم الثلث) في المسألتين (أو أوصى بعتق ثلثهم)، أي: ثلث عبيده، ومثله إذا بتل عتق ثلثهم، أي: في مرضه (أو) أوصى (بعدد)، أي: بعتق عدد (سماه من أكثر) كثلاثة من تسعة (أقرع) في المسائل الأربع (كالقسمة) وصفة القرعة في الأوليين أن يقوم كل واحد منهم ويكتب قيمة كل واحد مع اسمه في ورقة مفردة وتخلط الأوراق بحيث لا تميز واحدة من الباقي ثم تخرج ورقة وتفتح فمن وجد فيها اسمه عتق وينظر إلى قيمته، فإن كانت قدر ثلث الميت اقتصر عليه، وإن زادت عتق منه بقدر الثلث".
(2)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 369) حيث قال: "في الإعتاق في مرض الموث وبيان القرعة في العتق إذا (أعتق) تبرعًا (في مرض موته عبدًا لا يملك غيره) عند موته (عتق ثلثه) "، وفي (10/ 370) حيث قال:" (ولو أعتق) في مرض موته (ثلاثة) معًا كقوله: أعتقتكم (لا يملك غيرهم قيمتهم سواء) ولم تجز الورثة (عتق أحدهم)، يعني: تميز عتقه (بقرعة) ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 591) حيث قال: " (ومن أعتق في مرضه) المخوف (ستة) أعبُدٍ أو إماء (قيمتهم سواء، وثلثه يحتملهم) ظاهرًا (ثم ظهر) على معتقهم (دين يستغرقهم)، أي: الستة (بيعوا) كلهم (فيه)، أي: الدين، لتبين بطلان عتقهم لظهور الدين؛ لأنه تبرع بمرض الموت المخوف يعتبر خروجه من الثلث فقدم عليه الدين كالهبة، وخفاء الدين لا يمنع ثبوت حكمه (وإن استغرق) الدين (بعضهم)، أي: الستة (بيع) منهم (بقدره)، أي: الدين (ما لم يلتزم وارثه)، أي: المعتق (بقضائه)، أي: الدين (فيهما)، أي: فيما إذا استغرقهم الدين جميعهم وما استغرق بعضهم فإن التزم بقضائه عتقوا؛ لأن المانع من نفوذ العتق الدين فإذا سقط بقضاء الوارث وجب نفوذ العتق (وإن) لم يظهر عليه دين و (لم يعلم له مال غيرهم)، أي: الستة الذين أعتقهم، ولم تجز الورثة عتق جميعهم (عتق ثلثهم) فقط".
مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ قُسِّمُوا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَعُتِقَ مِنْهُمْ جُزْءٌ بِالْقُرْعَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِمْ).
مثاله: هلك هالك، وقد أعتق في مرض موته ستة أعبُدٍ لا مال له غيرهم، أو أوصى بعتقهم؛ فمالك والشافعي وأحمد على أنهم يقسمون ثلاثة أقسام، ويُعتق قسم منهم بالقرعة.
* قوله: (وَخَالَفَ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ مَالِكًا فِي الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ
(1)
فِي الْمَرَضِ، فَقَالَا جَمِيعًا: إِنَّمَا الْقُرْعَةُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا حكْمُ الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ فَهُوَ كَحُكْمِ الْمُدَبَّرِ)
(2)
.
أفاد رحمه الله أن أشهب وأصبغ من المالكية، وافق مالكًا في الموصى بعتقهم ولا مال له غيرهم، أنهم يقسمون ثلاثة أجزاء، فيعتق الثلث، ويرقُّ الباقون. وخالفوه في من نجز عتق عبيد - لا مال له غيرهم - في مرض موته المخوف، فجعل حكمهم حكم المدبر، وهو الذي أعتقه سيِّدُه عن دبر؛ كان قال: إذا متُّ فأنت حرٌّ.
(1)
يُنظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 256) حيث قال: "بتلت الشيء أبتله وأبتله بتلًا: إذا قطعته". مادة "بتل".
بتل العتق، أي: نجزه. يُنظر: "حاشية الدسوقي"(4/ 378). - حيث قال: "بتل عتقهم، أي: نجز عتقهم في الحال". والعتق المبتل في المرض، أي: ما نجزه في مرض موته المخوف، ولم يعلقه بموته.
(2)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (23/ 422) حيث قال: "وقال أشهب وأصبغ إنما القرعة في الوصية، وأما في البتل فهم كالمدبرين".
ويُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 324) حيث قال: "قول أشهب، وأصبغ خلاف السنة المذكورة في صدر هذا الباب، وخلاف أهل الحجاز، وأهل العراق، ولم ترد السنة إِلَّا فيمن أعتق في مرضه ستة أعبُدٍ له عتقًا بتلا، ولا مال له غيرهم، لا فيمن أوصى بعتقهم، فحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيهم بحكم الوصايا، فأرق ثلثيهم، وأعتق ثلثهم، فكيف يجوز لأحد أن يقول بالحديث في الوصية دون العتق البتل، فيخالفهم نصه، ويقول بمعناه".
* قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُدَبَّرِينَ
(1)
فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا ضَاقَ عَنْهُمُ الثُّلُثُ أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَظِّهِ مِنَ الثُّلُثِ
(2)
. وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَاُبهُ فِي الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ: "إِذَا ضَاقَ عَنْهُ الثُّلُثُ أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ ثُلُثُهُ")
(3)
.
ولا يختلف قول مالك في المدبر أنه لا يكمل العتق في بعضهم، بل يعتق من كل واحد بعضه بالقيمة إذا جاوزوا الثلث.
وأما أبو حنيفة، فقال في من نجز عتقه في المرض:"يعتق من كل واحد ثلثه".
وقال الغير: يعتق من الجميع الثلث، فلو هلك هالك، وقد نجز عتق ثلاثة أعبد في مرض موته المخوف، وقيمة الأول: 300، والثاني: 600، والثالث، 1200 من الدارهم؛ فالقدر الذي يعتق ما قيمته 700، تُوزع على الثلاثة، فيعتق من الأول: 100، ومن الثاني: 200، ومن الثالث:400.
ووافقه أبو حنيفة إذا نجز عتقهم، ولم يكملوا العتق في أحد منهم.
(1)
يُنظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 103) حيث قال: "قال الرافعي: التدبير تعليق العتق بدبر الحياة سمي تدبيرًا من لفظ الدبر، وقيل: لأنه دبر أمر دنياه باستخدامه واسترقاقه، وأمر آخرته بإعتاقه".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 324) حيث قال: "حكم المدبرين عندهم إذا دبرهم سيدهم في كلمة واحدة أنه لا يبدي بعضهم على بعض، ولا يقرع بينهم، ويقضى الثلث على جميعهم بالقيمة، فيعتق من كل واحد منهم حصته من الثلث، وإن لم يدع مالًا غيرهم عتق ثلث كل واحد".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 177) حيث قال: "إذا قال المولى لمملوكه: إذا متُّ فأنت حرٌّ، أو أنت حرٌّ عن دبر مني، أو أمن مدبر، أو قد دبرتك فقد صار مدبرًا لا يجوز بيعه ولا هبته وللمولى أن يستخدمه ويؤاجره وإن كانت أمة وطئها وله أن يزوجه فماذا مات المولى عتق المدبر من ثلث ماله إن خرج من الثلث وإن لم يكن له مال غيره سعى في ثلثي قيمته".
* قوله: (وَقَالَ الْغَيْرُ: بَلْ يُعْتَقُ مِنَ الْجَمِيعِ ثُلُثُهُ
(1)
. فَقَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ اعْتَبَرُوا فِي ثُلُثِ الْجَمِيعِ الْقِيمَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(2)
، وَالشَّافِعِيِّ
(3)
، وَقَوْمٌ اعْتَبَرُوا الْعَدَدَ
(4)
. فَعِنْدَ مَالِكٍ
(5)
إِذَا كَانُوا سِتَّةَ أَعْبُدٍ مَثَلًا عُتِقَ مِنْهُمُ الثُّلُثُ بِالْقِيمَةِ كَانَ الْحَاصِلُ فِي ذَلِكَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكثَرَ، وَذَلِكَ أَيْضًا بِالْقُرْعَةِ بَعْدَ أَنْ يُجْبَرُوا عَلَى الْقِسْمَةِ أَثْلَاثًا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمُعْتَبَرُ الْعَدَدُ، فَإِنْ كَانُوا سِتَّةً عُتِقَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَإِنْ كَانُوا مَثَلًا سَبْعَةً عُتِقَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَثُلُثٌ).
ومعنى اعتبار العدد: أن يعتق واحد من ثلاثة، واثنان من ستة، ولا يتبعض العتق فيعتق من كل واحد بعضه دون بعض.
* قوله: (فَعُمْدَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
(1)
سبق تفصيل الكلام فيه.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 378) حيث قال: "إذا بتل عتق ثلثهم، أي: في مرضه (أو) أوصى (بعدد)، أي: بعتق عدد (سماه من أكثر) كثلاثة من تسعة (أقرع) في المسائل الأربع (كالقسمة) وصفة القرعة في الأوليين أن يقوم كل واحد منهم، ويكتب قيمة كل واحد مع اسمه في ورقة مفردة وتخلط الأوراق بحيث لا تميز واحدة من الباقي ثم تخرج ورقة وتفتح فمن وجد فيها اسمه عتق وينظر إلى قيمته، فإن كانت قدر ثلث الميت اقتصر عليه، وإن زادت عتق منه بقدر الثلث".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 370) حيث قال: (ولو أعتق) في مرض موته (ثلاثة) معًا كقوله: أعتقتكم (لا يملك غيرهم قيمتهم سواء) ولم تجز الورثة (عتق أحدهم) يعني: تميز عتقه (بقرعة)؛ لأنها شرعت لقطع المنازعة فتعينت طريقًا ولخبر مسلم: "أن أنصاريًّا أعتق ستة مملوكين له عند موته لا يملك غيرهم فجزأهم صلى الله عليه وسلم أثلاثًا ثم أعتق اثنين وأرق أربعة" قال في "البحر": "والمراد جزأهم باعتبار القيمة".
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 462) حيث قال: " (ولو) (أعتق) شخص (ثلاثة) من الأرقاء معًا كأعتقتكم (لا يملك غيرهم) عند موته (وقيمتهم سواء) ولم تجز الورثة عتقهم (عتق أحدهم بقرعة) ".
(5)
تقدم الكلام عليه.
الْحُصَيْنِ: "أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً" خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مُسْنَدًا، وَأَرْسَلَهُ مَالِكٌ
(1)
. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ رَدِّ الْآثَارِ الَّتِي تَأْتِي بِطِرِيقِ الْآحَادِ إِذَا خَالَفَتْهَا الْأُصُولُ الثَّابِتَةُ بِالتَّوَاتُرِ. وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ السَّيِّدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْعِتْقَ تَامًّا، فَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَنَفَذَ بِإِجْمَاعٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ الْجَائِزِ فِعْلُ السَّيِّدِ فِيهِ).
إلى هنا تمَّت حجة أبي حنيفة، وكأنه ردَّ الحديث لمخالفة الأصول، وبين تقرير ذلك، ثم شرع ابن رشد يجيب عن ثلاثة.
* قوله: (وَهَذَا الْأَصْلُ لَيْسَ بَيِّنًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: إِنَّهُ إِذَا أُعْتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الثُّلُثُ دَخَلَ الضَّرَرُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَالْعَبِيدِ الْمُعْتَقِينَ، وَقَدْ أَلْزَمَ الشَّرْعُ مُبَعِّضَ الْعِتْقِ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنُ هَاهُنَا أَنْ يُتَمَّمَ عَلَيْهِ جَمْعٌ فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ لَكِنْ مَتَى اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ دُونَ الْعَدَدِ أَفْضَتْ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَدَدُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَكَانَ الْجُزْءُ الْمُعْتَقُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْمَعَ فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَصْلُهُ حَقُّ النَّاسِ).
وهذا جواب سديد، فهدا أصل بذاته مستقلٌّ، وهو أن الشرع يرغِّب في تكميل العتق، كما تقدم الكلام على من أعتق شركًا له في عبد؛ فمصلحة تكميل العتق أولى من تجزئ العتق على الورثة، والعبيد، فهنا أصل آخره جرى عليه الحديث، دون الأصل الذي تفطن له الحنفية، ومن
(1)
لم أقف عليه عند البخاري. وأخرجه مسلم (1668)، ومالك في "الموطإ"(3).
أراد التوسع في ذلك فليراجع كلام ابن القيم على حديث المصراة في "أعلام الموقعين".
والواجب أن يُلتزم بدلالة الحديث، ولو لم نعلم العلة، ولكن ابن رشد رحمه الله أجاد تقرير هذا الأصل.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مَالِ الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ لِمَنْ يَكُونُ، فَقَالَتْ طَائِفَة: الْمَالُ لِلسَّيِّدِ، وَقَالَتْ طَائِفَة: مَالُهُ تَبَعٌ لَهُ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
(1)
، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَإِسْحَاقُ
(5)
، وَبِالثَّانِي قَالَ ابْنُ عُمَرَ
(6)
، وَعَائِشَةُ
(7)
، وَالْحَسَنُ
(8)
، وَعَطَاءٌ
(9)
، وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ
(10)
. وَالْحُجَّةُ لَهُمْ حَدِيثُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 134)، وابن أبي شيبة (4/ 403).
(2)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 431) حيث قال: " (قوله ولا ملك للمملوك) عن هذا قلنا إن مال العبد لمولاه بعد العتق وهو مذهب الجمهور".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 328) حيث قال: "وقال آخرون: "إذا عتق العبد فماله لسيده؛ مولاه"، وممن قال ذلك: الثوري، وابن شبرمة، وأبو حنيفة، وأصحابه، والحسن بن حي، وعبيد اللَّه بن الحسن".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6223) حيث قال: " (وإن أقر) عبد (غير مكاتب لسيده) لم يصحَّ (أو) أقر (سيده له بمال لم يصح)، أما الأول فلأنه لم يفد شيئًا؛ لأنه لا يملك شيئًا يقر به، وأما الثاني فلأن مال العبد لسيده فلا يصح إقرار الإنسان لنفسه".
(5)
ينظر: "مسائل الكوسج"(2330).
(6)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 331) حيث قال: "وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا أعتق عبدًا لم يعرض لماله".
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 403).
(8)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 134)، وابن أبي شيبة (4/ 404).
(9)
ينظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 97) حيث قال: "وقالت طائفة: إذا أعتق العبد تبعه ماله، روينا هذا القول عن عمر، وعائشة، وبه قال الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي، والنخعي، ومالك، وأهل المدينة". قال أبو بكر: "وبه أقول"".
(10)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 327) حيث قال: "فقال أكثر أهل المدينة: إذا =
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَق عَبْدًا فَمَالُهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ مَالَهُ"
(1)
).
أما الطائفة الأولى فأعملوا حديث: "من باع عبدًا له مال، فماله للبائع إِلَّا أن يشترطه المبتاع" ففيه إثبات أن الأصل أن ماله للبائع مع الإجماع - حكاه ابن عبد البر في "التمهيد" - على أن للسيد نزع المال عن عبده، وضعفوا خبر ابن عمر؛ قال ابن عبد البر:"وروي بنحو هذا القول في العتق أيضًا خبر مرفوع إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، ولكنه خطأ عند أهل العلم بالنقل".
وأما مالك فجمع بين الحديثين فجعل المال للبائع إذا باعه، وللعبد إذا أعتق إِلَّا أن يستثنيه السيد وفاقًا لابن شهاب الزُّهري.
* قوله: (وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْعِتْقِ، فَإِنَّ مِنْهَا صَرِيحًا وَمِنْهَا كِنَايَةً عِنْدَ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَمَّا الألْفَاظُ الصَّرِيحَةُ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتَ عَتِيق وَمَا تَصَرَّفَ مِنْ هَذِهِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُلْزِمُ السَّيِّدَ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ
(2)
…
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: لَا سَبِيلَ لِي
= أعتق العبد، فماله له دون السيد. وهو قول مالك، وأصحابه، والليث بن سعد، والأوزاعي. وبه قال الشافعي بالعراق في القديم الذي يرويه الزعفراني عنه".
(1)
أخرجه أبو داود (3962)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6054).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 175) حيث قال: "العتق يقع من الحرّ البالغ في مكةَ فإذا قال لعبده أو أمته: أنت حر أو محرر أو قد حررتك أو أعتقتك فقد عتق نوى المولى العتق أو لم ينوِ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 361) حيث قال: "يصح إعتاق مكلف به، أي: بالعتق، أي: بتصريحه به، أي: باللفظ الدال عليه صريحًا وأتى بالمصدر ليصير سائر تصاريفه من الصريح نحو: أعتقتك وأنت معتوق وعتيق ومعتق (وبفك الرقبة) نحو: فككت رقبتك أو أنت مفكوك الرقبة (والتحرير) كأنت حرٌّ وحررتك، والواو بمعنى: أو وهذا إن أطلق بل (وإن) قيد بزمن كأنت حر أو معتوق (في هذا اليوم) أو في هذا الشهر فحر أبدًا". =
عَلَيْكَ، أَوْ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ، فَهَذِهِ يَنْوِي فِيهَا سَيِّدُ الْعَبْدِ، هَلْ أَرَادَ بِهِ الْعِتْقَ أَمْ لَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ؟
(1)
.
= ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 357) حيث قال: "وقوله لعبده: أنت حرة ولأمته أنت حر صريح".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"(2/ 578) حيث قال: "وصريحه لفظ عتق. (و) لفظ (حرية) لورود الشرع بهما فوجب اعتبارهما (كيف صرفًا) كقوله لقنه: أنت حر أو محرر أو حررتك أو أنت عتيق أو معتق بفتح التاء أو أعتقتك فيعتق ولو لم ينوه".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 175) حيث قال: "ولو قال: لا ملك لي عليك ونوي به الحرية عتق وإن لم ينوِ لم يعتق وكذلك كنايات العتق".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 361 - 362) حيث قال: "الكناية الظاهرة يصرفها عن العتق النية والقرينة فلعل الأولى ولا يعتبر عدم إرادته للعتق فتأمل (قوله: فقال له أحد هذين اللفظين)، أي: جوابًا لكلامه، والمراد باللفظين المتقدمين: لا ملك لي عليك، ولا سبيل لي عليك".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 356) حيث قال: " (ولا يحتاج) الصريح (إلى نية) كما هو معلوم وذكر توطئة لقوله مع أنه معلوم أيضًا؛ لئلا يتوهم من تشوف الشارع إليه وقوعه بها من غير نية (وتحتاج إليها كناية)، وإن احتفت بها قرينة؛ لاحتمالها، ويظهر أن يأتي في مقارنة النية لها نظير ما مر في الطلاق، وهي أي: الكناية كثيرة، وضابطها كل ما أنبأ عن فرقة أو زوال ملك، فمنها (لا ملك) أو لا يد أو لا أمر أو لا إمرة أو لا حكم أو لا قدرة (لي عليك ولا سلطان) لي عليك (ولا سبيل) لي عليك و (لا خدمة) لي عليك زال ملكي عنك (أنت) بفتح التاء أو كسرها مطلقًا؛ إذ لا أثر للحن هنا (سائبة أنت مولاي) ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 578 - 579) حيث قال: " (وكنايته)، أي: العتق التي يقع بها (مع نيته)، أي: العتق. قلت: أو قرينمة كسؤال عتق كالطلاق (خليتك أو أطلقتك والحق بأهلك) بهمزة وصل وفتح الحاء (واذهب حيث شئت ولا سبيل لي) عليك (أو لاسلطان لي) عليك (أو لا ملك لي). عليك (أو لا رق لي) عليك (أو) لا (خدمة لي عليك، وفككت رقبتك ووهبتك لله، ورفعت يدي عنك إلى الله وأنت للّه أو) أنت (مولاي أو) أنت (سائبة وملكتك نفسك. و) من الكناية".
فإذا تكلم السيد بالكناية لم يقع العتق إِلَّا إذا نوى بها العتق، بخلاف الصريح، وقد تقدم لنا نظير ذلك في الطلاق.
* قوله: (وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي هَذَا الْبَابِ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: يَا بُنَيَّ، أَوْ قَالَ: يَا أَبِي، أَوْ يَا أُمِّي، فَقَالَ قَوْمٌ وَهُمُ الْجُمْهُورُ: لَا عِتْقَ يَلْزَمُهُ
(1)
، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ
(2)
، وَشَذَّ زُفَرُ فَقَالَ: لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي، عُتِقَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً وَلِلسَّيِّدِ ثَلَاثُونَ سَنَةً
(3)
).
وإنما قال الجمهور ذلك؛ لأن قوله: "يا بني"، أو "يا أبتِ" يمكن أن تُقال من باب الشفقة، فقالوا: لا يقع بها عتق إِلَّا بالنية.
وأما أبو حنيفة؛ فالعتق عنده هنا من باب الإقرار؛ فكأنه أقرَّ على نفسه بنسب من لا يُعلم نسبه، ولذا شرطوا إمكان ذلك؛ فقالوا: "إذا كان يولد مثله لمثله، فإن كان لا يولد مثله لمثله اختلف الحكم، ووجه شذوذ زفر أنه جوَّز ذلك - ولو كان يستحيل أن يكون ابنه - فإن دعوى البلوغ عند
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 357) حيث قال: "وقوله: أنت ابني، أو أبي، أو بنتي، أو أمي، إعتاق إن أمكن من حيث السن، وإن عرف كذبه ونسبه من غيره ويا ابني كناية (، وكذا كل) لفظ (صريح أو كناية للطلاق) أو للظهار هو كناية هنا كما مر مع ما يستثنى منه كاعتد واستبر رحمك للعبد فإنه لغو، وإن نوى العتق لاستحالته".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 512) حيث قال: " (أنت ابني أو) أنت (أبي فلا يعتق) بها أي شيء من هذه الكنايات (ما لم ينوِ عتقه)؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل العتق وغيره فلا تحمل عليه إِلَّا بالنية".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(3/ 647 - 648) حيث قال: " (قوله: لا يعتق بيا ابني ويا أخي)، أي: بدون نية، وعنه أنه يعتق".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (3/ 68) حيث قال: قال رحمه الله: "وهذا ابني، أو أبي، أو أمي، وهذا مولاي، أو يا مولاي، أو يا حر، أو يا عتيق"، أي: بهذه الألفاظ يقع العتق، وقال زفر رحمه الله:"لا يعتق بقوله يا مولاي إِلَّا بالنية".
الحنفية لا تقبل حتى يتمَّ له اثنا عشر سنة، وبالتالي، لا يمكن أن يكون له ولد - وبينهما أقل من هذه المدة مضافًا إليها أقل مدة الحمل؛ جاء في "البحر الرائق" (8/ 96):(ويفتى بالبلوغ فيهما بخمسة عشر سنة) عند أبي يوسف ومحمد وهذا ظاهر لا يحتاج إلى الشرح قال رحمه الله: (وأدنى المدة في حقِّه اثنتا عشرة سنة وفي حقها تسع سنين) يعني: لو ادَّعيا البلوغ في هذه المدة تقبل منهما ولا تقبل فيما دون ذلك؛ لأن الظاهر تكذيبه. انتهى.
فكون الفرق بينه وبين ابنه عشر سنين مما يُحيل كونه ولده.
* قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: مَا أَنْتَ إِلَّا حُرٌّ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ
(1)
، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ حُرٌّ
(2)
، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
(3)
).
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 361) حيث قال: "فقال له: ما أنت إِلَّا حر أو أنت حر ولم يرد بذلك العتق، وإنما أراد أنت في عملك كالحرِّ فلا يلزمه عتق في الفتيا ولا في القضاء كما في المدونة (أو) بلا قرينة (خلف) بضم الخاء المعجمة بمعنى: المخالفة والعصيان، يعني: إذا خالفه في شيء فقال له: يا حر، أو أنت حر، أو ما أنت إِلَّا حر قاصدًا بذلك تهديده وأنه في مخالفته له كمخالفة الحر فلا يعتق عليه"، ومذهب الشافعية ينظر:"الإقناع" لابن المنذر (2/ 599) حيث قال: "وإذا قال الرجل يعاتب عبده: ما أنت إِلَّا حر ولم يرد الحرية فلا شيء عليه، وهذا قول: مالك، والأوزاعي، وبه قال الأكثر من أهل العلم، والحجة فيه قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنية".
وهذا لم يرد عتقًا، كأنه قال: أنت تشبه الأحرار في أفعالهم وتخلق بأخلاقهم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 578) حيث قال: "لو قال: ما أنت إِلَّا حر، أي: إنك لا تطيعني، ولا ترى لي عليك حقًّا ولا طاعة؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فانصرف إليه. وإن طلب استحلافه حلف".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 175) حيث قال: "وإن قال ما أنت إِلَّا حر عتق عليه".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (23411) حيث قال: "حَدَّثَنَا أبو بكر قال: حَدَّثَنَا هشيم، عن يونس، عن الحسن، في الرجل يقول لمملوكه: ما أنت إِلَّا حر، قال: فقال =
أي: إنك تعمل عمل الأحرار، وعندك وفاء الأحرار، ونحو ذلك، وأعمل الحسن ظاهر لفظه.
* قولهرء: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَنْ نَادَى عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِاسْمِهِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ عَبْدٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ الْأوَّلَ، فَقِيلَ يُعْتَقَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَقِيلَ: يَنْوِي).
أي: يقع عتق من نواه سواء المنادَى أو المجيب.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ فَهُوَ حُرٌّ دُونَ الْأُمِّ
(1)
. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَعْتَقَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُ
= الحسن: نيته"، وينظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 104) حيث قال: "واختلفوا في الرجل يقول لغلامه: ما أنت إِلَّا حرٌّ. فقال الحسن البصري، والشعبي: لا شيء عليه، وبه قال مالك، والأوزاعي، وقال النخعي: هو حرٌّ".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 454) حيث قال: " (قوله: ثم إعتاق الحمل صحيح) عند الجمهور خلافًا للظاهرية فإنهم لا يجوزون عتق الجنين دون أمه بعد نفخ الروح بل قبله وتعتق أمُّه تبعًا له، ولا يجوز بيع الأم إذا عتق ما في بطنها ويجوز هبتها. والفرق أن استثناء ما في بطنها عند بيعها لا يجوز قصدًا فكذا حكمًا بخلاف الهبة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 375 - 376) حيث قال: " (وإن) (أعتق جنينًا) في بطن أمتِه (أو دبره) (فحر) بمجرد الولادة في الأول ومدبر في الثانى".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 359) حيث قال: " (ولو قال لحامل) مملوكة له هي وحملها: (أعتقتك)، وأطلق (أو أعتقتك دون حملك عتقًا)؛ لأنه جزء منها، وعتقه بطريق التبعية لا السراية؛ لأنها في الأشقاص دون الأشخاص، وإنما لم يضرَّ استثناؤه ولقوة العتق بخلاف البيع (ولو أعتقه عتق) إن نفخت فيه الروح".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 512): " (وإن أعتق ما في بطنها دونها) بأن قال: أعتقت حملك (عتق) حملها (وحده) ولم يسر العتق إلى أُمِّه؛ لأن الأصل لا يتبع الفرع بخلاف عكسه".
اسْتِثْنَاؤُهُ
(1)
، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا حُرَّانِ
(2)
).
ومن رأى أنهما يعتقان معًا؛ قاسوه على من أعتق بعض عبده، فمن أعتق بعضه عتق عليه كله، ومن صحح الاستثناء؛ فلأنه قول ابن عمر، وأبي هريرة ولا يعلم لهما مخالف من الصحابة، وبه أخذ الإمام أحمد.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ الْعِتْقِ بِالْمَشِيئَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَالطَّلَاقِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَقَالَ قَوْمٌ: يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَالطَّلَاقِ
(4)
(أَعْنِي: قَوْلَ القَائِلِ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، وَكَذَلِكَ
(1)
وهو قول الحنابلة.
يُنظر: "كشاف القناع"(4/ 512) حيث قال: " (وإن أعتق) أمَةً (حاملًا عتق جنينها)؛ لأنه يتبعها في البيع والهبة فتبعها في العتق (إِلَّا أن يستثنيه)، أي: الحمل فلا يعتق لإخراجه إياه وعلم منه صحة استثناء الحمل في العتق، وبه قال ابن عمر وأبو هريرة".
(2)
وهو قول الجمهور.
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 454) حيث قال: " (قوله عتق حملها) بإجماع الأربعة، ولو استثناه لا يصح كاستثناء جزء منها خلافًا لأحمد وإسحاق والنخعي والشعبي وعطاء وابن سيرين".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 376) حيث قال: " (قوله: ولا يستثنى ببيع)، أي: لا يصح استثناء الجنين ببيع أو عتق، فإذا باع حاملًا أو أعتقها واستثنى جنينها كان الاستثناء باطلًا لا يعتد به ويكون الجنين معها للمشتري في البيع ويكون حرًّا معها في العتق".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 359) حيث قال: " (ولو قال لحامل) مملوكة له هي وحملها: (أعتقتك) وأطلق (أو أعتقتك دون حملك عتقا) ".
(3)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (3/ 246) حيث قال: "وخصَّ بذلك اليمين باللّه تعالى؛ لأن الاستثناء لا يؤثر في غيرها سواء كانت اليمين بطلاق أو عتق أو مشي إلى مكة أو غير ذلك وكذلك التزام شيء من ذلك أو إيقاعه لا يؤثر فيه الاستثناء مثل أن يقول لامرأته: أنت طالق إن شاء اللّه، أو يقول لعبده: أنت حرٌّ إن شاء اللّه، أو يقول: عليَّ المشي إلى مكة إن شاء اللّه فهذا يلزمه جميع ما أوقع من ذلك ولا ينفعه الاستثناء".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 138) حيث قال: "إن =
اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ بشَرْطِ الْمِلْكِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ
(1)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَقَعُ
(2)
، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدمَ"
(3)
. وَحُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ تَشْبِيهُهُمْ إيَّاهُ بِالْيَمِينِ).
ووجه التشبيه باليمين أنه ينعقد - ولو قبل العقد -، ولا يتعلق به؛ فلو أن إنسانًا حلف ألا يكلم فلانة، قتزوجها فيمينها على حالها، فنظيره لو قال: إن ملكت زيدًا فهو حر؛ فمن قال: لا يعتق؛ قالوا: شرط العتق الملك، ومن شبهه باليمين أوقع العتق.
* قوله: (وَأَلْفَاظُ هَذَا الْبَابِ شَبِيهَةٌ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، وَشُرُوطُهُ كَشُرُوطِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَيْمَانُ فِيهِ تَشَبِيهُهُ بِأَيْمَان الطَّلَاقِ).
مراده ما يتعلَّق بالأحكام المتعلقة بالألفاظ: كأن قال: "أنت حر إن أكلت لحمًا" فأكل سمكًا، فهل يعتق؟ ينظر ما ذكروه في باب الأيمان، والطلاق.
= التعليق بالمشيئة إبطال، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه تعالى".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (4/ 489) حيث قال: " (وكذا يمنع) التعليق بالمشيئة انعقاد نية وضوء وصلاة وصوم وغيرها عند قصد التعليق، و (انعقاد تعليق) كأنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله؛ لأن التعليق بالمشيئة يمنع الطلاق المنجز فالمعلق أولى (و) انعقاد (عتق) منجز أو معلق كأنت حر إن شاء الله أو أنت حر إن دخلت الدار إن شاء الله".
(1)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير"(4/ 362) حيث قال: "إنه إذا قال: إن فعلت كذا فكل عبيدي أحرار، أو كل مماليكي أحرار، أو كل عبد أو مملوك أملكه حر، أو كل حر، أو كل عبد لي أو مملوك حر، وفعل ذلك الشيء، فإنه يعتق عليه كل عبد يملكه".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 457) حيث قال: "الإنسان إنما يعتق ما يملكه؟ ".
(3)
أخرجه أبو داود (2190)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1751).
* قوله: (وَأَمَّا أَحْكَامُهُ فَكَثِيرَةٌ: مِنْهَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْأبْنَاءَ تَابِعُونَ فِي الْعِتْقِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلأمِّ
(1)
، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ عَرَبِيًّا
(2)
).
ولذلك حرم اللّه نكاح الأمة مع إمكان نكاح حرة أو شراء أمة؛ لأن أولادها يتبعونها في الرق.
* قوله: (وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعِتْقِ إِلَى أَجَلٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا إِنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَلَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَقَالَ قَوْمٌ: لَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
(4)
، وَالشَّافِعِيُّ
(5)
).
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 457) حيث قال: "الولد يتبع الأم في الحرية والرق".
ويُنظر: "حاشية الدسوقي"(4/ 417) حيث قال: " (ولد المعتق)، أي: ولو كان ذلك الولد حجرًا بطريق الأصالة كمن أُمُّه حرة وأبوه رقيق ثم عتق الأب فالولد حرٌّ بطريق الأصالة؛ لأنه يتبع أمه في الرق والحرية، وولاء ذلك الولد لمعتق أبيه".
ويُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 429) حيث قال: "الولد يتبع أُمَّه رقًّا وحرية".
ويُنظر: "شرح منتهى الإرادات"(61712) حيث قال: "الولد يتبع أُمَّه حريةً ورقًّا".
(2)
يُنظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" لفخر الدين الزيلعي (5/ 177) حيث قال: "وعند أبي يوسف رحمه الله يكون لذوي الأرحام؛ لأن حكمه حكم أبيه فلا يكون عليه ولاء كما إذا كان الأب عربيًا، وأجمعوا على أنهما لو كانا معتقين أو كان الأب معتقًا والأم مولى موالاة أو كان الأب عربيًّا والأم معتقة كان الولد تبعًا للأب".
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي"(4/ 365) حيث قال: " (حتى يأتي الأجل)، أي: وإن كان يمنع من البيع ومن وطء الأمة بذلك لأجل".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير على المقنع" لابن قدامة (19/ 72) حيث قال: "وإذا علق عتقه على مجيء وقت، كقوله: أنت حر في رأس الحول. لم يعتق حتى يأتي رأس الحول (وله بيعه، وهبته) وإجارته، ووطء الأمة، كالتدبير. وبه قال الأوزاعي".
(5)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/ 385) حيث قال: " (ولو علق مدبر، أو مكاتب)، أي: عتق أحدهما (بصفة صحَّ) كما يصح تدبير وكتابة المعلق عتقه بصفة، =
كأن قال لأمته: أنت عتيقة أول محرم، فاختلفوا في جواز هذه التصرفات في هذه المدة.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِدْمَةِ عَلَى الْمُعْتَقِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَبْلَ الْعِتْقِ
(1)
).
كأن أعتقه بشرط أن يخدمه بعد عتقه سنة، وكذلك لو اشترطها قبل العتق، أو علق العتق عليها فقال: إن خدمتني سنة فأنت حرٌّ.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ لَمْ يَمْلِكْ عِتْقَهُ، وَقَالَ: إِنْ بَاعَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ (أَعْنِي: مِنْ مَالِ الْبَائِعِ إِذَا بَاعَهُ)، وَبِهِ قَالَ مَالكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
،
= والتدبير، والكتابة بحالهما (و) من ثم (عتق بالأسبق من) الوصفين (الموت)، أو أداء النجوم (والصفة) تعجيلًا للعتق فإن سبقت الصفة المعلق بها عتق بها، أو الموت فبه عن التدبير، أو الأداء فيه عن الكتابة. (وله وطء مدبرة) لبقاء ملكه فيها كالمستولدة مع أنه لم يتعلق بها حق لازم ".
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 122) حيث قال: " وأجمعوا أن من قال لعبده: أنت حر على أن تخدمني سنة فقبل العبد ذلك عتق، ووجبت الخدمة عليه، إلا مالكًا؛ فإنه قال: إن كان أراد تعجيل العتق عتق ولا خدمة عليه ".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 362) حيث قال: " (وعتق) العبد (على البائع) دون المشتري إن علق عتقه (هو)، أي: البائع (والمشتري على البيع والشراء) بأن قال السيد: إن بعته فهو حرٌّ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (4/ 335) حيث قال: " (ولو اشترى من يعتق عليه) كأصله أو فرعه (فإن قلنا) فيما إذا كان الخيار لهما (الملك في زمن الخيار للبائع أو موقوف) وهو الأصح (فلهما الخيار)؛ إذ لا مانع (وإن قلنا) الملك (للمشتري) على الضعيف (تخيَّر البائع)؛ إذ لا مانع هنا أيضًا بالنسبة إليه (دونه)؛ لأن قضية ملكه له أن لا يتمكن من إزالته وأن يترتب عليه العتق فورًا فلما تعذر الثاني لحق البائع بقي الأول وباللزوم يتبين عتقه عليه وإن كان للبائع حق الحبس ". وانظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 446).
وهو مذهب الحنابلة ينظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 195) حيث قال: " (ومن علق عتق رقبته ببيعه) فقال له: إن بعتك فأنت حر (ثم باعه عتق) ".
وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
).
وجه قول أبي حنيفة، أنه لما تمَّ البيع، لم يصحَّ العتق؛ لأنه يعتق ما لا يملك.
وأما مالك والشافعي فغلبوا سراية العتق، لقوته، أو حملًا لقول: إذا بعتك على ابتداء البيع؛ قال عليش: "قال ابن رشد قول مالك - رضي الله تعالى عنه - فيمن قال لعبده: أنت حر إن بعتك يعتق على البائع استحسان على غير قياس والقياس فيها قول من قال: لا شيء على البائع؛ لأن العتق إنما وقع من البائع بعد حصول العبد لمشتريه، ومثله أختار اللخمي. وفي توجيه المشهور بأن العتق والبيع وقعا معًا فغلب العتق لقوته كتبدئته في الوصايا أو بأن محمله فأنت حر قبل بيعي إياك "
(3)
.
قوله: (وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كثِيرَةٌ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ).
ومنهج المؤلف الاكتفاء بالمسائل التي هي كالقواعد، فاكتفى بذلك. على أنه في زماننا قد يحسن الاكتفاء بعرض مقاصد الباب دون كثير من التفاصيل يقل الانتفاع بها؛ قال النووي: "وأسلك فيه أيضًا مقصودًا صحيحًا، وهو أن ما كان من الأبواب التي لا يعم الانتفاع بها لا أبسط
(1)
يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (4/ 519) حيث قال: "قال لعبده إن بعتك فأنت حرٌّ فباعه لم يعتق؛ لأن نزول العتق المعتق بعد الشرط وبعد البيع هو ليس بمملوك فلا يعتق".
(2)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 173)، وينظر:"الأوسط" لابن المنذر (10/ 363) حيث قال: "واختلفوا في الرجل يقول لعبده: إن بعتك فأنت حرٌّ فباعه، فقالت طائفة: هو حر من مال البائع. روي هذا القول عن الحسن وبه قال الشافعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأحمد بن حنبل. وقالت طائفة: لا يقع العتق؛ لأن العتق إنما يقع بعد البيع، وبعدما خرج من ملكه وصار لغيره. هذا قول سفيان الثوري، والنعمان، ويعقوب ".
(3)
"منح الجليل"(9/ 380).
الكلام فيها لقلة الانتفاع بها وذلك ككتاب اللعان وعويص الفرائض وشبه ذلك لكن لا بد من ذكر مقاصدها"
(1)
. انتهى. والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
مقدمة "المجموع"(1/ 6).
([كِتَابُ الكِتَابَةِ])
الكتابة والمكاتبة لغةً: مأخوذة من كَتَبَ، بمعني: أوجب وألزم
(1)
، وكاتب السَّيِّدُ عبدَه: اتَّفق معه على أن يكون حرًّا إذا أدَّى قدْرًا مُعيَّنًا من المال.
واصطلاحًا: إعتاق العبدِ نفسَه من سيده بمال يكون في ذمته يُؤدَّى مؤجَّلًا.
والمكاتِب - بكسر التاء -: من تقع منه الكتابة نفسها، وبفتحها: العبد المعُلَّق عتقه بمالٍ يدفعه مؤجَّلًا لسيده.
وسميت كتابة ومكاتبة لتلك الكتابة التي تتم بين السيد وعبده بما اتفقا عليه، عن طريق العقد.
قوله: (والنظر الكلي في الكتابة ينحصر في أركانها، وشروطها، وأحكامها).
(1)
المكاتبة في اللغة: مصدر كاتب وهي مفاعلة، وهي لا تكون إلا بين اثنين فصاعدًا؛ يقال: كاتب يكاتب كتابًا ومكاتبة، وهي معاقدة بين العبد وسيده، يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال منجم، ويكتب العبد عليه أنه معتق إذا أدى النجوم. انظر:"المصباح المنير" للفيومي، و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 244).
وفي الاصطلاح: الكتابة: عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه. انظر: "شرح حدود ابن عرفة"(ص 524).
يتميز المؤلف رحمه الله في كتابه بحسن التقسيم، فإنه عادة ما يمهِّد في مقدمة كل كتاب أو باب بإجمال يكون إشارة إلى ما سيُذكَر تفصيلًا.
وكما ذكرنا من قبل أن هذا التمهيد بمثابة ضوء ينير الطريق لدارسي هذا الكتاب، وهو بلا شك منهج جيد يستفيد منه من يقرأ هذا الكتاب وأمثاله؛ لأن الطالب إذا قرأ مثل تلك التمهيدات استطاع أن يستحضر ما لديه من معلومات تجاه تلك المسائل، ثم يلجَ
(1)
تلك التفصيلات وذاك البيان والشرح، وما يعرض له من خلاف ومن أدلة حتَّى يتبين له ذلك الأمر.
قوله: (أَمَّا الْأَرْكَانُ فَثَلَاثَةٌ: الْعَقْدُ وَشُرُوطُهُ وَصِفَتُهُ، وَالْعَاقِدُ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَصِفَاتُهُمَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْمَسَائِلَ الْمَشْهُورَةَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جِنْسٍ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأجْنَاسِ).
أي: سيذكر المؤلف رحمه الله أمهات المسائل كعادته" وقد نبَّه مرات على أنه ما وضع هذا الكتاب ليجمع فيه الفروع ويستقصيها، وإنما وضعه ليجمع فيه أصول المسائل وأمهاتها الكبرى.
قوله: (الْقَوْلُ فِي مَسَائِلِ الْعَقْدِ. فَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْجِنْسِ الْمَشْهُورَةِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؟).
اختلف الفقهاء في حكم العقد الذي يتم بين السيد وعبده أو مملوكه بين الوجوب والندب، فبعضهم حمل الأمر في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] على الوجوب، وهم الظاهرية
(2)
،
(1)
وَلَج يَلِجُ وُلوجًا: إذا دخل. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري: (11/ 131).
(2)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (8/ 221) حيث قال: "أمر الله تعالى بالمكاتبة، وكل ما أمر به فرض، لا يحل لأحد أن يقول له الله تعالى: افعل أمرًا كذا، فيقول هو: لا أفعل إلا أن يقول له تعالى: إن شئت فافعل وإلا فلا
…
". وهو قول داود الظاهري. وانظر: "المبسوط"، للسرخسي (8/ 3).
وبعضهم حمله على الندب، وهم الجمهور
(1)
.
وتفصيل المسألة: أن صيغة " كاتِبُوهم " أمرية، فإن حُمِلت على ظاهرها دلَّت على الوجوب، وإن وُجد صارف يصرفها من الوجوب حُملت على الندب.
وحملها الظاهرية على الوجوب، وحملها الجمهور على الحضِّ والترغيب والإرشاد بأن ييسر السيد الطريق لمملوكه كي يعتق نفسه عن طريق الكتابِ.
والقائلون بالوجوب قلة، أما القائلون بالندب فهم أكثر العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة
(2)
، ومالك
(3)
، والشافعي
(4)
، وأحمد
(5)
، وللإمام أحمد رواية أخرى، ولكن روايته المشهورة مع الجمهور
(6)
.
(1)
سيأتي ذكرهم.
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (6/ 99). حيث قال: "وقال التمرتاشي: قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} الأمر فيه للندب على الصحيح ".
وانظر: "تحفة الفقهاء"، للسمرقندي (2/ 281).
(3)
يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للشيخ الدردير"(4/ 388)، حيث قال:"فإن قلت: ظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} يقتضي وجوبها إذا طلبها الرقيق، قلت: الأمر ليس للوجوب؛ لأن الكتابة إما بيع أو عتق وكهلاهما لا يجب، والأمر جاء في القرآن لغير الوجوب؛ قال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، والصيد بعد الإحلال لا يجب إجماعًا ".
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 483)، حيث قال:" (هي مستحبة) لا واجبة، وإن طلبها الرقيق قياسًا على التدبير وشراء القريب، ولئلا يتعطل الملك وتتحكم المماليك على المالكين، وإنما تستحب (إن طلبها رقيق) كله أو بعضه ".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 598)، حيث قال:" (وتسن) الكتابة (لمن) أي: رقيق (علم فيه خيرًا)، للآية (وهو) أي: الخير (الكسب والأمانة)، قال أحمد: الخير صدق وصلاح ووفاء بمال الكتابة، ونحوه قول إبراهيم النخعي وعمرو بن دينار وغيرهما وإن اختلفت عباراتهم في ذلك، والآية محمولة على الندب لحديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه "، ولأنه دعاء إلى إزالة ملكه بعوض فلم يجبر السيد عليه كالبيع ".
(6)
يُنظر: " الإنصاف " للمرداوي (7/ 446)، حيث قال:(وهي مستحبة) هذا المذهب =
وكثيرًا ما يشير المؤلف رحمه الله إلى الأئمة الأربعة ضمن فقهاء الأمصار، وقد تمسكوا بالأصل الوارد في ذلك.
ومن المعلوم أنه لا يلزم السيد أن يبيع عبده إلى شخص آخر إن طلب منه عبده ذلك، أما لو ألحقَ السَّيدُ الضررَ بعبده وتجاوز حدود الشريعة فتلك مسألة أخبرى
(1)
.
وقطع جمهور العلماء أنَّ هذه مسألة لا خلاف فيها؛ فلا يلزم السيد أن يبيعه إن طلب ذلك، وكذلك أيضًا المكاتبة، لا يلزمه أن يكاتبه إن طلب ذلك.
وكذلك لو طلب العبد من سيده أن يدبَره؛ أي: يعتقة عن دبر- أي: بعد الموت -، بمعني: أن قيد عتقه موقوف على وفاة سيده، وسمي بذلك لأنه ينفذ في دبر الحياة.
وكذلك لو قال لسيده: زوجني، فهذه مسائل مجمع عليها بأنه لا يلزم السيد إذا طلب العبد منه أن يعتقه، أو يدبره، أو يزوجه أن يجيبه إلى مطلبه.
وأمَّا الظاهرية من السلف - وهي رواية أيضًا عن الإمام أحمد، لكنها ليست مشهورة - أخذوا بظاهر الآية، وقالوا بوجوب الأمر، فعلى السيد إذا طلب منه مملوكه أن يكاتبه فليكاتبه عملًا بقول الله سبحانه وتعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ
= مطلقًا بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب، قال المصنف والشارح: هذا ظاهر المذهب
…
وعنه: واجبة إذا ابتغاها من سيده أجبره عليها بقيمته. اختاره أبو بكر في تفسيره. قال في القواعد الأصولية: وهو متجه ".
(1)
كأن يمتنع السيد مما يجب عليه تجاه عبده من النفقة والكسوة.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"الشرح الكبير"، لأبي الفرج المقدسي (9/ 304)، حيث قال:"ومتى امتنع السيد من الواجب عليه، وطلب العبد البيع لزمه بيعه، وجملة ذلك أن السيد إذا امتنع مما يجب للعبد عليه من نفقة أو كسوة أو تزويج، فطلب العبد البيع أجبر سيده عليه، سواء كان امتناع السيد من ذلك لعجزه عنه، أو مع قدرته عليه؛ لأن بقاء ملكه عليه مع الإخلال بسد خلاته إضرار به، وإزالة الضرر واجبة؛ فوجب إزالته ".
فِيهِمْ خَيْرًا}، وحجتهم: أن الآية باقية على ظاهرها ولا يوجد ما يصرفها عن الوجوب، والأصول المجمع عليها تتعارض مع وجوب الكتابة، والكتابة كغيرها من العتق وطلب التزويج والتدبير والبيع، فكما أنه لا يلزم السيد هناك فكذلك لا يلزمه هنا.
وقد استدل من قال بوجوب الكتابة بأثر عُمر بن الخطاب رضي الله عنه حيثُ كان سيرين - والد محمد بن سيرين - مولًى لأنس بن مالك رضي الله عنه، وهو الصحابي الجليل الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وكان سيرين ذا مال كثير، فطلب من أنس رضي الله عنه أن يكاتبه، فأبي أنس، فرفع سيرين أمره إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فطلب منه عمر أن يكاتبه، فأبي أنس، فرفع عمر الدرة على أنس، وأمره أن يكاتبه، وتلا آية النور:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
(1)
.
فقالوا: ما فعله عمر من تلاوته للآية ورفعه للدرة على أنس بهذه المناسبة بيان وتفسير لتلك الآية.
أمَّا الجمهورُ فقالوا: إن لعمرَ رضي الله عنه رأيًا، وكذلك أيضًا لأنسٍ رأي آخر، وكلاهما صاحبان جليلان، فكما أن عمر يرى الوجوب، فأنس لا يري الوجوب؛ لأنه لو كان واجبًا عنده رضي الله عنه لأسرع إلى فعله؛ فالصحابة - رضوان الله عليهم - من أسرع الناس وأسبقهم إلى امتثال أوامر الله ورسوله.
وقالوا أيضًا: قد جاء في رواية أخرى أن عمر رضي الله عنه رفع الدرة على أنس؛ لأنه أبى أن يأتيه ليساعده في المال
(2)
وهذا المعني في نفس الآية؛
(1)
أخرجه البخاري معلقًا (3/ 151) ووصله عبد الرزاق في " المصنف "(8/ 371)، وأخرجه البيهقي في " الكبرى "(10/ 538) ولفظه عن أنس بن مالك، قال:" أرادني سيرين على المكاتبة، فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فأقبل عليه عمر رضي الله عنه -يعني: بالدرة، فقال: كاتبه "، وصححه الألباني في " إرواء الغليل "(1760).
(2)
لم أقف على هذه الرواية.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وقد اختلف الأئمة الأربعة فيما يتعلق بالآية؛ فالشافعية والحنابلة: قالوا بالوجوب، والمالكية والحنفية: قالوا بعدم الوجوب، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.
قوله: (فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ).
ومنهم الأئمة الأربعة.
قوله: (إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ وَاجِبٌ
(1)
، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى عِتْقِ مَمْلُوكِهِ).
الأصل الشرعي ألَّا يُجبَر المالك أن يبيع أو يعتق رقبة يملكها، فكما لا يُجبَر أن يبيع داره وسيارته فكذلك لا يُجبر أن يبيع مملوكه أو يعتقه، ويجبر استثناءً على بيع داره في بعض الحالات؛ كتعارض هذه الدار مع حاجة المجتمع بأن تقع في طريق يحتاجه المسلمون، أو ينتفعون منه عمومًا، فإذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة قُدِّمت مصلحة الجماعة قطعًا
(2)
.
قوله: (حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى النَّدْبِ لِئَلَّا تَكُونَ مُعَارِضَةً لِهَذَا
(1)
سبق ذكر هذه المذاهب.
(2)
وكما لو كان له أرض هي طريق للمسلمين فليس له أن يمنعهم من سلوكها. يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (23/ 191 - 192) حيث قال: "ولو أراد المسلمون أن يمروا في أرض ليسقوا ماءً فمنعهم صاحبها، فإن لم يكن له طريق غيره لم يكن له أن يمنعهم، وإن كان يملك رقبتها، ولكنهم يمرون في أرضه ومشرعته بغير إذنه؛ لأن الموضع موضع الحاجة والضرورة، فالماء سبب لحياة العالم، فإذا لم يجدوا طريقًا آخر كان هذا الطريق متعينًا لوصولهم منه إلى حاجتهم، فليس له أن يمنعهم من ذلك ".
الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ عَلَى سَيِّدِهِ بِالْبَيْعِ لَهُ، وَهُوَ خُرُوجُ رَقَبَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ).
فلا يلزم السيد رفع شكاية للقاضي ضد مملوكه إن طلب منه أن يبيعه؛ لأنه خالص ماله، ولا يجوز أن يُلزمه أحدٌ على بيعه كذلك، لكن يلزمه أمور تجاه مملوكه كأن يحسن إليه، ولا يؤذيه؛ بل قال رسول صلى الله عليه وسلم:"إِذَا جَاءَ خَادِمُ أَحَدِكُمْ بِطَعَامِهِ، فَلْيَبْدَأْ بِهِ فَلْيُطْعِمْهُ، أَوْ لِيُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَإِنَّهُ وَليَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ "
(1)
، بمعني: أن الخادم لو صنع طعامًا لسيده فلا شك أنه سيناله شيء من حرارة ودخان ذلك الطعام الذي تعب فيه وشم رائحته، فعلى السيد أن يطعمه منه، وهذا من باب الإحسان.
قوله: (فَأَحْرَى أَنْ لَا يُحْكَمَ لَهُ عَلَيْهِ بِخُرُوجِهِ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ هُوَ مَالِكُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ كسْبَ الْعَبْدِ هُوَ لِلسَّيِّدِ)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (5460) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه؛ فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه ".
وأخرجه مسلم (1663/ 42)، ولفظه:"إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاءه به، وقد ولي حره ودخانه، فليقعده معه، فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهًا قليلاً، فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين "، قال داود:"يعني لقمة، أو لقمتين ".
(2)
ذكر الجصاص أدلة على الندب، يُنظر:"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (8/ 340) حيث قال: " ومن الدليل على ذلك: أنا لم نَرَ في الأصول من استحق عليه العقد على ملكه، كالبيع والهبة وسائر العقود، فلما كان في سائر الأصول أن الإنسان غير مستحق عليه العقد على ملكه، وأنه مخير بين فعله وتركه، رددنا حكم الكتابة إلى ما اتفقنا عليه، واستدللنا به على أن عقد الكتابة على الندب ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (13/ 135) حيث قال: "والإجماع منعقدٌ على أن السيد لا يجبر على بيع عبده، وإن ضُوعف له في الثمن، وإذا كان كذلك كان أحرى وأولى ألا يخرج عن ملكه بغير عوض ". وانظر: "المعونة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1463 - 1464).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 141، 142) حيث قال: =
فمال السيد أو جزء منه ربما يكون من كسب عبده؛ حيث كانوا قديمًا يمكثون في منازلهم، ويعمل عبيدهم عندهم أو عند غيرهم، ويجلبون المال لأسيادهم، فجدير بسيد ذلك العبد أن يعينه ويساعده ويرفق به، بأن يفتح له طريقًا للمكاتبة والعتق، ولا يلزمه عتقه؛ إنما ما يفعله معه من باب المساعدة والإحسان.
قوله: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَقْرَبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَرْكانِهِ).
لأن المسألة تتعلق بالعقد الذي يتم بينهم، بين وجوبه أو لا، يقول الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فمذهب الجمهور هنا واضح الدلالة.
قوله: (وَهَذَا الْعَقْدُ بِالْجُمْلَةِ هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ مِنْ سَيّدِهِ بِمَالٍ يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ).
تعريف الكتابة: إعتاق السيِّد عبدَه على مالٍ يُؤدَّى مؤجَّلًا
(1)
.
= "ذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك ومن تقدمهم من الفقهاء والتابعين إلى أنها ندب لا تجب؛ استدلالًا بأن عقد الكتابة يتردد بين أصلي حظر يجذبه كل واحد منهما إلى حكمه؛ أحدهما: أنه غرر؛ لأنه عقد على موجود بمعدوم، والثاني: أنه معاوض على ملكه بملكه، فصار الأمر بالكتابة واردًا بعد حظرها؛ فاقتضى أن يحمل على الإباحة دون الوجوب، وكذلك الكتابة معاوضة، وأصول الشرع تمنع من وجوب عقود المعاوضات كالبيع والإيتاء مواساة، وأصول الشرع لا تمنع من وجوب المواساة كالزكاة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (10/ 366)، حيث قال:" لنا: أنه إعتاق بعوض، فلم يجب؛ كالاستسعاء، والآية محمولة على الندب، وقول عمر يخالف فعل أنس ".
(1)
الكتابة عند الأحناف: تحرير المملوك يدًا في الحال، ورقبة في المآل.
يُنظر: "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق" حيث قال: (5/ 149): "والكتابة: عقد يستفاد به المال بمقابلة ما ليس بمال، على وجه ما يحتاج فيه إلى ذكر العوض بالإيجاب والقبول بطريق الأصالة ". =
وبعضهم لا يقيده بـ "مؤجل "، لجواز الكتابة الحالية عنده
(1)
، وسيأتي التفصيل فيها، وأدلة الذين قالوا بعدم جوازها حالة، واشتراطهم التأجيل فيها، وأن تكون على أنجم، وأقلها أن تكون على نجمين، وقد ورد ذلك عن عثمان رضي الله عنه
(2)
.
قوله: (فَأَرْكَانُ هَذَا الْعَقْدِ: الثَّمَنُ وَالْمَثْمُونُ، وَالْأَجَلُ، وَالْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ).
فالثمن: هو المال المتفق عليه، وبتم سداده مؤجَّلًا؛ لأنه لو جعل حالًا لوجد العبد صعوبة في جمعه مرة واحدة.
= وعند المالكية: " الكتابة: عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه ".
انظر: "شرح حدود ابن عرفة " للرصاع (ص 524).
وعند الشافعية: عقد عتق بلفظها بعوض منجم بنجمين فأكثر. انظر: "فتح الوهاب "، لزكريا الأنصاري (2/ 301).
وعند الحنابلة: هي بيع العبد نفسه بمال في ذمته، ويشترط فيه أن يكون مباحًا معلومًا، يصح السلم فيه، منجمًا يعلم قسط كل نجم ومدته أو منفعته مؤجلة. انظر:"المبدع في شرح المقنع" لابن مفلح (6/ 140، 41).
(1)
وهو مذهب الأحناف وبعض المالكية، وهو قول للإمام مالك.
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (8/ 3)، حيث قال:"الكتابة قد تكون ببدل منجم مؤجل، وقد تكون ببدل حال عندنا بظاهر الآية ".
وينظر: "المفهم "، لأبي العباس القرطبي (13/ 134) حيث قال:"ومن الأصحاب من أجاز الكتابة الحالَّة، وسَمَّاها قطاعةً ".
ويُنظر: "المقدمات الممهدات" لأبي الوليد ابن رشد (3/ 181 - 182) حيث قال: "وتجوز على مذهب مالك حالة ومؤجلة، فإن وقعت مسكوتًا عليها نجمت؛ لأن العرف في الكتابة أن تكون مؤجلة منجمة، هذا قول متأخري أصحابنا".
(2)
أخرج البيهقي في الكبرى (10/ 540) عن مسلم بن أبي مريم عن رجل قال: كنت مملوكًا لعثمان رضي الله عنه قال: بعثني عثمان رضي الله عنه في تجارة، فقدمت عليه فأحمد ولايتي، قال: فقمت بين يديه ذات يوم فقلت: يا أمير المؤمنين، أسألك الكتابة، فقطب، فقال:"نعم، ولولا آية في كتاب الله ما فعلت، أكاتبك على مائة ألف، على أن تعدها لي في عدتين، لا والله لا أغضك منها درهمًا".
أما مَن يملك المال: فالمالكية يسموه قطَاعَةً
(1)
، ويخرجون بهذه المسألة عن ما يتعلق بالكتابة؛ حتَّى لا يرد الاعتراض على حالية العقد، وقد نسب المالكية للإمام مالك قوله بجواز أن تكون المكتابة حالًا، وهو قول أبي حنيفة أيضًا
(2)
، وقد خالف في ذلك الشافعي
(3)
، وأحمد
(4)
، بل أن الإمام القرطبي يري أن هذا القول المنقول عن الإمام مالك ليس قوله، وإنما هو قول لأصحابه
(5)
.
قوله: (فَأَمَّا الثَّمَنُ؛ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالْعِلْمِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْبُيُوعِ).
أي: لا يكون الثمن مجهولًا، وقد مرت تلك الشروط مفصلة في البيوع، فينبغي في الثمن أن يكون معلومًا، وألا يدخله الغرر، وقد تسامح بعضهم في الغرر اليسير بين السيد وعبده.
(1)
المقاطعة هو: أن يجعل عتق المكاتب على شيء يقاطع عليه معجل، أو مؤجل. انظر:"المنتقى شرح الموطإ" للباجي (7/ 16، 17)، وانظر:"المدونة"، لابن القاسم (2/ 438).
(2)
سبق نقل مذهب الأحناف وقول مالك.
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" الشربيني (6/ 486) حيث قال: " (وشرط العوض) في الكتابة (كونه دينًا) نقدًا كان أو عوضًا موصوفًا بصفات السلم؛ لأن الأعيان لا يملكها حتى يورد العقد عليها، (مؤجلًا) ليحصله ويؤديه فلا تصح بالحال؛ لأن الكتابة عقد خالف القياس في وصفه واتبع فيه سنن السلف، والمأثور عن الصحابة فمن بعدهم قولًا وفعلًا إنما هو التأجيل، ولم يعقدها أحد منهم حالة، ولو جاز لم يتفقوا على تركه مع اختلاف الأغراض، خصوصًا وفيه تعجيل عتقه، واختار ابن عبد السلام والروياني في حليته جواز الحلول ".
(4)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 371)، حيث قال:"الكتابة لا تصح حالة، ولا تجوز إلا مؤجلة منجمة، وهو ظاهر المذهب".
(5)
يُنظر: "المفهم" لأبي العباس القرطبي (13/ 134) حيث قال: "وفي قول عائشة: "دخلت علي بريرة، فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع سنين، في كل سنة أوقية" دليلٌ على مشروعية الكتابة أن تكون مُنَجَّمة أو مُؤَجَّلة، وهو مشهور المذهب، ومن الأصحاب من أجاز الكتابة الحالَّة، وسَمَّاها قطاعةً، وهو القياس؛ لأن الأجل فيها إنَّما هو فسحةٌ للعبد في التكسب ".
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ إِبْهَامٌ مَا؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
وَمَالِكٌ
(2)
: يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ عَلَى جَارِيَةٍ أَوْ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِفَهُمَا، وَيَكُونُ لَهُ الْوَسَطُ مِنَ الْعَبِيدِ).
فيصح العقد عند مالك وأبي حنيفة بمجرد أن يقول: كاتبتك على جارية عندي، على تقدير أن هذا المكاتب يملك جارية، وسيأتي تفصيل بعض المسائل التي تختص بالمملوك، ومن ذلك: مكاتبته إذا كان مالكًا للمال من ميراث أو غيره، وسفره، وزواجه، وبيان جواز ذلك، أم لابد من إذن سيده؟ وهل تصح الكتابة المبهمة؛ كأن يكاتبه سيده على جارية، ويطلق من غير وصف لهذه الجارية؟
قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ)
(3)
.
وكذلك الإمام أحمد
(4)
.
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 138). حيث قال: "وإن كان معلوم النوع والقدر مجهول الصفة جازت المكاتبة، والأصل أن الجهالة متى فحشت منعت جواز المكاتبة، وإلا فلا، وجهالة النوع والقدر جهالة فاحشة، وجهالة الصفة غير فاحشة ". وانظر: "المبسوط" للسرخسي (7/ 211).
(2)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب المالكي" (ص 622) حيث قال: "يجوز أن يكاتب عبده على عبد أو على جارية، وإن لم يصف له ذلك، ويكون له الوسط، كما يكون عندنا في النِّكاح، وبه قال أبو حنيفة".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 154)، حيث قال:" فإن كان من جنس الأثمان من الدراهم والدنانير، جاز إذا كان لها نقد غالب أن يكاتبه عليها بالإطلاق من غير صفة؛ ليحملا فيها على العرف في اعتبار الأغلب، وإن لم يكن فقد غالب، فلا تصح إلا بوصفها، فإن أطلقت بطلت كالأثمان، وإن كان من غير جنس الأثمان؛ فإن كان ما يصح ثبوته في الذمة سلما، صحت المكاتبة عليه، وإن كان مما لا يصح ثبوته في الذمة سلما، كالذي لا تضبط صفته من الجواهر لم تصح المكاتبة عليه ".
(4)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 539) حيث قال: " فلا تصح بنحو خمر ولا بمال حال ولا بمعين ولا بمحرم الصناعة؛ كآنية ذهب وفضة ولا بمال مجهول، ولا بما لا يصح السلم فيه؛ كجوهر ونحوها مما لا ينضبط بالوصف ".
قوله: (لَا يَجُوزُ حَتَّى يَصِفَهُ).
فالبيع من جهة السلعة أنواع:
منه ما يتم ببيع سلعة مشاهدة وهذا ليس فيه خلاف.
ومنه ما يتم ببيع سلعة غير مشاهدة، ولكنها موصوفة، وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء، والصحيح: جوازه بشرط أن توصف وصفًا دقيقًا، بحيث يجد المشتري تلك الأوصاف كاملة منطبقة على السلعة.
قوله: (فَمَنِ اعْتَبَرَ فِي هَذَا طَلَبَ الْمُعَايِنَةِ شَبَّهَهُ بِالْبُيُوعِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مَقْصُودُهُ الْمُكَارَمَةُ، وَعَدَمُ التَّشَاحِّ، جَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْيَسِيرَ، كَحَالِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّدَاقِ).
فمن شبَّه هذا العقد بالبيع - وهم الشافعية والحنابلة - اشترطوا فيه المعاينة، حتَّى يكون معلومًا بأن يوقف على الوصف، وأن يعرف جنسه حتَّى لا يبقي مبهمًا مجهولًا
(1)
.
وقال المالكية والحنفية: بأن هذا عقد تمَّ بين سيِّدٍ ومملوكه، وأصل هذا العقد: قصد المكارمة، والمساعدة، والرفق، وإعانة ذلك المكاتب، فينبغي أن يُبنى على التسامح والتساهل في الأمور اليسيرة، من غرر،
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 144، 145)، حيث قال:"قال الشافعي رضي الله عنه: "وما جاز بين المسلمين في البيع والإجارة جاز في الكتابة وما رد فيهما رد في الكتابة"، قال الماوردي: لأن الكتابة عقد معاوضة فلم تصح إلا بعوض معلوم وأجل معلوم كالبيع والإجارة، فإن كانت على عوض مجهول، أو إلى أجل مجهول كانت الكتابة باطلة ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (2/ 334) حيث قال: "ولا تصح المكاتبة إلا على عوض؛ لأنها عقد معاوضة، فأشبه البيع، ومن شرطه أن يكون مؤجلًا؛ لأن جعله حالًا يفضي إلى العجز عن أدائه وفسخ العقد بذلك فيفوت المقصود، وأن يكون منجمًا نجمين فصاعدًا في قول أبي بكر
…
ويجب أن تكون النجوم معلومة، ويعلم في كل نجم قدر المؤدى، وأن يكون العوض معلومًا بالصفة؛ لأنه عوض في الذمة، فوجب فيه العلم بذلك ".
أو جهالة لا تكون فاحشة؛ كالصداق؛ فربما لا يسمَّى المهر في الزواج، والمهر إما أن يكون مسمًّى أو غير مسمًّى؛ فإن كان مسمًّى فلا مانع، وإن كان غير مسمًّى فيُرجع إلى مهر المثل، ومهر المثل، أي: ينظر إلى مثيلاتها من أخواتها وعماتها وخالتها إلخ، ممن يساويها في النسب والمكانة
(1)
.
قوله: (وَمَالِكٌ يجِيزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ مِنْ جِنْسِ الرِّبَا مَا لَا يُجَوِّزُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَجْنَبِيِّ مِنْ مِثْلِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ)
(2)
.
لأن الإمام مالكًا رحمه الله يرى أن العبد وما يملك مِلكٌ لسيده يتصرف فيه وفيما يملكه كيف يشاء؛ لذا لا تدخل المعاملات بينهما في باب الربا
(3)
، وقد بُنِي الرِّبا على التشديد؛ لذلك حذَّر اللَّهُ سبحانه وتعالى منه وشنَّع أمره، فحَرَّم بيعَ الطعام قبل قبضه كما جاء في الحديث المتفق عليه "مَنِ
(1)
يُنظر: " الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (3/ 253)، حيث قال:"وإذا كاتبه على حيوان غير موصوف فالكتابة جائزة، معناه أن يبين الجنس ولا يبين النوع والصفة، وينصرف إلى الوسط، ويجبر على قبول القيمة، وقد مر في النكاح، أما إذا لم يبين الجنس؛ مثل: أن يقول: دابة؛ لا يجوز؛ لأنه يشمل أجناسا مختلفة فتتفاحش الجهالة، وإذا بين الجنس كالعبد والوصيف فالجهالة يسيرة، ومثلها يتحمل في الكتابة، فتعتبر جهالة البدل بجهالة الأجل فيه ".
وهذا أصل عند المالكية: ينظر: " الجامع لمسائل المدونة " لابن يونس (8/ 900، 901) حيث قال: " قال ابن القاسم: ومن كاتب أمته على ألف دينار نجَّمها عليها على أن يطأها ما دامت في الكتابة؛ بطل الشرط وجازت الكتابة، وقيل له: لم لا يُبطل الشرط الكتابة إنما باعها نفسها بما سمى من المال على أن يطأها، ويكون كمن باع جاريته على أن يطأها البائع إلى أجل كذا؟ فقال: لا تشبه الكتابة البيع؛ لأن البيع لا يجوز فيه الغرر، والكتابة يجوز فيها الغرر".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل "، للخرشي (5/ 165)، حيث قال:" (ص) وبيع ما على مكاتب منه، وهل إن عجل العتق تأويلان (ش) يعني: أن من كاتب عبده على طعام موصوف إلى أجل معلوم، فإنه يجوز له أن يبع ذلك الطعام للمكاتب قبل قبضه منه، ولا يجوز للسيد أن يبيعه لغير المكاتب قبل قبضه ".
(3)
كره الإمام مالك أن يكون هناك ربا بين العبد وسيده. =
ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّي يَسْتَوْفِيَهُ"
(1)
، وروايةٍ أُخرَى عند مُسلمٍ قال صلى الله عليه وسلم:"مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"
(2)
، فالقبض فرض في البيع؛ لاجتنابِ الغَبنِ المحتمَلِ تجاه البائع؛ لأنه الضامن إذا تلَفَتْ؛ لأنَّها لم تخرج عن عهدته إلى المالكِ
(3)
.
= يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (17/ 290، 291) حيث قال: " قال مالك: ولا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربًا؛ لأنه لو كان عليه أين كان يحاص سيده بما أربى؟ ولو أعتقه تبعه ماله، فلا أحب أن يكون بينه وبين عبده ربًا"، قال ابن رشد:"كره مالك الربا بين العبد وسيده، ولم يحرمه فقال: لا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربا، وإن كان العبد يملك على مذهبه ما ملكه سيده أو ملكه غيره بوجه جائز، من أجل أن ملكه لماله غير مستقر، إذ لسيده أن ينزعه منه، فلما كان له أن ينتزع ماله بغير رضاه، لم يحرم عليه أن يأخذ منه ما أربى معه فيه، إلا أنه كره ذلك، إذ لم يأخذه بوجه الانتزاع، وإنما أخذه باسم الربا، فكره ذلك لذلك ".
(1)
أخرجه البخاري (2126)، ومسلم (1526).
(2)
أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (1525).
(3)
يقصد الشارح بقوله: " القبض فرض في البيع ": أنه لا يجوز للمشتري بيع الشيء قبل قبضه.
وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء:
فذهب الأحناف إلى أنه لا يجوز إلا أنهم استثنوا بيع العقار.
يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (3/ 59) حيث قال: "ومن اشترى شيئًا مما ينقل ويحول لم يجز له بيعه حتى يقبضه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض، ولأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك، ويجوز بيع العقار قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا يجوز، رجوعًا إلى إطلاق الحديث واعتبارًا بالمنقول، وصار كالإجارة".
وفي مذهب المالكية إذا اشتراه جزافًا أو غير طعام جاز.
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 372) حيث قال: "وكذلك الطعام إذا بيع جزافًا صبرًا على غير الكيل لا بأس عند مالك، ويبيعه قبل قبضه وقبل انتقاله من موضعه ". وقال ابن بزيزة في جوازه في غير الطعام.
يُنظر: " روضة المستبين " لابن بزيزة (2/ 950) حيث قال: " واتفق مالك، وأكثر أصحابه على القبض مشترك في الطعام فقط، فلا يباع (الطعام) قبل قبضه، ويباع ما =
قوله: (وَفَسْخِ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ
(1)
، وَضَعْ وَتَعَجَّلْ
(2)
).
= عداه قبل القبض، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد الملك بن حبيب: القبض شرط في جواز كل مكيل أو موزون؛ لأن فيه حق التوفية كالطعام وسوى القاضي ".
ومذهب الشافعية لا يجوز، سواء كان في عروض أو طعام أو غيره.
يُنظر: " التهذيب في فقه الإمام الشافعي " للبغوي (3/ 405) حيث قال: " من اشترى شيئًا، لا يجوز له بيعه قبل أن يقبضه؛ عقارًا كان أو منقولًا، باع بإذن البائع أو بغير إذنه، أدى الثمن أو لم يؤده ".
أما الحنابلة فعندهم يجوز فيما لا يكال ولا يوزن.
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 58) حيث قال: " (ويصح) قبض مبيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع (جزافًا، إن عَلِمَا) أي: المتبايعان (قدره)، لحصول المقصود به، ولأنه مع علم قدره كالصبرة المعينة ".
(1)
قصد المؤلف من ذلك أنه لا يجوز فسخ دين في دين.
يُنظر: "شرح زروق على متن الرسالة"(2/ 762)، حيث قال:" لا يجوز فسخ دين في دين، وهو أن يكون لك شيء في ذمته فتفسخه في شيء آخر لا تتعجله ".
مثال: "أن يكون لك عليه دينار إلى شهر، فتؤخره به على أن يعطيك به ثوبًا إلى شهرين فيدخله آخر".
هذا في العموم إلا أن مالكًا أجازه إذا كان بين العبد وسيده.
يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب "، لخليل (8/ 424) حيث قال: "ويجوز أن يفسخ ما على المكاتب من دنانير في دراهم إلى أجل، وأن يبرئه على التعجيل بالبعض وشبهه؛ لأنها ليست كالبيع ولا كالدين؛ ولذلك لا يحاص السيد الغرماء بها في موت ولا فلس .. مثل ما ذكره المصنف من فسخ الدنانير في الدراهم المؤخرة، وبالعكس ضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه، والسلف يجر منفعة، وظاهر كلام المصنف: أنه لا فرق في جواز هذه الوجوه بين أن يتعجل العتق أو لا، وهو مذهب مالك وابن القاسم، ووجهه ما ذكره المصنف: أنه ليس كالديون الثابتة
…
".
(2)
يقصد المؤلف أن مسألة ضع وتعجل عدَّها مالك من باب الربا، لكنه استثناها إذا كان بين العبد وسيده.
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 489) حيث قال: "واتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلا زفر على أن ضع وتعجل ربًا، ونقل أبو الوليد ابن رشد جوازها بين العبد وسيده ".
يُنظر: "البيان والتحصيل" لأبي الوليد ابن رشد (15/ 209) حيث قال: " قال مالك =
وجاء النهي - أيضًا - عن بيع الدَّيْن بالدَّيْن
(1)
، وضَع وتَعَجَّل، وكما مَرَّ؛ فمسألة: ضعْ وتعجَّل؛ كأن يكون لإنسان على آخر دين، فيأتي المدين ويقول لصاحب الدين: ضعْ عني بعضَ حقِّكَ، وأُعجِّل لك سداد الدَّين بأن أدفع فع لك نقدًا.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فمنهم مَن يجيزها ويستثنيها من الربا؛ لأن هذه الصورة ليس فيها ضَرر على أحد الطرفين، وقد حُرِّم الربا ونُهي عنه؛ لأن الضرر فيه ينصب على المدين، أمَّا الدائن فيأخذ حقَّه وزيادة باستغلاله حاجة المسكين وظروفه
(2)
.
= فيمن قاطع عبده: إنه إن جاء به إلى الأجل أو ما أشبهه فذلك له، وإلا أخر العبد شهرًا ونحوه كما يؤخر الغريم، فإن جاء به وإلا فلا قطاعة له، قال أبو الوليد: وهذا كما قال، وهو مثل ما في "المدونة" وغيرها أنه يتلوم له في، القطاعة كما يتلوم له في الكتابة إذا عجز عن أدائها، وسواء كان المقاطع عبدًا على ظاهر هذه الرواية أو مكاتبا؛ لأن قطاعة المكاتب على أن يضع عنه ويعجل له جائزة؛ لأنه يتعجل العتق بذلك، وليست الكتابة بدين ثابت فيدخله ضع وتعجل ".
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 40) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ "، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(6061).
(2)
ظاهر كلام الشارح أنه يقصد اختلافهم في المسألة عمومًا.
فمذهب الأحناف أنه لا يجوز.
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (21/ 31) حيث قال: "لو كان له عليه ألف إلى أجل؛ فصالحه منها على خمسمائة درهم ودفعها إليه لم يجز؛ لأن المطلوب أسقط حقه في الأجل في الخمسمائة، والطالب بمقابلته أسقط عنه خمسمائة، فهو مبادلة الأجل بالدراهم، وذلك لا يجوز عندنا".
وذهب المالكية كذلك إلى عدم الجواز.
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 1038)، حيث قال:"الوضع على التعجيل ممنوع منه، وصفته أن يكون على رجل دين لم يحل، فيقول لصاحبه: تأخذ بعضه معجلًا وتبرئني من الباقي، فهذا غير جائز لأمرين؛ أحدهما: أنه يدخله الربا إن كان في ذهب أو فضة أو طعام أو ما يحرم التفاضل فيه، والآخر: أنه قرض يجر نفعًا، وروي ذلك عن ابن عمر وزيد بن ثابت، وهو إجماع الصحابة وكذلك إذا عجل له بعضه قبل الأجل على إن أخره بالباقي زيادة على الأجل الأول؛ لأنه ترك ذلك الأجل للتعجيل ". =
قوله: (وَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَحْمَدُ
(2)
، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا
(3)
، وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهُ: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ رِبًا؛ لِأَنَّهُ وَمَالَهُ لَهُ).
= وكذا هو مذهب الشافعية:
يُنظر: "بحر المذهب "، للروياني (5/ 166)، حيث قال:"ولو قال: أعجل لك حقك بشرط أن أعطيك دون حقك لا يصح؛ لأنه بالتعجيل وبالجاهلية، فإنهم كانوا يزيدون في الحق لزيادة الأجل، وهذا نقصان الحق لنقصان الأجل ".
(1)
يُنظر: "فتح الوهاب "، لزكريا الأنصاري (2/ 305)، حيث قال:"وعتق المكاتب إن أدى الكل "أو عجل بعضًا" من النجوم "ليبرئه" من الباقي، "فقبض وأبرأ بطلَا "، أي: القبض والإبراء؛ لأن ذلك يشبه ربا الجاهلية؛ فقد كان الرجل إذا حَلَّ دينُه يقول لمدية: اقض أو زِد. فإن قضاه وإلَّا زاده في الدَّين وفي الأجل، وعلى السيد رد المقبوض ولا عتق ". وانظر: "البيان "، للعمراني (8/ 469).
(2)
الثابت عن أحمد القول بجواز ذلك بين العبد وسيده، لكنه منعه في غيرهما.
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه "، للكوسج (6/ 2564 - 2565)، حيث قال:"قلت: قول زيد بن ثابت رضي الله عنه: كره أن يعجل له، ويضع عنه؟ قال أحمد: أكرهه، قال إسحاق: كما قال ".
وينظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 140) حيث قال: " (ولا يصح) الصلح (عن) دين (مؤجل ببعضه) أي المؤجل (حالًّا) نصا؛ لأن المحطوط عوض عن التعجيل، ولا يجوز بيع الحلول والأجل (إلا في) مال (كتابة) إذا عجل مكاتب لسيده بعض كتابته عنها؛ لأن الربا لا يجري بينهما في ذلك (وإن وضع) رب الدين (بعض) دين (حال وأجل باقيه صح الوضع)؛ لأنه ليس في مقابلة تأجيل، كما لو وضعه كله ".
(3)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (8/ 358، 359)، حيث قال:" قال أبو جعفر: "وإذا كاتب عبدًا له على مال مؤجل، ثم صالحه قبل حلول الأجل على أن يعجل له بعض ذلك المال، ويبرأ من بقيته لم يجز ذلك فيما روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف من قوله، وأما محمد فروى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه جائز، ولم يحك خلافًا ".
قال الجصاص: " كان القياس عندهم أنه لا يجوز كسائر الديون المؤجلة، إذا وقع الصلح فيها على تعجيل بعضها، والبراءة من بقيتها
…
إلا أنهم تركوا القياس، وجعلوه كأنه حط البعض، وعجل له العبد البقية، لا على وجه العقد؛ لأن ما على المكاتب ليس بدين صحيح؛ لأنه على عبده، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح، ولأنه يمكنه إسقاطه عن نفسه بالعجز، فلما وجدوا له وجهًا في الصحة، حمل عليه ".
وكذلك الأمر بين الابن ووالده في رأي من أجاز المعاملات الربوية بين السيد وعبده؛ لأن الابن وماله لأبيه
(1)
.
قوله: (وَإِنَّمَا الْكِتَابَةُ سُنَّةٌ عَلَى حِدَتِهَا، وَأَمَّا الْأَجَلُ؛ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تكُونَ مُؤَجَّلَةً).
يعبِّر صاحب "البداية" في بعض الأحيان بتعبيرات ربما يُظَنُّ منها خلاف المقصود؛ فقوله: " اتفقوا على أنه يجوز أن تكون مؤجلة" يُفْهَم منه أن الأصل هو منع التأجيل وإيجاب الحال، والأمر خلاف ذلك؛ فالأصل أن تكون مؤجلة، ويجوز أن تكون حالة عند بعضهم.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي هَلْ تَجُوزُ حَالَّةً؟ وَذَلِكَ أَيْضًا بَعْدَ اتّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا تَجُوزُ حَالَّةً عَلَى مَالٍ مَوْجُودٍ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا قِطَاعَةً لَا كِتَابَةً)
(2)
.
واتفق الفقهاء على أن المكاتبة تجوز حالة على مال يكون عند العبد، وخرج بذلك اعتراض الشافعية والحنابلة
(3)
، وسيأتي تفصيل منع الشافعية
(1)
قاس الشارح هنا المعاملة التي تحدث بين الوالد وولده على ما يحدث بين العبد وسيده بجامع العلة بينهما من أن الابن وماله لأبيه، لكني لم أقف على من مثَّل ذلك من الفقهاء.
(2)
يُنظر: "أحكام القرآن "، لابن العربي (3/ 398، 399)، حيث قال: " إذا كاتب عبده على مال قاطعه عليه نجومًا، فإن جعله حالًّا فقد اختلف فيه السلف والعلماء على قولين، واختلف فول علمائنا باختلافهم، والصحيح في النظر: أن الكتابة مؤجلة
…
ثم إن المال إن جُعل حالًّا، فلا يخلو أن يكون عند العبد، أو لا يكون عنده شيء؛ فإن كان عنده ما قطعه عليه فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة، لا عقد كتابة، وإن لم يكن عند العبد مال لم يجز أن يجعل ما يكاتبه عليه حالًّا؛ لأنه أجل مجهول فيدخله الغرر، وتقع المنازعة عند المطالبة؛ وذلك منهي عنه شرعًا من جهة الغرر، ومن جهة الدين، مع ما فيه من مخالفة السنة".
(3)
الشافعية والحنابلة لم يدخلوا في هذا الاتفاق، فلا يقولون بالكتابة الحالة، سواء أكان للعبد مال أم لا.
يُنظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" للشيرازي (2/ 382): "ولا يجوز إلا بعوض =
والحنابلة المكاتبة في الحال؛ لإفضائه إلى تعجيز العبد؛ فيترتب على التعجيز بطلان هذه الكتابة، فيُغلق الباب الذي يوصله إلى الحرية، ولذلك شدَّد الشافعية والحنابلة في ذلك، وشرطوا أن تكون المكاتبة على أجل.
أما المالكية فخرجوا من ذلك، وقالوا: هذه قطَاعة
(1)
.
والمقاطعة - بفتح القاف وكسرها -: هي مقاطعة السيد عبده المكاتب على مال يتعجله من ذلك، وأخذ العوض منه معجَّلًا أو مؤجَّلًا.
وكأنه ما انقطع طلبه عنه بما أعطاه، وانقطع له بتمام حريته بذلك، أو قطع بعض ما كان له عنده من جملته وهذا جائز عند مالك بكل ما كان
(2)
.
= مؤجل؛ لأنه إذا كاتبه على عوض حال لم يقدر على أدائه، فينفسخ العقد ويبطل المقصود".
وعند الحنابلة:
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (2/ 334) حيث قال: "ولا تصح إلا على عوض؛ لأنها عقد معاوضة، فأشبه البيع، ومن شرطه أن يكون مؤجلًا؛ لأن جعله حالًّا يفضي إلى العجز عن أدائه، وفسخ العقد بذلك، فيفوت المقصود".
لكن يدخل في الاتفاق المالكية - لكن ظاهر كلام مالك اشتراط أن تكون منجمة - والأحناف.
مذهب الأحناف: ينظر "مختصر القدوري"(ص 179) حيث قال: "ويجوز أن يشترط المال حالًّا ومؤجلًا ومنجمًا".
وفي مذهب المالكية:
يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" لخليل (8/ 416)، حيث قال:"والكتابة عند الناس منجمة، وكذلك قال ابن القصار والأستاذ أبو بكر الطرطوشي: "إن ظاهر قول مالك لا بد من تنجيمها "، عياض: "وكذلك ظاهر كلام أبي محمد في رسالته: إن التنجيم من شرطها "، وحكى عبد الوهاب عن متأخري شيوخنا أنها تكون حالة، وهو الذي ارتضاه هو وغيره من أئمتنا ".
(1)
كما سبق في نقل كلام ابن العربي.
(2)
يُنظر "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(8/ 277)، حيث قال: " (القطاعة) بفتح القاف، وكسرها أفصح، وهي: اسم مصدر لقاطع، والمصدر المقاطعة، سميت به؛ =
وفي "الذخيرة": "الفعالة - بالفتح - للسجايا الخلقية كالشجاعة، وبكسرها للصنائع؛ كالتجارة، والخياطة، وبضمها لما يطرح؛ كالنخالة والزبالة، وهذه الاستعمالات أكثرية غير مطردة، والقطاعة: هي بيع الكتابة بشيء آخر، فهي نوع من التجارة والصناعة، فالكسر فيها أنسب ". انتهى
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا الْكِتَابَةُ: فَهِيَ الَّتِي يَشْتَرِي الْعَبْدُ فِيهَا مَالَهُ وَنَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ يَكْتَسِبُهُ).
وهذا التعريف على مصطلح المالكية، ولا بد من إضافة كلمة:"مؤجل "؛ لنُخرج خلاف الشافعية والحنابلة.
فالتعريف إذًا: إعتاق السيد عبده على مال يؤديه العبد مؤجَّلًا.
قوله: (فَمَوْضِعُ الْخِلَافِ إِنَّمَا هُوَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ حَالِّ لَيْسَ هُوَ بِيَدِهِ؟).
فمحل الخلاف إذًا في العبد الذي يطلب من سيده أن يكاتبه على مال حالٍّ وليس بيده هذا المال، ولذلك أُثر عن بعض السلف أنه إذا جاء إليه عبد من عبيده يطلب الكتابة، قال له:"من أين تأتي بالمال؟ " فإن قال: "من السؤال؟ ". قال له: "لا تُطعمني أوساخ الناس "
(2)
.
= لأنه قطع طلب سيده عنه بما أعطاه أو قطع له لتمام حريته بذلك، أو قطع بعض ما كان له عنده قاله عياض، أي: إذا عجز المكاتب عما قوطع عليه، فإن الحاكم يفسخ عقد القطاعة بعد التلوم، سواء وقعت القطاعة على مؤجل أو حال ".
(1)
يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (9/ 191) حيث قال: " قال بعض اللغويين: "كثر الفرق بين الفعالة والفعالة في موارد والاستعمال؛ فالفعالة بالضم في الفضلات والمطرحات؛ نحو: النخالة والفضالة والزبالة والكناسة، وبالفتح من السجايا والأخلاق؛ نحو: الشجاعة والسماحة والبراعة والخلاعة، وبالكسر في الحرف والصناعات؛ نحو: الخياطة والتجارة والصياغة والفلاحة، وهو كثير في الثلاثة غير مطرد".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 374) عن نافع "أن مكاتبًا لابن عمر جاءه بنجم حلَّ عليه، فقال له: "من أين جئت بهذا؟ " قال: سألت الناس، فقال: "أتيتني بأوساخ الناس تُطعمنيه؟ ". قال: فرده ابن عمر عليه، وأعتقه ".
وعن أبي ليلى الكندي: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أراد منه مملوك له أن يكاتبه، فقال:"أعندك شيء؟ " قال: "لا"، قال:"من أين لك؟ " قال: "أسأل الناس "، فأبى أن يكاتبه، وقال:" تُطعمني من غسالة الناس؟ "
(1)
.
وليس معنى ذلك تحريم هذا المال، ولكن يمتنع بعضهم عن ذلك تعفُّفًا
(2)
.
وقد ورد الخلاف في تحديد المخاطب بهذه الآية: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فهل الأمر موجه للسادة؟ - أي: أولياء العبيد -، أو هو موجه للمسلمين عمومًا؟ وسيأتي التفصيل في هذه المسألة واختلاف العلماء فيها.
قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ).
وكذلك الإمام أحمد أيضًا.
قوله: (هَذَا الْكَلَامُ لَغْوٌ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ السَّيِّدَ شَيْءٌ مِنْهُ).
وإعتبره الإمامُ الشافعي لغوًا؛ لأن النتيجة معروفة؛ فالسيد الذي يكاتب عبده على مبلغ من المال حالًّا، ولا يملك العبد شيئًا يدفعه له، فيفسد العقد بعجز العبد عن السداد ويبقى عبدًا كما هو، وهذا خلاف ما يتعلق بالحضِّ على الكتابة والترغيب فيها
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 374)، وفيه: أتى سلمانَ غلامٌ له، فقال: كاتبني، فقال:"هل عندك شيء؟ " قال: لا، إلا أسأل الناس، قال:" أتريد أن تطعمني غسالة أيدي الناس "، فكره أن يكاتبه.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 381) حيث قال: "هذا تنزه واختيار- والله أعلم - وقد كوتبت بريرة ولا حرفة لها، وبدأت بسؤال الناس من حين كوتبت ".
وينظر أيضًا في: "الاستذكار"(7/ 351) حيث قال: "والدليل على صحة ما قلنا: أن ما طاب لبريرة أخذه طاب لسيدها أخذه منها اعتبارًا باللحم الذي كان عليها صدقة، وللنبي صلى الله عليه وسلم هدية، واعتبارًا - أيضًا - بجواز معاملة الناس للسائل ".
(3)
مذهب الشافعية ينظر: "المهذب"، للشيرازي (2/ 382)، وفيه قال: " ولا يجوز =
قوله: (وَقَالَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِ مَالِكٍ).
نص الإمام القرطبي على أن رأي الإمام مالك كرأي الشافعي وأحمد، وإنما الذي قال بذلك هو الإمام أبو حنيفة صراحة
(1)
.
قوله: (قَدْ لَزِمَتِ الْكِتَابَةُ لِلسَّيِّدِ، وَيَرْفَعُهُ الْعَبْدُ إِلَى الْحَاكمِ فَيُنَجِّمُ عَلَيْهِ الْمَالَ بِحَسَبِ حَالِ الْعَبْدِ)
(2)
.
اعتراض أغلب الأئمة - ومنهم الشافعية والحنابلة - ناتج عن دليل من كتاب الله - عز وجل - أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الدليل قد يكون صريحَ الدلالة، وقد يكون غير ذلك، وربما يكون الدليل بغير نصٍّ، وربما يختلف في وجه الدلالة من النص.
وقد استدل الشافعية والحنابلة بأثر عثمان رضي الله عنه؛ فعن مسلم بن أبي مريم عن رجل قال: " كنت مملوكًا لعثمان رضي الله عنه، قال: بعثني عثمان رضي الله عنه
= إلا بعوض مؤجل؛ لأنه إذا كاتبه على عوض حال لم يقدر على أدائه، فينفسخ العقد ويبطل المقصود".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" المغني " لابن قدامة (10/ 371) حيث قال: "ولأن الكتابة عقد معاوضة، يعجز عن أداء عوضها في الحال، فكان من شرطه التأجيل، ولأنها عقد معاوضة يلحقه الفسخ من شرطه ذكر العوض، فإذا وقع على وجه يتحقق فيه العجز عن العوض، لم يصح، كما أن في التنجيم حكمتين؛ إحداهما: يرجع إلى المكاتب، وهي التخفيف عليه؛ لأن الأداء مفرقًا أسهل، والأخرى: للسيد، وهي أن مدة الكتابة تطول غالبًا".
(1)
لم أقف على قول القرطبي.
(2)
يُنظر: "القبس في شرح الموطأ" لابن العربي (ص 975، 976) حيث قال: "إذا قال له: ألزمتك مائة دينار تعطينيها وأنت حر، والعبد ليس عنده شيء. فقال الشافعي: "هذا الكلام لغو"، وقال علماؤنا: يرتفعان إلى الحاكم ينظر في ذلك، فإن أراد العبد الالتزام ألزمه الحاكم ونجمَ المال عليه على قدر حال العبد وحال المال، ونظرنا أقوى من نظر الشافعي؛ لأن السيد لما تكلم به أوجبَ للعبد حقًّا في الالتزام وسعيًا في الحرية، فلم يجز له الرجوع فيه؛ لأن هذا الحق لا يقبلُ الرجوع ولا الإسقاط كسائر الحقوق المتعلقة بالعتق ". وانظر: "المدونة"، لابن القاسم (2/ 438).
في تجارة، فقدمت عليه فأحمد ولايتي، قال: فقمت بين يديه ذات يوم فقلت: " يا أمير المؤمنين، أسألك الكتابة"، فغضب، فقال:" نعم، ولولا آية في كتاب الله ما فعلت، أكاتبك على مائة ألف على أن تعدَّها لي في عدتين، والله لا أغضك منها درهمًا "
(1)
.
فعاقبه صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة على نجمين، فلو كان هناك شيء أقل من نجمين لكاتبه عليه؛ لأنه في حال غضبٍ
(2)
.
ولذلك قال العلماء: لا تجوز المكاتبة على أقل من نجمين.
وأُثِر عن علي رضي الله عنه أنه قال: " الكتابة على نجمين" فتؤجل على مرحلتين، أو تقسط على قسطين
(3)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ المَالِكِيَّةِ: أَنَّ السَّيِّدَ قَدْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ الْكِتَابَةَ، إِلَّا أَنَّهُ اشْتَرَطَ فِيهَا شَرْطًا يَتَعَذَّرُ غَالِبًا، فَصَحَّ الْعَقْدُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ).
رُويت القاطعة في أثر لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في "موطإ الإمام
(1)
سبق تخريج هذا الأثر.
(2)
يُنظر: " التهذيب "، للبغوي (8/ 420)، حيث قال:"ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين، يروى ذلك عن علي وعثمان وابن عمر؛ روي عن عثمان، أنه غضب على عبده، فقال: " لأضيقن عليك الأمر، ولأكاتبنك على نجمين " ولو جاز على أقل من ذلك، لكاتبه على الأقل؛ لأن التضييق فيه أشد، وإنما شرطنا التنجيم؛ لأنه عقد إرفاق، ومن تتمة الإرفاق والتنجيم ليتيسر عليه الأداء، كما أن تحمل العاقلة للإرفاق، وشرط فيه التأجيل والتنجيم؛ ليتيسر عليهم الأداء ".
(3)
يُنظر: " المغني "، لابن قدامة (10/ 372)، حيث قال:"روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: " الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني ". وهذا يقتضي أن هذا أقل ما تجوز عليه الكتابة؛ لأن أكثر من نجمين يجوز بالإجماع ".
والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(4/ 394) عن علي بلفظ: " إذا تتابع على المكاتب نجمان فدخل في السنة، فلم يؤد نجومه، رد في الرق".
مالك ": " أَنَّ أَمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تُقَاطِعُ مُكَاتَبِيهَا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ "، أي: بالذهب والفضة
(1)
.
وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه لا يجوِّز الكتابة إلا بعروض التجارة؛ لأن غيرها يؤدِّي إلى ضع وتعجل
(2)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يَعُودُ بِبُطْلَانِ أَصْلِ الْعَقْدِ).
والشرط الفاسد المقصود: هو اشتراط الحالية في المكاتبة، فكونها حالة يؤدي إلى بطلان العقد؛ لأن العبد لا يستطيع أن يدفع حالًّا إلا أن يسأل الناس
(3)
.
ومن استدل بما ورد عن عائشةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: جاءت بريرة فقالت: " إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية؛ فأعينيني "، فقالت عائشة:" إن أحب أهلك أن أعدها لهم عنك عددتها ويكون لي ولاؤك فعلت "، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم ذلك، فأبوا عليها، فجاءت من عند أهلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت لعائشة:" إني قد عرضت عليهم ذلك فأبوا عليَّ إلا أن يكون الولاء لهم "، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها فأخبرته عائشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذيها
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 792) أنه بلغه: " أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقاطع مكاتبيها بالذهب والورق ".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 73) عن سفيان، أنه قال:"ولا نرى بأسًا أن يأخذ العروض، وما علمنا أحدًا كرهه إلا ابن عمر".
وأخرجه أيضا (8/ 74) عن الثوري، عن جابر، عن عطاء، عن ابن عباس "أنه سئل عن المكاتب، يوضع ويتعجل منه، فلم ير به بأسًا، وكرهه ابن عمر إلا بالعروض ".
(3)
يُنظر: "البيان "، للعمراني (8/ 418)، وفيه:" إذا كاتبه على عوض حال، توجهت المطالبة للسيد عليه به وهو معسر به؛ لأنه لا يملك شيئًا، فيفسخ السيد الكتابة، فيبطل المقصود بالكتابة".
واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاء لمن أعتق "، ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شَرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق "
(1)
.
فاشتراط الولاء للمعتق في قول الرسول لعائشة: "خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق " لا يؤثر؛ لأن ذلك في العتق لا المكاتبة
(2)
.
قوله: (كَمَنْ بَاعَ جَارِيَتَهُ وَاشْتَرَطَ أَنْ لَا يَطَأَهَا)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (2168)، ومسلم (1504/ 6).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 354) حيث قال: "وقد بان في حديث ابن عمر أن عائشة إنما أرادت شراء بريرة وعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون الولاء لهم، وفي هذا يكون الإنكار على موالي بريرة لا على عائشة؛ لأن الولاء للمعتق، ولا يتحول ببيع ولا بهبة، وفي ذلك إبطال الشرط في البيع إذا كان باطلًا وتصحيح البيع، وهذه مسألة اختلفت فيها الآثار وعلماء الأمصار".
وقال أيضًا (7/ 356): " وفي هذا الحديث دليل على أن الشرط الفاسد في البيع لا يفسد البيع، ولكنه يسقط ويبطل الشرط ويصح البيع، وهذا عند مالك- رحمه الله - في شيء دون شيء يطول شرح مذهبه في ذلك، ويأتي كل في موضعه من البيوع إن شاء الله تعالى، ومن قال من أهل العلم مَن يرى أن الشرط الفاسد يفسد البيع، ومنهم من يرى أنه لا ينعقد بيع ولا شرط أصلًا، ومنهم من يرى أن الشرط لا يضر البيع كائنًا ما كان ".
(3)
قاس الشافعية هذه المسألة على المسألة الماضية، والمنصوص عن الشافعي فيها القول بالبطلان وروي عنه بطلان الشرط وجواز البيع.
يُنظر: "البيان " للعمراني (5/ 135) حيث قال: " إذا باعه جارية بشرط أن لا يطأها، وما أشبه ذلك .. فالشرط باطلٌ، والبيع باطلٌ، هذا هو المنصوص للشافعي رحمه الله في عامة كتبه، وبه قال أبو حنيفة، وروى أبو ثور عن الشافعي: " أن الشرط باطلٌ، والبيع صحيح "، وهو قول ابن أبي ليلى، والحسن البصري، والنخعي رحمهم الله، واحتجوا بحديث عائشة في شرائها لبريرة بشرط أن تعتقها، ويكون الولاء لأهلها، وقال ابن سيرين. " الشرط صحيح، والبيع صحيح "، دليلنا: ما روي: " أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط".
وهذا مثال للشرط الفاسد كأن يبيع جاريته، ويشترط على سيدها الجديد ألا يطأها، فيريد أن يمنعه سببًا اشتراها من أجله، بل ربما يكون أول الأسباب، وقد أحله الله سبحانه وتعالى قال تعالى:{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهذا الشرط باطل؛ لأنه تعارض مع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان باطلًا.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَدَّى إِلَى عَجْزِهِ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ، وَحَاصِلُ قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ أَرْكَانِهَا أَنْ تَكُونَ مُنَجَّمَةً، وَأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ فِيهَا ضِدَّ هَذَا الرُّكْنِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْعَقْدُ)
(1)
.
فالمالكية إذًا يسلمون بأن من شروط الكتابة أن تكون منجمَّة، ولو شُرط أن تكون حالة صح العقد وبطل الشرط.
قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: لَقَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِذَا أَدَّيْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ؛ أَنَّهُ إِذَا أَدَّاهَا فَهُوَ حُرٌّ).
فإذا قال السيد لعبده: كاتبتك على ألف دينار أو ألف درهم إذا أديتها فأنت حرٌّ، ولا خلاف بين الجمهور في حُرِّية العبد إذا أداها
(2)
.
(1)
القول بأن الكتابة عند المالكية يشترط فيها أن تكون منجمة أو أن التنجيم من أركانها ليس صوابًا، بل المذهب على جواز الكتابة الحالة، كما سبق نقله، بل إن من ذهب إلى أن القول باشتراط التنجيم قول مالك في " المدونة " قد أوِّل ذلك.
يُنظر: "شرح مختصر خليل " للخرشي (8/ 140) حيث قال: "وظاهر " المدونة " عند القاضي عياض وغيره: اشتراط لزوم التنجيم، لا اشتراط صحته؛ لأن المذهب أنها إذا وقعت بغير تنجيم كانت صحيحة وتنجم، وصحح ابن رشد في المقدمات جوازها حالة، فعليه فهذا الافتراض الذي ذكره المؤلف غير متصور".
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (8/ 269)، حيث قال:"قال أبو جعفر: "ومن قال لعبده: إذا أديت إلي ألف درهم فأنت حر: كان العبد بهذا القول مأذونًا له في التجارة، وإن أدى إلى مولاه ألف درهم كما قال: =
واختلفوا لو قال السيِّد لعبده: كاتبتك على ألف درهم، دون أن يشير إلى الحرية، ثم أدَّى العبد المبلغ؛ فالجمهور يحكمون بحرِّيته، وهم أبو حنيفة ومالك وأحمد، وخالفهم الشافعي في ذلك؛ لاشتراطه النص على الحرية؛ لاحتمال أن يكون مراده غير الكتابة، فالأمر يرجع إلى نيته.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ لَهُ: قَدْ كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَسَكَتَ؛ هَلْ يَكُونُ حُرًّا دُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: فَإِذَا أَدَّيْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
).
وكذلك الإمام أحمد رحمه الله
(3)
.
= عتق، وإن أحضر الألف إلى مولاه، فأبى مولاه قبول ذلك منه: أجبر على ذلك ". ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التهذيب في اختصار المدونة "، للبراذعي (2/ 516)، حيث قال:"ومن قال لعبده: إن جئتني، أو متى ما جئتني، أو متى ما أديت إليَّ، أو إن أديت إلي ألف درهم، فأنت حر، فإنه إذا أتى بألف درهم أعتق، وإن لم يأت بها فهو عبد ".
ومذهب الشافعية، يُنظر. "نهاية المطلب "، للجويني (7/ 89)، حيث قال:" إذا قال لعبده: أنت حرٌّ على ألف، فقبل متصلًا، أو قال: إن ضمنت لي ألفًا، فأنت حر، فضمن متصلًا، عَتَقَ في الحال، ولزمه الألف، وثبت عليه الولاء".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الشرح الكبير على متن المقنع "، لأبي الفرج المقدسي (12/ 281)، حيث قال:" فإذا قال: أنت حر على أن تعطيني ألفًا، فالصحيح أنه لا يعتق حتى يقبل، فإذا قبل عتق ولزمه الألف، فأما إن قال: أنت حر بألف لم يعتق حتى يقبل ويلزمه الألف ".
(1)
يُنظر: " الإشراف على نكت مسائل الخلاف "، للقاضي عبد الوهاب (2/ 999)، حيث قال:" إذا قال لعبده: كاتبتك على كذا وكذا، كان ذلك صريحًا في الكتابة وإن لم يقل: فإذا أديت ذلك عتقت، هكذا يجيء على المذهب ".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع "، للكاساني (4/ 134)، حيث قال:" أما ركن المكاتبة؛ فهو الإيجاب من المولى، والقبول من المكاتب، أما الإيجاب: فهو اللفظ الدال على المكاتبة، نحو قول المولى لعبده: كاتبتك على كذا، سواء ذكر فيه حرف التعليق بأن يقول: على أنك إن أديت إلي فأنت حر أو لم يذكر عندنا ".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 599)، حيث قال: " (وتنعقد) الكتابة (بـ) قول سيد لرقيقه (كاتبتك على كذا مع قبوله)، أي: الرقيق الكتابة؛ لأنه لفظها =
قوله: (هُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْكِتَابَةِ لَفْظٌ شَرْعِيٌّ، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ).
فبمقولة: كاتبتك على ألف، ثم تأدية الألف يصير العبد حرًّا؛ لأن حقيقة المكاتبة: تأدية العبد ما عليه من نجوم.
قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ).
وهم الشافعية.
قوله: (لَا يَكُونُ حُرًّا حَتَّى يُصَرِّحَ بِلَفْظِ الْأَدَاءِ، وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ).
فالنية تكفي عند الشافعية؛ فإذا نوي السيد ذلك أجزأه، وليس شرطًا عندهم أن يصرِّح بالأداء، وبعض الشافعية يشترطون النية؛ فلو قال السيد للعبد بإطلاق: كاتبتك على ألف، ولم ينوِ؛ فلاحتمال أن يكون المراد أن يعتقه أو غير ذلك؛ ففي هذه الحالة لا بد من التنصيص على اشتراط الحرية بأداء ما اتُّفق عليه، أو النية مقترنةً بالعقد المتفق عليه
(1)
.
= الموضوع لها فانعقدت بمجرده (وإن لم يقل) السيد لرقيقه (فإذا أديت) إلي ما كاتبتزك عليه (فأنت حر)؛ لأن الحرية موجب عقد الكتابة، فتثبت عند تمامه كسائر أحكامه، ولأن الكتابة عقد وضع للعتق بالأداء، فلم تحتج إلى لفظ العتق كالتدبير".
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 152)، حيث قال: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يعتق حتى يقول في الكتابة فإذا أديت كذا فأنت حر، أو يقول بعد ذلك: إن قولي كاتبتك كان معقودًا على أنك إذا أديت فأنت حر، كما لا يكون الطلاق إلا بصريح أو ما يشبهه مع النية "، قال الماوردي:"وهذا كما قال، لفظ الكتابة كناية لا يتحرر به العتق عند الأداء، إلا أن يقترن بها لفظ صريح في العتق، أو نية يريد بها العتق، فالصريح: أن يقول في عقد الكتابة: فإذا أديت آخرها فأنت حر، والنية أن يقول بعد الكتابة: قد كان قولىِ كاتبتك معقودًا على أنك إن أديت آخرها فأنت حر، فإن لم يقترن بعقد الكتابة أحد هذين لم يتحرر بها العتق ".
قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْكَ أَلْفُ دِينَارٍ).
وهذه الصيغة المذكورة ليس فيها اشتراط؛ لذلك اختلف فيها العلماء؛ فبعضهم حكم بحريته، وبعضهم فصل وقال: إن هذه الصيغة محتملة لإرادة الحرية وعدم الإلزام بالألف دينار، أو محتملة لاشتراط سداد الألف دينار حتَّى يعتق؛ فلا يعتق إلا بعد دفع الألف دينار.
وأمَّا إن قال: أنت حر على أن عليك ألف دينار، أو بعبارة أخرى: أنت حرٌّ على ألف دينار؛ فكلمة: "على" تضمن معنى الشرط، وقد مر بنا أن "على" قد يُفهَم منها الوجوب أحيانا، ولكن الصيغة السابقة قد وقع فيها الخلاف بعكس الأولى؛ وسيأتي تفصيل ذلك.
قوله: (فَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي ذَلِكَ).
أي: مذهب الإمام مالك رحمه الله.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ حُرٌّ وَالْمَالُ عَلَيْهِ كغَرِيمٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ، وَقِيلَ: الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ؛ فَإِن اخْتَارَ الْحُرِّيَّةَ لَزِمَهُ الْمَالُ وَنَفَذَتِ الْحُرِّيَّةُ، وَإِلَّا بَقِيَ عَبْدًا، وَقِيلَ: إِنْ قَبِلَ كَانَتْ كِتَابَةً يُعْتَقُ إِذَا أَدَّى).
أي: أن الأمر موقوف على موافقة العبد، فإن قال: نعم صار حرًّا، وتكون هذه كالرِّواية الأولى عند الحنابلة، وبين المقولتين خلاف؛ فالأولى له فيها قول واحد
(1)
، أما الثانية
(2)
: فله فيها قولان؛ الأول: هو حر وليس عليه شيء، والثانية: تقييد ذلك بموافقة المملوك؛ فإن قبل العبد صار حرًّا، وإلا فلا
(3)
.
(1)
يقصد بالأولى: إذا قال: أنت حر وعليك ألف، ففيها قول واحد في المذهب.
(2)
ويقصد بالثانية: إذا قال: أنت حر على ألف.
(3)
يُنظر. "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (8/ 4494)، حيث قال: "إذا قال السيد لعبد: أنت حر على ألف، فلم يقبل العبد، اختلفت الرواية في ذلك =
قوله: (وَالْقَوْلَان لِابْنِ الْقَاسِمِ
(1)
، وَتَجُوزُ الْكِتَابَةُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى عَمَلٍ مَحْدُودٍ).
الكتابة - كما هو معلوم - عن معاوضة، فهي كالبيع، فكتابة السيد عقدًا على أن يدفع له العبد مالًا عوضًا عن حريته هو عقد معاوضة.
والعقد: أي: ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يظهر أثره في محله.
وقوله: " وتجوز الكتابة على عمل محدود عند مالك " وكذلك عند الإمام أحمد؛ لأنهم قسَّموا الإجارة على قسمين: إما أن تكون الإجارة على منفعة الأعيان، أي: على عوضٍ يكون ثمنًا، وإما أن يكون العوض عملًا، ومثال ذلك قصة شعيب عليه السلام حين قال لموسى عليه السلام:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27]، فالإجارة إذًا تكون مقابل ثَمن يدفعه المستأجِرُ للمُستَأجر، كمن استُؤجر ليحفر بئرًا مقابل عوض معين، وقد تكون الأجرة عملًا يقوم به المستأجر؛
= عن الإمام أحمد رحمه الله إلى روايتين؛ إحداهما: لا يقع العتق، وهو ظاهر رواية ابن منصور هذه. والثانية: يقع العتق قَبِل العبد أو لم يَقْبل، نص عليه في رواية مهنا وحنبل، إذا قال لعبده: قد أعتقتك على ألف، فقال العبد: لا أرضى، يعتق العبد، ولا يكون عليه شيء؛ لأنه قد وجب عليه حين قال قد أعتقك ".
(1)
يُنظر: "التبصرة"، للخمي (8/ 3831، 3832)، حيث قال:"واختلف إذا أعتق عبده على مال جعله عليه، فقال: أنت حر وعليك مائة دينار، قال مالك وأشهب: "هو حر وعليه مائة دينار". وقال ابن القاسم وسعيد بن المسيب: "هو حر ولا شيء عليه من المال ". قال عبد الملك بن الماجشون في كتاب ابن حبيب: " العبد بالخيار فإن رضي كان حرًّا وأتبع بالمال، وإن كره كان رقيقًا"،
…
أما قوله: أنت حر وعليك مائة. فقول مالك فيها أحسن، فيجبر العبد على أداء ذلك المال متى قدر عليه؛ لأن السيد لم يدخل عليه بذلك ضررًا، وقد كان له أن يأخذ ذلك منه مع بقائه في الرق، ولم يزده بالعتق إلا خيرًا".
ولذلك صحَّت عند المالكية والحنابلة؛ لأنهم قاسوها على الإجارة
(1)
.
قوله: (وَتَجُوزُ عِنْدَهُ الْكِتَابَةُ الْمُطْلَقَةُ).
والكتابة المطلقة كالإجارة المطلقة؛ كأن تقول: أجَّرتك هذه الدار سنة أو شهرًا دون تحديد لبداية التأجير؛ فجمهور العلماء أجازوا ذلك، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد، فقالوا: يجوز؛ لأنها مقابل عوض، ويستدلون بقول الله تعالى:{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} فلم يذكر ابتداء المدة وعليه يجوز أن تكون بدايتها مطلقة.
واستدلَّ المالكية عن طريق القياس على النكاح، لكن دليل الجمهور على جواز الكتابة المطلقة هو قياسها على الإجارة المطلقة، ولمَّا كانت الكتابة مقابل عمل هنا، وأحد شطري الإجارة العمل؛ صحَّ قياس الكتابة على الإجارة.
ولما كانت الإجارة عند جمهور العلماء جائزة على عمل مطلق
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"الجامع لمسائل المدونة "، لابن يونس (8/ 903)، حيث قال:"ومن "المدونة" قال مالك: "ولا بأس أن يستأجر السيد مكاتبه بما عليه من الكتابة في عمل يعمله، أو يقاطعه على أن يحفر له بئرًا طولها كذا ويبني له بيتًا طوله كذا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (10/ 375، 376)، وفيه قال:"وتصح الكتابة على خدمة ومنفعة مباحة؛ لأنها أحد العوضين في الإجارة، فجاز أن تكون عوضا في الكتابة، كالأثمان، ويشترط العلم بها، كما يشترط في الإجارة ".
وتجوز عند الأحناف استحسانًا لا قياسًا.
يُنظر: "الأصل المعروف بالمبسوط "، للشيباني (6/ 200 - 201)، حيث قال: قلت أرأيت رجلًا كاتب عبدًا له على أن يخدمه شهرًا؛ هل تجوز هذه المكاتبة قال: "نعم "، قلت:" لم والخدمة غير معلومة؟ " قال: " أستحسن ذلك، ألا ترى أنا نجيز المكاتبة على مال ليس بمعلوم؟ " قلت: "وكذلك لو كاتبه على أن يبني له دارًا قد أراه أجرها وجصها وما يبني بها، وكذلك على أن يحفر له بئرًا قد وقها وسمى طولها وقدرها، وأراه المكان؟ " قال: " نعم، هذا أيضًا في الاستحسان جائز".
فكذلك الكتابة تجوز على عمل مطلق؛ فألحق الفرع بالأصل؛ فالأصل هو الإجارة، والفرع هو الكتابة، والجامع بينهما هو الخدمة أو جواز الخدمة فيهما، أما الإمام الشافعي فمنع ذلك
(1)
.
قوله: (وَيُرَدُّ إِلَى أَنَّ كتَابَةَ مِثْلِهِ كَالْحَالِ فِي النِّكَاحِ)
(2)
.
أي: يقاس على النكاح؛ فيشترط في النكاح: المهر فإما أن يسمى أو لا يسمى؛ فإذا سُمِّي المهر وجبَ المسمى، وإن لم يسمَّ رُجع فيه إلى مهر المثل؛ فإذا جهل المسمى رُجع إلى المثل، وهذا هو المطلق، لكن
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:" النتف في الفتاوى"، للسغدي (1/ 425)، حيث قال:"فأما الذي كاتب عبد نفسه جميعًا بنجم واحد أو بنجوم، وهو أن يقول الرجل لعبده: كاتبتك على ألف درهم إلى سنة أو إلى شهر، أو يقول كاتبتك على ألف درهم إلى عشرة أشهر تؤدي إلى كل شهر مائة درهم جاز، ولو قال: في الحصاد أو إلى الدياس أو إدراك الزرع جاز ذلك؛ لأنها تتقارب ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" التبصرة "، للخمي (8/ 3967)، حيث قال:" لو قال: أكاتبك على خدمة هذا الشهر أو على خدمة شهر جاز".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان "، للعمراني (8/ 419)، حيث قال:" قال الشافعي رحمه الله: " ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر"، وهذا ينظر فيه: فإن كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر بيوم أو يومين .. صح، ومن شرط الشهر أن يكون متصلًا بالعقد، كما قلنا في الإجارة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (10/ 376)، حيث قال:" فإن كاتبه على خدمة شهر ودينار. صح، ولا يحتاج إلى ذكر الشهر، وكونه عقيب العقد؛ لأن إطلاقه يقتضي ذلك، وإن عين الشهر لوقت لا يتصل بالعقد، مثل أن يكاتبه في المحرم على خدمته في رجب ودينار، صح أيضا، كما يجوز أن يؤجره داره شهر رجب في المحرم، وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز على شهر لا يتصل بالعقد، ويشترطون ذكر ذلك، ولا يجوزون إطلاقه؛ بناء على قولهم في الإجارة".
(2)
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (2/ 552)، حيث قال:"ومن كاتب عبده على وصفاء حمران أو سودان ولم يصفهم، جاز، وله وسط من ذلك الجنس كالنكاح، وإن كاتبه على وصيف أو وصيفين ولم يصف ذلك جاز، وله الوسط من ذلك، وإن أوصى أن يكاتب عبده ولم يسم شيئًا كوتب بقدر كتابة مثله في أدائه وخراجه ".
التعليلات التي ذكرها الآخرون أوضح، فألحقت الكتابة بالإجارة لجامع بينهما كما مر.
ومن المعلوم فيما أطلق من عقود المكاتبة أن بدايته كحال الإجارة، فمن قال- مثلًا -: كاتبتك مدة سنة، كانت بداية العقد ساعة الانتهاء من كتابته، كمن قال: أجَّرتك هذه الدار سنة، فيكون بداية العقد بعد الانتهاء من الكتابة.
أما الشافعية فيشترطون تحديد البداية؛ كأن يقول: أجَّرتك هذه الدار مدة شهر يبدأ مثلًا من أول شهر ذي القعدة، والجمهور لا يشترطون تحديدًا لبداية العقد؛ لأن العقد هو الذي يرفع الخلاف ويعتبر بداية
(1)
.
قوله: (وَتَجُوزُ الْكِتَابَةُ عِنْدَهُ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَعْنِي: كِتَابَةَ مِثْلِهِ فِي الزَّمَانِ وَالثَّمَنِ، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: إِنَّهُ تَجُوزُ عِنْدَهُ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ).
وقد ذكرنا فيما سبق عدم الجواز؛ لأنه غالبًا ما يؤدي إلى فساد العقد، وهو خلاف المقصد الذي أرشدت إليه الشريعة الإسلامية من الرفق والمساعدة والحض على الكتابة التي تفضي إلى عتق هذا الإنسان.
قوله: (وَاخْتُلِفَ: هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَضَعَ السَّيِّدُ مِنْ آخِرِ أَنْجُمِ الْكِتَابَةِ شَيْئًا عَنِ الْمُكَاتِبِ؟).
وهذه مسألة جديدة، والخلاف فيها يدور حول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ
…
} الآية، فبعضهم صرف الأمر إلى الوجوب وبعضهم إلى الندب، وذكرنا أن الجمهور لا يوجبون الأمر في هذه الآية، بل يصرفونه إلى الندب، وأن أهل الظاهر يوجبونه.
قوله: (لِاخْتِلَافِهِمْ فِي مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]).
(1)
سبقت هذه المسائل.
يترتَّب على قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} عدة أحكام، أشار إليها المؤلف دون أن يبينها بنوع من التفصيل، وقد اختلفوا في مفهوم الآية بسبب إجمالها، وليس من منهجنا أن نتناول كل مسألة فنتوسع فيها ونفصلها تفصيلًا حتَّى لا يطول الكتاب أكثر.
وفي الآية أمران:
الأول: {فَكَاتِبُوهُمْ} ، والثاني:{وَآتُوهُمْ} ، واختلاف العلماء في هذه المسألة أو هذه الآية يندرج تحته عدَّة أمور:
أوَّلاً: هل الخطاب موجَّه في الآية إلى السادة أو هو أشمل من ذلك؟
ثانيًا: حكم إيتاء العبد المملوك مالاً لمساعدته على عتق نفسه.
ثالثًا: جنس المساعدة المقدمة إليه، ومقدارها.
رابعًا: هل هناك وقت للوجوب ووقت للجواز؟
1 -
قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} اختُلف في المراد من الخطاب في هذه الآية بين أن يكون الأمر خاصًّا بالسادة أم يتجاوزهم إلى غيرهم؟ ولا شك أن السادة يدخلون فيه دخولًا أوليًّا؛ فمن العلماء من قال: المراد هم السادة، ومنهم من قال - كالحسن البصري
(1)
، وإبراهيم النخعي -: بأن الأمر يشمل جميع المسلمين
(2)
، وذهب زيد بن أسلم إلى أن المخاطبين بذلك هم الولاة، والمراد: أن يعطوهم حظوظهم
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 385)، حيث قال: وأما الذين ذهبوا إلى أن ذلك لم يخاطب به سادات المكاتبين، وإنما خوطب به سائر الناس في عون المكاتبين؛ فمنهم بريدة الأسلمي رواه الحسن بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه في قوله تعالى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، قال:"حث الناس على أن يُعينوا المكاتب "، وعن مجاهد مثله، وعن الحسن قال:"حضوا على أن يعطوا المكاتب والمولى منهم ".
(2)
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(8/ 376) عن الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"هذا شيء حث الناس عليه في قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} في المولى وغيره ".
مما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ}
(1)
، وقال: هم المكاتبون
(2)
.
2 -
أما حكم الإعانة والمساعدة الوارد في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، فاختلف العلماء فيه؛ فذهب الإمامان الشافعي ومالك إلى وجوب ذلك، وأن الآية على ظاهرها، وعرضوا ذلك بتفسير علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ، عَنْ عَلِيٍّ: فِي قَوْل اللَّه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: "رُبُع الْكِتَابَة يَحُطُّهَا عَنْهُ "
(3)
، ورفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رفع ذلك فيه نظر، وجاء عن عبد الله بن عباس - حبر الأمة- أنه قال بعد تلاوة الآية:"ضعوا عنهم من مكاتبتهم "
(4)
، فتوافق تفسير عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس بأن المراد هو إعطاء المكاتبين؛ ومن هنا حصل الخلاف بين القائلين بالوجوب وهم الشافعية والحنابلة.
أما الحنفية والمالكية: فصرفوا الأمر في الآية للندب، وأنه لا يجب على السيد أن يعطي مكاتبه، وإن أعطاه فمن باب الإحسان والبِرِّ وعدم نسي الفضل بينهما
(5)
.
(1)
أخرجه ابن وهب في "تفسيره"(1/ 53) عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قول الله:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} ، قال: الخير: القوة على ذلك قال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، قال:"ذلك في الزكاة على الولاة يعطونهم من الزكاة لقول الله: {وَفِي الرِّقَابِ} ".
(2)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (7/ 207) حيث قال: "ذكر الكلبي أن المراد به دفع الصدقة إلى المكاتبين، فيكون هذا خطابًا للناس بصرف الصدقة إلى المكاتبين ليستعينوا بذلك على أداء المكاتبة، كما قال في بيان مصارف الصدقات وفي الرقاب، والمراد: المكاتبون، والدليل عليه: أنه قال {مِنْ مَالِ اللَّهِ}، والمال المضاف إلى الله تعالى مطلقًا هو الصدقة".
(3)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(17/ 283).
(4)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(17/ 285).
(5)
مذهب الأحناف ينظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (5/ 150)، حيث قال: "والأمر في=
3 -
ثم اختلفوا بعد ذلك في القدر الذي يُعطى للمملوك، لا من حيث الإعانة نفسها؛ فالإعانة متَّفق عليها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثةٌ حَقّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمُ: الْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالْمُتَزَوِّجُ بُرِبدُ الْعَفَافَ، وَالْمُجَاهِدُ
= الآية للندب عند الفقهاء، حتى لا يجب على المولى أن يكاتب عبده، وقال بعض مثايخنا:"وهو للإباحة، واشتراطه علم الخير فيهم خرج على وفاق العادة؛ فإن العادة جرت على أنه لا يكاتب إلا إذا علم فيه الخير، وقد يكون الأمر للإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} "، قلنا:"الأمر يكون للندب، وهو الظاهر هنا بدليل ما بعده من قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فإنه للندب فكذا الكتابة". ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (1753)، حيث قال:"قوله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} هو على الندب لا على الوجوب، ومعناه عند مالك رحمه الله أن يضع عنه من أجر كتابته شيئًا يتعجل به عتقه، والذي يدل عليه أنه غير واجب: أن الله لم يحد فيه حدًّا في كتابه ولا على لسان نبيه عليه السلام ولو كان فرضًا لكان محدودًا؛ لأن الفرض لا يكون غير محدود بكتاب أو سنة، فلما لم يوجد ذلك في الكتاب، ولا ثبت فيه خبر مرفوع عن النبي عليه السلام دل على أن الناس يؤمرون به، ولا يجبرون عليه بالحكم، كالمتعة التي أمر الله بها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع "، للشربيني (2/ 654)، حيث قال:" (و) يجب (على السيد أن يضع) أي يحط عنه، أي مكاتبه (من مال الكتابة) الصحيحة (ما) أي: أقل متمول أو يدفعه له من جنس مال الكتابة، وإن كان من غيره جاز، والحط أو الدفغ قبل العتق (يستعين به) على العتق، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فسر الإيتاء بما ذكر؛ لأن القصد منه الإعانة على العتق ". وانظر: "الوسيط "، للغزالي (7/ 522).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 609)، حيث قال:" (ويلزم أن يؤدي) السيد (إلى من أدى كتابته) كلها (ربعها) أما وجوب الإيتاء بلا تقدير فلقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}، وظاهر الأمر الوجوب، وأما كونه ربع مال الكتابة؛ فلما روى أبو بكر بإسناده عن علي مرفوعا في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] قال "ربع الكتابة"، وروي موقوفًا عن علي، ولأنه مال يجب إيتاؤه بالشرع مواساة فكان مقدرًا كالزكاة، وحكمته: الرفق بالمكاتب، وفارقت الكتابة في ذلك سائر العقود؛ لأن القصد بها الرفق بالمكاتب بخلاف غيره ".
فِي سَبِيلِ اللَّهِ "
(1)
، فلا شكَّ أن الذي يقاتل في سبيل الله قد باع نفسه لله سبحانه وتعالى يبتغي بذلك مرضاة الله عز وجل، وأن المكاتَب الذي يريد الوفاء لا المماطلة من أحقِّ النَاس للمعونة؛ لأنه يريد أن يخرج من ظلمة الرِّق إلى نور وضياء الحرية؛ فإذا كان الله سبحانه وتعالى يعين هؤلاء ففي ذلك أكبر حضٍّ على إعانتهم.
ومن هنا اختلف العلماء في قدر الإعانة؛ فأُثر عن عليِّ بن أبي طالب الرُّبع
(2)
. وبه قال الإمام أحمد وجماعة من التابعين.
وقال آخرون: إن الواجب هو العشر
(3)
.
ومن العلماء مَن لم يحدَّ في ذلك حدًّا، كالإمام الشافعي رحمه الله مع قوله بالوجوب، وقد تمسك بتفسير عبد الله بن عباس بأن يُعطى شيئًا
(4)
، والشيء يُطلق على القليل
(5)
.
وهذا أيضًا قول الحنفية والمالكية، وقالو: أقلّ ما يطلق عليه شيئًا
(1)
أخرجه الترمذي (1655) وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني في المشكاة (3089).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 376) عن الثوري، عن عبد الأعلى قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي وشهدته كاتب عبدًا له على أربعة آلاف، فحط عنه ألفًا في آخر نجومه، ثم قال: وسمعت عليَّا يقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قال: "الربع مما تكاتبونهم عليه ".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 378) حيث قال: "قدر ما يوضع عن المكاتبه هو الربع، ذكره الخرقي، وأبو بكر، وغيرهما من أصحابنا، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وقال قتادة: العشر".
(4)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 378)، حيث قال: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئًا".
(5)
يُنظر: "المهذب"، للشيرازي (2/ 388)، حيث قال: واختلف أصحابنا في القدر الواجب؛ فمنهم من قال: ما يقع عليه الاسم من قليل أو كثير، وهو المذهب؛ لأن اسم الإيتاء يقع عليه، وقال أبو إسحاق:"يختلف باختلاف قلة المال وكثرته؛ فإن اختلفا قدره الحاكم باجتهاده كما قلنا في المتعة، فإن اختار الدفع جاز بعد العقد للآية".
يؤخذ من الآية، ويستفاد من اللغة العربية بيان بعض الأحكام ودلالات الآيات؛ فالله سبحانه وتعالى يقول:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} فأقل شيء يعطى للمملوك لا بد أن يسمى أوتي من مال الله
(1)
.
والخلاصة: أنَّ بعض العلماء قد حدَّه بقدر معين كالربع والعشر، ومنهم من أطلقه، وقد أُثِر عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبدًا من عبيده على خمسة وثلاثين ألفًا فوضع عنه خمسة آلاف أي: ما يعادل السبع؛ فالأصل إذًا الحضُّ على الإعانة.
تنبيه: العقد الذي يتم بين السيد والمكاتب إنما هو عقد معاوضة، ويختلف عن العتق؛ لأنه عندما يعتق عبدًا من عبيده خالصًا لوجه الله -تعالى- فليس هناك عوضٌ في الدُّنيا، ولكنَّه طلب أن يعتِق اللهُ سبحانه وتعالى من هذا الذي أعتقه عضوًا من أعضائه من نار جهنم، كما جاء بالحديث، حتَّى أنه ليعتق اليد باليد، والرجل بالرجل، والفرج بالفرج.
فمن قال بالوجوب من العلماء وجَّه ذلك بأن هذا العقد عن معاوضة؛ لأن المكاتب يدفع إلى سيده شيئًا منجَّمًا، ثم إذا تمت تلك الأنجم ووفَّى المكاتب ما عليه تحرر من العتق، ويكون ولاؤه لهذا السيد،
(1)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 1466)، حيث قال:"يستحب للسيد أن يضع عن المكاتب شيئًا من آخر كتابته على قدر ما تطيب به نفسه، والأصل فيه:- قوله تعالى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}، فجاء في أكثر التفاسير أنه وضع شيء من الكتابة".
ومذهب الأحناف: صرفوا الآية إلى معنى الصدقة.
يُنظر: "البناية شرح الهداية" لبدر الدين العيني (10/ 364) حيث قال: "والتحقيق: أن دلالة الآية على ما ادعاه حقيقة جدًا؛ لأنه قال: {مِنْ مَالِ اللَّهِ} وهو يطلق على أموال القرب كالصدقات والزكاة، فكأن الله أمرنا أن نعطي المكاتبين في صدقاتنا؛ ليستعينوا به على أداء الكتابة، والمأمور به: الإيتاء وهو الإعطاء، والحط لا يسمى إعطاء، والمال الذي آتانا الله هو في أيدينا لا الوصف الثابت في ذمة المكاتبين، فحمله على حط شيء من بدل الكتابة عمل بلا دليل "، وانظر:"حاشية الشلبي على تبيين الحقائق "، للزيلعي (5/ 151).
والسيد قد أخذ مقابلًا لهذا العتق، فكان الأولى والأجدر أن يعينه في ذلك؛ لأن الولاء سيكون له، وهذا لا مقابل عليه.
ولا شكَّ أن السيد الذي كاتب مملوكه مثاب؛ لأنه قد فتح له الطريق، وأنار له السبيل، ودفعه إلى طريق الحرية، وأعانه على ذلك، ومكَّنه من العمل حتى يجمع ويسدد ما عليه، ولا شكَّ أنه عمل من أعمال البر والإحسان أيضًا والتقوى والصلاح.
4 -
أما جنس الإيتاء الذي يقدم للملوك؛ فلا شكَّ أن الأولى في ذلك أن يضع السيد عنه شيئًا مما عليه، وهذا فعل الصحابة رضي الله عنهم، وفي تفسير علي بن أبي طالب قال:"رُبُع الْكِتَابَة يَحُطُّهَا عَنْهُ"
(1)
، وابن عباس قال:"ضعوا عنهم من مكاتبتهم"
(2)
، وابن عمر طبَّق ذلك تطبيقًا عمليًّا، فخفف عن مملوكه ووضع عنه خمسة آلاف من خمسة وثلاثين ألفًا
(3)
.
ولا شَكَّ أن خير مَن يقتدى بهم، ويُؤخذ بآرائهم، ويُتمسَّك بها، ويُعض عليها بالنواجز هم الصحادة رضي الله عنهم، الذين مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم، وأوصى بهم خيرًا، فقال:"فَعَلَيْكمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"
(4)
، وقال:"اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُم، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَن آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ، فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذهُ"
(5)
، وهم الَّذين أثنى الله -تعالى- عليهم في كتابه وزكاهم خير تزكية، فهم خير من يُقتدى به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه البيهقي في الكبرى (10/ 555) عن نافع عن ابن عمر: "أنه كاتب عبدًا له بخمسة وثلاثين ألفًا، ووضع عنه خمسة آلاف، أحسبه قال: من آخر نجومه لفظ حديثهما سواء".
(4)
أخرجه أبو داود (4607)، وغيره، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(165).
(5)
أخرجه الترمذي (3862) وغيره، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(2901).
5 -
أما وقت جواز المساعدة: فمن حين أن يتم العقد بين السيد ومكاتبه، فللسيد أن يضع شيئًا عنه.
أما وقتُ الوجوب: فعند العتق، لكن بعض العلماء فضَّل أن يؤخر الوضع؛ حتَى تبقى الهمَّة والنشاط عند المكاتب؛ حتَّى يبذل جهده، ويسعى سعيًا حثيثًا في جمع المال حتَّى يحرر نفسه؛ لأنه ربما لو أُعطي هذا المال في أول الأمر تقاعس وضعف عن الكسب والجد والنشاط؛ فيكون أثر ذلك عليه
(1)
.
وبعضهم يقول: إن الأولى أن يعطيه في أول الأمر؛ لعدم ضمان حياة السيد.
والخلاصة: أن المسارعة في ذلك من أعمال الخير والإحسان؛ فينبغي أن يُساعد أمثال هؤلاء
(2)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 383) حيث قال: قال مالك: "وسمعت بعض أهل العلم يقول في قول الله تبارك وتعالى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}: إن ذلك أن يكاتب الرجل كلامه ثم يضع عنه من آخر كتابته شيئًا مسمًى، قال مالك: فهذا الذي سمعت من أهل العلم وأدركت عمل الناس على ذلك عندنا". قال مالك: "وقد بلغني أن عبد الله بن عمر كاتب غلامًا له على خمسة وثلاثين ألف درهم، ثم وضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم ". وانظر: "أحكام القرآن "، لابن العربي (3/ 401).
(2)
وعند الشافعية والحنابلة وقتان.
مذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 190)، حيث قال: "فأما الوقت: فله وقتان: وقت جواز ووقت وجوب، فأما وقت الجواز: فمن وقت عفد الكتابة إلى ما بعد العتق فيها. فأما ما تقدم من العقد، فلا يجزئ ما تقدمه فيه؛ لأنه لم يوجد لها سبب يتعلق به التعجيل، فأما وقت الوجوب؛ ففيه وجهان:
أحدهما: بعد العتق، كالمتعة التي تستحق بعد الطلاق، وليكون معانًا في وقت لا حجر عليه فيما يعطى.
والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، أنه يجب قبل العتق، ويتعين وجوبه في آخر نجم؛ لأن الإيتاء معونة على العتق، فلم يستحق بعد العتق ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (10/ 379)، حيث قال: "في وقت جوازه، وهو من حين العقد؛ لقول الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا =
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَأَى أَنَّ السَّادَةَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ نُدِبُوا لِعَوْنِ الْمُكَاتَبِينَ).
وبإلقاء نظرة عامة إلى الشريعة الإسلامية نجد أنها تحث الجميع على الإنفاق والإحسان، ويأتي في مقدمة ذلك أصحاب الحاجات، ولا شكَّ أن من أحوج الناس الرقيقُ فهم في حاجة إلى تغيُّر أحوالهم؛ ولا شكَّ أن السادة في مقدمة من يقدمون لهم يد العون، وهم أولى الناس بمساعدة المكاتبين؛ لأن المكاتب أفنى جزءًا من عمره، وأمضى وقتًا من حياته في خدمة هذا السيد، وجمع له المال، وربما جميع ما يملك السيد من مال هو عن طريق ذلك المملوك؛ فينبغي أن يحسن إليه كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه " إِذَا جَاءَ خَادِمُ أَحَدِكُمْ بِطَعَامِهِ، فَلْيَبْدَأْ بِهِ فَلْيُطْعِمْهُ، أَوْ لِيُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَإِنَّهُ وَليَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ "
(1)
، بمعنى: أن الخادم لو صنع طعامًا لسيده، فلا شك أنه سيناله شيء من حرارة ودخان ذلك الطعام الذي تعب فيه، وشم رائحته، فعلى السيد أن يطعمه منه، وهذا من باب الإحسان.
قوله: (وَالَّذِينَ رَأَوْا ذَلِكَ اخْتَلَفُوا؛ هَلْ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟ وَالَّذِينَ قَالُوا بِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ، وَبَعْضُهُمْ حَدَّهُ).
وصاحب هذا القول الإمام أبو حنيفة ومالك، لكنَ مالكًا وأبا حنيفة لا يوجبانه، أما الشافعي فيرى الوجوب، لكنَّه لم يحدَّ قدرًا معينًا
= وَآتُوهُمْ}، وذلك يحتاج إليه من حين العقد، وكلما عجله كان أفضل؛ لأنه يكون أنفع، كالزكاة، ووقت وجوبه: وهو حين العتق؛ لأن الله تعالى أمر بإيتائه من المال الذي آتاه، وإذا آتى المال عتق، فيجب إيتاؤه حينئذ، قال علي رضي الله عنه:" الكتابة على نجمين "، والإيتاء من الثاني، فإن مات السيد قبل إيتائه، فهو دين في تركته؛ لأنه حق واجب، فهو كسائر ديونه، وإن ضاقت التركة عنه وعن غيره من الديون، تحاصوا في التركة بقدر حقوقهم ".
(1)
تقدم تخريجه.
في ذلك، والإمام أحمد حدَّد الربع أخذًا بتفسير عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: (وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: هَلْ تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُرَاهِقِ؟).
المراهق: مَن ناهز البلوغ ولم يبلغ، أو مَن قارب سن الخامسة عشر
(1)
.
المهم أنه قارب سن البلوغ، لكنه لم يصبح مكلَّفًا بعدُ.
قوله: (وَهَلْ يُجْمَعُ فِي الْكِتَابَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرُ مَنْ عَبْدٍ وَاحِدٍ؟).
كأن يكون للسيد عدد من العبيد، فهل له أن يكاتبهم جميعًا في عقد واحد؟ أم لا بد من مكاتبتهم منفردين؟ وهل جمعهم في عقد واحد يترتب عليه ضرر، أو يترتب عليه مصلحة؟ هذا ما سيبينه المؤلف رحمه الله.
قوله: (وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَةُ مَنْ يَمْلِكُ فِي الْعَبْدِ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ؟ وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَةُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّعْىِ؟ وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَةُ مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ؟ فَأَمَّا كِتَابَةُ الْمُرَاهِقِ الْقَوِيِّ عَلَى السَّعْيِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، فَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ)
(2)
.
"المراهق القوي "، أي: الذي لديه القدرة على العمل والكسب.
(1)
المراهق - بكسر الهاء -: القريب من الاحتلام، يقال: رهق، وراهق: إذا قارب الاحتلام. والمراهقة: من تسع سنين إِلى خمس عثمرة سنة. انظر: " المطلع على ألفاظ المقنع "، للبعلي (ص 361)، و"الكليات "، للكفوي (ص 871).
(2)
يُنظر: " تبيين الحقائق "، للزيلعي (5/ 149، 150)، حيث قال:"قال رحمه الله: (كاتب مملوكه ولو صغيرًا يعقل بمال حال أو مؤجل أو منجم وقَبِلَ صح)؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} الآية. مطلقة فيتناول جميع ما ذكرنا من الحال والمؤجل والصغير والكبير وكل من يتأتى منه الطلب ".
وكذلك الإمام أحمد رحمه الله
(1)
؛ لأن المراهق إذا كانت عنده قوة ومقدرة على العمل والتكسب فلا حرج، بل ينبغي أن يكاتب لاستطاعته، ويعلل من أجاز بأن له أن يبيع ويشتري ويتصرف إذا أذن له سيده؛ فما دام يجوز له التصرف بإذن من سيده وهو أهل لذلك، فكذلك يجوز له الكتابة.
قوله: (وَمَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ إِلَّا لِلْبَالِغِ).
ومنعِ الإمام الشافعي رحمه الله غير المكلَّف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الطِّفْلِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ، أَوْ يَعْقِلَ"
(2)
، فلا يزال المراهق في عداد الصغار فلم يبلغ بعدُ السن التي يصير مكلفًا فيها، ويعلل المانعون بأن الكتابة تحتاج إلى عقد، والعقد لا بد فيه من الالتزام، والالتزام تكليف، وهو خلاف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، لإخباره بأن التكليفَ مرفوع عن الصبي حتى يبلغ
(3)
.
قوله: (وَعَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا
(4)
، فَعُمْدَةُ مَنِ اشْتَرَطَ الْبُلُوغَ: تَشْبِيهُهَا بِسَائِرِ الْعُقُودِ).
(1)
يُنظر: "كشاف القناع "، للبهوتي (4/ 540)، حيث قال:" (وإن كاتب السيد عبده المميز صح) العقد؛ لأنه يصح تصرفه وبيعه بإذن وليه، فصحت كتابته كالمكلف؛ لأن تعاطي السيد العقد معه إذن له في قبوله ".
(2)
أخرجه أحمد (1183)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3512).
(3)
يُنظر: "البيان "، للعمراني (8/ 411)، حيث قال:"لا تصح الكتابة إلا من جائز التصرف في المال، فإن كاتب صبي أو مجنون عبده .. لم تصح الكتابة، دليلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق "؛ لأنه غير مكلف، فلم تصح كتابته، كالمجنون ".
(4)
يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب "، لخليل (8/ 433، 434)، حيث قال:"وفي مكاتبة الصغير والأمة اللذين لا مال لهما ولا يسعيان قولان، هذا هو الشرط الثاني، وهو أن يكون قويًّا على الأداء، فلذلك اختلف في الصغير الضعيف عن الأداء إذا لم يكن له مال، وفي الأمة كذلك، والقول بالجواز لابن القاسم، والقول بالمنع لأشهب، وهما منصوصان على أنه هو الذي اقتصر عليه مالك في " المدونة ". ".
"تَشْبِيهُهَا بِسَائِرِ الْعُقُودِ"؛ لأنه غير مكلف؛ فلا يلتزم بعقد، ولذلك يقوم على اليتيم وصي أو ولي لصغر سنه، أما إذا اختبر وعلم فيه القدرة فحينئذ يعطى الفرصة بتحمل المسؤولية
(1)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ: أَنَّهُ يُجَوِّزُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ مَا لَا يُجَوِّزُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْقُوَّةُ عَلَى السَّعْيِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْبَالِغِ
(2)
، وَأَمَّا هَلْ يُجْمَعُ فِي الْكِتَابَةِ الْوَاحِدَةِ أَكثَرُ مَنْ عَبْدٍ وَاحِدٍ؟).
واختلف العلماء فيمن كاتب مجموعة من عبيده بعقد واحد؛ فمنهم من ألزم السيد بفصل كل عبد من عبيد بعقد خاص، ومنهم من جوَّز جمعهم في عقد خاص.
قوله: (فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا بِالْجَمْعِ فَهَلْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ حُمَلَاءَ عَنْ بَعْضٍ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ).
"حملاء"، أي: يحمل بعضهم عن بعض
(3)
.
(1)
يُنظر: " العزيز شرح الوجيز" للرافعي (13/ 469)، حيث قال:" أما أنه لا يرجع بالقيمة؛ فلأن قبول الصبي والمجنون والتزامهما المال باطلان، والعقد معهما ليس بعقد؛ ولذلك لو اشترى الصبي والمجنون شيئًا، وهلك عنده لا يضمنه بعقد".
(2)
ذكر الجصاص أدلة، يُنظر:" شرح مختصر الطحاوي "، (8/ 349 - 350) حيث قال:"فقال: وذلك لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}، وهذا يدل من وجهين على ما ذكرنا؛ أحدهما: قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ}: يتضمن الكبير والصغير ممن يصح منه ابتغاء الكتابة إذا كان يعقلها، فانتظمه لفظ العموم، والثاني: قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}، ويروى عن إبراهيمٍ والحسن في قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}: صدقا ووفاء، وعن مجاهد وعطاء: مالا، وقد توجد هذه الأوصاف في بعض الصغار، فصح دخولهم في حكم اللفظ ".
(3)
الحمالة بالفتح: الدِّيَة والغرامة التي يحملها قومٌ عن قوم، وقد تطرَحُ منها الهاء، وتَحَمَّلَ الحَمالةَ، أي: حملها. الأصمعي: الحمالة الغرم تحمله عن القوم، ونحو ذلك قال الليث. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (11/ 180).
واختلف العلماء أيضًا فيما إذا كاتب شخص ثلاثة من عبيده؛ فمنهم من قال: إن كل واحد منهم مسؤول عن نفسه لتأدية ما عليه.
ومنهم من قال: بأن هناك ارتباطًا بينهم؛ لأن العقد واحد فيُلزمون به جميعًا، فإذا عجز أحدهم قام الآخر مقامه فأدَّى النقص الواقع من الآخر، وإذا عجز اثنان وكان أحدهما قادرًا أدَّى عنهما.
وإذا كانوا حملاء فربما يتضرر أحدهما ويستفيد الآخر؛ فقد يعجزون جميعًا ويكون أحدهم قادرًا على جمع المال وإخراج نفسه من الرق، لكن ارتباطه بالآخرين العاجزين في نفس العقد يتسبب في أن يبقى الجميع أرقاء.
قوله: (حَتَّى لَا يُعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِعِتْقِ جَمِيعِهِمْ؟ فِيهِ أَيْضًا خِلَافٌ، فَأَمَّا هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ؟ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ).
وقد أجاز الجمهور صورة الجمع وهي أن يكاتب السيد عددًا من عبيده في آن واحد، والمعبَّرُ عنهم بالجمهُورِ هم: أبو حنيفة
(1)
، ومالك
(2)
، وأحمد
(3)
،
(1)
يُنظر: "الأصل "، للشيباني (10/ 412، 413)، وفيه قال:"سمعت محمدًا قال: حدثنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال في الرجل يكاتب عبيده مكاتبة واحدة ويجعل نجومهم واحدة: " إن ذلك جائز". وكذلك قول أبي حنيفة وقول أبي يوسف ومحمد، ولا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع المال ".
(2)
يُنظر: " النوادر والزيادات "، لابن أبي زيد (13/ 78)، حيث قال:"ومن كتاب ابن المواز، قال مالك: "(ولا بأس أن يكاتب الرجل عبيدًا له في كتابة واحدة؛ لأنه إنما يحمل له ملكه بملكه، وكذلك له أن يكاتب كل واحد منهما في كتابة ويتحمل بعضهم ببعض، ولكن لا يتبع واحدًا منهما ولا بعض كتابة ولا يعتقه بغير إذن صاحبه ". وانظر: " الإشراف على نكت مسائل الخلاف " للقاضي عبد الوهاب (2/ 999).
(3)
يُنظر: "الكافي"، لابن قدامة (2/ 345)، حيث قال:"ويجوز أن يكاتب جماعة من عبيده صفقة واحدة بعوض واحد؛ لأن العوض بجملته معلوم، فصح، كما لو باع عبدين بثمن واحد، ويصير كل واحد منهم مكاتبًا بحصته من العوض، يقسم بينهم على قدر قيمتهم حين العقد؛ لأنه عوض، فيسقط على المعوض بالقيمة، كما لو اشترى شقصًا وسيفًا ".
والشافعي في قول له
(1)
، واتفق الإمام أحمد مع الجمهور في هذه الصورة، لكنَّه اختلف معهم في جزئية أخرى موافقًا فيها الإمام الشافعي
(2)
.
ويرى الإمام الشافعي أنه ينبغي أن يفردَ كُلُّ واحد منهم بعقد؛ لوجود الجهالة في ذلك.
ويرى الجمهور أنه لا جهالة في ذلك؛ فكما أن له أن يبيعهم في عقد واحد، وعلى شخص واحد؛ فكذلك يجوز له مكاتبتهم بعقد واحد، ومذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة
(3)
.
قوله: (وَأَمَّا هَلْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ حُمَلَاءَ عَنْ بَعْضٍ؟ فَإِنَّ فِيهِ لِمَنْ أَجَازَ الْجَمْعَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ وَاجِبٌ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، أَعْنِي: حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ).
وقال بعضهم بوجوب حمل بعضهم بعضًا بمجرَّد العقد، ما داموا جُمِعوا في عقد واحد؛ فيتحمل بعضهم بعضًا، ويكونون حملاء عن بعض دون أن يوجد شرط
(4)
.
(1)
يُنظر: "البيان "، للعمراني (8/ 420، 421)، حيث قال: "وإن كاتب رجل عبدين أو ثلاثة أعبد له بمائة درهم، في نجمين أو أكثر، بعقد واحد .. فنص الشافعي:(أن الكتابة صحيحة، وتقسم المائة بينهم على قدر قيمتهم)
…
قال أصحابنا: "وهكذا القولان في الكتابة؛ أحدهما: تصح الكتابة، ويقسم العوض المسمى عليهم على قدر قيمتهم؛ لأن جملة العوض معلوم، وإنما يجهل ما يقابل كل واحد منهم، فلم يؤثر، كما لو باع رجل ثلاثة أعبد له من رجل بعوض، والثاني: لا تصح الكتابة"، قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، وعقد الواحد مع الثلاثة بمنزلة ثلاثة عقود".
(2)
لعله يقصد أن الحنابلة اتفقوا مع الجمهور -ومن بينهم الشافعية في قول لهم- على جواز كتابة أكثر من عبيد في كتابة واحدة، لكنهم وافقوا الشافعية، وخالفوا الجمهور في صورة، وهي عدم حمالة بعضهم بعضًا، وأن كل واحد منهم يتحمل حصته ".
(3)
سبق ذكر هذه التعليلات.
(4)
وهم المالكية كما سيأتي.
والبعض الآخر يقول: لا يحمل بعضهم عن بعض، ولا يجب ذلك إلا إذا وضع ذلك شرطًا في العقد
(1)
.
والبعضُ يمنع ذلك مطلقًا حتى في وجِود الشرط، ويرى أن الشرط باطل في هذا المقام
(2)
.
قوله: (وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
وَسُفْيَانُ
(4)
، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُهُ
(1)
وهم الأحناف كما سيأتي.
(2)
وهم الشافعية والحنابلة.
مذهب الشافعية، يُنظر:"التهذيب "، للبغوي (8/ 424)، حيث قال:"لو ضمن بعضهم عن بعض حصته صريحًا -لم يصح؛ لأن نجوم الكتابة لا يصح ضمانها، ولو شرط السيد عليهم في العقد أن يضمن بعضهم عن بعض-: يفسد العقد، وإن قلنا: الكتابة فاسدة -تثبت الصفة، فأيهم أدى نصيبه-: عتق، وعليه قيمة رقبته للسيد، باعتبار يوم العتق، ويرجع هو بما أدى على السيد؛ هذا هو المنصوص عليه، وقيل: القياس لا يعتق واحد منهم إلا بأداء جميعهم؛ لأن الكتابة الفاسدة تعليق عتق بصفة ولا يحصل العتق في التعليق إلا بوجود كمال الصفة؛ بخلاف الكتابة الصحيحة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (3/ 152)، حيث قال:"وإن كاتب عبيده اثنين فأكثر أو إماءه صفقة واحدة بعوض واحد صح، وقسط بينهم بقدر قيمتهم يوم العقد، ويكون كل واحد منهم مكاتبًا بقدر حصته، فمن أدى ما قسط عليه عتق وحده، ومن عجز فللسيد فسخ كتابته فقط. وإن شرط عليهم في العقد ضمان كل واحد منهم عن الباقين فسد الشرط وصح العقد".
وقيل: عكس ذلك.
يُنظر: "الكافي"، لابن قدامة:(2/ 345)، حيث قال:"وأيهم أدى عتق؛ لأنه أدى ما عليه فعتق، كما لو انفرد، وقال ابن أبي موسى: لا يعتق حتى تؤدى جميع الكتابة، وإن مات بعضهم، سقط من مال الكتابة بقدر حصته، والأول أصح ".
(3)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1474) حيث قال: ولا يعتقون إلا بأداء جميع المال، خلافًا للشافعي في قوله:"أن من أدى منهم بقدر نصيبه يعتق؛ لأن عقد الكتابة وقع عقدًا واحدًا فلم ينفرد به بعضهم دون بعض، أصله كتابة العبد الواحد أنه إذا أدى بعضها لم يعتق منه بقدر ما أدى". وانظر: "عقد الجواهر الثمينة"، لابن شاس (3/ 1206).
(4)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 393)، حيث قال: قال مالك: "الأمر اليجتمع عليه عندنا: أن العبيد إذا كوتبوا جميعًا كتابة واحدة فإن بعضهم حملاء عن بعض، =
ذَلِكَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَلْزَمُ بِالشَّرْطِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(1)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَا بِالشَّرْطِ وَلَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَيُعْتَقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا أَدَّى قَدْرَ حِصَّتِهِ
(2)
، فَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَ الشَّرِكَة: مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ مَجْهُولٌ)
(3)
.
وإذا قلنا بأنهم حملاء عن بعض فما يأتون به يدخل جميعًا في حيِّز
= وأنه لا يوضع عنهم لموت أحدهم شيء، وإن قال أحدهم قد عجزت وألقى بيديه فإن لأصحابه أن يستعملوه فيما يطيق من العمل، ويتعاونون بذلك في كتابتهم حتى يعتق بعتقهم إن عتقوا، ويرق برقه إن رقوا"، قال أبو عمر: اختلف الفقهاء في هذه المسألة فروى فيها سفيان كقول مالك ".
(1)
يعني إن اشترط في العقد أن كلًّا منهم يحمل عن صاحبه جاز، وإن أطلق ولم يشترط، فكل واحد يتحمل نصيبه.
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (8/ 13 - 14)، حيث قال:(قال) رضي الله عنه: "وإذا كاتب الرجل عبدين له مكاتبة واحدة على ألف درهم، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه على أنهما إن أَدَّيَا عُتِقَا، وإن عَجَزَا رُدَّا في الرق فهو جائز استحسانًا، فإن أدى أحدهما جميع الألف عُتِقَا؛ لوصول جميع المال إلى المولى؛ ولأن أداء أحدهما كأدائهما، والثاني: أن يكاتبهما على ألف درهم مكاتبة واحدة ولم يزد على هذا، وفي هذا إذا أدى أحدهما حصته من المال يعتق؛ لأن المولى حين أوجب العقد لهما ببدل واحد فقط شرط على كل واحد منهما حصته من المال، وكذلك هما بالقبول، إنما يلتزم كل واحد منهما حصته، فلا يكون للمولى أن يطالب كل واحد منهما إلا بقدر حصته، وبالأداء برئت ذمته فيحكم بحريته ".
(2)
يُنظر: "الأم "، للشافعي (8/ 51). حيث قال:"ولا يجوز أن يكاتب العبيد كتابة واحدة على أن بعضهم حملاء عن بعض، ولا أن يكاتب ثلاثة أعبد على مائة على أنه لا يعتق واحد منهم حتى يؤدوا المائة كلها؛ لأن هذه كالحمالة من بعضهم عن بعض، فإذا كاتب الرجل عبديه أو عبيده على أن بعضهم حملاء عن بعض، أو كاتب اثنين على مائة على أنه لا يعتق واحد منهما حتى يستوفي السيد المائة كلها فالكتابة فاسدة، فإن ترافعاها نقضت وإن لم يترافعاها فهي منتقضة، وإن جاء العبدان بالمال فللسيد رده إليهما، والإشهاد على نقض الكتابة وترك الرضا بها".
(3)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 454)، حيث قال: وقال بعض أصحاب الشافعي: "فيه قول آخر، لا يصح؛ لأن العقد مع ثلاثة، كعقود ثلاثة، وعوض كل منهم مجهول، فلم يصح كما لو باع كل واحد منهم لواحد صفقة واحدة بعوض واحد".
السداد، ويصبحون جميعًا أحرارًا بذلك، ورُبَّما يكاتب السيد ثلاثة مثلًا على مائة ألف فيقوم أحد الثلاثة بستين ألفًا، والآخر بثلاثين، والثالث لا يأتي إلا بعشرة فيحصل التفاوت بمثل هذه الصورة.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهُ: أَنَّ الْغَرَرَ الْيَسِيرَ يُسْتَخَفُّ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ، وَالْعَبْدُ وَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ)
(1)
.
فقولهم: "يستخفُّ "؛ لأن هذا باب خير، والمقصود به الرفق والمساعدة، فمثل هذه الأمور تغتفر؛ لأن الغرر أو الجهالة التي تكون في مثل هذا المقام ليست كالغرر الذي يكون بين الدائن والمدين؛ لأن بالدائن يريد أن يمتص المدين ويستفيد منه قدر المستطاع، فيلحق الضرر بالدائن، وليست أيضًا بين البائع والمشتري، إنما قصد هذا الوصول إلى أمر فيه خير فيكون من باب التعاون على البر والتقوى.
ويغتفر هذا الغرر؛ لأن العبدَ ملك لسيده، فهو يملك رقبته وماله، أما إن ملَّكه السيد فاختلف فيها هل يملك أو لا؟ إذًا ما يملكه العبد هو ملك لسيده؛ لذا اغتفر ما يقع من الغرر بينهم.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ، فَحُجَّتُهُ: أَنَّهُ لَمَّا كانَتِ الْكِتَابَةُ وَاحِدَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 454) حيث قال: "لنا أن جملة العوض معلومة، وإنما جهل تفصيلها فلم تمنع صحة العقد، كما لو باعهم لواحد، وعلى قول من قال: إن العوض يكون بينهم على السواء فقد علم أيضًا تفصيل العوض وعلى كل واحد منهم ثلث، وكذا يقول فيما لو باعهم لثلاثة".
وينظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (8/ 376) حيث قال: "وإنما جاز الضمان في ذلك على هذا الوجه؛ لأن عتقه مستحق بأداء جميع الكتابة، فكان جميع الكتابة عليه، وشرط معه عتق الآخر، ولو كاتبه وحده على جميع المال: جاز، فلا يبطله شرط عتق الآخر معه، وإنما صار في معنى من كوتب على جميع المال؛ لأن عتقه معلق بأدائه ".
(2)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 999، 1000) حيث قال: "دليلنا: أن عقد الكتابة وقع عقدًا واحدًا، فلم ينفرد به بعضهم دون بعض، أصله كتابة العبد الواحد".
لا شكَّ بعد تدقيق النظر فيما يتعلق بالمكاتب في هذه المسألة أن القصد من ذلك هو الرفق بأحوالهم ومساعدتهم وإعانتهم، وجعل الله سبحانه وتعالى لهذا المكاتب الذي يريد الوفاء حقًا، وفرق بين المكاتب الذي يريد الوفاء، وبين المكاتب المماطل المتكاسل، فمن يريد الوفاء وفَّى الله سبحانه وتعالى عنه ويسر له أمره، أما من لا يريد الوفاء فإن الأمور تنعكس عليه.
قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمَالَةِ الْأَجْنَبِيَّينَ).
يرى الشافعية والحنابلة أنه لا فرق بين هذه الصورة وبين حمَالَة الأجنبيين، أما المالكية فاستدلُّوا بقول الله تعالى بين الزوجين:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، وهنا أيضًا لا ينبغي أن يُنسَى الفضل بينهم فكم من السنين والمدة الطويلة التي أمضاها هذا الخادم في طاعة سيده وخدمه، فهذه أمور كثيرة ينبغي أن يكافَأ عليها؛ ولا شكَّ أن نظرة المالكية في هذا المقام نظرة حصيفة لا تبتعد عن روح هذه الشريعة ومنهجها.
قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ حَمَالَةَ الْأَجْنَبِيَّينَ فِي الْكِتَابَةِ لَا تَجُوزُ قَالَ: لَا تَجُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
(1)
، وَإِنَّمَا مَنَعُوا حَمَالَةَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ الْمُكَاتِبُ لَمْ يَكُنْ لِلْحَمِيلِ شَيْءٌ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَهَذَا كأَنَّهُ لَيْسَ يَظْهَرُ فِي حَمَالَةِ الْعَبِيدِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ هُوَ سَبَب لِأَنْ يُعْجِزَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ بِعَجْزِ مَنْ لَا يَقْدِرُ
(1)
يُنظر: "الأم" للشافعي (8/ 51) حيث قال: "ولا يجوز للرجل أن يكاتب عبده على أن يحمل له عبد له عنه، ولا يجوز أن يحمل له عبده عن عبد له، ولا عن عبده لغيره، ولا عن عبد أجنبي؛ لأنه لا يكون له على عبده دين ثابت بكتابة ولا غيرها"، قال:"ولا يجوز أن يكاتب العبيد كتابة واحدة على أن بعضهم حملاء عن بعض، ولا أن يكاتب ثلاثة أعبد على مائة على أنه لا يعتق واحد منهم حتى يؤدوا المائة كلها؛ لأن هذه كالحمالة من بعضهم عن بعض ".
عَلَيْهِ، فَهُوَ غَرَرٌ خَاصٌّ بِالْكِتَابَةِ
(1)
، إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْجَمْعَ يَكُونُ سَبَبًا لِأنْ يُخْرِجَ حُرًّا مَنْ لَا يَقْدِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَسْعَى حَتَّى يَخْرُجَ حُرًّا، فَهُوَ كمَا يَعُودُ بِرِقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ، كذَلِكَ يَعُودُ بِحُرِّيَّةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ)
(2)
.
وربما اجتماعهم في عقد واحد يؤثر سلبًا عليهم جميعًا، بأن لا يستطيع بعضهم الكسمب، فيؤثر على الآخر فيبقون كلهم في الرق، وربما يأتي الأمر عكسًا بأن هذا الضعيف يشده صاحبه ويرفع من شأنه ويعينه ويحمل عنه، وهذا هو الأولى.
وإذا نظرنا إلى الأرحم فيهم فلا شك أن يتعاونوا على تحرير رقاب بعضهم البعض، وهذا التعاون قد دعت إليه الشريعة السمحة وحثَّت عليه، فقال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ولا شكَّ أن هذا من باب التَّعاون على الخير؛ لأن الجميع يسعى أن يحرر نفسه.
قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَشَبَّهَهَا بِحَمَالَةِ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الْحَمَالَةُ، فَأَلْزَمَهَا بِالشَّرْطِ وَلَمْ يُلْزِمْهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ،
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 160) حيث قال: "وإذا اختص كل واحد منهم بالتزام مال كتابته دون صاحبه لم يخل حال الثلاثة في الأداء من ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يؤدوا جميعًا مال كتابتهم، فقد عتقوا بالأداء اتفاقًا، والحال الثانية: أن يعجزوا جميعًا عن الأداء فيرقوا جميعًا إذا أعجزهم السيد وهذا اتفاق أيضًا، والحال الثالثة: أن يؤدي بعضهم ويعجز بعضهم، فيعتق من أدى ويرق من عجز". وانظر: "التنبيه في الفقه الشافعي"، للشيرازي (ص 105).
(2)
هذا التعليل ذكره الإمام مالك في "الموطأ"(5/ 1152) قال يحيى، قال مالك:"الأمر المجتمع عليه عندنا؛ أن العبيد إذا كاتبوا جميعًا كتابة واحدة، فإن بعضهم حملاء عن بعض، وإنه لا يوضع عنهم لموت أحدهم شيء، فإن قال أحدهم: قد عجزت، وألقى بيديه، فإن لأصحابه أن يستعملوه فيما يطيق من العمل، ويتعاونون بذلك في كتابتهم حتى يعتق بعتقهم، أو يرق برقهم إن رقوا".
وَهُوَ مَعَ هَذَا أَيْضًا لَا يجِيزُ حَمَالَةَ الْكِتَابَةِ)
(1)
.
مع أن أبا حنيفة يجيز الحمالة في هذا الموضع، ولكن في غير هذا الموضع لا يجيز حمالة الكتاب
(2)
.
ودائمًا ما نحاول أن نستشف روح الشريعة؛ فالشريعة لها مقاصد، وقد تكلَّم عنها العلماء وفصلوا فيها، ولو دققنا النظر في كل حكم من الأحكام بمعونة من الله سبحانه وتعالى لأدركنا أن هذا الحكم له علة ومقصد، وأن الله-سبحانه وتعالى ما شرع هذه الأحكام وما أنزلها إلا لحكمة بالغة، فيها سعادة الناس ومصلحتهم، حتَّى إن بعض الأمور قد ترى فيها شدة لكن مصلحتها أكبر، فهل هناك أشد من أن تزال رقبة الإنسان إذا قتل غيره؟!
(1)
سبق نقل كلام السرخسي في هذا الباب.
وقال ابن عبد البر: "قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يكون لعبيد إذا كاتبهم سيدهم كتابة واحدة حملًا بعضهم عن بعض إلا أن يكاتب الرجل عبديه كتابة واحدة معلومة ويشترط عليهما أنها إن أَدَّيا عتقا، وإن عجزا رُدَّا في الرق، فإن لم يشترط ذلك عليهما لم يكونا حميلين بعضهما عن بعض، فإن اشترط ذلك في عقد الكتابة كان للسيد أن يأخذ كل واحد منهما بالكتابة كلها، فأيهما أداها إليه عتق وعتق صاحبه، وكان له أن يرجع على صاحبه بحصته منها، وكذلك ما أداه من الكتابة في شيء كان له أن يرجع على صاحبه بشيء". انظر: "الاستذكار"(7/ 393، 394).
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (8/ 380)، حيث قال: قال أبو جعفر: " (ولا تجوز الكفالة للمولى بما على عبده من الكتابة في غير ما ذكرنا)، وذلك لأن مال المكاتبة لا يثبت إلا في رق يستحق به العتق، فمن ضمنه على غير هذا الوجه: لم يصح ضمانه، ألا ترى أن رجلًا لو قال للمولى: كاتب عبدك على ألف درهم، على أني ضامن له دونه: لم يصح؛ لأنه لم يتعلق برق يستحق به العتق، وأيضًا: فإن ضمان الحر للمال ضمان صحيح، ومال الكتابة ليس بدين صحيح؛ لأن له إسقاطه عن ننفسه بالعجز".
قال ابن عبد البر: "
…
على قول مالك في هذا أن الحمالة لا تصح على غير المكاتب لسيده جمهور أهل العلم، وهو قولا الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد". انظر:"الاستذكار"(7/ 395).
لا يرى أشد من ذلك، ولكن المصلحة في ذلك أكبر، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179] لأنَّ كلَّ من تسول له نفسه بأن يعتدي على حقِّ غيره فيسفك دمه، سيدرك أنه سينال ما نال غيره من العقاب، وحينئذ سيفكر جيدًا ويتراجع عن هذا الشر، وتحيا الأمة في أمن وأمان.
قوله: (وَأَمَّا الْعَبْدُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ).
المراد أن يكون المملوك بين شريكين، وهذه الشركة قد يتساويان فيها، أو ربما يزيد بعضهم على الآخر، والشاهد أن هذا المملوك لاثنين، فلا يجوز لواحد منهما أن يتصرف فيه تصرفًا مطلقًا، وقد مر في كتاب العتق أن للإنسان أن يعتق نصيبه، وأن ذلك يسري على نصيب الآخر، فيقوم على المعتق إن كان قادرًا فيؤدي حقه ذلك.
قوله: (فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا: هَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ دُونَ إِذْنِ صَاحِبِهِ؟).
أي: هل لأحد الشريكين أن يكاتب مكاتبه في مقدار نصيبه دون أن يأخذ إذن الآخر؟ أم لا بد من إذنه؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وانقسموا فيها إلى ثلاثة أقسام سيأتي تفصيلهم.
قوله: (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالْكِتَابَةُ مَفْسُوخَةٌ).
وهذا رأي الإمام مالك رحمه الله كما سيأتي.
قوله: (وَمَا قَبَضَ مِنْهَا هِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِم).
أي: بين الشريكين، والقول الأول: عدم الجواز، والقول الثاني: الجواز، أي: يجوز لأحد الشريكين أن يكاتب مكاتبه، سواء كان القدر الآخر حرًّا، أو كان له شريك فيه، ولا فرق عند أصحاب هذا القول بين
أن يكون قد أذن له الشريك أو لم يأذن
(1)
.
قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدِهِ دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ)
(2)
.
وسكت المؤلف عن القيد وهو "سواء أذن الشريك أو لم يأذن، وسواء كان هذا القدر الآخر -وإن لم يكن أشار إليه المؤلف- تحرر فيه المكاتب، أو لم يزل رقيقًا تحت سلطة آخر".
قوله: (وَفَرَّقَتْ فِرْقَةٌ؛ فَقَالَتْ: يَجُوزُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَبِالثَّانِي قَالَ
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لأبي عمر ابن عبد البر (7/ 389 - 390)، حيث قال:"قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في العبد يكون بين الرجلين أن أحدهما لا يكاتب نصيبه منه، أذن له بذلك صاحبه أو لم يأذن، إلا أن يكاتباه جميعًا؛ لأن ذلك يعقد له عتقًا، ويصير إذا أدى العبد ما كوتب عليه إلى أن يعتق نصفه، ولا يكون على الذي كاتب بعضه أن يستتم عتقه، فذلك خلاف ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركًا له في عبد قوم علبه قيمة العدل ". ".
(2)
لعل صواب العبارة بالإثبات، هكذا:"وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدِهِ دُونَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ ". أي يجوز ذلك بإطلاق، سواء أذن شريكه أم لم يأذن - كما وضحه الشارح- وهذا لأسباب:
منها: أن أصحاب هذا القول والذين ذكرهم المؤلف، وهم الإمام أحمد وابن أبي ليلى قالوا بذلك.
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 391) حيث قال: "وذكر الخرقي عن أحمد بن حنبل قال: وإذا كاتب نصف عبد، فأدى ما كوتب عليه ومثله لسيده الذي لم يكاتبه كان نصفه حرًّا بالكتابة، إن كان الذي كاتبه معسرًا، وإن كان موسرًا أعتق كله، وكانت نصف قيمته على الذي كاتب لشريكه ".
وقال ابن عبد البر: "هذا يدل على أن مذهبه جواز الكتابة لأحد الشريكين في نصيبه بإذن شريكه وبغير إذنه".
ثم قال: "وهذا على أصل أحمد في إجازته بيع المكاتب، وكان الحكم بن عتيبة يجيز كتابة أحد الشريكين حصته بإذن شريكه وبغير إذنه، وهو قول ابن أبى ليلى". وانظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (7/ 10)، والله أعلم.
(3)
سبق نقله.
ابْنُ أَبِي لَيْلَى
(1)
وَأَحْمَدُ
(2)
، وَبِالثَّالِثِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
(4)
.
لا اعتراض على المؤلف؛ لأنَّه قال: "في أحد قوليه "، فمعنى ذلك: أن الشافعي له قولان:
القول الأول: بأن ذلك لا يصحُّ مطلقًا.
القول الثاني: اختلفت فيه الرواية.
أو فيه قولان: قول يصح، وقول لا يصح؛ ولذلك قال المؤلف:"في أحد قوليه" فلا أرى -حقيقة- خطأً فيما ذكره المؤلف رحمه الله.
(1)
سبق النقل عنه.
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرإدات "، للبهوتي (2/ 611)، حيث قال:" (و) يصح أن يكاتب (شقصًا) له (من مشترك) عبد أو أمة (بغير إذن شريكه) موسرًا كان الشريك أو معسرًا؛ لأنها عقد معاوضة على نصيبه فصح كبيعه، ولأنه ملك يصح بيعه وهبته فصحت كتابته كالكامل، وكما لو كان باقيه حرًّا، ولا يمنع الكسب وأخذ الصدقة بجزئه المكاتب، ولا يستحق الشريك شيئًا مما أخذه من الصدقة بذلك الجزء".
(3)
يُنظر: "الأصل "، للشيباني (6/ 246 - 247)، حيث قال:"قلت: "أرأيت عبدًا بين رجلين كاتب أحدهما حصته بغير إذن شريكه أيكون للشريك أن يرد المكاتبة؟ " قال: "نعم، ولا تجوز مكاتبته إلا بإذن شريكه". قلت:"ولِمَ؟ " قال: "لأنه ليس له أن يكاتب إلا بإذن شريكه؛ لأنه يمنع شريكه من البيع ". قلت: "أرأيت إن كاتب أحدهما نصيبه بإذن شريكه أيجوز ذلك؟ " قال: "نعم ". قلت: "فهل يكون للشريك أن يبيع نصيبه؟ " قال: "لا". قلت: "لم؟ " قال: "لأن نصيب شريكه مكاتب
…
"، وهذا قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: "إذا كاتب أحدهما نصيبه بإذن شريكه، فهو مكاتب كله لهما جميعًا بينهما نصفين بما كاتبه عليه، حتى يؤدي إليهما جميعًا، ويعتق كأنهما كاتباه جميعًا على ذلك ".
(4)
يُنظر: "روضة الطالبين"، للنووي (12/ 228)، حيث قال:"إذا كاتب أحد الشريكين نصيبه، إن كان بإذن الآخر، فقولان أظهرهما: لا يصح؛ لأن الشريك الآخر يمنعه من التردد والمسافرة، ولا يمكن أن يصرف إليه سهم المكاتبين من الزكاة، والثاني: يصح، كما يصح إعتاق بعضه، وإن كاتبه بغير إذن الآخر، لم يصح على المذهب، وقيل بطرد الخلاف ". وانظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (4/ 478).
قوله: (وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ)
(1)
.
أشار المؤلف إلى ذلك جملةً؛ إذن أصحاب القول الثاني - الذين قالوا بالجواز وعدم اعتبار إذن الشريك - قالوا: أليس يجوز له أن يعتق نصيبه؟ الجواب: لا، فقد جاء في ذلك حديث صحيح؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ، يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ، وَيُخَلَّى سَبِيلُ المُعْتَقِ"
(2)
.
إذًا فيه نصٌّ صريح بالنسبة إلى العبد، فلماذا لا يكون المكاتب مثله؟ يقولون: أليست الكتابة طريقًا إلى العتق؟
والجواب: بلى؛ طريق للعتق، لكنَّ العتقَ لا يؤخذ فيه مقابل أو عوض، أما المكاتبة ففيها عوض، ومن هنا اختلفَا، ومع ذلك نجد أن بينهم اتفاقًا؛ فالذي يعتق عبده يكون له ولاءه، والذي يكاتبه يكون له ولاءه أيضًا، حتَّى وإن كاتبه على مبلغ من المال، فإن هذا المقصد الرشيد الذي سلكه هو عمل طيب بأن أعانه على أن يكون حُرًّا، ولا مانع أن يأخذ عوضًا مقابل ذلك.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَأدَّى إِلَى أَنْ يُعْتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ بِالتَّقْوِيمِ عَلَى الَّذِي كَاتَبَ حَظَّهُ مِنْهُ).
أراد الإمامُ مالك رحمه الله أن يردَّه إلى العتق فيقول: جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ، إِنْ
(1)
أي: للشافعي قول آخر وافق فيه مالكًا؛ وهو عدم الجواز مطلقًا، وهو ما صححه النووي في "الروضة" كما سبق.
(2)
أخرجه البخاري (2503)، وأخرجه مسلم (1501/ 1)، بلفظ:"من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق ".
كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ، يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطَى شُرَكاؤُهُ حِصَّتَهُمْ، وَيُخَلَّى سَبِيلُ المُعْتَقِ ".
فالإمام مالك رحمه الله يريد أن يقيس مقايسة في العتق، فإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه سرى إلى نصيب الآخر، هذا الذي يريده الإمام مالك؛ فإذا كاتب عبده ترتب على ذلك أن يضر بالآخر فيعتق عليه، أو أنه هو نفسه -هذا الذي كاتب- يحتاج أن يدفع نصيب شريكه.
والجواب: هذه مسألة أخرى تختلف عن تلك؛ لأن هذا أخذه مقابلة بعوض، فلم يكن عتقًا كعتق السابق، وإنما مكاتبة بأن سيحرره على أن يعطيه مقابل ذلك، فالمملوك يشتري نفسه من سيده.
أما الإمام الشافعي فيما يتعلق بالشريك؛ فقال: لا يجوز؛ لأنَّ هذا المكاتب يحتاج إلى السفر، والتردد؛ أي: الكسب والعمل، ويحتاج إلى الأخذ من الصدقة فأصبح بذلك -عند الإمام الشافعي- يعمل لنفسه وفوَّت على الآخر ما يتعلق بالسفر، وفوت أمر الكسب وألا يأخذ شيئًا من الصدقة
(1)
.
ولكن الآخرين أجابوا وقالوا: أما السفر فلا يكون مانعًا؛ لأنَّه ربما لا يكون له شريك أصلًا ويكاتبه ومع ذلك لا يسافر، وأما ما يتعلق
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 200)، حيث قال:"وإن كاتبه بإذن شريكه، ففي صحة كتابته قولان: أحدهما: نص عليه الشافعي في كتاب "الأم" على مسائل محمد بن الحسن أن الكتابة صحيحة
…
والقول الثاني: نص عليه الشافعي في هذا الموضع وأكثر كتبه، واختاره المزني، أن الكتابة فاسدة وإن أذن فيها الشريك، لِمَعانٍ؛ أحدها: أن موضع الكتابة أن يكمل بها تصرف المكاتَب، ولا يكمل تصرفه بكتابة بعضه؛ لأنه إن أراد أن يسافر لكتابته منعه الشريك من السفر؛ لرقه، فاقتضى أن تكون فاسدة، والثاني: أنه لا يقدر بكتابة بعضه أن يستعين بمال الصدقات؛ لأن الشريك إن يأخذ منه بقدر سهمه والصدقة لا تحل له، فمنع منها حتى تكمل كتابة جميعه ".
بالكسب وما يستحقه من الصدقة التي تكون على هؤلاء المكاتبين إنما يستحقها على الجزء الذي كتب عليه.
إذن له أن يعمل على قدر مكاتبته، ويستحق الصدقة -أيضًا- في القدر الذي يتعلق بالمكاتبة
(1)
.
وعمدة مالك: أنه لو جاز ذلك لأدَّى إلى أن يعتق العبد كلّه بالتقويم على الذي كاتب حظه منه.
يريد أن يقول: هذه الصورة توصل بالذي كاتب إلى أن يعتق هذا العبد ويكون على حسابه، عملًا بالحديث:"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ، يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ، وَيُخَلَّى سَبِيلُ المُعْتَقِ ".
والجواب: بأن ذلك عتق، وهذا مكاتبة وفرق بينهما
(2)
.
(1)
قال ابن قدامة: "وقولهم: إنه يقتضي المسافرة والكسب وأخذ الصدقة قلنا: أما المسافرة فليست من المقتضيات الأصلية فوجود مانع منها لا يمنع أصل العقد، وأما الكسب وأخذ الصدقة فإنه لا يمنع كسبه وأخذه الصدقة بجزئه بالمكاتبة ولا يستحق الشريك شيئًا منه؛ لأنه إنما استحق ذلك بالجزء المكاتب، ولا حق للشريك فيه، فكذلك فيما حصل به، كما لو ورث شيئًا بجزئه الحر، وأما الكسب؛ فإن هايأه مالك نصفه فكسب في نوبته شيئًا لم يشاركه فيه أيضًا، وإن لم يهايئه فكسب بجملته شيئًا كان بينهما له بقدر ما فيه من الجزء المكاتب ولسيده الباقي؛ لأنه كسبه بجزئه المملوك فيه، فأشبه ما لو كسب قبل كتابته فيقسم بين سيديه ". انظر: "المغني"(10/ 410).
ووجه آخر: وهو أن المقصود من العقد الإرفاق به، وعليه فلا يمنعه من السفر؛ لأن المولى أثبت له حق التقلب والتكسب، وربما لا يحصل له هذا المقصود في المصر، والخروج من المصر للطلب طريق ظاهر بين الناس، فيصير مثبتًا له ذلك الحق حين كاتب نصفه، فلا يمنعه بعد ذلك منه. وهذا الوجه ذكر عند الأحناف استحسانًا. انظر:"المبسوط"، للسرخسي (8/ 44).
(2)
وقال ابن قدامة: "وقولهم: ""إنه يفضي إلى أن يؤدي بعض الكتابة فيعتق جميعه ".
قلنا: "يبطل هذا بما لو علق عتق نصيبه على أداء مال، فإنه يؤدي عوض البعض ويعتق الجميع، على أننا نقول: لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة؛ فإن جميع الكتابة =
قوله: (وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي تَبْعِيضِ الْعِتْقِ
(1)
، وَمَنْ رَأَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ رَأَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ عِتْقَهُ إِذَا أَدَّى الْكِتَابَةَ إِذَا كانَ مُوسِرًا
(2)
، فَاحْتِجَاجُ مَالِكٍ هُنَا هُوَ احْتِجَاجٌ بِأَصْلٍ لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْخَصْمُ).
والمقصود بالأصل: هو قياسه المكاتبة بهذه الصورة على العتق؛ فجعل الأصل في ذلك العتق، فهل يوافقه في ذلك غيره من الأئمة؟
الجواب: لا؛ كما ذكر المؤلف، لكنه يقول: أن الإمام مالكًا وضع أصلًا، ولا يلزم من كونهم لم يوافقوا على هذا الأصل أن يكون أصله غير صحيح
(3)
.
= هو الذي كاتبه عليه مالك نصفه ولم يبق منها شيء، فلا يعتق حتى يؤدي جميعها، ولأنه لا يعتق الجميع بالأداء وإنما يعتق الجزء المكاتب لا غير". انظر:"المغني"(10/ 410).
(1)
قال الباجي معللًا مذهب مالك: "والدليل على ذلك: أن عقد الكتابة لا يتبعض، ولذلك لا يجوز لأحد أن يكاتب بعض عبده ويبقي باقيه على حكم الرق، فإذا لم يجز ذلك في بعض عبد له جميعه، وإن وقع فسخ، فكذلك في بعض عبد لغيره سائره، واحتج مالك في ذلك بأن الكتابة عقد عتق ويؤدي ذلك إلى تبعيض العتق على الشريك دون تقويم؛ لأنه إذا أعتق نصيبه الذي كاتب عليه ولم يقم عليه نصيب شريكه؛ لأن التقويم يختص فيما باشره عتق عري من عوض، وهذا لم يباشره عتق واقترن به العوض فمنع ذلك التقويم، فوجب أن يكون هو ممنوعًا في نفسه ". انظر: "المنتقى شرح الموطأ"(7/ 10)، وانظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف "، للقاضي عبد الوهاب (2/ 1002).
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 409)، حيث قال:" (وإذا كاتب نصف عبد فأدى ما كوتب عليه ومثله لسيده صار حرًّا بالكتابة إن كان الذي كاتبه معسرًا، وإن كان موسرًا عتق عليه كله وصار نصف قيمته على الذي كاتبه لشريكه)، وجملته أن الرجل إذا كان له نصف عبد كانت له مكاتبته، وتصح منه سواء كان باقيه حرًّا أو مملوكًا لغيره - وسواء أذن فيه الشريك أو لم يأذن، هذا ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر، وقول الحكم وابن أبي ليلى".
(3)
وبالتالي فذهاب مالك إلى منع مكاتبة بعض العبد إذ يفضي إلى عتق جميعه فيضيع =
قوله: (لَكِنْ لَيْسَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْأصْلِ أَنْ لَا يُوَافِقَهُ عَلَيْهِ الْخَصْمُ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْإِذْنِ فَضَعِيفٌ).
ضعَّف المؤلف رحمه الله الإذن؛ لأن الأصل في المكاتب الذي يكون بين شريكين أن يجوز لأحدهما بيعه أو هبته أو عتقه، فما الفرق إذن بين ذا وبين المكاتبة؟
فإذا جاز لأحدهما أن يعتقه جاز له أن يكاتبه، وإذا جاز لأحدهما أن يبيعه جاز له أن يكاتبه فالمكاتبة خير له، وكذلك الحال بالنسبة للهبة، فلماذا أجاز هناك وامتنع هنا؟ سيأتي تفصيله
(1)
.
قوله: (وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى فِي كيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْمَالِ لِلْمُكَاتِبِ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ؛ أَنَّ كُلَّ مَا أَدَّى لِلشَّرِيكِ الَّذِي كَاتَبَهُ، يَأْخُذُ مِنْهُ الشَّرِيكُ الثَّانِي نَصِيبَهُ).
لأنهما مشتركان فيه، وهذا رأي الإمام أبي حنيفة، لكنَّ الآخرين يخالفونه؛ لأن الذي كاتبه هو الذي أخذ نصيبه.
قوله: (وَيَرْجِعُ بِالْبَاقِي عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْعَى لَهُ فِيهِ، حَتَّى يَتِمَّ لَهُ مَا كَانَ كَاتَبَهُ عَلَيْهِ
(2)
، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ عَنِ الأوَّلِ
(3)
، وَأَمَّا هَلْ تَجُوزُ مُكَاتَبَةُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ).
= نصيب الشريك الآخر، ذهابه إلى هذا لا يوافقه عليه الخصم، كما بينا من رد ابن قدامة على هذا.
(1)
في جواز الأمر لإطلاق وعدم اعتبار شرط الإذن.
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 410) حيث قال: "ولنا: أنه عقد معاوضة على نصفه فصح كبيعه، ولأنه ملك له يصح بيعه وهبته فصحت كتابته كما لو ملك جميعه، ولأنه ينفذ إعتاقه، فصحت كتابته كالعبد الكامل ".
(2)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (8/ 35)، وفيه قال:"وإذا كاتب أحدهما نصيبه بإذن شريكه فعلى قول أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- إذا استوفى البدل عتق نصيبه، وللشريك أن يرجع عليه بنصف ما أخذ أيضًا، وبنصف ما بقي من الكسب في يد العبد؛ لأنه أداه من كسبه، وإذنه في العقد لا يكون إذنًا في قبض البدل ".
(3)
يُنظر: "رياض الأفهام" لتاج الدين الفاكهاني (5/ 621 - 627) حيث قال: "وفي قول =
هذه مسألة مهمة لها ارتباط بالآية، وقد أشار إليها قوله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فهذا المكاتب لا يخلو من حالين:
الأولى: إما أن يكون قويًّا قادرًا على الكسب.
والثانية: أن يكون عاجزًا، أو رجلًا هرمًا قد تقدم به السن، أو ضعيفًا، أو هزيلًا، أو لا يكن بيده صنعة يتمكن من العمل بها.
قوله: (فَلَا خِلَافَ فِيمَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى السَّعْيِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]).
وهذا مما أُخذ على المؤلف رحمه الله من قِبَل بعض النقاد المحللين، لأنه أورد هذه المسألة في غير محلها؛ لأنه لم ينقل إجماعهم على أنه لا يجوز إلا مكاتبة القوي، وإنما قال:"إذا وُجد قوي وضعيف "، وعليه فلا خلاف بين العلماء عند المكاتبة أن القوي يكاتب، والخلاف الدائر بينهم في غير القادر على الكسب، أي: في العبد الذي لا يستطيع أن يكتسب بنفسه
(1)
، فاختلف العلماء في جواز كتابة سيده له أو لا، وانقسموا في ذلك إلى قسمين:
= أبي حنيفة: إن الشريك مخير، إن شاء استسعى العبدَ في نصف قيمته، وإن شاء أعتقَ نصيبه، والولاءُ بينهما، وإن شاء قَوَّمَ على شريكه نصيبَه، ثم يرجعُ المعتِق بما دفع إليه على العبد يَستسعيه في ذلك، والولاءُ كلُّه له، قال: ومذهب أبي حنيفة لم يقل بواحدٍ من الحديثين - يقصد حديث ابن عمر: "من أعتق شركًا له في عبد
…
"، وحديث أبي هريرة: "من أعتق شقصًا له من مملوك
…
"، ومذهبُه خارجٌ عنهما".
(1)
يقصد الشارح أن كلام المؤلف: "فَلَا خِلَافَ فِيمَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ قَوِيّا عَلَى السَّعْي " معناه: الإجماع على أنه لا يجوز إلا مكاتبة القوي القادر على السعي، وهذا خطأ؛ لأن جمهور العلماء على جواز مكاتبة الغير قادر على السعي بدليل حديث بريرة، وإنما صواب العبارة أن يقال:"لا خلاف بينهم على جواز مكاتبة القوي، وإنما وقع الخلاف في العاجز عن الكسب ".
الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه يكاتب وإن كان ضعيفًا وغير قادر على الكسب؛ فذهب الأئمة أبو حنيفة
(1)
والشافعي
(2)
وهو المشهور عند مالك
(3)
، وهي رواية للإمام أحمد إلى جواز مكاتبة غير القوي
(4)
.
الثاني: ذهب فريق آخر إلى الجواز مع الكراهة، وهذه أيضًا رواية
(1)
لم أقف على قول أبي حنيفة عند أصحابه، والذي نص على تجويز أبي حنيفة لذلك.
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(7/ 352): "واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة في جواز كتابة من لا حرفة له ولا مال معه ".
(2)
عند الشافعية لا تستحب ولا تكره مكاتبة من لا قدرة له على الكسب.
يُنظر: "البيان" للعمراني (8/ 412، 413) حيث قال: "وإن عدم الكسب والأمانة في العبد .. لم تستحب كتابته؛ لأنه لا يحصل المقصود بالكتابة مع فقدهما، ولا تكره كتابته، دليلنا: أنه تعليق عتق بصفة، فلا يكره، كما لو كان له كسب، ويخالف الأمة، فإن ذلك ربما دعاها إلى الزنا، ولأن المخارجة ليس فيها تحصيل العتق، وهاهنا ربما حصل له مال الكتابة مما يخصه من الزكاة، فافترقا، وإن كانت له أمانة بلا كسب .. فهل تستحب كتابته؟ فيه وجهان: أحدهما: تستحب؛ لأنه ربما حصل مال الكتابة من الصدقات، والثاني: لا تستحب، وهو الأصح؛ لأن الله تعالى قال: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وقد دللنا على أن الخير هاهنا: هو الكسب والأمانة، وقد فقد أحدهما، فعلى هذا أيضًا: لا تكره كتابته ".
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (4/ 390، 391)، حيث قال: " (و) جاز للسيد (مكاتبة أمة) بالغة برضاها (و) مكاتبة (صغير) ذكر أو أنثى
…
(وإن بلا مال) لهما (و) لا (كسب) لهما لكن لا بد من قدرتهما على الكسب وإلا لم يجز". وانظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 1466).
(4)
ينظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 366، 367)، حيث قال:"وهل تكره كتابة من لا كسب له أو لا؟ " قال القاضي: "ظاهر كلام أحمد كراهيته ". وكان ابن عمر رضي الله عنه يكرهه، وهو قول مسروق، والأوزاعي، وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يكره؛ "لأن جويرية بنت الحارث، كاتبها ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، فأتت النبيَّ تستعينه في كتابتها، فأدى عنها كتابتها، وتزوجها"، واحتج ابن المنذر:"بأن بريرة كاتبت ولا حرفة لها، ولم ينكر ذلك رسول الله ".
أخرى عن الإمام أحمد
(1)
، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر
(2)
، وهو أيضًا قول الأوزاعي، وقيل: إنها رواية للإمام مالك أيضًا
(3)
.
أما جمهور العلماء الذين استدلوا على جواز مكاتبة غير القوي دون كراهة بقصة جويرية بنت الحارث؛ فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا سَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَلِابْنِ عَمِّهِ فَكَاتَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَكَانَتِ امْرَأَةً جَلْدَةً مَلَّاحَةً لَا يَكَادُ يَرَاهَا أَحَد إِلَّا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْحُجْرَةِ فَرَأَيْتُهَا كَرِهْتُهَا، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ مَا رَأَيْتُ، فَقَالَتْ جُوَيْرِيَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ عَرَفْتَ، فَكَاتَبْتُ عَلَى نَفْسِي، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أسْتَعِينُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَوْ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ؟ " فَقَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: "أَتَزَوَّجُكِ وَأَقْضِيَ عَنْكِ كتَابَكِ"، فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ:"قَدْ فَعَلْتُ "، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ قَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلُوا مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَقَدْ أَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَالَتْ: فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً
(1)
وهي التي عليها المذهب.
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 598) حيث قال: " (وتكره) الكتابة (لمن لا كسب له)؛ لئلا يصير كَلًّا على الناس، ويحتاج إلى المسألة".
وانظر: "الأنصاف "، للمرداوي (7/ 447).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 374) عن الثوري، عن عبد الكريم الجزري، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يكره أن يكاتب عبده إذا لم يكن له حرفة، قال: يقول: تطعمني من أوساخ الناس؟ ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 352)، حيث قال:"وروي عن مالك أيضًا كراهية ذلك، وكره الأوزاعي وأحمد وإسحاق كتابة من لا حرفة له، وعن عمر وابن عمر ومسروق مثل ذلك ".
كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا
(1)
.
فانظر إلى الفضيلة التي نالتها، فحصلت على المال فأصبحت حرة، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت النتيجة أن تسارع الصحابة رضي الله عنهم، وأعتقوا كل واحد من قومها، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يكونوا تحت الرق؛ فتسابقوا إلى إعتاقهم، وهذا دليل على جواز أن يكاتب إنسان لا كسب له
(2)
.
وأما الفريق الآخر القائل بالكراهة، فقد استدلوا بما أُثر عن عمر رضي الله عنه، فعَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي خِزَانَةِ حِمْصٍ كِتَابًا مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ -وَكَانَ عَامِلًا لَهُ-، فَإِذَا فِيهِ:"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مِنْ قِبَلَكَ أَنْ يُفَادُوا أَرِقَّائِهِمْ عَلَى مَسْأَلَة النَّاسِ"
(3)
.
فقالوا: أثر عمر نص في هذه المسألة، وعليه تفسر الكراهة بأنها خشية سؤال الناس.
وهذا أيضًا قد أُثر عن عبد الله بن عمر، فإنه أيضًا دليل لأصحاب القول بكراهة ذلك، وجاء التعليل عن عبد الله بن عمر بأنه كره ذلك
(4)
.
وأيضًا أثر ذلك عن سلمان الفارسي، فعن أبي ليلى الكندي: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أراد منه مملوك له أن يكاتبه فقال: "أعندك شيء؟ " قال: "لا"، قال:"من أين لك؟ " قال: "أسأل الناس، فأبى أن يكاتبه،
(1)
أخرجه أبو داود (3931)، وابن حبان (4055)، وحسنه الألباني في "التعليقات الحسان "(4043).
(2)
واستدلوا أيضًا بأن بريرة كوتبت، ولا يعلم لها كسب، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فلم ينكره ولم يمنع منه. انظر:"الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (7/ 8).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 374).
(4)
سبق تخريجه.
وقال: "تطعمني من غسالة الناس"
(1)
.
وعليه، فالمسألة ليست قضية منع، وليس الأمر مجرد اعتراض على المؤلف، وإنما القضية هل ذلك مكروه أو غير مكروه؟
قوله: (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ مَا الْخَيْرُ الَّذِي اشْتَرَطَهُ اللَّهُ فِي الْمُكَاتَبِينَ في قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]).
وتعددت أقوال العلماء في المقصود بالخير هنا بين أن يكون هو المال، أو الصلاح، أو الصدق، أو القوة، فتجاوزت أقوالهم في ذلك عشرة أقوال، وتفصيلهم كالآتي:
فمنهم من قال: هو القوة، وهو قول الإمام الشافعي رحمه الله، فقال: هي القوة والقدرة على الكسب
(2)
.
ومن العلماء من قال: هو الصدق والصلاح والوفاء بمال المكاتبة، وهذا قول الإمام أحمد
(3)
.
ومنهم من قال: إنه الغنى وإعطاء المال، أي: مال المكاتبة، وهذا قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه
(4)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 144) حيث قال: "قول الله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} تأول الشافعي الخير المراد في العبد الاكتساب مع الأمانة؛ ليكون بالاكتساب قادرًا على الأداء، وبالأمانة قادرًا على الوفاء".
(3)
يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه "، للكوسج (8/ 4407، 4408)، حيث قال:"قلت: "للرجل أن يمنع غلامه من الكتابة إذا أراد ذلك؟ " قال أحمد: "نعم إذا كان رجل ليس له حرفة ولا كسب ". قال إسحاق: "كما قال، لما قال الله عز وجل:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} ، ففسروه على المال والحرفة، فأما إذا لم يكن له ذلك فله أن لا يفعل ".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 370) عن ابن جريج، قال: وبلغني عن ابن عباس قال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} الخير: المال، وقاله مجاهد قال:"الخير المال، كائنة أخلاقهم ودينهم ما كانت ".
ومنهم من قال: الغنى فقط، وهو قول مجاهد
(1)
.
ومنهم من قال: هو المال والوفاء، وهو قول إبراهيم النخعي
(2)
.
وهناك أقوال كثيرة جدًّا، وكلها تدور حول الأمانة والصلاح والصدق والبر والوفاء
(3)
.
قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاكْتِسَابُ وَالْأَمَانَةُ)
(4)
.
الاكتساب: هو القدرة والقوة على العمل، ليكتسب الرزق، وينفق على نفسه.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَالُ وَالْأَمَانَةُ).
وهو قول طاوس من التابعين
(5)
.
قوله: (وَقَالَ آخَرُونَ: الصَّلَاحُ وَالدِّينُ
(6)
، وَأَنْكَرُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُكَاتَبَ مَنْ لَا حِرْفَةَ لَهُ مَخَافَةَ السُّؤَالِ)
(7)
.
وعلل ذلك مخافة سؤال الناس، وهذا صرح به جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كأثر عمر رضي الله عنه: مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" كما سبق، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار" (14/ 438) عن مجاهد قال:{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} : "المال كائنة أخلاقهم وأديانهم ما كانت ".
(2)
أخرج عبد الرزاق فِي "المصنف"(8/ 371) عن الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال: "صدقًا ووفاء".
(3)
ذكر الطبري هذه الآثار في "تفسيره". انظر: "جامع البيان"(17/ 277 - 282).
(4)
سبق نقله.
(5)
أخرج البيهقي في "الكبرى"(10/ 537) عن مجاهد وطاوس، في قوله:{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال: "مالًا وأمانة".
(6)
سبق هذا.
(7)
سبق هذا.
الْأَنْصَارِيِّ -وَكَانَ عَامِلًا لَهُ-، فَإِذَا فِيهِ:"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مِنْ قِبَلَكَ أَنْ يُفَادُوا أَرِقَّائِهِمْ عَلَى مَسْأَلَة النَّاسِ ". فله أن يكاتبه ويتفق معه أن لا يسأل الناس
(1)
، وقد مَرَّ أن بريرة كوتبت، وهي لا تملك شيئًا، وكذلك جويرية
(2)
.
قوله: (وَأَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ: "أَنَّهَا كُوتِبَتْ أَنْ تَسْأَلَ النَّاسَ ").
ليس هذا الأثر في الكتابة كما يفهم من كلام المؤلف من أنها كوتبت لتسأل الناس، وقد جاء بها جملة تعليلية؛ أي: أنها كوتبت لأجل أن تسأل الناس، والصحيح: أنهم كاتبوها، ولم تفعل هي ذلك، لكن لم يرد في النص أنهم كاتبوها على أن تسأل الناس؛ بدليل أنها أول ما ذهبت ذهبت إلى عائشة، وقد أحسنت الاختيار في ذلك، فعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها، ولا يفهَم بأن عائشة رضي الله عنها وقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءت إليه جويرية تطلب منه أن يعينها فأعانها، أو عائشة عندما أعانت بريرة أن ذلك جاء عن غنًى، فالحالة كانت جفافًا
(3)
؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: "ابْنَ أُخْتِي؛ إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلَالِ، ثُمَّ الهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ"، فَقُلْتُ: "يَا
(1)
سبق تخريج الأثر.
(2)
سبق تخريج الحديثين، وهما دليلان على جواز مكاتبة من لا كسب له.
(3)
بل إن من استدل بحديث بريرة وجويرية على جواز مكاتبة من لا كسب له دليله ظاهر في هذه المسألة، والذين ذهبوا إلى كراهة ذلك قالوا بهذه الدلالة المستنبطة من هذين الحديثين، إلا أنهم قالوا بالكراهة لأمر آخر.
قال ابن قدامة: "وينبغي أن ينظر في المكاتب، فإن كان ممن يتضرر بالكتابة ويضيع؛ لعجزه عن الإنفاق على نفسه، ولا يجد من ينفق عليه، كرهت كتابته، وإن كان يجد من يكفيه مؤنته، لم تكره كتابته؛ لحصول النفع بالحرية من غير ضرر، فأما جويرية؛ فإنها كانت ذات أهل، ومال وكانت ابنة سيد قومه، فإذا عتقت، رجعت إلى أهلها، فأخلف الله لها خيرًا من أهلها، فتزوجها رسول الله، وأما بريرة؛ فإن كتابتها تدل على إباحة ذلك، وأنه ليس بمنكر، ولا خلاف فيه ". انظر: "المغني"(10/ 367).
خَالَةُ؛ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ " قَالَتْ: "الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَا أَنَهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا"
(1)
.
وكم من مرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ربط الحزام على بطنه الشريفة، ومعه الحجارة حتَّى يتقي شدة الجوع
(2)
.
قوله: (وَكَرِهَ أَنْ تُكَاتَبَ الْأَمَةُ الَّتِي لَا اكتِسَابَ لَهَا بِصِنَاعَةٍ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّنَا)
(3)
.
لأنها ربَّما تقع في المعصية، فالرجل مهما كان أمره أخف، لكن المرأة أمرها صعب، ومع ذلك كرهوا ذلك، ولكن المرأة العفيفة مهما
(1)
أخرجه البخاري (2567)، ومسلم (2972/ 28).
(2)
من ذلك: ما أخرجه الترمذي (2371)، عن أنى بن مالك، عن أبي طلحة، قال:"شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعْنا عن بطوننا عن حَجَرٍ حَجَرٍ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين ".
ومن ذلك أيضًا: ما أخرجه أبو يعلى (4/ 8) عن جابر، قال:"لما كان الخندق نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد وضع حجزا بينه وبين إزاره يقيم به صلبه من الجوع ".
وكلا الحديثين حسنهما الألباني بمجموع طرقهما في "السلسلة الصحيحة"(1615).
(3)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 998) حيث قال: "يجوز مكاتبة العبد القن الذي هو غير مكتسب، ويكره في الأمة إذا لم تكن مكتسبة؛ لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "لا تكلِّفوا الأمة الكسب، فإنها تكسب بفرجها"، روي ذلك مرفوعًا". وانظر: "روضة المستبين" لابن بزيزة (2/ 1341).
وحكي في المذهب وجه بالجواز، ينظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 350) حيث قال في حديث بريرة: "وفيه دليل على إجازة كتابة الأمة وهي غير ذات صنعة، وكتابة من لا حرفة له ولا مال معه؛ إذ ظاهر الخبر أنها ابتدأت بالسؤال من حين كوتبت، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: هل لها مال أو عمل واجب أو مال؟ ولو كان هذا واجبًا لسأل عنه؛ ليقع علمه عليه؛ لأنه بعث مبينًا ومعلمًا صلى الله عليه وسلم ". وانظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (7/ 7).
ضاقت بها الدنيا؛ فإنها ستحفظ قيمَتها وشرفها، ونعلم قصة أحد الذين انطبق عليهم الغار، حين قَالَ:"اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، فَقَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ المِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا"
(1)
.
إذًا فالمرأة، وكذلك الرجل الذي يخشى الله سبحانه وتعالى لا يقع في المحرم، مهما ضاقت به السبل، ومهما أصابه من القرح
(2)
، فإنه لا يقع في المحرم؛ لأن خشية الله-سبحانه وتعالى عنده فوق كل خشية، ومحبة الله تعالى فوق كل محبة.
قوله: (وَأَجَازَ مَالِكٌ كِتَابَةَ الْمُدَبَّرَةِ، وَكُلِّ مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ، إِلَّا أُمَّ الْوَلَدِ
(3)
؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا)
(4)
.
ومعه في ذلك أيضًا أكثرُ العلماء، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (3465)، ومسلم (2743/ 100) عن ابن عمر.
(2)
القرح والقرحة، بفتح القاف وسكون الراء: هي ألمُ الجرح، ثم استعملت في الجراح والقروح الخارجة في الجسد وفي كلِّ ألَمٍ من شيءٍ، قال الله تعالى:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وقوله: "حتى قرحت أشداقنا" بكسر الراء، أي: أصابتها قروح. انظر: "مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (2/ 177).
(3)
أم الولد هي: الأمة يطأها سيدها فتحمل منه. انظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 252).
(4)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 996) حيث قال: "ولا تجوز كتابة أم الولد، فإن كانت أم ولده فسخت كتابتها إن أدركته، وإن فأتت بالأداء علقت ولم ترجع على سيدها بشيء مما أدَّتْه إليه، وجائز كتابة المدبرة، فإن أدَّت كتابتها قبل موت سيدها عتقت ".
(5)
وافق الأحناف والشافعية والحنابلة المالكيةَ في جواز كتابة المدبر إلا أنهم خالفوهم في أنهم أجازوا كتابة أم الولد بينما لم يجزها المالكية. =
والمدبر أو المدبرة: الذي يقيد عتقه بموت سيده، فيقول مثلًا: أنت عتيق، أو معتَق أو أعتقق بعد موتي، أو: أنت حر بعد موتي
(1)
.
* * *
= مذهب الأحناف، يُنظر:"حاشية الشلبي على تبيين الحقائق" للزيلعي (5/ 161) حيث قال: اعلم أن كتابة أم الولد جائزة ككتابة الإماء؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} بيانه: أن أم الولد مملوكة للمولى والملك فيها باقٍ بعد الاستيلاد، ولهذا يجوز للمولى وطؤها وإجارتها واستخدامها، إلا أنه لا يجوز إخراجها عن ملكه إلى غيره بوجه من الوجوه؛ لئلا يلزم بطلان استحقاقها الحرية، فلما كان الملك فيها باقيًا جاز كتابتها؛ لأنه لا فصل في الآية بين مملوك ومملوك
…
(قوله في المتن أو مدبره) قال الأتقاني: "وإنما جاز كتابة المدبر لقيام الرق فيه إلا أنه استحق الحرية من وجه فاستحقاقها من وجه لا ينافي استحقاقها من وجه آخر فجازت ". وانظر: "المبسوط"، للسرخسي (7/ 229).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان" للعمراني (8/ 413) حيث قال: "وتصح كتابة المدبر كما يجوز عتقه، فإن أدى المال قبل موت السيد .. عتق بالكتابة، وإن مات السيد قبل الأداء وخرج من الثلث .. عتق بالتدبير، وإن لم يخرج من الثلث .. عتق منه ما احتمله الثلث، وبقي الباقي على الكتابة، وتصح كتابة أم الولد كما يصح عتقها، فإن أدت المال قبل موت السيد .. عتقت بالكتابة، وإن مات السيد قبل الأداء .. عتقت بالاستيلاد".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 596) حيث قال: " (ومن كاتب مدبره) صح (أو) كاتب (أم ولده) صح (أو دبر مكاتبه صح) ". وانظر: "الكافي"، لابن قدامة (2/ 331).
(1)
التَّدبير: مصدر دَبَّرَ العبد، والأمة تدبيرًا: إذا علق عتقَه بموته؛ لأنه يُعتق بعدما يدبر سيده، والممات: دبر الحياة، يقال: أعتقه عن دبر، أي: بعد الموت. انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع "، لأبي الفضل البعلي (ص 383).
قوله: (الْقَوْلُ فِي الْمُكَاتِبِ
وَأَمَّا الْمُكَاتِبُ؛ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا صَحِيحَ الْمِلْكِ).
فاتفقوا على وجوب أن يكون السيد مالكًا للمملوك؛ لأنه لا يجوز لإنسان أن يكاتب عبدًا لغيره، فلا يجوز أن يكاتب على ما لا يملكه، كما لا يجوز لإنسان أن يأكل مال وحق غيره، أو أن يأكل طعام غيره، ولا أن يتعدَّى على مال غيره، فلا بد أن يكون السيد مالكًا لهذا المكاتب.
وصَحِيحُ الْمِلْكِ، أي: لا يكون غاصبًا؛ لأن الغصب لا يبيح له ذلك، أي: إنسان غصب عبدًا فليس له أن يكاتبه؛ لأن هذا ملك لغيره.
قوله: (غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ).
لأنه إذا كان محجورًا عليه فليس له أن يتصرف فيما يملك
(1)
.
قوله: (صَحِيحَ الْجِسْمِ).
ألَّا يكون مريضًا
(2)
.
(1)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 128)، حيث قال:"واتفقوا أن العبد والأمة المسلمين البالغين، العاقلين المتكسبين الصالحين في دينهما إذا سألا -أو أحدهما- السيد المالك له كله لا بعضه ملكًا صحيحًا، والسيد أيضًا مسلم بالغ عاقل، غير محجور ولا سكران، والسائل كذلك أن يكاتبه، فأجابه وكاتبه على مال منجم، ولم يشرك معه في كتابته أحدًا غيره، وكاتبه كله بما يحل بيعه، من مال محدود معلوم .. أنها كتابة صحيحة".
(2)
شرط السيد ألا يكون مريضًا يفهم منه أنه لا يجوز مكاتبة المريض. والفقهاء اتفقوا على خلافه فأجازوا مكاتبته، كما سيذكره المؤلف بعد.
مذهب الأحناف، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (7/ 232) حيث قال: "وإذا كاتب الرجل عبده في مرضه على مكاتبة مثله، ولا مال له غيره ثم مات المولى؛ فإنه يقال للمكاتب: عجل الثلثين من المكاتبة والثلث عليك إلى الأجل، فإن لم يعجل رد =
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ أَمْ لَا؟).
وانقسم العلماء فيها إلى قسمين، وسيأتي التفصيل فيها.
قوله: (وَسَيَأْتِي هَذَا فِيمَا يَجُوزُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكاتَبِ مِمَّا لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ أَنْ يُكَاتَبَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِتْقٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ).
لأنه ليس من أهل العتق فكيف يعتِق غيره
(1)
.
= رقيقًا؛ لأن التأجيل تبرع منه والتبرع في مرضه بالتأخير كتبرعه بالإسقاط، فلا يصح إلا في ثلثه، بخلاف ما إذا كاتبه في صحته ".
ومذهب مالك، يُنظر:"القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 250)، حيث قال:"وكتابة المريض كعتقه من الثلث، إلا إن أجازه الورثة، وقيل: يصح كالبيع إذا لم تكن محاباة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني. (10/ 448) حيث قال: "والذي ذهب إليه الجمهور من الأئمة: أن الكتابة تصح من المريض في بعض العبد".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (10/ 370)، حيث قال:"وكتابة المريض صحيحة، فإن كان مرض الموت المخوف، اعتبر من ثلثه؛ لأنه بيع ماله بماله، فجرى مجرى الهبة، وكذلك يثبت الولاء على المكاتب؛ لكونه معتقًا، فإن خرج من الثلث، كانت الكتابة لازمة، وإن لم يخرج من الثلث، لزمت الكتابة في قدر الثلث، وسائره موقوف على إجازة الورثة".
(1)
يُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (2/ 480)، وفيها قال:"قلت: "أرأيت العبد المأذون له في التجارة أيجوز له أن يكاتب عبده؟ " قال: قال مالك: "لا يجوز له عتقه، فالكتابة عندي عتق فلا يجوز ذلك ". ".
ونقل عليش عن "المدونة" في المكاتَب، فقال:"وفي كتاب "كفالة المدونة": "ولا يجوز لعبد ولا مكاتب ولا مدبر ولا أم ولد كفالة ولا عتق ولا هبة ولا صدقة ولا غير ذلك مما هو معروف عند الناس إلا بإذن السيد، فإن فعلوا بغير إذنه فلا يجوز إن رده السيد، فإن رده فلا يلزمهم، وإن عتقوا وإن لم يرده حتى عتقوا وألزمهم ذلك علم به السيد قبل عتقهم أو لم يعلم ". انظر:"منح الجليل"(6/ 133).
وبقول المالكية فال الشافعية والحنابلة.
يُنظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (8/ 433)، حيث قال: "ولا يجوز للمكاتب أن يعتق ولا يكاتب بغير إذن سيده، دليلنا: أنه لا يجوز له العتق، فلا يجوز=
قوله: (وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كِتَابَةُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ).
وقد مر الكلام في هذه المسألة في باب العتق، و"أحاط الدين بماله"، أي: عليه دين يستوفي جميع مالَه بما في ذلك المكاتب، أي: عليه ديونٌ وجميعُ ما عنده من أموال -سواء كانتْ من النَّقدين، أو من العقارِ أو غيرها- تساويها، وأصبحَ لا يملكُ شيئًا فهل له أن يكاتب عبده؟ قوله:(إِلَّا أَنْ يُجِيزَ الْغُرَمَاءُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي ثَمَنِ كِتَابَتِهِ مِثْلُ ثَمَنِ رَقَبَتِهِ)
(1)
.
= له الكتابة، كالعبد المأذون له في التجارة، فإن أذن له سيده في ذلك .. فهو كالهبة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المباع في شرح المقنع "، لابن مفلح (6/ 51)، حيث قال:"ليس له أن يكاتب بعض رقيقه إلا بإذن سيده؛ لأنه ليس له أن يعتق، فلم يكن له أن يكاتب كالمأذون له في التجارة".
أما في مذهب الأحناف: فيجوز مكاتبة المكاتَب دون العتق ولا يجوز للمأذون له أن يكاتب ولا أن يعتق.
يُنظر: "الأصل "، للشيباني (6/ 236)، حيث قال:"قلت: "أرأيت العبد المأذون له في التجارة إذا كان كاتب عبدًا من عبيده أو أمة من إمائه هل تجوز مكاتبته؟ " قال: "لا". قلت: "ولم وقد قلت: إن للمكاتب أن يكاتب؟ " قال: "ليس المكاتب بمنزلة الماذون له في التجارة، وإنما استحسنا فى المكاتب استحسانًا، ألا ترى أنا نجيز مكاتبة الوصي وهو لا يملك ما يكاتب، ونجيز مكاتبة الرجل على ابنه إذا كان صغيرًا". قلت:"وكذلك لو قال المأذون له في التجارة لعبده: أنت حر على ألف درهم؟ " قال: "نعم، هذا أيضًا لا يجوز".
(1)
اتفق المالكية على أنه لا يجوز لمن أحاط الدين بماله أن يعتق أو يهب.
انظر: "الذخيرة" للقرافي (11/ 159) حيث قال: "ولا يجوز لمن أحاط الدين بماله عتق ولا هبة ولا صدقة وإن بعد أجل الدين، إلا بإذن غريمه؛ لأن المال تعين لقضاء الدين وهو مقدم على التبرع ".
أما في مكاتبته فعلى عدم الجواز.
يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (2/ 480): "أرأيت رجلًا أذن لعبده في التجارة فركبه الدين فأذن له سيده في أن يكاتب عبدًا له؛ أيجوز ذلك أم لا في قول مالك؟ " قال: "لا يجوز ذلك؛ لأنه إن أعتق عبدًا له بإذن سيده لم يجز ذلك في قول مالك؛ لأن المال الذي في يد العبد إنما هو للغرماء إذا كان الدين يستغرق ما في يد العبد"، =
أي: ما يعادل قيمته.
قوله: (وَأَمَّا كِتَابَةُ الْمَرِيضِ، فَإِنَّهَا عِنْدَهُ فِي الثُّلُثِ).
عنده
(1)
، وعند الإمام الشافعي
(2)
، وكذلك الإمام أحمد
(3)
.
= قلت: "والكتابة عندك على وجه العتق أو على وجه البيع؟ " قال: "على وجه العتق، ألا ترى لو أن رجلًا كاتب عبده وعليه دين يستغرق ماله كانت كتابته باطلة، إلا أن يجيز الغرماء ذلك، إلا أن يكون في من كتابته ما لو بيعت كأن يكون مثل ثمن رقبته أو ديته لو رد، فإن كان كذلك بيعت كتابته وتعجلت وقسمت بين الغرماء فإن أدى عتق، وإن عجز كان عبدًا لمن اشتراه ".
وذهب المتأخرون في مسألة الكتابة إلى التفصيل.
يُنظر: "شرح مختصر خليل "، للخرشي (5/ 264) حيث قال:"وفي كتابته قولان، قال: واختلف هل يجوز لمن أحاط الدين بماله أن يكاتب عبده بناءً على أنها كالبيع، أو لا يجوز بناءً على أنها كالعتق قولان، ومحلهما إذا كاتبه كتابة مثله أما لو كاتبه بدون كتابة مثله منعت اتفاقًا".
وممن ذهب إلى عدم الجواز كذلك الأحناف.
يُنظر: "الأصل "، للشيباني (6/ 396)، حيث قال:"وإذا كان عليه دين يحيط برقبته وبما في يديه لم يجز شيء من ذلك مكاتبةً ولا عتقًا، أذن له المولى أو لم يأذن له ". وانظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (8/ 46).
(1)
يُنظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 247)، حيث قال:"فأما المريض فيصح عتقه، ويكون في الثلث من ماله، فإن وسعة الثلث عتق جميعه، وإلا عتق ثلثه ". وانظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (4/ 392).
(2)
يُنظر: "نهاية المطلب "، للجويني (10/ 447)، حيث قال:"نقل الأئمة عن نص الشافعي "أنه قال: إذا كاتب عبدَه في مرضه، لم تثبت الكتابة إلا في الثلث "، وأطلق رضي الله عنه أن الكتابة تثبت في الثلث، فإذا أدى نجوم الثلث عتق ثلث العبد، ولا نظر إلى مقدار النجوم ".
(3)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 370)، حيث قال:"وكتابة المريض صحيحة، فإن كان مرض الحوت المخوف، اعتبر من ثلثه؛ لأنه بيع ماله بماله، فجرى مجرى الهبة، وكذلك يثبت الولاء على المكاتب؛ لكونه معتقًا، فإن خرج من الثلث، كانت الكتابة لازمة، وإن لم يخرج من الثلث، لزمت الكتابة في قدر الثلث، وسائره موقوف على إجازة الورثة، فإن أجازت، جازت، وإن ردتها، بطلت ". وانظر: "كشاف القناع "، للبهوتي (4/ 540).
قوله: (تُوقَفُ حَتَّى يَصِحَّ فَتَجُوزُ، أَوْ يَمُوتَ فَتَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ كَالْعِتْقِ سَوَاءً).
المراد هنا: بأنه لو كاتب عبده وهو على فراش الموت، وهذه الحالة يتعلق بها أحكام كثيرة، كما مر في باب العتق، وكذلك لو طلق امرأته وهو في مرضه الذي مات فيه، وكذلك أيضًا ما يتعلق بالمكاتبة.
أما العتق فينفذ؛ لأن فيه خيرًا ومصلحة، وكذلك المكاتبة، لكن هل يكون في الثلث أو في عامة ماله؟ لأنه قد مَرَّ في المباحث الوصية واختلاف العلماء فيها، وأن الوصية مما شُرِعت، وأنه ربما يقصِّر الإنسان في هذه الحياة، فشرعت له الوصية؛ حتَّى يتدارك ما فاته، فيترك عملًا طيبًا يجد عقباه بعد مماته.
ثم اختلفوا هل له أن يوصي بجميع ماله؟
فمنهم من قال: لا يجوز؛ لحديث سعد بن أبي وقاص فعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ:"يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ:"لَا"، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ، قَالَ:"لَا"، قُلْتُ: الثُّلُثُ، قَالَ:"فَالثّلثُ، وَالثّلثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ "
(1)
.
وبعضهم يرى أنه لا يصل إلى الثلث.
تم اختلفوا فبعضهم قال: الربع، وبعضهم قال: الخمس، وما اختاره أبو بكر وما اختاره غيره، وكل ذلك قد مرَّ تفصيلا.
(1)
أخرجه البخاري (2742)، ومسلم (1628/ 5).
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنْ حَابَى
(1)
كَانَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُحَابِ سَعَى، فَإِنْ أَدَّى وَهُوَ فِي الْمَرَضِ عُتِقَ
(2)
، وَتَجُوزُ عِنْدَهُ كِتَابَةُ النَّصْرَانِيِّ الْمُسْلِمَ).
وتجوز عنده
(3)
، وعند الإمام الشافعي
(4)
، وأحمد أيضًا
(5)
، وهذا
(1)
المحاباة في البيع: حط بعض الثمن، وهي مفاعلة من الحباء وهو العطاء. انظر:"طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 163).
(2)
مسألة كتابة المريض. ينظر: "المدونة"، لابن القاسم (2/ 497 - 498) حيث قال: وقال لي مالك: "ما باع المريض أو اشترى فهو جائز إلا أن يكون حابى، فإن حابى كان ذلك في ثلثه "، قلت:"فإن كاتب عبده وهو مريض ولم يحابه فأدى كتابته قبل موت السيد؛ أيعتق ولا يكون عليه شيء؟ بمنزلة بيع المريض وشرائه في مرضه في قول مالك، أم ماذا يكون على المكاتب؟ " قال: "ما أراه إلا مثل البيع؛ إنه حر، ولا سبيل للورثة عليه، ولا كلام لهم فيه ".
(3)
يُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (2/ 485). حيث قال:"قلت: "أرأيت النصراني يكاتب عبده النصراني ثم يسلم المكاتب؟ قال: "بلغني عن مالك أنه قال: "تباع كتابته ". قلت: "فإن اشترى عبدًا مسلمًا فكاتبه" قال: "تباع كتابته؛ لأن مالكًا قال -أيضًا في النصراني يبتاع المسلم-: إنه يباع عليه، ولا يفسخ شراؤه، فهو إذا اشتراه ثم كاتبه قبل أن يبيعه بيعت كتابتهن فبيع كتابته كأنها بيع له؛ لأنه إن رق فهو لمن اشتراه، وإن عتق كان حرًّا، وكان ولاؤه لجميع المسلمين، فإن أسلم مولاه بعد ذلك لم يرجع إليه ولاؤه ". قال:"وسألنا مالكًا عن النصراني يشتري المسلم، قال مالك: "لا يرد بيعه، ولكن يجبر هذا النصراني على بيعه "، قال: "فإن كان كاتبه هذا النصراني قبل أن يباع عليه، أجبر النصراني على بيع الكتابة". ".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 253)، حيث قال:"قال الشافعي رضي الله عنه: "(فإن أسلم العبد ثم ترافعا إلينا فهو على الكتابة إلا أن يعجز فيباع على النصراني)، قال الماوردي: وهذا صحيح، إذا كانت كتابة النصراني جائزة حملًا عليها، وأخذًا بموجبها، سواء أقامها على النصرانية أو أسلم السيد أو المكاتب أو هما؛ لأن عقد الكتابة يصح في كلا الحالين، فلم يؤثر فيها انتقال المكاتب من النصرانية إلى الإسلام، فإن أدى عتق، وكان ولاؤه لسيده، وإن كان لا يرثه به مع اختلاف الدين، وإن عجز عاد رقيقًا، والسيد على نصرانيته لم يقر على ملكه؛ لأنه ممنوع من استرقاق مسلم، وأخذ ببيعه أو عتقه، ولا يؤخذ بذلك قبل عجزه؛ لخروجه بالكتابة عن حكم ملكه، وإفضائه بها إلى عتقه ".
(5)
في مذهب أحمد قولان.
يُنظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد" للكلوذاني (ص 377) حيث قال: "وإذا =
كلام مجمل، أي: أن النصراني إذا كان عنده عبد وأسلم جاز أن يكاتبه، وتكون المكاتبة صحيحة.
قوله: (وَيُبَاعُ عَلَيْهِ كَمَا يُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُ).
فبمجرد أن كاتبه فأسلم فإنه يباع عليه، لكن عند الاخرين يقولون: لا، الكتابة نوع من الخروج، وهو لم يكن كما كان، قال تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، لكنَّه هنا كاتب نفسه، وبدأ بالعمل ليحرر نفسه
(1)
.
= أسلم عبد الذمي أجبر على إزالة ملكه عنه، ولم يكن له كتابته، وقال شيخنا:"يكون له ذلك، وينفق من مال الكتابة على نفسه وولده من أمته، ويخرج فطرتهم "، قال المرداوي:"والقول الأول هو المذهب". ". وانظر: "الإنصاف" (4/ 329).
وهو كذلك مذهب الأحناف. ينظر: "الأصل "، للشيباني (6/ 286)، حيث قال:"قلت: "أرأيت ذميًّا كاتب عبدًا له، والعبد ذمي، ثم إن العبد أسلم وهو مكاتب، ما القول في ذلك؟ " قال:"هو على مكاتبته، فإن أدى عتق، وإن عجز أجبر المولى على بيعه ". قلت: "ويسعى له في المكاتبة وهو مسلم؟ " قال: "نعم ". قلت: "من يرثه إن مات وقد أدى، وليس له وارث من المسلمين؟ " قال: "يرثه بيت المال "، قلت:"أرأيت نصرانيًا ابتاع عبدًا مسلمًا فكاتبه؛ هل تجوز مكاتبته؟ " قال: "نعم "، قلت:"ولا يرد المكاتبة؟ " قال: "لا". قلت: "ولمَ وأنت تجبر النصراني على بيعه؟ " قال: "لأني أجبره على بيعه ما دام عبدًا، فأما إذا كاتبه فإني أجيز المكاتبة". ".
(1)
قصد الشارح من هذا: أن مذهب المالكية: "أن العبد إذا أسلم وكان تحت نصراني، فإنه يباع عليه، ولا يكتفى بمجرد الكتابة، وإن كانت نوعًا من الخروج، وهذا خلاف غيره، فإنهم رأوا أن مجرد الكتابة كافٍ في خروج المسلم من تحت يده، فإن لم تكن كتابة أجبر على بيعه ".
ينظر: "شرح التلقين" للمازري (2/ 939، 940) حيث قال: "أمَّا الكتابة فلا يختلف مذهبنا في أن لا تجزئ في رفع يده عنه؛ لكون المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وأحكام الرقِّ باقية عليه لِسَيِّده النّصراني، فلا يكتفَى بها في إخراجه من يد النَّصرانيِّ الذي اشتراه".
ووافق الحنابلةُ المالكيةَ في هذه المسألة.
مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 596، 597)، حيث قال: " (ولو أسلم مدبر) لكافر (أو) أسلم (قن) لكافر (أو أسلم مكاتب لكافر ألزم=
قوله: (فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَرْكَانِ، أَعْنِي الْمُكَاتِبَ وَالْمُكَاتَبَ وَالْكِتَابَةَ).
لأن كل ما مر متعلق إما بالكتابة، وإما بأحكام تتعلق بالسيد، وماذا يفعل نحو مكاتبه، وإما بالمكاتمب نفسه، وكيفية خروجه من ذلك الرق.
* * *
[أَحْكَامُ الْكِتَابَةِ]
قوله: (وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَكَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا مِنَ الَّتِي لَا تَجُوزُ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسُ الْأَحْكَامِ الْأُولَى فِي هَذَا
= بإزالة ملكه) عنه، لئلا يبقى ملك كافر على مسلم مع إمكان بيعه بخلاف أم ولد (فإن أبى) الكافر إزالة ملكه عمن أسلم (بيع) أي: باعه الحاكم (عليه) إزالة لملكه عنه، لقوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ". وانظر: "الإقناع"، للحجاوي (2/ 75).
وفي مذهب الشافعية وجهان.
يُنظر: "نهاية المطلب "، للجويني (19/ 458)، حيث قال:"إذا أسلم العبدُ الكافرُ تحت يد الذمي، حملناه على بيعه، فإن أبى بعناه عليه، فإن كاتبه؛ فهل تسقط الطَّلِبةُ بالكتابة؟ فعلى وجهين: أحدهما -لا تسقط، وتفسخ الكتابة، ويباعُ العبدُ؛ فإن الفسخ ممكن بخلاف أمية الولد، والثاني- ننكف عنه؛ فإن الكتابة توجب استقلالَ المكاتب، وانقطاعَ سلطان المالك، وهي أجدى على العبد من حيث تُفضي إلى عتقه ".
وخالف الأحناف المالكية فى المسألة.
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (8/ 56)، حيث قال:" (قال) رضي الله عنه: ذمي ابتاع عبدًا مسلمًا، فكاتبه فهو جائز ولا يرد؛ لأن شراءه صحيح عندنا، فإنما كاتب ملكه، وكان مجبرًا على بيعه؛ ليزول به ذل الكفر عن المسلم، وقد حصل هذا بالكتابة؛ لأن المكاتب بمنزلة الحريدًا". وانظر: "الأصل "، للشيباني (6/ 286).
الْعَقْدِ هُوَ أَنْ يُقَالَ: مَتَى يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ؟ وَمَتَى يَعْجِزُ فَيَرِقُّ؟).
من المعلوم أن العلماء مجمعون على أنه إذا أدى ما عليه عُتق
(1)
، لكن اختلفوا هل يعتق بمجرد الكتابة؟ أو يعتق إذا أدى قدرًا معينًا فيعتق بقدر ما أدَّى؟ أي: تكون حريته بقدر تأديته ما عليه، أو تكون حريته بقدر ما يؤدي من قيمته؟
فلو أدَّى مثلًا عشرة آلاف، وقيمته لو بيع عشرة آلاف يكون حرًّا، أو أنه يكون حرًّا إذا أدى الثلث، أو إذا أدى النصف، أو إذا أدى الثلثين، أو أنه يبقى مملوكًا رقيقًا حتَّى ولو بقي عليه درهم واحد؟
أقوال العلماء في هذه المسألة متعددة وكثيرة وسيذكر أكثرها المؤلف فيما يأتي.
قوله: (وَكَيْفَ حَالُهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ أَوْ يَرِقَّ؟ وَمَنْ يَدْخُلُ مَعَهُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ مِمَّنْ لَا يَدْخُلُ؟).
أي: إذا كان له أولاد، أو له أم ولد إلى آخره.
قوله: (وَتَمْيِيزُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَجْرِ الرِّقِّ مِمَّا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ، فَلْنَبْدَأْ بِذِكْرِ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي فِي جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْخَمْسَةِ. الْجِنْسُ الْأَوَّلُ: فَأَمَّا مَتَى يَخْرُجُ مِنَ الرِّقِّ؟ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الرِّقِّ إِذَا أَدَّى جَمِيعَ الْكِتَابَةِ).
هذا لا خلاف فيه بين العلماء؛ لأنَّه إذا سدد ما عليه خرج من الرق.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَجَزَ عَنِ الْبَعْضِ وَقَدْ أَدَّى الْبَعْضَ).
فتعددت الأقوال بين أن يعود رقيقًا، أو يكون حرًّا بمجرد الكتابة.
(1)
يُنظر: "الإجماع " لابن المنذر (ص 122) حيث قال: "وأجمعوا على أن المكاتب كتابة صحيحة إذا أدى نُجومه في أوقاتِها على ما شرط عليه أنه يعتق ".
قوله: (فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ مِنْ كتَابَتِهِ شَيْءٌ).
ومن جمهور العلماء: الأئمة الأربعة؛ أبو حنيفة
(1)
ومالك
(2)
والشافعي
(3)
وأحمد
(4)
، فهؤلاء ومن معهم متفقون على أنه لو بقي عليه شيء ولو درهم واحد كما جاء في الحديث:"الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتبَتِهِ دِرْهَمٌ"
(5)
، وكذلك الحديث الذي فيه "أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَةَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ"
(6)
، وقد جاء به المؤلف في إحدى الروايات دليلًا للجمهور.
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (7/ 206) حيث قال: "وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه يقول: "هو عبد ما بقي عليه درهم "، وبه أخذ جمهور الفقهاء، وقالوا: "لا يعتق ما لم يؤد جميع البدل "، والدليل عليه: الحديث الذي بدأ به الكتاب، ورواه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كاتب عبده على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو رقيق" والأوقية: أربعون درهما، وفي هذا دليل على أنه لم يعتق شيء منه إلا بأداء جميع البدل ".
(2)
يُنظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (22/ 174)، حيث قال:"وقد روي عن عمر وابن عمر وزيد ابن ثابت وعائشة وأم سلمة: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم "، وهو قول سعيد ابن المسيب والقاسم وسليمان بن يسار والزهري وقتادة وعطاء، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، والثوري وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري ".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (6/ 494، 495)، حيث قال:" (ولا يعتق شيء من المكاتب حتى يؤدي) للسيد (الجميع) من النجوم لحديث "المكاتب قن ما بقي عليه درهم" وفي معنى أدائه حط الباقي عنه الواجب والإبراء منه والحوالة به".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 599)، حيث قال:" (ومتى أدى) المكاتب (ما عليه) من كتابة (فقبضه) منه (سيده أو وليه) أي: السيد إن كان محجورًا عليه عتق؛ لمفهوم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" فقد دل الحديث بمنطوقه على أنه لا يعتق حتى يؤدي كتابته، جميع كتابته، ودل بمفهومه على أنه إذا أدى جميع كتابته لا يبقى عبدًا".
(5)
أخرجه أبو داود (3926) وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"(3399).
(6)
أخرجه أبو داود (3927)، وغيره، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(2735).
قوله: (وَأَنَّهُ يَرِقُّ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْبَعْضِ، وَرُوِيَ عَنِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ).
ومن السلف متقدم ومتأخر كما هو معلوم، ويعبَّر عن المتأخرين بالخلف، وكل من نهج منهج السلف قيل عنه سلفي؛ لأنه سار على طريق الكتاب والسنة، فأشار المؤلف رحمه الله إلى قول السلف المتقدمين، الذين كانوا في الصدر الأول، بأن مجرد تمام عقد الكتابة يصبح العبد حرًّا، ثم بعد ذلك يبدأ بأداء ما عليه، ولو عجز فحينئذ تبدأ المطالبة.
قوله: (سِوَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَقْوَال أَرْبَعَةٌ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْتَقُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ).
أي: بمجرد أن تتم الكتابة يصير حرًّا، وقد نقل هذا عن ابن عبد البر، ولم يسمِّ هؤلاء
(1)
.
قوله: (وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى).
هذا للحديث الذي سيأتي، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(2)
.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 372)، حيث قال: "فأما السلف قبلهم فقد روي عنهم في ذلك اختلاف كثير منه: أن المكاتب إن أعقدت له الكتابة فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق أبدًا؛ لأنه قد ابتاع نفسه من سيده بثمن معلوم إلى أجل معلوم، وهذا قول تردُّه السنة الثابتة في قصة بريرة من حديث عائشة وغيرها: أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا
…
فهذا يدل ويبين أن المكاتب عبد جائز بيعه للعتاقة إذا عقدت كتابته ولم يؤد منها شيئًا، وأنه لو كان يعقد كتابته حرًا غريمًا من الغرماء لم يجز بيعه عند أكثر العلماء".
وممن نقل هذا أيضًا ابن القطان، قال:"وأجمعوا أن المكاتب لا يعتق بعقد الكتابة حتى يؤدي شيئًا من المال، إلا رواية شذ بها أيوب الفرائضي عن ابن عباس بغير إسناد ذكره له إليه: أنه يعتق ويكون جميع المال دينًا عليه ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 134).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 410) عن معمر عن قتادة أن عليا قال في المكاتب: "يورث بقدر ما أدى، ويجلد الحد بقدر ما أدى، ويعتق بقدر ما أدى، وتكون ديته بقدر ما أدى".
قوله: (وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْتَقُ إِنْ أَدَّى النِّصْفَ فَأَكْثَرَ).
وهذا أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1)
.
قوله: (وَالرَّابعُ: إِنْ أَدَّى الثُّلُثَ وَإِلَّا فَهُوَ عَبْدٌ).
قيل النصف عن عمر رضي الله عنه
(2)
، وقيل أيضًا: ثلاثة أرباع، وأثر هذا القول عن عطاء
(3)
.
وهناك من قال بالثلث، وهذا أثر عن عبد الله بن مسعود وشريح
(4)
.
ولهما قول آخر: وهو إن أدى قدر قيمته، أي: لو أنه أدى مبلغًا من الكتابة، وهذا المبلغ يساوي قيمته إن بيع
(5)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ).
أي: دليل الجمهور.
قوله: (مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشَرَةَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 410) عن معمر، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن جابر بن سمرة، أن عمر بن الخطاب قال:"إذا أدى المكاتب إلا الشطر فلا رق عليه ".
(2)
سبق ذكره.
(3)
يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (8/ 246)، حيث قال:"وقول عطاء: "إذا أدى ثلاثة أرباع كتابته فهو غريم ". ".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 411) عن الثوري أنه ذكر عن جابر، عن الشعبي، أن ابن مسعود، وشريحًا كانا يقولان:"إذا أدى الثلث فهو غريم ".
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 411) عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، أن شريحًا كان يقول:"إذا أدى المكاتب قيمته، فهو غريم "، قال الشعبي:"فكان يقول فيه بقول عبد الله بن مسعود".
وأخرج عن الثوري أنه قال: "وأما مغيرة فأخبرني عن إبراهيم أن ابن مسعود قال: "إذا أدى قدر ثمنه فهو غريم ". ".
أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشَرَةً فَهُوَ عَبْدٌ"
(1)
.
إذًا دليل قول الجمهور ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضًا هو قول عليِّ بن أبي طالب
(2)
، وجاء في بعض روايات هذا الحديث:"الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ شَىْءٌ"
(3)
، وفي رواية أخرى:"الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتبَتِهِ دِرْهَمٌ "
(4)
، وصحح ابن حجر الرواية الأخيرة
(5)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ يَعْتِقُ بِنَفْسِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ: تَشْبِيهُهُ إِيَّاهُ بِالْبَيْعِ، فَكَأَنَّ الْمُكَاتَبَ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ).
هذا أيضًا لم يذكره وقد أخرجه أصحاب السنن إلا ابن ماجه، وهو أيضًا حديث حسن
(6)
.
قوله: (فَإِنْ عَجَزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا أَنْ يُتْبِعَهُ بِالْمَالِ، كمَا لَوْ أَفْلَسَ مَنِ اشْتَرَاهُ مِنْهُ إِلَى أَجَلٍ وَقَدْ مَاتَ
(7)
. وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق ذكر أثر عليٍّ.
(3)
أخرج هذه الرواية مالك في موطأه برواية الشيباني (ص 306)، قال: أخبرنا مالك أخبرنا نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته شيء".
(4)
أخرجه أبو داود (3926) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(5)
أقرب ما وقفت عليه من تصحيح الحافظ للحديث قوله في تخريج الحديث في "بلوغ المرام"(ص 527): "أخرجه أبو داود بإسناد حسن "، وأصله عند أحمد والثلاثة، وصححه الحاكم.
(6)
لم يتبين لي مقصود الشارح من هذا الحديث الذي قصده، إلا أن يكون الحديث السابق -المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم- وإن كان ذلك كذلك فلم يخرجه إلا أبو داود كما سبق.
(7)
لم أقف على من استدل لهذا الفريق بهذا الدليل النظري، والظاهر أن المؤلف استدل بأصول عامة من أن تشبيهه بالبيع يجعل الدين متعلقًا بالمال لا بالرقبة، فيبقى حرًّا =
مَا أَدَّى: مَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُؤدِّي المُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ، وَبِقَدْرِ مَا رُقَّ مِنْهُ دِيَةَ عَبْدٍ" خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ
(1)
).
أي: لو كانت على العبد المكاتب دية أداها بقدر ما أدى في المكاتبة، فإن أدى في المكاتبة مثلًا ألفي ريال يكون قد تحرر منه جزء، فتقدر الدية بقدر ما أدى من المكاتبة على اعتبار أنه حر، وباقي الدية تقدر وتؤدى على اعتبار أنه عبد.
قوله: (وَالْخِلَافُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ عِكْرِمَةَ
(2)
، كمَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَحَادِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
(3)
مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ
= بمجرد الكتابة، ويكون مطالبًا بسداد الدين، ويكون بكتابته كأنه اشترى نفسه من سيده.
(1)
أخرج النسائي (4810)، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكاتب يودى بقدر ما أدى من مكاتبته دية الحر، وما بقي دية العبد".
وأخرجه أيضًا أبو داود (4581)، بلفظ:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: في دية المكاتب يقتل يودى ما أدى، من مكاتبته دية الحر وما بقي دية المملوك "، وصححه الألباني في "الإرواء"(1726).
(2)
قال البيهقي تعليقًا على هذا الحديث: "حديث عكرمة إذا وقع فيه الاختلاف وجب التوقف فيه، وهذا المذهب إنما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو: "أنه يعتق بقدر ما أدى"، وفي ثبوته عن النبس صلى الله عليه وسلم نظر، والله أعلم ". انظر: "السنن الكبرى"(10/ 549).
(3)
اختلافهم في أحاديث عمرو بن شعيب: سببه اختلافهم في عود الضمير في جده، هل هو جد عمرو: محمد بن عبد الله بن عمرو، فتكون الرواية مرسلة، أم هو جد شعيب عبد الله بن عمرو فتحمل الرواية على الاتصال؟
نقل النووي هذا الخلاف وذكر أن الأكثر على الاحتجاج به، ومنهم الأوزاعي وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه. قال النووي:"قال ابن عدي: "روى عنه أئمة الناس وثقاتهم، ولكن أحاديثه عن أبيه عن جده مع احتمالهم إياه لم يدخلوها في الصحاح "؟ وأنكر بعضهم سماع شعيب من جده عبد الله بن=
صَحِيفَةٍ
(1)
، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ عَلِيٌّ
(2)
).
أحاديث عمر بن شعيب متكلَّم فيها، ومن العلماء من صحح بعضها.
قوله: (أَعْنِي: بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
يعني: القول الذي استدلَّ به الجمهور.
قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الشَّطْرَ عُتِقَ).
وقد أثر عن عمر الشطر الذي هو النصف، وقد مر عندما عدَّد المؤلف الأقوال، وذكرنا أنه قول عمر.
قوله: (وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِذَا أَدَّى الثُّلُثَ).
ومثله شريح
(3)
.
قوله: (وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً، فَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إِذَا صَدَرَ مِنْهُمْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ سُنَّةً بَلَغَتْهُمْ).
وهذه مسألة اختلف فيها الأصوليون - كما هو معلوم- عند من يعرف
= عمرو، وقال:"إنما سمع أباه محمد بن عبد الله بن عمرو، فتكون رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبيِّ مرسلة"، وهذا إنكار ضعيف، وأثبت الدارقطني وغيره من الأئمة سماع شعيب من عبد الله، وقال أبو بكر النيسابوري:"صح سماع شعيب من جده عبد الله ". فالصحيح المختار صحة الاحتجاج به عن أبيه عن جده، كما قاله الأكثرون كما سبق ". وانظر:"تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 28 - 30).
(1)
صحيفة عمرو بن شعيب: هي مجموعة من الأحاديث رواها جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم، ولم يتواتر الرواية عن آبائهم وأجدادهم إلا عنهم، ومثلها صحيفة بهز بنُ حكيم عن أبيه عن جده، وصحيفة إياس بن معاوية بن قرة المزني عن أبيه عن جده. وانظر في بيان ذلك:"المدخل إلى كتاب الإكليل "، للحاكم (ص 40).
(2)
سبق ذكر أثر رضي الله عنه.
(3)
سبقت هذه الآثار.
ذلك، واختلف هل قول الصحابي حجة أم لا؟ لكن لنعلم بأن الصحابة إذا اتفقوا على قول فقولهم حجة، وإذا قال بعضهم قولًا ولم يخالفه أحد فقوله حجة
(1)
، أما إذا قال قولًا وخالفه غيره فلا يكون حجة، وإذا قال قولًا وخالف غيره؛ فهل هو مستند إلى دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو أن ذلك قولًا يخصه؟
(2)
.
فعندما يقول الصحابي: "مضت السنة، أو من السنة"، فإن قوله يعطى حكم الرفع، وفيها تفصيل سيأتي
(3)
.
(1)
يُنظر: "المسودة في أصول الفقه "، لمجد الدين ابن تيمية (ص 336، 337)، حيث قال:"إذا قال الصحابي قولًا ولم ينقل عن صحابي خلافه، وهو مما يجرى بمثله القياس والاجتهاد فهو حجة، نص عليه أحمد في مواضع، وقدمه على القياس، واختاره أبو بكر في التنبيه، قال الشافعي: "وإن قال واحد منهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله ". ".
وإليه ذهب من الحنفية محمد بن الحسن والبرذعي والرازي والجرجاني، وبه قال مالك وإسحاق والشافعي في القديم وفي الجديد أيضًا والجبائي، .. وهو قول الكرخي الحنفي وأكثر الشافعية أبى الطيب وغيره وعامة المتكلمين من المعتزلة والأشعرية.
(2)
يُنظر: "الورقات "، للجويني (ص 24) حيث قال:"إجماع هذه الأمة حجة دون غيرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" والشرع ورد بعصمة هذه الأمة، والإجماع يصح بقولهم وبفعله من وبقول البعض، وبفعل البعض وانتشار ذلك وسكوت الباقين، وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره على القول الجديد".
(3)
يُنظر: "المعتمد" لأبي الحسين البصري (2/ 172 - 175)، حيث قال: "قول الصحابي: أُمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، أو أوجب علينا كذا أو أبيح لنا كذا أو حظر علينا كذا، أو من السنة كذا، وكذلك أن يقول الصحابي قلت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: كنا نفعل كذا وكذا، وقوله: كانوا يفعلون كذا وكذا، أو يقول قولًا لا مجال للاجتهاد فيه؛ اختلفوا فيه:
فأما قول الصحابي: "أمرنا أن نفعل كذا، أو نهينا عن كذا"، فذهب الشافعي والشيخ أبو عبد الله وقاضي القضاة أنه يفيد أن الآمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ أبو الحسن:"ليس ذلك هو الظاهر؛ بل يجوز أن يكون الآمر غيره ". =
وهذه المسألة قد اختُلف فيها -كما مر- بين الصحابة، وتنوعت أقوالهم، فعليٌّ له قول، وعمرُ له قول، وعبد الله بن مسعود له قول، وزيد بن ثابت له قول، وعائشة لها قول؛ لأن عائشة قولها كقول الجمهور، وابن عمر رأيه كرأي الجمهور، إذًا اختلف الصحابة فى هذه المسألة، فلا يقال بأن قول فلان هنا هو القول الصحيح، لكن ننظر الأدلة في هذا المقام، ونقدم الأقوى، وهو الأحوط، هذا الذي ننظر فيه في هذا المقام
(1)
.
قوله: (وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ خَامِسٌ: إِذَا أَدَّى الثَّلَاثَةَ الْأرْبَاعِ عُتِقَ)
(2)
.
هذا القول فيما يتعلق بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، والذي يؤتى في قول بعض العلماء: أي شيء يؤتى، كما هو مذهب الإمام الشافعي ومالك، وإن كان الإمام مالك والشافعي
= وأما قول الصحابي: "أوجب علينا كذا، أو حظر علينا كذا، أو أبيح لنا كذا"؛ فإنه يفهم منه أن الموجب المبيح الحاظر هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإباحة والحظر والإيجاب على الحقيقة لا تحصل من بشر سواه.
وإذا قال الإنسان: "من السنة كذا"؛ لم يعقل منه إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أن قولنا: هذا الفعل طاعة، يفيد أنه طاعة لله تعالى ولرسوله.
وأما قول الصحابي: "عن النبي صلى الله عليه وسلم ": فقد قال قوم: "إنه يحتمل أن يكون أخبره غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه منه "، وقال قوم:"الظاهر أنه سمعه منه ".
وأما إذا قال الصحابي: "كنا نفعل كذا وكذا": فالظاهر منه أنه قصد أن يعلمنا بهذا الكلام حكمًا ويفيدنا شرعًان ولا يكون كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على وجه يظهر له فلا ينكره.
وأما إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه: فحسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق، فإذا لم يكن الاجتهاد فليس إلا أنه سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ". وينظر أيضًا:"الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (2/ 97).
(1)
سبق ذكر هذه الآثار.
(2)
سبق ذكر هذا القول عن عطاء.
يختلفان في الإيتاء، فهو عند الشافعي واجب كأحمد، وليس بواجب عند مالك كأبي حنيفة فالإيتاء عندهما سنة
(1)
.
والإمام مالك والشافعي -رحمهم الله تعالى- لا يحدان الإيتاء بقدر
(2)
، وهذا ما فسر به عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الآية:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، قال: يُؤتى المكاتبون شيئًا، وفسَّره علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما مر بالرُّبع
(3)
.
قوله: (إِذَا أَدَّى الثَّلَاثَةَ الْأرْبَاعِ عُتِقَ، وَبَقِيَ عَدِيمًا
(4)
فِي بَاقِي الْمَالِ).
هذه المسألة تتعلَّق بالوقت الذي يصير فيه حرًّا، والوقت الذي يبقى فيه عبدًا.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ فَهُوَ غَرِيمٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
(5)
، وَالْأشْهَرُ عَنْ عُمَرَ
(6)
(1)
سبق ذكر حكم الإيتاء عند الفقهاء.
(2)
سبق بيان قدر الإيتاء عند الفقهاء.
(3)
سبقت هذه الآثار.
(4)
الرجل العديم الذي لا مالَ له، وقد عَدِمَ مالَه وفَقَدَهُ وذهَبَ عنه. والعديمُ: الفقيرُ، لأنَّه فقد الغنى، وأيِس منه. انظر:"العين" للخليل (2/ 56).
(5)
سبق بيان أن هذا قول لعبد الله بن مسعود وشريح، أما قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت: فالثابت عنهم أنهم قالوا: "هو عبد ما بقي عليه درهم ".
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 408) عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم بن أبي المخارق، أن زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة كانوا يقولون:"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم "، فخاصمهم زيد "بان المكاتب يدخل على أمهات المؤمنين ما بقي عليه شيء". وهذا القول هو الذي عليه الجمهور. انظر:"الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 375)، "المغني"، لابن قدامة (6/ 347).
(6)
وروي عنه النصف، كما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 410)، عن جابر بن سمرة، أن عمر بن الخطاب، قال:"إذا أدى المكاتب إلا الشطر فلا رق عليه ". وانظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 373).
وَأُمّ سَلَمَةَ وَهُوَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ
(1)
. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ
(2)
.
وقول الجمهور أنه يبقى رقيقًا ما بقي عليه شيء.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ صِحَّةً لَا شَكَّ فِيهَا، رَوَى ذَلِكَ مَالِكٌ فِي "مُوَطَّئِهِ"
(3)
، وَأَيْضًا فَهُوَ أَحْوَطُ لِأَمْوَالِ السَّادَاتِ، وَلِأَنَّ فِي الْمَبِيعَاتِ يَرْجِعُ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ لَهُ إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 179) حيث قال: "لا يعتق المكات إلا بأداء جميع الكتابة، وبه قال من الصحابة عمر وعثمان وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (6/ 347).
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 408) عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 375) حيث قال: "وهو قول سعيد بن المسيب، وجمهور فقهاء المدينة، وقول الشعبي وإبراهيم وابن شهاب الزهري والحكم والحارث العكلي وقتادة وعمر بن عبد العزيز، وبه قال جماعة أهل الفتوى بالأمصار مالك وعبد العزيز والليث والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق ".
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(5/ 1146) عن نافع؛ أن عبد الله بن عمر كان يقول: "المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء". وكذا عن عروة بن الزبير وسليمان بن يسار، أنهما كانا يقولان:"المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء". قال يحيى، قال مالك:"وهو رأيي ".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (18/ 180) حيث قال: "ولأن الكتابة لا تخلو إما أن يغلب فيها حكم المعاوضة، فتجري مجرى البيع، أو يغلب فيها حكم الصفة، فتجري مجرى العتق بالصفة، فإن جرت مجرى البيع فالبيع لا يلزم إلا بتسليم جميع ثمنه، وإن جرى مجرى العتق بالصفة لم تقع إلا بوجود جميع الصفة، فبطل بهذا ما قالوه، فأما حديث عكرمة مع ضعفه، فلا حجة فيه؛ لأنه جعل ديته بقدر ما عتق منه، فلم يكن فيه دليل على قدر ما يعتق منه، ويكون إن صح محمولًا على عتق أحد الابنين على ما مضى".
أي: صحت الرواية عن هؤلاء النفر من الصحابة الذين ذكرهم
(1)
.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
الْجِنْسُ الثَّانِي: وَأَمَّا مَتَى يَرِقُّ؟).
واختلف العلماء بين إبقائه في الرق أو حريته إذا عجز عن الأداء.
قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَرِقُّ إِذَا عَجَزَ إِمَّا عَنِ الْبَعْضِ وَإِمَّا عَنِ الْكُلِّ، بِحَسَبِ مَا قَدَّمْنَا اخْتِلَافَهُمْ)
(2)
.
والأقوال في ذلك عديدة.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلْعَبْدِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ إِذَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ؟).
هذه المسألة حقيقة اضطرب فيها المؤلف رحمه الله فنقل بعض الأقوال، وهو كلام ابن عبد البر في "الاستذكار"، وابن عبد البر رحمه الله قارب بين شيئين: فتكلم عن بيع المكاتب وأتبعه فأدخل فيه أيضًا موضوع التعجيز، فيبدو أن المؤلف اختصر فوقع في الخطأ في مذهبي الإمام أبي حنيفة والشافعي، ولذلك لا بد من تصحيحٍ لهذه المسألة، وسيأتي أن ما يذكره عن أبي حنيفة من تعليل يتناقض مع ذكر موافقته للإمام مالك.
(1)
سبق ذكر هذا كله.
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 131) حيث قال: "واتفق الجميع أن العبد إذا عجز عن أداء ما كوتب عليه بطلت كتابته، واتفقوا أن المكاتب يرجع عبدًا إذا كوتب فحل عليه النجم فعجز عن الأداء، وأن الكتابة تبطل ويعود رقيقًا غير مكاتب كما كان، ولا سبيل للسيد فيما كان يطالبه به ".
قوله: (أَمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِسَبَبٍ؟).
المقصود أن عقد الكتابة عقد لازم من الطرفين كسائر العقود، كعقد البيع من الطرفين البائع والمشتري، وكذلك الحال في عقد الإجارة وفي كثير من العقود، فهي إن كانت لازمة فلا يختلف فيها الطرفان، وإن كانت غير لازمة فكذلك أيضًا، وسيذكر المؤلف قولًا عن الإمامين أبي حنيفة ومالك عكس قولهما.
قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْكِتَابَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ).
عقد لازم في حق السيد وليس العبد هذا هو قول الإمام الشافعي، ولزوم عقد المكاتبة في حق السيد مذهب أبي حنيفة أيضًا.
إذًا؛ الإمامان أبو حنيفة والشافعي يقولون بلزوم عقد المكاتبة في حق السيد
(1)
.
قوله: (وَهِيَ فِي حَقِّ السَّيِّدِ غَيْرُ لَازِمَةٍ).
وكما مَرَّ أن الصحيح أن نقلب الأمر الموجود؛ فهي في حق السيد لازمة عند الشافعي وأبي حنيفة، وغير لازمة في حق العبد، وسيأتي مغلب ومغلب عليه في تعليل الحنفية، ولذلك يوافق الإمام أحمد مالكًا ويخالفهما
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 159) حيث قال: "والكتابة تنفسخ بفسخ العبد من غير رضا المولى، بأن يقول: فسخت المكاتبة، أو كسرتها سواء كانت فاسدة أو صحيحة، لما ذكرنا أنها وإن كانت صحيحة فإنها غير لازمة في جانب العبد نظرًا له، فيملك الفسخ من غير رضا المولى، والمولى لا يملك الفسخ من غير رضا المكاتب؛ لأنها عقد لازم في جانبه ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"فتح القريب "، لابن قاسم الغزي (ص 346)، حيث قال:" (وهي)، أي: الكتابة الصحيحة (من جهة السيد لازمة)، فليس له فسخها بعد لزومها إلا أن يعجز المكاتب عن أداء النجم أو بعضه عند المحل، كقوله: عجزْتُ عن ذلك، فللسيد حينئذٍ فسخها، وفي معنى العجز: امتناع المكاتب من أداء النجوم مع القدرة عليها. (و) الكتابة (من جهة) العبد (المكاتب جائزة؛ فله) بعد عقد الكتابة تعجيز نفسه بالطريق السابق ". وانظر: "التهذيب "، للبغوي (8/ 481).
أبو حنيفة، فالإمامان مالك وأحمد هما اللذان يقولان بأن عقد الكتابة لازم من الطرفين.
أما أبو حنيفة والشافعي -كما مر- فيقولان بلزوم عقد المكاتبة في حق السيد، فعلى السيد أن يلتزم بالعقد؛ لأنه الجانب الأقوى، أما العبد فهو الجانب الضعيف لتقدير عجزه، وربما يُعجِز نفسَه، كأن يقول: لا أستطيع إتمام العقد، كما حصل مع عبدٍ لعبد الله بن عمر، فحينها يعود إلى الرق مرة أخرى، وهذا هو الأقرب لروح الشريعة.
قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ).
الصحيح: قال مالك وأحمد، أما أبو حنيفة فمع الإمام الشافعي رحمهم الله جميعًا، وسيظهر أن المؤلف وهم تجاه الإمام أبي حنيفة، وكذلك وهم تجاه الإمام الشافعي.
قوله: (الْكِتَابَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، أَيْ: بَيْنَ الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ)
(1)
.
فالكتابة على قولهما عقد يلزم كلًّا من الطرفين، فيلزم السيد والعبد، لكن اختلف في كيفية إبطال هذه الكتابة وسيأتي تفصيله، وليس هناك صلاحية للسيد في نقضها، وكذلك لا صلاحية للعبد في نقضها دون سبب، أما إن عجز عن جمع المال المطلوب منه، أو تأخر في أداء النجوم فتبطل، أما إعلان عجزه ففيها تفصيل، فهل يؤخذ بكلامه مُسَلمًا؟
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 183، 184)، حيث قال:"والكتابة من العقود اللازمة، فإذا عقد السيد لعبده الكتابة لزمهما العقد، ولم يكن لأحدهما خيار في حله، ليس للسيد أن يفسخ كتابة عبده باختياره إذا أبي العبد، ولا للعبد أن يُعجِّز نفسه باختياره إذا أبي السيد، وله مال ظاهر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع "، للبهوتي (4/ 557)، حيث قال:" (فصل والكتابة الصحيحة عقد لازم من الطرفين)؛ لأنها بيع وهو من العقود اللازمة إلا يدخلها خيار) مجلس ولا شرط ولا غيرهما؛ لأن الخيار شرع لدفع الغبن عن المال، والسيد دخل على بصيرة أن الحظ لعبده، فلا معنى لثبوت الخيار".
أم لابد من أن يكون تحت رعاية حاكم أو سلطان؟ فيها خلاف أيضًا بين العلماء.
قوله: (وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ وَالسَّيِّدَ لَا يَخْلُو أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى التَّعْجِيزِ أَوْ يَخْتَلِفَا).
فقد يتفقان، بمعنى: أن يذهب العبد فترة من الزمان بموافقة سيده، فيتنقل هنا وهناك لتحصيل المال المتفق عليه، كما وقع لعبدٍ من عبيد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين سافر إلى عدة بلاد لتحصيل المتفق عليه في العقد ثم جاءه وأعلن عجزه، فأعاد عبد الله بن عمر رقه، وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عدة أدلة في هذا المقام، وهو ما يعتمد عليه الشافعية
(1)
.
قوله: (ثُمَّ إِذَا اخْتَلَفَا؛ فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ السَّيِّدُ التَّعْجِيزَ وَيَأْبَاهُ الْعَبْدُ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَعْنِي: أَنَّهُ يُرِيدَ بِهِ السَّيِّدُ الْبَقَاءَ عَلَى الْكِتَابَةِ، ويُرِيدُ الْعَبْدُ التَّعْجِيزَ، فَأَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى التَّعْحِيزِ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي الْكِتَابَةِ وَلَدٌ أَوْ لَا يَكُونَ).
أي: يكون المكاتب له أولاد، أو لا يكون معه غيره.
قوله: (فَإِنْ كَانَ دَخَلَ وَلَدٌ فِي الْكِتَابَةِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْجِيزُ)
(2)
.
(1)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(14/ 465) عن الربيع، عن الشافعي قال: أخبرنا الثقفي، وابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه:"رد مكاتبًا له عجز في الرق ".
وينظر: "الأم" للشافعي (7/ 143 - 144) حيث قال: "وإذا قال المكاتب: قد عجزت، وكسر مكاتبته، ورده مولاه في الرق فإن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول: "ذلك جائز" وبهذا يأخذ، وقد بلغنا عن عبد الله بن عمر أنه رد مكاتبا له حين عجز وكسر مكاتبته عند غير قاض ".
(2)
يُنظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (13/ 77)، حيث قال:"ومن كتاب محمد قال: "وله تعجيز نفسه قبل محل نجومه، إلا أن يكون معه ولد فلا تعجيز له ". ".
وكذلك الإمام أحمد موافق له
(1)
.
قوله: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا كانَ لَهُ مَالٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ).
وهذا خطأ وهم فيه المؤلف رحمه الله، فأبو حنيفة كما مر مع الإمام الشافعي.
قوله: (وَالْأخْرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ
(2)
، فَأَمَّا إِنْ طَلَبَ الْعَبْدُ التَّعْجِيزَ وَأَبَى السَّيِّدُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ إِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قُوَّة عَلَى السَّعْيِ)
(3)
.
(1)
لم أهتدِ لقول أحمد في هذه المسألة.
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 184)، حيث قال:"فإن رضي العبد وسيده بفسخ الكتابة وله مال ظاهر، فلا يخلو من أن يكون للمكاتب ولد في الكتابة أو لا يكون له ولد، فأما إن كان له ولد فليس لهما ذلك لتعلق حق الولد في العقد، وأما إن لم يكن له ولد فذلك على قولين؛ أحدهما: أن ذلك ليس لهم، وهو قول مالك في "المدونة". ووجه ذلك: أن الكتابة تتعلق بها ثلاثة حقوق: حق لكل واحد من المتعاقدين، وحق لله تعالى وهو حرمة العتق، فإن رضي المتعاقدان بإسقاط حقهما لم يسقط لذلك حق الله تعالى، الثاني: أن ذلك لهما، وهو قول ابن كنانة وابن نافع، ووجهه: أن الحق في عقد الكتابة للمتعاقدين لا يتعداهما، فإذا رضيا بإسقاطه جاز، كتقايل المتابعين ".
والوجهان مذكوران في مذهب الحنابلة.
يُنظر: "نيل المأرب بشرح دليل الطالب "، لعبد القادر الشيباني (2/ 128)، حيث قال:" (ويصح فسخ الكتابةِ باتفاقِهِما)، أي: المكاتب وسيِّده، فيصحُّ أن يَتقَايَلا، قياسًا على البيع، قال في الفروع: "ويتوجَّهُ أن لا يجوز، لحق الله تعالى". ".
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (10/ 415)، حيث قال:"وفي "الذخيرة": "المكاتب إذا أراد تعجيز نفسه وقال المولى لا أعجزك هل تفسخ الكتابة؟ " قال محمد بن سلمة: "إذا أبي المولى ذلك التعجيز فله ذلك، ولا تفسخ الكتابة بتعجيز"، قال أبو بكر البلخي: "هذا خلاف ما ذكره أصحابنا في كتبهم، فإنهم قالوا:"للعبد أن يعجز نفسه ". ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"روضة المستبين "، لابن بزيزة (2/ 1345)، حيث قال: =
لكن إن عجز حقيقة عن أن يؤدي ما عليه؛ كأن لا قدرة له ولا استطاعة على العمل والسعي فلا بد من استجابة السيد له
(1)
.
قوله: (وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ السَّيّدُ التَّعْجِيزَ وَأَبَاهُ الْعَبْدُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ عِنْدَهُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ).
هذا الكلام فيه إجمال كما ذكر المؤلف، فإذا طلب السيد تعجيز العبد فهو لا يطلبه إلا إذا عجز حقيقة.
= "قوله: "وليس للعبد تعجيز نفسه مع قدرته على الأداء" وهذا كما ذكره؛ لأنه رجوع إلى الرق وترك للعتق ".
وانظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (4/ 397 - 398).
ومذهب الشافعية له تعجبز نفسه مع القدرة على السعي.
يُنظر: "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع "، للشربيني (2/ 653، 654)، حيث قال:" (و) هي (من جهة العبد المكاتب جائزة) فله الامتناع من الإعطاء مع القدرة (وله تعجيز نفسه) ولو مع القدرة على الكسب وتحصيل العوض (و) له (فسخها متى شاء) وإن كان معه وفاء".
وفي مذهب أحمد روايتان. ينظر: "المحرر في الفقه "، لأبي البركات ابن تيمية (2/ 8)، حيث قال:"ويملك تعجيز نفسه مع قدرته على الكسب، ولا يملكه إذا ملك الوفاء، وعنه: يملكه، وعنه: يعتق يملك الوفاء، ومشهور المذهب: أنه له تعجيز نفسه إن كان قادرًا على الكسب، أما إن ملك وفاء فليس له ذلك ".
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 608، 609)، حيث قال:" (ولمكاتب قادر على كسب تعجيز نفسه) بترك التكسب؛ لأن دين الكتابة غير مستقر عليه، ومعظم القصد بالكتابة تخليصه من الرق، فإذا لم يرد ذلك لم يجبر عليه (إن لم يملك) المكاتب (وفاء) لكتابته، فإن ملكه لم يملك تعجيز نفسه؛ لتمكنه من الأداء، وهو سبب الحرية التي هي حق الله تعالى، فلا يملك إبطالها مع حصول سببها بلا كلفة و (لا) يملك مكاتب (فسخها) أي الكتابة للزومها (فإن ملكه)، أي: الوفاء مكاتب (أجبر على أدائه) لسيده (ثم عتق) بأدائه ".
(1)
ولذلك قال ابن القطان: "اتفق الجميع على أن المكاتب يرجع عبدًا إذا كوتب فحل عليه النجم فعجز عن الأداء، وأن الكتابة تبطل ويعود رقيقًا غير مكاتب كما كان، ولا سبيل للسيد فيما كان يطالبه به ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 131).
وهذه المسألة نص عليها الشافعية؛ فقالوا: لو كان مثلًا في حضر أو سفر، وعجز عن ذلك؛ فلا بد من أن يعلن عجزه.
وفي هذه الحالة يختلف الإمام أحمد عن الإمام مالك في قضية السلطان أو القاضي؛ فعند الإمام مالك لا بد من أن يكون ذلك برعاية القاضي أو السلطان، أي: عند اختلافهما يرفع السيد الأمر إلى القاضي أو السلطان الحاكم، ويقول: هذا العبد قد عجز عن أداء ما عليه مما اتفق عليه في العقد، أو امتنع عن الأداء، فحينئذ بأمر من القاضي أو السلطان يتم تعجيزه ويعود إلى الرق
(1)
.
وأما عند الأئمة الثلاثة -أبي حنيفة
(2)
والشافعي
(3)
وأحمد- فلا يحتاج الأمر إلى سلطان
(4)
.
ويختلفون بعد ذلك؛ هل هذا يحتاج إلى إشهاد أو لا؟
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 406) حيث قال: "وأما اختلافهم في تعجيز المكاتب؛ فكان مالك يقول: "لا يعجزه سيده إلا عند السلطان أو القاضي أو الحاكم "، وهو قول ابن أبي ليلى، وبه قال سحنون، وقال ابن القاسم: "إذا رضي المكاتب بالعجز دون السلطان لزمه ذلك ".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (8/ 365)، حيث قال:"قال أبو جعفر: "(وإذا حل على المكاتب نجم من نجوم مكاتبته، فعجز عنه، فرده مولاه في الرق برضاه دون السلطان: جاز ذلك)؛ لأن الكتابة مما يلحقه الفسخ، فيجوز لهما التراضي على فسخها، كما يجوز تراضيهما على فسخ البيع والهبة، وغيرهما من العقود التي يلحقها الفسخ بغير سلطان، وأيضًا: كما جاز إيقاع العقد بغير سلطان، جاز فسخه أيضًا". ".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج "، لابن حجر الهيتمي (10/ 409)، حيث قال:" (فإذا عجز نفسه) بقوله: "أنا عاجز عن كتابتي" مع تركه الأداء ولو مع القدرة عليه وهذا تصوير، والمدار إنما هو على الامتناع مع القدرة؛ فمتى امتنع من الأداء عند المحل (فللسيد) ولو على التراخي (الصبر، والفسخ بنفسه، وإن شاء بالحاكم)؛ لأنه مجمع عليه؛ فلم يتوقف على حاكم لكنه آكد فيما يظهر".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 608)، حيث قال:" (وإن حل) على المكاتب (نجم) من كتابته (فلم يؤده فلسيده الفسخ) كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع قبل قبضه (بلا حكم) حاكم كرد المعيب ".
فعند الإمام الشافعي لا بد من الإشهاد
(1)
، وعند غيره لا يحتاج الأمر إلى إشهاد، وسبب الخلاف في ذلك يعود إلى ما أُثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كاتب عبدًا له على ألف دينار ثم أدى تسعمائة وعجز عن مائة، فأعاده عبد الله إلى الرق
(2)
.
وفي رواية أخرى: بأنه كاتب عبده على عشرين ألفًا، فأدَّى عشرة وعجز عن الباقي، فرده إلى الرق
(3)
.
وفي بحضها ثلاثين ألفًا، وأنه سافر إلى أكثر من مكان، فعاد وأعلن عجزه، وطلب أن يمحو عنه، فقال:"امحُ ذلك أنت "، أي: ما بينهما من كتابة، والقصد: إلغائها
(4)
.
قوله: (وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُثْبِتَ السَّيِّدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ).
لأنه ربما يمتلك المال ويرغب أن يبقى في الرق، لكن مَن لا مال
(1)
الإشهاد عند الشافعية على الندب.
يُنظر: "تحفة المحتاج "، لابن حجر الهيتمي (10/ 418، 419)، حيث قال:" (فإن فسخها السيد) أو العبد (فليشهد) ندبًا احتياطًا؛ لئلا يتجاحدا"، وانظر:"التهذيب "، للبغوي (8/ 481).
وفي باقي المذاهب لم أقف على صورة المسألة.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(11/ 171) عن عطاء: "أن ابن عمر كاتب غلامًا له على ألف دينار، فأداها إلا مئة، فرده في الرق ".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 416) حيث قال: "روى سعيد بإسناده عن عطية العوفي عن ابن عمر: أنه كاتب عبده على عشرين ألفا فأدى عشرة آلاف، ثم أتاه فقال: "إني قد طفت العراق والحجاز فردني في الرق، فرده ". ".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8/ 407) عن ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، أن نافعا أخبره، أن ابن عمر كاتب هذا الغلام على ثلاثين ألفًا، فقضى خمسة عشر ألفا، ثم جاءه، فقال:"قد عجزت" قال: "فامحها أنت "، قال نافع:"فأشرت عليه امحها"، وهو يطمع أن يعتقه، فمحاها العبد وله ابنتان وابن، فقال ابن عمر:"أعتزل جاريتي "، قال: فأعتق ابن عمر ابنه بعد، ثم الجاريتين، ثم إياه، ثم قال:"أحب الآن إن شئت ".
له وعجز عن إتمام ما اتُّفق عليه، وحاول فلم يستطع أن يجمع المال، وربما سأل فما استطاع أن يجمع ما عليه فعاد، وحينئذٍ عند المالكية وابن أبي ليلي لا بد من تدخل الحاكم أو القاضي في ذلك
(1)
.
وكما هو معلوم في مثل هذه القضايا أن تعليلهم ذلك يرفع الخلاف والنزاع.
* قوله: (وَيُرْجَعُ إِلَى عُمْدَةِ أَدِلَّتِهِمْ فِي أَصْلِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ).
أي: يُرجع حينئذٍ إلى عمدة أدلتهم في ذلك.
* قوله: (فَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: مَا رُوِيَ: " أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ إِلَى عَائِشَةَ تَقُولُ لَهَا: " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَشْتَرِينِي وَتُعْتِقِينِي "، فَقَالَتْ لَهَا: " إِنْ أَرَادَ أَهْلُكِ "، فَجَاءَتْ أَهْلَهَا فَبَاعُوهَا وَهِيَ مُكَاتبَةٌ " خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ)
(2)
.
واختُلف في جواز بيع المكاتب؛ فمن العلماء من أجازه ومنهم من
(1)
سبق ذكره عن ابن عبد البر.
(2)
أخرجه البخاري (2565) عن عائشة، ولفظه:" دخلت بريرة وهي مكاتبة، فقالت: " اشتريني وأعتقيني "، قالت: " نعم ". قالت: " لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي "، فقالت: " لا حاجة لي بذلك "، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه، فذكر لعائشة، فذكرت عائشة ما قالت لها، فقال: " اشتريها، وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاؤوا "، فاشترتها عائشة، فأعتقتها واشترط أهلها الولاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط ". ".
ووجه الدلالة من الحديث على مذهب الشافعية القائل بأن الكتابة لازمة من جهة السيد وغير لازمة من جهة المكاتب: أن المكاتب له فسخ الكتابة متى شاء.
يُنظر: " الحاوي الكبير " للماوردي (18/ 249) حيث قال: " فأما الجواب عن حديث بريرة، فهو: أن الكتابة غير لازمة من جهة المكاتب، وإن كانت لازمة من جهة السيد، فصار مساومة بريرة لمواليها وهم آل المغيرة، في ابتياع نفسها فسخًا منها، كما لو باع بشرط الخيار ثم باع ما باعه كان بيعه الثاني فسخًا للبيع الأول، كذلك يكون مساومة بريرة في نفسها وابتياعها فسخًا، وبيعها بعد فسخ الكتابة جائز، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بعتقها، ولو بقيت الكتابة لعتقت بها ". وانظر: " الغاية والتقريب "، لأبي شجاع (ص 48).
منعه، فقوله:" فباعوها " دليل يتعلق بجواز بيع المكاتب، وهذه مسألة مستقلة سيبحثها المؤلف بعد ذلك، وسيتضح أن من العلماء من يجيز ذلك مطلقًا، ومنهم من يجيزه بشرط أن يكون البيع لأجل العتق؛ كما في مذهب الإمام أحمد كما في قصة بريرة، ولذلك ترون في نفس الروايات التي في " الصحيحين " أن عائشة قالت لبريرة:" إن شاء أهلك أعددتها لهم عدًّا "، يعني: دفعتها لهم في الحال وأصبحت حرة
(1)
.
ومن هنا اختلف العلماء؛ هل هذا شراء للكتابة؟ أو هو شراء للعبد؟ هذه مسألة اختلف فيها العلماء أيضًا، إذًا قولها:" وتعتقيني " دليل على أن هذه المسألة تتعلق بالبيع
(2)
.
(1)
أخرج هذه الرواية مسلم (1504/ 8)، عن عائشة، قالت لبريرة:" إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك، ويكون الولاء لي فعلت ".
(2)
في مذهب الأحناف: الشراء للعبودية. " وعليه فلا يجوز بيع المكاتب؛ لأن في تجويزه إبطال الكتابة إذ المشتري لا يرضى ببقائه مكاتبًا ". انظر: " الهداية في شرح بداية المبتدي "، للمرغيناني (3/ 261).
وفي مذهب المالكية: الشراء كان للعتق، وعليه فيصح بيع المكاتب.
يُنظر: " المنتقى شرح الموطإ " للباجي (7/ 23) حيث قال: " يجوز بيع كتابة المكاتب، والدليل على ما نقوله: أن هذا عقد معاوضة، فلم يمنع صحتها ما فيه من العتق؛ كما لو اشترى عبدًا للعتق، وهذا إذا باع السيد جميع الكتابة ".
وفي مذهب الشافعية: الشراء كان للعبودية؛ لأن بيعها كان فسخًا لكتابتها، وعليه فمنعوا كتابة المكاتب في الجديد.
وحكى العمراني القولين، ينظر:" البيان "، للعمراني (5/ 59 - 60) حيث قال:" في القديم: يصح البيع، فعلى هذا: لا تبطل الكتابة، ولكن إن أدى المال إلى المشتري .. عتق، وكان الولاء له، وإن عجز ورق .. كان مملوكًا له، لحديث بريرة، ولأن عتق المكاتب غير مستقر، فجاز بيعه، كالمدبر. والثاني: قال في الجديد: " لا يصح بيعه ". وهو الصحيح؛ لأن الكتابة عقد يمنع السيد من استحقاق كسب المكاتب، وأرش الجناية عليه، فمنع صحة بيعه، كما لو باعه من زيد، ثم باعه من عمرو ".
وفي مذهب الحنابلة: الشراء كان للعتق، وعليه يصح بيع المكاتب وهذا هو المشهور، وعنه: لا يصح.
يُنظر: " الكافي " لابن قدامة (2/ 335) حيث قال: " ويجوز بيع المكاتب؛ لأن =
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ: تَشْبِيهُهُمُ الْكِتَابَةَ بِالْعُقُودِ اللَّازِمَةِ)
(1)
.
وكذلك الحنابلة
(2)
، والحنابلة - أيضًا - يستدلون بقصة عبد الله بن عمر، لكن تفسير الحنابلة غير تفسير الشافعية، فالشافعية يقولون: بحصول العجز من العبد تنتهي الكتابة ولا يكون العقد لازمًا
(3)
، والحنابلة يقولون: هو عقد لازم انتهى عند عجز العبد، فليس معنى هذا بأن العقد ليس لازمًا
= " بريرة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني على كتابتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: " اشتريها " متفق عليه، ولأنه سبب يجوز فسخه، فلم يمنع البيع كالتدبير. وعنه: لا يجوز بيعه؛ لأن سبب العتق ثبت له في كل وجه لا يستقل السيد برفعه، فمنع البيع؛ كالاستيلاد، والأول أظهر، فإن باعه لم تبطل الكتابة؛ لأنها عقد لازم، فلم تبطل ببيعه كالنكاح ".
(1)
هذا دليل المالكية على أن عقد الكتابة لازم للطرفين أنه من العقود اللازمة، وبالتالي ليس لأحدهما الخيار في فسخه.
يُنظر: " المقدمات الممهدات " لأبي الوليد ابن رشد (3/ 183، 184) حيث قال: " والكتابة من العقود اللازمة، فإذا عقد السيد لعبده الكتابة لزمهما العقد ولم يكن لأحدهما خيار في حله، ليس للسيد أن يفسخ كتابة عبده باختياره إذا أبى العبد، ولا للعبد أن يُعجز نفسه باختياره إذا أبى السيد وله مال ظاهر ".
(2)
يُنظر: " مطالب أولي النهى "، للرحيباني (4/ 752)، حيث قال:" (والكتابة) الصحيحة (عقد لازم) من الطرفين؛ لأنها بيع وهو من العقود اللازمة (لا يدخلها خيار)؛ لأن القصد منها تحصيل العتق، فكأن السيد علق عتق المكاتب على أداء مال الكتابة، ولأن الخيار شرع لدفع الغبن عن المال، والسيد دخل على بصيرة أن الحظ لعبده؛ فلا معنى لثبوت الخيار، (ولا يملك أحدهما فسخها)، أي: الكتابة كسائر العقود اللازمة ".
(3)
بمعنى أنه إن عجز لا يجبر على الأداء، وإنما يفسخ السيد الكتابة بمجرد العجز.
يُنظر: " كفاية الأخيار "، للحصني (ص 582)، حيث قال:" إن عجز المكاتب عن الأداء عند المحل، فللسيد فسخها كما يفسخ البائع البيع بعجز المشتري عن الثمن، ولو لم يعجز ولكن امتنع المكاتب عن الأداء، فللسيد الفسخ أيضًا، وخالف عقد الكتابة البيع؛ فإنه لازم من جهة المشتري فيجبر المشتري على الأداء، فيندفع الضرر، بخلاف الكتابة؛ فإنها جائزة من جهة المكاتب فلا إجبار ". وانظر: " البيان "، للعمراني (8/ 470).
في حق العبد، بل سبب إنهاء العقد وإبطاله وعودته إلى الرق هو عجزه فقط
(1)
.
* قوله: (وَلِأَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَحُكْمِ السَّيِّدِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُقُودَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ فِيهَا أَوِ الْخِيَارُ مُسْتَوِيًا فِي الطَّرَفَيْنِ).
أي: لا يكون العقد لازمًا في طرف، وغير لازم للطرف الآخر، وإلا قد يؤدي الاختلاف إلى الاضطراب في العقد.
* قوله: (وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لَازِمًا مِنْ طَرَفٍ وَغَيْرَ لَازِمٍ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي فَخَارِجٌ عَنِ الْأُصُولِ).
فهذا الاختلاف يخالف الأصول المعروفة
(2)
.
* قوله: (وَعَلَّلُوا حَدِيثَ بَرِيرَةَ بِأَنَّ الَّذِي بَاعَ أَهْلُهَا كَانَتْ كِتَابَتَهَا لَا رَقَبَتَهَا).
حقيقة الأمر أن الشافعية لا يستدلون بهذا الدليل، وليس موجودًا في كُتبهم أصلًا، والمؤلف رحمه الله هو من أدخله عليهم، فاستدلالهم بهذا
(1)
والحنابلة يقولون بأن العقد لازم للطرفين، وللسيد أن يرد المكاتب للرق بمجرد عجزه وإنما يمهله.
يُنظر: " المغني " لابن قدامة (10/ 415 - 416) حيث قال: " الكتابة عقد لازم لا يملك السيد فسخها قبل عجز المكاتب بغير خلاف نعلمه، وليس له مطالبة المكاتب قبل حلول النجم؛ لأنه إنما ثبت في العقد مؤجلًا، وإذا حل النجم فللسيد مطالبته بما حل من نجومه؛ لأنه دين له حل فأشبه دينه على الأجنبي، وله الصبر عليه وتأخيره به، سواء كان قادرًا على الأداء أو عاجزًا عنه؛ لأنه حق له سمح بتأخيره أشبه دينه على الأجنبي، فإن اختار الصبر عليه لم يملك العبد الفسخ بغير خلاف نعلمه ".
(2)
هذا من تمام أدلة المالكية والحنابلة وقد سبق.
الدليل في البيع فقط، وسيأتي أن المؤلف رحمه الله أخطأ في مذهب الحنفية
(1)
.
* قوله: (وَالْحَنَفِيَّةُ تَقُولُ: لَمَّا كَانَ الْمُغَلَّبُ فِي الْكِتَابَةِ حَقَّ الْعَبْدِ).
أي: حق العبد مقدم أو مغلب على حق السيد.
* قوله: (وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ لَازِمًا فِي حَقِّ الْآخَرِ المُغَلَّبُ عَلَيهِ وَهْوَ السَّيَدُ أَصْلُهُ النِّكَاحُ)
(2)
.
والمقصود بالآخر: هو السيد.
إذًا؛ الحنفية ليسوا مع المالكية؛ لأن المالكية معهم الحنابلة، وقالوا: بوجوب العقد من الطرفين، إذًا الحنفية يقولون: العقد ليس واجبًا
(1)
بل هذا الحديث موجود عندهم، وهو من الأدلة على مذهبهم كما سبق من نقل الماوردي، فذكر أن الكتابة لازمة في جانب السيد وليس لازمة في حق المكاتب بدليل أن بريرة فسخت كتابتها مع قومها، والكتابة إذا لم تكن لازمة في حق المكاتب كان له أن يفسخها كما سبق من كلام أبي شجاع.
(2)
الأحناف شبهوا الكتابة بالنكاح لأن كلًّا منهما فيه مبادلة مال بغير مال.
انظر: " شرح مختصر الطحاوي " للجصاص (3/ 224) حيث قال: " والكتابة عقد معاوضة، وليست ببيع، وكذلك الإجازة، والنكاح والصلح من دم العمد، ونظائرها من العقود المعقودة على شرط سلامة الأبدال ".
وشبهوها بها من حيث وقوع الفسخ من عدمه.
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (7/ 210) حيث قال: " والشرط الفاسد في الكتابة لا يفسد العقد إذا لم يكن متمكنًا في صلبه، وإنما يفسد إذا تمكن في صلبه لمعنى، وهو أن الكتابة تشبه البيع من وجه؛ وهو أنها تحتمل الفسخ في الابتداء، وتشبه النكاح من وجه؛ وهو أنها لا تحتمل الفسخ بعد تمام المقصود بالأداء، فيوفر حظها عليهما، فلشبهها بالبيع تبطل بالشرط الفاسد إذا تمكن في صلبها، ولشبهها بالنكاح لا تبطل بالشرط الفاسد إذا لم يتمكن في صلبها
…
وكل ما يصلح مسمى في النكاح يصلح مسمى في الكتابة، وقد قررنا هذا في النكاح ".
في حق المغلب، أي: المغلوب على أمره، أي: الذي عليه السيادة - وهو العبد -، وإذا لم يكن كذلك فيكون واجبًا في حق الآخر، وهو السيد
(1)
.
المغلب على الآخر، أي: الذي له الغلبة، يعني: المقدم عليه، إذًا هذا نص في أن مذهب الحنفية موافق لمذهب الشافعية، وأيضًا أخطأ المؤلف فقلب مذهب الشافعية.
* قوله: (لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِمَكَان الطَّلَاقِ الَّذِي بِيَدِهِ).
أي: لا يكون لازمًا؛ لأن الزوج إذا أراد أن يتخلص من الطلاق طلق في أية حالة يريد، سواء كان هناك سبب أو لم يكن هناك سبب، لكن لا شكَّ أن الطلاق له آداب، والعشرة الزوجية لها آداب، لكن إن طلق فهذا حق من حقوقه، والله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الحق بيد الزوج.
* قوله: (وَهُوَ لَازِمٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ).
لأنها لا تستطيع الخروج من ظل الزوجية إلا إذا لحقها ضرر؛ فحينئذ لها الحق أن تطلب الخلع كما مر بنا
(2)
.
لكن هذا القياس غير مسلَّم به؛ لأن المالكية والحنابلة سينقضونه.
* قوله: (وَالْمَالِكِيَّةُ تَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا بِأَنْ تَقُولَ: إِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فِيمَا وَقَعَ بِهِ الْعِوَضُ؛ إِذْ كَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الصَّدَاقَ)
(3)
.
(1)
يُنظر: " بدائع الصنائع " للكاساني (4/ 147) حيث قال: " المكاتبة عقد لازم من جانب المولى إذا كان صحيحًا، حتى لا يملك فسخه من غير رضا المكاتب، إذا لم يحل نجم أو نجمان على الخلاف غير لازم في جانب المكاتب، حتى ينفرد بفسخه من غير رضا المولى؛ لأنه عقد شرع نظرًا للعبيد، وتمام نظرهم أن لا يلزم في حقهم ".
(2)
يُنظر: " الأصل "، للشيباني (10/ 208)، حيث قال:" والنكاح لازم للزوج، وليس تشبه المرأة في هذا الزوج؛ لأن الزوج في يديه الطلاق، إن شاء طلق، وإن شاء أمسك، والمرأة ليس في يديها من الطلاق شيء ".
(3)
أي: أن مذهب المالكية أن عقد النكاح لازم للطرفين مثله مثل عقد الكتابة.
يُنظر: " شرح التلقين " للمازري (2/ 807 - 808) حيث قال: والبياعات والإجارات =
فهكذا يعيده إلى الرق ويبقى كما كان، أي: أن المالكية أبطلوا هذا القياس بما يعرف بالنقض.
* قوله: (الْجِنْسُ الثَّالِثُ: وَأَمَّا حُكْمُهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ).
أي: إذا مات ولم يؤدِّ جميع ما اتفق عليه في العقد.
* قوله: (فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ دُونَ وَلَدٍ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنَ الْكِتَابَةِ شَيْئًا أَنَّهُ يُرَقُّ).
هذا هو مذهب الجمهور وقد مَرَّ
(1)
.
= والنكاحات عقود لازمة من الطرفين جميعًا، فإن قيل:" هلا عددتم النكاح من العقود اللازمة من أحد الطرفين، - وهو المرأة -، الجائزة من الطرف الآخر وهو الزوج - لكونه قادرًا على حَلِّ العقد بالطلاق، وإن لم ترض الزوجة بحله ". قيل: " ليس المراد بما ذكرناه إلا النظر في رفع العقد من أصله، والزوج هاهنا إنما يملك قطع استدامة العقد واتصاله، لا رفع العقد من أصله، ألا تراه إذا طلق قبل الدخول لزمه نصف العوض؟ وبعد الدخول يلزمه جميع العوض وهو الصداق، فلو كان له رفع النكاح من غير غرامة لأمكن أن يلحق بالعقود اللازمة من طرف دون طرف ".
(1)
يقصد بالمسألة التي مرت قول المؤلف: " واختلفوا إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض، فقال الجمهور: هو عبد ما بقي من كتابته شيء، وأنه يرق إذا عجز عن البعض ".
لكن هذه المسألة فيها أنه أدى بعضًا من الكتابة ولم يؤدِ الباقي، لكن المسألة التي معنا تختلف بأنه لم يؤدِ شيئًا من الكتابة قط.
مذهب الأحناف، يُنظر:" شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (8/ 387)، حيث قال:" قال أبو جعفر: (فإن مات المكاتب، ولم يترك وفاء، فإن أبا حنيفة قال: يباع هؤلاء كلهم، وسواء بين الوالدين وغيرهما، إلا في ولده، فإنه يقال له: إن أديت الكتابة حالة، وإلا رددت في الرق) ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" التهذيب في اختصار المدونة "، للبراذعي (2/ 589)، حيث قال:" وإذا مات المكاتب بعد موت سيده وترك مالًا فيه وفاء ولم يدع ولدًا، فذلك بين ورثة السيد يدخل فيه بناته وأمهاته وزوجاته وغيرهم؛ لأنه موروث بالرق لا بالولاء ".=
وهناك قاعدة لا بد من توضيحها: إذا مات المكاتب ولم يؤدِّ جميع عليه، فالأئمة انقسموا في هذه المسألة إلى ثلاثة أقسام:
فأبو حنيفة يرى أن العبد يكون حرًّا
(1)
، ومالك يرى أنه يبقى مكاتبًا
(2)
، والشافعي
(3)
وأحمد يقولان: بأنه يبقى رقيقًا
(4)
.
= ومذهب الشافعية، يُنظر:" العزيز شرح الوجيز " للرافعي (13/ 515) حيث قال: " إذا مات المكاتب قبل أن يؤدي النجوم، انفسخت الكتابة، ومات رقيقًا حتى لا يورث، وتكون أكسابه للسيد، وتجهيزه عليه؛ لأن مورد العقد الرقبة، والمقصود مرتقب فيها.".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" الهداية "، للكلوذاني (ص 376)، حيث قال:" وإذا مات المكاتب انفسخت الكتابة، وإن خلف وفاء في إحدى الروايتين، ويكون ما خلفه لسيده، وعلى الأخرى: لا تنفسخ الكتابة إذا خلف وفاء؛ بل يعتق عند ملك الوفاء، ويعطي سيده ما بقي عليه، وما فضل كان لوارثه ".
(1)
يُنظر: " النتف في الفتاوى "، للسغدي (1/ 422)، حيث قال:" والذي لا يعجز علي وجهين؛ أحدهما: أن يموت المكاتب، والآخر: أن لا يموت، فإن مات؛ فعلى وجهين؛ أحدهما: أن يترك وفاء لكتابته، والآخر: أن لا يترك وفاء لكتابته، فإن مات وترك وفاء لكتابته أديت منه الكتابة، ومات حرًّا، وما بقى فلورثة المكاتب، وإن لم يكن ورثة فللمولى على وجه الوراثة في قول أبي حنيفة وأصحابه وأبي عبد الله، وقد مات عبدًا في قول الشافعي إذا مات عن غير أداء ترك وفاء أو لم يترك، وإذا مات ولم يترك وفاء فإنه قد مات عبدًا في قولهم ".
(2)
يُنظر: " عيون المسائل "، للقاضي عبد الوهاب (ص 618)، حيث قال:" إذا مات المكاتب وخلف وفاء بكتابته، لم يمت على الرق وورث، وبه قال أبو حنيفة، غير أنَّه قال: " إذا خلف وفاء بكتابته مات حرًّا لا مكاتبًا، ويرث ورثته ما بقي بعد الأداء "، ونحن نقول: " مات مكاتبًا لا حرًّا ولا عبدًا، رتبة بين الرتبتين "، وقال الشّافعيّ: "مات عبدًا، ولو كانت له ورثة لم يرثوا ما فضل عن كتابته".".
(3)
يُنظر: " الأم " للشافعي (8/ 82) حيث قال: " وإذا عجز المكاتب عن أداء نجم من نجومه فلم يعجزه سيده وأنظره، فمات قبل أن يؤديه مات عبدًا، ولسيده ماله ".
(4)
في مذهب أحمد روايتان، يُنظر:" الهداية "، للكلوذاني (ص 376)، حيث قال:" وإذا مات المكاتب انفسخت الكتابة، وإن خلف وفاء في إحدى الروايتين، ويكون ما خلفه لسيده، وعلى الأخرى: لا تنفسخ الكتابة إذا خلف وفاء؛ بل يعتق عند ملك الوفاء ويعطي سيده ما بقي عليه، وما فضل كان لوارثه ".
إذًا هناك طرفان ووسط؛ فأبو حنيفة يقول: يصير حرًّا، والشافعي وأحمد يقولان: يصير رقيقًا، وجاء الإمام مالك بقول وسط فقال: يبقى مكاتبًا، ولا شك أن كل قول من هذه الأقوال أو أغلبها له سند من أقوال الصحابة رضي الله عنهم.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: حُكْمُ وَلَدِهِ كَحُكْمِهِ، فَإِنْ تَرَكَ مَالًا فِيهِ وَفَاءٌ لِلْكِتَابَةِ أَدَّوْهُ وَعَتَقُوا).
أي: أن الإمام مالك رحمه الله يرى أنه يبقى مكاتبًا ويأخذ الأولاد حكم الأب، فالأولاد الذين ولدوا في وقت الكتابة، يأخذون حكم أبيهم؛ لأن الكتابة عند مالك لا تنقطع بالموت وإنما تستمر، لكن إن عجزوا بعد ذلك عن السعي وإتمام وأداء ما اتُّفق عليه في العقد عادوا أرقاء.
* قوله: (وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا وَكَانَتْ لَهُمْ قدرَةٌ عَلَى السَّعْيِ بَقَوا عَلَى نُجُومِ أَبِيهِمْ حَتَّى يَعْجِزُوا أَوْ يُعْتَقُوا).
فلا تخلو المسألة من أمرين عند الإمام مالك رحمه الله:
الأول: إما أن يموت وله مال؛ فحينئذ يتم عتق أولاده عن طريق تسديد النجوم المتفق عليها من ماله.
الثاني: وإما أن يموت ولا مال له، ويكون أولاده عندهم القدرة على السعي والعمل والكسب وتسديد ما عليهم من حق الكتابة، فإن سددوا أصبحوا أحرارًا.
أما إن عجزوا بأن لا مال عندهم، ولا لهم قدرة على السعي والكسب والعمل، فإنهم يبقون أرقاء.
إذًا؛ قول الإمام مالك رحمه الله قول مفصل، وهو مرتبط بموضوع الكتابة؛ لأنها باقية بعد موت العبد.
* قوله: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لَا مَالٌ وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى السَّعْيِ رَقُّوا
(1)
، وَأَنَّهُ إِنْ فَضَلَ عَنِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ وَرِثُوهُ عَلَى حُكْمِ مِيرَاثِ الْأَحْرَارِ).
هذه مسألة فيها خلاف أيضًا، وقد أورد الإمام في ذلك قضية ولم يعمل بها المالكية في " الموطأ "، وأخذ بها الحنفية كما في قصة عباد غلام ابن المُتوكل.
* قوله: (وَأَنَّهُ لَيْسَ يَرِثُهُ إِلَّا وَلَدُهُ الَّذِينَ هُمْ فِي الْكِتَابَةِ مَعَهُ دُونَ سِوَاهُمْ مِنْ وَارِثِيهِ)
(2)
.
بينما الذي أورده الإمام مالك في " الموطأ "
(3)
، وأورده عبد الرزاق في
(1)
يُنظر: " حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني "(2/ 238)، حيث قال:" (فإن لم يكن في المال وفاء بها)، أي: بالكتابة (فإن ولده يسعون)، أي: يعملون فيه (ويؤدون نجومًا) على تنجيم الميت (إن كانوا كبارًا) لهم قدرة على السعي وأمانة على المال، وإلا أعطي المال لأمين يؤدي عنهم (وإن كانوا)، أي: أولاد المكاتب (صغارًا وليس في المال قدر النجوم إلى بلوغهم السعي رقوا) مفهومه: أنه لو كان فيه ما يبلغهم السعي لم يرقوا، ويوضع ذلك على يد أمين، ويعطي للسيد على قدر النجوم ". وانظر: " المنتقى شرح الموطإ "، للباجي (7/ 26).
(2)
يُنظر: " التلقين " للقاضي عبد الوهاب (2/ 206) حيت قال: " وإذا مات المكاتب عن ولد معه في كتابته إما بالشرط أو بمقتضي العقد لم تنفسخ الكتابة بموته، وتؤدى الكتابة حالة إن ترك وفاء، ثم لهم ما بقي إرثًا دون ولده الأحرار الذين لم يدخلوا معه في كتابة، وإن لم يترك وفاء وقوى ولده على السعي سعوا وأدوا باقي الكتابة، وإن كانوا صغارًا أدى عنهم إن كان في المال وفاء، وإلا أتجر لهم به، وأدى على نجومه إلى بلوغهم، فإن قدروا على السعي وإلا رقوا ".
(3)
أخرجه مالك (2/ 788) عن حميد بن قيس المكي، أن مكاتبًا، كان لابن المتوكل هلك بمكة وترك عليه بقية من كتابته، وديونًا للناس، وترك ابنته، فأشكل على عامل مكة القضاء فيه، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يسأله عن ذلك، فكتب إليه عبد الملك:" أن ابدأ بديون الناس ثم اقض ما بقي من كتابته، ثم اقسم ما بقي من ماله بين ابنته ومولاه ".
" مصنفه "
(1)
يختلف عن هذا القول، ولم يأخذ به الإمام مالك أيضًا، وليس شرطًا أن كل ما يورده الإمام مالك في " الموطأ " أن يأخذ به
(2)
.
* قوله: (وَأَنَّهُ لَيْسَ يَرِثُهُ إِلَّا وَلَدُهُ الَّذِينَ هُمْ فِي الْكِتَابَةِ مَعَهُ، دُونَ سِوَاهُمْ مِنْ وَارِثِيهِ، إِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْوَلَدِ الَّذِي مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ)
(3)
.
أي: من كان له من العبيد بنت فليست معه في الكتابة بعد موته، وقد أوردها مالك في " موطئه "، وكذلك عبد الرزاق في " مصنفه "، كما مر.
ولذلك أخذها محمد بن الحسن - من الحنفية - حجة على المالكية؛ لأن مالكًا أورد هذه القصة ولم يعمل بها وعمل بها الحنفية
(4)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(8/ 392) عن ابن جريج.
(2)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 378) حيث قال: " قد جهل بعض من ألَّف في الحجة لمالك من أصحابنا أو تجاهل؛ فقال: " إن مالكًا يقول بهذا الخبر الذي ذكره عن عبد الملك بن مروان " وأن ابنة هذا المكاتب كانت معه في كتابته، ولهذا ورثها منه، فإن لم يكن هذا جهلًا فهو قبيح من التجاهل؛ لأن الخبر محفوظ من وجوه أن ابنته كانت حرة، ومالك لا يقول بذلك ولا يأخذ بحديث عبد الملك هذا، وقد احتج محمد بن الحسن بحديث مالك هذا عن حميد بن قيس على من قال بقول مالك في أن المكاتب لا يرثه ورثته الأحرار إذا مات قبل العتق، وإنما يرثه من معه من ورثته في كتابته، قال: حدثني مالك عن حميد بن قيس أنَّ مكاتبًا كان لابن المتوكل فذكره، وقال ابن وهب: " كيف ترك أهل المدينة ما روى مالك فقيه أهل المدينة في زمانه "، وهو عندنا الصواب ".
(3)
يُنظر: " المنتقى شرح الموطإ " للباجي (7/ 4) حيث قال: " وهذا فيمن كان معه في الكتابة ممن ذكرنا من عقدت عليه الكتابة، أو ولد له في الكتابة وإن لم يعقد عليه، فأما من لم يكن معه في الكتابة فإنه لا يرث من هذا المال شيئًا، سواء كان حرًّا أو عبدًا، ولدًا كان أو غيره، قاله مالك وأصحابه. وجه قول مالك: أن انتقال هذا المال إلى من كان معه في الكتابة ليس على وجه الوراثة المحضة، وإنما هو لأن من شاركه في عقد الكتابة قد تعلق حقه بماله الذي بيده والذي يكتسبه في المستقبل؛ لأنه يعتق منه، فأما من ليس معه في الكتابة فلا حق له في ذلك؛ لأنه لم يعتق في حياته فيورث بعد موته ".
(4)
يُنظر: " الأصل "، للشيباني (6/ 270، 271)، حيث قال:" قلت: " أرأيت المكاتب إذا مات وترك ولدًا ولد في المكاتبة من أمة له، وله ولد سوى ذلك أحرار، وترك =
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ).
قول أبي حنيفة هذا قال به الصحابة من قبله؛ كعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين
(1)
.
* قوله: (إِنَّهُ يَرِثُهُ بَعْدَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي تَرَكَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ الَّذِينَ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ، وَأَوْلَادُهُ الْأَحْرَارُ وَسَائِرُ وَرَثَتِهِ).
معنى ذلك أنَّ أبا حنيفة أخذ ما أورده مالك في " موطئه "، وأخذ به الحنفية من بعده، وكذلك ما جاء في " مصنف عبد الرزاق "، وهي قصة عباد مولى ابن المتوكل الذي كاتبه فمات
(2)
.
وفي بعض الروايات: أنه أدى نصف الكتابة، أي: بقي عليه
= مالًا من يرثه؟ " قال: " يأخذ المولى ما بقي من مكاتبته، ويكون ميراثه بين ولده الأحرار وبين ولده الذين ولدوا له في المكاتبة ". قلت:" ولم والذين ولدوا في المكاتبة عبيد؟ " قال: " لأنه عتق فعتق ابنه الذي ولد في المكاتبة بعتقه، ألا ترى أن المولى حيث قبض المكاتبة عتق المكاتب وعتق ولده معه، فصاروا ورثته ".
(1)
أخرجه أبو يوسف في الآثار (ص 190) عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن علي، وعبد الله بن مسعود، وشريح رضي الله عنهم، أنهم قالوا في المكاتب يموت ويترك وفاء:" يؤدي بقية مكاتبته وما بقي فهو ميراث لورثته ".
وأخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(8/ 391) عن عامر الشعبي قال: " كان ابن مسعود يقول في المكاتب: " إذا مات وترك مالًا أدي عنه بقية مكاتبته، وما فضل رد على ولده، إن كان له ولد أحرار "، قال عامر: " وكان شريح يقضي بذلك أيضًا ". ".
(2)
يُنظر: " الاختيار لتعليل المختار " لابن مودود الموصلي (4/ 41) حيث قال: " (وإذا مات المكاتب وترك وفاء أديت مكاتبته وحكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته ويعتق أولاده، فإن فضل شيء فلورثته) روي ذلك عن علي وابن مسعود، ولأنه عقد معاوضة لا ينفسخ بموت أحدهما - وهو المولى - فلا ينفسخ بموت الآخر تسوية بينهما كما في البيع، ولأن البدل كان في ذمته ولم تبق صالحة لذلك بالموت، ولهذا حل به الأجل فينتقل إلى التركة كسائر الديون فخلت الذمة
…
فيموت حرًّا، ويعتق أولاده تبعا له على ما قدمناه، فإن فضل شيء فلورثته لأنه حر وهم أحرار ".
النصف، وترك مالًا غطَّى به الديون التي عليه، وأدَّى النصف الذي بقي عليه من الكتابة وزاد شيء، فأوعز إليه عبد الملك بن مروان بأن يورث ابنته أيضًا مولاه
(1)
.
واختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال: بأن المولى لا يرث، وإنما يرد على البنت، على أساس أن المولى لا يرث مع وجود من يرث المولى من النسب، أي: إذا مات المكاتب أو المعتق أيضًا، وقد مَرَّ أن الولاء للسيد، لكن إذا وجد الأولاد من النسب فهم أولى بأخذ الميراث، فإذا لم يوجد حينئذٍ ورثه سيده الأول الذي ورث ولاءه
(2)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(8/ 392) عن ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة عبد الله، يذكر أن عبادًا مولى المتوكل مات مكاتبًا قد قضى النصف من كتابته، وترك مالًا كثيرًا وابنة له حرة، كانت أمها حرة، فكتب عبد الملك:" أن يقضى ما بقي من كتابته وما بقي من ماله بين ابنته ومواليه "، وقال لي عمرو:" ما أراه إلا لبنته ".
(2)
مذهب الأحناف الذي يرثه هم عصبته ولا يرث السيد شيئًا.
يُنظر: "بدائع الصنائع "، للكاساني (4/ 164)، وفيه قال:" لا يورث من المعتق بعد موته ولا يكون سبيله سبيل الميراث، وإنما يستحقه عصبة المعتق بنفسها وهم الذكور من عصبته لا الإناث ولا الذكور من أصحاب الفرائض والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث "، أي: لا يورث من المعتق ".
ومذهب المالكية أن ماله لسيده:
يُنظر: " شرح مختصر خليل "، للخرشي (8/ 222)، حيث قال:" لا يرث الرقيق، ولا يورث ويستوي في ذلك المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق لأجل، ومن بعضه حر كمن كله رق، وما مات عنه فهو لمن يملك بعضه، ولا يستثنى من ذلك إلا ما مَرَّ في باب الكتابة من حكم المكاتب إذا مات عن مال فاضل عن كتابته ومعه في الكتابة من يعتق عليه، فإنه يرثه ".
ومذهب الشافعية ثلاثة أقوال: ينظر: " الحاوي الكبير "، للماوردي (18/ 24) حيث قال:" إذا مات هذا الذي تبعضت فيه الحرية والرق هل يورث أم لا؟ قال الشافعي في القديم: " لا يورث، ويكون ماله لسيده؛ لأنه إذا لم يرث بحريته، لم يورث بها ". وقال في الجديد:" يكون موروثًا عنه لورثته دون سَيد رقه؛ لأن السيد لا يملك ذلك عنه في حياته، فلم يملكه بعد موته ".=
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ).
وكذلك الإمام أحمد، وقول الشافعي رحمه الله قال به من الصحابة: عُمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت
(1)
، ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز
(2)
، وقتادة، والزهري
(3)
.
* قوله: (لَا يَرِثُهُ بَنُوهُ الْأَحْرَارُ).
لأنهم يرون بأنه يرجع رقيقًا وماله لسيده.
إذًا مذهب الإمامين الشافعي وأحمد: إذا مات المكاتب دون أن يؤدي ما عليه عاد رقيقًا - تقديرًا - وماله يرثه سيده، أي: عاد كما لو كان
= وقال في موضع ثالث: " يكون ماله بين ورثته، وسيد رقه بقدر حريته ورقه ". فاختلف أصحابنا في هذه النصوص الثلاثة، فكان أبو إسحاق المروزي في طائفة يخرجون هذه النصوص الثلاثة على ثلاثة أقاويل: أحدها: تكون لسيده دون ورثته.
والثاني: تكون لورثته دون سيده، والثالث: تكون بينهما تورث عنه بقدر ما فيه من الحرية، ويكون للسيد بقدر ما فيه من الرق، تعليلًا بما ذكرناه ".
ومذهب الحنابلة أن ما بتركه للورثة.
يُنظر: " مطالب أولي النهى "، للرحيباني (4/ 670)، حيث قال:" (ويرث مبعض ويورث ويحجب) ويعصب (بقدر جزئه الحر) وهو قول علي وابن مسعود؛ لما روى عبد الله بن أحمد بسنده إلى ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العبد: " يعتق بعضه يرث وبورث على قدر ما عتق منه "، ولأنه يجب أن يثبت لكل بعض حكمه، كما لو كان الآخر معه (وكسبه) بجزئه الحر لورثته (وإرثه به)؛ أي: بجزئه الحر (لورثته) دون مالك باقيه ".
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11/ 192) عن قتادة، أن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، قالا:" إذا مات المكاتب وله مال، فهو لمواليه وليس لولده شيء ".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(8/ 393) عن معمر، عن سماك، قال: كتب لعمر بن عبد العزيز في مكاتب يموت وله ولد أحرار، فكتب:" إنما كاتب بمال سيده فهو وماله لسيده حتى يعتق ".
(3)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(8/ 393)، عن الزهري، وقتادة، قالا:" إذا مات المكاتب وله ولد أحرار، فالمال لسيده ".
حيًّا وعجز عن أداء الكتابة
(1)
.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَرِثُهُ بَنُوهُ الْأَحْرَارُ وَلَا الَّذِينَ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ وُلدُوا فِي الْكِتَابَةِ، وَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ، وَعَلَى أَوْلَاد الَّذِينَ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْعَوْا مِنَ الْكِتَابَةِ فِي مِقْدَارِ حُظُوظِهِمْ مِنْهَا).
فإن استطاعوا أن يؤدُّوا عنه ويتموا عقد المكاتبة؛ فحينئذ يحررون أنفسهم من الرق، وإلا عاد إليهم الرق في هذا المقام.
* قوله: (وَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْأَبِ عَنْهُمْ).
(1)
يُنظر: " الحاوي الكبير " للماوردي (8/ 82) حيث قال: " فأما المكاتب فهو عبد ما بقي عليه درهم لا يرث ولا يورث، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز، ومن الفقهاء الزهري وأحمد بن حنبل ". وانظر: " العزيز شرح الوجيز "، للرافعي (6/ 509).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" المغني " لابن قدامة (6/ 346 - 347) حيث قال: " فأما المكاتب، فإن لم يملك قدر ما عليه فهو عبد، لا يرث، ولا يورث، وإن ملك قدر ما يؤدي، ففيه روايتان:
إحداهما: أنه عبد ما بقي عليه درهم، لا يرث، ولا يورث.
يروى ذلك عن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، وأم سلمة، وعمر بن عبد العزيز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ".
وقال القاضي وأبو الخطاب: " إذا أدى المكاتب ثلاثة أرباع كتابته، وعجز عن الربع عتق؛ لأن ذلك يجب إيفاؤه للمكاتب، فلا يجوز إبقاؤه على الرق لعجزه عما يجب رده إليه.
والرواية الثانية: أنه إذا ملك ما يؤدي، فقد صار حرًا، يرث، ويورث، فإذا مات له من يرثه ورث، وإن مات فلسيده بقية كتابته، والباقي لورثته.
ومشهور المذهب: أن المكاتب لا يرث ولا يورث؛ لأن المكاتبين فيهم نقصًا منع كونهم وارثين، فمنع كونهم موروثين كالمرتد ".
يُنظر: " مطالب أولي النهى "، للرحيباني (4/ 670) حيث قال:" (لا يرث رقيق ولو) كان (مدبرًا أو مكاتبًا أو أم ولد، ولا يورث)؛ لأن فيهم نقصًا منع كونهم وارثين، فمنع كونهم موروثين كالمرتد، وأجمعوا على أن المملوك لا يورث؛ لأنه لا مال له فيورث ".
أي: لا يطالبوا بحصة الأب في هذه الحال، لكنهم يسعون لتخليص أنفسهم من الرق
(1)
.
* قوله: (وَبِسُقُوطِ حِصَّةِ الْأَبِ عَنْهُمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ
(3)
، وَالَّذِينَ قَالُوا بِسُقُوطِهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، وَهُوَ قَوْلُ
(1)
وهذا مبني على أصل؛ وهو: أنهم إذا كوتبوا كتابة واحدة فمذهب الشافعي وأحمد أنه لا يحمل بعضهم بعضًا، بمعنى أنه من مات منهم أو عتق سقط نصيبه فلا يتحمله الآخرون.
وهذا بخلاف مذهب أبي حنيفة ومالك من أنهم يحملون بعضهم البعض، فمن مات منهم أو عتق لم يسقط نصيبه، وإنما يتحمله الآخرون.
يُنظر: " الأم " للشافعي (8/ 90) حيث قال: " وإن كان معه ولد كبار كاتب عليهم فهم كرقيق كاتبوا معًا، فيرفع عمن كاتب معه حصة الميت من الكتابة، ويكون عليه هو حصته من الكتابة ".
وهو مذهب أحمد، يُنظر:" الكافي " لابن قدامة (2/ 345) حيث قال: " ويجوز أن يكاتب جماعة من عبيده صفقة واحدة بعوض واحد؛ لأن العوض بجملته معلوم، فصح، كما لو باع عبدين بثمن واحد، ويصير كل واحد منهم مكاتبًا بحصته من العوض، يقسم بينهم على قدر قيمتهم حين العقد؛ لأنه عوض، فيسقط على المعوض بالقيمة
…
وأيهم أدى عتق؛ لأنه أدى ما عليه فعتق، كما لو انفرد. وقال ابن أبي موسى:" لا يعتق حتى تؤدى جميع الكتابة، وإن مات بعضهم، سقط من مال الكتابة بقدر حصته "، والأول أصح ".
(2)
مذهب أبي حنيفة كما سبق موافق لمذهب مالك وليس كما قال المؤلف، فذهبوا إلى أن بعضهم حملاء عن بعض، وعليه فمن مات أو عتق لا تسقط حصته وإنما يتحمله الباقون.
مذهب الأحناف، يُنظر:" شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (8/ 379)، حيث قال:" قال أبو جعفر: "(وإذا كاتبهما مكاتبة واحدة، إن أديا عتقا، وإن عجزا ردا، فمات أحدهما: كان للمولى أن يأخذ الباقي بجميع الكتابة)"؛ لأن المال لم يسقط عن الميت، ألا ترى أنه لو ترك وفاء: أخذ من ماله ".
(3)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 412) حيث قال: " وأما الشافعي والثوري وسائر الكوفيين؛ كقولهم: " إن كل من كاتب على نفسه وولده، أو على أجنبي معه، ثم مات هو أو غيره ممن تضمنته الكتابة فإنه يوضع عن الباقين حصته من الكتابة ". ".
الشَّافِعِيِّ
(1)
، وَقِيلَ: بِالثَّمَنِ، وَقِيلَ: حِصَّتُهُ عَلَى مِقْدَارِ الرُّؤُوسِ
(2)
، وَإنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ بِسُقُوطِ حِصَّةِ الْأبِ عَنِ الْأَبْنَاءِ الَّذِينَ كَاتَبَ عَلَيْهِمْ لَا الَّذِينَ وُلدُوا فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ وُلدَ لَهُ أَوْلَادٌ فِي الْكِتَابَةِ فَهُمْ تبَعٌ لِأَبِيهِمْ)
(3)
.
أي: يكون حكمهم كحكم أبيهم، فبعد المكاتبة يأخذون حكم أبيهم.
(1)
يُنظر: " الأم " للشافعي (8/ 61) حيث قال: " وإذا كاتب المكاتب على نفسه وولد له كبار حاضرين برضاهم؛ فالمكاتبة جائزة، كما يجوز إذا كاتب على نفسه وعبدين معه وأكثر فإن كاتب على نفسه وابنين له بألف؛ فالألف مقسومة على قيمة الأب والابنين، فإن كانت قيمة الأب مائة، وقيمة الابنين مائة فعلى الأب نصف الألف، وعلى الابنين نصفها على كل واحد منهما مائتان وخمسون إذا كانت قيمتهما سواء، فإن مات الأب رفعت حصته من المكاتبة، وإن مات أحد الابنين رفعت حصته من الكتابة، وهي مائتان وخمسون، وبقيت على الآخر مائتان وخمسون ".
(2)
والقولان الآخران مذكوران عند الحنابلة.
يُنظر: " الإرشاد إلى سبيل الرشاد "، لأبي علي الهاشمي (ص 434)، حيث قال:" ولو كاتب رجل جماعة من عبيده كتابة واحدة على مال معلوم، ولم يبين حصة كل واحد منهم من المال جاز، ولم يعتق واحد منهم إلا بأداء جميع مال الكتابة، فإن مات بعضهم قبل الأداء سقط من مال الكتابة حصته منه، واختلف أصحابنا في قدر المسقط على وجهين: منهم من قال: يكون المال مفرقًا عليهم بالسوية على عدد رؤوسهم، إن كانوا ثلاثة سقط ثلث المال، وإن كانوا أربعة سقط ربعه، ولا ألتفت إلى قدر قيمتهم، ومنهم من قال بفضِّ ذلك على أثمانهم، فيسقط منه بقدر قيمة الميت ".
(3)
يُنظر: " الأم " للشافعي (8/ 59) حيث قال: " وإذا كاتب المكاتب، وله ولد لم يدخل ولده معه في الكتابة، وإن كاتب عليهم صغارًا كانت الكتابة فاسدة؛ لأنه لا يجوز أن يحمل عن غيره لسيده، ولا غير سيده، ولا تجوز كتابة الصغار، وإذا ولدوا بعد كتابته فحكمهم حكم أمهم؛ لأن حكم الولد في الرق حكم أمه، فإن كانت أمهم حرة فهم أحرار، وإن كانت مملوكة فهم مماليك لمالك أمهم كان سيد المكاتب، أو غيره ".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:" مسائل الإمام أحمد " رواية ابنه صالح (2/ 118) حيث قال: " إذا مات يوم مات، ولم يؤد بقية مكاتبته، فما ترك من شيء فهو لمولاه؛ لأنه مات وهو عبد، ومال العبد لسيده، وإن كانوا ولده ولدوا في مكاتبته فهم عبيد، وإن كان كاتبهم مع أبيهم فلهم أن يقوموا بكتابتهم ".
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ كِتَابَةً وَاحِدً لعْضُهُمْ حُمَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ).
وهذه قضية قد مرت، فإذا كاتب السيد عددًا من المكاتبين؛ هل يحمل بعضهم عن بعض في أداء الكتابة؟ ومر ذكر الخلاف في هذه المسألة، فمن العلماء من يرى جواز ذلك، ومنهم من يرى عدم جوازه، فمذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة أن يكونوا حملاء
(1)
.
أما الإمامان الشافعي وأحمد؛ فإذا أدى العبد منفردًا ما عليه فإنه يعتق حينئذٍ ولا يربط بغيره، وقد مرت التعليلات في ذلك.
وقد تكون فيها مصلحة؛ فيما لو كان عند أحدهم القدرة، فأدى الكاتبة وأخذ من معه، وصاروا كلهم أحرارًا، لكن ربما يحصل العكس فلا يستطيع أحد أن يؤدي، ولا يستطيع القوي منهم - مثلًا - أن يؤدي عن الكل فيبقون كلهم في الرق، وبذلك يتضرر المستطيع منهم؛ لأنه يستطيع أن يحرر نفسه، لكن بالنسبة للآخرين فقد عجز عن ذلك فتضرر بذلك.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ كِتَابَةً وَاحِدَةً بَعْضُهُمْ حُمَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ مَنْ عُتِقَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ لَمْ تَسْقُطْ حِصَّتُهُ عَنِ الْبَاقِي، وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي: أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُضْمَنُ
(2)
، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ
(1)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 396) حيث قال: " العبيد إذا كاتبهم سيدهم كتابة واحدة فهم عند مالك حملاء بعضهم عن بعض، وسواء كانت بينهم رحم يتوارثون بها أو لم تكن، إلا أن الذين بينهم رحم يتوارثون بها إذا مات أحدهم وترك من المال أكثر مما تؤدى منه الكتابة أديت منه، وما فضل ورثوه عنه بأرحامهم، وبأنهم مساوون في الحال، ولا يرثه الولد الحر؛ لأنه مات عبدًا، وعند الشافعي لا يرثه أحد من ورثته كانوا معه في الكتابة، أو كانوا أحرارًا قبل ذلك؛ لأنهم حين مات عبيد ومات هو عبدًا فماله للسيد ".
(2)
سبق ذكر هذه التعليلات.
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي مُوَطئِهِ مِثْلَ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ)
(1)
.
أي: جاء بها مجملة.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مَاذَا يَمُوتُ عَلَيْهِ الْمُكَاتَبُ؟ فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ يَمُوتُ مُكَاتبًا)
(2)
.
وهذا هو سبب الخلاف بين الأئمة الأربعة، فهناك من يرى أن العبد إذا مات ولم يؤدِّ ما اتفق عليه فإنه يموت مكاتبًا، وعليه فله أحكام يختص بها.
وهناك من يرى بأنه إذا مات فإنه يموت حرًّا، وعليه فله أحكام يختص بها أيضًا.
وهناك من قال: هو عبد ما بقي عليه شيء، يترتب على هذا المال الذي تركه.
فعند من يقول: هو عبد؛ يرجع إلى سيده، وعند من يقول بأنه مكاتب: يورث ذلك المال إن زاد بعد تأدية ما عليه من حقوق الكتابة، لكن لا يشارك في ذلك الأولاد الأحرار؛ لأنه لا يزال مكاتبًا، فبعضه حر وبعضه عبد.
ومن يقول - وهو أبو حنيفة -: بأنه حرٌّ فعليه يرث الكل، ويستدلون
(1)
سبقت رواية مالك من توريث عبد الملك مالَ المكاتب لولده، فقسم ماله بين ابنته ومولاه، وذكرنا أن مذهب مالك على خلافه من أن المكاتب لا يرث ولا يورث وأن ماله لسيده.
فقول الكوفيين موافق لما رواه مالك، وممن نقل قولهم ابن عبد البر.
يُنظر: " الاستذكار "(7/ 396). حيث قال: " إذا مات أحدهم وترك من المال أكثر مما تؤدى منه الكتابة أديت منه، وما فضل ورثوه عنه بأرحامهم، وبأنهم مساوون في الحال ولا يرثه الولد الحر؛ لأنه مات عبدًا، وعند الكوفيين يعتق ماله الذي ترك ويرثه الأحرار من ولده ".
(2)
سبق ذكر هذا.
بقصة غلام ابن المتوكل، وقد احتج محمد بن الحسن بهذه على المالكية
(1)
.
* قوله: (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَمُوتُ عَبْدًا، وَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ بَنَوُا الْحُكْمَ فِيهِ).
إذًا فهذه أصول، والأئمة الأربعة انقسموا ثلاثة أقسام، وكل قسم جعل أصلًا ورتب عليه الأحكام التي مرت
(2)
.
* قوله: (فَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ وَالْحُرِّيَّةَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَسَطٌ).
فعلى قول الشافعي: إما أن يكون حرًّا، وإما أن يكون عبدًا، فلا وسط بينهما، وهذا قد مات ولم يؤدِّ فيبقى رقيقًا.
* قوله: (وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ حُرًّا بَعْدُ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ إِنَّمَا تَجبُ بِأَدَاءِ كِتَابَتِهِ وَهُوَ لَمْ يُؤَدِّهَا بَعْدُ، فَقَدْ بَقِيَ أَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَقَ الْمَيِّتُ)
(3)
.
لأن الميت قد انتهى أمره، فلا يعقل أن يعتق العبد بعد موته.
(1)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 378) حيث قال: " وقد احتج محمد بن الحسن بحديث مالك هذا عن حميد بن قيس على من قال بقول مالك: في أن المكاتب لا يرثه ورثته الأحرار إذا مات قبل العتق، وإنما يرثه من معه من ورثته في كتابته ".
(2)
سبق هذا.
(3)
وذكر تعليلًا آخر، ينظر:" العزيز شرح الوجيز " للرافعي (13/ 515) حيث قال: " إذا مات المكاتب قبل أن يؤدي النجوم، انفسخت الكتابة، ومات رقيقًا حتى لا يورث، وتكون أكسابه للسيد، وتجهيزه عليه؛ لأن مورد العقد الرقبة، والمقصود مرتقب فيها، فإذا فأتت كان فواتها كتلف المبيع قبل القبض، ولا فرق بين أن يخلف وفاء بالنجوم أو لا يخلف، ولا بين أن يكون الباقي من النجوم قليلًا أو كثيرًا، وسواء حط شيئًا، أو لم يحط.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْعِتْقَ قَدْ وَقَعَ بِمَوْتِهِ مَعَ وُجُودِ الْمَالِ الَّذِي كَاتَبَ عَلَيْهِ).
والحنفية يقولون: قد مات وعنده مال، وهذا المال كافٍ بأن يؤدي ما عليه؛ لذا قد أصبح حرًّا، ويعامل معاملة الحر في جميع الأحكام.
* قوله: (لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرِقَّ نَفْسَهُ، وَالْحَرِيَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً لَهُ بِوُجُودِ الْمَالِ، لَا بِدَفْعِهِ إِلَى السَّيِّدِ).
أي: أن الحنفية يقولون: إذا ترك مالًا بعد موته فهو أولى الناس به، فيحرر به حتَّى بعد موته
(1)
.
* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ؛ فَجَعَلَ مَوْتَهُ عَلَى حَالَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ بَيْنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَهِيَ الْكِتَابَةُ، فَمِنْ حَيْثُ لَمْ يُوَرِّثْ أَوْلَادَهُ الْأَحْرَارَ مِنْهُ جَعَلَ لَهُ حُكْمَ الْعَبِيدِ).
لأنه لو ورَّثَهم حُكم عليه بأنه حُرٌّ، وكونه لم يوِّرث الأحرارَ فاعتبره من هذا الجانب عبدًا.
* قوله: (وَمِنْ حَيْثُ لَمْ يُورِّثْ سَيِّدَهُ مَالَهُ حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الْأَحْرَارِ).
(1)
ذكر السرخسي أدلة على بقاء المكاتب حرًّا بعد موته إذا ترك وفاء.
يُنظر: "المبسوط"(7/ 208، 209) حيث قال: " وحجتنا فيه: أنه عقد معاوضة لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين فلا ينفسخ بموت الآخر كعقد البيع، وهذا لأن قضية مطلق المعاوضة التسوية بين المتعاقدين، ثم إذا جاز أن يجعل المولى بعد الموت كالحي حكمًا حتى يصير معتقًا، فكذلك يجوز أن يبقى المكاتب حيًّا حكمًا حتى يؤدي كتابته فيصير حرًّا، وهذا لأن المملوكية أليق بحال الميت من المالكية؛ لأن المملوكية عبارة عن الضعف والمالكية ضرب قوة والضعيف بحال الميت أليق من القوة ".
لأنه لما لم يرُدَّ المال إلى سيده جعله في حكم الأحرار؛ لأنه إذا رُدَّ إلى السيد أصبح العبد لا ملك في ماله، وبهذا يعود ماله لسيده، إذًا جعله الإمام مالك وسطًا بين المذهبين
(1)
.
* قوله: (وَالْمَسْأَلَةُ فِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْجِنْسِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي أُمِّ وَلَدِ الْمُكَاتَبِ إِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ بَنِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى السَّعْيِ).
هذه مسألة أخرى: فإذا مات المكاتب وترك أم ولد ومعها أولاد، وهؤلاء الأولاد صغار، لا يستطيعون السعي والعمل، فليس عندهم القدرة ليحرروا أنفسهم، وسيأتي تفصيل هذه المسألة.
* قوله: (وَأَرَادَتِ الْأُمُّ أَنْ تَسْعَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ).
وكذلك الإمام أحمد رحمه الله
(2)
.
(1)
يُنظر: " المدونة "، لابن القاسم (2/ 503، 504)، حيث قال:" ولا يرثه ورثته الأحرار؛ لأن في المكاتب الميت بقية من الرق لم تتم حرمته قبل موته، ولا يرث الأحرار من مات وفيه من الرق شيء، وقد بينت لك من أين منع مالك ورثته للرق الذي بقي فيه، ومن أين منع السيد من بقية المال بعد أداء الكتابة؛ لأنه لم يمت عاجزًا، ولم تنحل العقدة التي جعل فيه سيده من الحرية، فورثه ورثته الذين هم بمنزلته، وفيهم من الرق مثل الذي في الميت، وفيهم من عقد الحرية مثل الذي في الميت ".
(2)
في مذهب أحمد روايتان، إما يسعون لأداء الباقي أو يصيرون رقيقًا للسيد.
يُنظر: " الإرشاد إلى سبيل الرشاد "، لأبي علي الهاشمي (ص 431)، حيث قال: " ولو مات المكاتب وخلف وفاء كتابته، قام ورثته مقامه في أداء باقي مال الكتابة
…
وقد روي عنه رواية أخرى: إذا مات المكاتب قبل الأداء، فهو عبد وميراثه للسيد. وإن كان له ولد من أمة كان رقيقًا، وإن كان له ولد من حرة كان حرًّا، ولا ميراث منه، وماله للسيد.
وإن لم يترك وفاء بباقي كتابته، وكان قد أدى الأقل منها، فهو عبد قولًا واحدًا، وما ترك من مال وولد من أمة فللسيد، وإن كان قد أدى أكثر مال الكتابة، ولم يترك وفاء بباقيها، فهل يكون عبدًا وولده رقيقا؟ أم لا يرجع أولاده إلى الرق ويسعون في أداء باقي مال الكتابة وهم أحرار؟ على وجهين ".
* قوله: (لَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
وَالْكُوفِيُّونَ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ
(2)
، وَعُمْدَتُهُمْ: أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ مَالٌ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ، وَأَمَّا مَالِكٌ).
وكذلك الإمام أحمد.
* قوله: (فَيَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الْكِتَابَةِ الَّتِي لِسَيِّدِهَا صَائِرَةٌ إِلَيْهَا، وَاِلَى بَنِيهَا).
فكونها أم ولد ولها حرمة الكتابة؛ فينبغي أن تكون حرمة الكتابة صائرة أيضًا إلى أولادها
(3)
.
(1)
يُنظر: " الأم " للشافعي (8/ 90) حيث قال: " وإن كان مع المكاتب ولد ولدوا في كتابته وأم ولده لم يكاتب عليها فهم رقيق، وإن كان معه ولد كبار كاتب عليهم فهم كرقيق كاتبوا معًا فيرفع عمن كاتب معه حصة الميت من الكتابة، ويكون عليه هو حصته من الكتابة، فإن كان في كتابته ولد بالغون كاتبوا معه، وأجنبيون فسواء، يأخذ سيده ماله؛ لأنه مات عبدًا، ويرفع عنهم حصته من الكتابة، وإذا كان معه ولد ولدوا في كتابته من أمة من لم يكاتب عليها، فمات قبل أن يؤدي فهم وأم ولده رقيق وماله لسيده؛ لأنهم إنما كانوا يعتقون بعتقه لو عتق، وإذا بطلت كتابته بالموت لم يعتقوا بعتق من لا يعتق، وكذلك لو ملك أباه وأمه، ثم مات أرقوا ".
(2)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 414) حيث قال: " قال مالك في المكاتب يموت ويترك مالًا ليس فيه وفاء الكتابة، ويترك ولدًا معه في كتابته وأم ولد، فأرادت أم ولده أن تسعى عليهم: أنه يدفع إليها المال إذا كانت مأمونة على ذلك، قوية على السعي، وإن لم تكن قوية على السعي ولا مأمونة على المال لم تعط شيئًا من ذلك، ورجعت هي وولد المكاتب رقيقًا لسيد المكاتب، وخالفه الشافعي والكوفيون؛ فقالوا: أم ولد والمكاتب إذا مات مالٌ من مالِ سيده، فإن لم يستطع ولده السعي في جميع كتابته فهم رقيق ".
(3)
يُنظر: " المنتقى شرح الموطإ " للباجي (7/ 26) حيث قال: " ومعنى ذلك أن أم ولد المكاتب إذا مات عنها وعن ولد منها أو من غيرها فأرادت السعي عليهم فذلك لها، ويسعون بسعيها؛ لأن ولده بمنزلته قد باشرته الكتابة كما باشرته، وأم الولد لها حكم المال، فإن أمكن الأداء عنهم بسعيها فهي بمنزلة غلة مال المكاتب يتأدى منها نجومهم ".
* قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا تَرَكَ بَنِينَ صِغَارًا لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّعْيَ، وَتَرَكَ أُمَّ وَلَدٍ لَا تَسْتَطِيعُ السَّعْيَ؛ أَنَّهَا تُبَاعُ وَيُؤَدَّى مِنْهَا بَاقِي الْكِتَابَةِ)
(1)
.
أي: إذا ترك أولادًا وأُم ولد، وربما تكون هذه الأم أُمَّ الأولادِ أو تكون أُمَّ ولد غيرهم، فرأى الإمام مالك أن تُباع إذا كانت أُمًّا لأولاد صغار لا يستطيعون أن يُؤدّوا حق المكاتبة، فحينئذ يحصل البيع، ويؤدى نجوم المكاتبة.
* قوله: (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ).
وكذلك الإمام الشافعي
(2)
، وأحمد رحمهما الله
(3)
.
* قوله: (أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ لِأُمِّ وَلَدِهِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفةَ
(4)
، والشَّافِعِيِّ).
(1)
يُنظر: " المدونة "، لابن القاسم (4/ 620)، وفيه قال:" وإن لم تكن مأمونة ولا قوية على ذلك رجعت هي وولد المكاتب رقيقًا للسيد، إلا أن يكون فيما ترك المكاتب أو في ثمن أم الولد إذا بيعت ما يؤدي عنهم، فإنها تباع ويعتقون، ويكون فيما ترك وفي ثمنها إذا بيعت ما يؤدي عنهم إلى أن يبلغوا السعي ".
(2)
الشافعي قال بالجواز في هذه الحالة كما سيأتي.
(3)
في مذهب أحمد روايتان، والمشهور عدم الجواز. يُنظر:" الهداية " للكلوذاني (ص 379 - 380) حيث قال: " ولا يجوز بيع أم الولد ولا هبتها ولا رهنها ولا الوصية بها، نص عليه في رواية عامة أصحابه، وروى عنه صالح: أكره بيعهن، وقد باع علي بن أبي طالب، وظاهره أنه يصح البيع مع الكراهية، والصحيح الأول ". وانظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 616).
(4)
ينظر: "المبسوط"، للسرخسي (7/ 218)، حيث قال: " وإذا ترك المكاتب أم ولد ليس معها ولد بيعت في المكاتبة، وإن كان معها ولد سعت فيها على الأجل الذي كان للمكاتب صغيرًا كان ولدها أو كبيرًا، وإن كان ترك مالًا لم يؤخر إلى أجله وصار حالًّا في قول أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: " حال أم الولد بغير الولد كحالها مع الولد في جميع ذلك، حتى يسعى فيها على الأجل) ".=
وقد وهمَ المؤلف رحمه الله في قول الشافعي، فالشافعي رأيه كرأي محمد بن الحسن
(1)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي أُمِّ وَلَدِ الْمُكَاتَبِ إِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ بَنِينَ وَوَفَّاهُ كِتَابَتَهُ؛ هَلْ تُعْتَقُ أُمُّ وَلَدِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ عُتِقَتْ وَإِلَّا رُقَّتْ، وَقَالَ أَشْهَبُ: تُعْتَقُ عَلَى كُلِّ حَالٍ
(2)
، وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ: كُلُّ مَا تَرَكَ الْمُكَاتَبُ مَالٌ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَنُونَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ، كَانُوا مَعَهُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، أَوْ كَانُوا وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمُ السَّعْيُ
(3)
).
= وهذا بناءٌ على أن عندهما: يمتنع على المكاتب بيع أم ولده إذا ملكها سواء كان معها ولد أو لم يكن؛ لأن ثبوت حقها باعتبار نسب الولد، ونسب الولد ثابت منه سواء ملك الولد معها أو لم يملك
…
وأما عند أبي حنيفة: إذا ملكها في حال حياته مع الولد يمتنع بيعها، وإذا ملكها بدون الولد لا يمتنع عليه بيعها؛ لأن حقها تابع لحق الولد، وثبوت التبع بثبوت الأصل، فإذا لم يثبت الأصل لا يثبت التبع، وهذا لأن حقيقة أمية الولد لا يثبت لها في حال الكتابة ".
(1)
بل الصواب مع المؤلف؛ فإن الشافعية استثنوا بيع أم الولد من التحريم في ثلاث حالات منها هذه التي معنا.
يُنظر: " اللباب في الفقه الشافعي " للمحاملي (ص 419) حيث: " ويجوز بيع أمّ الولد في ثلاث مسائل؛ أحدها: المرهونة، والثانية: الجانية، والثالثة: أمّ ولد المُكاتب ". وانظر: " كفاية النبيه في شرح التنبيه "، لابن الرفعة (12/ 403).
ثم سبق ابنُ عبد البر في " الاستذكار "(7/ 410) المؤلفَ في هذا، حيث قال:" ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد بيع المكاتب لأم ولده، ويجوز عند أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي ".
(2)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 410)، حيث قال:" اختلفوا في أم ولد المكاتب إذا مات وترك وفاء بكتابته على حالها بعد موته، فقال ابن القاسم: " إذا كان معها ولد عتقت، وإن لم يكن معها ولد فهي رقيق "، وقال أشهب: تعتق وإن لم يكن معها ولد إذا ترك المكاتب وفاء ".
(3)
ينظر: " الأم " للشافعي (8/ 56) حيث قال: " وإذا مات فخرج من الكتابة أحطنا أنه عبد وصار ماله لسيده كله، وسواء كان معه في الكتابة بنون ولدوا من جارية له أو أم ولد، أو بنون بلغوا يوم كاتب وكاتبوا معه وقرابة له كاتبوا معه فجميع ماله لسيده ".
وهذا قد مرَّ بنا، وكذلك الإمام أحمد أيضًا معهم
(1)
.
* قوله: (وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَكُونُ حُرًّا وَلَا بُدَّ
(2)
، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ كَأَنَّهُ اسْتِحْسَانٌ
(3)
).
فيكون حرًّا كما مضى؛ لأنَّ كل واحد من الأئمة وضع قاعدة، فمالك له قاعدة فقد جعله مكاتبًا إذا مات وبقي عليه شيء لم يؤدَّ من الكتابة، وأبو حنيفة جعله حرًّا، والشافعي وأحمد جعلاه رقيقًا.
(1)
ومذهبه كما سبق: أن المكاتب إذا مات ولم يؤدِ جميع ما عليه فما تركه يكون لسيده، ويجب عليهم السعي ليتخلصوا من الرق.
يُنظر: " مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح "(2/ 118)، حيث قال:" قال في مكاتب مات وترك مالًا وترك فيه أكثر من مكاتبته، قال: " إذا مات يوم مات ولم يؤد بقية مكاتبته فما ترك من شيء فهو لمولاه؛ لأنه مات وهو عبد، ومال العبد لسيده، وإن كانوا ولده ولدوا في مكاتبته فهم عبيد، وإن كان كاتبهم مع أبيهم، فلهم أن يقوموا بكتابتهم، وترفع عنهم مكاتبة الأب، وكذا إن مات واحد من ولده، رفع عن أبيهم حصته الأحق بالإمامة ".
(2)
وذلك لأنه بالوفاء بما على المكاتب بعد موته يصير أولاده وأم ولده أحرارًا.
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (7/ 229) حيث قال: " فإن مات المكاتب عن وفاء عتقت هي وأولادها؛ لأن كتابة الأول لما أديت فقد حكم بعتقه وصارت المكاتبة أم ولد له، فتعتق بالاستيلاد هي وأولادها، وأخذ أولادها ما بقي من ميراثه بعد أداء كتابته؛ لأنهم عتقوا في حال حياته حين تم ملكه فيهم وهم أولاده، فإن لم يترك وفاء فالمرأة وولدها بالخيار إن شاؤوا سعوا فيما بقي على الأول ليعتقوا بعتق الأول، وإن شاؤوا سعوا فيما بقي على الأم؛ لأنهم يستفيدون العتق بأداء ذلك كما لو أدوا إلى المكاتب في حياته، ويسعون في الأقل من ذلك ".
(3)
مذهب مالك أن المكاتب إذا مات ولم يترك وفاء يكفي ما عليه من دين فسعى مَن بعده، وأدوا تلك النجوم عتقوا جميعًا.
يُنظر: " الشرح الكبير "، للدردير (4/ 399) حيث قال:" (وإن لم يترك وفاء) بالنجوم بأن لم يترك شيئًا أصلا أو ترك شيئًا قليلًا لا يوفي بها (وقوي ولده) الذي معه في الكتابة ولا مفهوم لولده، فلو قال: وقوي من معه ليشمل الأجنبي كان أحسن (على السعي) على أداء النجوم (سعوا) وأدوها وعتقوا وإلا رقوا ".
أما أمُّ المكاتب فوقع الخلاف بينهم فيما يتعلق بها كما مر
(1)
.
* قوله: (الْجِنْسُ الرَّابعُ: وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَنْ يَدْخُلُ مَعَهُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَمَنْ لَا يَدْخُلُ).
أي: قد يمتلك المكاتب مالًا حال بيعه، وقد يكون له أولاد؛ فهل ينتقلون معه أو لا؟ فإذا كان لمكاتب مال من ميراث أو غيره، فهو ملك لسيده أصلًا، فهل ينتقل لسيده الجديد بعد بيعه؟ أو يبقى معه؟
اختلف العلماء في ذلك؛ فبعضهم يرى أن كل ما يملكه الرقيق - حتَّى وإن كان مكاتبًا - فهو لسيده، وإن كاتبه فلا بد من اشتراط المال معه لينتقل معه.
وبعضهم يرى أن الأصل في المال أن يكون للعبد حال بيعه أو كتابته
(2)
، مستدلين بالأحاديث الواردة في ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:" مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ "
(3)
، وفي بعضها:" فماله له إلا أن يشترطه السيد"
(4)
، فالمسألة فيها خلاف، فالخلاف متعلق بالمال، وأيضًا متعلق بالأولاد، فما الذي يأخذ حكمه - من مال أو أولاد - في ذلك؟ هل الذين يولدون معه في وقت الكتابة أو لا؟ وهذا هو مراد المؤلف، يقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بينت أن:" أيما عبد كاتب سيده على مائة أوقية فأداها إلا عشر فهو عبد "
(5)
. ورواية أخرى: " مائة دينار "
(6)
، ومرت أحاديث أيضًا أخرى.
(1)
سبق بيان هذا كله.
(2)
سيأتي تفصيل هذا.
(3)
أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1543/ 80).
(4)
أخرجها أبو داود (3962).
(5)
سبق تخريجه.
(6)
سبقت.
والأحكام التي يريدها العلماء - دائمًا - إما أن تكون أحكامًا عامة يأخذونها من النص مباشرة، وربما يستخرجون أحكامًا من النصوص.
فهذه المسائل التي أوردها المؤلف رحمه الله يرى أنها من أمهات المسائل، ولكن هناك جزئيات أخرى - أيضًا - لم يتعرض لها المؤلف، وهذه المسائل التي أوردها ليست على إطلاقها كما مر؛ لأن منها ما قد يكون من المسائل الفرعية.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبِ لَا يَدْخُلُ فِي كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ إِلَّا بِالشَّرْطِ؛ لأنَّهُ عَبْدٌ آخَرُ لِسَيِّدِهِ)
(1)
.
أصل المكاتب: العبودية فإذا تزوج هذا العبد ورزق بأولاد ثم
(1)
أولًا: مذهب الأحناف: ذكر في الأصل مسألة مفادها أنه لا يجوز أن يدخلوا معه إلا إذا اتفقا معًا على ذلك. ينظر: " الأصل "، للشيباني (6/ 228) حيث قال:" قلت: " أرأيت رجلًا كاتب عبدًا له على نفسه وولده الصغار بألف درهم مكاتبة واحدة وجعل النجوم واحدة إذا أداها عتقوا وإذا عجز ردوا، هل يجوز ذلك؟ " قال:" نعم ". قلت: " ولم أجزت هذا وقد دخل ولده الصغار معه في المكاتبة من غير أن يرضوا بها ولا يعقلوها؟ ". قال: " لأنه كاتب عليهم ". قلت: " أفرأيت إن أدى من المكاتبة قيمة نفسه هل يعتق؟ " قال: " لا يعتق هو ولا أحد من ولده حتى يؤدي جميع المكاتبة ". قلت: " ولم؟ " قال: " لأن المكاتبة واحدة، ولا يعتقون إلا جميعًا ".".
ومذهب المالكية: انظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 387)، وفيه قال:" ولد المكاتب لا يدخل في الكتابة، إلا أن يكاتب عليه ويشترط في كتابته ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" الأم " للشافعي (8/ 59) حيث قال: " وإذا كاتب المكاتب، وله ولد لم يدخل ولده معه في الكتابة، وإن كاتب عليهم صغارًا كانت الكتابة فاسدة؛ لأنه لا يجوز أن يحمل عن غيره لسيده، ولا غير سيده، ولا تجوز كتابة الصغار، وإذا ولدوا بعد كتابته فحكمهم حكم أمهم؛ لأن حكم الولد في الرق حكم أمه، فإن كانت أمهم حرة فهم أحرار، وإن كانت مملوكة فهم مماليك لمالك أمهم كان سيد المكاتب، أو غيره ".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:" المغني "(10/ 376) حيث قال: " وإذا كاتب العبد، وله مال، فماله لسيده، إلا أن يشترطه المكاتب، وإن كانت له سرية أو ولد، فهو لسيده ".
كوتب، هل يقال بأن أولاده الموجودين ينتقلون معه في الكتابة أو لا؟
الجواب: لا؛ لأن هؤلاء الأولاد عبيد؛ لأنهم ثمرة من ثمرات ملك السيد، أي: أنهم تابعون لوالدهم في الرق، فإذا كوتب العبد لا يتبعه الأولاد في المكاتبة، ولكنهم يبقون أرقاء، لكن ما حكم ما يولد في وقت الكتابة؟ هذا ما سيبينه المؤلف.
* قوله: (وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى دُخُولِ مَا وُلِدَ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ فِيهَا)
(1)
.
إذًا هناك مواضع متفق عليها، ومواضع مختلف فيها؛ فالأولاد الذين وُلدوا للمكاتب قبل عقد الكتابة أرقاء: يملكهم السيد، وهذا محل اتفاق.
أما ما يولد بعد عقد المكاتبة: فهم تابعون لأبيهم في الكتابة؛ لأنهم وجدوا في عقد المكاتبة، والأب في طور أن يحرر نفسه من الرق فهم
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:" مختصر القدوري "(ص 179)، حيث قال:" فإن ولد له ولد من أمة له دخل في كتابته، وكان حكمه كحكمه وكسبه له ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" الفواكه الدواني "، للنفراوي (2/ 139)، حيث قال:" (و) كل (ما حدث للمكاتب) من أمته، (و) أي: أو (المكاتبة من ولد) بيان لما (دخل معهما في الكتابة) من غير توقف على شرط (وعتق بعتقهما) عطف على دخل الواقع خبرًا عن ما الواقعة مبتدأ، وأشعر قوله: " حدث " أنه لم ينفصل عن ظهر أبيه إلا بعد عقد كتابته، ولم يخرج من بطن المكاتبة إلا بعد عقد الكتابة؛ لأن وجود الحمل في بطن الأمة بمنزلة ما في ظهر الذكر، وما انفصل من الظهر بمنزلة ما خرج من البطن، وأما الولد الذي انفصل عن ظهر المكاتب قبل عقد الكتابة وولد المكاتبة خرج من بطنها قبل عقد الكتابة، فلا يدخل في الكتابة إلا بالشرط ".
مذهب الشافعية، يُنظر:" الأم " للشافعي (8/ 60) حيث قال: " وإذا ولد للمكاتب من جاريته لم يكن له أن يبيع ولده، وكان له أن يبيع أمته مثى شاء، فإذا عتق عتق ولده معه ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 602)، وفيه قال:" (وليس للمكاتب النفقة على ولده من أمة لغير سيده) ولو ولد بعد الكتابة؛ لأنه تابع لأمه، وليس المكاتب من أهل التبرع (ويتبعه) أي المكاتب ولده في كتابته (من أمة سيده بشرطه)، أي: اشتراطه ذلك على سيده في العقد، لحديث: " المسلمون على شروطهم "، فإن لم يشترط فولده قن لسيده تبعًا لأمه كما لو كانت لغير سيده ".
ساعون معه؛ فإذا تحرر تحرر أولاده معه؛ لأنهم ولدوا في زمن الكتابة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ).
وقد تقدم الكلام في أم الولد.
* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ مَالِهِ أَيْضًا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ)
(1)
.
أي: اختلف العلماء في دخول مال العبد في ملك سيده بمجرد تمام عقد المكاتبة بينهما، وانقسموا إلى قسمين؛ فمنهم من قال: ما دام هذا المال تحت يد العبد فهو ملك له
(2)
.
ومنهم من قال: إن المكاتب لا يملك شيئًا؛ لأنه لا يزال رقيقًا فملكه لسيده
(3)
.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ مَالُهُ فِي الْكِتَابَةِ)
(4)
.
(1)
معنى المسألة: أن العبد إذا كان له مال وكاتبه سيده هل يتبعه ماله فيكون تحت يده ويدخل معه في الكتابة بمطلق العقد - أي من غير اشتراط سيده أن يأخذه منه - أم لا يدخل ويأخذه سيده.
(2)
وهم المالكية كما سيأتي.
(3)
وهم باقي الفقهاء.
(4)
مذهب المالكية إلى أنه يدخل معه بمطلق العقد؛ لأن عنده العبد له أن يملك.
يُنظر: " الفواكه الدواني " للنفراوي (2/ 139) حيث قال: " ولما كان العبد يملك عندنا، بَيَّن غايةَ ملكه بقوله: (ومال العبد) القن (له إلا أن ينتزعه السيد) فيصير ملكًا ويحل له وطؤها إن كانت أمة ويخاطب بزكاته إن كان مما يزكى (فإن أعتقه) أي القن الذي للسيد انتزاع ماله (أو كاتبه، و) الحال أنه (لم يستثن ماله فليس له) حينئذٍ (أن ينتزعه)؛ لأن مال العبد يتبعه في العتق وإن كثر، دون البيع فإنه لا يتبعه إلا بالشرط، والدليل على ما ذكره المصنف قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق عبدًا وله مال تبعه ماله إلا أن يشترطه سيده " وحينئذ فليس للسيد انتزاع مال المكاتب.
كما أن مالك قال بدخول مطلق المال تحت يد العبد كان عرضًا أو عينًا حتى لو كان دينًا.
يُنظر: " التهذيب في اختصار المدونة " للبراذعي (2/ 563، 564). قال: " وإذا كاتب عبده تبع العبد ماله من رقيق أو عرض أو عين أو دين، كتم ذلك أو أظهره، وليس للسيد أخذه بعد الكتابة إلا أن يشترطه سيده حين كاتبه فيكون ذلك له ".
ودليل وحجة الإمام مالك رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ "
(1)
.
ودليل الجمهور: قوله صلى الله عليه وسلم: " من ابتاع عبدًا له مال، أو رقيقًا له مال، فالمال للذي باعه، إلا أن يشترطه المبتاع "، وهو حديث متفق عليه
(2)
.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
وَأَبُو حَنِيفَةَ)
(4)
.
(1)
ليس هذا دليل المالكية، وإنما دليلهم الحديث الذي سبق معنا، وهو حديث أبي داود (3962)، والنسائي في الكبرى (4961)، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن أعتق عبدًا، وله مال فمال العبد له، إلا أن يشترطه السيد ".
يُنظر: " رياض الأفهام " للفاكهاني (4/ 312، 313) حيث قال مبينًا وجه الدلالة من الحديث على مذهبهم: " ونحن نعيد الضمير في قوله: " له " على العبد، لوجوه:
أحدها: أن العبد ملفوظ به، والسيد غير ملفوظ به، بل هو مستتر في " أعتق "، يعود على (من)، وعود الضمير في صناعة العربية على المنطوق به أولى من عوده على المستتر.
الثاني: أن الضمير في (له) أقرب إلى العبد من الضمير المستتر في (أعتق)، والعود إلى الأقرب عند التعارض أولى، الثالث: لو أعدنا الضمير في (له) على ضمير السيد المشتري في (أعتق)، لفسد المعنى، إذ يبقى التقدير: فماله للسيد إلا أن يشترطه السيد، فيكون للسيد، وهذا لا شك في فساده ".
(2)
سبق تخريجه.
(3)
يُنظر: " الحاوي الكبير "، للماوردي (5/ 268)، وفيه قال: " فإذا باع السيد عبده وقد ملكه مالًا؛ لم يخل حال العقد من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يشترطا إخراج ماله من العقد.
والثاني: أن يشترطا إدخال ماله في البيع.
والثالث: أن يطلقا؛ فإن شرطا إخراج ماله خرج ولم يدخل في البيع على القولين معًا، وكذا لو أطلقا العقد فلم يدخل مال العبد في البيع على كلا القولين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" من أعتق عبدًا فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع "، وكذا لو أعتقه كان جميع ما ملكه السيد دون العبد على قولين جميعًا ".
(4)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (30/ 158) حيث قال: " وإذا كاتب الرجل عبدًا وللعبد مال فماله لمولاه إلا أن يشترطه المكاتَب عندنا، وذلك لأن ما اكتسبه قبل عقد الكتابة ملك المولى فهو بمنزلة مال آخر للمولى في يده، فلا يستحقه المكاتب =
وكذلك الإمام أحمد رحمه الله
(1)
.
* قوله: (لَا يَدْخُلُ).
فالأئمة الثلاثة، وكذلك الإمام مالك في رأي له: يرون أن المال للسيد
(2)
.
ولكن استثناء من مذهب الجمهور، فالجمهور قالوا: بأن المال للسيد، ثم بعد ذلك لو اشترطه المكاتب فشرطه صحيح.
قال الإمام أحمد والأوزاعي: شرطه صحيح وله ذلك، للحديث:" إلا أن يشترطه المبتاع ".
= بمطلق الكتابة؛ وهذا لأن الاستحقاق بالعقد إنما يثبت فيما يضاف إليه العقد، وإنما أضيف العقد هنا إلى رقبته دون ماله، فلا يستحق به المال كما في البيع، وإذا كان عقد الكتابة يمكنه من التصرف، ولكن يمكنه من ذلك لمنافعه لا لماله، وبعقد الكتابة يصير هو أحق بمنافع نفسه عندنا ".
(1)
يُنظر: " المغني " لابن قدامة (10/ 376، 377) حيث قال: " وإذا كاتب العبد، وله مال، فماله لسيده، إلا أن يشترطه المكاتَب، وإن كانت له سرية أو ولد، فهو لسيده، لنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من باع عبدًا، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع ". متفق عليه. والكتابة بيع، ولأنه باعه نفسه، فلم يدخل معه غيره، كولده وأقاربه، ولأنه هو وماله كانا لسيده، فإذا وقع العقد على أحدهما، بقي الآخر على ما كان عليه، كما لو باعه لأجنبي. وحديثهم - وهو الحديث الذي ذكره المالكية - ضعيف ". وانظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 581).
(2)
الظاهر أن هذ الرأي لمالك ليست في مسألة المكاتبة، وإنما هذا في باب آخر.
ومما يؤكد ذلك صريح قوله، وينظر " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 385 - 386) حيث قال:" قال مالك: " الأمر عندنا أن المكاتب إذا كاتبه سيده تبعه ماله ولم يتبعه ولده إلا أن يشترطهم في كتابته ". قال أبو عمر: " إنما قال ذلك قياسًا على العتق؛ لأن مذهبه ومذهب جماعة أهل المدينة أن العبد إذا عتق تبعه ماله، وفي الكتابة عقد من الحرية ". ".
ولأن أصل هذه المسألة - كما بين المؤلف -: أن العبد عند مالك يملك قولًا واحدًا لم يحكَ خلاف عنه في ذلك.
وانظر: " البيان والتحصيل " لابن رشد الجد (8/ 78).
* قوله: (وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَدْخُلُ بِالشَّرْطِ، أَعْنِي: إِذَا اشْتَرَطَهُ المُكَاتِبُ
(1)
، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ أَمْ لَا يَمْلِكُ؟).
وهذه مسألة معروفة، وفيها قاعدة فقهية معلومة أيضًا، أي: من المعلوم أن هذا العبد مملوك رقيق، سلعة بيد سيده، فلا ملك له بذلك فيما تحت يده، أي: كل ما بيده ملك لسيده، ومن العلماء من قال: يملك ما تحت يده، ومنهم من فصل القول فقال: إن ملَّكَه سيدُه ملَكَ، وإن لم يُملِّكْه فلا.
* قوله: (وَهَذ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ أَمْ لَا يَمْلِكُ؟ هَلْ يَتْبَعُهُ مَالُهُ فِي الْعِتْقِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ).
أي: وقد تقدم في كتاب العتق؛ فمنهم من قال: يملك، ومنهم من قال: لا يملك، ومنهم من قال: يملك إذا ملَّكه سيده.
* قوله: (الْجِنْسُ الْخَامِسُ).
قسَّم المؤلف رحمه الله أحكام المكاتب إلى أجناس؛ فهو ينتقل من جنس إلى جنس.
* قوله: (وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا يُحْجَرُ فِيهِ عَلَى الْمُكَاتَبِ مِمَّا لَا يُحْجَرُ، وَمَا بَقِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَبْدِ فِيهِ).
عقد المكاتبة: هو عقد بين العبد وسيده، يقوم على إعتاق السيد مكاتبه على مال يؤدى إليه مؤجَّلًا، فأصبح بذلك المكاتب يسعى لجمع
(1)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 386)، حيث قال:" وممن قال إن للمكاتب ماله إذا عقدت كتابته عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وعمرو بن دينار وسليمان بن موسى وابن أبي ليلى، وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن صالح: " كل ما بيد العبد إذا كوتب من المال فهو لسيده ". وقال الأوزاعي: " إن لم يشترطه السيد فهو للمكاتب، وإن استثناه السيد فهو له ". ".
المال الذي التزمه في العقد إلى سيده؛ ليصبح بعد ذلك حرًّا، فهل عندما يتصرف في أمواله، بأن يهب ويعطي ويتصدق ويعتق - إن كان له عبيد - له تأثير على عقد المكاتبة؟
الجواب: نعم، له تأثير في حق السيد وفي حق نفسه، ففي حق السيد يتأخر عنه السداد، وفي حق نفسه يؤخر عنها الحرية؛ لأنه كلما أنفق الأموال احتاج إلى وقت أطول ليجمع مالًا آخر كي يسدد ما عليه؛ ليصبح بعد ذلك حرًّا.
* قوله: (فَنَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا لَهُ قَدْرٌ، وَلَا يُعْتِقَ وَلَا يَتَصَدَّقَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ
(1)
).
فمنعوا هبة المملوك إذا كانت لها قدر، أما إن كانت هدية من الهدايا فأجازها الحنفية؛ لأنها شيء يسير لا أثر له.
وعلة المنع: هي إلحاق الضرر بسيده؛ فالذي يعتقه - مثلًا - هو مال، فإن أعتقه ذهب هذا المال، وترتب على ذلك إلحاق ضررًا بسيده، وهذا المنع مقيد بدون إذن السيد.
* قوله: (فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَأَشْبَاهِهَا، أَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ يَدِهِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ).
(1)
يُنظر: " الإجماع " لابن المنذر (ص 122) حيث قال: " وأجمعوا أن للمكاتب أن يبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويتصدق فيما فيه الصلاح لماله، والتوفير عليه على ما يَجوز بين المسلمين من أحكامهم، وأجمعوا أن له أن ينفق بالمعروف مما في يده من المال على نفسه فيما لا غنى له عنه، وأجمعوا على أن نكاح العبد بغير إذن سيده باطل ".
وقال ابن القطان في " الإقناع في مسائل الإجماع "(2/ 130): " واتفق الجميع على منع العبد من هبة ماله وصرفه في الكفارات والجنايات إلا الزهري؛ فإنه أجاز للعبد أن يعتق في الكفارة ".
" من غير عوض "، أي: إما أن يبيع ويشتري ويتاجر، أو يعمل في صنعة أو حرفة، أو يسافر، وسيأتي تفصيل الكلام في السفر بإذن الله.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فُرُوعٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ بِهِبَتِهِ أَوْ بِعِتْقِهِ إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِ).
وصور ذلك:
الصورة الأولى: تصدق العبد أو أعتق أو وهب بدون إذن سيده، وحكم هذه الصورة: عدم الجواز.
الصورة الثانية: أذن له السيد بأن يعتق أو يتصدق أو يهب، وحكم هذه الصورة: الجواز عند جماهير العلماء إلا الشافعية في رواية؛ فيقولون: ليس له ذلك؛ لأنه يؤخر حريته، وهذا ضرر يلحقه فلا يجوز لذلك، أما باقي العلماء - وهو القول الثاني للشافعية - فجوزا تلك الصورة؛ لأنهم يرون بأنه حق للسيد وإن كان للمكاتب فيه حق، لكن الغالب هو حق السيد
(1)
.
(1)
مذهب الأحناف أنه لا يجوز أذن له المولى أم لم يأذن.
يُنظر: " بدائع الصنائع "، للكاساني (4/ 144، 145)، حيث قال:" ولا تجوز هبة المكاتب شيئًا من ماله، ولا إعتاقه، سواء عجز بعد ذلك أو عتق وترك وفاء؛ لأن هذا كله تبرع، وكسب المكاتب لا يحتمل التبرع، ولا يملك التصدق إلا بشيء يسير، وكذا لا يجوز أن يهدي إلا بشيء قليل من المأكول، ويملك الإجارة والإعارة والإيداع؛ لأن الإجارة من التجارة ولهذا ملكها المأذون بالتجارة والإعارة والإيداع من عمل التجار وضرورات التجارة، ولا يجوز له أن يقرض؛ لأن القرض تبرع بابتدائه، ولا تجوز وصيته؛ لأنها تبرع والمكاتب ليس من أهل التبرع، وسواء أذن المولى فيها أو لم يأذن؛ لأن المولى لا يملك كسبه فلا يصح إذنه بالتبرع ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" المقدمات الممهدات " لابن رشد الجد (3/ 183) حيث قال: ليس للمكاتب أن يهب ولا أن يتصدق ولا أن يعتق إلا بإذن سيده، وقد قيل:" إنه لا يجوز لسيده أن يأذن له في ذلك لأنه داعية إلى أن يرق نفسه، وليس له أن ينكح ولا أن يسافر إلا بإذن سيده، وهذا قول مالك في " موطئه "، قال في " المدونة ": " إلا أن يكون سفرًا قريبًا ".=
الصورة الثالثة: تصدَّق العبد أو أعتق أو وهب، ولم يعلم سيده إلا أن سدد الأنجم - أي: أدى الحقوق التي عليه في الكتابة - أما إن لم يؤدِّ فلا يدخل في المسألة الأولى، وسيأتي تفصيلها.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ).
وهي رواية للحنابلة أيضًا
(1)
.
= ومذهب الشافعية، يُنظر:" الحاوي الكبير "، للماوردي (8/ 164) حيث قال:" وليس للمكاتب أن يصرف ماله في هبة ولا قرض، فإن فعل وأدى عن غيره مالًا إلى سيده لم يخل حال السيد في قبضه ذلك منه من أحد أمرين: إما أن يكون عالمًا بأنه أداه من مال نفسه، أو غير عالم، فإن كان غير عالم بذلك فالأداء باطل، وغير محتسب به للمؤدى عنه، ويكون محتسبًا به للمؤدي إن كان ما عليه قد حل، فإن لم يكن حل كان المؤدي بالخيار بين أن يسترجعه من سيده، أو يجعله تعجيلًا عن نفسه، وإن كان السيد عالمًا بأنه أدى ذلك من مال نفسه، فعلمه به كالإذن فيه فيكون كالمكاتب إذا وهب أو أقرض بإذن سيده، فيكون فيه قولان؛ أحدهما: لا يصح؛ لأن ما بيده مستحق في كتابته، فلم يجز أن يعدل به إلى غيرها، والقول الثاني: يصح ذلك ويجوز؛ لأنه ممنوع من التصرف فيما بيده لحق سيده، فصح تصرفه فيه بإذنه كالعبد ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 602) حيث قال: " (ولا) يملك المكاتب (أن يكفر بمال) إلا بإذن سيده لأنه في حكم المعسر؛ لأنه لا يلزمه زكاة ولا نفقة قريب حر
…
(أو) أي ولا أن (يسافر) مكاتب (لجهاد) لتفويت حق سيده مع عدم وجوبه عليه إلا بإذن سيده (أو يتزوج) إلا بإذن سيده لأنه عبد
…
(أو يتبرع) إلا بإذن سيده لتعلق حق سيده بماله؛ لأن ملكه غير تام على ماله (أو يقرض) إلا بإذن سيده
…
(أو يحابي إلا بإذن سيده)؛ لأن المحاباة في معنى التبرع (أو يرهن أو يضارب أو يبيع نساء ولو برهن أو يهب ولو بعوض أو يزوج رقيقه أو يحده أو يعتقه ولو بمال أو يكاتبه إلا بإذن سيده) في الكل؛ لأن حق سيده لم ينقطع عنه ".
(1)
يُنظر: " المغني "، لابن قدامة (10/ 394)، وفيه قال:" وليس له إعتاق رقيقه، إلا بإذن سيده؛ لأن فيه ضررًا على سيده، بتفويت ماله فيما لا يحصل له به مال، فأشبه الهبة، فإن أعتق، لم يصح إعتاقه. ويتخرج أن يصح، ويقف على إذن سيده. وقال أبو بكر: " هو موفوف على آخر أمر المكاتب؛ فإن أدى عتق معتقه، وإن لم يؤد رق ". قال القاضي:" هذا قياس المذهب، كقولنا في ذوي الأرحام: " إنهم موقوفون ". =
* قوله: (مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ ذَلِكَ نَافِذٌ
(1)
، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ).
كالشافعية
(2)
، ورواية أخرى للحنابلة
(3)
؛ ويعللون بأن هذا الأمر قد
= ولنا: أنه تبرع بماله بغير إذن سيده، فكان باطلًا، كالهبة، ولأنه تصرف تصرفًا منع منه لحق سيده، فكان باطلًا، كسائر ما يمنع منه، ولا يصح قياسه على ذوي أرحامه؛ لأن عتق ذوي أرحامه ليس بتصرف منه، وإنما يعتقهم الشرع على مالكهم بملكهم، والمكاتب ملكه ناقص، فلم يعتق به ".
ومن المسائل التي لها وجهان عند الحنابلة في هذا الباب: مسألة تزوج المكاتب دون إذن سيده.
يُنظر: " الروايتين والوجهين "، لأبي يعلى بن الفراء (3/ 120) حيث قال:" نقل أبو الحارث ويعقوب بن بختان ومهنا: لا يتزوج المكاتب إلا بإذن سيده، فظاهر هذا المنع، ونقل إبراهيم الحربي: لا بأس أن يتزوج إذا اشترى نفسه، بل المكاتبة لا تتزوج؛ لأنه لا يؤمن أن ترجع إلى الرق وهي مشغولة الفرج، فظاهر هذا جواز ذلك للمكاتب؛ لأنه علل في ذلك بأنه قد اشترى نفسه ومنع منه في الأمة، ونظير ذلك اختلاف الرواية عنه في بيع المدبر؛ أجاز ذلك في المدبر ومنع ذلك في المدبرة ".
(1)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 427)، حيث قال:" قال مالك في المكاتب يعتق عبدًا له أو يتصدق ببعض ماله ولم يعلم بذلك سيده حتى عتق المكاتب، قال مالك: " ينفذ ذلك عليه، وليس للمكاتب أن يرجع فيه، فإن علم سيد المكاتب قبل أن يعتق المكاتب فرد ذلك ولم يجزه، فإنه إن عتق المكاتب وذلك في يده لم يكن عليه أن يعتق ذلك العبد، ولا أن يخرج تلك الصدقة، إلا أن يفعل ذلك طائعًا من عند نفسه ".
(2)
يُنظر: " البيان " للعمراني (8/ 431 - 432) حيث قال: " في قول الشافعي: " ولا يهب بشرط الثواب ". وجملة ذلك: أنه إذا وهب لغيره شيئًا بشرط الثواب، فإن قلنا: لا يصح ذلك من غيره .. لم يصح من المكاتب. وإن قلنا: إنه يصح من غير المكاتب، فإن كان ذلك بغير إذن السيد .. لم يصح؛ لأن عوضها متأخر، ولأن المقصود بالهبة الوصلة والمحبة دون الثواب، فيصير كالهبة بغير ثواب. فإن كان ذلك بإذن السيد .. كان على الطريقين في الهبة بغير ثواب ". ".
وفي التزوج ينظر: " اللباب " للمحاملي (ص 311) حيث قال: " وإن تزوَّج بغير إذن السيد فالنكاح فاسد، وعليه مهر مثلها إذا عتق .. ".
(3)
سبق ذكر الرواية الأخرى للحنابلة.
وهو قول الأحناف، يُنظر:"المبسوط" للسرخسي (8/ 61) حيث قال: " وإذا وهب المكاتب هبة أو تصدق بصدقة فهو باطل؛ لأنه تبرع، فإن عتق بالأداء ردت الهبة =
تحقق ولا أثر له فيما يتعلق بعقد الكتابة؛ لأنه أدى ما عليه وقضي الأمر فينبغي أن يكون ذلك نافذًا.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَهُ: أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي حَالَةٍ لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ فِيهَا فَكَانَ فَاسِدًا).
والذين منعوه عللوا بأن العبد عندما أعتق أو وهب أو تصدق كان في وقت لا يجوز له فيه ذلك إلا بإذن السيد، ولما لم يستأذن سيدَه صار ذلك غير جائز، ولا فرق بين أن يتقدم أو يتأخر، حتَّى وإن تم عقد الكتابة.
ورد الفريق الآخر: بأن هذا عقد قد تمَّ، وهو من العقود الذي إذا تم وقته وأُدِّي ولم يترتب عليه أمر بالعقد فيما مضى صار ذلك جائزًا
(1)
.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهُ: أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ قَدِ ارْتَفَعَ - وَهُوَ مَخَافَةُ أَنْ يَعْجِزَ الْعَبْدُ
(2)
-، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ إِذْنُ السَّيِّدِ مِنْ شَرْطِ لُزُومِ الْعَقْدِ؟ أَوْ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ؟).
الفرق بين شرط اللزوم وشرط الصحة:
أن شرط الصحة يترتب عليه شرط اللزوم فيفسد العقد بفساده، أما شرط اللزوم إن مضى وانتهى فهناك من يجيزه، وإن لم يمضِ فهو يتوقف
= والصدقة حيث كانت؛ لأنه لم يكن أهلًا لما صنع ولا كان كسبه محتملًا له، فلغا فعله وبقي المال على ملكه فيأخذه حيث ما يجده بعد العتق بخلاف كفالته، فإن ذلك التزام في ذمته وله ذمة صالحة لالتزام الحقوق فينفذ ذلك بعد عتقه، وإن استهلك الموهوب له أو المتصدق عليه فهو ضامن لقيمته باستهلاكه مالًا لا حق له فيه، يستوفي ذلك منه المكاتب في حال قيام الكتابة، وبعد العتق ويستوفيه المولى بعد عجز المكاتب بطريق الأولى؛ لأن الحق في كسبه خلص له ".
(1)
ذكرت هذه التعليلات في حكاية المذاهب.
(2)
يُنظر: " الأم "(8/ 68) حيث قال: " وما ابتدأ المكاتب بإذن سيده من هبة أو بيع بما لا يتغابن الناس بمثله فهو له جائز؛ لأنه إنما يمنع من إتلاف ماله؛ لئلا يعجز فيرجع إلى سيده ذاهب المال، فإذا سلم ذلك سيده قبل يفعله، ثم فعله فما صنع فيه مما يجوز للحر جاز له ".
على من يجيزه أو لا يجيزه، وعقد اللزوم من الممكن أن يتنازل عنه صاحبه.
* قوله: (فَمَنْ قَالَ: مِنْ شَرْطِ الصِّحَّةِ لَمْ يُجِزْهُ وَإِنْ عَتَقَ، وَمَنْ قَالَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ قَالَ: يَجُوزُ إِذَا عَتَقَ؛ لأنَّهُ وَقَعَ عَقْدًا صَحِيحًا).
لأنه إذا كان من شرط الصحة ولم يجزه فلا يتم العتق، ويرجع بعد ذلك المعتق إلى الرق كما كان، وكذلك الحال بالنسبة إلى الهبة والصدقات؛ لأن هذا يتعلق بالصحة، وهذا لا يصح، وإن اعتبرناه متعلق باللزوم فيجوز بإيجازته.
* قوله: (فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْإِذْنُ الْمُرْتَقَبُ فِيهِ صَحَّ الْعَقْدُ كلمَا لَوْ أَذِنَ، هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ عِتْقَهُ إِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ
(1)
، فَاِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا أَيْضًا
(1)
الواقع أن الذين منعوا برغم إذن السيد أو أجازوا مع إذنه ذهبوا في تعليل ذلك مذاهب غير التي ذكرها المؤلف، وعندي على ذلك أمثلة.
مسألة الهبة مع إذن السيد: قال الماوردي: " وإن وهب بإذنه ففي صحة هبته قولان: أحدهما: نص عليه في هذا الموضع، وأكثر كتبه أن الهبة صحيحة ماضية؛ لأن ذلك الموهوب لا يتجاوزهما، وهو موقوف عليهما مع التصرف فيه باجتماعهما كالشريكين.
والقول الثاني، حكاه الربيع، أن الهبة باطلة مع إذنه كبطلانها بغير إذنه، لأمرين:
أحدهما: أن ملك المكاتب ضعيف وملك الموهوب له قوي، فلم يجز أن يحدث عن الضعيف ما هو أقوى منه.
والثاني: أن كل واحد منهما ممنوع أن ينفرد بهذا التصرف، فضعف الإذن عنه، وصار وجوده كعدمه ". انظر:" الحاوي الكبير "(18/ 236، 237).
كذلك زواج المكاتب اشترطوا لجوازه إذن السيد، وذكروا تعليل ذلك، فقالوا:" لأن المكاتب عبد، ولأن التزويج استهلاك ما بالتزام المهر والنفقة، والمكاتب ممنوع من ذلك، فإن أذن له السيد في التزويج جاز قولا واحدًا ". انظر: " الحاوي الكبير "(18/ 184).
مسألة الكفالة: قال الكاساني: " ولا تجوز كفالة المكاتب بالمال ولا بالنفس بإذن المولى، ولا بغير إذنه؛ لأنها تبرع، أما الكفالة بالنفس: فلأنها التزام تسليم النفس =
فِي ذَلِكَ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ إِذَا لَمْ يَأْذَنِ السَّيِّدُ).
القضية لا اتفاق عليها، بل فيها خلاف؛ فإذا لم يأذن السيد فلا يجوز للعبد أن يعتق أو يهب أو يتصدق بغير إذن سيده باتفاق العلماء، أما إذا أذن له سيده في ذلك فهذه مسألة مختلف فيها بين أبي حنيفة والجمهور.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
).
" فقال قوم يجوز " وهم الجمهور؛ ومنهم: مالك، والشافعي، وأحمد
(2)
، وإن كان الشافعي له قول موافق لأبي حنيفة، لكن هو رأي الجمهور.
* قوله: (وَبِالْجَوَازِ قَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ الْقَوْلَانِ
= من غير عوض، والكفالة بالمال التزام تسليم المال من غير عوض إن كانت بغير إذن المكفول عنه، وإن كانت بإذنه فهي، وإن كانت مبادلة في الانتهاء فهي تبرع في الابتداء، والمكاتب ليس من أهل التبرع، وسواء أذن المولى فيها أو لم يأذن؛ لأن المولى لا يملك كسبه فلا يصح إذنه بالتبرع ". انظر:" بدائع الصنائع " للكاساني (4/ 144، 145).
(1)
يُنظر: " بدائع الصنائع "، للكاساني (4/ 144)، وفيه قال: " ولا تجوز هبة المكاتب شيئًا من ماله، ولا إعتاقه، سواء عجز بعد ذلك أو عتق وترك وفاء؛ لأن هذا كله تبرع، وكسب المكاتب لا يحتمل التبرع
…
فإذا وهب هبة أو تصدق ثم عتق ردت إليه الهبة والصدقة حيث كانت؛ لأن هذا عقد لا مجيز له حال وقوعه فلا يتوقف، وسواء كان الإعتاق بغير بدل أو ببدل، أما بغير بدل فلما قلنا، وأما ببدل فلأن الإعتاق ببدل ليس من باب الاكتساب؛ لأن العتق فيه يثبت بنفس القبول، ويبقى البدل في ذمة المفلس ". وانظر:" مختصر القدوري "(ص 181).
(2)
سبق نقل مذهب الحنابلة.
(3)
أجازه مالك وحكى سحنون المنع.
يُنظر: " المدونة " لابن القاسم (2/ 566) حيث قال: " قلت: " فالمكاتب إذا أذن له السيد في عتق عبده فأعتقه ثم أعتق المكاتب أيرجع ولاؤه إلى المكاتب في قول مالك؟ " قال: " نعم ". قال سحنون: " قد قيل: " لا يجوز للمكاتب أن يعتق عبده وإن أذن له سيده، فإنه ليس له أن يرق نفسه فهو إذا أعتق عبده هذا أعان على نفسه وإرقاقها ". ".
جَمِيعًا
(1)
، وَالَّذِينَ أَجَازُوا ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وَلَاءِ الْمُعْتَقِ لِمَنْ يَكُونُ).
تفرع عن هذه المسألة مسألة أخرى، فالذين قالوا بالجواز، أي: قالوا بصحة العتق إذا استأذن المكاتب سيده في عتق عبد يملكه المكاتب؛ فالجمهور - ومنهم مالك وأحمد وقول للشافعية - أجازوا تلك الصورة، لكنهم اختلفوا بعد ذلك؛ لمن يكون الولاء؟ وليس القصد بالولاء هنا ولاء المكاتب الذي كاتبه سيده، فهذا لا خلاف فيه بأن الولاء للسيد، لكن المقصود هنا: معتق المعتق، فهذا المكاتب له عبدٌ كاتبه وأعتقه، فالخلاف بين أن يكون ولاؤه لنفس المكاتب، أو للسيد نفسه.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ كَانَ وَلَاءُ عَبْدِهِ لِسَيِّدِهِ).
" ولاء عبده لسيده "؛ لأن المكاتب نفسه يرجع إلى ملك سيده ما لم يسدد ما عليه.
* قوله: (وَإِنْ مَاتَ وَقَدْ عُتِقَ الْمُكَاتَبُ كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ)
(2)
.
أي: يكون ولاء مكاتب المكاتب للمكاتب نفسه، فإن مات قبل أن يُعتَق بقي الولاء لسيد المكاتب.
(1)
يُنظر: " التهذيب "، للبغوي (8/ 458)، حيث قال: " ولو أعتق المكاتب عبدًا، أو كاتبه: فقد قيل: هو كسائر التبرعات؛ لا يجوز بغير إذن المولى، وبإذنه على قولين، وقيل: هو كسائر ترتب الكتابة والعتق بإذن المولى على سائر التبرعات، وإن لم نجوز سائر التبرعات: فالعتق والكتابة أولى، وإن جوزنا سائر التبرعات: ففي العتق والكتابة قولان؛ أصحهما: أنهما لا يصحان؛ لأنهما يعقبان الولاء، والمكاتب ليس من أهل أن يثبت له الولاء؛ كالعبد.
هذا إذا أعتق عن نفسه، فإن أعتق عن سيده أو عن غير سيده بإذن سيده: فكالهبة تصح على أصح القولين؛ لأن ولاءه يكون للمعتق عنه، وهو من أهله ".
(2)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 423)، وفيه قال:" قال مالك: " وكذلك أيضًا لو كاتب المكاتب عبدًا فعتق المكاتب الآخر قبل سيده الذي كاتبه، فإن ولاءه لسيد المكاتب ما لم يعتق المكاتب الأول الذي كاتبه، فإن عتق الذي كاتبه رجع إليه ولاء مكاتبه الذي كان عتق قبله ". ".
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ: بَلْ وَلَاؤُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِسَيِّدِهِ، وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ: أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ "
(1)
، وَلَا وَلَاءَ لِلْمُكَاتَبِ فِي حِينِ كِتَابَتِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ
(2)
، وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنَّ الْوَلَاءَ لِلسَّيِّدِ: أَنَّ عَبْدَ عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ
(3)
، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَنْكِحَ أَوْ يُسَافِرَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ؟).
" هل للمكاتب أن ينكح "، أي: يتزوج، وهل له أن يسافر أو لا؟
اختلف أيضًا في ذلك، وإن كان الأول خلافه يسير؛ لأن الأئمة الأربعة متفقون على النكاح، لكن الخلاف الأكبر في المسألة الأخرى.
والزواج سنة ومرغب فيه، لكن الزواج يحتاج إلى مال يأتي من كسبه، فإن كان من كسبه تأثَّر عقد المكاتبة، أما إن وُجد من يتبرع له
(1)
أخرجه البخاري (1493)، ومسلم (1504/ 5).
(2)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (7/ 228)، وفيه قال:" بينا أن للمكاتب أن يكاتب استحسانًا، فإن أدى الثاني قبل الأول كان ولاؤه لمولى الأول؛ لأن الأول صار معتقًا فيخلفه مولاه؛ لأن الإعتاق يعقب الولاء وهو ليس بأهل للولاء؛ لأنه رقيق بعد فيخلفه فيه أقرب الناس إليه، وهو مولاه كالعبد المأذون إذا اشترى شيئًا يملكه مولاه بهذا الطريق، وهو أن الشراء موجب للملك، فإذا لم يكن المشتري من أهل الملك خلفه في الملك أقرب الناس إليه وهو المولى، فإن عتق الأول بعد ذلك لم يرجع إليه كما لا يرجع الملك في كسب العبد إليه بعدما يعتقه مولاه، وإن سبق الأول بالأداء ثم أدى الثاني فولاؤه للأول؛ لأن الولاء يعقب العتق وإنما عتق الثاني بعد ما تم الملك للأول في رقبته وهو من أهل الولاء لحريته ".
(3)
يُنظر: " الأم " للشافعي (8/ 68) حيث قال: " وفي الولاء قولان؛ أحدهما: أنه إذا عتق عبد المكاتب أو مكاتبه قبله فالولاء موقوف أبدًا على المكاتب، فإن عتق المكاتب فالولاء له؛ لأنه المالك المعتق، وإن لم يعتق حتى يموت فالولاء لسيد المكاتب من قبل أنه عبد عبده عتق، والثاني: أنه لسيد المكاتب بكل حال؛ لأنه عتق بإذنه في حين لا يكون له بعتقه ولاؤه ".
بذلك؛ فهذه مسألة أخرى؛ كالحج من ماله - مثلًا - ولم يعرض لها المؤلف رحمه الله، فقالوا: لو الحج من مال المكاتبة مما اكتسبه من عمله من أجل المكاتبة؛ فهذا لا يجوز، لكن إن وجد من يتبرع له؛ ففيها تفصيل، قالوا: إن كانت غيبته في الحج لا تؤثر على عقد المكاتبة، بأن يتعطل عن الكسب فيؤثر سلبًا على العقد فجائز، وإن كان له تأثير فكذلك
(1)
.
أما هل للمكاتب أن يتزوج؟ فالأئمة الأربعة منعوا ذلك، وقال
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:" التجريد "، للقدوري (4/ 2031)، حيث قال:" للسيد أن يمنعه من فعل الحج لأنه مالك لمنافعه ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" مواهب الجليل "، للحطاب (3/ 206)، حيث قال:" العبد إذا لم يأذن له سيده في الإحرام، فله أن يحلله، ويجب عليه القضاء يعني إذا عتق أو أذن له السيد على المشهور ". انتهى.
وقال أشهب: " لا قضاء عليه، وعليه الهدي إذا حج حجة القضاء، فإن قضاها قبل العتق بأن يكون السيد أذن له في ذلك وللسيد منعه عن الهدي، ويكون في ذمته إلى أن يعتق، وله أن يمنعه من الصوم أيضًا إذا أضر به في خدمته، ويبقى ذلك في ذمة العبد قاله سند وظاهره مطلقًا سواء كان تطوعًا أو نذرًا معينًا أو مضمونًا أو نوى بذلك حجة الفرض يظن أنها عليه، وكذلك ظاهر كلامه في المناسك، وهو ظاهر كلام ابن الحاجب أيضًا ".
ومذهب الشافعية: " البيان "، للعمراني (4/ 404)، حيث قال: " وأما المكاتب: فإذا أراد أن يسافر للحج والعمرة فهل للسيد منعه من ذلك؛ فيه طريقان؛ الأول: من أصحابنا من قال: فيه قولان كالسفر للتجارة.
والثاني: منهم من قال: له أن يمنعه من سفر الحج والعمرة قولًا واحدًا؛ لأن السفر للتجارة يقصد به زيادة المال، وفي سفر الحج إتلاف المال من غير زيادة ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" المغني " لابن قدامة (10/ 395) حيث قال: " وليس له أن يحج إن احتاج إلى إنفاق ماله فيه، ونقل الميموني، عن أحمد: " للمكاتب أن يحج من المال الذي جمعه، إذا لم يأت نجمه ". وهذا محمول على أنه يحج بإذن سيده، أما بغير إذنه: فلا يجوز؛ لأنه تبرع بما ينفق مالًا فيه، فلم يجز، كالعتق. فأما إن أمكنه الحج من غير إنفاق ماله، كالذي تبرع إنسان بإحجاجه، أو يخدم من ينفق عليه، فيجوز إذا لم يأت نجمه؛ لأن هذا يجري مجرى تركه للكسب، وليس ذلك مما يمنع منه ".
الحسن بن صالح: يجوز له ذلك؛ لأن هذه سنة، وهو بحاجة إليها ليعف نفسه، فلماذ يمنع من ذلك؟
(1)
.
* قوله: (فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ
(2)
،
(1)
يُنظر: " الإشراف على مذاهب العلماء " لابن المنذر (7/ 27) حيث قال: " واختلفوا في نكاح المكاتب بغير إذن سيده، فقالت طائفة: نكاحه باطل
…
وفيه قول ثالث: وهو أن له أن يتزوج إن شاء، ويتسرى، ولا يمنعه شيء. هذا قول الحسن بن صالح ".
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:" النتف في الفتاوى "، للسغدي (1/ 286)، حيث قال:" ليس للمكاتب أن يتزوج بغير إذن المولى ولا للمولى أن يزوجه بغير إذنه، فإن اتفقا على النكاح جاز النكاح، وكان المهر والنفقة والسكنى على المكاتب، فإن أدى وعتق كانت امرأته كما كانت، وإن عجز فرد في الرق كانت امرأته أيضًا، ورجع المهر والنفقة والسكن إلى المولى، فإن أوفاها وإلا بيع في حقها ".
مذهب المالكية، يُنظر:" الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 421 - 422)، حيث قال:" وليس للمكاتب أن ينكح ولا يسافر ولا يخرج من أرض سيده إلا بإذنه، اشترط ذلك أو لم يشترطه، وذلك أن الرجل يكاتب عبده بمائة دينار وله ألف دينار أو أكثر من ذلك، فينطلق فينكح المرأة فيصدقها الصداق الذي يجحف بماله، ويكون فيه عجزه، فيرجع إلى سيده عبدًا لا مال له، أو يسافر فتحل نجومه وهو غائب، فليس ذلك له، ولا على ذلك كاتبه، وذلك بيد سيده إن شاء أذن له في ذلك وإن شاء منعه".
ومذهب الشافعية: " نهاية المطلب " للجويني (19/ 381)، حيث قال:" اتفق الأصحاب على أن المكاتب لا يتزوج إلا بإذن سيده؛ لأنه يتعرض في النكاح لغُرم المهر والنفقة، وهذا يتعلق بكسبه، وليست يده مطلقة في إكسابه حتى يصرفها إلى ما يشاء من مآربه، وإذا أذن له المولى في التزوج، ففي انعقاد نكاحه بإذن المولى قولان مبنيان على أن تبرعاته هل تَنْفُذ بإذن المولى؛ وفي ذلك قولان ". وانظر: " أسنى المطالب "، لزكريا الأنصاري (2/ 110).
ومذهب الحنابلة: " مطالب أولي النهى "، للرحيباني (4/ 741)، وفيه قال: " (ولا) يملك المكاتب (أن يكفر بمال) إلا بإذن سيده
…
(أو يتزوج) إلا بإذن سيده؛ لأنه عهد، فيدخل في عموم حديث:" أيما عبد نكح بغير إذن مواليه فهو عاهر"؛ ولأن على السيد فيه ضررًا؛ لاحتياجه لأداء المهر والنفقة من كسبه، وربما عجز ورق، فيرجع ناقص القيمة ".
وَأَبَاحَ بَعْضُهُمُ النِّكَاحَ لَهُ
(1)
، وَأَمَّا السَّفَرُ؛ فَأَبَاحَهُ لَهُ جُمْهُورُهُمْ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبَاحَهُ سُحْنُونٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَلَمْ يُجِزْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ
(2)
).
ومن جوَّز له السفر يرى أنه من الوسائل التي يتوصل بها إلى جمع المال، فلماذا يمنع؟! وكان ابن عمر رضي الله عنه يأذن لمكاتبيه بالسفر، وبه قال مالك؛ والضمير العائد إلى المنع عائد إلى سحنون، وأبي حنيفة، وأحمد، والشافعي، في قوله:" ولم يجز للسيد أن يشترطه على المكاتب "، وأجاز الجمهور السفر له.
ويتفرع عن هذا مسألة أخرى: هل للسيد أن يشترط على المكاتب ألَّا يسافر أم لا؟ قال سحنون لا يجوز ذلك، وهو أيضًا قول الإمامين أبي حنيفة وأحمد، ولا يزال رأي الجمهور متحدًا؛ فلا يمنع من السفر؛ سواء ذكر ذلك في العقد أو لم يذكر؛ لأنه ليس من حق السيد أن يضع هذا الشرط؛ لأن فيه تعطيل لمصلحته في جمع المال، فلا يجوز له أن يمنعه من ذلك.
* قوله: (وَأَجَازَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي السَّفَرِ الْقَرِيبِ
(3)
، وَالْعِلَّةُ فِي مَنْعِ النِّكَاحِ: أَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى عَجْزِهِ).
لماذا يكون ذريعة إلى عجزه؛ لأن ما جمعه من المال سينفقه في هذا النكاح، فيحتاج إذن إلى أن يضاعف الإنفاق، ولذلك قال الجمهور بالمنع.
(1)
أي: من غير اشتراط إذنه كما سبق.
(2)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 422) حيث قال: " وقال سحنون: " لا يجوز أن يشترط عليه أن لا يسافر إلا بإذنه ". ".
(3)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 422) حيث قال: " قال ابن القاسم في " المدونة ": إذا كان الموضع القريب الذي لا يضر سيده في نجومه، فله أن يسافر إليه "، وهذا خلاف ظاهر ما في " الموطأ ". ".
* قوله: (وَالْعِلَّةُ فِي جَوَازِ السَّفَرِ: أَنْ بِهِ يَقْوَى عَلَى التَّكَسُّبِ فِي أَدَاءِ كِتَابَتِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُسَافِرَ بِإِذْن سَيِّدِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَافِرَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
).
وكذلك الإمام أحمد رحمه الله
(3)
.
(1)
يُنظر: " الهداية في شرح بداية المبتدي "، للمرغيناني (3/ 254)، حيث قال:" (ويجوز للمكاتب البيع والشراء والسفر)؛ لأن موجب الكتابة أن يصير حرًّا يدًا، وذلك بمالكية التصرف مستبدًّا به تصرفًا يوصله إلى مقصوده وهو نيل الحرية بأداء البدل، والبيع والشراء من هذا القبيل، وكذا السفر؛ لأن التجارة ربما لا تتفق في الحضر فتحتاج إلى المسافرة، ويملك البيع بالمحاباة؛ لأنه من صنيع التجار، فإن التاجر قد يحابي في صفقة ليربح في أخرى، (فإن شرط عليه أن لا يخرج من الكوفة فله أن يخرج استحسانًا)؛ لأن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد، - وهو مالكية اليد من جهة الاستبداد وثبوت الاختصاص - فبطل الشرط وصح العقد ".
(2)
وفي مذهب الشافعي قولان.
يُنظر: " الحاوي الكبير "، للماوردي (8/ 296)، حيث قال: " أما سفر المكاتب فقد ذكر الشافعي في هذا الكتاب جواز سفره، ومنعه في الإملاء من السفر، فاختلف أصحابنا فيه، فخرجه بعضهم على قولين:
أحدهما: ليس له أن يسافر بغير إذن سيده؛ لأن في السفر تغريرًا بالمال، وتأخيرًا للحق.
والقول الثاني: يجوز له أن يسافر، وليس للسيد أن يمنعه لأمرين:
أحدهما: أن المكاتب مالك لتصرف نفسه، فلم يكن للسيد أن يحجر عليه بمنعه.
والثاني: أن للسيد عليه الدين إلى أجل، وليس لصاحب الدين أن يمنع من عليه الدين المؤجل من السفر، وذهب أكثر أصحابنا إلى أن ليس ذلك على اختلاف قولين، وإنما هو لاختلاف حالين، فالموضع الذي جوز له فيه السفر إذا كان قريبًا لا يقصر في مثله الصلاة، والموضع الذي منعه منه من السفر إذا كان بعيدا تقصر في مثله الصلاة ".
(3)
وفي اشتراط السيد عدم السفر في مذهب أحمد وجهان.
يُنظر: " الهداية "، للكلوذاني (ص 376)، حيث قال:" ويملك المكاتب بعقد الكتابة منافعه وأكسابه، فله أن يبيع ويشتري ويؤجر ويستأجر ويسافر، فإن شرط عليه أن لا يسافر ولا يقبل الصدقة صح الشرط، وعنه يبطل الشرط ".
* قوله: (الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالثَّالِثُ: أَنَّ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ).
قول لبعض الحنابلة، لا الإمام أحمد نفسه
(2)
.
* قوله: (وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا
(3)
.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا لَهُ؟ فَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ مَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الْمُحَابَاةُ
(4)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(5)
(1)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 421، 422)، حيث قال:" وليس للمكاتب أن ينكح ولا يسافر ولا يخرج من أرض سيده إلا بإذنه، اشترط ذلك أو لم يشترطه ".
(2)
يُنظر: " المغني "، لابن قدامة (10/ 391) حيث قال:" إن اشترط سيده منعه من السفر فله ذلك، فإن سافر بغير إذنه، فله رده إن أمكنه، وإن لم يمكنه رده، احتمل أن له تعجيزه، ورده إلى الرق؛ لأنه لم يف بما شرطه عليه، أشبه ما لو لم يف بأداء الكتابة، واحتمل أن لا يملك ذلك؛ لأنه مكاتب كتابة صحيحة لم يظهر عجزه، فلم يملك تعجيزه، كما لو لم يشترط عليه ".
(3)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 423) حيث قال: " قال أبو عمر: " في هذه المسألة ثلاثة أقوال لسائر العلماء
…
والقول الثالث: أن له أن يخرج في أسفاره، إلا أن يشترط سيده ألا يخرج؛ فيلزمه ما ألزمه من ذلك، قاله أبو ثور وغيره وأحمد وإسحاق ورواية عن الثوري ". ".
(4)
يُنظر: " الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 387 - 388) حيث قال: " كتابة المكاتب لعبده جائزة عند مالك ما لم يرد بها المحاباة؛ لأنه ليس يجوز له في ماله أمر يتلف به شيء منه دون عوض، وإنما يقدم منه على نفسه بالمعروف حتى يؤدي فيعتق، وأجاز كتابة المكاتب لعبده سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي؛ لأنها عقد معاوضة وطلب فضل، وإن عجز كان رقيقًا بحاله ".
(5)
يُنظر: " الهداية في شرح بداية المبتدي "، للمرغيناني (3/ 254، 255)، حيث قال:" قال: " وكذلك إن كاتب عبده "، والقياس: أن لا يجوز، وهو قول زفر والشافعي؛ لأن مآله العتق والمكاتب ليس من أهله كالإعتاق على مال.
وجه الاستحسان: أنه عقد اكتساب للمال فيملكه كتزويج الأمة، وكالبيع وقد يكون هو أنفع له من البيع؛ لأنه لا يزيل الملك إلا بعد وصول البدل إليه، والبيع يزيله =
وَالثَوْرِيُّ
(1)
).
وأحمد أيضًا
(2)
.
* قوله: (وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا إِثْبَاتُ الْكِتَابَةِ، وَالْآخَرُ إِبْطَالُهَا)
(3)
.
قيد الحنابلة ذلك بإذن السيد؛ لأنه إذا كاتب مكاتبه هذا سيذهب عليه، والمكاتب الذي كاتبه رقيق، فهو مال، وهذا المال سيخرج في انتهاء المكاتبة عن ملكه، فيؤثر ذلك على السيد الذي كاتب مكاتب المكاتب
(4)
.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْجَمَاعَةِ: أَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، الْمَقْصُودُ مِنْهُ طَلَبُ الرِّبْحِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعُقُودِ الْمُبَاحَةِ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ)
(5)
.
= قبله، ولهذا يملكه الأب والوصي، ثم هو يوجب للمملوك مثل ما هو ثابت له، بخلاف الإعتاق على مال؛ لأنه يوجب فوق ما هو ثابت له ".
(1)
انظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 387)، وفيه قال:" وأجاز كتابة المكاتب لعبده سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ".
(2)
قول الحنابلة مقيد بإذن السيد كما سيأتي.
(3)
يُنظر: " التهذيب "، للبغوي (8/ 458)، حيث قال:" ولو أعتق المكاتب عبدًا، أو كاتبه: فقد قيل: هو كسائر التبرعات؛ لا يجوز بغير إذن المولى، وبإذنه على قولين، وقيل: هو كسائر ترتب الكتابة والعتق بإذن المولى على سائر التبرعات، وإن لم نجوز سائر التبرعات: فالعتق والكتابة أولى، وإن جوزنا سائر التبرعات: ففي العتق والكتابة قولان؛ أصحهما: أنهما لا يصحان؛ لأنهما يعقبان الولاء، والمكاتب ليس من أهل أن يثبت له الولاء؛ كالعبد، هذا إذا أعتق عن نفسه، فإن أعتق عن سيده أو عن غير سيده بإذن سيده؛ فكالهبة تصح على أصح القولين؛ لأن ولاءه يكون للمعتق عنه، وهو من أهله ".
(4)
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 569)، حيث قال:" (ولا يصح) أن يعتق المكاتب أو يكاتب المكاتب (بدون إذنه) أي: إذن سيده؛ لأنه محجور عليه لحظه ".
(5)
يُنظر: " المنتقى شرح الموطإ "، للباجي (7/ 9)، حيث قال: " وأما الكتابة فلما كانت =
والذين أجازوا ذلك قالوا: هي مكاتبة وسيتحرر، لكن المكاتبة مقابل العوض، فهو سيأخذ مقابل الكتابة مالًا يعود إلى سيده.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَلَا وَلَاءَ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَحُرٍّ
(1)
، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَلَا الِانْتِفَاعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ
(2)
، وَاخْتَلَفُوا فِي وَطْءِ السَّيِّدِ أَمَتَهُ الْمُكَاتَبَةَ).
من المعلوم أن المكاتبة في طريقها إلى الحرية، فهل له أن يطأها؟ اختلفوا في ذلك.
ومن المعلوم أن الوطء من المكاتب يدعو إلى الحرية، كأن هذا وطء إلى أجل؛ فهل يلحق بنكاح المتعة الذي نُهي عنه؟ وهذا لا ينبغي.
تكلم العلماء في أبواب النكاح؛ فمثلًا: لو أراد إنسان أن يتزوج امرأة إلى وقت محدود، ولم يذكر ذلك في العقد:
فمن العلماء من أجاز ذلك؛ شريطة ألا يذكر في العقد المدة؛ لأنه قد يأخذ هذه المرأة، وفي نيته أن تبقى معه مدة معلومة، فتتغير الأحوال، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، لكن إن ذكر في العقد أنه سيتزوجها لمدة معينة ويطلقها، يصير النكاح نكاح متعة، وهذا لا يجوز.
= عقد معاوضة؛ فإن لم يرد ذلك بها وأراد بها اكتساب المال والجمع له والازدياد من الربح جازت كتابته، وإن لم يرد ذلك سيده؛ لأنه ليس للسيد منعه من التصرف الذي يرجو فيه الربح، ويقصد به النماء والازدياد ".
(1)
سبق ذكر هذه التعليلات.
(2)
يُنظر: " الإجماع "، لابن المنذر (ص 75)، حيث قال:" وأجمعوا على أن السيد إذا كاتب عبده كتابة صحيحة: أنه ممنوع من كسبه، واستخدامه إلا برضاه ".
* قوله: (فَصَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ).
وهم مالك
(1)
، والشافعي
(2)
وأبو حنيفة
(3)
.
* قوله: (وَقَالَ أَحْمَدُ
(4)
، وَدَاوُدُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِنَ التَّابِعِينَ: ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا اشْتَرَطَهُ عَلَيْهَا
(5)
).
قال الحنابلة ومن معهم بالجواز، شريطة أن يشترط ذلك في عقد
(1)
يُنظر: " التهذيب في اختصار المدونة "، للبراذعي (2/ 566)، حيث قال:" ومن كاتب أمته فليس له وطؤها، فإن فعل دُرئ عنه وعنها الحد، أكرهها أو طاوعته، ويعاقب إلا أن يعذر بجهل، ولا صداق لها إن طاوعته ولا ما نقصها، وإن أكرهها فعليه ما نقصها ".
(2)
يُنظر: " التهذيب في فقه الإمام الشافعي "، للبغوي (8/ 443)، حيث قال:" لا يجوز للمولى وطء مكاتبته؛ لاختلال ملكه عليها، فإن وطئها لا حد عليه، لشبهة الملك، سواء كان عالمًا بالتحريم أو كان جاهلًا؛ لأن له فيها ملكًا، وإن كان ضعيفًا؛ بدليل نفوذ عتقه فيها، ويعزر من كان منهما عالمًا، ولا يعزر الجاهل، ويجب المهر، علمًا أو جهلًا، مكرهة كانت الجارية أو مطاوعة، فإن عجزت قبل أخذ المهر - سقط المهر، وإن عتقت بأداء النجوم -: أخذت المهر ".
(3)
يُنظر: " الجوهرة النيرة على مختصر القدوري "، للحدادي (2/ 111 - 112)، حيث: قال: " (وإذا وطئ المولى مكاتبته لزمه العقر)؛ لأن المولى عقد معها عقدًا منع به نفسه من التصرف فيها أو في منافعها، والوطء من منافعها؛ ولهذا قالوا: " إن المكاتبة حرام على مولاها ما دامت مكاتبة؛ لأنها خارجة عن يده ". ".
(4)
يُنظر: " مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه "، للكوسج (8/ 4449، 4450)، حيث قال:" قلت: " قال قتادة: " الرجل يطأ مكاتبته يجلد مائة إلا سوطًا، ويغرم العقر إن كان استكرهها، وإن لم يكن استكرهها فلا شيء، وعقرها مهر مثلها، وإن كانت طاوعته جلدت أيضًا ". قال أحمد: " لا يجلد، ولكن يؤدب، لا ينبغي له أن يطأ مكاتبته إلا أن يكون شرط عليها في كتابتها، ولها عليه العقر، صداق مثلها، فإن حملت فمات السيد قبل أداء مكاتبتها عتقت عليه، وصارت من أمهات الأولاد "، قال إسحاق:" كما قال ". ".
(5)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 388)، حيث قال:" وقد كان سعيد بن المسيب يجيز للرجل أن يترط على مكاتبته وطأها، وتابعه أحمد بن حنبل وداود؛ لأنها ملكه يشترط فها ما شاء قبل العتق، قياسًا على المدبرة ".
المكاتبة، وقالوا في تعليل ذلك: أليس للسيد أن يستخدمها في خدمته؟ فكذلك من الممكن أن يضعها كشرط؛ فكما له أن يستفيد من خدمتها، كذلك يجوز له - أيضًا - أن يطأها.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ وَطْءٌ تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِيهِ إِلَى أَجَلٍ آتٍ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ إِلَى أَجَلٍ)
(1)
.
وقول الجمهور بأن ذلك نكاح إلى أجل ليس مقطوعًا به؛ لأنها لو عجزت عن أداء حقوق الكتابة عادت رقيقة، والجمهور أنفسهم يجوزون ذلك.
إذًا هذا أمر ليس مقطوعًا به، فالغالب فيه أن ينتهي إلى الحرية، لكن مَن قال بالجواز قال: إن هذا نوع من أنواع الخدمة؛ فيجوز له أن يستخدمها ويستفيد من منافعها، ومن تلك المنافع أن يطأها.
ثم يأتي بعد ذلك الخلاف؛ لأن الجمهور قالوا بعدم الجواز، ومعنى هذا أن من يفعل ذلك فقد ارتكب محرمًا، ومن يرتكب محرمًا يقام عليه الحد أو لا يقام؟
وهل لها الصداق أو المهر أم لا؟ كل هذه مسائل بها خلاف، وسيشير المؤلف إليها.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي: تَشْبِيهُهَا بِالْمُدَبَّرَةِ)
(2)
.
المدَّبرة تختلف عنها؛ فهي التي قد أعتقت، لكن عتقها مؤجل بعد وفاة سيدها، ولكن يجوز بيع المدبر.
(1)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 388)، وفيه قال:" وحجة سائر الفقهاء: أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت لا محالة، فأشبه نكاح المتعة ".
(2)
يُنظر: " المغني " لابن قدامة (10/ 399) حيث قال: " ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون عند شروطهم "، ولأنها مملوكة، له شرط نفعها، فصح كشرط استخدامها، يحقق هذأ: أن منعه من وطئها مع بقاء ملكه عليها ووجود المقتضي لحل وطئها؛ إنما كان لحقها، فإذا شرطه عليها، جاز كالخدمة، ولأنه استثني بعض ما كان له، فصح، كاشتراط الخدمة، وفارق البيع؛ لأنه يزيل ملكه عنها ".
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا إِنْ عَجَزَتْ حَلَّ وَطْؤُهَا).
فلو عجزت عادت إلى الرق كما كانت مملوكة
(1)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ إِذَا وَطِئَهَا؛ هَلْ عَلَيْهِ حَدٌّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ).
وهم مالك وأبو حنيفة والشافعي.
* قوله: (لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ بِشُبْهَةٍ).
قال الجمهور: لا حدَّ في ذلك؛ لوجود شبهة، والشبهات تدرأ بها الحدود، أي: يوقف تنفيذها بهذه الشبهة
(2)
.
* قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ الْحَدُّ).
(1)
يُنظر: " الإقناع في مسائل الإجماع "، لابن القطان (2/ 135)، حيث قال:" واتفقوا أن الأمة المباح وطؤها حلال وطؤها قبل الكتابة، وحرام بعد العتق بالأداء ".
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:"المبسوط"، للسرخسي (5/ 130)، حيث قال:" وإن كان هو ممنوعًا من وطئها بسبب الكتابة، فإن وطئها كان لها المهر بمنزلة ما لو وطئها قبل النكاح، وهذا لأن الحد يسقط للشبهة فيجب المهر، وهي بعقد الكتابة صارت أحق بنفسها ومكاسبها، والمستوفى بالوطء في حكم جزء من عينها ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" شرح مختصر خليل "، للخرشي (8/ 150)، حيث قال:" إذا وطئ السيد أمته التي كاتبها في زمن الكتابة فإنه لا حد عليه للشبهة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " المكاتب عبد ما بقي عليه شيء "، ولكن عليه الأدب إن كان عالمًا بالتحريم، وإن كان جاهلًا به لا أدب، وينبغي أن مثل الجهل الغلط والنسيان، ولا مهر عليه في وطئه إياها، فلو كاتب بكرًا وأكرهها على الوطء فإنه يلزمه ما نقصها ".
ومذهب الشافعية: " أسنى المطالب " لزكريا الأنصاري (4/ 500)، حيث قال:" (فصل وطء مكاتبته) كتابة صحيحة (حرام) لاختلاف ملكه فيها، وكالوطء في التحريم سائر التمتعات كما صرح به في " الروضة " في باب الظهار (ولا حد) على واحد منهما (به)، وإن علم تحريمه لشبهة الملك (بل يعزر) به العالم بتحريمه (ويوجب المهر) لها عليه ".
والقائلون بالحد هم: الحسن
(1)
، وقتادة من التابعين
(2)
.
إذن الأئمة الثلاثة قالوا: لا حد في ذلك، والحسن وقتادة قالوا بالحد؛ لأنهم يرون أن هذا عقد غير جائز، ومن فعل ذلك فقد ارتكب محرمًا، فيعتبرون ذلك نوعًا من الزنا يحدُّ صاحه.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي إِيجَابِ الصَّدَاقِ لَهَا، وَالْعُلَمَاءُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّهُ فِي أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى حُكْمِ الْعَبْدِ؛ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالشَّهَادَةِ وَالْحَدِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَبِيدُ
(3)
، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: اخْتِلَافُهُمْ
(1)
يُنظر: " المغني "، لابن قدامة (10/ 400)، حيث قال:" وإن وطئها من غير شرط، فقد أساء، وعليه التعزير؛ لأنه وطء محرم، ولا حد عليه في قول عامة الفقهاء، لا نعلم فيه خلافًا، إلا عن الحسن، والزهري؛ فإنهما قالا: عليه الحد؛ لأنه عقد عليها عقد معاوضة يحرم الوطء، فأوجب الحد بوطئها، كالبيع ".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "(9/ 377) عن قتادة: في رجل وطئ مكاتبته قال: " إن كان استكرهها فعليه العقر والحد، وإن كانت طاوعته فعليه الحد وليس عليه العقر ".
(3)
ذهب الجمهور إلى أن لها الصداق، وخالف مالك فقال بأنه لا صداق لها وإن اكرهها فعليه الأرش.
مذهب الأحناف، ينظر:" مختصر القدوري "(ص 179)، وفيه قال:" وإن وطئ المولى مكاتبته لزمه العقر ".
قال الحدادي في تعليل ذلك: " لأن المولى عقد معها عقدًا منع به نفسه من التصرف فيها أو في منافعها، والوطء من منافعها؛ ولهذا قالوا: إن المكاتبة حرام على مولاها ما دامت مكاتبة؛ لأنها خارجة عن يده ". انظر: " الجوهرة النيرة على مختصر القدوري "(2/ 112).
وذكر عبد الغني الميداني في اللباب (3/ 129) وجهًا آخر، فقال:" لأنها صارت أحق بأجزائها، ومنافع البضع ملحقة بالأجزاء والأعيان ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" المدونة "، لابن القاسم (2/ 476)، حيث قال في الرجل يطأ مكاتبته:" قلت: " أرأيت من وطئ مكاتبته أيكون لها عليه الصداق أم يكون عليه ما نقصها في قول مالك؟ " قال: " لا صداق لها عليه ولا ما نقصها إذا هي طاوعته عند مالك، ويدرأ عنه الحد وعنها، عند مالك ".
وفي " التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب "، لخليل (8/ 450): " ولو وطئ السيد =
فِي بَيْعِهِ؛ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُبَاعُ الْمُكَاتَبُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى عَلَى كِتَابَتِهِ عِنْدَ مُشْتَرِيهِ
(1)
).
وهنا مسألة؛ هل يجوز بيع المكاتب؟ وكما مر أن المكاتب أصبح ذا عقد بينه وبين سيده، فهل له أن يبيعه أو لا؟ يقول الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، وقال سبحانه وتعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" المُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ".
إذًا بيع المكاتب يعتبر إخلالًا بهذا العقد ونقدًا له؛ لأن العقد منهم
= مكاتبته أدب ولا مهر، فإن نقصها فعليه الأرش إن أكرهها ".
ومذهب الشافعية: ينظر: " أسنى المطالب "، لزكريا الأنصاري (4/ 500)، وفيه قال:" (ولوجب المهر) لها عليه، ولو مع العلم بالتحريم لذلك (وتأخذه) هي (في الحال فإن) لم تأخذه وقد (حل) عليها (نجم جاءت المقاصة) بشرطها، وإن عجزت قبل أخذه سقط (ولها المطالبة بعد العتق) بالكتابة ".
وذهب أحمد إلى أن لها الصداق، ينظر:" مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه "، للكوسج (8/ 4450)، حيث قال:" قال أحمد: " لا يجلد، ولكن يؤدب، لا ينبغي له أن يطأ مكاتبته إلا أن يكون شرط عليها في كتابتها، ولها عليه العقر، صداق مثلها ". ".
(1)
والمنع قال به أبو حنيفة ومالك والشافعي في الجديد ورواية عن أحمد.
مذهب الأحناف، يُنظر:" المحيط البرهاني في الفقه النعماني "، لابن مازة (6/ 351)، حيث قال:" ولا يجوز بيع المكاتب والمدبر وأم الولد ومعتق البعض، أما المكاتب؛ فلأنه استحق يدًا على نفسه ومكاتبه، وبالبيع يبطل ذلك، فيجب صيانته برد البيع إذا باع المكاتب بغير رضاه، وإن باعه برضاه، ذكر المشايخ في كتبهم: " أنه يجوز البيع وتنفسخ الكتابة "، وحكي عن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: " لا رواية فيه عن أصحابنا رحمهم الله نصًّا، وإنما هذا شيء يقوله مشايخنا المتأخرون، وقد أشار إليه محمد في " الجامع ": إلى أنه لا يجوز ولا ينفسخ الكتابة ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب "، لخليل (8/ 445)، حيث قال: "
…
هذا مذهبنا، لا يجوز بيع المكاتب. قال في " المدونة ":" ولو رضي؛ لأن الولاء قد ثبت لعاقد الكتابة، والولاء لا يجوز نقله ". ". أما قول الشافعي والرواية عن أحمد فستأتي.
من يرى أنه لازم من جانب الطرفين؛ وأي شرط أو عمل يخالف كتاب الله عز وجل أو يخالف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مردود.
* قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَيْعُهُ جَائِزٌ مَا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ؛ لِأنَّ بَرِيرَةَ بِيعَتْ وَلَمْ تَكُنْ أَدَّتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا)
(1)
.
وبعضهم يرى أن البيع هنا بيع الكتابة وليس المكاتبة، وسيذكر المؤلف ذلك، والجمهور هم الذين قالوا بعدم جواز بيع المكاتب.
* قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا رَضِيَ الْمُكَاتِبُ بِالْبَيْعِ جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ
(2)
).
(1)
وهو قول الشافعي في القديم كما سيأتي، ورواية عن الحنابلة.
يُنظر: " الروايتين والوجهين "، لأبي يعلى ابن الفراء (3/ 125 - 127)، حيث قال:" هل يجوز بيع رقبة المكاتب؟ نقل أبو داود والأثرم وإبراهيم بن الحارث وحنبل والميموني وابن مشيش جواز ذلك، ويكون عند المشتري مكاتبًا، وإذا أدى إليه عتقن وقال في رواية أبي طالب وقد سئل: " هل يطأ مكاتبته؟ " فقال: " لا يطأها؛ لأنها ما اكتسبت كان لها، ولأنه لا يقدر أن يبيعها، ولا يهبها "، فظاهر هذا أنه لا يصح بيعها ولا هبتها.
وجه الأولى وهي الصحيحة: حديث بريرة وفيه ما يدل (على) أن عقد الكتابة كان باقيًا، وأنها لم تعجز؛ لأنه روي أنها جاءت تستعين بها في كتابتها، ولو كان عقد الكتابة قد انفسخ لم يكن للاستعانة فائدة، ولأن عائشة رضي الله عنه قالت لها:" ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي "، فأثبت أن الكتابة باقية، وأنها تقضي عنها مال الكتابة؛ ولأنه عتق بصفة صدر عن قول، فلم يمنع البيع كالتدبير.
ووجه الثانية: أن الكتابة عقد يمنع من رجوع أرش الجناية عليه إليه، فمنع من البيع كعقد البيع، ولأن ملكه ناقص، بدليل أنه لا يملك التصرف في منفعته بالاستخدام والإجارة ونحو ذلك، والبيع إنما يصح ممن ملكه تام ".
(2)
للشافعي قولان؛ ذكرهما العمراني في: " البيان "(5/ 59، 60) كما سبق.
والمذهب على الجديد من أنه لا يصح. ينظر: " مغني المحتاج "، للشربيني (6/ 499)، وفيه قال: " (ولا يصح بيع رقبته) أي المكاتب كتابة صحيحة (في =
" لأن الكتابة عنده ليست بعقد لازم في حق العبد "، إذًا تكون عقدًا لازمًا في حق السيد.
* قوله: (وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ إِذْ بِيعَتْ وَهِيَ مُكَاتبَةٌ).
لكن الآخرون قالوا: بأن ذلك لم يكن بيعًا للمكاتبة؛ وإنما بيع للكتابة، ولذلك قيد بعض العلماء وقالوا: يجوز بيع المكاتب إذا كان للعتق، وهم الحنابلة؛ لأن العتق أسرع من الكتابة.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ بَيْعَ الْمُكَاتَبِ: مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهِ)
(1)
.
فالذين قالوا بعدم جواز بيع المكاتب ذكروا أن العقد شريعة المتعاقدين، وكل من السيد والمكاتب قد التزم بذلك العقد، وعلى كل واحد منهم أن يوفي، وهو عقد لازم من الطرفين عند المالكية والحنابلة، ولازم في حق السيد عند الحنفية والشافعية.
* قوله: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَلِ الْكِتَابَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ أَمْ لَا؟
= الجديد)؛ لأن البيع لا يرفع الكتابة للزومها من جهة السيد، فيبقى مستحق العتق فلم يصح بيعه كالمستولدة، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، والقديم: يصح بيع المكاتب كالعتق بصفة، وبهذا قال أحمد، ومحل الخلاف: إذا لم يرض المكاتب بالبيع، فإن رضي به جاز وكان رضاه فسخًا، كما جزم به القاضي الحسين في تعليقه؛ لأن الحق له وقد رضي بإبطاله، وعلى هذا تستثنى هذه الصورة من عدم صحة بيع المكاتب ".
وهذا تفصيل المسألة من حيث العموم، أما إذا رضي المكاتب بالبيع، فهذا أمر آخر.
قال الشربيني: " ومحل الخلاف إذا لم يرض المكاتب بالبيع، فإن رضي به جاز وكان رضاه فسخا، كما جزم به القاضي الحسين في تعليقه؛ لأن الحق له وقد رضي بإبطاله، وعلى هذا تستثنى هذه الصورة من عدم صحة بيع المكاتب ". انظر المصدر السابق.
(1)
سبق ذكر هذه التعليلات.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الْكِتَابَةِ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
).
وكذلك الإمام أحمد رحمه الله
(3)
.
* قوله: (لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَأَجَازَهَا مَالِكٌ، وَرَأَى الشُّفْعَةَ فِيهَا لِلْمُكَاتَبِ، وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ شَبَّهَ بَيْعَهَا بِبَيْعِ الدَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ رَآهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ، وَكَذَلِكَ شَبَّهَ مَالِكٌ الشُّفْعَةَ فِيهَا بِالشُّفْعَةِ فِي الدَّيْنِ).
اختلف العلماء في بيع الكتابة، وذكر المؤلف رحمه الله ما يتعلق ببيع المكاتب، والخلاف في الكتابة نفسها بين جواز بيعها وعدم جوازه، أي: يبيع إنسان لآخر الكتابة، وهذا مقيد بأن يشترط عليه ألا يعدل عن ذلك، أي: يعينه في أداء الكتابة.
لكن بيع الكتابة في قول مالك يقاس على الدين، وأشار إلى حديث
(1)
في مذهب الشافعية قولان.
يُنظر: " التهذيب في فقه الإمام الشافعي "، للبغوي (8/ 461)، حيث قال: " ولو أن المكاتب أحال السيد بنجوم الكتابة على إنسان، أو السيد أحال غريمه على المكاتب، فيه وجهان:
أحدهما: يجوز كسائر الديون.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه دين غير مستقر؛ كما لا تجوز الإحالة بالسلم، وعلى السلم ".
(2)
يُنظر: " شرح مختصر الطحاوي " للجصاص (8/ 380)، حيث قال:" قال أبو جعفر: (ولا تجوز الكفالة للمولى بما على عبده من الكتابة في غير ما ذكرنا)؛ وذلك لأن مال المكاتبة لا يثبت إلا في رق يستحق به العتق، فمن ضمنه على غير هذا الوجه؛ لم يصح ضمانه، وأيضًا: فإن ضمان الحر للمال ضمان صحيح، ومال الكتابة ليس بدين صحيح؛ لأن له إسقاطه عن نفسه بالعجز ".
(3)
يُنظر: " المغني " لابن قدامة (10/ 436) حيث قال: " فأما بيع الدين الذي على المكاتب من نجومه، فلا يصح؛ لأنه دين غير مستقر، فلم يجز بيعه، كدين السلم، ودليك عذم الاستقرار: أنه معرض للسقوط بعجز المكاتب، ولأنه لا يملك السيد إجبار العبد على أدائه، ولا إلزامه بتحصيله، فلم يجز بيعه؛ كالعدة بالتبرع، ولأنه غير مقبوض ".
الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشفعة بالدين، وهذا حديث سبق وأن تعرض له المؤلف، ومصدره:" المحلى " لابن حزم، وهو حديث ضعيف.
* قوله: (وَفِي ذَلِكَ أَثَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَعْنِي: فِي الشُّفْعَةِ فِي الدَّيْنِ).
فعن عمر بن عبد العزيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بالدين
(1)
، ذكره ابن حزم في " المحلى " وضعَّفه
(2)
.
* قوله: (وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي بَيْعِ الْكِتَابَةِ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِذَهَبٍ أَنَّهَا تَجُوزُ بِعَرَضٍ مُعَجَّلٍ لَا مُوَجَّل؛ لِمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ بِعَرَضٍ: كَانَ شِرَاؤُهَا بِذَهَبِ أَوْ فِضَّةٍ مُعَجَّلَيْنِ، أَوْ بِعَرَضٍ مُخَالِفٍ، وَإِذَا أُعْتِقَ: فَوَلَاؤُهُ لِلْمُكَاتِبِ لَا لِلْمُشْتَرِي
(3)
. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: اخْتِلَافُهُمْ هَلْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ الْعَبْدَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَمْ لَا؟).
(1)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(8/ 88) عن الأسلمي قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر، عن عمر بن عبد العزيز " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في الدين، وهو الرجل يبيع دينًا له، على رجل فيكون صاحب الدين أحق به ".
(2)
يُنظر: " المحلى بالآثار "، لابن حزم (7/ 488)، حيث قال - بعد أن ذكر هذا الحديث، وحديث:" من ابتاع دينًا على رجل فصاحب الدَّيْن أَوْلَى إذا أدى مثل الذي أدى صاحبه " -: " حديثا عمر بن عبد العزيز مرسلان؛ أحدهما: عن الأسلمي وهو إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك متهم، والآخر أيضًا: عمن لم يسم ولا حجة في أحد دون رسول الله، ولا حجة للمالكيين في هذين الخبرين، ولا في خبر جابر؛ لأنه ليس في شيء منها أنه كان بإقرار دون بينة، فهم مخالفون لعموم الخبر ". وينظر: " مصنف عبد الرزاق "(8/ 88).
(3)
يُنظر: " المنتقى شرح الموطإ "، للباجي (7/ 23)، حيث قال:" وقوله إذا كاتبه بدنانير ودراهم فلا يبيعها إلا بعرض معجل لا يتأخر؛ لأنه يدخله الكالئ بالكالئ، وإن كانت الكتابة بعرض من إبل ورقيق جاز أن يبيعه بذهب أو فضة أو عرض مخالف له، يعجل ذلك ولا يؤخره؛ لما قدمناه، ولا يجوز بيعها وهي ذهب بورق؛ لأنه يدخله ذهب بورق إلى أجل، ولا يبيعها وهي عرض بعرض من جنسه أكثر منه إلى أجل؛ لأنه يدخله الزيادة مع النساء في الجنس، وذلك ممنوع ".
بأن يشق عليه في العمل، ويُضَيِّق عليه في النفقة بحيث يرهقه، وهذا لا يجوز شرعًا
(1)
.
* * *
[شُرُوطُ
(2)
الكِتَابَةِ]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(وَأَمَّا شُرُوطُ الْكِتَابَةِ فَمِنْهَا شَرْعِيَّةٌ هِيَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ العَقْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ ذِكْرِ أَرْكَان الكِتَابَةِ).
(1)
في مذهب الأحناف أنه يجبر على ذلك:
يُنظر: " التجريد "، للقدوري (3/ 1262)، حيث قال:" يجبر المكاتب على دفع مال الكتابة، ولا يملك إسقاطه عن نفسه إلا بإسقاط الحاكم ".
وفي مذهب المالكية قولان. ينظر: " المنتقى شرح الموطإ "، للباجي (7/ 7)، حيث قال:" وهل يجوز للسيد إجبار عبده على الكتابة؟ روى بعض البغداديين عن مالك: " أن للسيد إكراه عبده على الكتابة كما له أن يعتقه على أن يتبعه بمال، وكما له أن ينكحه ويؤاجره ويعتقه ولا ضرر عليه في ذلك، وإنما يؤدي ما فضل عن نفقته "
…
وبه قال ابن المواز. وقال ابن القاسم من رواية ابن حبيب عنه: " لا يلزم الكتابة إلا برضا العبد "، ورواه ابن المواز عن أشهب؛ قال:" وإن كان بغير رضاه لم يلزمه "، وكذلك قال عبد الملك، ووجه قول مالك ما احتج به، وقد قال ابن القاسم:" إنه إن ألزم عبديه الكتابة فرضي أحدهما ولم يرض الآخر لزمه ذلك، ولرجع عليه بما أدى عنه، وكذلك إن كان أحدهما غائبًا ".
في مذهب الشافعية والحنابلة لا يجبر:
يُنظر: " روضة الطالبين " للنووي (12/ 257) حيث قال: " لا يجوز أن يجبر العبد على الكتابة إذا امتنع المكاتب من أداء النجوم مع القدرة لم يجب عليه؛ لأن الحط له، فلا يجبر عليه، ولأن الكتابة جائزة من جهة المكاتب؛ ولأنها تتضمن التعليق بالصفة، والعبد لا يجبر على الصفة ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" الكافي "، لابن قدامة (2/ 334)، حيث قال:" إن دعا السيد عبده إلى الكتابة، لم يجبر عليها؛ لأنه إعتاق على مال، لم يجبر عليه كغير الكتابة ".
(2)
الشرط هو: ما يلزم من نفيه نفيُ أمر ما على وجه لا يكون سببًا لوجوده ولا داخلًا في السبب.=
أي: لا تخرج عن نطاق الشريعة، وما وضع فيها فليست شروطًا خارجة عمَّا هو وارد في هذه الشريعة، وهي الشروط التي يُضيفها أحد المتعاقدين.
* قوله: (وَمِنْهَا شُرُوطٌ بِحَسَبِ التَّرَاضِي).
وهذه الشروط من الممكن أن لا توجد في العقد، لكنهم اتفقوا عليها بالتراضي، كأن يشترط المكاتِب شرطًا على المكاتَب، ويتفقان عليه، وهذا الشرط لا يُخالف نصًّا
(1)
.
* قوله: (وَهَذ الشُّرُوطُ مِنْهَا مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ).
هذه التي تكون عن طريق التراضي إن لم تكن متفقة مع أصول هذا الدين ومع أُسسه فلا شك أنها تُبطل العقد، وأما ما لا يتعارض مع أصل من أصول هذا الدين فإنه لا يُؤثر على العقد، وقد يوجد عقد ويتفق على إزالته، ولا يؤدي ذلك إلى بطلان العقد.
* قوله: (وَمِنْهَا مَا إِذَا تُمُسِّكَ بِهِ أَفْسَدَتِ العَقْدَ، وَإِذَا تُرِكَتْ صَحَّ الْعَقْدُ).
هناك شروط التي نعرفها ببعض الشروط النجوم، يُشترط فيها شرط مخالف للعقد، فهذا الشرط إذا اتفق عليه صح العقد، وربما يفسد العقد،
= وهو منقسم إلى شرط عقلي؛ كالحياة للعلم والإرادة. وإلى شرعي؛ كالطهارة للصلاة، والأحصان للرجم. وإلى لغوي. انظر:" الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي (2/ 309).
(1)
مثال الشروط التي تقع بالتراضي. يُنظر: " النوادر والزيادات "، لابن أبي زيد (13/ 68) حيث قال:" قال مالك - كما في " العتبية " من سماع أشهب، وكتاب ابن المواز -؟ " ومن كاتَبَ عبده وشرط عليه استرقاق ما حدث له من ولد، فسخت الكتابة، إلا أن يرضى السيد بترك الشرط ".
لكن نجد أن هذا العقد يُصحح إذا ألغي ذلك الشرط
(1)
.
* قوله: (وَمِنْهَا شُرُوطٌ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَمِنْهَا شُرُوطٌ لَازِمَةٌ
(2)
. وَهَذِهِ كُلُّهَا هِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَلَيْسَ كِتَابُنَا هَذَا كِتَابَ فَرَوْعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ أُصُولٍ).
يريد أن يقول: إن هذا الكتاب الذي سَمَّاه " بداية المجتهد ونهاية المقتصد "، أو " غاية المقتصد " لم يضعه للفروع؛ لأنه لو وضعه في الفروع لتوسع مجاله وكبر حجمه وزادت مجلداته، ولكنه اختار مسائل محددة نص عليها في مواضع كثيرة هي تلك المسائل التي يأتي منطوقها في آية أو في حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه تؤخذ من النص مباشرة، واختار - أيضًا - مسائل كبرى اختلف فيها العلماء بأن خَرجوها عن تلك النصوص، فالكتاب أشبه ما يكون بكتب القواعد الفقهية، ولذلك عرف عند بعض العلماء المتقدمين بأنه كتاب قواعد
(3)
.
(1)
ذكر أبو الوليد ابن رشد بعضَ صور هذه الشروط، فقال فيمن كاتَبَ عبده، واشترط أن ما ولد له من ولد فهم عبيد، ينظر:" البيان والتحصيل " لابن رشد الجَد (15/ 225 - 227) حيث قال: " الشروط تنقسم على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك قسمان:
أحدهما: شرط حرام؛ كاشتراط الوطء على المكاتبة في كتابتها، وشرط فيه غَرر؛ كاشتراط كون جنين المكاتبة عبدًا، وكون ما وُلد للمكاتب من أَمَته عبدًا، وما أشبه ذلك، فهذا القسم الحكم فيه عنده أن يبطل الشرط، وتجوز الكتابة.
والقسم الثاني: أن يكون الشرط لا حرام فيه ولا غرر إلا أنه مخالف لما مضى من سنة الكتابة، مثل: أن يشترط عليه أن لا يخرج من خدمته، وما أشبه ذلك، فهذا يلزم فيه عنده الشرط، وتجوز الكتابة ".
(2)
الشرط غير اللازم: كمن شرط على مكاتبه إن فعل فعلًا فللسيد محو كتابته. فإن هذا الشرط غير لازم، وليس للسيد محو كتَابته، ولا تأثير لهذا الشرط في الكتابة؛ لأنه يبطل وتصح الكتابة؛ لأنه ضد مقتضى الكتابة، وذلك أن مقتضاها اللزوم. انظر:" المنتقى شرح الموطأ "، للباجي (7/ 32).
(3)
وصفه الذهبي بأنه كتاب فيه من التعليلات والتخريجات ما ليس في غيره.
يُنظر: " تاريخ الإسلام "، للذهبي (2/ 1041) حيث قال: " ولابن رشد من =
* قوله: (وَالشُّرُوطُ الَّتِي تُفْسِدُ الْعَقْدَ بِالْجُمْلَةِ هِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي هِيَ ضِدُّ شُرُوطِ الصِّحَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْعَقْدِ).
فهناك شروط صحة تشترط في صحة العقد، فإذا جاء بضد ذلك كانت شروطًا تبطل العقد.
* قوله: (وَالشُّرُوطُ الْجَائِزَةُ هِيَ الَّتِي لَا تُؤَدّي إِلَى إِخْلَالٍ بِالشُّرُوطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْعَقْدِ وَلَا تُلَازِمُهَا).
كأن يشترط أحد المتعاقدين شروطًا يتوثق من خلالها المبيع أو السلعة، وهذا حق له طالما لا يخالف نصًّا، فإنه يكون صحيحًا.
* قوله: (فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَيْسَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي الشُّرُوطِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا هُوَ مِنْهَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لَيْسَ مِنْهَا).
فقد يختلف العلماء في شرط من الشروط: فرض صحة، أو فرض لزوم.
* قوله: (وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ إِخْلَالِهَا بِشُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ مَالِكٌ جِنْسًا ثَالِثًا مِنَ الشُّرُوطِ، وَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي إِنْ تَمَسَّكَ بِهَا الْمُشْتَرِطُ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِهَا جَازَ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْهَمَهُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ)
(1)
.
= المصنَّفات: كتاب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " في الفقه، عَلَّل فيه ووجَّه، ولا نَعلم فِي فته أنفع منه، ولا أحسن مساقًا ".
(1)
يُنظر: " شرح التلقين " للمازري (2/ 440) حيث قال: " عقود المعاوضة أربعة: عقد صحيح منحتم. وعقد صحيح غير منحتم؛ كعقد الخيار. وعقد فاسد منحتم فساده؛ كبيع الغرر وشبهه. وعقد غير منحتم فساده؛ كبيوع الشُروط التي فسد العقد لأجل ما قارنه من الشَّرط، فيجب للمشترط الفسخ إن تمسَّك المشترط، وإن سمح بإسقاطه انحتم العقد وصحَّ، مثل؛ البيع بشرط السلف، وبيع جارية على أن يتَّخذها المشتري أُمَّ ولد
…
".
وقد عرفنا بأن كل شرط ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل، لكن إن وجدت بعض الشروط التي تكون من مصلحة أحد المتعاقدين أو من مصلحتهم جميعًا؛ بأن يشترط كل واحد منهم أو منهما شرطًا يستفيد من ذلك الشرط، وهذا الشرط لا يؤثر على إفساد ذلك العقد، فله ذلك.
* قوله: (فَمِنْ مَسَائِلِهِمُ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْكِتَابَةِ شَرْطًا مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ نَحْوِهِ).
وقد عرفنا الكتابة
(1)
، وهي إعتاق السيد مملوكه على مالٍ يُؤَدَّى مؤجلًا، لكن قد يضاف شرط من الشروط؛ كعدم الامتناع عن خدمة سيده، فهل هذا الشرط جائز أو لا؟ وهل هذا يختلف بكون الكتابة قد انتهت أو لم تنته؟ هذه من الشروط التي تُذكر في هذه الكتابة.
* قوله: (وَقَوِيَ عَلَى أَدَاءِ نُجُومِهِ
(2)
قَبْلَ مَحلِّ أَجَلِ الْكِتَابَةِ هَلْ يُعْتَقُ أَمْ لَا؟).
وهذه المسألة مَرَّ بنا ما يشبهها؛ بأنه يجوز أن يُكاتبه على خدمة، وعرفنا أن الإمامين مالكًا وأحمدَ أجازا ذلك
(3)
، لكن هذه صورة أخرى، فقد اشترط عليه خدمة بالإضافة إلى الكتابة، ولكن مبلغ الكتابة عُجِّل، أي: قُدِّم، فأصبح حرًّا، وهو بَعْدُ لم يؤدِّ تلك الخدمة؛ فهل تُعتبر هذه الخدمة أو الشرط ملزمًا للمكاتب أو لا؟
(1)
الكتابة: أن يُكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إليه منجمًا، فإذا أداه صار حرًا. وسميت كتابة لمصدر (كتب)، كأنه يكتب على نفسه لمولاه ثمنه، ويكتب مولاه له عليه العتق. انظر:" النهاية في غريب الحديث والأثر "، لابن الأثير (4/ 184).
(2)
نجوم: جمع نجم، وهي الوظيفة، يقال: نجم المال نجومًا، أي: وَظَّفه وظائف في كل شهر كذا. انظر: " طلبة الطلبة "، للنسفي (ص 64).
(3)
سبق في قول المؤلف: " وَتَجُوزُ الْكِتَابَةُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى عَمَلٍ مَحْدُودٍ ". وقول الشارح: " وقوله: " وتجوز الكتابة على عمل محدود عند مالك "، وكذلك عند الإمام أحمد ".
ذلك مطلوب، لكنه عَجَّل القيمة، وسارع في الأمر وأصبح حرًّا، وهذه الخدمة لم تؤدَّ لكنه شرط أضافه المكاتب على المكاتبة، بأن يخدمه فترة معينة، أو يسافر معه، أو نحو ذلك.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَجَمَاعَةٌ
(2)
: ذَلِكَ الشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَيُعْتَقُ إِذَا أَدَّى جَمِيعَ المَالِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ المَالِ، وَيَأْتِيَ بِذَلِكَ الشَّرْطِ
(3)
، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ أَعْتَقَ
(1)
يُنظر: " الجامع لمسائل المدونة "، لابن يونس (8/ 895)، حيث قال:" ومن كتاب ابن المواز: قال مالك: ومَن كاتَبَ عبده واشترط عليه أسفارًا وضحايا فأدى كتابته؛ فإنه إن أدى الضحايا وعجلها خرج حرًّا، وسقطت الأسفار ". وانظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 419، 420).
وعنه رواية أخرى ذكرها الرجراجي. يُنظر: " مناهج التحصيل " للرجراجي (5/ 260) حيث قال: "
…
والثاني: أن يُعطيه مكان الأسفار والخدمة عينًا، ويتم عتقُه، وهي رواية أشهب عنه في " الموازية " أيضًا ".
(2)
ذكر ابن عبد البر بعضهم. ينظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 421) حيث قال:" وممن رأى أن الشرط باطل: ابنُ المُسيب، وشريح، وعطاء. قال ابن جريج: قلت لعطاء: شرطوا على المكاتب أنك تخدمنا شهرًا بعد العتق، قال لا يجوز. وقال عمرو بن دينار: ما أرى كل شرط اشترط عليه في الكتابة إلا جائزًا بعد العتق. ومعمر عن ابن المسيب عن قتادة قال: كل شرط بعد العتق فهو باطل. وقاله ابن شهاب ".
(3)
وممن قال بذلك الشافعية والحنابلة.
مذهب الشافعية، يُنظر:" الحاوي الكبير "، للماوردي (18/ 91)، حيث قال:" وإذا أعتق الرجل عبدًا على شرط الخدمة بعد العتق مدة معلومة اتَّفَقَا عليها، ورضِيَا بها جاز ذلك عندنا، وإن شَذَّ مَن خالفنا فيه، وتعجل عتقه ناجزًا، وعليه أن يخدمه بعد الحرية تلك الخدمة المشروطة إلى انقضاء تلك المدة المعلومة ". وانظر: " بحر المذهب "، للروياني (8/ 220).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" مطالب أولي النهى "، للرحيباني (4/ 735)، حيث قال:" (وإن شرط) سيد (عليه)؛ أي: رقيقه (خدمة معلومة بعد العتق؛ جاز)، وبه قال عطاء وابن شبرمة؛ لأثر عمر، ولأنه اشترط خدمة في عقد الكتابة؛ أشبه ما لو شرطها قبل العتق، ولأنه شَرط نفعًا معلومًا؛ أشبه ما لو شرط عِوضا معلومًا، وما قيل: إنه ينافي مقتضى العقد غير مُسَلَّم؛ فإن مقتضاه العتق عند الأداء، وهذا لا ينافيه ".=
رَقِيقَ الْإِمَارَةِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْدِمُوا الْخَلِيفَةَ بَعْد ثَلَاثِ سِنِينَ)
(1)
.
فهذا الشرط أضافه عمر رضي الله عنه مقابل أن أعتقهم، فقالوا: هذا دليل على صحة ذلك؛ لأن عمر فعل ذلك، ولا يُعرف له مخالف من الصحابة، وقول الصحابة حجة إذا لم يُوجد لهم معارض
(2)
.
* قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عَلَى أَنْ يَخْدِمَهُ سِنِينَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ عِتْقُهُ إِلَّا بِخِدْمَةِ تِلْكَ السِّنِينَ)
(3)
.
فإذا أعتقه واشترط عليه الخدمة لبعض السنوات، فلا خلاف بين العلماء بجوازه؛ لأن هذا العتق جاء مقابل خدمة، وقد عرفنا بأن ذلك جائز.
= وفي مذهب الأحناف يجوز - أيضًا - إلا أن يطلق الشرط فلا يحدد مدة الخدمة، وهذا عند الباقين كذلك:
يُنظر: " الأصل "، للشيباني (6/ 205)، وفيه قال:" قلت: أرأيت رجلًا كاتَبَ عبدًا له على ألف درهم على أن يخدمه بعد العتق، وبعد أن يؤدي المكاتبة أيجوز هذا؟ قال: لا. قلت: ولِمَ؟ قال: لأنه اشترط في المكاتبة ما لا يعرف. قلت: أرأيت إن أدى مكاتبته هل يعتق؟ قال: نعم ".
(1)
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(8/ 382).
(2)
سبق بيانُ هذا الأصل.
(3)
انظر في مذهب الأحناف: " بدائع الصنائع "، للكاساني (4/ 61)، وفيه قال:" ولو قال لعبده: إن خدمتني سنة فأنت حر. فخدمه أقل من سنة لم يعتق حتى يكمل خدمته ".
وانظر في مذهب المالكية: " مناهج التحصيل "، للرجراجي (5/ 260)، وفيه قال: "
…
فإن عجَّل عتقه بعد قضاء الخدمة والأسفار عند حلول أجل الكتابة، فإنَّهُ لا تسقط عنه الخدمة، ولا يحصل له العتق إلا بانقضاء أمد الكتابة ".
وانظر في مذهب الشافعية: " التهذيب "، للفراء (8/ 422)، وفيه قال:" ولو كاتَبَه على خدمة شهر ودينار بعده، فَمَرض وعجز عن الخدمة بطلت الكتابة في قدر الخدمة ".
وانظر في مذهب الحنابلة: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 589)، وفيه قال:" (و) إن قال لرقيقه (: أنت حُر على أن تَخدمني سنة) ونحوها (يعتق) في الحال (بلا قبول) القن، (وتلزمه الخدمة، وكذا لو استثنى خدمته مدة حياته أو) استثنى (نفعه مدة معلومة) فيَصح ".
* قوله: (وَلِذَلِكَ الْقِيَاسِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ
(1)
. فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْوَاقِعَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي أُصُولِ هَذَا الْكِتَابِ).
ولذلك قال بأن ذلك القياس قول لمن قالوا: " إن الشرط لازم "، يُشير إلى أنه يُؤَيِّد الرأي الآخر، وهي الرواية الأخرى للإمام مالك
(2)
، وهو قول أحمد
(3)
.
* قوله: (وَهَاهُنَا مَسَائِلُ تُذْكَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَهِيَ مِنْ كُتُبٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ ذُكِرَتْ عَلَى أَنَّهَا فُرُوعٌ تَابِعَةٌ لِلْأُصُولِ فِيهِ، وَإِذَا ذُكِرَتْ فِي غَيْرِهِ ذُكِرَتْ عَلَى أَنَّهَا أُصُولٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَمِنْ ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ بِنْتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ).
ثم بعد ذلك مات المكاتَب قبل أن يُؤَدِّي حَقَّ الكتابة، فما الحكم هنا؟
* قوله: (ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ وَوَرِثَتْهُ الْبِنْتُ، فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
(1)
قصد المؤلف من هذا أن الذين قالوا بعدم بطلان الشرط، وأن العبد عليه أن يخدم السيد متى اشترط عليه ذلك حتى ولو كان بعد العتق، استدلوا بقياس هذه المسألة على مسألة اتفق عليها الجميع من أنَّ للسيد أن يشترط على عبده خدمة معينة، ولا يعتق إلا بأداء هذه الخدمة.
ويُنظر: " المغني " لابن قدامة (10/ 459) في ترجيح قول الجمهور حيث قال: "
…
ولأنه اشترط خدمة في عقد الكتابة أشبه ما لو شرطها قبل العتق، ولأنه شرط نفعًا معلومًا، أشبه ما لو شرط عوضًا معلومًا، ولا نُسَلِّم أنه ينافي مقتضى العقد؛ فإن مقتضاه العتق عند الأداء، وهذا لا ينافيه ".
(2)
سبقت ذكر هذه الرواية عن مالك كما في " الموازية " نَصَّ عليها أبو الحسن الرجراجي.
(3)
وكذا الأحناف والشافعية، كما سبق.
(4)
يُنظر: " عيون المسائل "، للقاضي عبد الوهاب (ص: 619، 620)، حيث قال:" يصح أن ينكح المكاتب ابنة سيده، فإن مات سيده وورثته ابنته، انفسخ نكاحها من مكاتب أبيها ".
وَالشَّافِعِيُّ
(1)
).
وأحمد
(2)
.
* قوله: (يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، لِأَنَّهَا مَلَكَتْ جُزْءًا مِنْهُ).
لماذا ينفسخ النِّكاح؟
لأن السيد يُطالب هذا المكاتَب بما له، وهذا المكاتَب قد مات سَيِّدُه قبل أن يُؤدي ما عليه، إذًا سوف يَرث هذا المال الباقي على المكاتب، وسترثه هذه البنت، فكيف ترث عن هذا الطريق؟ أيضًا، سوف ترث عن طريق ملك اليمين، فهو يؤدي إلى المنع.
فأبو حنيفة له رأي آخر يقول: لا نُسَمِّي ذلك ميراثًا، ولكن هذا حق وجب على هذا المكاتب، فهذه المرأة - أي: زوجته - تستحق نصيبها مِن هذا الدَّيْن على أنَّه دَيْن لا أنه ميراث.
* قوله: (وَمِلْكُ يَمِينِ الْمَرْأَةِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا بِإِجْمَاعٍ).
لأنها عندما ترث من هذا مَلَكت جزءًا من هذا المكاتب؛ لأن المكاتب سلعة بيعت، ولم يَتحرر، إذًا هي ملكت جزءًا منه، فكيف يكون زوجها مملوكًا لها تملكه يملك اليمين، ولو كان الملك مُبعضًا؟
(1)
يُنظر: " نهايهَ المطلب "، للجويني (8/ 391)، حيث قال:" ولو زوج الرجل ابنته من مكاتَبه، ثم مات، وورثت الزوجةُ زوجها، انفسخ النكاح، باتفاق الأصحاب، فالملك في المكاتَب يقطع طارئُه النكاحَ، كما يمنع ابتداءه ". وانظر: " الإقناع في حَل ألفاظ أبي شجاع "، للشربيني (2/ 656).
(2)
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 609)، حيث قال:" (ولو زوج) السيد (امرأة ترثه) إن مات (من مُكاتبه وصح) النكاح بأن قلنا: الكفاءة شرط للزوم لا للصحة، أو حكم به مَن يراه، (ثم مات) السيد (انفسخ النكاح) لملكها زوجها أو بعضه، كما لو لم يكن مكاتبًا، (وكذا لو ورث) زوج حر (زوجته المكاتبة أو) زوجة (غيرها) أو جزءًا منها فينفسخ النكاح؛ لأن ملك اليمين أقوى من النكاح، فإذا طرأ عليه أبطله ".
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَرِثَتْ إِنَّمَا هُوَ مَالٌ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ لَا رَقَبَةَ الْمُكَاتِبِ)
(1)
.
والحنفية فَصَّلوا هذه المسألة أكثر من غيرهم فقالوا: هي لم تَرث، ولكنها استحقت دَيْنًا، فهذا مال في ذمة هذا المكاتب، فهي فقط تأخذ نصيبها من هذا الحق
(2)
.
فخرجوا عن جماهير العلماء، ووجدوا مبررًا لهذا الحكم حتى يُبقوا النكاح صحيحًا.
ومهما يكن فمذهب الجمهور أظهر وهو أحوط في هذا المقام، وبخاصة القاعدة الفقهية المعروفة:" إذا اجتمع الحلال والحرام غَلب الحرام "
(3)
.
فهذا أمر مشكوك فيه، ولذلك لما ذُكر لعثمان رضي الله عنه زواج الأخت
(1)
انظر: " التجريد "، للقدوري (9/ 4513)، وفيه قال:" قال أصحابنا: إذا زَوَّج ابنته من مكاتبه، ثم مات المولى، لم يفسد النكاح، وكذلك لو تزوج الابن مكاتبة أبيه ".
(2)
قال القدوري في ذكر وجه ما ذهبوا إليه: " وذلك لأن كل حالة يبقى دينها عليه جاز أن يبقى النكاح بينها وبينه، ولأن الأب زَوَّجها بمن ثبت له حق الحرية من جهته، فإذا مات لم يبطل نكاحها، كما لو زوجها بمدبره، ولأنه عقد يتضمن المنافع، فإذا عقد الأب مع مكاتبه في حق ابنته ثم مات لم يبطل، ولأنه مكاتب أبيها بعد موته؛ بدلالة: أنه يعتق عنه، ويستحق ولاءه، كما كان مكاتبه في حال حياته، فإذا لم يعقد النكاح في إحدى الحالتين كذلك الأخرى. والمسألة مبنية على أن رقبة المكاتب لا تنقل إلى الورثة؛ لأن الموت سبب ". انظر: " التجريد "(9/ 4513).
(3)
يُنظر: " الأحكام في أصول الأحكام "، للآمدي (4/ 259)، حيث قال:" إذا اجتمع حظر وإباحة، فقد اختلف في ترجيح أحدهما؛ فذهب الأكثر كأصحابنا، وأحمد بن حنبل، والكرخي، والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أَوْلَى. وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى التَّساوي والتساقط، والوجه في ترجيح ما مقتضاه الحظر أن مُلابسة الحرام موجبة للمأثم بخلاف المُباح، فكان أَوْلَى بالاحتياط ".
يملك اليمين قال: " أَحَلَّتها آية، وحَرَّمتها آية "
(1)
.
فهناك آية حَرَّمت الجمعَ بين الأختين: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، فهل ذلك يُدخل الأختين يملك اليمين؟ وجاءت الآية الأخرى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، فقالوا: هنا الآية عامة؛ لم تُفَرِّق بين الأخت وغيرها، ولذلك قال الخليفة الراشد:" أحلتهما آية وحَرَّمتهما أخرى "
(2)
، والتحريم أحوط؛ لأن فيه بُعْدًا عن الحرام، ففيه شبهة
(3)
.
(1)
أخرجه البيهقي في " الكبرى "(7/ 265) عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أن رجلًا سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان رضي الله عنه:" أَحَلَّتهما آية، وحَرمتهما آية، وأما أنا فلا أحبُّ أن أصنع هذا. قال: فخرج من عنده فلقي رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو كان لي من الأمر شيء، ثم وجدت أحدًا فَعَلَ ذلك لجعلته نكالًا ". قال مالك رحمه الله: " قال ابن شهاب: أراه عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه "، قال مالك:" وبلغني عن الزبير بن العوام مثلُ ذلك ".
(2)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 538) عن قبيصة بن ذؤيب، أن رجلًا سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: " أَحَلَّتهما آية، وحَرمتهما آية، فأما أنا فلا أحبُّ أن أصنع ذلك
…
".
(3)
الجمع بين الأختين يملك اليمين فيه خلاف بين الفقهاء.
مذهب الحنفية يُنظر: " الدر المختار "، و" حاشية ابن عابدين - (رد المحتار) " (3/ 38) حيث قال:" (قوله: يملك يمين) متعلق بوطء، واحترز بالجمع وطء عن الجمع ملكًا من غير وطء، فإنه جائز، كما في " البحر ". ط. (قوله: بين امرأتين) يرجع إلى الجمع نكاحًا وعِدَّة ووطئًا يملك يمين. ط. أي: في عبارة المصنف، أما على عبارة الشارح فهو متعلق بالأخير. (قوله: أيهما فرضت
…
إلخ)، أي: أية واحدة منهما فرضت ذكرًا لم يحل للأخرى، كالجمع بين المرأة وعَمَّتها أو خالتها
…
".
مذهب المالكية، يُنظر:" روضة المستبين " لابن بزيزة (1/ 793) حيث قال: " أجمع العلماء على أن الجمع بين الأختين يملك اليمين للاستخدام جائز، وأما الجمع بينهما للوطء يملك اليمين، فجمهور الأُمَّة على تحريمه؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}. وانظر: " القوانين الفقهية " لابن جزي (ص: 139). =
* قوله: (وَهَذ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَحَقُّ بِكِتَابِ النِّكَاحِ).
لأن هذه المسألة: مُكاتب زَوَّجه سَيِّدُه ابنتَه، ثم حصل الموت، فهذا متعلق بالنكاح، فالمؤلف ذكرها هنا لعلاقتها بالمكاتب.
* قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ إِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَبَعْضُ الْكِتَابَةِ؛ هَلْ يَحَاصُّ
(1)
سَيِّدُهُ الْغُرَمَاءَ أَمْ لَا؟).
إذا مات المكاتب وعليه دين وهو بعدُ لم يُوَفِّ بمال المكاتبة، والسيد حقه متعلق بالعوض مقابل الكتابة، هذا هو حق السيد هنا، والغرماء لهم حقوق وديون على هذا المكاتب؛ فهل يدخل السيد مع هؤلاء الغرماء الدَّائنين في الحصص أو يُقَدَّم؟ وهنا على السيد أن يُقَدِّم الدَّيْن أو لا؟ هذا ما ذكره عن جماهير العلماء.
* قوله: (فَقَالَ الْجُمْهُورُ).
ومنهم الأئمة الأربعة، بل جمهور الصحابة والتابعين، فهذا قد اشتهر
= مذهب الشافعية، يُنظر:" البيان في مذهب الإمام الشافعي "، للعمراني (9/ 247، 248) حيث قال: " وإن ملك الرجل أَمَتَين يَحرم الجمع بينهما في النكاح؛ كالأختين، وكالمرأة وعمتها وخالتها، صَحَّ الملك؛ لأن المقصود بالملك بالمنفعة والنَّماء دون الاستمتاع
…
، فإن أراد أن يَجمع بينهما في الوطء، لم يَجُز. وبه قال عامَّةُ أهل العلم ".
مذهب الحنابلة، يُنظر:" المغني "، لابن قدامة (7/ 124)، حيث قال: " وإذا اشترى أُختين، فأصاب إحداهما، لم يُصب الأخرى حتى تَحرم الأولى ببيع أو نكاح أو هِبة، وما أشبهه، ويعلم أنها ليست بحامل، فإن عادت إلى ملكه، لم يُصب واحدة منهما، حتى تَحرم عليه الأولى. الفصل الأول: أنه يجوز الجمع بين الأختين في الملك. بغير خلاف بين أهل العلم. وكذلك بينها وبين عمتها وخالتها.
ولو اشترى جارية، فوطئها، حَلَّ له شراء أختها وعمتها وخالتهما؛ لأن الملك يقصد به التمول دون الاستمتاع ".
(1)
أَحْصَصْتُ الرجلَ، أي: أعطيتهُ نصيبَه. وتحاصَّ القومُ يَتَحاصُّونَ، إذا اقتسموا حِصَصًا. وكذلك المُحاصَّةُ ". انظر:" الصحاح "، للجوهري (3/ 1033).
بين الصحابة، وكذلك بين التابعين، واتفق حوله الأئمة الأربعة
(1)
.
* قوله: (لَا يُحَاصُّ الْغُرَمَاءُ
(2)
، وَقَالَ شُرَيْحٌ
(3)
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(4)
:
(1)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 395) حيث قال:" قوله: (إن مات المكاتب لم يحاص السيد الغرماء)، يعني: بما بقي من كتابته، أو بما حمل من نجومه، فهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما، وهو قول أهل المدينة والبصرة ".
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:" الأصل " للشيباني (6/ 329)، حيث قال:" قلت: أرأيت إن كان على العبد دَيْنٌ كثير، فأدى المولى إلى بعضهم، وقد جاء بعضهم يطلب، والآخرون غيب، فقضى القاضي بينهم، فأدى المولى عنه، ثم جاء الباقون بعد ذلك، فخاصموا المولى، فلم يكن عنده ما يؤدي ما على العبد، فَبِيع العبدُ، هل يكون للمولى من ثمنه بقدر ما أدى، يحاص بذلك في الثمن؟ قال: لا، ولا يحاص مَن لم يقبض منهم من المولى من اقتضى منه؛ لأن دَيْنَهم مختلف؛ لأن كل واحد منهم حقه على حدة ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 395)، حيث قال:" وإن مات المكاتب وعليه دين لم يُحاص الغرماء سيده بكتابته، وكان الغرماء أَوْلَى بذلك من سيده ". اهـ. وانظر: " شرح مختصر خليل "، للخرشي (5/ 165).
ومذهب الشافعية، يُنظر:" الحاوي الكبير "، للماوردي (8/ 271)، حيث قال:" ولو مات المكاتب قبل تعجيزه مات عبدًا، وصارت جنايته هدرًا تسقط بموته، كالعبد الجاني إذا مات وكان ما بيده مصروفًا في ديونه، فإذا فضل بعد الديون فضل كان لسيده ".
وفي مذهب الحنابلة روايتان؛ يُنظر: " الإرشاد إلى سبيل الرشاد "، للهاشمي (ص: 434)، حيث قال:" ولو مات المكاتب وترك مالًا، وعليه ديون للناس، وبقية من مال كتابته بُدئ بقضاء ديونه قبل الكتابة في إحدى الروايتين. وفي الرواية الأخرى: يكون السيد غريمًا من الغرماء، ويحاص أصحاب الدَّيْن في تركته إن لم يترك وفاء بالجميع، والأول عنه أظهر ". وانظر: " المغني "، لابن قدامة (10/ 379).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(8/ 414) عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم في المكاتب إذا مات وعليه دَيْنٌ، قال:" يضرب مولاه بما حَلَّ من نجومه مع الغرماء ". قال عبد الرزاق: " وأخبرنا الثوري قال: وأخبرني الشيباني، عن الشَّعبي، عن شريح مثله ".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(8/ 414) عن أبي سفيان قال: " كان ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، والحسن بن صالح يقولون: " إذا مات المكاتب وعليه دين، حَلَّ ما عليه من كتابته، فيضرب المولى مع الغرماء بجميع ما عليه من الكتابة ".
يَضْرِبُ السَّيِّدُ مَعَ الْغُرَمَاءِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا أَفْلَسَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ مَا بِيَدِهِ، هَلْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى رَقَبَتِهِ؟ فَقَالَ: مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى رَقَبَتِهِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
: يَأْخُذُونَهُ إِلَّا أَنْ يَفْتَكَّهُ السَّيِّدُ).
(1)
يُنظر: " التهذيب في اختصار المدونة "، للبراذعي (2/ 563)، حيث قال:" قال مالك: وإن عجز المكاتب وعليه دين كان رقيقًا لسيده، وبقي دين الناس في ذمة العبد لا في رقبته ".
(2)
يُنظر: " البيان في مذهب الإمام الشافعي "، للعمراني (8/ 489)، حيث قال:" فإن طلب مَن له دين المعاملة وبدل القرض تعجيزَه وردَّه إلى الرق، لم يكن لهما ذلك؛ لأنه لا فائدة لهما في ذلك؛ لأن حقهما متعلق بما في يده لا في رقبته، بل الحظ لهما في تركه على الكتابة؛ لجواز أن يكتسب مالًا، فيقضي دينهما منه، وإن أراد المولى تعجيزه ورده إلى الرق لما عليه له من مال الكتابة كان له ذلك، فإن عجزه انفسخت الكتابة، وسقط دين المعاملة وبدل القرض ".
(3)
مذهب الأحناف أنه يُباع إن عجز عن قضاء ما عليه من دَيْن.
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (8/ 62)، حيث قال:" فإذا عجز المكاتب وعليه دين لمولاه ودين لأجنبي، فإنه يبطل دين المولى عنه؛ لأن الدين في ذمة العبد لا يثبت إلا شاغلًا ماليته، وماليته ملك مولاه، وهو لا يستوجب الدين في ملكه، ويباع في دين الأجنبي؛ لأنه كان ثابتًا في ذمته وبقي بعد العجز، كذلك فإن العجز لا ينافي وجوب الدين عليه للأجنبي ابتداء إذا وجدت سببه، فكذلك لا ينافي بقاءه، وإذا بقي الدين عليه كان متعلقًا بماليته فيباع فيه ".
(4)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 400)، حيث قال:" وقال سفيان الثوري إذا عجز المكاتب وعليه ديون للناس، فعلى السيد أن يبتدأه إذا أسلمه، وإلا أسلمه إليهم ".
(5)
يُنظر: " مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه "، للكوسج (8/ 4396)، حيث قال:" قال سفيان في مكاتب عجز وعليه دين للناس، إن شاء سيده أدى عنه، وإلَّا سَلَّمه إلى الغرماء. قال أحمد: هو كما قال. قال إسحاق: كما قال ".
والذي عليه المذهب: أنَّ الغرماء ليس لهم سبيل على رقبته ورده إلى الرق إلا في الجناية ودين الكتابة.
انظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 607، 608)، وفيه قال: " (وإن عجز) مكاتب (عن ديون معاملة لزمته تَعَلَّقت بذمته)؛ لأن حكمه كالأحرار، فيتبع بها بعد عتقه؛ لأنه حال يَسَاره، وخرج بديون المعاملة أرش الجناية ونحوها من الإتلافات =
فالجمهور قالوا: لا سبيلَ لهم إلى رقبته، لكن الفريق الآخر قالوا: هو سلعة، والسيد بين أمرين؛ إمَّا أن يُقَدِّمه، وإمَّا أن يُسدد عنه الحق، وهذه حقوق ترتبت عليه، ولا ينبغي أن تضيع هذه الحقوقُ.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنْ عَقْلِ
(1)
الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ يُسَلَّمُ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ سَيِّدُهُ
(2)
. وَالْقَوْلُ فِي: هَلْ يَحَاصُّ سَيِّدُهُ الْغُرَمَاءَ
= وتقدم، (فيقدمها) أي: ديون المعاملة على دين كتابته إن كان (محجورًا عليه) بأن ضاقت ديونه عنها، وسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه فحجر عليه (بعد تعلقها برقبته)، أي: المكاتب (فلهذا إن لم يكن بيده)، أي: المكاتب (مال فليس لغريمه تعجيزه) بعوده إلى الرق، (بخلاف أرش) جناية؛ لتعلقه برقبته، (و) بخلاف (دين كتابة)؛ لأنه بدل رقبته ".
(1)
" عَقَلْتُ القتيلَ، أي: أعطَيْت ديتَه، وعقَلتُ عن القاتل: لزِمَتْهُ دِيَةٌ فأدَّيتُها عنه ". انظر: " المغرب في ترتيب المعرب "، للمطرزي (ص: 323).
(2)
مذهب الأحناف، يُنظر:" تحفة الفقهاء "، لأبي بكر السمرقندي (3/ 117)، حيث قال: " وأمَّا جناية المكاتب فعليه دون سيده ودون عاقلته يُحكم عليه بالأقل من قيمته ومِن أرش جنايته. وهذا الأن الواجب الأصلي هو دفع الرقبة، وتسليم رقبته ممكن في الجملة؛ بأن عجز نفسه فيكون متعلقًا برقبته على طريق التوقف، فلا ينتقل الحق من رقبته إلى ذِمَّته ليؤدي من كسبه إلا بأحد معان ثلاثة: إمَّا بحكم الحاكم بأرشها عليه، أو يصطلحوا على الأرش، أو يموت ويترك مالًا أو ولدًا، وهذا الذي ذكرنا مذهبنا. وقال زفر: إنَّ جنايته تجب في ذمته بمنزلة الحر، وثمرة الخلاف تظهر في مواضع من ذلك: أن المكاتب إذا عجز قبل انتقال الجناية من رقبته يقال للمولى: ادفعه، أو افده، وعند زُفر يُباع في الأرش
…
".
ومذهب المالكية، يُنظر:" المدونة "(4/ 613)، لابن القاسم، حيث قال:" قلت: أرأيت المكاتب إذا جنى جناية، أيقضى عليه بالجناية كلها أم بقدر قيمته؟ قال: يُقضى عليه بجنايته كلها؛ لأنه بمنزلة العبد إذا جنى. فيقال لسيده: أَدَّ الجناية كلها أو أسلمه، فكذلك المكاتب، إما أن يؤدي جميع الجناية، وإلا عجز وخُيِّر سيده في أن يَفْتَكَه بالجناية، أو يُسَلِّمه بها ". وانظر: " المعونة على مذهب عالم المدينة "، للقاضي عبد الوهاب (ص: 1480).
ومذهب الشافعية، يُنظر:" الحاوي الكبير "، للماوردي (8/ 275)، حيث قال: " إذا جنى المكاتب جناية توجب المال تعلقت برقبته، ووجب عليه أن يؤديها من كسبه؛ لأن بقاء الكتابة يمنع من جواز بيعه، وله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يؤدي مال الكتابة ويعتق به، فينتقل ضمان الجناية من رقبته إلى ذمته.=
أَوْ لَا يَحَاصُّ؟ هُوَ مِنْ كِتَابِ (التَّفْلِيسِ)، وَالْقَوْلُ فِي جِنَايَتِهِ هُوَ مِنْ بَابِ (الْجِنَايَاتِ). وَمِنْ مَسَائِلِ الْأَقْضِيَةِ الَّتِي هِيَ فُرُوعٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَصْلٌ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحُكْمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّيِّدِ وَالْمُكَاتَبِ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
: " الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ "، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ
(4)
).
وهي رواية للإمام أحمد
(5)
.
= والحال الثانية: أن يعجل السيد عتقه قبل الأداء، فيكون السيد هو الضامن لأرش جنايته بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية.
والحال الثالثة: أن يَعجز ويرق ".
ومذهب الحنابلة، انظر:" الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل "، للحجاوي (3/ 148)، حيث قال: وإن جنى المكاتب على غيره ولو على سَيِّده تَعَلَّقت برقبته، واستوى الأول والآخر ولو كان بعضها في كتابته وبعضها بعد تعجيزه، وعليه فداء نفسه مقدمًا على الكتابة.
(1)
يُنظر: " شرح مختصر خليل "، للخرشي (8/ 152)، حيث قال:" إذا اختلف السيد مع المكاتب في قدر الكتابة بأن قال: بعشرة. وقال العبد: بل بأقل. فإن القول قول العبد بيمين ". وانظر: " التاج والإكليل "، للمواق (8/ 493).
(2)
يُنظر: " المحيط البرهاني "، لابن مازه (4/ 154)، حيث قال:" وإذا كاتب الرجل عبده، ثم اختلف المولى والعبد في بدل الكتابة، فقال العبد: كاتبني على ألف درهم. وقال المولى: كاتبتك على ألفين. أو اختلفا في جنس المال، كان أبو حنيفة رحمه الله أولًا يقول: يتحالفان، وهو قولهما - أي: أبي يوسف ومحمد - لأنهما اختلفا في بدل عقد، فقال: ويفسخ، فصار كالبيع والإجارة، ثم رجع وقال: القول قول العبد مع يمينه، وعلى المولى البينة ". وانظر: " درر الحكام "، لملا خسرو (2/ 341).
(3)
انظر: " فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب "، لزكريا الأنصاري (2/ 308)، حيث قال:" ولو اختلفا في قدر النجوم أو صفتها تَحَالَفَا ".
(4)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (8/ 168)، حيث قال:" ولو قال لعبده: كاتبتك، ولم يُسَمَ مالًا، وقال العبد: لا، بل على خمسمائة، فإنه ينبغي في قول أبي حنيفة رحمه الله أن يصدق العبد، ولا يصدق في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله ".
(5)
في مذهب أحمد ثلاث روايات. يُنظر: " الكافي "، لابن قدامة (2/ 345)، حيث قال: " وإن اختلفا في قدر مال الكتابة أو أجله، ففيه ثلاث روايات:=
* قوله: (يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ قِيَاسًا عَلَى المُتَبَايِعَيْنِ. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّ الَّذِي حَضَرَ مِنْهَا الْآنَ فِي الذِّكْرِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ مَشْهُورَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَسْمُوع، فَيَنْبَغِي أَنْ تُثْبَتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ إِذْ كَانَ الْقَصْدُ إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ المَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ فُقَهَاءِ الأمْصَارِ مَعَ الْمَسَائِلِ الْمَنْطُوقِ بِهَا فِي الشَّرْع، وَذَلِكَ أَنَّ قَصْدَنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ - كَمَا قُلْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ -: إِنَّمَا هُوَ أَنْ نُثْبِتَ الْمَسَائِلَ الْمَنْطُوقَ بِهَا فِي الشَّرْعِ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا وَالْمُخْتَلَفَ فِيهَا).
وهذا القصد قد بَيَّنه المؤلف في عدة مواضع، وهو أنه لا يَعرض إلا للمسائل الكبرى، وكأنه يقف عند المسائل التي نَطَقَ بها النَّصُّ، أي: جاءت منصوصة في آية أو حديث أو ما هو قريب من النَّصِّ، فيُؤخذ من ظاهر النص، لكنه لا يَدخل في التفريعات الجزئية.
* قوله: (وَنَذْكُرُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا الَّتِي شُهِرَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْمَسَائِلِ هِيَ الَّتِي تَجْرِي لِلْمُجْتَهِدِ مَجْرَى الْأصُولِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهَا).
فالمُجتهد يَعتبر هذه المسائل بمثابة الأصول التي يرد إليها المسائل الصغرى التي تحدث وتقع.
* قوله: (وَفِي النَّوَازِلِ الَّتِي لَمْ يَشْتَهِرِ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ سَوَاءٌ نُقِلَ فِيهَا مَذْهَبٌ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُنْقَلْ).
= إحداهن: القول قول السيد؛ لأنهما اختلفا في الكتابة، فأشبه ما لو اختلفا في عقدها.
والثانية: القول قول المكاتب؛ لأن الأصل عدم الزيادة المختلف فيها.
والثالثة: يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في قدر العوض، فيتحالفان، كما لو اختلفا في ثمن المبيع ".
فقد تنزل نازلة وهذه النازلة لم تشتهر بين الفقهاء، وربما أتى بها البعض، لكنها لم تشتهر، وربما لم يُفْتِ بها أحد، ولا يُعرف فيها قولٌ لأحد، كيف يتعامل معها؟ تُرَدُّ إلى أصول المسائل الأخرى.
* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ تَدَرَّبَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَفَهِمَ أَصُولَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا أَنْ يَقُولَ مَا يَجِبُ فِي نَازِلَةٍ مِنَ النَّوَازِلِ).
وهذه المسائل الكبرى لا يتساوى الناس فيها، لا يتساوى فيها طلاب العلم، ولكن الذي يتقدم فيها هو الذي يُمارس هذه العلوم، هو الذي يشتغل بهذه المسائل الكبرى، هو الذي يَغوص فيها، ويحاول أن يتعرف أسرارها، ويحاول أن يربط الفروع بالأصول، وينبغي أن يكون على معرفة بأصول اللغة العربية وأصول الفقه، وأن يعرف الناسخ والمنسوخ والمُطلق والمُقَيَّد والعام والخاص والنواهي والأوامر؛ فيحتاج أن يُلم بهذه الأصول، فإذا أصبحت عنده هذه الموازين وهذه المقادير يَجتهد في المسائل حتى لا يختل اجتهاده.
ولا بد أن تُعرف أسباب الخلاف، ومن مزايا هذا الكتاب: أنه يذكر أقوال العلماء، يقول: اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فقال فلان كذا، وقال فلان كذا، ولذلك لا بد من النظر في أسباب الخلاف، لماذا اختلفوا؟ فلا بد من معرفة دليل هذا ودليل هذا؛ ومعرفة أسباب الخلاف
(1)
.
* قوله: (أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِ فَقِيهٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، أَعْنِي: فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ بِعَيْنِهَا).
نزلت نازلة
(2)
، فأفتى بها عالم من العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد ووهبهم الله حظًّا وفيرًا من العلم؛ فيَعتبر ذلك قدوة، ويُلحق ما جَدَّ بتلك
(1)
ذكر الخطيب البغدادي بعض أوصاف الفقيه الذي تكون له الفتوى،
يُنظر: " الفقيه والمتفقه " للبغدادي (2/ 330، 331)، ومنها:" أن يكون عالمًا بالأحكام الشرعية، وعلمه بها يشتمل على معرفته بأصولها، وارتياض بفروعها ".
(2)
النازِلة: " الشديدة من شدائد الدَهر تنزِلُ بالناسِ ". انظر: " الصحاح "، للجوهري (5/ 1829).
المسألة، إن كانت من جنسها أخذ بتلك الفتوى، وإن لم تكن فإنه يُخرج على ذلك.
* قوله: (وَيَعْلَمُ حَيْثُ خَالَفَ ذَلِكَ الْفَقِيهُ أَصْلَهُ، وَحَيْثُ لَمْ يُخَالِفْ، وَذَلِكَ إِذَا نُقِلَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَتْوى، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَتْوى، أَوْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ النَّاظِرَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ؛ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْجَوَابِ بِحَسَبِ أُصُولِ الْفَقِيهِ الَّذِي يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِهِ، وَبِحَسَبِ الْحَقِّ الَّذِي يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَنَحْنُ نَرُومُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ نَضَعَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ كِتَابًا جَامِعًا لِأُصُولِ مَذْهَبِهِ وَمَسَائِلِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَجْرِي فِي مَذْهَبِهِ مَجْرَى الْأُصُولِ لِلتَّفْرِيعِ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَمِلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي " الْمُدَوَّنَةِ "، فَإِنَّهُ جَاوَبَ فِيمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ عَلَى قِيَاسِ مَا كَانَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ مَسَائِلِ مَالِكٍ الَّتِي هِيَ فِيهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأُصُولِ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الِاتِّبَاعِ وَالتَّقْلِيدِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْفَتْوَى، بَيْدَ أَنَّ فِي قُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْإِنْسَانُ - كمَا قُلْنَا - رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ إِذَا تَقَدَّمَ، فَعَلِمَ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَعَلِمَ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ مَا يَكْفِيهِ فِي ذَلِكَ، وَلذَلِكَ رَأَيْنَا أَنَّ أَخَصَّ الْأَسْمَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ أَنْ نُسَمِّيَهُ كتَابَ: " بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ وَكفَايَة الْمُقْتَصِدِ ").
وَيعرف هذا الفقيه الذي اجتهد في هذه المسألة؛ هل التزم بالأصول التي وضعها أم لا؟ ونحن نعلم أن كل واحد من الأئمة الأربعة له أصول، وهم مُلتقون في غالبها، كلهم متفقون على أن الكتاب أصل، وأن السنة أصل، وأن الإجماع أصل، وأن القياس
(1)
أصل، لكنهم يَختلفون في
(1)
يُنظر: " المعتمد "، لأبي الحسين البصري (2/ 206) حيث قال:" القياس هو إثبات حكم الأصل في الفرع؛ لاشتراكهما في علة الحكم ".
المصالح المُرسلة
(1)
بسطًا وتَضييقًا
(2)
، وكذلك في الاستحسان
(3)
أخذًا أو ردًّا أو مع تعليل
(4)
، وكذلك الحال في أقوال الصحابة
(5)
.
إذًا هناك أصول ثابتة مستقرة تُتَلَقَّى عن هؤلاء الأئمة، فهذا الإمام الذي اجتهد في هذا المسألة؛ هل تخريجه لها يَلتقي مع أصوله، أو أنه خَرج عن تلك الأصول؟
قال المصنف رحمه الله تعالى:
* * *
(1)
يُنظر: " تيسير التحرير "، لأمير بادشاه (4/ 171)، حيث قال:" (والمصالح المُرسلَة) وهي التي لا يشهد لها أصل بالاعتبار في الشرع ولا بالإلغاء ".
(2)
يُنظر: " الإحكام في أصول الأحكام "، للآمدي (4/ 160)، حيث قال:" وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به، وهو الحق، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه، ولعل النقل إن صح عنه، فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة، بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعًا، لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي، ولا وقوعه قطعي ".
(3)
الاستحسان لغة: هو اعتقاد حسن الشيء. يقال: استحسنت كذا، أي: اعتقدتُه حسنًا، واستقبحتُ كذا، أي: اعتقدته كذلك.
وعند الفقهاء الذين قالوا بالاستحسان: اسم لضرب دليل يعارض القياس الجلي حتى كان القياس غير الاستحسان بعد سبيل التعارض، وكأنهم سموه بهذا الاسم لاستحسانهم ترك القياس، أو الوقف على العمل بدليل آخر فوقه في المعنى المؤثر أو مثله. انظر:" قواطع الأدلة في الأصول "، للسمعاني (2/ 268).
(4)
ذكر الآمدي اختلافهم فيه، ومعناه عند كل طائفة.
يُنظر: " الإحكام في أصول الأحكام "(4/ 156 - 161) فقال: " وقد اختلف فيه؛ فقال به أصحاب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وأنكره الباقون، حتى نقل عن الشافعي أنه قال: مَن استحسن فقد شَرع .... " إلخ.
(5)
أي: في القول بحجية قول الصحابي، وقد سبق القول فيها في الجزء الأول من هذا الكتاب.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى الله عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا)
(كِتَابُ التَّدْبِيرِ)
(1)
والنَّسَقُ الذي صار عليه المؤلفُ هو أيضًا ما صار عليه غيرُه من الفقهاء، فأنتم ترون بأنه تَحَدَّث أولًا عن العتق، وهو أهم هذه الأمور، والتي تأتي في الرتبة الأولى، فما أفضل وأجمل وأحسن من أن يعتق الإنسانُ رقبةً مسلمة! فقد مَرَّ بنا ما يترتب على ذلك من الفضل، وأن الله سبحانه وتعالى يعتق بكل عضو من أعضاء ذلك الذي أَعتق تلك الرقبة يعتق به عضوًا من النار
(2)
؛ اليَد باليَد والرِّجْل بالرِّجل والفَرْج بالفَرْج
(3)
، رأينا ذلك كله وتحدثنا عنه، ثم بعد ذلك أشرنا ضمن كتاب (العِتق) إلى
(1)
التدبير: هو أن يُدَبِّر الرجل عبدَه أو أَمَته، فيقول: هذا حر بعد موتي. انظر: " مفاتيح العلوم "، للخوارزمي (ص: 39). وانظر: " المصباح المنير "، للفيومي (1/ 188).
(2)
أخرجه البخاري (2517)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَيُّما رجل أعتق امرءًا مُسلمًا، استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار "، وأخرجه مسلم (21/ 1509)، بلفظ:" من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل إرب منها إربًا منه من النار ".
(3)
أخرجه أحمد في " المسند "(9441) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل إرب منها إربًا منه من النار، حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرجْل الرجْل، وبالفرج الفرج "، وكذا أخرجه البيهقي في " الكبرى "(6/ 447)، وصححه الألباني في " الإرواء "(1742).
التبعيض، يعني: أن يعتق الإنسان بعضًا من مملوكه، وهذا العتق إن كان هذا الذي أعتق نصيبه غنيًّا يَسري إليه ويؤدي النصف الآخر مثلًا لشريكه ويصبح ذلك حرًّا، ثم بعد ذلك إلى (الكتابة)، وهي خطوة طيبة وطريق إلى الحرية؛ إذا فتح السيد لمملوكه مُقابل عِوَض على أقساط أو نُجُوم أن يدفعها إلى السيد مقابل أن يصبح حرًّا، والآن سينتقل إلى (التدبير)؛ لأنه يأتي في المرحلة الأخيرة، والتدبير وإن كان عتقًا كاملًا، لكن أَخَّره المؤلف؛ لأنه يأتي بعد الحياة، ولذلك ما معنى التدبير؟
التَّدبير: هو تَعليق السيد عتقَ عبده أو مملوكه بعد موته أو بموته، وسُمِّي تدبيرًا؛ لأنه يأتي بعد الوفاة
(1)
، والحياة تَسبق المَمات أو الوفاة؛ فسُمِّي تدبيرًا؛ لأن الحياة يأتى بعدها ودبرها الموت، ولذلك سُمَّيت تدبيرًا، كأن يقول له: أنت حُرٌّ دبر حياتي، أو أنت حر بعد مماتي، أو غير ذلك من العبارات التي يَذكرها الفقهاء، ويرون أن بعضَها صريح في التدبير، وبعضها غير صريح؛ لاحتمال أن يقصد به الوصية، ومهما كان؛ فالوصية والتدبير كل منهما عمل فيه خير، لكن الوصية - كما هو معلوم - جائز للإنسان أن يرجع فيها، أما التدبير فهو محل خلاف بين العلماء، هل له إذا دبر عتق عبده، يعني: جعله دبر حياته - هل له أن يرجع في ذلك أو لا؟ كل ذلك سيعرض له المؤلف إن شاء الله.
* قوله: (والنَّظَر فِي التَّدْبِيرِ: فِي أَرْكَانِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ. وأَمَّا الْأَرْكَانُ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ).
ذكر المؤلف أن النظر في التدبير قد يكون في الأركان، وقد يكون في الأحكام، وهذا التدبير الذي معنا هو أيضًا عمل جليل من الأعمال التي يتركها الإنسان بعد وفاته، فإذا علق عتق مملوكه بعد وفاته فإنه سيجد أثرَ ذلك في أُخراه، وهو أحوج ما يكون هناك، ولذلك سيأتي اختلاف العلماء في عِتق الصبي، يعني: في تدبير الصَّبي، الصبي هل له أن يدبر أو لا؟ سيأتي الكلام في ذلك أيضًا.
(1)
سبق ذكر هذا التعريف.
* قوله: (الْمَعْنَى).
والمعنى قلنا: هو تدبير السيد عتق مملوكه بعد موته أو بموته.
* قوله: (وَاللَّفْظُ، وَالْمُدَبِّرُ).
هو الذي يقوم بالتَّدبير، أي: الذي يُعَلِّق العتق، أي: السيد.
* قوله: (وَالْمُدَبَّرُ).
إنَّما هو المملوك
(1)
.
* قوله: (وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَصِنْفَانِ: أَحْكَامُ الْعَقْدِ، وَأَحْكَامُ الْمُدَبَّرِ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ التَّدْبِيرِ)
(2)
.
وظاهر كلام المؤلف هنا بأنه اعتبر دليل التدبير هو الإجماع، وهذا صحيح، لكننا نقول: إن دليل التدبير هو السنة والإجماع، فقد ثبت في حديث جابر المتفق عليه أن رجلًا من الأنصار أعتق مملوكًا له عن دُبُرٍ، يعني: أعتق مملوكًا له بعد موته، وكان بحاجة إليه؛ فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" مَن يَشتريه مِنِّي "، فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فدفعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الرجل المحتاج، وقال:" أنتَ أَحْوَجُ مِنْهُ "
(3)
. يعني: إلى هذا المبلغ، إذًا أنت بحاجة فكيف
(1)
يُنظر: " القوانين الفقهية " لابن جزي (ص: 251) حيث قال: " وأركانه ثلاثة، وهي: المدبِّر، وهو المالك غير المحجور. والمدبَّر وهو العبد، والصيغة وهي قوله: أنت حر عن دُبُر مني، أو قد دَبَّرتك، أو أنت حر بعد موتي تدبيرًا، أو ما أشبه ذلك، فيعتق بعد موته ". وانظر: " الشرح الصغير "، للدردير (4/ 531).
(2)
يُنظر: " الإقناع في مسائل الإجماع "، لابن القطان (2/ 123)، وفيه قال:" واتفقوا أن تدبير المسلم للعبد المسلم مباح ".
(3)
أخرج البخاري (6716)، ومسلم (997/ 58) عن جابر رضي الله عنه، " أن رجلًا من الأنصار دَبَّر مملوكًا له، ولم يكن له مال غيره، فبلغ النبي رضي الله عنه فقال: " مَن يَشتريه مِنِّي؟ " فاشتراه نعيم بن النحام بثمانمائة درهم، فسمعت جابر بن عبد الله يقول: عبدًا قبطيًّا، مات عام أول ".=
تُدَبِّر ذلك؟ وفي بعض الروايات: أن رجلًا من الأنصار أعتق مملوكًا له عن دبر، وكان محتاجًا إليه وعليه دَيْنٌ، إذًا كانت هناك حاجة، وكان هناك دَيْنٌ
(1)
، وأما الإجماع؛ فقد حكاه كثيرٌ من العلماء؛ منهم ابن المُنذر
(2)
، وابن عبد البر الذي يَنقل عنه المؤلف
(3)
.
* قوله: (وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي، أَوْ يُطْلِقَ فَيَقُولُ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ).
وهذه صريحة في التدبير: أنت حُرٌّ عن دُبُر مني، أو أنت حر دبر حياتي، أو أنت معتق دبر حياتي، أي: عندما يذكر العتق إلى جانب التدبير وعندما ترد لفظة التدبير يكون ذلك صريحًا في التدبير، لكن لو قال له: أنت حر بعد موتي، أو أنت محرر بعد موتي، أو أنت عتيق بعد موتى، أو أنت معتق بعد موتي؛ فهل يكون ذلك تدبيرًا صريحًا أو لا؟ هذا محل خلاف بين العلماء
(4)
.
= واللفظ الذي ذكره الشارح من قوله: " أنتَ أحوجُ منه "، أخرجه أبو داود قريبًا منه (3956)، عن عطاء عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنت أحقُّ بثَمنِه، واللهُ أغنى عنه "، وصححه الألباني في " التعليقات الحسان "(4220).
(1)
أخرجه النسائي (5418) عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال:" أعتق رجل من الأنصار غلامًا له عن دبر، وكان محتاجًا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم، فأعطاه، فقال: " اقْضِ دَيْنَك، وأَنْفِق على عيالِك ". "، وصححه الألباني في " صحيح سنن النسائي "(5418).
(2)
يُنظر: " الإجماع "، لابن المنذر (ص: 123)، حيث قال:" وأجمعوا على أن مَن دَبَّر عبدَه أو أَمَته ولم يرجع عن ذلك حتى مات، فالمدبَّر يخرج من ثلث ماله بعد قضاء دين، إن كان عليه، وإنفاذ وصايا إن كان أوصى بها، وكان السيد بالغًا جائز الأمر، أن الحرية تَجب له إن كان عبدًا، ولها إن كانت أَمَة بعد وفاة السيد ".
(3)
يُنظر: " الكافي في فقه أهل المدينة "، لابن عبد البر (2/ 982)، حيث قال:" المدبر: هو العبد يقول سيده: أنت حر عن دُبُر مني. أو: أنت حر بعد موتي. أو أنت عتيق بعد موتي. يريد بذلك كله التدبير، وليس لمن دبر عبده أن يبيعه، ولا يهبه، ولا يرجع في تدبيره، سواء كان عليه دين أو لم يكن ".
(4)
مذهب الأحناف: أن هذا من ألفاظ التدبير.=
* قوله: (وَهَذَانِ هُمَا عِنْدَهُمْ لَفْظَا التَّدْبِيرِ بِاتِّفَاقٍ)
(1)
.
= يُنظر: " تحفة الفقهاء "، لأبي بكر السمرقندي (2/ 277)، حيث قال: " التدبير المطلق ثلاثة أنواع:
أحدها: صريح اللفظ، مثل أن يقول: دَبَّرتك. أو: أنت مدبر؛ لأن المدبر اسم لمن يعتق عليه عن دُبُر موته. فقوله: أنت مدبر بعد موتي. وأنت حر بعد موتي. سواء، وكذلك إذا قال: أعتقتك بعد موتي، أو أنت حر بعد موتي، أو أنت حر عن دبر موتي.
والثاني: بلفظة اليمين، بأن قال: إن مت فأنت حر، أو إن حَدَث لي حدث فأنت حر، ونحو ذلك.
والثالث: لفظة الوصية بأن قال: أوصيتُ لك برقبتك، أو أُوصي له بثلث ماله ".
وفي مذهب المالكية. لا بد من ذكر لفظ التدبير، فإن لم يذكر فهي وصية ما لم ينوِ التدبير.
يُنظر: " المنتقى شرح الموطأ "، للباجي (6/ 150)، حيث قال:" ومن قال: فلان حر يوم أموت. فقد قال مالك في " المجموعة " إن أراد التدبير فهو مدبر، وإلا فهي وصية، وروى عنه ابن وهب أنَّ كل عتق بعد الموت فهو وصية، حتى ينص على التدبير، فيقول: عن دُبُر مني، وقال أشهب: إن قال ذلك في غير إحداث وصية فهو تدبير ". وانظر: " الشامل في فقه الإمام مالك "، لبهرام (ص: 15).
ومذهب الشافعية كالأحناف من أن كل ذلك من ألفاظ التدبير.
يُنظر: " البيان "، للعمراني (8/ 382)، حيث قال:" فإذا قال لعبده: أنت حر، أو محرر، أو عتيق، أو معتق بعد موتي، كان ذلك صريحًا في التدبير لا يفتقر إلى النية؛ لأنه لا يحتمل غير العتق بالموت. وإن قال: دَبَّرتك، أو أنت مدبر ونوى عتقه بموته، صار مدبرًا. وإن أطلق ذلك من غير نية، فالمنصوص في التدبير: أنه صريح فيه، ويعتق بموت سيده ".
ومذهب الحنابلة كالأحناف والشافعية.
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (12/ 593، 594)، حيث قال:" (وصريحه) أي: التدبير (لفظ عتق و) لفظ (حرية معلقين بموته)، أي: السيد، كأنت حر بعد موتي، أو أنت عتيق بعد موتي ونحوه، (ولفظ تدبير) كأنت مدبر، (وما تصرف منهما)، أي: العتق والحرية المعلقين بموته ".
(1)
قال ابن القطان: " واتفقوا أن من قال لعبده أو أَمَته اللذين يملكهما ملكًا صحيحًا: أنت مدبر - أو أنت مدبرة - بعد موتي؛ أنه تدبير صحيح ". انظر: " الإقناع في مسائل الإجماع "(2/ 123).
كما أنه يقال: لفظ الطلاق الصريح: أن يأتي بلفظ الطلاق، فعندما يذكر طلاقًا ويقول: طلقت ونحو ذلك، فهذا يعتبر صريحًا، أيضًا هنا؛ لأن التدبير هو مُشابه للوصية في أمور كثيرة؛ لأن الوصية قد يكون فيها عتق، والوصية إنما يأتي تنفيذها بعد الموت، يعني: أن يوصي الإنسان بأمر أو بأمور بعد موته، وهذا التدبير يكون بعد الموت
(1)
، فهل عندما يقول مثلًا: أنت حر بعد موتي، أو محرر أو عتيق بعد موتي، هل هذه وصية أو هو تدبير؟
(2)
.
* قوله: (وَالنَّاسُ فِي التَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ عَلَى صِنْفَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ بِأَنْ جَعَلَ التَّدْبِيرَ لَازِمًا، وَالْوَصِيَّةَ غَيْرَ لَازِمَةٍ)
(3)
.
(1)
ومن وجوه الشبه أيضًا: أن التدبير جار مجرى الوصية، فلا يخرج إلا من الثلث. انظر:" حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني "(2/ 232).
(2)
سبق ذكر الخلاف بينهم.
(3)
مذهب المالكية: التفريق بينهما.
يُنظر: " المنتقى شرح الموطأ "، للباجي (6/ 148)، حيث قال:" والفرق بين التدبير والوصية ما ذكرناه من أن عقد الوصية عقد جائز، وعقد التدبير عقد لازم، يبين ذلك أنه لا خلاف في الرجوع عن الوصية بالقول والفعل، ولا خلاف بيننا وبين من أجاز الرجوع عن التدبير: أنه ليس له ذلك بالقول، فكذلك ليس له ذلك بالفعل ".
وكذا هو مذهب الأحناف. يُنظر: " النتف في الفتاوى "، للسغدي (1/ 414)، حيث قال:" ولا رجوع له عن التدبير في قول أبي حنيفة وأصحابه وأبي عبد الله ".
وفي مذهب الشافعية قولان. وهذان القولان مبنيان على اختلافهم في التدبير هل هو وصية، أو عتق بصفة؟ على قولين. فإذا قلنا: هو عتق بصفة لم يجز الرجوع فيه إلا بأن يخرجه من ملكه.
يُنظر: " اللباب في الفقه الشافعي "، للمحاملي (ص: 417)، وانظر:" نهاية المطلب في دراية المذهب "، للجويني (19/ 310).
وفي مذهب الحنابلة روايتان، يُنظر:" الروايتين والوجهين "، لأبي يعلى ابن الفراء (3/ 117)، حيث قال:" فإن أراد الرجوع في التدبير يقول: لا يزيل الملك، مثل أن يقول: رجعت في التدبير، أو رفعته، أو أزلته، أو أبطلته، فهل له ذلك أم لا؟ على روايتين، نقلهما الخرقي، أجودهما: ليس له ذلك، فعلى هذا يكون التدبير عتقًا بصفة. والثانية: له ذلك، فعلى هذا يكون وصية، وقد أومأ إليه في رواية ابن منصور ".
والحقيقة: أن السُّنَّة فَرَّقت بينهما، فقد عَرفنا الوصية ودرسناها تفصيلًا، ومن أشهر الأدلة التي وردت فيها حديث سعد بن أبي وقاص، وتعلمون قصته، ونعرف أنه عاش بعد ذلك خمسة وأربعين عامًا، لكنه خَشِي؛ فسأل رسولَ الله أن يُوصي بثلثي ماله، فقال:" لا "، قال: الشَّطر؟ فقال: " لا ". قال: الثلث؟ قال: " الثَّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ "
(1)
، ورأينا اختلاف العلماء، وأن القليل منهم أوصله الثلث
(2)
، ومنهم مَن قال: الرُّبع
(3)
، ومنهم من قال: الخُمُس، وأبو بكر أوصى بالرُّبع
(4)
، ومنهم من أوصى بالخمس، وعرفنا الوصية وما يتعلق بها، والتدبير: هو عِتق في الحقيقة يكون بعد الموت، وهو ألزم مما يتعلق بالوصية
(5)
.
* قوله: (وَالَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا
(6)
اخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ: هَلْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ؟ أَوْ حُكْمَ التَّدْبِيرِ؟ (أَعْنِي: إِذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي)، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَالَ وَهُوَ صَحِيحٌ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ).
(1)
أخرجه البخاري (2742)، ومسلم (1628)، ولفظه:" قال سعد بن أبي وقاص: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا "، قال: قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: " لا، الثُّلُث، والثُّلُث كثير
…
". ".
(2)
كعلي بن أبي طالب، أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "(6/ 227) عن علي رضي الله عنه، قال:"لأن أوصي بالخمس أحبُّ إلىَّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليَّ من أن أوصي بالثلث، ومَن أوصى بالثلث لم يترك ".
(3)
كعمر بن الخطاب، أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (9/ 66): "
…
وأوصى عمر بالربع ".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(9/ 66) عن قتادة، أن أبا بكر رضي الله عنه، أوصى بالخمس، وقال:" أوصي بما رضي الله به لنفسه ثم تلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} " ..
(5)
سمعت كل هذه المسائل.
(6)
وهم الأحناف والمالكية، وأحد قولي الشافعية، ورواية عن الحنابلة، كما سبق.
يعني: قال الإمام مالك: إذا قال: أنت حر بعد موتي، أو أنت عتيق بعد موتي، أو محرر بعد موتي، إلى غير ذلك من الألفاظ التي لم يَرد فيها لفظ التدبير، يقول: الظاهر أنه وصية.
* قوله: (وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَيَجُوزُ رُجُوعُهُ فِيهَا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّدْبِيرَ)
(1)
.
فيرجع فيه إلى نيته، فلما يقول: أنت حر بعد موتي، نحن نرجع إلى نيته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" إنَّما الأعمال بالنيات "
(2)
، فما الذي يحدد ذلك المحتمل؟ هي النية، فماذا قصد بقوله: أنت حر بعد موتي؟ هل قصد بذلك أنه مدبر، أو اعتبر ذلك وصية؟
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(3)
.
وأحمد
(4)
، وهو قول للشافعي
(5)
.
(1)
يُنظر: " الفواكه الدواني "، للنفراوي (2/ 136)، حيتَ قال:" إذا قال المالك في صحته: أنت حر بعد موتي، ولم يقيد بيوم، ولا شهر، أو يوم أموت، ونحو ذلك من كل ما كان المعلق عليه يحتمل الوقوع وعدمه، فهذا وصية لا تدبير إلا أن يريد به التدبير ".
(2)
أخرجه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907/ 155).
(3)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (7/ 180)، حيث قال:" رجل قال لمملوكه: أنت حر بعد موتي، أو إذا مت، أو إن مت، أو متى مت، أو إذا حدث بي حدث، فهذا كله واحد، وهو مدبر؛ لأنه علق عتقه بمطلق موته، فإنه وإن أطلق الحدث، فالمراد به الموت عادة ".
(4)
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 593)، حيث قال:" (وصريحه) أي: التدبير (لفظ عتق و) لفظ (حرية معلقين بموته)، أي: السيد: كأنت حر بعد موتي، أو أنت عتيق بعد موتي، ونحوه ".
(5)
هذه الصيغة عند الشافعية من الألفاظ الصريحة التي تفيد التدبير، فلا أعلم قولًا ثانيًا في المذهب.
يُنظر: " فتح الوهاب شرح منهج الطلاب "، لزكريا الأنصاري (2/ 297)، حيث قال في ألفاظ التدبير، وهو: " إمَّا (صريح)، وهو ما لا يحتمل غير التدبير (كأنت حر) =
* قوله: (الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ التَّدْبِيرُ).
لأنه قال: أنت حر بعد موتي، فهو تكلم بلفظ الحرية، والحرية إنما هي دلالة على العتق، وقال: بعد موتي، وتقييده ذلك ببعد الموت إشارة إلى أن هذا هو التدبير، فهذا هو قول جمهور العلماء، أبو حنيفة، وكذلك الإمام أحمد، وهو قول للإمام الشافعي
(1)
.
* قوله: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ. وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(2)
. وَبُقُولِ أَبِي حَنِيفَةَ).
فالمالكية لم يبقوا مع إمامهم
(3)
. وابن القاسم مع مالك، وأشهب وهو من أصحاب الإمام مالك مع أبي حنيفة.
* قوله: (قَالَ أَشْهَبُ، قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ قَرِينَة تَدُلُّ عَلَى الْوَصِيَّةِ)
(4)
.
= بعد موتي، (أو أعتقتك)، أو حررتك (بعد موتي، أو دبرتك، أو أنت مدبر)، أو إذا مت فأنت حر، وذكر كاف كأنت من زيادتي، (أو كناية)، وهي ما يحتمل التدبير وغيره؛ (كخليت سبيلك)، (أو حبستك) بعد موتي ".
(1)
سبق أن في المذهب قولًا واحدًا في هذه الصيغة.
(2)
يُنظر: " المدونة "، لابن القاسم (2/ 511)، حيث قال:" سئل مالك عن رجل قال لعبده: أنت حر بعد موتي، وهو صحيح، فأراد بيعه بعد ذلك قال: قال مالك: يُسأل، فإن كان إنما أراد به وجه الوصية، فالقول قوله، وإن كان إنما أراد به التدبير منع من بيعه، والقول قوله في الوجهين جميعًا. قال ابن القاسم: وهي وصية أبدًا حتى يكون إنما أراد به التدبير ".
(3)
بل المالكية على قول الإمام مالك كما سبق.
يُنظر: " شرح مختصر خليل "، للخرشي (8/ 133)، حيث قال:" إذا قال لعبده في صحته: أنت حر بعد موتي، ولم يُقيد لا بيوم ولا بغيره، فهي وصية غير لازمة ".
(4)
يُنظر: " التهذيب في اختصار المدونة "، للبراذعي (2/ 540)، حيث قال:" قال أشهب: إن قال هذا في غير إحداث وصية لسفر، أو مما جاء أنه لا ينبغي لحد أن يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة، فهو تدبير إذا قال ذلك في صحته ".
فقد توجد قرينة، كأن يكون إنسان على فراش الموت فيأتي عبده يخدمه فيقول له: أنت حر بعد موتي؛ فيُؤخذ من هذا قرينة تُرجح أن المراد الوصية.
* قوله: (مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَفَرٍ، أَوْ يَكُونَ مَرِيضًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَكْتُبَ النَّاسُ فِيهَا وَصَايَاهُمْ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ - وَهُوَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ
(1)
- هَذَا اللَّفْظُ هُوَ مِنْ أَلْفَاظِ صَرِيحِ التَّدْبِيرِ).
وقد رأينا أن أبا حنيفة وأحمد أيضًا قالا بذلك، وكان الأولى أن يقول المؤلف: وهو أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
* قوله: (وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُفَرِّقُ
(2)
، فَهُوَ إِمَّا مِنْ كنَايَاتِ التَّدْبِيرِ، وَإِمَّا لَيْسَ مِنْ كنَايَاتِهِ وَلَا مِنْ صَرِيحِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ كِنَايَاتِهِ وَلَا مِنْ صَرِيحِهِ، وَمَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّدْبِيرِ وَيَنْوِيهِ فِي الْوَصِيَّةِ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ كنَايَاتِهِ
(3)
. وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقْبَلُ هَذَا الْعَقْدَ هُوَ كُلُّ عَبْدٍ صَحِيحِ الْعُبُودِيَّةِ).
والمدبر الذي يَنطبق عليه التدبير هو العبد المملوك حقًّا، أي: صحيح العبودية بأن يكون رقُّه صحيحًا، أي: بأنَّه مملوك لسيده
(4)
.
(1)
الذين لا يُفَرقون هم الشافعي في قول له، وأحمد في رواية عنه، فهؤلاء يقولون بأنه من الألفاظ الصريحة. أما أبو حنيفة وإن كان يفرق بينهما - أي: بين الوصية والتدبير - كمالك، إلا أنه وافقهما في أن هذا اللفظ المذكور هو من الألفاظ الصريحة، كما سبق.
(2)
وهو المالكية والأحناف، وأحد قولي الشافعي، ورواية عن أحمد، كما سبق.
(3)
الصواب: أن المالكية مِن بين هؤلاء هم الذين فَصَّلوا هذا التفصيل، أما الباقون فذهبوا إلى أنه من صريح اللفظ، كما سبق.
(4)
يُنظر: " الإقناع في مسائل الإجماع "، لابن القطان (2/ 120)، حيث قال: " واتفقوا =
* قوله: (أَنَّ الَّذِي يَقْبَلُ هَذَا الْعَقْدَ هُوَ كُلُّ عَبْدٍ صَحِيحِ الْعُبُودِيَّةِ لَيْسَ يَعْتِقُ عَلَى سَيِّدِهِ، سَوَاءٌ مُلِكَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ).
والذي يَعتق على سَيّدِه واحدٌ من أمرين: إمَّا الشريك إذا أعتق نصيبه، فإنه يسري إلى نصيب الآخر، أو أن يكون ذا رحم، وقد رأيتم الاختلاف في ذلك، فلا خلاف بينهم في الوالد، فإنه يعتق، وقد جاء فيه نص، وأيضًا جاء نص بذي رَحِم.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَنْ مَلَكَ بَعْضًا فَدَبَّرَهُ: فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ).
وهذه المسألة فيها ثلاث أقوال للعلماء: قول للإمام مالك، وقول للإمام أبي حنيفة، وقول للإمامين الشافعي وأحمد، وقد بدأ بقول مالك، ثم سيُتبعه بقول أبي حنيفة، ثم يختم ذلك بقول الإمامين الشافعي وأحمد، والمراد هنا بعضه، يعني: إنسانًا مَلَك أو كان يَملك جزءًا من عبدٍ فدَبَّر نصيبَه؛ فما الحكم بالنسبة للباقي، هل يقوم عليه؟ كالحال بالنسبة للتبعيض:" مَن أَعْتَق شركًا له في عبد قُوم عليه "، أو أنه يبقى ذلك الجزء الذي لم يدبر رقيقًا منه؛ فيتحرر جزء منه، ويبقى الجزء الآخر؟ فالعلماء اختلفوا في ذلك.
* قوله: (وَلِلَّذِي لَمْ يُدَبِّرْ حَظَّهُ خِيَارَان؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَقَاوَمَاهُ).
أي: يَتَفَاوَضَا في قِيمته.
* قوله: (فَإِنِ اشْتَرَاهُ الَّذِي دَبَّرَهُ كَانَ مُدَبَّرًا كلَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ
= على أن من أعتق عبده أو أَمَته اللذين ملكهما ملكًا صحيحًا، وهو حر بالغ عاقل غير محجور ولا مكره، وهو صحيح الجسم عتقًا بلا شرط، ولا أخذ مال منهما ولا من غيرهما عنهما، وهما حَيَّان مقدور عليهما، وليس عليه دين يُحيط بقيمتهما أو بقيمة بعضهما، وهما غير مرهونين ولا مؤاجرين ولا محرمين أنَّ عتقه جائز ".
انْتَقَضَ التَّدْبِيرُ. وَالْخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ يُقَوِّمَهُ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ
(1)
، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُدَبِّرْ ثَلَاثَ خِيَارَاتٍ: إِنْ شَاءَ اسْتَمْسَكَ بِحِصَّتِهِ).
فالشريك له أن يَتمسك بحِصَّته.
* قوله: (وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي قِيمَةِ الْحِصَّةِ الَّتِي لَهُ فِيهِ).
فيُعطيه فرصة للعمل، وَيسعى في الكسب حتى يُحَرِّر نفسه.
* قوله: (وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا عَلَى شَرِيكِهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا).
وذلك بالنسبة للمباعض.
* قوله: (وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدَ
(2)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ).
وأحمد.
* قوله: (يَجُوزُ التَّدْبِيرُ، وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ).
التدبير جائز، ويتحرر هذا الجزء الذي دُبِّر، سواء كان نصفه أو ثلثه
(1)
يُنظر: " الكافي في فقه أهل المدينة "، لابن عبد البر (2/ 984)، حيث قال:" ولو دَبَّر أحد الشريكين في عبد حِصَّته منه، فإن شاء شريكه يُسلمه لمدبره ويأخذ منه نصف ثمنه كان ذلك له، ويكون مدبرًا كله، فإن أبي أجْبِرا جميعًا على أن يتقاوماه، فإن صار للذي دَبَّر نصيبه منه، كان مدبرًا كله، وإن صار إلى شريكه بطل تدبيره، وقد قيل: يكون نصفه مدبرًا، والأول قول مالك ".
(2)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (7/ 186)، حيث قال: عبد بين اثنين دَبَّره أحدهما، فعلى قول أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- يتدبر نصيبه خاصة، ثم إن كان المدبر موسرًا فللآخر خمس خيارات: إن شاء دبر نصيبه لقيام ملكه في نصيبه، وإذا فعل ذلك صار مدبرًا بينهما، وإن شاء أعتق نصيبه لقيام ملكه في نصيبه أيضًا، وإن شاء استسعى؛ لأن نصيبه صار كالمحتبس عند المدبر حيث تعذر عليه التصرف في نصيبه بالبيع وغيره، وإن شاء ضمن صاحبه؛ لأنه أفسد عليه نصيبه وهو موسر، كما لو أعتقه، وإن شاء تركه على حاله، وإن كان المدبر معسرًا فليس للساكت حق التضمين، وله الخيار بين الأشياء الأربعة.
أو ثلاثة أرباعه، فيبقى حرًّا، ويبقى الجزء الباقي رقيقًا.
* قوله: (وَيَبْقَى الْعَبْدُ الْمُدَبَّرُ نِصْفُهُ أَوْ ثُلُثُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَاتَ مُدَبِّرِهُ عُتِقَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجُزْءُ، وَلَمْ يُقَوَّمِ الْجُزْءُ الْبَاقِي مِنْهُ عَلَى السَّيِّدِ عَلَى مَا يُفْعَلُ فِي سُنَّةِ الْعِتْقِ)
(1)
.
لأن الصورة اختلفت الآن، وتَحَوَّل المال للورثة، وكان فيما مضى إذا أعتق إنسان جزءًا من مملوكه وله شريك، فإنه يُقَوَّم عليه إذا كان قادرًا؛ لأنه في الحياة والمال ماله، ولذلك جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبيَّن ما للإنسان ما أكله وأبلاه وأنفقه في هذه الحياة الدنيا
(2)
، أما ما يُبقيه فهو ما للورثة، ولذلك سأل:" أَيُّكم أَحَبُّ إليه مال وارثه من ماله؟ ". قالوا:
(1)
يُنظر يْر مذهب الشافعية: " التهذيب في فقه الإمام الشافعي "، للبغوي (8/ 365)، حيث قال: ولو كان بين رجلين عبد، قد دَبَّر أحدهما نصيبه صَحَّ، ولا يسري التدبير إلى نصيب الآخر، بدليل أنه لا يمنع التصرف، كما لو علق أحدهما عتق نصيبه بصفة لا يسري التعليق إلى نصيب الآخر. وإذا مات من دبر نصيبه وعتق نصيبه، لا يسري إلى نصيب الشريك؛ لأنه لا سراية على الميت ". وانظر:" روضة الطالبين "، للنووي (12/ 194).
وفي مذهب الحنابلة: لا يسري التدبير بمجرده وإنما يسري بموته، وكذا إذا أعتق نصيبه وكان موسرًا.
ينظر: " مطالب أولي النهى " للرحيباني (4/ 729)، حيث قال:" (ومن دبر شقصًا) من رقيق مشترك (لم يسر) التدبير (إلى نصيب شريكه)، ولو كان موسرًا (بمجرده)، أي: التدبير؛ لأن التدبير تعليق للعتق بصفة، فلم يسر كتعليقه بدخول الدار، ويفارق الاستيلاد، فإنه أكد كما تقدم، (بل) يسري تدبيره (بموته)، أي: موت مدبره، فإن مات عتق نصيبه إن خرج من الثلث بالتدبير، وتقدم حكم سرايته إلى نصيب شريكه في الباب قبله، (فإن أعتقه)، أي: المشترك المدبر بعضه (شريكه) الذي لم يدبر (سرى) إن كان موسرًا (إلى) الشقص (المدبر مضمونًا) على المعتق بقيمته ".
(2)
لعل الشارح يقصد الحديث الذي أخرجه مسلم (2958/ 3)، عن مطرف، عن أبيه، أنه قال:" أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}، قال: " يقول ابن آدم: مالي، مالي. قال: وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لَبِست فأبليت، أو تَصَدَّقت فأمضيتَ؟ ".
ولا أحد منا يا رسول الله
(1)
. إذًا الإنسان يحب مالَه، وإذا كان يحب ماله، فعليه أن يُقَدِّم شيئًا في هذه الحياة الدنيا ليجد ذلك مُدَوَّنًا له في كتابه، وهو لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
* قوله: (لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ صَارَ لِغَيْرِهِ وَهُمُ الْوَرَثَةُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنَ الأحْكَامِ لَا مِنَ الْأَرْكَانِ، (أَعْنِي: أَحْكَامَ الْمُدَبَّرِ)، فَلْتَثْبُتْ فِي الأحْكَامِ. وَأَمَّا الْمُدَبِّرُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا تَامَّ الْمِلْكِ).
فلا يكون هذا العبد مملوكًا لغيره، كأن يكون غصبه أو استولى عليه، أو ادَّعى بأنه مملوك، وهو ليس بمملوك
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (6442) عن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَيُّكم مال وَارثه اْحبُّ إليه من ماله؟ ". قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال:" فإنَ مالَه ما قَدَّم، ومال وارثه ما أَخَّر ".
(2)
يُنظر في مذهب الأحناف: " بدائع الصنائع "، للكاساني (4/ 116)، حيث قال:" لا يصح التدبير إلا في الملك، سواء كان منجزًا، أو معلقًا بشرط، أو مضافًا إلى وقت، أو مضافًا إلى الملك، أو سبب الملك، نحو أن يقول لعبد لا يملكه: إن ملكتك فأنت مدبر، أو إن اشتريتك فأنت مدبر ".
وفي مذهب المالكية، يُنظر:" المدونة " لابن القاسم (2/ 389). قال في الرجل يقول: " كل مملوك لي حر. وله مكاتبون ومُدَبَّرون وأنصاف مماليك، قال: قلت: أرأيت إن قال: كل مملوك لي حر، وله مماليك ولمماليكه مماليك، قال مالك: لا يعتق عليه إلا مماليكه، ويترك مماليك مماليكه في يدي مماليكه الذين أعتقوا يبيعونهم رقيقًا لهم ".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:" التهذيب في فقه الإمام الشافعي "، للبغوي (5/ 564) - قال فيمن دبر عبدًا لا يملكه -:" لو قال: كل عبدٍ أملكه فهو مدبر، أو قال العبد بعينه: إن ملكتك فأنت مدبر. فمَلَكَه، لا يكون مدبرًا ".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:" الهداية على مذهب الإمام أحمد "، للكلوذاني (ص: 370) حيث قال: " وإذا قال: كل عبد أملكه فهو حر، دخل في قوله مكاتبه ومدبره وأم ولده وشقص له في عبد وعبيد عبده التاجر ".
* قوله: (غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ).
لأنه قد يكون عليه دَيْنٌ، والدَّيْنُ قد استغرق ماله، والغرماء يطالبون بذلك الحق، فلا ينبغي أن يذهب ويُدَبِّر بعض ممالكه أو يعتقهم؛ لأن هذا فيه حق للآخرين
(1)
.
* قوله: (سَوَاءٌ اَكَانَ صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا).
فإنه ينبغي أن يكون في تدبيره ومنعه أيضًا مرتبط بذلك القيد.
(1)
قصد المؤلف رحمه الله من المحجور: المحجور عليه لسفه وسوء تصرف، لا ما ذهب إليه الشارح من حُجر عليه لِدَيْنٍ أَحَاطَ به.
فنذكر أولا مذاهبهم فِيمن حُجِر عليه لسفهه، ثم سيتكلم المؤلف بعد ذلك عمَّن أحاط الدَّيْنُ به.
في مذهب الأحناف يجوز: يُنظر: " الجوهرة النيرة على مختصر القدوري "، للحدادي (1/ 243)، حيث قال:" (وإن أعتق عبدًا نفذ عتقه)؛ لأن العتق لا يلحقه الفسخ بعد وقوعه، والأصل عند أبي يوسف ومحمد أن كل تصرف يؤثر فيه الهزل يؤئر فيه الحجر، وما لا فلا؛ لأن السفيه في معنى الهزل من حيث إن الهازل يخرج كلامه لا على نهج كلام العقلاء؛ لاتِّباع هواه، والعتق مما لا يؤثر فيه الهزل فيصح منه، وكذا لو دَبَّر عبده صَحَّ تدبيره؛ لأن التدبير لا يلحقه الفسخ كالعتق ".
وفي مذهب المالكية لا يجوز: يُنظر: " القوانين الفقهية "، لابن جزي (ص: 251)، حيث قال في أركان التدبير: " أركانه وهي ثلاثة: المدبر، وهو المالك غير المحجور
…
".
وفي مذهب الشافعية: لا يجوز. انظر: " الحاوي الكبير "، للماوردي (8/ 121)، حيث قال:" فإذا تقرر ما ذكرنا من أحكام ملكه وأحكام تصرفه كان حكم تدبيره وعقوده محمولة عليها، فإن فعلها بعد ثبوت الحجر عليه كانت باطلة مردودة، فلا يصح منه عتق، ولا تدبير، ولا كتابة، ولا هبة، ولا بيع؛ لأن تصرف المحجور عليه مردود ".
وفي مذهب الحنابلة: يجوز. يُنظر: " الكافي في فقه الإمام أحمد "، لابن قدامة (2/ 113)، حيث قال:" ولا ينفذ عتقه؛ لأنه إتلاف لماله. وحكي عنه: أنه يصح؛ لأنه مكلف مالك، أشبه الراهن. ويصح تدبيره ووصيته؛ لأنه محض مصلحة، لتقربه به إلى الله تعالى عند غناه عن المال ". وانظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 160).
* قوله: (وَإِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ).
فلا يكون الدَّيْنُ الذي عليه يستغرق جميع ماله؛ فيقوم فيخرج ذلك إضرارًا بأصحاب الحقوق.
* قوله: (لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ
(1)
. وَاخْتَلَفُوا فِي تَدْبِيرِ السَّفِيهِ).
والمراد بالسفيه هو الصَّغير، هل الصغير يجوز تدبيره أو لا؟ وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، فذهب الإمام أحمد فيها قولًا واحدًا
(2)
، وهو أيضًا رواية للإمام مالك
(3)
، وأيضًا قول للإمام
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"المبسوط"، للسرخسي (25/ 56)، حيث قال:" وإذا أذن لعبده في التجارة فلحقه دَيْنٌ كثير، ثم دَبَّره مولاه فالغرماء بالخيار إن شاؤوا ضمنوا المولى القيمة، وإن شاؤوا استسعوا العبد في جميع الدَّيْن؛ لأن قبل التدبير كان لوصولهم إلى حقهم طريقان بيع الرقبة في الدَّين أو الاستسعاء، والمولى بالتدبير فَوَّت عليهم أحد الطريقين، وهو استيفاء الدَّيْن من المالية ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" شرح الزرقاني على مختصر خليل "(8/ 259)، حيث قال:" (و) بطل التدبير (باستغراق الدَّيْن له)، أي: للمدبر، أي: لقيمته (وللتركة)، ويبطله الدين السابق واللاحق إن مات السيد، وأما في حياته فإنما يبطله السابق. (و) إن لم يستغرق الدين جميع ذلك أو لا دين ولم يحمل جميعه بطل (بعضه)، أي: التدبير (بمجاوزة الثلث) ". وانظر: " الكافي في فقه أهل المدينة "، لابن عبد البر (2/ 982).
ومذهب الشافعية، يُنظر:" الحاوي الكبير "، للماوردي (6/ 106) حيث قال فيمن رهن مدبرًا:" فإن كان الدين محيطًا بجميع قيمته بِيع جميعه في قضاء الدين، ولم يعتق شيء منه بالتدبير ".
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:" الإقناع "، للحجاوي (2/ 153)، حيث قال:" وإن لم يكن للسيد ما يفضل عن وفاء الدين بيع المدبر في الدَّيْن، وبطل التدبير ".
(2)
يُنظر: " كشاف القناع "، للبهوتي (3/ 453)، حيث قال:" (ويصح تدبيره ووصيته)؛ لأنه لا ضرر عليه فيهما ويأتي، (ولا) يصح (عتقه، و) لا (هبته، و) لا (وقفه)؛ لأنه تبرع، وليس من أهله ".
(3)
يُنظر: " التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب "، لخليل (8/ 405)، حيث قال في كلام ابن الحاجب: " المدبر شرطه: التمييز لا البلوغ؛ فينفذ من المميز، ولا ينفذ من السفيه. قال: وما ذكره من نفوذه من المميز هو مفهوم كلام ابن شاس. ابن راشد =
الشافعي
(1)
، فذهبوا إلى أنه يجوز للصبي المميز الذي بلغ عشر سنوات أن يُدَبِّر، يعني: لو دَبَّر مملوكَه لصَحَّ ذلك.
وذهب الإمام مالك في الرواية الأخرى عنه
(2)
، وكذلك أيضًا الإمام الشافعي في القول الآخر إلى أنه لا يجوز تدبيره
(3)
.
ما دليل الذين أجازوا؟ وما دليل الذين منعوا؟
أما الذين أجازوا ذلك فإنهم قالوا: قد أُثِر ذلك عن عمر رضي الله عنه، فإن غلامًا من الأنصار أوصى لأخوين له من غسان بأرض له، وقد قُوِّمت تلك الأرض فبلغت قيمتها ثلاثين ألفًا، فرُفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجاز الوصية
(4)
.
وقيل: إن هذا الغلام إمَّا ابن عشر أو اثني عشرة سنة، إذًا هو بعدُ لم يَبلغ.
= وابن عبد السلام وغيرهما، وهو كذلك. وفي " النوادر ": أن تدبير مَن لم يبلغ الحلم لا يجوز بخلاف وصيته. والفرق بين التدبير والوصية: أن الوصية إنما تخرج بعد موته، وله الرجوع، والتدبير ليس له الرجوع فيه ".
(1)
يُنظر: " التنبيه في الفقه الشافعي "، للشيرازي (ص: 145)، حيث قال:" التدبير: قُربة يعتبر من الثلث يَصح مِن كل مَن يجوز تصرفه، وفي الصبي المميز والمبذر قولان أحدهما: يصح تدبيره. والثاني: لا يصح ".
قال الرافعي: " والأظهر: المنع، وبه قال المزني ". يُنظر: " العزيز لشرح الوجيز "(13/ 415).
(2)
يُنظر: " المنتقى شرح الموطأ "، للباجي (6/ 155)، حيث قال:" وأما تدبير السفيه فقد قال عبد الملك: إن دبر السفيه خادمًا كثيرة الثمن لم يجز تدبيره، ويجوز في قليلة الثمن. وقال أشهب: لا يجوز تدبير المولى عليه، ولا يبطل ".
(3)
سبق ذكره.
(4)
أخرجه الدارمي في " سننه "(3330): " أن غلامًا بالمدينة حضره الموت ووَرثَتُه بالشام، وأنهم ذكروا لعمر أنه يموت، فسألوه أن يُوصي، فأمره عمر، أن يُوصي، فأوصى ببئر يقال لها: بئر جشم، وأن أهلها باعوها بثلاثين ألفًا، ذكر أبو بكر: أن الغلام كان ابن عشر سنين، أو ثنتي عشرة "، وكذا أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(9/ 78).
وأيضًا أُثِر عن عمر رضي الله عنه بأن غلامًا أوصى لابنة عمه، وكان صغيرًا في سن العاشرة، فأيضًا بلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأقر الوصية وأجازها
(1)
.
قالوا: وقياس - أيضًا - على وصية السفيه، فالسفيه وكذلك - أيضًا - الصغير تجوز أيضًا وصيته، وكذلك أيضًا يجوز هنا تدبيره
(2)
.
وتحديد ذلك بعشر سنين استدلال بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مُرُوا أبناءكلم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لِعَشر، وفَرِّقوا بينهم في المَضاجع "
(3)
، قالوا: فإنه اعتبر سِنَّ العَشر، وأناط التأديب به الذي هو الضَّرب، إذًا هو مُهَيَّأ لذلك، قالوا: وأمَّا الجارية فإنها إذا بلغت تسعًا، واستدلوا بالأثر المَروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" إذا بلغت الجاريةُ تِسع سنين فقد بلغت "
(4)
.
وأما الذين منعوا ذلك فقالوا: إنَّ هذا السفيه - وكذلك الصغير - لا يجوز تدبيره؛ لأنَّ هذا إنما هو إخراج للمال، فهو كالمجنون، قالوا: وقياس على العِتق، فكما أنه لا يجوز له أن يعتق، كذلك لا يجوز له أن يُدَبِّر
(5)
. فما الجواب عن رأي الآخرين؟
(1)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 762)، والبيهقي في " معرفة السنن والآثار "(14/ 436).
(2)
قال ابن قدامة: " وهذه قصة انتشرت فلم تُنكر، ولأنه تصرف تمحض نفعًا للصبي، فصح منه، كالإسلام، والصلاة، وذلك لأن الوصية صدقة يحصل ثوابها له بعد غناه عن ملكه وماله، فلا يلحقه ضرر في عاجل دنياه ولا أُخراه، بخلاف الهبة والعتق المنجز، فإنه يَفوت من ماله ما يحتاج إليه، وإذا ردَّت رجعت إليه، وها هنا لا يرجع إليه بالرد، والطفل لا عقل له، ولا يصح إسلامه ولا عباداته ". انظر: " المغني "(6/ 216).
(3)
أخرجه أبو داود (495)، وحسنه الألباني في " مشكاة المصابيح "(1/ 181).
(4)
أخرجه الترمذي موقوفًا من حديث عائشة (2/ 409)، قال الذهبي:" في إِسنَاده مَجَاهِيل ". انظر: " تنقيح التحقيق "(2/ 178)، وضعفه الألباني. انظر:" إرواء الغليل "(185).
(5)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (7/ 184)، حيث قال: " وتدبير الصبي والمجنون باطلٌ أطلقا أو أضافا إلى ما بعد البلوغ والإفاقة؛ لأن حقيقة الإعتاق منهما باطلة، =
أجابوا عن ذلك، قالوا: أمَّا قياسه على المجنون فإنه لا يقاس على المجنون؛ لأنه ليس مجنونًا، ولكن الأقرب أن يقاس على السفيه، فله أن يُوصي، يعني: يقاس عليه في حالة الوصية، فإنه يُوصي
(1)
.
رَدَّ عليهم الفريق الذين أجازوا قالوا: هناك فرق بين العِتق وبين التَّدبير، فالتدبير منع من العتق حال الحياة؛ لأنه بذلك سيضيع المصلحة على نفسه إذا أعتق في حياته سيخرج من ملكه، وهذا هو العتق المنجز، وهو لن يستفيد، وضيَّع مالًا على نفسه، وضيع خدمة مملوكه له، لكنه عندما يُعلق ذلك بعد موته فهو سيستفيد منه بعد مماته، ولا يتضرر منه في الحياة الدنيا؛ لأن هذا الذي علق عتقه بالموت سيجد ثمرة ذلك بعد وفاته؛ لأن هذا سيكتب في سِجل حسناته، لكن العتق في الحياة هو ضَيَاع لماله، ولذلك مُنع منه
(2)
.
* قوله: (فَهَذ هِيَ أَرْكَانُ هَذَا الْبَابِ).
أي: المسائل التي ذكرها المؤلف واختلف العلماء فيها، إنَّما هي أصول هذا الباب.
* قوله: (وَأَمَّا أَحْكَامُهُ فَأُصُولُهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَجْنَاسٍ خَمْسَةٍ؛ أَحَدُهَا: مِن مَاذَا يَخْرُجُ الْمُدَبَّرُ، هَلْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوِ الثّلثِ؟).
= فإيجاب حق الحرية بالقول كذلك ". وانظر: " شرح مختصر خليل "، للخرشي (8/ 133)، " بحر المذهب "، للروياني (8/ 264).
(1)
سبق ذكر هذا.
(2)
يُنظر: " الحاوي الكبير "، للماوردي (8/ 137، 138)، وقد ذكر شيئًا من أدلة القائلين بالجواز وردهم على الفريق الآخر، فقال:" ولأن مَن صَحَّ تمييزه لم يمنع الحجر عليه من تدبيره، ووصيته كالسفيه، ولأن تدبيره أحفظ لماله في حياته، وأبلغ في صلاحه بعد موته. فأما ارتفاع القلم عنه فهو مرفوع حتمًا عليه؛ لسقوط التكليف عنه، وهو غير مرفوع فيما له؛ لأنه تصح صلاته وصيامه فهو مثاب فيما له، وغير معاقب فيما عليه، وإمضاء تدبيره ووصيته من حقوقه التي يثاب عليها، فَصَحَّ وإن لم يصح منه تعجيل العتق؛ لما ذكرنا من الفرق ".
فهذا المدبر بعد أن يُنتهى منه ويُدَبِّره صاحبه ثم يموت، والميت له أن يُوصي - وهذه الوصية في حدود، فلا تتجاوز الثلث - فهل يكون ذلك ضمن الثلث، أو يكون من رأس المال؟
* قوله: (وَالثَّانِي: مَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ مِمَّا لَيْسَ يَبْقَى فِيهِ (أَعْنِي: مَا دَامَ مُدَبَّرًا). وَالثَّالِثُ: مَا يَتْبَعُهُ فِي الْحُرِّيَّةِ مِمَّا لَيْسَ يَتْبَعُهُ. وَالرَّابِعُ: مُبْطِلَاتُ التَّدْبِيرِ الطَّارِئَةُ عَلَيْهِ. وَالْخَامِسُ: فِي أَحْكَامِ تَبْعِيضِ التَّدْبِيرِ. الْجِنْسُ الأوَّلُ: فَأَمَّا مِن مَاذَا يُخْرَجُ الْمُدَبَّرُ إِذَا مَاتَ الْمُدَبِّرُ؟).
يعني: هل يخرج من ثلث المال الذي هو حق للموصي، أو يخرج من رأس المال؟ ورأس المال أصبح بعد الثلث أو بعد الربع الذي أوصى به هو حَقٌّ للورثة، فهل يُعتبر كالدَّيْن؟ من ماذا يخرج؟ أَمِن رأس المال؛ كتكفينه وتغسيله وغير ذلك، أو أن ذلك يكون من الثلث؟
* قوله: (فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنَ الثُّلثِ)
(1)
.
ويقصد الجمهور هنا: جماهير العلماء من الصَّحابة والتَّابعين
(2)
،
(1)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 437) حيث قال:" وأما قول مالك في آخر هذه المسألة: إن وسعهم الثلث، فعلى هذا القول - أيضًا - جمهور العلماء: أن المدبر في الثلث. وهو قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابهم، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور. وروي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه، وبه قال شريح، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، وابن شهاب الزهري، وحَمَّاد بن أبي سليمان ".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(9/ 137)، عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال:" المدبر من الثلث ".
وأخرج - أيضًا - عن الثوري، عن أشعث، عن الشعبي:" أن عليًّا جعل المدبر من الثلث ".
وأخرج كذلك في " المصنف "(9/ 138) عن الزهري، وقتادة، وحماد، قالوا:" المُدبر في الثلث ".=
وفيهم الأئمة الأربعة المَعروفون: أبو حنيفة
(1)
، ومالك
(2)
، والشافعي
(3)
، وأحمد
(4)
.
* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مِنْ رَأْسِ المَالِ، مُعْظَمُهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ)
(5)
.
ونسب ذلك إلى عبد الله بن مسعود من الصحابة، وإلى مسروق
= وأخرج عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز، قالا:" المدبر وصية ". يعني: يخرج من الثلث.
(1)
يُنظر: " مختصر القدوري "(ص: 177)، حيث قال:" فإذا مات المولى عتق المدبر من ثلث ماله إن خرج من الثلث ".
قال الحدادي: " وذلك لأن التدبير وصية؛ لأنه تَبرع مضاف إلى وقت الموت، وَيستوي فيه التدبير المطلق والمقيد في أنه يعتق من الثلث، وكذا إذا زال ملك المولى عن المدبر بغير الموت فإنه يعتق؛ مثل: أن يرتد ويلحق، فيحكم بلحاقه؛ لأنه كالموت ". انظر: " الجوهرة النيرة على مختصر القدوري "(2/ 106).
(2)
يُنظر: " المقدمات الممهدات "، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 194) حيث قال:" والمدبر على وجهين: مدبر في الصحة. ومدبر في المرض. وهما جميعًا - على مذهب مالك - من الثلث ".
(3)
يُنظر: " الحاوي الكبير "، للماوردي (8/ 105)، حيث قال:" قيمة المدبر معتبرة من الثلث، لا من رأس المال، فإن احتمله الثلث، وإلا عتق منه قدر ما احتمله الثلث، ورق باقيه للورثة، وهذا قول جمهور الصحابة، والتابعين والفقهاء، وسواء دبره في صحته، أو في مرضه ". وانظر: " فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب "، لزكريا الأنصاري (2/ 300).
(4)
يُنظر: " مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه "، للكوسج (8/ 4311)، حيث قال:" قلت: المدبر من الثلث؟ قال: من الثلث. قال إسحاق: كما قال ". وانظر: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (2/ 595).
(5)
لم أقف على مذهب الظاهرية في المطبوع مِن كتب ابن حزم. وممن نقل ذلك عنهم ابن جزي، حيث قال:" إذا مات السيد أخرج المدبر من ثلثه، فإن ضاق الثلث عنه عتق منه مقدار ثلث المال، وبقي سائره رقيقًا، وقال أهل الظاهر: يخرج من رأس المال ". انظر: " القوانين الفقهية "(ص: 251). وانظر: " عيون المسائل "، للقاضي عبد الوهاب (ص: 614)، و" الحاوي الكبير "، للماوردي (8/ 105).
ومجاهد والنَّخعي وسعيد بن جبير من التَّابعين، لكن بعض العلماء تَكَلَّم في نسبة ذلك إلى عبد الله بن مسعود، وقالوا: لم يَصِحَّ سندُه إلى عبد الله بن مسعود، وإنما هو موقوف على مسروق الذي جاء عن طريقه ذلك
(1)
.
إذًا، هو صَحَّ عن مسروق
(2)
، وعن مجاهد، وعن إبراهيم النَّخعي، وعن سعيد بن جبير، وكل هؤلاء من التابعين
(3)
.
* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنَ الثُّلُثِ شَبَّهَهُ بِالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ
(4)
. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " الْمُدَبِّرُ مِنَ الثُّلُثِ " إِلَّا أَنَّهُ أَثَرٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ)
(5)
.
وهذا الحديث الذي ذُكِر: " المُدَبَّرُ مِن الثُّلُثِ " هو من رواية علي بن
(1)
يُنظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 437)، حيث قال:" وقالت طائفة: المدبر من رأس المال، روي ذلك عن عبد الله بن مسعود، إلا أنه لم يروه إلا جابر الجعفي، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن مسروق، عن ابن مسعود، وإنما هو عن مسروق صحيح، لا عن ابن مسعود ".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(9/ 137) عن الثوري، عن ابن أبجر، عن الشعبي، عن شريح:" أنه كان يجعل المدبر من الثلث، وأن مسروقًا كان يخرجه فارغًا من غير الثلث ".
(3)
يُنظر: " الإشراف على مذاهب العلماء "، لابن المنذر (7/ 54)، حيث قال:" وفيه قول ثان: وهو أن المدبر يخرج من رأس المال، هذا قول مسروق وسعيد بن جبير ". وانظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (7/ 438).
(4)
يُنظر: " البيان في مذهب الإمام الشافعي "، للعمراني (8/ 383)، حيث قال:" دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المدبر من الثلث "، ولأنه تبرع يلزم بالموت، فكان من الثلث كالوصية ".
(5)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (7/ 437) حيث قال: " وروى فيه حديثا مسندًا انفرد به عليُّ بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المُدَبَّر مِن الثُّلث "، وهذا خطأ من عليِّ بن ظبيان لم يتابع عليه، وإنما يرويه غيره عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وقوله: " علي بن ظبيان كان قاضيًا ببغداد، تركوه لهذا الحديث وشبهه، فهو عندهم متروك الحديث ".
ظبيان، وعليٌّ هذا تُكُلِّم فيه، وأُخِذَت عليه أمور، ومنها: رواية هذا الحديث، وقالوا: إنه حصل كلام بينه وبين الشافعي، وأنه قال: إنَّما رفعتُه ظَنًّا أنه مَرفوع، ولكنه موقوف، وهذا الحديث أخرجه الإمام الشافعي في كتابه "الأم"
(1)
، كذلك أخرجه البيهقيُّ
(2)
، وابنُ ماجه
(3)
، وأخرجه ابنُ أبي شَيبة عن طريق آخر، لكنه مرسل
(4)
.
إذًا، الصَّحيح بأن هذا حديث مَوقوف على عبد الله بن عمر، فيكون قولًا لعبد الله بن عمر، وليس حديثًا مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شَكَّ أن هناك فرقًا؛ لأنه لو كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان نصًّا في هذا الأمر، لكن مع ذلك أخذ جماهير العلماء أنه يؤخذ من الثلث، وما جاء -أيضًا- في "مُصَنَّف ابن أبي شيبة" عن طريق أبي قلابة، وهو مرسل أيضًا.
* قوله: (وَعَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ
(5)
. وَمَنْ رَآهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ شَبَّهَهُ بِالشَّيْءِ يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ فِي حَيَاتِهِ؛ فَأَشْبَهَ
(1)
يُنظر: "الأم"، للشافعي (8/ 18)، وفيه:" (قال الشافعي): أخبرنا علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "المُدبر من الثُّلث". (قال الشافعي): قال علي بن ظبيان: كنت أخذته مرفوعًا، فقال لى أصحابي: ليس بمرفوع، هو موقوف على ابن عمر، فوقفته. (قال الشافعي): والحُفَّاظ الذين يحدثونه يقفونه على ابن عمر، ولا أعلم مَن أدركت من المُفتين اختلفوا في أن المدبر وصية من الثلث".
(2)
أخرجه البيهقي في "السُّنن الكبرى"(10/ 529).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2514)، وقال الألباني:"الحديث موضوع". انظر: "ضعيف الجامع"(5918).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(11/ 278)، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"المدبر من الثلث".
(5)
قال الذهبي: "علي بن ظبيان
…
، وقال البخاري: منكر الحديث. ومما انفرد به عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، قال:"المُدبر من الثُّلث". انظر: "تاريخ الإسلام"(4/ 1169).
الْهِبَةَ
(1)
. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مِنَ الثُّلُثِ فِي فُرُوعٍ، وَهُوَ إِذَا دَبَّرَ الرَّجُلُ غُلَامًا لَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَأَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ عَنْهُ غُلَامًا آخَرَ).
فانتبهوا إلى هذا، وهو أنه دَبَّر في صحته، وأعتق في مرضه غلامًا، فيكون العتق أسبق؛ لأن العتق فيه تنجيز
(2)
، فإذا قال السيد لعبده: أنت حر. أنت عتيق، انتهى الأمر، إذًا هذا نُسَمِّيه تنجيزًا، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثٌ جِدَّهُنَّ جِدٌّ، وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلَاق والعتاق والرجعة"
(3)
، فذكر منها العتاق، وهو من الأمور التي ليس فيها هزل، فإذا أعتق بلفظ صريح أعتق عليه، لكن هنا جاء التدبير قبله، وهو في صحته، وجاء العتق في المرض؛ فأيُّهما يُقَدَّم عندما يَضيق الأمر، أَيُقدم الذي عتقه مُنجز، أو يُقدم الذي تدبيره تقدم واقعًا على إعتاق ذلك؟
* قوله: (فَضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقَدَّمُ الْمُدَبَّرُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ
(4)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
.
(1)
ذكر ابن قدامة تعليل هذا الفريق. يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 343) حيث قال:"وروي عن ابن مسعود، ومسروق، ومجاهد، والنخعي، وسعيد بن جبير، أنه يعتق من رأس المال؛ لأنه عتق فينفذ من رأس المال، كالعتق في الصحة، وعتق أم الولد".
(2)
يُنظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (ص: 58)، وفيه قال:"التَّنجيز: هو التعجيل، يقال: نجز الوعد مِن حَدِّ دَخَل، وأنجزه الوعد، ونجز المال، أي: صار نقدًا، والمناجزة في الحرب: المبارزة والمعاجلة إلى العدو من ذلك".
(3)
أخرجه أبو داود (2194)، وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في "الإرواء"(1826).
(4)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 446)، حيث قال:"قال مالك في رجل أعتق نصف عبد له وهو مريض فبت عتق نصفه، أو بت عتقه كله، وقد كان دَبَّر عبدًا له آخر قبل ذلك، قال: يبدأ بالمدبر قبل الذي أعتقه، وهو مريض، وذلك أنه ليس للرجل أن يَرد ما دَبَّر، ولا أن يتعقبه بأمر يرده به، فإذا عتق المدبر فليكن ما بقي من الثلث في الذي أعتق شطره حتى يستتم عتقه كله في ثلث مال الميت، فإن لم يبلغ ذلك فضل الثك عتق منه ما بلغ فضل الثلث بعد عتق المدبر الأول".
(5)
في مذهب الشافعية قولان: أنه يُقرع بينهما، وبعضهم قال: يُقدَّم المدبر.
يُنظر: "المهذب"، للشيرازي (2/ 374)، حيث قال: "فإن دبر عبدًا وأوصى بعتق آخر=
وأحمد
(1)
.
* قوله: (يُقَدَّمُ الْمُعْتَقُ الْمُبَتَّلُ).
أي: الذي بتل، يعني عِتقه مقطوع به، قال له: أنت عتيق، وذاك مُعلق.
* قوله: (لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ).
فإن الإنسان عندما يعتق إنسانًا عنده، فليس فيه تردد، ولا يستطيع أن يَرجع، لكن إذا دَبَّر عبده يرجع فيه، وبخاصة عند الإمامين الشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
.
= وعجز الثلث عنهما أقرع بينهما، ومن أصحابنا من قال فيه قولًا آخر: أنه يقدم المدبر؛ لأنه يعتق بالموت، والموصى بعتقه لا يعتق بالموت. والصحيح هو الأول؛ لأن لزومهما بالموت فاستويا". وانظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 68)، و"النجم الوهاج في شرح المنهاج"، للدميري (6/ 247).
(1)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (4/ 533)، حيث قال:" (وإن اجتمع العتق والتدبير في المرض) متعلق بالعتق، كما يعلم من "شرح المنتهى" وغيره، فأما التدبير فلا فرق بين أن يكون في الصحة أو المرض، كما تقدم، (قدم العتق) حيث ضاق الثلث عنهما؛ لسبقه، (ومن التدبير) أي: مثله (الوصية بالعتق)، يعني: إذا اجتمع التدبير والوصية بالعتق تَسَاوَيَا؛ لأنهما جميعًا عتق بعد الموت".
(2)
في مذهب الشافعي قولان. يُنظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (8/ 411)، حيث قال: "وإذا باع المدبر وأقبضه، ثم عاد إليه، هل يعود التدبير حتى يعتق بموته؟ هذا يُبنى على أن التدبير وصية أم تعليق عتق بصفة؟ قال في (القديم): هو وصية. وفي (الجديد) قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني: وصية؛ لأنه تبرع يتعلق بالموت، ويعتبر من الثلث كالوصية. والثاني: تعليق عتق بصفة؛ لأنه عتق تعلق بالموت مطلقًا، كما لو علق بموت الغير.
وعلى هذا: إذا رجع عن التدبير بالقول، فقال: رجعت فيه، أو نقضته، أو أبطلته، أو فسخته، هل يبطل؟
إن قلنا: وصية، يبطل، وإن قلنا: تعليق عتق بصفة، فلا يبطل".
(3)
وفي مذهب أحمد روايتان.
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد"، لابن قدامة (2/ 332)، حيث قال: "ولو دبره،=
* قوله: (وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ رَدُّ التَّدْبِيرِ).
والضمير يعود إلى الشافعي، ونحن نقول: مِن أصلهما؛ (الإمامين الشافعي وأحمد)، وإن كان الإمام أحمد له رواية أخرى
(1)
.
* قوله: (وَهَذ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَحَقُّ بِكِتَابِ الْوَصَايَا).
لأنَّها تتعلق بالوصية، ومَرَّ بنا في كتاب (المكاتب) - كما رأيتم- مسائل ذكرها المؤلف بعضها يتعلق بالوصية، وبعضها يتعلق بالجنايات، وبعضها يتعلق بالقضاء، وقال: إنَّها في كتاب (المكاتب) تعتبر فروعًا، وفي كتبها الأصلية تعتبر أصولًا؛ لأن هناك مسائل ثابتة مستقرة في الباب، وهنا واردة عليه؛ فتكون هنا فرعًا وهناك أصلًا. حقيقةً، ما أجمل هذا المسلك الذي يسلكه صاحب هذا الكتاب فهو إلى جانب ما فيه مِن عِلم، فإنه حقيقة يضيف- أيضًا- فوائدَ أخرى، ويُقيم رابطًا قويًّا بين أبواب الفقه أحيانًا.
* قوله: (وَأَمَّا الْجِنْسُ الثَّانِي فَأَشْهَرُ مَسْأَلَةٍ فِيهِ هِيَ: هَلْ لِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَبِيعَ الْمُدَبَّرَ أَمْ لَا؟).
وهذه مسألة مهمة، وهي التي رَمَز إليها قبل قليل، هل يَجوز بيعُ المُدَبَّر؟ وقد عرفنا في كتاب (الوصية) بأنه يجوز للإنسان أن يرجع في وصيته، والهبة رأينا الخلاف فيها: هل للإنسان أن يَرجع في هِبته؟ ورأينا الأحاديث التي حَذَّرت من ذلك، ولكن أبا بكر رضي الله عنه وَهَبَ ابنتَه عائشةَ ذلكم الجُذَاذ
(2)
، ثم رجع عنه؛ لأنها لم تَحُزْه
(3)
، وبعض العلماء قَيَّده
= ثم قال: قد رجعت في تدبيري، أو أبطلته، لم يبطل؛ لأنه تعليق بصفة، فأشبه تعليقه بدخول الدار. وعنه: يبطل؛ لأنه تصرف معلق بالموت يعتبر من الثلث، فأشبه الوصية".
(1)
سبق ذكرها.
(2)
جذذت الشيء: "كسرتُه وقطعتُه. والجُذاذُ والجِذاذُ: ما تقطَّعَ منه، وضمُّه أفصح من كسره". انظر: "الصحاح"، للجوهري (2/ 561).
(3)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 752) عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: "إنَّ أبا بكر الصديق كان نَحَلَها جاد عشرين وسقًا=
بالحيازة، إلى آخر ما مَرَّ بنا، هنا هل يجوز لمن دَبَّرَ عبدًا أن يرجع عن ذلك؟ وهذه مسألة فيها خلاف
(1)
، وكل الخلاف يَدور حول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوردته لكم، وهو حديث جابر، وأنه دليل من السُّنَّة عن التدبير
(2)
.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ
(5)
: لَيْسَ لِلسَّيّدِ أَنْ يَبِيعَ مُدَبَّرَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(6)
، وَأَحْمَدُ
(7)
، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(8)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(9)
).
= من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال:"والله يا بُنية ما من الناس أحد أحب إليَّ غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتُك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك. وإنما هو اليوم مال وارث، وإنَّما هما أخواك، وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله".".
(1)
قال بالجواز الشافعيُّ في أحد قوليه، وأحمد في رواية، كما سبق.
(2)
سيذكره المؤلف.
(3)
يُنظر: "الإشراف على نُكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 996)، وفيه قال:"لا يجوز بيع المدبر، ولا نقض تدبيره".
(4)
يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (7/ 179)، حيث قال:"قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: إنه لا يجوز بيع المدبر".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 268)، حيث قال:"ولا يجوز بيع المدبر ولا الرجوع فيه عند مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح بن حي".
(6)
يُنظر: "المهذب"، للشيرازي (2/ 376)، حيث قال:"ويملك المولى بيع المدبر؛ لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دُبُر منه، ولم يكن له مال غيره، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فبِيع بسبعمائة، أو بتسعمائة".
(7)
يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (4/ 535)، حيث قال:" (وللسيد بَيع المدبر ولو) كان (أَمَة أو) كان البيع لبيع (في غير الدَّيْن و) له- أيضا- (هبته ووقفه) ورهنه ونحوه، قال أبو إسحاق الجوزجاني: صَحَّت أحاديث بِيع المدبر باستقامة الطرق".
(8)
يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (7/ 529)، حيث قال:"وبيع المدبر والمدبرة، حلال لغير ضرورة، ولغير دَيْن لا كراهة في شيء من ذلك. ويبطل التدبير بالبيع، كما تبطل الوصية ببيع الموصى بعتقه، ولا فرق. وهو قول الشافعي وأبي سليمان".
(9)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 449)، حيث قال: "قال أبو عمر: يقول=
وقد ذكر المؤلف الإمام أحمد؛ لأنَّ ابن عبد البر ذَكَرَه، فكلُّ ما ذكره ابنُ عبد البر ذكره أيضًا.
* قوله: (لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَبِيعَ مُدَبَّرَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُبَاعُ إِلَّا مِنْ رَجُلٍ يُرِيدُ عِتْقَهُ)
(1)
.
فالأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- انقسموا إلى قسمين:
فالفريق الأول قال: لا يُباع المدبر، وهؤلاء لهم دليل
(2)
.
والفريق الثاني -أيضًا- وهم الشافعي وأحمد قالوا: يُباع، ودليلهم نَصٌّ في المسألة
(3)
.
أما الفريق الأول فدليلهم ليس نصًّا، أقصد من الكتاب والسُّنَّة، بل هم جاؤوا بدليل عام من الكتاب وأوردوا -أيضًا- قياسًا، والفريق الآخر جاء بدليل نص في المسألة، وأوردوا -أيضًا- قياسًا مع ذلك الدليل.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُرُوعٍ، وَهُوَ إِذَا بِيعَ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، فَقَالَ مَالِكٌ: يَنْفُذُ الْعِتْقُ
(4)
. وَقَالَ
= الشافعي في بيع المدبر بقول أحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وهو قول عمرو بن دينار وعطاء".
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 448)، حيث قال:"وقال الأوزاعي: لا يُباع المدبر إلا نفسه، أو مِن رجل يعجل عتقه وولاؤه لمن اشتراه ما دام الأول حيًّا، فإذا مات المولى رجع الولاء إلى ورثته".
(2)
وهي آية العقود، والقياس على أم الولد، وهم الأحناف والمالكية كما سيأتي.
(3)
وهو حديث جابر الذي في "الصَّحيحين" من بيع النَّبي مُدَبَّرًا، والقياس على الوصية من جواز الرجوع فيها، كما سيأتي.
(4)
يُنظر: "منح الجليل"، لعليش (9/ 430)، حيث قال:" (و) إن بيع المدبر (فسخ) بضم فكسر (بيعه)، أي: المدبر (إن لم يعتق) بضم التحتية وفتح الفوقية، فإن أعتقه المشتري مضى بيعه وإعتاقه، (و) يكون (الولاء له)، أي: لمشتريه الذي أعتقه في حياة سيده".
أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالْكُوفِيُّونَ
(2)
: الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ؛ سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ. وَهُوَ أَقْيَسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عِبَادَةً
(3)
. فَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ بَيْعَهُ مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ).
المتفق عليه.
* قوله: ("أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَاعَ مُدَبَّرًا"
(4)
. وَرُبَّمَا شَبَّهُوهُ بِالْوَصِيَّةِ)
(5)
.
فهذا هو دليلهم القياسي، والشافعيَّة والحنابلة إنَّما استدلوا بنصٍّ صريح بأنَّ رجلًا من الأنصار دَبَّر غلامًا، وفي رواية:"أعتقَ غلامًا له عن دُبُر"، يعني: بعد موته، فاحتاج إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَن يَشتريه
(1)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 83)، حيث قال:"وبيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 447، 448)، حيث قال:"وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة أهل الكوفة: لا يُباع المدبر في دَيْن، ولا في غير دين، في الحياة ولا بعد الممات، وإن باعه سيده في حياته فالبيع مفسوخ، أعتقه المشتري، أو لم يعتقه".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (3/ 98)، حيث قال:"ولنا: رواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المدبر لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث، وهو حر من الثلث"، احتج به الطحاوي وغيره من الأئمة، وروى أبو الوليد الباجي أن عمر رضي الله عنه رَدَّ بيع المدبر في ملأ خير القرون، وهم حضور متوافرون، وهو إجماع منهم: أن بيع المدبر لا يجوز، ولأنه وجد فيه سبب العتق، وقد تعلق بمطلق موت المولى فلا يجوز بيعه؛ كأم الولد، وهذا لأنه يعتق بعد الموت بهذا الكلام، لا بكلام آخر، فجعله سببًا للحال أَوْلَى من جعله سببًا بعد الموت، لقيام الأهلية في الحال، وزوالها بهذا الموت".
(4)
أخرجه البخاري (2403)، ومسلم (997/ 58)، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال:"أعتق رجل غلامًا له عن دُبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله، فأخذ ثمنه، فدفعه إليه".
(5)
وجه الشبه: هو جواز الرجوع في الوصية، فكذا السيد له الرجوع في تدبيره. وهو أحد قولي الشافعي، ورواية عن أحمد، كما سبق.
مِنِّي؟ ". فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، أي: إلى الرجل الأنصاري، وقال له: "أَنت أَحَقُّ بها مِنه"، أي: أنت أولى بهذه القيمة من أن تُدَبِّره؛ لأنك بحاجة، وفي بعض الروايات: لأنَّ عليه دَيْنًا أيضًا، فكان مُحتاجًا وعليه دَيْنٌ
(1)
. فهذا نصٌّ في المسألة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو مَن فعل ذلك قولًا وعَمَلًا وتَعليمًا، لكن هذا الحديث فيه الحاجة، ومن هنا جاءت رواية أخرى عند الحنابلة بتقييد ذلك عند الحاجة
(2)
، لكن المشهور عنهم بأنه يجوز بيعه مطلقًا، كما هو مذهب الشافعية
(3)
، والدليل الآخر عندهم هو دليل مَعقول، وهو القياس؛ لأنَّهم قاسوا ذلك على الوصية، فكما أنه يجوز الرجوع في الوصية وبيع الموصى به، كذلك أيضًا يجوز الرجوع في التدبير.
ووجه الشبه بينهما: أن كل واحد منهما مُعَلَّق تنفيذه بعد الممات، فالوصية إنما تنفذ بعد الموت، وكذلك التدبير، إذًا هما يَلتقيان ويتشابهان،
(1)
أخرجه النسائي (5418)، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال:"أعتق رجل من الأنصار غلامًا له عن دُبُر، وكان محتاجًا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم، فأعطاه فقال: "اقْضِ دَيْنَك، وأنفق على عيالك". "، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(833).
(2)
يُنظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى ابن الفراء (3/ 115)، حيث قال: "هل يجوز بيع المدبر على الإطلاق؟ أم يجوز عند الحاجة إليه وهو إذا كان دين؟ فنقل الميموني قال: قلت له: مَن باعه من غير حاجة إليه على التأويل، فما رأيت أبا عبد الله ينكر ذلك ولا يدفعه. فظاهر هذا جواز بيعه على الإطلاق. وكذلك نقل أبو طالب.
ونقل عبد الله وحنبل: أرى بيع المدبر في الدين إذا كان فقيرًا لا يملك شيئًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع المدبر حين علم أن صاحبه لا يَملك شيئًا غيره. فظاهر هذا أنه لا بيعه مع عدم الحاجة".
(3)
يُنظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"، للمرداوي (7/ 437)، حيث قال:" (وله بيع المدبر وهبته). هذا المذهب مطلقًا بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب؛ منهم: القاضي، والشريف أبو جعفر، وأبو الخطاب، والشيرازي، والمصنف، والشارح، وغيرهم. قال في "الفائق": هذا المذهب. قال في "الفوائد": والمذهب: الجواز. قال الزركشي: هذا المذهب عند الأصحاب".
هذا هو دليل الجمهور ودليل الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
* قوله: (وَأَمَّا عُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ فَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
فدليل المالكية: عموم قول الله تعالى في أول سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1]، فهنا أمر {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، ويقول سبحانه وتعالى:{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152]، قال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وهذا فيه حَضٌّ على الوفاء بالعقد امتثالًا لقول الله تعالى
(3)
.
* قوله: (لِأَنَّهُ عِتْقٌ إِلَى أَجَلٍ، فَأَشْبَهَ أُمَّ الْوَلَدِ أَوْ أَشْبَهَ الْعِتْقَ الْمُطْلَقَ)
(4)
.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (6/ 104)، حيث قال:"وإذا كان كذلك فقد اختلف قول الشافعي في التدبير، فله فِيه قولان؛ أحدهما: وهو قوله في (القديم) وبعض (الجديد): أن التدبير يجري مجرى الوصايا؛ لأنها عطية بعد الموت معتبرة في الثلث، فوجب أن تجري مجرى الوصايا كالموصى بعتقه. فعلى هذا يصح الرجوع فيه بالقول والفعل، مع بقائه في الملك، ومع خروجه منه، كما يصح أن يرجع في الوصايا بالقول والفعل مع بقائها في الملك وخروجها منه".
(2)
يُنظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى ابن الفراء (3/ 117)، حيث قال:"ووجه رواية الجواز: أنها عطية تتنجز بالموت، فكان له الرجوع فيها قولًا كالوصية، ولأنه لو كان عتقًا بصفة لوجب أن يبطل بالموت، كقوله لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فلما لم يبطل علم أنه ليس بعتق بصفة".
(3)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (7/ 45)، حيث قال: و"الدليل على ما نقوله: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، ومن جهة المعنى: أنه عقد عتق استفاد به اسمًا يعرف به، فلم يكن له إبطاله، أصله الكتابة، ودليل آخر: أن هذا عقد عتق ليس له إبطاله بالفعل، أصله: ما ثبت من ذلك لأم الولد".
(4)
وكذا هو عمدة الأحناف، ينظر:"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (8/ 275، 276) حيث قال: "ومن جهة النظر: أنه يستحق العتق بموت مولاه على الإطلاق،=
وقاسوا بأنه يُشبه أُمَّ الوَلد أو العِتق المُطلق، لكن الآخرين قالوا: دليلنا نَصٌّ في المسألة.
* قوله: (فَكَانَ سَبَبُ الِاخْتِلَافِ هَاهُنَا مُعَارَضَةَ الْقِيَاسِ لِلنَّصِّ).
والنَّصُّ: هو حديث جابر الذي عند الفريق الثاني (الشافعية والحنابلة)، والقياس الذي يُعارضه هو قياس ذلك على أُمِّ الولد، أو على العتق المُنجز
(1)
.
* قوله: (أَوِ الْعُمُومِ لِلْخُصُوصِ).
هو عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، فإن هذا عام ليس خاصًّا بالمدبر، والله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، وهذا بالنسبة للمدبر وَرَدَ فيه نَصٌّ
(2)
، فيقولون: هذا مستثنى من العموم.
إذًا الشافعية والحنابلة يقولون: دليلنا نَصٌّ في المسألة، ودليلكم عام، وعندكم قياس، وعندنا قياس هو أقرب من ذلك؛ لأن الوصية هي التي تُشبه التدبير، فهي تُشبهه؛ لأنَّ كل واحد منهم مُعلق تنفيذه بعد الوفاء.
= فأشبه أم الولد لما كانت مستحقة للعتق بموت مولاها على الإطلاق: لم يجز بيعها، كذلك حكم المدبر قياسًا عليها.
ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على وقوع العتق بالموت، فلا يخلو من أن يكون عتقه على معنى العتق المعلق بالشرط، مثل دخول الدار ونحوه، أو عتقًا مستحقًّا قبل الموت، يوجب له حقًّا في رقبته، يمنع من بيعه. فلما وجدنا ذلك نافذًا بعد الموت، ووجدناه لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، ثم مات، فدخل: لم يعتق -علمنا أن عتق المدبر مُستحق قبل الموت، كعتق أم الولد، فمنع بيعه، وفارق العتق المعلق بشرط الدخول ونحوه".
(1)
من أنه لا يجوز بيع المدبر قياسًا على عدم جواز بيع أم الولد، كما سبق. وكذا قياس المدبر على المعتق المنجز من أنه ليس للسيد التصرف فيه بما يمنع حريته من البيع ونحوه.
(2)
وهو حديث جابر من بيع النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قد دُبِّر، فهذا فيه جواز بيعه. وهذا الحديث مخصص لعموم الآية.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُدَبَّرَ أَحْكَامُهُ فِي حُدُودِهِ وَطَلَاقِهِ وَشَهَادَاتِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ)
(1)
.
وكذلك سيأتي بالنسبة لماله وماله لسيده؛ لأنه لا يزال مملوكًا، إذًا هو في كل هذه الأحكام التي ذكرها المؤلف تَجري عليه أحكام المملوكين.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْمُدَبَّرَةِ).
وهذه مسألة مهمة، عندما يُدَبِّر السيد جارية، هذه الجارية أو هذه الأَمَة: هل له أن يَطَأَها في تلك الفترة، يعني: مدة حياته، أو في أي فترة
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"المحيط البرهاني"، لابن مازه (3/ 126)، حيث قال:"لا يتزوج العبد أكثر من ثنتين، الحُرَّتان والأَمَتان في ذلك على السواء، ولا يتزوج أَمَة على حرة عندنا، والمكاتب والمدبر وابن أم الولد بمنزلة العبد، فكما لا يجوز للعبد أن يتزوج بغير إذن المولى، فكذا لا يجوز للمكاتب والمدبر وابن أم (الولد)، وكذلك معتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله".
وفي الشهادة، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (6/ 268) حيث قال:"ولا تقبل شهادة المدبر والمكاتب وأم الولد؛ لأنهم عبيد، وكذا معتق البعض عند أبي حنيفة، وعندهما: تقبل شهادته؛ لأنه بمنزلة المكاتب عنده، وعندهما بمنزلة حر عليه دين".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التلقين"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 207)، حيث قال:"وللسيد مقاطعته على مال يتعجل به إعتاقه، وحاله في جراحه وحدوده وطلاقه وشهادته حال عبد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 101)، حيث قال:"فإذا تقرر جواز التدبير، فالمقصود به: عتق المدبر بموت سيده، وهو ما كان السيد حيًّا باق على رِقِّ سيده، وأحكام الرق جارية عليه في استخدامه، وملك أكسابه وإجارته ونكاحه وطلاقه وشهادته كسائر العبيد، وإن كانت أَمَة فللسيد وطؤها كسائر الإماء".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"، للكوسج (7/ 3606)، حيث قال:"قلت لأحمد: قال سفيان: مدبر خرق ثوبًا، هو دين عليه؟ قال أحمد: المدبر عندنا عبد، هذا مثل جناية العبد، إن شاء سيده فَدَاه، وإن شاء أسلمه بجنايته".
وفي الشهادة، يُنظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (4/ 280) حيث قال: "وتجوز شهادة الأَمَة، فيما تجوز به شهادة النساء؛ لحديث عقبة بن الحارث، وحكم المدبر والمكاتب وأم الولد حكم القن في ذلك؛ لأنهم أرقاء".
شاء، أو لا يجوز له ذلك؛ لأن هذه مُعَلَّق عِتقها بالوفاة؟ فهل يجوز له الوطء، أو لا يجوز؟
هذه مسألة اتفق جماهير العلماء على جوازها، ولم يُخالف في ذلك إلا الإمام الزُّهري، محمد بن شِهاب الزُّهري الإمامُ التابعي، حتى نَقل عن الإمام أحمد أنه قال:"لا أعلم أحدًا كَرِه ذلك غيرَ الزُّهري"
(1)
.
أما جماهير العلماء من الصحابة ومن التابعين، وكذلك -أيضًا- أقوال الأئمة وغيرهم من الفقهاء كلهم قالوا: ذلك جائز، بل ثَبَت ذلك عن عبد الله بن عمر أنه دَبَّر جاريتين، وكان يَطأهما
(2)
.
إذًا لم يخالف في ذلك إلا الزهري، وهذا خلاف يُعتبر ضعيفًا في هذه المسألة.
* قوله: (فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ وَطْئِهَا
(3)
. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 447)، حيث قال:"وكان الزهري يَكره وطء المدبرة، ولا يُجيزه. وقال أحمد بن حنبل: لا أعلم أحدًا كَره ذلك غيرُ الزهري". وانظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (7/ 62).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(9/ 147) عن نافع، أن ابن عمر "دَبَّر جاريتين له، فكان يَطؤهما، ثم أعتق إحداهما فَزَوَّجها نافعًا".
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (2/ 333)، حيث قال:"ولا يَحل له وطء المكاتبة بخلاف أم الولد والمدبرة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"التلقين"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 207)، حيث قال:"وللسيد انتزاع مال مدبره واستخدامه وإجارته ووطؤها إن كانت أَمَة".
وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 126)، حيث قال:"يجوز لسيد المدبرة أن يطأها؛ لما رواه الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه دَبَّر جاريتين له، فكان يطؤهما وهما مُدَبَّرتان، ولأن أحكام الرق على المدبرة جارية، فجرى عليها في حكم الاستمتاع مجرى الرق. ولأنه مالكٌ لمنافعها، والاستمتاع من منافعها كالاستخدام، ولأن سبب العتق في أم الولد أقوى منه في المدبرة، ولم يمنع الإيلاد من الاستمتاع فكان التدبير أولى".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 595)، حيث قال: " (وله) أي: سيد مدبرة (وطؤها وإن لم يشترطه) حال تدبيرها، سواء كان يطؤها قبل=
شِهَابٍ مَنْعُ ذَلِكَ
(1)
، وَعَنِ الْأوْزَاعِيِّ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا قَبْلَ التَّدْبِيرِ
(2)
.
فهناك فرق بين أن يكون يَطأها قبل ذلك، وبين أن يَبدأ ذلك بعد التدبير، وهذا استحسان منه، وإلا ليس هناك ما يَمنع من ذلك؛ لأنها لا تزال مملوكة له.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ تَشْبِيهُهَا بِأُمِّ الْوَلَدِ).
وأم الولد عتقها يكون بعد الوفاة.
* قوله: (وَمَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ شَبَّهَهَا بِالْمُعْتَقَةِ إِلَى أَجَلٍ، وَمَنْ مَنَعَ وَطْءَ الْمُعْتَقَةِ إِلَى أَجَلٍ شَبَّهَهَا بِالْمَنْكُوحَةِ إِلَى أَجَلٍ، وَهِيَ الْمُتْعَةُ)
(3)
.
أي: شَبَّهوا ذلك بنكاح المتعة، لكن لا شَكَّ بأن مذهب الجمهور هو الصَّحيح في هذا، وهو الراجح.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ فِي الْمُدَبَّرِ الْخِدْمَةَ)
(4)
.
= تدبيرها أو لا، روي عن ابن عمر (أنه دَبَّر أَمَتين له، وكان يطؤهما)، قال أحمد: لا أعلم أحدًا كره ذلك غير الزُّهري؛ ولعموم قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وقياسًا على أم الولد".
(1)
سبق تخريجه.
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 447)، حيث قال:"قال الأوزاعي: إن كان يطأها قبل تدبيره لها، فلا بأس أن يطأها بعد ذلك، وإن كان لا يطأها قبل تدبيره لها، فأكره له وطأها".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 447)، حيث قال:"مَن كره وطء المدبرة شبهها بالمعتقة إلى أجل آت لا محالة، والمعتقة إلى أجل قاسها الذي كره وطأها على نكاح المتعة؛ لأنه نكاح إلى أجل، ومن أجاز وطء المدبرة شبهها بام الولد؛ لأنهما لا يقع عتقهما إلا بعد الموت".
(4)
مذهب الأحناف، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 177)، حيث قال:"إذا قال المولى لمملوكه: إذا مت فأنت حر، أو أنت حر عن دُبُر مني، فقد صار مدبرًا، لا يجوز بيعه ولا هبته، وللمولى أن يستخدمه ويؤاجره".
فإذا كان دَبَّر هذا الغلام أو هذه الجارية، فهل له أن يستخدمها ويستفيد منها في خدمة بيته، أو فيما يحتاج إليه في مَزرعته، وفي غير ذلك من الأمور الكثيرة أو لا؟
* قوله: (وَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَنْتَزعَ مَالَهُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، كَالْحَالِ فِي الْعَبْدِ)
(1)
.
= ومذهب المالكية، ينظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 231)، حيث قال:" (وله) أيضًا (أن يستخدمها في بيته)؛ لأنه لذلك أعتقها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج في شرح المنهاج"، للدميري (9/ 308)، حيث قال:"لو خرج سيده للجهاد، فله استصحابه، ليخدمه على العادة، ولا يقاتل قهرًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المبدع في شرح المقنع"، لابن مفلح (6/ 24)، حيث قال في شرط الخدمة:"إذا قال: إن خدمتني سنة فأنت حر، لم يعتق حتى يخدمه، فإن مات سيده فيها، لم يعتق".
(1)
الذين قالوا بأن للسيد أن ينتزع ماله من العبد بنوه على اعتبار أن ما يكتسبه العبد من مال يدخل في ملكه، ولأن العبد وما يملكه لسيده، فله انتزاعه متى شاء. وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة، وقال به أهل الظاهر.
أما من قالوا بأن المال يدخل في ملك السيد، وأن العبد لا يملكه متى لم يملِّكه سيدُه، فالمسألة عندهم غير متصورة. وهو مذهب الأحناف والشافعية.
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 231)، حيث قال:" (و) له أيضًا أن (ينزع مالها) الذي أفادته بهبته مثلًا، وهذا مقيد بـ (بما) إذا (لم يقرب الأجل)، ولا حد في القرب إلا ما يقال قريب".
ومذهب الحنابلة، ئنظر:"الهداية"، للكلوذاني (ص: 330)، حيث قال في اللقطة:"وللسيد انتزاعها قبل الحول وبعده فيسقط ضمانها عن العبد، لكنه إن انتزعها ولم يُعَرِّفها العبد عَرَّفها، فإن كان العبد قد عرفها حولًا ملكها السيد، فإن كان الملتقط مكاتبًا فحكمه حكم الحر، فإن كان مدبرًا أو معلقًا عتقه بصفة أو أم ولد فحكمه حكم العبد". وانظر: "الشرح الكبير على متن المقنع"، لأبي الفرج المقدسي (6/ 372).
ومذهب الظاهرية له أن ينتزعه إلا مِن المكاتب، يُنظر:"المحلى بالآثار"، لابن حزم (8/ 250)، حيتَ قال:"مال العبد له، وجائز للسيد انتزاعه بالنص، فإذا كوتب فلا خلاف أن كسبه له، لا للسيد -ولو كان للسيد انتزاعه لم يتم عتقه أبدًا، فصح أن حال الكتابة غير حاله قبلها، وكان ماله كله حكمًا واحدًا في أنه ليس للسيد أخذه، إذ لم يأت بذلك في المكاتب نص". =
عند جمهور العلماء أن له أن يَستخدمه، وبالنسبة لانتزاع المال القصد من ذلك هو أخذ مال المدبر، يعني: هل مال المدبر لا يَزال مِلكًا للسيد أو لا؟ بمعنى آخر: هل التدبير يُغَيِّر وَصْفًا من أوصاف المدبر؟ ونحن نَعلم بأن المملوك لا يَملك، واختلف العلماء فيما إذا مَلَّكه سَيِّدُه، وهل يَملك المال أو لا؟
(1)
.
= ومذهب الأحناف، يُنظر:"المبسوط"، للسرخسي (5/ 199)، حيث قال:"وكسب العبد والمدبر لمولاه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان"، للعمراني (7/ 244)، حيث قال:"إذا اكتسب العبد مالًا؛ بأن احتش، أو اصطاد، أو عمل في معدن، فأخذ منه مالًا، أو اتهب مالًا، أو أوصي له به، فقبله، فإن العبد لا يملكه ما لم يملكه السيد، بلا خلاف على المذهب، وإنما يدخل ذلك في ملك السيد".
(1)
مذهب الأحناف: أنه لا يملك. ينظر: "التجريد"، للقدوري (5/ 2485)، حيث قال:"قال أصحابنا: العبد لا يملك الأموال وإن ملكه مولاه".
وفي مذهب المالكية: أنه يملك. ينظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (6/ 127)، حيث قال:"والعبد عنده يملك كلما ملكه سيده أو غيره، ولسيده أن ينتزع منه ماله كله، أو ما شاء منه". وانظر: "الإشراف على نُكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 552).
وفي مذهب الشافعية قولان. يُنظر: "البيان"، للعمراني (7/ 244، 245)، حيث قال:"فأما إذا مَلَّكه السيد مالًا، فهل يملكه؟ فيه قولان؛ الأول: قال في (القديم): يملكه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق عبدًا وله مال، فمال العبد له، إلا أن يستثنيه السيد، فيكون له".
والثاني: قال في (الجديد): لا يملك؛ لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ، فنفى قدرته على شيء".
وفي مذهب الحنابلة روايتان. يُنظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى ابن الفراء (1/ 342، 343)، حيث قال:"واختلفت في ملك العبد: هل يملك إذا ملك؟ فقال أبو بكر: في ملك العبد روايتان: إحداهما يملك، فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن ملكه ناقص، ولا على سيده لعدم ملكه. والثانية: ألا يملك، قال: وهو اختياري".
والمذهب: على أنه لا يملك. يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 168)، حيث قال:" (ولا) تجب الزكاة على (عبد؛ لأنه لا يملك بتمليك) من سيد أو غيره، (ولا غيره) أي: غير تمليك، فلا مال له، وكذا الأمة، (وزكاة ما بيده)، أي: الرقيق غير المكاتب (على سيده، ولو مدبرًا، أو أم ولد)؛ لأنه ملك السيد".
فهذا المُدَبَّر لسيدِه هل له أن يَنتزع منه المال؛ لأنه لا يزال مملوكًا، ولا يزال رقيقًا، ولا تأتي حُرِّيته إلا بموت سيدِه الذي عَلق عتقه به.
* قوله: (قَالَ مَالِكٌ: إِلَّا أَنْ يَمْرَضَ مَرَضًا مَخُوفًا فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ)
(1)
.
فالإمام مالك استحسن ذلك كما استحسن الأوزاعي فيما يَتعلق بوطء المُدَبَّرة.
* قوله: (الْجِنْسُ الثَّالِثُ: فَأَمَّا مَا يَتْبَعُهُ فِي التَّدْبِيرِ مِمَّا لَا يَنْبَعُهُ، فَإِنَّ مِنْ مَسَائِلِهِمُ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافَهُمْ فِي وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ الَّذِينَ تَلِدُهُمْ بَعْدَ تَدْبِيرِ سَيِّدِهَا).
فهناك فرق بين الذين تلدهم قبل، وبين الذين تلدهم بعدُ، فالذين تلدهم قبلُ إنَّما هم مِلك للسيد؛ لأنهم أهل له.
* قوله: (مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ).
أبو حنيفة
(2)
، ومالك
(3)
، ..............
(1)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 1484)، حيث قال:"وله انتزاع ماله؛ لأن أحكامه أحكام العبد إلا فيما يقتضي نقض التدبير، وليس في انتزاع ماله نقض التدبير، ويستحسن في مرض السيد المخوف للسيد أن لا ينتزع ماله بقرب عتاقه، فإنه ينتزعه لغيره لا لنفسه".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (4/ 122)، حيث قال:"وولد المدبرة من غير سيدها بمنزلتها لإجماع الصحابة رضي الله عنه على ذلك، فإنه روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ولد المدبرة بمنزلتها يعتق بعتقها ويرق برقها وروي أن عثمان رضي الله عنه خوصم إليه في أولاد مدبرة، فقضى أن ما ولدته قبل التدبير عبد، وما ولدته بعد التدبير مدبر، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد منهم، فيكون إجماعًا، وهو قول شريح ومسروق وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة، ولا يُعرف في السلف خلافُ ذلك".
(3)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 997)، حيث قال: "ولد المدبرة إذا حَدَثوا بعد التدبير تبعٌ لها، خلافًا للشافعي؛ لأنَّ ذلك مبني=
وأحمد
(1)
، وهو قول للإمام الشافعي
(2)
.
* قوله: (وَلَدُهَا بَعْدَ تَدْبِيرِهَا بِمَنْزِلَتِهَا يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا وَيرِقُّونَ بِرِقِّهَا)
(3)
.
فالأئمة الثلاثة لهم قول واحد مُتَّحَد في هذه المسألة، والشافعي له قولان
(4)
، فله قول مع الجمهور، وله قول آخر، ويوافقه فيه جابر بن زيد
(5)
، وهذا قد أُثِر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن ابنه عبد الله
(6)
،
= على أن التدبِر لا يُفسخ، وكل عقد ثبت للأم لا سبيل إلى فسخه، فإن الولد يتبعها فيه، أصله الكتابة". وانظر:"الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 434).
(1)
في مذهب أحمد روايتان. يُنظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى ابن الفراء (3/ 118)، حيث قال: "إذا دبر أَمَتَه وهي حامل؛ فأتت بولد من زوج أو زنا فهو مملوك، وهل يكون بمنزلتها يعتق بالموت أم لا؟ نقل حرب والميموني: أنه بمنزلتها، فقال في رواية الميموني: ما كان من ولد المدبرة قبل أن يدبرها لم يتبعها، إنما يتبعها ما كان بعد ما دبرت، أو كانت حاملًا فوضعت يمبعها. فظاهر هذا أنه يتبعها ويعتق بالموت.
ونقل حنبل: ولد المدبرة إذا لم يثرط يكون للمولى عبدًا. فظاهر هذا أنه لا يتبعها، ولا يعتق بالموت".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 138، 139)، حيث قال: "قد ذكرنا أن ولد المدبرة وولد المعتقة بصفة هل يكون تابعًا لهما أم لا؟ على قولين؛ أحدهما: لا يتبعها في تدبير، ولا عتق، ويكون عبدًا قِثا للسيد، ولا تفريع على هذا القول.
والقول الثاني: أنه يكون تابعًا لهما، فيكون ولد المدبرة تابعًا لأمه في التدبير، وولد المعتقة نصفه تابعًا لأمه في العتق، ولا يتبعها في الصفة".
(3)
سبق تحرير المسألة.
(4)
وكذا للإمام أحمد روايتان، كما سبق.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/ 637)، عن الضحاك بن مخلد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، قال:"ولد المدبرة عبيد". (6/ 166)، وانظر:"بحر المذهب"، للروياني (8/ 257).
(6)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(5/ 241) عن نافع، عن ابن عمر، قال:"ولد المدبرة يعتقون بدَقها، ويرقون برقها".
وقول عمر ذكره ابن قدامة، فقال:"ولنا: ما روي عن عمر، واين عمر، وجابر، أنهم قالوا: ولد المدبرة بمنزلتها". انظر: "المغني"(10/ 353).
وعن جابر بن عبد الله بأنهم قالوا: "ولد المُدَبَّرة بمنزلتها"
(1)
، أي: يأخذون حكمها فإذا عتقت عتقوا، لكن هذا بالنسبة للتدبير
(2)
.
والمراد: أن العتق الذي يكون للأم ينتقل إلى أولادها الذين جاؤوا بعد تدبيرها، ويَسري عليهم.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: "إِنَّهُمْ لَا يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا"
(3)
. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا فِي حَيَاتِهِ أَنَّهُمْ يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا).
وهذا خطأ وقفتُ عليه؛ لأنه معروف فقهًا أنهم لا يعتقون؛ لأن الأم إذا أعتقت عتقًا منجزًا ولها أولاد، فالأولاد مالٌ للسيِّدِ لا يَتبعونه ولكن الكلام الذي مَرَّ بنا في الكتابة ما يحصل بعد الكتابة، أما لو أعتقت في وقت حياة سَيِّدها عتقًا مُنجزًا فإنه في هذه الحالة لا يلحقون بها؛ لأنَّهم مال مُستقل لا يتبعونها في هذا المقام، ولذلك نضيف كلمة "لا" قبل "يُعتقون"، فيصير الكلام:"لا يُعتقون"، وكلامه الذي سيأتي سيُثبت الذي قلنا
(4)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/ 637)، عن جابر، قال:"ما أرى أولاد المدبرة إلا بمنزلة أمهم".
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 124)، حيث قال:"وأجمع الصحابة على أن ما ولدت المدبرة في حال تدبيرها يعتقون بعتقها، ويرقون برقها، وإنما جاء الاختلاط بعدهم".
(3)
ذكر الجويني أن هذا القول هو قياس المذهب، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (19/ 328) حيث قال: "إذا أتت المدبرة بولد بعد التدبير عن نكاحٍ أو سفاحٍ، وتبين حصول العلوق به بعد التدبير، فهل يثبت لولدها حكم التدبير؟ فعلى قولين منصوصين؛ أحدهما: لا يثبت، وهو القياس؛ فإن التدبير عرضةُ الرجوع في قولٍ، وهو بصدد الإبطال بالبيع في قولٍ، وما لا يلزم أو يتطرق إليه إمكان الرفع، فقياس المذهب فيه ألا يتعدى من الأم إلى الولد، اعتبارًا بالرهن؛ فإنه لا يتعدى إلى الولد. والقول الثاني: أنه يثبت التدبير للولد؛ تشبيهًا بالاستيلاد؛ فإن كل واحد منهما يتضمن العَتاقة عند الموت". وانظر: "البيان"، للعمراني (8/ 395).
(4)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 125)، حيث قال:"وأما لو أعتقها سيدها في حياته وحدها لم يعتقوا بعتقها. قاله الجمهور".
* قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُعْتَقُوا فِي الْعِتْقِ الْمُنَجَّزِ).
هذه العبارة جاءت لتُصَحِّح الأولى، ومذهب الشافعي أنهم إذا لم يُعتقوا في العتق المُنجز، وما نقله المؤلف عن الشافعي لا يصلح دليلًا هنا، إلا لأن الجمهور يُوافقونه، ويوافقونه إذا أضفنا:"لا"
(1)
.
* قوله: (فَأَحْرَى أَنْ لَا يُعْتَقُوا فِي الْعِتْقِ الْمُؤَجَّلِ بِالشَّرْطِ. وَاحْتَجَّ -أيضًا- بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهَا بِالْعِتْقِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بَنُوهَا
(2)
. وَالْجُمْهُورُ رَأَوْا أَنَّ لِلتَّدْبِيرِ حُرْمَةً مَا، فَأَوْجَبُوا إتبَاعَ الْوَلَدِ تَشْبِيهًا بِالْكِتَابَةِ)
(3)
.
واحتج الجمهور -أيضًا- بما أُثر عن عمر رضي الله عنه وعن ابنه عبد الله رضي الله عنه وعن جابر وعن عدد من الصحابة، وقالوا: هذا قد اشتهر بين هؤلاء، فكان ذلك حجة
(4)
.
(1)
بل هذا دليل واضح عند الشافعية، وهو دليل إلزامي، فكأنه يريد أن يقول: إذا اتفقتم على أن أولادها بعد عتقها لا يتبعونها، بل يكونون لسيدها، فيلزم من هذا أن يكون ذلك مع التدبير.
(2)
يُنظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (8/ 415)، حيث قال:"لأنه عقد يقبل الفسخ فلا يسري إلى الولد؛ كالرهن، وكما لو أوصى لإنسان بجارية، فأتت بولد لا تسري الوصية إلى الولد".
(3)
يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 1484)، جث قال:"فأما إذا أحدثوا بعد التدبير فلأن كل ولد حدث من نكاح أو زنا، فهو تابع لأمه في الحرية والرق اعتبارًا بولد العبد إذا تزوج الحرة، أو بولد الحر إذا تزوج الأمة، ويُقَوَّمون مع أُمِّهم قيمة واحدة لا يُقَوَّم بعضهم على بعض؛ لتساوي حرمتهم، ولوجوب التدبير لهم".
(4)
سبق ذكر هذه الآثار.
* قوله: (وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ
(1)
وَابْنِ عُمَرَ
(2)
).
وعن عمر وجابر بن عبد الله
(3)
.
* قوله: (وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(4)
، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمَكْحُولٍ
(5)
).
وعمر بن عبد العزيز هو مِن صغار التابعين، وعطاء يُعتبر من كبار أو متوسطي التابعين، ومكحول كذلك.
* قوله: (وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ فَوَلَدُهَا تبَعٌ لَهَا؛ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَحُرٌّ، وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتبَةً فَمُكَاتَبٌ، وَإِنْ كانَتْ مُدَبَّرَةً فَمُدَبَّرٌ).
وهذا شيء طيب، وهذا -أيضًا- عند الحنابلة، بل عند الجمهور، وليس عند مالك وحده.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/ 636) عن ابن مسعود، قال:"ولد المدبرة بمنزلتها؛ يعتقون بعتقها، ويرقون برقها".
(2)
قال البيهقي: "وقد روينا هذا عن عثمان وابن عمر. ورواه ابن أبي نجيح عن عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير، ورويناه عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي والنخعي". انظر: "معرفة السنن والآثار"(14/ 434).
(3)
سبق ذِكر هذه الآثار.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/ 634) عن ابن علية، عن داود، عن رياح بن عبيدة، عن عمر بن عبد العزيز" أنه أَرَقَّ ولد أم الولد".
وروي عنه -أيضًا- "أنه جعلهم بمنزلة أُمِّهم". أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/ 635) عن ابن علية، عن داود، عن رياح بن عبيدة، عن عمر بن عبد العزيز "أنه جعلهم بمنزلة أمهم".
(5)
أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/ 637) عن عبد الأعلى، عن برد، عن مكحول، قال:"ولد المدبرة يَبيعهم صاحبهم إن شاء".
قال البيهقي: "قد روينا مثل هذا عن مكحول، وكذلك رواه ابن جريج، عن عطاء". انظر: "معرفة السنن والآثار"(14/ 434).
* قوله: (أَوْ مُعْتَقَةً إِلَى أَجَلٍ فَمُعْتَقٌ إِلَى أَجَلٍ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ وَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(1)
. وكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ بَعْضَهُ عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
. وأجمع الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ مِنْ تَزْوِيجٍ فَهُوَ تَابعٌ لِأُمِّهِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُقُودِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ
(3)
.
وهذا لا خلاف فيه أن يتبع أُمَّه، لكن سيأتي في التَّسَرِّي عكسُ ذلك.
* قوله: (إِلَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّدْبِيرِ
(4)
، وَمِنْ أَمَةٍ زَوْجُهَا عَرَبِيٌّ
(5)
. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ مِنْ مِلْكِ يَمِينٍ أَنَّهُ تَابعٌ لِأَبِيهِ إِنْ حُرًّا
(1)
يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (7/ 536)، حيث قال:"برهان صحة قولنا في ولد المدبرة التي تَحمل به بعد التدبير: هو أنه ولد أَمَة جائز بيعها، فهو عبد؛ لأن ولد الأمة عبد. وروينا مثل قولنا هذا عن عبد الرزاق عن معمر: أخبرني من سمع عكرمة يقول: أولاد المدبرة لا عِتق لهم".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (4/ 373)، حيث قال:" (وأحكامه) أي: أحكام المعتق بعضه، وباقيه له أو لغيره (قبله)، أي: قبل الحكم عليه بعتق الباقي، أو قبل تمام عتقه، (كالقن) أي: كأحكام القن الذي لا عتق فيه أصلًا من شهادة، ومنع من إرث وحدود وغيرها".
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 125)، وفيه قال:"والجمهور على ما ذكر، وأن ولدها من نكاح أو زنا بعد تدبيرها بمنزلتها؛ يعتقون بعتقها، ويرقون برقها، يريدون إذا عتقت بموت مدبرها عتقوا".
(4)
سبق ذكر الخلاف فيه بين الجمهور والشافعية.
(5)
في مذهب الأحناف: أنَّ الولد حر تابع لأبيه. ينظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (4/ 162)، حيث قال:"فإن كان الأب عربيًّا والأم مولاة لقوم، فالولد تابع للأب، ولا ولاء عليه؛ لأن الولاء أثر من آثار الرق، ولا رق على عربي".
وكذا مذهب المالكية، وخالف أشهب .. ينظر:"شرِح التلقين"، للمازري (2/ 722)، حيث قال:"سئل يحيى بن عمر عن قرشيٍّ تَزَوَّج أمَة رجل من العجم واستولدها، وأعتق سيِّدها ولدها، فقال: يُبيح ابن عمر. ينسب هذا الولد إلى قريش كأنَّه ما مَسَّه رقٌّ قطَّ. واحتجَّ بما نقلناه عن مالك في "المدوَّنة"، فأشار بهذا القول إلى أنَّه لا يكون للمعتق ولاء إِذا كان المعتَق عربيًّا. فإنَّ هذا قد صرح به بعض الأندلسيين،=
فَحُرٌّ، وَإِنْ عَبْدًا فَعَبْدٌ، وَإِنْ مُكَاتَبًا فَمُكَاتَبٌ
(1)
. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَبَّرِ إِذَا تَسَرَّى
(2)
، فَوُلِدَ لَهُ).
وهذه القضية تُبين دِقَّة المؤلف، وهي متى يتسرى المدبر؟ فهو لا يتسرى إلا إذا أذن له سيده، أو أن يكون عنده مال، وهذا المال قد أصبح ملكًا له، ولذلك جاز له أن يتسرى، إذًا في هذه الحالة يكون عنده مال أو إذن من السيد فيتسرى في هذه الحالة، ولذلك قال بعض العلماء: إثبات إباحة التسري ينبني عليها ثبوت الملك، فما دام قد جاز له أن يتسرى إذًا ينبني على ذلك ثبوت الملك، ولما كان الحر أولاده من أَمَتِه أحرارًا، كذلك يكون المدبر أولاده من أَمَتِه أحرارًا، وهذه من القضايا التي نَبَّه عليها بعضُ العلماء، فهو عندما تسرى، فهو مباح له ذلك، وهذه الإباحة
= فقال: مالك وأصحابه مُجمعون على أنَّ مَن أعتق عربيًّا، فإنَّه لا ولاء له بعتقه، إلَّا أشهب فإنَّه قال: الولاء للمعتق".
وفي مذهب الشافعية: يَصير رقيقًا في (الجديد)". يُنظر: "البيان"، للعمراني (317/ 9)، حيث قال: "وإن وطئها بعدما علم برقها فحَبلت منه، فإن كان الزوج غير عربي كان ولده منها رقيقًا لسيد الأمة، وإن كان الزوج عربيًّا، فإن قلنا بقوله الجديد:(إن العرب يسترقون إذا أسروا) كان ولده رقيقًا، وإن قلنا بقوله القديم:(إن العرب لا يسترقون) كان ولده منها حرًّا، وعليه قيمة الولد لسيد الأمة".
وفي مذهب الحنابلة: يَتبع أباه في الحرية. ينظر: "المغني"، لابن قدامة (6/ 419)، حيث قال:"فإن كان حرًّا وزوجته مولاة، لم يَخل، إمَّا أن يكون حُرَّ الأصل، فلا ولاء عليه، ولا على ولده بحال، وإن كان مولى ثَبَت الولاء على ولده لمواليه ابتداء".
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 439، 440) حيث قال: "أجمع علماء المسلمين بأن ولد الحر مِن سُريته تَبَع له، لا لأمه، وأنه حر مثله، وأجمعوا أن ولد العبد من سريته عند مَن أجاز له التسري بإذن سيده وعند من لم يجزه- عبدٌ تَبع لأبيه، وملك للسيد كأبيه وأمه".
(2)
لا يتسرى العبد: أيْ لا يَشتري أمة ليطأها كما يفعل الحر. انظر. "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 203).
تنبني على ثبوت الملك، يعني: ثبوت الملك له، قالوا: فكان كولد الحُرِّ إذا كان من أَمَة فإنه يَتبع أباه، فالحر إذا كانت تحته أَمَة وجاءه أولاد؛ فإنهم يَنتسبون إلى أبيهم الحُر، قالوا: فكذلك -أيضًا- المُدَبَّر إذا كانت تحته أَمَة وَوُلد له، فإن أولاده يتبعونه.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ)
(1)
.
وأحمد
(2)
.
* قوله: (حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَبِ).
أي: يَلحق بأبيه.
* قوله: ((يَعْنِي: أَنَّهُ مُدَبَّرُ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ يَتْبَعُهُ وَلَدُهُ فِي التَّدْبِيرِ
(4)
).
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (7/ 40)، حيث قال:"المدبر والمكاتب من ابتاع منهما جارية فولدت منه، فإن الولد بمنزلته يعتق بعتقه ويرق برقه، ووجه ذلك: أن كل ولد حدث عن ملك يمين يَتبع أباه في الحرية والرق، أصل ذلك الحر يَستولد أَمَته".
(2)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 354)، حيث قال:"وإن تَسَرَّى بإذن سيده، فولد له أولاد، فروي عن أحمد: أنَّهم يَتبعونه في التدبير".
(3)
يُنظر: "روضة الطالبين"، للنووي (12/ 204)، حيث قال:"وأمَّا ولد المدبر، فلا يؤثر تدبير أبيه فيه، وإنما يتبع الأم في الرق والحرية". وهذا هو المذهب. وذكر العمراني وجهين فيمن وهب لمدبره جارية فوطئها، فقال: وهل يتبعه في التدبير؟ فيه وجهان؛ أحدهما: لا يتبعه؛ لأن الولد إنما يتبع أمه في الرق والحرية دون أبيه.
والثاني: يتبعه الولد في التدبير؛ لأن وطأه صادف ملكه، فتبعه ولده في حكمه، كالحر إذا وطئ أَمَة له". انظر:"البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (8/ 397).
(4)
يُنظر: "مجمع الأنهر"، لشيخي زاده (1/ 533)، حيث قال:"وفي "التنوير": وولد المدبرة مدبر؛ إن كان التدبير مطلقًا، وإن مقيدًا فلا، وفيه إشارة إلى أن ولد المدبر ليس مدبرًا؛ لأن التبعية إنما هي للأم لا للأب".
إذًا رأيتم الأئمة انقسموا إلى قسمين:
الفريق الأول: مالك وأحمد.
والثاني: أبو حنيفة والشافعي.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ تَابعٌ لِلْأَبِ مَا عَدَا الْمُدَبَّرَ)
(1)
.
فكأن مالكًا ومثله الحنابلة يقولون: لا نرى فرقًا ما دام الإجماعُ قد قام على أن الولد من ملك اليمين يكون تابعًا للأب، فكذلك المدبر هنا؛ لأنَّه لا يزال تحت الرق، وهو بعدُ لم يتحرر، فينبغي أن يُعامل من هذه الناحية معاملة الرقيق.
والحنفية والشافعية يقولون: هو سينتهي إلى أن يكون حرّا، فينبغي أن يُعامل بالنسبة للمآل، لا بالنسبة للحال.
* قوله: (وَهُوَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ عَلَى مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ).
ما هو موضع الخلاف؟ المالكية يقولون: نحن وإيَّاكم اختلفنا في ولد المدبر إذا تَسَرَّى هل يلحق به أو لا؟ هذه مسألة اختلفنا فيها، وهناك مسألة هي موضع اتفاق بيننا وبينكم هي التي ذكرناها فنقيس موضع الخلاف على موضع الإجماع، وهناك التعليل الذي ذكرتُ لكم في المقدمة، وهو الذي يذكره الحنابلة، ويقولون: إن التسري دليل على الإباحة، وإن إباحة التسري ينبني عليه ثبوت الملك، أي: كونه تسرى معنى ذلك أنه يملك، ولما كان الحر يتبعه أولاده من الإماء، كذلك- أيضًا- المدبر يتبعه أولاده من الإماء.
(1)
سبق نقل كلام ابن عبد البر.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرِ مَالٌ مِنْ مَالِهِ، وَمَالَ الْمُدَبَّرِ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ يُسَلَّمُ لَهُ أَنَّهُ مَالٌ مِنْ مَالِهِ، وَيَتْبَعُهُ فِي الْحُرِّيَّةِ مَالُهُ عِنْدَ مَالِكٍ)
(1)
(2)
.
وقد عرض المؤلف رأي المالكية والحنابلة، وإن لم يذكر الحنابلة فهو معهم، ولكن المؤلف قال:"وليس يُسَلَّم لهم"؛ لأن قضية كونه مال هذه قضية غير مُسَلَّمة؛ لأننا إذا قلنا: يتبع أباه، فلا نقول: إنه مال في هذه الحال، وإنما نعامله بالنسبة لما سيكون.
* قوله: (الْجِنْسُ الرَّابعُ: وَأَمَّا النَّظَرُ فِي تَبْعِيضِ التَّدْبِيرِ).
وهذا مر بنا، ولكن المؤلف طرأ له أمر، وهو أن يُنبه أنه كان الأَوْلى أن يذكر في هذا الجنس، وهذه مصطلحات ولا مَشاحة في الاصطلاح؛ فترون أن الفقهاء يختلفون في تقسيماتهم، وفي تقديم بعض الأبواب على بعض، وفي تقديم بعض الكتب على بعض، فأنتم ترون أن المنهج الذي صار عليه صاحب "بداية المجتهد" ليس كل ما رَتَّبه يكون موافقًا لما في الكتب الأخرى، ولكنه ينتقي من كتاب "الاستذكار" في الغالب، وأحيانًا من "المُحلى"، وهو -أيضًا- يسير بين ذاك وبين ذاك، لكن لا شَكَّ بأنه وافق؛ فبدأ بالطهارة، ثم بالصلاة، ثم بالزكاة، ثم بعد ذلك بالصيام، ثم الحج، فإنه بذلك في العبادات وافق غيره من العلماء، لكن لا يضر أن يُقَدِّم كتابًا على كتاب، أو بابًا على باب، أو مسائل على مسائل فهذا لا يَضر.
(1)
لم أقف على هذه العلة عند الشافعية في هذه المسألة، وإنما أخذها من أصول مذهب الشافعية من أن ما يملكه المدبر هو ملك للسيد، له انتزاعه فكذا الولد.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 445)، حيث قال:"قال مالك في رجل دَبَّر غلامًا له فهلك السيد ولا مال له إلا العبد المدبر، وللعبد مال. قال: يعتق ثلث المدبر، ويوقف ماله بيديه. قال ابن عبد البر: إنَّما قال ذلك؛ لأن أصله في العبد إنَّما يملك ماله ما لم ينتزعه منه سيده، وأنَّ ماله تَبع له عند العتق والتدبير".
* قوله: (فَقَدْ قُلْنَا فِيمَنْ دَبَّرَ لَهُ حَظًّا فِي عَبْدِهِ دُونَ أَنْ يُدَبِّرَ شَرِيكُهُ).
ومعنى "دَبَّر له حَظًّا"، أي: نصيبًا، أي: دَبَّر نصيبَه في عبده، رأينا هذا وقلنا: إذا كان العبد بين شريكين، فدبر أحدُهما نصيبه؛ فما الحكم؟ رأينا اختلاف العلماء وانقسامهم فيها إلى ثلاثة أقسام، فمالك له رأي، ووضع في ذلك خِيَارَيْن؛ إما كذا أو كذا، وأبو حنيفة -أيضًا- وضع ثلاث خيارات، لكن الشافعية والحنابلة قالوا: إذا دُبِّر، فإن ما دُبِّر منه يكون حُرًّا، ويبقى الباقي فيه مملوكًا.
* قوله: (وَنَقْلُهُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْلَى، فَلْيُنْقَلْ إِلَيْهِ. وَأَمَّا مَنْ دَبَّرَ جُزْءًا مِنْ عَبْدٍ هُوَ لَهُ كلُّهُ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِتَدْبِيرِ الْكُلّ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ بَعَّضَ الْعِتْقَ عِنْدَ مَالِكٍ)
(1)
.
(يُقضى)، أي: يُحكم، وهذه مسألة أُخرى مَرَّت بنا في كتاب (العتق)، فإذا كان إنسان يملك عبدًا ملكًا تامًّا صحيحًا، وكان صحيح التصرف أيضًا، ثم أعتق نصفه أو ثلثه أو أكثر أو أقل، فهل يَسري ذلك إلى باقيه؟
نعم يَسري، ولذلك قال المؤلف كذلك هنا، فإذا كان عنده مملوك يملكه ملكًا تامًّا، ثم دَبَّر بعضَه.
نقول: لا، هذا يَسري إلى الكل؛ لأن هذا تحت ملكك، وأنت أردت أن تُعطيه الحرية، وأن تخرجه من رق العبودية؛ فينبغي أن يكون تحريره كاملًا، وليس ناقصًا.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (8/ 127)، حيث قال:"أما لو كان يملك جميعه ودَبَّر بعضه لَسَرَى التدبير في باقيه. قاله تت. والظاهر: أنه يجري مثل ذلك في العتق لأجل، بل هو أبين من التدبير، فإذا أعتق بعض عبده لأجل سَرَى العتق في باقيه".
وخالف أبو حنيفة مالكًا، فقال بعدم السراية. ينظر:"رد المحتار"، لابن عابدين (3/ 658)، حيث قال:"فإذا دبر بعض عبده اقتصر عليه عنده، وسعى في الباقي بعد موت سيده، وسرى إلى كله عندهما، ولا سعاية عليه".
والمنصوص عند الشافعية: أنه لا يسري إلى جميعه. ينظر: "المهذب"، للشيرازي (2/ 376)، حيث قال:"فإن كان له عبد فدبر بعضه فالمنصوص أنه لا يسري إلى الباقي. ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر: أنَّه يسري؛ فيصير الجميع مدبرًا".
وفي مذهب أحمد روايتان. يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (6/ 222)، حيث قال:"وإن أوصى له ببعض رقبته، فهو تدبير لذلك الجزء، وهل يعتق جميعه إذا حمله الثلث؟ على روايتين، ذكرهما الخرقي فيما إذا دبر بعض عبده وهو مالك لكله".
* قوله: (وَأَمَّا الْجِنْسُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مُبْطِلَاتُ التَّدْبِيرِ).
هل هناك أشياء تُبطل التدبير وتؤثر عليه أو لا؟
* قوله: (فَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي إِبْطَالِ الدَّيْنِ لِلتَّدْبِيرِ).
فإذا كان على الإنسان دَيْنٌ، وهذا الدَّيْنُ لا يخلو إمَّا أن يستغرق جميع ما عنده، أو أن يكون الدَّيْن يَستغرق بعض قيمة هذا المدبر؛ فما الحكم؟ هل الدَّيْن يُسقط التدبير ويَقضي عليه ويُنهيه، أو لا علاقة له بذلك؟ فنحن عندنا التدبير، ونهايته الحرية، فهذا الذي دَبَّر عبده أراد أن يعتقه، ولكنه قَيَّد ذلك بموته، وقد مَرَّ بنا في (العتق): لو أن إنسانًا أعتق مملوكًا وكان عليه دَيْنٌ يَستغرق ماله، فما الحكم أيضًا؟ مَرَّ بنا هذا، أيضًا هنا هل الدَّيْنُ يؤثر عليه أم لا؟ وقد مر هذا.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ)
(2)
.
وأحمد
(3)
.
* قوله: (الدَّيْنُ يُبْطِلُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ يُبْطِلُهُ، وَيَسْعَى فِي الدَّيْنِ، وَسَوَاءٌ اَكَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلْقِيمَةِ أَوْ لِبَعْضِهَا)
(4)
.
(1)
يُنظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص: 251)، حيث قال:"يبطل التدبير بقتل المدبر لسيده عمدًا، أو باستغراق الدين له وللتركة".
(2)
انظر: "نهاية المطلب"، للجويني (19/ 314)، حيث قال:"ومما يتصل بذلك أن المدبِّر إذا مات، وخلف العبد المدبَّر وتركة يفي ثلثها بقيمة العبد لولا دين مستغرق، فلا يحكم بنفوذ العتق ما لم يَبرأ من الدين".
(3)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 328)، حيث قال:"المريض إذا أعتق عبيده في المرض، أو دَبَّرهم، أو وصى بعتقهم ومات، ثم ظهر- عليه دين، وهم يخرجون من ثلثه في الظاهر، فأعتقناهم، ثم ظهر عليه دين يستغرق التركة، تبينَّا بطلان عتقهم، وبقاء رقهم، فيباعون في الدين، ويكون عتقهم وصية، والدين مقدم على الوصية".
(4)
يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (4/ 122)، حيث قال عن المدبر:"ولا يتعلق الدين برقبته؛ لأن رقبته لا تحتمل البيع لما بينَّا، ولتعلق بكسبه، ويسعى في ديونه بالغة ما بلغت". وانظر: "الأصل"، للشيباني (6/ 448).
وقد عرض المؤلف للمسألة، ولم يذكر دليلًا، ودليل الجمهور هو الحديث الذي مَرَّ بنا، وهو حديث جابر بن عبد الله المتفق عليه:"أن رجلًا من الأنصار أعتق مملوكًا له عن دُبُر منه -أعتق مملوكًا، وهو محتاج إليه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن يَشتريه مِنِّي". فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، أي: دفعها إلى الرجل المحتاج، أي: رد إليه قيمة ذلك العبد، وقال: "أنتَ أحوجُ منه"
(1)
. وفي بعض الروايات، وهي -أيضًا- في "صحيح مسلم"، وهي رواية صحيحة:"وكان محتاجًا وعليه دَيْنٌ"
(2)
. فاستدلوا بهذه الرواية: "وعليه دَيْنٌ"، فمعنى ذلك أن الدَّيْن يُؤثر في التدبير، فإذا كان عليه دين فإنه يرد، وهذه قضية ننبه إليها: الدَّيْنُ هو من أهم الأمور ومِن أخطرها، ومن أكثر ما يتركه الإنسان في هذه الحياة مسؤولية بعد وفاته، وتعلمون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَوَقَّف عن الصلاة على مَن عليه دين، فكان يسأل:"هَل عليه دَيْنٌ". فإن قالوا: عليه دين. قال: "صَلُّوا عَلى صَاحِبكم"
(3)
. وتعلمون عندما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على رجل، فقال أبو قتادة: دينه عليَّ، فقال:"الآن بردت عليه جلدُه"
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
هذه الرواية ليست في مسلم، وإنما أخرجها النسائي، كما سبق.
(3)
أخرج البخاري (2289)، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال:"كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتي بجنازة، فقالوا: صَلِّ عليها، فقال: "هل عليه دَيْنٌ؟ ". قالوا: لا. قال: "فهل ترك شيئًا؟ ". قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، صَلِّ عليها، قال: "هل عليه دين؟ ". قيل: نعم، قال: "فهل ترك شيئًا؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صَلِّ عليها، قال: "هل ترك شيئًا؟ "، قالوا: لا، قال: "فهل عليه دين؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صَلُّوا على صاحبكم". قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينه، فصَلَّى عليه".
(4)
أخرج هذه الرواية أحمد في "مسنده"(14536) وغيره، عن جابر، قال:"تُوفِّي رجل فغسلناه، وحَنَّطناه، وكَفَّناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خُطى، ثم قال: "أعليه دينٌ؟ " قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حق الغريم، وبرئ منهما الميت؟ ". قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم:"ما فعل الديناران؟ ". فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد، فقال: لقد قضيتهما،=
إذًا الدَّين مسؤولية، وأمره عظيم؛ فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل أو يتسامح به.
فهذا التدبير جائز، يعني: يجوز للإنسان أن يدبر، وله أن لا يدبر، له أن يعتق وله أن لا يعتق، له أن يوصي وله أن لا يوصي بالنسبة لبعض الأمور، ولكن الوصية قد حُض عليها، لكن الدَّين أمر واجب حتى إذا كان على الإنسان دين، وهو ممن لم يحجوا، وقلنا: إن الحج على الفور
(1)
، فإنه لا يلزمه الحج في هذه الحالة؛ لأنه يعتبر لا استطاعة عنده؛ لأن عليه دَيْنًا يستغرق ذلك المال الذي عنده
(2)
.
= فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآن بردت عليه جلده". قال الألباني: "إسناده حسن". انظر: "أحكام الجنائز"(1/ 16).
(1)
وهو مذهب أبي حنيفة في أصح الروايتين عنه، وأبي يوسف، ومالك في الراجح عنه، وأحمد إلى أنه يجب على الفور، وذهب الشافعي والإمام محمد بن الحسن إلى أنه يجب على التراخي، فلا يأثم المستطيع بتأخيره.
مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال اين الهمام (2/ 411 - 413) حيث قال:"ثم هو واجب على الفور عند أبي يوسف رحمه الله، وعن أبي حنيفة".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(2/ 3) حيث قال: "فقد ظهر لك أن القول بالفورية أرجح، ويؤيد ذلك أن كثيرًا من الفروع التي يذكرها المصنف في الاستطاعة مبنية على القول بالفورية، فكان ينبغي للمصنف الاقتصار عليه".
مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 456): " (وجوب الحج والعمرة)، ومن حيث الأداء (على التراخي)، فلمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره أن يُؤخره بعد سنة الإمكان؛ لأنه فرض سنة خمس، كما جزم به الرافعي هنا، أو سنة ست، كما صححه في "السير"، وتبعه عليه في "الروضة"، ونقله في "المجموع" عن الأصحاب: "وأَخَّره صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر بلا مانع".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 232) حيث قال: " (فمن فَرَّط فيه حتى توفي، أخرج عنه مِن جميع ماله حجة وعمرة)، وجملة ذلك: أنَّ مَن وجب عليه الحج، وأمكنه فعله، وجب عليه على الفور، ولم يجز له تأخيره. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، ولنا: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والأمر على الفور، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن أراد الحج فَلْيَتَعَجَّل".
(2)
قضاء الدَّيْنِ الذي عليه؛ سواء كان الدين لآدمي، أو لحق الله تعالى؛ كزكاة في=
* قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي النَّصْرَانِيِّ يُدَبِّرُ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا).
ومعنى هذا أنه يجوز -أيضًا- لغير المسلم أن يدبر، فالنصراني يَملك كما يملك المسلم أيضَّاَ الرقيق، لكن هذا النصراني إذا دَبَّر عبدًا له فأسلم هذا العبد، أو كان مسلمًا، فما الحكم: هل يبقى تحت سلطته، والله تعالى يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، أو يخرج من داره؟ وإذا كان يخرج فهل بمجرد أن يُسلم هذا العبد
= ذمته يمنع من إيجاب الحج؛ لأنه فقد شرطًا من شروط الحج، وهو الاستطاعة.
مذهب الحنفية، يُنظر:"النتف في الفتاوى"، للسغدي (1/ 203)، حيث قال:"الذي كان له زاد وراحلة وعليه دين بقدر ذلك أو أكثر أو أقل فليس عليه الحج".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي" حيث قال: "لا يجب الحج باستطاعة بدين، ووجب باستطاعة بغير دين، وحاصله أنه لا يجب على الشخص أن يستدين مالًا في ذمته ليَحج به، وهو مكروه أو حرام، كما في (ح)، قال تت: وظاهره كانت له جهة وَفَّى منها ذلك الدين أو لا، وقد قيل في "الشامل" بكون الدين لا يُرجى وفاؤه، وذلك بأن لا يكون عنده ما يقضيه به، ولا جهة له يوفي منها، وإلا وجب عليه الحج به".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان في مذهب الإمام الشافعي"، للعمراني (4/ 29)، حيث قال:"وإن كان عليه دين لا يَفضل عنه ما يكفيه لحجه لم يجب عليه الحج، حالًّا كان الدَّين أو مؤجلًا، نص عليه في "الإملاء"؛ لأن الحال على الفور، والحج على التراخي. وعليه ضرر في بقاء الدين المؤجل في ذمته، ففدم على الحج. وكذلك لا يجب عليه الحج إلا بعد أن يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ما يكفيه للحج؛ لأن النفقة على الفور، والحج على التراخي".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (4/ 342)، حيث قال:" (ومن أراد سفرًا وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه)، وجملة ذلك: أن من عليه دين إذا أراد السفر، وأراد غريمه منعه، نظرنا؛ فإن كان محل الدين قبل محل قدومه من السفر، مثل أن يكون سفره إلى الحج لا يقدم إلا في صفر، ودينه يحل في المحرم أو ذي الحجة، فله منعه من السفر؛ لأن عليه ضررًا في تأخير حقه عن محله".
أن يُباع عليه، أو أنه ينتظر ذلك، ولكنه لا يُمَكَّن النصراني من أن يَخدمه؟ أي: يُمنع المسلم أو يُحال بين المسلم وبين النصراني من أن يَخدم غيره؛ لأنَّ خدمته للنصراني ذلك ذُل ونزول، والإسلام يَعلو ولا يُعلى عليه.
* قوله: (فَيُسْلِمُ الْعَبْدُ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ)
(1)
.
وأحمد
(2)
.
* قوله: (يُبَاعُ عَلَيْهِ سَاعَةَ يُسْلِمُ، وَيَبْطُلُ تَدْبِيرُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ).
والإمامان الشافعي وأحمد يقولان بالتَّنجيز، فلا فرصة هنا ما دام قد أسلم فإنه يُباع عليه، وَيخرج من ملكه حتى وإن كان ذلك معلقًا.
فلا يُمكن سيده من استخدامه، وإنَّما يحال بينهم، ويبقى التدبير.
* قوله: (وَيُخَارَجُ عَلَى سَيِّدِهِ النَّصْرَانِيِّ، وَلَا يُبَاعُ عَلَيْهِ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُ سَيِّدِهِ؛ فَإِنْ مَاتَ عُتِقَ الْمُدَبَّرُ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْن يُحِيطُ بِمَالِهِ
(3)
. وَقَالَ
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 135)، حيث قال: "وعبد الحربي إذا أسلم، أو عبد الذمي، فإنه لا يقر على ملكه، ويقال له: إن بعته، أو أعتقته، وإلا بعناه عليك؛ لقول الله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} .
(2)
في مذهب أحمد روايتان؛ الأولى: وافق فيها الشافعي، وهو المذهب. والثانية: وافق فيها مالكًا.
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد"، لابن قدامة (332/ 2)، حيث قال:"ويصح تدبير الكافر؛ لأنه يصح إعتاقه. فإن أسلم مدبره، أمر بإزالة ملكه عنه؛ لأن الكافر لا يُمكن من استدامة الملك على مسلم، مع إمكان بيعه. وفيه وجه آخر: أنه لا يُباع؛ لأنه استحق الحرية بالموت، فأشبه أم الولد إذا أسلمت، ولكن تزال يده عنه، وينفق عليه من كسبه".
(3)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 452، 453)، حيث قال:"وقال مالك في رجل نصراني دبر عبدًا له نصرانيًّا فأسلم العبد. قال مالك: يحال بينه وبين العبد، ويُخارج على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يتبين أمره، فإن هلك النصراني وعليه دين قُضي دينه من ثمن المدبر إلا أن يكون في ماله ما يحمل الدين فيعتق المدبر".
الْكُوفِيُّونَ: إِذَا أَسْلَمَ مُدَبَّرُ النَّصْرَانِيِّ قُوِّمَ، وَصَفِيَ الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ)
(1)
.
وهذا رأي ثالث وهو أنه لا يخرج من ملكه، ولكنه يُقَوَّم، وَيَستسعى العبد، بمعنى: يعمل ويكسب حتى يَجمع مالًا، فيُخرج نفسه من عبودية هذا النصراني، وأظهر الأقوال كما هو معلوم هو القول الأول الذين قالوا: يُباع عليه، حتى لا يُمَكَّن سيده النصراني من الاستعلاء عليه، ويبقى المسلم على مكانته وعِزَّته.
* قوله: (وَمُدَبَّرُ الصِّحَّةِ يُقَدَّمُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى مُدَبَّرِ الْمَرَضِ إِذَا ضَاقَ الثُّلثُ عَنْهُمَا)
(2)
.
ومدبر الصحة: هو الذي يُدَبِّره سيدُه وهو في صحة كاملة، ليس مريضًا؛ لأنه من المعلوم فقهًا أن هناك مسائل عِدَّة يُتَّهم فيها المريض، فلو طَلَّق امرأته في مرضه الذي مات فيه، فقالوا: يُعامل بنقيض قصده؛ لأنه ربما طَلَّقها يريد حرمانها من الميراث، ومر بنا في عدة أبواب مثل ذلك.
أيضًا هنا فرق عند مالك بين مَن يدبر في صحته؛ فهو في كامل قواه ويدرك ذلك، وبين مَن يدبر في حالة المرض، ودائمًا حالة الصحة فيما يتعلق بإخراج الأموال تُقَدَّم عند المالكية على حالة المرض.
وأما الأئمة الآخرون فلهم تفصيلات أُخرى في هذا المقام تختلف باختلاف الأحوال.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 453)، حيث قال:"وقال سفيان والكوفيون: إذا أسلم النصراني قُوِّم قيمته، فسعى في قيمته، فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد، وبطلت السعاية".
(2)
يُنظر: "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني"، للنفراوي (2/ 134)، وفيه قال:" (والمدبر في الصحة مبدأ) عند الضيق (على ما) أوصى به (في) حال (المرض من عتق وغيره)؛ لأن تدبير الصحة لازم بخلافه في المرض، فإنه منحل". وانظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (6/ 167).
(كِتَابُ أُمَّهَاتِ الْأولَادِ)
والمؤلف ينتقل من باب إلى باب، وهو لا يزال -أيضًا- في أحكام الرق، لكن العلماء فَصَّلوا ذلك وجَزَّؤوه لوجود أحكام تختلف فيها، فبدأ أولًا بالعتق الذي هو العتق الكامل المُنجز، وهو أن يعتق الإنسان مملوكه، وانتقل بعد ذلك إلى المكاتب وهو الذي يكاتبه سيده؛ فيُقيم عقدًا بينه وبين مملوكه على أن يعتق بعد أن يُسَدِّد تلك الأنجم، أي: الأقساط، وإذا عجز عن ذلك يرد إلى الملك، وإن مات قبل أن يسدد يأتي الخلاف الذي ذكره العلماء.
ثم بعد ذلك انتقل إلى المدبر، وهو الذي يكون عتقه كاملًا، وربما يِكون مبعضًا إذا كان الإنسان لا يَملك إلا بعضه على خلاف في ذلك كما مَرَّ.
والآن أمهات الأولاد. فمن هن أمهات الأولاد؟
أمهات الأولاد هي التي تلد لسيدها في ملكه، يعني: بوطء سيدها في ملكه، وهي مملوكة له أثناء الوطء، معنى هذا: أنه لو وطئ هذه المرأة وهي في ملك غيره ثم رجعت إلى ملكه لا تُسَمَّى أم ولد بذلك الوطء السابق، فهذا القيد ضروري لكى تكون أم ولد
(1)
.
(1)
يُنظر: "المختصر الفقهي"، لابن عرفة (10/ 406، 407)، وفيه قال: "أم الولد: هي الحر حملها من وطء مالكها عليه جبرًا، فتخرج المستحقة حاملًا من زوج؛ لأنه غير=
هذا هو التعريف الدقيق الذي لا خلاف فيه بالنسبة لأم الولد، ثم بعد ذلك -أيضًا- ما يتعلق بأم الولد.
أنتم تعلمون أن الله سبحانه وتعالى أباح للمؤمنين الطيبات، وحَرَّم عليهم الخبائث، كما قال سبحانه:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، فكل ما فيه خير في هذه الحياة من الطيبات، فإن الله سبحانه وتعالى قد أباحه للمؤمن؛ ليتمتع في دائرة الحلال، وكل ما هو مضر بالإنسان فهو محرم؛ لأن في ذلك ضررًا عليه، والله تعالى هو الذي خلق الخلق، ومن بين مخلوقاته هذا الإنسان فهو سبحانه وتعالى العالِم بما ينفع هذا الإنسان وما يضره، وما فيه خير له وسعادة في هذه الحياة فإن الله سبحانه وتعالى قد مَكَّنه منه، وما كان فيه ضرر أو سوء يَلحقه فإن الله سبحانه وتعالى حَذَّره منه، وباعد بينه وبينه، ولكننا نجد -أيضًا- بأن بعض الطيبات قد تَحرم تحريمًا مؤقتًا، أليس الصائم من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس يحرم عليه أن يأكل أو أن يشرب أو أن يجامع أهله؟
الجواب: نعم، ذاك في شهر عظيم حرم عليه ذلك؛ ليكون مطيعًا لربِّه ملتزمًا بشرعه، وقَّافًا عند حدوده، والله تعالى عندما مَنَع عن المسلم تلكم الأمور، وجعل لها مقابلًا، ذلكم المقابل هو ما جاء في فضيلة ذلك الشهر؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تَقَدَّم من ذنبه"، "ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تَقَدَّم من ذنبِه"
(1)
، "ومَن قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا كُفِر له ما تَقَدَّم مِن ذنبه"
(2)
، وكل يوم
= مالك، وتدخل المستحقة حاملًا من مالك على أخذ قيمتها بولد لها، وتخرج أمة العبد يعتق سيده حمله منها عنه؛ لأنه غير جبر".
(1)
حديث: "من قام رمضان
…
"، أخرجه البخاري (37)، ومسلم (759/ 173).
(2)
حديث: "من صام رمضان
…
، ومن قام ليلة القدر
…
"، أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (760/ 175).
تصومه مما شرع الله لك سواء كان الإثنين أو الخميس أو الأيام البِيض
(1)
أو يوم عرفة أو يوم عاشوراء
(2)
، ويسبقه يوم أو يأتي بعده يوم، فالله سبحانه وتعالى منع عنك الأكل والشرب والجماع، والله سبحانه وتعالى أَعَدَّ لك الجنة إذا صدقت، وجعل لك بابًا من أبواب الجنة اسمه الرَّيَّان لا يدخل منه إلا الصائمون
(3)
.
إذًا لا خلاف بين العلماء في إباحة التسري ووطء الإماء
(4)
، ودليل ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 5 - 7]، أما من خرج عن هذا الحد وعن هذا القيد الذي أباحه الله سبحانه وتعالى، فتناول المحرمات عن طريق السفاح (الزنا)، أو ما لا يجوز له من المحرمات فإنه قد اعتدى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} ، أي: يصونون الفروج، "إلا" وهذا استثناء من الله سبحانه وتعالى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، ومن ذلك التسري ووطء الإماء، فإنهم غير ملومين في ذلك لماذا؟
لأن الله سبحانه وتعالى أباح لهم الطيبات، وهذا مما أباحه الله سبحانه وتعالى لهم، ولقد رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال "يا مَعشر الشَّباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنَّه أَغَضُّ للبَصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم
(1)
وهي الليالي الغُر التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصومها: ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. انظر:"تهذيب اللغة"، للأزهري (8/ 16).
(2)
عاشوراء ممدودة، والعامة تقصره: هو اليوم العاشر من المحرم، ويقال: بل التاسع، وكان المسلمون يصومونه قبل فرض شهر رمضان. انظر:"العين"، للخليل (1/ 249)، "غريب الحديث"، للخطابي (3/ 240).
(3)
أخرجه البخاري (1896)، ومسلم (1152/ 166)، عن سهل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد".
(4)
سبق ذِكْرُ هذا.
فإنه له وجاء"
(1)
، وقال عليه الصلاة والسلام في قصة النفر الثلاثة الذين أراد أحدهم: أن يصوم الدهر كله، والآخر: أراد أن يقوم الليل كله، والثالث: أراد أن لا يتزوج النساء، فقال:"أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النِّساء؛ فمَن رَغب عن سنتي فليس مني"
(2)
.
إذًا هذه سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن تَمسَّك بهذا الدِّين نال الفوز، ومن حاد عنه زَلَّ، وخسر خسرانًا مبينًا، رأينا من هذا ما يتعلق بالتسري، وكذلك وطء الإماء أُبيح للمسلم، وأيضًا مارية القبطية كانت أم ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وولده إبراهيمِ إنما هو من مارية، كما هو معلوم، ولذلك جاء في حديث ابن عباس:"أعْتَقَها ولدُها"
(3)
. أي: هذه، وثبت -أيضًا- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له أمهات أولاد
(4)
، وثبت عن علي رضي الله عنه
(5)
، وثبت -أيضًا- أن علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وهم من العلماء الأعلام والأتقياء الفضلاء كانت أمهاتهم أمهات أولاد
(6)
، ولذلك كان الناس في أول الأمر يتوقفون في أمهات الأولاد، فلما خرج هؤلاء النفر واشتهروا وبانت مكانتهم أصبح الناس يُقبلون على
(1)
أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400/ 3).
(2)
أخرجه البخاري (5563)، ومسلم (1401/ 5).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2516) وغيره، عن ابن عباس، قال:"ذُكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أعتقها ولدها"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل" (1772).
(4)
مما يدل على ذلك ما أخرجه الدارمي (3324) وغيره، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب "أوصى لأمهات أولاده بأربعة آلاف؛ أربعة آلاف لكل امرأة منهن".
(5)
يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 465)، حيث قال:"وكان لعليِّ رضي الله عنه أمهات أولاد، ولكثير من الصحابة".
(6)
يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (6/ 355)، حيث قال:"قال في "رسم العشور من سماع عيسى من كتاب الجامع"، قال ابن القاسم: بلغني أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كانوا بني أمهات أولاد، قال ابن رشد: إنما ذكر هذا؛ ليتبين أن هذا ليس مما يُعاب به أحد، وهو بَيِّنٌ؛ قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ". انتهى.
ذلك، وهذه مقدمة لم يعرض لها المؤلف؛ لأن المؤلف يُوجز ويختصر ويأتي بالمسائل.
* قوله: (وَأُصُولُ هَذَا الْكِتَابِ النَّظَرُ فِي: هَلْ تُبَاعُ أُمُّ الْوَلَدِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَاعُ فَمَتَى تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ؟ وَبِمَاذَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ؟).
يعني: أهم المسائل التي في هذا الباب والتي دار فيها الخلاف بين العلماء، بل حتى في زمن الصحابة: هل تُباع أو لا تباع؛ لأنها كما هو معلوم لما وَلَدَت أصبحت أم ولد، إذًا هي أم ولد لهذا السيد، فهل تُباع أو أن ولدها أعتقها، كما جاء في الحديث. هذه مسألة اختلف فيها العلماءُ؛ فذكر أنه كان لها حكم، ثم تغير ذلك الحكم.
* قوله: (وَمَا يَبْقَى فِيهَا لِسَيِّدِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمَتَى تَكُونُ حُرَةً؟).
يعني: ماذا يبقى لسيدها؟ هل تظل تخدمه؛ فتؤدي ما عليها؟ مما يتعلق أيضًا بالوطء؟
فهذا كله -أيضًا- سابق، ولكن سيختلف العلماء في بعض الجزئيات.
* قوله: (أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا؛ سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ).
والسَّلَفُ: هم الصَّدر الأول. والخَلَفُ: هم الذين جاؤوا من بعدهم.
ولا شَكَّ أن السلف لهم مكانة تفوق منزلة الخلف، وهذا بالنظر إلى الجملة، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خيرُ القُرُون قَرني، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم"
(1)
. فلا شك أن القرون الأُولى هي القرون المفضلة، ولها
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له (2652)، ومسلم (212/ 2533)، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوامٌ تَسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته".
من الخصائص ومن المزايا ما لم يكن في القرون المتأخرة، لكن لا يخلو زمان من الأزمان ولا عهد من العهود إلا وفيه أناس صلحاء، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تزالُ طائفة من أُمَّتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم مَن خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله"
(1)
. وهذه هي الفرقة الناجية (الفرقة المنصورة).
* قوله: (فَالثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَضَى بِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ).
والأثر الذي ورد في هذا أن عمر رضي الله عنه استشار عليًّا رضي الله عنه؛ فاتفق رأيُهما على ذلك، لكن عليًّا رضي الله عنه لما جاء وقت خلافته كأنه تَرَاجع عن ذلك، فقال الراوي عنه:"وما اتفق عليه عمرُ وعليٌّ أَحَبُّ إلينا مما انفرد به عليٌّ"
(2)
، فإن عمر استشار عليًّا، والتقى رأيُهما حول هذا الذي أخذ به عمر، فلما جاء عَهْدُ على أراد أن يعود إلى ما كان قد اشتهر قبل ذلك.
* قوله: (وَأَنَّهَا حُرَّة مِنْ رَأْسِ مَالِ سَيِّدِهَا إِذَا مَاتَ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ)
(3)
.
فلا خلاف في أنها تكون حرة، ولا تكون في الثلث؛ لأن الثلث ربما يَضيق، لكنها تكون حرة من رأس المال بلا خلاف، وهذا معروف
(1)
أخرجه البخاري (7311)، ومسلم (1920/ 170)، واللفظ له.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 291) عن عَبيدة السَّلماني، قال:"سمعت عليًّا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولَاد أن لا يُبعن. قال: ثم رأيت بعد أن يُبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إليَّ من رأيك وحدك في الفرقة -أو قال: في الفتنة- قال: فضحك عليٌّ".
(3)
أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه"(1/ 268) عن عبيدة السلماني، قال:"خطبنا عليٌّ رضي الله عنه ذات يوم، فقال: رأى أبو بكر رأيًا ورأى عمر رأيًا: عتق أمهات الأولاد حتى مَضَيَا لسبيلهما، ثم رأى عثمانُ مثلَ ذلك، ثم رأيتُ أنا بعد بيعهن في الدَّيْن، فقال عبيدة: فقلت لعلي: رأيك ورأي أبي بكر وعمر وعثمان في الجماعة أحبُّ إليَّ من رأيك وحدك في الفرقة. فقبل مني وصدقني".
بين العلماء
(1)
.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ)
(2)
.
يعني: هذا القول الذي قال به عمر وأخذ به بعد التشاور مع عليٍّ هو قول جمهور التابعين، وكذلك الفقهاء، ومن الفقهاء الأئمة الأربعة
(3)
.
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"المبسوط"، للسرخسي (17/ 142)، حيث قال:"وأم الولد تعتق بموت مولاها من جميع المال".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 200)، حيث قال:"وإنما وجب أن تعتق أم الولد من رأس المال بعد وفاة سيدها؛ لأن الحرمة أوجبت لها الحرية، إلا أنا أَخَّرناها؛ لئلا تُفيته حَقَّه من الوطء".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"اللباب في الفقه الشافعي"، للمحاملي (ص: 418)، حيث قال: "وتفارق أم الولد المدبر في ثماني مسائل: لا تُباع، ولا تُوهب، ولا تُنكح، على أحد القولين، ولا تُرهن، وعتقها من رأس المال
…
".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (4/ 726)، حيث قال: "
…
فلا يصح قياسه على أم الولد؛ لأن عتقها ثبت بغير اختيار سيدها، وليس تبرعًا، ويكون من رأس المال".
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 330)، حيث قال: "
…
فالثابت عن عمر أنها لا تباع عنده أبدًا، وأنها حرة من رأس مال سيدها، وروي مثل ذلك عن عثمان بن عفان، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول الحسن، وعطاء، ومجاهد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وإبراهيم، وابن شهاب، وإلى هذا ذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو حنيفة، والشافعي في أكثر كتبه، وهو الصحيح من مذهبه، وعليه جمهور أصحابه، وأبو يوسف، ومحمد، وزُفر، والحسن بن حَي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، كلهم لا يجوز عندهم بيعُ أم الولد".
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"المبسوط"، للسرخسي (7/ 149)، حيث قال:"بيع أم الولد باطل في قول جمهور الفقهاء".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (2/ 1003)، حيث قال:"لا يجوز للحر بيعُ أم ولده".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان"، للعمراني (5/ 57، 58)، حيث قال:"ولا يجوز بيع أم الولد"، وبه قال عمر رضي الله عنه وعامة أهل العلم. وقال داود، والشيعة: يجوز بيعها. وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم وأرضاهم.=
* قوله: (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
(1)
، وَعَلِيٌّ
(2)
- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- وَابْنُ عَبَّاسٍ
(3)
، وَابْنُ الزُّبَيْرِ
(4)
، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
(5)
، وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ يجِيزُونَ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ)
(6)
.
فكانوا يجيزون ذلك، وأن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر، ثم نهاهم عمر عن ذلك فامتثلوا
(7)
.
= وحكى الطبري في "العدة": "أن ذلك قول آخر للشافعي رحمه الله، وليس بمشهور عنه". وانظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب"، لزكريا الأنصاري (2/ 309).
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 616)، حيث قال: "
…
فلا يصح بيع أم الولد".
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 287)، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الرحمن بن الوليد، أن أبا إسحاق الهمداني أخبره، أن أبا بكر كان يبيع أمهات الأولاد في إمارته، وعمر في نصف إمارته، ثم إن عمر قال:"كيف تُباع وولدها حرٌّ"، فحَرَّمِ بيعها حتى إذا كان عثمان شكوا -أو ركبوا- في ذلك".
(2)
سبق ذِكر أَثَر عليٍّ.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 90) عن ابن عباس، في أم الولد، قال:"بِعها كما تبيع شاتَك أو بعيرَك".
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 292) عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:"لقيه نفر، فقال: مِن أين أقبلتم؟ قالوا: من العراق قال: فمن لقيتم؟ قالوا: ابن الزبير. قالوا: فَأَحَلَّ لنا أشياء كانت تَحرم علينا. قال: ما أحلَّ لكم مما حرَّم عليكم؟ قالوا: بَيع أمهات الأولاد، قال: تعرفون أبا حفص عمر نهى أن تُباع، أو توهب، أو تورث، وقال: يستمتع منها صاحبها ما كان حيًّا، فإذا مات فهي حرة".
(5)
أخرجه أبو داود (3954)، وغيره، عن جابر بن عبد الله، قال:"بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2417).
وأخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(5022)، عن جابر، قال:"كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُنكر ذلك علينا".
(6)
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(5023)، عن أبي سعيد، في أمهات الأولاد قال:"كنا نبيعهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2417).
(7)
سبق ذِكر نهي عمر رضي الله عنه عن هذا.
* قوله: (وَبِهِ قَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(1)
. وَقَالَ جَابِرٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ:"كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فِينَا لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا").
وهذا الحديث لم يُخرجه المؤلف، ولكن أخرجه ابن ماجه
(2)
،
(1)
لعل الظاهرية انقسموا في هذه المسألة، والذي وقفتُ عليه مِن نقل ابن حزم عن أكثرهم هو القول بعدم جواز بيعهن. ينظر:"المحلى بالآثار"، لابن حزم (7/ 505)، حيث قال:"ولا يَحل بيعُ أَمَة حملت من سيدها؛ لما روي عن ابن عباس قال: "لما ولدت ماريةُ إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدُها"، وهذا خبر صحيح السند، والحجة به قائمة. فإن قيل: الثابت عن ابن عباس القول بجواز بيع أمهات الأولاد، وهذا الخبر من روايته، فما كان ليترك ما روي إلا لضعفه عنده، ولما هو أقوى عنده؟ قلنا: لسنا نعارض -معشر الظاهريين- بهذا الغثاء من القول، ولا يعترض بهذا علينا إلا ضعاف العقل؛ لأن الحجة عندنا في الرواية، لا في الرأي، يعارض بهذا مَن يتعلق به إذا عورض بالسنن الثابتة).
ومما يدل على صحة ما قلناه أيضًا: أن ابن حزم ردَّ دلالة حديث جابر الذي فيه جواز بيع أمهات الأولاد، فقال:"أما حديث جابر فلا حجة فيه، وإن كان غاية في صحة السند؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بذلك". انظر: "المحلى بالآثار"(8/ 214).
وحكى عن بعض أصحابه التوقف في هذه المسألة، فقال:"وروي هذا أيضًا عن عمر بن عبد العزيز أنه باع أم ولد ارتدَّت، وتوقف فيها أبو الحسن ابن المغلس، وبعض أصحابنا". انظر: "المحلى بالآثار"(8/ 214).
فلعل القائل بجواز بيعهن هو داود الظاهري ومَن وافقه من بعض أصحابه- كما قال بذلك ابنُ عبد البر وأبو الوليد ابن رشد، كما سيأتي، والسرخسي وغيرهم، لا عموم الظاهرية.
قال أبو عمر ابن عبد البر: "وكان أبو بكر الصديق، وعلي، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم يجيزون بيع أم الولد، وبه قال داود بن علي". انظر: "الاستذكار"(7/ 330).
وقال السرخسي: "وكان بشر المريسي وداود ومَن تَبعه من أصحاب الظواهر -رضوان الله عليهم أجمعين- يُجَوِّزون بيعها". "المبسوط"(7/ 149).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2517).
وأخرجه الدارقطنيُّ
(1)
، والبيهقيُّ
(2)
، واختلف فيه العلماء، والأكثر على أنه ضعيف
(3)
.
* قوله: (وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: "كنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْ بَيْعِهِنَّ").
وهذا الحديث رواه الإمام الشافعي، والإمام أحمد، وكذلك أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، والدارقطني، وكثير من العلماء
(4)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(5/ 238).
(2)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(14/ 470).
(3)
يُنظر: "البدر المنير" لابن الملقن (9/ 759) حيث قال: "وفي "علل ابن أبي حاتم": سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن زياد اللؤلؤي، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: "كنا نبيع سَرَارينا وأمهات الأولاد على عهد رسول الله، وهو حيٌّ بين أظهرنا ولا يُنكر ذلك علينا"، فقال: حديث منكر، والحسن بن زياد: ضعيف الحديث، ليس بثقة، ولا مأمون. وأخرج الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي سعيد الخدري، قال: "كنا نَبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قال الحاكم: "صحيح". قلتُ: فيه نظر؛ فإنَّ في إسناده زيدًا العمي، وحاله معلومة بالضعف، لا جرم رواه النسائي وقال: زيد العمي ليس بالقوي".
(4)
هذا التخريج الذي ذكره الشارح رحمه الله ليس لهذا الحديث، إنما هو للحديث الذي قبله من حديث جابر، وفيه:"كنا نبيعُ أمهاتِ الأولادِ والنبيُّ- عليه الصلاة والسلام فينا لا يرى بذلك بأسًا".
وقد أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(5021)، وابن ماجه (2517)، وأحمد في "مسنده"(14446)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 582)، والدارقطني في "سننه"(5/ 238)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 22) عن أبي سعيد بدون لفظ:"فلم يَرَ في ذلك بأسًا"، وأخرجه الشافعي في "السنن المأثوِرة" (ص: 293). أما ما أخرجه أبو داود (3954) فهو هذا الحديث الذي معنا مِن نهي عمر لهم عن بيعهن. وكذلك الحاكم (2/ 22) له رواية عن جابر عن عمر. وانظر دليل ذلك في "التلخيص الحبير"، لابن حجر (4/ 521).
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء؛ فأكثر العلماء على تضعيفه، وعلل ذلك الإمامُ البيهقيُّ
(1)
، فقال:"لعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يَطَّلع على ذلك؛ فيُقرهم عليه، وقالوا: لم يَرد في طريق من طرق هذا الحديث مع تعددها بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اطَّلع على ذلك؛ فأقَرَّهم عليه، وبهذا يكون ضعيفًا"
(2)
.
وقد عَقَّب على ذلك الحافظُ ابنُ حجر، وهو معروف في هذا المجال، فقال:"أخرج ابنُ أبي شيبة ما يدل على ذلك"
(3)
، أي: ما يشير إلى أن فيه اطلاعًا
(4)
.
والإمام الخَطَّابي قال: "يحتمل أن البيع كان جائزًا في أول الأمر، ثم نهوا عن ذلك في آخر الأمر -يعني: في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يشتهر ذلك إلا في زمن عمر فمنعه"
(5)
.
ألم يكن قد مر بنا في صلاة الجمعة بأنه لم يكن في الجمعة إلا أذان واحد، وأن ذلكم الأذان هو إذا جلس الإمام على المنبر، فلما جاء
(1)
الصواب: أن هذا الكلام يُصرف إلى حديث جابر من قولهم: "فلم يَرَ النبيُّ في ذلك بأسًا"، كما سبق.
وقد سبق ذِكر كلام ابن الملقن في بيان تضعيفه.
(2)
انظر: "السنن الكبرى"، للبيهقي (10/ 582).
(3)
لم أقف عليه في المطبوع من كتبه.
(4)
الذي ذكره الحافظُ عكس ما فهمه الشارح رحمه الله، فقد ذكر الحافظ أن ابن أبي شيبة ذكر ما يؤيد كلام البيهقي من أن اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بعيد.
يُنظر: "التلخيص الحبير"، لابن حجر (4/ 521، 522) حيث قال: "قال البيهقي: ليس في شيء من الطرق أنه اطلع على ذلك، وأقرهم عليه صلى الله عليه وسلم. قلت: نعم، فد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" من طريق أبي سلمة، عن جابر ما يدل على ذلك".
(5)
يُنظر: "معالم السنن"، للخطابي (4/ 74)، حيث قال:"وقد يحتمل أن يكون ذلك مباحًا في العصر الأول، ثم نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك قبل خروجه من الدنيا، ولم يعلم به أبو بكر رضي الله عنه؛ لأن ذلك لم يَحدث في أيامه؛ لِقصر مُدَّتها، ولاشتغاله بأمور الدِّين، ومحاربة أهل الردة، واستصلاح أهل الدعوة، ثم بقي الأمر على ذلك في عصر عمر رضي الله عنه مدة من الزمان، ثم نهى عنه عمر حين بلغه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهوا عنه، والله أعلم".
زمان عثمان، وكثر الناس، واتَّسعت المدينة، وامتد نطاقها، وتفرَّقت أماكنها ومحلات المشتغلين فيها من بائع ومشترٍ وصانع وغير ذلك، أضاف عثمان رضي الله عنه
(1)
النداء الثاني على الزوراء
(2)
، وأخذ بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل عنهم أنهم خالفوه؛ لأن هذا فيه مصلحة؛ لأن إضافة الأذان القصد منه أن يتهيأ الناس، يعني: إذا سمعوا الأذان الأول أغلقوا حوانيتهم (دكاكينهم - مصانعهم)، فعادوا إلى بيوتهم، ولا ننسى -أيضًا- أن من المطلوب -بل من السُّنَّة المؤكدة- غُسل يوم الجمعة
(3)
، ولذلك جاءت أحاديث كثيرة فيه، حتى قال أهل الظاهر:"إن غسل الجمعة واجب"
(4)
؛ لحديث: "غُسل الجُمُعة واجبٌ على كل مُحتلم"
(5)
، وهناك
(1)
أخرجه البخاري (912) عن السائب بن يزيد، قال:"كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه، وكثر الناس زاد النداءَ الثالث على الزَّوراء".
(2)
الزَّوراء: موضع بالمدينة عند السوق قرب المسجد، وهو مرتفع كالمَنار. انظر:"مشارق الأنوار على صحاح الآثار"، للقاضي عياض (1/ 315).
(3)
مذهب الفقهاء: أنَّ غسل الجمعة مستحب، وخالف أهل الظاهر، فقالوا بوجوبه. مذهب الأحناف، يُنظر:"الجوهرة النيرة"، للحدادي (1/ 12)، حيث قال:" (وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغسل للجمعة والعيدين والإحرام)، سواء كان إحرام حج أو عمرة، وكذا يوم عرفة للوقوف".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (185/ 1)، حيث قال:"غسل الجمعة سنة مؤكدة، خلافًا لمن ذهب إلى وجوبه".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 262)، حيث قال:"وسيأتي أنه لو تيمم عن غُسل مسنون -كغسل الجمعة- أنه يكفيه نية التيمم بدل الغسل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 83)، حيث قال:"أفصل والأغسال المستحبة] ستة عشر غسلًا (آكدها) الغسل الصلاة جمعة)؛ لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "غُسل الجمعة واجبٌ علىل محتلم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن جاء منكم الجمعة فليغتسل"".
(4)
يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (1/ 255)، وفيه قال:"وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال والنساء، وكذلك الطّيب والسواك".
(5)
أخرجه البخاري (858)، ومسلم (5/ 846)، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"الغُسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم".
أدلة كثيرة تدل على عدم الوجوب، ومنها ما جاء تعليله عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان الناس عمال أنفسهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم"
(1)
. يعني: يعملون لأنفسهم، فربما يكون حدادًا، أو جزارًا، فهو يحمل في ثيابه كثيرًا من الأوساخ، ويحمل الروائح التي يتأذى بها المُصَلُّون، والمسلم دائمًا ينبغي إذا جاء المسجد أن يكون على هيئة طيبة، فلا يحمل رائحة كريهة؛ ولذلك جاء في الحديث:"مَن اكل ثومًا أو بَصَلًا فَلْيَعتزلنا، أو لِيَعتزل مسجدنا"
(2)
، فعليه أن يأتي على هيئة كريمة، كما قال الله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، فعمر رضي الله عنه عندما أراد أن يقدم على ذلك الأمر إنما استشار مَن قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتقاكم عليٌّ"
(3)
. والتقى رأيهما في ذلك، وقد نهى عمر رضي الله عنه عن ذلك لمصلحة، وهناك حديث آخر عن الرسول صلى الله عليه وسلم سيذكره المؤلف بأنَّ أم الولد حُرَّة.
* قوله: (وَمِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلالِ الَّذِي يُعْرَفُ بِاسْتِصْحَابِ حَالِ الْإِجْمَاعِ)
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (903)، ومسلم (847).
(2)
أخرجه البخاري (855)، ومسلم (564/ 73).
(3)
لم أقف على هذا الحديث فيمن ذكر فضائل عليٍّ رضي الله عنه. ولعله من الأحاديث التي وضعتها الشيعة.
(4)
عَرَّفه بدر الدين الزركشي، فقال:"هو أن يحصل الإجماع على حكم في حال فيتغير الحال، ويقع الخلاف". انظر: "تشنيف المسامع بجمع الجوامع"(3/ 425).
وذكر الخطيب البغدادي اختلاف العلماء فيه، فقال:"وقد اختلف أهل العلم في هذا: فمنهم من قال: هو دليل، كما أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث، أو تيقن الحدث ثم شك في الطهارة، أو تيقن النكاح وشك في الطلاق، أن اليقين لا يزول بالشك، ويكون حكم السابق مستدامًا في حال الشك، فكذلك هاهنا. ومنهم من قال: ليس بدليل؛ لأن الدليل هو الإجماع، والإجماع إنما حصل قبل رؤية الماء، فإذا رأى الماء، فقد زال الإجماع، فلا يجوز أن يستصحب حكم الإجماع، في موضع الخلاف من غير علة تجمع بينهما". انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/ 527).
أو ما يُعرف -أيضًا- بـ "المصالح المُرسلة"
(1)
، يعني: أن نستصحب حالة وقعت فنقول: تَسْرِي إلى تلك الحالة التي تُشبهها، فيمتد هذا الحكم الذي ثبت في هذه المسألة إلى حكم تلك المسألة الأخرى.
واستصحاب الحال ليست من الأصول المُجمع عليها
(2)
.
فهناك أصول مُجمع عليها التي هي: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، وكذلك القياس، وفيه خلاف لأهل الظاهر، فأهل الظاهر يخالفون في القياس
(3)
، ثم هناك -أيضًا- أقوال الصحابة، استصحاب الحال، الاستحسان
(4)
…
وغير ذلك.
(1)
الحق: أن استصحاب حال الإجماع يختلف عن المصالح المُرسلة، وهذا يتضح من تعريفهما، فاستصحاب حال الإجماع يكون فيه إجماع سابق على شيء ما، ثم طرأ تغيير، فهل يبقى على الإجماع أم يتركه لتغير الحال.
أما المصالح المرسلة فهي: حكم لا يشهد له أصل من الشرع اعتبارًا وإلغاء. فهي أمور مستجدة عُملت لمطلق المصلحة؛ ككتابة المصحف، وكذلك ترك الخلافة شورى، وتدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن. انظر:"بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب"، لشمس الدين الأصفهاني (286/ 3)، "شرح مختصر الروضة"، للطوفي (3/ 213).
(2)
سبق ذِكر كلام الخطيب البغدادي في بيان اختلافهم.
وقال ابن قدامة: "فأما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف فليس بحجة في قول الأكثرين. وقال بعض الفقهاء: هو دليل، واختاره أبو إسحاق بن شاقلا". انظر: "روضة الناظر وجنة المناظر"(1/ 449).
(3)
يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (1/ 78)، وفيه قال:"ولا يحل القول بالقياس في الدِّين ولا بالرأي؛ لأن أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صَحَّ، فمن رَدَّ إلى قياس وإلى تعليل يَدَّعيه، أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المُعلق بالإيمان، ورد إلى غَير مَن أمر الله تعالى بالرد إليه".
(4)
الاستحسان لغة: مِن قولهم: استحسن الشيءَ: إِذا عَدَّه حَسَنًا. انظر: "شمس العلوم"، للحميري (3/ 1449).
واصطلاحًا، هو: أن يَعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى من الأول يَقتضي العدول عن الأول، وهذا يلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص استحسانًا، ويلزم عليه أن يكون=
وأهل الظاهر -كما هو معروف- أخذوا بما كان في الصدر الأول، وهو أنها تُباع
(1)
.
والأئمة الأربعة أخذوا بالقول الآخر: بأنها لا تُباع، أي: أخذوا بما استقر عليه رأيُ عمر، وكما جاء في أَثر "الشُّعَب"
(2)
عن عبيدة قال: "خطب عليُّ بن أبي طالب الناس، فقال: استشارني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمهات الأولاد، فكان رأيي ورأيُه أن يعتقن، بمعنى: أن لا يُبعن، ثم إنه بدا لى غيرُ ذلك"
(3)
.
ولكن جاءت -أيضًا- في رواية عن عبيدة بان عليًّا رضي الله عنه بعد ذلك بعث إلى عبيدة وإلى القاضي شُريح، وكلاهما قاضيان، بأن يَعودا إلى ما كان عليه من القضاء في أمهات الأولاد، أي: أنه رجع مرة أُخرى إلى القول بما اتَّفق عليه هو وعمر
(4)
.
وابن عباس الذي نقل عنه المخالفة في ذلك بأنهن يُبعن
(5)
، قال -أيضًا-:"أم الولد بمنزلة ولدها، بمعنى: أئها حرة"
(6)
، وهو الذي روى
= القياس الذي يعدل إليه عن الاستحسان استحسانًا. انظر: "المعتمد"، لأبي الحسين البصري (2/ 296).
(1)
سبق القول بأن هذا قول طائفة منهم، بينما حكى ابن حزم عن الأكثرين منهم عكس ذلك.
(2)
لا أعلم ما مراد الشارح بهذه الكلمة، فإن كان يقصد أن هذا الأثر في "شعب الإيمان" للبيهقي، فليس فيه، إنما هو له في "السنن الكبرى" و"الصغرى"، و"معرفة السنن والآثار".
(3)
سبق تخريج هذا الأثر.
(4)
أخرجه البغوي في "شرح السنة"(9/ 370) عن محمد بن سيرين، قال: قال لى عبيدة: "بعث إليَّ عليٌّ وإلى شُريح يقول: إني أبغض الاختلاف، فاقضوا كما كنتم تقضون، يعني: في أُمِّ الولد حتى يكون الناس جماعة، أو أموت كما مات صاحباي".
(5)
من ذلك ما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 290) عن ابن عباس، قال:"في أم الولد: والله ما هي إلا بمنزلة بعيرِك أو شاتِك".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(11/ 209) عن ابن عباس، أنه "جعل أم الولد من نَصيب ولدها".
حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أورده المؤلف بأن أمهات الأولاد يعتقن، كما جاء في الحديث:"أَيُّما أَمَة وَلدت مِن سَيِّدِها فهي حُرَّة عن دُبُر"
(1)
.
وحينئذ يبقى ما قاله بعض العلماء، كالخطابي
(2)
وغيره
(3)
أوَّلًا: "إمَّا أن الرسول صلى الله عليه وسلم - كما قال- لم يقف على ما كانوا يفعلون، ولم يُقِرَّهم على ذلك"، أو كما قال الخطابي:"كان بيعهن جائزًا في أول الأمر، ثم بعد ذلك نُهي عنه في آخر الأمر، ولكن ذلك لم يشتهر، فلما بلغ عمر قال بذلك القول".
وأيضًا لو كانت المسألة -كما هو معلوم- بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهم على ذلك لَمَا تَشَاور عمر وعليٌّ رضي الله عنهما
(4)
؛ لأنه لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ ذلك
(5)
، وثبت عند الصحابة لَمَا خالفوه، ولو قُدِّر أن عمر خالف ذلك لأنكر عليه من قِبل الصحابة، ولم يحصل ذلك، ولذلك قال العلماء: إنَّ ما أخذ به عمر هو الأَوْلَى، ومن هنا أخذ به الأئمة الأربعة.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ إِلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ
(6)
، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي كُتُبِ الأُصُولِ قُوَّةُ هَذَا
(1)
أخرجه ابن ماجه، وغيره، عن ابن عباس (2515). والحديث ضعيف. انظر:"التلخيص الحبير"، لابن حجر (4/ 519).
(2)
سبق ذِكر قوله.
(3)
كالبيهقي كما سبق.
(4)
يقصد اتفاق عمر وعلي رضي الله عنهما على عدم بيع أمهات الأولاد، وهذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، كما سبق.
(5)
أي: أقرّ بيع أمهات الأولاد، كما سبق في حديث جابر.
(6)
ممن نقل ذلك عن الظاهرية ابنُ عبد البر، حيث قال:"احتج الذين أجازوا بيع أم الولد من أهل الظاهر بأن قالوا: قد أجمعوا على أنها تُباع قبل أن تحمل، ثم اختلفوا إذا وضعت، فالواجب بحق النظر ألا يزول حكم ما أجمعوا عليه مع جواز بيعها وهي حامل إلا بإجماع مثله إذا وضعت، ولا إجماع ها هنا". انظر: "الاستذكار"(7/ 332).
الاسْتِدْلَالِ
(1)
، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ).
والذي يقول بالقياس هم جماهير العلماء، والذي لا يقول به هم أهل الظَّاهر
(2)
.
* قوله: (وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا بِحَسَبِ رَأْيِ مَنْ يُنْكِرُ الْقِيَاسَ، وَرُبَّمَا احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ احْتِجَاجِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ بِمُقَابَلَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى).
فمن المعلوم دائمًا بأن الدعوى دائمًا تُقابل بالدعوى، فإذا ادعى إنسان على آخر دعوى، وكان للآخر -أيضًا- حجة قابلها بدعوى أُخرى.
* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَلَيْسَ تَعْرِفُونَ أَنَّ الإِجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى مَنْعِ بَيْعِهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا
(3)
. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يسْتَصْحِبَ حَالَ هَذَا الإِجْمَاعِ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ)
(4)
.
= لكن هذا التعليل ينصرف إلى القائلين بجواز بيعهن من الظاهرية، وهذا خلاف مَن لم يقل بذلك منهم، كما سبق بيانه.
(1)
سبق أن قول الجمهور على ضعف العمل به.
(2)
سبق بيانُ هذا.
(3)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (2/ 126)، حيث قال:"واتفقوا أنها إذا حملت منه ليس له إخراجها عن ملكه ببيع ولا غيره ما لم تَضع".
(4)
انظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 199)، حيث قال في قياس الجمهور المذكور:"وهذا القياس مبني على صحة الاستدلال باستصحاب حال الإجماع، وهو استدلال صحيح، وبه احتج أبو سعيد البراذعي على داود القياسي حين ناظره في هذه المسألة، فانقطع ولم يَحِر جوابًا. وذلك أن داود القياسي استدل عليه باستصحاب الحال، فقال: قد اتفقنا على جواز بيعها قبل العلوق، فمَن زعم أن بيعها بعد الولادة لا يجوز فعليه إقامة الدليل. فقال أبو سعيد: ما أنكرت أن هذا مقابل بما هو أَوْلَى منه، وهو أنَّا قد اتفقنا على منع بيعها حاملًا، فمن زعم أنها إذا وضعت جاز بيعها، فعليه إقامة الدليل، قال: فسكت ولم يَقل شيئًا". وانظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (3/ 136).
يصلح أن يستدل الجمهور بهذه المسألة، أليس الإجماع قائمًا على أنَّه لا يجوز بيعُها، وهي حامل؛ لأنه لا يُدرى ما هي؟ أهي ذكر أم أنثى؟ أتحيا أم تموت؟ ماذا سيكون؟ ولذلك وقع الإجماع، لكنه قال: إن المتأخرين من أهل الظاهر؛ كابن حزم أنكروا ذلك، ورفضهم لا يُؤثر في الحكم.
قوله: (إِلَّا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَحْدَثُوا فِي هَذَا الأَصْلِ نَقْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ مَنْعَ بَيْعِهَا حَامِلًا
(1)
. وَمِمَّا اعْتَمَدَهُ الْجُمْهُورُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الأَثَرِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام "أَنَّهُ قَالَ: فِي مَارِيَةَ سُرِّيَّتِهِ لَمَّا وَلَدَتْ إِبْرَاهِيمَ: "أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا")
(2)
.
ومارية القِبطية هي أُمُّ إبراهيم التي تَسَرَّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجاء فيها هذا، والذي روى الحديث هو ابن عباس:"أَعْتَقَها ولدُها"، وابن عباس ممن خالف، وقد روى ذلك، وقد صَحَّ وقفُه عن عبد الله بن عباس، واختُلف في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
، فإنه جاء من عِدَّة طرق ضَعَّف العلماء أكثرها
(4)
، وصَحَّح بعضُهم طريقًا واحدًا
(1)
لعل هذا قول داود ومَن وافقه كما سبق، وإلا فالثابت عن ابن حزم -كما سبق- فيما نقله عن الظاهرية أنهم منعوا ذلك كالجمهور. قال ابن حزم:"ولا يَحل بيع أَمَة حَمَلت من سيدها". انظر: "المحلى بالآثار"(7/ 505).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2516)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 23)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1772).
(3)
لعل الصواب أن اختلافهم في الرفع والوقف في حديث آخر، وليس الحديث الذي معنا.
ولعله الذي ذكره ابن الملقن عن عكرمة، عن عمر أنه قال:"أعتقها ولدها وإن كان سقطًا"، قال: وعن خصيف، عن عكرمة عن ابن عباس، قال عمر، فذكر نحوه، ثم قال: فعاد الحديث على عمر. ثم جعله الصحيح، ولقائل أن يقول: هما قضيتان مختلفتان لفظًا ومعنى، روى عكرمة إحداها مرفوعة والأخرى موقوفة، ولا تعلل إحداهما بالأُخرى. انظر:"البدر المنير"(9/ 757).
(4)
فحديثُ ابن ماجه معلول بالحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، فهو ضعيف.=
منها
(1)
، واختلف في الاستدلال به على أنه مرفوع، أما هو فكان موقوفًا على عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
قوله: (وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهَا حُرَّةٌ إِذَا مَاتَ").
فالحديث الأول: رواه ابن ماجه، وكذلك الحاكم
(2)
،
والدارقطني
(3)
، والبيهقي
(4)
.
والثاني: رواه أكثر من ذلك؛ رواه أحمد
(5)
، وابن ماجه
(6)
، والبيهقي
(7)
، والحاكم
(8)
، وابن حِبَّان
(9)
، وجمع كثير من العلماء من أهل الحديث
(10)
، لكنه ليس في "الصَّحيحين "، ومختلف فيه صحة وضعفًا
(11)
.
= يُنظر: "الأحكام الوسطى"، لعبد الحق الإشبيلي (4/ 23)، وحديث الحاكم فيه ابن أبي سبرة وحسين، وهما ضعيفان. انظر:"نَصب الراية"(3/ 287). وقال ابن عدي بعد أن ساق الحديث: "ولأبي بكر ابن أبي سبرة غير ما ذكرت من الحديث، وعامة ما يرويه غير محفوظ، روى عنه ابن جريج أحاديث، وهو في جملة مَن يضع الحديث ". انظر: "الكامل في ضعفاء الرجال "(9/ 202).
(1)
مِمَّن صححه ابنُ حزم، إذ ساق الإسناد، فقال:"حدثنا يوسف بن عبد الله، نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا مصعب بن سعيد، نا عبد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "لما ولدت مارية إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدها"، وهذا خبر صحيح السند، والحجة به قائمة". انظر:"المحلى بالآثار"(7/ 505)، ورد ذلك ابنُ القطان في "بيان الوهم والإيهام"(2/ 86).
(2)
سبق ذِكر رواية ابن ماجه والحاكم.
(3)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(5/ 231).
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 579).
(5)
أخرجه أحمد في "مسنده"(2910).
(6)
أخرجه ابن ماجه (2510).
(7)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 579).
(8)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 23).
(9)
لم أقف عليه عند ابن حبان، ولعله ذكر سهوًا.
(10)
انظر في طرق تخريجه وذكر رواياته: "البدر المنير"، لابن الملقن (9/ 753).
(11)
قال ابن الملقن: "قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. قلت: فيه نظر؛ فإن في=
وهذا الحديث: "أَيُّما امرأة وَلَدت من سَيِّدها فإنها حرَّة عن دُبُرٍ منه ". والمؤلف أتى به بالمعنى، وربما تكون رواية منه، و "عن دبر منه "، أي: بعد وفاته، يعني: تخرج من رأس المال.
قوله: (وَكلَا الْحَدِيثَيْنِ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله
(1)
. والمؤلف دائمًا ما ينقل عن ابن عبد البر، وهو في الغالب يسكت في المسائل الفقهية، لكن عندما تأتي مسألة فيها خلاف بخاصة ما يتعلق بالأحاديث صحة وضعفًا، فإنه يشير إليه، ولقد أشار إليه في مواضع كثيرة، وسكت في مواضع أكثر بكثير مما ذكره، ولكن لما كان ابنُ عبد البر أعلم في هذا المجال في علم الجرح والتعليل، ذكر المؤلف بأنهما ضعيفان، وقد عوَّل في نقله على عالم جليل له باع ومعروف في علم السُّنَّة، وبخاصة في الجرح والتعليل، وهو ابن عبد البر، وهو بلا شك، كما هو معلوم؛ فكتبه تشهد بذلك؛ فله كتابه الجليل "التمهيد"، الذي وضعه على "الموطأ" للإمام مالك، وتوسع فيه كثيرًا، وأورد فيه كثيرًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضًا كتابه "الاستذكار"، وهو الذي ينقل عنه المؤلف كثيرًا في هذا الكتاب، فإنه كتاب فقه وحديث؛ لأنه يورد المسألة بالأحاديث، فيذكر رأي مالك، ثم بعد ذلك يَعرض لآراء
= إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي قد ضَعَّفوه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن عدي: أحاديثه تُشبه بعضها بعضًا، يُكتب حديثه، لم أجد في حديثه منكرًا جاوز المقدار. وقال البيهقي: ضَعَّفه أكثر أصحاب الحديث، وضعفه -أيضًا- عبد الحق في "أحكامه ". انظر:"البدر المنير"(9/ 753، 754).
(1)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (7/ 331)، وفيه قال:"روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مارية سُرِّيَّته لما وَلَدت ابنه إبراهيم: "أعتقها ولدُها"، مع وجه ليس بالقوي، ولا يُثبته أهلُ الحديث. وكذلك حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة إذا مات "، ولا يصح -أيضًا- من جهة الإسناد؛ لأنه انفرد به حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي، وحسين هذا: ضعيف، متروك الحديث ".
العلماء، ويعرض للأدلة، وأيضًا قد فصل في هذا الكتاب تفصيلًا هامًّا جدًّا.
وأيضًا من العلماء الأعلام الذين اشتهروا في هذا العِلم: الحافظ ابن حَجَر، وهو متأخر بلا شك عن ابن عبد البر، لكن ابن حَجَر شهد له العلماء جميعًا -كل مَن جاء بعده، بل الذين في عصره- بالتفوق في هذا العِلم.
قوله: (وَهُوَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ. وَرُبَّمَا قَالُوا -أيضًا- مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: إِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ لَهَا حُرْمَةٌ، وَهُوَ اتِّصَالُ الْوَلَدِ بِهَا، وَكَوْنُهُ بَعْضًا مِنْهَا
(1)
، وَحَكَوْا هَذَا التَّعْلِيلَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ رَأَى أَنْ لَا يُبَعْنَ، فَقَالَ:"خَالَطَتْ لُحُومُنَا لُحُومَهُنَّ، وَدِمَاؤُنَا دِمَاءَهنَّ")
(2)
.
والنطفة التي يَضعها الرجل في المرأة إنما هي جزء منه، ولذلك يَحرم من الرِّضاع ما يحرم من النَّسب
(3)
، ولا يتعلق ذلك بالمرأة المرضع فقط، بل بها وبزوجها، فهي أُمٌّ مِن الرضاع، وهو أب من الرضاع،
(1)
قال الروياني: "اعلم أنه إذا وطئ أَمَتَه فولدت ولدًا منه، فالولد حر؛ لأنها علقت في ملكه، وتَسري حرمةُ الحرية إلى الأم، فتصير أم ولدٍ له؛ لا يجوز بيعها، ولا هبتها، ولا التصرف فيها بشيء من أنواع التصرفات ". انظر: "بحر المذهب"(8/ 405)، وانظر:"المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 198).
(2)
أخرج نحوه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 296) عن عمر بن ذر، قال: حدثني محمد بن عبد الله الثقفي: "أن أباه عبد الله بن قارب اشترى جارية بأربعة آلاف، قد أسقطت لرجل سقطًا، فسمع عبد الله عمر بن الخطاب، فأرسل إليه قال: وكان أبي عبد الله بن قارب صديقًا لعمر بن الخطاب، فلامه لوما شديدًا، وقال: والله إني كنت لأنزهك عن هذا، أو عن مثل هذا. قال: وأقبل على الرجل ضربًا بالدِّرَّة، وقال: الآن حين اختلطت لحومكم ولحومهن، ودماؤكم ودماؤهن تبيعونهن؛ تأكلون أثمانهن
…
".
(3)
جزء من حديث أخرجه البخاري (2645)، واللفظ له، ومسلم (1447/ 12) عن ابن عباس.
كذلك لو كانت المسألة فيها نصٌّ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّهم على ذلك لما تردد الصحابة، ونحن نعلم أن الصحابة رضي الله عنه أسرع الناس استجابة لقول الله تعالى ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم يتسابقون في ذلك غاية الاستباق، فهذا كما قال بعض العلماء:"لعل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقف على ذلك "، بمعنى: فَعَلُوه، ولم يقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنه كان جائزًا، ثم نهى عنه، ولم يَشتهر النهيُ، وإنما ظهر بعد ذلك؛ لأنه كان في آخر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وأَمَّا مَتَى تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ؟ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا قَبْلَ حَمْلِهَا مِنْهُ)
(1)
.
وهذه مسألة ليس فيها خلاف بين العلماء؛ لذلك قلتُ في تعريف أم الولد: إنها التي ولدت لسيدها في ملكه، فهي التي يطؤها وهي مملوكة له فَتَلِد، هذه لا خلاف بين العلماء في أنها أم ولد، لكن لو كانت أَمَة لشخص آخر، فَتَزَوَّجها، فولدت له، ثم جاءت إلى ملكه، كأن يكون اشتراها أو تزوجها وهي مملوكة لغيره، ثم انتقلت إليه وهي حُبلى منه، فهل تكون أم ولد أم لا؟ هذه هي المسألة التي سيورد المؤلف الخلاف فيها.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا مَلَكَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ أَوْ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ مِنْهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا وَلَدَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا، ثُمَّ مَلَكَهَا وَوَلدَهَا)
(2)
(3)
.
(1)
سبق ذكر هذا.
(2)
يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (5/ 485)، حيث قال:"قال مالك في الرجل يَنكح الأَمَة فتلد منه، ثم يبتاعها: إنها لا تكون أم ولد له بذلك الولد الذي ولدت منه وهي لغيره حتى تلد منه وهي في ملكه بعد ابتياعه إيَّاها ".
(3)
سبق ذكر ذلك.
وهذا هو أيضًا قول الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يمُونُ أُمَّ وَلَدٍ).
يعني: تكون أم ولد مطلقًا؛ سواء ولدت له وهي في ملك غيره، أو حملت منه وهي في ملك غيره، فانتقلت إليه وهي حبلى، فإنها تكون أم ولد، عند أبي حنيفة
(3)
.
قوله (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ إِذَا مَلَكَهَا وَهِيَ حَامِلٌ).
فهذه المسألة حصل فيها خلاف بين مالك وبين الشافعي وأحمد، فالإمامان (الشافعي وأحمد) يقولان:"إذا حملت وولدت وهي في ملك غيره، أو حملت منه وانتقلت إليه في ملكه وهي بعد حامل لم تضع، فإنها تزال أَمَة لا تكون أم ولد".
(1)
في مذهب الشافعية قولان. يُنظر: "البيان"، للعمراني (8/ 521)، حيث قال:"إذا علقت منه بحُرٍّ في غير ملك، مثل: أن يَطأها بشبهة، فإنها لا تَصير أم ولد له في الحال؛ لأنهَا ليست بمملوكة له، فإن ملكها بعد ذلك، فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان؛ أحدهما: تصير أم ولد له؛ لأنها علقت بحُرٍّ منه، فهو كما لو علقت منه في ملكه. والثاني: لا تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه في غير ملكه، فهو كما لو علقت منه في زوجية أو زنا بها". وانظر: "روضة الطالبين"، للنووي (12/ 312).
(2)
يُنظر: "كشاف القناع "، للبهوتي (4/ 568)، حيث قال:" (وإن أصابها) أي: أصاب أَمَة (في ملك غيره بنكاح) بأن تَزَوَّجها، (أو) أصاب أَمَة غيره بـ (شبهة) بزوجته الرقيقة التي لم يشترط حرية ولدها، ثم ملكها (عتق الحمل)؛ لأنه ولده و (لا) يعتق عليه إن أصابها في ملك غيره (بزنا)، ثم ملكها؛ لأن نسبه غير لاحق به، فليس رحمه، بل هو كالأجنبي، كما تقدم، (ولم تصر أم ولد)؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن وَطِئ أَمَته فَوَلدت
…
"، وهذا الحمل لم يحصل من وطئه حال كونها أَمَته ". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (10/ 471).
(3)
يُنظر: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري "، للحدادي (2/ 107)، حيث قال:"كل مملوكة ثبت نسب ولدها من مالك لها أو لبعضها، فهي أم ولد له، وكذا إذا ثبت نسب ولد مملوكة من غير سيدها بنكاح أو بوطء شبهة، ثم ملكها، فهي أم ولد له من حين ملكها".
ومالك في الجزئية الأخيرة: إذا انتقلت إليه وهي حامل له رأيان: رأي يتفق فيه مع الإمامين الشافعي وأحمد، ورأي ينفرد به، فيرى بأنها تكون أُمَّ ولد، ووجهته أن النُّطفة هي النطفة سواء حملت منه وهي ملكه، أو حملت منه وهي في غير ملكه
(1)
.
ووجهة جمهور العلماء الشافعية والحنابلة ومَن معهم أنها عندما علقت منه علقت منه بمملوك؛ لأنه عندما جامعها، فحملت منه كان الغلام مملوكًا؛ لأنها لا تزال مملوكة لغيره، ولذلك لا تكون أم ولد، والأصل أنها أَمَة، لكن استثنيت صورة واحدة، وهي إذا حملت منه فولدت وهي في ملكه، واستثنيت بما نقل عن الصحابة رضي الله عنه
(2)
.
إذًا الشافعية والحنابلة وهو القول الآخر للإمام مالك اعتمدوا على ما نُقل عن الصحابة، ولا شَكَّ أن ما يُنقل عن الصحابة يعتبر دليلًا في هذا الموضوع
(3)
.
قوله: (وَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؛ إِذْ كَانَ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ أَنْ يَبِيعَ الْمَرْءُ أُمَّ وَلَدِهِ).
وهذا قول المؤلف: "والقياس"، ولكن لم يقف على هذا، وقلتُ قبل أن أُورد دليل الجمهور: هذا الماء الذي يُوضع فيها هو مِن نطفة
(1)
انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف "، للقاضي عبد الوهاب (2/ 1004)، وفيه قال:"إذا ابتاعها حاملاً ففيها روايتان؛ فوجه قوله: إنها تكون أم ولد قوله: "أيَّما امَة وُلِدت من سيِّدها" فَعَمَّ، ولأنه قد ثبت له حرمة الحرية من جهة أبيه حال الحمل، فسرى ذلك إلى أمه، أصله: لو ابتدأ الحمل في ملكه، ووجه قوله: لا تكون أم ولد: أنه حمل خلق رقيقًا كمن ابتاعها بعد الوضع ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 471) حيث قال في تبيين وجه ما اختاروه: "لأنها علقت منه بمملوك، فلم يثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو زنا بها، ثم اشتراها، ولأن الأصل الرق، وإنما خولف هذا الأصل فيما إذا حملت منه في ملكه بقول الصحابة رضي الله عنه، ففيما عداه يَبقى على الأصل".
(3)
وهو أنه لا تكون أم ولد إلا أن تلد في ملك سيدها، كما سبق.
الرجل، فما الفرق بين أن تكون في ملك غيره، ثم تصبح مملوكة له وهي حامل وولدت عنده، وبين أن يطأها وهي في ملكه فَتَلِد في ملكه؟
قلنا: الأصل هو المَنع
(1)
، وقد استثني؛ لأن هذا جاء عن الصحابة رضي الله عنه، إذًا هذا مُستثنى، وليس كما قال المؤلف بالقياس؛ لأن القياس إنَّما هو بالرأي، "ولو كان الدِّينُ بالرأي -كما قال علي رضي الله عنه لكان أسفل الخُفِّ أَوْلَى بالمسح من أعلاه"
(2)
.
وقول المؤلف: إنَّ ذلك من مكارم الأخلاق، فهذا شرع
(3)
. وهذا الحديث كما هو معلوم أورده المؤلف مَرَّتين، وقال: ليس هذا من مكارم الأخلاق.
قوله: (وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ").
فهل هذا العمل ينافي مكارم الأخلاق؟
الجواب: لا يُنافي مكارم الأخلاق؛ لأن هذا الأمر إنما جاء عن الصحابة، وفرق بين أن تَلد في فراشه وهي في ملكه، وبين أن تكون مملوكة لغيره، وهو أصلًا تَزَوَّجها وهو حر، أو أنه -أيضًا- كان مملوكًا فأصبح حرًّا، والحر يتزوج الأَمَة إذا لم يستطع طولًا. وهذا الحديث جاء بألفاظ عِدَّة، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارم الأخلاق"
(4)
، وفي رواية:"إنَّما بُعثت بصالح الأخلاق"
(5)
، وفي
(1)
أي: الأصل في الأمة ألا تكون أم ولد وما يتبع ذلك من الحرية، إلا ما استثني من أن تلد في ملك سيدها بعد أن يَطأها.
(2)
جزء من حديث أخرجه أبو داود (162)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(525).
(3)
أي: هذا الأصل الذي أصلناه هو شرع لا يُعارض بمثل هذا المعقول.
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 323)، والبزار في "مسنده"(15/ 364) عن أبي هريرة.
(5)
أخرجه أحمد في "مسنده"(8952) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما=
رواية: "إنَّما بُعثت لأتمم مَحاسن الأخلاق"
(1)
. ونحن عندما ننظر لما يتعلق بالأخلاق فإنكم تعلمون بأن هذا الدِّين الحنيف والشريعة الإسلامية التي أنزلها الله تعالى إنما اشتملت على أمور، ولقد قَسَّمها العلماء المعنيون بذلك فقالوا: إن هذه الشريعة لا تخلو إمَّا أن تكون عقيدة، وهذا هو الأصل والأساس الذي يَنبني عليه كل شيء؛ لأن هذه العقيدة هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر؛ خيره وشره، ثم بعد ذلك تأتي العبادات التي لا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الله سبحانه وتعالى، ثم يأتي بعد ذلك القسم الثالث، وهو الأخلاق؛ فهي جزء من هذه الشريعة، ثم تأتي بعد ذلك المعاملات، فالعبادة نجد أنها صلة تكون بين العبد وربه، وأما المعاملات فهي علاقة تتم بين المسلم وبين أخيه، وهذه المعاملات ينبغي أن تُبنى على الصدق، وأن تُبنى على التعاون وعلى الرَّحمة:"البَيِّعان بالخِيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبَيَّنا بُورك لهما في بيعهما"
(2)
.
إذا، رأينا أن هذه الأخلاق لها مكانة عظيمة في الإسلام؟ ولهذا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سيد أهل الأخلاق، فهو قدوتنا، والله تعالى يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قدوة في
= بُعثت لأتمم صالح الأخلاق "، وصحح الألباني هذه الرواية والتي قبلها في "السلسلة الصحيحة" (45).
(1)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 65) عن معاذ بن جبل، ولفظه:"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل أحب الجمال، وإني أحب أن أحمد -كأنه يخاف على نفسه- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يَمنعك أن تُحبَّ أن تعيش حميدًا، وتَموت فقيدًا؟ وإنَّما بُعثت على تمام محاسن الأخلاق ".
قال الهيثمي: "رواه الطبرانيُّ والبزار إلا أنه قال: "إنَّما بُعثت بمحاسن الأخلاق "، وفيه عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني، وهو ضعيف. انظر: "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (8/ 23).
(2)
أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532/ 47) عن حكيم بن حزام.
أخلاقه في حالة السراء والضراء، وفي حالة الغضب والسرور، وهو لا يغضب إلا عندما تُنتهك حرمة من حرمات الله
(1)
، ولذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جوادًا، وكان كريمًا، وكان بشوشًا، وكان سَمِح المُحيا، دائمًا عليه الصلاة والسلام يَبتسم، كأنَّ وجهه قطعة من قَمر، وكان رؤوفًا بالمؤمنين، وكان أصحابه يسيرون على هذا المنهج:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، والله تعالى يقول:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقربكم مني مَنزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، المُوطئون أكنافًا، الذين يَألفون ويُؤلفون"
(2)
، وعندما أوصى رجلًا قال له:"اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأَتْبع السيئة الحسنة تَمحها، وخَالِق النَّاسَ بِخُلق حَسَن"
(3)
، فهذه كلمات من جوامع كَلِمه عليه الصلاة والسلام، وهذه التقوى هو أن تجعل بينك وبين عذاب اللّه ما يَقيك، بأن تجعل سدًّا منيعًا يحفظك من أن تقع في عذاب اللّه تعالى، وذلك باتَباع ما يأمرك الله تعالى به، وما جاءك عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تَجتنب ما نَهَى عنه في هذا الكتاب الكريم، وما جاء النهي عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون وَقَّافًا عند حدود الله، وأن
(1)
معنى حديث أخرجه البخاري (6786)، ومسلم (77/ 2327)، عن عائشة رضي الله عنه، قالت:"ما خيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يَأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يُؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله".
(2)
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(4/ 356) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون، وليس مِنَّا من لا يألف ولا يؤلف ". وقال: "لم يَرو هذا الحديث عن محمد بن عيينة إلا يعقوب بن أبي عباد"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(751).
(3)
أخرجه الترمذي (1987) عن أبي ذر، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"(5083).
لا يصل إلى المسلمين منك أذى، فإن المسلم كما قال صلى الله عليه وسلم:"المسلم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده"
(1)
، وهذه الأخلاق إحسان أيضًا للآخرين، والرسول صلى الله عليه وسلم كانت أخلاقه لا تَتغير مع الكبار ولا مع الصغار، فهو يَبش في وجه الصغير ويبتسم له، وإذا مَرَّ بالصبية سَلَّم عليهم
(2)
، ويحمل الصغار ويُقَبِّلهم عليه الصلاة والسلام، ويتحمل الزَّلات، وإذا عَلَّم عَلَّم بلطف ولين، وتعلمون قصة ذلك الصحابي، وأنَّ الكلام كان جائزًا في أول الأمر في الصلاة، ثم جاء النهي فلم يعلم ذلك الصحابي؛ فعطس أحد القوم، فقال: يرحمك الله، فاستغرب الصحابة، فقال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يُصمتونني، ورَموني بأبصارهم إلى أن سكت، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته دعاه فقال: فوالله ما رأيتُ مُعَلِّمًا أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كَهرني ولا ضربني ولا شتمني، إنما قال:"إنَّ هذه الصلاة لا يَصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التَّسبيح والتكبير وقراءة القرآن "، هذا هو الذي ينبغي أن يكون في هذه الصلاة
(3)
.
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا، وفي قصة الرجل الذي جاء في مسجد الخيف، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، ثم ينفرد يعتزل القوم، فيجلس في مُؤخرة المسجد، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر به فجيء به وفَرائصه
(4)
ترتعد، فقال:"ما مَنعك أن تُصَلِّي معنا؟ ". فقال: "إِنِّي صَلَّيْتُ في رَحْلِي ". فقال: "إذا صَلَّيْتَ في رَحْلِك وأتيت مَسجد جماعة، فَصَلِّ؛ فإنها تكون لك نافلة"
(5)
، فبيَّن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحكم، وما ينبغي أن يفعله،
(1)
أخرجه مسلم (65/ 41) عن جابر.
(2)
معنى حديث أخرجه البخاري (6247) ومسلم (2168) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أنه مَرَّ على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلُه ".
(3)
أخرجه مسلم (537/ 33) عن معاوية بن الحكم السُّلَمي.
(4)
الفريصة: هي اللحمة التي تكون بين الكتف والجنب التي لا تزال ترعد من الدَّابَّة، وجمعها: فرائص وفريص. انظر: "غريب الحديث "، للقاسم بن سلام (3/ 19).
(5)
أخرجه الترمذي (219) وغيره، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، وفيه: "فلما=
وهذا جزء يسير من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرون وفق ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الذي رباهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تربوا في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا العلم ونهلوه من مَعينه، وتلقوه من مشكاة النبوة، ولذلك كانوا أسوة بأخلاقهم وأعمالهم قبل أن يكونوا أسوة بأقوالهم، وكان الناس إذا رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الإسلام والإيمان باديًا في تصرفاتهم؛ في أفعالهم، في حركاتهم وسكناتهم، فكان ذلك دافعًا أن يُقبلوا على الإسلام، وأن يدخلوا فيه أفواجًا، وأن يتسارعوا إلى الإقبال عليه. فكانت هذه مدرسة.
فلنُسلم دائمًا لتطبيق أحكام الإسلام، ولنأخذ بها حتى مع غير المسلم، فنتعامل معه برفق ولين؛ والله تعالى يقول:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلَى اليمن قال: "إنَّك تأتي قومًا أهل كتاب
…
"، أخبره بأن الذين سيذهب إليهم أهل كتاب، أي: عندهم علم، وينبغي أن تتعامل معهم بحكمة وبروية، "فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا أقروا بذلك سهل الأمر"
(1)
.
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنَّما بعث بمكارم الأخلاق، وعائشة رضي الله عنه لما سئلت عن
= قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يُصَلِّيَا معه، فقال: عَلَيَّ بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال:"ما منعكما أن تُصَلِّيا معنا"، فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا فى رحالنا، قال:"فلا تفعلا، إذا صليتما في رِحَالكما، ثم أتيتما مسجدَ جماعة فَصَلِّيَا معهم، فإنها لكما نافلة"، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1152).
(1)
أخرجه البخاري (1458) ومسلم (19/ 31) عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا رضي الله عنه على اليمن، قال:"إنَّك تَقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وتُرد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فخُذ منهم، وتَوَقَّ كرائمَ أموال الناس ".
أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خلقه القرآن"
(1)
.
إن الأخلاق هي التي تبقى بعد الإنسان، فالناس يذكرونه بأخلاقه، فإذا ما ودَّع الإنسان هذه الحياة الدنيا، ثم جاء ذكره في المجالس ترى الناس يدعون له بالخير، يقولون: كان على خلق كريم، كان يُحسن للفقراء، يُواسي المساكين، يَرِقُّ للصغار، يعطف على الكبار، يحسن إلى الجيران، كان غضَّ البصر، كان عفيفًا، كان من عباد الرَّحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلامًا، وما أجمل أن يُثنى على المرء من المؤمنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أنتم شهداءُ الله في أَرْضِه"
(2)
يُوشك أن تعلموا أهلَ الجنة من أهل النار". فقيل: بِمَ يا رسول الله؟ قال: "بالثَّناء الحَسَن والثَّناء السَّيِّئ"
(3)
.
قوله: (وَأَمَّا بِمَاذَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ؟ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: "كُلُّ مَا وَضَعَتْ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ؛ كَانَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً"
(4)
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
(1)
جزء من حديث أخرجه مسلم (746/ 139) عن عائشة أنها سئلت، فقيل لها: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:"ألستَ تقرأ القرَآن؟ " قلت: بلى، قالت:"فإنَّ خُلُق نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ".
(2)
أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949/ 60) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:"مُروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ"، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: "وجبت "، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض ".
(3)
أخرجه ابن ماجه (4221) عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبيه، قال:"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباوة أو البناوة -قال: والنباوة: من الطائف- قال: "يُوشك أن تَعرفوا أهلَ الجنة من أهل النار"، قالوا: بمَ ذاك يا رسول الله؟ قال: "بالثَّناء الحَسَن والثناء السَّيّئ أنتم شهداء الله بعضكم على بعض "، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" (7341).
(4)
يُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (2/ 237)، حيث قال: "قلت: أرأيت إن أسقطت=
"لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ مِثْلُ الْخِلْقَةِ وَالتَّخْطِيطِ")
(1)
.
وأحمد
(2)
.
قوله: (وَاخْتِلَافُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوِلَادَةِ، أَوْ مَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ مَوْلُودٌ. وَأَمَّا مَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ).
فهذه أم الولد رأينا اختلافَ العلماء، ورأينا هل تُباع، أو لا تباع؟ ورأينا أنَّ الرأي المشهور الذي أخذ به جماهيرُ العلماء: أنَّها لا تُباع، فهذا حكم له، والعلماء مُتَّفقون على أنها تعتق بموت سَيِّدها، وأن عتقها يكون
= سقطًا لم يَتبين بشيء من خلقه، أسقطته علقة، أو مضغة، أو عظمًا أو دمًا: أتنقضي به العدة أم لا في قول مالك؟ قال: قال مالك: ما أتت به النساء من مضغة أو علقة أو شيء يُستيقن أنه ولد، فإنه تَنقضي به العدة، وتكون به الأمةُ أُمَّ ولد".
(1)
يُنظر: "التهذيب "، للبغوي (8/ 485)، حيث قال:"فإذا وطئ الرجل أَمَتَه، فأتت منه بولد حي أو ميت، أو ألقت مضغة ظهر فيها شيء من خلق الآدميين، أو ظهر فيها التخطيط -صارت أم ولد له، وإن لم يظهر فيها التخطيط- ترى القوابل، فإن قال: أربع نسوة من أهل العدالة والعلم به: إنها لحم الولد، وظهر فيها التخطيط باطنًا، صارت أم ولد له، وإن قلن: هي لحم مبتدأ خلق الآدمي، ولكن لم يظهر فيه التخطيط، أو شككن في ظهور التخطيط، فالصحيح أنها لا تَصير أم ولد له ". وانظر: "تحفة المحتاج "، لابن حجر الهيتمي (10/ 423).
(2)
يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (4/ 109)، حيث قال:"والحمل الذي تنقضي به العدة تصير به الأَمَة أم ولد، وهو ما تَبَيَّن فيه شيء من خلق الإنسان؛ كرأس ورِجْل، فإن وضعت مضغة لا يتبيَّن فيها شيء من ذلك، فذكر ثقات من النساء أنه مبدأ خلق آدمي لم تنقض به العدة، وكذا لو ألقت نطفة أو دمًا أو علقة، لكن لو وضعت مضغة لم يتبين فيها الخلق، فشهدت ثقات من القوابل: أن فيها صورة خفية بان بها أنها خلقة آدمي، انقضت به العدة".
وكذا هو مذهب الأحناف. يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (8/ 314)، حيث قال:"قال أبو جعفر: (ولا تكون الجارية بما ولدت من مولاها أم ولد حتى تَلِد ما يَستبين خلقه، أو بعض خلقه)، وذلك أنه إذا لم يستبن خلقه، فجائز أن يكون دمًا مجتمعًا، أو داء، فلا نجعلها أم ولد به، فإذا استبان شيء من خلقه، علمنا أنه كان ولدًا".
من رأس المال
(1)
، وبقيت -أيضًا- أحكام أُخرى؛ كرأي العلماء فيها: هل تُعامل معاملة الأَمَة أو معاملة الحُرَّة؟
قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا فِي شَهَادَتِهَا وَحُدُودِهَا وَدِيَتِهَا وَأَرْشِ جِرَاحِهَا كَالأَمَةِ)
(2)
.
فهناك أمور أخرى، هل يجوز للسيد أن يطأها بعد أن أصبحت أُمَّ ولد؟ هذه واحدة. أيضًا هل له أن يُزوجها؟ كذلك هل له أن يَستخدمها؟
(3)
.
(1)
سبق بيان هذا.
(2)
قال ابن المنذر: "وأجمع كلُّ مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا اشترى جارية شراءً صحيحًا وأولدها: أنَّ أحكامها أحكام الإماء في أكثر أمورها". انظر: "الإقناع"(2/ 429). وانظر: "المقدمات الممهدات" لأبي الوليد ابن رشد (3/ 195، 196).
(3)
مذهب الأحناف، يُنظر:"النتف في الفتاوى"، للسغدي (1/ 314، 315)، حيث قال: "ولأم الولد عشرة أحكام، خمسة منها كأحكام الحرائر، وخمسة منها كأحكام الإماء
…
أما الخمسة الأُخرى -أي: التي تُعامل فيها على أنها أمة- فأحدها: يجوز وطؤها. والثاني: يجوز استخدامها. والثالث: يجوز عتقها. والرابع: يجوز تزويجها، وهو أن يَستبرأها بحيضة ثم يزوجها. والخامس: يجوز أن يُكاتبها فتؤدي كتابتها".
وفي مذهب المالكية: له أن يُزوجها، لكن لا يُجبرها على ذلك. ينظر:"البيان والتحصيل "، لأبي الوليد ابن رشد (4/ 304)، حيث قال:"رَجَّح مالك أنه ليس للسيد أن يُجبرها على النكاح، وكان أولاً يقول: إن له أن يزوجها بغير رضاها إذا زوجها مِمَّن يُشبهها من العبيد".
وله أن يطأها. ينظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 196، 197)، وفيه قال:"وإذا ولدت الأمة من سيدها الحُرِّ، فقد حَرُم عليه بيعها وهبتها ورهنها، والمعاوضة على رقبتها، أو على خدمتها، أو إسلامها في الجناية، وعتقها في الواجب، وليس له منها إلا الاستمتاع بالوطء، فما دونه طول حياته ".
وفي منع استخدامها. قال الباجي: "ووجه ما تعلق به مالك وأصحابه في نفي استخدامها: أنها ممنوعة من بيعه لها، ولا تعتق في ثلثه، فلم يكن له استخدامها؛ كالحرة". انظر: "المنتقى شرح الموطأ"(6/ 24).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان"، للعمراني (8/ 523)، وفيه قال:"ذكر الشافعي رحمه الله تعالى: "(أنها لا تُخالف الأمة، غير أنها لا تخرج من ملكه). وجملة ذلك: أن حكم أم الولد حكم الأمهَ القنة، فيجوز للسيد وطؤها، واستخدامها، وإجارتها".=
كذلك هل له أن يأخذ كسبَها؟ هل له أخذ إجارتها؟
(1)
. هل له أن يُقيم
= أما تزويج السيد لها، ففيه ثلاثة أقوال. يُنظر:"البيان" للعمراني (8/ 523): وهل يجوز تزويجها؟ فيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: (يجوز)، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ لأنها أَمَة يملك الاستمتاع بها، فملك تزويجها، كالمدبرة، فعلى هذا: له إجبارها على النكاح. والثاني: يصح تزويجها برضاها، ولا يصح بغير رضاها؛ لأنها أَمَة ثَبتت لها الحرية بسبب لا يملك المولى إبطاله، فهي كالمكاتبة، وفيه احتراز من المدبرة. والثالث: لا يصح تزويجها بحال؛ لأنها ملك السيد قد ضعف في حقها، وهي لم تكمل، فلم يكن له تزويجها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (3/ 155)، حيث قال:"وأحكام أم الولد أحكام الأَمَة من وطء وخدمة وإجارة ونحوها".
أما تزويجها. ينظر: "مختصر الخرقي"(ص: 167) حيث قال: "وله تزويجها وإن كرهت ".
(1)
في مذهب الأحناف يأخذ مالها، يُنظر:"شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (320/ 8)، حيث قال:" (وإذا عتقت أم الولد بموت مولاها، أو بتعجيله عتقها في حياته: كان مالها لمولاها، لا شيء لها منه)؛ لأنها أَمَة لا تَملك، ألا ترى أن المولى كان يطؤها يملك اليمين ".
وله أن يؤاجرها، يُنظر:"لسان الحكام "، لابن الشحنة (ص: 363)، حيث قال:"فَأُمُّ الْوَلَد يجوز للسَّيِّد أَن يُؤاجرها".
وفي مذهب المالكية: ليس له ذلك. "الفواكه الدواني "، للنفراوي (2/ 136)، حيث قال:"وأم الولد لا يجوز لسيدها إذا مرض انتزاع مالها".
وليس له أن يُؤاجرها. يُنظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 199)، حيث قال:"وأجاز الشافعي استئجار أم الولد في الخدمة، واستخدامها خلاف ما ذهب إليه مالك من أنه لا يجوز أن تؤاجر ولا تستخدم إلا فيما خَفَّ ولا تَعب فيه ".
وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"التهذيب "، للبغوي (8/ 488)، حيث قال:"وتصرف مكاسبها إليه "
وله أن يؤاجرها. وقد سبق في العزو من كلام العمراني.
وفي مذهب الحنابلة: كسبُها لسيدها، ينظر:"كشاف القناع "، للبهوتي (4/ 569)، حيث قال:"وملك كسبها وحدها وعورتها وغيره من أحكام الإماء؛ لما روى ابن عباس مرفوعًا: "مَن وطئ أَمَته فولدت له، فهي معتقة عن دُبُر منه "، فدل على أنها باقية على الرق مدة حياته فكسبها له ".
وله أن يؤاجرها. وقد سبق.
الحد عليها؟
(1)
.
(1)
ذهب الجمهور إلى: أن السيد له إقامة الحد على مملوكه على شروط ذكروها فيه، وخالف في ذلك الأحناف فرأوا أن ذلك من شأن السلطان، ثم إنهم اتفقوا جميعًا على أن السيد ليس له إقامة الحد على مكاتبه، ولا على امرأة ذات زوج، فمن باب أولى يصدق ذلك على أم الولد.
وبيان ذلك كالتالي:
مذهب الأحناف، يُنظر:"بدائع الصنائع "، للكاساني (7/ 57)، حيث قال:"ولاية إقامة الحدود ثابتة للإمام بطريق التعيين، والمولى لا يساويه فيما شرع له بهذه الولاية، فلا يثبت له ولاية الإقامة استدلالًا بولاية إنكاح الصغار والصغائر؛ لأنها لما ثبتت للأقرب - لم تثبت لمن لا يساويه فيما شرع له الولاية، وهو الأبعد، وبيان ذلك أن ولاية إقامة الحد إنما ثبتت للإمام؛ لمصلحة العباد، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم؛ لأن القضاة يمتنعون من التعرض خوفًا من إقامة الحد عليهم، والمولى لا يساوي الإمام في هذا المعنى؛ لأن ذلك يقف على الإمامة، والإمام قادر على الإقامة؛ لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهرًا وجبرًا، ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم؛ لانعدام المعارضة بينهم وبين الإمام، وتهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه فيقيم على وجهها، فيحصل الغرض المشروع له الولاية بيقين ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 1396)، حيث قال:"للسيد أن يُقيم على عبده وأَمَتِه حَدَّ الزنا والشرب في الجملة، خلافًا لأبي حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم "، وقوله: "إذا زنَت أمة أحدكم فليحدها"، ولأن له أن يجلدها بحق الملك كالإمام، وهذا إذا كانت لا زوج لها، أو كان زوجها عبدًا للسيد، فأما إن كان لها زوج حر أو عبد لغير السيد فلا يقيم سيدها عليه الحد؛ لأن في ذلك تصرفًا في حق الغير وإبطال فراشه، ولا يد للسيد على ملك غيره ". وانظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (1463).
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب في دراية المذهب "، للجويني (17/ 211)، حيث قال:"ومما يجب الإحاطة به: أن السلطان من أهل إقامة الحد على المملوكين، والسادة من أهل إقامة الحد عليهم، فلو جعلنا السيد من أهل الإقامة، فليس عليه مراجعة السلطان فيما فوَّضه الشرع إليه، وإذا لم يُقم السيد في بعض الصور، أقام السلطان، وإن ثبت الحدُّ، فابتدر السلطان وأقامه وقع الموقع ".
وفي استثناء المكاتب، يُنظر:"فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب "، لزكريا الأنصاري (2/ 192) حيث قال:"ويحد الرقيق "غير المكاتب" الإمام؛ لعموم ولايته، "أو السيد"، وهو أولى؛ لأنه أستر".=
هل له أن ينظر إلى عَورتها؟
(1)
. هذه مسائل كثيرة، وأكثر العلماء فيها على أن له ذلك، ومالكٌ خالفَ في بعضها.
قوله: (وَجُمْهُورُ مَنْ مَنَعَ بَيْعَهَا لَيْسَ يَرَوْنَ هَاهُنَا سَبَبًا طَارِئًا عَلَيْهَا يُوجِبُ بَيْعَهَا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهَا إِذَا زَنَتْ رُقَّتْ)
(2)
.
= وذكر العمراني الشروط التي يجب أن تتوفر في السيد ليصلح له إقامة الحد على عبده، فقال:
"شروط إقامة السيد الحَد على مملوكه: وأما المولى الذي يملك إقامة الحد على مملوكه. فلا خلاف على المذهب: أن المولى إذا كان رجلًا، بالغًا، عاقلًا، عالمًا، مسلمًا، حرًّا، عدلًا، فله إقامة الحد على مملوكه ". انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"(12/ 380).
وفي مذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد"، لابن قدامة (4/ 107، 108)، حيث قال:"للسيد إقامة الحد على رقيقه؛ لقول النبي: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد".
ولا يملك إقامته إلا بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون مكلفًا، عالمًا بالحدود وكيفية إقامتها؛ لأنه إذا لم يعلم لا يمكنه الإتيان به على وجهه.
الشرط الثاني: أن يختص بالمملوك، فأما المشترك، والأمة المزوجة، والمكاتبة، فلا يُقيم الحد عليهم إلا الإمام؛ لأن ابن عمر قال ذلك، ولا مخالف له في الصحابة، ولأنه لم تكمل ولايته عليهم، فأشبهوا من بعضه حر.
الشرط الثالث: أن يكون الحد جلدًا؛ كحد الزنا والشرب والقذف، فأما القطع والقتل في الردة، فلا يملكه.
الشرط الرابع: أن يثبت عنده سببه بإقرار، أو بيِّنة".
(1)
سبق أن ذكرنا أنهم اتفقوا على أن السيد له وطء أم ولده، كما قال ابن القطان:"واتفقوا أن لسيدها وطأها حاملًا أو غير حامل ما لم يمنعه من ذلك مانع شرعي ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(126/ 2)، وعليه فدون الوطء من باب أَوْلَى.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 294) عن ابن سيرين، عن أبي العجفاء، أن عمر قال:"الأمة إذا أسلمت، وعَفَّت، وحصنت، فإن ولدها يعتقها، وإن فجرت، وكفرت -أو قال: زنت- رقت ".
أي: أنَّها خانت، وبهذا تُصبح غير صالحة، فيرى بأن هذا عقوبة لها، لكن هناك أحكام كثيرة ذُكرت أكثر مما ذكر المؤلف، منها هل له أن يعتقها؟
والجواب: نعم؛ لأن هذا فيه خير لها، كذلك هل له أن يستخدمها أو لا؟
سيأتي خلاف مالك في ذلك.
أيضًا الكسب الذي تحصل عليه هل له أن يأخذه؟ هل له أن يأخذ إجارتها؟ هل له كذلك أن ينظر إلى عورتها؟ هل له أن يُقيم الحد عليها؟
هناك مسائل كثيرة يَرى العلماء أنها تَلحق بالأَمَة
(1)
.
قوله: (وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: هَلْ لِسَيِّدِهَا اسْتِخْدَامُهَا طُولَ حَيَاتِهِ وَاغْتِلَالُهُ إِيَّاهَا؟).
واغتلاله يعنى: أخذ أجرتها
(2)
. وهاتان المسألتان خالف فيهما مالك، أما بقية ما ذكرتُ فهي موضع اتِّفاق بين العلماء، ولم يختلفوا فيها، ما عدا مالكًا يقول:"ليس له أن يستخدمها"، والمالكية لهم رأي حتى فيما يتعلق بالزوجة، يعني: قضية الخدمة
(3)
.
ولكن الشافعية والحنابلة خالفوا في ذلك، وقالوا:"له أن يستخدمها، وله أن يأخذ كسبها، وله إجارتها، وله أن ينظر إلى عورتها، وله أن يُزوجها وله أن يعتقها، وله أن يُقيم الحَدَّ عليها، إلى غير ذلك ".
ومالك وافقهم في أكثر الأمور، وخالف في استخدامها، وهو يرى أنه ليس له إلا الوطء.
(1)
سبق هذا كله.
(2)
الغلة: كل ما يحصل من ريع أرض، أو كرائها، أو أجرة غلام، أو نحو ذلك. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب "، للمطرزي (ص: 344).
(3)
سبق ذكره.
والشافعية والحنابلة يقولون: ما دام يجوز له الوطء، وهو أهم الأمور؛ فمن باب أَوْلَى يجوز له أن يستخدمها
(1)
.
قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
(2)
، وَإِنَّمَا لَهُ فِيهَا الْوَطْءُ فَقَطْ
(3)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ
(4)
. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ رَقَبَتَهَا بِالْبَيْعِ لَمْ يَمْلِكْ إِجَارَتَهَا
(5)
، إِلَّا أَنَّهُ يَرَى أَنَّ إِجَارَةَ بَنِيهَا مِنْ غَيْرِهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُمْ عِنْدَهُ أَضْعَفُ
(6)
. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا
(7)
. فَسَبَبُ الْخِلَافِ: تَرَدُّدُ إِجَارَتِهَا بَيْنَ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَطْؤُهَا، وَالثَّانِي: بَيْعُهَا. فَيجِبُ أَنْ يُرَجَّحَ أَقْوَى الأَصْلَيْنِ شَبَهًا
(8)
. وَأَمَّا مَتَى تَكُونُ حُرَّةً؟ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ آنَ ذَلِكَ الْوَقْتِ
(1)
سبق ذكره.
(2)
سبق ذكر ذلك عن أبي الوليد ابن رشد.
يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (2/ 539): "قال مالك: ليس لسيد أم الولد أن يستخدمها ولا يجهدها في مثل استقاء الماء، والطحين، وما أشبهه ".
(3)
سبق ذكره.
(4)
سبق ذكره.
(5)
يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف "، للقاضي عبد الوهاب (2/ 1004)، حيث قال:"ليس للسيد إجارتها، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي؛ لأن الحرمة المانعة من بيعها مانعة من إجارتها؛ لأنه لم يبق له فيها إلا الوطء، ولولاه لعتقت، ولأنه نوع من المعاوضة فيما كان يملكه فيها قبل ".
(6)
هذا في الإجارة، وكذا في الخدمة.
يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (2/ 601)، حيث قال:"وليس للسيد فيها خدمة، ولا استسعاء، ولا غلة، وإنما له فيها المتعة، وله الخدمة في أولادها من غيره ممن ولدته بعد ولادتها منه ".
(7)
يُنظر: "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج "، للرملي (8/ 435)، حيث قال:" (واستخدامها وإجارتها) لا من نفسها؛ لما مر، ولبقاء ملكه عليها وعلى منافعها".
(8)
أي: الذين أجازوا إجارتها قاسوه على الوطء، والذين منعوا إجارتها قاسوه على عدم جواز بيعهن.
هُوَ إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ)
(1)
.
وقد نَبَّه المؤلفُ إلى أنها تكون حرة إذا مات السيد، وتخرج من رأس المال، يعني: لا يكون من الثلث، وهذا ليس فيه خلاف، والمؤلف هنا كأنه أشار إلى قضية الثُّلُث
(2)
.
قوله: (وَلَا أَعْلَمُ الآنَ أَحَدًا قَالَ: تُعْتَقُ مِنَ الثُّلُثِ).
فهل هي كالمدبرة يكون في الثلث أو لا؟ فيها خلاف كما مر.
والحقيقة: هذه ليس فيها خلاف، ونحن نقطع ما تردد فيه المؤلف هناك خلاف أو ليس بخلاف، نقول: ليس في المسألة خلاف، وإنما هي أم ولد، وتصبح حرة، وتخرج حريتها من رأس المال، وهذا ما جاءت به الآثارُ.
قوله: (وَقِيَاسُهَا عَلَى الْمُدَبَّرِ ضَعِيفٌ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ مِنَ الثُّلُثِ).
وفي الحقيقة هذا لم يقل به أحد فيما نعلم، فلا حاجة لأن نقول: قاسوا أو لم يقيسوا، ولكن الواقع ليس هناك قياس في هذه المسألة، ولكنها تعتق من رأس المال.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
مذهب الأحناف، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص: 178)، حيث قال:"وإذا مات المولى عتقت من جميع المال ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (3/ 200)، حيث قال:"تعتق أم الولد من رأس المال بعد وفاة سيدها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (18/ 319)، حيث قال:"إذا مات سيد أم الولد عتقت بموته، ولزمها الاستبراء".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع "، للبهوتي (4/ 536)، حيث قال:"الأم استحقت الحرية بموت سيدها".
(2)
سبق تحريره والكلام عليه.
([كِتَابُ الجِنَايَاتِ])
هذا الكتاب عقده المؤلف في بيان أنواع الجنايات.
والجنايات
(1)
: جمع جناية؛ وهي التعدي، لكن الفقهاء رحمهم الله خصوا الجناية بالتعدي على النفس.
(1)
الجنايات؛ مفردها: جناية، وهي لغة: الذنب الذي يوجب عليه عقوبة؛ قال ابن منظور: "الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا والآخرة" كما في "لسان العرب"(14/ 154).
وأصله من جني الثمر. يُنظر: ""البناية شرح الهداية" للعيني (62/ 13)، حيث قال: "اسم لما يجنيه من شر، أي: يكسبه، تسميته بالمصدر إذ هي في الأصل مصدر جنى عليه شرًّا، وأصله من جني الثمر، وهو أخذه من الشجر". وانظر:"المصباح المنير" للفيومي (1/ 112).
وأما تعريفها اصطلاحًا؛ فهو متقارب عند الفقهاء، وخلاصته: ما أُصيبت به النفس.
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (3/ 62)، حيث قال:"ويراد بإطلاق اسم الجناية عند فقهاء الحنفية: فعل حل في النفس أو الطرف، وقال شيخ الإسلام: "الجناية على النفس يسمى قتلًا، وفيما دون النفس قطعًا وجرحًا".
وعند المالكية: "هو فعل يوجب عقوبة فاعله بحد أو قتل أو قطع أو نفي "، يُنظر:"شرح حدود ابن عرفة" للرصاع (ص 489).
وعند الشافعية كما في "روضة الطالبين" للنووي (9/ 122)، حيث قال:"هى القتل والقطع والجرح الذي لا يزهق ولا يبين ".
وعند الحنابلة كما في "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 503)، حيث قال:" (التعدي على الأبدان بما يوجب قصاصًا أو غيره)، أي: مالًا أو كفارة، وسموا الجناية على الأموال غصبًا ونهبًا وسرقة وخيانة وإتلافًا".
أما الجناية على المال بسرقة أو غصب أو نهب أو إتلاف؛ فمنه ما يوجب الحد، ومنه ما يوجب التعزير
(1)
.
قوله: (وَالجِنَايَاتُ الَّتِي لَهَا حُدُودٌ مَشْرُوعَةٌ أَرْبَعٌ).
يرى المؤلف رحمه الله أن الجنايات التي لها حدود مشروعة أربع، والحقيقة أنها خمس: (السرقة، والحرابة
(2)
، والزنا، والقذف، وشرب الخمر).
(1)
التعزير لغة: اللوم، والرد. يُنظر:"المحكم والمحيط الأعظم"(1/ 516)، حيث قال:"العَزْرُ: اللوم. وعَزَرَهُ يَعْزِرُهُ عَزْرًا، وعَزَّرَهُ: رده ".
واصطلاحًا: التأديب بما دون الحد. يُنظر: "التعريفات"(ص 62)، حيث قال:"التعزير: هو تأديبٌ دون الحد، وأصله من العزر، وهو المنع ".
(2)
والفقهاء يعبرون عن هذا الباب بباب "الحرابة"، أو "حد قطاع الطريق "، أو "حد المحاربين "، ونحوه. وأصله من "حَرَبَ "، أي:"سلب ". يُنظر: "المطلع على أبواب المقنع " للبعلي (ص 460)، حيث قال:"واحد المحاربين: محارب، وهو: اسم فاعل من حارب، وهو فاعل من الحرب، قال ابن فارس: "الحرب: اشتقاقها من الحرب، (يعني: بفتح الراء)، وهو مصدر حرب ماله، أي: سلبه ".
وأما تعريفه اصطلاحًا؛ فينظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (4/ 114). حيث قال في تعريف المحاربين: "هم القوم يجتمعون لهم منعة بأنفسهم يحمي بعضهم بعضًا، ويتناصرون على ما قصدوا إليه ويتعاضدون عليه، وسواء كان امتناعهم بحديد أو خشب أو حجارة، ويكون قطعهم على المسافرين في دار الإسلام من المسلمين وأهل الذمة دون غيرهم، هذا عند أبي حنيفة وأصحابه ".
وقريب منهم المالكية، إلا أنهم يشترطون طريقًا يتعذر معه الغوث كالفلاة التي يقل المرور بها. يُنظر:"منح الجليل" لعليش (9/ 335)، حيث قال:"المحارب: قاطع الطريق لمنع سلوك، أو آخذ مال مسلم أو غيره، على وجه يتعذر معه الغوث ".
ونحوه عند الشافعية. يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 301)، حيث قال:"باب قاطع الطريق: هو مسلم مكلف له شوكة -لا مختلسون- يتعرضون لآخر قافلة، يعتمدون الهرب، والذين يغلبون شرذمة بقوتهم قطاع في حقهم -لا لقافلة عظيمة- وحيث يلحق غوث ليسوا بقطاع، وفقد الغوث يكون للبعد أو لضعف ".
ويُلحظ هنا أن الشوكة نسبية؛ فإذا قدروا على شرذمة قليلة فهم قطاع، مع أنهم لو تعرضوا لقافلة كبيرة، لم يكونوا قطاعًا.=
وقد عدّ المؤلف القصاص نوعًا من أنواع الحدود؛ لأن القاتل المتعمد عقوبته القتل إلا أن يعفوَ أولياء المقتول.
وأكثر العلماء على أنه عقوبة لا حدٌّ
(1)
(2)
.
= ونحوه مذهب الحنابلة؛ ينظر: "الإقناع" للحجاوي (278/ 4)، حيث قال:"وهم قطاع الطريق المكلفون الملتزمون -ولو أنثى- الذين يعرضون للناس بسلاح -ولو بعصا وحجارة- في صحراء أو بنيان أو بحر، فيغصبونهم مالًا محترمًا قهرًا مجاهرة".
وسيأتي ذلك مفصلاً في كتاب الحدود.
(1)
لعل الصواب: "عقوبة" لا "حد".
(2)
العقوبة أعم من الحد؛ فالحد نوع من العقوبة، ولكنه مقدر لحق الله، وأكثر الفقهاء -كما ذكر الشيخ- لا يُدرجون "القصاص" في أبواب الحدود. ينظر للحنفية:"المبسوط" للسرخسي (9/ 36). حيث قال في تعريف الحد: "وفي الشرع؛ الحد: اسم لعقوبة مقدرة تجب حقًّا لله تعالى، ولهذا لا يسمى به التعزير؛ لأنه غير مقدر، ولا يسمى به القصاص؛ لأنه حق العباد"، وجعل للحدود بابًا، وللجنايات بابًا، وكذا عند الشافعية؛ كما في "المنهاج" وشروحه، وعند الحنابلة كما في "الإقناع" و"الكشاف "، و"المغني"، وغيرها
…
وأما المالكية؛ فقد جمعهما ابن رشد -كما في المتن-، ومثله ابن جزي في "القوانين الفقهية"(ص 226)، ومنهم من يبوب للحدود، ويخص القتل بباب مستقل (الجنايات) كابن عبد البر في "الكافي"، وقد توسط خليل فجمع جملة من الأحكام بعضها في القتل، وبعضها في قتل الزاني المحصن في أول:(باب في أحكام الدماء والقصاص وما يتعلق بذلك)، "مختصر خليل "(ص 229)، ثم أفرد الحدود.
وممن جمعهما في باب (الحدود) ابن المنذر في "الإجماع "، مع أنه فرق بينهما في "الأوسط"، وهذا مما يؤكد على أن الخلاف شكلي في هذه المسألة.
ولا يترتب على هذا شيء -والله أعلم- فالجميع يثبت حق العفو لولي الدم -كما سيتبين خلال الباب- وهذا لا ينفي كونه حدًّا؛ فإن حد القذف يسقط بإسقاط المقذوف في قول طائفة من أهل العلم، منهم مالك في قول؛ كما سيأتي في باب حد القذف، فالخلاف في المسألة شكليٌّ لا حقيقي.
وينظر في مسألة حد القذف: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 515).
وينظر في مسألة العفو: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 516)، حيث قال:"العفو في حقوق الآدميين إذا عفوا جائز بإجماع ".
قوله: (جِنَايَاتٌ عَلَى الأَبْدَانِ وَالنُّفُوسِ وَالأَعْضَاءِ؛ وَهُوَ المُسَمَّى قَتْلًا وَجَرْحًا).
هذا هو النوع الأول: الجناية على الأبدان والنفوس والأعضاء. وتنبّه إلى أنه لا يلزم من الجناية على البدن القتل؛ فلا يعامل من قطع يد إنسان أو رجله، أو جدع أنفه، أو شج رأسه، أو قلع ضرسه معاملة من أزهق النفس؛ ولذلك قال الله سبحانه:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، ثم قال:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 178، 179]، لكن الظاهر من صنيع المؤلف أنه أدرج تلك الأنواع بعضها مع بعض؛ ولذا قال:"وهو المسمى قتلًا وجرحًا".
قوله: (وَجِنَايَاتٌ عَلَى الفُرُوجِ؛ وَهُوَ المُسَمَّى رنًا وَسِفَاحًا).
النوع الثاني: الجناية على الفروج وهي الزنا والسفاح.
وجاء النص على عقوبة الزنا بالنسبة للبكر في قول الله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] الآية، وأما الثيب: فحدّه الرجم، فمما نسخ تلاوة وبقي حكمه: آية: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة}
(1)
، وجاء تفصيل ذلك مبينًا في
(1)
انظر: "الناسخ والمنسوخ "، للمقري (ص: 21، 22)، وفيه قال:"وَأما مَا نسخ خطه وَبَقِي حكمه؛ فَمثل مَا رُوِيَ عَن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنه قَالَ: "لَوْلَا أَن أخْشَى أَن يَقُول النَّاس قد زَاد عمر فِي القُرْآن مَا لَيْسَ فِيهِ، لكتبت آيَة الرَّجْم، وأثبتها فِي المُصحف، وَوَاللَّه لقد قرأناها على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: لَا ترغبوا عَن =
أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قوله: (وَجِنَايَاتٌ عَلَى الأَمْوَالِ؛ وَهَذِهِ مَا كَانَ مِنْهَا مَأْخُوذًا بِحَرْبٍ سُمِّيَ حِرَابَةً
(2)
إِذَا كَانَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ سُمِّيَ بَغْيًا
(3)
،
= آبائكم فَإِن ذَلِك كفر بكم. الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة نكالًا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم "، فَهَذَا مَنْسُوخ الخط ثَابت الحكم ".
(1)
أخرج أحمد (21596) عن زيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، فقال عمر:"لما أنزلت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أكتبنيها، قال شعبة: فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم ".
(2)
والفقهاء يعبرون عن هذا الباب بباب (الحرابة)، أو (حد قطاع الطريق)، أو (حد المحاربين)، ونحوه. يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (4/ 114). حيث قال في تعريف المحاربين: "هم القوم يجتمعون لهم منعة بأنفسهم يحمي بعضهم بعضًا، ويتناصرون على ما قصدوا إليه ويتعاضدون عليه، وسواء كان امتناعهم بحديد أو خشب أو حجارة، ويكون قطعهم على المسافرين في دار الإسلام من المسلمين وأهل الذمة دون غيرهم، هذا عند أبي حنيفة وأصحابه ".
وقريب منهم المالكية، إلا أنهم يشترطون طريقًا يتعذر معه الغوث كالفلاة التي يقل المرور بها. يُنظر:"منح الجليل" لعليش (9/ 335)، حيث قال:"المحارب: قاطع الطريق لمنع سلوك، أو آخذ مال مسلم أو غيره: على وجه يتعذر معه الغوث ".
ونحوه عند الشافعية. يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 301) حيث قال:"باب (قاطع الطريق): هو مسلم مكلف له شوكة -لا مختلسون- يتعرضون لآخر قافلة، يعتمدون الهرب، والذين يغلبون شرذمة بقوتهم قطاع في حقهم -لا لقافلة عظيمة- وحيث يلحق غوث ليسوا بقطاع، وفقد الغوث يكون للبعد أو لضعف ".
ويُلحظ هنا أن الشوكة نسبية؛ فإذا قدروا على شرذمة قليلة، فهم قطاع، مع أنهم لو تعرضوا لقافلة كبيرة، لم يكونوا قطاعًا.
ونحوه مذهب الحنابلة؛ ينظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 278)، حيث قال:"وهم قطاع الطريق المكلفون الملتزمون -ولو أنثى- الذين يعرضون للناس بسلاح -ولو بعصا وحجارة- في صحراء أو بنيان أو بحر، فيغصبونهم مالًا محترمًا قهرًا مجاهرة".
وسيأتي ذلك مفصلاً في كتاب (الحدود).
(3)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 195). حيث قال "الباغية: فرقة خالفت الإمام لمنع=
وَإِنْ كَانَ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ المُعَافَصَةِ
(1)
مِنْ حِرْزٍ يُسَمَّى سَرِقَةً
(2)
، وَمَا كَانَ مِنْهَا يَعُلو مَرْتبَةً وَقُوَّةَ سُلْطَانٍ سُمِّيَ غَصْبًا
(3)
.
النوع الثالث؟ الجناية على الأموال، وذكر تحتها أربعة أنواع
(4)
:
الأول: قطع الطريق:
قال: "وهذا ما كان مأخوذا بحرب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل "،
= حق، أو لخلعه، فللعدل قتالهم ". وقوله:"الباغية"، أي: الفرقة الباغية -وهذا باعتبار الغالب، وقد يكون واحدًا- كما أفاده الشيخ عليش في إيضاحه للتعريف في الموضع نفسه.
وستأتي المسألة مفصلة، وعندها نذكر تعريف البغي في المذاهب.
(1)
في المطبوع بالعين، وصوابها: بالغين المعجمة: المغافصة، وهي: الأخذ على غرة.
يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (7/ 61)، حيث قال:"غفص: غافص الرجل مغافصة وغفاصًا: أخذه على غرة".
قال الفيومي: "غافصت فلانًا إذا فاجأته وأخذته على غرة منه، وأخذت الشيء مغافصة، أي: مغالبة". "المصباح المنير"(2/ 449).
(2)
مفاد كلامه رحمه الله أنه لا بد في السرقة من أخذ في خفية من حرز. يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 291). حيث قال ابن عرفة: "السرقة: أخذ مكلف حرًّا لا يعقل لصغره، أو مالًا محترمًا لغيره نصابًا أخرجه من حرز بقصد واحد خفية لا شبهة له فيه ". وسيأتي باب في حد السرقة، ونورد فيه ما يتعلق بالاختلات في التعريف بين المذاهب.
(3)
أفاد رحمه الله أن الغصب لا بد فيه من قوة. يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 292). حيث قال نقلا عن القاضي عياض: "والغصب أخذه بالقوة والسلطنة". فائدة: يُطلق الغصب على الأخذ بقوة، ويتكلم الفقهاء عن ذلك في الغصب من أبواب المعاملات المالية.
ويُطلق الغصب على جميع أنواع أخذ المال. يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 291).
حيث قال نقلاً عن القاضي عياض: "أخذ المال بغير حق ضروب عشرة: حرابة، وغيلة، وغصب، وقهر، وخيانة، وسرقة، واختلاس، وخديعة، وتعد، وجحد، واسم الغصب يطلق عليها كلها في اللغة
…
ثم قال: والغصب: أخذه بالقوة والسلطنة".
وتقدم الكلام عليه مفصلًا في باب الغصب.
(4)
يُنظر الحواشي السابقة في المتن، فقد قدمنا الكلام على أنواع الجنايات وتعاريفها.
والمقصود بهم قطاع الطريق، وجاء النص على عقوبتهم في قول الله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] الآية.
الثاني: البغي:
قال: "بتأويل سمي بغيًا"، وهو المراد في قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
الثالث: السرقة:
قال: "وإن كان مأخوذًا على وجه المعافصة من حرز يسمى سرقة"، فقوله:"على وجه المعافصة"
(1)
يعني: سرقهَ، والسرقة هي التي تكون من حرز؛ كصندوق أو بيت ونحوه، فلو نهب إنسان من إنسان شيئًا، أو اختلس منه شيئًا، أو نحو ذلك؛ فهذا لا يسمى سرقة؛ وإنما يعاقب عليها، ويؤخذ الحق منه.
الرابع: الغصب:
قال: "وما كان منها بعلو مرتبة وقوة سلطان سمي غصبًا"، فيرتبط بالغصب القوة أو السلطة والسيطرة.
قوله: (وَجِنَايَاتٌ عَلَى الأَعْرَاضِ؛ وَهُوَ المُسَمَّى قَذْفًا
(2)
.
(1)
صوابها: (المغافصة) بالغين المعجمة، وتقدم التعريف بها في كلام ابن رشد، وأنها الأخذ على غرة.
(2)
يُنظر: "شرح حدود ابن عرفة" للرصاع (ص 497)، حيث قال:"نسبةُ آدميِ مكلفٍ غيرَه، حرًّا عفيفًا مسلمًا بالغًا أو صغيرة تطيق الوطء، لزنا، أو فطع نسب مسلم ". وسيأتي مفصلًا في باب (القذف).
النوع الرابع: الجناية على الأعراض؛ وهي القذف:
أي: الرمي بالزنا، فإن لم يثبت؛ يحد القاذف حد القذف؛ لقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4].
قوله: (وَجِنَايَاتٌ بِالتَّعَدِّي عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ مِنَ المَأْكُولِ وَالمَشْرُوبِ؛ وَهَذِهِ إِنَّمَا يُوجَدُ فِيهَا حَدٌّ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي الخَمْرِ فَقَطْ
(1)
؛ وَهُوَ حَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
بَعْدَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه).
ذكر المؤلف رحمه الله هنا حد شرب الخمر، وشرب الخمر فيه تعدٍّ على العقل وإفساد له، وهو رأس الفواحش؛ وقد جلد النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر
(3)
، ثم لما كان زمن عمر رضي الله عنه وقد تُجرئ على شربه، جمع الصحابة فاستشارهم، فقال علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما: أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فيجلد حد المفتري -وهو القذف- ثمانين جلدة"
(4)
، واستقر على هذا رأي
(1)
سيأتي في باب في شرب الخمر.
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 245)، حيث قال:"وأجمعوا أن في شرب قليل الخمر وكثيرها الحد، لا أعلم فيه خلافًا بين الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين "، ويأتي توثيق ذلك من كتب المذاهب الأربعة في موضعه من باب (حد الخمر) إن شاء الله.
(3)
ضربُ النبي صلى الله عليه وسلم شاربَ الخمر، ثبت في عدة أحاديث، فمنها: ما رواه البخاري (6773) مخَتصرًا، ومسلم (1706) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:"ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين ".
ولفظ مسلم: عن أنس بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين "، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن:"أخف الحدود ثمانين "، فأمر به عمر".
(4)
أدخل الشيخ رحمه الله كلام علي بن أبي طالب في كلام عبد الرحمن بن عوف؛ فأما ما ذكره هنا؛ فهو كلام علي رضي الله عنه، أخرجه مالك (2/ 409) عن ثور بن زيد =
الصحابة رضي الله عنهم
(1)
قوله: (فَلْنَبْتَدِئ مِنْهَا بِالحُدُودِ الَّتِي فِي الدِّمَاءِ، فَنَقُولُ: إِنَّ الوَاجِبَ فِي إِتْلَافِ النُّفُوسِ وَالجَوَارِحِ هُوَ إِمَّا قِصَاصٌ وِإمَّا مَالُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الدِّيَةَ).
أدخل المؤلف عقوبة القصاص والدية ضمن الحدود، وأكثر الفقهاء يجعلها عقوبة مستقلة، وهذا أمر اصطلاحي ولا مشاحة في الاصطلاح.
قوله: (فَإِذَنْ النَّظَرُ أَوَّلًا فِي هَذَا الكِتَابِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
= الديلي، أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب:"نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى"، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين.
وهذه رواية منقطعة. يُنظر: "البدر المنير" لابن الملقن (8/ 716)، حيث قال:"وهو مرسل ثور بن زيد لم يدرك عمر".
وأما عبد الرحمن بن عوف؛ فكان حاضرًا، وأشار بثمانين كما تقدم عند مسلم في الحاسْية السابقة، ولم يقل: "إذا هذى افترى
…
" بل قاله علي رضي الله عنه بحضوره؛ فقد أخرج الحاكم (4/ 4217)، وغيره عن وبرة الكلبي، قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته وهو في المسجد معه عثمان بن عفان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير رضي الله عنهم متكئ معه في المسجد فقلت: "إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة، فقال عمر:"هم هؤلاء عندك فسلهم "، فقال علي رضي الله عنه:"نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون "، فقال عمر:"أبلغ صاحبك ما قال "، فجلد خالد ثمانين، وجلد عمر ثمانين، وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب جلده ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف التي كانت منه الزلة جلد أربعين، ثم جلد عثمان ثمانين وأربعين. قال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " قال الذهبي في "التلخيص ": "صحيح "، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(7/ 111)، وصوب أنه "ابن وبرة"، وليس "وبرة".
(1)
يعني: أنهم رأوا العمل بذلك؛ أخرج البخاري (6779) عن السائب بن يزيد، قال:"كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين ".
النَّظَرُ فِي القِصَاصِ، وَالنَّظَرُ فِي الدِّيَةِ، وَالنَّظَرُ فِي القِصَاصِ يَنْقَسِمُ إِلَى القِصَاصِ فِي النُّفُوسِ، وَإِلَى القِصَاصِ فِي الجَوَارِحِ، وَالنَّظَرُ أَيْضًا فِي الدِّيَاتِ يَنْقَسِمُ إِلَى: النَّظَرِ فِي دِيَاتِ النُّفُوسِ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي دِيَاتِ قَطْعِ الجَوَارِحِ وَالجِرَاحِ، فَيَنْقَسِمُ أَوَّلًا هَذَا الكِتَابُ إِلَى كتَابَيْنِ؛ أَوَّلُهُمَا: يُرْسَمُ عَلَيْهِ كِتَابُ القِصَاصِ، وَالثَّانِي: يُرْسَمُ عَلَيْهِ كِتَابُ الدِّيَاتِ).
أشار المولف إشارة عامة إلى طريقته في هذا الكتاب، وأنه قسمه إلى قسمين:
القسم الأول: القصاص، وينقسم إلى قسمين:
الأول: القصاص في النفوس.
والثاني: القصاص في الجوارح.
القسم الثاني: الديات، وينقسم إلى قسمين أيضًا:
الأول: ديات النفوس.
والثاني: ديات قطع الجوارح أو الجراح.
واعلم أن الأصل في القتل العمد القصاص، إلا إذا رضي أولياء المقتول أو بعضهم بالدية، أما القتل الخطأ وشبه العمد فليس فيه إلا الدية، وهي على العاقلة
(1)
.
وقوله: "وإلى القصاص في الجوارح ": ذلك أن القصاص لا يكون دائمًا في إزهاق النفس؛ فقد يكون في قطع عضو، أو في جدع أنف، أو قطع أذن، أو فقء عين، أو غير ذلك من أعضاء الإنسان وأجزاء بدنه.
وما كان من أعضاء الإنسان واحدًا ففيه الدية كاملة؛ كاللسان والذكر، وما كان منه اثنان ففيه نصف الدية؛ كالعينين والشفتين والأذنين ونحو ذلك
(2)
.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
يأتي توثيقه مفصلًا إن شاء الله.
(2)
يأتي توثيق كل ذلك مفصلًا إن شاء الله.
(كِتَابُ القِصَاصِ
(1)
وَهَذَا الكِتَابُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الأَوَّلُ: النَّظَرُ فِي القِصَاصِ فِي النّفُوسِ. وَالثَّانِي: النَّظَرُ فِي القِصَاصِ فِي الجَوَارحِ، فَلْنَبْدَأْ مِنَ القِصَاصِ فِي النُّفُوسِ.
كِتَابُ القِصَاصِ فِي النُّفُوسِ)
بدأ المؤلف رحمه الله بكتاب القصاص في النفوس، والمراد: أن من قتل نفسًا ظلمًا وعدوانًا فإنه يقتل بها، إذ لا يجوز للمسلم أن يتعدى على
(1)
القصاص، مأخوذ من اتباع الأثر، كأن المقتص يتتبع أثر القاتل. يُنظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 163) حيث قال: "والقصاص: القتل بإزاء القتل، وإتلاف الطرف بإزاء إتلاف الطرف، وقد اقتص ولي المقتول من القاتل، أي: استوفى قصاصه، وأقصه السلطان من القاتل، أي: أوفاه قصاصه. وهو من قولك: قص الأثر واقتصه، أي: اتبعه وقص الحديث واقتصه، أي: رواه على جهته ".
ويمكن أن يكون من "تتبع الدم بالقود" ينظر: "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 272).
وقيل: مأخوذ من القطع. يُنظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 241) حيث قال: "مأخوذ من القص؛ وهو القطع، ويقال: أقص الحاكم فلانًا من قاتل وليه فاقتص منه، ويقال للمقراض: مقص، وقاصصت فلانًا من حقه إذا قطعت له من مالك مثل حقه، ووضع القصاص موضع المماثلة".
نفس فيزهقها بغير حق، أما القتل بحق فهذا ما شرعه الله سبحانه، فالأصل في القتل الحرمة، وقد دل على ذلك الكتاب والسُّنة والإجماع.
فمن الكتاب: قوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} [البقرة: 178]، وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]، وقوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]، وهذه الآية من أشد الآيات في تحريم القتل، وفي بيان شدة عقوبته، وغضب الله سبحانه ولعنه لمن يقتل مؤمنًا ظلمًا وعدوانًا، ولذلك جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"توبة القاتل لا تقبل؛ لأن هذه الآية من آخر ما نزل"
(1)
، ولأنه خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ
(2)
.
(1)
ذكره الشيخ رحمه الله بمعناه، وهما أثران عن ابن عباس؛ فأما الأول؛ فأخرجه البخاري (4764) عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] قال: "لا توبة له "، وعن قوله جل ذكره:{لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]، قال:"كانت هذه في الجاهلية".
وأما الثاني؛ فأخرجه البخاري أيضًا (4763)، عن سعيد بن جبير، قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيه إلى ابن عباس، فقال:"نزلت في آخر ما نزل، ولم ينسخها شيء".
(2)
اختلفت الروايات عن ابن عباس في النسخ وعدمه، وقد تعرض لها الحافظ ابن حجر، فأجاد. يُنظر:"فتح الباري" لابن حجر (8/ 496)، حيث قال: "وحاصل ما في هذه الروايات: أن ابن عباس كان تارةً يجعل الآيتين في محل واحد، فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارةً يجعل محلهما مختلفًا، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن عموم التي في (الفرقان) خص منها مباشرة المؤمن القتل متعمدًا، وكثير من السلف=
وأكثر العلماء على أن القاتل تقبل توبته إذا تاب
(1)
، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها: قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
(2)
، قالوا: هذا دليل على أن الله تعالى لا يغفر لمن يموت مشركًا، أما من ارتكب معصية دون الشرك فإن ذلك تحت مشيئة الله عز وجل.
وقوله سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، قالوا: والقتل داخل في الذنوب.
واستدلوا كذلك بما جاء في "الصحيحين" عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال: "إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا؛ فهل له من توبة؟ " فقال: "لا"، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: "إنه قتل مائة نفس؛ فهل له من توبة؟ " فقال: "نعم؛ مَن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء" فانطلق، حتى إذا نصف الطريق فأتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: "جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله تعالى"، وقالت ملائكة العذاب: "إنه لم يعمل خيرًا قط "، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: "قِيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له "،
= يطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض، وأولى من دعوى أنه قال بالنسخ ثم رجع عنه ".
(1)
يُنظر: "فتح الباري " لابن حجر (8/ 496)، حيث قال:"وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من ذلك على التغليظ، وصححوا توبة القاتل كغيره ".
وراجع للفائدة "فتح الباري" لابن حجر (6/ 518).
(2)
جزء من آية في موضعين من سورة النساء: [48، و 116].
فقاسوا، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة"
(1)
.
ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"
(2)
.
وقد أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق لما سبق من الأدلة
(3)
.
والحكمة من مشروعيته: حفظ المجتمعات والنفوس، ولذا قال الله سبحانه وتعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] فكل إنسان تحدثه نفسه أو يدفعه شيطانه لقتل آخر إذا تفكر في مآل أمره ارتدع وابتعد عن القتل، فيكون قد أحيا نفسه وأحيا غيره
(4)
.
قوله: (وَالنَّظَرُ أَوَّلًا فِي هَذَا الكِتَابِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: إِلَى النَّظَرِ فِي المُوجِبِ (أَعْنِي: المُوجِبَ لِلْقِصَاصِ)، وَإِلَى النَّظَرِ فِي الوَاجِبِ، أَعْنِي القِصَاصَ، وَفِي أَبْدَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ، فَلْنَبْدَأْ أَوَّلًا بِالنَّظَرِ فِي المُوجِبِ. وَالنَّظَرُ فِي المُوجِبِ يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي صِفَةِ
(1)
أخرجه البخاري مختصرًا (3470)، ومسلم مطولًا (2766).
(2)
أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).
واللفظ الذي أورده الشيخ، هو: لفظ مسلم، وأما لفظ البخاري، فقد قدم "النفس بالنفس "، وفيه:"المارق" بدلًا من "التارك ".
(3)
قال ابن القطان: "ودماء المؤمنين محرمة على ظاهر كتاب الله عز وجل، وبالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع أهل العلم، إلا بالحق الذي استثناه الله عز وجل في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم " انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 268).
(4)
يُنظر: "تفسير الطبري"(3/ 382)، حيث قال:"عن قتادة في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} قال: "قد جعل الله في القصاص حياة، إذا ذكره الظالم المتعدي كف عن القتل ". وذكر عدة آثار في هذا المعنى.
القَتْلِ وَالقَاتِلِ وَالمَقْتُولِ الَّتِي يَجِبُ بِمَجْمُوعِهَا القِصَاصُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَيُّ قَاتِلٍ اتَّفَقَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَلَا بِأَيِّ قَتْلٍ اتَّفَقَ، وَلَا مِنْ أَيِّ مَقْتُولٍ اتَّفَقَ، بَلْ مِنْ قَاتِلٍ مَحْدُودٍ وَمَقْتُولٍ مَحْدُودٍ، إِذْ كَانَ المَطْلُوبُ فِي هَذَا البَابِ إِنَّمَا هُوَ العَدْلُ. فَلْنَبْدَأْ مِنَ النَّظَرِ فِي القَاتِلِ، ثُمَّ فِي القَتْلِ، ثُمَّ فِي المَقْتُولِ).
النظر في الموجب للقصاص:
اعلم أن الموجِب للقصاص هو القتل العمد؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].
فصفة القتل الذي يوجب القصاص: هو ما كان عمدًا وظلمًا، فيخرج القتل الخطأ؛ قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92].
ويخرج ما كان قتلًا بحق؛ كإقامة حدِّ من حدود الله عز وجل، وفي الحديث:"لحدٌّ يقام في الأرض خير من أن يمطر الناس أربعين ليلة"
(1)
.
قوله: "ولا من أي مقتول اتفق
…
إلخ "، إشارة إلى موانع إقامة الحد، كالصغر والجنون، وعدم المكافاة بين القاتل والمقتول.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
أخرجه ابن ماجه (2538)، لكن بلفظ:"أربعين صباحًا"، وأخرجه النسائي (4905)، وابن ماجه (2537)، أيضًا، بلفظ:"إقامة حد من حدود الله، خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله عز وجل"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(3130)، "سنن ابن ماجه"(2/ 848).
(القَوْلُ فِي الشُّرُوطِ
فَنَقُولُ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ القَاتِلَ الَّذِي يُقَادُ
(1)
مِنْهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، بَالِغًا، مُخْتَارًا لِلْقَتْلِ، مُبَاشِرًا غَيْرَ مُشَارِكٍ لَهُ فِيهِ غَيْرَهُ
(2)
).
شروط القتل العمد الذي يوجب القصاص:
أولًا: أن يكون عمدًا عدوانًا، وقد سبق تفصيل ذلك -قريبًا- في بيان صفة القتل العمد.
ثانيًا: أن يكون القاتل عاقلًا بالغًا، فالمجنون والصغير غير مكلفين، وفي الحديث:"رفع القلم عن ثلاث: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يكبر"
(3)
.
كذلك النائم؛ لو انقلب على إنسان بجواره -كطفل صغير مثلًا- فقتله فلا يعتبر هذا عمدًا
(4)
، وإنما يدخل في قتل الخطأ فلا يقتص منه.
(1)
يقاد منه، أي: يقتص منه. يُنظر: "لسان العرب"(3/ 372)، حيث قال:"الجوهري: القود القصاص. وأقدت القاتل بالقتيل، أي: قتلته به. يقال: أقاده السلطان من أخيه ".
(2)
يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 138)، حيث قال:"واتفقوا أن الحر المسلم العاقل البالغ إن قتل مسلمًا حرًّا ليس هو له بولد، ولا انفصل منه، وهو رجل حر عاقل غير حربي ولا سكران ولا مكره، فقتله قاصدًا لقتله عامدًا غير متأول في ذلك، وانفرد بقتله ولم يشرك فيه إنسان ولا حيوان ولا سبب أصلا مباشرًا لقتله بنفسه بحديدة يمات من مثلها، وكان قتله له في دار الإسلام: أن لولي ذلك المقتول قتل ذلك القاتل إن شاء". ولم أجد المسألة في كتب ابن المنذر: "الإجماع "، "الإقناع"، "الأوسط".
(3)
أخرجه أبو داود (4405)، وغيره، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(297).
(4)
لا خلاف في أنه لا يقتص من المغمى عليه، ومثله كل من زال عقله بسبب مباح.
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 284)، حيث قال: "لا خلاف بين أهل العلم، أنه =
واختلفوا في السكران
(1)
؛ وأكثر العلماء على أنه يقتص منه إذا قتل سكره، بخلاف المغمى عليه
(2)
.
ثالثًا: المكافأة بين المقتول وقاتله؛ فلا يقتل مسلم بكافر، ولا حر بعبد
(3)
.
رابعًا: أن يكون مختارًا للقتل مباشرًا له، واختلفوا فيمن أُمر بالقتل جهة التهديد -أي: إن لم يقتل قُتِل-، وسيأتي تفصيل ذلك.
= لا قصاص على صبي ولا مجنون، وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه، مثل النائم، والمغمى عليه ".
قال ابن القطان: "واتفقوا أن الصبي الذي لا يعقل ما يفعل لصغره لا يقتص منه ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(2/ 277).
(1)
هذا مذهب الحنفية. يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 586)، حيث قال:" (ومحمد الصبي والمجنون) والمعتوه (خطأ) بخلاف السكران والمغمى عليه ".
وهو مذهب المالكية أيضًا. يُنظر: "شرح مختصر خليل " للخرشي (8/ 3)، حيث قال:"ويجب القصاص على الذمي والسكران، والمجنون إذا جنى في حال إفاقته ".
وهو مذهب الشافعية. يُنظر: "مغني المحتاج"(5/ 230)، حيث قال:" (والمذهب وجوبه)، أي: القصاص (على السكران) المتعدي بسكره ".
وللحنابلة روايتان أصحهما: يقتص منه -وهي معتمد المذهب- ينظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 173)، حيث قال:"والسكران وشبهه إذا قتل فعليه القصاص ".
وأما الرواية الأُخرى؛ فهي مخرجة على الخلاف في وقوع طلاقه. يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 284)، حيث قال: "ويجب القصاص على السكران إذا قتل حال سكره. ذكره القاضي، وذكر أبو الخطاب، أن وجوب القصاص عليه مبني على وقوع طلاقه، وفيه روايتان، فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان؛ أحدهما: لا يجب عليه؛ لأنه زائل العقل، أشبه المجنون، ولأنه غير مكلف، أشبه الصبي والمجنون.
ولنا: أن الصحابة رضي الله عنه أقاموا سكره مقام قذفه، فأوجبوا عليه حد القاذف ".
أبقيت كلام الموفق ابن قدامة؛ لأن غرض المسألة الخلاف، وليس مجرد معتمد المذهب.
(2)
يُنظر كلام ابن قدامة في الحاشية قبل السابقة؛ فقد ذكر أنه لا خلاف في أنه لا يقتص من المغمى عليه.
(3)
سيأتي توثيق عامة هذه الشروط حيث ذكرها ابن رشد، وإنما أخَّرناها؛ لأنه يعزوها لقائليها.
قوله: "مختارًا للقتل مباشرًا غير مشارك له فيه غيره ": أشار المؤلف رحمه الله إلى مسألة قتل الجماعة بالواحد، وفي المسألة خلاف، والصحيح: أنهم يقتلون به؛ لما صح عن عمر رضي الله عنه أنه: قَتَلَ نَفَرًا؛ خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، قَتَلُوهُ قَتْلَ غِيلَةٍ، وَقَالَ عُمَرُ:"لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا"
(1)
.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي المُكْرِهِ وَالمُكْرَهِ، وَبِالجُمْلَةِ الآمِرُ وَالمُبَاشِرُ، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
،
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ" برواية يحيى بن يحيى، دار الغرب الإسلامي (2/ 443)، والدارقطني (4/ 279)، وعبد الرزاق (9/ 475)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2201).
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 1098)، حيث قال:"وقد اخلف في الرجلين المميزين يأمر أحدهما الآخر بقتل رجل فيقتله؛ فقيل: يقتلان جميعًا إذا كان الآمر مطاعًا. وقيل: يقتل المباشر للقتل وحده ويعاقب الآمر، وهو الصحيح إن شاء الله ".
ومعنى قوله: "المميزين" أي: اللَّذَين يفهمان، ويعرفان معنى القتل؛ فإنه قال قبلها مباشرة:"ولو أمر رجل رجلًا بقتل رجل فقتله؛ فإن كان لا يفهم ولا يعرف معنى القتل والحدود؛ فالآمر هو القاتل، وعليه القود".
(3)
سيأتي كلامهم في المكرِه، وأما الآمر -دون إكراه، أو بإكراه غير معتبر- فالقصاص عليه على الأصل من الاقتصاص من القاتل. يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 258)، حيث قال:"ولا يحصل الإكراه هنا إلا بضرب شديد فما فوقه ". بعد أن ذكر أحكام القصاص من المكرِه، والمكره.
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (11/ 165)، حيث قال:"وأما المتأخرون: فإن سفيان الثوري قال: يقتل العبد، ويعاقب السيد الآمر".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 262)، حيث قال:" (ومن أمر بالقتل مكلفًا يجهل تحريمه)، أي: القتل؛ كمن نشأ بغير دار الإسلام فقتل: لزم الآمر القصاص، أجنبيًّا كان المأمور أو عبدًا للآمر؛ لأن المأمور غير العالم بحظر القتل له شبهة تمنع القصاص؛ كما لو اعتقده صيدًا، ولأن حكمة القصاص: الردع والزجر، ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة، (أو) أمر بالقتل (صغيرًا أو مجنونًا) فقتل: لزم القصاص الآمر لما تقدم. (وإن علم) المأمور (المكلف) ولو عبد الآمر (تحريمه)، أي: القتل (لزمه) القصاص؛ لأنه غير معذور في فعله لحديث: "لا طاعة لمخلوق=
وَأَبُو ثَوْرٍ
(1)
وَجَمَاعَةٌ: "القَتْلُ عَلَى المُبَاشِرِ دُونَ الآمِرِ، وَيُعَاقَبُ الآمِرُ"، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:"يُقْتَلَانِ جَمِيعًا"
(2)
، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ إِكْرَاهٌ، وَلَا سُلْطَانٌ لِلآمِرِ عَلَى المَأْمُورِ
(3)
، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلآمِرِ سُلْطَانٌ عَلَى المَأْمُورِ (أَعْنِي: المُبَاشِرَ)، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ قَوْمٌ: "يُقْتَلُ الآمِرُ دُونَ المَأْمُورِ، وَيُعَاقَبُ المَأْمُورُ"، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ
(4)
،
= في معصية الخالق "، وحديث: "من أمركم من الولاة بمعصية الله فلا تطيعوه" وسواء كان الآمر السلطان أو غيره ".
(1)
يُنظر: "الاستذكار"(8/ 170)، حيث قال:"قال مالك والشافعي والكوفي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: القتل على القاتل دون الآمر، ويعاقب الآمر". وقال ابن المنذر في مسألة -تشبه مسألتنا؛ وهي قتل المحرم الصيد- هل يعاقب القاتل أو الآمر، قال:"وقال الشافعي وأبو ثور: الجزاء على القاتل؛ لأن الله تبارك وتعالى إنما ألزم الجزاء القاتل". انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(3/ 245).
(2)
منهم قتادة. يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 365)، حيث قال:"وقال قتادة: يقتلان جميعًا"، ومنهم المالكية في قول، ينظر:"الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 1098)، حيث قال:"وقد اختلف في الرجلين المميزين يأمر أحدهما الآخر بقتل رجل فيقتله؛ فقيل: يقتلان جميعًا إذا كان الآمر مطاعًا"، ومنهم إبراهيم. يُنظر:"الاستذكار"(8/ 171)، حيث قال:"وقالت طائفة منهم إبراهيم: يقتلان جميعًا".
(3)
محل الكلام في حال الأمر دون إكراه، وفي هذه الحال، لا تجيء أحكام الإكراه. يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 105)، حيث قال:" (و) لا بد من (امتناعه من الفعل قبل الإكراه)؛ لأن الإكراه لا يتحقق إلا على فعل يمتنع عنه المكره، أما إذا كان بفعله فلا إكراه ".
وبالتالي، فلا يدخل في خلافهم الإكراه على القتل.
(4)
ظاهر ما نقله ابن حزم يفيد أنه يرى وجوب القتل على القاتل. يُنظر: "المحلى" لابن حزم (11/ 166)، حيث قال:"وأما قول الحكم، وحماد، والشعبي، وإبراهيم، وأبي سليمان؛ فإنهم احتجوا بأن القاتل هو المتولي للقتل المباشر للقتل، فهو الذي عليه القود خاصة". وأبو سليمان، هو: داود بن علي.
ومذهب الظاهرية في هذه المسألة: أن الآمر إذا كان له سلطة على المأمور فإنهما يقتلان جميعاً.=
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ
(2)
. وَقَالَ قَوْمٌ: "يُقْتَلُ المَأْمُورُ دُونَ الآمِرِ"، وَهُوَ أَحَعدُ قَوْلَيِّ الشَّافِعِيِّ
(3)
. وَقَالَ قَوْمٌ: "يُقْتَلَان جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ"
(4)
(5)
.
= قال ابن حزم: "وسواء أمر عبده، أو عبد غيره، أو صبيًّا، أو بالغًا، أو مجنونًا -إذا كان متولي القتل، أو الجناية بالقطع، أو الكسر، أو الضرب، أو أخذ المال: إنما فعل ذلك بأمر الآمر- ولولا أمره لم يفعله؛ فالآمر، والمباشر: فاعلان لكل ذلك جميعًا". انظر: "المحلى بالآثار"(11/ 169).
(1)
هذا تحصيل مذهب أبي حنيفة، وعند أبي يوسف: لا قصاص عليهما، وأوجبه زفر على المكرَه بالفتح. يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 108)، حيث قال:" (والقصاص على المكرِه) لأنه آلة له فيما يصلح أن يكون آلة وهو القتل، ولا يصلح أن يكون آلة في الإثم؛ لأنه بالجناية على الدين، وأنه حرام، فلا يباح إلا من جهة صاحب الحق. وقال أبو يوسف: لا قصاص على واحد منهما لأن القصاص يندرئ بالشبهات وقد تحققت الشبهة في حق كل واحد منهما، أما المكره فهو محمول عليه، وأما المكره فلعدم المباشرة. وقال زفر: يجب على المكره؛ لأن المباشرة موجبة للقتل ولهذا تعلق به الإثم ".
(2)
المشهور في مذهب الشافعي أن القتل على الآمر، ينظر:"المنهاج" للنووي، (ص 270)، حيث قال:"ولو أكرهه على قتل فعليه القصاص، وكذا على المكرَه في الأظهر". وقوله: فعليه، أي: على المكرِه، كما في "المغني" و"النهاية".
وعندهم قول مرجوح بعدم القصاص على المكرِه، وسيأتي.
(3)
وهو قول مرجوح عندهم بعدم القصاص على المكرِه. يُنظر: "مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج" للشربيني (5/ 221)، حيث قال:"وقيل: لا قصاص على المكره -بكسر الراء-؛ لأنه متسبب، بل على المكره -بفتحها- فقط؛ لأنه مباشر".
(4)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 27)، حيث قال:"ويقتل الشخص (المتسبب) في القتل (مع) الشخص (المباشر) له كحافر بئر لإهلاك شخص معين وموقع له فيقتلان به. وقال القاضي أبو عبد الله بن هارون: يقتل الموقع فقط تغليبًا للمباشرة، فلو حفرها للانتفاع بها فيما يجوز له حفرها فأوقع غيره فيها معصومًا فلا شيء على حافرها، ويقتص من الموقع، ومثل لهما بقوله (كمكره) بكسر الراء على قتل معصوم (ومكره) بفتحها ".
(5)
ووافقه أحمد. يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 517)، حيث قال:" (وإن أكره) مكلف (مكلفًا على قتل معين فقتله فالقصاص عليهما) ".
فرق بين الآمر والمكرِه وبين المباشر والمكرَه، ولذا اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن يقتل المباشر دون الآمر، ويعاقب الآمر بعقوبة دون القتل؛ لأنه ما هدد القاتل ولا ألجأه، وبه قال جمهور العلماء كما حكاه المؤلف عن مالك والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وجماعة.
القول الثاني: يقتلان جميعًا إن لم يكن هناك إكراه ولا سلطان، أو كأن يكون الآمر سَيِّدًا والمأمور عبدًا، وبه قالت طائفة من أهل العلم.
وأما إذا كان للآمر سلطانًا على المباشر للقتل، فقد اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يقتل الآمر دون المأمور، ويعاقب المأمور، وبه قال أبو داود وأبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، وهو مروي كذلك عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنه
(1)
.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 365)، حيث قال:"ونقل عنه أبو طالب، قال: يقتل الولي ويحبس العبد حتى يموت؛ لأن العبد سوط المولى وسيفه. كذا قال علي وأبو هريرة، وقال علي رضي الله عنه: "يستودع السجن "، وممن قال بهذه الجملة الشافعي وممن قال: "إن السيد يقتل ": علي وأبو هريرة".
أثر علي أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 371) عن علي: في رجل أمر عبده أن يقتل رجلًا؟ قال: "إنما هو بمنزلة سوطه، أو سيفه ".
وتعليله بذلك، يدل على أن هذا مذهبه في المكره أيضًا.
وأثر أبي هريرة أخرجه عبد الرزاق (9/ 425) عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: "رجل أمر عبده أن يقتل رجلاً، قال: على الآمر سمعت أبا هريرة يقول: "يقتل الحر الآمر، ولا يقتل العبد، أرأيت لو أن رجلاً أرسل بهدية مع عبده إلى رجل؛ من أهداها؟ "، قلت: فأمر أجيره، قال:"أرى أجيره مثل عبده "، قلت: فأمر رجلاً حرًّا، أو عبدًا لا يملكه، وليسا بأجيرين، قال:"على المأمور إذا لم يملكهما، أو يكونا أجيرين "، قال عطاء بعد:"إن أمر حرًّا قتل المأمور الحر، ولم يبلغه في عبد غيره، ولا في الأجير شيء".
وأخرجه ابن أبي شيبة (9/ 371) مختصرًا: عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة؛ في الرجل يأمر عبده فيقتل رجلًا، قال: يقتل المولى.
القول الثاني: يقتل المأمور دون الآمر، وهو أحد قولي الشافعي.
القول الثالث: يقتلان جميعًا، وبه قال مالك، وهو أظهر الأقوال؛ لأن الآمر ألجأ إلى القتل وهدد، والمباشر باشر القتل، وما كان له أن يقتل غيره لينقذ نفسه، كما لو كان في فلاة فاضطر إلى الأكل فلم يجد إلا طعامًا لا يكفي إلا مضطرًّا مثله؛ فليس له أن يأخذه منه.
قوله: (فَمَنْ لَمْ يُوجِبْ حَدًّا عَلَى المَأْمُورِ، اعْتَبَرَ تَأْثِيرَ الإِكْرَاهِ فِي إِسْقَاطِ كَثِيرٍ مِنَ الوَاجِبَاتِ فِي الشَّرْعِ؛ لِكَوْنِ المُكْرَهِ يُشْبِهُ مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ).
شرع المؤلف رحمه الله في ذكر تعليلات تلك الأقوال التي سبقت في المسألة:
فأما من لم يوجب حدًّا على المأمور: فقد اعتبر تأثير الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع؛ لكون المكره يشبه من لا اختيار له
(1)
.
قوله: (وَمَنْ رَأَى عَلَيْهِ القَتْلَ، غَلَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَ الِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ المُكْرَهَ يُشْبِهُ مِنْ جِهَةٍ المُخْتَارَ، وَيُشْبِهُ مِنْ جِهَةٍ المُضْطَرَّ المَغْلُوبَ، مِثْلَ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ عُلُوٍّ، وَالَّذِي تَحْمِلُهُ الرِّيحُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ).
فغلَّب هؤلاء جانب الاختيار على جانب الاضطرار.
قوله: (وَمَنْ رَأَى قَتْلَهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَعْذُرِ المَأْمُورَ بِالِإْكرَاهِ، وَلَا الآمِرَ بِعَدَمِ المُبَاشَرَةِ).
وذلك أنه فيه حفظ للدماء، وسد للذريعة؛ فلربما أكره إنسان آخر على قتل شخص، فيتخذه وسيلة وذريعة لسفك الدماء.
(1)
وقد تقدم كلام للمصنف حول الإكراه في باب الطلاق، في طلاق المكره.
قوله: (وَمَنْ رَأَى قَتْلَ الآمِرِ فَقَطْ، شَبَّهَ المَأْمُورَ بِالآلَةِ الَّتِي لَا تَنْطِقُ
(1)
).
وهذا واضح؛ حيث نزَّل المأمور منزلة الآلة التي تنفذ القتل ولا رأي لها.
قوله: (وَمَنْ رَأَى [إِسْقَاطَ]
(2)
الحَد عَلَى غَيْرِ المُبَاشِرِ، اعْتَمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ قَاتِلٍ إِلَّا بِالِاسْتِعَارَةِ).
وذلك أنه لما تسبب في القتل نُزِّل منزلة المباشر له
(3)
.
قوله: (وَقَدِ اعْتَمَدَتِ المَالِكِيَّةُ فِي قَتْلِ المُكْرَهِ عَلَى القَتْلِ بِالقَتْلِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَشْرَفَ عَلَى الهَلَاكِ مِنْ مَخْمَصَةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ إِنْسَانًا فَيَأْكُلَهُ
(4)
).
(1)
وقد مر بنا قول علي رضي الله عنه: "إنما هو بمنزلة سوطه، أو سيفه ".
(2)
ما بين المعقوفين ليس في الأصل ولا في (م) ولا في (ت)، واستدركناه من (مح) و (س). وبه يستقيم المعنى، وبغيره يختل.
(3)
تعليل الشيخ رحمه الله مبني على النسخة التي سقط منها "إسقاط "، والمعنى مختل؛ فكلام ابن رشد إسقاط القصاص؛ لأنه لا يطلق عليه "مباشِر" إلا استعارة. والشيخ رحمه الله معذور؛ لأن النسخة كان بها هذا الخلل.
(4)
مراده بالإنسان: المعصوم، فأما غيره فلا؛ ينظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 229)، حيث قال:"وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم، ولا يجوز له أن يقتل ذميًّا؛ لأنه محترم الدم، ولا مسلمًا ولا أسيرًا؛ لأنه مال الغير، فإن كان حربيًّا أو زانيًا محصنًا جاز قتله والأكل منه "، ولم يذكر في منع أكل المسلم والذمي خلافًا، مع أنه قبلها ذكر جملة من الخلاف، فكأنه اتفاق، ولم أجده صريحًا، ولكن يمكن أن يُؤخذ استئناسًا من غيره. يُنظر:"الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 325)، حيث قال:"واتفقوا أن لحم ابن آدم وعذرته وبوله حرام بكل حال ". وينظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 149) حيث قال: " واتفقوا أن ابن آدم وعذرته وبوله حرام بكل حال ".
وأما أن تكون جميع المسألة اتفاقًا بما يشمل غير المعصوم فلا. يُنظر: "البحر المحيط " لأبي حيان (1/ 644)، حيث قال:"وفي شرب الخمر عند الضرورة قياسًا على هذه المحرمات، وفي أكل ابن آدم خلاف مذكور في كتب الفقه ".
وقد سبق تقرير هذه الحجة عند عرض قول المالكية، والله عز وجل يقول:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
قوله: (وَأَمَّا المُشَارِكُ لِلْقَاتِلِ عَمْدًا فِي القَتْلِ؛ فَقَدْ يَكُونُ القَتْلُ عَمْدًا وَخَطَأً، وَقَدْ يَكُونُ القَاتِلُ مُكَلَّفًا وَغَيْرَ مُكَلَّفٍ، وَسَنَذْكُرُ العَمْدَ عِنْدَ قَتْلِ الجَمَاعَةِ بِالوَاحِدِ، وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَكَ فِي القَتْلِ عَامِدٌ وَمُخْطِئٌ، أَوْ مُكَلَّفٌ وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ؛ مِثْلَ عَامِدٍ وَصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، أَوْ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي قَتْلِ عَبْدٍ عِنْدَ مَنْ لَا يُقِيدُ مِنَ الحُرِّ بِالعَبْدِ، فَإِنَّ العُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
(2)
وَالشَّافِعِيُّ
(3)
: "عَلَى العَامِدِ القِصَاصُ، وَعَلَى المُخْطِئِ وَالصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ"، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَجْعَلُهُ عَلَى العَاقِلَةِ
(4)
، وَالشَّافِعِيَّ فِي مَالِهِ
(5)
عَلَى مَا يَأْتِي، وَكَذَلِكَ قَالَا فِي الحُرِّ وَالعَبْدِ يَقْتُلَانِ العَبْدَ عَمْدًا أَنَّ العَبْدَ يُقْتَلُ، وَعَلَى الحُرِّ نِصْفُ القِيمَةِ
(6)
(7)
، وَكَذَلِكَ الحَالُ فِي المُسْلِمِ
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 29)، حيث قال:" (و) إن اشترك مكلف غير حربي إلى آخره مع صبي في قتل معصوم ف (على) المكلف (شريك الصبي) في قتل المعصوم (القصاص) ".
(2)
وهو مذهب أحمد أيضًا. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 172)، حيث قال:"وجب القصاص على شريك الأب، وعلى العبد وعلى الذمي ".
(3)
عند الشافعية: لا يقتل شريك المخطئ والصبي، خلافاً لما عزاه المؤلف. يُنظر:"المنهاج" للنووي، (ص 272)، حيث قال:"ولا يقتل شريك مخطئ".
(4)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 29)، حيث قال:"وعلى عاقلة الصبي نصف الدية".
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 275)، حيث قال في مسألة شريك المخطئ، والصبي، وشريك شبه العمد:"وعلى الأول نصف دية العمد، وعاقلة الثاني نصف دية الخطأ أو شبه العمد".
(6)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 30)، حيث قال:"ولا يقتص من صبي ولا من حر لعبد؛ إذ لم يتكافآ، ودية المكلف الحر على عاقلة الصبي، وفي رقبة العبد وقيمة العبد في مال الحر".
(7)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 259)، حيث قال: " (فإن كافأه أحدهما فقط) كان=
وَالذِّمِّيِّ يُقْتَلَانِ جَمِيعًا
(1)
(2)
(3)
).
أي: قد يشترك عامد ومخطئ، ولا يدري المخطئ بنية صاحبه، فلو قال شخص لآخر:"قم لنطرح هذه الحجارة، أو نهدم ذلك الجدار"، والآخر لا يعلم أنه تحته شخص يريد الطالب قتله، أو أخذ بالغ عاقل بيد صغير أو مجنون وقال له:"أنا أمسك لك فلان فاقتله، أو أشرك معه عبدًا في قتل عبدٍ آخر"، ففي هذه الحالة لا يقام القصاص على المخطئ لقول الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92].
مسألة قتل المسلم بالذمي
(4)
:
اختلف أهل العلم فيما لو قتل مسلم ذميًّا، والأكثر على أنه لا يقتل به.
وكذلك لو قتل ذمي حربيًّا لا يقاد به، والذمي: هو صاحب العهد الذي يعطى العهد ويدفع الجزية للمسلمين.
= أكره حر قنا أو عكسه على قتل قن (فالقصاص عليه)، أي: المكافئ منهما".
ومذهب أحمد هنا كمذهب مالك. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 172)، حيث قال:"ويجب على شريك القن نصف قيمة المقتول ".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 238)، حيث قال:"فلا يقتل مسلم ولو عبدًا بكافر ولو حرا". وهذا فيما لو قتله وحده، وبالأولى لو شارك غيره.
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 259)، حيث قال:" (فإن كافأه أحدهما فقط) كأن أكره حرٌّ قنًّا أو عكسه على قتل قن (فالقصاص عليه)، أي: المكافئ منهما".
(3)
ومذهب أحمد هنا كمذهب مالك. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 172 - 173)، حيث قال:"وعلى شريك الأب وشريك الذمي وشريك الخاطئ ولو أنه نفسه: بأن جرحه جرحين، أحدهما: خطأ والآخر عمد، وشريك غير المكلف وشريك السبع في غير قتل نفسه: نصف الدية في ماله لأنه عمد".
(4)
يأتي تحريره حيث ذكره ابن رشد رحمه الله.
قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: إِذَا اشْتَرَكَ مَنْ يجِبُ عَلَيْهِ القِصَاصُ مَعَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ القِصَاصُ؛ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، وَعُمْدَةُ الحَنَفِيَّةِ: أَنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ؛ فَإِنَّ القَتْلَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَمُمْكِنٌ أَنْ تَكُونَ إِفَاتَةُ نَفْسِهِ مِنْ فِعْلِ الَّذِي لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ كَإِمْكَانِ ذَلِكَ مِمَّنْ عَلَيْهِ القِصَاصُ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"ادْرَؤُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ"
(2)
، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّمُ، وَجَبَ بَدَلُهُ، وَهُوَ الدِّيَةُ، وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى المَصْلَحَةِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّغْلِيظَ لِحَوْطَةِ الدِّمَاءِ؛ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْفَرَدَ بِالقَتْلِ، فَلَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ فِي القِيَاسِ).
فعند الحنيفية يسقط القصاص للشبهة؛ إذ لا يُدرى يقينًا من الذي قتل، والقصاص لا يتبعض فنصير إلى البدل وهو الدية، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ادرؤوا الحدود بالشبهات "
(3)
، وبقوله:"ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم "، كما لو وقع إنسان على جارية مشتركه مع آخر، ظنًّا منه أنه يجوز له ذلك، فهذا فيه شبهة يُدرأ الحد بها.
لكن هل مسألة الباب تعتبر من الشبهات؟ أو مما ينبغى أن تستخدم فيه القوة من باب الردع وصيانة الدماء المؤمنين؟ وهذا ما ذهب إليه الفريق الأول؛ حيث نظر إلى المصلحة التي تقتضي التغليظ في العقوبة، حتى لا يتساهل في أمر الدماء.
(1)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصليب (28/ 5)، حيث قال:"ولا قصاص على شريك الأب، والمولى، والخاطئ، والصبي، والمجنون، وكل من لا يجب القصاص بقتله ".
(2)
لم أجده مرفوعًا بهذا اللفظ، ولكن أخرج الترمذي (1424) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن الترمذي"(ص 163).
(3)
انظر الحاشية السابقة.
وعلى كلٍّ فإن الإمام له أن ينظر إلى المصلحة في ذلك؛ فإن رأى المصلحة في إقامة الحد على هؤلاء جميعًا، فيقتلون؛ ردعًا لهم، وغلقًا لباب الشر حتى لا يتساهل الناس في شأن الدماء، فله أن يفعل.
قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ القِصَاصُ؛ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ العَمْدُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ القَتْلَ صِنْفَانِ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي: هَلْ بَيْنَهُمَا وَسَطٌ أَمْ لَا؟ وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ شِبْهَ العَمْدِ، فَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ
(1)
، وَالمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ نَفْيُهُ إِلَّا فِي الابْنِ مَعَ أَبِيهِ
(2)
، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَخَرَّجُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى
(3)
، وَبِإِثْبَاتِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ
(4)
، وَعَلِيٌّ
(5)
، وَعُثْمَانُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
(6)
،
(1)
هذا مذهب الحنفية. يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 22)، حيث قال:"القتل المتعلق بالأحكام خمسة: عمد، وشبه عمد".
ومذهب الشافعية. يُنظر: "نهاية المحتاج"(7/ 247)، حيث قال:" (عمد وخطأ وشبه عمد) أخَّره عنهما لأخذه من كل منهما شبهًا".
ومذهب الحنابلة. يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام ابن حنبل " للحجاوي (4/ 163)، حيث قال:"والقتل ثلاثة أضرب: عمد يختص القصاص به، وشبه عمد، وخطأ".
(2)
يُنظر: "مناهج التحصيل" للرجراجي (10/ 123)، حيث قال:"وإذا فعل الأب بابنه مثل ما فعل المدلجي بابنه؛ ففيه تغلظ الدية، وهو الذي قال فيه مالك: يشبه العمد بلا خلاف ".
(3)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 19)، حيث قال:"إن لطمه أو وكزه فمات: فتخرج على الروايتين في نفي شبه العمد وإثباته ".
(4)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 283)، وابن أبي شيبة (9/ 136) عن عمر؛ أنه قال:"في شبه العمد ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة".
(5)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 284)، وابن أبي شيبة (9/ 137) عن علي، قال:"في شبه العمد ثلاث وثلاثون حفة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة".
(6)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 285)، وابن أبي شيبة (9/ 136) عن عثمان، وزيد بن ثابت، قالا:"في المغلظة أربعون جذعة خلفة، وتلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون ".
وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَالمُغِيرَةُ
(1)
، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ
(2)
).
بعد أن بيَّن المؤلف رحمه الله موجب القصاص، شرع في بيان صفة الذي يجب به القصاص، قال:"فاتفقوا على أنه العمد"؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]، وقد سبق ذكر الخلاف في توبة القاتل العمد.
واعلم أن القتل على ثلاثة أنواع، اتفقوا منها على اثنين واختلفوا في الثالث.
أما الأول: فالقتل العمد: هو القتل ظلمًا بما يقتل غالبًا.
والثاني: القتل الخطأ: وهو ما وقع بدون قصد.
والثالث: القتل شبه العمد: وهو القتل بما لا يقتل غالبًا، وسمي بذلك لأن الفاعل فيه قَصَدَ الفعلَ ولم يقصد القتل، وقال بهذا النوع جمهور العلماء، خلافًا لمالك رحمه الله
(3)
.
واستدل الجمهور على إثبات هذا النوع بما يلي:
أولًا: ما جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأُخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها -يعنى قتلت المرأة والجنين الذي في بطنها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية الجنين -بغرة عبد أو وليدة- وقضى بديه المرأة على عاقلتها
(4)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 283)، وابن أبي شيبة (9/ 137) عن الشعبي، قال: كان أبو موسى، والمغيرة بن شعبة، يقولان:"في المغلظة من الدية ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة".
(2)
لم ينقل عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن أحد من الصحابة نفي شبه العمد.
(3)
تقدم توثيق المسألة حيث ذكرها ابن رشد.
(4)
أخرجه البخاري (6910)، ومسلم (1681).
والشاهد من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الدية على العاقلة، وليس هذا قتل خطأ؛ فكل واحدة منهما قاتلت الأُخرى، ولم يكن هناك قصدٌ كما في القتل العمد، قالوا: وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدية على العاقلة، والعاقلة لا تتحمل الدية في القتل العمد إذا رضي أولياء المقتول بالدية.
إذًا هذا نوع بين القتل الخطأ والقتل العمد، وهو بالعمد أشبه.
ثانيًا: ما رواه النسائي عن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: "ألا وإن في قتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل؛ فيها أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة"
(1)
، وهذا نص في إثبات هذا النوع.
قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا بِهِ فَرَّقُوا فِيمَا هُوَ شِبْهُ العَمْدِ مِمَّا لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الأَغْلَبِ إِلَى الآلَاتِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا القَتْلُ، وَإِلَى الأَحْوَالِ الَّتِي كَان مِنْ أَجْلِهَا الضَّرْبُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ مَا عَدَا الحَدِيدَ مِنَ القُضُبِ
(2)
أَوِ النَّارِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَهُوَ شِبْهُ العَمْدِ
(3)
؛ وَقَالَ
(1)
أخرجه بهذا اللفظ النسائي (4808)، وصححه الألباني في "الإرواء"(2197).
والبازل: ما بلغ تسعًا. يُنظر: "حاشية السندي على سنن النسائي "(8/ 41)، حيث قال:"إلى بازل عامها متعلق بثنية، وذلك في ابتداء السنة التاسعة، وليس بعده اسم، بل يقال: بازل عام وبازل عامين ". والخَلِفة، الناقة الحامل. يُنظر:"حاشية السندي على سنن النسائي"(8/ 41)، حيث قال:"خلفة -بفتح فكسر-: هي الناقة الحاملة إلى نصف أجلها ثم هي عشار".
(2)
قُضب الحديد، أي: قطع. يُنظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 203)، حيث قال:"وسيفٌ قاضبٌ وقضيبٌ، أي: قَطَّاعٌ، والجمع قواضبُ وقُضُبٌ ".
(3)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 97 - 100)، حيث قال:" (موجب القتل عمدًا، وهو ما تعمد ضربه بسلاح ونحوه في تفريق الأجزاء، كالمحدد من الحجر والخشب والليطة والنار الإثم والقود عينًا) .... ، ثم قال: وشبهه: وهو أن يتعمد ضربه بغير ما ذكر".
والليطة: قشرة القصب، ونحوه. يُنظر:"مختار الصحاح" ص: (287)، حيث قال:=
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: شِبْهُ العَمْدِ مَا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ
(1)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: شِبْهُ العَمْدِ: مَا كَانَ عَمْدًا فِي الضَّرْبِ، خَطَأً فِي القَتْلِ؛ أَيْ: مَا كَانَ ضَرْبًا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ القَتْلُ فَتَوَلَّدَ عَنْهُ القَتْلُ، وَالخَطَأُ: مَا كَانَ خَطَأً فِيهِمَا جَمِيعًا وَالعَمْدُ: مَا كَانَ عَمْدًا فِيهِمَا جَمِيعًا، وَهُوَ حَسَنٌ).
الفرق بين القتل العمد وشبه العمد عند الفائلين به:
أولًا: من حيث اآلة، فإن كان بآلة يحصل بها القتل غالبًا فهو العمد، وإن كان بآلة لا يحصل بها القتل غالبًا فهو شبه العمد.
ثانيًا: من حيث الحال: فإن كان قتال عداوة فهو عمد، وإن كان في مزاح أو تأديب فهو شبه عمد.
ثالثًا: من حيث الأثر: فإن كان عمدًا ففيه القصاص، وإن كان شبه عمد ففيه الدية المغلظة.
- قوله: (فَعُمْدَةُ مَنْ نَفَى شِبْهَ العَمْدِ: أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الخَطَإ وَالعَمْدِ، أَعْنِي: بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ القَتْلَ أَوْ لَا يَقْصِدَهُ، وَعُمْدَةُ مَنْ أَثْبَتَ
= " (الليطة) قشرة القصب"، وزاد في:"لسان العرب"(7/ 396): "والليطة: قشرة القصبة والقوس والقناة وكل شيء له متانة".
فيدخل في الليطة قشر الحديد.
(1)
يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (6/ 100)، حيث قال:" (وشبهه، وهو أن يتعمد ضربه بغير ما ذكر، .... والذي ذكر في العمد هو المحدد، وغيره هو الذي لا حد له من الآلة كالحجر والعصا، وكل شيء ليس له حد يفرق الأجزاء، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: إذا ضربه بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة فهو عمد، وشبه العمد: أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبًا". وقوله: "قالا"(أي: أبو يوسف ومحمد).
(2)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 350)، حِث قال في باب أسنان الإبل المغلظة والعمد وكيف يشبه العمد الخطأ؟:"قال الشافعي رحمه الله: فهذا خطأ في القتل، وإن كان عمدًا في الضرب".
الوَسَطَ: أَنَّ النِّيَّاتِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ تبارك وتعالى، وَإِنَّمَا الحُكْمُ بِمَا ظَهَرَ).
هذا رجوع من المؤلف رحمه الله إلى تحرير مذاهب العلماء في أنواع القتل:
أما مالك رحمه الله فعمدته في نفيه شبه العمد: أنه لا واسطة بين الخطأ والعمد، أي: بين أن يقصد القتل أو لا يقصده، واستدل على ذلك بظاهر قول الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} النساء: 92]، ثم قال بعد ذلك:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] فذكر نوعين لا واسطة بينهما.
قوله: "أَعْنِي: بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ القَتْلَ أَوْ لَا يَقْصِدَهُ)، وَعُمْدَةُ مَنْ أَثْبَتَ الوَسَطَ: أَنَّ النِّيَّاَتِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ تبارك وتعالى".
هذه من الأمور المغيبة، والناس يجكمون على الظاهر، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: 65]، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]، فالله سبحانه وتعالى وحده عالم الغيب، وأما ما يطلع عليه أحد من خلقه؛ مثل إطلاع الرسل على بعض الغيب؛ فذلك مما يطلعهم الله سبحانه وتعالى عليه، كما جاء ذكر ذلك في كتاب الله عز وجل:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)} [الجن: 26]، فإن الله سبحانه وتعالى يطلع رسله على بعض أمور الغيب عن طريق الوحي، ولذلك لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر؛ فقال -عليه الصلاه والسلام-: "أيها الناس؛ إنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر -يعني: يكون إنسان صاحب حجة، صاحب عارضة، قوي العارضة، قوي البرهان، فربما بقوة بلاغته يستطيع أن يضرب عن طريق الحجة في ظهر صاحبه، وذاك لا يستطيع أن يؤدي ما في نفسه -لعل يكون أحدكما ألحن
بحجته من الآخر، فأقضى على نحو مما أسمع فيما يظهر لي، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من نار، فليأخذها أو فليدعها"
(1)
فليحزن الذين يحتالون على الأمور، أو الذين يأتون بشهداء زور فيتوصلون إلى أخذ بعض حقوق الناس، ربما يتمتعون بذلك في الحياة الدنيا وبئس المتاع، فإن ذلك سيعقبه ضيق وحسرة وندامة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه"
(2)
، ويقول عليه الصلاة والسلام في خطبته التي وَدَّع بها المؤمنين يوم حجة الوداع:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام"
(3)
.
- قوله: (فَمَنْ قَصَدَ ضَرْبَ آخَرَ بِآلَةٍ تَقْتُلُ غَالِبًا).
من الجناية العمد التي توجب القصاص من قصد ضرب شخص بمثقل كبير يقتل مثله غالبًا؛ كما لو أخذ مطرقة كبيرة وضربه على دماغه، أو أخذ فأسًا فضربه، أو حجرًا كبيرًا، أو حديدة كبيرة، أو خشبة كبيرة، فهذه الأشياء آلات تقتل غالبًا، ويسمونها: المثقل؛ نسبةً إلى الثقل.
وقوله: "تقتل غالبًا"؛ أي: يقتل مثلها غالبًا، سواء كان من حديد أو خشب أو حجر، أو حتى من ذهب أو من فضة أو من أي شيءٍ، أو ألقى عليه حائطًا، أو بابًا كبيرًا؛ كما لو كان واقفًا، فَقَال: تعال يا فلان، فدفع عليه الباب فقتله، أو رضَّ رأسه بحجر؛ وهذا فيه النص، سيأتي في قصة اليهودية.
(1)
الشيخ قطع الحديث، ولفظه: عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله؛ فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها".
وقد أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713).
(2)
جزء من حديث، أخرجه مسلم (2564).
(3)
جزء من حديث، أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1218).
- قوله: (كَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الغَالِبِ - أَعْنِي: حُكْمَ مَنْ قَصَدَ القَتْلَ فَقَتَلَ بِلَا خِلَافٍ)
(1)
.
يَعْني: أنَ عليه القَوَد؛ أعني: القصاص؛ لمَا روى أنس: "أن يهوديًّا قتل جاريةً على أوضاحِ لها بحجر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين"، متفق عليه.
وفي مسلم: "فأقاده".
(1)
لعلَّه يَقْصد ما ذكره الباجي في "المنتقى": "قال مالك: إنَّ الأمر الذي لا اختلافَ فيه عندهم أن من ضرب رجلًا بعصا أو رماه بحجر، فمات من ذلك أن فيه القصاص"، أو يقصد بلا خلاف عند المالكية، وأما بين المذاهب، فهناك خلاف، فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أن من قتل حُرًّا بآلة يُقتَل بمثلها، أو قصد القتل، وجب عليه القود؛ سواء شدخه بحجر أو عصا، أو غَرَّقه في الماء أو أحرقه بالنار أو خنقه أو دفعه أو طيَّن عليه ببناء؛ ينظر في مذهب المالكية "الشرح الكبير" للدردير (4/ 242)؛ حيث قال: "الجناية التي هي فعل الجاني الموجب للقصاص
…
(إن)(قصد) المكلف غير الحربي (ضربًا) للمعصوم بمحدد، أو مثقل
…
كحجر وخشبة عظيمة وفي الحقيقة هذا داخلٌ تحت قوله: "إن قصد ضربًا"، صرح به للرد على الحنفية القائلين: لا قصاص في المثقل، ولا في ضرب بقضيب"، وللشافعية: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 212)؛ حيث قال: "(ولا قصاص) في شيء من هذه الثلاثة (إلا في العمد)
…
(وهو)، أي: العمد في النفس (قصد الفعل) العدوان (و) عين (الشخص بما يقتل) قطعًا أو (غالبًا)"، وللحنابلة: "مطالب أُولي النهى" (6/ 5)؛ حيث قال: "(فالعمد) الذي يختصُّ به القود (أن يقصد) الجاني (من يعلم آدميًّا معصومًا، فيقتله بما)؛ أي: شيء (يغلب على الظن موته به) محددًا كان أو غيره".
ومَذْهب أبي حنيفة: أنه لا قودَ عليه إذا قتل بهذه الأشياء إلا بالنار والمحدود من الحديد أو غيره مثل الليطة أو الخشبة المحددة أو الحجر المحدد، ينظر:"الدر المختار" للحصكفي (6/ 528)؛ حيث قال: " (عمد، وهو أن يتعمد ضربه)
…
في أي موضعٍ من جسده (بـ) آلة تفرق الأجزاء مثل (سلاح) ومثقل لو من حديد
…
(ومحدد من خشب) وزجاج (وحجر) وإبرة في مقتل برهان (وليطة)، وقوله:(ونار) عطف على محدد؛ لأنها تشق الجلد وتعمل عمل الذكاة
…
، وفي حديد غير محدد كالسنجة روايتان أظهرهما أنها عمد".
يعني: رَضَّ رأسَها بين حجرين، ألقاها على حجر وضربها بالآخر، فسال دمها، وانفجر رأسها، ولكن بقي بها رمق.
وقوله: (فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين).
هذا فيه المثلة، قُتِلَ بمثل ما قَتل به.
وَمَعْنى قوله في رواية مسلم: (فأقاده)؛ يعني: أقَام عليه القود، القصاص.
(وَمَنْ قَصَدَ ضَرْبَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِآلَةٍ لَا تَقْتُلُ غَالِبًا؛ كَانَ حُكْمُهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ العَمْدِ وَالخَطَإ، وَهَذَا فِي حَقِّنَا لَا فِي "حَقِّ الآمِرِ
(1)
نَفْسِهِ" عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
وذَلكَ: أن يقصد جنايةً؛ إما لقصد العدوان عليه، أو قصد التأديب له، فيسرف فيه بما لا يقتل غالبًا، ولم يجرحه بها فيقتله، قصد قتله أو لم يقصده، سُمِّي بذلك؛ لأنه قصد الفعل، وأخطأ في القتل.
- قوله: (أَمَّا شَبَهُهُ العَمْد: فَمِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ ضَرْبَهُ).
فَهو قَدْ قصد العدوان وإنْ لم يقصد القتل؛ فاشتبه مع العمد في أمر القصد.
- قوله: (وَأَمَّا شَبَهُهُ لِلْخَطَإ: فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ضَرَبَ بِمَا لَا يَقْصِدُ بِهِ القَتْلَ).
ضَربه بعصا أو وَكَزه؛ وقد وكز موسى عليه السلام القبطي، فقضى عليه.
(1)
كذا فيما رأيته من نسخ، ولعلها:"الأمر"، والمعنى: أنه اشتبه علينا حاله إلا أنه مخطئ أو عامد في الأمر نفسه، ففى الباطن لا واسطة بين الخطإ والعمد، وأما ظاهرًا فنقضي به لقصور علمنا.
قلتُ (علي): "الصواب: (هذا في حقنا لا في حق الأمر في نفسه عند الله"، انظر:"مناهج التحصيل" للرجراجي (10/ 119).
- قوله: (وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا إِنَّ قَتْلَ
(1)
الخَطَإ شِبْهِ العَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالعَصَا وَالحَجَرِ، دِيَتُهُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُويهَا أَوْلَادُهَا"
(2)
).
فَالحديثُ يدلُّ على إثبات شبه العمد خلافًا لقول مَنْ صار إلى أنه ليس إلا العمد المحض، أو الخطأ المحض.
- قوله: (إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ لَا يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ
(3)
، وَإِنْ كَانَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ قَدْ خَرَّجَهُ
(4)
).
هَذَا الحَديث مختلفٌ فيه بين أهل العلم.
قَوْله: (فَهَذَا النَّحْوُ مِنَ القَتْلِ عِنْدَ مَنْ لَا يُثْبِتُهُ يَجِبُ بِهِ القِصَاصُ، وَعِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُ تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ).
هَذَا هو أثرُ الخلاف بين الفقهاء في القتل شبه العمد.
- قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الضَّرْبَ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ
(1)
كذا في الأصل، وفي (مح) و (س) و (م) و (ت):"قتيل" إلا أنها في "الاستذكار"، وَهُوَ مصدر المؤلف:"قتيل".
(2)
جزء من حديث أخرجه أبو داود (4590)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(7/ 256).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 45)، حيث قال:"وأما الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إن قتيل الخطإ شبه العمد: ما كان بالسوط والعصا والحجر، ديته مغلظة مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها"، فهو حديث مضطرب لا يثبت من جهة الإسناد".
(4)
خرَّجه في عدة مواضع منها (4590)، كما تقدم.
الغَضَبِ وَالنَّائِرَةِ يجِبُ بِهِ القِصَاصُ
(1)
، وَاخْتُلِفَ فِي الَّذِي يَكُونُ عَمْدًا عَلَى جِهَةِ اللَّعِبِ، أَوْ عَلَى جِهَةِ الأدَبِ لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ الأَدَبُ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي يجِبُ بِهِ القِصَاصُ فِي المَقْتُولِ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُكَافِئًا لِدَمِ القَاتِلِ).
يريد المؤلف رحمه الله أن يتكلم عن شرطٍ من شروط وجوب القصاص، وهو المكافأة.
(1)
قَوْله رحمه الله: "ولا خلافَ"، فيه نظر، بل قَدْ أثبت جده الخلاف. يُنظر:"المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 285 - 287)، حيث قال: "وأما الوجه الثاني: وهو أن يعمد للضرب، ولا يعمد للقتل؛ فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه
…
والثالث: أن يكون على وجه النائرة والغضب
…
وأما الوجه الثالث: وهو أن يكون الضرب على وجه النائرة والغضب، ففيه قولان: أحدهما: وهو المشهور عن مالك المعروف من قوله: أن ذلك عمد، وفيه القصاص إلا من الأب في ابنه والأم والجد؛ فإنه لا يقتص منه، وتغلظ الدية عليه في ماله، وهذا قول مالكٍ في "المدونة"؛ لأنه أنكر شبه العمد، وقال:"إنه باطل، إنما هو عمد أو خطأ لا ثالث لهما؛ لأن الله لم يذكر في كتابه غيرهما".
والقول الثاني: أنَّ ذلك شبه العمد، ولا يُقَاد منه، وتغلظ الدية عليه، وهو مرويٌّ عن ماللئى رحمه الله، حكاه العراقيون عنه، وعليه أكثر أهل العلم".
وقد يُصَحح كلام ابن رشدٍ على أنه بناءً على المعتمد في مذهب مالك من نَفْي شبه العمد، لا سيما وعبارة مالك فيه أنه أمر مجتمع عليه. يُنظر:"الموطأ" لمالك بن أنس (2/ 872)، حيث قال:"قال مالك: والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدًا فمات من ذلك، فإن ذَلكَ هو العمد، وفيه القصاص".
وقَدْ يُصَحَّح إذا حملنا قوله: "الضرب" على "القتل". يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (16/ 370)، حيث قال:"والعمد فيه القصاص للأولياء إلا أن يعفوا على الدية أو بغير دية، وهو أن يقتل قاصدًا للقتل على وجه النائرة والعداوة"، أو على صورة معينة ذكرها ابن رشد الجد. وينظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (16/ 373)، حيث قال:"وأما ذو النائرة والعداوة فرجل دخل عليه رجلٌ في حريمه مكابرًا له حتى جرحه أو قتله أو ضربه، ثم خَرَج مكانه ولم ينتهب متاعًا، إنَّما كان ضربه إياه لنائرةٍ كانت بينهما، فهَذِهِ النائرة لا يشك فيها أحدٌ، فإذا أخذ هذا فَعَليه القصاص".
- قوله: (وَالَّذِي بهِ تَخْتَلِفُ النُّفُوسُ هُوَ الإِسْلَامُ وَالكُفْرُ وَالحُرِّيَّةُ وَالعُبُودِيَّةُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالأُنُوثِيَّةُ وَالوَاحِدُ وَالكَثِيرُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ المَقْتُولَ إِذَا كَانَ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ فِي هَذِهِ الأرْبَعَةِ أَنَّهُ يجِبُ القِصَاصُ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الأَرْبَعَةِ إِذَا لَمْ تَجْتَمِعْ، أَمَّا الحُرُّ إِذَا قَتَلَ العَبْدَ عَمْدًا، فَإِنَّ العُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
وَاللَّيْثُ
(3)
وَأَحْمَدُ
(4)
وَأَبُو ثَوْرٍ
(5)
: لَا يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ).
لَا يُقْتل حرٌّ بعَبْدٍ؛ لقول الله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]، فيدل على أنه لا يُقْتل به الحرُّ.
وقال عليٌّ رضي الله عنه: "ومن السنة ألَّا يقتل حر بعبد"
(6)
.
- قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(7)
: يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ إِلَّا عَبْدَ نَفْسِهِ).
ومَعْنى قول أبي حنيفة: أنه لو قتل عبد غيره يُقْتل به، ولو قتل عبده الذي تحته لم يُقْتل به.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 238)؛ حيث قال: " (ولا زائد حرية) على المجني عليه
…
فلا يقتل
…
حر برقيق".
(2)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 241)؛ حيث قال: " (ولا يقتل حر بمَنْ فيه رق) وإن قل".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (8/ 174)؛ حيث قال: "فاتفق مالك والليث على أن العبد يقتل بالحر، وأن الحر لا يُقْتل بالعبد".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 267)؛ حيث قال: " (ولا) يقتل (حر بقن) ".
(5)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر؛ حيث قال: "وممن قال: إنَّ الرجل لا يقتل بعبده
…
وأبو ثور".
(6)
أخرجه الدارقطني (4/ 154).
(7)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (6/ 533)؛ حيث قال: " (فيقتل الحر بالحر وبالعبد) ". وانظرت "حاشية ابن عابدين"(6/ 533)؛ حيث قال: "الحر لا يقتل بعبد نفسه".
(وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ عَبْدَ القَاتِلِ أَوْ عَبْدَ غَيْرِ القَاتِلِ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ
(1)
.
قال: يُقْتل به؛ لعموم النصوص، ولقَوْله صلى الله عليه وسلم:"المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ"
(2)
؛ ولأنه معصوم قتل ظلمًا، فيجب القصاص على قاتلِهِ كالحرين والعبدين.
- قوله: (فَمَنْ قَالَ: لَا يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ، احْتَج بِدَلِيلِ الخِطَابِ المَفْهُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]).
قال الرازي في "تفسيره"
(3)
: "واحتجوا عليه بوجوهٍ:
الأوَّل: أن الألفَ واللامَ في قوله: {الْحُرُّ} تفيد العموم فقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} يفيد أن يقتل كل حرٍّ بالحر، فلو كان قتل حرٍّ بعبد مشروعًا، لكان ذلك الحرُّ مقتولًا لا بالحرِّ، وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حرٍّ مقتولًا بالحر.
الثاني: أنَّ الباءَ من حروف الجر، فيكون متعلقًا لا محالة بفعلٍ، فيكون التقدير: الحر يقتل بالحر، والمبتدأ لا يكون أعمَّ من الخبر، بل إما أن يكون مساويًا له، أو أخص منه، وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كلُّ حرّ مقتولًا بالحرِّ، وذلك ينافي كون حر مقتولًا بالعبد.
الثالث: وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة، وهو قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، فلما ذكر عَقيبه قوله:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ، دل ذلك على أن رعايةَ التسوية في الحرية والعبدية معتبرة؛
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 175)؛ حيث قال: "وبه قال:
…
وإبراهيم النخعي
…
".
(2)
أخرجه أبو داود (2751).
(3)
"مفاتيح الغيب"(5/ 224).
لأن قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} خرج مخرجَ التفسير؛ لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى، فوجب ألا يكون مشروعًا".
- قوله: (وَمَنْ قَالَ بِقْتَلِ الحُرِّ بِالعَبْدِ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ")
(1)
.
وَوَجْه استدلَالهم: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُفرِّق بين حُرٍّ وعَبْدٍ.
- قوله: (فَسَبَبُ الخِلَافِ مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِدَلِيلِ الخِطَابِ، وَمَنْ فَرَّقَ فَضَعِيفٌ).
مَن فرَّق فقال: لا يُقْتل الحرُّ بالعبد، فإنَّ استدلالَه ضعيف.
- قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ العَبْدَ يُقْتَلُ بِالحُرِّ، وَكَذَلِكَ الأَنْقَصُ بِالأَعْلَى).
العَبْد يُقْتل بالحر؛ لأنه إذا قُتِلَ الحرُّ بالحرِّ، فمن باب أولى أن يُقْتل العبد بالحر.
- قوله: (وَمِنَ الحُجَّةِ أَيْضًا لِمَنْ قَالَ: يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ: مَا رَوَاهُ الحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ، قَتَلْنَاهُ بِهِ"
(2)
.
هذَا الحديث لا تقوم به حجةٌ؛ لأن أكثر أهل العلم يقولون: إن الحسنَ لم يسمع من سمرةَ، وأيضًا فلو كان صحيحًا عن الحسن ما كان خالفه؛ فقد كان يُفْتي بأنه لا يُقتل الحرُّ بالعبد.
(1)
أخرجه أبو داود (2751)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(7/ 265).
(2)
أخرجه أبو داود (4515)، وضعفه الأَلْبَانيُّ.
- قوله: (وَمِنْ طَرِيقِ المَعْنَى قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ قَتْلُهُ مُحَرَّمًا كقَتْلِ الحُرِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ القِصَاصُ فِيهِ كَالقِصَاصِ فِي الحُرِّ.
وَأَمَّا قَتْلُ المُؤْمِنِ بِالكَافِرِ الذِّمّيِّ، فَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
، وَأَحْمَدُ
(3)
وَدَاوُدُ
(4)
، وَجَمَاعَةٌ
(5)
، وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْتَلُ بِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
(6)
، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(7)
، وَقَالَ مَالِكٌ
(8)
، وَاللَّيْثُ
(9)
: لَا يُقْتَلُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ غِيلَةً، وَقَتْلُ الغِيلَةِ أَنْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَبِخَاصَّةٍ عَلَى مَالِهِ).
(1)
يُنظر: "مغني المحتاج"(5/ 231)؛ حيث قال: " (فلا يقتل مسلم) ولو زانيًا محصنًا (بذمي) ".
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (13/ 54)؛ حيث قال: "وبه قال سفيان الثوري".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"(3/ 267)؛ حيث قال: "و (لا) يقتل (مسلم ولو ارتد) بعد القتل (بكافر) كتابي أو غيره ذمي أو معاهد".
(4)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 220)؛ حيث قال: "وإن قتل مسلم عاقل بالغ: ذميًّا، أو مستأمنًا، عمدًا أو خطأ، فلا قوٍ د عليه، ولا دية، ولا كفارة، ولكن يؤدب في العمد خاصة، ويسجن حتى يتوب؛ كفًّا لضرره".
(5)
منهم: إسحاق، وأبو ثور، وحكي ذلك عن: ابن شبرمة والأوزاعي. انظر: "الأوسط" لابن المنذر (13/ 54).
(6)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (6/ 534)؛ حيث قال: " (فيقتل الحر بالحر وبالعبد) غير الوقف كما مر خلافًا للشافعي
…
(والمسلم بالذمي) خلافًا له".
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 121)؛ حيث قال: "وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وعثمان البتي: يقتل المسلم بالذمي".
(8)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 238)؛ حيث قال: " (إلا لغيلة) بكسر الغين المعجمة، وهي القتل؛ لأخذ المال فلا يشترط فيه الشروط المتقدمة بل يقتل الحر بالعبد".
(9)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 121)؛ حيث قال: "إلا أن مالكًا والليث قالا: إن قتلَه قتلَ غيلةٍ، قُتِلَ به".
انتقَل المُؤلِّفُ رحمه الله إلى مَسْألةٍ أخرى، وهي: هَلْ يجوز قَتْل المُسْلم بالذمِّي؟ اختلفوا.
- قوله: (فَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الأَوَّلِ: مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ أَنَّهُ سَأَلَهُ قَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالأَشْتَرُ: هَلْ عَهِدَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عهْدًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مَا فِي كِتَابِي هَذَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ، فَإِذَا فِيهِ:"المُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِر"
(2)
، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِالحَرْبِيِّ الَّذِي أُمِّنَ)
(3)
.
قَوْله: (لا يقتل مؤمن بكافر): فيه البيان الواضح أن المسلم لا يُقْتل بأحدٍ من الكفار.
- قَوْله: (وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ آثَارًا، مِنْهَا: حَدِيثٌ يَرْوِيهِ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلْمَانِيِّ
(4)
، قَالَ: "قَتَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِرَجُلٍ مِنْ
(1)
من حديث عليٍّ أخرجه النسائي في "الكبرى"(6922)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح وضعيف النسائي"(4746).
(2)
أخرجه أبو داود (2751)، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره.
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 123)؛ حيث قال: "احتج الشافعي بأنه لا خلاف فيه أنه لا يقتل المسلم بالحربي المستأمن، فكذلك الذمي؛ لأنهما في تحريم القتل سواء".
(4)
في "سنن الدارقطي": "عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ البَيْلَمَانِي"، وهكذا في "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (8/ 565)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 121).
أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ"
(1)
.
- قوله: (وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ).
عن النزال بن سبرةْ أن رجلًا من المسلمين قَتلَ رجلًا من أهل الحيرة، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر:"أَن اقتُلُوه به"، فقيل لأخيه حنين: اقتله، قال:"حتى يجيء الغضب"، قال: فبلغ عمر أنه من فرسان المسلمين، قال: فكتب عمر: "ألَّا تقيدوه به"، قال: فجاءه الكتاب وقد قتل
(2)
.
(قَالُوا: وَهَذَا مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ"، أَيْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الكَافِرُ الحَرْبِيُّ دُونَ الكَافِرِ المُعَاهَدِ).
وَقَالوا أيضًا: فحُكْم كل كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحْملَ على فائدةٍ مجددةٍ، ولو حَمَلناه على ما قلت، لسقطت فائدته؛ لأنه يَكُون مقصورًا على النهي عن بعض العهد، وخفر الأمان، وقتل مَنْ لا يستحق القتل، وهذا معنًى قد علمناه بغير هذا الخبر، فاقتضى الخبر فائدة غيره، ولا فائدة فيه إلا ما وصفنا.
- قوله: (وَضَعَّفَ أَهْلُ الحَدِيثِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلْمَانِيِّ
(3)
.
قال ابن عد البر: "هذا حديث منقطع لا يثبته أحدٌ من أهل العلم بالحديث لضعفه"
(4)
.
- قوله: (وَمَا رَوَوْا مِنْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ).
قال ابن عبد البر: "ورَوَوا فيه عن عمر رضي الله عنه حديثًا لا حُجَّة لهم
(1)
أخرجه الدارقطني (3261).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (27470).
(3)
الصواب: "البَيْلَمَانِي"؛ كما سبق.
(4)
"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 121).
فيه
…
لو كان القتل عليه واجبًا، ما كان عمر ليكتب ألا يقتل؛ لأنه من فرسان المسلمين؛ لأن الشريف والوضيع ومَنْ فيه غنًى ومَنْ ليس فيه غنًى في الحق سواء، وقد رُوِيَ هذا الخبر بما دل عليه أنه شاور، فقال له -إما عليٌّ وإما غيره- فإنَّه لا يجب عليه قتلٌ، فكتب ألا يقتل"
(1)
.
فَعَن النزال بن سبرة قال: قتل رجل من فرسان الكوفة عباديًّا من أهل الحيرة، فكتب عمر أن أقيدوا أخاه منه، فدفعوا الرجل إلى أخي العبادي، فقتله، ثم جاء كتاب عمر ألا تقتلوه، وقد قتله
(2)
.
- قوله: (وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ القِيَاسِ، فَإِنَّهُمُ اعْتَمَذُوا عَلَى إِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ فِي أَنَّ يَدَ المُسْلِمِ تُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ، قَالُوا: فَإِذَا كَانَتْ حُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ مَالِ المُسْلِمِ، فَحُرْمَةُ دَمِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، فَسَبَبُ الخِلَافِ تَعَارُضُ الآثَارِ وَالقِيَاسِ).
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وَاحتجُّوا بالإجماع علَى أن المسلمَ تُقْطع يده إذا سرق من مال ذمِّيٍّ، فنفسه أحرى أن تؤخذ بنفسه، وهذا لعمري قياسٌ حسنٌ لولا أنه باطلٌ عند الأثر الصحيح، ولا مدخل للقياس والنظر مع صحة الأثر"
(3)
.
- قوله: (وَأَمَّا قَتْلُ الجَمَاعَةِ بِالوَاحِدِ).
مثال ذلك: اجتمع جماعة، فَوضعوا حديدة؛ كسكين أو غيرها عند مفصل يد رجلٍ، ثم تحاملوا جميعًا عليها، اشتركوا جميعًا في الضغط.
(فَإِنَّ جُمْهُورَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ قَالُوا: تُقْتَلُ الجَمَاعَةُ بِالوَاحِدِ، مِنْهُمْ:
(1)
"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 121، 122).
(2)
ذكَره ابن عبد البر في "الاستذكار"(8/ 122)، ونسبه إلى ابن أبي شيبة بسنده، ولم أقف عليه عنده.
(3)
"الاستذكار"(8/ 122).
مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ
(4)
، وَأَحْمَدُ
(5)
، وَأَبُو ثَوْرٍ
(6)
وَغَيْرُهُمْ
(7)
، سَوَاءٌ كثُرَتِ الجَمَاعَةُ أَوْ قَلَّتْ).
فِي هذِهِ الحالة يجب عند جمهور الفقهاء القصاص عليهم جميعًا؛ لاشتراكهم في ذلك.
(وَبِهِ قَالَ عُمَرُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا).
عَنْ سَعيد بن المُسيَّب، أنَّ عمر بن الخطاب قتل نفرًا، خمسةً أو سبعةً برجلٍ واحدٍ قتلوه قتلَ غيلةٍ، وقال عمر:"لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا"
(8)
.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 245)؛ حيث قال: " (ويقتل الجمع) غير الممالئين (بواحدٍ) إذا ضربوه عمدًا عدوانًا، ومات مكانه، أو رفع مغمورًا، واستمر حتى مات، أو منفوذ المقاتل ولم تتميز الضربات".
(2)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 238)؛ حيث قال: "وأحق ما يجعل فيه القصاص إذا قتل الجماعة الواحد؛ لأن القتل لا يوجد عادة إلا على سبيل التعاون والاجتماع، فلو لم يُجْعل فيه القصاص لانسدَّ باب القصاص؛ إذ كل من رام قتل غيره استعان بغير يضمه إلى نفسه ليبطل القصاص عن نفسه".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 245)؛ حيث قال: " (ويقتل الجمع بواحدٍ) وإن تفاضلت جراحاتهم في العدد والفحش والأرش، سواء أقتلوه بمحددٍ أم بغيره كأن أَلْقَوه من شاهقٍ أو في بحرٍ".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (13/ 66)؛ حيث قال: "وممَّن رأى أن يقتل النفر بالواحد
…
وسفيان الثوري
…
".
(5)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"(3/ 260)؛ حيث قال: "ويقتل العدد أي: ما فوق الواحد بواحدٍ قتلوه (إن صلح فعل كل) منهم (للقتل به) بان كان فعل كل منهم لو انفرد لوَجَب به القصاص لإجماع الصحابة".
(6)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (13/ 66)؛ حيث قال: "وممن رأى أن يقتل النفر بالواحد
…
وأبو ثور
…
".
(7)
سعيد بن المسيب، والشعبي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والحسن البصري، وقتادة، وإسحاق؛ انظر:"الأوسط" لابن المنذر (13/ 66).
(8)
أخرجه مالك في "الموطأ"(871).
قال الجصاص: "وذَلك بحضرة الصحابة من غير خِلَافٍ ظهر من أحدٍ منهم عليه، فَصَار إجماعًا"
(1)
.
- قوله: (وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(2)
: لَا تُقْتَلُ الجَمَاعَةُ بِالوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ
(3)
، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ
(4)
، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ
(5)
، وَكَذَلِكَ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ لَا تُقْطَعُ أَيْدٍ بِيَدٍ -أَعْنِي: إِذَا اشْتَرَكَ اثْنَان فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فِي قَطْعِ يَدٍ- وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تُقْطَعُ الأَيْدِي بِاليَدِ، وَفَرَّقَتِ الحَنَفِيَّةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَالأَطْرَافِ، فَقَالُوا: تُقْتَلُ الأَنْفُسُ بِالنَّفْسِ، وَلَا يُقْطَعُ بِالطَّرَفِ إِلَّا طَرَفٌ وَاحِدٌ، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي بَابِ القِصَاصِ مِنَ الأَعْضَاءِ، فَعُمْدَةُ مَنْ قَتَلَ بِالوَاحِدِ الجَمَاعَةَ النَّظَرُ إِلَى المَصْلَحَةِ، فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ أَنَّ القَتْلَ إِنَّمَا شُرعَ لِنَفْيِ القَتْلِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الكِتَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ تُقْتَلِ الجَمَاعَةُ بِالوَاحِدِ لَتَذَرَّعَ النَّاسُ إِلَى القَتْلِ بِأَنْ يَتَعَمَّدُوا قَتْلَ الوَاحِدِ بِالجَمَاعَةِ).
مَعْنى ذلك: أنَّ الجمَاعة تُقتل بالواحد؛ صيانةً للدماء، ولو لم يُفْعل ذلك، سقط القصاص؛ لأن كل مَنْ أراد قتل غيره، يشارك غيره فيه
(6)
.
(1)
"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (5/ 375).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 157)؛ حيث قال: "وقال داود: لا تُقْتل الجماعة بالواحد، ولا يقتل بنفسٍ واحدةٍ أكثر من واحدٍ، وهو قول ابن الزبير".
(3)
أخرج عبد الرزاق (18085)، عن عمرو بن دينار قال:"كان ابن الزبير وعبد الملك لا يقتلان منهم إلا رجلًا واحدًا، وما علمت أحدًا قتلهم جميعًا إلا ما قالوا في عمر".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 157)، حيث قال:"قال معمر عن الزهري: لا يقتل الرجلان بالرجل، ولا تقطع يدَان بيد".
(5)
لم أقف عليه.
(6)
"التجريد" للقدوري (11/ 5574).
- قوله: (وَلَكِنْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْ مِنَ الجَمَاعَةِ أَحَدٌ، فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي مِنْ قَتْلِهِ يُظَنُّ إِتْلَافُ النَّفْسِ غَالِبًا عَلَى الظَّنِّ، فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَبْطُلَ الحَدُّ حَتَّى يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّسْلِبطِ عَلَى إِذْهَابِ النُّفُوسِ، وَعُمْدَةُ مَنْ قَتَلَ الوَاحِدَ بِالوَاحِدِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]).
أي: لأنَّ الله سبحانه شرط المساواة، ولا مساواة بين الجماعة والواحد.
والجواب: أنَّ المرادَ بالقصاص في الآية قَتْل مَنْ قتل كائنًا مَنْ كان، ردًّا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمَنْ قتل مَنْ لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارًا واستظهارًا بالجاه والمقدرة، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل مَنْ قتل
(1)
.
- قَوْله: (وَأَمَّا قَتْلُ الذَّكَرِ بِالأُنْثَى، فَإِنَّ ابْنَ المُنْذِرِ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذَكَرَ الخِلَافَ حَكَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ).
حَكَى ابْن المنذر في "الأوسط" الإجماعَ على أنَّ الذكر يقتصُّ منه في قَتْل الأنثى، وحكَاه عن قومٍ منهم الأئمَّة الأربعة
(2)
.
- قَوْله: (وَعَنْ عُثْمَانَ البَتِّيِّ أَنَّهُ إِذَا تُتِلَ الرَّجُلُ بِالمَرْأَةِ، كَانَ عَلَى أَوْلِيَاءِ المَرْأَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ).
(1)
"الجامع لأحكام القرآن"(2/ 251).
(2)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (13/ 43)؛ حيث قال: "وأجمع عوام أهل العلم على أن بين الرجل والمرأة القصاص في النفس إذا كان القتل عمدًا إلا شيء اختلف فيه عن عليٍّ، وعطاء، وروي عن الحسن، وممن قال بأن بين المرأة والرجل القصاص في النفس: مالك بن أنس فيمن تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثوري فيمن وافقه من أهل العراق، وَكَذلك قال الشافعي وأصحابه. وبه قال أحمد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وحُكِيَ ذلك عن الأوزاعي وربيعة".
حكَاه عنه ابن عبد البَر في: "الاستذكار" بعد أن نقلَ الإجماع على قتل الذَّكَر بالأنثى
(1)
.
- قَوْله: (وَحَكَى القَاضِي أَبُو الوَلِيدِ البَاجِيُّ فِي "المُنْتَقَى" عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الذَّكرُ بِالأُنْثَى).
قال الباجي رحمه الله: "الرجل يُقْتل بالمرأة، والمرأة بالرجل، وعليه جمهور الفقهاء، ورُوِيَ عن الحسن البصريِّ: لا يُقْتل الرجل بالمرأة"
(2)
.
- قوله: (وَحَكَاهُ الخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ، وَهُوَ شَاذٌّ، وَلَكِنَّ دَلِيلَهُ قَوِيٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]).
قال الخَطَّابي رحمه الله: "وفيه دليلٌ على وجوب قتل الرجل بالمرأة، وهو قول عامة أهل العلم إلا الحسن البصري وعطاء، فإنهما زعما أن الرجل لا يُقْتل بالمرأة"
(3)
.
- قوله: (وَإِنْ كَانَ يُعَارِضُ دَلِيلَ الخِطَابِ هَاهُنَا العُمُوم الَّذِي فِي قَوْلى تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، لَكِنْ يَدْخُلُهُ أَنَّ هَذَا الخِطَابَ وَارِدٌ فِي غَيرِ شَرِيعَتِنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، أَعْنِي: هَلْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا؟).
اختلف الأصوليون في هذه المسألة على أقوالٍ
(4)
:
الأول: شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما ثبت نسخه.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (8/ 168)؛ حيث قال: "وكذلك أجْمَعوا على قَتْل الذكر بالأنثى إلا أن منهم مَنْ قال: إن قتل أولياء المرأة الرجل بها أدوا نصف الدية إن شاؤوا وإلا أخذوا الدية، ولا يقتل الذكر بالأنثى حتى يؤدوا نصف الدية
…
وهو قول عثمان البتي".
(2)
"المنتقى شرح الموطأ"(7/ 121).
(3)
"معالم السنن"(4/ 14).
(4)
"التبصرة في أصول الفقه" للشيرازي (285).
الثاني: شرع من قبلنا ليس بشرع لنا.
الثالث: شرع إبراهيم خاصة شرعٌ لنا، وما سواه ليس بشرع لنا.
- قوله: (وَالِاعْتِمَادُ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى المَصْلَحَةِ العَامَّةِ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي الأَبِ وَالابْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: لَا يُقَادُ الأَبُ بِالابْنِ إِلَّا أَنْ يُضجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ، فَأَمَّا إِنْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ أَوْ عَصًا فَقَتَلَهُ، لَمْ يُقْتَلْ، وَكَذَلِكَ الجَدُّ عِنْدَهُ مَعَ حَفِيدِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ
(4)
: لَا يُقَادُ الوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَلَا الجَدُّ بِحَفِيدِهِ إِذَا قَتَلَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ أَوْجُهِ العَمْدِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ)
(5)
.
المرَاد به: عدم الاقتصاص عن الوالد إن قتل ولده، وهو قول الجمهور.
وقال مالك: يُقَاد إذا ذبحه ذبحًا، وإن قتل الوالد ولده ضربًا بالسيف، فلا قصاصِ عليه؛ لاحتمال أنه ضربه تأديبًا، وأتى على النفس من غير قصدٍ، وإنْ ذبَحه فَعَليه القصاص؛ لأنه عمد بلا شبهة ولا تأويل، بل جناية الأب أغلظ؛ لأن فيه قطع الرحم، وهو كمَنْ زنى بابنته، فإنه يلزم الحد.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 242)؛ حيث قال: "وهذا في غير الأب، وأما هو فلا يقتل بولده ولو قصد، ما لم يقصد إزهاق روحه".
(2)
يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (6/ 534)؛ حيث قال: " (و (يقتل)
…
الفرع بأصله وإن علا، لا بعكسه)، خلافًا لمالك فيما إذا ذبح ابنه ذبحًا أَيْ: لا يقتص الأصول وإن علوا مطلقًا ولو إناثًا من قبل الأم في نفس أو أطراف بفروعهم وإن سفلوا".
(3)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 242)؛ حيث قال: " (ولا) قصاص (بقتل ولد) للقاتل (وإن سفل) ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 136).
(5)
ومنهم: الإمام أحمد رحمه الله، ينظر:"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 527)؛ حيث قال: "لا يُقْتل والدٌ؛ أبًا كان أو أمًّا، وإنْ علا بولده وإن سفل من ولد البنين أو البنات) ".
- قوله: (وَعُمْدَتُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "لَا تُقَامُ الحُدُودُ فِي المَسَاجِدِ، وَلَا يُقْتَلُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ")
(1)
.
والمَعْنى: لا يقتص والد بقتل ولده، بَلْ عليه الدية، وهذا الحديث حُجَّةٌ على مالك، وإن كان المراد عدم قتل الوالد بجناية ولده، ولأن الوالد سببٌ لوجوده، فلا يحسن أن يكون الولد سببًا لعدمه.
- قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ عُمُومُ القِصَاصِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا رَوَوْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يُقَالُ لَهُ: قَتَادَةُ، حَذَفَ ابْنًا لَهُ بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ سَاقَهُ، فَنُزِفَ جُرْحُهُ فَمَاتَ، فَقَدِمَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْدُدْ عَلَى مَاءِ قُدَيْدٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أُقْدم عَلَيْكَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ عُمَرُ، أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَخو المَقْتُولِ، فَقَالَ: هأَنذَا، قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ"
(2)
، فَإِنَّ مَالِكًا حَمَلَ هَذَا الحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا مَحْضًا، وَأَثْبَتَ مِنْهُ شِبْهَ العَمْدِ فِيمَا بَيْنَ الِابْنِ وَالأَبِ، وَأَمَّا الجُمْهُورُ فَحَمَلُوهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّهُ عَمْدٌ لِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّ مَنْ حَذَفَ آخَرَ بِسَيْفٍ فَقَتَلَهُ فَهُوَ عَمْا، وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَأَى لِمَا لِلْأَبِ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى تَأْدِيبِ ابْنِهِ، وَمِنَ المَحَبَّةِ لَهُ أَنْ حَمَلَ القَتْلَ الَّذِي يَكُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الأحْوَالِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَلَمْ يَتَّهِمْهُ إِذْ كَانَ لَيْسَ بِقَتْلِ غِيلَةٍ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ فَاعِلُهُ
(1)
أخرجه الترمذي (1401)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل" تحت حديث (2215).
(2)
أخْرجه مالك في "الموطإ"(2/ 867).
عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ القَتْلَ مِنْ جِهَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَلُوَّةِ التُّهْمَةِ، إِذْ كَانَتِ النِّيَّاتُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَمَالِكٌ لَمْ يَتَّهِمِ الأَبَ حَيْثُ اتَّهَمَ الأَجْنَيِيَّ، لِقُوَّةِ المَحَبَّةِ الَّتِي بَيْنَ الأَبِ وَالِابْنِ. وَالجُمْهُورُ إِنَّمَا عَلَّلُوا دَرْءَ الحَدِّ عَنِ الأَبِ لِمَكَانِ حَقِّهِ عَلَى الِابْنِ، وَالَّذِي يجِيءُ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَادَ، فَهَذَا هُوَ القَوْلُ فِي المُوجِبِ).
استدلَّ مالكٌ بعُمُوم الكتَاب والسُّنَّة على وجوب القصاص، ولأنَّ تساويهما في الإسلام والحرية يوجب تساويهما في القود كالأجانب، ولأنه لما قتل الولد بالوالد، جاز قتل الوالد بالولد
(1)
.
القِسْمُ الثَّانِي النَّظَرُ فِي الوَاجِبِ فِي القِصَاصِ]
- قوله: (وَأَمَّا القَوْلُ فِي الوَاجِبِ؛ فَاتَّفَقُوا
(2)
عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَحَدَ شَيْئَيْنِ: القِصَاصُ، أَوِ العَفْوُ؛ إِمَّا عَلَى الدِّيَةِ وَإمَّا عَلَى غَيْرِ الدِّيَةِ).
(1)
"الحاوي" للماوردي (12/ 22).
(2)
يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 276)، حيث قال:"وإذا قَل رجل رجلًا ثم قتل آخر، كان أولياء المقتول بين الخيرتين: إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا وأخذوا الدية، ولا شيء لأولياء المقتول الثاني إلا أن يقع العفو من أولياء المقتول الأول، فإذا عفوا، كان أولياء الثاني مخيرين: إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا بإجماع الأمة".
وهذا النقل في مسألة إن قتل رجلين، لكن فيه نقل الإجماع الصريح على إثبات خيار الولي في القصاص أو الدية أو العفو.
انتقل المؤلف رحمه الله إلى بيان ما هو الواجب على من قتل عمدًا - وهو القصاص- فيُقتل بمن قتل، أو العفو إن عفا ولي الدم، والعفو: إما على الدية وإما على غير دية، لقول الله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، ثم بين العلة فقال:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178]، وهذا من خصائص هذه الشريعة؛ إذ لم يكن في الشرائع السابقة إلا القصاص
…
- قوله: (وَاخْتَلَفوا: هَلِ الانْتِقَالُ مِنَ القِصَاصِ إِلَى العَفْوِ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِوَلِيِّ الدَّمِ دونَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ لِلْمُقْتَصِّ مِنْهُ؟ أَمْ لَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إِلَّا بِتَرَاضِي الفَرِيقَيْنِ (أَعْنِي: الوَلِيَّ وَالقَاتِلَ)؟ وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُرِدِ المُقْتَصُّ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الدِّيَةَ لَمْ يَكنْ لِوَلِيِّ الدَّمِ إِلَّا القِصَاصُ مُطْلَقًا أَوِ العَفْوُ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يجِبُ لِلْوَلِيِّ إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ عَنْ غَيْرِ دِيَةٍ إِلَّا أَنْ يَرْضَى
(1)
بِإِعْطَاءِ الدِّيَةِ لِلْقَاتِلِ
(2)
وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ القَاسِمِ عَنْهُ
(3)
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
،
(1)
في نسخة: "إلا أن يرضى المقتص منه".
(2)
في نسحة: "القاتل"، ويكون تركيب العبارة: إلا أن يرضى بإعطاء الدية القاتلُ. (فاعل مؤخر)، وهي طمس في بعض النسخ.
والمعنى: أن الدية لا تجب إلا برضا المقتص منه (القاتل)، فالصواب إثبات إحدى الكلمتين دون الأُخرى، إما "المقتص منه" أو "القاتل"، وأما "للقاتل" فغلط، والله أعلم.
(3)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (4/ 336)، حيث قال:" (وليس للولي عفو) عن الجاني (على الدية إلا برضا الجاني)، بل له العفو مجانًا أو على الدية إن رضي الجاني".
(4)
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 23)، حيث قال:"فالعمد: أن يتعمد الضرب بما يفرق الأجزاء؛ كالسيف والليطة والمروة والنار، وحكمه: المأثم والقود، إلا أن يعفو الأولياء، أو وجوب المال عند المصالحة برضا القاتل في ماله".
وَالثَّوْرِيُّ
(1)
، وَالأَوْزَاعِيُّ
(2)
، وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَحْمَدُ
(4)
، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: وَلِيُّ الدَّمِ بِالخِيَارِ؛ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ، رَضِيَ القَاتِلُ أَوْ لَمْ يَرْضَ، وَرَوَى ذَلِكَ أَشْهَبُ
(5)
عَنْ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّ المَشْهُورَ عَنْهُ هِيَ الرِّوَايَةُ الأُولَى).
أي: إذا تنازل أولياء القتيل عن القصاص مقابل الدية فهل تتعين بذلك؟ أم لا بد من موافقة القاتل؟ اختنف العلماء في هذه المسألة على قولين:
الأول: أن الدية تتعين بذلك، ولا خيار للقاتل؛ لأن في ذلك حفظًا لنفسه، وإليه ذهب الجمهور.
(1)
يُنظر: "الاستذكار"(8/ 48)، حيث قال:"فقال مالك في رواية بن القاسم عنه -وهو الأشهر من مذهبه- وأبو حنيفة والثوري وأصحابه وابن شبرمة والحسن بن حي: ليس لولي المقتول عمدًا إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل".
(2)
ليست في (مح) ولا في (س) ولا في (م) ولا في (ت)، والظاهر أنه غلط؛ فإن الأوزاعي يقول بعكسى هذا؛ فتمام النقل السابق عن "الاستذكار" (8/ 48):"وقال الأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود، وهو قول ربيعة وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيرهم"، وروى أشهب عن مالك:"ولي المقتول بالخيار؛ إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أو لم يرض".".
وفي هذا النقل توثيق لمن ذكروا في السطر التالي من كلام ابن رشد رحمه الله.
(3)
يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 277)، حيث قال:"موجب العمد: القود، والدية بدل عند سقوطه، وفي قول أحدهما مبهمًا، وعلى القولين للولي عفو على الدية بغير رضا الجاني".
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 187)، حيث قال:"الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القود أو الدية، فيخير الولي بينهما ولو لم يرض الجاني".
(5)
يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (4/ 336)، حيث قال:"وقال أشهب: الخيار للولي بين ثلاثة أمور: القصاص، والعفو مجانًا، والعفو على الدية، ولا كلام للجاني وهو خلاف المذهب".
الثاني: أنه ليس لولي الدم إلا القصاص، أو العفو من غير دية، إلا أن يرضى القاتل بدفع الدية، وإليه ذهب مالك، وغالب أصحابه على الأول.
وهذا القول -أي: الأول- يلتقي مع روح الشريعة؛ لأنه لو أبى يكون قد عرض نفسه للقتل، وهو مأمور بحفظها.
- قوله: (فَعُمْدَةُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ المَشْهُورَةِ: حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ سِنِّ الرُّبَيِّعِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ"
(1)
، فَعُلِمَ بِدَلِيلِ الخِطَابِ
(2)
أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا القِصَاصُ).
ذكر المؤلف الحديث مختصرًا تبعًا لابن عبد البر، حيث أورده كذلك في كتابه "الاستذكار"
(3)
وهو في "الصحيحين" بسياق أتم، والشاهد فيه قوله:"كتاب الله القصاص"، فلم يخيّرهم بين القصاص وبين الدية، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فدلَّ ذلك على أن ليس لهم الدية إلا إذا وافق القاتل
(4)
.
وأجيب عن ذلك: بأن أولياء تلك المرأة التي كُسرت ثنيتها طلبوا القصاص
(5)
،
(1)
جزء من حديث، أخرجه البخاري في عدة مواضع من الصحيح مطولًا، وقد اقتصر على هذا القدر منه (4499). وهو عند مسلم (1675) بلفظ:"سبحان الله يا أم الربيع، القصاص كاب الله".
(2)
أي: مفهوم المخالفة.
(3)
يُنظر: "الاستذكار"(8/ 48).
(4)
إيضاح ذلك: أنه إذا تعين القصاص بهذا الحديث، فليس للولي حق في مال القاتل، فلا يجوز له إلزامه بشيء من ذلك، إلا أن يرضى؛ فيصح بذله للدية.
(5)
هو الحديث المذكور نفسه، وتمامه عند البخاري (4500) عن أنس: أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا، إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أنس، كتاب الله القصاص"، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
فبيَّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ما جاء في كتاب الله هو القصاص
(1)
.
- قوله: (وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ"
(2)
، هُمَا حَدِيثَان مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِمَا، لَكِنَّ الأَوَّلَ ضَعِيفُ الدِّلَالَةِ قِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا القِصَاصُ، وَالثَّانِي: نَصٌّ فِي أَنَّ لَهُ الخِيَارَ، وَالجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُمْكِنُ إِذَا رُفِعَ دَلِيلُ الخِطَابِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الجَمْعُ وَاجِبًا وَمُمْكِنًا فَالمَصِيرُ إِلَى الحَدِيثِ الثَّانِي وَاجِبٌ. وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، وَأَنَّهُ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وَإِذَا عُرِضَ عَلَى المُكَلَّفِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِمَالٍ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهَا، أَصْلُهُ إِذَا وَجَدَ الطَّعَامَ فِي مَخْمَصَةٍ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ، وَعِنْدَهُ مَا يَشْتَرِيهِ (أَعْنِي: أَنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِشِرَائِهِ)، فَكَيْفَ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ؟).
استدل أصحاب القول الثاني -وهو الراجح- بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو نص صريح في المسألة.
ولاحظ هنا أن المؤلف رحمه الله لم يتعصب لمذهبه المالكي في هذه المسألة، بل ضعف احتجاج المالكية، وقوله:"وإذا عرض على المكلف فداء نفسه بمال فواجب عليه أن يفديها"، إشارة إلى أن الإنسان يفدي نفسه
(1)
مراد الشيخ: أن هذه الصورة من صور موانع اعتبار مفهوم المخالفة؛ فإنه هنا وارد على جواب طلب أهل الجارية التي كُسِر سنها القصاص، فبين لهم أن حكم الله القصاص، وليس حديثًا عامًّا.
(2)
جزء من حديث أخرجه الشيخان في عدة مواضع، منها: البخاري (112)، ومسلم (1355).
تنبيه: لم أجد لفظ المصنف: "بين أن يأخذ الدية، وبين أن يعفو" عند أحد، والغالب أنه رواه بالمعنى، وقد رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة:"إما يودى وإما يقاد"، "إما أن يفدى وإما أن يقيد"، "إما أن يعطى -يعني الدية-، وإما أن يقاد - أهل القتيل"، ويُلحظ أن التخيير في الحديث بين القصاص، والدية لا العفو.
بأضعاف مضاعفة، فكيف يعرض نفسه للقتل مقابل أن يدفع الدية؟ فهو قد ارتكب ذنبًا واستحق القصاص، فالواجب أن يحمد الله أن عفي عنه وطلبت الدية.
- قوله: (وَيَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِذَا كَانَ لِلْمَقْتُولِ أَوْلِيَاءُ صِغَارٌ وَكبَارٌ أَنْ يُؤَخِّرَ القَتْلَ إِلَى أَنْ يَكْبُرَ الصِّغَارُ فَيَكُونَ لَهُمُ الخِيَارُ
(1)
، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الصِّغَارُ يَحْجُبُونَ الكِبَارَ مِثْلَ البَنِينَ مَعَ الإِخْوَةِ
(2)
).
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز أن يستوفي الكبار الحق في القصاص أو أن ينتقلوا إلى الدية بل ينتظر الصغار إلى أن يبلغوا، وذهب إلى ذلك الشافعية والحنابلة، وهو قول الأكثر.
القول الثاني: إلى أنه يجوز للكبار أن يستوفوا الحق في القصاص،
(1)
مذهب مالك: عدم الانتظار إذا ثبت الحق. يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 67)، حيث قال:"وإن كان للمقتول أولياء صغار وكبار؛ فللكبار أن يقتلوا، ولا ينتظروا الصغار".
وهو مذهب أبي حنيفة، خلافًا لصاحبيه. يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 28)، حيث قال:" (وإذا كان القصاص بين كبار وصغار فللكبار الاستيفاء) وقالا: ليس للكبار، وذلك لأنه حق مشترك بينهم، فلا ينفرد به أحدهم كالحاضر مع الغائب وأحد الموليين".
وأما مذهب الشافعي وأحمد: فهو وجوب انتظار بلوغ الصبي. يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 276)، حيث قال:"الصحيح ثبوته لكل وارث، وينتظر غائبهم وكمال صبيهم، ومجنونهم ويحبس القاتل ولا يخلي بكفيل".
و"الإقناع في فقه الإمام ابن حنبل" للحجاوي (4/ 181)، حيث قال:"فإن كان صغيرًا أو مجنونًا لم يجز استيفاؤه، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصغير، ويعقل المجنون، وليس لأبيهما استيفاؤه كوصي وحاكم".
(2)
لأن هذه الحال يمضي فيها عفو البنين، وستأتي المسألة مفصلة، وخلاصتها. يُنظر:"منح الجليل" لعليش (9/ 77)، حيث قال:" (وسقط) القصاص (إن عفا) عن القاتل (رجل) ممن له الاستيفاء (كالباقي) في الدرجة".
أو الانتقال إلى الدية، ولا يلزم انتظار بلوغ الصغار، وإليه ذهب الحنفية والمالكية.
واستدل أصحاب هذا القول بفعل الصحابة؛ حيث إن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قاتل علي، وكان له ورثة صغارًا، فقتله ولم ينتظر بلوغهم
(1)
.
وأجاب أصحاب القول الأول: بأن قتل ابن ملجم إنما كان لإلحاده وبغيه وإفساده فى الأرض، ولأنه كان خارجيًّا سالًّا للسيف على الأمة.
مع اتفاقهم على انتظار الغائب
(2)
من أولياء القتيل، وألا يتم القصاص أو العفو إلا بعد حضوره.
- قوله: (قَالَ القَاضِي: وَقَدْ كَانَتْ وَقَعَتْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ بِقُرْطُبَةَ حَيَاةَ جَدِّي رحمه الله، فَأَفْتَى أَهْلُ زَمَانِهِ بِالرِّوَايَةِ المَشْهُورَةِ؛ وَهُوَ أَنْ لَا يُنْتَظَرَ الصَّغِيرُ، فَأَفْتَى هُوَ رحمه الله بِانْتِظَارِهِ عَلَى القِيَاسِ، فَشَنَّعَ أَهْلُ زَمَانِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ التَّقْلِيدِ حَتَّى اضْطُرَّ أَنْ يَضَعَ فِي ذَلِكَ قَوْلًا يَنْتَصِرُ فِيهِ لِهَذَا المَذْهَبِ، وَهُوَ مَوْجُود بِأَيْدِي النَّاسِ).
قوله: "قال القاضي" يقصد نفسه كما سبق التنبيه على ذلك مرارًا.
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 103)، وابن أبي شيبة (9/ 368).
(2)
النقل عن الحنفية والحنابلة في مسألة حكم انتظار بلوغ الصبي تضمن أنه يُنتظر الغائب، وهو أيضًا مذهب المالكية. يُنظر:"الذخيرة" للقرافي (12/ 302)، حيث قال:"ولا يقتل الولي الحاضر حتى يقدم الغائب، بخلاف الكبير مع الصغير"، بشرط ألا تبعد الغيبة جدًّا. يُنظر:"حاشية الدسوقي"(4/ 257)، حيث قال:"وظاهر "المدونة" عند ابن رشد وأبي عمران: أن الغائب ينتظر، وإن بعدت غيبته"، وقال سحنون:"ينتظر الغائب إلا أن يبعد جدًّا، أو ييأس منه كالأسير ونحوه".
وهو مذهب الحنابلة أيضًا. يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 535)، حيث قال:" (وإن كان بعضهم) أي: الورثة (غائبًا انتظر قدومه وجوبًا) ".
قوله: "فأفتى هو رحمه الله بانتظاره على القياس"، أي: على الغائب، وقد قلتم بوجوب انتظاره، وربما طال أمد غيابه سنين.
قوله: "فشنع أهل زمانه ذلك عليه
…
إلخ"، أي: لتجرئه على مخالفة المذهب، وهذا من التعصب الأعمى الذي يطمس معالم الحق ويغطي الضياء عن صاحبه، فلا يدرك الحق وإن كان واضحًا، فاضطر إلى أن يضع كتابًا في هذه المسألة بيانًا للحق، لا دفاعًا عن نفسه، فلا يلزم أن يكون الحق محصورًا في مذهب من المذاهب.
والصواب في هذه المسألة هو ما انتصر له ابن رشد رحمه الله وهو قول أكثر العلماء.
- قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا البَابِ هُوَ فِي قِسْمَيْنِ: فِي العَفْوِ وَالقِصَاصِ. وَالنَّظَرُ فِي العَفْوِ فِي شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ لَهُ العَفْوُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ، وَتَرْتِيبُ أَهْلِ الدَّمِ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ يَكُونُ لَهُ العَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَلْ لَهُ العَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ؟).
سبق الكلام عن هذه المسألة، وأن له العفو على الدية، ولكن اختلفوا فيه من جهة هل هو مرتبط بموافقة القاتل أم لا؟
والصواب: أنه لا يحتاج إلى موافقته؛ لأن فيه صيانة لنفسه، فيحمد الله أن قد تنازل الأولياء عن القصاص.
- قوله: (وَأَمَّا مَنْ لَهُمُ العَفْوُ بِالجُمْلَةِ فَهُمُ الَّذِينَ لَهُمُ القِيَامُ بِالدَّمِ، وَالَّذِينَ لَهُمُ القِيَامُ بِالدَّمِ هُمُ العَصَبَةُ عِنْدَ مَالِكٍ
(1)
، وَعِنْدَ غَيْرِهِ: كلُّ مَنْ يَرِثُ
(2)
؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ المَقْتُولَ عَمْدًا إِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 256)، حيث قال:" (والاستيفاء) في النفس (للعاصب) الذكر".
(2)
هذا مذهب الحنفية. يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 568)، حيث قال:"القود يثبت للورثة". =
بَالِغُونَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ أَنَّ القِصَاصَ قَدْ بَطَلَ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ
(1)
)،
انتقل المؤلف إلى مسألة أُخرى وهي: من له حق العفو؟
فذهب مالك رحمه الله إلى أن من لهم حق العفو هم من لهم حق القيام بالدم؛ وهم العصبة.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه حق كل من يرث، كما أنه لا خلاف بينهم على أن من قتل عمدًا، وكان له بنون بالغون فعفا أحدهم؛ فقد سقط القصاص ووجبت الدية.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي اخْتِلَافِ البَنَاتِ مَعَ البَنِينَ فِي العَفْوِ أَوْ القِصَاصِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ أَوِ الزَّوْجُ وَالأَخَوَاتُ، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: لَيْسَ
= وهو مذهب الشافعية أيضًا. يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 298)، حيث قال:" (الصحيح ثبوته لكل وارث) بفرض أو تعصيب بحسب إرثهم المال".
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 182)، حيث قال:"وكل من ورث المال ورث القصاص على قدر ميراثه من المال، حتى الزوجين وذوي الأرحام".
(1)
ينظر للحنفية: "البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 123)، حيث قال:"وإذا ثبت للجميع فكل منهم يتمكن من الاستيفاء والإسقاط عفوًا وصلحًا، ومن ضرورة سقوط حق البعض في القصاص سقوط حق الباقين فيه؛ لأنه لا يتجزأ".
وينظر للمالكية: "منح الجليل" لعليش (9/ 77)، حيث قال:" (وسقط) القصاص (إن عفا) عن القاتل (رجل) ممن له الاستيفاء (كالباقي) في الدرجة، سواء كانوا بنين فقط، أو بنيهم فقط، أو إخوة فقط، أو بنيهم فقط أو أعمامًا فقط، أو بنيهم فقط أو موالي".
وينظر للشافعية: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 309)، حيث قال:"ولأحد المستحقين العفو بغير رضا الباقين".
وينظر للحنابلة. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 181)، حيث قال:"وإن عفا بعضهم وكان ممن يصح عفوه ولو إلى الدية سقط القصاص، وإن كان العافي زوجًا أو زوجة".
(2)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 77)، حيث قال:" (وسقط) القصاص (إن عفا) عن القاتل (رجل) ممن له الاستيفاء".
لِلْبَنَاتِ وَلَا الأَخَوَاتِ قَوْلٌ مَعَ البَنِينَ وَالإِخْوَةِ فِي القِصَاصِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ فِي الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ:
(1)
كُلُّ وَارِثٍ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي إِسْقَاطِ القِصَاصِ، وَفِي إِسْقَاطِ حَظِّهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَفِي الأَخْذِ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الغَائِبُ مِنْهُمْ وَالحَاضِرُ وَالصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ سَوَاءٌ، وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ: اعْتِبَارُهُمُ الدَّمَ بِالدِّيَةِ، وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الأَوَّلِ: أَنَّ الوِلايَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلذُّكُورِ دُونَ الإِنَاثِ).
أي: إذا حصل العفو من البنات أو من واحدة منهن؛ هل يسقط القصاص أو لا؟ وكذلك الأمر بالنسبة للزوجة أو الزوجات؟
فذهب مالك رحمه الله إلى أنه ليس للبنات أو الأخوات قول مع البنين أو الإخوة، وهو الصحيح إذ لا دليل على التفريق، ولأن الولاية إنما هي للذكران دون الإناث.
وذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد إلى اعتبار قول كل وارث في إسقاط القصاص، أو في إسقاط حظه من الدية، وذلك لأنهم يعتبرون الدم بالدية، وأيضًا قاسوا هذه المسألة على مسألة النكاح، لكن يرد عليهم بأن النكاح وردت فيه نصوص خاصة كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل"
(2)
، وقوله: "لا تزوج المرأة
(1)
ينظر الحاشية قبل السابقة؛ ففيها من نقل كلام المذاهب الثلاثة عدا مالكًا في أن عفو أي وارث يسقط القصاص.
وأما مذهب الثوري؛ فينظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 182)، حيث قال:"وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل: لكل وارث نصيبه من القصاص، ويجوز عفوه على نفسه، ولا يجوز على غيره في إبطال حقه من الدية والرجال، والنساء في ذلك كله عندهم سواء".
(2)
أخرجه أبو داود (2085)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 243).
المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها"
(1)
.
- قوله: (وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي المَقْتُولِ عَمْدًا إِذَا عَفَا عَنْ دَمِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ؛ هَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الأَوْليَاءِ؟ وَكَذَلِكَ فِي المَقْتُولِ خَطَأً إِذَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ
(2)
، فَقَالَ قَوْمٌ: إِذا عَفَا المَقْتُولُ عَنْ دَمِهِ فِي العَمْدِ مَضَى ذَلِكَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: مَالِكٌ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَالأَوْزَاعِيُّ
(5)
، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ
(6)
(7)
، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لَا يَلْزَمُ عَفْوُهُ، وَلِلأَوْلِيَاءِ
(1)
جزء من حديث أخرجه ابن ماجه (1882) عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها" قال الألباني "في إرواء الغليل"(6/ 248): "صحيح دون الجملة الأخيرة".
(2)
هذا مذهب أحمد لكن بقيد الثلث. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 188)، حيث قال:"فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها: صح، ولم يضمن السراية، فإن كان عمدًا لم يضمن شيئًا، وإن كان خطأ اعتبر خروجهما من الثلث، وإلا سقط عنه ديتها ما احتمله الثلث، وإن أبرأه من الدية أو وصى له بها فهو وصية لقاتل وتصح، وتقدم في الموصى له، وتعتبر من الثلث".
(3)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 69)، حيث قال:" (و) إن مات بعض من له الاستيفاء أو جميعهم وله وارث ف (الوارث) واحدًا كان أو متعددًا (كمورثه) بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء، فإن كان الميت يستقل بالقتل والعفو فوارثه كذلك".
(4)
يُنظر: "درر الحكام شرح غرر الأحكام" لخسرو (2/ 100)، حيث قال:"ويصح عفوه فبل الموت".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 178)، حيث قال:"وممن قال: إن للمقتول أن يعفو عن دمه ويجوز على أوليائه وورثته كقول مالك: الحسن البصري وطاوس اليماني وقتادة والأوزاعي".
(6)
يُنظر: "الأم" للشافعي (6/ 16)، حيث قال:"وإذا جنى الرجل على الرجل الجناية فيها قصاص، فقال المجني عليه: قد عفوت عن الجاني جنايته علي، وبرأ المجني عليه من الجناية؛ سقط القصاص عن الجاني، وسئل المجني عليه؛ فإن قال: قد عفوت له القصاص والمال؛ جاز عفوه للمال إن كان يلي ماله، وإن كان لا يلي ماله جاز عفوه للقصاص وأخذ له المال؛ لأنه ليس له أن يهب من ماله شيئًا".
(7)
وهو مذهب أحمد أيضًا. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 188)، حيث قال:"وإن عفا عن قاتله بعد الجرح صح، سواء كان بلفظ العفو أو الوصية أو الإبراء أو غير ذلك".
القِصَاصُ أَوِ العَفْوُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: أَبُو ثَوْرٍ
(1)
، وَدَاوُدُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِالعِرَاقِ. وَعُمْدَةُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: أَنَّ اللهَ خَيَّرَ الوَلِيَّ فِي ثَلَاثٍ: إِمَّا العَفْوُ، وَإِمَّا القِصَاصُ، وَإِمَّا الدِّيَةُ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَقْتُولٍ سَوَاءٌ عَفَا عَنْ دَمِهِ قَبْلَ المَوْتِ أَوْ لَمْ يَعْفُ. وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ: أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي جُعِلَ لِلْوَلِيِّ إِنَّمَا هُوَ حَقُّ المَقْتُولِ، فَنَابَ فِيهِ مَنَابَهُ، وَأُقِيمَ مَقَامَهُ، فَكَانَ المَقْتُولُ أَحَقَّ بِالخِيَارِ مِنَ الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ
(2)
عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] أَنَّ المُرَادَ بِالمُتَصَدِّقِ هَاهُنَا هُوَ المَقْتُولُ يَتَصَدَّقُ بِدَمِهِ).
أي: لو أن إنسان أصيب ولم يمت مباشرة، بل بقي فترة فعفا عن الجرح الذي أصيب به، والجرح يسري إلى النفس ثم مات؛ هل يعتبر عفوه؟ أم ينتقل الحق إلى الورثة لأنه حق موروث؟
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 178)، حيث قال: "وممن قال: إن للمقتول أن يعفو عن دمه ويجوز على أوليائه وورثته كقول مالك ت الحسن البصري
…
وهو أحد قولي الشافعي، وقال بالعراق: عفوه باطل؛ لأن الله عز وجل جعل السلطان لوليه؛ فله العفو والقصاص إن شاء، أو الدية، ولا يجوز ذلك إلا بموته، وبه قال أبو ثور وداود".
وما عزاه للشافعي من قوله بالعراق لم أجده صريحًا، ولكن ينظر:"كفاية النبيه" لابن الرفعة (15/ 453)، حيث قال:"إذا جنى عليه جناية توجب القصاص، إذا اندملت: كقطع الأصبع ونحوها، فعفا المجني عليه على الدية، ثم سرت إلى النفس: لم يجب قصاص النفس، وفيه الوجه المنسوب إلى أبي الطيب ابن سلمة".
وقد علل الرافعي الوجه المنسوب لابن سلمة، وجعله عن تخريج ابن سريج، ينظر:"الشرح الكبير"(10/ 258)، حيث قال:"وسقوط القصاص في الطرف لا يوجب سقوطه في النفس؛ ألا ترى أنه لو استوفى قصاص الطرف، ثم مات المجني عليه بالسراية، وجب قصاص النفس، فليكن السقوط بالعفو كالسقوط بالاستيفاء، ويحكى هذا عن تخريج ابن سريج".
(2)
يُنظرْ: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 179)، حيث قال:"ولم يختلف العلماء أن المتصدق هاهنا: هو المقتول؛ يتصدق بدمه على قاتله، أي: يعفو عنه".
فذهب الجمهور؛ مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وأحمد والشافعي في الجديد إلى إمضاء عفوه.
وذهب أبو ثور وأبو داود -وهو قول الشافعي في القديم- إلى انتقال الحق بالورثة.
- قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، قِيلَ: عَلَى القَاتِلِ
(1)
لِمَنْ رَأَى لَهُ تَوْبَةً، وَقِيلَ: عَلَى المَقْتُولِ مِنْ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ).
إذًا عاد الخلاف إلى مسألة توبة القاتل عمدًا وهل تقبل أم لا؟
والجمهور على قبول توبته خلافًا لابن عباس رضي الله عنهما، وقد سبق تفصيل الكلام فيها، فراجعه إن شئت.
- قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي عَفْوِ المَقْتُولِ خَطَأً عَنِ الدِّيَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
. وَالشَّافِعِيُّ
(3)
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ: إِنَّ عَفْوَهُ
(1)
في الآية قولان. يُنظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي (1/ 553 - 554)، حيث قال:"فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ في هاء "له" قولان:
أحدهما: أنها إِشارة إِلى المجروح، فإذا تصدَّق بالقصاص كَفَّر من ذنوبه، وهو قول ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن، والشَّعبي.
والثاني: إِشارة إِلى الجارح إِذا عفا عنه المجروح، كفر عنه ما جنى، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته؛ لأنه إِذا كان مُصرًّا فعقوبة الإِصرار باقية".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 263)، حيث قال:" (فإن) (عفا) المجني عليه خطأ قبل موته (فوصية)، أي: فالعفو كالوصية بالدية للعاقلة والجاني، فتكون في ثلثه".
(3)
يُنظر: "روضة الطالبين وعمدة المفتين"(9/ 245)، حيث قال:"فإن عفا عنها، فهي وصية للقاتل، وفيها القولان".
(4)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 563)، حيث قال: " (ولو عفا عن =
مِنْ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الوَرَثَةُ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ طَاوُسٌ
(1)
وَالحَسَنُ
(2)
. وَعُمْدَةُ الجُمْهُورِ: أَنَّهُ وَاهِبٌ مَالًا لَهُ بَعْدَ مَوْتهِ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، أَصْلُهُ الوَصِيَّةُ. وَعُمْدَةُ الفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدَّمِ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَعْفُوَ عَنِ المَالِ، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ هِيَ أَخَصُّ بِكِتَابِ الدِّيَاتِ).
اختلف أهل العلم في عفو المقتول خطأً عن الدية إلى قولين:
القول الأول: أن عفوه في حدود الثلث إلا أن يجيزه الورثة، فاعتبروه داخلًا في الوصية، وهذا قول الجمهور؛ أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور فقهاء الأمصار.
القول الثاني: أنه يجوز في جميع ماله، وبه قال طاوس والحسن.
- قوله: (وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ إِذَا عَفَا المَجْرُوحُ عَنِ الجِرَاحَاتِ، فَمَاتَ مِنْهَا هَلْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُطَالِبُوا بِدَمِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: عَفَوْتُ عَنِ الجِرَاحَاتِ وَعَمَّا تَؤُولُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ،
= الجناية أو عن القطع وما يحدث منه فهو عفو عن النفس) فلا يضمن شيئًا، وحينئذ (فالخطأ يعتبر من ثلث ماله) ".
(1)
أخرجه عبد الرزاق (10/ 18)، وابن أبي شيبة (9/ 323)، عن ابن طاوس، قال: قلت لأبي: "الرجل يقتل فيعفو عن دمه"، قال:"جائز"، قال: قلت: "خطأ، أم عمدًا؟ " قال: "نعم".
(2)
أخرجه عبد الرزاق (10/ 18)، وابن أبي شيبة (9/ 324)، عن الحسن؛ أنه كان يقول:"إذا عفا الرجل عن قاتله في العمد قبل أن يموت، فهو جائز"، وينظر هذا الموضع من المصنفين؛ ففيهما ذكر خلاف السلف في ذلك.
(3)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (6/ 164)، حيث قال:"إن وقع الصلح على الجرح فقط: فحكمه ما تقدم، وإن مات من مرضه: لزم الصلح، وإن صالح عنه وعما يؤول إليه: لزم الصلح فلا كلام للأولياء".
وَمُحَمَّدٌ
(1)
: إِذَا عَفَا عَنِ الجِرَاحَةِ وَمَاتَ فَلَا حَقَّ لَهُمْ، وَالعَفْوُ عَنِ الجِرَاحَاتِ عَفْوٌ عَنِ الدَّمِ. وَقَالَ قَوْمٌ
(2)
: بَلْ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ إِذَا عَفَا عَنِ الجِرَاحَاتِ مُطْلَقًا، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَلْزَمُ
(3)
الجَارِحَ الدِّيَةُ كُلُّهَا، وَاخْتَارَهُ المُزَنِيُّ
(4)
مِنْ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ
(5)
، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُ مِنَ الدِّيَةِ مَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ إِسْقَاطِ دِيَةِ الجُرْحِ الَّذِي عَفَا عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ
(6)
(7)
، وَأَمَّا مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَعْفُو عَنِ الدَّمِ؛ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ
(1)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 136)، حيث قال:"وإن عفا عن القطع وما يحدث منه ثم مات من ذلك: فهو عفو عن النفس، ثم إن كان خطأ: فهو من الثلث، وإن كان عمدًا: فهو من جميع المال، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: إذا عفي عن القطع فهو عفو عن النفس أيضًا".
(2)
سيأتي ذكرهم مفصلًا.
(3)
سقط "الجراح" وليست في الأصل ولا في (مح) ولا في (س) ولا في (م)، واستدركناه من (ت).
(4)
يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 349)، حيث قال:" (قال الشافعي رحمه الله: "
…
ولو قال: قد عفوت عنها وما يحدث منها من عقل وقود ثم مات منها: فلا سبيل إلى القود؛ للعفو" ونظر إلى أرش الجناية، فكان فيها قولان:
أحدهما: أنه جائز العفو عنه من ثلث مال العافي كأنها موضحة؛ فهي نصف العشر، ويؤخذ بباقي الدية.
والقول الثاني: أن يؤخذ بجميع الجناية؛ لأنها صارت نفسًا، وهذا قاتل لا يجوز له وصية بحال".
قال المزني رحمه الله: "هذا أولى بقوله؛ لأن كل ذلك وصية لقاتل فلما بطل بعضها بطل جميعها، ولأنه قطع بأنه لو عفا والقاتل عبد جاز العفو من ثلث الميت".
(5)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 313)، حيث قال:" (وتجب الزيادة عليه)، أي: على أرش العضو (إلى تمام الدية) للسراية، وإن تعرض في عفوه لما يحدث؛ لأنه إسقاط للشيء قبل ثبوته وهو باطل، (وفي قول: إن تعرض في عفوه) عن الجناية (لما يحدث منها سقطت الزيادة) بناءً على المرجوح؛ وهو صحة الإبراء عما لم يجب إذا جرى سبب وجوبه".
(6)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 146)، حيث قال:"وقال الثوري: إذا عفا عن الجراحة ثم مات لم يقتل، ويعقل بما فضل من الدية".
(7)
وهو مذهب أحمد أيضًا. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 188)، حيث قال: "وإن قطع =
خِلَافٌ فِي أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ ذَلِكَ طَلَبَ الوَلِيِّ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَفْوُهُ عَنِ الدَّمِ لَا ئسْقِطُ حَقَّ الوَلِيِّ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُسْقِطَ عَفْوَهُ عَنِ الجُرْحِ).
خلط المؤلف بين مسألتين في باب الجراحات، والأولى التفصيل، وذلك أن الجراحات إما أن تكون مما يشىرع فيها القصاص، وإما مما لا يجب فيها القصاص.
فإن كان مما يشرع فيها القصاص: فجمهور العلماء على القول بجواز العفو.
وأما إن كان مما لا يجب فيها القصاص ثم سرت بعد ذلك إلى النفس: فذهب بعض العلماء إلى أن لأولياء القتيل المطالبة بالقصاص، أو الدية، أو العفو.
وأما قول مالك: "لهم ذلك إلا أن يقول عفوت عن الجراحات وعما تؤول إليه" فهذا في الجراحات التي لا قصاص فيها
(1)
.
= إصبعًا عمدًا فعفا عنه، ثم سرت إلى الكف أو إلى النفس، والعفو على مال أو على غير مال: فله تمام دية ما سرت إليه، وإن كان الجرح لا قصاص فيه -كالجائفة- فعفا عن القصاص ثم سرى إلى النفس: فلوليه القصاص؛ لأنه لا يصح العفو عن قود ما لا قود فيه، وله بعد السراية العفو عن الفصاص، وله كمال الدية".
(1)
ظاهر ما في كتب المالكية خلاف ذلك. يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 85)، حيث قال: "وإن عفا عن جرحه أو صالح فمات
…
إلخ، نحوه في "المدونة" فيمن قطعت يده فعفا ثم مات، أبو الحسن: إن قال: عفوت عن اليد لا غير فلا إشكال، وإن قال: عن اليد وما ترامى إليه من نفس أو غيره: فلا إشكال".
لكن الخلاف ثابت فيما فيه القصاص، بخلاف ما لا قصاص فيه. يُنظر:"تحرير الكلام في مسائل الالتزام" للحطاب (ص 316)، حيث قال:"وقع الخلاف فيما إذا صالح عن الجرح وما ترامى إليه، وكان الجرح من جراح العمد التي فيها القصاص فظاهر "المدونة" الجواز، ونص عليه ابن حبيب في الواضحة، ونص ابن القاسم في "العتبية" على المنع قال في "البيان": "والجواز أظهر؛ لأنه إذا كان للمقتول أن يعفو عن دمه قبل موته؛ جاز أن يصالح عنه بما شاء"، وأما جراح العمد التي لا قصاص فيها: فلا يجوز فيها الصلح على ذلك، قال في "البيان": "لا أعلم فيها نص =
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي القَاتِلِ عَمْدًا يُعْفَى عَنْهُ؛ هَلْ يَبْقَى لِلسُّلْطَانِ فِيهِ حَقٌّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَاللَّيْثُ: إِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ المَدِينَةِ
(2)
، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ
(3)
، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ (الشَّافِعِيُّ
(4)
وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ
(5)
): لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ
(6)
:
= خلاف"، قال في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الديات: ونقله في "التوضيح" في آخر كتاب الجراح قبل الكلام عن الديات بيسير، ويأخذ من كلامه إن عفوه لازم بلا خلاف لاحتجاجه به".
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 287)، حيث قال:" (وعليه)، أي: على القاتل عمدًا البالغ إذا لم يقتل لعفو، أو لزيادة حرية، أو إسلام (مطلقا) كان القاتل حرًّا، أو رقيقًا مسلمًا، أو كافرًا ذكرًا، أو أنثى (جلد مائة وحبس سنة) ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 181)، حيث قال:"وقال الليث وأهل المدينة كما قال مالك".
(3)
الذي روي عن عمر في ذلك قوله في جناية السيد على العبد. فقد أخرج عبد الرزاق (9/ 491) بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: كان أبو بكر وعمر "لا يقتلان الرجل بعبده، كانا يضربانه مائة، ويسجنانه سنة، ويحرمانه سهمه مع المسلمين سنة، إذا قتله عمدًا" قال: وأخبرني أبي، عن عبد الكريم أبي أميهَ مثله قال:"ويؤمر بعتق رقبة".
وهذا الأثر الذي ذكره المؤلف سبقه ابن عبد البر في الاستدلال به في هذه المسألة، فقال: وقال الليث وأهل المدينة كما قال مالك. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وجوه: أنه ضرب حرًّا قتل عبدًا مائة، ونفاه عامًا. انظر: الاستذكار (8/ 181).
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 23)، حيث قال:" (ولو عفا مستحق حد فلا تعزير) يجوز (للإمام في الأصح) لانتفاء نظره فيه".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"(8/ 181)، حيث قال:"قال أبو عمر: قد أبي من ذلك عطاء بن أبي رباح وطائفة، قالوا: لم يذكر الله عز وجل أن على من عفي عنه جلدًا ولا عقوبة. قال عطاء: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. وقاله عمرو بن دينار، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور".
(6)
يُنظر: "الاستذكار"(8/ 181)، حيث قال:"قال أبو ثور: إلا أن يكون يعرف بالشر، فيؤدبه الإمام على قدر ما يرى أنه يردعه".
إِلَّا أَنْ يَكُونَ يُعْرَفُ بِالشَّرِّ، فَيُؤَدِّبُهُ الإِمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى. وَلَا عُمْدَةَ لِلطَّائِفَةِ الأُولَى إِلَّا أَثَرٌ ضَعِيفٌ
(1)
. وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ: ظَاهِرُ الشَّرْعِ، وَأَنَّ التَّحْدِيدَ فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا يِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ ثَايِتٌ فِي ذَلِكَ).
أشار المؤلف هنا إلى مسألة مهمة؛ وهي إذا عفا الأولياء عن القاتل عمدًا؛ هل يبقى للسلطان حق فيه أم لا؟
فذهب مالك والليث إلى أنه يبقى للسلطان حق، فيحبس سنة ويجلد مئة، استنادًا إلى أثر روي في ذلك عن عمر رضي الله عنه.
كما أن المالكية بنوا ذلك على الاستصلاح -أي: المصالح المرسلة- فإذا عفى ولي الدم فللإمام أن يؤدبه من قبيل المصلحة.
وذهب الجمهور إلى أنه لم يبق للسلطان حق، وليس على القاتل شيءٌ من ذلك؛ لأن هذا حق للولي فسقط بإسقاطه، وهو حق واحد لا يتجزأ.
وعلة هذا القول: أن إيجاب أي حكم شرعي لا يكون إلا بنص أو قياس صحيح، وهذا غير متحقق هنا، وأجابوا عن أثر عمر رضي الله عنه بأنه ضعيف لا تقوم به حجة.
وذهب أبو ثور رحمه الله إلى أنه لا يجب على القاتل شيء، إلا إذا كان معروفًا بالشر؛ فللإمام أن يؤدبه على قدر ما يرى.
(1)
الأثر المشار إليه هو أثر عمر السابق، ولعله استفاد تضعيفه من قول ابن عبد البر في "الاستذكار":"وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وجوه"؛ فإن "رُوي" من صيغ التضعيف، وقد قدمت الكلام على إسناده، إلا أن قوله:"من وجوه" قد يكون فيه إشارة إلى تصحيحه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
القَوْلُ فِي القِصَاصِ
وَالنَّظَرُ فِي القِصَاصِ هُوَ فِي صِفَةِ القِصَاصِ، وَمِمَّنْ يَكُونُ؟ وَمَتَى يَكُونُ؟ فَأَمَّا صِفَةُ القِصَاصِ فِي النَّفْسِ: فَإِنَّ العُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْتَصُّ مِنَ القَاتِلِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَتَلَ، فَمَنْ قَتَلَ تَغْرِيقًا قُتِلَ تَغْرِيقًا، وَفَنْ قَتَلَ بِضَرْبٍ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(1)
وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، قَالُوا: إِلَّا أَنْ يَطُولَ تَعْذِيبُهُ بِذَلِكَ فَيَكُونَ السَّيْفُ لَهُ أَرْوَحَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ
(3)
فِيمَنْ حَرَقَ آخَرَ؛ هَلْ يُحْرَقُ؟ مَعَ مُوَافَقَتِهِمْ
(1)
يُنظر: "مختصر خليل"(ص 232)، حيث قال:"وقُتِلَ بما قتل ولو نارًا، إلا بخمر أو لواط وسحر وما يطول".
(2)
يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 277)، حيث قال:"ومن قتل بمحدد أو خنق أو تجويع ونحوه اقتص به".
ظاهر كلام ابن رشد أن الشافعية مع المالكية في أنه إذا كانت المماثلة في القصاص تطول أنه يُقتص بالسيف، وهذا مذهب المالكية دون الشافعية. يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 306)، حيت قال:" (ولو جُوِّع كتجويعه) أو أُلقي في نار مثل مدته أو ضرب عدد ضربه (فلم يمت زِيد) من ذلك الجنس (حتى يموت)؛ ليقتل بما قتل به".
(3)
المعتمد في المذهب -وهو ما ذكره خليل- ثبوت القصاص بالحرق. يُنظر: "التاج والإكليل لمختصر خليل" للمواق (8/ 330)، حيث قال: "وقيل: يقتل بالنار والسم (ولو نارًا)، سمع عبد الملك ابن القاسم: من قتل رجلًا بتغريق أو سم قتل بمثل ذلك.
قال ابن رشد: هو نص "المدونة" في السم وتأولها الشيخ فقال: يعني يوجب القود بغير السم، وهو تأويل بعيد. وإذا قيد بالسم فأحرى بالنار خلاف قول أصبغ لا يقاد بالنار. قال الباجي: المشهور قتله بما قتل به من نار أو غيرها، قال ابن عرفة: خلاف ما شهر ابن العربي".
وسبب منع من منع من الاقتصاص بالتحريق: ما جاء من النهي عن التعذيب بالنار، وجواب جمهور المالكية باستثناء ذلك. يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 265)، حيث قال:"وعلى المشهور يكون القصاص بالنار مستثنى من النهي عن التعذيب بها".
لِمَالِكٍ فِي احْتِذَاءِ صُورَةِ القَتْلِ؟ وَكَذَلِكَ فِيمَنْ قَتَلَ بِالسَّهْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
(2)
وَأَصْحَابُهُ: بِأَيِّ وَجْهٍ قَتَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَعُمْدَتُهُمْ: مَا رَوَى الحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا قَوَدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ"
(3)
، وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الأَوَّلِ: حَدِيثُ أَنَسٍ: "أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ
(4)
رَأْسَ امْرَأَةٍ بِحَجَرٍ، فَرَضَخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رأَسَهُ بِحَجَرٍ، أَوْ قَالَ: بَيْنَ حَجَرَيْنِ"
(5)
، وقَوْله تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [لبقرة: 178]، وَالقِصَاصُ يَقْتَضِي المُمَاثَلَةَ).
انتقل المؤلف إلى حكم آخر من أحكام القصاص؛ وهو كيفية القصاص وصفته، وذلك راجع إلى اختلاف القِتْلة، فهناك من يقتل بحديدة، وهناك من يقتل بحجر، وهناك من يذبح، وهناك من يخنق، وهناك من يلقي في بئر أو يغرق أو يحرق، وهناك من يعذب بقطع الأطراف مثلًا ثم يقتل، إلى غير ذلك من الصور.
(1)
يُنظر: "البناية شرح الهداية"(13/ 85)، حيث قال:"ولا يستوفي القصاص إلا بالسيف".
(2)
وهو مذهب أحمد أيضًا. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 184)، حيث قال:"ولا يجوز استيفاء القصاص في النفس إلا بالسيف في العنق".
(3)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 273) مرسلًا.
وقد أخرجه البيهقي في "الكبرى"(8/ 62)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وفي إسناده جابر الجعفي؛ قال الألباني في "إرواء الغليل" (7/ 285):"وجابر الجعفي متهم بالكذب".
وقد ورد بلفظ: "لا قود إلا بالسيف" وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(7/ 285)، وانتقد جميع طرقه.
(4)
الرضخ: الدق والكسر. يُنظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 229)، حيث قال:"والرضخ أيضًا: الدق والكسر. (س) ومنه حديث الجارية المقتولة".
(5)
أخرجه البخاري (6876) بلفظ. "رض"، وأما لفظ:"رضخ" فأخرجه ابن ماجه (2265).
فهل يقتصر على السيف أو أنه يقتل على الكيفية التي بها قَتَل؟
فذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه إلى: أنه يقتص من القاتل على الصفة التي قتل، إلا أن يطول تعذيبه بذلك؛ فيكون السيف له أروح، فمن قتل تغريقًا قتل تغريقًا، ومن قتل بضرب حجر قتل بمثل ذلك، ومن قتل خنقًا قتل خنقًا، ومن رمى غيره في بئر عمدًا فقتله فعل به كذلك، ومن هدم جدارًا على رجل حتى مات يفعل به كذلك أيضًا.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولًا: قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، قال المؤلف:"والقصاص يقتضي المماثلة".
ولو ذكر المؤلف الآية الأُخرى التي استدل بها الجمهور وهي قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] لكان أنسب.
ثانيًا: قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
ثالثًا: الحديث المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: "أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ أمْرَأَةٍ بِحَجَرٍ، فَرَضَخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رأَسَهُ بِحَجَرٍ، أَوْ قَالَ: بَيْنَ حَجَرَيْنِ"
(1)
.
واختلف المالكية فيمن حرق آخر؛ فجمهورهم على أنه لا يحرق، لأنه قد جاء النهي عن التعذيب بالنار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يعذب بالنار إلا
(1)
سبق تخريجه في المتن في المسألة نفسها.
ربُّ النار"
(1)
، وذهبت قلة منهم إلى أنه يحرق.
وذهب أبو حنيفة، ورواية عن أحمد إلى: أن القاتل لا يقتل بالسيف، مهما كان وجه قتله.
واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا قود إلا بحديدة"
(2)
، وفي رواية:"لا قود إلا بالسيف". وأجاب الجمهور: بأنه حديث ضعيف.
ثانيًا: استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"
(3)
، فإذا كان ذلك مع الحيوان فالإنسان من باب أولى، فهو أعظم وأشد حرمة.
ولذا قال بعضهم: لا ينفذ القصاص إلا بحضور السلطان، أو من ينيبه، حتى لا يحصل حيف وتجاوز، ولربما قتله بسيف غير حاد فيؤذيه
(4)
.
(1)
جزء من حديث أخرجه البخاري (3016)، بلفظ:"وإن النار لا يعذب بها إلا الله"، وأما لفظ الشيخ؛ فأخرجه أبو داود (2677)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1/ 798).
(2)
سبق تخريجه قبل قليل.
(3)
أخرجه مسلم (1955).
(4)
هذا مذهب الحنفية. يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 549)، حيث قال:"الإمام شرط استيفاء القصاص كالحدود عند الأصوليين".
وهو مذهب أحمد. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 183)، حيث قال:"ولا يستوفى القصاص ولو في النفس إلا بحضرة السلطان أو نائبه وجوبًا، فلو خالف وفعل وقع الموقع وله تعزيره".
وأما المالكية، فيجوزون استقلال القصاص في النفس إلى الولي دون السلطان. يُنظر:"مختصر خليل"(ص 231)، حيث قال:"وللحاكم رد القتل فقط للولي".
وأما الشافعية فيشترطون إذن الإمام، ويستحبون حضوره. يُنظر:"المنهاج" للنووي، (ص 276)، حيث قال:"ولا يستوفي قصاص إلا بإذن الإمام، فإن استقل عزر، ويأذن لأهل في نفس لا طرف في الأصح". وينظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 301)، حيث قال:"ويسن حضور الحاكم به له مع عدلين يشهدان إن أنكر المستحق".
تتمة: هناك صورة أُخرى لم يشر إليها المؤلف؛ وهي القتل بمُحرَّم، كأن يجرعه الخمر حتى يموت، أو يرتكب معه جريمة حتى يقتله؟
والجواب: أنه لا يقتل بمحرم، وللشافعية في هذا وجه؛ لكنه ضعيف، والصحيح: أنه إذا قتل بمحرم فإنه لا يقتل به، وإنما بالسيف.
- قوله: (وَأَمَّا مِمَّنْ يَكُونُ القِصَاصُ؟ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ لِمَكَان العَدَاوَةِ، وَمَخَافَةَ أَنْ يَجُورَ فِيهِ
(1)
).
قوله: "ممن يكون القصاص"، أي: من الذي يتولى تنفيذ القصاص؟
فقيل: يتولاه ولي الدم، واستدلوا بقصة الرجل الذي جاء بمن قتل أخاه يجره ممسكًا به فقال: يا رسول الله: "هذا قتل أخي"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"خذه فاقتله"
(2)
.
وقيل: بل السلطان، أو نائبه، وأجابوا عن الحديث: بأن لفظه عام فيحتمل.
وعند المالكية
(3)
والشافعية والحنابلة: أنه يتعين حضور السلطان أو من ينوب عنه؛ خشية حدوث تجاوز من ولي الدم.
- قوله: (وَأَمَّا مَتَى يَكُونُ القِصَاصُ؟ فَبَعْدَ ثُبُوتِ مُوجِبَاتِهِ، وَالإِعْذَارِ إِلَى القَاتِلِ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا).
موجبات القصاص:
أولًا: أن يكون عمدًا؛ سواء كان في النفس، أو فيما دون النفس.
ثانيًا: أن يكون القاتل مكلفًا بالغًا عاقلًا.
(1)
يُنظر الحاشية السابقة.
(2)
جزء من حديث طويل، رواه مسلم (1680)، بلفظ:"دونك فاقتله".
(3)
سبق أن المالكية لا يشترطون ذلك.
ثالثًا: حصول التكافؤ بين القاتل والمقتول.
رابعًا: أن يثبت ذلك يقينًا، فلا يقتص من شخص بمجرد الظن.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ القِصَاصِ أَنْ لَا يَكُونَ المَوْضِعُ الحَرَمَ؟).
أشار المؤلف هنا إلى مسألة مهمة؛ وهي إقامة القصاص في الحرم المكي، وقد جاءت نصوص كثيرة في تعظيم شأن الحرم وحرمة سفك الدم فيه، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس"
(1)
الحديث وفيه: "فلا يسفك فيها دم"، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فلا يسفك فيها دم"، وإقامة الحد أو القصاص في الحرم هذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يرتكب موجب الحد أو القصاص داخله، فلا خلاف بين العلماء
(2)
على إقامة الحد عليه، أو القود منه فيه.
الثاني: أن يرتكب الجاني الجناية خارج الحرم فيلجأ إلى الحرم، فذهب أبو حنيفة
(3)
، وأحمد
(4)
في المشهور عنه إلى: أنه لا يقام عليه
(1)
جزء من حديث أخرجه البخاري (1833).
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 103)، حيث قال:"مسألة: قال: (ومن قتل، أو أثى حدًّا في الحرم، أقيم عليه في الحرم)، وجملته أن من انتهك حرمة الحرم بجناية فيه توجب حدًّا أو قصاصًا: فإنه يقام عليه حدها، لا نعلم فيه خلافًا".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 547)، حيث قال: " (مباح الدم التجأ إلى الحرم لم يقتل فيه) خلافا للشافعي (ولم يخرج عنه للقتل لكن يمنع عنه الطعام والشراب حتى يضطر فيخرج من الحرم فحينئذ يقتل خارجه)، وأما فيما دون النفس فيقتص منه في الحرم إجماعًا.
(ولو أنشأ القتل في الحرم قتل فيه) إجماعًا سراجية؛ ولو قتل في البيت لا يقتل فيه ذكره المصنف في الحج".
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 249)، حيث قال: "ومن قتل أو قطع طرفًا أو أتى حذا خارج حرم مكة، ثم لجأ إليه أو لجأ إليه حربي أو مرتد: لم يستوف منه فيه، =
الحد طالما هو فيه، ولكن يضيق عليه فيه حتى يخرج فيقام عليه القصاص أو الحد.
وروي عن أحمد في غير المشهور عنه: التفريق بين الحد وبين القصاص
(1)
.
وذهب مالك والشافعي إلى أنه: يقام عليه القصاص والحد في الحرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الحرم لا يعيذ عاصيًا"
(2)
، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن الأخطل وهو متعلق بأستار الكعبة
(3)
.
= ولكن لا يبايع، ولا يشاري، ولا يطعم، ولا يسقى، لا يؤاكل، ولا يشارب، ولا يجالس، ولا يؤوى، ويهجر فلا يكلمه أحد حتى يخرج، لكن يقال له: اتق الله واخرج إلى الحل".
(1)
يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (3/ 278)، حيث قال:"وروى حنبل عنه: أن الحدود كلها تقام في الحرم، إلا القتل".
(2)
هذا القدر ليس حديثًا، وإنما هو من كلام عمرو بن سعيد. أخرج البخاري (1832)، ومسلم (1354) عن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة:"ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم للغد من يوم الفتح، فسمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب" فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخربة"، خربة: بلية.
فليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفل بعض من تقدم فظنها حديثًا، فانبرى لذلك الموفق ابن قدامة، وقال في "المغني" (9/ 102):"وما رووه من الحديث؛ فهو من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يرد به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح هذا الحديث، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع".
(3)
أخرجه البخاري: (1846)، ومسلم (1357)، ولفظه: عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق باستار الكعبة، فقال:"اقتلوه".
والمقتول: "ابن خطل"، وليس "ابن الأخطل".
- قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الحَامِلَ إِذَا قَتَلَتْ عَمْدًا أَنَّهُ لَا يُقَادُ مِنْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا
(1)
).
لأنه لو اقتيد منها وهي حامل أدى ذلك إلى قتل حملها، والله تعالى يقول:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ، فهذا تعدٍّ، والله تعالى يقول:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}
(2)
.
- قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي القَاتِلِ بِالسَّمِّ؛ وَالجُمْهُورُ
(3)
عَلَى وُجُوبِ القِصَاصِ؛ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ
(4)
: لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ -عَلَيْهِ
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 342 - 343)، حيث قال: "فصل: ولا يجوز أن يقتص من حامل قبل وضعها، سواء كانت حاملًا وقت الجناية، أو حملت بعدها قبل الاستيفاء
…
ولأن هذا إجماع من أهل العلم لا نعلم بينهم فيه اختلافًا".
(2)
[الإسراء: 33]، وقد فصل الشيخ الآية، بقوله:"وهذا تعدٍ".
(3)
هذا مذهب المالكية. يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 265)، حيث قال:"والسم"، أي: إذا قتل الجاني به شخصًا فإنه لا يقتل به، وإنما يقتل بالسيف".
ومذهب الشافعية: أن عليه دية شبه عمد. يُنظر: "روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنووي (9/ 129)، حيث قال:"فإذا أوجروه سمًّا صرفًا، أو مخلوطًا وهو مما يقتل غالبًا، سواء كان موحيًا أو غير موح فمات: لزمه القصاص، وإن كان لا يقتل غالبًا وقد يقتل: فهو شبه عمد، فلا قصاص على المشهور".
وهو مذهب الحنابلة. يُنظر: "الإقناع في ففه الإمام ابن حنبل" للحجاوي (4/ 165)، حيث قال:"سقاه سُمًّا لا يعلم به، أو خلطه بطعام ثم أطعمه إياه، أو خلطه بطعام وآكله فأكله وهو لا يعلم فمات: فعليه القود إن كان مثله يقتل غالبا".
وللحنفية تفصيل. يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 542)، حيث قال:" (سقاه سُمًّا حتى مات: إن دفعه إليه حتى أكله ولم يعلم به فمات: لا قصاص ولا دية، لكنه يحبس ويعزر، ولو أوجره) السم (إيجارًا تجب الدية) على عاقلته (وإن دفعه له في شربة فشربه ومات) منه (فكالأول) ".
(4)
يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (11/ 299)، حيث قال في مسألة السم:"قال آخرون: لا قود فيه ولا دية ولا كفارة، وإنما عليه ضمان الطعام الذي أفسد -إن كان لغيره- والأدب، إلا أن يؤجره إياه: فعليه القود، وهو قول أصحابنا".
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- سُمَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْ سَمَّهُ
(1)
. كَمُلَ كتَابُ القِصَاصِ فِي النَّفْسِ).
قوله: "واختلفوا في القتل بالسم"، أي: إذا وضع له السم ليقتله به، أما إن خلط السم بغيره فإنه لا يقتل به
(2)
.
واختلف أهل العلم في القتل بالسم على قولين:
القول الأول: أنه يقتص منه، وحده -أي: عقوبته- ضربة بالسيف، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وهي رواية عن الشافعي، فلا فرق عند الجمهور بين القتل بالسم أو السيف.
القول الثاني: أنه لا يُقتل به؛ لأنه أكل ذلك اختيارًا، وإليه ذهب أهل الظاهر، ورواية عن الشافعي.
واحتج هؤلاء بما رواه البخاري في قصة اليهودية التي أتت بشاة مسمومة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل تلك اليهودية
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3169) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اجمعوا إلي من كان هاهنا من يهود" فجمعوا له، فقال:"إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقي عنه؟ "، فقالوا: نعم، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"من أبوكم؟ "، قالوا: فلان، فقال:"كذبتم، بل أبوكم فلان"، قالوا: صدقت، قال:"فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألت عنه؟ "، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم:"من أهل النار؟ "، قالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا"، ثم قال:"هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ "، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال:"هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا؟ "، قالوا: نعم، قال:"ما حملكم على ذلك؟ "، قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًّا لم يضرك".
(2)
في المسألة خلاف، وقد نقلت أقوال أكثر العلماء في ذلك في حاشية "القتل بالسم".
(3)
سبق في كلام ابن رشد.
ولكن يجاب عنه: بما جاء في رواية أبي داود
(1)
: أن بشر بن البراء أكل من تلك الشاة فمات وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل المرأة به، إذن فالقتل بالسم كالقتل بغيره، ويقتص من فاعله، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، وهذا قتيل فينبغي أن يؤخذ حقه، قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وقد جاءت السنة بقتل المرأة اليهودية، كما في رواية أبي داود سالفة الذكر.
- قوله:
(1)
أخرجه أبو داود (4511)، وقال الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود" (4511): حسن صحيح.
([كِتَابُ الجِرَاحِ
(1)
]
وَالجِرَاحُ صِنْفَانِ: مِنْهَا مَا فِيهِ القِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَوِ العَفْوُ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ الدِّيَةُ أَوِ العَفْوُ، وَلْنَبْدَأْ بِمَا فِيهِ القِصَاصُ، وَالنَّظَرُ أَيْضًا هَاهُنَا: فِي شُرُوطِ الجَارِحِ، وَالجُرْحِ الَّذِي بِهِ يَحِقُّ القِصَاصُ، وَالمَجْرُوح، وَفِي الحُكْمِ الوَاجِبِ الَّذِي هُوَ القِصَاصُ، وَيي بَدَلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ).
شرع المصنف في ذكر الأحكام المتعلقة بالجراح، وقصده ما كان منها عن عمد كأن يتعمد فقء عينه أو كسر أنفه أو نحو ذلك، أما إذا لم يكن عامدًا قاصدًا فهو شبه عمد، وإن لم يكن هناك قصد أصلًا فهو الخطأ.
ومراد المؤلف: الأول، فهو الذي يترتب عليه القصاص أو الدية، أما غير العمد ففيه الدية أو العفو.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(القَوْلُ فِي الجَارِحِ
وَيُشْتَرَطُ فِي الجَارحِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي القَاتِلِ،
(1)
الجراح والجراحات جمع جِراحة، وهي اسْم الضَّرْبَة أَو الطعنة. انظر: المحكم والمحيط الأعظم (3/ 74).
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، وَالبُلُوغُ يَكُونُ بِالِاحْتِلَامِ
(1)
وَالسِّنِّ
(2)
بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الخِلَافُ فِي مِقْدَارِهِ؛ فَأَقْصَاهُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةً
(3)
، وَأَقَلُّهُ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
).
قوله: "ويشترط في الجارح"، أي: المتعدي "أن يكون مكلفًا"، والمكلف هو البالغ العاقل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ"
(5)
، والبلوغ بالنسبة للذكر يحصل بأحد أمور ثلاثة، وهي:
(1)
قال ابن القطان: "واتفق أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد خلافه على (الاحتلام) والحيض بلوغ". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 125).
(2)
اتفق الفقهاء على أن السن من العلامات التي تكون حدًّا للبلوغ، لكنهم اختلفوا في حده كما ذكر المؤلف؛ فمنهم من حده بخمسة عشر سنة كالشافعية والحنابلة، ومنهم من حده بثمانية عشر سنة كالمالكية، ومنهم من حده بتسعة عشر سنة كالظاهرية. قال ابن حزم:"والشرائع لا تلزم إلا بالاحتلام، أو بالإنبات للرجل والمرأة، أو بإنزال الماء الذي يكون منه الولد، وإن لم يكن احتلام، أو بتمام تسعة عشر عامًا، كل ذلك للرجل والمرأة، أو بالحيض للمرأة".
انظر: "المحلى بالآثار"(1/ 102).
(3)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (11/ 109)، حيث قال:"فصل في حد البلوغ، قال: بلوغ الغلام بالاحتلام، والإحبال، والإنزال إذا وطئ، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم ثماني عشرة سنة".
وهو مذهب المالكية في المشهور، ولهم أقوال أُخر. يُنظر:"منح الجليل" لعليش (6/ 87)، حيث قال:"فقال: (بثماني عشرة سنة)، أي: بتمامها، وللخمي بالدخول في الثامنة عشرة. الحضُّ هذا هو المشهور من أقوال خمسة. البُرزُلي: اختلف في السن، أي: الذي هو علامة البلوغ، ففي رواية ثمان عشرة، وقيل: سبع عشرة، وزاد بعض شراح "الرسالة" ست عشرة وتسع عشرة، وروى ابن وهب خمس عشر".
(4)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (4/ 357)، حيث قال:" (والبلوغ) يحصل (باستكمال خمس عشرة سنة) قمرية تحديدية حتى لو نقصت يومًا لم يحكم ببلوغه".
وهو مذهب أحمد أيضًا. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 221 - 222)، حيث قال:"ويحصل البلوغ بإنزال المني يقظة أو منامًا باحتلام أو جماع، أو غير ذلك، أو بلوغ خمس عشرة سنة".
(5)
أخرجه أبو داود (4400)، وغيره، وصححه الألباني في "الإرواء"(297).
أولًا: الاحتلام.
ثانيًا: الإنبات، وهو إنبات الشعر في الموضع المعروف حول القُبُل.
ثالثًا: السن، واختلف العلماء في تحديد السن الذي يكون به البلوغ؛ فقيل: خمس عشرة سنة، وقيل: ثمان عشرة سنة.
أما الأنثى؛ فإنه يعرف بلوغها بواحد من هذه الثلاثة، ويضاف إليها رابعًا؛ وهو الحيض
(1)
.
* قوله: (
(2)
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الوَاحِدَ إِذَا قُطِعَ عُضْوُ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ اقْتُصَّ مِنْهُ إِذَا كَانَ مِمَّا فِيهِ اقْتِصَاصٌ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَطَعَتْ جَمَاعَةٌ عُضْوًا وَاحِدًا، فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا تُقْطَعُ يَدَانِ في يَدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تقْطَعُ الأَيْدِي بِاليَدِ الوَاحِدَةِ
(3)
، كَمَا تقْتَلُ عِنْدَهُمُ الأَنْفُسُ
(1)
وهو مجمع عليه. يُنظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 345)، حيث قال:"قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل، وعلى المرأة بظهور الحيض منها".
ولم أجد الإجماع في رسالة ابن المنذر "الإجماع "، لكن نقله في "الأوسط"(12/ 364)، وأبقيت النقل عن الموفق؛ لإقراره ابن المنذر، فهو تقوية للإجماع؛ فالموفق من أعلم الناس بمواضعه، وأحيانًا يتتبع ابن المنذر فيما يدعيه إجماعًا بإثبات الخلاف.
(2)
من هنا سقط: من قوله: "ولا خلاف أن الواحد (إذا قطع) عضو إنسان واحد اقتص منه إذا كان مما فيه القصاص [وهو ما لا يخلف الهالك، وكذلك الأمر في الجوارح والتكافؤ في القصاص مجمع على اشتراطه كالتكافؤ في النفوس إلا في العبيد، وسيأتي ذكر الاختلاف في ذلك]، واختلفوا إذا قطعت جماعة عضوًا واحدًا، فقال أهل الظاهر: لا تقطع يدان في يد، وقال مالك والشافعي:
…
".
(3)
هذا مذهب المالكية. يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 318)، حيث قال:" (وإن قتل جماعة) رجلًا أو أكثر (أو قطعوا) يدًا مثلًا (جاز صلح كل) منهم على انفراده (والعفو عنه) مجانا، أو القصاص، أو العفو عن بعض والقصاص من الباقي، أو صلحه، أو صلح بعض والعفو عن بعض والقصاص من بعض ".
وهو مذهب الشافعية. يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 273)، حيث قال: "يشترط=
بِالنَّفْسِ الوَاحِدَةِ، وَفَرَّقَتِ الحَنَفِيَّةُ
(1)
بَيْنَ النَّفْسِ وَالأَطْرَافِ؛ فَقَالُوا: لَا تُقْطَعُ أَعْضَاءٌ بِعُضْوٍ، وَتُقْتَلُ أَنْفُسٌ بِنَفْسٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الأَطْرَافَ تَتَبَعَّضُ، وَإِزْهَاقَ النَّفْسِ لَا يَتَبَعَّضُ).
صورة المسألة: أن يشترك خمسة مثلًا في قطع يد رجل، فهل تقطع يد واحدة أو تقطع أيدي أولئك الخمسة؟
ذهب مالك وهو مشهور مذهب الإمام أحمد: إلى قطع أيدي الجميع؟ كما هو الحال فيما لو اشترك جماعة في قتل رجل قإنهم يقتلون به جميعًا، بل إن إزهاق النفس أعظم من إتلاف عضو، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179]، كما أن في هذا القول سدًّا للذريعة، كما هو واضح عند التأمل.
وذهب الحنفية إلى أنه لا تقطع إلا يد واحدة، واستدلوا بما جاء عن علي رضي الله عنه: أن رجلين أتياه برجل فقالا: "هذا سرق "، وشهدا فقطع علي رضي الله عنه يده، ثم جاءا بآخر، وقالا:"يا أمير المؤمنين؛ هذا هو السارق، وقد أخطأنا"، فلم يجز شهادتهما، وغرمهما دية يد الأول، وقال:"لو أعلمكما تعمدتما لقطعتكما"
(2)
(3)
.
= لقصاص الطرف والجرح ما شرط للنفس، ولو وضعوا سيفًا على يده وتحاملوا عليه دفعة فأبانوها قطعوا".
وهو مذهب الحنابلة. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 198)، حيث قال: "وإن اشترك جماعة في قطع طرف أو جرح موجب للقصاص حثى ولو في موضحة أو تساوت أفعالهم فلم يتميز فعل أحدهم عن فعل الآخر:
…
فعليهم كلهم القصاص ".
(1)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 557)، حيث قال:" (قطع رجلان) فأكثر (يد رجل) أو رجله أو قلعا سنه ونحو ذلك مما دون النفس جوهرة (بأن أخذًا سكينا وأَمَرَّاها على يده حتى انفصلت فلا قصاص) عندنا (على واحد منهما) أو منهم ".
(2)
علقه البخاري بدون رقم (9/ 8) باب: إذا أصاب قوم من رجل، هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم؟ وأخرجه عبد الرزاق (10/ 88).
(3)
تنبيه: هذا الأثر لم نجده في كتب الحنفية، وليس هو دليلهم، بل هو دليل عليهم؛ =
* قوله: (وَاخْتُلِفَ فِي الإِنْبَاتِ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: هُوَ بُلُوغٌ
= ولذا أسنده الشافعي في "الأم"(7/ 191)، واحتج به على قطع الجماعة بالواحد، وكذا تتابع عليه الشافعية، واستدل به أحمد كما في "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"(7/ 3439 - 3440)، وتبعه الحنابلة، وممن احتج به القرافي في "الذخيرة" وغير واحد، ووجه الدلالة فيه لمذهب الجمهور ظاهرة، ولعله سبق لسان من الشيخ الوائلي رحمه الله، فمثله لا يخفى عليه ذلك، أو يكون قصد الشارح من هذا الأثر: أن عليًّا لم يقطع إلا يدًا واحدة، وقوله:"لقطعتكما" جاء على سبيل التهديد منه، وليس إثباتًا منه لقطع اليدين باليد. قال السرخسي بعد أن ذكر أثر علي:"وبه يستدل الشافعي في وجوب القصاص على الشهود وقطع اليدين بيد واحدة. ولكنا نقول: إنما ذكر هذا اللفظ على سبيل التهديد، ولم يكن كذبًا منه؛ لأنه علقه بشرط لا سبيل إلى معرفته، وقد صح عن علي رضي الله عنه أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة، ذكره محمد في كتاب الرجوع ". انظر: "المبسوط"(9/ 169)؛ فالشارح قصد أن أثر علي رضي الله عنه فيه دليل للأحناف، وعند النظر وجدنا أنهم ذهبوا من أثر علي إلى ما يريدون من أنه لم يقطع إلا يدًا بيد، بالرغم أنهم لم يستدلوا به ابتداءً، وإنما استدل به غيرهم -كالشافعية- على مشروعية قطع اليدين باليد، لكن الأحناف ردوا الأثر وصرفوه لمعنى التهديد كما قال السرخسي، وصرف الكاساني فعل علي إلى أنه من باب السياسة وليس يؤخذ منه دليل عام، فقال:"وأما قول سيدنا علي رضي الله عنه فلا حجة له فيه؛ لأنه إنما قال ذلك على سبيل السياسة، بدليل أنه أضاف القطع إلى نفسه، وذا لا يكون إلا بطريق السياسة، والله سبحانه وتعالى أعلم ". انظر: "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"(7/ 299).
وخلاصة التعليق على كلام الشارح رحمه الله بأن أثر علي من دليل الأحناف؛ نقول: هو ليس دليلهم ابتداء، وإنما هو دليل غيرهم، لكنهم صرفوا دلالته إلى ما ذهبوا إليه، فقالوا: إن قول علي خرج على سبيل التهديد، وإنما الذي فعله أنه قطع يدًا بيد، ولم يقطع أكثر مع أنهم نبهوه أن السارق غير الذي أقيم عليه الحد.
(1)
الأصح عند الشافعية: أنه ليس ببلوغ في حق المسلمين، وسينبه على ذلك الشيخ الوائلي رحمه الله. يُنظر:"روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنووي (4/ 178)، حيث قال: "السبب الثالث: إنبات العانة يقتضي الحكم بالبلوغ في الكفار، وهل هو حقيقة البلوغ، أم دليله؟ قولان؛ أظهرهما: الثاني، فإن قلنا بالأول: فهو بلوغ في المسلمين أيضًا، وإن قلنا بالثاني: فالأصح أنه ليس ببلوغ.
قلت: اختلف أصحابنا فيما يفتى به في حق المسلمين، واختار الإمام الرافعي في "المحررده أنه لا يكون بلوغًا، والله أعلم ".
بِإِطْلَاقٍ، وَاخْتَلَفَ المَذْهَبُ
(1)
فِيهِ فِي الحُدُودِ، هَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَالأصْلُ فِي هَذَا كلِّهِ حَدِيثُ بَنِي قُرَيْظَةَ:"أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ أَنْبَتَ وَجَرَى عَلَيْهِ المَوَاسِي"
(2)
، كمَا أَنَّ الأَصْلَ فِي السِّنّ "حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يَقْبَلْهُ، وَقَبِلَهُ يَوْمَ الخَنْدَقِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً"
(3)
.
قوله: "واختلف في الإنبات؛ فقال الشافعي: هو بلوغ بإطلاق ": هذا وَهْم من المؤلف رحمه الله في إطلاق نسبة هذا القول للشافعي، بل هذا مذهب مالك، وأحمد
(4)
، وفصّل الشافعي رحمه الله فعنده هو بلوغ بإطلاق بالنسبة للكافر، أما المسلم فعنه فيه روايتان.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ المَذْهَبُ فِيهِ فِي الحُدُودِ؛ هَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَالأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ: حَدِيثُ بَنِي قُرَيْظَةَ "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ أَنْبَتَ وَجَرَى عَلَيْهِ المَوَاسِي "، كَمَا أَنَّ الأَصْلَ فِي السِّنِّ:"حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يَقْبَلْهُ، وَقَبِلَهُ يَوْمَ الخَنْدَقِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً"
(5)
).
(1)
أي: المذهب المالكي، وفيها التردد المذكور. يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(3/ 293)، حيث قال:" (وهل) النبات علامة مطلقًا في حق الله تعالى من صلاة وصوم مما لا ينظر فيه الحاكم، وحق العباد من طلاق وقصاص وحد مما ينظر فيه الحاكم؟ أو هو علامة (إلا في حق الله تعالى) فلا إثم عليه في ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، ولا يلزمه في الباطل طلاق ولا عتق ولا حد وإن كان الحاكم يلزمه ذلك؛ لأنه ينظر فيه ويحكم بما ظهر له (تردد)، والمذهب الأول وهو أنه علامة مطلقًا كغيره ".
(2)
أخرجه أبو داود (4404)، والترمذي (1584)، وقال الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود":"صحيح ".
(3)
أخرجه البخاري (4097)، ومسلم (1868).
(4)
يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 222)، حيث قال:"أو نبات الشعر الخشن القوي حول القبل دون الزغب الضعيف ".
(5)
هذا القدر من المتن مكرر.
قوله: "المواسي" المواسي: جمع الموسى، ونسب إلى المواسي؛ لأن العانة إنما تحلق بها، وجاء في بعض روايات حديث عطية القرضي:"فنظروا في عانتي، فلم تكن قد نبتت ".
قوله: "كما أن الأصل في السن حديث ابن عمر"، الحديث رواه أحمد
(1)
، والبخاري، ومسلم وأكثر أهل السنن
(2)
، وفيه:"أنه عرضه يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يقبله، وقبله يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة"، ولا خلاف بين أهل العلم أن غزوة أحد كانت في شوال من السنة الثالثة
(3)
، وإنما اختلفوا في غزوة الخندق -أي: الأحزاب- أكانت في العام الرابع أو الخامس؟
(4)
، فإن كانت في العام الرابع- وهذا الذي رحجه كثير من العلماء
(5)
- فلا إشكال في ذلك، إذ يكون سن ابن عمر رضي الله عنه يومئذ خمس عشرة سنة، وإن كانت في العام الخامس فهذا موضع إشكال؛ إذ يكون سنه يومئذ ست عشرة سنة.
وأجاب بعض العلماء فقال: لعله لما عرض يوم أحد لم يكن قد بلغ الرابعة عشرة، وإنما دخل فيها، فلما كان يوم الخندق كان قد أكمل الخمس عشرة سنة ودخل في السادسة عشرة
(6)
.
(1)
مسندأحمد (4661).
(2)
بل أخرجه جميعهم؛ أبو داود (4407)، وابن ماجه (2543)، والترمذي (1361)، والنسائي (3431).
(3)
يُنظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (3/ 240)، حيث قال:"لا خلاف أن أحذا كانت في شوال سنة ثلاث ".
(4)
يُنظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (3/ 245)، حيث قال:"وكانت في سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين؛ إذ لا خلاف أن أحدًا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، وهو سنة أربع، ثم أخلفوه لأجل جدب تلك السنة فرجعوا، فلما كانت سنة خمس جاؤوا لحربه، هذا قول أهل السير والمغازي ".
(5)
بل الأكثر على أنها سنة خمس، كما أشار إليه ابن القيم بأنه قول أهل السير والمغازي، ولم يعز القول الثاني إلا لموسى بن عقبة، وابن حزم.
(6)
يُنظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (3/ 241)، حيث قال: "وأجيب=
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(القَوْلُ فِي المَجْرُوحِ
وَأَمَّا المَجْرُوحُ؛ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ دَمُهُ مُكَافِئًا لِدَمِ الجَارح).
انتقل المؤلف رحمه الله إلى الكلام عن المجروح، أي: الذي أصيب بالجرح، والجروح كثيرة، منها:
- الموضحة: وهي التي توضح العظم وتبرزه.
- الهاشمة: وهي التي توضح العظام وتهشمه.
- المنقلة: وهي التي تزيد على المنقلة، بأن تنقل العظام بحيث تحتاج إلى جمع لتلتئم.
- المأمومة: وهي التي تصل إلى أم الدماغ، وأم الدماغ جلدته.
واتفق العلماء على أن في الموضحة القصاص، وما زاد عليها ففيه الدية، وسيأتي الكلام عنها مفصلًا إن شاء الله تعالى
(1)
.
ولكن لا بد من توافر شروط في هذا المجروح، ومنها:
أولًا: التكافؤ بينه وبين الجارح، فلا يقتص لكافر من مسلم، ولا لعبد من حر، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وقيده أبو حنيفة بكونه سيده، واستدلوا بقول عمر رضي الله عنهما: "لو لم أسمع من
= عن هذا بجوابين، أحدهما: أن ابن عمر أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم رده لما استصغره عن القتال، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقًا، وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها.
الثاني: أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الخندق في آخر الخامسة عشرة".
(1)
وعندها يأتي توثيق هذه المسائل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يقاد مملوك من مالكه، لأقدتك منه"
(1)
، يعني لأقمت القصاص عليك.
ثانيًا: إمكان استيفاء القصاص، فلو تجاوز الجرح الموضحة كأن يكون هاشمة أو منقلة ينتقل إلى الدية
(2)
، ففي الهاشمة عشر من الإبل، وفي المنقلة خمسة عشر.
* قوله: (وَالَّذِي يُؤَثِّرُ فِي التَّكَافُؤِ العُبُودِيَّةُ وَالكُفْرُ. أَمَّا العَبْدُ وَالحُرُّ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ القِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي الجُرْحِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي النَّفْسِ؛ فَمِنْهُمْ
(3)
مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصرُّ مِنَ الحُرِّ لِلْعَبْدِ، وَيُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ العَبْدِ كَالحَالِ فِي النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الجُرْحِ وَالنَّفْسِ
(4)
، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ؛ فَقَالَ: يُقْتَصُّ مِنَ الأَعْلَى لِلأدْنَى فِي النَّفْسِ وَالجُرْحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْتَصُّ مِنَ النَّفْسِ
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 234)، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ".
قال الذهبي: "بل عمر بن عيسى منكر الحديث ".
وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 36). وأشار الألباني إلى ضعفه؛ فقال في "الإرواء"(7/ 271) تعليقًا على قول الحاكم: "صحيح الإسناد": "ورده الذهبي في الموضع الأول، فقال: "قلت: بل عمر بن عيسى منكر الحديث".
(2)
سيأتي التعريف بها، وإنما مُنِع من الاقتصاص منها؛ لأنها لا تنتهي إلى حد، فلا يمكن تحقيق المماثلة.
(3)
هذا مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 269 - 270)، حيث قال:" (ولا يقتل حر بمن فيه رق) وإن قل على أي وجه كان ".
وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (4/ 189)، حيث قال:"كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها من حر وعبد، ومن لا يجري القصاص بينهما في النفس لا يجري بينهما في الطرف؛ كالأب مع ابنه، والحر مع العبد، والمسلم مع الكافر".
(4)
وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 533)، حيث قال:" (فيقتل الحر بالحر وبالعبد) ".
دُونَ الجُرْحِ، وَعَنْ مَالِكٍ
(1)
الرِّوَايَتَانِ. وَالصَّوَابُ: كَمَا يُقْتَصُّ مِنَ النَّفْسِ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ الجُرْحِ، فَهَذِهِ هِيَ حَالُ العَبِيدِ مَعَ الأَحْرَارِ).
فحاصل كلام المؤلف: أنه كما يقتص في الجرح يقتص في النفس، وإن لم يكن فلا؛ لأنها نفس ولا فرق أن يعتدى عليها بإزهاقها، أو بإتلاف عضو منها.
ومن قال بالتفريق بين النفس والعضو؛ فحجتهم أن الأجزاء تتبعض، أما النفس فهي شيء واحد ليس فيه إلا إزهاق.
* قوله: (وَأَمَّا حَالُ العَبِيدِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ القِصَاصَ بَيْنَهُمْ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
(2)
وَجَمَاعَةٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ
(3)
،
(1)
للمالكية روايات. يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 37 - 38)، حيث قال عند قول خليل:"والجرح: كالنفس في الفعل، والفاعل، والمفعول، إلا ناقصًا جرح كاملًا"، قال:"وقال ابن عبد الحكم: يخير الحر المسلم بين القصاص والدية، وقيل: يتعين القصاص، وصحح الحط يعني أن الناقص إذا جرح الكامل، فإنه لا يقتص منه كجرح العبد الحر والكافر المسلم، هذا هو المشهور في المذهب، وعليه اقتصر صاحب "الرسالة"، وروى ابن القصار عن مالك - رضي الله عنه - وجوب القصاص. ابن الحاجب قيل: إنه الصحيح، وروي يجتهد السلطان، وروي أنه يوقف، وروي: أن المسلم يخير في القصاص والدية، وخرجوها في العبد".
(2)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 270)، حيث قال:" (ويقتل قن ومدبر ومكاتب وأم ولد بعضهم ببعض) لتكافئهم بتساويهم في المملوكية".
وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (4/ 174)، حيث قال:"ويقتل العبد بالعبد: المسلم بالمسلم، والذمي بالذمي، ويجرى القصاص بينهما فيما دون النفس، فله استيفاؤه، وله العفو عنه دون السيد".
(3)
أخرج عبد الرزاق (10/ 7) عن عمر بن عبد العزيز، عن عمر بن الخطاب، قال:"ويقاد المملوك من المملوك في كل عمد يبلغ نفسه، فما دون ذلك من الجراح، فإن اصطلحوا على العقل: فقيمة المقتول على أهل القاتل أو الجارح "، وأخرجه ابن أبي شيبة مختصرًا (9/ 246).
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
(1)
، وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمْ لَا فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الجَرْحِ، وَأَنَّهُمْ كَالبَهَائِمِ، وَهُوَ قَوْلُ الحَسَنِ
(2)
، وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٍ
(3)
، وَالثَّالِثُ: أَنَّ القِصَاصَ بَيْنَهُمْ فِي النَّفْسِ دُونَ مَا دُونَهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَالثَّوْرِيُّ
(5)
، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
(6)
. وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الأَوَّلِ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]، وَعُمْدَةُ الحَنَفِيَّةِ: مَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ: "أَنَّ عَبْدًا لِقَوْمٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ عَبْدٍ لِقَوْمٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ"
(7)
، فَهَذَا هُوَ حُكْمُ النَّفْسِ).
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 241)، حيث قال:"وهذا بشرط التكافؤ في الحرية، أو الرقية فلا يقتل حر بعبد أخذا مما قدمه بقوله، ولا زائد حرية (كذوي الرق) يقتص لبعضهم من بعض ".
(2)
وقد ورد عن الحسن خلاف ذلك؛ فأخرج ابن أبي شيبة (9/ 246) عن الحسن: أنه كان يرى القصاص بين العبيد، ولكن نسب إليه ابن عبد البر عدم القصاص بين العبيد، فتبعه المصنف.
(3)
يُنظر: "الاستذكار"(8/ 114)، حيث قال:"والقول الثاني: أنه لا قصاص بين العبيد في جرح ولا في نفس كما لا قصاص بين الصبيان، روي ذلك عن إبراهيم والحسن والشعبي وحماد والحكم، وبه قال ابن شبرمة وإياس بن معاوية، سووا بين الجرح والنفس في أن لا قصاص ".
(4)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 553)، حيث قال:" (و) لا قود عندنا في (طرفي رجل وامرأة و) طرفي (حر وعبد و) طرفي (عبدين) لتعذر المماثلة".
(5)
يُنظر: "الاستذكار"(8/ 114)، حيث قال:"والقول الثالث: أنه لا قصاص بين العبيد إلا في النفس خاصة، روي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وروي ذلك -أيضًا- عن الشعبي والحسن، وبه قال سفيان الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه ".
(6)
أخرج ابن أبي شيبة (9/ 246) عن عبد الله بن مسعود، قال:"إن العبد لا يقاد من العبد في جراحة عمد، ولا خطأ، إلا في قتل عمد".
(7)
أخرجه أبو داود (4592)، والنسائي (4765) عن عمران بن حصين بلفظ:"أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله؛ إنا أناس فقراء
…
"، فلم يجعل عليه شيئًا".
وأما لفظ المصنف فأخرجه به الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(15/ 122).
أمَّا جراحات العبيد بعضهم مع بعض؛ فللعلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يقتص بينهم في النفس وما دونها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وهو المروي عن عمر بن الخطاب، وتمسك أصحاب هذا القول بعموم قول الله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]، فيقاد العبيد بعضهم من بعض.
القول الثاني: أنه لا قصاص بينهم لا في النفس ولا في الجرح، وهو قول الحسن وابن شبرمة وجماعة.
واعتبر هؤلاء مالية العبد، وأنه سلعة تباع وتشترى، والقود منه يترتب عليه ضرر لمالكه.
أما قول المؤلف: "وأنهم كالبهائم "، فهذه لفظة ما تنبغي، ولكن هؤلاء نظروا إليهم من حيث كونهم يباعون ويشترون، وإلا فإن للعبيد كرامة؟ لعموم قول الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، فكيف إذا كانوا أرقاء مؤمنين؟! ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم:"إخوانكم -يعني خَدَمكم- خَوَلُكم"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661)، عن أبي ذر مرفوعًا، بلفظ:"إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ".
قال القسطلاني في "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري"(1/ 116): " (إخوانكم)، أي: في الإسلام أو من جهة أولاد آدم، فهو على سبيل المجاز. (خَوَلكم) بفتح أوله المعجم والواو، أي: خدمكم أو عبيدكم، الدين يتخولون الأمور، أي: يصلحونها، وقدم الخبر على المبتدأ في قوله: "إخوانكم خولكم "؛ للاهتمام بشأن الأخوة ".
القول الثالث: أن القصاص بينهم في النفس دون ما دونها، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وروي كذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.
واستدل أصحاب هذا القول: بما روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن عبدًا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقتص منه "، وفي بعض ألفاظ الحديث كما عند أصحاب السنن
(1)
والحاكم
(2)
: "فلم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا ".
* * *
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(القَوْلُ فِي الجَرْحِ
وَأَمَّا الجَرْحُ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ العَمْدِ، أَعْنِي: الجَرْحَ الَّذِي يجِبُ فِيهِ القِصَاصُ).
مر بنا أن الذي يقتص منه هو القاتل عمدًا، أما شبه العمد فلا يقتص منه عند الجمهور، خلافًا للمالكية إلا في الابن مع أبيه
(3)
.
* قوله: (وَالجُرْحُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ يُتْلِفُ جَارِحَةً مِنْ جَوَارحِ المَجْرُوحِ أَوْ لَا يُتْلِفُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتْلِفُ جَارِحَةً؛ فَالعَمْدُ فِيهِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ عَلَى وَجْهِ الغَضَبِ بِمَا يَجْرَحُ غَالِبًا، وَأَمَّا إِنْ جَرَحَهُ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، أَوِ اللَّعِبِ بِمَا لَا يُجْرَحُ بِهِ غَالِبًا، أَوْ عَلَى وَجْهِ الأَدَبِ،
(1)
أخرجه أبو داود (5159)، والترمذي (1945)، وابن ماجه (3390). والحديث في "الصحيحين" كما تقدم.
(2)
لم أجده في "المستدرك".
(3)
عبارة الشيخ، قد تلتبس، -وقد مرت المسألة- وخلاصتها: أن مالكًا يجعل شبه العمد عمدًا، إلا في مسألة قتل الأب لابنه، فيجعل فيها شبه العمد.
فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الخِلَافُ الَّذِي يَقَعُ فِي القَتْلِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنِ الضَّرْبِ فِي اللَّعِبِ
(1)
وَالأَدَبِ بِمَا لَا يَقْتُلُ كَالِبًا، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
(2)
يَعْتَبِرُ الَالَةَ حَتَّى يَقُولَ: إِنَّ القَاتِلَ بِالمُثَقَّلِ لَا يُقْتَلُ وَهُوَ شُذُوذٌ مِنْهُ، أَعْنِي: بِالخِلَافِ هَلْ فِيهِ القِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ؟ إِنْ كَانَ الجُرْحُ مِمَّا فِيهِ الدِّيَةُ).
شرع المؤلف هنا في ذكر حالات الجرح، فقال:"فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتْلِفُ جَارِحَةً؛ فَالعَمْدُ فِيهِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ عَلَى وَجْهِ الغَضَبِ بِمَا يَجْرَحُ غَالِبًا"، فهذا فيه تعدٍّ وقصد.
وأما إن جرحه على وجه اللعب؛ كاثنين يتمازحان، فرمى أحدهما الآخر بشيء، فجرحه دون قصد إلحاق الضرر به، فلا يعد هذا من قبيل العمد.
وإن ضربه على وجه الأدب؛ كمدرس تجاوز في ضرب تلميذٍ فمات، أو تعطلت حاسة من حواسه؛ فهذا يعتبر من باب الخطأ؛ لأنه لم يقصد التعدي، بل ضربه بما لا يقتل غالبًا.
قوله: "وهو شذوذ منه "، أي: من أبي حنيفة رحمه الله وهو كما قال، فإذا لم يقتل المثقل، فما الذي يقتل؟ فليس شرطًا أن يكون القتل بالسيف، فتنبه.
(1)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 250)، حيث قال:" (قوله: بأن يقصد الضرب عدوانًا)، أي: تعدِّيًا فنشأ عنه جرح، لا للعب ولا للأدب فينشأ عنه جرح فلا قصاص فيه ".
(2)
إنما يمنع أبو حنيفة رحمه الله العمدية في المثقل الذي لا يُفرق الأجزاء، فإن فرقت ثبتث العمدية. يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 527 - 529)، حيث قال:"الأول (عمد، وهو أن يتعمد ضربه)، أي: ضرب الآدمي في أي موضع من جسده (ب) آلة تفرق الأجزاء مثل (سلاح) ومثقل لو من حديد".
ثم قال: " (و) الثاني (شبهه: وهو أن يقصد ضربه بغير ما ذكر)، أي: بما لا يفرق الأجزاء، ولو بحجر وخشب كبيرين عنده، خلافًا لغيره ".
* قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ الجُرْحُ قَدْ أَتْلَفَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارحِ المَجْرُوحِ، فَمِنْ شَرْطِ القِصَاصَ فِيهِ العَمْدُ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي تَمْيِيزِ العَمْدِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ العَمْدِ خِلَافٌ.
أَمَّا إِذَا ضَرَبَهُ عَلَى العُضْوِ نَفْسِهِ فَقَطَعَهُ، وَضَرَبَهُ بِآلَةٍ تَقْطَعُ العُضْوَ غَالِبًا، أَوْ ضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِ النَّائِرَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ القِصَاصَ
(1)
).
قوله: "النائرة"، أي: العداوة، كأنها نار تشتعل في قلب صاحبها، فيغضب ويثور، والأمر فيها واضح.
* قوله: (وَأَمَّا إِنْ ضَرَبَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِتْلَافَ العُضْوِ مِثْلَ أَنْ يَلْطِمَهُ فَيَفْقَأَ عَيْنَهُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ: أَنَّهُ شِبْهُ العَمْدِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ
(2)
، وَفيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ العِرَاقِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ، وَالمَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ: أَنَّ ذَلِكَ
(1)
يُنظر: حاشية (110) عند قول ابن رشد: "وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الضَرْبَ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الغَضَبِ وَالنَّائِرَةِ يَجِبُ بِهِ القِصَاصُ ".
(2)
لم أجد للشافعية التنصيص على إثبات شبه العمد فيما دون النفس، وقد يؤخذ مما قدمناه من إثباتهم له في النفس؛ إذ لم ينفوه. يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 286)، حيث قال:" (ولو لطمه لطمة تذهب ضوءه غالبًا فذهب لطمه مثلها)؛ لإمكان المماثلة (فإن لم يذهب أذهب) بالمعالجة كما ذكر".
إلا أن ابن قدامة عزاه إليهم، ينظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 329)، حيث قال:"وقال القاضي: لا يجب القصاص، إلا أن تكون اللطمة تذهب بذلك غالبًا، فإن كانت لا تذهب به غالبًا فذهب؛ فهو شبه عمد لا قصاص فيه، وهو قول الشافعي؛ لأنه فعل لا يفضي إلى الفوات غالبًا، فلم يجب به القصاص، كشبه العمد في النفس ".
ومذهب الحنابلة: أنه لا يقتص في شبه العمد في الجراح. يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 189)، حيث قال:"ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس؛ وهو العمد المحض، فلا قود في شبه العمد ولا الخطأ".
عَمْدٌ وَفِيهِ القِصَاصُ، إِلَّا فِي الأَبِ مَعَ ابْنِهِ
(1)
).
أشار المؤلف هنا إلى أنه لو ضربه بلطمة أو سوط ففقأ عينه مثلًا؛ فالجمهور على أنه لا قصاص، وفيه الدية مغلظة في ماله، وهذا واضح، لكن لو قلع عين إنسان مثلًا ففيه القصاص؛ لأن هذا يمكن استيفاؤه.
وقيل: فيه الدية؛ لأنه لا يمكن أن يتوصل إلى ذلك إلا بالتجاوز والحيف، ولا ينبغي قصاصٌ مع التجاوز والحيف، بخلاف ما لو قطع يده أو أنفه أو شفته أو أنثييه فإن ذلك يمكن استيفاء القصاص فيه دون تجاوز.
قوله: "وَهِيَ رِوَايَةُ العِرَاقِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ "، وبه قال الشافعية والحنابلة أيضًا.
* قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ شِبْهَ العَمْدِ: إِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْسِ لَا فِي الجُرْحِ
(3)
، وَأَمَّا إِنْ جَرَحَهُ فَأَتْلَفَ
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ"(7/ 101)، حيث قال: "وقال ابن وهب: فإذا قلنا: إن قتل الأب لابنه حدًّا هو شبه العمد؛ فلا خلاف في إثباته في العمد، وإن قلنا: إنه شبه العمد ما حكاه القاضي أبو محمد وغيره من شيوخنا العراقيين عن مالك.
وقاله ابن وهب في أن في شبه العمد روايتين على ما قدمناه، وإنما تكون الروايتان في التسمية والتغليظ دون غير ذلك، ويلحق بذلك وجه آخر؛ وهو أن يكون الضرب على الأب، ففي المجموعة من رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك: في الزوج يضرب زوجته بحبل أو سوط فيصيبها منه ذهاب عين أو غيره: ففيه العقل دون القود".
(2)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(6/ 530)، حيث قال:" (قوله فليس فيما دون النفس شبه عمد)؛ لأنه لا يختص بآلة دون آلة، فلا يتصور فيه شبه العمد، بخلاف النفس ".
(3)
وقال به قبلهم الثوري. يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (10/ 280)، حيث قال:"وقال سفيان الثوري: العمد: ما كان بسلاح، وفيه القود في النفس فما دونها -وشبه العمد: هو أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت، أو يحدد عودًا أو عظمًا فيجرح به بطن آخر- فهذا لا قود فيه، وليس فيما دون النفس عنده شبه عمد".
عُضْوًا عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ فَفِيهِ قَوْلَان
(1)
: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ القِصَاصِ، وَالثَّانِي: نَفْيُهُ. وَمَا يَجِبُ عَلَى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ فَفِيهِ القَوْلَانِ، قِيلَ: الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ، وَقِيلَ: دِيَةُ الخَطَإِ، أَعْنِي: فِيمَا فِيهِ دِيَةٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَدَبِ فَفِيهِ الخِلَافُ
(2)
. وَأَمَّا مَا يَجِبُ فِي جِرَاحِ العَمْدِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهُوَ القِصَاصُ).
قوله: "وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد" لم يقل المؤلف: "قال الحنفية" لكثرة الاختلاف بين الإمام وصاحبيه، وهو اختلاف في طلب الحق.
* قوله: (وَأَمَّا مَا يَجِبُ فِي جِرَاحِ العَمْدِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهُوَ القِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَذَلِكَ فِيمَا أَمْكَنَ القِصَاصُ فِيهِ مِنْهَا، وَفِيمَا وُجِدَ مِنْهُ مَحَلُّ القِصَاصِ وَلَمْ يُخْشَ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ. وَإِنَّمَا صَارُوا لِهَذَا لِمَا رُوِيَ: "أَنَّ
(1)
يُنظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (7/ 101)، حيث قال:"قال القاضي أبو محمد: إن شبه العمد: أن يقصد إلى الضرب، وشبه الخطإ: أن يضربه به بما لا يقتل غالبًا، فكان الظاهر أنه لم يقصد القتل، فوجب أن يكون له حكم بين الحكمين، والذي قاله ابن وهب أنه ما كان بعصا أو وكزة أو لطمة فإن كان على وجه الغضب ففيه القود، وأرجو أن لا يكون عليه إثم قاتل النفس، وإن كان على وجه اللعب ففيه الدية مغلظة، وهو شبه العمد لا قصاص فيه ". وانظر الحاشية التالية.
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 242)، حيث قال:"اعلم أن القتل على أوجه؛ الأول: أن لا يقصد ضربه كرميه شيئًا، أو حربيًّا فيصيب مسلمًا، فهذا خطأ بإجماع، فيه الدية والكفارة. الثاني: أن يقصد الضرب على وجه اللعب، فهو خطأ على قول ابن القاسم وروايته في "المدونة" خلافًا لمطرف وابن الماجشون، ومثله إذا قصد به الأدب الجائز، بأن كان بآلة يؤدب بها، وأما إن كان الضرب للتأديب والغضب: فالمشهور أنه عمد يقتص منه إلا في الأب ونحوه؛ فلا قصاص، بل فيه دية مغلظة. الثالث: أن يقصد القتل على وجه الغيلة فيتحتم القتل ولا عفو، قاله ابن رشد في "المقدمات ".
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ القَوَدَ فِي المَأْمُومَةِ وَالمُنَقِّلَةِ وَالجَائِفَةِ"
(1)
، فَرَأَى مَالِكٌ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: أَنَّ هَذَا حُكْمُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذِهِ مِنَ الجِرَاحِ الَّتِي هِيَ مَتَالِفُ، مِثْلُ كسْرِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ وَالصُّلْب وَالصَّدْرِ وَالفَخِذِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
(2)
، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي المُنَقِّلَةِ، فَمَرَّةً قَالَ: بِالقِصَاصِ، وَمَرَّةً قَالَ بِالدِّيَةِ
(3)
).
أشار المؤلف إلى شروط القصاص التي مَرَّ ذكرها، وهي:
أولًا: وجود العمد.
ثانيًا: وجود التكافؤ.
ثالثًا: عدم التجاوز في استيفاء هذا الحق.
رابعًا: طلب الأولياء إقامة القصاص.
قوله: "وذلك فيما أمكن القصاص فيه
…
"، إلخ:
اعلم أن الحد الفاصل بين ما يستوفى فيه القصاص وبين ما يصار فيه إلى الدية مباشرة: (الموضحة)، وهي التي توضح العظم، ففي الموضحة القصاص إلا أن يتنازل، فينتقل إلى الدية، وهي خمس من الإبل.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2637) عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قود في المأمومة، ولا الجائفة ولا المنقلة"، وقال الألباني في "صحيح ابن ماجه " (2149):"حسن ".
وقال في "الضعيفة"(4841): "منكر".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 253)، حيث قال:" (كعظم الصدر)، أي: كسره فلا قصاص فيه، وكذا عظم الصلب، أو العنق، ويجب فيها العقل كاملا".
(3)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (2/ 1103)، حيث قال:"واختلف عن مالك وأصحابه في القود في الموضحة والمنقلة، والأشهر عنه: أن القود في الموضحة".
وما فوف الموضحة؛ كالهاشمة والمنقلة والمأمومة: فإنه ليس فيها قصاص؛ لتعذر الاستيفاء وخشية التلف، والعمدة في ذلك: ما روي "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ القَوَدَ فِي المَأْمُومَةِ وَالمُنَقِّلَةِ وَالجَائِفَةِ"
(1)
، وكذلك ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم وأن فيها الدية
(2)
.
وذهب مالك رحمه الله ومن قال بقوله: إلى أن هذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف؛ مثل كسر عظم الرقبة والصلب والصدر والفخذ وما أشبه ذلك، وأما غيره من العلماء فلا يرون فيها قصاص للدليلين المذكورين.
* قوله: (وَكَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَ مَالِكٍ فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّسَاوِي فِي القِصَاصِ؛ مِثْلُ الِاقْتِصَاصِ مِنْ ذَهَابِ بَعْضِ النَّظَرِ أَوْ بَعْضِ السَّمْعِ
(3)
، وَيَمْنَعُ القِصَاصَ أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ عَدَمُ المِثْلِ مِثْلَ أَنْ يَفْقَأَ أَعْمَى عَيْنَ بَصِيرٍ
(4)
).
وذلك لحصول التفاوت، ولو قطع إنسان صحيح يدًا شلاء، قيل: يقتص اليسار مع اليمين.
(1)
سبق في متن البداية.
(2)
جزء من حديث عمرو بن حزم، ولفظه:"وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل" أخرجه النسائي (4868)، وضعفه الألباني.
(3)
يُنظر: "المقدمات الممهدات"(3/ 322)، حيث قال:"والدليل على أنه لا قصاص فيما لا يمكن القصاص منه، مثل ذهاب بعض النظر وبعض السمع وبعض العقل: هو أن القصاص مأخوذ من قص الأثر، أي: اتباعه، فهو أن يتبع الجارح بمثل الجرح الذي جرح فيؤخذ منه دون زيادة عليه ولا نقصان منه، فإذا لم يقدر على ذلك ارتفع التكليف به ".
(4)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 45)، حيث قال:" (ولا) يقتص (من عين أعمى) بفقئه عينًا بصيرة عمدًا عدوانًا، وعليه دية البصيرة في ماله، ولا من عين بصيرة بعين عمياء كذلك، وفيها الأرش بالاجتهاد في مال الجاني ".
* قوله: (وَاخْتَلَفَ مِنْ هَذَا فِي الأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ عَمْدًا، فَقَالَ الجُمْهُورُ
(1)
: إِنْ أَحَبَّ الصَّحِيحُ أَنْ يَسْتَقِيدَ مِنْهُ فَلَهُ القَوَدُ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَفَا عَنِ القَوَدِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ أَحَبَّ فَلَهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً أَلْفُ دِينَارٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
(2)
، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عِنْ مَالِكٍ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيُّ قَالَ ابْنُ القَاسِمِ
(4)
، وَبِالقَوْلِ الآخَرِ قَالَ المُغِيرَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَابْنُ دِينَارٍ. وَقَالَ الكُوفِيُّونَ:
(5)
(1)
هذا مذهب مالك. يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 58)، حيث قال:"وإن فقأ أعور من سالم مماثلته، فله القصاص أو دية ما ترك ".
(2)
هذا مذهب مالك. يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 58)، حيث قال:"ابن عرفة للإمام مالك رضي الله عنه: إن فقأ الأعور عين الصحيح التي مثلها باقية للأعور: فله أن يقتص، وإن أحب فله أخذ دية عينه، ثم رجع فقال: إن أحب اقتص، وإن أحب فله دية عين الأعور ألف دينار، وهذا أحب إليَّ ".
وفرق الحنابلة بين أن يفقأ مماثلة عينه أو الأُخرى، فرأوا القصاص في المماثلة. يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (4/ 218)، حيث قال:"وإن قلع الأعور عين صحيح لا تماثل عينه، أو قلع المماثلة خطأ: فليس عليه إلا نصف الدية، وإن قلع عينه الصحيحة عمذا: فلا قصاص، وعليه دية كاملة، وإن قلع عيني صحيح عمدًا: خير بين قلع عينه ولا شيء له غيرها، وبين الدية".
(3)
يُنظر: "المنهاج" للنووي، (ص 280)، حيث قال:"وفي كل عين نصف دية ولو عين أحول وأعمش وأعور، وكذا من بعينه بياض لا ينقص الضوء، فإن نقص فقسط، فإن لم ينضبط فحكومة".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 256)، حيث قال: " (قوله: فله القصاص من الأعور)، أي: بفقء عينه، وإنما خير المجني عليه السالم لعدم المساواة؛
…
وهي دية كاملة والذي مر هو قوله؛ لأن عين الأعور بمنزلة عينين (قوله: فنصف دية فقط)، أي: وليس للسالم المجني عليه القصاص من الأعور لانعدام محله (قوله: فالقود ونصف الدية)
…
هو قول ابن القاسم ".
(5)
الذي ذكره السرخسي الخيار بين القصاص والدية. يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 166)، حيث قال: "وإذا فقأ الرجل عين الرجل وفي عين الفاقئ نقص، فالمفقوءة عينه بالخيار؛ لأن نقصان البصر في العين بمنزلة الشلل أو فوات الأصبع في اليد، وقد بينا أن هناك إن كان النقصان في جانب الجاني، فالمجني عليه=
لَيْسَ لِلصَّحِيحِ الَّذِي فُقِئَتْ عَيْنُهُ إِلَّا القَوَدُ أَوْ مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ، وَقَدْ قِيلَ: لَا يَسْتَقِيدُ مِنَ الأعْوَرِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ
(1)
، وَعَنْ عُثْمَانَ
(2)
).
وعند الحنابلة لا قود هنا، وإنما الدية كاملة، واحتجوا لقولهم بما روي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما.
* قوله: (وَعُمْدَةُ صَاحِبِ هَذَا القَوْلِ: أَنَّ عَيْنَ الأَعْوَرِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ، فَمَنْ فَقَأَهَا فِي وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ اقْتَصَّ مِنِ اثْنَيْنِ فِي وَاحِدَةٍ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ القَوَدَ أَنَّ لَهُ دِيَةً كَامِلَةً، وَيَلْزَمُ حَامِلَ هَذَا القَوْلِ أَنْ لَا يَسْتَقِيدَ ضَرُورَةً، وَمَنْ قَالَ بِالقَوَدِ وَجَعَلَ الدِّيَةَ نِصْفَ الدِّيَةِ فَهُوَ أَحْرَزُ لِأصْلِهِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِنَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا: هَلِ المَجْرُوحُ مُخَيَّر بَيْنَ القِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ؟ أَمْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا القِصَاصُ فَقَطْ إِلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ؟ فَفِيهِ القَوْلَان عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ القَوْلَيْنِ فِي القَتْلِ
(3)
، وَكَذَلِكَ أَحَدُ قَوْثَي مَالِكٍ فِي الأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ
(4)
: أَنَّ
= بالخيار بين استيفاء القصاص وبين استيفاء الدية، وإن كان النقصان في جانب المجني عليه لم يجب القصاص ".
(1)
أخرج ابن أبي شيبة (9/ 198) عن سعيد بن المسيب؛ في أعور فقئت عينه، قال:"فيها الدية كاملة".
أخرج عبد الرزاق (9/ 333) عن أبي عياض أن عثمان: "قضى في رجل أعور فقأ عين صحيح" فقال: "عليه دية عينه، ولا قود عليه "، فال قتادة: وقال ابن المسيب: "لا يستقاد من الأعور، وعليه الدية كاملة، إذا كان عمدًا".
(2)
أخرج عبد الرزاق (9/ 330) أن عمر وعثمان: "قضيا في عين الأعور بالدية تامة".
وأخرج ابن أبي شيبة (9/ 196) عن أبي عياض أن عثمان: قضى في أعور أصيبت عينه الصحيحة: الدية كاملة.
(3)
تقدم الكلام عليها حاشية (125) عند قول ابن رشد: "فَقَالَ مَالِكٌ: "لَا يَجِبُ لِلْوَلِىِّ إِلَّا أنْ يَقْتَصَّ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْ غَيْرِ دِيَةٍ إِلَّا أَنْ يَرْضَى"".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 256)، حيث قال: " (فله) =
الصَّحِيحَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الأَعْوَرِ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَلْفَ دِينَارٍ، أَوْ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ).
قوله: "عين الأعور بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ، فَمَنْ فَقَأَهَا فِي وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ اقْتَصَّ مِنِ اثْنَيْنِ فِي وَاحِدَةٍ"، أي: لذلك يكون فيها دية؛ لأنه لو حصل القصاص ذهب بصره بالكلية فيكون حيفًا.
* قوله: (وَأَمَّا مَتَى يُسْتَقَادُ مِنَ الجُرْحِ؟ فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُسْتَقَادُ مِنْ جُرْع إِلَّا بَعْدَ انْدِمَالِهِ
(1)
، وَعِنْدَ الشَّافِعِيُّ
(2)
: عَلَى الفَوْرِ، فَالشَّافِعِيُّ تَمَسَّكَ بِالظَّاهِرِ. وَمَالِكٌ رَأَى أَنْ يُعْتَبَرَ مَا يَؤولُ إِلَيْهِ أَمْرُ الجُرْحِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى إِتْلَافِ النَّفْسِ).
اختلف العلماء في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول: أنه لا يقتص من جرح إلا بعد اندماله، وهو قول الجمهور أبو حنيفة، ومالك، وأحمد؛ لئلا يؤدي ذلك إلى إتلاف نفسه، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما "أن رجلًا طعن بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني، قال:"حتى تبرأ"، ثم جاء إليه، فقال:"أقدني "، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله عرجت،
= أي لسالم العينين المجني عليه (القصاص) من الأعور فيصير أعمى (أو دية ما ترك) من عين الأعور، وهي دية كاملة ألف دينار على أصل المذهب لما مر (و) إن فقأ الأعور من السالم (غيرها)، أي: غير المماثلة لعينه بأن فقأ مماثلة العوراء (فنصف دية فقط) ".
(1)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 73)، حيث قال:"وقال: يؤخر إن خيف في شدة الحر ما يخاف في شدة البرد، وشبه في التأخير فقال (كالبرء) بضم الموحدة وسكون الراء من مرض خيف من القطع معه الموت".
(2)
ينظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 303)، حيث قال:" (ويقتص) في نفس وطرف ومثلهما جلد القذف (على الفور) إن أمكن؛ لأن موجب القود الإتلاف فعجل ".
فقال: "قد نهبتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك ". ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه، وفي رواية:"أبعدك الله أنت عجلت"
(1)
.
القول الثاني: أنه يقتص منه على الفور، تمسكًا بالظاهر.
* قوله: (اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي المُقْتَصِّ مِنَ الجُرْحِ يَمُوتُ المُقْتَصُّ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ الجُرْحِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ
(4)
: لَا شَيْءَ عَلَى المُقْتَصِّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
(5)
، وَعُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ
(6)
، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ
(7)
، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ،
(1)
أخرجه أحمد (7034)، والدارقطني (3114)، وقال الألباني في "الإرواء" (7/ 298):"صحيح ".
(2)
يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"(2/ 1103)، حيث قال:"فإن سرى إلى مثل ما سرى إليه جرح المجروح كان به، وإن زاد عليه كان هدرًا".
(3)
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 307)، حيث قال:" (ولو) (مات جان) بالسراية (من قطع قصاص) (فهدر) ".
(4)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 143)، حيث قال:"قال: ومن قتل وليه عمدًا فقطع يد قاتله ثم عفا وقد قضى له بالقصاص أو لم يقض: فعلى قاطع اليد دية اليد عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: لا شيء عليه؛ لأنه استوفى حقه فلا يضمنه، وهذا لأنه استحق إتلاف النفس بجميع أجزائها، ولهذا لو لم يعف لا يضمنه، وكذا إذا سرى وما برأ".
وقوله: "قالا"، أي: أبو يوسف، ومحمد، وفي النقل توثيق مذهب أبي حنيفة، وسيأتي في السطر التالي.
(5)
أخرج عبد الرزاق (9/ 457) عن قتادة عن عمر وعلي قالا: "لا يغرمه" أو قال أحدهما: "قتله حق "، وقال الآخر:"قتله كتاب الله "، ونحوه لابن أبي شيبة (9/ 341) عن علي.
(6)
أخرج عبد الرزاق (9/ 456) عن عمر قال: "قتله حق -يعني أن لا دية-"، ونحوه لابن أبي شيبة (9/ 341).
(7)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 187)، حيث قال عقب ذكر مسألة عدم ضمان المقتص منه:"وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود".
وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ
(1)
: إِذَا مَاتَ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ المُقْتَصِّ الدِّيَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي مَالِهِ، وَقَالَ عُثْمَانُ البَتِّيُّ
(2)
: يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الدِّيَةِ قَدْرُ الجِرَاحَةِ الَّتِي اقْتَصَّ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ
(3)
. فَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الأَوَّلِ: إِجْمَاعُهُمْ
(4)
عَلَى أَنَّ السَّارِقَ إِذَا مَاتَ مِنْ قَطْعِ يَدِهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي قَطَعَ يَدَهُ، وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ قَتْلُ خَطإٍ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ).
انتقل المؤلف إلى مسألة أُخرى؛ وهي موت الجارح -المقتص منه- بسبب القصاص:
القول الأول: أنه لا يترتب على ذلك شيء، وعن أبي بكر وعمر وعلي
(5)
رضي الله عنهم أنهم قالوا: "الحق قتله" فلا دية له، كما أنهم اتفقوا على أن السارق إذا مات من قطع يده فإنه لا شيء على الذي قطع يده، وهو
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 187)، حيث قال:"وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى والثوري: إذا اقتص من يد أو شجة فمات المقتص منه: فديته على عاقلة المقتص له ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 187)، حيث قال:"وقال عثمان البتي في الذي يقتله القصاص: يدفع الذي اقتص له قدر تلك الجراحة، وما بقي من ديته ففي مال المقتص، فإن كان عبدًا: فما بقي من ثمنه ففي ماله ".
(3)
أخرج عبد الرزاق (9/ 458) عن ابن مسعود قال: "على الذي اقتص منه ديته غير أنه يطرح عنه دية جرحه ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 187)، حيث قال:"قال أبو عمر: قد أجمعوا على أن السارق لو مات من قطع يده أنه لا شيء فيه؛ لأنه قطع بحق وكذلك المقتص منه في القياس ".
(5)
قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (12/ 88): قال ابن المنذر: وروينا عن أبي بكر، وعمر، أنهما قالا:"من قتله حد فلا عقل له ". وروينا عن عمر، وعلي، أنهما قالا:"من مات في حد أو قصاص فلا دية له ".
وتقدم تعليقًا على متن "البداية" توثيق ما جاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما حاشية (299)، وما بعدها.
قول مالك، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وأبو ثور، واحتج أبو حنيفة: بأنه قتل خطأ تجب في الدية.
القول الثاني: وجوب الدية على العاقلة، وبه قال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة وهو قول ابن مسعود رضي الله عنهما، ثم اختلف أصحاب هذا القول؛ فقال بعضهم: إن الدية إنما تكون من ماله.
وقال عثمان البتي: يسقط عنه من الدية قدر الحاجة التي اقتص منها.
ولا شك أن قول الجمهور أقوى سندًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"
(1)
، وقال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"
(2)
، لا سيما والعلة فيه ظاهرة قالوا:"الحق قتله ".
* قوله: (وَلَا يُقَادُ عِنْدَ مَالِكٍ
(3)
فِي الحَرِّ الشَّدِيدِ وَلَا البَرْدِ الشَّدِيد، وَيُؤَخَّرُ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ المُقَادُ مِنْهُ).
جرت عادة الفقهاء بذكر هذه المسألة في باب الحدود، وإنما قدمها المؤلف هنا لمناسبة باب القصاص، ولكنه أشار إليها هنا إشارة مختصرة.
والذي عليه جمهور العلماء من المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
،
(1)
جزء من حديث أخرجه الترمذي (3663)، وابن ماجه (97)، وقال الألباني في "صحيح وضعيف الترمذي ":"صحيح ".
(2)
جزء من حديث أخرجه أبو داود (4609)، وابن ماجه (42)، وقال الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود":"صحيح ".
(3)
يُنظر: "منح الجليل" لعليش (9/ 72)، حيث قال:"ابن شاس يؤخر القصاص فيما دون النفس للحر المفرط، والبرد المفرط، ومرض الجاني ".
(4)
تقدم توثيقه في المتن.
(5)
الشافعية يندبون إلى ذلك من غير إيجاب. يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 303)، حيث قال: "وتقدم للشارح أول الفصل أنه يندب في قود ما سوى النفس التأخر للاندمال، فقياسه: أنه يستحب التأخير لغير النفس حتى يزول الحر والبرد والمرض
…
إلخ ".
والحنابلة
(1)
: أنه لا يقام الحد ولا القصاص في الحر الشديد ولا البرد الشديد، ولا على المريض، لما أخرجه مسلم
(2)
وأصحاب السنن عن علي رضي الله عنه: أن أمة زنت فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلدها، فلما أراد أن يجلدها، قالة "فإذا هي قريبة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها قتلتها" فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت ". فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على توقفه.
ورواية أُخرى عن الحنابلة: بإقامة الحد والقصاص على المريض، واستدلوا على ذلك: بأن عمر رضي الله عنهما أقام الحد على قدامة بن مظعون وهو مريض
(3)
، واشتهر هذا بين الصحابة دون نكير.
والراجح في نظري: قول الجمهور؛ لظهور حجته وقوته.
* قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ المَكَانَ شَرْطٌ فِي جَوَازِ القِصَاصِ وَهُوَ غَيْرُ الحَرَمِ
(4)
، فَهَذَا هُوَ حُكْمُ العَمْدِ فِي الجِنَايَاتِ عَلَى النَّفْسِ وَفِي الجِنَايَاتِ
(1)
للحنابلة روايتان، كما سيشير الشيخ. يُنظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 48)، حيث قال: "والمريض على ضربين؛ أحدهما: يرجى برؤه، فقال أصحابنا: يقام عليه الحد، ولا يؤخر ....
قال القاضي: وظاهر قول الخرقي تأخيره
…
وكذلك الحكم في تأخيره لأجل الحر والبرد المفرط ".
(2)
أخرجه مسلم (1705) عن أبي عبد الرحمن، قال: خطب علي فقال: "يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحسنت "، وأخرجه أبو داود (4473)، الترمذي (1441)، وقال: قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح ". قال الشيخ الألباني في "صحيح وضعيف الترمذي ": "صحيح ".
(3)
جزء من قصة طويلة، أخرجها عبد الرزاق (9/ 240)، والبيهقي في "الكبرى"(8/ 315).
(4)
تقدمت المسألة عند قول ابن رشد: "وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ القِصَاصِ أَنْ لَا يَكُونَ المَوْضِعُ الحَرَمَ ".
عَلَى أَعْضَاءِ البَدَن، وَيَنْبَغِي أَنْ نَصِيرَ إِلَى حُكْمِ الخَطَإِ فِي ذَلِكَ، وَنَبْتَدِئَ بِحُكْمِ الخَطَإِ فِي النَّفْسِ).
والمراد: الحرم المكي، وقد سبق تفصيل الكلام في هذه المسألة، وأن جماهير العلماء على أن من ارتكب ما يستوجب الحد أو القصاص في الحرم فإنه يقتص منه ويقام عليه الحد، لكن اختلفوا فيمن ارتكب جنايته خارج الحرم ثم لجأ إليه:
فذهبت الحنفية والحنابلة: إلى أنه يضيق عليه حتى يخرج فتقام عليه العقوبة.
وذهبت المالكية والشافعية: إلى أنه يقام عليه في الحرم، فلم يفرقوا بين فعل الجناية داخل الحرم أو خارجه.
* قول:
([كِتَابُ الدِّيَاتِ فِي النُّفُوسِ])
هذا الكتاب عقده المؤلف في ذكر الديات، بعدما استوفى الكلام عن القصاص في النفس وفيما دون النفس.
* قوله: (وَالأَصْلُ فِي هَذَا البَاب قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]).
إذًا الأصل في الديات: هو الكتاب والسنة، فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].
ومن السنة ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم إذ ذكر فيه الفرائض والسنن والديات وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإن في النفس مئة"
(1)
، وفي بعض الروايات:"وإن في نفس المؤمن"
(2)
، وما رواه النسائي عن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: "ألا وإن في قتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل، فيها أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة"
(3)
، وأجمع العلماء على ذلك من حيث الجملة
(4)
.
قوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} ، أي: يعفو فحينئذ تسقط الدية، وسيأتي في كلام المؤلف تفصيل الكلام عن الديات في أنواع القتل الثلاث.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(1)
جزء من حديث عمرو بن حزم، أخرجه النسائي (4868)، وقال الألباني في "الإرواء" (7/ 303):"وهو مرسل صحيح الإسناد، كما سبقت الإشارة إليه برقم (2274)، لكن هذا القدر منه ثابت صحيح؛ لأن له شاهدًا موصولًا".
(2)
لم أجده بهذا اللفظ، وإنما أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8/ 100) بلفظ:"وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل ".
(3)
جزء من حديث، أخرجه أبو داود (4590)، وصححه الألباني في" إرواء الغليل"(7/ 256). وتقدم.
(4)
قال ابن المنذر: "وأجمع أهل العلم على أن على أهل الإبل مائة من الإبل، وهذا دية العمد، ودية الخطأ أخماسًا: خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس جذاع، وخمس حقاق ". انظر: "الإقناع"(1/ 358).
[كتاب الديات في النفوس]
(والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]. وَالدِّيَاتُ
(1)
تَخْتَلِفُ فِي الشَّرِيعَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الدِّمَاءِ، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ).
الدِّماءُ ليست كُلُّها واحدة، فهذا مُسلِمٌ وهذا كافِرٌ، هذا حُرٌّ وهذا عبدٌ، هذا ذكرٌ وهذِهِ أنثى. فدِيَةُ الحُرِّ المسلمِ مائةٌ من الإبلِ؛ إذنْ تكون دِيَةُ الأنثى على النِّصفِ منه، كذلك الكافرُ على النِّصفِ منه، وهكذا فيما يتعلق باختلافِ الدِّيَاتِ باختلافِ الدِّماءِ.
(1)
الديات: جمع دية، وهي ودى القاتل القتيل يديه دية، إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس. انظر:"المصباح المنير" للفيومي (2/ 654).
وفي الاصطلاح:
عرفها الحنفية بأنها: "اسم المال الذي هو بدل النفس ". انظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(6/ 573).
عرفها المالكية بأنها: "مال يجب بقتل آدمي حر عوضًا عن دمه ". انظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 298).
عرفها الشافعية بأنها: "المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو فيما دونها". "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 315).
عرفها الحنابلة بأنها: "المال المؤدى إلى مجني عليه أو وليه أو وارثه بسبب جناية". انظر: "مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 75).
فقد تكونُ على الشَّخصِ كما في العمدِ، وأحيانًا تكونُ على العاقلةِ كما في شِبْهِ العمدِ، وفيه خلافٌ. وعلى العاقلة في الخطأ، ولا خلاف في ذلك؛ فإنِّها على العاقلةِ، ولكنَّهم يختلفون في التقسيمات.
وقد اختلف العلماء
(1)
في بيان المراد بالعاقلة: فبعضهم قال: هم العصبةُ؛ لأنَّ هذا هو الذي كان في زمنِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والدواوينُ إنِّما التي وضَعَها عمرُ رضي الله عنه، وبعضهم ذهب إلى أن العصبةُ هم أهل الديوانِ. ولم يتعرض المؤلف إلى دخول الفقير والمرأة في العاقلة أم لا، وغيرها من الأشياءِ التي تكلم عنها العلماءُ في كتبهم، لكنَّ المُؤلِّفَ يُوجِزُ فلا يدخلُ في هذه الجزئياتِ.
* قولُهُ: (وَأَيْضًا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعَمْدِ إِذَا رَضِيَ بِهَا الْفَرِيقَانِ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ).
المراد بالفريقين: المُقتَصُّ والمُقتَصُّ منه، أو الأولياء إذا ماتوا، وهذه المسألة قد مرَّت بنا، وعرفنا مَن خالف ورأى أنه لا بد أنْ يوافقَ القاتلُ على الدِّيةِ؛ لأنَّهُ رُبَّما يرفضُ ذلك، وقلنا: الصحيح -وهو رأي الأكثر- بأنَّهُ لا يلزم موافقتُهُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29].
* قولُهُ: (وَالنَّظَرُ فِي الدِّيَةِ هُوَ فِي مُوجِبِهَا (أَعْنِي: فِي أَيِّ قَتْلٍ تَجِبُ)، ثُمَّ فِي نَوْعِهَا وَفِي قَدْرِهَا، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي تجِبُ فِيهِ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ).
ما الذي يُوجِبُ الدِّيةَ؟
الدِّيةُ يُوجِبُها: إما عمدٌ يُتنازلُ إلى الدِّيةِ، وإفا شِبهُ عمدٍ، وهذا فيه الدِّيةُ مُغلَّظةٌ، وإمَّا الخطأُ، وهذا أيضًا قد جاء التنصيصُ عليه في الكتاب العزيز؛ لأنَّ القتلَ -كما عرفنا- أنواع ثلاثة.
(1)
سيأتي تفصيل المراد بالعاقلة.
أما نوعُها: فقد تكون من الإبلِ، أو من البقرِ، أو من الغنمِ، وكذلك أيضًا تكونُ في الدَّنانيرِ والدَّراهم. هذه أمورٌ خمسةٌ، جاءت بها الأحاديثُ. ودِية الإبلِ هناك مَنْ يعتبرُها أصَلًا كما سيأتي.
أيضًا تكون الدِّية من الذَّهب الذي يُعرفُ بالدَّنانيرِ، ومن الدَّراهمِ التي تُعرفُ بالوَرِقِ. أمَّا الإبلُ؛ فقد جَاء التنصيصُ عليها مائة من الإبل، وكذلك مائتان من البقر، والغنم جاء ألفٌ وألفانِ، وكذلك الحالُ بالنِّسبةِ للاختلافِ في الدَّراهمِ، أمَّا الدَّنانيرُ؛ فقد جاءَ فيها ألفٌ.
* قولُهُ: (فَأَمَّا فِي أَيِّ قَتْلٍ تجِبُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ)
(1)
.
هذا لا خلافَ بين العلماء فيه؛ لأنَّه قد جاء في الآية: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 93].
* قولهُ: (وَفِي الْعَمْدِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ مثل المجنون والصبي)
(2)
.
من غير المكلَّف؛ كالصبيّ، أو المجنونِ، فمعلومٌ بأنَّ الصبيَّ والمجنونَ لو قتل أحدا لا يُقتَصُّ منه؛ لأنَّهُ مرفوعٌ عنه القلم، ولكن يكون عمدًا.
قولُهُ: (وَفِي الْعَمْدِ الَّذِي تَكُونُ حُرْمَةُ الْمَقْتُولِ فِيهِ نَاقِصَةً عَنْ حُرْمَةِ الْقَاتِلِ)
(3)
.
أيضًا كذلك، كأنْ يكونَ حُرًّا وعبدًا، مسلمًا وكافرًا.
(1)
يُنظر: "الإقناع" لابن المنذر (1/ 369) حيث قال: "وأجمع أهل العلم عَلَى أن عَلَى القاتل خطا رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إِلَى أهله ".
(2)
ستأتي مسألة عمد الصبي.
(3)
سيأتي ذكر مسألة قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر.
* قولهُ: (مِثْلَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَمِنْ قَتْلِ الْخَطَأِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ خَطَأٌ، وَمِنْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ صَدْرٌ مِنْ ذَلِكَ).
يعني: هناك خطأٌ، وهناك شِبهُ عمدٍ، وشِبهُ العمدِ عند المالكيةِ
(1)
في المشهورِ عنهم هو نوعٌ من العمدِ، وعند جمهورِ العلماءِ
(2)
هو قسمٌ مستقلٌّ.
* قولهُ: (وَسَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَضْمِينِ الرَّاكبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ). هذا سيأتي بعد ذلك في أبواب الدَّواب.
ومرادُهُ: أنَّه إذا رَكِبَ إنسانٌ دابَّةً يقودُها ثم جنت، فإنَّ العلماءَ يفرِّقُون بين أنْ تكونَ الدابَّةُ عليها قائدٌ، أو ليس عليها قائدٌ. بين أن تَجني في مقدِّمتِها، وبين أن تَجني في رِجلِها، وهذا قد تقدَّم في الحقيقةِ، ولكنَّه سيعودُ إليه مرةً أُخرى عندما يأتي إلى بعض أحكام الجنايات.
* قوله: (وَأَمَّا قَدْرُهَا وَنَوْعُهَا، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ)
(3)
.
شَرَعَ المؤلِّفُ رحمه الله في بيانِ قدرِ الدِّيَةِ، فقال: "وقدرُها: مائة
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (8/ 322)؛ حيث قال: "قال مالك: شبه العمد لا أعرفه إنما هو عمد أو خطأ".
(2)
مذهب الحنفية، ينظر:"مختصر القدوري"(ص 130)؛ حيث قال: "القتل على خمسة أوجه: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما أجري مجرى الخطأ والقتل بسبب ".
ومذهب الشافعية، ينظر:"البيان" للعمراني (11/ 449)؛ حيث قال: "فالقتل يتنوع ثلاثة أنواع: خطأ محض، وعمد محض، وشبه عمد".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 253)؛ حيث قال: " (والقتل)، أي: فعل ما تزهق به النفس، أي: تفارق الروح البدن (ثلاثة أضرب)، أي: أصناف، أحدها: (عمد يختص القود به) فلا يثبت في غيره. والقود: قتل القاتل بمن قتله، مأخوذ من قود الدابة؛ لأنه يُقاد إلى القتل بمن قتله. (و) الضرب الثاني: (شبه عمد)، ويقال: خطأ العمد، وعمد الخطأ. (و) الضرب الثالث: (خطأ) ".
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 388) حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن على أهل الإبل مائة من الإبل ".
من الإبلِ ". وأما نوعُها: فقد تكونُ من الإبلِ، أو من غيرِها. وسيأتي ذكر الخلاف في كون الإبل هل هي أصل، وما عداها يكونُ بدلًا، أو لا .. كما عند الشافعيةِ، ورواية للحنابلةِ
(1)
، أو كلُّ هذه الأمورِ الخمسةِ هي أصولٌ ..
يعني على أهلِ الإبلِ مائةٌ من الإبلِ، وهل يُشترط فيها أنْ تكونَ صحيحةً وأنْ تكونَ سالمةً من العيوب أوْ لا؟ هذه أيضًا لمْ يعرِضْ لها المؤلِّفُ، وأكثرُ العلماءِ يقولون: يُؤخذُ ممَّا بين أيديهم، كالحالِ بالنِّسبةِ للزَّكاةِ لا يُنتَقى، فمعلوم بأنَّ الذي يقوم بجباية الزَّكاة، يتقي كرائمَ الأموالِ كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وإيَّاك وكرائمَ أموالِهِم" ثم عقَّبَ بقولِهِ: "واتَّقِ دعوةَ المظلومِ" رواه البخاري ومسلم
(2)
.
إذنْ هو دائمًا ينظر إلى الوسط، وإنْ كان الخَرْص
(3)
أيضًا بالنِّسبة للزَّكاة فيما هو ثمرٌ معلَّق، فإنَّهُ يَترك شيئًا منه، "دعوا الثُّلثَ فإن لم تدعوا الثُّلثَ فدعوا الرُّبُعَ ". رواه الخمسة إلَّا ابن ماجه، وصححه ابن حِبَّان والحاكم
(4)
لأنَّ هناك طائرًا يأكلُ، وهناك أيضًا ضيف يَحِلُّ وأهلُ البيتِ والبستانِ يحتاجون إلى ذلك، فيُراعى ذلك، وهذا كُلُّهُ مرَّ في أبواب الزكاة.
* قوله: (وَهِيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
(5)
ثَلَاثُ دِيَاتٍ: دِيَة الْخَطَإِ، وَدِيَةُ
(1)
سيأتي تفصيل ذلك.
(2)
أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19).
(3)
الخَرْص: الحَزْرُ في العدد والكيل، والخارص: يَخْرُص ما على النخلة، يعني: يقدره. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (7/ 61)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 166).
(4)
أخرجه أحمد (15713)، وأبو داود (1605)، والترمذي (643)، والنسائي (2282)، وابن حبان (8/ 74)، والحاكم في المستدرك (56011)، وقال:"حديث صحيح الإسناد".
(5)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 290)؛ حيث قال: "والديات على مذهب مالك رحمه الله وأصحابه ثلاث: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية التغليظ في مثل ما فعل المدلجي بابنه، وهي دية شبه العمد".
الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ، وَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ. وَهِيَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْأَشْهَرِ عَنْهُ، مِثْلَ فِعْلِ الْمُدْلِجِيِّ بِابْنِهِ).
المُدْلجِي: هو قتادة المُدْلجِي الذي رمى ابنَه بسيفٍ، فأصابَهُ في ساقِهِ، فَنُزِيَ جُرحُهُ -يعني سَرى ذلك الجُرحُ إلى نفسِهِ- فمات، فحضَرَ سُراقةُ بن مالك بن جُعْثم -الذي هو سيِّدُ القومِ في ذاك المكانِ- إلى عمرَ رضي الله عنه، فأخبره بأنَّهُ رماه ولمْ يقصدْ قتلَهُ، فقال له عمر:"اعدد على ماء قديد، عشرين ومائة بعير، حتى أقدم عليك "، فلما قدم إليه عمر بن الخطاب؛ أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة. ثم قال:"أين أخو المقتول؟ " قال: هأنذا، قال: خذها، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ"
(1)
.
* قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
(2)
فَالدِّيَةُ عِنْدَهُ اثْنَان فَقَطْ: مُخَفَّفَةٌ وَمُغَلَّظَةٌ. فَالْمُخَفَّفَةُ: دِيَةُ الْخَطَإِ، وَالْمُغَلَّظَةُ: دِيَةُ الْعَمْدِ وِدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ).
وهذا هو أيضًا مذهبُ أحمدَ
(3)
، يعني دِيَةَ العمدِ، سيأتي ذكرُها بأنَّها حالَّةٌ ما فيها تأخيرٌ تُؤخَذُ مباشرةً، وبأنَّها على الجاني، وتكونُ أرباعًا، وشِبه العمدِ تكونُ أثلاثًا، ومُغلَّظة، لكنَّها تكون على ثلاث سنوات تختلفُ عن العمد. العمدُ حالَّة ويتحمَّلها الجانى، "من جنى فعليه جنايتُه" كما جاء في الحديث
(4)
.
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 867)(10) وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1670).
(2)
يُنظر: "البيان" للعمراني (11/ 481)؛ حيث قال: "فإن كانت الدية في العمد المحض، أو في شبه العمد وجبت دية مغلظة
…
وإن كانت الجناية خطأ، ولم يكن القتل في الحرم ولا في الأشهر الحرم، ولكن المقتول ذو رحم محرم للقاتل، فإن الدية تكون مخففة".
(3)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 19)؛ حيث قال: "فإن كان القتل عمدًا أو شبه عمد وجبت الدية مغلظة
…
وتجب الدية في قتل الخطأ مخففة".
(4)
لم أقف عليه.
* قولهُ: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
فَالدِّيَاتُ عِنْدَهُ اثْنَانِ أَيْضًا: دِيَةُ الْخَطَإِ، وَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ).
الإمام أبو حنيفةَ رحمه الله يرى أيضًا أنَّ الدِّيةَ نوعان: دِيَةُ الخطأِ، ودِيَةُ شِبهِ العمدِ. فأمَّا العمدُ: فيرى أنَّ الأصلَ فيه القَوَدُ
(2)
، والنزولُ عن القَوَدِ إنَّما هو صلحٌ، لكنَّه في النِّهايةِ ينتهي إلى مذهبِ الجمهورِ.
* قولُه: (وَلَيْسَ عِنْدَهُ دِيَة فِي الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عِنْدَهُ فِي الْعَمْدِ مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ، وَهُوَ حَالٌّ عَلَيْهِ غَيْرُ مُؤَجَّلٍ
(3)
، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ الْمَشْهُورِ
(4)
لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تَلْزَمْهُ الدِّيَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِاصْطِلَاحٍ، فَلَا مَعْنَى لِتَسْمِيَتِهَا دِيَةً إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ
(5)
أَنَّهَا تَكُونُ مُؤَجَّلَةً كَدِيَةِ الخَطَأِ، فَهُنَا يَخْرُجُ حُكْمُهَا عَنْ حُكْمِ الْمَالِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ).
وهذا هو قولُ العلماءِ -كما قلتُ لكم- يُرجع إليه، يعني: ديةُ العمدِ
(1)
يُنظر: "تحفة الفقهاء" للسمرقندي (3/ 151)؛ حيث قال: "أما القتل الموجب للمال فأنواع: عمد محض فيه شبهة، وشبه العمد، وقتل الخطأ، والقتل بطريق التسبيب ".
(2)
القود: القصاص، وأقدت القاتل بالقتيل، أي: قتلته به. انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 5281).
(3)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 213)؛ حيث قال: "وكل عمد سقط القصاص فيه بشبهة فالدية في مال القاتل، وكل أرش وجب بالصلح فهو في مال القاتل
…
وهذا عمد غير أن الأول يجب في ثلاث سنين؛ لأنه مال وجب بالقتل ابتداء، فأشبه شبه العمد، والثاني يجب حالًّا؛ لأنه مال وجب بالعقد فأشبه الثمن في البيع ".
(4)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد (15/ 343)؛ حيث قال: "وأما دية العمد، فليست بموقتة ولا بمعلومة
…
تقع على القليل والكثير، فإن اصطلحوا على الدية مبهمة، فإنها تكون حالة في مال القاتل ".
(5)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد (15/ 435)؛ حيث قال: "وأما الدية المغلظة في مثل ما صنع المذحجي بابنه، وفي شبه العمد على مذهب من يراه من أهل العلم، وهو قول مالك في رواية العراقيين
…
وقد كان ابن القاسم يقول: إنها على العاقلة كهيئة دية الخطأ. حكى ذلك عنه ابن حبيب ".
تكونُ حالَّةً ما فيها تأجيل، ولكنَّها تُجعَلُ أرباعًا: بنات مخاض، بنات لَبُونٍ، حِقَّة، جَذَعة. يكونُ من هذه عددٌ، ومن هذه عددٌ، ومن هذه عدد، ومن هذه عددٌ، إلى أنْ تصلَ خمسًا وعشرين، خمسًا وعشرين، خمسًا وعشرين، خمسًا وعشرين، وتُؤخَذُ مباشرةً.
وهل تكونُ من حين تقرير الجنايةِ؟ أوْ من حينِ صدورِ حُكمِ الحاكمِ الذي هو القاضي؟
هذه مسألةٌ خلافية لمْ يعرضْ لها المؤلِّفُ، فبعضُهم يقولُ:"تبدأ من حيث ثبوت الجنايةِ"
(1)
، وهذا يكون للمُؤَجَّلةِ كديةِ شبهِ العمدِ، وكذلك دية الخطأِ، وبعضُهم يقولُ:"تبدأ من وقت الجنايةِ"
(2)
؛ لأنَّ هذا قد حَصَلَ فاستُحِقتْ، وبعضُهم يقول:"تكون من وقت حكمِ الحاكمِ؛ لأنَّه هو الذي يرفعُ الخلافَ ".
وكونُها مؤجلة هذا رأيٌ ضعيفٌ في المذهب، وهو خلافُ مذهب الجمهورِ
(3)
، فدية العمدِ حالَّةٌ.
(1)
مثل الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 348)؛ حيث قال: "فإذا تقرر ما وصفنا الدية من أن تكون مستحقة في نفس أو فيما سوى النفس؛ فإن كانت في نفس فأول أجلها موت القتيل، وهو وقت الجناية، سواء كان القتل بتوجية أو سراية".
(2)
مثل الحنفية، يُنظر:"وقد بينا أن ولي الجناية لو كان هو المقضي له بالدية عليهم كان التأجيل فيه معتبرًا من وقت قضاء القاضي لا من وقت الجناية".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (31/ 213)؛ حيث قال: "وكل عمد سقط القصاص فيه بشبهة فالدية في مال القاتل، وكل أرش وجب بالصلح فهو في مال القاتل
…
وهذا عمد غير أن الأول يجب في ثلاث سنين؛ لأنه مال وجب بالقتل ابتداءً فأشبه شبه العمد، والثاني يجب حالًّا؛ لأنه مال وجب بالعقد فأشبه الثمن في البيع ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 293)؛ حيث قال: "فإن اصطلحوا على الدية مبهمة، فإن الدية تكون في ماله حالة مائة من الإبل ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (4/ 48)؛ حيث قال: "دية العمد مغلظة حالة تخص الجاني ".=
* قوله: (وَدِيَةُ الْعَمْدِ عِنْدَهُ
(1)
أَرْبَاعٌ).
إذنْ دِيَة العمد عنده أربعة، ليس عنده وحده؛ بل هي كذلك عند الشافعي
(2)
وأحمدَ
(3)
.
* قوله: (خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ)
(4)
.
بنتُ مَخَاضٍ: هي التي مضى عليها سنةٌ ودخلتْ في الثانية، يعني لا تزال قريبةً من وقت الولادة، ثم تأتي بعده ابنُ أوْ بنتُ لبونٍ: وهو الذي مضى عليه سنتان ودخل في الثالثة، وسُمِّي ابنُ لبونٍ أوْ بنتُ لبونٍ؛ لأنَّ أُمَّهُ قد ولدتْ أُخرى، ففيها لبنٌ، ثم يأتي بعد ذلك الحِقَّةُ: وهي التي أتمَّتْ ثلاثَ سنواتٍ ودخلتْ في الرابعةِ، ثم تأتي الجَذَعةُ: وهي التي أكملتْ أربعًا ودخلتْ في الخامسةِ، ثم يأتي بعد ذلك الخَلِفَة: وهي التي أكملتْ خمسًا ودخلتْ في الثالثةِ، والخَلِفَةُ: هي التي تكون حاملًا .. التي مرَّتْ في قصة عمرَ رضي الله عنه.
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 373)؛ حيث قال: "العامد لا عذر له، فلا يستحق التخفيف، ولا يوجد فيه المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ. إذا ثبت هذا فإنها تجب حالة".
(1)
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 476) حيث قال: "وأما دية العمد المحض فهي من الإبل أرباع ".
(2)
عند الشافعية أثلاثًا.
يُنظر: "البيان" للعمراني (4/ 114)؛ حيث قال: "إن كانت الدية في العمد المحض، أو في شبه العمد وجبت دية مغلظة، وهي: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة".
(3)
يُنظر: "الممتع شرح المقنع" لابن المنجى (4/ 114)؛ حيث قال: "فإن كان القتل عمدًا أو شبه عمد وجبت أرباعًا".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 44)؛ حيث قال: "والدية في مذهب مالك ثلاث، إحداها: دية العمد إذا قبلت أرباعًا، وهي كما وصفنا، وهو قول ابن شهاب وربيعة ".
وابنُ شهابٍ: هو الإمامُ مُحمَّدُ بنُ شهابٍ الزُّهْري التابعي المُحَدِّث المعروف.
* قولهُ: (وَالدّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ عِنْدَهُ أَثْلَاثًا
(1)
: ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً (وَهِيَ الْحَوَامِلُ)).
وهو كذلك عند الحنابلة
(2)
.
* قولُه: (وَلَا تَكُونُ الْمُغَلَّظَةُ عِنْدَهُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَّا فِي مِثْلِ فِعْلِ الْمُدْلِجِيِّ بِابْنِهِ)
(3)
.
المُغلَّظةُ: في مثلِ فعل المُدْلجِيِّ الذي رمى ابنَه بسيفٍ فقتلَهُ، فذاك لا يُعتَبرُ عمدًا عند مالكٍ رحمه الله؛ إنِّما هو شبهُ عمدٍ؛ لأنَّ مالِكًا لا يرى شبهَ العمدِ أصلًا، وقد تكلَّمنا عن هذا. وقد ذُكِرَ في الكتاب العزيزِ نوعان، وذلك في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} ، ثم قال بعد ذلك:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93].
ولم يَرِدْ ذكرُ شِبهِ الخطأ في القرآن، لكنَّه جاء في سنةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال:"ألا إنَّ دِيَةَ الخطأ شِبه العمدِ؛ ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل، منها أربعون في بطون أولادِها". رواه أبو داود
(4)
.
*قولُ: (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(5)
أَنَّهَا تَكُونُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثًا أَيْضًا).
(1)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 257)؛ حيث قال: "وتغلظ عليه الدية وتكون في ماله، وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 373)؛ حيث قال: "وروى جماعة عن أحمد، أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها".
(3)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 290)؛ حيث قال: "ودية التغليظ في مثل ما فعل المدلجي بابنه ".
(4)
أخرجه أبو داود (4547)، وحسنه الألباني في "التعليقات الحسان"(5979).
(5)
عند الشافعية أثلاثًا.
وهو كذلك عند أحمدَ
(1)
كما ذكرنا.
* قولُهُ: (وَرُوِي ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَزيدِ بْنِ ثَابِتٍ)
(2)
.
يعني تكونُ أثلاثًا على ثلاثِ سنواتٍ، كلّ سنةٍ يكونُ فيها الثُّلث.
* فولُهُ: (وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ إِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ أَخْمَاسًا كَدِيَةِ الْخَطَإِ)
(3)
.
الآن سيذكرُ أنواعَهَا، وسترون بأنَّ المالكيةَ، والشافعيةَ في جانب، والحنفيَّةَ والحنابلةَ في جانبٍ آخرَ. والخلافُ بينَهم في صِنْفٍ واحدٍ فقطً، وسببُ ذلك: أنَّ هذا وردَ، وهذا وردَ في الأحاديث، فهؤلاءِ أخذوا بشيءٍ، وهؤلاءِ أخذوا بشيءٍ.
المُؤلِّفُ ذكرَ رأيَ الأئمةِ الثلاثةِ، ولمْ يذكرْ رأيَ الإمامِ أحمدَ وهو مع الإمام أبي حنيفةَ.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِي أَسْنَان الْإِبِلِ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ، فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
،
= يُنظر: "البيان" للعمراني (4/ 114)؛ حيث قال: "إن كانت الدية في العمد المحض، أو في شبه العمد وجبت دية مغلظة، وهي: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة".
(1)
يُنظر: "الممتع شرح المقنع" لابن المنجى (4/ 114)؛ حيث قال: "فإن كان القتل عمدًا أو شبه عمد وجبت أرباعًا".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 93)؛ حيث قال: "دية شبه العمد أثلاثًا: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة - يعني بالخلفة الحامل. وهو قول زيد بن ثابت، وروي مثله عن عمر بن الخطاب ".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 47)؛ حيث قال: "وأما أبو ثور، فقال: الدية في العمد الذي لا قصاص فيه، أو عفي عن القاتل على الدية، وفي شبه العمد، كل ذلك كدية الخطأ أخماسًا".
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 291)؛ حيث قال: "وهي مخمسة: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكر، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. هذا مذهب مالك ".
وَالشَّافِعِيُّ
(1)
: هِيَ أَخْمَاسٌ: عِشْرُون ابْنَةَ مَخَاضٍ).
لا خلافَ بين الأئمةِ كُلِّهِم على أنَّها أخماسٌ، لكنَّهم اختلفوا في نوعٍ واحدٍ كما سيأتي.
* قوله: (وَعِشْرُونَ ابْنَةَ لَبُونِ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُون ذَكَرًا).
والخلاف بينهم في هذه الجزئية.
* قولُهُ: (وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ)
(2)
.
ابنُ شهاب الزُّهْري قد مرَّ ذكره، وربيعةُ هو ابنُ عبدِ الرَّحْمن شيخُ الإمامِ مالكٍ.
* قولُهُ: (وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ)
(3)
.
وبه قال أبو حنيفةَ، وأحمدُ
(4)
وأصحابُهُم، لكن سَيُقَيِّدهُ كما سيأتي.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 223)؛ حيث قال: "دية الخطأ مائة من الإبل: عشرون ابنة مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 53)؛ حيث قال: "مالك أن ابن شهاب وسليمان بن يسار وربيعة بن أبي عبد الرحمن، كانوا يقولون: دية الخطأ عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكرًا، وعشرون حقة، وعشرون جذعة".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 254)؛ حيث قال: "ثم دية الخطأ من الإبل أخماس بلا خلاف، عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 377)؛ حيث قال: "وإن كان القتل خطأ، كان على العاقلة مائة من الإبل، تؤخذ في ثلاث سنين أخماسًا: عشرون بنات مخاض، وعشرون بني مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة".
" قوكٌ: (أَعْنِي: التَّخْمِيسَ، إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَكَانَ ابْنِ لَبُونِ ذَكَرٍ: ابْنَ مَخَاضٍ ذَكَرًا).
جعلوا ابن مخاضٍ بدل ابن لبونٍ، وإلَّا فإنَّهم متفقون على التخميس، وفي الأربعة، ولكن اختلفوا بين ابنِ مخاضٍ، وابنِ لبونٍ.
" قولُهُ: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْوَجْهَان جَمِيعًا
(1)
، وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُ جَعَلَهَا أَرْبَاعًا
(2)
، أَسْقَطَ مِنْهَا الْخَمْسَ وَالْعِشْرِينَ بَنِي لَبُونٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(3)
، وَلَا حَدِيثَ فِي ذَلِكَ مُسْنَدٌ، فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ)
(4)
.
هذا القولُ الثالثُ ليس فيه دليل، أمَّا الأول الذي أخذ به المالكيةُ، والشَّافعيَّةُ، والثاني الذي أخذ به الحنفيَّةُ والحنابلةُ، كلٌّ منهما له دليلٌ أو أدلةٌ، لكن دائمًا يُؤخَذُ بالأحوط، وُيؤخَذُ بما جاءتْ به الأحاديثُ، وإنْ
(1)
أخرجه ابن ماجه (2631) عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض ذكور". وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(4512).
(2)
أخرجه أبو داود (4553) عن عاصم بن ضمرة، قال: قال علي رضي الله عنه: "في الخطأ أرباعًا: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض" وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(4552).
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 55) حيث قال: "وإلى هذا ذهب عمر بن عبد العزيز .. جعل دية الخطأ أرباعًا -كقول علي- سواء، إلا أنه زاد فإن لم توجد بنات مخاض فبنو لبون ".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 55)؛ حيث قال: "أكثر الفقهاء على أنها أخماس، وكلهم يدَّعي التوقيف في ما ذهب إليه أصلًا لا قياسًا، والذي أقول: إن كل ما ذهب إليه السلف مما قد ذكرناه عنهم في هذا الباب جائز العمل به، وكله مباح لا يضيق على قائله؛ لأنهم قد أجمعوا أن الدية مائة من الإبل لا يزاد عليها، وأنها الدية التي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ولا يضرهم الاختلاف في أسنانها".
كان الحديثُ الذي ورد عند هؤلاء وهؤلاء، تُكلِّمَ فيه، لَكِنْ كلٌّ منهما له عدَّة طرقٍ.
* قولهُ: (وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ). هذا وهمٌ من المُؤلِّفِ! لمْ يُخَرِّج البخاريُّ هنا هذا؛ إنَّما خرَّجَهُ أصحابُ السُّننِ
(1)
، ولو خزَجَهُ البخاريُّ لمَا اعترضَ عليهم ابنُ عبدِ البر، فلا يمكنُ أن يُعلَّ حديثٌ في البخاري.
* قولُه: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "فِي دِيَةِ الْخَطَإِ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورٌ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ حِقَّةً". وَاعْتَلَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو عُمَرَ).
يعني: ذكرَ فيه عِلَّةً.
كيف يكون فيه علة وهو في البخاري؟! هذا وهمٌ، ولعلَّه سَبَقَ إلى ذهنِ المُؤلِّف، يعني نظرَ المُؤلِّفُ إلى موضعٍ آخرَ فقال رواه البخاري، أو رُبَّما يكونُ من النُّساخ والله أعلم، ولا نستطيعُ أن نقطعَ، ولو خرَّجه البخاريُّ لرُفِعَ الإشكالُ هنا.
* قوله: (بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ حَنِيفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَهُوَ مَجْهُولٌ) قَالَ: وَأَحَبُّ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ)
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4545)، والترمذي (1386)، والنسائي (6977)، وابن ماجه (2631)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(4012).
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 54)؛ حيث قال: هذا الحديث لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي، وهو مجهول؛ لأنه لم يروِ عنه إلا زيد بن جبير، وزيد بن جبير بن حرملة الطائي الجشمي من بني جشم أحد ثقات الكوفيين، وإنما يروي هذا الحديث عن ابن مسعود، قوله:"وقد روي فيه عن ابن مسعود الوجهان جميعًا، ما ذهب إليه الحجازيون، وما ذهب إليه الكوفيون ".
هذا الحديثُ أخرجَهُ أصحابُ السننِ، ولكن اختُلِفَ فيه لوجود بعض الرواة الذين تُكُلِّمَ فيهم، ومنهم ممَّا ذكر المؤلِّفُ، فهل يُحقلُ أن يُخرِّجَ البخاريُّ حديثًا في سندِهِ عدَّةُ مطاعنَ؟! فكلُّ ما في صحيح البخاريِّ فهو صحيحٌ، بل هو من أشدِّ العلماءِ فيما يتعلَّق بالتخريج، وشرطه أَشدُّ من مسلمٍ.
* قولُهُ: (كمَا اخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ).
كذلك أيضًا هذا عند أصحابِ السُّنَنِ
(1)
، وهو أيضًا فيه كلامٌ.
* قودٌ: ("أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ خَطَأً فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَعَشَرَةُ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ").
هنا اختلف عمَّا مرَّ في الأقوالِ السابقةِ.
* قوله: (قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ).
أبو سليمان الخطابي: هو أحدُ شُرَّاحِ سُنَنِ أبي داودَ الإمامُ الجليلُ المعروفُ.
* قوله: (هَذَا الْحَدِيث لَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاء الْمَشْهُورِينَ قَالَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ اَكْتَرُ الْعُلَمَاء: إِنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ أَخْمَاسٌ، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي الْأَصْنَافِ)
(2)
.
اختلفوا في صِنفٍ واحدٍ منها كما رأيتم، هذا الكلامُ ذكره عند شرحه لهذا الحديثِ في سنن أبي داودَ.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2630)، وأبو داود (4541)، والنسائي (4801)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(6443).
(2)
يُنظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 23)؛ حيث قال: "هذا الحديث لا أعرف أحدًا قال به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العلماء: إن دية الخطأ أخماس ".
" قولُه: (وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ مُرَبَّعَةٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُمُ: الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
(1)
. وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ حِقَّةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ بَنَاتِ مَخَاضٍ).
بدأ من الأعلى إلى الأسفل، عكسَ ما كان أولًا، وهو يَعُدُّ هنا، ولا يُؤثِّرُ هذا للاختيار، وهذا قولٌ مرجوحٌ، والقولُ الراجحُ: هو القولانِ اللذَّان أخذ بهما الأئمةُ، وانقسموا إلى قسمين. وهكذا ترون كيف كان اختلاف العلماء رحمهم الله، فلمْ يكنْ هدفهم هو وجودُ هذا الاختلافِ؛ لكنَّهم دائمًا يختلفون تحريًا للصواب، فمَنْ رأى أنَّ الحقَّ في هذا الجانب قال به، ومَنْ رأى بأنَّ هذا أرجحُ قال به، ورُبَّما يُرجِّحُ هذا رأيَهُ؛ لأنَّهُ يجدُ في جانبِهِ قولًا أو أقوالًا للصَّحابةِ وهكذا، فكُلُّهم يأخذون بما يرون أنَّه أرجحُ في نظرهم. كذلك ترون المسائلَ التي فيها خلافٌ إنَّما تكونُ عندما تردُ بعضُ النُّصوصِ التي تُكُلِّمَ في سندِهِا، أو تحتملُ عِدَّةَ معانٍ، فإنَّهم يختلفون في مثل هذا الأمرِ.
* قوله: (كمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ)
(2)
.
لا شك أنَّ هذا من المواضع التي يُهتمُّ بها؛ لأنَّها تتعلقُ بحقوق النَّاس، فهذا إنسانٌ قُتِلَ له قتيلٌ، ولو أُعطِيَ مُلك الدنيا كُلِّها لمَا رضي أنْ يقبلَ مقابل أن يذهب والدهُ أو ابنُه، ولكن هذه إرادةُ اللهِ، ولذلك تنوَّع القتلُ، فإذا ما قتل إنسان فهناك حقٌّ، والنَّاس يختلفون، فبعضهم لا تقبل
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 393)؛ حيث قال: "وقالت طائفة: دية الخطأ أرباع: خمس وعشرون جَذعة، وخمس وعشرون حقَّة، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض. رُوِي هذا القول عن علي بن أبي طالب، وبه قال الشعبي، والحسن البصري، والنخعي، وإسحاق بن راهويه".
(2)
تقدم تخريجه عن علي رضي الله عنه.
نفسُهُ أنْ يأخذَ الدِّيَةَ، مع أنَّ هذا حقٌّ أثبته الشرع له .. هو لا يقبلها لا لأنَّها لا تجوز، ولكنَّهُ لا يقبلها لأنَّهُ عنده من السُّمُوَ ما هو أكبرُ وأعلى من ذلك، فهو يقول: إذا قبلتُها، كأنَّني بِعتُ والدي، أوْ أخي، أوْ غير ذلك، لكنَّني أريد ما هو أعظمُ من ذلك، وهو الثوابُ والجزاءُ من اللهِ سبحانه وتعالى عندما أُعْتِقُ القاتلَ، وبعضُ النَّاسِ يقولُ: هذا حقٌّ أنا آخذُهُ ولا غُبارَ عليه؛ وبعضهم رُبَّما لا يُريدُ أنْ يأخذَ، ولكنَّ الحاجةَ تجعلُهُ يأخذ ذلك.
إذنْ لا شك أنَّ هذه أحكامُ اللهِ، وهي أيضًا ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يأخذ بحُكم جاء في كتاب اللهِ وفي سنَّةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فهو ملتزمٌ بهدي الكتابِ والسنَّةِ.
* قولُهُ: (وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَخْمِيسِ دِيَةِ الْخَطَإِ: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذَكَرٍ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى بَنِي الْمَخَاضِ؛ لِأَنَّهَا لمْ تُذْكَرْ فِي أَسْنَانٍ فِيهَا. وَقِيَاسُ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ التَّخْمِيسِ فِي الْخَطَإِ، وَحَدِيثِ التَّرْبِيعِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ إِنْ ثَبَتَ هَذَا).
التربيعُ في شِبهِ العمدِ الذي تكلَّم عنه، وفيه مقالٌ.
* قولُهُ: (النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ بِالتَّثْلِيثِ، كَمَا قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ)
(1)
.
وكذلك أحمد
(2)
، أي: دِيَةُ العمدِ بالتثليث.
(1)
يُنظر: "البيان" للعمراني (4/ 114)؛ حيث قال: "إن كانت الدية في العمد المحض، أو في شبه العمد وجبت دية مغلظة، وهي: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 373)؛ حيث قال: "وروى جماعة عن أحمد، أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها".
* قولُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالتَّثْلِيثِ شَبَّهَ الْعَمْدَ بِمَا دُونَهُ).
وهم الجمهور، فقد قالوا بالتربيع
(1)
، وهو قولٌ للشافعي
(2)
.
* قولُهُ: (فَهَذَا هُوَ مَشْهُورُ أَقَاوِيلِهِمْ فِي الدّيَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ).
إذنْ هذه من الإبلِ على أهل الإبلِ، لكنْ لو لمْ تُوجد الإبلُ أوْ حتى وُجِدتْ، فهلِ الإبلُ شرطٌ ويكونُ غيرُها بدل؟ بعضُ العلماءِ يعتبرها أصلًا
(3)
، ومع هذا، فإنَّهُم لا يقولون بعدم جواز غيرها مع وجودِها، فلو أُخِذُ غيرُها لجازَ ذلك مع وجودها، وهو أيضا قولٌ للشافعي
(4)
، وروايةٌ للحنابلة
(5)
.
(1)
يُنظر: "النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 666)؛ حيث قال: "وأما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فيؤخذ على أربعة أسنان ".
وينظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(2/ 299)؛ حيث قال: "ودية العمد إذا قبلت تكون مربعة من كل سن من الإناث ".
وينظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 59)؛ حيث قال: "فإن كان القتل عمدًا، أو شبه عمدٍ وجبت أرباعًا".
(2)
لم أقف إلا على القول بتثليث الدية. يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 213)؛ حيث قال: "فذهب الشافعي إلى أنها أثلاث: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة".
(3)
يُنظر: "النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 666)؛ حيث قال: "والتغليظ إنما هو في الإبل وحدها، في فول أبي حنيفة وصاحبيه، وأبى عبد الله ".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 226)؛ حيث قال: "أما الدية من الإبل، فمقدرة بمائة بعير وردت بها السنة، وانعقد عليها الإجماع، فإذا وجدت لم يجز العدول عنها، على مذهب الشافعي في القديم والجديد، فإن أعوزت إما بعدمها وإما بوجودها بأكثر من ثمن مثلها، عدل عنها إلى الدنانير والدراهم التي هي أثمان وقيم دون غيرهما من العروض والسلع ".
(5)
يُنظر: "المبدع شرح المقنع" لابن مفلح (8/ 345)؛ حيث قال: "دية الحر المسلم مائة من الإبل أو مائتا بقرة أو ألفا شاة أو ألف مثقال ذهبًا (أو اثنا عشر ألف درهم). قال القاضي: لا تختلف المذهب أو أصول الدية الإبل والبقر والغنم والذهب والورق ".
وهل الإبل خاصَّةٌ بأهلِ الإبلِ أوْ لا؟
المرادُ: هي الدِّيَةُ التي تنوَّعتْ أنواعًا خمسةً، سواء كانت من الإبل، أوْ من البقر، أوْ من الغنم، أوْ من الذهب، أوْ من الفضة، فإذا ما دُفِعَتْ قيمةُ هذه الدِّيَة، يكونُ قد تمَّ ذلك، لكن هل هناك فاضلٌ ومفضولٌ؟ هناك أصلٌ وغيرهُ، هذا هو الذي اختلف فيه العلماءُ، وهو اختلافٌ يسيرٌ، لذلك اعتبره المؤلِّفُ فرعًا ولمْ يعرِضْ له.
* قولُهُ: (وَأَمَّا أَهْلُ الذَّهَب وَالْوَرِقِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا يجِبُ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
: عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ).
وكذلك أحمد
(2)
.
الذهبُ الذي يُعَبَّرُ عنه في منهج الفقهاء وفي لغتِهم بالدَّنانير، وبالنِّسبة للوَرِق الذي هو الفضة، وقد رأيتُم بأنَّ الزكاةَ تجبُ في عشرين مثقالًا، وفي مائتي درهمٍ، فإذا ضربتَ العشرين بعشرة، بلغت مائتين، معنى هذا أنَّ الدّينارَ يساوي عشرةَ دراهمَ، والقول الراجح والمشهور هنا أنَّ الدِّينارَ الواحدَ يُقابِلُ اثني عشرَ درهمًا وهو خلافُ ما أخذ به أبو حنيفةَ، وهو قولُ الجمهورِ كما سيأتي.
* قولُهُ: (وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ
(3)
: عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ).
(1)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(2/ 298)؛ حيث قال: " (على أهل الإبل) وهم أهل البادية والعمود مائة من الإبل مخمسة، كما سينص عليه، (وعلى أهل الذهب) كأهل مصر والشام ألف دينار، (وعلى أهل الورق) كأهل العراق اثنا عشر ألف درهم ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 370)؛ حيث قال: "ظاهر مذهب أحمد، أن تؤخذ مائة، قيمة كل بعير منها مائة وعشرون درهمًا، فإن لم يقدر على ذلك، أدى اثني عشر ألف درهم، أو ألف دينار".
(3)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 166)؛ حيث قال: "ومن العين ألف دينار، ومن الورق عشرة آلاف درهم ".
قالوا هذا؛ لأنَّه قد جاء في ذلك حديثٌ
(1)
، وأيضًا قاسوا ذلك على الزكاة (يعني على النِّصاب في الزكاة)، وسترون أثر عمرَ رضي الله عنه
(2)
المُلهَم عندما ارتفعتْ قِيَمُ الإبلِ وأصبحتْ هذه النَّاقةُ التي كانت تُباعُ بمبلغٍ مُعيَّنٍ ارتفع سعرُها، كما هو معلومٌ أن الإبلَ لها قيمةٌ عظيمةٌ عند العرب، فارتفعت قيمتُها فعدل عمرُ رضي الله عنه اجتهادًا منه واستصلاحًا لذلك.
والخلافِ هنا بين الفقهاءِ فيما يتعلَّقُ بالوَرِقِ، إذنْ لا خلافَ بينهم في الإبل، فكُلُّهم متَّفِقُون على أنَ الدِّيةَ من الإبلِ مائة، وأنَّها كذلك من الذهب ألفُ دينارٍ، وكذلك من البقر مائتان، ومن الغنم ألفٌ، لكن يبقى الخلافُ في الدَّراهمِ؛ أهي عشرةُ ألافٍ؟ أم اثنا عشرَ ألفًا؟.
* قولُهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ
(3)
: لَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ إِلَّا قِيمَةُ الْأِبِلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ).
قد ذكرت أنَّ الشافعيَّ رحمه الله يذهب إلى أنَّ الإبلَ هي الأصلُ، وأنَّها هي التي يُرجَعُ إليها في التقدير، والشافعيُّ كما هو معلومٌ له مذهبانِ؟ مذهبُهُ القديمُ، ومذهبُهُ الجديدُ؛ مذهبُهُ القديمُ: الذي كان في العراق، وتعلمون أن الإمامَ عندما يطوفُ في الدنيا ويلتقي بالعلماءِ ويأخذ من علمِهِم وفقهِهِم وحديثِهم، ويقف على عددٍ من النُّصوصِ من السُّنَّةِ التي لمْ تكنْ عنده؛ فإنَّه حينئذٍ يتغيَّرُ اجتهادُهُ في المسائلِ
(4)
؛ لأنَّ الإنسانَ
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 149) عن ابن عباس: "أن رجلًا قتل رجلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثنا عشر ألفًا"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2260).
(2)
سيأتي تخريجه.
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 227)؛ حيث قال: "والقول الثاني: وبه قال في الجديد: إن إعواز الإبل يوجب العدول إلى قيمتها بالدنانير والدراهم ما بلغت بحسب اختلافها في البلدان والأزمان ".
(4)
وسبب اختلاف قولي الإمام الشافعي القديم والجديد في هذه المسائل إلى إحكام مذهبه وضبطه بالأدلة الشرعية، لا كما يزعم بعض الناس أن الشافعي كان يفتي في العراق بفتاوى، ولما ذهب إلى مصر أصبح يفتي بخلاف ذلك؛ لاختلاف البيئة بين=
رُبَّما لم يكن قد وقفَ على جملةٍ من الأحاديثٍ فرآها، لذلك اشتُهِرَ عنه أنَّه قال:"إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي "، فكان مذهبُهُ في مصرَ هو الذي يُسمَّى بالمذهب الجديدِ، لكن وُجِدتْ مسائلُ في القديمِ رجَّحها الشافعيةُ، وهي محدودةٌ لا تتجاوز عشرَ مسائلَ
(1)
، لكن أحيانًا عندما تنظرُ تجدُ أيضًا أنَّ في مذهبهِ القديمِ غيرَ ما رجَّحَهُ الشافعيةُ هي الأرجحُ؛ لأنَّها تلتقي مع رأي لأَحدِ الأئمةِ أوْ لأكثر من إمام، وهناك دليل يَعضُدُها ويؤيِّدُها.
* قولُهُ: (وَقَوْلُهُ بِالْعِرَاقِ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ)
(2)
.
يعني قولُهُ بالعراقِ الذي هو القديمِ؛ لأنَّه اعتبرَ أنَّ الإبلَ أصلٌ.
وللحنابلةِ
(3)
روايةٌ وافقوهُ في أنَها الأصلُ، لكنهم اختلفوا بأنَّها لا تكون مقياسًا، فلو أُخِذَ من الدَّراهمِ أوِ الدَّنانيرِ فذلك جائز. فتُقَوَّمُ بالإبل؛ لأنها الأصلُ، فإذا لم تكن هناك إبلٌ قُوِّمت الدية بقيمة الإبلِ، أي: باثني عشر ألف مثلًا وقد تقلُّ عنها، ورُبَّما تزيدُ عن ألفِ دِينارٍ، فاعتُبِرَت الإبلُ
= مصر والعراق!! ولكن كما قال تلميذه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما قيل له: "ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أحب إليك، أم التي عند المصريين؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق، ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك ". انظر: "مناقب الإمام الشافعي" للبيهقي (1/ 263).
(1)
قال النووي في "المجموع"(1/ 66): "كل مسألة فيها قولان للشافعي رحمه الله قديم وجديد؛ فالجديد هو الصحيح، وعليه العمل؛ لأن القديم مرجوع عنه، واستثنى جماعةٌ من أصحابنا نحو عشرين مسألة أو أكثر، وقالوا: يفتى فيها بالقديم. وقد يختلفون في كثير منه ".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 227)؛ حيث قال: "ثم اختلف في كيفية العدول عن الإبل إليها على قولين؛ أحدهما: وبه قال في القديم، إنها تعتبر من الدنانير والدراهم عند إعواز الإبل بدلًا من النفس، ولا تكون بدلًا من الإبل، فتكون الدية من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألف درهم ".
(3)
يُنظر: "الفروع" لابن المفلح (9/ 347)؛ حيث قال: "وعنه: الأصل الإبل، فإن تعذرت قال جماعة: أو زاد ثمنها انتقل عنها إلى الباقي ".
هي الأصلُ في ذلك، وهي التي كَثُرَ ذكرُها في الأحاديثِ، كما في حديثِ عمرو بن شعيبٍ، وحديثِ عمرو بن حزمٍ، وغير ذلك من الأحاديث
(1)
.
* قولُهُ: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ تَقْوِيمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ بِأَلْفِ دِينَارٍ)
(2)
.
الإمامُ أحمدُ مع الإمامِ مالكٍ في هذه المسألة.
وتقويمُها: يعني تحديد قيمتها.
قولُهُ (بألفِ دينارٍ): يعني أنَّها تُعادِلُها، لا على أنَّها أصلٌ وهذه فرعٌ، ولكن إذا وُجِدَ ألفُ دينارٍ يقابلُهُ مائةٌ من الإبل، دون أن تنظر إلى قيمةِ الإبلِ أهي أكثر أو أقل.
* قولُهُ: (وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ).
يعني ليستْ عشرة آلاف، وإنَّما اثني عشرَ، وهذه هي حُجَّةُ مالك وأحمدَ رحمهما اللهُ.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رَوَوْا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَوَّمَ الدِّينَارَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ)
(3)
.
ولكن المشهور عنه هو الأولُ، والحنفيَّةُ قَوَّوا مذهبَهم فيما يتعلَّق بنصابِ الزكاةِ، ولكنَّ العلماءَ فرَّقُوا بين ذا وذاك.
* قولُهُ: (وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَقْوِيمِ الْمِثْقَالِ بِهَا فِي الزَّكَاةِ).
(تقويمُ المِتقالِ بها) فعندما تضربُ العشرين مثقالًا بعشرٍ؛
(1)
ستأتي الأحاديث.
(2)
تقدم أثر عمر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 140) عن محمد بن الحسن بلغنا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "أنه فرض على أهل الذهب ألف دينار في الدية، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم ".
تبلغُ مائتين، إذنْ هناك في الزَّكاة عشرةٌ تقابلُ دينارًا واحدًا.
* قولُهُ: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
(1)
فَيَقُولُ: إِنَّ الْأَصلَ فِي الدِّيَةِ إِنَّمَا هُوَ مِائَةُ بَعِيرٍ).
كذلك الحنفيَّةُ لهم خلافٌ معروفٌ -كما سيأتي في قطعِ اليدِ في السرقةِ بالنسبة للدَّراهمِ-.
* قولُهُ: (وَعُمَرُ إِنَّمَا جَعَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قِيمَةَ الْإِبِلِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فِي زَمَانِهِ).
أي: أن الإمام الشافعيّ يقول: نعم، ولكنَّ عمرَ رضي الله عنه عندما جعل ما يقابلُ المائةَ بعيرٍ ألفَ دينارٍ، أو اثني عشرَ ألف درهم؛ لأنَّ هذا هو الذي في زمنهِ، يعني قيمةَ المائةِ من الإبلِ تساوي اثني عشَرَ ألفٍ من الدراهم، وألفًا من الدنانير، ولذلك كانت في زمنِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تختلفُ عن ذلك.
* قولُهُ: (وَالْحُجَّةُ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَتِ الدِّيَاتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ)
(2)
.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 226)؛ حيث قال: "أما الدية من الإبل، فمقدرة بمائة بعير وردت بها السنة، وانعقد عليها الإجماع، فإذا وجدت لم يجز العدول عنها على مذهب الشافعي في القديم والجديد، فإن أعوزت إما بعدمها وإما بوجودها بأكثر من ثمن مثلها، عدل عنها إلى الدنانير والدراهم التي هي أثمان وقيم دون غيرهما من العروض والسلع ".
(2)
أخرجه أبو داود (4542) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:"كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثماني مائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين ". قال: "فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رحمه الله، فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت ". قال: "ففرضها=
ثمانِمِائة دينارٍ، وثمانية آلافِ درهمٍ، يعني نقصت الثلث بالنِّسبة للدَّراهمِ.
* قولُهُ: (وَدِيَةُ أَهْلِ الكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ).
يعني كان هذا في زمنِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفي زمن أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما فعمرُ ذكرَ بأنَّ الأسعارَ تغيرتْ، ولذلك غيَّرَ في الأمرِ، لكن هل هو أمرٌ ثابتٌ؟ أوْ هو أمرٌ اجتهاديٌّ يتغيَّرُ بتغيُّر القيمِ؟ هذا يرجعُ إلى كون الإبل أصلًا أم لا، فإنْ قلنا: هي أصلٌ، نرجعُ إليها في كل وقت من الأوقات كُلَّما تغيرتِ النِّسَبُ القيميةُ، نعودُ إلى الإبلِ، فما يبلغُ قيمةَ مائةٍ من الإبلِ نعتبرهُ. هذا هو مذهبُ الشافعي
(1)
.
* قولُهُ: (فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِنَّ الْإِبِلَ غَلَتْ، فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ).
(إنَّ الإبلَ قد غلتْ) يعني ارتفعت قيمتُها، وتعلمون أنَّ الإبلَ هي الوسيلةُ التي كان يركبُها النَاسُ، يحملون عليها بضائِعَهم، وكمْ لها من الفوائدِ العظيمةِ، فقد كانت تجولُ الصحارى والقِفَارَ، فلم تكن هناك سياراتٌ، ولا سُفُنٌ، ولا طائراتٌ، إنَّما هي كانت وسيلتُهم التي يستخدمونها في حاجاتهم.
= عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" (2247).
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 227)؛ حيث قال: "والقول الثاني: وبه قال في الجديد: إن إعواز الإبل يوجب العدول إلى قيمتها بالدنانير والدراهم ما بلغت بحسب اختلافها في البلدان والأزمان ".
وبالنِّسبة لألفي شاةٍ هناك من يرى ألفَ شاةٍ، ولكنَّ الصحيحَ أنَّها ألفا شاةٍ.
والحُلَلُ إنَّما هي من الذهب.
* قوله: (وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْ فِيهَا شَيْئًا).
ترك على ما كانت، ولكنَّهُ غيَّرَ في دِيَةِ المسلمين.
هل فِعْلُ عمرَ ذاك يُعتَبرُ مُخالِفًا لِمَا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هو اجتهد في هذا الأمر، وكما هو معلوم بأنَّ عُمرَ اجتهد في مسائلَ كثيرةٍ وغيَّرَ فيها، وأنَّ الصحابةَ عندما جاؤوا إلى حدِّ الخمرِ، اجتمع الصحابةُ واستشارهم، فكان هناك رأيٌ لعلي وعبدِ الرَّحمنِ بن عَوفٍ رضي الله عنهما بأنَّه إذا سَكِرَ هذى، وإذا افترى قَذَفَ؛ فيُقامُ عليه حدُّ القذفِ، فأدنى الحدودِ وأقلُّها هو حدُّ القذفِ، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فقرَّروا ذلك
(1)
.
أيضًا عثمانُ رضي الله عنه اتسعتِ المدينةُ في زمنهِ، فلمَّا اتسعتِ المدينةُ (لم يكن هناك إلَّا أذانٌ واحدٌ في زمن رسول الله وأبي بكرٍ وعمرَ) .. لمَّا امتدتِ المدينةُ واتسعتْ؛ زادَ النداءَ الثانيَ على الزوراء .. لم يكن هناك إلا نداء واحد إذا جلس الإمامُ على المنبر، لكن رأى أنَّ المدينةَ امتدَّتْ
(1)
أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 196) عن ابن وبرة الكلبي، قال:(أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته ومعه عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي، وطلحة، والزبير، وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقوا العقوبة فيه، فقال عمر: "هم هؤلاء عندك فسلهم". فقال علي: "نراه إذا سكر هذى، وإن هذى افترى، وعلى المفتري ثمانين". فقال عمر: "أبلغ صاحبك ما قال". قال: فجلد خالد ثمانين جلدة، وجلد عمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت به الذلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين). وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2044).
وأصبحت واسعةً، وترامت أطرافُها، فالنَّاسُ بحاجةٍ إلى أن يتهيئوا للصَّلاة، لأنَّ بعضَهم عُمَّالٌ، والعاملُ يحتاجُ إلى النظافة (الاغتسال)، وتعلمون ما ورد من الحضِّ على الاغتسال يومَ الجُمُعة، فاجتهد في هذه المسألة، فوضع النداءَ الثاني على الزوراء (مكان عالٍ في المدينة)
(1)
.
إذن اجتهد والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ"
(2)
. وهم عندما يجتهدون يدورون في فلكِ الكتاب والسُّنَّة.
* قولُهُ: (وَاحْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ لِمَالِكٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْوِيمُ عُمَرَ بَدَلًا لَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا بِدَيْنٍ).
يعني: احتجَّ البعضُ بأنَّ هذا يدخلُ في أبواب الربا؛ لأنَّ هذه الدِّيةَ مُؤجَّلةٌ، فكأنَّه عندما تكون قيمةُ هذا مقابلَ هذا؛ كأنَّه استبدالُ شيءٍ بشيءٍ؛ فيدخلُ في أبواب الربا.
* قوله: (لِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ مُؤَجَّلَة لِثَلَاثِ سِنِينَ)
(3)
.
وكذلك في شِبهِ العمدِ عند الأكثر
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (912) عن السائب بن يزيد، قال:"كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهدٌ النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه، وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء" قال أبو عبد الله: "الزوراء: موضع بالسوق بالمدينة".
(2)
أخرجه ابن ماجه (42)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2455).
(3)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 9)؛ حيث قال: "ووجدنا عوامَّ أهلِ العلم قد أجمعوا أن عمر جعل الدية في الأعطية في ثلاث سنين".
(4)
وهو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة:
يُنظر: "تحفة الفقهاء" للسمرقندي (3/ 119)؛ حيث قال: "وأما بيان من تجب عليه الدية، فنقول كل دية وجبث بالقتل نفسه في خطأ أو شبة عمد أو في عمد دخلته شبهة تجب في ثلاث سنين على من وجبت عليه في كل سنة الثلث".
وينظر: "المهذب" للشيرازي (3/ 238)؛ حيث قال: "وما يجب بجناية الخطأ وشبه العمد من الدية يجب مؤجلًا، فإن كانت دية كاملة وجبت في ثلاث سنين".=
* قولُهُ: (وَمَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَجَمَاعَة
(3)
مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنَ الإِبِلِ أَوِ الذَّهَبِ أَوِ الْوَرِقِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
(4)
وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ
(5)
الْمَدَنِيُّونَ: يُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَا شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ).
وهو كذلك عند الإمام أحمد
(6)
.
يعني هذه الأمور الخمسة ثبتت، فينبغي أن يُعملَ بها، ولكن الذي اشتَهرَ -كما قلتُ لكم- هي الإبلُ؛ لأنها كثر ذكرها في الأحاديث.
= ويُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 327)؛ حيث قال: وتحمل العاقلة (شبه عمد)؛ لحديث أبي هريرة: "اقتتلت امرأتان من هذيل"، وتقدم. ولأنه نوع قتل لا يوجب القصاص أشبه الخطأ .. (مؤجلًا) ما وجب في شبه العمد (في ثلاث سنين كواجب بخطأ).
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 292)؛ حيث قال: "ولا تؤخذ في الدية عند مالك، وجل أهل العلم إلا الإبل والدنانير والدراهم".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 133)؛ حيث قال: "والدية في الخطأ مائة من الإبل أخماسًا: عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة. ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة عند أبي حنيفة".
(3)
مثل الليث بن سعد. يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 39)؛ حيث قال: "وقال مالك وأبو حنيفة والليث بن سعد لا يأخذ في الدية إلا الإبل والذهب أو الورق لا غير".
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 133)؛ حيث قال: "وقال أبو يوسف ومحمد: من البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، ومن الحلل مائتا حلة، كل حلة ثوبان".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 39)؛ حيث قال: "وقال أبو يوسف: ومحمد يأخذ أيضًا في الدية البقر والشاء والحلل، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين".
(6)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 58)؛ حيث قال: "دية الحر المسلم مائة من الإبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم. فهذه الخمس أصول في الدية".
* قولُهُ: (وَعَلَى أَهْلِ الْبُرُودِ مِائَتَا حُلَّةٍ. وَعُمْدَتُهُمْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الْمُتَقَدِّمِ. وَمَا أَسْنَدَهُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وضَعَ الدِّيَةَ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا كَانَتْ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفُ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبُرُودِ مِائَةُ حُلَّةٍ"
(1)
. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الأَجْنَادِ أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةَ بَعِيرٍ)
(2)
.
هذا كُلُّهُ ما رأيتُ أحدًا من المعلِّقين وقف عليه، وهو موجودٌ -أي: أثر عمر بن عبد العزيز- في مُصنَّف ابن أبي شيبة.
* قوله: (قَالَ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ مِنَ الأَعْرَابِ فَدِيَتُهُ مِنَ الإِبِلِ، لَا يُكَلَّفُ الأَعْرَابِيُّ الذَّهَبَ وَلَا الْوَرِقَ).
يعني: إذا كان من الأعراب صاحب إبلٍ؛ لا يُقالُ له: ائتنا بالذهب، بلْ هذه الإبل يُؤخذ منها.
* قولُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الأَعْرَابِيُّ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، فَعَدْلُهَا مِنَ الشَّاةِ أَلْفُ شَاةٍ).
يكون عنده شياهٌ، فيدفعُ مقابلها من الشياه.
* قوله: (وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَيْضًا رَوَوْا عَنْ عُمَرَ
(3)
مِثْلَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نَصًّا. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ
(1)
أخرجه أبو داود (4542)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(2247).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(13/ 364).
(3)
تفدم تخريج أثر عمر رضي الله عنه.
أَنْ تُقَوَّمَ بِالشَّاةِ وَالْبَقَرِ لَجَازَ أَنْ تُقَوَّمَ بِالطَّعَامِ عَلَى أَهْلِ الطَّعَامِ، وَبِالْخَيْلِ عَلَى أَهْلِ الْخَيْلِ).
بالنِّسبة للشاةِ والبقر، وردتْ في الآثار، وأما تلك لم ترد.
ذِكْرُ الطعامِ وردَ في روايةٍ ضعيفةٍ جدًّا، إذنْ هذه وردت فيُعمَلُ بها، والقصدُ هنا هو الوصول إلى الحقِّ، أن تُؤخذَ هذه الدِّيَةُ من أيِّ نوع كانت ممَّا جاء في تلك الآثار.
* قوله: (وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ).
لم يقل به أحد، لأنَّه لمْ يرِدْ، أمَّا تلك فقد وردت، فقال بها بعضُ العلماء.
* قولُهُ: (وَالنَّظَرُ فِي الدِّيَةِ كَمَا قُلْتُ هُوَ فِي نَوْعِهَا، وَفِي مِقْدَارِهَا، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ، وَفِيمَا تجِبُ، وَمَتَى تجِبُ؟ أَمَّا نَوْعُهَا وَمِقْدَارُهَا فَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي الذُّكُورِ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ).
النوعُ يكونُ من الإبل، أو الذهب، أو الفضة إلى آخره، ومقدارُها مائةٌ من الإبل إلى آخره، إذنْ هو تكلَّم عن النوعين.
* قَوْلُهُ: (وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ
(1)
أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ تجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وَمِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَبِي رَمِثَةَ وَوَلَدِهِ: "لَا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ")
(2)
.
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 7)؛ حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن دية الخطأ على العاقلة".
(2)
أخرجه أبو داود (4495) عن أبي رمثة، قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي:"ابْنُكَ هَذَا؟ " قال: إي ورب الكعبة. قال: "حَقًّا؟ ".=
عرفنا بأنَّ الدِّيَةَ قد تكون انتقالًا من قَوَدٍ إلى دِيَةٍ، التي هي التحوُّل إلى البدن، فإنَّ الذي يقتلُ غيرَه عمدًا يلزمُهُ القصاصُ، فإذا ما تنازل أولياءُ القتيلٍ إلى الدِّيَةِ؛ حلَّت حينئذٍ الدِّيَةُ .. أصبحت هذه دِيَةُ العمدِ، وبأنَّها تكون مُربَّعةً وحالَّةً -أي: تُدفع في الحال- وتكون على الجاني؛ لأنه هو الذي جنى على نفسه فيتحمل.
فالعمد لا تتحمله العاقلة؛ لأنَّ هذا إنسانٌ قد جنى على غيره جنايةً متعمَّدةً، فهو يتحمَّلُ وزرَها ونتائِجَها وعواقبَها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا جَنَى أَحَد فَعَلَيْهِ جِنَايَتُهُ"
(1)
. وهذا جنى، فهو يتحمَّلُ ما جنتْ يدُهُ.
* قوله: (وَأَمَّا دِيَةُ الْعَمْدِ فَجُمْهُورُهُمْ
(2)
عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ- أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلَا اعْتِرَافًا، وَلَا صُلْحًا فِي عَمْدٍ"
…
)
(3)
.
= قال: أشهد به. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكًا من ثبت شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي، ثم قال:"أما إنَّهُ لَا يجْنِي عليكَ، وَلا تجْني عَلَيْهِ". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2303).
(1)
لم أقف عليه.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(13/ 213)؛ حيث قال: "وكل عمد سقط القصاص فيه بشبهة، فالدية في مال القاتل".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (13/ 293)؛ حيث قال: "فإن اصطلحوا على الدية مبهمة، فإن الدية تكون في ماله حالة".
ومذهب الشافعية، ينظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 215)؛ حيث قال: "فإذا صح ما ذكرناه، فدية العمد المحض مغلظة بأربعة أشياء: بالسن، والصفة، والتعجيل، والمحل؛ فتكون في مال الجاني دون عاقلته".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 373)؛ حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل، لا تحملها العاقلة".
(3)
أخرجه البيهقي في "الكبرى"(8/ 104)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(2304).
رفعوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه كلامٌ
(1)
.
إذنْ عرفنا بأنَّ دِيَةَ العمدِ يتحمَّلُها الجاني القاتلُ، ولا عَلاقةَ بالعاقلةِ، كما أورد المؤلِّفُ قولَ اللَّهِ تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]).
"من جنى فعليه جنايتُه"، لكنَّ المخطئ يقول الله تعالى في شأنِهِ:({رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]).
ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(2)
.
فالخطأُ يقعُ من كل إنسانٍ، وكُلُّنا بشرٌ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم نَسِيَ في الصَّلاة، وكذلك نَسِيَ آدمُ ونسيت ذريته، ورُبَّما يُخطِئُ الإنسانُ في أمرٍ من الأمورِ؛ لأنَّه لا يريدُ أن يقعَ في ذلك المحظور، ولا في ذلك الممنوع، لكنَّه وقع فيه
(3)
.
(1)
قال ابن حجر: وقال الرافعي في أواخر الباب: هذا الحديث تكلموا في ثبوته. وقال ابن الصباغ: لم يثبت متصلًا؛ وإنما هو موقوف على ابن عباس، انتهى. وفي جميع هذا نظر، فقد روى الدارقطني والطبراني في "مسند الشاميين" من حديث عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَجْعَلُوا عَلَى العَاقلَةِ مِنْ دِيَةِ الْمعترفِ شَيْئًا"، وإسناده واهٍ. انظر:"التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 94).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2045)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في "إرواء الغليل"(82).
(3)
قال الطبري: "إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطأوا، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟ قيل: إن (النسيان) على وجهين:
1 -
أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط.
2 -
والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.
فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو تركٌ منه لما أمر بفعله.
فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به
…
وأما الذي العبدُ=
* قولُهُ: (وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَا نَحْمِلُ مَنْ أَصَابَ نَفْسَهُ خَطَأً
(1)
، وَشَذَّ الأَوْزَاعِيُّ
(2)
فَقَالَ: مَنْ ذَهَبَ يَضْرِبُ الْعَدُوَّ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ فِي قَطْعِ الأَعْضَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا فَقَأَ عَيْنَ نَفْسِهِ خَطَأً، فَقَضَى لَهُ عُمَرُ بِدِيَتِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ)
(3)
.
يستدلون بقصَّةِ الذي ضرب شيئًا فأذهبَ عينَه، فقالوا:"لم تُؤمر العاقلةُ بدِيَةِ العينِ". يعني: هذا الأثرُ هو الذي يستدلُّون به على هذه المسألة التي أشار إليها المؤلِّفُ، وكما مرَّ سابقًا أن القتلَ ثلاثة أنواع:
= به غير مؤاخذ، لعجز بنيته عن حفظه
…
فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له؛ لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجِد منه فيقرؤه ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه". انظر:"جامع البيان" للطبري (5/ 155).
(1)
هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن أحمد.
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 112)؛ حيث قال: "ومن قتل نفسه كان دمه هدرًا".
وينظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 268)؛ حيث قال: "لا تعقل العاقلة من قتل نفسه عمدًا ولا خطأ".
وينظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 357)؛ حيث قال: "فأما إذا جنى على نفسه خطأ، فقطع يده بانقلاب سيفه عليه، أو قتل نفسه بعود سهمه إليه، فجنايته هدر كالعمد، في قول أكثر الفقهاء، وعاقلته براء من ديته".
وينظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 387)؛ حيث قال: "وإن جنى الرجل على نفسه خطأ، أو على أطرافه، ففيه روايتان. قال القاضي: أظهرهما أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 114)؛ حيت قال: "وقال الأوزاعي لو أن رجلًا ذهب يضرب بسيفه في العدو فأصاب نفسه، فعلى عاقلته الدية".
(3)
قال ابن المنذر: "وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه جعل دية رجل ساق حمارًا فضربه بعصا معه، فطارت منه شظية فأصابت عينه ففقأها، على عاقلته. قال: هي يد من أيدي المسلمين، لم يصبها اعتداء على أحد". انظر: "الأوسط"(13/ 361).
أولُها: العمدُ، وهذا فيه القصاصُ، فإذا عُفِيَ انتقلوا إلى الدِّيَةِ؛ والدِّيَةُ على العاقلة قولًا واحدًا وهي حالَّةُ، وهي على الشَّخصِ نفسهِ القاتلِ قولًا واحدًا، وهي حالَّة مُربَّعةٌ.
الثاني: دِيَةُ الخطأ، وهذا بإجماع العلماءِ على العاقلة
(1)
.
الثالثة: دِيَةُ شِبهِ العمد، وفيها خلافٌ، والمشهورُ أنَّها على العاقلة كما مرَّ بنا، وهي أيضًا مُثلَّثة، يعني تكونُ كالخطأ على ثلاث سنوات، ولكنَّها مُغلَّظةٌ كما مرَّ في أثر عمرَ رضي الله عنه، فهذه هي أنواع الدِّياتِ الثلاثِ.
ورد أيضًا على خلاف ذلك؛ لأنَّه لمْ يُؤمرْ بالدِّيَةِ؛ لأنَّه هو الذي جنى على نفسه، كما لو جنى على غيره كما أشرت لكم.
إذنْ هناك دِيَةُ العمد، وهناك دِيَةُ الخطأ، وهناك دِيَةُ شِبهِ العمدِ.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِي دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَفِي الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ).
اختلفوا في دِيَةِ شِبهِ العمد، وكذلك أيضًا في الدِّيَةِ المُغلَّظةِ، سيشرع المؤلِّفُ الآن في تفصيلها، دِيَةُ شِبهِ العمد مرَّتْ بنا يعني تحديدها، وبأنَّها ليستْ غير حالَّةٍ، هانَّما هي مُؤجَّلة، لكن هل تكون أرباعًا وأثلاثًا؛ فقد رأينا على الأرجح أنَّها تكونُ أرباعًا، وأنَّها مُؤجَّلةٌ على ثلاث سنواتٍ كدِيَةِ الخطأِ، ولكنَّها تختلفُ عن دِيَةِ الخطأ فيما يتعلَّقُ بالتغليظ فيها.
* قولُهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِي دِيَةِ مَا جَنَاهُ الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ عَلَى مَنْ تجِبُ؟).
أنتم تعلمون -وهذا مرَّ بنا كثيرًا في أبوابٍ عِدَّةٍ ما يتعلَّق بالتكليف-
(1)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 7)؛ حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن دية الخطأ على العاقلة".
أن الله سبحانه وتعالى عندما أمر عبادَه بأمورٍ، ونهاهم عن أُخرى، إنَّما وضع اللهُ سبحانه وتعالى لذلك روابط، وهناك ما يُعرف بالتكليف، فالمُكلَّفُ هو البالغُ العاقلُ، أمَّا الصبيُّ الذي لم يبلغ؛ فقد عرفنا علامات البلوغ، فهذا يُعتَبرُ مُكلَّفًا، وكذلك أيضًا من زال عقلهُ؛ فإنَّه لا يكون مُكلَّفًا؛ لأنَّ ذلك قد سُلِبَ عنه العقلُ الذي يُدرِكُ به ويميِّزُ بين النافع والضَّارِّ، فلو قُدِّرَ أنَّ صبيًّا قتل، أوْ مجنونًا؛ فإنَّه لا يُقتل بذلك الفعل، لكن هناك ضوابط تكلَّم عنها العلماءُ وحدَّدوها.
إذنْ إذا لم يكن هناك قتلٌ، فلا بُدَّ من دِيَةٍ، وسيأتي الكلام تفصيلًا عن إذا كانت هناك دِيَةٌ؛ فهل هي على العاقلة أمْ في مال الصبيِّ -إنْ كان له مالٌ - أمْ في مال المجنون؟
* قولُهُ: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
وَجَمَاعَةٌ
(3)
: "إِنَّهُ كُلُّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ").
كذلك الإمامُ أحمدُ
(4)
.
هؤلاء الأئمةُ الثلاثةُ قالوا: "دِيَةُ الصَّبيِّ والمجنونِ تكونُ على العاقلة". وسنعرف بعد قليل مَنِ المراد بالعاقلة.
(1)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(2/ 309)؛ حيث قال: "وعمد الصبي كالخطأ في نفي القصاص ظاهره كالمدونة مميزًا كان أو غيره (وذلك)، أي: ما جناه في العمد والخطأ تجب ديته على عاقلته".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 134)؛ حيث قال: "وعمد الصبي والمجنون خطأ، وفيه الدية على العاقلة".
(3)
مثل عبد الله بن الزبير.
يُنظر: "الإشراف في مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 444)؛ حيث قال: "قالت طائفة: عمد الصبي في ماله، وكذلك المجنون .. روينا عن عبد الله بن الزبير أنه قال: جناية المجنون في ماله".
(4)
يُنظر. "المغني" لابن قدامة (8/ 383)؛ حيث قال: "وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة".
يعني تتحمَّلهُ العاقلةُ. هذه الدِّيَةُ لا تكون في مالٍ واحدٍ منهما؛ وإنَّما تكون على العاقلة، وعادةً كون الدِّيَة في بعض أنواعِها على العاقلة تكون مواساةً للقاتل؛ لأنَّ الذي تكون دِيتُهُ على العاقلة لا يكون متعمِّدًا، أمَّا المتعمِّدُ فقد عرفنا أن الدِّيَةَ تكون حالَّةً، يعني لا تُؤجَّل، وتكون في ماله، فلا تتحملُ العاقلةُ عمدًا ولا تتحمَّل أيضًا عقدًا، ولا صُلحًا، ولا اعترافًا، إذنْ هذا إنسانٌ أخطأ أو حصل منه شِبه خطأ، فهو بحاجةٍ إلى التسرية (التخفيف)، ومن أولى النَّاس بأن ينهض بذلك ويقوم به هم عصبتُه، هم العصبةُ الذين نعرفهم ودرسناهم في كتاب المواريث.
* قولُهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: "عَمْدُ الصبِيِّ فِي مَالِهِ").
لأنَّ الصبيَّ يرى أنَّه قد اعتدى، وأنَّه ينبغي أن يُزجَرَ وأن يُردع، وهذا هو نوعٌ من الزَّجر؛ لأنَّ هذا الصبيَّ وإنْ لم يكن كامل العقل؛ لكنَّه أيضًا يُدرِكُ أنَّه أمرٌ لا ينبغي، ولذلك يرى أنها تُوضع في ماله حتى يكون ذلك زجرًا وردعًا له.
* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ فِعْلِ الصَّبِيِّ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ؛ فَمَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ شِبْهَ الْعَمْدِ أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ).
يعني من شبَّهَهُ بالعامد؛ أوجب الدِّيَةَ في ماله، ومَنْ شبَّهَهُ بالمُخطئِ؛ أوجبها على العاقلة، إذنْ هو متردِّدٌ بينهم، هو متعمِّدٌ فِعلَهُ، ولكنك إذا نظرت إلى قصوره وتفكيره، وأنه مرفوعٌ عنه القلم، فأنت في هذه الناحية تُلحقه بالمخطئ، وإذا نظرت إلى أنَّه تعمَّد يعني أقدَمَ على الفعل وقصد القتلَ؛ فإنَّه من هذه الناحية يُشبِهُ المتعمِّدَ، فصار متردِّدًا بين الأمرين، فبأيِّهما يُلحق؟
لا شك بأنَّ مذهب الجمهور أولى؛ لأنَّ هذا غيرُ كامل الإدراك وغيرُ
(1)
يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 122)؛ حيث قال: "عمد الصبي عمد، وهو الأظهر".
مُستَوفٍ له، ولذلك رفعت الشريعةُ العقوبةَ فقال عليه الصلاة والسلام:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ"
(1)
.
* قوله: (وَمَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ شِبْهَ الْخَطَإِ أَوْجَبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ عَامِدٌ وَصَبِيٌّ).
كذلك عامدٌ ومجنونٌ.
هنا عامد يُقصدُ به المكلَّفُ؛ لأنَّ الصبيَّ قد يكون عامدًا، لكن هنا لما ذكر الصبيَّ، فالذي يُقابله هو المكلَّفُ، إذنْ هناك إنسانٌ مكلَّفٌ لو انفرد بالقتل متعمِّدًا؛ فإنَّه يُقتلُ إلَّا أنْ يُعفى عن ذلك إلى بدلٍ، أو غير بدلٍ، فإذا ما اشترك صبيٌّ وكذلك إنسانٌ مكلَّفٌ عامدٌ في القتل .. فما الحكم هنا؟
قد عرفنا أن الصبيَّ لا يُقتصُّ منه، وبأنَّ هناك مَنْ يرى -وهم الجمهور -أنَّ الدِّيةَ فيه على عاقلته، والشافعيُّ يرى أنَّها في ماله، وإنْ اختلف الشافعيةُ- ليس كل الشافعية مع إمامهم في هذه المسألة -لكن هنا نأتي إلى العامد، هل العامد تختلف معه بين أن ينفرد بالقتل وبين أن يكون مع غيره ممن لا يلزمه القتل أو لا؟
سبق أن أشرنا إلى مثل ذلك ومرَّ بنا ما يُشبِهُهُ، وأنَّه لو كان لا يُقامُ القصاصُ على العامد في مثل هذه الحالة، لكانت ذريعةً إلى أن يتلبَّسَ كثيرٌ من الجُناة والمجرمين بمثل ذلك، فيأتوا بغير مكلَّفين فيشركوهم في القتل؛ حتى لا يُقام عليهم القصاص، إذنْ في هذه الحالة جماهير العلماء
(2)
يقولون: "يُقتص من العامد".
(1)
أخرجه أبو داود (4400)، وصححه الألباني في "المشكاة"(3287).
(2)
مذهب الحنفية والحنابلة أنه لا يجب عليهما قصاص.
يُنظر، "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 235)؛ حيث قال: "ولو اشترك اثنان في قتل رجل، أحدهما ممن يجب القصاص عليه لو انفرد، والآخر لا يجب عليه لو انفرد=
* قوله: (وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا عَلَى الْعَامِدِ الْقصَاصَ وَعَلَى الصَّبِيِّ الدِّيَةَ).
هذا مرَّ؛ لأنَّه قال: (والذين أوجبوا)، وقد عرفنا أنَّه مذهبُ الجمهور.
* قوله: (اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْ تَكُونُ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
عَلَى أَصْلِهِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: عَلَى الْعَاقِلَةِ).
الشافعيّ عرفتُم رأيَه بأنَّه في مال الصبيِّ ردعًا، وزجرًا، وتخويفًا له، والجمهور قالوا:"على العاقلة"؛ فمالكٌ وأحمدُ متَّفقان في كثير من المسائل القادمة.
= ممن ذكرنا، كالصبي مع البالغ، والمجنون مع العاقل، والخاطئ مع العامد، والأب مع الأجنبي، والمولى مع الأجنبي لا قصاص عليهما عندنا".
ويُنظر: "الشرح الكبير" لابن قدامة (9/ 347)؛ حيث قال: "فإن اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ، فالصحيح من المذهب أنه لا قصاص على البالغ".
ومذهب المالكية وجوب القصاص على العامد البالغ، ووجوب نصف الدية على عاقلة الصغير أو المجنون.
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (8/ 11)؛ حيث قال: "المكلف إذا اشترك مع صبي على قتل شخص، وتمالآ على قتله، فإن القصاص على شريك الصبي وحده، والصبي لا شيء عليه، وإنما على عاقلته نصف الدية فقط".
والشافعية يرون وجوب القصاص على العامد.
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (3/ 174)؛ حيث قال: "وإن اشترك صبي وبالغ في القتل، فإن قلنا: عمد الصبي خطأ، لم يجب القصاص على البالغ؛ لأن شريكه مخطئ؛ وإن قلنا: إن عمده عمد، وجب؛ لأن شريكه عامد، فهو كشريك الأب".
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 347)؛ حيث قال: "وإن كان عمدًا، ففيه قولان من اختلاف قوليه في عمد الصبي، هل يجري مجرى العمد، أو مجرى الخطأ؟؛ أحدهما: أنه جارٍ مجرى العمد، فعلى هذا تكون الدية في ماله".
(2)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (8/ 11)؛ حيث قال: "المكلف إذا اشترك مع صبي على قتل شخص وتمالآ على قتله، فإن القصاص. على شريك الصبي وحده، والصبي لا شيء عليه، وإنما على عاقلته نصف الدية فقط".
* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
فَيرَى أَنْ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا. أَمَّا مَتَى تجِبُ؛ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ)
(2)
.
نحن عرفنا أنها تكون أخماسًا، وأنَّه لا خلاف بين العلماء إلَّا في نوعٍ منها؛ أهي بناتُ مخاضٍ؟ أو بنو لبونٍ؟
مرَّ بنا هذا من قبل.
إذنْ الذي نريد أن نعرفه الآن أنها مُؤجَلةٌ، ومدة تأجيلها ثلاثُ سنواتٍ باتفاق، وتُوزَّعُ أثلاثًا، في كلِّ عام يُدفع ثلثُ الدِّيةِ، فقد عرفنا أن الدِّيةَ قد تكون إبلًا، أو بقرًا، أو غنمًا، ورُبَّما كانت ذهبًا (يعني دنانيرَ)، أوْ دراهم، ورأينا الاختلافَ في الدراهم في مقدارها؛ لأنَّها كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قدرٌ، وأن عمرَ رضي الله عنه كان له رأيٌ في ذلك، وعلَّل ذلك بارتفاع ثمن الإبل التي تُعتبَرُ عند بعض العلماء كما عرفنا أصلًا في ذلك.
* قوله: (وَأَمَّا دِيَةُ الْعَمْدِ فَحَالَّةٌ إِلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى التَّأجِيلِ).
ديَةُ العمدِ لا خلاف بين العلماء في أنَّها حالَّةٌ تدفع حالًا، وأيضًا تكون من مال المعتدي القاتل.
إذنْ هناك أمران في دِيَةِ العمدِ: أن تكون حالَّةً، وأن تكون -أيضًا- على الشخص القاتل، بخلاف دِيَةِ شِبهِ العمد والخطأ؛ فدِيَةُ شِبهِ العمد فيها تغليظٌ، أمَّا دِيةُ العمد فلا تغليظَ فيها؛ لأنَّ المخطئَ هو مخطئٌ، وقد عرفنا
(1)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 235)؛ حيث قال: "ولو اشترك اثنان في قتل رجل، أحدهما: ممن يجب القصاص عليه لو انفرد، والآخر: لا يجب عليه لو انفرد ممن ذكرنا؛ كالصبي مع البالغ، والمجنون مع العاقل، والخاطئ مع العامد، والأب مع الأجنبي، والمولى مع الأجنبي، لا قصاص عليهما عندنا".
(2)
تقدم تفصيل ذلك.
الفرق بين الأنواع؛ لأنَّ المتعمِّدَ إنَّما هو تعمَّد الفعل، وتعمَّد القتلَ، فإنسانٌ بينه وبين آخرَ عداوةٌ، فحمل سلاحًا فقتله، فقد تعمَّد هذا الفعلَ، وتعمَّدَ القتلَ .. لكنَّ إنسانًا ذهب ليؤدِّبَ آخرَ، أو يمازحَه، أو نحو ذلك، ثم هو قصدَ الفعلَ أنَّه لم يقصدْ قتله فحصل القتل؛ هذا نقول: شِبهُ عمدٍ. أمَّا الذي لا يقصد فعلًا ولا قتلًا أصلًا؛ وإنَّما حصل ذلك قضاءً وقدرًا، هذا نُسمِّيه مخطئًا، وهذا المخطئُ يحتاج إلى مساواة، وإلى تخفيف، وتسلية. ولذلك نجد أنَّ هذه الشريعةَ الإسلاميةَ الغرَّاء راعت ظرفه ووضعه، فقالت: ينبغي أن تتجمع عصبته، فتتحمَّل ذلك.
والعلماء ليسوا متفقين تمامًا على المراد بالعصبة، هل هم عصبةُ الميراث؟ أو هم أهل الدِّيوان؟ وإن كانوا عصبة الميراثِ؛ فهل كل وارث من العصبة يدخل؟ في ذلك خلاف هذا سيأتي إن شاء الله.
* قوله: (وَأَمَّا مَنْ هُمُ الْعَاقِلَةُ).
العاقلة من العقل وهو المنع؛ لأنَّ هذه العاقلةَ هي منعت عن القاتل، كأنَّها منعتْ عنه القتلَ، بمعنى أنَّها دفعت الدِّيَةَ.
وسمُّوا عاقلةً؛ لأنَّهم يعقلون عن المقتول، أي: يمنعون عنه.
إذنْ معنى العقلُ هو المنعُ، وكذلك العقلُ نفسُهُ الذي نعرفه يمنع الإنسانَ من الوقوع في الأخطاء منِ ارتكاب المحارم، من ارتكاب المنهيات، ولذلك إذا سَكِرَ الإنسانُ هذى، وإذا هَذَى افترى (فقَدَ عقلَهُ)، فرُبَّما وقع في جناية أو أكثر؛ لأنَّه فَقدَ هذه النِّعمة العظيمة التي منحها اللهُ -تعالى- إيَّاه، وميَّزه بها عن سائر الحيوان، فإذا ضيَّع هذه النِّعمة؛ انحطَّ إلى درجة الحيوان، فكأنَّ ذلك العقلَ الذي يمنعه من ارتكاب ما لا يجوز زال، فأصبح -أيضًا- لا يوجد هناك سِياجٌ مانعٌ يحولُ بينه وبين بعض الأمور، فيستغله الشيطان، فيجُرَّهُ إلى المهالك وإلى الويلات.
* قولُه: (فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ
(1)
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ هِيَ الْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الأَبِ وَهُمُ الْعَصَبَةُ).
الذين هم العصبة، نحن لمَّا درسنا الفرائضَ قلنا: هناك عصبةٌ، وهناك أهلُ فرضٍ، وعرفنا هناك ذوي الأرحام .. وهل ذوي الأرحام يرثون؟ رأينا هناك أن كثيرًا من العلماء لا يُوَرِّثونَهم، ثم رأينا هناك نوعًا من التعصيب بالولاء، وهو المُعتِقُ، أعتقَ إنسانٌ آخرَ فكانت هذه نعمةٌ له؛ لأنَّه حرَّرهُ من الرِّقِ، ونقلَهُ من حالةٍ، كأنْ لمْ يكنْ موجودًا فيها إلى أن أصبحَ إنسانًا حُرًّا يتمتعُ بكاملِ الحُرِّية كغيره، وذلك استحَقَّ على هذه النِّعمة وعلى هذا الفضل الذي قدَّمهُ له؛ أن يكون له مولى.
وكذلك أيضًا يدخل في العصبة، وسيأتي الخلافُ أيضًا في المراد بالعصبة، وكذا العاقلة، وهل هما بمعنًى واحدٍ؟ أو هم أهل الديوان؟ والذي دوَّن الدواوين هو عُمَرُ رضي الله عنه، فلم يكن ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه، ثم أيضًا عندما نعودُ إلى مذهب الجمهور بأنَّ أهلَ العقل أو العاقلة هم العصبةُ، سنجدهم يختلفون أيضا في دخول الآباء والأبناء؛ لأنَّهم إذا كانوا من قِبَلِ الأب يكونون عصبة، وإذا رجعنا إلى ما درسناهُ في كتاب المواريث، نجدُ أَن العصبة هم: الآباءُ وإنْ عَلَوا، والأبناءُ وإنْ نزلوا، ثم أيضًا نقول: همُ الآباءُ، وكذلك أبناؤُهم؛ فأبناءُ الآباءِ هم الإخوة، وأبناؤُهم، أي: أبناء الإخوة، وأبناءُ الجدِّ هم الأعمامُ، وأبناؤُهم هم أبناء العم، وهكذا، فهؤلاء هم العصبة، فهل يدخلُ في ذلك الأبُ وإنْ علا؟ أو الابنُ وإنْ نزلَ؟ فيه خلاف في المذهبين الشافعيِّ والحنبليِّ، سنشيرُ إليهما إن شاء الله.
(1)
يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (8/ 45)؛ حيث قال: "وهي العصبة، وبدئ بالديوان إن أعطوا ثم بها الأقرب فالأقرب (ش) مراده أن العاقلة عدة أمور: العصبة، وأهل الديوان، والموالي، وبيت المال؛ فقوله: (وهي العصبة)، أي: بعض العاقلة العصبة، أو وهي العصبة ومن بعدها".
* قولُهُ: (دُونَ أَهْلِ الدِّيوَانِ).
أهل الديوان هم الذين يُكتبُون -يُدَوَّنون- في الدِّيوان؛ لأنَه أُثِرَ عن عمر رضي الله عنه أنه جعلَ الدِّيَةَ في ذلك
(1)
، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدِّيَةِ في العاقلة في أحاديثَ كثيرةٍ، وممَّا مرَّ بنا منها قصةُ المرأتين من هذيل اللتينِ اقتتلتا، فرمتْ إحداهمُا الأُخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الدِّيَةَ على العاقلة
(2)
، وجاء في حديث:"العَاقلَةُ هُمُ عصبَةُ الرَّجُلِ"
(3)
.
* قَوْلهُ: (وَتَحْمِلُ الْمَوَالِي الْعَقْلَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ
(4)
إِذَا عَجَزَتْ عَنْهُ الْعَصَبَةُ إِلَّا دَاوُدَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ الْمَوَالِيَ عَصَبَةً، وَلَيْسَ فِيمَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ عِنْدَ مَالِكٍ)
(5)
.
إذا عجزتِ العصبةُ أو لم تُوجد؛ حينئذٍ يُنتَقلُ إلى العصبةِ بالولاء التي
(1)
أخرجه أبو يوسف في "الآثار"(980) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه: "فرض الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل الغنم ألفي شاة، وكل ذلك على أهل الديوان".
(2)
أخرجه البخاري (5758) ومسلم (1681) عن أبي هريرة: "أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأُخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة".
(3)
لم أجده.
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 137)؛ حيث قال: "والعاقلة: أهل الديوان" ويدخل فيهم الموالي.
ومذهب المالكية، ينظر:"مختصر خليل"(ص 234)؛ حيث قال: "وهي العصبة، وبدئ بالديوان إن أعطوا، ثم بها الأقرب فالأقرب، ثم الموالي الأعلون، ثم الأسفلون، ثم بيت المال إن كان الجاني مسلمًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 346)؛ حيث قال: "فإن قصروا عنهما عدلنا إلى الموالي المعتقين".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 392)؟ حيث قال: "سائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب، والمولى وعصبته، ومولى المولى وعصبته".
(5)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 267)؛ حيث قال: "ويحمل الغني بقدره والفقير بقدره، وذلك على قدر طاقة الناس في يسرهم".
أشرنا إليها، والتي سبق أن درسناها في كتاب الولاء وفي كتاب العتق.
إذا قلنا: العاقلةُ هم العصبة -قبل أن ندخل في تفصيل ذلك- هل هناك قدرٌ محدَّدٌ يلزمُ كُلَّ واحدٍ من العصبة؟
مثلًا: الإخوة يلزم كل واحد كذا، الأعمامُ يلزم كلَّ واحدٍ كذا، أعمامُ الإخوة، أبناء الأعمام
…
إلى آخرِهِ. هل هناك قدرٌ محدَّدٌ من المال؟ هو دينارٌ على كلِّ واحدٍ أو نصف دينارٍ.
ومعلومٌ بأنَّ المرأةَ لا تدخل في العقل، وكذلك أيضًا لا يدخل فيه على الرأي الصحيح الفقير، فهناك أنواع من النَّاس لا يدخلون -يعني لا يحملون شيئًا مع العاقلة.
إذنْ العاقلةُ يقوم بها نوعٌ من العصبة.
الكلام الآن هل هناك قدرٌ محدَّدٌ؟
الإمامان مالك وأحمدُ
(1)
قالا: "ليس هناك قدر محدَّد، وإنَّما يرجع ذلك إلى تقدير الحاكم -أي: الذي يتولى ذلك- وهو الذي ينظر في المصلحة، فإنْ رأى أن يحدد قدرًا محدَّدًا حددَّهُ، وإنْ رأى ألَّا يحدِّدَه وأن يترك ذلك إلى ما عند هؤلاء من الرغبة؛ لأنَّه يوجد من الناس من يدفع أكثر، وهناك من يدفع أقل، فالنُّفوسُ تختلف في تعلُّقها بالمال وحبها لها، فبعض الناس جبَلَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى على البذل وعلى العطاء وعلى السخاء، حتى في الأمور غير المتعينة، فما بالك في الأمور المتعينة! ولذلك فرَّقَ اللهُ سبحانه وتعالى بين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وبين الذين يمسكونها، وأثنى على الذين ينفقونها في سبيل الله وبيَّن بأنَّها:{كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] .. وعدَّ
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 63)؛ حيث قال: "وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر؛ لأن التقدير من الشرع، ولم يرد به (وترجع فيه إلى اجتهاد الحاكم، فيحمل كل إنسان ما يسهل) عليه (ولا يشق) ".
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظله يومَ لا ظلَّ إلا ظِلُّهُ: "رجلًا تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنفِقُ يمينُهُ"، ويقول الله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
فبعض النفوس عندها تطلُّعٌ إلى الدرجات العُلى، تبحث عمَّا يكون فيه خير وسعادة لها في الآخرة، ولا يشغلها ما يتعلَّقُ بأمور الدنيا، ولذلك جاء في الحديث:"ذَهَبَ أَهْلُ الدثُورِ بِالْأُجُورِ"
(1)
.
ولا نريد أن نخرجَ كثيرًا عن الموضوع، فهذا سبق الكلام عنه في مناسبات كثيرةٍ، لكنَّ الإمامَينِ مالكًا وأحمدَ؛ قالا:"يُترك ذلك إلى أحوال العصبة، فكلٌّ يدفع ما تجود به نفسُهُ، كذلك الإمامُ الحاكمُ هو الذي يُقدِّرُ ذلك .. يرى المصلحة، فإنْ وجد أنَّ العصبة يتسابقون ويدفعون وأدَّوا ما عليهم؛ وإلَّا حينئذٍ يحتاج إلى أنْ يعودَ ويقرِّرَ شيئًا". هذا هو رأي الإمامين.
والإمامُ أحمدُ له روايةٌ أُخرى
(2)
يرى فيها التقدير.
وأمَّا الإمامُ الشافعي
(3)
فرأيه متَّحدٌ في ذلك، وقبله أبو حنيفة
(4)
يرى
(1)
أخرجه مسلم (1006) عن أبي ذر: أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال:"أَوَلَيسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَة، وَكُلّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَة، وَكُل تَحْمِيدَةٍ صَدَقَة، وَكُلّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَة، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَة، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بضعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال:"أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 395) حيث قال: "وعن أحمد، رواية أخرى، أنه يفرض على الموسر نصف مثقال؛ لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة، فكان معتبرًا بها، ويجب على المتوسط ربع مثقال؛ لأن ما دون ذلك تافه".
(3)
سيأتي.
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 137)؛ حيث قال: "عاقلته قبيلته، تقسط عليهم في ثلاث سين لا يزاد الواحد على أربعة دراهم في كل سنة، وينقص منها فإن لم تتسع القبيلة".
أنَّها مقدَّرةٌ لكنَّه يُقدِّرُها عُلوًّا لا نزولًا، فيقول:"أعلى ما يدفعه كلُّ واحدٍ هو أربعةُ دراهمَ، هذه هي الزيادة ولا حدَّ لأقلِّها".
أمَّا الإمامُ الشافعيُّ فحدَّ الأعلى والأدنى.
قلنا: وأحمد.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى الْغَنِيِّ دِينَارٌ، وَعَلَى الْفَقِيرِ نِصْفُ دِينَارٍ)
(1)
.
هذا هو قول الإمام الشافعيِّ، وأحمدُ له روايةٌ يُحدِّدُ فيها
(2)
، وأبو حنيفة حدَّد الأكثرَ وترك أيضًا الأقل، وقال:"لا حدَّ فيه".
أمَّا الروايةُ المشهورةُ عن الإمام أحمدَ وهي المذهبُ، وهي أيضًا قولُ الإمام مالكٍ، هذه لا حدَّ فيها؛ لأنَّه لم يرِدْ في ذلك نصٌّ، وهذه أمورٌ توقيفيَّة، ولمْ يرِدْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ حدَّ في ذلك حدًّا، فتحديد ذلك كأنَّه جعله مشروعًا، ولكن يُترك ذلك إلى الحاكم، فهو ينظر ما فيه المصلحة.
* قوله: (وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُرَتبةٌ عَلَى الْقَرَابَةِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ)
(3)
.
ومعه الإمام أحمد
(4)
، لكنَّ الإمامَ أحمدَ يختلف معه في التفصيل،
(1)
الفقير لا يتحمل العقل عند الشافعية، وإنما يتحمل الغني والمتوسط.
يُنظر: "البيان" للعمراني (11/ 604)؛ حيث قال: "ولا يحمل العقل من العاقلة إلا الغني والمتوسط، فأما (الفقير): وهو من لا يملك ما يكفيه على الدوام، فإنه لا يحمل العقل
…
ويجب على المتوسط ربع دينار
…
ويجب على الغني نصف دينار".
(2)
تقدم ذكرها.
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 345)؛ حيث قال: "قال الشافعي: معرفة العاقلة أن ينظر إلى إخوته لأبيه، فيحملهم ما يحمل العاقلة، فإن لم يحتملوها دفعت إلى بني جده، فإن لم يحتملوها دفعت إلى بني جد أبيه، ثم هكذا لا يدفع إلى بني أب، حتى يعجز من هو أقرب منهم".
(4)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 393)؛ حيث قال: "ويبدأ في قسمته بين العاقلة=
وهي مُرتَّبةٌ على القرابة، معنى هذا أنَّ الإخوة يسبقون أبناء الإخوة، وشحبقون الأعمام، وهكذا تجد درجات كما أخذتَ في المواريث، لكن هنا المُؤلِّفَ ما أشار إلى قضيةٍ مهمةٍ، ولكنها تُفهم من كلامه، وقد قال بها الشافعي، فهو يرى رحمه الله ومعه أحمد في روايةٍ عنه
(1)
: "أن الآباء والأبناء لا يدخلون في العاقلة"، والعاقلةُ هم: أبناء الأب (يعني الإخوة)، وأبناء الجدِّ (يعني الأعمام)، وأبناء هؤلاء أبناء هؤلاء وإن نزلوا، إذنْ هم الإخوة، وأبناؤهم، والعمومة وأبناؤهم وإن نزلوا، وهي روايةٌ للإمام أحمدَ. والرواية الأُخرى عنه
(2)
: "يدخل في العصبة الآباء وإنْ علَوا، والأبناء وإنْ علَوْا، والإخوة وأبناؤهم، والأعمام
…
إلى آخره"، يعني العصبة الذين عرفناهم في كتب المواريث، وهو قول الإمامين أبي حنيفة ومالك.
* قوله: (فَالْأَقْرَبُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ).
(فالأقرب من بني أبيه) وهم إخوانه.
وأيضًا ننتبه إلى أنّه لا يدخل في ذلك الأم، ولذلك قال هنا:(من بني أبيه)، فالأخوة لأم، والزوج، لا يدخلون في ذلك؛ لأنهم ليسوا من العصبة، وقد عرفنا ذلك في كتاب في المواريث بأن الإخوة لأم يرثون فرضًا لا تعصيبًا، وتعلمون تلك المسألة المُشَرَّكة التي حصل فيها الكلام في زمن عمر رضي الله عنه التي أفتى فيها فتوى ثم رجع، والتي تُعرف بـ (المسألة
= بالأقرب فالأقرب، يقسم على الإخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم، ثم أعمام الأب ثم بنيهم، ثم أعمام الجد، ثم بنيهم، كذلك أبدًا، حتى إذا انقرض المناسبون، فعلى المولى المعتق، ثم على عصباته، ثم على مولى المولى، ثم على عصباته، الأقرب فالأقرب، كالميراث سواء. وإن قلنا: الآباء والأبناء من العاقلة، بدئ بهم؛ لأنهم أقرب".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 390)؛ حيث قال: "والعاقلة العمومة، وأولادهم وإن سفلوا، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 390)؛ حيث قال: "وعن أحمد في ذلك روايتان: إحداهما: أن كل العصبة من العاقلة، يدخل فيه آباء القاتل، وأبناؤه، وإخوته، وعمومته، وأبناؤهم".
المُشَرَّكة)
(1)
التي ورَّثَ فيها الإخوةَ لأم، ومنع الأخوةَ لأبٍ، وقصتهم معروفة مشهورة.
إذن هنا لمَّا قال: (من بني الأب) يعني إخوته.
إذنْ الإمامُ الشافعيُّ لا يرى الآباءَ والأبناءَ من العصبة، وهو -كما قلنا- رواية للإمام أحمد، لكن الرِّواية المشهورة الأُخرى التي هو فيها مع الحنفيَّة والمالكيَّة.
أما عند أحمدَ، فهي كالشافعيِّ مُرتَّبةٌ على حسب القُرب، فعلى الرِّواية التي يتفق فيها مع الشافعي، كما عند الشافعي، وعلى الرِّواية الأُخرى يبدأ بالآباء فالأبناء، وهكذا.
* قوله: (ثُمَّ مِنْ بَنِي جَدِّهِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي بَنِي أَبِيهِ).
(بني أبيه) هم إخوته، و (بني جدِّه) هم الأعمام، ثم بنوهم وبنو بنيهم
…
إلى آخره.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْعَاقِلَةُ هُمْ أَهْلُ دِيوَانِهِ)
(2)
.
يعني هو يرى أهلَ دِيوانهِ، لكنَّه يرى أيضًا بأنَّ العصبة في ترتيبهم، مع الإمام مالك، والروايةُ الأُخرى للإمامين، لكن عندما جاء الحنفيَّة فقال العاقلة: أهل ديوانه .. أنتم تعلمون عمر رضي الله عنه له أعمالٌ جليلةٌ، لما جاء فرأى أن يضع ديوانه، وأن يكتب فيها الجُندَ، وأنْ تُخصَّصَ لهم أرزاق، فقام بأعمالٍ عظيمةٍ جدًّا متنوعةٍ، لكن ذاك الدِّيوان لم يكن معروفًا، وتعلمون بأنَّ الفتوحات تتَّسعُ في كل زمن، فبدأت الفتوحات في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ذاك الزَّمن هو زمنُ تأسيس رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقد مكث
(1)
أخرجها البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 256): "أن عمر أسقط ولد الأبوين، فقال بعضهم أو بعض الصحابة: يا أمير المؤمنين، هب أن أبانا كان حمارًا أليست أمنا واحدة؟ فشرك بينهم". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1693).
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 137)؛ حيت قال: "والعاقلة: أهل الديوان".
بمكةَ ثلاثَةَ عشرَ عامًا يغرِسُ العقيدة يُثبِّتُ أصولها؛ (يعني يغرسها) في قلوب الناس حتى تشرَّبها أولئك المؤمنون الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين لحِقَ بهم من آمن، ثم كانت الأُخوة الإسلامية، فقيام الدَّولة، ثم بدأت الفتوحات الإسلامية والغزوات تمتد شيئًا فشيئًا، وكذلك في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وإنْ كانت فترته قصيرة، ثم جاء عمر رضي الله عنه؛ فبدأت الفتوحات تتسع وكَثُرَ الجُندُ، وكثُرَ الداخلون في الإسلام، فوضع رضي الله عنه أعمالًا منها الدِّيوانَ الذي يُعرف بديوان الجند ..
فهؤلاء هم الجمهور يقولون: العصبة هم الذين مرَّ ذكرهم؛ لأنَّ هؤلاء العصبة هم الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين كانوا في زمنه، وفي زمن أبي بكر، وهذا الذي وضعه عمر؛ إنَّما كان في زمنه رضي الله عنه، وإذا ما جاء أمر عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم وعن صحابي؛ فقول الرَّسول -لا شك- يُقدَّمُ في هذا، ثم إن الجمهور تأولوا قولَ عمرَ، وقالوا: إنَّ عمرَ رضي الله عنه نعم فعل ذلك، لكن ما المانع أن يكون أولئك الذين في الدِّيوان، والذين ألزمهم هم عشيرةُ ذلك الذي كانت عليه الدِّية، فحينئذٍ يلتقي ما جاء عن عمر، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشى عمر وغيره من الصحابة بل كل مؤمن أن يخالف أمرًا جاء عن الله سبحانه وتعالى أوْ رسوله صلى الله عليه وسلم.
* قوله: (إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ. وَعُمْدَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ أَنَّهُ تَعَاقَلَ النَّاسُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم). وهذا هو مذهب الإمام مالك، والإمام أحمد
(1)
.
وقد ذكر أهل الحجاز؛ لأنه يتكلَّم عن مالكٍ، ومالكٌ في المدينة، إذنْ قال ذلك لأنَّه يقابل الحجازَ العراقُ، فالإمام أبو حنيفة في الكوفة، والإمام أحمد في بغداد دار السلام، وكذلك أيضًا الإمام الشافعيُّ كان في العرالتى، ثم انتقل إلى مصر. إذنْ المذهب الذي أشار إليه مذهب أهل الحجاز هو مذهب مالك.
(1)
تقدم ذكر المذهب أول المسألة.
* قوله: (وَفِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دِيوَانٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الدِّيوَانُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ)
(1)
.
لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن بأنَّ الدِّيةَ على العاقلة، هذا في أحاديثَ عِدَّةٍ، وطبَّقَ ذلك في قصة المرأتين من هذيل اللَّتين اقتتلتا. جاء أهل المرأة المقتولة إلي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكي يرفعوا أمرَهم إليه؛ فأمرهم عليه الصلاة والسلام بالدِّية على العاقلة
(2)
-وهم العصبة-. وجاء في حديث: "العاقلة العصبة"
(3)
.
* قوله: (وَاعْتَمَدَ الْكُوفِيُّونَ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم)
الكوفيون هم أبو حنيفة وأصحابه
(4)
، وإبراهيم النخعي
(5)
، وشيخه حماد بن أبي سليمان
(6)
، فهؤلاء يرون أنها في الديوان.
وحديث جبير بن مطعم أخرجه مسلم
(7)
وغيره
(8)
، ولكن العلماء أجابوا عن ذلك وقالوا بأن هذا يمكن أن يجمع بينه وبين ما جاء في الأحاديث الأخرى.
(1)
قال مالك في: "الموطأ"(2/ 868): "وقد تعاقل الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان أبي بكر، قبل أن يكون ديوان، وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب، فليس لأحد أن يعقل عنه غير قومه ومواليه".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
لم أقف عليه.
(4)
تقدم توثيق المذهب أول المسألة.
(5)
يُنظر: "تحفة الفقهاء" للسمرقندي (3/ 12)؛ حيث قال: "والصحيح قولنا؛ لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانت الدية على القبائل، فلما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين جعلها على أهل الديوان، وذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم من غير خلاف".
(6)
لم أقف على قوله.
(7)
أخرجه مسلم (2530).
(8)
أخرجه أبو داود (2925)، وأحمد في مسنده (16761).
على أن حديث جبير بن مطعم ليس نصًّا في المسألة، ولكنه حلف النصرة التي كانت في الجاهلية بين المتحالفين.
* قوله: (أَنَّهُ قَالَ: "لَا حِلْفَ
(1)
فِي الإِسْلَامِ")
(2)
.
كان في الجاهلية حلف سمي بحلف النصرة، وهو أن يأتي إنسان إلى آخر فيتحالفان على أن يكون بينهم تناصر وتوارث.
* قوله: (وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا يَزِيدُهُ الإِسْلَامُ إِلَّا قُوَّةً").
وإن الحلف الذي يزيده الإسلام قوة هو الذي لا يتعارض مع تعاليم الإسلام، أما الذي يتعارض مع أحكام الإسلام ويخرج عليها فهو باطل.
والعقود قبل الإسلام والعقائد والأخلاق كانت كثيرة، ومنها ما هو صالح، ومنها ما هو طالح، وحين جاء الإسلام لم يقرها كلها ولم يلغها، وإنما نظر بعين العدل إليها إما مقرًّا لها باعتبارها مضت مع تقرير ما يجب أن يكون عليه كعقد النكاح، وفي هذا قال الله تعالى:({قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]). أو باعتبارها خلقًا حميدًا كالشجاعة والإقدام والمضاربة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة، التي صارت بعد ذلك زوجه وأم المؤمنين، وفي هذا يقول الرسول:"إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ"، وإما ملغيًا لها كالعقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة، فتلك أمور تتنافى مع الدّين الحنيف. والإسلام دين عدل ولا يرضى بالظلم والاستعباد والاستغلال، ولهذا نهى عن الربا
(1)
لا حلف، أي: لا عقد ولا عهد على خلاف أمر الإسلام، وكانوا يتحالفون ويتعاقدون في الجاهلية على مغالبة بعضهم بعضًا، وفي كل ما يعن لهم، فهدم الإسلام ذلك، وإنما المحالفة والمعاقدة في الإسلام على إمضاء أمر الله واتباع أحكام الدين والاجتماع على نصر من دعا إليها. انظر:"تفسير غريب ما في الصحيحين" للحميدي (ص: 256).
(2)
تقدم تخريجه.
وحرمه، فقال الله سبحانه وتعالى متحدثًا عن الربا:{فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، فرأس مالك لك، ولكن الزيادة أصبحت باطلة وملغاة بحكم الإسلام، وإن أول ربا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم ربا عمه العباس.
* قوله: (وَبِالْجُمْلَةِ فَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ تَمَسُّكِهِمْ فِي وُجُوبِ الْوَلَاءِ لِلْحُلَفَاءِ).
الجمع أولى، فيقال: إن العقل كان في زمن الرسول، وأن عمر جعل ذلك في الديوان. أما عند الترجيح فَفِعْلُ الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعتمد.
يعني: قاسوا ذلك على الحلف الذي كان يعرف بالنُّصرة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي جِنَايَةِ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ، وَلَا مَوَالِيَ (وَهُمُ السَّائِبَةُ) إِذَا جَنَوْا خَطَأً).
(لا عصبة له) يعني لا يوجد له إخوة ولا أعمام ولا أبناء إخوة ولا أعمام.
وقد اختلف العلماء
(1)
حول من كانت هذه حالته من حيث الرجوع إلى بيت المال وعدمه.
(1)
في مذهب الحنفية قولان، الأول: أنه الدية في بيت المال، والرواية الثانية: أنها تجب في ماله.
يُنظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (5/ 60)؛ حيث قال: "من لا عاقلة له في رواية: تجب في بيت المال؛ لأنه لو مات ولا وارث له ورثه بيت المال، فإذا جنى يكون عليه ليكون الغنم بالغرم. وفي رواية: في مال الجاني".
ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة تجب في بيت المال.
يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص: 476)؛ حيث قال: "ومن لا عاقلة له ففي بيت المال".
ويُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (9/ 354)؛ حيث قال: "بيت المال؛ فيتحمل جناية من لا عصبة له بنسب ولا ولاء، أو له عصبة معسرون، أو فضل عنهم شيء من=
وإن قيل بالرجوع، فهل له حق ثابت في المال باعتبار أن للصغار والمجانين والفقراء والمساكين حقًّا أيضًا في هذا المال، فما وجه تخصيص من لا عصبة له ولا موالي؟
وإننا في هذا ننظر إلى منهج رسول الله وسنته والخلفاء من بعده؛ ففي زمن النبي قتل أنصاري بخيبر ولم يعرف قاتله، فوداه
(1)
صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين
(2)
. ثم يأتي في زمن عمر حادث مثيل حيث وقع رجل في زحام فهلك، ولم يعرف قاتله فوداه عمر من بيت المال مستشيرًا علي بن أبي طالب
(3)
.
ففِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلُ عمر يقوّي الرأي القائل بأنه يودى من بيت المال، وهو رأي أكثر العلماء. وبعض العلماء يرى بأنه لا يؤخذ من بيت المال؛
= الواجب؛ فيجب الباقي في بيت المال إن كان الجاني مسلمًا؛ فإن كان مستأمنًا أو ذميًّا فلا، برل الدية فى ماله على المذهب".
ويُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 123)؛ حيث قال: " (ومن لا عاقلة له، أو لم تكن له عاقلة تحمل الجميع
…
إن كان مسلمًا أخذ من بيت المال). هذا المذهب".
(1)
وديت القتيل: أَدِيه (دية) أعطَيتُ ديتَه. (واتديْتً) أخذتُ ديتَهُ. انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص: 335).
(2)
أخرجه البخاري (3173)، ومسلم (1669) عن رافع بن خديج، أنهما قالا: خرج عبد الله بن سهل بن زيد، ومحيصة بن مسعود بن زيد، حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك، ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلًا فدفنه، ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود، وعبد الرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم، فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كبر الكبر في السن"، فصمت، فتكلم صاحباه، وتكلم معهما، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، فقال لهم:"أتحلفون خمسين يمينًا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم"، قالوا: وكيف نحلف، ولم نشهد؟ قال:"فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا"، قالوا: وكيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله.
(3)
أخرجه ابن المنذر في الأوسط (13/ 445) عن الأسود: "أن رجلًا أصيب عند البيت، فسأل عمر عليًّا، فقال له عليٌّ: أده من بيت مال المسلمين".
لأن الحق فيه مشترك غير خاص به، وإذا عجز فيسقط عنه لا أن يُدفع من المال العام.
* قوله: (هَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ عَقْلٌ؟ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ فَعَلَى مَنْ يَكُونُ؟ فَقَالَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مَوَالِيَ: لَيْسَ عَلَى السَّائِبَةِ عَقْلٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ العَقْلَ عَلَى الْمَوَالِي، وَهُوَ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ).
* قوله: (وَقَالَ مَنْ جَعَلَ وَلَاءَهُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ: عَلَيْهِ عَقْلُهُ، وَقَالَ مَنْ جَعَلَ وَلَاءَهُ لِلْمُسْلِمِينَ: عَقْلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ).
والذي ليس له عصبة لا يخلو أن يكون له مولى أو لا، فإن كان له مولى فعليه الدية لأنه عصبته؛ حيث يرثه فما دام يرثه فينبغي أيضًا أن يتحمل من العقل والأمر الآخر.
* قوله: (وَمَنْ قَالَ: إِنَّ لِلسَّائِبَةِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ -جَعَلَ عَقْلَهُ لمَنْ وَلَّاهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ قَدْ حُكِيَتْ عَنِ السَّلَفِ
(1)
، وَالدِّيَاتُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُودَى فِيهِ).
المؤلف لم يعرض للمسألة ولعله ما وقف على النصوص التي وردت في قصة القتيل في خيبر ولم يعرف -الغالب- أنه قتل من قبل اليهود.
* قوله: (وَالْمُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الدِّيَةِ هِيَ الأُنُوثَةُ وَالْكُفْرُ وَالْعُبُودِيَّةُ).
لأن الأنوثة والعبودية نقص، وهو من أسباب التخفيف في الشريعة الإسلامية؛ فالمرأة بالنسبة للرجل ناقصة في أمور كثيرة، كما أن العبد بالنسبة لسيده ناقص؛ حيث لا يملك حرية التصرف في نفسه، فهو كالسلعة.
فالناس يتفاوتون في الدية إسلامًا وكفرًا وذكورية وأنثوية وحرية وعبودية.
(1)
تقدم تفصيل ذلك.
* قوله: ({لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر: 20]).
عند الجمهور "لا يُقتل مسلم بكافر" كما جاء في الحديث
(1)
.
ودية المرأة على النصف من دية الرجل، كما جاء في كتاب عمرو بن حزم
(2)
.
ووقع خلاف بين العلماء
(3)
في اختلاف الدية بين الكفار بمعنى هل الذمي مثل المجوسي أم أن هناك فرقًا بينهما؟
* قوله: (أَمَّا دِيَةُ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا
(4)
عَلَى أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ فَقَطْ).
لوجود النص. وأما الأثر أنها كدية الرجل، فأجاب عنه العلماء وجمعوا بينه بأنه مخصص بهذه الرواية بالنسبة لدية النفس، لكن بالنسبة للجروح هي تعادل الرجل إلى الثلث، ثم بعد ذلك يختلف الأمر.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الشِّجَاجِ وَالأَعْضَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي دِيَاتِ الْجُرُوحِ وَالْأَعْضَاءِ).
(1)
أخرجه البخاري (3047) عن أبي جحيفة رضي الله عنه، قال: "قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم
شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر".
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (16738) عن معاذ بن جبل قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دِيةُ المرأةِ عَلى النِّصف منْ ديةِ الرَّجلِ". وليس في كتاب عمرو بن حزم. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2250).
(3)
سيأتي في المسألة التالية دية أهل الذمة.
(4)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 395)؛ حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل".
* قوله: (أَمَّا دِيَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا قُتِلُوا خَطَأً فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ).
المؤلف هنا لم يتعرض للقتل العمد، وإنما حديثه عما إذا قتلوا خطأً.
ورأي الجمهور -وهو الصحيح- أن المسلم لا يقتل بالذمي، وخالفهم أبو حنيفة في هذا. ولكن كثيرًا من الفقهاء يقولون في هذه الحالة بتغليظ ديته؛ لأن عثمان بن عفان فعل ذلك. فإذا قلنا: إن دية الحر ألف دينار، كانت دية الذمي خمسمائة دينار؛ لأن ديته على النصف من دية الحر، فإذا غلظت أصبحت مضاعفة، فتصير كدية الحر.
وهذه مسألة لم يتعرض لها المؤلف.
ولا شك أن قتل الذمي عمدًا تعدٍّ، والتعدي ممنوع ومحرم بنص القرآن وسنة نبيه الكريم، فمن قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة.
* قوله: (أَحَدُهَا: دِيَتُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ).
وهو مذهب الإمامين مالك
(1)
، وأحمد
(2)
.
* قوله: (ذُكْرَانُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذُكْرَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النَّصْفِ مِنْ نِسَائِهِمْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ).
الضمير (هم) في (نسائهم) راجع إلى المسلمين.
* قوله: (وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(3)
، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ دِيَةُ جِرَاحِهِمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ).
(1)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (3/ 295)؛ حيث قال: "وأما دية اليهودي والنصراني، فإنها مثل نصف دية الحر المسلم".
(2)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 398)؛ حيث قال: "ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم، ونساؤهم، على النصف من دياتهم".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 398)؛ حيث قال: "ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم، ونساؤهم على النصف من دياتهم. هذا ظاهر المذهب، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز".
وأحمد كما قلنا.
* قوله: (وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ دِيَتَهُمْ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنَ التَّابِعِينَ)
(2)
.
وهذا القول للإمام الشافعي، ويعني أن الدية ليست النصف كما قال الرأي الأول، وإنما الثلث.
وعمر وعثمان وعفان أسماء ممنوعة من الصرف، ولذا جرت بالفتحة نيابة عن الكسرة.
* قوله: (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ دِيَتَهُمْ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ)
(4)
.
ودليل الفريق الأول الذي سيذكره المؤلف دليل حسن، ويليه الفريق الثاني وهو متأول بأنه مردود إلى ما كان في زمن رسول الله، والدليل
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 308)؛ حيث قال: "مذهب الشافعي: أن ديته ثلث دية المسلم في العمد والخطأ".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 117)، حيث قال:"روي هذا عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وبه قال الحسن البصري وعكرمة وعطاء ونافع مولى بن عمر وعمرو بن دينار".
(3)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 84)؛ حيث قال: "دية أهل الذمة من أهل الكتاب وغيرهم مثل دية المسلمين، رجالهم كرجالهم ونساؤهم كنسائهم".
(4)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 117)؛ حيث قال: "قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وعثمان البتي والحسن بن حي: دية المسلم والكافر واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد سواء. وهو قول ابن شهاب، وقال أبو عمر: روي هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين. وروى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يجعلون دية اليهودي والنصراني إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم".
الثالث أخرجه البيهقي
(1)
وهو ضعيفٌ، وبهذا يكون القول الأول هو أرجح الأقوال الثلاثة.
* قوله: (فَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "دِيَةُ الْكَافِرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ")
(2)
.
وجاء في لفظ آخر أو في حديث آخر: "دِيَةُ الْمُعَاهَدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ"
(3)
وفي لفظ ثالث: "دِيَةُ المعاهَد على النصف من دية الحر".
وهذه الأخيرة رواها الإمام أحمد
(4)
، والنسائي
(5)
، وغيرهما
(6)
، والترمذي
(7)
، وهو حديث حسن.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ})[النساء: 92].
ولكن الآية مطلقة، وجاء هذا الحديث فحددها، والكافر لا يساوي المسلم أبدًا، فمكانة المسلم ومنزلته أعلى.
(1)
سيأتي.
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في "الديات"(ص 47).
(3)
لم أقف عليه بهذا اللفظ مرفوعًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو بهذا اللفظ عن ابن عمر في "المعجم الأوسط"(7/ 309).
(4)
أخرجه أحمد (6692) ولفظه: "دية الكافر نصف دية المسلم".
(5)
أخرجه النسائي (7181) ولفظه: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين، وهم اليهود، والنصارى".
(6)
أخرجه أبو داود (4583).
(7)
أخرجه الترمذي (1413) ولفظه: "دية عقل الكافر نصف دية عقل المؤمن". والحديث حسنه الألباني في "إرواء الغليل"(2251).
* قوله: (وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَكُلِّ ذِمِّيٍّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمٍ. قَالَ: وَكَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَان، وَعَلِيٍّ حَتَّى كَانَ مُعَاوِيَةُ، فَجَعَلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ نِصْفَهَا، وَأَعْطَى أَهْلَ الْمَقْتُولِ نِصْفَهَا).
في هذه الرواية الدية كاملة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مرورًا بأبي بكر وعمر وعثمان إلى عليٍّ حتى جاء معاوية فجعل النصف في بيت مال المسلمين والنصف الآخر للمقتول.
* قوله: (ثُمَّ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَأَلْغَى الَّذِي جَعَلَهُ مُعَاوِيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ)
(1)
.
وحين آلت مقاليد الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز قضى بالنصف للمقتول، وألغى النصف الذي جعله معاوية في بيت المال. إلا أن هذا الحديث ضعيفٌ، ولا يمكن أن نأخذ بحديث ضعيفٌ مع وجود حديث صحيح. وعمر بن عبد العزيز كان من أتقى الناس وقام بأمور كبيرة في خدمة الدولة الإسلامية بإرساء قواعد العدل والمساواة وسيرته نيرة معروفة.
* قوله: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمْ يُقْضَ لِي أَنْ أُذَكِّرَ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ).
يعني لم يتمكن من أن يذكر لعمر بن عبد العزيز أن الدية كاملة كالمسلم؛ ذلك أن الزهري من التابعين الذين يرون أن ديته كاملة كالمسلم. والزهري من أخص الناس علاقة بعمر بن عبد العزيز، وقد أوعز إليه تدوين السنة، فكان من أوائل من بدؤوا بتدوين السنة
(2)
. وتدوين السنة كان منهيًّا
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10/ 95)، والحديث مرسل. انظر:"نصب الراية" للزيلعي (4/ 368).
(2)
أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 331) عن سعيد بن زياد مولى=
عنه في أول الأمر حتى لا يلتبس بالقرآن
(1)
، ثم أبيح بعد زوال العلة بتدوين القرآن في المصاحف وانتشارها بل وتوزيعها، فدونت السنة لزوال العله؛ ولأن الحاجة ماسة إلى ذلك بغية الحفاظ على الشطر الثاني من الشريعة. يقول الله تعالى:({وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ})[النحل: 44].
والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ"
(2)
وهو السنة، وهذه السنة الصحيحة المطهرة وحي، ولكنها تختلف عن القرآن من حيث إننا متعبدون بتلاوة القرآن بخلاف السنة التي نحن ملزمون بأن نعمل بصحيحها؛ يقول الله تعالى:({فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]).
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في وقت حياته، فلما توفي الرسول كان الرد إلى سنته
(3)
.
وهذه السنة هيَّأ الله لها نخبة من العلماء الأعلام والجهابذة الكبار، فذبُّوا عنها وبينوا صحيحها من سقيمها، وردوا ما فعل أولئك الزنادقة والواضعون وغيرهم حتى حصروها، فوُضع علم المصطلح وعلم الجرح
= الزبيريين قال: سمعت ابن شهاب يحدث سعد بن إبراهيم قال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا".
(1)
أخرجه مسلم (3004) عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه
…
". الحديث.
(2)
أخرجه أبو داود (4604) عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه
…
" الحديث. وصححه الألباني في "المشكاة" (2870).
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 186) عن ميمون بن مهران: قال: "الرد إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله إن كان حيًّا، فإن قبضه الله إليه فالرد إلى السنة".
والتعديل إلى غير ذلك، ثم صارت بحمد الله مكتبة نتناولها من أيسر الطرق وأسهلها، وتجدها مبثوثة في كتب الفقه والعقيدة والتفسير، فلا تكاد تقرع بابًا من أبواب الفقه، بل فصلًا من فصوله إلا ووجدت السنة المطهرة مطلعة.
* قوله: (فَأُخْبِرَهُ أَنَّ الدِّيَةَ كانَتْ تَامَّةً لِأَهْلِ الذِّمَّةِ. وَأَمَّا إِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا عَلَى مَنْ لَا يَرَى الْقِصَاصَ فِيهِ).
لأنه إذا رأى القصاص فيه، فلا حديث عن الدية إلا بعد العدول عنه.
(على من لا يرى القصاص)، أي: عند الذين يرون أنه لا يقتل حر بعبد، وهو مذهب جمهور العلماء مالك
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
.
* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ).
وهذا هو أشهر الأقوال، بل ورأي الجمهور، ويعني أن على من قتل عبدًا خطأ أو عمدًا دفع قيمته بالغة ما بلغت بغض النظر عن مساواة القيمة مع دية الحر أو زيادتها عليها أو نقصانها عنها؛ لأن العبد بمثابة سلعة من السلع، والسلعة إذا أتلفت تؤخذ قيمتها، وقد أتلف العبد بإزهاق روحه، فتؤخذ قيمته، حيث إن العبرة في البيع والشراء إنما هي القيمة.
* قوله: (وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
(4)
،
(1)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(2/ 288)؛ حيث قال: "مكافئة لها في الحرية فلا يقتل حر بعبد".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 17)؛ حيث قال: "لا يقتل الحر بعبده وبعبد غيره".
(3)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 267)؛ حيث قال: " (ولا) يقتل (حر بقن) ".
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 296)؛ حيث قال: "وأما العبد، فلا دية له على مذهب مالك، وإنما هو كسلعة من السلع، فعلى قاتله خطأ كان أو عمدًا قيمته بالغة ما بلغت في ماله".
وَالشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو يُوسُفَ)
(2)
.
وأحمد.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ).
يقال (المُسَيِّبُ) أيضًا.
* قوله: (وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(3)
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ
(4)
: لَا يَتَجَاوَزُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الدِّيَةَ).
وقال أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن بعدم تجاوز قيمته دية الحر؛ لكونه ناقصًا عنه، فكيف تكون قيمته أعلى من الحر أو مساوية له؟
* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: فِيهِ الدِّيَةُ
(5)
، وَلَكِنْ لَا يَبْلُغُ بِهِ دِيَةَ الْحُرِّ، يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا).
(1)
يُنظر: "الإقناع" للماوردي (ص: 166)؛ حيث قال: "ودية العبد قيمته ما بلغت".
(2)
يُنظر: "الهداية شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (4/ 209)؛ حيث قال: "وقال أبو يوسف تجب قيمته بالغة ما بلغت".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 131)؛ حيث قال: "إن كانت قيمة العبد أو أكثر فهو مذهب الشافعي وأبي يوسف وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وشريح ومكحول وابن شهاب الزهري".
(4)
يُنظر: "الهداية شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (4/ 209)؛ حيث قال: "ومن قتل عبدًا خطأ فعليه قيمته، لا تزاد على عشرة آلاف درهم، فإن كانت قيمته عشرة آلاف درهم أو أكثر قضي له بعشرة آلاف إلا عشرة، وفي الأمة إذا زادت قيمتها على الدية خمسة آلاف إلا عشرة، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد".
(5)
روي ذلك عن الشعبي وإبراهيم النخعي.
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 131)؛ حيث قال: "قالت طائفة من فقهاء الكوفة لا يبلغ به دية الحر ينقص منها شيء، روي ذلك عن الشعبي وإبراهيم، وقال سفيان الثوري: ينقص منه الدرهم ونحو".
وهذا هو القول الثالث، ويرى أن للعبد المقتول ديةً، إلا أنها تكون أقل من دية الحر؛ لكونه ناقصًا، ولا ينبغي أن يعادل بالحر.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الرِّقَّ حَالُ نَقْصٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَزِيدَ قِيمَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرّ. وَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ وَلَكِنْ نَاقِصَةً عَنْ دِيَةِ الْحُرّ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ نَاقِصٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ نَاقِصًا عَنِ الْحُرِّ لَكِنَّ وَاحِدًا بِالنَّوْعِ).
(لكن واحدًا بالنوع) يعني أن كلًّا من الحر والعبد يجمعهما إنسانيتهما وآدميتهما. ولكن الفرق بينهما يكمن في أن هذا الحر عبوديته لله وحده بخلاف العبد فهو مملوك قام عليه الرق. وفرق بين الرق والعبودية لله سبحانه وتعالى، فذاك عبودية طاعة واستسلام لإنسان مثلك، وهذه عبودية ذل وانقياد وطاعة وخضوع وعبادة لله.
* قوله: (أَصْلُهُ الْحَدُّ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالْخَمْرِ وَالطَّلَاقِ).
أي: يجمعهما اسم إنسان.
* قوله: (وَلَوْ قِيلَ فِيهِ: إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ -لَكَانَ قَوْلًا لَهُ وَجْهٌ، أَعْنِي: فِي دِيَةِ الْخَطَأِ).
وهذا لا أصل له، فلا يقال به؛ لأن الدِّين ليس بالرأي. وكان عليٌّ يقول:"لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه".
فالدين توقيفي، وأحكامه منها ما هو معلل، ومنها ما لا يعلل، فثفوض أمره إلى الله متعبدين.
والواقع أن العبد سلعة تباع وتشترى، فتختلف قيمته ارتفاعًا وانخفاضًا بالنظر إلى ما يتصف به العبد من صفات، قوةً وضعفًا، وشبابًا وشيبًا، وصحةً ومرضًا، وعلمًا وجهلًا. والمعتبر في كل هذا إنما هو القيمة.
* قوله: (لَكِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ).
يعني لم يقل بهذا الرأي أحد.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ مَالٌ قَدْ أُتْلِفَ، فَوَجَبَ فِيهِ الْقِيمَةُ).
يعني مستند مالك فيما ذهب إليه من حيث دفع القيمة أن العبد بضاعة وسلعة أتلفت فتجب فيها القيمة.
* قوله: (أَصْلُهُ سَائِرُ الأَمْوَالِ).
الأصل الذي ألحق به العبد هو المال والأموال إذا أتلفت أو أتلف منها شيء دفعت القيمة، فكذلك العبد إذا أتلفت بإزهاق روحه دفعت قيمته.
* قوله: (وَاخْتُلِفَ فِي الْوَاجِبِ فِي الْعَبْدِ عَلَى مَنْ يجِبُ؟).
أي: اختلفوا فيما يجب على قاتل العبد من حيث كون الدفع على العاقلة أو على القاتل نفسه. وليس فيما يجب على العبد المقتول، كما يتوهم بعض الناس.
* قوله: (فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: هُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، وَهُوَ الأَشْهَرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ
(2)
، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسِهِ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (10/ 406)؛ حيث قال: "وكذلك من قتل عبدًا قيمته مائة وخمسون درهمًا، فإنه تتحمله العاقلة".
(2)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (3/ 238)؛ حيث قال: "وإن قتل عبدًا خطأ أو عمد خطأ، ففي قيمته قولان؛ أحدهما: أنها تحملها العاقلة؛ لأنه يجب القصاص والكفارة بقتله، فحملت العاقلة بدله كالحر".
(3)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 296)؛ حيث قال: "دية العبد، وأما العبد فلا دية له على مذهب مالك، وإنما هو كسلعة من السلع، فعلى قاتله خطأ كان أو عمدًا قيمته بالغة ما بلغت في ماله، ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئا".
وقال مالك وأحمد
(1)
.
وفي الرواية الأُخرى عن الإمام الشافعي
(2)
: "أنه على القاتل نفسه قياسًا على القاتل عمدًا؛ زجرًا له حتى لا يستخف بأنفس وروح العبيد؛ لأنهم آدميون ولهم الحرمة التي لغيرهم".
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَالِكٍ تَشْبِيهُ الْعَبْدِ بِالْعُرُوضِ).
يعني تشبيهه بعروض التجارة.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ قِيَاسُهُ عَلَى الْحُرِّ).
لأن دية الحر في غير العمد إنما نكون على العاقلة، وهم عصبة الإنسان، أي: الذين يعصبون، وهم الذي يرثون تعصيبًا.
* قوله: (وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ دِيَةُ الْجَنِينِ).
الجنين هو الحمل الذي في بطن أمه، فإذا ما اعتدي على الأم بضرب، فسقط ذلك الجنين، فالمؤلف يدرجه في أنواع الخطأ.
على أن للجنين صورًا وأحوالًا، ولكل حالة حكمها، حيث إنه من الممكن أن يسقط حيًّا ثم يموت، وفي هذه الحالة إن كان حرًّا ففيه دية، وإن كان عبدًا ففيه قيمته، أو أن يسقط ميتًا وأمه حيّة أو تموت أمه، فيسقط بعد موت أمه، والمشهور أن فيه غرة
(3)
عبد أو أمة.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 382)؛ حيث قال: "إذا قتل العبد قاتل، وجبت قيمته في مال القاتل، ولا شيء على عاقلته، خطأ كان أو عمدًا".
(2)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (3/ 238)؛ حيث قال: "وإن قتل عبدًا خطأ أو عمد خطأ، ففيه قيمته قولان:
…
الثاني: أنه لا تحمله العاقلة؛ لأنه مال، فلم تحمل العاقلة بدله كسائر الأموال".
(3)
سميت الغرة غرة؛ لأنها أقل المقادير في الديات، وأقل الشيء أوله في الوجود، ولهذا يسمى أول الشهر غرة؛ لأنه أول شيء يظهر منه. انظر:"مجمع الأنهر" لشيخي زاده (2/ 649).
* قوله: (وَذَلِكَ؛ لأنَّ سُقُوطَ الْجَنِينِ عَنِ الضَّرْبِ لَيْسَ هُوَ عَمْدًا مَحْضًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْدٌ فِي أُمِّهِ، خَطَأٌ فِيهِ).
وقد يكون ضرب الأم عمدًا أو غير عمد، كما جاء في قصة مرأتي هذيل عندما اقتتلتا، فأخذت إحداهما حجرًا فضربت به الأُخرى فقتلتها وما في بطنها، فحكم الرسول بدية المرأة على عاقلة المرأة القاتلة، وأمر بغرة عبد أو أمة للجنين
(1)
.
* قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ أَيْضًا فِي الْوَاجِبِ).
أولًا: لا يجوز التعدي حتى على الجنين، ولذلك تكلم العلماء في أمر الإجهاض وفي صوره الجائزة وغير الجائزة، ولكننا هنا نتحدث عن تعد وقع على امرأة فسقط جنينها فما الحكم الشرعي في ذلك؟
* قوله: (فِي ضُرُوبِ الأجِنَّةِ، وَفِي صِفَةِ الْجَنِينِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْوَاجِبُ).
ضروب الأجنة، أي: أصناف الأجنة؛ لأن هذا الجنين الذي سقط قد يكون في أول حياته وقد يكون مضغة وقد يكون تخلق، وربما كان الساقط غير كامل كخروج يد أو رجل أو رأس، والمذهب أن خروج عضو من الأعضاء خروج كامل فيه غرة عبد أو أمة، ولو سقطت بسبب الضربة عدد من الأجنة، يكون كل واحد غرة عبد أو أمة.
* قوله: (وَعَلَى مَنْ تَجِبُ، وَيمَنْ يجِبُ، وَفِي شُرُوطِ الْوُجُوبِ، فَأَمَّا الأَجِنَّةُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا
(2)
عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ وَجَنِينِ الأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا هُوَ غُرَّةٌ).
(1)
أخرجه البخاري (5758) ومسلم (1681) عن أبي هريرة: "أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأُخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة".
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 297) حيث قال: "ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى في الجنين يطرح من بطن أمه بغرة عبد أو وليدة". وأجمع أهل العلم على الحكم في ذلك".
والغرة فسرها الرسول وبيَّنها بإضافتها إلى العبد أو الأمة، ولهذا فالأفضل أن يقال: غرة عبد أو أمة.
وجاء في بعض الروايات: "غرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل"، إلا أن ذكر الفرلس والبغل جاء في رواية ضعيفة بخلاف إضافة العبد أو الأمة، فقد جاءت في الحديث المتفق عليه.
* قوله: (لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ "أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ")
(1)
.
"رمت إحداهما الأُخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها"، كما جاء في الروايات المشهورة، فقضى الرسول الكريم بغرة عبد أو أمة، وهذه هي الرواية المشهورة.
وسميت بالغرة؛ لأنها كانت أنفس الأموال في ذلك الوقت.
وقد اختلف العلماء في تحديد السن وفي الأوصاف الواجب توفرها.
* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْغُرَّةِ الْوَاجِبَةَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ رَأَى أَنَّ الْغُرَّةَ فِي ذَلِكَ مَحْدُودَةٌ بِالْقِيمَةِ -وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ- هِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ
(2)
إِلَّا أَنَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ عَلَى أَهْلِ الدَّرَاهِمِ هِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ -قَالَ: دِيَةُ الْجَنِينِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ
(3)
،
(1)
تقدم تخريجه أول مسألة دية الجنين.
(2)
وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة:
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 289)؛ حيث قال: "فقال مالك: خمسون دينارًا أو ستمائة درهم".
وينظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 394)؛ حيث قال: "فقومت بنصف عشر الدية خمس من الإبل، أو ستمائة درهم أو خمسين دينار".
وينظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 408)؛ حيث قال: "الغرة قيمتها نصف عشر الدية".
(3)
وهو مذهب الحنفية.
يُنظر: "مجمع الأنهر" لشيخي زاده (2/ 649)؛ حيث قال: "ومن ضرب بطن امرأة، فألقت جنينًا ميتًا، فعلى عاقلته غرة خمسمائة درهم".
وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَالَ: سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ).
وقيمة الغرة عند من رأوها محدودة بالقيمة هي خمس من الإبل، مثل دية الأسنان التي هي خمس من الإبل.
وعند تطبيق هذه على قول العلماء (نصف عشر الدية) تجد أنها منطبقة للمبلغ المذكور. ولكن ذكر المؤلف كلمة (أمه) في قوله (هي نصف عشر دية أمه) أوجد خللًا بل وتغايرًا لواقع الحال؛ ذلك أن الدية مائة من الإبل أو ألف دينار أو عشرة آلاف درهم أو اثنا عشر ألفًا، ودية المرأة على النصف من دية الرجل، فلو أننا أخذنا العشرة آلاف درهم (الدية الكاملة) فقسمناها على نصفين، وأخذنا نصفًا وهو خمسة آلاف وهي (دية المرأة) فإن عشر الخمسة آلاف خمسمائة درهم، ونصف ذلك العشر مائتان وخمسون درهمًا لا خمسمائة درهم، كما أورد المؤلف، ولهذا نرى أن ذكر (أمه) كان وهمًا من الناسخ أو المؤلف.
وفي حالة حذف (أمه) يستقيم الكلام، فيكون عشر العشرة آلاف ألف درهم ونصف هذا العشر خمسمائة كما ذكر المؤلف. وما قلناه في العشرة آلاف يماثل لو قلنا بالاثني عشر، وكذلك لو رددناه إلى الإبل بطريقة الحساب نفسها؛ لأن عشر مائة عشرة ونصف عشرة خمسة، وهي قيمة الجنين.
* قوله: (وَالَّذِينَ لَمْ يَحُدُّوا فِي ذَلِكَ حَدًّا، أَوْ لَمْ يَحُدُّوهَا مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ، وَأَجَازُوا إِخْرَاجَ قِيمَتِهَا عَنْهَا -قَالُوا: الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ قِيمَةُ الْغُرَّةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ).
فالقائل بجواز إخراج القيمة ينظر إلى قيمة الغرة فقط بالغة ما بلغت.
* قوله: (وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ
(1)
: كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ غُرَّةٍ أَجْزَأَ، وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ الْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ فِيمَا أَحْسَبُ).
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 75)؛ حيث قال: "وقال داود وأهل الظاهر كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ إلا أن يتفق الجميع على سن ما أنه لا يجزئ".
ومن العلماء من قيدها بأن تكون خالية من العيوب
(1)
. وللشافعية
(2)
قيود خالفهم الجمهور فيها، فقد اشترطوا ألا تقل الغرة عن سبع سنوات، ولا تصل إلى خمسة عشر عامًا؛ لأن الغلام أو الجارية في هذه السن يحتاج إلى حضانة ورعاية.
واشترطوا على الذكر ألا يصل إلى خمسة عشر لدخوله على نساء، وعلى الأنثى ألا تصل عشرين لتغيرها في هذه السن.
ومما لا شك فيه أن سن الغلام أو الجارية إذا كان خمسة عشر يكون أولى لبلوغه سن الشباب والإدراك، وكونه يحسن التصرف، ويستطيع القيام بالخدمة.
والجمهور يرى أن مسألة احتياجهما إلى الحضانة غير مؤثر، كما أنه إذا كان المقصود من دخول الغلام على أجنبيات فله وجه، أما دخوله على سيدته فغير مسلَّم.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي جَنِينِ الأَمَةِ وَفِي جَنِينِ الْكِتَابِيَّةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
إِلَى أَنَّ في جَنِينَ الْأَمَةِ عُشْر قِيمَةِ أُمِّهِ).
(1)
مثل الشافعية والحنابلة:
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 394)؛ حيث قال: "مع وصفها بما قدمنا من السن والسلامة من العيوب، فلا يقبل منه الغرة في الجنين الحر المسلم إلا بهذه القيم".
وينظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 407)؛ حيث قال: "وتجب الغرة سالمة من العيوب، وإن قل العيب؛ لأنه حيوان وجب بالشرع، فلم يقبل فيه المعيب".
(2)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (2143)؛ حيث قال: "لا يقبل في الغرة ما له دون سبع سنين؛ لأن الغرة هي الخيار، ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار، بل يحتاج إلى من يكفله، ولا يقبل الغلام بعد خمس عشرة سنة؛ لأنه لا يدخل على النساء، ولا الجارية بعد عشرين سنة؛ لأنها تتغير".
(3)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (8/ 333)؛ حيث قال: "في جنين الأمة من غير السيد عشر قيمة أمه".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 396)؛ حيث قال: "أما جنين الأمة، فقد=
وكذلك أحمد
(1)
، فيكون هذا هو رأي الجمهور ..
* قوله: (ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَوْمَ يُجْنَى عَلَيْهِ).
وقت الجناية لا بعد ذلك.
* قوله: (وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ كَانَ أُنْثَى فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)
(2)
.
وهذا لا دليل عليه؛ لأن هذا التفريق بين الذكر والأنثى يحتاج إلى دليل، ولا دليل، والرسول خير بينهما.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ عِنْدِهِمْ
(3)
أَنَّ جَنِينَ الأَمَةِ إِذَا سَقَطَ حَيًّا أَنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
(4)
: فِي جَنِينِ الأَمَةِ إِذَا سَقَطَ مَيِّتًا مِنْهَا مَا
= يكون تارةً حرًّا إن كان من سيدها، ومملوكًا إن كان من زوج أو زنا، فإن كان حرًّا ففيه غرة كاملة، سواء ألقته وهي على رفها أو بعد عتقها، وإن كان مملوكًا ففيه عشر قيمة أمة".
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 410)؛ حيث قال: "إذا كان جنين الأمة مملوكًا، فسقط من الضربة ميتًا، ففيه عشر قيمة أمه".
(2)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 135)؛ حيث قال: "وفي جنين الأمة إذا كان ذكرًا نصف عشر قيمته لو كان حيًّا، وعشر قيمته إن كان أنثى".
(3)
يقصد الحنفية.
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 89)؛ حيث قال: "وإن خرج الجنين حيًّا بعد الضربة ثم مات، ففيه الدية كاملة؛ لأنه لما انفصل حيًّا كان نفسًا من كل وجه، وقتل النفس المؤمنة يوجب الدية".
(4)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 89)؛ حيث قال: "فلهذا جوَّزنا تفضيل الأنثى على الذكر، ثم وجوب البدل في جنين الأمة قول أبي حنيفة ومحمد، وهو الظاهر من قول أبي يوسف. وعنه في رواية: أنه لا يجب إلا نقصان الأم إن تمكن فيها نقص، وإن لم يتمكن لا يجب فيها شيء كما في جنين البهيمة".
نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّهِ، أَمَّا جَنِينُ الذِّمِّيَّةِ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: فِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ).
وأحمد
(4)
أيضًا.
فيكون هذا رأي الأئمة الأربعة كلهم: عشر الدية، وعشر القيمة للأمة.
* قوله: الَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ دِيَةُ الْمُسْلِمِ).
أبو حنيفة يرى أن دية الذمية هي دية المسلم أو المسلمة.
* قوله: (وَالشَّافِعِيُّ
(5)
عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ).
والشافعي يرى أن ديته ثلث دية المسلم.
* قوله: (وَمَالِكٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ).
وكذلك أحمد
(6)
. فيريان أن ديته نصف دية المسلم.
(1)
يُنظر: "المدونة"(4/ 632)؛ حيث قال: "قلت: أرأيت جنين الذمية كم فيه؟ قال: عشر دية أمه أو نصف عشر دية أبيه، وهو سواء".
(2)
يُنظر: "البيان" للعمراني (11/ 502)؛ حيث قال: "فإن كان الأبوان مسلمَيْنِ .. وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم. وإن كانا ذميين وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم".
(3)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 88)؛ حيث قال: "فأما في حكم البدل لا ضرورة، فإيجابه ممكن باعتبار الجزئية، وهي معلومة حقيقة، فكان الواجب عشر دية الأم إذا ثبت هذا في جنين الحر".
(4)
تقدم ذكر مذهب أحمد.
(5)
تقدم ذكر مذهب أحمد.
(6)
يُنظر: "معونة أُولي النهى" لابن النجار (10/ 331)؛ حيث قال: " (وفي) جنين (محكوم بكفره)؛ كجنين الذمية من زوجها الذمي: (غرة قيمتها عشر دية أمه) ".
* قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ الْجَنِينِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ يَخْرُجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا وَلَا تَمُوتَ أُمُّهُ مِنَ الضَّرْبِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا مَاتَتْ أُمُّهُ مِنَ الضَّرْبِ، ثُمَّ سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا).
لأنه لو خرج حيًّا يكون فيه دية، وهناك علامات للحياة، وبعضها متفق عليها بين العلماء، وآخر مختلف فيها. وقد جاء في حديث عن الرسول أنه قال:"إذا استهل المولود ورث وورث"
(1)
. و (استهل) يعني صاح وصرخ، ومعنى هذا أنه حي، فيرث ويورث. وفي حديث آخر:"مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُ صَارِخًا إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا"
(2)
. وهذا الحديث بيَّن أنه يمسه الشيطان فيستهل صارخًا، ولذلك كان من آداب إتيان الزوجة أن تدعو الله أن يجنبكما الشيطان ويجنب الشيطان ما يرزقكما، فيعجز الشيطان من إضراره.
* قوله: (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَمَالِكٌ
(4)
: لَا شَيْءَ فِيهِ).
هذا مذهب مالك وأبي حنيفة
(5)
، وربما كان قولًا آخر للشافعي
(6)
أو بعض أصحابه. لكن رواية الشافعي المشهورة غير هذا، وسيأتي ذكرها.
(1)
أخرجه ابن ماجه (2750)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(1707).
(2)
أخرجه البخاري (3431).
(3)
مذهب الشافعي أن فيه الغرة. يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 389)؛ حيث قال: "إذا ضربها فماتت وألقت جنينًا ميتًا، فعليه ديتها وغرة في جنينها، سواء ألقته قبل موتها أو بعده".
(4)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 299)؛ حيث قال: "واختلفوا في الجنين يخرج من بطن أمه ميتًا وقد ماتت أمه من ضرب بطنها، فقال مالك لا شيء فيه من غرة ولا غيرها".
(5)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 89)؛ حيث قال: "ولو قتلت الأم، ثم خرج الجنين بعد ذلك منها ميتًا ففي الأم الدية، ولا شيء في الجنين عندنا".
(6)
لم أقف عليه سوى ما ذكر من وجوب الغرة.
* قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ
(1)
: فِيهِ الْغُرَّةُ. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَرَبِيعَةُ، وَالزُهْرِيُّ)
(2)
.
وبهذا أيضًا قال الإمام أحمد
(3)
، والشافعي
(4)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فُرُوعٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا).
أي: اختلفوا في العلامة الدالة على سقوطه حيًّا أو ميتًا، فاعتمذ بعض على الاستهلال واعتمد آخرون على الحركة من عطس ورضع وغيرهما مما يكون من عادات الأحياء.
* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
(5)
إِلَى أَنَّ عَلَامَةَ الْحَيَاةِ الِاسْتِهْلَالُ بِالصِّيَاحِ أَوِ الْبُكَاءِ).
مالك وأصحابه يرون الاستهلال
(6)
علامة للحياة؛ حيث إنه ملحق
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 80)؛ حيث قال: "قول أشهب في هذا كقول الليث، وقد أجمعوا أنها لو ماتت من الضرب ولم تلقِ الجنين أنه لا شيء فيه".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 80)؛ حيث قال: "قال ربيعة والليث بن سعد: فيه الغرة، وروي ذلك عن الزهري".
(3)
يُنظر: "معونة أُولي النهى" لابن النجار (10/ 330)؛ حيث قال: " (أو) ضرب إنسان (بطن ميتة، أو) ضرب (عضوًا) منها (وخرج ميتًا وشوهد بالجوف)، أي: بجوف الميتة بعد موتها (يتحرك: ففيه غرة) في الأصح، كما لو ضربها وهي حية ثم ماتت ثم خرج منه ميتًا".
(4)
تقدم ذكر مذهب الشافعي (12/ 389).
(5)
يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 1179)؛ حيث قال: "الجنين لا حكم له قبل الولادة، وإنما له الحكم بعد الولادة إذا استهل".
(6)
استهلال الصبي: تصويته عند ولادته. وإنما يراد أن يستدل على حياته باستهلاله، ليعلم أنه سقط حيًّا، فإذا لم يصح ولم يسمع رفع صوت وكانت علامة أُخرى يستدل بها على حياته من حركة يد أو رجل أو طرفة بعين فهو مثل الاستهلال. انظر:"النهاية" لابن الأثير (5/ 271) و"غريب الحديث" للقاسم بن سلام (1/ 286).
بالقمر؛ لأن عادة الناس أنهم إذا رأوا الهلال صرخوا بأصواتهم متنادين ومنبهين، وكذلك هذا الصبي حين خرج من الظلام إلى النور استهل صارخًا.
وحديثا الرسول السابق ذكرهما نص في هذا، والحديث الأخير يذكرنا بالشيطان وإغواءاته؛ حيث يجلس للإنسان في كل مرصد حتى وهو في بطن أمه، وإذا خرج خرج معه ليتخذه جنديًّا من جنوده.
ومن رحمة الله لعباده أن يسر لهم سبل التحصن من الشيطان بدءًا من كونه نطفة؛ حيث أرشد والديه أن يستعيذا بالله من الشيطان الرجيم في لقائهما، ثم إذا ولد أُذِّنَ وَأُقِيمَ في أذنيه، وإذا عقل يعوذ بالله من شرور الشيطان، فهو لا يترك الإنسان إلا إذا مشى في طريقه حتى يضمن اتباعه له. وقد بيَّن الله أن قوة الشيطان وسلطانه على الذين يتولونه، أما عباد الله فليس له سلكان عليهم وكيده ضعيف.
وأكثر ما يزعج الشيطان هو التوبة؛ لأنه يظل زمنًا طويلًا يغوي الإنسان ويزين له الشهوات حسنًا، ثم إذا أناب العبد إلى الله وتاب توبة نصوحًا غفر الله له، وربما بدل سيئاته حسنات.
وباب التوبة مفتوح، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فما أجمل أن يبادر المسلم إذا وقعت منه هفوة إلى التوبة والاستغفار، فيفلح. وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالثَّوْرِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ)
(3)
.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير"(8/ 172)؛ حيث قال: "قال الشافعي وأبو حنيفة بأي وجه علمت حياته من حركة أو صياح أو بكاء أو عطاس ورث".
(2)
ينظر: "المبسوط" للسرخسي (30/ 51)؛ حيث قال: "والعطاس دليل حياته بمنزلة الاستهلال وتحرك بعض الأعضاء".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 77)؛ حيث قال: "الثوري وأكثر الفقهاء إذا علمت حياته بحركة أو عطاس أو استهلال أو رضاع أو غير ذلك ميا يستيقن به حياته ثم مات، ففيه الدية".
وأحمد. إلا أنه يخالفهم في الحركة فقط
(1)
.
على أن الاستهلال من جملة أدلة هؤلاء أيضًا، والفرق بينهم وبين المالكية أن المالكية اعتبروا الاستهلال نصًّا ودليله الدامغ، أما هؤلاء فيزيدون على الاستهلال أدلة أُخرى.
* قوله: (كُلُّ مَا عُلِمَتْ بِهِ الْحَيَاةُ فِي الْعَادَةِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ عُطَاسٍ أَوْ تَنَفُّسٍ).
والحنابلة يرون أن الحركة ليست دليلًا قطعيًّا؛ لجواز أن تكون نتيجة ضغط الخروج من الضيق أو انقلاب، أو غير ذلك من عوامل التحريك.
* قوله: (فَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْحَيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ).
وفي هذا دلالة على كمال هذه الشريعة وسموها وعزتها وشمولها، فقد اهتمت بالإنسان بدءًا من الاختيار الصحيح بين الأبوين والالتزام بمبادئ الإسلام في علاقتهما، حتى إذا رزقهما شيئًا (جنينًا) تراعيه الشريعة وترعاه في كل مراحله في بطن أمه: نطفة، وعلقة، ومضغة، إلى أن يكتمل نموه فتضعه أمه.
وبعد الوضع فإن الوالدين مكلفان بتربية ابنهما تربية سليمة قائمة على منهج الإسلام وتوجيهه للخير، كأمره بالصلاة، والحضور إلى المسجد، والالتزام في مجالسى العلم. والعلماء الأعلام الصالحون كانوا يعنون بأبنائهم عناية فائقة، فهذا الإمام أحمد إمام دار السلام صاحب المواقف العظيمة الذي نافح ووقف وأوذي في سبيل الدفاع عن كتاب الله؛ كان إذا جاءه أحد الصالحين أرسل أبناءه إليه يلازمونه للاستفادة من سيرته الطيبة، وكان يفعل مثل هذا إذا زاره الإمام الشافعي.
ولا شك أن في اصطحاب الأب ابنه إلى مجالس العلم والذكر خيرًا
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 414)؛ حيث قال: "وأما الحركة والاختلاج المنفرد، فلا يثبت به حكم الحياة؛ لأنه قد يتحرك بالاختلاج وسبب آخر".
عظيمًا من حيث تغذية النفس، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، والحياة المقصودة هنا هي حياة النفوس والقلوب لا الأبدان، والأجسام التي مادة إحيائها الطعام والشراب، والقلوب غذاؤها اتباع الهدى واجتناب الهوى، وقد أمر الرسول الوالدين بتعليم ابنهما الصلاة وهو ابن سبع، وضربه عليها وهو ابن عشر
(1)
، ولعله يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:"شَابٌ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ"
(2)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْخِلْقَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْغُرَّةَ).
(الخلقة) يعني الصورة التي يتبين فيها علامات الإنسان، مثل: الأصابع، والرأس، والأنف، والأرجل.
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: كُلُّ مَا طَرَحَتْهُ مِنْ مُضْغَةٍ أَوْ عَلَقَةٍ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ، فَفِيهِ الْغُرَّةُ).
وأهل الخبرة والاختصاص يُسْتَعَانُ بهم في معرفة ما إذا كان ما طرح يحمل صورة آدمي بظهور بعض التقاسيم. أما إذا أريد مجرد المضغة أو العلقة، فقد أجيب أنه غير كافٍ لإثبات الآدمية.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(4)
: لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى تَسْتَبِينَ الْخِلْقَةُ).
(1)
أخرجه أبو داود (495) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفزقوا بينهم في المضاجع". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(247).
(2)
جزء من حديث أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).
(3)
يُنظر: "المدونة"(4/ 630)؛ حيث قال: "قال مالك: إذا ألقته، فعلم أنه حمل وإن كان مضغة أو علقة أو دمًا، ففيه الغرة".
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 385)؛ حيث قال: "لا شيء فيه إذا لم يبن خلقه، فإذا بان خلقه على ما سنصفه ففيه غرة".
وكذلك الإمام أحمد
(1)
.
• قوله: (وَالَأجْوَدُ أَنْ يُعْتَبَرَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ، أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ تجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَيَاةَ قَدْ كَانَتْ وُجِدَتْ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ
(2)
، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
(3)
: هِيَ فِي مَالِ الْجَانِي).
المؤلف هنا يرجح مذهب نفخ الروح، أي: بعد أربعينية نطفته وأربعينية علقته وأربعينية مضغته؛ حيث ينفخ الروح.
• قوله: (وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
(4)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ)
(6)
.
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 477)؛ حيث قال: "وإن وضعت مضغة لم يظهر فيها شيء من خلق الآدمي، فشهد ثقات من القوابل أن فيها صورة خفية، تعلقت بها الأحكام؛ لأنهن اطلعن على الصورة التي خفيت على غيرهن، وإن لم يشهدن بذلك، لكن علم أنه مبتدأ خلق آدمي؛ إما بشهادتهن، أو غير ذلك، ففيه رواتان؛ إحداهما: لا تصير به الأمة أم ولد، ولا تنقضي به عدة الحرة، ولا يجب على الضارب المتلف له الغرة".
(2)
يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 298)؛ حيث قال: "قال مالك: إنها في مال الجاني".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 74)؛ حيث قال: "اختلفوا على من تجب الغرة في ذلك، فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي: هي في مال الجاني. وهو قول الحسن البصري والشعبي".
(4)
يُنظر: "البيان" للعمراني (11/ 502)؛ حيث قال: "إن الجناية على الجنين قد تكون خطأ محضًا، بأن يقصد غير الأم فيصيبها، فتكون الدية مخففة، وقد تكون عمد خطأ، بأن يقصد إصابة الأم بما لا يقتل، فتكون الدية مغلظة على العاقلة".
(5)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 325)؛ حيث قال: "الغرة تجب على العاقلة".
(6)
مثل إبراهيم النخعي.
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 74)؛ حيث قال: "وقال آخرون: هي على العاقلة. وممن قال ذلك الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، وهو قول إبراهيم وابن سيرين".
وأحمد
(1)
.
فالأئمة الثلاثة قالوا بهذا؛ استنادًا إلى الحديث الذي وردت فيه قصة امرأتي هذيل التي رمت إحداهما الأُخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها؛ حيث قضى الرسول بأن الغرة على العاقلة.
• قوله: (وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ، فَوَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ).
وجناية القتل الخطأ تكون فيه الدية على العاقلة، فكذلك هذه. ذلك أن في القتل العمد قصاصًا إلا إذا عفا أولياء القتيل ورضوا بالدية، وفي هذه الحالة ونظرًا لفظاعة ما أقدم عليه القاتل، فإن الشارع أوجب على القاتل أن يدفع الدية خلافًا للقتل الخطأ؛ حيث لم يقصد مرتكبه إزهاق الروح، فإنه في هذه الحالة يحتاج إلى معاونة للدفع، ولذا أوجب الشارع على عاقلته وهم عصبيته بدفع الدية عنه تعاونًا وتكاتفًا.
• قوله: (وَمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ، وَبَدَأَ بِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا")
(2)
.
وليست هذه الرواية في الصحيحين.
• قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ، فَشَبَّهَهَا بِدِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا كَانَ الضَّرْبُ عَمْدًا،
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 327)؛ حيث قال: " (إلا غرة جنين مات مع أمه أو) مات (بعدها) أي: أمه (بجناية واحدة)، فتحمل الغرة تبعًا لدية الأم نصًّا".
(2)
أخرجه أبو داود (4568) عن المغيرة بن شعبة: أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل، فضربت إحداهما الأُخرى بعمود فقتلتها وجنينها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أحد الرجلين: كيف ندي من لا صاح، ولا أكل ولا شرب، ولا استهل، فقال:"أسجع كسجع الأعراب؟ " فقضى فيه بغرة وجعله على عاقلة المرأة. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2206).
وَأَمَّا لِمَنْ تجِبُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ)
(2)
.
اتفق على أن في قتل الجنين دية، وأنها على العاقلة على الأرجح، فلمن تكون هذه الدية؟ اختلف العلماء فى الإجابة عن هذا السؤال، فذهب فريق منهم إلى القوله بأنها للورثة، كما في نظام الميراث من أهل فروض وتعصيب، وذهب آخرون إلى أنها تكون للأم فقط.
• قوله: (وَأَبُو حَنِيفَةَ)
(3)
.
وأحمد
(4)
.
فالأئمة الأربعة كلهم متفقون على أنها للورثة، مستدلين بأنه لو كان عاش - مثلًا - فقتل لورثوه.
• قوله: (هِيَ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الدّيَةِ فِي أَنَّهَا مَوْرُوثَةٌ. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ
(5)
: هِيَ لِلأُمِّ خَاصَّةً).
(ربيعة) هو شيخ الإمام مالك. ربيعة بن عبد الرحمن.
و (الليث) إمام مصر قبل الإمام الشافعي، وكان معاصرًا للإمام مالك، فهو بمنزلة شيخ للشافعي من حيث الترتيب.
(1)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (10/ 212)؛ حيث قال: "وتستحق دية جنينها؛ معناه وتستحق حقها من دية جنينها، وقد قال ابن دحون: إنما أتى بهذه المسألة على أنه ليس للجنين وارث غير أمه، ولو كان له ورثة غيرها حلفوا كلهم، واقتسموا الغرة على كتاب الله".
(2)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 412)؛ حيث قال: "وعليه الغرة يستحقها ورثة الجنين".
(3)
يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 326)؛ حيث قال: " (وأما) من تجب له، فهي ميراث بين ورثة الجنين على فرائض الله تبارك وتعالى عند عامة العلماء".
(4)
يُنظر: "الممتع شرح المقنع" لابن المنجى (4/ 126)؛ حيث قال: "ودية الجنين الحر المسلم إذا سقط ميتًا غُزة عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه كأنه سقط حيًّا".
(5)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 80)؛ حيث قال: "وقال ربيعة والليث: الدية للأم خاصة كعضو من أعضائها".
• قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَبَّهُوا جَنِينَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا).
فربيعة والليث يريان أنها تكون للأم فقط، مشبهين الجنين بأنه جزء من الأم، فينبغي أن تكون لها.
• قوله: (وَمِنَ الْوَاجِبِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْجَنِينِ مَعَ وُجُوبِ الْغُرَّةِ: وُجُوبُ الكَفَّارَةِ).
اتفق العلماء على وجوب الغرة في الجنين، ولكنهم اختلفوا في وجوب الكفارة معها.
والله سبحانه وتعالى حذر المؤمنين من ارتكاب جريمة قتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق.
• قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92]).
فلا يجوز لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن عمدًا، بل ولا حتى غير المؤمن، إذا كان معاهدًا ومسالمًا غير محارب ومعتد.
• قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ) [النساء: 92].
إذن من قتل مؤمنًا خطأً، فعليه كفارة تحرير رقبة.
فهل هذه الكفارة عامة فيدخل فيها الجنين أيضًا، فيكون على من اعتدى على الجنين فمات كفارة أو لا؟
• قوله: (فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
(1)
إِلَى أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ).
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 385) حيث قال: "فإذا ثبت وجوب الغرة فيه فتكمل الغرة إذا كان كاملًا بالإسلام والحرية؛ لأن الغرة أكمل ديات الجين فوجبت في أكملهم وصفًا، ويجب فيه الكفارة؛ لأنها دية نفس".
فالشافعي وأحمد يريان وجوب الكفارة.
• قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَاسْتَحْسَنَهَا مَالِكٌ
(2)
وَلَمْ يُوجِبْهَا، فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ أَوْجَبَهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِنْدَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ غَلَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْعَمْدِ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِي الْعَمْدِ).
وكذلك أحمد
(3)
.
• قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَاسْتَحْسَنَهَا مَالِكٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا).
المراد بالكفارة المشار إليها في الآية.
• قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ) [النساء: 92]).
هذه هي التي يشير إليها المؤلف.
• قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمَّا كَانَتِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِي الْعَمْدِ، وَتجِبُ فِي الْخَطَأِ، وَكَانَ هَذَا مُتَرَدِّدًا عِنْدَهُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ - اسْتَحْسَنَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ، وَلَمْ يُوجِبْهَا).
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 88) حيث قال: "وعلى الأصل قلنا: لا تجب الكفارة على الضارب إلا أن يتبرع بها احتياطًا".
(2)
يُنظر: "المدونة"(4/ 631) حيث قال: "قال مالك: وأنا أستحسن أن يكون في الجنين الكفارة".
(3)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 417) حيث قال: "وعلى كل من ضرب ممن ذكرت، عتق رقبة مؤمنة، سواء كان الجنين حيًّا أو ميتًا".
• قوله: (وَمِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَضْمِينِ الرَّاكلبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ).
(الراكب) هو الذي يركب الدابة، و (السائق) هو الذي يدفعها بصوت أو بسوط أو بغيره، و (القائد) هو الذي يمسك بزمامها.
وقد اختلف العلماء فيما إذا أقدمت الدابة التي بين أيديهم على إهلاك إنسان أو إتلاف جزء منه أو إتلاف ماله.
• قوله: (فَقَالَ الْجُمْهُورُ
(1)
: هُمْ ضَامِنُونَ لِمَا أَصَابَتِ الدَّابَّةُ).
يقصد بالجمهور هنا الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء
(2)
.
• قوله: (وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِقَضَاءِ عُمَرَ عَلَى الَّذِي أَجْرَى فَرَسَهُ، فَوَطِئَ آخَرَ بِالْعَقْلِ)
(3)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 686) حيث قال: "ومن قاد قطارًا أو ساقه فما أعطب أول القطار أو آخر بيد أو رجل، أو صدم إنسانًا فمات، كان الضمان على السائق والقائد، ولا كفارة عليه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب"(2/ 310)؛ حيث قال: "و (السائق) الذي يضرب الدابة من خلفها، (والقائد) الذي يجرها من أمامها، (والراكب) الذي على ظهرها (ضامنون لما وطئته)، أي: صدمته (الدابة) برجلها".
ومذهب الشافعية، يُنظر؛ "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 466)؛ حيث قال:"أن يكون معها أربابها فيضمنوا ما أفسدته ليلًا ونهارًا؛ لأن فعل البهيمة إذا كانت مع صاحبها منسوب إليه، وإذا لم يكن معها منسوب إليها".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"المغني" لابن قدامة (3/ 445)؛ حيث قال: "وما جنت عليه دابته بيدها أو فمها من الصيد، فالضمان على راكبها، أو قائدها، أو سائقها".
(2)
مثل ابن شبرمة وابن أبي ليلى. يُنظر "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 143)؛ حيث قال: "قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى: يضمن ما أتلفت الدابة برجلها إذا كان عليها أو قادها أو ساقها، كما يضمن ما أتلفت بغير رجلها".
(3)
يُنظر: "الموطأ"(5/ 1227)؛ حيث قال: "وقد قضى عمر بن الخطاب في الذي أجرى فرسه بالعقل".
قضاء عمر هذا حجة لجمهور العلماء من حيث الجملة على أن الثلاثة ضامنون. وعند التفصيل فيه اختلاف بينهم، فلنتنبه.
• قوله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
(1)
: لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ فِي جُرْحِ الْعَجْمَاءِ. وَاعْتَمَدُوا الَأثَرَ الثَّابِتَ فِيهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ")
(2)
.
وهذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وهو أيضًا في السنن
(3)
، وفي مسند أحمد
(4)
.
وللحديث مدلولات، وأخذ منه العلماء كثيرًا من الأحكام.
و (العجماء) هي البهيمة، وسميت عجماء؛ لأنها لا تتكلم. ويقال هذا لكل من لا يتكلم أو لا يبين. و (جبار)، أي: هدر.
وهذا الحديث ليس على إطلاقه، وإنما هو خاص بالعجماء التي انفلتت دون تقصير من صاحبها، فهذه العجماء إذا أصابت إنسانًا أو مالًا وأتلفته، فإنه جبار لا ضمان فيه.
و (المعدن) مثل حفر الإنسان حفرة ليستخرج منها معدنًا من المعادن، شريطة أن تكون الأرض أرضه، أو يكون هو من يحييها، فإذا سقط فيها
(1)
يُنظر: "المحلى" لابن حزم (11/ 88)؛ حيث قال: وأما السائق، فإن حملها بضرب أو نخس أو زجر على شيء ما، فإن عمد فالقود والضمان، وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ، كما قلنا، فإن لم يحملها على شيء، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يباشر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"جرح العجماء جبار".
(2)
أخرجه البخاري (1499)، ومسلم (1710).
(3)
أخرجه أبو داود (4593)، والترمذي (642) والنسائي (2288)، وابن ماجه (2509) مختصرًا.
(4)
أخرجه أحمد (7120).
إنسان فمات، فهو جبار لا ضمان فيه، ذلك أن الحافر في أرضه، والساقط هو الذي دخل في أرض غيره.
وفي هذا المقام، فلو أن إنسانًا استعمل عمالًا لاستخراج معادن من المناجم فخَرَّ عليهم السقف فماتوا، فلا ضمان.
و (البئر جبار) فيما لو أن ربها فطرها في أرضه أو في أرض غيره بإذن منه، فوقع فيها إنسان فهلك. أما لو أنه حفرها في أرض غيره بغير إذن منه أو حفرها في الطريق العام، فإنه في هذه الحالة يضمن.
ومن العلماء
(1)
من يفرق بين الطريق الواسع والضيق، فإذا كان الطريق واسعًا فحفرت لانتفاع المسلمين فلا ضمان، أما إذا كان الطريق ضيقًا فحفرت في الوسط، فإنه يضمن. وليس هذا خاصًّا بما ورد في الحديث فقط، بل لو وضع إنسان حديدة أو حجرًا أو صنع جسرًا في الطريق العام، فسقط إنسان، وانكسر، فإنه في هذه الحالة يضمن.
وشريعتنا الإسلامية تضع أصولًا وتلحق بها الفروع.
و (الركلاز الخمس) الركاز هنا فُسِّرَتْ بأنها المعدن، وفُسِّرَتْ بغير ذلك.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 374) حيث قال: "وأما القسم الرابع وهو أن يحفرها في طريق سابل: فهذا على ضربين؛ أحدهما: أن يضر حفرها بالمارة فيصير متعديًا، ويلزمه ضمان ما سقط فيها، سواء أذن له الإمام أو لم يأذن! لأن إذن الإمام لا يبيح المحظورات. والضرب الثاني: أن لا تضر بالمارة؛ لسعة الطريق وانحراف البئر عن جادة المارة، فهذا على ضربين؛ أحدهما: أن يحفرها ليتملكها فهذا محظور؛ لأنه لا يجوز أن يتملك طريق السابلة فيلزمه ضمان ما سقط فيها. والضرب الثاني: أن يحفرها للارتفاق لا للتمليك، فإن لم يحكم رأسها وتركها مفتوحة ضمن ما سقط فيه".
ويُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 424)؛ حيث قال: "وإن فعل شيئًا من ذلك في طريق ضيق، فعليه ضيان من هلك به؛ لأنه متعدٍّ. وسواء أذن له الإمام فيه، أو لم يأذن؛ فإنه ليس للإمام الإذن فيما يضر بالمسلمين".
• قوله: (فَحَمَلَ الْجُمْهُورُ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالدَّابَّةِ رَاكِبٌ وَلَا سَائِقٌ وَلَا قَائِدٌ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتِ الدَّابَّةُ أَحَدًا وَعَلَيْهَا رَاكِبٌ، أَوْ لَهَا قَائِدٌ أَوْ سَائِقٌ - فَإِنَّ الرَّاكِبَ لَهَا أَوِ السَّائِقَ أَوِ الْقَائِدَ هُوَ الْمُصِيبُ وَلَكِنْ خَطَأً).
لأن يده على هذه البهيمة وهو المسؤول عنها، وما يحصل منها يكون يسأل عنه، ولكن من العلماء
(1)
من فرق بين أن تصيب البهيمة برجلها، وبين أن تصيب بيدها، فقالوا:"ما أصابت بيدها يسأل عنه، وما أصابت برجلها لا يسأل عنه؛ لأنه لا يملك ذلك".
وبعضهم قالوا: "إنه هو من يتحكم فيها، فيسأل عما أصابته، سواء برجلها أو بيدها".
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِيمَا أَصَابَتِ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
: لَا شَيْءَ فِيهِ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَاحِبُ الدَّابَّةِ بِالدَّابَّةِ شَيْئًا يَبْعَتُهَا بِهِ عَلَى أَنْ تَرْمَحَ بِرِجْلِهَا).
يعني يغمزها مثلًا ونحو ذلك، فترفع رجلها فتصيب آخر، فيكون متسببًا، والمتسبب مسؤول.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
: يُضَمَّنُ الرَّاكِبُ مَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا).
(1)
سيأتي تفصيل ذلك.
(2)
يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(2/ 310) حيث قال: " (والسائق) الذي يضرب الدابة من خلفها، (والقائد) الذي يجرها من أمامها، (والراكب) الذي على ظهرها، (ضامنون لما وطئته)، أي: صدمته (الدابة) برجلها
…
(وما كان منها)، أي: الدابة من الإتلاف، (من غير فعلهم)، أي: القائد والسائق والراكب، (أو وهي واقفة لغير شيء)، أي: من غير شيء، (فعل بها) من ضرب أو نخس ونحوه، (فذلك) الفعل منها (هدر) ".
(3)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 470)؛ حيث قال: "إن كان الرجل راكبًا، =
أما الإمام أحمد فله رواية مع الإمام مالك، ورواية مع الإمام الشافعي
(1)
.
• قوله: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
(2)
، وَسَوَّيَا بَيْنَ الضَّمَان بِرِجْلِهَا أَوْ بغَيْرِ رِجْلِهَا. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى الرَّمْحَةَ بِالرِّجْلِ أَوْ بِالذَّنَبِ
(3)
. وَرُبَّمَا احْتَجَّ مَنْ لَمْ يُضَمِّنْ رِجْلَ الدَّابَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: "الرِّجْلُ جُبَارٌ")
(4)
.
ولكن هذا الحديث المستدل به ضعيف، وله عدة طرق، وكلها لا تخلو من مقال ولذلك لم يقل به البعض، في حين اعتمده آخرون كالشافعي وأحمد في رواية.
• قوله: (وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَدِيث عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
(5)
وَرَدَّهُ، وَأَقَاوِيلُ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا، فَوَقَعَ فِيهِ إِنْسَانٌ - مُتَقَارِبَةٌ).
= فما أصابت بيدها أو رجلها أو فيها أو ذنبها من نفس أو جرح، فهو ضامن له؛ لأن عليه منعها في تلك الحال من كل ما أتلفت به أحدًا، وكذلك إن كان سائقًا أو قائدًا".
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 542)؛ حيث قال: " (ولو) كان السبب، (بجناية دابة محرم متصرف فيها) بأن يكون راكبًا أو سائقًا أو قائدًا، فيضمن ما أتلفت بيدها وفيها، لا ما نفحت برجلها".
ويُنظر: "الكافي" لابن قدامة (4/ 64)؛ حيث قال: "وعنه في السائق أنه يضمن جناية الرِّجل والذنب؛ لأنه يشاهدهما، فأشبه اليد".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 143)؛ حيث قال: "وقال ابن شبرمة وابن أبي ليلى: يضمن ما أتلفت الدابة برجلها إذا كان عليها أو قادها أو ساقها، كما يضمن ما أتلفت بغير رجلها".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 134)؛ حيث قال: "والراكب ضامن لما وطئت الدابة وما أصابت بيدها أو كدمت، ولا يضمن ما نفخت برجلها أو ذنبها".
(4)
أخرجه أبو داود (4592) وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1526).
(5)
يُنظر: "الأم" للشافعي (8/ 353)؛ حيث قال: "فأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الرجل جبار، فهو والله تعالى أعلم غلط؛ لأن الحفاظ لم يحفظوا هكذا".
• قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ حَفَرَ فِي مَوْضِعٍ جَرَتِ الْعَادَةُ الْحَفْرُ فِي مِثْلِهِ لَمْ يُضَمَّنْ، وَإِنْ تَعَدَّى فِي الْحَفْرِ ضُمِّنَ. وَقَالَ اللَّيث
(1)
: إِنْ حَفَرَ فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا لَمْ يُضَمَّنْ، وَإِنْ حَفَرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ضُمِّنَ، فَمَنْ ضَمِنَ عِنْدَهُ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْخَطَأِ).
والبئر ومسائلها تناولناها بشكل مفصل.
• قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الدَّابَّةِ الْمَوْقُوفَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَوْقَفَهَا بِحَيْثُ يجِبُ لَهُ أَنْ يُوقِفَهَا لَمْ يَضْمَنْ)
(2)
.
إيقاف الدابة إما أن يكون في مكانها اللائق بها بأن يكون في مكان خصص لها أو في زاوية من طريق واسع، وهذا جبار. وإما أن يكون في مكان غير لائق بأن أوقفها في طريق ضيق أو في مكان يعرف بالتأذية فهذا يضمن. وهو رأي جمهور العلماء.
• قوله: (وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ)
(3)
.
وأحمد
(4)
أيضًا.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 145)؛ حيث قال: "وقال الليث من حفر بئزا في داره أو في طريق أو في رحبة له، فوقع فيها إنسان، فإنه لا يضمن ما حفر في داره أو في رحبة لا حق لأحد فيها".
(2)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد (9/ 397)؛ حيث قال: "وأما إن اتخذ الكلب العقور أو حبس الدابة الصئول حيث لا يجوز له، فهو ضامن لما أصابا".
(3)
يُنظر: "البيان" للعمراني (12/ 87)؛ حيث قال: "وإن ربط دابة أو أوقفها في غير ملكه أو في طريق المسلمين، فأتلفت شيئًا .. وجب عليه ضمانه، سواء كان معها أو غائبًا عنها، وسواء كان الطريق واسعًا أو ضيقًا؛ لأنه إنما يملك الارتفاق بطريق المسلمين بشرط السلامة، فأما إذا أفضى
…
".
(4)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 325)؛ حيث قال: " (ومن ربط) دابة، (أو أوقف دابة) له أو لغيره، (بطريق ولو) كان الطريق (واسعًا) نصًّا، (أو ترك بها)، أي: الطريق ولو واسعًا، (طينًا أو خشبة أو عمودًا أو حجرًا أو كيس دراهم) نصًّا، (أو أسند خشبة إلى حائط ضمن ما تلف بـ) سبب (ذلك) الفعل لتعديه به؛ لأنه ليس له في الطريق حق".
• قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
: يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ يُبَرِّئُهُ أَنْ يَرْبطَهَا بِمَوْضِعٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْبطَهَا فِيهِ، كَمَا لَا يُبَرِّئُهُ رُكُوبُهَا مِنْ ضَمَانِ مَا أَصَابَتْهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُبَاحًا).
سبب اختلاف العلماء في الدابة الموقوفة هو وجود تعدٍّ على الناس وحقوقهم في الإيقاف، فمن رأى أن هناك تعديًا قال بالضمان، ومن رأى عدم وجود تعدٍّ قال بالجبار. ونحن في هذا قد فصَّلنا ووضحنا بما يبين الحقيقة.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَارِسَيْنِ يَصْطَدِمَان، فَيَمُوتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا).
اختلف العلماء في هذه المسألة من حيث وجود دية كل واحد منهما على الآخر وعدمه.
• قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَجَمَاعَةٌ
(4)
: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ، وَذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ).
(1)
يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (27/ 5)؛ حيث قال: "ولو ربط دابته في الطريق، فجالت في رباطها من غير أن يحلها أحد، فما أصابت فهو على الذي ربطها؛ لأنه متعدٍّ في ربطها في الفريق، وفي أي موضع وقفت بعد أن تكون مربوطة، فذلك يكون مضافًا إلى من ربطها".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (6/ 243)؛ حيث قال: "قال مالك: إذا اصطدم فارسان فمات الفرسان والراكبان، فدية كل واحد على عاقلة الآخر، وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر".
(3)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 135)؛ حيث قال: "إذا اصطدم فارسان فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر".
(4)
مثل الأوزاعي والحسن بن حي.
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 147)؛ حيث قال: "وأما مسألة الفارسين يصطدمان فيموتان، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه: على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته".
والإمام أحمد
(1)
أيضًا.
قالوا: يتحمل كل واحد منهما دية الآخر، وتكون الدية على العاقلة بمعنى يتحملها.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ
(3)
: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ؛ لِأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا أَخْطَأَ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ).
الإمام الشافعي يرى أن على كل واحد منهما على الآخر نصف دية - لا دية كاملة كما يرى الجمهور - باعتبار أن كل واحد منهما قتل من فعل نفسه وفعل صاحبه.
وشريعة الإسلام وفقهاؤنا رحمهم الله كانوا على دقة متناهية وهم يتناولون مسائل العلم بالدراسة والبحث والتحقيق، فعنوا بأمور قد نراها نحن يسيرة، لكنها كبيرة حيث تحدثوا عن الدابة الموقوفة والدابة المتحركة وكذلك الآبار ووضع الحجارة أو الحديد أو بناء جسر أو رمي قشر بطيخ أو موز في طريق عام يؤذي الناس، فلو مات بسببه إنسان ضمن الرامي.
فالشريعة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة في الحياة إلا أحصتها، وهي تتسع لكل المستجدات والنوازل.
وكما قلنا فإن الشريعة تضع أصولًا، ثم تلحق بها الفروع والمتشابهات، فحديث العلماء عن الدابة يجعلنا نستطيع أن نلحق بها
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 191)؛ حيث قال: "وإذا اصطدم الفارسان، فماتت الدابتان، ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر". وجملته أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر، من نفس أو دابة".
(2)
يُنظر: "المهذب" للشيرازي (3/ 207)؛ حيث قال: "إن اصطدم فارسان أو راجلان وماتا، وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 147)؛ حيث قال: "وقال عثمان البتي وزفر والشعبي في الفارسين إذا اصطدما فماتا على كل واحد منهما نصف دية صاحبه".
السيارات والقطارات والدراجات والطائرات التي لم تكن معروفة في عصور الإسلام الأولى، مع الأخذ في الاعتبار أن للدابة شيئًا من الإدراك خلافًا لهذه الجمادات التي يتحكم فيها قائدها، وإن كان من الوارد أن يحصل فيها خلل فنى يفقد صاحبها السيطرة، فيكون بذلك إن أصابت إنسانًا وأتلفته من قبيل الخطأ.
• قوله: (مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَ الْحَشَفَةَ
(1)
فِي الْخِتَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ)
(2)
.
هناك طبيب وهناك متطبب، فالطبيب هو العالم بالطب، والمتطبب هو الذي يحاول أن يعالج الناس، وليس على علم ومعرفة بذلك، وربما يكون علمه ضعيفًا. وفي كل مجال من المجالات هناك متطفلون ومُدَّعُونَ.
فإذا كان هناك طبيب ومتطبب، فإن هناك ميكانيكيًّا ماهرًا وآخر غير متمكن، ولا شك أن غير المتمكن سيلحق ضررًا بالسيارة أو الدراجة أو القطار، وفي هذه الحالة فإنه يضمن. ولكن الحديث هنا عن الطبيب فأمره خطير؛ لتعلقه بحياة الناس، فلو ادعى إنسان بمعرفة الختان ثم قطع الحشفة، فإنه يضمن، وقد جاء في ذلك حديث عن رسول الله.
• قوله: (لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَانِي خَطَأً. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ)
(3)
.
(1)
الحشفة: رأس الذكر التي فوق موضع الختان. انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 391).
(2)
يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 446)؛ حيث قال: "وإذا ختن الختان فأخطأ، فقطع الذكر أو الحشفة، أو بعضها، فعليه عقل ما أخطأ به، تعقله العاقلة. هذا قول كل من حفظت عنه من أهل العلم".
(3)
يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد (9/ 348): "سئل مالك عن طبيب عالج رجلًا فأتى على يديه فيه، قال: إن كان الطبيب ليس له علم، ووجد بينة أنه دخل في ذلك ظلمًا وجرأة، وأنه ليس ممن يعمل مثل هذا، وليست له به معرفة، فأرى أن يستأذن عليه، قال عيسى: غر من نفسه أو لم يغر، ذلك خطأ، وديته على عاقلته".
وجمهور العلماء
(1)
ذهبوا (الأئمة) إلى أن من تطبب فأتلف غيره، فإنه يضمن إلا إذا تنازل الأولياء.
• قوله: (وَذَلِكَ عِنْدَهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ، وَلَا خِلَافَ
(2)
أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ).
يعني أن مالكًا فرَّق بين الطبيب ومدعي الطب، فرأى أن الطبيب لا يضمن، والمدعي يضمن - وهذا محل إجماع؛ لأنه يعتبر متعديًا.
(1)
مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (5/ 431)؛ حيث قال: "وهذا إذا لم يخطئ في فعله، وأما إذا أخطأ مثل أن يسقي الطبيب المريض ما لا يوافق مرضه أو تزل يد الخاتن أو القاطع فيتجاوز في القطع أو الكاوي فيتجاوز في الكي أو يد الحجام فيقطع غير الضرس التي أمر بها، فإن كان من أهل المعرفة ولم يغر من نفسه، فذلك خطأ يكون على العاقلة إلا أن يكون أقل من الثلث، فيكون في ماله، وإن كان مما لا يحسن وغر من نفسه فعليه العقوبة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (9/ 197)؛ حيث قال: "ولو أخطأ الطبيب في المعالجة وحصل منه التلف وجبت الدية على عاقلته، وكذا من تطبب بغير علم".
ومذهب الحنابلة، ينظر:"المبدع" لابن مفلح (5/ 110)؛ حيث قال: "واقتضى ذلك أنهم إذا لم يكن لهم حذق في الصنعة أنهم يضمنون؛ لأنه لا تحل لهم مباشرة القطع، فإذا قطع فقد فعل محرمًا، فيضمن سرايته".
ولم أصل للفرع عند الحنفية.
(2)
يعني: لا خلاف في المذهب؛ لأنهم فرقوا بين المتطبب بغير وعلم وغيره. مذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات" لابن رشد (2/ 251)؛ حيث قال: "فأما إذا كان من أهل المعرفة - يعني الطبيب، ولم يغر من نفسه، فذلك خطأ يكون على العاقلة إلا أن يكون أقل من الثلث، فيكون ذلك في ماله. وأما إن كان ممن لا يحسن وغر من نفسه، فعليه العقوبة من الإمام بالضرب والسجن".
ومذهب الشافعية ينظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (9/ 197)؛ حيث قال: "ولو أخطأ الطبيب في المعالجة وحصل منه التلف وجبت الدية على عاقلته، وكذا من تطبب بغير علم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المبدع" لابن مفلح (5/ 110)؛ حيث قال: "واقتضى ذلك أنهم إذا لم يكن لهم حذف في الصنعة أنهم يضمنون؛ لأنه لا تحل لهم مباشرة القطع، فإذا قطع فقد فعل محرمًا فيضمن سرايته".
• قوله: (وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَعَ الْإِجْمَاعِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَطَبَّبَ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ الطِّبُّ، فَهُوَ ضَامِنٌ")
(1)
.
وهذا حديث حسن، رواه بعض أصحاب السنن كأبي داود
(2)
، وإن تكلم فيه العلماء
(3)
، إلا أنه حسن يصلح للاحتجاج به.
• قوله: (وَالدِّيَةُ فِيمَا أَخْطَأَهُ الطَّبِيبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
(4)
عَلَى الْعَاقِلَةِ).
لأنه يعتبر من الخطأ.
• قوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ جَعَلَهُ فِي مَالِ الطَّبِيب
(5)
. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّهَا فِي مَالِهِ
(6)
عَلَى ظَاهِرِ
(1)
أخرجه أبو داود (4586)، وحسنه الألباني. يُنظر:"السلسلة الصحيحة"(635).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
لأن بعض رواته مدلسون، وقد رووه بدون تصريح بالسماع. انظر:"السلسلة الصحيحة" للألباني (2/ 226).
(4)
مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(4/ 540)؛ حيث قال: "وأرى أن يكون ذلك على عاقلته مثل خطأ الطبيب والمعلم والخاتن".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (4/ 166) حيث قال: "ولو أخطأ الطبيب في المعالجة وحصل منه التلف وجبت الدية على عاقلته".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المبدع" لابن مفلح (5/ 110)؛ حيث قال: "واقتضى ذلك أنهم إذا لم يكن لهم حذق في الصنعة أنهم يضمنون؛ لأنه لا تحل لهم مباشرة القطع، فإذا قطع فقد فعل محرمًا فيضمن سرايته".
(5)
ذكر ذلك ابن عبد البر في "الاستذكار"(8/ 62) ولم أقف على من قال بذلك؛ حيث قال: "ومن أهل العلم من جعل ذلك في مال الحجام ومال الطيب دون عاقلتهما".
(6)
هذا عند المالكية كما تقدم وكذا الحنابلة.
يُنظر: "كشاف القناع"(4/ 35)؛ حيث قال: "فإن لم يكن لهم حذق في الصنعة ضمنوا". =
حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ الَّتِي نَصَّ اللهُ عَلَيْهَا فِي قَتْلِ الْحُرِّ خَطأً - وَاجِبَةٌ)
(1)
.
إذا أخطأ الطبيب الماهر، فالجمهور يجعل الدية على الحاقلة، وبعض أهل العلم يجعلها على الطبيب الجاني. أما مدعي الطب، فإن الدية من ماله لا على العاقلة، مع وجوب الكفارة المنصوص عليها في القتل الخطأ في قوله سبحانه وتعالى:
• قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].
العلماء متفقون على وجوب الدية في الخطأ لورود النص القرآني في ذلك، ولكنهم مختلفون في وجوب الكفارة في القتل العمد وفي قتل العبد.
• قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ هَلْ فِيهِ كَفَّارَة؟ وَفِي قَتْلِ الْعَبْدِ خَطَأً، فَأَوْجَبَهَا مَالِكٌ فِي قَتْلِ الْحُرِّ فَقَطْ فِي الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ
(2)
، وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ
(3)
فِي الْعَمْدِ مِنْ طَرِيقِ الأَوْلَى وَالأَحْرَى).
= أما الشافعية، فالدية على العاقلة أيضًا.
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (8/ 35)؛ حيث قال: "تجب الدية على عاقلته، وقوله (من تطبب): أي ادعى الطب، وقوله:(بغير علم) ويعلم كونه عارفًا بالطب بشهادة عدلين عالمين بالطب بمعرفته، وينبغي الاكتفاء باشتهاره بالمعرفة بذلك لكثرة حصول الشفاء بمعالجته.
قوله: (فهو ضامن) أي يتعلق به الضمان، وتتحمله العاقلة عنه إن كانت".
(1)
يُنظر: "اختلاف الفقهاء" للمروزي (ص 425)؛ حيث قال: "فأما الخطأ فالدية فيه عَلَى العاقلة لَا خلاف فِي ذلك ولا قود فيه".
(2)
يُنظر: "التاج والإكليل" للمواق (8/ 352)؛ حيث قال: "وكفارة القتل في الخطأ واجبة. ثم قال: ويؤمر بذلك إن عفي عنه في العمد وهو خير له ".
(3)
يُنظر: "البيان" للعمراني (1/ 622) حيث قال: "وإن قتل من يحرم قتله لحق الله تعالى عمدًا، أو خطأ، أو عمد خطأ .. وجبت عليه بقتله الكفارة".
وأوجبها الشافعي وأبو حنيفة
(1)
، وأحمد
(2)
في العمد.
وسبب الاختلاف في هذا أن الله تعالى عندما ذكر آية العمد لم يذكر كفارة قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93].
القائلون بأن لا كفارة في العمد، قالوا بأن الآية لم تذكر الكفارة، وعلى هذا فلا كفارة.
في حين استدل القائلون بوجود الكفارة في العمد بقصة الرجل الذي جيء به إلى رسول الله وقد قُتِلَ، فقال:"أعتقوا عنه رقبة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعتق عنه بكل عضو منها عضوًا من النار"
(3)
.
ثم إن الذين قالوا بالكفارة في العمد قاسوه على الخطأ الذي فيه كفارة، فذنب مرتكب العمد من غير شك أكبر وخطيئته أعظم، والله تعالى توعده بأن يعذبه بنار جهنم.
وإن كان عبد الله بن عباس يرى أن من يقتل عمدًا لا كفارة له؛ لأنه لا تقبل توبته، وأنه يخلد في النار باعتبار أن الآية من أواخر ما نزل من القرآن، وأنها ليست منسوخة، إلا أن الجمهور يرون أن من يَقْتُل عمدًا
(1)
مذهب الحنفية عدم وجوب الكفارة في العمد،
يُنظر: "مختصر القدوري"(7/ 251) حيث قال: "فالعمد: ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجزي مجرى السلاح في تفريق الأجزاء كالمحدد من الخشب والحجر والنار وموجب ذلك المأثم والقود إلا أن يعفو الأولياء ولا كفار فيه".
(2)
مذهب الحنابلة أنها واجبة في الخطأ دون العمد.
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 328) حيث قال: " (وتلزم) الكفارة، (كاملة في مال قاتل لم يتعمد) القتل بأن قتل خطأ أو شبه عمد؛ للآية، وألحق بالخطأ شبه العمد؛ لأنه في معناه بخلاف العمد المحض".
(3)
أخرجه أبو داود (3964) وغيره، عن واثلة بن الأسقع، قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب - يعني النار - بالقتل، فقال:"أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2309).
أهلًا للتوبة؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]).
واستدلوا أيضًا بقصة الرجل قاتل المائة
(1)
الذي سأل عن عالم، فقال له: ومن يحول بينك وبين والتوبة، ولكن اخرج من هذه القرية الظالمة إلى تلك القرية الصالحة، وبينما هو في الطريق أدركه الموت، فتنازعته الملائكة: ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فأرسل الله صلى الله عليه وسلم ملكًا إليهم، فقال: قيسوا ما بين المسافتين، فما كان إليها أقرب فألحقوه به. فكان أقرب إلى القرية الصالحة.
فالله سبحانه وتعالى قد فتح أبواب التوبة، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده.
ولكن لا شك بأن القتل العمد عمل شنيع لا ينبغي أن يقدم عليه مؤمن يخشى الله سبحانه وتعالى، بل إن المولى حذر من قتل الذمي، وتوعد قاتله بعدم شم رائحة الجنة، فما بالك بالمؤمن؟
• قوله: (وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْعَمْدَ فِي هَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْخَطَأِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ)
(2)
.
القتل في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وقتل المحرم وذي رحم من جملة الأمور التي اختلف فيها العلماء حول تغليظ الدية.
والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي خلق الإنسان لعبادته.
• قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 56، 57].
وقد استعمر الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذه الأرض التي قال عنها
(1)
أخرجه مسلم (2766).
(2)
سيأتي تفصيل المسألة التالية.
رسول الله: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"
(1)
في حديثه: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، فإنه مسجد"
(2)
. ومع ذلك نجد أن البقاع تختلف، وهناك فرق بين المسجد وبين غيره، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يحافظون على الصلوات في المساجد، وأثنى بل وزكى الذين يترددون عليها، وبيَّن مكانتهم وما أعد الله تعالى لهم يوم القيامة.
• قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [التوبة: 18].
وقال أيضًا:
وهو يوم القيامة ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم.
• قوله: ({لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ})[النور: 38].
من يقرأ تاريخ الإسلام يدرك بأن أول أعمال المسلمين عندما يفتحون
(1)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521).
(2)
أخرجه البخاري (335) ومسلم (521) عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة".
بلدًا من البلاد هو بناء مسجد؛ لأنه هو موضع عبادتهم ومكان اجتماعهم ورمز هذه الشريعة، ففيه يجتمعون ويصلون، ويناجون ربهم سبحانه وتعالى فيه، ويتلون القرآن العظيم، ويهللون ويسبحون ويعظمون.
وعلى الرغم من كثرة المساجد وانتشارها في ربوع الأرض إلا أنها ليست على نسق واحد ولا على درجة واحدة من حيث الأجر والثواب، فقد قال صلى الله عليه وسلم مبينًا فضل الصلاة في مسجده هذا:"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ"
(1)
. الذي تقدر الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه. كما بين أن صلاة في الأقصى تقدر بخمسمائة صلاة فيما سواه.
وإذا كانت درجات المساجد متفاوتة كما بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي في مقدمتها بيت الله الحرام، فهو القبلة وفيه الكعبة المشرفة التي يتجه إليها المسلمون في كل يوم خمس صلوات مفروضة إلى غير ذلك من الصلوات، وهذا البيت يطوف به المسلمون، والطواف ركن من أركان ذلك الحج إلى ذلك البيت العتيق، حيث مقام إبراهيم.
وقد ميَّز بين البقاع وبين فضل الحرم فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وقال سبحانه وتعالى حكاية عن إبراهيم:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37]، وقال تعالى:
• قوله: ({إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}) [آل عمران: 96، 97].
(1)
أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394).
إن الله سبحانه وتعالى حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض
(1)
، وذكر ذلك رسول الله وقال:"وإني حرمت المدينة"
(2)
؛ فمكة ليست كغيرها، ومن هنا قال بعض العلماء
(3)
: إن من قتل في الحرم أو في الشهر الحرام أو قتل ذا محرم أو قتل محرمًا متلبسًا بتلك العبادة مقبلًا على الله تعالى معرضًا عما سواه طائعًا لله منيبًا إليه بالزيادة أو التشديد فيها.
• قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(4)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(5)
، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى)
(6)
.
الشهر الحرام، أي: داخل الأشهر الحرم المعروفة.
ومن العلماء من قال: "إن للمكان والزمان حرمتيهما، وأن من تعدى فقتل في البلد الحرام أو في الشهر الحرام، فإنه يعاقب بتغليظ الدية".
وإن كان من العلماء من يرى مكة هي التي لها الحرمة، فإن الإمام الشافعي يرى المدينة المنورة أيضًا كذلك
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (1833) عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمعرف".
(2)
أخرجه البخاري (2129) ومسلم (1360) عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة".
(3)
سيأتي تفصيل ذلك المسألة التالية.
(4)
يُنظر: "المدونة" لمالك (4/ 558) حيث قال: "لا تغلظ الدية في الشهر الحرام. قال: ولا تغلظ الدية على من قتل خطأ في الحرم".
(5)
يُنظر: "النتف في الفتاوى" للسغدي (2/ 666)؛ حيث قال: "وأما التغليظ، فإنما يجب إذا ختله متعمدًا بغير سلاح، ويمكن أن يعيش من ذلك الضرب، فيكون في ذلك الدية المغلظة في قول أبي حنيفة وأصحابه".
(6)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 91)؛ حيث قال: "قال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى ومالك: إن القتل في الحل والحرم سواء فيما يجب به من الدية أو القود".
(7)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 219)؛ حيث قال: "وأما اعتبارهم حرم مكة =
• قوله: (لَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهِمَا).
فالإمام مالك وأبو حنيفة وابن أبي ليلى يرون أن لا تغليظ؛ لأن الله سبحانه وتعالى عندما ذكر عقوبة القاتل لم يذكر التغليظ.
• قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [ألنساء: 92].
وكذلك رسول الله.
وإنما جاء التغليظ بالنسبة للقتل العمد إذا عدل عن القصاص إلى الدية، فتكون على القاتل لا على العاقلة، وتدفع في الحال ولا تؤجل، خلافًا لدية الخطأ التي تكون على العاقلة، وتؤجل بالتخميس والتربيع.
• قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(1)
: تُغَلَّظُ فِيهِمَا فِي النَّفْسِ وَفِي الْحِرَاحِ. وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ شِهَابٍ
(2)
وَغَيْرِهِمْ
(3)
- أَنَّهُ يُزَادُ فِيهَا مِثْلُ ثُلُتِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ)
(4)
.
= بحرم المدينة، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من غلظ الدية فيها كتغليظها بمكة من قوله في القديم".
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 216)؛ حيث قال: "وكذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذي الرحم".
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 137)؛ حيث قال: "فروي عن المَاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وبن شهاب وأبان بن عثمان أنه من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها".
(3)
مثل سالم بن عبد الله، يُنظر:"مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 92)؛ حيث قال: "روي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله أن من قتل في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها".
(4)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(12/ 97) عن مجاهد: أن عمر بن الخطاب قضى فيمن فتل في الحرم، أو في الشهر الحرام، أو وهو محرم، بالدية وثلث الدية. وقال:"وهو منقطع"، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2259).
الشافعي وأحمد
(1)
وأصحابهما قالوا بالتغليظ وبينوا كيفيتها، فقال بعض:"تغلظ دية ذات الثلث"؛ ويستدلون بقصة المرأة التي وطأت في الطواف
(2)
، فكانت ديتها ثمانية آلاف بمعنى ستة آلاف - وهو نصف دية الرجل عند من يقول:"إن الدية الكاملة اثنا عشر ألفًا - زائد ألفان تغليظًا".
وجاء عن عبد الله بن عمر
(3)
أنه قال: "من قتل في البلد الحرام أو في الشهر الحرام أو ذا رحم أو محرمًا، فعليه دية وثلث "، أي: اثنا عشر ألفًا (الدية الكاملة للحر) زائد أربعة آلاف (ثلث الدية الكاملة) تغليظًا.
والقائلون بهذا الرأي يقولون: إنه أثر عن الصحابة رضي الله عنهم بلا خلاف ولا إنكار، وإذا جاء قول عن الصحابة ولا يعارضه دليل من كتاب ولا سنة، فينبغي أن يؤخذ به.
وإذا كان المسلم واجبًا عليه أن يخشى الله سبحانه وتعالى في كل مكان وزمان، فيأتي بأوامره وينتهي عن نواهيه، فإن ارتكاب المعاصي في الأماكن المقدسة والأشهر الحرم يكون أفظع، وكلما كان الأجر أعظم كان العقاب أشد، فمن يتعدى ويتجاوز حدود الله تعالى في مكة أو في المدينة ليس كمن يتجاوزها في غيرهما من بقاع الأرض.
• قوله: (وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَتَلَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ
(4)
وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ).
(1)
يُنظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 381)؛ حيث قال: "ولا تغلظ الدية بموضع غير الحرم".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (17282) عن ابن أبي نجيح، عن أبيه قال:"أوطأ رجل امرأة فرسًا في الموسم فكسر ضلعًا من أضلاعها، فماتت، فقضى عثمان فيها بثمانية آلاف درهم؛ لأنها كانت في الحرم، جعلها الدية وثلث الدية".
(3)
لم أقف عليه، قال الألباني في "إرواء الغليل" (7/ 310):"لم أره عن ابن عمر، وإنما عن أبيه". وتقدم أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 216)؛ حيث قال: "وكذلك التغليظ في ذي الرحم".
وأحمد
(1)
يوافق الشافعي في هذا في رواية.
• قوله: (عُمُومُ).
الشافعي يرى التغليظ بكل من مكة والمدينة.
• قوله: (الظَّاهِرِ فِي تَوْقِيتِ الدِّيَاتِ، فَمَنِ ادَّعَى فِي ذَلِكَ تَخْصِيصًا، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُغَلَّظُ الْكَفَّارَةُ فِيمَنْ قُتِلَ فِيهِمَا. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَرْوِي عَنْ عُمَرَ
(2)
وَعُثْمَانَ
(3)
وَابْنِ عَبَّاسٍ
(4)
.
وَإِذَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوْقِيفِ، وَوَجْهُ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاس أَنَّ التَّغْلِيظَ فِيمَا وَقَعَ خَطأً بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ. وَيلْفَرِيقِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ قَدْ يَنْقَدِحُ فِي ذَلِكَ قِيَاسٌ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَعْظِيمِ الْحَرَمِ وَاخْتِصَاصِهِ بِضَمَان الصُّيُودِ فِيهِ).
(1)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 76)؛ حيث قال: "وذكر منها (الرحم المحرم) وهو إحدى الروايتين. ونقله المصنف هنا عن الأصحاب. قلت: منهم أبو بكر، والقاضي، وأصحابه، وجزم به في الهداية، والمذهب، والمستوعب، والخلاصة، والهادي، وإدراك الغاية. وهو من مفردات المذهب".
(2)
أخرجه ابن المنذر في الأوسط (6/ 217) عن عمر أنه قال: "من قتل في الحرم أو فتل محرمًا أو قتل في الشهر الحرام، فعليه الدية وثك الدية". وضعفه ابن الملقن في "البدر المنير"(8/ 483).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(14/ 216): "أن عثمان قضى في امرأة قتلت في الحرم بدية وثلث دية". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2258).
(4)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(12/ 97) عن نافع بن جبير، قال:"قال ابن عباس: يزاد في دية المقتول في أشهر الحرام أربعة آلاف، وفي دية المقتول في الحرم". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2260).
ألم يقل الله سبحانه وتعالى:
• قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوتْ 67]، ويقول:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ) [الحج: 25].
والقائل بعدم التغليظ يستدل بعموم النصوص، والقائل بالتغليظ يستدل بما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم. ولكل وجهة هو موليها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[كِتَابُ الدِّيَاتِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ]
مرَّ ذكر ما يتعلَّق بالدَّيات المتعلقة بإزهاق النفس من جنايات وقصاص، لكن قد يكون التَّعدَي على ما دون النفس، وينقسم هذا التعدِّي إلى قسمين:
الأول: تعدِّي على طرف من الأطراف كقطع يدٍ، أو رجلٍ، أو قلع عين، أو قطع أنف، أو لسان، أو شفاه، أو أذن أو غير ذلك.
الثاني: إتلاف شيء لا يوجد في الإنسان غيره، وهذا فيه دية كاملة. وما يوجد فيه اثنان ففي أحدهما نصف دية وفيهما معًا دية كاملة، فقطع اليد فيها نصف الدية؛ لكن قطع الأنف فيه دية كاملة
(1)
؛ لأنه واحد، وهكذا للعين نصف الدية
…
وهذا في حالة الخطإ. أما الذي سيبدأ به المؤلف وهو (ما يتعلق بالتعدِّي فيما لا يصل إلى إذهاب طرف) وهو ما يعرف بالشِّجاج
(2)
: وهي التي يصاب بها الإنسان من الجروح. وهذه فيها أشياء محددة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ففيها دية كما في
(1)
سيأتي حُكمها مستقلًّا.
(2)
"الشجاج": جمع شجة، وهي الجراحة التي في الرأس والوجه، وهي فعلة من الشج وهو كسر الرأس؛ أولها الحارصة، ثم الدامعة، ثم الدامية، ثم الباضعة، ثم المتلاحمة، ثم السمحاق، ثم الموضحة، ثم الهاشمة، ثم المنقلة، ثم الامة. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 305).
الموضحة
(1)
: وهي الشَّج التي توضِّح العظم ولا تكون إلا في الرأس أو الوجه، وهذه فيها خمسة من الإبل كما جاء في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم، وما دون ذلك فليس فيه دية، ولكن فيه أرش، أي:(حكومة) كما سنبين ذلك
(2)
.
وما فوق الموضحة ففيه الدية وقد ورد النص ببعضها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها أجمع العلماء على وجوب الدية فيه
(3)
. فهذه الجراح قد تبدأ صغيرة ثم تكبر شيئًا فشيئًا فيبدءون بـ "الخارصة"، وبعضهم يبدأ بالدامية كما ذكر المؤلف فيقولون:"الخارصة"
(4)
: هي التي تشق شيئًا من الجلد دون أن يخرج الدم.
(1)
"الموضحة": الشجة تكون بالرأس فتكشف العظم وتقطع الجلدة الرقيقة التي تكون بين اللحم وعظم الرأس، وتوضح العظم، أي: تبينه. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 662).
وقال ابن المنذر في "الإشراف"(7/ 402): "وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الوجه والرأس".
(2)
أخرجه النسائي (4853) وغيره عن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقرأت على أهل اليمن هذه نسختها:"من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال، قيل: ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد"، وكان في كتابه:"أن من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة، فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وأن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه: الدية، وفي اللسان: الدية، وفي الشفتين: الدية، وفي البيضتين: الدية، وفي الذكر: الدية، وفي الصلب: الدية، وفي العينين: الدية، وفي الرجل الواحدة: نصف الدية، وفي المأمومة: ثلث الدية، وفي الجائفة: ثلث الدية، وفي المنقلة: خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد، والرجل: عشر من الإبل، وفي السِّن: خمس من الإبل، وفي الموضحة: خمس من الإبل، وأن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار. وصعفه الألباني في "إرواء الغليل" (2333).
(3)
الذي فوق الموضحة هي الهاشمة، والمنقلة وستأتي أحكامهما.
(4)
"الحارصة": التي تحرص الجلد، أي: تخدشه ولا يخرج الدم، وقيل: هي التي تقشر الجلد قليلًا. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
ثم تأتي بعدها "الدامية"
(1)
: وهي التي تزيد قليلًا فيخرج الدم.
ثم بعد ذلك "الباضعة"
(2)
: وهي التي تأخذ في اللحم.
ثم تأتي "الملتحمة"
(3)
: وهي التي أخذت في اللحم.
ثم تأتي "السمحاق"
(4)
: وهي التي تصل إلى الجلد الرقيق الذي يفصل بين العظم واللحم.
ثم تأتي "الموضحة": وهي التي أوضحت العظم.
ثم تأتي "الهاشمة"
(5)
: وهي التي هشمت العظم.
ثم تأتي "المنقلة"
(6)
: وهي التي كسرت العظم ونقلته حيث تغير عن مكانه.
ثم تأتي بعد ذلك "المأمومة"
(7)
: وهي التي وصلت إلى جلدة الدماغ.
وهناك "الجائفة"
(8)
: وهي التي تصل إلى الجوف.
(1)
"الدامية": التي تخدش الجلد وتسيل الدم. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(2)
"الباضعة": هي التي تبضع الجلد، أي: تقطعه وتصل إلى اللحم، وقيل: تشق اللحم شقًّا خفيفًا. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(3)
"المتلاحمة": هي التي تقطع الجلد وتؤثر في اللحم، وقيل: تأخذ في اللحم. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(4)
"السمحاق": هي التي تقطع الجلد واللحم، وتصل إلى جلدة تكون بين اللحم وعظم الرأس رقيقة. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(5)
"الهاشمة": هي التي تهشم العظم، أي: تكسِّره. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(6)
"المنقلة": هي التي تنقل العظم بعد الكسر، أي: تحول من موضع إلى موضع. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(7)
ويقال لها أيضًا الآمة: وهي التي تصل إلى أمِّ الرأس، أي: أصله، وهو الذي فيه الدماغ. يُنظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(8)
"الجائفة": طعنة تبلغ الجوف. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 24).
فما دون الموضحة ليس فيها - على الرأي الصحيح - دية
(1)
.
(1)
نعم إنما فيها الأرش أو حكومة، قال ابن المنذر في "الإشراف" (7/ 398 - 399):"لم نجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم حكمًا في شيء من الشجاج دون الموضحة. وقد أجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرشًا، واختلفوا في ذلك الأرش".
وما دون الموضحة شجاج خمس: الدامية، الدامعة، الباضعة، المتلاحمة، السمحاق وهىِ التي يسميها أهل المدينة: الملطاة.
فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 581 - 582) قال: "وفي الحارصة والدامعة والدامية والباضعة والمتلاحمة والسمحاق حكومة عدل؛ إذ ليس فيه أرش مقدر من جهة السمع، ولا يمكن إهدارها فوجب فيها حكومة عدل، وهي
…
أن ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة فيجب بقدر ذلك من نصف عشر الدية
…
وقيل
…
يقوم المشجوج عبدًا بلا هذا الأثر ثم معه فقدر التفاوت بين القيمتين في الحر من الدية، وفي العبد من القيمة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 251) قال: "واقتصَّ من سابقها، أي: الموضحة، أي: ما يوجد قبلها من الجراحات
…
من دامية وهي التي تضعف الجلد فيرشح منه دم من غير شق الجلد، وحارصة شقت الجلد وأفضت للحم، وسمحاق
…
كشطته، أي: الجلد، أي: أزالته عن محله
…
وباضعة شقت اللحم ومتلاحمة غاصت فيه، أي: في اللحم بتعدد، أي: في عدة مواضع ولم تقرب من العظم، وملطاة
…
قربت للعظم ولم تصل له كضربة السوط فيها القصاص
…
واقتصَّ من جراح الجسد غير الرأس وإن منقلة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 353) قال: "والشجاج الخمس التي قبل الموضحة من حارصة ودامية وباضعة ومتلاحمة وسمحاق إن عرفت نسبتها منها
…
بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها الباضعة مثلا عرف أن المقطوع ثلث أو نصف في عمق اللحم، وجب قسط من أرشها بالنسبة، فإن شككنا في قدرها من الموضحة أوجبنا اليقين،
…
وإلا بأن لم تعرف نسبته منها فحكومة لا تبلغ أرش موضحة كجرح سائر، أي: باقي البدن".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 128 - 129) قال: "الشجة
…
عشر مرتبة خمس منها فيها حكومة، أحدها: الحارصة
…
التي تحرص الجلد؛ أي: تشقه ولا تدميه؛ أي: تسيل دمه .... وتسمى الملطاء، ثم يليها البازلة الدامية، والدامعة
…
وهي التي تدميه؛ أي: الجلد
…
وسميت دامعة، لقلة سيلان الدم منها
…
ثم يليها الباضعة وهي التي تبضع اللحم؛ أي: تشقه بعد الجلد
…
ثم يليها المتلاحمة وهي الغائصة فيه؛ أي: اللحم
…
ثم يليها السمحاق وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة مشتقة تسمى السمحاق، سميت؛ لجراحة الواصلة إليها بها. ففي كل من هذه الخمسة حكومة؛ لأنه لا توقيف فيه من الشرع ولا قياس يقتضيه".
والموضحة وما فوقها فيها دية وهي (الخمس) في الموضحة
(1)
، ثم يأتي بعدها الهاشمة (عشر)
(2)
، .....................................
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 581) قال: " (قوله نصف عشر الدية) إن كانت خطأ، فلو عمدًا فالقصاص كما يأتي، وفي الكافي من المتفرقات شجه عشرين موضحة إن لم يتخلل البرء تجب دية كاملة في ثلاث سنين، وإن تخلل البرء يجب كمال الدية في سنة واحدة ط (قوله أي: لو غير أصلع) قال في الهندية: رجل أصلع ذهب شعره من كبر فشجه موضحة إنسان متعمدًا، قال محمد: لا يقتص وعليه الأرش، وإن قال الشاج: رضيت أن يقتصَّ مني ليس له ذلك، وإن كان الشاج أيضا أصلع فعليه القصاص كذا في محيط السرخسي. وفي واقعات الناطفي: موضحة الأصلع أنقص من موضحة غيره فكان الأرش أنقص أيضا".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 251) قال: "ثمانية تكون في الرأس، أو الخد، وهي المنقلة، والموضحة وما قبلها، وهي ستة وفيها القصاص
…
واقتص من موضحة
…
وبينها بقوله، وهي ما أوضحت عظم الرأس أي: أظهرته، وعظم الجبهة، والخدين
…
فما أوضح عظم غير ما ذكر ولو أنفًا، أو لحيًا أسفل لا يسمى موضحة عند الفقهاء، وإن اقتصَّ من عمده، ولا يشترط في الموضحة ما له بال، بل وإن أوضحت كإبرة، أي: قدر مغرزها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 302) قال: "في موضحة الراْس ولو للعظم الثاني خلف الأذن، أو الوجه وإن صغرت، ولو لما تحت المقبل من اللحيين، وإن لم يدخل ذلك في غسل الوجه في الوضوء نصف عشر دية صاحبها، ففيها لحر ذكر مسلم غير جنين خمسة أبعرة؛ لما رواه الترمذي وحسنه "في الموضحة خمس من الإبل"، فتراعى هذه النسبة في حق غيره من المرأة والكتابي وغيرهما
…
وخرج بالرأس والوجه ما عداهما كالساق والعضد فإن فيهما الحكومة". ومذهب الحنابلة، يُنظر: "مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 129) قال: "وخمس من الشجاج فيها مقدر أولها الموضحة وهي التي توضح العظم أي: تبرزه؛ أي: تصل إليه ولو بقدر رأس إبرة فلا يشترط وضوحه للناظر، فلو أوضحه برأس مسلة أو إبرة وعرف وصولها إلى العظم كانت موضحة، والواضح البياض
…
وفيها نصف عشر الدية، أي: دية الحرِّ المسلم فمن حر أو حرة خمسة أبعرة؛ لما في حديث عمرو بن حزم: "وفي الموضحة خمس من الإبل" وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في المواضح خمس خمس" رواه أبو داود".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 316) قال: "وأما الشجاج فالكلام في الشجة يقع في موضعين؛ أحدهما: في بيان حكمها بنفسها، والثاني: في بيان حكمها بغيرها.
أما الأول
…
وفي الهاشمة عشر
…
هكذا روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه =
ثم المنقلة (خمس عشر)
(1)
، ثم المأمومة
(2)
، وكذلك الجائفة (ثلث
= قال: "في الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي الآمة ثلث الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 270 - 271) قال: "والهاشمة
…
فعشر ونصفه، أي: نصف العشر خمسة عشر بعيرًا، أو مائة وخمسون دينارًا، ولا يزاد على ما ذكر في هذه الجراح شيء".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 352) فال: "وفي هاشمة مع إيضاح أو احتياج إليه بشق لإخراج عظم أو تقويمه أو سرت إليه عشرة من أبعرة، وهي عشر دية الكامل بالحرية وغيرها، ولو عبر به لكان أولى ليشمل الصور المتقدمة قبل هذا. والأصل في ذلك ما روي عن زيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم "أوجب في الهاشمة عشرًا من الإبل" رواه الدارقطني والبيهقي مرفوعًا عن زيد، ومثل ذلك لا يكون إلا عن توقيف".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 131) قال: "ثم يلي الموضحة الهاشمة وهي التي توضح العظم؛ أي: تبرزه وتهشمه؛ أي: تكسره، وفيها عشرة أبعرة، روي عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، وقول الصحابي ما يخالف القياس توقيف، فإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز ففيهما عشرون بعيرًا فإن زال الحاجز فعلى ما تقدم تفصيله، والهاشمة الصغيرة كالكبيرة".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 316) قال: "وأما الشجاج فالكلام في الشجة يقع في موضعين؛ أحدهما: في بيان حكمها بنفسها، والثاني: في بيان حكمها بغيرها.
أما الأول
…
وفي المنقلة خمس عشرة
…
هكذا روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "في الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي الآمة ثلث الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 270 - 271) قال: "وإلا المنقلة
…
فعشر ونصفه، أي: نصف العشر خمسة عشر بعيرًا، أو مائة وخمسون دينارًا، ولا يزاد على ما ذكر في هذه الجراح شيء".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 303) قال: "ومنقلة مع إيضاح وهشم كما صوره الرافعي خمسة عشر بعيرًا، روى النسائي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقل في "الأم" فيه الإجماع، وكذا ابن المنذر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 131) قال: "ثم يليها المنقلة التي توضح العظم وتهشم العظم وتنقل العظم، وفيها خمسة عشر بعيرًا حكاه ابن المنذر إجماع أهل العلم، وفي كتاب عمرو بن حزم "وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل" فإن كانتا منقلتين فعلى ما سبق".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 316) قال: "وأما الشجاج =
الدية)
(1)
، وما دون الموضحة ففيه حكومة.
هذه هي الأشياء التي سيعرضها المؤلف، وبعضها ليست محل خلاف؛ لأنه جاء فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضها قد اجتهد فيها العلماء.
• قوله: (وَالَأشْيَاءُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هِيَ شِجَافي وَأَعْضَاءٌ، فَلْنَبْدَأْ بِالْقَوْلِ فِي الشِّجَاجِ).
"الشِّجاج": لا تكون إلا في الرأس أو الوجه. لكن ليس كل ما وقع في الوجه يسمَّى شجاجًا؛ فعند أكثر العلماء لا فرق بين تغير الأمكنة في
= فالكلام في الشجة يقع في موضعين؛ أحدهما: في بيان حكمها بنفسها، والثاني: في بيان حكمها بغيرها.
أما الأول
…
وفي الآمة ثلث الدية
…
هكذا روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "في الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي الآمة ثلث الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 270) قال: "والآمة فثلث من الدية المخمسة في كل منهما ومثلهما الدامغة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 303) قال: "وفي مأمومة ثلث الدية لخبر عمرو بن حزم بذلك. قال في "البحر" وهو: إجماع، وفي الدامغة ما في المأمومة على الأصح المنصوص، وقيل: تزاد حكومة لخرق غشاء الدماغ. قاله الماوردي، وهو قياس ما يأتي في خرق الأمعاء في الجائفة، وقيل: يجب تمام الدية؛ لأنها تذفف والأول يمنع ذلك، وإنما يجب في المأمومة وما قبلها ما ذكر إن اتَّحد الجاني، فلو تعدد فحكمه مذكور في قوله".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 131) قال: "ثم يليها المأمومة التي تصل إلى جلدة الدماغ وتسمى الآمة بالمد
…
الشجة التي تصل إلى أمِّ الدماغ، وأم الدماغ هي جلدة فيها الدماغ. قال النضر بن إسماعيل: أم الرأس الخريطة التي فيها الدماغ سميت بذلك؛ لأنها تخرط الدماغ وتجمعه
…
وفي كل منهما؛ أي: المأمومة والدامغة ثلث الدية؛ لما في كتاب عمرو بن حزم مرفوعًا: "وفي المأمومة ثلث الدية"، وعن ابن عمر مرفوعًا مثله، والدامغة أولى، وصاحبها لا يسلم غالبًا".
(1)
سيأتي ذكر أقوال الفقهاء فيها.
الوجه، وقال بعض العلماء
(1)
: إن الشجة بعد شفائها تترك شيئًا، أي: عيبًا في الوجه فلذلك يؤخذ مقابل لذلك.
وقبل أن نفصِّل لا بد أن نعرف معنى "الحكومة"
(2)
، وتقديرها: أن يُعتبر الإنسان المصاب بمثابة العبد، والعبد يباع ويشترى، وله قيمة في حال صحته وقيمة في حال عجزه أو وجود عيب فيه، فإذا قُدِّر المصاب الحرُّ عبدًا سليمًا كانت قيمته مثلًا عشرة آلاف، وبعد إصابته وشفائه من هذا الجرح الذي ترك أثرًا كانت قيمته مثلًا: تسعة آلاف؛ فيؤخذ الفرق وشملم له وهكذا. هذه معنى الحكومة، وليس هناك شيء محدد تكون فيه الحكومة.
أما ما يتعلق بالدِّية: فهي التي جاء النصُّ عليها، والموضحة: هي التي أوضحت العظم وفيها: "خمس من الإبل" كما في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن الذي كتبه إلى عمرو بن حزم قال: "وفي الموضحة خمس من الإبل"
(3)
.
(1)
وهو مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 271) قال: "وإن برئت بشين، أي: على قبح فيهن، أي: الجراح المذكورة ودفع بالمبالغة ما يتوهم من أنها إذا برئت بشين أنه يزاد على ما قدره الشارع، ولو أنه بالغ على نفي الشين لدفع توهم النقص لصح أيضًا، وشرط أخذ القدر المذكور في الجراحات المذكورة إن كن برأس، أو لحي أعلى، وهو ما ينبت عليه الأسنان العليا، وهذا راجع لما عدا الجائفة، فإنها مختصة بالظهر أو البطن كما تقدم، فالضمير في كن راجع للمجموع لا للجميع، وقوله: أو لحي أعلى لا يتأتى في الآمة؛ لأنها مختصة بالرأس".
(2)
الحكومة في أرش الجراحات التي ليس فيها دية معلومة: أن يجرح الإنسان في موضع في بدنه يبقي شينه ولا يبطل العضو، فيقتاس الحاكم أرشه بأن يقول: هذا المجروح لو كان عبدًا غير مشين هذا الشين بهذه الجراحة كانت قيمته ألف درهم، وهو مع هذا الشين قيمته تسعمائة درهم فقد نقصه الشين عشر قيمته، فيجب على الجارح عشر ديته في الحر؛ لأن المجروح حر، وهذا وما أشبهه بمعنى الحكومة التي يستعملها الفقهاء في أرش الجراحات. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (12/ 145)، و"أنيس الفقهاء" للقونوي (ص 109 - 110).
(3)
تقدم تخريجه، وهو حديث ضعيف.
• قوله: (وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَحَلِّ الْوُجُوبِ، وَشَرْطِهِ، وَفِي قَدْرِهِ الْوَاجِبِ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟ وَمَتَى تَجِبُ؟ وَيمَنْ تَجِبُ فَأَمَّا مَحَلُّ الْوُجُوبِ فَهِيَ الشِّجَاجُ أَوْ قَطْعُ الَأعْضَاءِ).
وعلى ذلك فالاعتداء على الإنسان فيما دون نفسه، (أي: دون إزهاق النفس)، يكون في واحد من أمرين:
الأول: إما في قطع عضو.
الثاني: إما في شجة تصيبه في موضع ببدنه
(1)
.
• قوله: (وَالشِّجَاجُ عَشَرَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ
(2)
).
بدأ بالشجاج قبل أن يبدأ بالأطراف وإن كانت الأطراف أخطر لكنَّه قدَّم هذه. وقال: "في اللغة"، وكذلك في الفقه، أي: أن المصطلح الفقهي والمصطلح اللغوي لم يختلفا في تسميتها؛ فاسم هذه العشر في اللغة لا يختلف عن اسمها في مصطلح الفقهاء، لكن يوجد لبعضها أكثر من تسمية فمثلًا:"الدامية" يسميها بعضهم الباذلة، أو الدامعة
(3)
، وقد سميت
(1)
ويقسمهما الفقهاء أقسام:
فعند الحنفية أربعة أقسام: أحدها: إبانة الأطراف، وما يجري مجرى الأطراف، والثاني: إذهاب معاني الأطراف مع إبقاء أعيانها، والثالث: الشجاج، والرابع: الجراح. انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 296).
وعند الشافعية ثلاثة أقسام: جرح، وإبانة طرف، وإزالة منفعة. يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 203).
(2)
تقدَّم تعريفها وبيان أقسامها.
(3)
عند المالكية الدامعة والدامية شيء واحد.
يُنظر: "منح الجليل" للشيخ عليش (9/ 40) قال: "دامية بإهمال الدال وكسر الميم فمثناة تحتية، وتسمى دامعة بعين مهملة أيضًا، وهي التي تضعف الجلد حتى يرشح منه شيء كالدم من غير انشقاقه". وينظر: "الذخيرة" للقرافي (12/ 328).
وعند الحنابلة البازلة والدامية والدامعة شيء واحد.
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 51) قال: "البازلة وتسمى الدامية والدامعة؛ لقلة سيلان دمها تشبيهًا له بخروج الدمع من العين وهي التي يسيل منها الدم". وانظر: "مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 129).
دامية؛ لخروج الدم منها، ودامعة؛ لأن الدم قليل لا يسيل كثيرًا. وباذلة كذلك؛ لأنها أخرجت شيئًا
(1)
، لكن الأكثر أنها تسمى الدامية.
وقد قدم المؤلف هنا الدامية على الخارصة، وبعض الفقهاء يقدم الخارصة على الدامية، وقد سار المؤلف على مذهب المالكية؛ لأن المالكية يعتبرون أولًا شق الجلد ثم خروج الدم ثم تأتي الخارصة: التي خرصت الجلد، أي: شقَّته أكثر
(2)
، ويقول الآخرون: إن الخارصة تسبق الدامية، ولذلك قالوا: لا دية فيها
(3)
، وحجة الآخرون أقوى على الفرض بأن هناك دية؛ لأن هناك قولًا مرجوحًا بأن فيها دية؛ فيقولون في الدامية: فيها دية ثم التي بعدها الباضعة فيها بعير، وقالوا: الخارصة والدامية فيها بعير ثم تأتي بعد ذلك التي بعدها بعيران، ثم ثلاثة، ثم أربعة، ثم تأتي
(1)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 51) قال: "البازلة وتسمَّى الدامية والدامعة؛ لقلة سيلان دمها تشبيهًا له بخروج الدمع من العين وهي التي يسيل منها الدم".
(2)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 251) قال: "وثلاثة باللحم ورتبها على حكم وجودها الخارجي فقال: من دامية، وهي التي تضعف الجلد فيرشح منه دم من غير شق الجلد، وحارصة شقت الجلد وأفضت للحم".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 296) قال: "الشجاج أحد عشر، أولها: الخارصة
…
ثم الدامية
…
فالخارصة: هي التي تخرص الجلد، أي: تشقه، ولا يظهر منها الدم
…
والدامية: هي التي يسيل منها الدم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 303) قال: "والشجاج الخمس التي قبل الموضحة من حارصة ودامية
…
فإن شككنا في قدرها من الموضحة أوجبنا اليقين، هذا ما جرى عليه المصنف تبعًا للمحرر، والذي في الروضة وأصلها عن الأصحاب وجوب الأكثر من الحكومة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 128) قال: "الشجة باعتبار أسمائها المنفولة عن العرب عشر مرتبة خمس منها فيها حكومة؛ أحدها: الحارصة
…
التي تحرص الجلد؛ أي: تشقه ولا تدميه؛ أي: تسيل دمه
…
وتسمَّى أيضًا القاشرة والقشرة، قال ابن هبيرة تبعًا للقاضي: وتسمَّى الملطاء، ثم يليها البازلة الدامية والدامعة
…
وهي التي تدميه؛ أي: الجلد
…
ففي كل من هذه الخمسة حكومة؛ لأنه لا توقيف فيه من الشرع ولا قياس يقتضيه، وعن مكحول قال:"قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة بخمس من الإبل".
الموضحة فتكون خمسة هذا رأي أُثِر عن بعض السلف
(1)
، وهي رواية للإمام أحمد
(2)
؛ أما الأئمة (أبو حنيفة
(3)
، ومالك
(4)
، والشافعي
(5)
) ووفيما اشتهر عن أحمد فقالوا: ما دون الموضحة لا توقيت فيها.
• قوله: (أَوَّلُهَا الدَّامِيَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي الْحِلْدَ
(6)
).
يقول كثير من العلماء: إن أولها الخارصة؛ وهي التي تقشر الجلد، أي: تشقه قليلًا، ولا يلزم من الشق اليسير أن يخرج الدم كإنسانٍ مثلًا يكون معه آلة حادة فتقطع شيئًا من جلده ولا يخرج الدم، بل يحسُّ بالألم
(1)
وهو قول زيد بن ثابت.
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 307) عن زيد بن ثابت قال: "في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاث من الإبل، وفي السمحاق أربع، وفي الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقولة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية
…
".
(2)
يُنظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد" للكلوذاني (ص 521) قال: "نقل عنه أبو طالب أنه قال: قد حكم زيد في الدامية ببعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي المتلاحمة بثلاثة أبعرة، وفي السمحاق بأربعة أبعرة فأذهب إليه". وانظر: "الإنصاف" للماوردي (10/ 107).
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 582) قال: "ولا قصاص في جميع الشجاج إلا في الموضحة عمدًا، وما لا قود فيه يستوي العمد والخطأ فيه، لكن ظاهر المذهب وجوب القصاص فيما قبل الموضحة أيضًا ذكره محمد في الأصل، وهو الأصح درر ومجتبى وابن الكمال وغيرها لإمكان المساواة، بان يسبر غورها بمسبار ثم يتخذ حديدة بقدرة فيقطع".
(4)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 250 - 251) قال: "والجراح عشرة اثنان يختصان بالرأس، وهما: الآمة، والدامغة ولا قصاص فيهما وثمانية تكون في الرأس، أو الخد، وهي المنقلة، والموضحة وما قبلها، وهي ستة وفيها القصاص إلا منقلة الرأس".
(5)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (11/ 515 - 511) قال: "وأما الشجاج التي قبل الموضحة: فلا يجب فيها أرش مقدر؛ لما روى مكحول مرسلًا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الموضحة خمسًا من الإبل، ولم يوقت فيما دون ذلك شيئًا"، ولأن تقدير الأرش يثبت بالتوقيف، ولا توقيف هاهنا".
(6)
"الدامية": التي تخدش الجلد وتسيل الدم. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
فقط. والحاصل: أنها فتحته قليلًا ولم تتجاوز الحد الذي يُخْرِج الدم، أما إذا خرج الدم فيعتبرونها الدامية، وهي: التي ذكرها المؤلف فيجعلون الدامية هي التالية وليست الأُولى.
• قوله: (ثُمَّ الْخَارِصَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْحِلْدَ
(1)
. ثُمَّ الْبَاضِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تبضِّعُ اللَّحْمَ، أَيْ: تَشُقُّهُ
(2)
).
"الباضعة": هي التي أخذت جزءًا من اللحم، وبضعت فيه، أي: نفذت قليلًا لكنها لم تنفذ كثيرًا إلى اللحم بمعنى: أنها شقت الجلد وخرج الدَّم ونفذت إلى اللحم قليلًا.
• قوله: (ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ
(3)
).
"المتلاحمة": وهي التي أخذت في اللَّحم أكثر من الباضعة.
• قوله: (ثُمَّ السِّمْحَاقُ، وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ السِّمْحَاقَ، وَهُوَ الْغِشَاءُ الرَّقِيقُ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ
(4)
).
يسمونها سمحاقًا؛ لأنها قاربت الموضحة، وهي التي أخذت كلَّ اللحم فوصلت إلى غشاء رقيق. وليس كالدامغة" فالدامغة: هي التي تكون في الدِّماغ وتصل إلى جلدة الدماغ
(5)
. فهنا وصلت إلى جلدة رقيقة، وهذه
(1)
"الحارصة": التي تحرص الجلد، أي: تخدشه ولا يخرج الدم، وقيل: هي التي تقشر الجلد قليلًا. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(2)
"الباضعة": هي التي تبضع الجلد، أي: تقطعه وتصل إلى اللحم، وقيل: تشق اللحم شقًّا خفيفًا. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(3)
"المتلاحمة": هي التي تقطع الجلد وتؤثر في اللحم، وقيل: تأخذ في اللحم. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(4)
"السمحاق": هي التي تقطع الجلد واللحم، وتصل إلى جلدة تكون بين اللحم وعظم الرأس رقيقة. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(5)
"الدامغة"، أي: التي انتهت إلى الدماغ، ولقال: التي تهشم الدماغ حتى لا تبقي شيئا. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 133)، و"المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (5/ 474).
حكمة الله سبحانه وتعالى في خلقه، إذ إن هذه القشرة الرقيقة تفصل بين العظم واللحم؛ لكن قد يسأل سائل فيقول: لماذا ما دون الموضحة لا دية فيها والموضحة وما فوقها فيها دية؟
الجواب: أن ما دون الموضحة يصعب تحديدها، ثم هي جروح يسيرة؛ فالخارصة: قشر شيء من الجلد وهذا يلتحم سريعًا وأمره يسير، واللاحمة: أخذ قليل من اللحم فلذلك قالوا: إن ضبط هذه الأمور من الصعوبة بمكان، أي: إذا نفذت إلى اللحم وأخذت جزءًا منه صعُبَ تقدير ذلك، وربما يُتجَاوز الحد عند القصاص؛ ولذلك قالوا: ليس فيها قصاص، وذلك بخلاف الكلام عن الموضحة فإنها محددة، فلو طولب بالقصاص إذا كان تعديًا فإنه يأخذ ممن فعل ذلك، إذ المماثلة ممكنة في القصاص، وأما التي تأتي بعدها فلا قصاص فيها، إذ المماثلة في القصاص غير ممكنة
(1)
.
• قوله: (وَيُقَالُ لَهَا: الْمَلْطَاءُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ
(2)
).
يقال له: الملطاء بألف بعدها همزة، وملطى بألف مقصورة، أي: ألف على شكل الياء وهي الألف المقصورة.
• قوله: (ثُمَّ الْمُوضِحَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ: يكْشِفُهُ
(3)
).
أوضحت العظم، أي: تجاوزت اللحم كله وقطعت الجلدة الفاصلة
(1)
هذه من القواعد الفقهية المعتبرة عند أهل العلم.
قال السبكي في "الأشباه والنظائر"(1/ 391): "المماثلة في القصاص مرعية بمعنى أن من قتل بفعل من الأفعال؛ فولي الدم بالخيار بين أن يستوفي بالسيف أو بمثل فعله. وانظر: "الموافقات" للشاطبي (2/ 36)، و"فتح القدير" لابن الهمام (10/ 236) وما بعدها.
(2)
"الملطاة": قشرة رقيقة بين عظم الرأس ولحمه. وهذه تسمية أهل المدينة. انظر: "النهاية" لا بن الأثير (4/ 249)، و"الصحاح" للجوهري (6/ 2482).
(3)
"الموضحة": التي تقطع الجلدة الرقيقة التي تكون بين اللحم وعظم الرأس، وتوضح العظم، أي: تبيِّنه. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
وتوقفت عند العظم؛ فإذا ما جاءت التي بعدها هشمت العظم بمعنى: أنها ضربت العظم وكسرته، لكنه باقٍ في محله، وتأتي بعدها "المنقلة": وهي التي خلخلت العظم وغيَّرت مكانه.
• قوله: (ثُمَّ الْهَاشِمَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ
(1)
. ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَطِيرُ الْعَظْمُ مِنْهَا
(2)
).
"الهاشمة": هي التي هشَّمت العظم بالكامل، ولم تغير مكانه، أما "المنقلة": فهي التي يطير العظم منها، أي: ينتقل من مكانه ويختل موضع الكسر؛ فالإنسان في حالة التجبير تُجذَب يدُه -مثلًا- بشدة، ثم يعاد كلُّ شيء إلى مكانه ويوضع بعض الخشبات الدقيقة ليربط بها اليد، وإن كان عند طبيب فإنه يحاول أيضًا أن يرتّبها ويصب عليها الجبس.
• قوله: (ثُمَّ الْمَأْمُومَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ أُمَّ الدِّمَاغِ. ثُمَّ الْجَائِفَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ).
ولا شكَّ أن المأمومة فيها خطورة؛ لأن التي تصل أمَّ الدماغ قد قاربت المخ فلم يبقَ إلا جلد رقيق يفصلها عنه.
ثم "الجائفة": وهي التي وصلت إلى الجوف، ولذلك هاتان الاثنتان لا قصاص فيهما لخطورتهما.
والتي مرت إنما تكون في الرأس أو في الوجه، والجائفة هنا: هي التي تكون في الجوف، أي: تشق البطن فتصل إلى جوف الإنسان.
• قوله: (وَأَسْمَاءُ هَذِهِ الشِّجَاجِ مُخْتَصَّةٌ بِمَا وَقَعَ بِالْوَجْهِ مِنْهَا
(1)
"الهاشمة": هي التي تهشم العظم، أي: تكسره. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
(2)
"المنقلة": هي التي تنقل العظم بعد الكسر، أي: تحول من موضع إلى موضع. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
وَالرَّأْسِ دُونَ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَاسْمُ الْجُرْحِ يَخْتَصُّ بِمَا وَقَعَ فِي الْبَدَنِ. فَهَذهِ أَسْمَاءُ هَذِهِ الشِّجَاجِ).
أورد المؤلف الأسماء وسنشير إلى أحكامها، فهذه أسماء الجراحات التي اصطلح عليها الفقهاء عمومًا عدا الاختلاف في الأُولى والثانية، والذين قالوا بالتحديد قد حذفوا الخارصة فلا شيء فيها عندهم، وبدءوا بالدامية وجعلوا فيها بعيرًا، وفي التي بعدها بعيرين، ثم ثلاثة، ثم في السمحاق أربعة، ثم الموضحة التي جاء النص عليها خمسًا.
• قوله: (فَأَمَّا أَحْكَامُهَا، أَعْنِي: الْوَاجِبَ فِيهَا - فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ وَاقِعٌ فِي عَمْدِ الْمُوضِحَةِ وَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خَطَأة وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خَطَأُ عَقْلٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا حُكُومَةٌ
(1)
).
قوله: "ليمس هناك عقل"، أي: دية، والتي فيها الحكومة أو ما يعرف بالأرش فيعتبر المصاب كالعبد؛ لأن العبد يباع ويشترى فيقال: هذا العبد إذا كان سليمًا قيمته كذا، وبعد أن أصيب أصبحت قيمته كذا. فتنزل القيمة فيُؤخذ الفرق ويسلم للمعتدى عليه.
• قوله: (قَالَ بَعْضُهُمْ: أُجْرَةُ الطَّبِيبِ
(2)
، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي السِّمْحَاقِ بِنِصْفِ دِيَةِ الْمُوضِحَةِ
(3)
).
هناك قول بمن قضى بهذه التي قبل الموضحة بشيء فجعل في الدامية بعيرًا، وفي الباضعة بعيرين، وهكذا إلى أن يصل إلى السمحاق وفيها
(1)
تقدم ذكر أقوال الفقهاء في هذه المسألة بالتفصيل.
(2)
وهو قول الشعبي: ينظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 309) قال: "وعن الشعبي رحمه الله أنه قال: ما دون الموضحة فيه أجرة الطبيب".
(3)
وهو وجه ذكره الشافعية: ينظر: "الحاوي الكبير" للماردي (12/ 239) قال: "وقد روى سعيد ابن المسيب عن عمر وعثمان أنهما قضيا في الملطاة والسمحاق بنصف ما في الموضحة".
أربعة، وهي أيضًا رواية للإمام أحمد
(1)
.
ودية الموضحة: خمس من الإبل؛ فيكون نصفها في السمحاق، ولعلَّ سائلًا أن يسأل فيقول: الإبل لا تقسم فكيف ذلك؟
الجواب: أن هذا يرجع إلى القيمة فكل أمر يتعذر أن تصل فيه إلى المطلوب؛ ترجع فيه إلى القيمة، وكما هو معلوم أن الديات قد تكون من (الإبل) وقد تكون من (البقر) وربما تكون من (الغنم). ولكن اشتهرت الديات في الإبل بل عدَّها بعض العلماء نصًّا
(2)
، وتكون أيضًا في النقدين (الدراهم والدنانير) ويقصد بالدنانير: الذهب، وهي (ألف دينار)، ومن الفضة (اثنا عشر ألفًا)، وكانت قبل ذلك أقل ثم قُرِّر ذلك في زمن عمر رضي الله عنه
(3)
.
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 319) قال: "الباذلة: الدامية الدامعة
…
التي تدميه، أي: الجلد
…
ثم يليها الباضعة، أي: التي تبضع اللحم، أي: تشقه بعد الجلد
…
ثم يليها المتلاحمة، أي: الغائصة فيه، أي: اللحم مشتقة من اللحم لغوصها فيه، ثم يليها السمحاق التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة تسمى السمحاق سميت الجراحة الواصلة إليها بها. ففي كل من هذه الخمس حكومة؛ لأنه لا توفيق فيها من الشرع ولا قياس يقتضيه".
(2)
هذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وقول للشافعية:
مذهب الحنفية، يُنظر: بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 253) قال: "وأما بيان ما تجب فيه الدية فقد اختلف أصحابنا فيه، قال أبو حنيفة رحمه الله: الذي تجب منه الدية وتقضى منه ثلاثة أجناس: الإبل والذهب والفضة، وعندهما ستة أجناس: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحلل".
مذهب المالكية. يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 826) قال: "ولا يؤخذ في الدية إلا الإبل والذهب والورق".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 319) قال: "ولا يعدل عما وجب من الإبل إلى نوع ولو أعلى، ولا إلى قيمة إلا بتراض من الدافع والمستحق كسائر أبدال المتلفات، وقولهم: لا يصح الصلح عن إبل الدية محله إن جهل واحد مما ذكر كما أفاده تعليلهم له لجهالة وصفها، وكلامهم في غيره محمول على هذا التفصيل".
(3)
وهو قول أيضًا عند الشافعية، والحنابلة:
مذهب الشافعية، يُنظر "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 319) قال: "ولو عدمت الإبل من المحل الذي يجب تحصيلها منه حسًّا أو شرعًا بأن وجدت فيه بأكثر من ثمن =
• قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى فِيهَا بِأَرْبَعٍ مِنَ الإِبِلِ
(1)
).
أي: قضى في السمحاق بأربع من الإبل.
• قوله: (وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الدَّامِيَةِ بَعِيرٌ، وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَانِ، وَفِي الْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ، وَفِي السِّمْحَاقِ أَرْبَعَةٌ
(2)
(3)
).
ولم يذكر الخارصةَ
(4)
.
= مثلها فالقديم الواجب في النفس الكاملة ألف دينار، أي: مثقال ذهبًا، أو اثنا عشر ألف درهم فضة لخبر فيه صحيح، وفيه دلالة على تعين الذهب على أهله والفضة على أهلها، وهو ما عليه الجمهور ولا تغليظ هنا على الأصح
…
والجديد قيمتها، أي: الإبل بالغة ما بلغت يوم وجوب التسليم
…
ولأنها بدل متلف فتعينت قيمتها عند إعوازها بنقد بلده، أي: بغالب نقد محل الفقد الواجب تحصيلها منه لو كان به إبل بصفات الواجب من التغليظ وغيره يوم وجوب التسليم، فإن غلب نقدان تخير الدافع، فلو أراد المستحق الصبر إلى وجودها أجيب، وإن وجد بعض من الواجب أخذ الموجود وقيمة الباقى من الغالب كما تقرر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 305) قال: "دية الحر المسلم مائة بعير أو مائتا بقرة أو ألفا شاة أو ألف مثقال ذهبًا أو اثني عشر ألف درهم إسلامي فضة، قال القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق -، أي: الفضة - والبقر والغنم".
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 312) عن جابر بن عبد الله بن نجي، أن عليًّا قضى في السمحاق، وهي الملطاة بأربع من الإبل.
وأخرج عبد الرزاق فى "المصنف"(9/ 312)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 352) - واللفظ له - عن الحكم، قال: كان علي يجعل في التي لم توضح، وقد كادت أربعًا من الإبل.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 307) وغيره عن زيد بن ثابت قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاث من الإبل، وفي السمحاق أربع، وفي الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقولة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية.
(3)
هذا تكملة ما روي عن زيد بن ثابت.
(4)
أخرج عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 315) عن زيد بن ثابت أنه قال: "في الحارصة التي تكون بين اللحم والجلد في الرأس خمسون درهما".
وقد ذهب جماهير العلماء ومنهم الأئمة: (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد وهو المشهور عنه) بأن الخمس التي تسبق الموضحة فيها حكومة
(1)
.
وهناك من يقول بأن في الخارصة بعيرًا، وفي الدامية بعيران، وفي الباضعة ثلاثة
(2)
، وفي السمحاق أربعة
(3)
إلى أن يصل إلى الخامسة ألا وهي الموضحة ففيها خمس.
والُأولى ليس فيها شيء إنما بدأ بالدامية إلى أن وصل إلى السمحاق التي فيها أربع، ثم الباقي بعد ذلك لا شيء فيه. هذا عند من يقول بهذا الرأي وهم قلة وهي رواية للإمام أحمد
(4)
.
أما أكثر العلماء فيقولون: فيها حكومة وهي ما بيَّناها سابقًا من الفرق بين قيمة العبد سليمًا وقيمته بعد الإصابة، وهذا هو المشهور.
وهناك من يقول: في الدامية بعير إلى أن يصل إلى الموضحة ففيها خمس وهي التي جاء فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولذلك اتفق العلماء حوله.
و"المتلاحمةُ" هي التي تأتي في الرقم الرابع، وكل هذا قد ذكره المؤلف وعرفناه، وزيادة بيان: أن الخارصة هي التي تخرص الجلد، أي: تشقه قليلًا. والدامية: هي التي أظهرت شيئًا من الدم. وهكذا إلى أن تأتي السمحاق التي تنتهي إلى مكان الموضحة، وهي التي قاربت الجلد الرقيق بين العظم واللحم.
(1)
تقدم نقل أقوالهم في هذه المسألة.
(2)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (7/ 400) قال: وروينا عن زيد بن ثابت أنه قال: فيها - أي: الباضعة - بعيران.
(3)
وهو قول زيد بن ثابت، وتقدم تخريجه، وقول علي والحسن بن حي. انظر:"الإشراف" لابن المنذر (7/ 401)، و"مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 107).
(4)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 107) قال: "وعنه: في البازلة بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة، وفي السمحاق أربعة، اختارها أبو بكر. وحكى الشيرازي عن ابن أبي موسى: أنه اختار ذلك في السمحاق".
• قوله: (وَالْجُمْهُورُ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَذَلِكَ أَنَّ الأَصْلَ فِي الْجِرَاحِ الْحُكُومَةُ إِلَّا مَا وَقَّتَتْ فِيهِ السُّنَّةُ حَدًّا
(1)
).
"ما ذكرنا"، أي: بأن فيها حكومة.
والأصل أن فيها حكومة لكن ما جاء فيه نص فإنه يؤخذ بالنص، والحديث الذي جاء يبين ذلك فهو حديثُ عمرو بن حزم في كتاب كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن معه
(2)
.
• قوله: (وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ فِي إِلْزَامِ الْحُكُومَةِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَنْ تَبْرَأَ عَلَى شَيْنٍ
(3)
، وَالْغَيْرُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ يُلْزِمُ فِيهَا الْحُكُومَةَ بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ أَوْ لَمْ تَبْرَأْ
(4)
).
(1)
تقدم ذكر ذلك كله، وأن جميع هذه الشجاج فيها حكومة عدل.
(2)
ثقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 456) قال: "إذا شج رجل رجلًا شجة دون الموضحة، أو جرحه على يده جراحة خطأ، فبرأت وبقي شين من الشجة والجراحة، وجب في الشين حكومة، فإذا كانت الحكومة في الشجة أكثر من أرش الموضحة، لم ينقص من الحكومة شيء".
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 388) قال: "وإن شج رجلًا فالتحم ولم يبقَ له أثر أو ضرب فجرح فبرأ أو ذهب أثره فلا أرش، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه أرش الألم، وهو حكومة عدل؛ لأن الشين الموجب إن زال فالألم الحاصل لم يزل".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 333) قال: "وضابط ما يوجب الحكومة وما لا يوجبها إن بقي أثر الجناية من ضعف أو شين أوجب الحكومة، وكذا إن لم يبق على الأصح، بأن يعتبر أقرب نقص إلى الاندمال كما مر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحياني (6/ 134) قال: "وإن التحم ما؛ أي: جرح أرشه مقدر كجائفة وموضحة وما فوقها ولو على غير شين لم يسقط أرشه؛ لعدم النصوص، هذا المذهب. وخالف في "الإقناع" هنا فجعلها حكومة، ووافق المصنف قبل باب الشجاج فقال: ولو التحمت الجائفة والموضحة وما فوقها على غير شين لم يسقط موجبها. وكان على المصنف أن يشير إلى ذلك حيث التزمه".
يعني: إما أن يعود الإنسان طبيعيًّا بلا أثر للإصابة، وإما أن يبقى عيب وأثر لتلك الإصابة؛ فيرى الإمام مالك: إلزامَ الحكومة فيما دون الموضحة بشرط أن يوجود لها أثر يشين الجسم.
ويرى غيره من فقهاء الأمصار: إلزامَ الحكومة مطلقًا سواء برئت على عيب أو لا.
وبعض الفقهاء يفرق بين أن يكون هذا الشين في الوجه أو في غيره؛ فإذا كانت في الوجه كانت علامة ظاهرة، أما إن كانت في الرأس فقد تغطى بالشعر، أو بالعمامة، أو الغترة، أو غير ذلك؛ فلا يُرَى ذلك العيب؛ لذلك غلَّظ بعضهم في الوجه كما سيأتي عند سعيد بن المسيب.
• قوله: (فَهَذهِ هِيَ أَحْكَامُ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَأَمَّا الْمُوضِحَةُ فَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِيهَا إِذَا كانتْ خَطَأً خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ
(1)
).
قال: "إذا كانت خطأً"؛ احترازًا؛ لأن العمد فيه القصاص إلَّا أن يُعفى إلى دية. فالمُوضحة إن كانت الجناية على الإنسانِ عمدًا ففيها (القَوَد)، أي: القصاص، وإن كانت خطأً ففيها (الدية)، وديتها: خمس من الإبل، ودليل ذلك: كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في حديث عمرو بن حزم، وهذا الحديث أخرجه النسائي وغيره
(2)
، وأخرجه بعض
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 188) قال: "وفي الموضحة إن كانت خطأ نصف عشر الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 256) قال: "وفي جناية الخطإ فثبتت يلزمه دية خطإ خمس من الإبل، وكالخطإ، أي: كما يلزمه دية الخطإ في غيرها مما له عقل مسمى كموضحة".
ومذهب الشافعية: لم أقف عليه.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 95) قال: "وإن كان أوضحه خطأ وجبت الخمس من الأنواع الخمسة المتقدمة، من كل نوع بعير ابن مخاض وبنت مخاض وبنت لبون وحقة وجذعة".
(2)
تقدم تخريجه.
العلماء مرسلًا، ورواه بعضهم موصولًا، وهو من الأحاديث التي تلقَّاها العلماء بالقبول، وعملوا بها، واشتهرت بينهم كما ذكر ذلك كثير من الحفاظ كابن عبد البَرِّ
(1)
.
• قوله: (وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
(2)
، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ"
(3)
يَعْنِي: مِنَ الإِبِلِ).
أي: ثبت في حديثين في كتابه إلى أهل اليمن الذي حمله عمرو بن حزم، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، لكن كتاب ابن حزم "في خمس"، وفي الآخر، (أي: حديث ابن شعيب المطوّل): "خمس من الإبل" فنصَّ على الإبل.
وفي بعض الروايات: "الواضحات"
(4)
جمع واضحة أو موضحة "خمس من الإبل".
• قوله: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَوْضِعِ الْمُوضِحَةِ مِنَ الْجَسَدِ
(5)
).
وقد مرَّ معنى الواضحة، وهي التي شقَّت اللحم وانتهت إلى العظم، وكذلك شقَّت الجلد الرقيق الذي بين العظم واللحم، وسميت موضحة؛
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 37) قال: "وفي إجماع العلماء في كل مصر على معاني ما في حديث عمرو بن حزم دليل واضح على صحة الحديث، وأنه يستغنى عن الإسناد؛ لشهرته عند علماء أهل المدينة وغيرهم".
(2)
كابن حبان في "صحيحه"(14/ 501) والحاكم في "المستدرك"(1/ 522) وضعفه الأرناؤوط.
(3)
أخرجه أبو داود (4566) وغيره عن عمرو بن شعيب، أن أباه حدثه، عن عبد الله بن عمرو قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته: "وفي المواضح خمس خمس"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2285).
(4)
لم أقف عليها.
(5)
يأتي ذكر أقوال الفقهاء.
لأنها أوضحت العظم وبيَّنت بياضه، فقد وصلت إلى حدٍّ؛ لذلك فيها القصاص إن كان عمدًا، وفيها الدية إن لم يكن عمدًا.
تنبيهات مهمة: لا فرق هنا بين الصغير والكبير، بين أن يكون الإنسان بالغًا أو غير بالغ، ولا فرق بين كون الموضحة كبيرة أو صغيرة حتى لو كانت على قدر مزمار ولو إبرة ونفذت إلى العظم فتعتبر موضحة، فلا ينظر إليه وإنما ينظر إلى عمقها؛ فإذا وصلت إلى العظم فهي موضحة.
وكذلك لا فرق بين الذكر والأنثى فيما يتعلق بالدية فديتها كدية الرجل إلى الثلث فإذا وصلت إلى الثلث انتقلت بعد ذلك إلى النصف وهو الأصل؛ لأن ديتها على النصف من الرجل، أي: في الجراحات (في الشجاج)، ولم يخالف في ذلك من الأئمة بالنسبة للموضحة إلا الإمام الشافعي؛ فللشافعية رواية أن موضحة المرأة على النصف من الرجل
(1)
، أما بقية الأئمة فيقولون: لا فرق بين الرجل والمرأة في هذه المسألة
(2)
؛ لأن المرأة تشرك الرجل في هذا القدر ما لم يتجاوز الثلث.
(1)
يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 307) قال: قال الشافعي: "والمرأة منهم وجراحها على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر،. يعني: أن دية شجاج المرأة وجراحها وأطرافها على النصف من دية الرجل؛ لأن ديتها نصف دية الرجل، فيجب في موضحتها بعيران ونصف، وفي هاشمتها خمس، فأما حكومتها فهي معتبرة من ديتها، وديتها على النصف، فأغنى ذلك عن تنصيف الحكومة.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 322)، قال: "والموضحة،
أي: ما كان أرشه هذا القدر فالرجل والمرأة فيه سواء لا فضل للرجل على المرأة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 504)، قال:"والمرأة مسلمة أو غيرها تعاقل الرجل مثلها ما لم يبلغ ثلث دينه فإذا بلغته ردت إلى قياس ديتها ففي ثلاثة أصابع من المسلمة ثلاثون وفي أربع عشرون، والموضحة والمنقلة كالرجل والمأمومة والجائفة نصفها، وهو إجماع المدينة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مختصر الخرقي"(ص 129) قال: "وفي موضحة الحر خمس من الإبل سواء كان رجلًا أو امرأة، وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت صارت على النصف".
• قوله: (بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَا قُلْنَا).
أي: اتفق جمهور العلماء
(1)
من حيث الجملة على أنها تكون في الرأس والوجه، ولا تكون في غير ذلك.
وخالف مالك الجمهور في جزئيات في الوجه: فيرى أن الأنف لا تكون فيها موضحة، ولا في اللَّحيِ الأسفل؛ لبعدهما عن الدماغ
(2)
.
وتظهر فائدة الخلاف: أنه على قول مالك خرج بعض الصور من الموضحة وصار فيها (حكومة)، أما الجمهور فيقولون: فيها موضحة وهي (خمسة من الإبل) وهذه هي الحكمة من الفرق بين مذهب مالك والجمهور.
• قوله: (أَعْنِي عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ، وَوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ مِنْهَا).
لا يختلف العلماء في الموضحة أن فيها قصاصًا إذا كان التعدِّي عمدًا؛ لأنها محددة بالعظم فلا خطورة في هذا المقام، ولا يتجاوز بخلاف الذي يأتي بعدها فسيأتي الخلاف فيها وأن ابن الزبير أقام القصاص في بعضها، وخالف العلماء في ذلك كما سيشير إليه المؤلِّف.
• قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَكُونُ الْمُوضِحَةُ إِلَّا فِي جِهَةِ الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدَّيْنِ وَاللَّحْيِ الأَعْلَى
(3)
).
(1)
سيأتي ذكر مذاهبهم بعد قليل.
(2)
سيأتي ذكر مذهبه بعد قليل.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 251) قال: "واقتص من موضحة
…
وهي ما أوضحت عظم الرأس، أي: أظهرته وعظم الجبهة، والخدين
…
فما أوضح عظم غير ما ذكر ولو أنفًا، أو لحيًا أسفل لا يسمى موضحة عند الفقهاء".
كل ما قرب من الدماغ عند الإمام مالك فهو موضحة؛ لأنه كلما قربت الشجة من الدماغ كانت أخطر، وكلما ابتعدت كانت أخفَّ.
أما الأئمة (أبو حنيفة والشافعي وأحمد
(1)
) فقالوا: كل ما حصل من شجة في الرأس، أو في الوجه فهي موضحة، ولا فرق بين موضع وموضع؛ فيدخل في ذلك ما استثناه الإمام مالك.
فننتهي بذلك إلى أن الإمام مالكًا عندما أخرج بعض الصور جعل فيها (حكومة)، ويرى الجمهور أن ما أخرجه الإمام مالك واستبعده هو موضحة وتجب فيه (خمس من الإبل).
• قوله: (وَلَا تَكُونُ فِي اللَّحْيِ الأَسْفَلِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعُنُقِ وَلَا فِي الأَنْفِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
؛ فَالْمُوضِحَةُ عِنْدَهُمْ فِي جَمِيعِ الوَجْهِ وَالرَّأْسِ).
(1)
سيأتي ذكر مذاهبهم.
(2)
يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (9/ 263) قال: "الجروح، وهي نوعان، جائفة وغيرها، الأول: غير الجائفة، وهي ضربان: جراحات الرأس والوجه، وجراحات سائر البدن.
الضرب الأول: جراحات الرأس والوجه، ففي الموضحة: خصى من الإبل، سواء كانت على الهامة والناصية أو القذال، وهو جماع مؤخر الرأس، أو الخشاء، وهي العظم الذي خلف الأذن، أو منحدر القمحدوة إلى الرقبة، وهي ما خلف الرأس، وذكر في العظم الواصل بين محمود الرقبة وكرة الرأس وجه أنه ليس محلًّا للموضحة، كالرقبة، ويشبه أن تكون هى المنحدر المذكور، أو تكون منه. وأما الوجه، فالجبهة منه والجبينان، والخدان، وقصبة الأنف، واللحيان، كلها محل الإيضاح، سواء المقبل من اللحيين الذي تقع به المواجهة، وما تحت المقبل خارجًا عن حد المغسول في الوضوء؛ لأن اسم الموضحة يشمل جميعها".
(3)
يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 580) قال: "الشجاج وتختص الشجة بما يكون بالوجه والرأس لغة، وما يكون بغيرهما فجراحة، أي: تسمى جراحة، وفيها حكومة عدل مجتبى ومسكين. وهي (أي: الشجاج) عشرة
…
والموضحة التي توضح العظم، أي: تظهره".
إذن ذهب الأئمة الثلاثة
(1)
إلى أن الموضحة تكون في الرأس والوجه، وجماهير العلماء لا يسمون ما في البدن موضحة
(2)
؛ لأنها تكون في غير البدن، وقد أُثِر عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بموضحة في البدن
(3)
. وهذا الأثر حجة لمَن قال بأنها تقع في البدن.
قوله: (وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْجَسَدِ
(4)
).
(1)
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 51 - 52) قال: "الشجاج وكسر العظام الشجة واحدة الشجاج وهي اسم لجرح الرأس وجرح الوجه خاصة، وقد تستعمل في غير ذلك من الأعضاء قاله ابن أبي الفتح
…
وخمس، أي: من الشجاج فيها مقدر أولها الموضحة
…
وهي التي توضح العظم، أي: تبدي بياضه، أي: تبرزه ولو بقدر رأس بزة وموضحة الرأس والوجه سواء لعموم الأخبار".
(2)
سيأتي مذاهب أهل العلم فيها.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(10/ 244 - 245) عن عكرمة مولى ابن عباس قال: "قضى عمر بن الخطاب في الجراح التي لم يقض فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر فقضى في الموضحة التي في جسد الإنسان وليست في رأسه أن كل عظم له نذر مسمى ففي موضحته نصف عشر نذره ما كانت، فإذا كانت الموضحة في اليد فنصف عشر نذرها ما لم تكن في الأصابع، فإذا كانت موضحة في إصبع ففيها نصف عشر نذر الإصبع، فما كان فوق الأصابع في الكف فنذرها مثل موضحة الذراع والعضد، وفي الرجل مثل ما في اليد، وما كانت من منقولة تنقل عظامها في الذراع، أو العضد أو الساق أو الفخذ فهي نصف منقولة الرأس، وقضى في الأنامل في كل أنملة بثلاث قلائص وثلث قلوص، وقضى في الظفر إذا أعور وفسد بقلوص، وقضى بالدية على أهل القرى اثني عشر ألف درهم. وفي إسناده مجهول".
وأخرج نحوه ابن المنذر في "الأوسط"(13/ 191 - 192) رقم (9445) وقال: ولا يثبت عن أبي بكر وعمر ما روي عنهما.
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 580)، قال: "الشجاج وتختص الشجة بما يكون بالوجه والرأس لغة، وما يكون بغيرهما فجراحة، أي: تسمى جراحة، وفيها حكومة عدل مجتبى ومسكين. وهي (أي: الشجاج) عشرة
…
والموضحة التي توضح العظم، أي: تظهره".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 251) قال: "واقتص من موضحة
…
وهي ما أوضحت عظم الرأس، أي: أظهرته وعظم الجبهة، والخدين
…
فما أوضح عظم غير ما ذكر ولو أنفًا، أو لحيًا أسفل لا يسمى موضحة عند الفقهاء". =
مرَّ بنا مسائل متداخلة في الفقه الإسلامي كما في الكفارات، فلو أن إنسانًا جامع في نهار رمضان ثم جامع مرة أُخرى قبل أن يكفر فعليه كفارة واحدة
(1)
، وكذلك أيضًا لو فعل غير ذلك من الكفارات، - والأمثلة كثيرة
= ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (9/ 265) قال: "الضرب الثاني: جراحات سائر البدن؛ فليس في إيضاح عظامه ولا هشمها ولا تنقيلها أرش مقدر النوع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 51 - 52) قال: "الشجاج وكسر العظام الشجة واحدة الشجاج، وهي اسم لجرح الرأس وجرح الوجه خاصة، وقد تستعمل في غير ذلك من الأعضاء قاله ابن أبي الفتح
…
وخمس، أي: من الشجاج فيها مقدر أولها الموضحة
…
وهي التي توضح العظم، أي: تبدي بياضه، أي: تبرزه ولو بقدر رأس بزة وموضحة الرأس والوجه سواء لعموم الأخبار".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 101) قال: "ولو جامع في رمضان متعمدًا مرارًا بأن جامع في يوم ثم جامع في اليوم الثاني ثم في الثالث ولم يكفر فعليه لجميع ذلك كله كفارة واحدة عندنا
…
ولو جامع في يوم ثم كفر ثم جامع في يوم آخر فعليه كفارة أُخرى في ظاهر الرواية، وروى زفر عن أبي حنيفة أنه ليس عليه كفارة أخرى، ولو جامع في رمضانين ولم يكفر للأول فعليه لكل جماع كفارة في ظاهر الرواية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" للإمام مالك (1/ 285) قال: "فما قول مالك فيمن جامع امرأته أيامًا في رمضان؟ فقال: عليه لكل يوم كفارة وعليها مثل ذلك إن كانت طاوعته، وإن كان أكرهها فعليه أن يكفر عنها وعن نفسه وعليها قضاء عدد الأيام التي أفطرتها. قلت: فإن وطئها في يوم مرتين ما قول مالك في ذلك؟ فقال: عليه كفارة مرة واحدة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 180) قال: "فلو جامع في جميع أيام رمضان لزمه كفارات بعددها، فإن تكرر الجماع في يوم واحد فلا تعدد، وإن كان بأربع زوجات على المذهب".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 485 - 486) قال: "ومن جامع في يوم ثم جامع في يوم آخر ولم يكفر عن جماع أول لزمته كفارة ثانية؛ لأن كل يوم عبادة مفردة تجب الكفارة بفساده لو انفرد، فإذا أفسد أحدهما بعد الآخر وجب كفارتان، كحجتين أو عمرتين، وكما لو كانا من رمضانين كمن أعاده أي: الجماع في يوم بعد أن كفر لجماعه الأول فتلزمه ثانية نصًّا، قلت: فإن أخرج بعض الكفارة ثم وطئ في يومه دخلت بقية الأُولى في الثانية وكذا من لزمه الإمساك إذا جامع وكفر، ثم أعاد فيه لزمته أُخرى".
جدًّا - فإنها تتداخل، لكن لو أُصِيب إنسانٌ في وجهه فأوضحت العظم ثم أصابه مرة أُخرى فأوضحه فهل تكون موضحة واحدة أم اثنين؟
الجواب: لا، إلا أن العلماء شرطوا أن تكونا متصلتين، فإن وُجِد فاصل بينهما فهما اثنتان، وهكذا غيرها من الشِّجاج إذا لم تداخل فإنها تكون أكثر من واحدة حسب الواقعة
(1)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 316) قال: "ولو شج رأس إنسان موضحة فصارت منقلة فاختلفا في ذلك فقال المشجوج صارت منقلة بضربتك وعليك أرش المنقلة، وقال الشاج: لا، بل صارت منقلة بضربة أُخرى حدثت فالقياس على السِّن أن يكون القول قول الشاج، وفي الاستحسان القول قول المشجوج، وللقياس وجهان؛ أحدهما: أن المضروب والمشجوج يدعيان على الضارب والشاج الضمان وهما ينكران، والقول قول المنكر مع يمينه، والثاني: أنه وقع التعارض بين قوليهما، والضمان لم يكن واجبًا فلا تجب بالشك".
ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (13/ 435 - 436) قال: "ومن المجموعة، قال ابن القاسم، عن مالك: ومن أصيب بجائفتين، أو مأمومتين، ومثقلتين؛ فإنه يعقل كل ذلك له، وإن أوضح في وجهه ورأسه موضح؛ فله عقل ذلك كله؛ كل موضحة خمسون دينارًا، وإن أوضحه من قرنه إلى قدمه، فإنما له عقل موضحة واحدة. قال أشهب: إن كان ذلك في ضربة واحدة، أو ضربات متواليات، فأما إن ضرب ضربة، فأوضحه موضحتين؛ بينهما فرجة، ثم بدا له، فضربه ضربة خرقت ما بينهما، فله عقل ثلاث مواضح".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 461) قال: "ولو أوضح موضعين وفي نسخة موضحتين والأُولى أولى بينهما حاجز هو لحم وجلد قيل، أو بينهما أحدهما فموضحتان ما لم يتآكل الحاجز، أو يزله الجاني أو يخرقه في الباطن دون الظاهر على الأوجه قبل الاندمال".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 319) قال: "وإن أوضحه موضحتين ثنتين بينهما حاجز فعليه عشرة أبعرة؛ لأنهما موضحتان، وإن ذهب الحاجز بفعل جان أو سراية صارا، (أي: الجرحان) موضحة واحدة كما لو أوضح الكل بلا حاجز وإن اندملتا ثم أزال الحاجز بينهما فعليه خمسة عشر بعيرًا لاستقرار أرش الُأوليين عليه باندمالهما ثم لزمه أرش الثالثة، وإن اندملت إحداهما ثم زال الحاجز بفعل جان أو سراية الأُخرى فموضحتان".
قوله: (وَقَالَ اللَّيْثُ وَطَائِفَةٌ: "تَكُونُ فِي الْجَنْبِ"
(1)
، وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ:"إِذَا كَانَتْ فِي الْجَسَدِ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَتِهَا فِي الْوَجْهِ وَالرَأْسِ"
(2)
.
الجَنب فيه الأضلاع، وفي كل واحد من الأضلاع بعير
(3)
.
وقول الأوزاعي: "إذا كانت في الجسد كانت على النِّصف"؛ لأنها أخفُّ.
قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي مُوضِحَةِ الْجَسَدِ نِصْفُ
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 62) قال: "وخالفهم الليث فقال الموضحة إذا كانت في اليد تكون أيضًا في الجنب إذا أوضحت عن عظم".
(2)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 109) قال: "وقال الأوزاعي في الموضحة في الوجه والرأس سواء وفي جراحة الجسد على النصف ما في جراحة الرأس".
(3)
مذهب الحنفية: لم أقف عليه.
ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 435) قال: "كسر الضلع والترقوة فيه حكومة، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الآخر: يقيد. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه حكم فيه ببعير".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 304) قال: "نقل المزني عن الشافعي أنه قال: في الترقوة جمل إذا كسرت، وفي الضلع جمل إذا كسر، وهذا قاله في القديم، ونقل عنه في الجديد أن فيهما حكومة، فاختلف أصحابنا فكان المزني وطائفة من المتقدمين يخرجون ذلك على قولين:
أحدهما: إن الجمل منهما تقدير يقطع الاجتهاد فيه ويمنع من الزيادة عليه والنقصان منه؛ لأن عمر رضي الله عنه حكم فيهما بالجمل، ومذهب الشافعي أن قول الصحابي إذا انتشر ولم يظهر له مخالف وجب العمل به، وإن لم ينتشر فعلى قولين، وهذا قول قد انتشر فكان العمل به واجبًا.
والقول الثاني: إن فيه حكومة؛ لأن مقادير الديات تؤخذ عن نص أو قياس، وليس فيه نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصل يقاس عليه وجوب الجمل فيه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 134) قال: "وفي كسر ضلع
…
جبر مستقيمًا كما كان بأن لم تتغير صفته بعير، وكذا؛ أي: كالضلع إذا جبر مستقيمًا".
عُشْرِ دِيَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ"
(1)
.
وهذه الرواية هي مستند الذين قالوا بأن الموضحة تكون في غير الوجه والرأسِ.
قوله: (وَغَلَّظَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ في مُوضِحَةِ الْوَجْهِ نَبْرَأُ عَلَى شَيْنٍ
(2)
).
من المعلوم أن الوجه هو موضع المحاسن في الإنسان؛ ففيه الإبصار، وكذلك السمع مرتبط به، وفيه اللسان والأنف، وهو أعظم وأشرف عضو في الإنسان، ولذلك قالوا: سُمِّي وجهًا للمواجهة، ولا يمكن إخفاء العيب إذا وُجِد فيه بخلاف ما لو كان هذا العيب في الرأس أو الكتف، أو الظهر، أو البطن، أو الفخذ، أو الركبة مثلًا، أو في أعلى السادتى فهذا تخفيه الملابس، لكن إذا وجد عيب في الوجه فلا بد من ظهوره واتضاحه.
قوله: (فَرَأَى فِيهَا مِثْلَ نِصْفِ عَقْلِهَا زَائِدًا عَلَى عَقْلِهَا).
(1)
روي من وجهين عن عمر، وكلاهما ضعيف عمرو بن شعيب من صغار التابعين لم يسمع من الصحابة سوى الربيع بنت أم معوذ وزينب بنت أم سلمة فقط، انظر:"جامع التحصيل" للعلائي (ص 244)، و "تهذيب التهذيب"(4/ 347)، والإسناد الثاني فيه: عن رجل؛ فهو مجهول.
فأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 309 - 310) عن عمرو بن شعيب قال: "قضى عمر بن الخطاب في الموضحة التي تكون في جسد الإنسان ليست في رأسه، فقضى أن كل عظم كان له نذر مسمى أن في موضحته نصف عشر نذرها ما كان، فإذا كانت الموضحة في اليد، فهي نصف عشر نذرها ما لم تكن في الأصابع، فإذا كانت في الأصابع موضحة، فهي نصف عشرها وذلك أن الأصابع يفترق نذرها، فكانت كل إصبع عشرًا من الإبل وما كان فوق الأصابع من الكف فنذره مثل نذر الذراع والعضد، وقضى في الرجل بمثل ما قضى به في اليد من النذر في أصابعها وموضحتها".
(2)
سيأتي ذكر أقوال الفقهاء فيها.
"نصف عقلها زائد على عقلها"، أي: مرة ونصف، وأُثِر ذلك عن سعيد بن المسيب
(1)
، ولم يُنقل عن المؤلف أنه ضعفها، ولقد فرَّق بين الموضحة في الرأس ففيها خمس من الإبل، أما إن كانت في الوجه وانتهت إلى شين، (أي: إلى شيء يشين الوجه) ففيها عشر من الإبل.
قوله: (وَرَوَى ذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ
(2)
).
وابن يسار من فقهاء المدينة السبعة، وهو من التابعين
(3)
.
قوله: (وَاضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ في ذَلِكَ؛ فَمَرَّةً قَالَ بِقَوْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ
(4)
، وَمَرَّةً قَالَ: لَا يُزَادُ فِيهَا عَلَى عَقْلِهَا شَيْءٌ. وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ
(5)
).
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 311) عن ابن المسيب قال: "في الموضحة في الوجه ضعف ما في موضحة الرأس". وإسناده ضعيف فيه: عن رجل؛ وهو مجهول.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 858) عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سليمان بن يسار، يذكر أن الموضحة في الوجه مثل الموضحة في الرأس، إلا أن تعيب الوجه فيزاد في عقلها، ما بينها وبين عقل نصف الموضحة في الرأس، فيكون فيها خمسة وسبعون دينارًا.
(3)
يُنظر: ترجمته في: "السير" للذهبي (4/ 444) وما بعدها.
(4)
يُنظر: "الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (4/ 383) قال: "وإن برئت بشين فيهن: كما لا ينقص القدر إن برئت على غير شين، ويستثنى من كلامه: الموضحة في الوجه أو الرأس تبرأ على شين؛ ففيها ديتها وما حصل بالشين".
(5)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 580) قال: " (قوله وتختص الشجة
…
إلخ) قال في الهداية: والحكم مرتب على الحقيقة، أي: حكم الشجاج يثبت في الوجه والرأس على ما هو حقيقة اللغة؛ لأن الشجة لغة ما كان فيهما لا غير، وفي غيرهما لا يجب المقدر فيهما بل يجب حكومة عدل أتقاني
…
(قوله: وفيها حكومة عدل)؛ لأن التقدير بالتوقيف وهذا إنما ورد فيما يختص بالوجه والرأس هداية، ولا تلحق الجراحة بالشجة دلالة أو قياسًا؛ إذ ليست في معناها؛ إذ الوجه والرأس يظهران غالبًا فالشين فيهما أعظم أفاده الزيلعي وغيره". ومذهب المالكية، يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (4/ 561) قال: "قلت: أرأيت =
لم يرد المؤلف عندما قال: "اضطرب قول مالك" أن مالكًا مضطرب في قوله بالمعنى الذي نعرفه من قولنا: إنسان مضطرب، بمعنى: أنه ما عرف هذا من هذا؛ بل ما قصده المؤلف أنه اضطرب قوله بأن نُقل عنه قولان في المسألة فبلغه هذا وبلغه ذاك.
وليس معنى الاضطراب: أن الإمام مالكًا ما استطاع أن يدرك ذلك الأمر، بل قال مرة بقول سليمان بن يسار، وقال مرة: لا يزاد فيها على عقلها شيء، وبه قال الجمهور.
والأولى هو الذي أخذ به الأئمة الثلاثة عدا مالك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذلك الكتاب الذي تلقته الأمة بالقبول وعملوا به جيلًا بعد جيل، وقد اشتمل بلا شكٍّ على كثير من أهمِّ الأحكام ومنها ما يتعلق بالديات والقصاص وفي بعضها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وفي الموضحة خمس من الإبل"
(1)
، وقد أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الموضحات تتنوع فمنها ما يبقى لها أثر، ومنها ما لا يبقى لها أثر، ولنتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
= موضحة الوجه، أهي مثل موضحة الرأس؟ قال: نعم إلا أن تشين الوجه فيزاد فيها لشينها. قال: فقيل لمالك: فحديث سليمان بن يسار حين قال: يزاد في موضحة الوجه بينها وبين نصف عقل الموضحة؟ قال مالك: لا أرى ذلك، ولكن يزاد فيها على قدر الاجتهاد إذا شانت الوجه، فإن لم تشن الوجه فلا يزاد فيها شيء".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7/ 346 - 347)، قال: "والجرح المقدر أرشه كموضحة يتبعه الشين
…
وما لا يتقدر أرشه يفرد الشين حوله بحكومة في الأصح؛ لضعف الحكومة عن الاستتباع بخلاف الدية، والثاني: المذكور في "الوجيز" أنه يتبع الجرح، وقضيته إفراد الشين بحكومة غير حكومة الجرح، بل من ضرورياته؛ إذ لا يتأتى بغير ما يذكره أنه يقدر سليما بالكلية ثم جريحًا بلا شين، ويجب ما بينهما من التفاوت وهذه حكومة الجرح ثم يقدر جريحًا بلا شين ثم جريحًا بشين ويجب ما بينهما من التفاوت، وهذه حكومة الشين".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (4/ 22) قال: "وسواء في ذلك الكبيرة والصغيرة، وموضحة الرأس والوجه، وعنه: في موضحة الوجه عشر من الإبل؛ لأن شينها أكثر، ولا تسترها العمامة، والأول: المذهب للخبر، ولأننا سوينا الصغرى والكبرى مع اختلاف شينهما، كذا هاهنا".
(1)
تقدم تخريجه.
مطالب بالبيان؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
ولذلك وضع الأصوليون القاعدة المعروفة: "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"
(1)
؛ ولا شك أن الناسَ بحاجة إلى البيان، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق فهذا دليل على اتحادها في الحكم، وليس شرطًا أن تتساوى الأمور، فقد تكون خطيئة أكبر من خطيئة، ومع ذلك يتحد حكمهما، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب نفسه أيضًا:"وفي السن خمس من الإبل"
(2)
، فلو ضُربتِ الخمسةُ بأعداد الأسنان والأضراس؛ لوجدت أنها تزيد عن الدية ومع ذلك قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تكون الأمور توقيفية وفيها نص ظاهرٌ، ومع ذلك يختلف العلماء في المفهوم، فعند الخلاف لا بد من العودة إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لوم على من يأخذ بحكم من الأحكام ثم يقول: هذا هو الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وإن كان الذي خالف ذلك صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقول رسول الله هو المقدم بعد قول الله تعالى.
قوله: (وَقَدْ قِيلَ عَنْ مَالِكٍ إِنَّهُ قَالَ: "إِذَا شَانَتِ الْوَجْهَ كَانَ فِيهَا حُكُومَةٌ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ"
(3)
، وَمَعْنَى الْحُكُومَةِ عِنْدَ مَالِكٍ: مَا نَقَصَ مِنْ
(1)
هذه من القواعد الأصولية المعتبرة عند الأصوليين.
يُنظر: "المستصفى" للغزالي (ص 192) قال: لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال، أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافًا للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر. وانظر:"الإحكام" لابن حزم (1/ 77)، و "الإحكام" للآمدي (3/ 32)، و "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 26).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (4/ 561) قال: "قلت: أرأيت موضحة الوجه، أهي مثل موضحة الرأس؟
قال: نعم إلا أن تشين الوجه فيزاد فيها لشينها. قال. فقيل لمالك: فحديث سليمان بن يسار حين قال: يزاد في موضحة الوجه بينها وبين نصف عقل الموضحة؟ =
قِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا
(1)
).
ليس هذا القول عند مالك، بل عند الفقهاء كلهم، وتعريف الحكومة عند الفقهاء عمومًا هو ما أوجزه المؤلف وسبق أن بيناه.
قوله: (وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ).
بدأ المؤلف بالتدرُّج عُلوًّا؛ فقد بدأ بالخارصة أولًا، ثم الدامية، وهكذا إلى أن وصل إلى الموضحة التي أوضحت العظم، وزاد الآن عليها الهاشمة: وهي التي هشَّمت العظم، (أي: كسرته)، وليس فيها نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ هذا حُكْم السلف فيها فمن ثَمَّ اتَّفق العلماء أن فيها عشر من الإبل.
قوله: (فَفِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ عُشْرُ الدِّيَةِ
(2)
).
= قال مالك: لا أرى ذلك، ولكن يزاد فيها على قدر الاجتهاد إذا شانت الوجه، فإن لم تشن الوجه فلا يزاد فيها شيء".
(1)
تقدم قوله ذلك، وهذا قول الفقهاء عمومًا، وقدمناه.
(2)
ليس هذا مذهب الجمهور، فقد اختلف الفقهاء فيها: فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن في الهاشمة عشرًا من الإبل، وزاد المالكية فقالوا: خمسة عشر بعيرًا.
مذهب الحنفية، ينظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 581) قال: "وفي الهاشمة عشرها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (4/ 270 - 271) قال: "والهاشمة
…
فعشر ونصفه، أي: نصف العشر خمسة عشر بعيرًا، أو مائة وخمسون دينارًا ولا يزاد على ما ذكر في هذه الجراح شيء".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 302) قال: "وفي هاشمة مع إيضاح أو احتياج إليه بشق لإخراج عظم أو تقويمه أو سرت إليه عشرة من أبعرة وهي عشر دية الكامل بالحرية وغيرها، ولو عبر به لكان أولى ليشمل الصور المتقدمة قبل هذا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 131) قال: "ثم يلي الموضحة الهاشمة وهي التي توضح العظم؛ أي: تبرزه وتهشمه؛ أي: تكسره وفيها عشرة أبعرة".
"عُشْر الدية"، أي: عَشر من الإبل، ودائمًا يقيسون في مثل هذا المقام على الرجل الحرِّ، أي: دية الرجل الحرِّ مائة من الإبل، فبعدما تُقسَّم على عشرة يكون لكل واحد عَشر منها.
إذن في الهاشمة: عشر من الإبل، وفي الموضحة: خمس، وستأتي المنقلة بعده وفيها: عشر، ثم المأمومة والجائفة، وفي كل واحدة منهما: ثلث الدية، وما فوق الهاشمة ففيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قوله: (وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
(2)
، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ).
ودليل تقدير عَشر من الإبل بالنسبة للهاشمة؛ أن زيد بن ثابت قضى بذلك وهو الصحابي الجليل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرضكم زيد"
(3)
، ولا يعرف له مخالف في هذا، ومن هنا أخذ العلماء بقوله وفتواه فكانت حجة، وإذا نظرت أيضًا إليها من حيث الواقع تجد أنها منضبطة؛ لأن الموضحة تأتي قبلها وفيها خمس، وهذه قد كسرت فيها العظم لكنه لم يتغير عن محله، بل هشمته، وستأتي المنقلة التي كسرت العظم وخلخلته وغيرت موضعه فكانت أخطر من هذه.
قوله: (وَقَالَ بَعْضرُ الْعُلَمَاءِ: الْهَاشِمَةُ هِيَ الْمُنَقِّلَةُ وَشَذَّ
(4)
).
(1)
سيأتي الكلام على كلِّ منها.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 314) عن زيد بن ثابت أنه قال: "في الهاشمة عشر من الإبل". وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه الترمذي (3790) وغيره عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح". وصححه الألباني في "الصحيحة"(1224).
(4)
وهو قول عند المالكية:
يُنظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(8/ 59) قال: "وإلا المنقلة والهاشمة =
كما قال المؤلف: "وقال بعضهم: الهاشمة هي المنقِّلة"، يعني: التي جاءت في كتاب عمرو، قال:"وشذ"، يعني: وشذ أصحاب هذا القول أو وشذ من قال ذلك، وحذف المؤلف الفاعل؛ للعلم به.
قوله: (وَأَمَّا الْمُنَقِّلَةُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا عُشْرَ الدِّيَةِ، وَنِصْفَ الْعُشْرِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً
(1)
).
"عشر الدية": عَشر من الإبل، و "نِصف العشر": خمس، و "المنقلة": هي التي كسرت العظم وغيَّرت موضعه فاختلَّ فارتفع بعضه ونزل بعضه فوجد الخلل في ذلك
(2)
. وهذه هي التي يحتاج أن يُجبر فيها الكسر، ولذا فيها خمس عشر من الإبل، وقد جاءت في كتاب عمرو بن حزم.
قوله: (فأمَّا إِذَا كَانَتْ عَمْدًا فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِيهَا قَوَدٌ لِمَكَانِ الْخَوْفِ).
= فعشر ونصفه، وحقه أن لا يذكر هنا الهاشمة كما فعل في القصاص؛ لأنها هي المنقلة كما هو ظاهر المدونة، سيما مع اتحاد ديتهما قاله مق، وبالغ على أن في الجراح المذكورة ما ذكر ولا يزاد عليه شيء". وانظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 304).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 581) قال: "وفي المنقلة عشر ونصف عشر".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 270 - 271) قال: "وإلا المنقلة
…
فعشر ونصفه، أي: نصف العشر خمسة عشر بعيرًا، أو مائة وخمسون دينارًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 459) قال: "وفي منقلة مسبوقة بهما خمسة عشر إجماعًا".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 320) قال: "ثم يليها المنقلة
…
وفيها خمسة عشر بعيرًا".
(2)
"المنقلة": هي التي تنقل العظم بعد الكسر، أي: تحول من موضع إلى موضع. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 165).
قال العلماء ومنهم الأئمة الأربعة
(1)
: ليس فيها إلا الدية ولا قود فيها؛ لأنها في موضع خطر قد يؤدِّي إلى هلاك الإنسان، وهذا الذي أصيب بها لم يهلك، فربما لو اقتُصَّ من الجاني لهلك. ولكن أُثِر عن عبد الله بن الزبير أنه اقتصَّ منها.
قوله: (وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَقَادَ مِنْهَا وَمِنَ الْمَأْمُومَةِ
(2)
).
وهو عبد الله بن الزبير
(3)
كابن عباس، وهو عبد الله بن عباس
(4)
، وعبد الله بن عمر
(5)
، وعبد الله بن عمرو بن العاص
(6)
وهكذا. وإذا قيل: أنس وأطلق فهو أنس بن مالك
(7)
، وإذا قيل: سمرة فهو سمرة بن جندب
(8)
، وإذا قيل: جابر وأطلق فهو جابر بن عبد الله
(9)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 582) قال: "كما لا قود فيما بعدها كالهاشمة والمنقلة بالإجماع وعزاه للجوهرة فليحفظ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (13/ 474) قال: "وإذا كانت جراح لا قصاص في عمدها؛ فلا تغليظ فيها، مثل الجائفة، والمنقلة، والمأمومة؛ فلا تغليظ فيها، كما لا قود فيهن في العمد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (2/ 160) قال: "ومنقلة تنقله ومأمومة تصل خريطة الدماغ ودامغة تخرقها ولا قود".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 280) قال: "ولا يصح عفوه، أي: المجني عليه عن قود شجة لا قود فيها كالمنقلة والمأمومة؛ لأنه عفو عما لم يجب ولا انعقد سبب وجوبه أشبه الإبراء من الدين قبل وجوبه".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 394) عن عمرو بن دينار، أن ابن الزبير أقاد من منقلة، قال: فأعجب الناس أو جعل الناس يتعجبون. وإسناده صحيح.
(3)
يُنظر ترجمته في: "السير" للذهبي (3/ 363).
(4)
يُنظر ترجمته في: "السير" للذهبي (3/ 331).
(5)
يُنظر ترجمته في: "السير" للذهبي (7/ 339).
(6)
يُنظر ترجمته في: "السير" للذهبي (3/ 79).
(7)
يُنظر ترجمته في: "السير" للذهبي (3/ 395).
(8)
يُنظر ترجمته في: "السير" للذهبي (3/ 183).
(9)
يُنظر ترجمته في: "السير" للذهبي (3/ 189).
قوله: (وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ فِي الْعَمْدِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا قَوَدٌ
(1)
).
ليس عند مالك فقط بل عند الجمهور
(2)
.
قوله: (وَمَنْ أَجَازَ الْقَوَدَ مِنَ الْمُنَقِّلَةِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ مِنَ الْهَاشِمَةِ).
ينقل المؤلف قول من قال: إن الهاشمة ليس فيها قود، ويشير إلى أن مَن قال بالقود في المنقلة أحرى له أن يحكم به في الهاشمة؛ لأنها أخف.
قوله: (وَأَمَّا الْمَأْمُومَةُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقَادُ مِنْهَا).
(1)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (4/ 563) قال: "قلت: أرأيت الهاشمة، أفيها القود عند مالك، في الرأس كانت أو في عظم من الجسد؟ قال: قال مالك: أما عظام الجسد ففيها القود من الهاشمة إلا ما كان مخوفًا، مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه. وأما الرأس، قال ابن القاسم: فلم أسمع فيه شيئًا ولا أرى فيه قودًا؛ لأني لا أجد هاشمة تكون في الرأس إلا كانت منقلة، وأما الباضعة والملطأة والدامية وما أشبهها وما يستطاع منه القود ففيه القود في العمد، كذلك قال لي مالك. قال ابن القاسم: والهاشمة في الرأس مما لا يستطاع منه القود".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 582) قال: "لا قود فيما بعدها كالهاشمة والمنقلة بالإجماع وعزاه للجوهرة فليحفظ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (8/ 459) قال: "وهاشمة وهي التي تهشمه، أي: تكسره، سواء أوضحته أم لا
…
ويجب القصاص من هذه العشرة في الموضحة فقط لتيسر ضبطها واستيفاء مثلها. وأما غيرها فلا يؤمن الزيادة والنقصان في طول الجراحة وعرضها ولا يوثق باستيفاء المثل، ولذلك لا يجب القصاص في كسر العظام".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 323) قال: "وليس في شيء من شجاج الرأس قصاص سوى الموضحة، وسواء في ذلك ما دون الموضحة، كالحارصة، والبازلة، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق، وما فوقها، وهي الهاشمة والمنقلة والآمة".
وقع في بعض النسخ: (وأما الجائفة) كررها، أي: بعض النسخ فيها خطأ.
فالمأمومة وبعضهم يقول: الآمة
(1)
: وهي التي وصلت إلى أمِّ الدماغ ولم يبقَ إلا جلد رقيق يفصلها عن الدماغ؛ فهذه تسمَّى المأمومة أو الآمة (أي: فيها خلاف بين العلماء في تسميتها)
(2)
، وهذه قد جاء فيها النص بأن فيها (ثلث الدية) في كتاب عمرو بن حزم.
قوله: (وَأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ
(3)
إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
(4)
).
هناك جنايتان من الشِّجاج فيهما ثلث الدية:
الأولى: (المأمومة)، والثا نية:(الجائفة) وستأتي، وهي التي
(1)
سبق تعريفها.
(2)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 341) قال: أهل العراق يقولون لها: الآمة، وأهل الحجاز: المأمومة.
(3)
مذهب الحنفية، ينظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 581) قال: "وفي الآمة والجائفة ثلثها فإن نفذت الجائفة فثلثاها؛ لأنها إذا نفذت صارت جائفتين فيجب في كل ثلثها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 260) فال: "بخلاف الجائفة، والآمة، والدامغة فإن في كل ثلث الدية في العمد، والخطأ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 459) قال: "وفي مأمومة ثلث الدية لخبر صحيح به".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 320 - 321) قال: "ثم يليها المأمومة
…
وتسمى الآمة
…
وتسمى أيضًا أم الدماغ
…
وفي كل منهما، أي: المأمومة والدامغة ثلث الدية".
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 394) عن أبي بكر بن حفص، قال:"رأيت ابن الزبير أقاد من مأمومة. قال: فرأيتهما يمشيان مأمومين جعيعًا. وإسناده ضعيف؛ لأجل أشعث بن سوار فيه كلام كثير وهو إلى الضعف أقرب". انظر: "تهذيب الكمال"(3/ 264) وما بعدها.
تصل إلى الجوف فهاتان قد جاء فيهما نص عن رسول صلى الله عليه وسلم بأن فيهما ثلث الدية.
قوله: (وَأَمَّا الْجَائِفَةُ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مِنْ جِرَاحِ الْجَسَدِ لَا مِنْ جِرَاحِ الرَأْسِ
(1)
).
"الجائفة" نسبة إلى الجوفِ؛ لأنها تخرق البطن فتصل إلى الجوف، وهذه فيها نفس القَدر المحدد بالمأمومة وهو (ثلث الدية)؛ لخطورتها، ولكن لا يقتصُّ فيها، فلو قُدِّر أن إنسانًا اعتدى على آخر فضربه حتى وصلت إلى جوفه ثم خرجت من الجانب الآخر، فهل تكون جائفة واحدة أم أكثر؟
ذهب الأئمة الثلاثة إلى أنهما جائفتان
(2)
.
وذهب الشافعية إلى أنها واحدة؛ لأنها قد تجاوزت فخرجت من الموضع الآخر كما لو أوصلها إلى بطنه، ثم جاء آخر أو الجاني نفسه فطعنه من مكان آخر وأصابه بجائفة أُخرى فتكون اثنتان
(3)
.
(1)
"الجائفة": هي التي تصل إلى البطن من الصدر أو الظهر أو البطن، ولا تكون الجائفة في الرقبة والحلق واليدين والرجلين، ولو في الأنثيين والدبر فهى جائفة. يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 554).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 581) قال: "والجائفة ثلثها فإن نفذت الجائفة فثلثاها؛ لأنها إذا نفذت صارت جائفتين فيجب في كل ثلثها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 271) قال: "وتعدد الواجب، وهو الثلث بجائفة نفذت من جانب للآخر، أو من الظهر للبطن فيكون فيها دية جائفتين".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 321) قال: "وإن جرح جانبًا فخرج ما جرح به من جانب آخر فجائفتان نصًّا".
(3)
للشافعية تفصيل في هذه المسألة:
يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 325) قال: "فلو أجافه بمحلين بينهما لحم وجلد، أو انقسمت عمدًا وخطأ فجائفتان ما لم يرفع الحاجز أو يتأكل قبل الاندمال، نعم =
وتسميتها واضحة؛ لأن قولهم جائفة؛ نسبة إلى الجوف، والجوف معلوم ومعروف.
قوله: (وَأَنَّهَا لَا يُقَادُ مِنْهَا، وَأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ
(1)
).
لا يقاد منها لخطورتها، وذلك لخوف التعدِّي فيها كالحال بالنسبة للمأمومة والمنقلة.
قوله: (وَأَنَّهَا جَائِفَةٌ مَتَى وَقَعَتْ فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَعْضَاءِ، فَنَفَذَتْ إِلَى تَجْوِيفِهِ - فَحَكَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ فِي كُلِّ جِرَاحَةٍ نَافِذَةٍ إِلَى تَجْوِيفِ عُضْوٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ - أَيِّ: عُضْوٍ كَانَ - ثُلُثَ دِيَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ
(2)
).
= لا يجب دية جائفة على من وسع جائفة غيره إلا إن كان من الظاهر والباطن وإلا فحكومة، ولو أدخل في دبره ما خرق به حاجزًا في الباطن كان جائفة
…
إذ خرق الباطن معتد به حتى ترجع به الموضحتان إلى موضحة واحدة، ولو نفذت في بطن وخرجت من ظهر فجائفتان في الأصح
…
اعتبارًا للخارجة بالداخلة، والثاني في الخارجة حكومة، ولو أوصل جوفه سنانًا له طرفان يعني: طعنه به فوصلا جوفه والحاجز بينهما سليم فثنتان".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 554) قال: "الجائفة: هي التي تصل إلى البطن من الصدر أو الظهر أو البطن فلا قصاص؛ لانتفاء شرطه بل يجب ثلث الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 270) قال: "إلا الجائفة عمدًا أو خطأً، وهي مختصة بالبطن، والظهر
…
فثلث من الدية المخمسة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 323) قال: "وفي جائفة ثلث دية لصاحبها لخبر صحيح فيه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 321) قال: "وفي الجائفة ثلث دية لما في كتاب عمرو بن حزم "وفي الجائفة ثلث الدية".
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 859) عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال:"كل نافذة في عضو من الأعضاء، ففيها ثلث عقل ذلك العضو". وإسناده صحيح.
خصَّ بعض العلماء
(1)
الجائفة بالجوف فقط، وما عدا ذلك فلا تكون من نوع الجائفة.
وقال بعضهم
(2)
: هي جائفة إذا وصلت إلى موضع محدَّد إلى تجويف ذلك العضو.
* قوله: (وَحَكَى ابْنُ شِهَابٍ).
ابن شهاب هو الإمام المعروف محمد بن شهاب الزهري التابعي
(3)
.
(1)
وهم الحنفية والمالكية:
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 296) قال: "النوع الرابع فالجراح نوعان: جائفة وغير جائفة، فالجائفة: هي التي تصل إلى الجوف، والمواضع التي تنفذ الجراحة منها إلى الجوف: هي الصدر، والظهر، والبطن، والجنبان، وما بين الأنثيين والدبر، ولا تكون في اليدين والرجلين ولا في الرقبة والحلق جائفة؛ لأنه لا يصل إلى الجوف".
مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 270) قال. " (قوله: وهي مختصة
…
إلخ) أي؛ لأنها كما يأتي ما أفضت للجوف، أي: دخلت فيه ولو قدر إبرة فما خرق جلدة البطن ولم يصل للجوف فليس فيه إلا حكومة ومراده بالظهر، والبطن ما يشمل الجنب".
(2)
وهم الشافعية والحنابلة:
مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 323) قال: "وفي جائفة ثلث دية لصاحبها لخبر صحيح فيه وهي جرح ولو بغير حديد ينفذ إلى جوف باطن محيل للغذاء والدواء أو طريق للمحيل كبطن وصدر وثغرة نحر
…
وجبين
…
وخاصرة وورك كما بأصله ومثانة وعجان وهو ما بين الخصية والدبر: أي: كداخلها".
مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 54).: "الجائفة التي تصل إلى باطن الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو نحر، قال في المبدع: وحلق ومثانة وبين خصيتين ودبر. وفي الرعاية وهي ما وصل جوفًا فيه قوة يحيله الغذاء من ظهر أو بطن وإن لم تخرق الأمعاء أو صدر أو نحر أو دماغ وإن لم تخرق الخريطة أو مثانة أو ما بين وعاء الخصيتين والدبر".
(3)
يُنظر ترجمته: "السير" للذهبي (5/ 326).
قوله: (أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ
(1)
، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ
(2)
؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ فِي هَذَا لَا يَسُوغُ. وَإِنَّمَا سَنَدُهُ فِي ذَلِكَ الاجْتِهَادُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَأَمَّا سَعِيدٌ فَإِنَّهُ قَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْجَائِفَةِ عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي مُوضِحَةِ الْجَسَدِ
(3)
).
قاس عمرُ الجائفة على موضحة الرأس والوجه.
قوله: (وَأَمَّا الْجِرَاحَاتُ الَّتِي تَقَعُ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ فَلَيْسَ فِي الْخَطَإِ مِنْهَا إِلَّا الْحُكُومَةُ
(4)
).
عرض المؤلف الشجاج أو الجراحات التي يكون فيها الدية كما في
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 859) قال: "كان ابن شهاب لا يرى ذلك".
(2)
يُنظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 859) قال: "وأنا لا أرى في نافذة في عضو من الأعضاء في الجسد أمرًا مجتمعًا عليه، ولكني أرى فيها الاجتهاد يجتهد الإمام في ذلك وليس في ذلك أمر مجتمع عليه عندنا".
(3)
تقدم تخريج أثر عمر.
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 583) قال: "فقال في الهندية: والجراحات التي هي في غير الوجه والرأس فيها حكومة عدل إذا أوضحت العظم وكسرته إذا بقي لها أثر، والا فعندهما لا شيء عليه وعند محمد يلزمه قيمة ما أنفق إلى أن يبرأ كذا في محيط السرخسي اهـ".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 269) قال: "وفي الجراح، أي: جراح الخطإ التي ليس فيها دية مقررة، أو العمد التي لا قصاص فيها وليس فيها شيء مقدر كعظم الصدر وكسر الفخذ (حكومة)، أي: شيء محكوم به، أي: يحكم به الحاكم العارف".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 483 - 484) قال: "تجب الحكومة فيما، أي جرح أو نحوه أوجب مالًا من كل ما لا مقدر فيه من الدية، ولا تعرف نسبته من مقدر".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 51 - 52) قال: "الشجاج وكسر العظام
…
وهي اسم لجرح الرأس وجرح الوجه خاصة
…
وهي عشر بالاستقراء خمس لا مقدر فيها؛ لأن التقدير من الشرع ولم يرد فيها
…
فيها حكومة؛ لأنها جراحات لم يرد فيها توقيت من الشرع أشبهت جراحات البدن".
حديث عمرو، أو الهاشمة التي لم يردْ فيها نصٌّ، ولكنه قد أُثِر عن زيد بن ثابت، وأخَذ العلماء به.
* * *
قال المصنف رحمه الله:
(الْقَوْلُ فِي دِيَاتِ الْأَعْضَاءِ
(1)
)
ديات الأعضاء يتعدى عليها بالقتل، والاعتداء عليها قد يكون بالقطع وربما يكون إذهاب لمنفعة ذلك العضو، كما لو لطم إنسانٌ آخر على عينه فأذهب بصره والعين موجودة، أو ضربه على أذنه فذهب سمعه، فهذه فيها الدية، وربما لا يذهب السمع ولكن تذهب الأذن أو الأذنان فهذه من الأشياء التي تكلم عنها العلماء
(2)
.
قوله: (وَالأَصْلُ فِيمَا فِيهِ مِنَ الأَعْضَاءِ إِذَا قُطِعَ خَطَأً مَالٌ مَحْدُودٌ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى دِيَةً
(3)
).
(1)
وتسمى أيضًا المنافع: عقل وسمع وبصر وشم وكلام وذوق ومشي ونكاح ونحوها. انظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 473) وما بعدها، و "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 313) وما بعدها.
(2)
سيأتي ذكر أقوال الفقهاء في هذه المسائل.
(3)
وهذه المسائل يفصل فيها الفقهاء:
فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 575 - 576) قال: "والذكر والحشفة والعقل والشم والذوق والسمع والبصر واللسان إن منع النطق أفاد أن في لسان الأخرس حكومة عدل جوهرة
…
أو منع أداء أكثر الحروف وإلا قسمت الدية على عدد حروف الهجاء الثمانية وعشرين أو حروف اللسان الستة عشر تصحيحان فما أصاب الغائب يلزمه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 253 - 254) قال: "وإن ذهب كبصر من المعاني كسمع وشم وذوق وكلام بجرح، أي: بسبب جرح من شخص عمدًا لآخر فيه قصاص كالموضحة، اقتص منه، أي: من الجاني =
والمال المحدَّد يعبَّر عنه بالدية، وجمعه: ديات.
قوله: (وَكَذَلِكَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ وَالنُّفُوسِ - حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
حديث عمرو بن حزم عن أبيه فيه سقطٌ، وقد انتبهوا لهذا، والصحيح هو: حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، إذن محمد عن أبيه عمرو بن حزم؛ لأن صاحب الكتاب هو عمرو بن حزم، فكيف عن أبيه؟ فتبين أن هناك سقط، وهذه هي رواية مالك في "الموطإ"، وهي الأصل في ذلك، وقد نقلها أيضًا الشافعي في مسنده وغيره
(1)
.
فقد تُبيِّن إذن أن هناك سقطًا ولا يستقيم الكلام على ما ذكره المؤلف وعلى ذلك فهي رواية عبد الله بن أبي بكر بن محمد عن عمرو بن حزم عن أبيه، أي: روى محمد عن أبيه عمرو بن حزم.
وهذا الحديث هو كتاب عظيم جليل القدر؛ لأنه اشتمل على
= بمثله
…
أو حصل غيره فدية ما لم يذهب حقه فدية ما ذهب في ماله، أو هو
…
أي: فدية مماثل ما لم يذهب، وإن ذهب البصر ونحوه بما لا قصاص فيه كلطمة، أو ضربة بقضيب والعين قائمة لم تنخسف فإن أستطيع، أي: أمكن كذلك، أي: إذهاب بصره بحيلة من الحيل
…
وإلا، فالعقل متعين".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 474 - 475) قال: "وفي إبطال السمع دية إجماعًا
…
وفي إزالته من أذن نصف من الدية
…
وقيل: قسط النقص من الدية
…
وإن نقص السمع من الأذنين فقسطه، أي: النقص من الدية إن عرف قدره منه، أو من غيره بأن عرف، أو قال: إنه كان يسمع من كذا فصار يسمع من نصفه ويحلف في قوله ذلك؛ لأنه لا يعرف إلا منه وإلا يعرف قدر النسبة فحكومة تجب فيه باجتهاد قاض
…
وفي إبطال ضوء كل عين، ولو عين أخفش، وهو من يبصر ليلًا فقط وأعشى، وهو من يبصر نهارًا فقط لما مر أن من بعينه بياض لا ينقص الضوء يكمل فيها الدية نصف دية كالسمع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 313) قال: "في دية المنافع من سمع وبصر وشم ومشي ونكاح ونحوها تجب الدية كاملة في كل حاسة أي: القوة الحساسة".
(1)
سيأتي تخريجه.
جملة من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا توجد في غيره، ولذلك تكلَّم عنه بعض العلماء تصحيحًا وتضعيفًا؛ فرواه النسائي مرسلًا
(1)
، ورواه ابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وغير هؤلاء موصولًا
(2)
، وقد تكلَّم عنه العلماء وأجاب بعض أئمة الحديث كابن عبد البر
(3)
، ثم ابن حجر
(4)
، وغيرهما فقالوا: هذا كتاب قد اشتهر وتلقاه العلماء بالقبول وعملوا به جيلًا بعد جيل، وعليه فهو كتاب ثابت اشتمل على كثير من الأدلة التي يُستدَلُّ بها في كتاب القصاص والديات.
ومن أراد الاستزاده فليرجع إلى أصل الحديث في "موطأ الإمام مالك"؛ إذ قد رواه بهذا السند، وما ذكره المؤلف غير مستقيم؛ للسقط
(1)
أخرجه النسائي (4857).
(2)
أخرجه ابن حبان كما في "الإحسان"(14/ 501)، والدارقطني في "السنن"(4/ 291 - 292)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 552)، والبيهقي في "الكبرى"(4/ 194 - 195) وغيرهم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم
…
الحديث. وأعله أبو داود في "المراسيل"(ص 213) قال: أسند هذا ولا يصح.
(3)
يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 338 - 339) قال: "لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد، وقد روي مسندًا من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة
…
وكتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء، وما فيه فمتفق عليه إلا قليلًا وبالله التوفيق".
(4)
يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 226) قال: "وكتاب عمرو بن حزم أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول أن في العشر مائة من الإبل وفيه، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، ووصله أبو داود في المراسيل والنسائي من وجه آخر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مطولًا وصححه بن حبان وأعله أبو داود والنسائي".
الذي فيه، أو هو من الناسخ، والغالب أنه من الناسخ، وما رأيت أحدًا انتبه إليه من الذين حققوا الكتب؛ إذ قد تمر أشياء كثيرة جوهرية لا ينتبه إليها المحقق، وهذا مهم كي ينتبه إليه القارئ.
قوله: (لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْعُقُولِ).
والكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو في الفرائض والسنن، والديات؛ إذ اشتمل على جملة كثيرة من الأحكام وهو حديث طويل، وهو من أهم الأدلة في كتاب الديات، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكتب الكتب
(1)
، فهناك من الكتب ما كان يكتبها إلى بعض الحكام يدعوهم فيها إلى الإسلام؛ ككتابه إلى قيصر
(2)
، وإلى كسرى
(3)
، وغيرهم
(4)
، وأحيانًا كان يكتب كتابًا إلى أهل بلد يبيِّن لهم ما يجب عليهم مما يجب فعله ومما يجب تركه وفي ذلك عدة كتب
(5)
.
(1)
نعم كتب في صلح الحديبية وتسمى عمرة القضاء كما عند البخاري (4251) عن البراء قال: "لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب، كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقر لك بهذا، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا، ولكن أنت محمد بن عبد الله، فقال: "أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله"، ثم قال: لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "امح رسول الله"، قال علي: لا والله لا أمحوك أبدًا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدًا، إن أراد أن يقيم بها
…
" الحديث.
(2)
قيصر لقب يقال لك ملك الروم، وكتابه له أخرجه البخاري (7)، و (2940)، و (4553)، ومسلم (1773).
(3)
كتابه له أخرجه البخاري (2939).
(4)
أخرجه مسلم (1774) عن أنس: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
(5)
كتب إلى أهل جرش، وأهل اليمن، وأهل هجر، وأهل مكة، وأهل نجران. انظر:"صحيح مسلم"(1990)، و "سنن النسائي"(4853)، و (5557)، و "مصنف عب الرزاق"(4/ 63)، و (8/ 41)، و "مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 376).
قوله: (أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ
(1)
).
ذكر ما يتعلق بدية النفس وهي مائة من الإبل، ونصَّ على الإبل؛ لأنها الأصل عند بعض العلماء (كالشافعية وهي قول الحنابلة)؛ إذ هي الأصل بالنسبة للتقويم الذي يُرجَع إليه، ولذلك نجد عمرَ رضي الله عنه لما ارتفعت أثمان الإبل ردَّ الدراهم إليها
(2)
، أي: أنه رفع دية الدراهم من عشرة إلى اثني عشر.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 187) قال: "إذا قتل رجل رجلًا عمدًا فعلى عاقلته دية مغلظة وعليه كفارة ودية شبه العمد عند أبي حنيفة وأبي يوسف مائة من الإبل أرباعًا: خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 266) قال: "ودية الخطإ في قتل الذكر الحر المسلم على البادي هو خلاف الحاضر مائة من الإبل مخمسة رفقًا بمؤديها بنت مخاض وولدا لبون، أي: بنت لبون وابن لبون وحقة وجذعة من كل نوع من الخمسة عشرون، وربعت في عمد لا قصاص فيه كأن يحصل عفو عليها مبهمة، أو يعفو بعض الأولياء مجانًا فللباقي نصيبه من دية عمد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 315) قال: "في قتل الحر المسلم الذكر المعصوم غير الجنين إذا صدر من حر مائة بعير إجماعًا سواء أوجبت بالعفو أم ابتداء كقتل نحو الوالد، أما الرقيق والذمي والمرأة والجنين فسيأتي ما فيهم، نعم الدية لا تختلف بالفضائل بخلاف قيمة القن؛ لأن تلك حددها الشارع اعتناء بها لشرف الحرية ولم ينظر لأعيان من تجب فيه، وإلا لساوت الرق، وهذه لم يحددها فنيطت بالأعيان وما يناسب كلا منها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 300) قال: "دية الحر المسلم مائة بعير أو مائتا بقرة أو ألفا شاة أو ألف مثقال ذهبًا أو اثني عشر ألف درهم إسلامي فضة، قال القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق - أي: الفضة - والبقر والغنم".
(2)
أخرجه أبو داود (4542) وغيره عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:" كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثمان مائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين"، قال: فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رحمه الله، فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(2247).
قوله: (وَفِي الأَنْفِ إِذَا اسْتُوعِبَ جَدْعًا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ
(1)
).
أي: إذا قُطِع الأنف ففيه دية، ولو ذهب الشَّم منها ففيه دية أيضًا؛ قد جاء في كتاب ابن حزم نفسه:"فلو ذهب شمُّ الإنسان ففيه دية"
(2)
،
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 551) قال: " (قوله: أو قصبة أنف) أتى بمن عطفًا على من الأولى لا على ساعد؛ لأنه لا قصاص بقطع القصبة كلها أو نصفها؛ لأنها عظم كما في الجوهرة (قوله لامتناع حفظ المماثلة)؛ لأنه قد يكسر زيادة من عضو الجاني أو يقع خلل فيه زائد
…
(قوله: والمارن)
…
وإذا قطع بعضه لا يجب
…
وفي الأرنبة حكومة عدل
…
وإن كان أنف القاطع أصغر خير المقطوع أنفه الكبير إن شاء قطع وإن شاء أخذ الأرش
…
وكذا إذا كان قاطع الأنف أخشم لا يجد الريح، أو أصرم الأنف أو بأنفه نقصان من شيء أصابه فإن المقطوع مخير بين القطع وبين أخذ دية أنفه".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 273) قال: "والدية
…
في مارن الأنف، وهو ما لان منه دون العظم
…
وفي قطع بعضهما بحسابها، أي: الدية منهما، أي: من المارن، والحشفة فيقاس مما فيه الدية منهما، لا يقاس من أصله، أي: من أصل المارن
…
وأصل الأول الأنف
…
لأن بعض ما فيه الدية إنما ينسب إليه لا إلى أصله".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 466) قال: "وفي قطع أو إشلال مارن وهو ما لان من الأنف، ويشتمل على طرفين وحاجز دية؛ لخبر صحيح فيه، ولو قطع معه القصبة دخلت حكومتها في ديته؛ لأنها تابعة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 311) قال: "وفي مارن أنف
…
دية كاملة لأنه الذي يحصل به الجمال في الأنف
…
وفي
…
تسويد أنف
…
بحيث لا يزول التسويد دية ذلك العضو كاملة لإذهاب جماله،
…
أو ذهاب نفع عضو ديته، أي: ذلك العضو كاملة لصيرورته كالمعدوم كما لو قطعه".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 575 - 577) قال: "وفي النفس
…
والأنف ومارنه وأرنبته
…
والشم
…
الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 271) قال: "والدية الكاملة كما تكون في النفس تكون في ذهاب كل واحد مما يأتي فتجب في ذهاب العقل، أو السمع، أو البصر، أو النطق، وهو صوت بحروف أو الصوت الخالي عن الحروف أو الذوق وهو معنى في اللسان ومثل ذلك الشم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 477) قال: "وفي الشم دية على الصحيح كالسمع ففي إذهابه من أحد المنخرين نصف دية، ولو نقص فقسطه إن =
ولو قُطِع الأنف ففيه دية، ولو قطع الأذنين، (أي: أخذهما من الأصل أو اجتثهما) ففيهما دية، ولو ذهب السمع مع بقاء الأذنين ففيهما الدية، وهكذا الحال بالنسبة للعينين
(1)
، وسينبِّه المؤلف بأن كلَّ شيء في الإنسان شيء واحد فيه دية كاملة كالأنف، وما فيه شيئان ففيه نصف الدية في الواحد منه، وفي الاثنين الدية، وما فيه أربعة كما نرى في الأجفان ففيه ربع الدية، وإذا ذهبت كلها ففيها دية كاملة، وهو محل اتفاق بين العلماء كما سيأتي
(2)
.
= أمكن، وإلا فحكومة
…
ولو ادعى زواله امتحن فإن هش أو عبس حلف الجاني وإلا حلف هو، ولا يسأل الخبراء هنا لما مر في السم".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 312) قال: "ومن قطع أنفًا
…
فذهب الشم بقطع الأنف
…
فعليه ديتان؛ لأن الشم من غير الأنف
…
فلا تدخل دية أحدهما في الآخر".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (6/ 576 - 577) قال: "والسمع والبصر واللسان إن منع النطق
…
والعينين والشفتين والحاجبين والرجلين والأذنين والأنثيين، (أي: الخصيتين) وثديي المرأة وحلمتيهما والأليتين إذا استأصلهما وإلا فحكومة عدل، وكذا فرج المرأة من الجانبين الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 271) قال: "والدية الكاملة كما تكون في النفس تكون في ذهاب كل واحد مما يأتي فتجب في ذهاب العقل، أو السمع، أو البصر، أو النطق، وهو صوت بحروف أو الصوت الخالي عن الحروف أو الذوق وهو معنى في اللسان ومثل ذلك الشم".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 476) قال: "في إبطال ضوء كل عين، ولو عين أخفش، وهو من يبصر ليلًا فقط وأعشى، وهو من يبصر نهارًا فقط لما مر أن من بعينه بياض لا ينقص الضوء يكمل فيها الدية نصف دية كالسمع". ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 35) قال: "وإن ذهب بصره، أي: المجني عليه أو ذهب سمعه فقال عدلان من أهل الخبرة بالطب لا يرجى عوده، أي: بصره أو سمعه وجبت الدية لذلك".
(2)
قال الشافعية: "ما وجب فيه الدية منها وهو ثنائي كاليدين، ففي الواحد منه نصفها، أو ثلاثي كالأنف فثلثها، أو رباعي كالأجفان فربعها ولا زيادة على ذلك". انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 307).
وقال الحنابلة: "ومن أتلف ما فيه، أي: الإنسان منه شيئان كالعينين والأذنين ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها، أي: نصف دية ذلك الإنسان
…
ومن أتلف ما فيه، =
وسيعرض المؤلف لهذه الأشياء واحدة واحدة، وكذلك الشعر والهدب الذي يكون على حرف الجفن أو حرف العين (والذي يسمونه بالأجفار)، وهذا بلا شك يعطي جمالًا على العينين، ويحفظها من دخول الأتربة وغيره، وذلك إذا ذهب ذلك الشيء.
لكن العلماء لا يحددون في الشعر شيئًا؛ إلا إذا تُؤُكِّد من عدم عودته، وكذلك لو أذهب إنسانٌ شعر رأس إنسانٍ، (أي: جعله أصلعًا) ففيه دية؛ لكن ينتظر فربما يعود، وكذلك شعر لحيته
(1)
، وهكذا الحال إن
= أي: الإنسان ثلاثة أشياء كالأنف يشتمل على المنخرين والحاجز بينهما ففيها الدية، وفي كل واحد منها ثلثها، ومن أتلف ما فيه في الإنسان منه أربعة أشياء كالأجفان ففيه الدية، وفي كل واحد منها ربعها، أي: الدية قياسًا على ما سبق، وما فيه منه خمسة أشياء كالمذاق الخمس ففيها الدية وفي إحداها خمسها، وما فيه منه عشرة أشياء كاصابع اليدين وأصابع الرجلين ففيها الدية وفي كل واحد منها عشرها". انظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 34).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 576 - 577) قال: "ولحية حلقت لم تنبت ويؤجل سنة فإن مات فيها برئ وفي نصفها نصف الدية، وفيما دونها حكومة عدل كشارب ولحية عبد في الصحيح، ولا شيء في كوسج على ذقنه شعرات معدودة، ولو على خده أيضًا، ولكنه غير متصل فحكومة عدل، ولو متصلًا فكل الدية، وشعر الرأس كذلك، أي: إذا حلق ولم ينبت كذا روي عن علي
…
واعلم أنه لا قصاص في الشعر مطلقًا، ولو مات قبل تمام السنة ولم ينبت فلا شيء عليه كشعر صدر وساعد وساق".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدرير (4/ 277) قال: "وقلع شعر حاجب، أو هدب بضم الهاء الواحد، أو المتعدد فيه الحكومة إن لم ينبت فإن نبت وعاد لهيئته فلا شيء فيه إلا الأدب في العمد، وكذا شعر الرأس، واللحية".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (9/ 273) قال: "إزالة الأهداب وسائر الشعور، كشعر الرأس واللحية، بالحلق وغيره من غير إفساد المنبت لا يوجب إلا التعزير، فإن أفسد المنبت، لزمه الحكومة فإذا لم يكن على الأجفان أهداب فالواجب بقطعها الدية؛ فإن قطعت وعليها أهداب، فهل تجب مع الدية حكومة الأهداب، أم تدخل في الدية؟ وجهان، أصحهما: الدخول".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 125) قال: "وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية كاملة ولا قصاص فيها؛ أي: الشعور الأربعة لعدم =
أذهب شيئًا هن الإنسان يؤثِّر على جماله، قال العلماء: لا يؤثر على الجمال ما كان غالبه يغني كأن تكون له أصبع زائدة فقطعها، أو يد زائدة فقطعها، ولم تؤثر عليه؛ فأكثر العلماء يقولون: لا دية عليه؛ لأن هذه زادته جمالًا ولم تنقصه كأن يوجد فيه مثلًا خُرّاج فقطعه أو شيء بارز فاجتثه فلا يأخذ كامل الدية عليه
(1)
.
هذا وقد جاء في الحديث نفسه ولم يذكر المؤلف الحديث كاملًا؛ بل ذكر بعض ما فيه وهو حديث طويل كما مرَّ.
قوله: (وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ
(2)
).
مرَّت بنا المأمومة قبل قليل أن فيها (ثلث الدية)، فهي إذن محددة.
= إمكان المساواة، وهي شعر رأس وشعر لحية وحاجبين وشعر أهداب عينين ولو لأعمى روي عن علي وزيد بن ثابت: في الشعر الدية؛ ولأنه أذهب الجمال على الكمال كأذني الأصم وأنف الأخشم
…
وفي حاجب نصف دية؛ لأن فيه منه شيئين وفي هدب ربع دية؛ لأن فيه منه أربعة، وفي بعض كل من الشعور الأربعة بقسطه من الدية بقدر المساحة كالأذنين".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 579) قال: "ويجب حكومة عدل بإتلاف عضو ذهب نفعه إن لم يكن فيه جمال كاليد الشلاء أو أرشه كاملًا إن كان فيه جمال كالأذن الشاخصة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 504) قال: "
…
وما سوى ذلك بما فيه جمال لا منفعة فحكومة كأشفار العينين والحاجبين واللحية لم تنبت".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 484 - 485) قال: "ولك أن تجيب بأن زائدة الأنملة أو الأصبع لا عمل لها غالبًا، ولا جمال فيها، وإن فرض فقد الأصلية بخلاف السن الزائدة فإنه كثيرًا ما يكون فيها جمال بل ومنفعة كما يأتي وبأن جنس اللحية فيها جمال فاعتبر في لحية المرأة، ولا كذلك زائدة الأنملة، أو الأصبع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 312) قال: "وفي زائد من يد ورجل وأصبع وسن وشلل أنف وأذن وتعويجهما، أي: الأنف والأذن حكومة؛ لأنه لم يرد فيها تقدير".
(2)
وقد تقدم ذِكر مذاهب الفقهاء فيها.
قوله: (وَفِي الْجَائِفَةِ مِثْلُهَا
(1)
).
وكذلك الجائفة مثلها، (أي: فيها ثلث الدية).
قوله: (وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ).
وفي العين خمسون؛ لأنهما اثنتان في البدن فإذا ذهبت واحدة ففيها نصف الدية، أما لو أذهبت الاثنتان، (أي: قُلِعتا) ففيهما دية كاملة، ولو
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 581) قال: " (قوله: والجائفة)، قالوا: الجائفة تختص بالجوف جوف الرأس أو جوف البطن هداية. وعليه فذكرها مع الشجاج له وجه من حيث إنها قد تكون في الرأس، لكن نظر فيه الأتقاني بما في مختصر الكرخي من أنها لا تكون في الرقبة ولا في الحلق، ولا تكون إلا فيما يصل إلى الجوف من الصدر والظهر والبطن والجنبين وبما ذكره في الأصل من أنها لا تكون فوق الذقن ولا تحت العانة اهـ قال العيني: ولا تدخل الجائفة في العشرة إذ لا يطلق عليها الشجة، وإنما ذكرت مع الأمة لاستوائهما في الحكم. (قوله: فيجب في كل ثلثها)، أي: ثلث الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 270) قال: "قوله: إلا الجائفة عمدًا، أو خطأ، وهي مختصة بالبطن، والظهر
…
فثلث من الدية المخمسة في كل منهما".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 304) قال: "وفي جائفة وإن صغرت ثلث دية؛ لثبوت ذلك في حديث عمرو بن حزم
…
وهي جرح ينفذ
…
أي: يصل إلى جوف فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء كما أشار إلى ذلك بقوله: كبطن، أي: كداخله وداخل صدر، وداخل ثغرة نحر
…
وهي نقرة بين الترقوتين، وداخل جبين
…
وهو أحد جانبي الجبهة
…
وداخل خاصرة من الخصر، وهو وسط الإنسان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 132) قال: "وفي الجائفة ثلث دية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم: "وفي الجائفة ثلث الدية"
…
وسواء كانت عمدًا أو خطأ وهي؛ أي: الجائفة ما تصل باطن جوف؛ أي: ما لا يظهر منه للرأي؛ كداخل بطن، ولو لم تخرق به أمعاء داخل ظهر وصدر وحلق ومثانة وبين خصيتين وداخل دبر".
ذهب بصره مع بقاء الصورة ففيه دية أيضًا
(1)
.
وفي اليد خمسون أيضًا؛ لأنهما يدان
(2)
.
وكذلك الرِّجْل؛ خمسون
(3)
. أما الأصابع فلا تجمع بين اليدين
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 577 - 578) قال: "والعينين
…
الدية
…
وفي كل واحد من هذه الأشياء المزدوجة نصف الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 272) قال: "أو العينين الباصرتين، أي: في قلعهما، أو طمسهما بأن أغلقت الحدقة الدية وليس هذا مكررًا مع قوله سابقًا، أو البصر؛ لأن الذاهب فيما تقدم مجرد البصر، والعين قائمة، وهنا طمست الحدقة مع ذهاب البصر، أو قلعت وأتي به للإشارة إلى أنه ليس فيهما دية وحكومة، وإن كان يعلم من قوله الآتي إلا المنفعة بمحلها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 465) قال: "وفي إزالة جرم كل عين صحيحة نصف دية إجماعًا لخبر صحيح فيه
…
وكذا من بعينه بياض على ناظرها، أو غيره لا ينقص هو بفتح ثم ضم مخففًا على الأفصح كما مر الضوء مفعول ففيها نصف الدية".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 309) قال: "وما فيه، أي: الإنسان منه شيئان ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها نصًّا، كعينين ولو مع حول أو عمش، وسواء الصغيرتان والكبيرتان لعموم حديث عمرو بن حزم، ومع بياض بالعينين أو أحدهما ينقص البصر تنقص الدية بقدره، أي: نقص البصر".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 187 - 188) قال: "وفي اليدين الدية
…
وفي كل واحد من هذه الأشياء نصف الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 273) قال: "والدية في قطع اليدين من الكوعين، أو من الساعدين".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 475) قال: "وفي كل يد نصف دية؛ لخبر به في أبي داود، إن قطع من كف يعني: من كوع كما بأصله".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 310) قال: "وفي أليتين وهما ما علا الظهر، وعن استواء الفخذين، وإن لم يصل القطع إلى العظم الدية كاملة كاليدين وفي إحداهما نصفها".
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 577 - 578) قال: "والرجلين
…
الدية
…
وفي كل واحد من هذه الأشياء المزدوجة نصف الدية". =
والرجلبن ما دام كل يد فيها خمسون، فيكون في الإصبع خُمس دية هذه اليد.
قوله: (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَاكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ
(1)
).
= ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 273) قال: "والدية في قطع
…
الرجلين".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 314 - 315) قال: "والرجلان في قطعهما وأصابعهما وأناملهما كاليدين في جميع ما ذكر فيهما لحديث عمرو بن حزم بذلك، والقدم كالكف. والساق كالساعد، والفخذ كالعضد، والأعرج كالسليم؛ لأن العيب ليس في العضو نفسه، وإنما العرج نقص في الفخذ، والشلل في الرجل كما في اليد وتقدم بيانه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 46 - 47) قال: "وفي الرجلين الدية وفي إحداهما نصفها، وتفصيلها كاليدين لما تقدم".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 578) قال: "وفي كل أصبع من أصابع اليدين أو الرجلين عشرها، وما فيها مفاصل ففي أحدهما ثلث دية الإصبع ونصفها، أي: نصف دية الأصبع لو فيها مفصلان كالإبهام".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 278) قال: "وفي قطع كل أصبع من يد، أو رجل من ذكر، أو أنثى مسلم، أو كافر عشر بضم العين، أي: عشر دية من قطعت أصبعه، فيشمل من ذكر ودية الإبل وغيرها، والمربعة، والمخمسة
…
وفي قطع الأنملة ثلثه، أي: العشر إلا في الإبهام من يد، أو رجل فنصفه، وهو خمس من الإبل، أو خمسون دينارًا لأهل الذهب".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 470) قال: "وفي قطع، أو إشلال كل أصبع عشر دية صاحبها موزعًا على أنامله الثلاثة إلا الإبهام فعلى أنملتيه، ولو زادت الأنامل على العدد الغالب مع التساوي، أو نقصت قسط الواجب عليها وكذا الأصابع".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 310) قال: "وفي أصابع اليدين أو أصابع الرجلين الدية، وفي أصبع يد أو رجل عشرها أي: الدية
…
وفي الأنملة ولو مع ظفر إن كانت من إبهام يد أو رجل نصف عشر الدية؛ لأن في الإبهام مفصلين ففي كل مفصل نصف عقل الإبهام، وفي الأنملة من غيره، أي: الإبهام ثلثه أي: ثلث عشر الدية؛ لأن فيه ثلاثة مفاصل فتوزع ديته عليها، وفي ظفر لم يعد أو عاد أسود خمس دية أصبع نصًّا".
لأن اليدان فيهما عشرة أصابع، فإذا ضربت في عشرة أصبحت مائة إذن في أصابع اليدين مائة من الإبل، وفي أصابع الرجلين مثلها فهذا حكم عادل.
قوله: (وَفِي السِّنِّ
(1)
وَالْمُوضِحَةِ خَمْسٌ).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 578 - 579) قال: "وفي كل سن يعني من الرجل إذ دية سن المرأة نصف دية الرجل جوهرة خمس من الإبل، أو خمسون دينارًا، أو خمسمائة درهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "في كل سن خمس من الإبل" يعني: نصف عشر ديته لو حرًّا ونصف عشر قيمته لو عبدًا. فإن قلت: تزيد حينئذٍ دية الأسنان كلها على دية النفس بثلاثة أخماسها. قلت: نعم ولا بأس فيه؛ لأنه ثابت بالنص على خلاف الفياس كما في الغاية وغيره".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 278 - 279) قال: "وفي كل سن خمس من الإبل
…
وأراد بالسن ما يشمل الناب، والضرس وإن كانت السن سوداء خلقة، أو بجناية، أو لكبر ففي الجناية عليها خمس من الإبل إن كان المجني عليه حرًّا مسلمًا، ثم بيَّن أن الجناية عليها تكون بأحد أمور بقوله: بقلع، أو اسوداد فقط بعد بياضها أو بهما معًا بأن جنى عليها فاسودت ثم انقلعت، أو بحمرة، أو بصفرة بعد بياضها إن كانا، أي: الحمرة والصفرة عرفًا، أي: في العرف كالسواد، أي: يذهب بذلك جمالها، وإلا فبحساب ما نقص، أو باضطرابها جدا لذهاب منفعتها ما لم تثبت فإن ثبتت فليس فيها إلا الأدب في العمد فإن اضطربت لا جدًّا فإنه يلزمه بحساب ما نقص منها".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 310) قال: "وفي قلع كل سن أصلية تامة مثغورة غير مقلقلة صغيرة كانت أو كبيرة بيضاء أو سوداء نصف عشر دية صاحبها، ففيها لذكر حر مسلم خمسة أبعرة
…
ولا فرق بين الثنية والناب والضرس
…
ويستثنى من إطلاقه صورتان: إحداهما: لو انتهى صغر السن إلى أن لا يصلح للمضغ فليس فيها إلا حكومة. الثانية: أن الغالب طول الثنايا على الرباعيات فلو كانت مثلها أو أقصر فقضية كلام الروضة وأصلها أن الأصح أنه لا يجب الخمس بل ينقص منها بحسب نقصانها، ثم نبَّه بقوله سواء أكسر الظاهر منها دون السنخ
…
المستتر باللحم أو قلعها به، أي: معه على أنه لا لحرق في ديتها بين حالة وجوب القصاص فيها كالقلع أو لا كالكسر لأن النسخ تابع، فأشبه الكف مع الأصابع". =
وفي السِّن والموضحة - التي مرت بنا - (خمس من الإبل)، ولكن خرج السِّن على القاعدة؛ لأنها لو أُخِذتْ واحدًا واحدًا كأصابع اليد؛ فإنها ستزيد بكثير عن الدية المحددة بمائة من الإبل.
قوله: (وَكُلُّ هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ).
وكل هذا مجمعٌ عليه؛ لأنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم يجب الأخذ به، ولا يجوز الخروج عنه، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
قوله: (إِلَّا السِّنَّ وَالإِبْهَامَ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ).
عدا السِّن؛ لأنه إذا تعدَّد لزاد عن الدية كما مر، فمن هنا وقع الخلاف، ولكن لا ينبغي أن يُختلف فيه؛ لأن الذي حكم بذلك هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فينبغي أن يُؤخذ حكمه مسلمًا حتى وإن زاد؛ كالأمر بالنسبة للأذنين مثلًا؛ إذ لو جاء إنسانٌ فقطع أذني إنسانٍ فإن فيهما الدية مع أن السمع موجود، ولو أذهب السمع دون الآلة نفسها ففيهما الدية مع بقاء صورة الأذنين؛ لأن "ذهاب المنفعة كذهاب العضو" فلو قطع لسان آخر ففيه دية أيضًا؛ لأنه لا يوجد منه إلا واحد، وكذلك الحال بالنسبة للذكر. فكل ما في الإنسان من شيء واحد تجب فيه الدية كاملة، ولو عطَّله عن أداء منفعته كانت فيه الدية أيضًا.
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 116 - 117) قال: "وفي سن أو ناب أو ضرس قلعه بسخنه
…
أي: أصله، أو قلع الظاهر منه فقط، ولو كان السن من صغير ولم يعد أو عاد أسود، واستمرَّ أسود، أو عاد أبيض ثم أسود بلا علة خمس من الإبل
…
فيدخل فيه الناب والضرس
…
وفي جميعها؛ أي: الأسنان مائة وستون؛ لأنها اثنان وثلاثون أربع ثنايا وأربع رباعيات، وأربعة أنياب وعشرون ضرسًا في كل جانب عشرة، خمسة من فوق وخمسة من تحت، وفي سنخ وحده؛ أي: بلا سن حكومة، وفي سن أو ظفر عاد قصيرًا، أو عاد متغيرًا أو بيض ثم اسودَّ لعلة حكومة؛ لأنها أرش كل ما لا مقدر فيه".
قوله: (وَمِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هَاهُنَا قِيَاسًا عَلَى مَا ذُكِرَ، فَنَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةَ كَامِلَةً
(1)
).
من المعلوم أن للشفتين أثراً بالغاً؛ ففيهما حفظٌ لجمال الإنسان، فبهما يحاط الفم؛ فإذا تكلم الإنسان تحركت شفتاه، وللشفة السفلى منافع وللعليا كذلك، فلكل واحدة منهما منافع، وما خلق الله سبحانه وتعالى أيَّ شيء في هذا البدن إلا وله منافع واضحة، وهذا أمر لا يحتاج إلى بيان؛ فإذا تعطل لسان الإنسان تعطَّل كلامه، وإذا تعطَّل سمعه أصبح لا يدري ما يقال وفاتته أشياء كثيرة، وإذا ذهب بصره أصبح لا يدري أين يذهب واحتاج إلى قائد يقوده، وكذلك إذا تعطَّلت رجلاه فلن يستطيع المشي، وإذا ذهبت يداه أو شُلَّتا فلن يستطيع أن يبطش بها، ولا أن يعمل أو يحمل بها.
وهذه الأعضاء التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الإنسان تستحق من كل عبد من عباده أن يشكره سبحانه وتعالى عليها؛ فهو الذي خلق هذه الأعضاء
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 577 - 578) قال: "والشفتين
…
الدية
…
وفي كل واحد من هذه الأشياء المزدوجة نصف الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 273) قال: "والدية في قطع
…
الشفتين".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 466) قال: "وفي قطع أو إشلال كل شفة وهي كما في بعض نسخ المتن في عرض الوجه إلى الشدقين وفي طوله إلى ما يستر اللثة نصف من الدية لخبر فيه، فإن كانت مثقوبة نقص منها قدر حكومة وفي بعضها بقسطه كسائر الأجرام".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 118) قال: "وفي شفتين صارتا لا تنطبقان على أسنان، أو استرختا فلم تنفصلا عنها، أي: الأسنان ديتهما؛ لتعطيله نفعهما وجمالهما كما لو شلهما أو قطعهما، وإن تقلصتا بعض التقلص فحكومة؛ لذلك النقص، وحد الشفة السفلى من أسفل ما تجافى عن الأسنان واللثة مما ارتفع عن جلدة الذاقن، وحد الشفة العليا من فوق ما تجافى عن الأسنان واللثة إلى اتصاله بالمنخرين والحاجز. وحد ما تجافى الشفتين طولًا طول الفم إلى حاشية الشدقين".
وركبها على أحسن حال وأجمل صورة، فينبغي أن تُشكَر هذه النعم التي وهبنا الله سبحانه وتعالى إيَّاها إلى جانب أنه خلقنا من العدم، وأوجدنا ورعانا في بطون أمهاتنا، وسخَّر لنا أبوين يشفقان علينا إلى غير ذلك من الرعاية المستمرة حتى يشب الإنسان عن الطوق، ويحصف عقله ويصبح رجلًا سويًّا.
والإنسان يدرك قيمة هذه الأشياء في حالتين:
الأولى: حين يفقد شيئًا منها.
الثانية: حين يرى إنسانًا قد حُرِم من هذه الصفات التي يتمتع بها.
ففي تلك الحالتين يدرك الإنسان نعمة الله سبحانه وتعالى ومن هنا لا ينبغي أن تُستخدَم هذه الأعضاء التي خلقها الله سبحانه وتعالى وركبها في الإنسان إلا في طاعته سبحانه وتعالى فمثلًا لا يُنظَر إلى الحرام امتثالًا لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30].
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تتبعوا النظرة النظرة"
(1)
، وكذلك لا ينبغي للإنسان أن يستخدم يده إلا في طاعة الله، وكذلك لا ينبغي له أن يستخدم لسانه - الذي وهبه الله له - إلا في ذكر الله سبحانه وتعالى
(2)
، وأن يكون دائمًا رطبًا بذكره، وألا يشتغل بالقيل والقال وبأذى المؤمنين، وفي التكلم في أعراضهم، وفي تتبع هفواتهم؛ فإن الذين يشغلون أنفسهم بأذى المؤمنين قد توعَّدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58].
(1)
أخرجه أبو داود (2149) وغيره عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليِّ: "يا عليّ لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة". وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(1865).
(2)
وهذا معنى حديث أخرجه الترمذي (3375) وغيره عن عبد الله بن بسر، أن رجلًا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال:"لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7700).
ومن أراد التوسع في هذا الباب فليقرأ ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم "مدارج السالكين"
(1)
عندما تكلم عن هذه الحواس وفوائدها، ووقف عندها وحددها، وهو من العلماء الذين إذا كتبوا أجادوا، وإذا تكلموا أثروا، فلقد تحدَّث عن خصائص البدن وما فيه من الفضائل الكثير، وهذا أمر يشاهده كل إنسان ويراه رأي العين؛ فإذا مرض الإنسان منه عضو تداعى له سائل الجسد بالحمى والسهر
(2)
.
قوله: (وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ
(3)
، وَرُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ فِي السُّفْلَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ
(4)
؛ لِأَنَّهَا تَحْبِسُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ).
كأنهم رأوا أن نفعها (أي: السفلي) أكبر، لكن في الحقيقة أن لكل واحدة منهما نصف الدية.
قوله: (وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ حَرَكَتَهَا وَالْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ مِنْ حَرَكَةِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
(5)
).
"الزوج" هو كل شيء في بدن الإنسان فيه اثنان؛ ففيهما جميعًا دية، وفي كل واحد منهما نصف الدية، وهو أكثر ما في بدن الإنسان؛ إذ هناك
(1)
يُنظر: "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 136) وما بعدها.
(2)
وهذا معنى حديث أخرجه مسلم (2586/ 66) عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
(3)
وقد تقدم قول جمهور الفقهاء، أن في كل شيء منه زوج؛ ففيه نصف الدية.
(4)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (7/ 415) قال: "وفيه قول ثان وهو: أن في الشفة العليا ثلث الدية وفي الشفة السفلى ثلثا الدية .... وبه قال ابن المسيب، والزهري".
(5)
يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (7/ 415) قال: "وفيه قول ثان وهو: أن في الشفة العليا ثلث الدية وفي الشفة السفلى ثلثا الدية. روينا هذا القول عن زيد بن ثابت".
العينان والأذنان واليدان والرجلان إلى غير ذلك، وهناك أشياء لا يوجد في البدن منها إلا شيء واحد فهذه فيها دية كاملة إذ ذهبت.
قوله: (وَبِالْجُمْلَةِ فَجَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ زَوْجٍ مِنَ الإِنْسَان الدِّيَةَ مَا خَلَا الْحَاجِبَيْنِ
(1)
، وَثَدْيَي الرَّجُلِ
(2)
).
وهذه تصح أن تكون قاعدة فقهية، وهي "أن كل شيء في بدن الإنسان فيه اثنان ففيه دية، وفي الواحد منها نصف دية، وكل ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه دية كاملة كثدي الرجل لكن تختلف المرأة ففيها دية كاملة.
قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الأُذُنَيْنِ مَتَى تَكُونُ فِيهِمَا الدِّيَةُ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(4)
، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ
(5)
: "إِذَا اصْطُلِمَتَا كَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ").
(1)
اختلف الفقهاء فيما يجب في الحاجبين، وسيأتي تفصيل ذلك قريبًا.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 182) فال: "بخلاف ثديي الرجل حيث تجب حكومة عدل؛ لأنه ليس فيه تفويت جنس المنفعة والجمال".
ومذهب المالكية، يُنظر:"إرشاد السالك" لابن عسكر (ص 111) قال: "كل ما في البدن منه اثنان ففيهما الدية إلا
…
وثدي الرجل وأليتيه ففيها حكومة".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (6/ 139) قال: "ولا يختلف شيء من المرأة ولا الرجل إلا الثديين فإذا أصيبت حلمتا ثديي الرجل أو قطع ثدياه ففيهما حكومة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 47) قال: "وفي ثندوتي الرجل
…
وهي مغرز الثدي
…
الدية؛ لأنه يحصل بهما الجمال وليس في البدن غيرهما من جنسهما وفي إحداهما نصفها".
(3)
يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 465) قال: "والمذهب أن في قطع، أو قلع الأذنين دية كدية المجني عليه نفسه".
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 187) قال: "وفي الأذنين الدية".
(5)
يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (5/ 124) قال: "قال أصحابنا والثوري والليث والشافعي في الأذنين الدية وفي السمع الدية".
وتبعهم الإمام أحمد
(1)
، ومعنى "اصطلمت"
(2)
، أي: استؤصلتا، أي: قُطعتا، واستأصلهما، أي: قطعهما فكان فيهما الدِّية.
قوله: (وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إِذْهَابَ السَّمْعِ).
وهنا أمران بالنسبة للأذنين: فلو أن إنسانًا قطع أذني إنسان من أصلهما ففيهما دية حتى وإن بقي السمع، وسيأتي ما أُثِر عن عثمان في ذلك.
أما لو أذهب السمع مع بقاء الأذنين ففيه الدية كذلك، وفي الحالة الأُخرى إذ أذهب السمع وهو شيء واحد في البدن ففيه دية أيضًا؛ لأنه عطل المنفعة فلما عطل المنفعة وجب عليه دية تلك المنفعة، وهو شيء واحد في البدن، وإن كان له مصدران لكنه زال فوجب فيه الدية.
قوله: (بَلْ جَعَلُوا فِي ذَهَابِ السَّمْعِ الدِّيَةَ مُفْرَدَةً).
ذهب الأئمة الثلاثة
(3)
إلى أنه لو استُؤصل الأذنان قطعًا ففيهما الدية،
(1)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 312) قال: "ومن
…
قطع أذنين
…
ذهب السمع بقطع الأذنين فعليه ديتان؛ لأن
…
السمع من غير الأذنين فلا تدخل دية أحدهما في الآخر
…
فإن ذهب سمع إحدى الأذنين دون الأُخرى فنصف الدية".
(2)
"صلم الشيء": قطعه من أصله، وقيل: الصلم: قطع الأذن والأنف من أصلهما، وصلمهما إذا استأصلهما، والصلم: القطع المستأصل. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 340).
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 377) قال: "وفي
…
السمع
…
يعني: تجب في كل واحد منهما دية كاملة
…
وأما السمع فلأنه بفواته يفوت جنس المنفعة على الكمال وهو منفعة الاستماع".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 474) قال: "وفي إبطال السمع دية إجماعًا؛ ولأنه أشرف الحواس حتى من البصر عند أكثر الفقهاء؛ لأنه المدرك للشرع الذي به التكليف وكفى بهذا تميزًا، ولأن المعرفة به من سائر الجهات وفي كل الأحوال
…
وفي إزالته من أذن نصف من الدية لا لتعدده بل لأن ضبط النقص بالمنفذ أولى وأقرب منه بغيره، وقيل: قسط النقص من الدية ورد بأن السمع واحد كما تقرر". =
ولو أذهب سمعهما ففيهما أيضًا الدية، وهي رواية للإمام مالك
(1)
، وله رواية أُخرى
(2)
يشترط فيها مع ذلك ذهاب السَّمع.
قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ
(3)
فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا تجِبُ فِي الأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ إِلَّا إِذَا ذَهَبَ سَمْعُهُمَا).
إذ أنه راعى فيهما مكان السمع، والسمع موجود، فكيف تجب فيهما الدية؟ والراجح وجوبها.
قوله: (فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
(4)
أَنَّهُ قَضَى فِي الأُذُنَيْنِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ).
ذكر ذلك ابن المنذر، وقال:"هذا ضعيف ولم يثبت ذلك عن أبي بكر".
وقد يسأل سائل فيقول ما حجة الذين قالوا بأنَّ قطع الأذنين يوجب الدية؟
الجواب: أن الخليفتين الراشدين (عمر وعليًّا) رضي الله عنهما، قد قضيا بذلك،
= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 312) قال: "ومن
…
قطع أذنين
…
ذهب السمع بقطع الأذنين فعليه ديتان؛ لأن
…
السمع من غير الأذنين فلا تدخل دية أحدهما في الآخر
…
فإن ذهب سمع إحدى الأذنين دون الأُخرى فنصف الدية".
(1)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (4/ 563) قال: "قلت: فإن ضربه فذهب سمعه واصطلمت أذناه، أتكون فيهما دية وحكومة في قول مالك؟ قال: قال مالك: في الأذنين إذا ذهب سمعهما ففيه الدية، اصطلمتا أو لم تصطلما".
(2)
وسيأتي نقل ذلك عنه.
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 272) قال: "الأذنين ففي قطعهما الدية، ومذهب المدونة أن فيهما حكومة إذا لم يذهب سمعه".
(4)
يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (13/ 203) قال: "وقد روي عن أبي بكر الصديق أنه قضى في الأذن بخمس عشرة من الإبل، وقال: إنما هو شين لا يضر سمعًا، ولا ينقص تغيبها العمامة والشعر. وليس ذلك بثابت عنه".
وقد صحَّ ذلك عنهما
(1)
. فكيف نوازن بين قول الصاحبي، وفتوى الصحابي؟
الجواب: قد صح هذا ولم يصح الآخر، وما قد صح أخذ به الجمهور، وهو الأقوى في هذه المسألة.
قوله: (وَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَا يَضُرَّان السَّمْعَ، وَيَسْتُرُهُمَا الشَّعْرُ أَوِ الْعِمَامَةُ").
هذا تعليل لدية قطع الأذنين؛ وتغطَّى الأذن إذا قُلِعت، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يغطيها في كل حال؛ فليغطِّها إذن بعمامة كبيرة فترة وجيزة فقط ثم يخلع ذلك الشيء.
قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ
(2)
، وَعَلِيٍّ
(3)
، وَزَيْدٍ
(4)
أَنَّهُمْ قَضَوْا فِي الأُذُنِ إِذَا اصْطُلِمَتْ نِصْفَ الدِّيَةِ).
ففي الأذن نصف الدية وفي الأذنين الدية كاملة، وهذا عن ثلاثة من الصحابة، وهؤلاء الصحابة الثلاثة كلهم ممن اشتهر بالفقه (فعمر فقيه، وعلي قال فيه الرسول:"أقضاكم عليّ"، وزيد بن ثابت، اشتهر بالفقه وبجانب خاص منه وهو الفرائض
(5)
.
(1)
سيأتي تخريجها.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 324)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 354) عن طاوس، "أن عمر بن الخطاب، قضى في الأذن إذا استؤصلت نصف الدية". وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 323)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 354) عن علي قال:"في الأذن إذًا النصف يعني نصف الدية". وإسناده صحيح.
(4)
لم أقف عليه، بل وقفت على خلافه؛ أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 354) عن زيد، قال:"إذا اصطلمت الأذن ففيها ديتها".
(5)
أخرجه ابن ماجه (154) وغيره عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". وصححه الألباني في "الصحيحة"(1224) و (1436).
قوله: (وَأَمَّا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ الدِّيَةَ
(1)
).
فذهاب السمع فيه دية.
قوله: (وَأَمَّا الْحَاجِبَانِ فَفِيهِمَا عِنْدَ مَالِكٍ
(2)
، وَالشَّافِعِيِّ
(3)
حُكُومَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(4)
: "فِيهِمَا الدِّيَةُ").
ذهب مالك والشافعي إلى أن فيها حكومة، وليس دية؛ إذ رأوا بأن ذلك أخفُّ.
وقال أبو حنيفة وأحمد
(5)
: "فيهما الدية"؛ لأن القاعدة تقول: "كل شيء في الإنسان منه اثنان إذا ذهبا ففيهما دية".
والأقرب إلى الأصل الذي قعده الفقهاء هو (الرأي الثاني) الذي أخذ به أبو حنيفة وأحمد؛ لما ذهبوا إليه من القاعدة السابقة.
(1)
وهم الحنفية والشافعية والحنابلة، وتقدم ذكر ذلك عنهم.
(2)
يُنظر: "إرشاد السالك" لابن عساكر (ص 111) قال: "كل ما في البدن منه اثنان ففيهما الدية إلا الحاجبين وأهداب العينين
…
ففيها حكومة".
(3)
يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (11/ 519) قال: "وإن قلع الحاجبين لم تجب فيهما الدية
…
دليلنا: أن فيهما جمالًا من غير منفعة، فلم تجب فيهما الدية، كلحم الوجه، وتجب فيهما الحكومة".
(4)
يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 187) قال: "وفي الحاجبين الدية".
(5)
يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 37 - 38) قال: "وفي كل واحد من الشعور الثلاثة الأُخرى الدية وهي
…
شعر الحاجبين كثيفة كانت تلك الشعور أو خفيفة، جميلة أو قبيحة، من صغير أو كبير أذهبها بحيث لا تعود
…
ولأنه أذهب الجمال على الكمال كما تقدم. ولا قصاص في هذه الشعور الأربعة لعدم إمكان المساواة وفي كل حاجب نصفها؛ لأن لكل إنسان حاجبين، وفي بعض ذلك بقسطه من الدية يقدر بالمساحة كالأذنين، وإن عاد الشعر قبل أخذ الدية سقطت ديته".
قوله: (وَكَذَلِكَ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنِ
(1)
).
- "أشفار العين"
(2)
: هو الشعر الذي ينبت في حرف العين أو في طرف الجفن، ويسمى: أشفارًا.
وعند بعض العلماء: في كل واحد منهما ربع الدية، وإذا اجتمعت كلها فالدية كاملة.
قوله: (وَلَيْسَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ إِلَّا حُكُومَةٌ
(3)
).
أما أكثر العلماء فقالوا: فيها دية وفي الواحد منها ربع الدية
(4)
.
قوله: (وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "فِي كُلِّ اثْنَيْنِ مِنَ الإِنْسَانِ الدِّيَةُ"
(5)
).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 578) قال: "وفي أشفار العينين الأربعة جمع شفرة
…
الجفن أو الهدب الدية إذا قلعها لم تنبت وفي أحدها ربعها، ولو قطع جفون أشفارها فدية واحدة؛ لأنهما كشيء واحد وفي جفن لا شعر عليه حكومة عدل، لكن المعتمد أن في كل دية كاملة جفنًا أو شعرًا".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (6/ 132) قال: "وإذا قطع جفون العينين حتى يستأصلها ففيها الدية كاملة في كل جفن ربع الدية؛ لأنها أربعة في الإنسان وهي من تمام خلقته ومما يألم بقطعه".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 37) قال: "وفي الأشفار جمع شفر الأربعة وهي الأجفان ولو من أعمى الدية؛ لأن ذهاب البصر عيب في غير الأجفان، وفي كل واحد منها، أي: الأشفار ربعها؛ لأنها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل فإنها تكن العين وتحفظها من الحر والبرد ولولاه لقبح منظرها".
(2)
"الأشفار": حروف العين التي ينبت عليها الشعر، والشعر هو الهدب، وشفر كل شيء حرفه. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 164 - 165).
(3)
يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدرير (4/ 253) قال: "وشفر عين لا قصاص فيه، وهو بضم الشين المعجمة الهدب النابت بأطراف الجفن".
(4)
تقدَّم نقل ذلك عنهم.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(9/ 323) عن ابن مسعود قال: "كل زوجين ففيهما الدية، وكل واحد ففيه الدية".
لأنها إذا ذهبت ذهب معها الشعر، والشعر - كرأي بعض العلماء - فيه الدية أيضًا
(1)
.
فهذا هو الأصل الذي بنا عليه العلماء قولهم: "بأن كل شيء فيه اثنان ففيه الدية؛ فإذا كانت أربعًا كانت فيه الدية.
قوله: (وَتَشْبِيهُهُمَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الأَعْضَاءِ الْمُتَنَّاةِ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ. فَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ قِبَلِ السَّمَاعِ فِيهِ دِيَةٌ؛ فَالأَصْلُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَوَاجِبَ لَيْسَتْ أَعْضَاءً لَهَا مَنْفَعَةٌ).
كل ما مرَّ لم يرد فيه دليل، فالهاشمة فيها قول لصحابي، وهو زيد بن ثابت، ومع ذلك أخذ به العلماء، وكذلك قول عبد الله بن مسعود الذي مرَّ قد أخذ به بعض الفقهاء.
قوله: (وَلَا فِعْلٌ بَيِّنٌ، أَعْنِي: ضَرُورِيًّا فِي الْخِلْقَةِ).
من المعلوم أنها لو ذهبت لظهرت فائدتها فما خلق الله سبحانه وتعالى شيئًا في البدن إلا وله منفعة.
قوله: (وَأَمَّا الْأَجْفَانُ فَقِيلَ: فِي كُلِّ جَفْنٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ).
"الأجفان"
(2)
: هي التي تحيط بالعينين جفن بالأعلى وجفن بالأسفل،
(1)
وهم الحنفية والحنابلة:
مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام" لملا خسرو (2/ 104) قال: "وكذا شفار العينين يجوز أن يراد بالأشفار حروف العينين وهو حقيقة فيه، ويجوز أن يراد به الأهداب تسمية للحال باسم المحل وأيهما أريد كان مستقيمًا؛ لأن في كل واحد دية كامل.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 37) قال: "وفي أهداب العينين وهي الشعر الذي على الأجفان الدية؛ لأنه أذهب الجمال على الكمال فوجب فيه دية كاملة
…
وفي كل واحد منها، أي: الأهداب ربعها أي الدية".
(2)
"الجفن": غطاء العين من أعلى وأسفل. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 89). وانظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 164 - 165).
وفي كل عين جفنان فمجموعها أربعة، فإذا تعدَّى أحدٌ على إنسان وقطع أجفانه ففيها: دية كاملة، وإن قطع اثنان منها ففيهما: نصف الدية، وكذلك الحال بالنسبة للأهداب التي ينبت عليها الشعر، وهناك أيضًا من العلماء من يرى: أن في إزالة شعر الرأس (دية كاملة) إذا لم ينبت بعد ذلك، أي: صار الإنسان أصلعَ بعد التعدي عليه، وكذلك شعر اللحية
(1)
، وشعر الحاجبين
(2)
، وإن كان في بعض ذلك خلاف، ولم يعرض له المؤلف.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 576) قال: "ولحية حلقت لم تنبت ويؤجل سنة، فإن مات فيها برئ وفي نصفها نصف الدية، وفيما دونها حكومة عدل كشارب ولحية عبد في الصحيح، ولا شيء في كوسج على ذقنه شعرات معدودة ولو على خده أيضًا، ولكنه غير متصل فحكومة عدل ولو متصلًا فكل الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدرير وحاشية الدسوقي (4/ 277) قال: "وقلع شعر حاجب، أو هدب
…
أو المتعدد فيه الحكومة إن لم ينبت، فإن نبت وعاد لهيئته فلا شيء فيه إلا الأدب في العمد، وكذا شعر الرأس واللحية".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 333) قال: "وفي إفساد منبت الشعور حكومة إذا كان فيه جمال كشعر اللحية وشعر الرأس".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 316) قال: "وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية كاملة وهي شعر رأس وشعر لحية وشعر حاجبين وشعر أهداب عينين".
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 577) قال: "الحاجبين
…
الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدرير وحاشية الدسوقي (4/ 277) قال: "وقلع شعر حاجب، أو هدب
…
أو المتعدد فيه الحكومة إن لم ينبت، فإن نبت وعاد لهيئته فلا شيء فيه إلا الأدب في العمد، وكذا شعر الرأس واللحية".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 258) قال: "فأما شعر الحاجبين فيختصان بالجمال دون المنفعة، فإن نتفه حتى ذهب ولم يعد ففيه حكومة". ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 316) قال: "وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية كاملة وهي شعر رأس وشعر لحية وشعر حاجبين وشعر أهداب عينين".
قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّ).
وتبعهما أحمد أيضًا.
قوله: (لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْعَيْنِ دُونَ الأَجْفَانِ. وَفِي الْجَفْنَيْنِ الأَسْفَلَيْنِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا الثُّلُثُ، وَفِي الأَعْلَيَيْنِ الثُّلُثَانِ
(1)
).
اجتهد العلماء في هذه القضية بأن يكون بعض الأعضاء أكثر من بعض، وقد مرَّ كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، وهو كتاب صحيح تلقاه العلماء بالقبول، وعملوا به جيلًا بعد جيل، وقد حفظ لنا كثيرًا من المسائل المتعلقة بالدِّيات.
وهناك أحاديث أُخرى يتعلق بعضها بالديات، فينبغي أن يُوقف فيما ورد فيه النص، ومع ذلك فقد اجتهد بعض العلماء في الأسنان، فإذا جمعت الأسنان مع الأضراس بلغت اثنين وثلاثين، وإذا ضربتها بخمسة صارت "مائة وستين" فتزيد بذلك على الدية، ولذلك اجتهد بعض العلماء فيها
(2)
، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نصَّ على أنَّ في كل سنٍّ خمسًا من الإبل، وكذلك الأصابع سواء أصابع اليدين أو الرجلين غير متساوية، وتختلف في منافعها ومع ذلك بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن في كل إصبع خمس من الإبل، أي: إذا ضُربت بعشرة صار في كل إصبع عشر من الإبل فصارت مائة، ولكن العلماء يقسمون أصابع اليدين إلى ثلاثة مفاصل فيقولون: في كل مفصل ثلث الدية عدا الإبهام ففيه مفصلان فقط ففي كل مفصل منه نصف الدية. فقد دقق العلماء في ذلك وفصلوا، ولكن المؤلف أخذ المسائل المجملة الكبرى فقط.
(1)
روي ذلك عن الشعبي، قال ابن المنذر في "الإشراف" (7/ 411): وقد روينا عن الشعبي أنه قال: "في الجفن الأعلى ثلث الدية، وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية".
(2)
ستأتي هذه المسألة بالتفصيل.
قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أُصِيبَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَكثَرُ مِنْ دِيَتِهِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ تُصَابَ عَيْنَاهُ وَأَنْفُهُ فَلَهُ دِيَتَانِ
(1)
).
أي: لو أن إنسانًا تعدى على إنسان فخلع عينيه ففهما الدية، وكذلك يديه أو ورجليه ففهما الدية، فهذا لا يقيد بأن يقال: لا يزيد عن الدية، ولكن لو أُزهِقَتْ نفس الإنسان خطأ فليس فيها إلا الدية.
قوله: (وَأَمَّا الأُنْثَيَانِ فَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ فِيهِمَا الدِّيَةَ وَقَالَ جَمِيعُهُمْ: "إِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ"
(2)
).
يقصد بـ "الأنثيان": الخصيتان، وجاء تسميتهما أيضًا في كتاب عمرو بن حزم "بالبيضتين"؛ لأنهما يشتملان على ذلك، وقد نص
(1)
هذه المسألة مبنية على ما ذكره أهل العلم فيمن جنى جنايتين تقتضي كل واحدة منهما دية، فإذا اجتمعتا فديتان وهكذا، وهي مذكورة ضمنا في بعض المسائل.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 577) قال: "قوله: (والأنثيين) لتفويت منفعة الإمناء والنسل. زيلعي. [تنبيه] في التتارخانية عن التحفة: إذا قطعهما مع الذكر معًا فعليه ديتان، وكذا لو قطع الذكر أولا فإن بقطعه منفعة الأنثيين وهي إمساك المني قائمة، وأما عكسه ففيه دية للأنثيين وحكومة للذكر اهـ ملخصًا. أي: لفوات منفعة الذكر قبل قطعه وفيها قطع إحدى أنثييه فانقطع ماؤه فدية ونصف".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 273) قال: "وفي الأنثيين مطلقًا، أي: سلهما، أو قطعهما، أو رضهما فلو قطعهما مع الذكر فديتان".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 315) قال: "وفي أنثيين من الذكر دية لحديث عمرو بن حزم بذلك؛ ولأنهما من تمام الخلقة ومحل التناسل، وفي إحداهما نصفها، سواء اليمنى واليسرى ولو من عنين ومجبوب وطفل وغيرهم. تنبيه: المراد بالأنثيين البيضتان كما صرح بهما في بعض طرق حديث عمرو بن حزم. وأما الخصيتان فالجلدتان اللتان فيهما البيضتان".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 49) قال: "وفي الأنثيين الدية وفي إحداهما نصفها".
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما بقوله: "وفي البيضتين الدية"
(1)
، ففي كل واحدة منهما نصف الدية ولم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما فلم يقل مثلًا: في هذه الثلثان، وفي الأُخرى الثلث، أو في هذه أكثر أو أقل، ونحن نقف على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مرَّ ذكر الأنثيين في الوضوء في قوله:"يغسل ذكره وأنثييه"
(2)
، وفي بعضها:"من المني"، وفي بعضها:"يغسل ذكره ويتوضأ"
(3)
.
فالأنثيان: جمع أنثى، ولا شك أن فيهما نفعًا، وهما - كما هو معلوم - وسيلة التناسل، وهذا مما أمر الدين الحنيف بحفظه والمحافظة عليه.
إذن في كلِّ واحدة منهما نصف الدية؛ لأنهما اثنتان في بدن الرجل، ولا فرق في هذه الأعضاء بين أن يكون كبيرًا أو صغيرًا، ولا بين أن يكون عاقلًا أو مجنونًا فإذا تُعدِّي عليه فلا فرق فيه فيما يتعلق بهذا الحكم، لكن يختلف العلماء فيما لو كان صغيرًا لا يتكلم ثم قُطِع لسانه فهل فيه دية كاملة؟
الجواب: قال أكثر العلماء
(4)
: بأن فيه الدية كاملة، وخالف الحنفية
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود (208) وغيره عن عروة، أن علي بن أبي طالب، قال للمقداد وذكر نحو هذا قال فسأله المقداد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليغسل ذكره وأنثييه". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(203).
(3)
أخرجه أبو داود (211) وغيره عن عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء، فقال:"ذاك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(206).
(4)
قول الشارح أكثر العلماء ليس يحتاج إلى تأمل، حيث إن الشافعية والحنابلة قالوا بالدية في مقابلة الحنفية المالكية قالوا بالحكومة:
فمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (7/ 328) قال: "وفي لسان ناطق ولو لألكن وأرت وألثغ وطفل وإن لم يظهر أثر نطقه وشمل ما لو كان ناطقًا فاقد الذوق، وإن قال الماوردي: إن فيه الحكومة كالأخرس، ولو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه لزمه ديتان إن قلنا بأن الذوق ليس في اللسان دية لخبر صحيح فيه، =
في ذلك
(1)
؛ إذًا هناك مسائل كثيرة وفروع لم يعرض لها المؤلف.
وأجمعوا على ذلك؛ لأنه مستند إلى نص، وهو ما جاء في كتاب عمرو بن حزم "في الأنثيين أو في البيضتين الدية"، فالإجماع مستند إلى دليل؛ إذًا في هذه المسألة "حديث وإجماع"
(2)
.
قوله: (إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْبَيْضَةِ الْيُسْرَى ثُلُثَا الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْهَا، وَفِي الْيُمْنَى ثُلُثُ الدِّيَةِ"
(3)
).
= وقيل: شرط الوجوب في لسان الطفل ظهور أثر نطق بتحريكه لبكاء ومص وإلا فحكومة، والأصح لا فرق أخذًا بظاهر السلامة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (4/ 30) قال: "وإن قطع لسان طفل يتحرك بالبكاء، وبما يعبر به الأطفال، كقوله: بابا ونحوه، ففيه الدية؛ لأنه لسان ناصق، وإن كان لا يتحرك بشيء، وقد بلغ حدًّا يتحرك به، ففيه ما في لسان الأخرس؛ لأن الظاهر أنه لو كان ناطقًا لتحرك بما يدل عليه، فإن قطع قبل مضي زمن يتحرك فيه اللسان، ففيه الدية؛ لأن الظاهر السلامة، فضمن كما تضمن أطرافه، وإن لم يظهر فيها بطش".
(1)
ومعهم المالكية:
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 555) قال: "وفي لسان أخرس وصبي لا يتكلم حكومة عدل".
ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 277) قال: " (قوله: كلسان الأخرس ففي قطعه الحكومة)، أي: إذا لم يذهب بذلك صوت الأخرس، وإلا، فالدية، أي: وأما لسان الصغير قبل نطقه، فهل كذلك فيه حكومة؛ لأن الدية لا تلزم بمشكوك فيه، أو فيه الدية كاملة ويكون من مشمولات قول المصنف، والدية في لسان الناطق بناءً على أن المراد الناطق ولو بالقوة؛ لأن الغالب نطقه بعد".
(2)
قال ابن المنذر: "جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأنثيين الدية". وبه قال عوام أهل العلم، ففي البيضتين الدية، وفي كل واحد نصف الدية". انظر: "الإشراف"(7/ 435).
(3)
قال ابن المنذر: "وقد روينا عن سعيد بن المسيب أنه فضل اليسرى على اليمنى، فقال: في اليسرى ثلثا الدية؛ لأن الولد يكون منها، وفي اليمنى الثلث". انظر: "الإشراف"(7/ 435).
هذا اجتهاد منه رحمه الله بذكره لهذه العلَّة، وهذه أمور يعرفها الأطباء
(1)
وإن سلَّمنا بذلك فهذا لا دليل عليه؛ لأن الأصابع مثلًا غير متساوية في نفعها؛ فمنها ما يحتاج إليه الإنسان كثيرًا، ومنها ما يحتاج إليه قليلًا، ومنها ما لو زال أثَّر كثيرًا، وبعضها يكون أثرُه أقلَّ، ولذلك روي عن عمر رضي الله عنه أنه اجتهد في وضع ديتها، فلما بلغه كتاب عمرو بن حزم رجع إليه، كما سيأتي ويشير المؤلف إلى ذلك ونعلِّق عليه
(2)
.
أما تفريق سعيد بن المسيب بينهما بأن جعل في اليسرى الثلثين، وفي الأُخرى الثلث، وعلَّل ذلك؛ بأن هذه مكان النسل أو التناسل، لكننا نقول: بأن الحديث لم يفرِّق بينهما حيث قال: "وفي البيضتين الدية"، والأمر الآخر: أن هذه التفرقة مردودة بأشياء كثيرة
(3)
؛ فهل فائدة الأجفان التي على العينين متساوية؟ وهل فائدة الشفتين متساوية؟
الجواب: لا. وكذلك أيضًا الأصابع تختلف منافعها، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يوقف عنده.
وهذا القول مردود بأشياء أُخرى اختلفت منافعها زيادة ونقصًا، ومع ذلك أجمع العلماء على أنها متساوية بالنسبة للدية.
قوله: (فَهَذِهِ مَسَائِلُ الأَعْضَاءِ الْمُزْدَوِجَةِ).
لم يستقصر المؤلف رحمه الله مسائل الباب؛ فلم يذكر الأليتين، وقد تكلم عنهما العلماء وقالوا:"فيهما الدية"
(4)
، وكذلك بالنسبة للّحيين الذين
(1)
قال عمرو بن شعيب: "إني لأعجب من تفضيل إحداهما على الأُخرى، وقد أخصنيا غنمًا لنا من الجانب الأيسر، فألقحن من الجانب الأيمن، هما سواء". انظر: "الأوسط" لابن المنذر (13/ 293).
(2)
سيأتي قريبًا.
(3)
وذكرنا شيئًا منها عن عمرو بن شعيب.
(4)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 350) قال: "وفي الأليتين إذا قطعتا كمال الدية وفي الظهيرية وفي أحدهما نصف الدية". =
هما مكان منبت الأسنان السفلى
(1)
، وفتحتي الأنف، إلى غير ذلك من أشياء أُخرى كثيرة.
= ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير وحاشية الدسوقي (4/ 277) قال: "وقطع أليتي المرأة بفتح الهمزة خطأ فيه حكومة قياسًا على أليتي الرجل، وقال أشهب فيهما الدية وفي العمد القصاص".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 316) قال: "وفي الأليين وهما الناتئان عن البدن عند استواء الظهر والفخذ الدية؛ لما فيهما من الجمال والمنفعة في الركوب والقعود، وفي أحدهما نصفها، وفي بعض بقسطه إن عرف قدره وإلا فالحكومة، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، ولا نظر إلى اختلاف البدن الناتئ، واختلاف الناس فيه كاختلافهم في سائر الأعضاء، ولا يشترط في وجوب الدية بلوغ الحديد إلى العظم، ولو نبت ما قطع لم تسقط الدية على ظاهر المذهب كما قال البغوي".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أُولي النهى" للرحيباني (6/ 115) قال: "وفي الأليتين وهما ما على الظهر واستواء الفخذين، وإن لم يصل القطع إلى العظم الدية كاملة كاليدين، وفي إحداهما نصفها، وفي ذهاب بعضها بقدره من الدية بنسبة الأجزاء كسائر ما فيه مقدر، فإن جهل مقدار نسبة الذاهب منهما فحكومة".
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (8/ 381) قال: "واختلفوا في اللحيين فعندهما في الوجه فيتحقق الشجاج فيهما فيجب فيها موجبها".
ومذهب المالكية، يُنظر:"عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 439) قال: "في موضحة الأنف واللحى الأسفل ومنقلتها الاجتهاد".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 313) قال: "وفي كل لحي نصف دية
…
لأن فيهما جمالًا ومنفعة، فوجب فيهما الدية، وفي أحدهما نصفها كالأذنين، وهما عظمات تنبت عليهما الأسنان السفلى، وملتقاهما الذقن. أما العليا فمنبتها عظم الرأس. تنبيه: استشكل المتولي إيجاب الدية في اللحيين بأنه لم يرد فيهما خبر، والقياس لا يقتضيه لأنهما من العظام الداخلة فيشبهان الترقوة والضلع، وأيضًا فإنه لا دية في الساعد والعضد والساق والفخذ، وهي عظام فيها جمال ومنفعة وقد يجاب بأنهما لما كانا من الوجه كانا أشرف من غيرهما فوجب فيهما الدية".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 45) قال: "وفي اللحيين الدية؛ لأن فيهما نفعًا وجمالًا وليس في البدن مثلهما وهما، أي: اللحيان العظمات اللذان فيهما الأسنان السفلى وفي إحداهما نصفها".
أما الثديان، فيختلفان بين الرجل والمرأة؛ فلو قُطع ثدي المرأة ففيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية بلا خلاف بين العلماء
(1)
؛ أما ما يتعلق بالرجل ففي ذلك خلاف هل فيهما دية؟ أم حكومة؟
الجواب: يرى أكثر العلماء أن فيهما حكومة. ويرى الحنابلة أن فيهما الدية
(2)
.
وسبب الخلاف: أن نفعهما ليس كنفع ثدي المرأة؛ إذ فيهما الرضاع، إلى غير ذلك مما يتعلق بجمال المرأة وغيره.
قوله: (وَأَمَّا الْمُفْرَدَةُ فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ عَلَى أَنَّ فِي اللِّسَان خَطَأً الدِّيَةَ
(3)
).
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 577) قال: "وثديي المرأة وحلمتيهما
…
إذا استأصلهما وإلا فحكومة
…
الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(4/ 273) قال: "وفي ثدييها بطل اللبن أم لا أو حلمتيهما، أي: الثديين وفي بعض النسخ: حلمتها بالإفراد، أي: المرأة الدية إن بطل اللبن، أو فسد، وكذا إن بطل، أو فسد بغير قطع".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (8/ 471) قال: "وفي قطع، أو إشلال حلمتيها، أي: المرأة ديتها ففي كل منهما وهي رأس الثدي نصف دية لتوقف منفعة الإرضاع عليهما وتدخل حكومة بقيته فيها وفي حلمتيه، أي: الرجل
…
حكومة؛ لأنه ليس فيها غير الجمال ولا تدخل فيها الثندوة من غير المهزول وهي ما حواليها من اللحم؛ لأنهما عضوان بخلاف بقية ثدي المرأة مع حلمتها".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 47) قال: "وفي الثديين الدية وفي أحدهما نصفها قال في المبدع بالإجماع، وفي حلمتيهما الدية؛ لأنه ذهب منهما ما تذهب المنفعة بذهابه كحشفة الذكر، وفي إحداهما نصفها وإن قطع الثديين بحلمتيهما فدية واحدة كقطع الذكر بحشفته؛ لأن مسمى الجميع واحد".
(2)
تقدم الكلام على ثدي الرجل.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 187) قال: "وفي اللسان الدية".
ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 277) قال: "في قطع لسان الناطق حيث منعه النطق، وإن لم يمنع النطق قطعه من اللسان فحكومة كلسان الأخرس ففي قطعه الحكومة بالاجتهاد". =
اللسان نعمة عظيمة من نعم الله تعالى سبحانه وتعالى؛ ولذلك قالوا: جمال الرجل باللسان
(1)
، والمرء بأصغريه قلبه ولسانه
(2)
. ولسانك حصانك إن صنته صانك، وإن أهنته أهانك. وهذا اللسان به تتم العبادة، فكلنا بحاجة إلى أن نقرأ في الصلاة وأن نسبح الله تعالى، وأن نكبره وأن نحمده، وبه نقرأ القرآن في الصلاة وفي غيرها، وبه يصل الإنسان إلى مراده ويبلغ حقه، ويدافع عن نفسه ويرد به الظلم، وبه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعلِّم الناسَ وغير ذلك، ففوائده عظيمة جدًّا يصعب حصرها؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه موسى:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)} [القصص: 34].
فاللسان إذن وسيلة للتبليغ؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح الناس
= ومذهب الشافعية، يُنظر:" نهاية المحتاج " للرملي (7/ 328) قال: " وفي لسان ناطق ولو لألكن وأرت وألثغ وطفل وإن لم يظهر أثر نطقه وشمل ما لو كان ناطقًا فاقد الذوق، وإن قال الماوردي إن فيه الحكومة كالأخرس، ولو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه لزمه ديتان إن قلنا بأن الذوق ليس في اللسان دية لخبر صحيح فيه ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" كشاف القناع " للبهوتي (6/ 40) قال: " في اللسان الناطق الدية إذا استوعب قطعًا إجماعًا ذكره ابن حزم؛ لأنه أعظم الأعضاء نفعًا وأتمها جمالًا يقال: جمال الرجل في لسانه، والمرء بأصغريه قلبه ولسانه، ويقال: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مهملة أو بهيمة مهملة ".
(1)
هذا معنى حديث أخرجه أحمد في " فضائل الصحابة "(1755) وغيره عن أبي جعفر، قال: أقبل العباس بن عبد المطلب وعليه حلة وله ضفيرتان وهو أبيض بض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم تبسم فقال له العباس: ما أضحكك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟ قال:" أعجبني جمالك يا عم النبي "، فقال العباس: ما الجمال في الرجل يا رسول الله؟ قال: " اللسان ". وضعفه الألباني في " الضعيفة "(3466).
(2)
هذا مثل من أمثال العرب.
قيل لهما: الأصغران لصغر حجمهما، ويجوز أن يسميا الأصغرين ذهابًا إلى أنهما أكبر ما في الإنسان معنًى وفضلًا، .... كأنه قيل: المرء يقوم معانيه بهما أو يكمل المرء بهما. انظر: " مجمع الأمثال " للميداني (2/ 294).
لسانًا، وأبلغهم بيانًا، وأوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم
(1)
، وكلما وُفِّق الإنسان إلى فصاحة اللسان وقدرة التأثير، كان تأثيره في الناس أعظم وأكبر.
ونفع هذا اللسان لا يقتصر فقط على الكلام، بل هو جمال للفم أيضًا، وبه نعمة التذوق ويُحتاج إليه فيما يتعلق بالطعام وتنظيف الفم إلى غير ذلك مما لا حصر له.
وعلى ذلك؛ فلو أن إنسانًا قطع لسان إنسانٍ آخر؛ ففيه الدية، ولو قطع جزءًا منه ففيه حكومة إلا أن يذهب الكلام؛ فإن ذهب كلام الإنسان بأن تسبب في ذلك شخص ففيه دية؛ لأن الكلام فيه دية، ولو قطع لسانه ففيه دية أيضًا، ومن العلماء من قال:" الديتان تجتمعان "
(2)
.
* قوله: (وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ إِذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ قُطِعَ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الْكَلَامَ).
قيَّد المؤلف القطع بالخطإِ، وسيشير بعد قليل إلى ما يتعلق بالعمد، وذلك لو أن إنسانًا تعدَّى على آخر فقطع لسانه فهل يقطع لسانه؟ سيأتي الكلام عنه ولكنه قال:" ورد ذلك في كتاب عمرو بن حزم وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " وفي اللسان الدية "
(3)
، وقيمة الإنسان بلسانه؛ فإذا توقف
(1)
معنى حديث أخرجه البخاري (2977)، ومسلم (523/ 6) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي ".
(2)
وهم الشافعية والحنابلة:
مذهب الشافعية، يُنظر. " نهاية المحتاج " للرملي (7/ 328) قال:" وفي لسان ناطق ولو لألكن وأرت وألثغ وطفل، وإن لم يظهر أثر نطقه وشمل ما لو كان ناطقًا فاقد الذوق، وإن قال الماوردي: إن فيه الحكومة كالأخرس، ولو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه لزمه ديتان إن قلنا بأن الذوق ليس في اللسان ".
يُنظر: " كشاف القناع " للبهوتي (6/ 40) قال: " وإن جنى على لسان ناطق فأذهب كلامه وذوقه مع اللسان فديتان كما لو ذهبت منافع اللسان مع بقائه ".
(3)
تقدم تخريجه.
لسان الإنسان أصبح كالبهيمة لا يتكلم؛ لذا فهو نعمة عظيمة يجب على كل مسلم أن يشكر الله سبحانه وتعالى عليها، وفي بدن الإنسان أسرار كثيرة مما تفضل الله به سبحانه وتعالى علينا لا يعلمها إلا هو.
فإذا قُطِع جميع اللسان؛ ففيه الدية، ولو قطع بعضه فمنع الكلام، ففيه الدية لكن لو قُطع بعضه وبقي الكلام، ففيه حكومة، وقد تكلم العلماء عن مسائل لم يعرض لها المؤلف، وهي: إذا قطع شيء من اللسان فأدَّى ذلك إلى أن يتتعتع في كلامه بعد أن كان فصيحًا؛ فهذا لا يصل إلى حدِّ الدية، وإنما فيه حكومة
(1)
.
* قوله: (فَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ مَا مَنَعَ الْكَلَامَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ
(2)
.
(1)
سيأتي الكلام عليها.
(2)
لأهل العلم تفصيل في هذه المسألة:
فمذهب الحنفية، يُنظر:" بدائع الصنائع " للكاساني (7/ 311) قال: " وإن كان ذهب بعض الكلام بقطع بعض اللسان دون بعض ففيه حكومة العدل؛ لأنه لم يوجد تفويت المنفعة على سبيل الكمال، وقيل: تقسم الدية على عدد حروف الهجاء فيجب من الدية بقدر ما فات من الحروف ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" النوادر والزيادات " لابن أبي زيد (13/ 404) قال: " قال ابن وهب، عن مالك: وإذا قطع من اللسان ما منع الكلام، ففيه الدية كاملة، وإن منع بعضه، ففيه بقدر ما منع كلامه ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" تحفة المحتاج " للهيتمي (8/ 479) قال: " ولو قطع نصف لسانه فذهب ربع أحرف كلامه، أو عكس فنصف دية اعتبارًا بأكثر الأمرين المضمون كل منهما بالدية؛ لأنه لو انفرد لكان ذلك واجبه فدخل فيه الأقل ومن ثَمَّ اتَّجه دخول المساوي فيما إذا قطع النصف فذهب النصف ولو قطع بعض لسانه فذهب كلامه وجبت الدية؛ لأنها إذا وجبت بذهابه بلا قطع فمع قطع أولى، أو فلم يذهب شيء من كلامه وجبت الحكومة إذ لو وجب القسط لوجبت الدية الكاملة في لسان الأخرس وقيل القسط وعليه كثيرون ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 315) قال: " وإن قطع بعض اللسان فذهب بعض الكلام اعتبر أكثرهما؛ لأن كلا من اللسان والكلام مضمون بالدية لو انفرد؛ إذ لو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شيء، =
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِيهِ عَمْدًا، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ فِيهِ قِصَاصًا، وَأَوْجَبَ الدِّيَةَ، وَهُمْ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَالْكُوفِيُّ
(3)
).
يعبر بـ " الكوفي " عن أبي حنيفة في هذا المقام؛ لأنه ينقل نصًّا في الغالب عن كتاب " الاستذكار ".
* قوله: (لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى الدِّيَةَ فِي مَالِ الْجَانِي
(4)
، وَالْكُوفِيُّ
(5)
= أو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شيء وجب نصف الدية. فعلى من قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام نصف الدية؛ لأنه وجب عليه بقطع ربع اللسان ربع الدية وبقي ربع الكلام لا متبوع له فيجب عليه أيضًا ربع الدية ".
(1)
يُنظر: " القوانين الفقهية " لابن جزي (ص 230) قال: " في قطع الأعضاء فإن كان عمدًا ففيه القصاص إلا أن يخاف منه التلف وإن كان خطأ ففيه الدية وهي تختلف ففي كل زوج من البدن دية كاملة وفي الفرد نصف الدية وذلك
…
واللسان
…
دية كاملة ".
(2)
يُنظر: " الأم " للشافعي (6/ 128 - 129) قال: " وإذا قطع اللسان قطعًا لا قود فيه خطأ ففيه الدية وهو في معنى الأنف ومعنى ما قضى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بدية من تمام خلقة المرء وأنه ليس في المرء منه إلا واحد ومع أنه لا اختلاف بين أحد حفظت عنه ممن لقيته في أن في اللسان إذا قطع الدية واللسان مخالف للأنف في معان منها أنه المعبر عما في القلب وأن أكثر منفعته ذلك وإن كانت فيه المنفعة بمعونته على إمرار الطعام والشراب وإذا جني على اللسان فذهب الكلام من قطع أو غير قطع ففيه الدية تامة ولا أحفظ عن أحد لقيته من أهل العلم في هذا خلافًا ".
(3)
يُنظر: " مختصر القدوري "(ص 185) قال: " ولا قصاص في اللسان
…
وإذا اصطلح القاتل وأولياء المقتول على مال سقط القصاص ووجب المال قليلًا كان أو كثيرًا فإن عفا أحد الشركاء أو صالح من نصيبه على عوض سقط حق الباقين من القصاص وكان لهم نصيبهم من الدية وإذا قتل جماعة واحدًا عمدًا اقتص من جميعهم ".
(4)
يُنظر: " نهاية المحتاج " للرملي (7/ 369) قال: " دية الخطأ وشبه العمد تلزم الجاني أولًا على الأصح ثم تتحملها العاقلة ".
(5)
يُنظر: " فتح القدير " لابن الهمام (10/ 212) قال: " قوله (والأصل أن كل دية وجبت بالقتل ابتداء لا بمعنى يحدث من بعد فهي على العاقلة اعتبارًا بالخطإ) أقول: مدلول قوله اعتبارًا بالخطإ أن يكون الأصل في وجوب الدية على العاقلة هو الخطأ، وأن يكون وجوبها عليهم في شبه العمد ثابتا بالقياس على الخطإ، وليس ذاك بواضح؛ إذ المصنف قال في أوائل كتاب المعاقل: والأصل في وجوبها على العاقلة ".
وَمَالِكٌ
(1)
عَلَى الْعَاقِلَةِ).
وهذا يعني أنه إذا قطع لسان إنسان عمدًا فليس فيه القصاص، ولكن على من تكون الدية؟ الجواب: ذهب الشافعي إلى أن الدية تكون على الجاني، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها تكون على العاقلة.
* قوله: (وَقَالَ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ: " فِي اللِّسَانِ عَمْدًا الْقِصَاصُ "
(2)
).
وهذا هو مذهب الإمام أحمد أيضًا
(3)
؛ لأن هذا قد تعدَّى على عضو من أعضاء الإنسان عمدًا وظلمًا؛ فيقتص منه إلا أن يعفوَ فيطلب الدية فله ذلك.
* قوله: (وَأَمَّا الأَنْفُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُوعِبَ جَدْعًا عَلَى أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ
(4)
).
الأنف فيه المارن، و" المارن "
(5)
: موضع جمال الإنسان، وقد جاء النصُّ على أن " فيه الدية "، وفي لفظ آخر:" وفي الأنف إذا استوعب - أو - أوعب جدعًا الدية "
(6)
، والأنف كاللسان يرتبط به أمران، الأنف نفسه (الآلة)، وحاسة الشم فيه. فحاسة الشَّم إنما تكون عن طريق الأنف
(1)
يُنظر: " جامع الأمهات " لابن الحاجب (ص 491) قال: " وكذلك تجب الدية على العاقلة مطلقًا إن بلغت الثلث، وإلا ففي ماله أو في ذمته كخطئه أو خطأ غيره ".
(2)
يُنظر: " مختصر اختلاف العلماء " للطحاوي (5/ 126) قال: " وقال الليث يقتص منه ".
(3)
يُنظر: " الكافي " لابن قدامة (3/ 265) قال: " ويؤخذ اللسان باللسان، للآية، والمعنى، وبعضه ببعضه، لما ذكرنا. ولا يؤخذ أخرس بناطق؛ لأنه أكثر من حقه. ويؤخذ الأخرس بالناطق؛ لأنه دون حقه، ولا أرش معه؛ لأن التفاوت في المعنى، لا في الأجزاء. ويؤخذ لسان الفصيح بلسان الألثغ، ولسان الصغير، كما يؤخذ الكبير الصحيح بالطفل المريض ".
(4)
تقدم الكلام على الأنف وما فيه، وذكرنا أقوال أهل العلم فيه.
(5)
" المارن ": ما لان من الأنف وفضل عن القصبة. انظر: " الصحاح " للجوهري (6/ 2202).
(6)
وهو كتاب عمرو بن حزم، وقد تقدم تخريجه.
كما أن الأذن هي آلة حاسة السمع، واللسان آلة حاسة الذوق؛ ولذلك لو اعتدى إنسان على لسان آخر فأذهب ذوقه؛ قال بعض العلماء:" فيه دية ". وهناك كلام في اللسان والذوق فيقول بعضهم: " لو أذهب كلامه وذوقه ففيه الدية ". وبعضهم يقول: " إذهاب الكلام في دية والذوق فيه حكومة ". أما الأنف فالنص الوارد أنه إذا قطع إنسان أنفَ آخر (أي: جدعه) ففيه الدية.
واختلف العلماء لو أخذ أحد المنخرين؛ فقال بعضهم
(1)
: " في كل واحد نصف الدية ".
وقال بعضهم
(2)
: " في كل واحد ثلث الدية، والفاصل بينهما فيه ثلث الدية ".
(1)
قول عند الشافعية.
يُنظر: " الحاوي الكبير " للماوردي (2/ 258 - 259) قال: " ولو قطع أحد المنخرين وبقي المنخر الآخر مع المارن ففيما يلزمه من الدية وجهان حكاهما أبو حامد الإسفراييني: أحدهما: عليه نصف الدية، وحكاه عن أبي إسحاق المروزي؛ لأنه قد أذهب نصف منفعته.
والوجه الثاني: عليه ثلث الدية تقسيطًا على المنخرين والمارن الذي يشتمل الأنف عليها، فكان في كل واحد منهما ثلث الدية ".
(2)
قول عند الشافعية والحنابلة.
مذهب الشافعية، يُنظر:" الحاوي الكبير " للماوردي (2/ 258 - 259) قال: " ولو قطع أحد المنخرين وبقي المنخر الآخر مع المارن ففيما يلزمه من الدية وجهان حكاهما أبو حامد الإسفراييني:
أحدهما: عليه نصف الدية، وحكاه عن أبي إسحاق المروزي؛ لأنه قد أذهب نصف
والوجه الثاني: عليه ثلث الدية تقسيطًا على المنخرين والمارن الذي يشتمل الأنف عليها، فكان في كل واحد منهما ثلث الدية ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 310) قال: " وفي منخرين ثلثاها، أي: الدية
…
وفي حاجز ثلثها لاشتمال المارن على ثلاثة أشياء: منخرين وحاجز فوجب توزيع الدية على عددها كالأصابع، وإن قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز ففي ذلك نصف الدية وإن شق الحاجز بينهما ففيه حكومة ".
وقال بعضهم
(1)
: " في كل منخر نصف الدية، والحاجز بينهما فيه حكومة ". فلو أنه اعتدى على أنف إنسان فأذهبه ففيه الدية؛ لأنه جاء في كتاب عمرو بن حزم؛ وفي المشام الدية "
(2)
. والمراد بها: الشم. أي: لو أن إنسانًا عطَّل آلة الشم عند إنسان فيجب فيها الدية؛ لأن آلة الشم واحدة، وآلة السمع واحدة فلو أخذ إحدى الأذنين، أو إحدى العنين، ففيها نصف الدية؛ لكن لو أذهب البصر، أو السمع، أو أذهب الكلام، أو كذلك الشم ففي كل واحد من ذلك الدية.
وهكذا نرى كيف حافظ الإسلام على المسلم! وكيف صان المسلمَ! وكيف منع التعدي عليه! إذ إنه حافظ على كل عضو من أعضائه، وهذا يدلُّ على كمال هذه الشريعة وسموها وشمولها، وأنها رفعت كل ما فيه الضرر عن الإنسان؛ إذ وضعت زواجرَ وحدودًا للمعتدين، فالوسائل والحدود والزواجر والروادع تمنع المعتدين عن التعدي، فإن حصل فإن الجزاء من جنس العمل.
* قوله: (وَسَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ ذَهَبَ الشَّمُّ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ. وَعِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ الدِّيَةُ).
لقد خالف الإمام مالكٌ الجمهورَ فيما يتعلق بالسمع؛ فالإمام مالك لا يجعل كل واحد منهما مستقلًّا، أي: يجمع بينهما في المشهور عنه، وله رواية أُخرى يوافق فيه الأئمة الثلاثة؛ فلو أن إنسانًا قطع أذن إنسان ففيهما الدية، ولو أذهب السمع ففيه الدية، إذ يراهما شيئًا واحدًا في الرواية المشهورة عنه
(3)
، ووافق الأئمةَ الثلاثة فيما يتعلق بالأنف.
(1)
وهي رواية عن الإمام أحمد: يُنظر. " الإنصاف " للمرداوي (10/ 84) قال: " وعنه في المنخرين: الدية. وفي الحاجز: حكومة. قال الزركشي: هذه المشهورة من الروايتين ".
(2)
حديث: (وفي الشم دية) ذكره الشربيني في مغني المحتاج (5/ 322) وقال: " غريب "، وقال ابن حجر في التلخيص (4/ 87):" لم أجده ".
(3)
يُنظر: " حاشية الدسوقي على الشرح الكبير "(4/ 272) قال: " (قوله: ففي قطعهما =
* قوله: (وَفِي ذَهَابِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الآخَرِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ).
هذا عند الأئمة كلهم، ولم يخالف منهم أحد حتى الإمام مالك قد انضمَّ إلى الأئمة فصار الأئمة الأربعة متَّفقين في ذلك.
* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الذَّكَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْوَطْءُ الدِّيَةُ كَامِلَةً
(1)
).
قيَّد الذَّكر بأن يكون صحيحًا؛ فيخرج ذكر " العنين "
(2)
. وبقوله: " الصحيح "، أي: السالم من العيوب؛ فيخرج المجبوب
(3)
، أو العنين، أو الخصيّ
(4)
، وأشلّ الذكر أيضًا، وهذا - كما هو معلوم - هو الوسيلة إلى الإنجاب، فلو قطع ذكر إنسان ففيه الدية؛ وقد جاء النص على ذلك في كتاب عمرو بن حزم:" وفي الذكر الدية "
(5)
. لكن حدَّ العلماء الدية
= الدية)، أي: ففي مجرد قطعهما بدون ذهاب سمع الدية (قوله: ومذهب المدونة أن فيهما حكومة)، أي: وهو المشهور كما قاله ابن عرفة وما قاله المصنف من وجوب الدية في مجرد قطعهما فقد تبع فيه تصحيح ابن الحاجب انظر بن (قوله: إذا لم يذهب سمعه)، أي: وإلا، فالدية اتفاقًا ".
(1)
ومذهب الحنفية، يُنظر:" مختصر القدوري "(ص 187) قال: " في الذكر الدية ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" عيون المسائل " للقاضي عبد الوهاب (ص 442) قال: " في قطع الذكر والأنثيين ديتان، وفي كل واحد منهما الدية؛ قطعًا في ضربة أو أحدهما بعد الآخر، وإن تفاوت ما بينهما ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" نهاية المحتاج " للرملي (7/ 332) قال: " دية وكذا ذكر غير أشل ففيه قطعًا واشلالًا الدية
…
ولو كان الذكر لصغير وشيخ وعنين ففيه دية ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" كشاف القناع " للبهوتي (6/ 48) قال: " وفي الذكر الدية إجماعًا، وتقدم من صغير وكبير وشيخ وشاب لعموم حديث عمرو بن حزم مرفوعًا: " وفي الذكر الدية " رواه أحمد والنسائي ".
(2)
" العنين ": الذي لا يقدر على إتيان المرأة. انظر: " طلبة الطلبة " للنسفي (ص 47).
(3)
" المجبوب ": المقطوع الذكر. انظر: " طلبة الطلبة " للنسفي (ص 47).
(4)
" الخصي ": الذي سُلَّ أنثياه وبقي ذكره. انظر: " طلبة الطلبة " للنسفي (ص 47).
(5)
تقدم تخريجه.
بالحشفة
(1)
، فلا فرق بين أن تقطع كاملًا، أو تقطع الحشفة ففي ذلك الدية كاملة
(2)
؛ لأن الأمر متعلق بذهاب المنفعة؛ فإذا ذهبت المنفعة وجبت الدية، ويختلف الحكم إذا ذهبت بعض المنفعة.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي ذَكرِ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ
(3)
).
واختلفوا أيضًا في اليد الشلاء، وكذلك في اليد الموجودة صورة لكنها معطلة لا يستفيد منها؛ فهل هذه كاليد الصحيحة؟ وأيضًا الخصي والعنين هل يكون كغيره؟
(1)
" الحشفة ": ما فوق الختان من الذكر. انظر: " طلبة الطلبة " للنسفي (ص 7).
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:" الهداية في شرح بداية المبتدي " للمرغيناني (4/ 462) قال: " وكذا في الحشفة الدية كاملة؛ لأن الحشفة أصل في منفعة الإيلاج والدفق والقصبة كالتابع له ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" الشرح الكبير للدرير وحاشية الدسوقي "(4/ 273) قال: " والدية في
…
قطع الحشفة وفي قطع بعضهما بحسابها، أي: الدية منهما ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" نهاية المحتاج " للرملي (7/ 332) قال: " وحشفة كذكر ففيها وحدها دية؛ لأن معظم منافعه وهو لذة المباشرة تتعلق بها وبعضها فيه بقسطه منها لكمال الدية فيها فقسطت على أبعاضها ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" كشاف القناع " للبهوتي (6/ 48) قال: " وفي حشفته، أي: الذكر الدية، قال في المبدع بغير خلاف نعلمه؛ لأن منفعته تكمل بالحشفة كما تكمل منافع اليد بالأصابع ".
(3)
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
فمذهب الحنفية، يُنظر:" الدر المختار وحاشية ابن عابدين " للحصكفي (6/ 555) قال: " فأما في ذكر الخصي والعنين حكومة عدل ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" الشرح الكبير للدرير وحاشية الدسوقي "(4/ 273) قال: " وفي ذكر العنين قولان: بالدية والحكومة، والراجح الدية ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" نهاية المحتاج " للرملي (7/ 332)، قال:" ولو كان الذكر لصغير وشيخ وعنين ففيه دية ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" كشاف القناع " للبهوتي (6/ 48 - 49) قال: " وفي ذكر الخصي ولو جامع به حكومة، وفي ذكر العنين حكومة، وفي الذكر دون حشفته حكومة؛ لأنه لا مقدر فيه، ولا يمكن إيجاب دية كاملة لذهاب منفعته ".
الجواب: يرى بعضهم أن ذكر العنين كغيره؛ لأنه ربما تزول عنه علَّتُه؛ لذلك يؤجل الفقهاء العنين وقتًا محدَّدًا كما حصل مع عمر رضي الله عنه إذ " أنه أجَّله حتى مرت به فصول السنة "
(1)
. فليس هذا متفقًا عليه بأن ذكر العنين ليس فيه دية؛ لكن أكثر العلماء يقولون: " ليس كذكر الصحيح ". ومن العلماء من يقول: " فيه حكومة ". ومنهم من يقول: " في هذه الأشياء الناقصة ثلث الدية ".
* قوله: (كمَا اخْتَلَفُوا فِي لِسَانِ الأَخْرَسِ وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ).
" الأخرس "
(2)
: وهو الذي لا يتكلم، فهل الدية واجبة فيه كالحال بالنسبة للسليم؟
الجواب: للّسان منفعتان من حيث الجملة؛ الأُولى: هو جمال للإنسان، والأُخرى: هو النفع الذي يتكرر بالكلام، فالأخرس لا يستفيد من لسانه في هذه الناحية لبكمه، وهو موضع جماله أيضًا، ويستفيد منه فيما يتعلق بطعامه وتذوقه؛ فالفائدة موجودة لكنها ليست كفائدة اللسان الصحيح، وسيأتي تفصيل حكمه.
* قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِيهَا الدِّيَةَ
(3)
، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِيهَا حُكُومَةً
(4)
، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: " فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ ثُلُثُ
(1)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(6/ 253) وغيره عن ابن المسيب، أن عمر:" جعل للعنين أجل سنة، وأعطاها صداقها وافيًا ".
(2)
" الأخرس ": الذي خلق ولا نطق له كالبهيمة العجماء. انظر: " تهذيب اللغة " للأزهري (10/ 163).
(3)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 420) قال: " واختلفوا في لسان الأخرس يقطع:
…
وفيه قولان شاذان: أحداهما: قول النخعي: أن فيه الدية. والآخر: قول قتادة: أن فيه ثلث الدية ".
(4)
وهم الأئمة الأربعة:
فمذهب الحنفية، يُنظر:" بدائع الصنائع " للكاساني (7/ 323) قال: " وفي لسان الأخرس
…
حكومة عدل؛ لأنه لا قصاص في هذه الأشياء، وليس فيها أرش مقدر أيضًا؛ لأن المقصود هاهنا المنفعة، ولا منفعة فيها ولا زينة أيضًا ".=
الدِّيَةِ "
(1)
. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً).
" ثلث الدية " رواية للإمام أحمد
(2)
، وله رواية أُخرى مع الأئمة الثلاثة (أبي حنيفة ومالك والشافعي) أن فيه حكومة.
* قوله: (وَأَقَلُّ مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عِنْدَ مَالِكِ قَطْعُ الْحَشَفَةِ ثُمَّ فِي بَاقِي الذَّكَرِ حُكُومَةٌ).
ليس هذا عند (مالك) وحده، بل عند عامة العلماء، أي: أن قطع الحشفة يزيل المنفعة؛ فلو قطعت الحشفة أو قُطع كاملًا كان فيه الدية.
* قوله: (وَأَمَّا عَيْنُ الأَعْوَرِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ).
هذه مسألة أفتى فيها عدد من الصحابة - كما سيأتي - ومن هنا وقع الخلاف؛ إذ قد جاء في حديث عمرو بن حزم " وفي العينين الدية ". وجاء في حديث آخر: " في العين خمسون من الإبل ". فالأول بيَّن أن في العينين الدية، والثاني بيَّن أن في العين خمسين من الإبل أي: نصف الدية؛ أما الإنسان الذي ليس له إلا عين واحدة فهل تكون بمثابة العينين؟ أم تكون
= ومذهب المالكية، يُنظر:" الشرح الكبير وحاشية الدسوقي " للدردير (4/ 277) قال: " فحكومة كلسان الأخرس ففي قطعه الحكومة بالاجتهاد ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" تحفة المحتاج " للهيتمي (8/ 467) قال: " وفي لسان لأخرس أصالة، أو لعارض حكومة لذهاب أعظم منافعه نعم إن ذهب بقطعه الذوق وجبت الدية، أي: إن قلنا: إن الذوق في جرمه وإلا فحكومة له أيضًا فيما يظهر؛ إذ لا استتباع حينئذ ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 312) قال: " ولسان أخرس لا ذوق له
…
حكومة ".
(1)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 434 - 435) قال: " واختلفوا ذكر الخصي
…
وقال قتادة، وإسحاق بن راهويه: فيه ثلث الدية ".
(2)
يُنظر: " الإنصاف " للمرداوي (10/ 89) قال: " ووجوب ثلث الدية في اليد الشلاء، والذكر الأشل، والعين القائمة، والسن السود، وذكر الخصي، والعنين، ولسان الأخرس: من مفردات المذهب، وجزم به ناظمها ".
عينًا واحدة؟ وهذا يظهر لو تعدَّى صاحب العين الواحدة على إنسان صحيح العينين، وهذه قضية لم يعرض لها المؤلف، وهي هل العين التي فقعها من عين الصحيح تقابل عين يمين بيمين، وشمال بشمال، أم تختلف في الحكم؟
الجواب: يختلف الحكم بين أن يكون متعديًا أو غير متعدٍّ
(1)
، وسيأتي التفصيل.
(1)
لأهل العلم تفصيل في مسألة جناية صحيح العين على الأعور والعكس: فمذهب الحنفية، يُنظر:" حاشية ابن عابدين على الدر المختار "(6/ 551) قال: " (قوله وعن الثاني
…
إلخ) عبارة المجتبى: ولو فقأ عينًا حولاء والحول لا يضر ببصره يقتص منه وإلا ففيه حكومة عدل. عن أبي يوسف: لا قصاص في فقء العين الحولاء مطلقًا اهـ. وظاهره ترجيح الأول، وعليه اقتصر في الخانية نقلًا عن أبي الحسن، لكن قال قبله بورقة: ولا قصاص في عين الأحول، وظاهره الإطلاق، وعادته تقديم ما هو الأشهر فلذا اقتصر عليه الشارح، وكذا ظاهر كلام الشرنبلالية الميل إليه فافهم ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي "(4/ 255 - 256) قال: " وإن فقأ، أي: قلع سالم، أي: سالم العينين، أو سالم المماثلة للمجني عليه عين أعور فله
…
القود بأخذ نظيرتها من السالم، وله أخذ الدية كاملة
…
وإن فقأ أعور من سالم مماثلته، أي: مماثلة عينه السالمة، فله
…
القصاص من الأعور فيصير أعمى أو دية ما ترك من عين الأعور، وهي دية كاملة ألف دينار على أصل المذهب
…
وإن فقأ الأعور من السالم غيرها، أي: غير المماثلة لعينه بأن فقأ مماثلة العوراء فنصف دية فقط تلزمه في ماله لتعمده وإن فقأ الأعور عيني السالم عمدًا في مرة واحدة، أو إحداهما بعد الأُخرى فالقود في المماثلة لعينه ونصف الدية في المغايرة لها ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" الحاوي الكبير " للماوردي (2/ 287) قال: " وإذا قلع الأعور عين بصير ذي عينين كان للبصير أن يقتص من الأعور، فإن عفا عنه كان له على الأعور نصف الدية ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" كشاف القناع " للبهوتي (6/ 36 - 37) قال: " فإن قلعها، أي: عين الأعور صحيح فله، أي: الأعور القود بشرطه وهو المكافأة والعمد المحض مع أخذ نصف الدية
…
وإن قلع الأعور عين صحيح لا تماثل عينه فليس عليه إلا نصف دية، أو قلع الأعور المماثلة خطأ فليس عليه إلا نصف الدية كما لو قلعها ذو عينين، وإن قلع لعينه الصحيحة عمدًا فلا قصاص
…
وعليه، أي: الأعور =
* قوله: (أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ
(1)
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
(2)
).
وإليه ذهب أحمد أيضًا
(3)
. أن فيها الدية.
وذهب الإمامان أبو حنيفة والشافعي إلى نصف الدية، وحجتهم: على أن الأصل في العينين: الدية؛ وهذه عين واحدة ففيها النصف، وقد ورد في الحديث الآخر:" وفي العين خمسون من الإبل "
(4)
. فوقفا عند الأصل.
= إذن دية كاملة
…
وإن قلع الأعور عيني صحيح عمدًا خير المجني عليه بين قلع عينه ولا شيء له غيرها
…
وبين أخذ الدية لعينيه ".
(1)
يُنظر: " الشرح الكبير للدرير وحاشية الدسوقي "(4/ 272 - 273) قال: " أو عين الأعور الباصرة إذا تلفت فيها الدية كاملة للسنة فقد قضى بذلك عمر وعثمان وعلي وابن عباس، بخلاف كل زوج كاليدين، والرجلين، والأذنين، والشفتين فإن في أحدهما نصفه، أي: نصف الواجب في الزوج ولو لم يوجد إلا ذلك الأحد لذهاب الآخر قبله ".
(2)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 409) قال: " وبه قال عبد الملك بن مروان، والزهري ".
(3)
يُنظر: " كشاف القناع " للبهوتي (6/ 36) قال: " وفي عين الأعور دية كاملة قضى به عمر وعثمان وعلي وابن عمر ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة، ولأن قلع عين الأعور يتضمن إذهاب البصر كله فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين، وذلك لأنه يحصل بعين الأعور ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك الأشياء اللطيفة ويعمل أعمال البصير، ولأن النقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكام ".
(4)
أخرجه النسائي (4856) وغيره عن الزهري، قال: جاءني أبو بكر ابن حزم بكتاب في رقعة من أدم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا بيان من الله ورسوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فتلا منها آيات ثم قال: " في النفس مائة من الإبل، وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة فريضة، وفي الأصابع عشر عشر، وفي الأسنان خمس خمس، وفي الموضحة خمس ". وقال أبو داود فى " المراسيل "(ص 213): " أسند هذا ولا يصح ".
وقال الآخرون: " هي عين واحدة فهي بمثابة العينين عند الآخر ". فينتفع بهما، ويعمل ويقرأ ويكتب ويؤدي كلَّ ما يؤديه صاحب العينين؛ فتعتبر نظرًا كاملًا في حقِّه ففيها الدية كاملة.
* قوله: (وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ
(1)
، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(2)
).
قضى بذلك حقيقة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر
(3)
، فكل هؤلاء الصحابة قد قضوا بذلك، أي: أن عين الأعور إذا فقعت فيها دية كاملة، وهؤلاء ثلاثة من الخلفاء الراشدين (عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب)، وعبد الله بن عمر أيضًا، وهذا مما جعل الإمامين (مالكًا وأحمد) يقولان بوجوب الدية كاملة.
* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ
(4)
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(5)
،
(1)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 409) قال: " واختلفوا في عين الأعور: فقالت طائفة: فيها الدية
…
وبه قال
…
والليث بن سعد ".
(2)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 410) قال: " واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها
…
وفي هذه المسألة قولان سوى ما ذكرناه
…
والثاني: عن عمر بن عبد العزيز أن عقلها خمس مائة دينار إن لم يكن أخذ لها عقل ".
(3)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 409)، و" الحاوي الكبير "(12/ 286)، و" شرح منتهى الإرادات "(3/ 318).
(4)
يُنظر: " مختصر اختلاف العلماء " للطحاوي (5/ 121) قال: " وروي عن عمر وعثمان وابن عمر في الأعور تفقأ عينه الصحيحة أن عليه الدية كاملة ". وانظر: " البيان " للعمراني (11/ 514)، و" الكافي " لابن قدامة (4/ 26).
(5)
يُنظر: " مغني المحتاج " الشربيني (5/ 307) قال: " وفي قلع كل عين
…
من إنسان وغيره نصف دية
…
وعين أعور وهو ذاهب حس إحدى العينين مع بقاء بصره
…
لأن المنفعة باقية بأعين من ذكر، ومقدار المنفعة لا ينظر إليه. تنبيه: قد توهم عبارته أن العين العوراء فيها نصف دية، وليس مرادًا وإنما هو في العين الأُخرى، واحترز بذلك عمن يقول كمالك وأحمد في عين الأعور كل الدية؛ لأن بصر الذاهبة انتقل إليها ".
وَأَبُو حَنِيفَةَ
(1)
، وَالثَّوْرِيُّ
(2)
: " فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا فِي عَيْنِ الصَّحِيحِ "، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ
(3)
).
فيها نصف الدية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " في العينين الدية "
(4)
. وهذا قول عام يعمُّ الأعور والصحيح.
ومفهومه: أن في العين الواحدة نصف الدية، وجاء في الحديث الآخر - كما مرَّ - في غير كتاب ابن حزم وهو حديث صحيح:" وفي العين خمسون من الإبل "
(5)
. أي: الدية الكاملة في العينين مائة من الإبل، وفي العين خمسون؛ إذن هي نصف الدية، وهؤلاء وقفوا عند النص؛ إذ قد فهموا أن هذه عين تعتبر بمثابة عينين عند الآخر فتكون فيها دية كاملة؛ لذهاب بصره.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الأَوَّلِ أَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ لِلأَعْوَرِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا لِغَيْرِ الأَعْوَرِ، وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَعْنِي: عُمُومَ قَوْلِهِ: " وَفِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ").
المعروف في الحديث: " وفي العينين الدية ". لكن هناك حديث آخر: " وفي العين خمسون من الإبل " أي: نصف الدية.
(1)
يُنظر: " حاشية ابن عابدين على الدر المختار "(6/ 577) قال: " (قوله: والعينين
…
إلخ)؛ لأن في تفويت الاثنين من هذه الأشياء تفويت جنس المنفعة أو كمال الجمال فيجب كمال الدية، وفي تفويت أحدها تفويت النصف فيجب نصف الدية هداية ".
(2)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 409) قال: " وفيه قول ثان وهو: أن في عين الأعور نصف الدية
…
وبه قال سفيان الثوري ".
(3)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 409) قال: " وفيه قول ثان وهو: أن في عين الأعور نصف الدية: روي هذا القول عن مسروق، وعبد الله بن معقل، والنخعي ".
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
* قوله: (وَقِيَاسًا أَيْضًا عَلَى إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ قَطَعَ يَدَ مَنْ لَهُ يَدٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا نِصْفَ الدِّيَةِ
(1)
).
وهنا قاسوا أيضًا، لكن الفريق الآخر بنوا ذلك على قضاء الصحابة الأربعة رضي الله عنهم، ويعتبر ذلك بمثابة نظر كامل.
* قوله: (فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ، وَمُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْقِيَاسِ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيمَنْ ضَرَبَ عَيْنَ رَجُلٍ، فَأَذْهَبَ بَعْضَ بَصَرِهَا - مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه
(2)
).
سيذكر المؤلف واقعة وقعت في زمن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه رُفعت إليه فقضى فيها، وقد تطور الطبُّ الآن، وأصبح الوصول إلى ذلك ليس
(1)
مذهب الحنفية: لم أقف عليه.
ومذهب المالكية، يُنظر:" الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي "(4/ 254) قال: " وإن قطع أقطع الكف يد غيره من المرفق فللمجني عليه القصاص بأن يقطع الناقصة من المرفق أو الدية، وإنما خير؛ لأن الجاني لما كان ناقص العضو لم يتعين القصاص؛ لأنه أقل من حق المجني عليه ولم يجز الانتقال لعضو آخر ولم تتعين الدية؛ لأنه جنى عمدًا فثبت الخيار بين القصاص، والدية وليس له القصاص مع أخذ الدية معتلًّا بأن في الساعد حكومة؛ إذ لا يجمع بين دية وقصاص ".
ومذهب الشافعية: لم أقف عليه.
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 318) قال: " ويجب في يد أقطع أو رجله إن قطعت يده الأُخرى أو رجله الأُخرى ولو عمدًا أو مع ذهاب اليد أو الرجل الأولى هدرًا نصف ديته، أي: الأقطع ذكرًا كان أو أنثى أو خنثى مسلمًا كان أو كافرًا، حرًّا أو رقيقًا كبقية الأعضاء؛ لأن أحد هذين العضوين لا يقوم مقامهما بخلاف عين الأعور، ولو قطع الأقطع يد صحيح أو رجله أقيد بشرطه السابق لوجود الموجب وانتفاء المانع ".
(2)
هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف "(5/ 361) وغيره عن سعيد بن المسيب: أن رجلًا أصاب عين رجل، فذهب بعض بصره وبقي بعض، فرفع ذلك إلى علي فأمر بعينه الصحيحة فعصبت، وأمر رجلًا ببيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره، ثم خط عند ذلك علمًا، قال: ثم نظر في ذلك فوجده سواء، فقال:" أعطوه بقدر ما نقص من بصره من مال الآخر ". وإسناده حسن.
بالأمر الصعب؛ فهناك الكشف سواء كان عن طريق تلك العلامات التي توضع، أو الكشف الذي يبين ذلك أكثر لكن مع ذلك أيضًا في بعض الأمور كالسمع ربما يحتال الإنسان، ولذلك كان العلماء يتخذون طُرقًا لمعرفة مدى الضرر حتى في الشم لم يعرض له المؤلف، ولقد ذكر العلماء فيما لو ادَّعى إنسان أن آخر اعتدى عليه فأصاب أنفه فأذهب شمه كيف يعالج؛ فقالوا: يؤخذ على غرَّة فيوضع قريب منه، وهو في غفلة رائحة طيبة ورائحة منتنة فإن ارتاحت نفسه للرائحة الطيبة عُرف أنه يشمّ، وأنه غير صادق، وإن اضطرب واقشعر من الرائحة الكريهة والممتنة عُرف أنه متأثر وأنه كاذب، وقالوا: فإن لم يتأثر يُقبل قوله مع يمينه
(1)
.
وقد دقق العلماء رحمهم الله في مسائل كثيرة، واكتفى المؤلف هنا بالمسائل الكبرى فلم يتطرق إلى الجزئيات، وإلا فالعلماء يدققون في مسائل كثيرة.
وهذا الأثر المروي عن عليِّ رضي الله عنه ذكره البيهقي في " السنن الكبرى "
(2)
، وذكره أيضًا مفصلًا ابن المنذر في كتابه " الأوسط "
(3)
، وذكره
(1)
مذهب الشافعية، يُنظر:" مغني المحتاج " للشربيني (5/ 322) قال: " لو أنكر الجاني زواله امتحن المجني عليه في غفلانه بالروائح الحادة، فإن هش للطيب وعبس لغيره حلف الجاني لظهور كذب المجني عليه، وإلا حلف هو لظهور صدقه مع أنه لا يعرف إلا منه، ولو وضع المجني عليه يده على أنفه فقال له الجاني: فعلت ذلك لعود شمك، فقال: بل فعلته اتفاقًا أو لغرض آخر كامتخاط ورعاف وتفكر صدق بيمينه لاحتمال ذلك، فإن قطع أنفه فذهب شمه فديتان كما في السمع؛ لأن الشم ليس في الأنف ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" كشاف القناع "(6/ 39) قال: " وإن ادعى المجني عليه ذهاب شمه اختبر بالروائح الطيبة والمنتنة فإن هش للطيب وتنكر من المنتن فالقول قول الجاني مع يمينه عملًا بالظاهر، وإلا بأن لم يهش للطيب ولم يتنكر من المنتن فالقول قول مجني عليه مع يمينه؛ لأن الظاهر معه وإن ادعى المجني عليه نقص شمه بسبب الجناية فقوله مع يمينه؛ لأنه لا يعلم إلا منه ".
(2)
أخرجه البيهقي في " الكبرى "(8/ 152) من طريق ابن أبي شيبة.
(3)
انظر: " الأوسط " لابن المنذر (3/ 225).
ابن قدامه في كتابه " المغني "(1) نقلًا عن ابن المنذر.
* قوله: (أَنَّهُ أَمَرَ بِالَّذِي أُصِيبَ بَصَرُهُ بِأَنْ عُصِبَتْ عَيْنُهُ الصَّحِيحَةُ، وَأَعْطَى رَجُلًا بَيْضَةً، فَانْطَلَقَ بِهَا، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يُبْصِرْهَا).
أصابه شخص متعدٍ عليه فأمر بأن تعصب عينه الصحيحة، ثم يرجع قليلًا قليلًا وهو يرى حتى يقول الآن: لا أرى.
* قوله: (فَخَطَّ عِنْدَ أَوَّلِ ذَلِكَ خَطًّا فِي الأَرْضِ. ثُمَّ أَمَرَ بِعَيْنِهِ الْمُصَابَةِ فَعُصِبَتْ وَفُتِحَتِ الصَّحِيحَةُ. وَأَعْطَى رَجُلًا الْبَيْضَةَ بِعَيْنِهَا، فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا حَتَّى خَفِيَتْ عَنْهُ).
هنا اختبر العين المصابة بعد عصبها، أي: أعطى إنسانًا بيضة، أو أيَّ شيء كعلامة يمشي بها ويراها إلى أن يقول: لا أرى، ثم يقف عند هذا الموضع ويخط خطًّا، ثم بعد ذلك تفتح عينه الصحيحة الأسلوب نفسه يمشي معه حتى ينتهي ثم ينظر إلى ما بين المسافتين فيعطى النقص.
وتختلف أنظار الناس؛ فليس كل الناس سليم العينين متساويًا، وقد بيَّن الطب هذا الآن، فلما تقدَّم الطبُّ وأظهر مقدار نظر الإنسان تبيَّن خلافٌ عند كثير من الناس، فكثير من الناس تختلف العينين عندهما فتجد عينه هذه كاملة النظر قوية، وهذه تكون دونها، وربما تراها صحيحة لكنه لا يبصر بها إلا قليلًا، ولا يستطيع أن يقرأ، وهذه أمور إنما ينظر فيها للغالب، ومرَّ أن هذه لم تصبح مشكلة الآن؛ لأن الوصول إلى هذه الحقيقة أصبح سهلًا، فهناك علامات توضع لمعرفة ذلك، وحتى لو احتال شخص مثلًا، فبالكشف عليه يتبيَّن مقدار نظره، وقد تكون هذه العين من الأصل لا تنظر كثيرًا، وهذه مسائل يُجتهَد فيها، وهذا من باب درء المفاسد.
* قوله: (فَخَطَّ أَيْضًا عِنْدَ أَوَّلِ مَا خَفِيَتْ عَنْهُ فِي الأَرْضِ خَطًّا، ثُمَّ عَلَّمَ مَا بَيْنَ الْخَطَّيْنِ مِنَ الْمَسَافَةِ، وَعَلَّمَ مِقْدَارَ ذَلِكَ مِنْ مُنْتَهَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ الصَّحِيحَةِ، فَأَعْطَاهُ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الدِّيَةِ).
لا شكَّ أن هذا منهج سليم، وعلي رضي الله عنه أُعطِي الحكمة في مثل هذه الأمور وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:" أقضاكم عليّ"
(1)
. وهذا نوع من القضاء، وكذلك القاضي شريح
(2)
كيف نجح في القضاء؟ وكيف كان أسلوبه؟ وكيف كان يتعامل مع الخصوم؟ وكيف كان يستطيع أن يستخرج الحكم عن طريق بعض الوسائل؟
* قوله: (وَيَخْتَبِرُ صِدْقَهُ فِي مَسَافَةِ إِدْرَاكِ الْعَيْنِ الْعَلِيلَةِ وَالصَّحِيحَةِ بِأَنْ يَخْتَبِرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا شَتَّى فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ خَرَجَتْ مَسَافَةُ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ وَاحِدَةً عَلِمْنَا أَنَّهُ صَادِقٌ
(3)
).
أي: يُختبَر في المرة الأُولى ثم يُعرف المسافة، ثم يُختبر مرة أُخرى وُيرى هل هي المسافة نفسها أم هي أقل أم أكثر؟ فربما يكون غير صادق؛ لأنه ربما إلى مسافة محددة يقول: إلى هذا نظري، لكن لو أخذ من جانب آخر إما أن يزيد أو ينقص فحين إذن يُشَك فيه؛ فيرجع إلى الخصم.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
ينظر ترجمته: " السير " للذهبي (4/ 100) وما بعدها.
(3)
مذهب الحنابلة، يُنظر:" كشاف القناع " للبهوتي (6/ 36) قال: " وإن ادعى المجني عليه نقص ضوء إحداهما عصبت العين العليلة وأطلقت العين الصحيحة بلا عصب ونصب له شخص ويعطى الشخص شيئًا كبيضة مثلًا ولتباعد عنه في جهة
…
شيئًا فشيئًا فكلما قال: قد رأيته فوصف لونه علم صدقه حتى ينتهي فإن انتهت رؤيته علم موضع الانتهاء بخيط أو غيره، ثم تشد الصحيحة وتطلق العليلة وينصب له الشخص، ثم يذهب في الجهة التي ذهب فيها أولًا حتى تنتهي رؤيته فيعلم موضعها كما فعل أولًا ثم يرد الشخص إلى انتهاء جهة أُخرى فيصنع به مثل ذلك ويعلم منه المسافتان، ثم يذرعان ويقابل بينهما. فإن كانتا سواء فقد صدق وينظر، كم بين مسافة العليلة والصحيحة؟ ولحكم له من الدية بقدر ما بينهما على الجاني
…
".
* قوله: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الشَّكْلِ الَّتِي ذَهَبَ بَصَرُهَا).
فإنه قد توجد عين لإنسان ولا تبصر، فتراها كأنها سليمة ثم اعتُدي عليها فهل هي كالعين الصحيحة؟
* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ
(1)
، وَالشَّافِعِيُّ
(2)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(3)
: " فِيهَا حُكُومَةٌ ". وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: " فِيهَا عُشْرُ الدِّيَةِ مِائَةُ دِينَارٍ "
(4)
. وَحَمَلَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ زيدٍ تَقْوِيمًا لَا تَفْوِيتًا).
أي: كان ذلك من زيد تقويمًا لا توقيًا.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ
(5)
أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الشَّكْلِ، وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الدِّيَةِ).
(1)
يُنظر: " المقدمات الممهدات " لابن رشد الجد (3/ 334) قال: " أو كان أعمى قائم العينين ففقأ عينيه ففيهما حكومة ".
(2)
يُنظر: " الحاوي الكبير " للماوردي (2/ 297) قال: " أما العين القائمة فهي التي قد ذهب بصرها وهي صورة الصحيحة فذهب نفعها وبقي جمالها، ففيها إذا قلعت حكومة لأجل الألم وما أذهب من جمالها ".
(3)
يُنظر: " حاشية ابن عابدين على الدر المختار "(6/ 552) قال: " وفي العين القائمة الذاهب نورها حكومة عدل ".
(4)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 410) قال: " واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها. فروينا عن زيد بن ثابت أنه قال: فيها مائة دينار ".
(5)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 410) قال: " واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها
…
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: فيها ثلث ديتها، وبه قال إسحاق ".
وفي " الإشراف "(7/ 417) قال: " وفيه قول ثان: روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا اسودت السن ففيها ثلث ديتها ".
وفي " الإشراف "(7/ 427) قال: " واختلفوا في اليد الشلاء تقطع. فروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: فيها ثلث ديتها ". وانظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (8/ 91).
وهذا هو قول الإمام أحمد أيضًا في رواية له
(1)
، والرواية الأُخرى مع الجمهور، أي: فيها حكومة
(2)
.
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: " تَتِمُّ دِيَةُ السِّنِّ بِاسْوِدَادِهَا ثُمَّ فِي قَلْعِهَا بَعْدَ اسْوِدَادِهَا دِيَةٌ "
(3)
).
أي: السِّن إذا ضربت أو اعتدي عليها فاسودَّت، وربما يترتب على الاسوداد بأن تتألم من البارد والحار وغير ذلك، وذلك أيضًا فيه حكومة، وهناك من يقول: فيها ثلث الدية كاليد الشلاء وغيرها
(4)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ عَمْدًا؛ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: " إِنْ لَمْ يَعْفُ فَلَهُ الْقَوَدُ، وَإِنْ عَفَا فَلَهُ الدِّيَةُ "؟ قَالَ قَوْمٌ: " كَامِلَةٌ "
(5)
).
(1)
يُنظر: " الإنصاف " للمرداوي (10/ 103) قال: " فائدة: يجب في كف بلا أصابع، وذراع بلا كف: ثلث ديته على الصحيح من المذهب. وقد شبه الإمام أحمد رحمه الله ذلك بعين قائمة ".
(2)
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (10/ 312) قال: " وفي عين قائمة بمكانها صحيحة غير أنه ذهب نظرها حكومة ".
(3)
يُنظر: " حاشية الدسوقي على الشرح الكبير "(4/ 279) قال: " (قوله، وإن كانت السن سوداء) هذا في الجناية عليها خطأ وأما لو تعمد قلع سن سوداء، أو حمراء، أو صفراء خلقة وكان عرفًا كالسواد، فهل كذلك فيها خمس من الإبل لكونها غير مساوية لسن الجاني، أو فيها القصاص للتعمد قال بن وظاهر الثاني بدليل وجوب العقل فيها في الخطإ (قوله: بقلع)، أي: فإذا كانت الجناية عليها بقلع (قوله: أو اسوداد فقط)، أي: مع بقائها؛ لأن ذلك يذهب جمالها (قوله: بأن جنى عليها فاسودت) كذا صور في التوضيح الجناية بهما وصوره ابن عبد السلام بما إذا كسر البعض وسود الباقي قال بن، وهو مسلم فقها (قوله: ثم انقلعت)، أي: بنفسها من غير جناية أُخرى عليها فليس فيها إلا دية واحدة كما اختاره المصنف في التوضيح لا ديتان خلافًا لبعضهم ".
(4)
وقد تقدم ذلك عن عُمر وابن عباس رضي الله عنهم.
(5)
لأهل العلم تفصيل في هذه المسألة يأتي.
أي: إنسان له عين واحدة فقأ عين الآخر الصحيح.
وذهب الجمهور إلى القَوَد إن لم يعفُ، فإن عفا فله الدية كاملة، وهو قول الإمام أحمد
(1)
.
* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: " نِصْفُهَا "
(2)
).
وهذا يرجع إلى الخلاف الأول الذي سبق.
* قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
(3)
، وَابْنُ الْقَاسِمِ
(4)
، وَبِكِلَا الْقَوْلَيْنِ قَالَ مَالِكٌ
(5)
).
(1)
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 318) قال: " وإن قلع الأعور ما يماثل صحيحته، أي: عينه الصحيحة من شخص صحيح العينين عمدًا فعلى الأعور دية كاملة ولا قود عليه في قول عمر وعثمان، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة
…
وإن قلع الأعور ما يماثل عينه الصحيحة خطأ فنصفها، أي: الدية كما لو قلعها صحيح، وكذا لو قلع ما لا يماثل صحيحت، وإن قلع الأعور عيني صحيح عمدًا فالقود أو الدية فقط؛ لأنه أخذ جميع بصره ببصره ".
(2)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 410) قال: " واختلفوا في الأعور يفقأ عين الصحيح
…
وقال الحسن، والنخعي: إن شاء اقتص منه وأعطاه نصف الدية ".
(3)
يُنظر: " الأم " للشافعي (7/ 332) قال: " في الأعور يفقأ عين الصحيح والصحيح يفقأ عين الأعور كلاهما سواء إن كان الفقء عمدًا فالمفقوءة عينه بالخيار إن شاء فله القود وإن كان خطأ فله العقل خمسون من الإبل ".
(4)
يُنظر: " النوادر والزيادات " لابن أبي زيد (14/ 20 - 21) قال: " وروى عيسى عن ابن القاسم في العتبية قياس على قول مالك الذي رجع إليه ابن القاسم في أعور فقأ عيني صحيح جميعًا فإن كان في فور واحد فالصحيح المجني عليه مخير: إن شاء فقأ عينه بعينيه التي مثلها له وأخذ منه في الأُخرى خمسمائة دينار، وإن شاء ترك عينه وأخذ منه ألفًا وخمسمائة ".
(5)
يُنظر: " الشرح الكبير " للدردير وحاشية الدسوقي (4/ 255) قال: " وإن فقأ أعور من سالم مماثلته، أي: مماثلة عينه السالمة فله، أي: لسالم العينين المجني عليه القصاص. من الأعور فيصير أعمى أو دية ما ترك من عين الأعور، وهي دية كاملة ألف دينار على أصل. المذهب لما مر، وإن فقأ الأعور من السالم غيرها، أي: غير المماثلة لعينه بأن فقأ مماثلة العوراء فنصف دية فقط تلزمه في ماله؛ لتعمده، وإن فقا =
فمالك له رواية مع الإمام أحمد (الدية كاملة)، ورواية مع الشافعي أُخرى فيها (نصف الدية)؛ لأنه ليس له إلا هذه العين؛ فهل تتساوى العينين بالعين أو لا؟ كما مرّ
(1)
.
* قوله: (وَبِالدِّيَةِ كَامِلَةً قَالَ الْمُغِيرَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَابْنُ دِينَارٍ
(2)
).
وقصد بقوله: " المغيرة من أصحابه "، أي: من أصحاب الإمام مالك.
* قوله: (وَقَالَ الكُوفِيُّونَ: " لَيْسَ لِلصَّحِيحِ الَّذِي فُقِئَتْ عَيْنُهُ إِلَّا الْقَوَدُ، أَوْ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ "
(3)
).
يري أبو حنيفة أن العمد ليس فيه إلا القَوَد، أو شيئًا اصطلحوا عليه، لكن أن تكون فيها دية مقررة أو محددة فلا.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى جَمِيعَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ إِذَا عَفَا عَنِ الْقَوَدِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ مَا تَرَكَ لَهُ وَهِيَ الْعَيْنُ الْعَوْرَاءُ، وَهِيَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ كَتِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَذْهَبُ عُمَر، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ - أَنَّ عَيْنَ الأَعْوَرِ إِذَا فُقِئَتْ وَجَبَ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ فِي مَعْنَى الْعَيْنَيْنِ كلْتَيْهِمَا).
ألف دينار، أي: دية كاملة.
= الأعور عيني السالم عمدًا في مرة واحدة، أو إحداهما بعد الأُخرى فالقود في المماثلة لعينه ونصف الدية في المغايرة لها ".
(1)
وقد مرت هذه المسألة.
(2)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (8/ 82) قال: " وقال ابن دينار والمغيرة بقوله الأول ".
(3)
يُنظر: " الدر المختار وحاشية ابن عابدين " للحصكفي (6/ 551) قال: " وكذا عين ضربت فزال ضوءها وهي قائمة غير منخسفة فيجعل على وجهه قطن رطب وتقابل عينه بمرآة محماة، ولو قلعت لا قصاص لتعذر المماثلة. وفي المجتبى: فقأ اليمنى ويسرى الفاقئ ذاهبة اقتص منه وترك أعمى. وعن الثاني لا قود في فقء عين حولاء ".
* قوله: (إِلَّا الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ، فَإِذَا تَرَكهَا لَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا، وَعُمْدَةُ أُولَئِكَ الْبَقَاءُ عَلَى الأصْلِ، أَعْنِي: أَنَّ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ).
وهذه لا تختلف من إنسان له عين أو له عينان، ودليلهم: ما ذكرنا من الأحاديث، وهي شبيهة بالمسألة السابقة.
* قوله: (وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمْدَ لَيْسَ فِيهِ دِيَة مَحْدُودَةٌ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذُكرَتْ فِي بَابِ الْقَوَدِ فِي الْجِرَاحِ).
أي: مرت بنا هذه المسألة، وهو رأي أبي حنيفة.
* قوله: (وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى مَالِكٌ
(1)
، وَأَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ
(4)
: " إِنَّ فِي كلِّ أُصْبُعٍ عَشْرًا مِنَ الإِبِلِ").
(1)
يُنظر: " الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي "(4/ 278) قال: " وفي قطع كل أصبع من يد، أو رجل من ذكر، أو أنثى مسلم، أو كافر عشر
…
أي: عشر دية من قطعت أصبعه فيشمل من ذكر ودية الإبل وغيرها، والمربعة، والمخمسة ".
(2)
يُنظر: " مختصر القدوري "(ص 188) قال: " وفي كل إصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر الدية ".
(3)
يُنظر: " مغني المحتاج " للشربيني (5/ 314) قال: " وفي كل أصبع أصلية من يد أو رجل عشر دية صاحبها ولو عبر به كان أولى، ففيها لذكر حر مسلم عشرة أبعرة كما جاء في خبر عمرو بن حزم. أما الأصبع الزائدة ففيها حكومة ".
(4)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 425) قال: " واختلفوا في الأصابع. فقال الأكثر ممن حفظنا عنه من أهل العلم: الأصابع سواء، لا فضل لبعضها على بعض. وممن حفظنا ذلك عنه فيما رويناه عنهم: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال مكحول، ومسروق، والشعبي، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن معقل، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي ".
وكذلك الإمام أحمد
(1)
. وهنا انتقل المؤلف إلى " دية الأصابع "؛ إذ اليدان فيها عشرة أصابع، ولا اعتبار بالزائد، وكذلك أيضًا الرِّجْلان فيها عشرة أصابع، وهذه الأصابع متفاوتة من حيث حجمهما ونفعها؛ فهناك ما يحتاج إليه الإنسان كثيرًا فمثلًا؛ السبابة يحتاج إليها الإنسان كثيرًا حتى في صلاته يشير به إلى التشهد، والإبهام له فوائد، والوسطى كذلك، وكذلك الخنصر إلى غير ذلك. فكل إصبع له فائدته، ولكن هل هي على نسق واحد؟ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على أحسن شكلٍ، ورتَّب هذه الأصابع ووضع فيها الجمال وقسَّمها ووضع فيها المفاصل وكلها تشتمل بالنسبة لليد على ثلاثة مفاصل إلا الإبهام فله مفصلان، والرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع لنا أصلًا بقوله:" وفي الأصابع الدية "
(2)
. يعني: وفي الإصبع عشرة من الإبل.
فهذه مسألة فيها نص، فهل أجمع العلماء عليها أم وجد من خالف فيها؟
* قوله: (وَإِنَّ الْأَصَابعَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ
(3)
).
فلو تُرك ذلك للناس أيجعلونها متساوية؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيها اختلافًا كثيرًا. فالإنسان ينظر إلى منافعها، وقد يصيب ويُخطئ؛ فهذا طويل وهذا قصير، وهذا فيه نص لكن هذا جاء محددًا عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ونحن نعلم ما جاء من دْكر الله سبحانه وتعالى للبنان، فقال سبحانه:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 4].
وما وضع الله سبحانه وتعالى في هذه الأصابع من الحكمة، ومع كثرة وتعدد
(1)
يُنظر: " شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 310) قال: " وفي أصابع اليدين أو أصابع الرجلين الدية وفي أصبع يد أو رجل عشرها أي: الدية ".
(2)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما هو في كتاب عمرو بن حزم:" وفي الأصابع عشر عشر "، وقد تقدم تخريجه.
(3)
سيأتي أن فيها خلافًا.
الناس وقد وصلوا إلى المليارات لا تجد إنسانًا يتفق ختمه مع ختم آخر في إصبعه، فهذه التقسيمات التي في الأصابع تتفاوت فهل يستطيع الإنسان أن يصل إلى شيء من ذلك مهما بلغ من الذكاء والفطنة والمعرفة؟!
الجواب: لا؛ لأن الذي وضع ذلك هو علَّام الغيوب الذي خلق هذا الكون، والذي خلق الإنسان من نطفة ومن تراب ومن ماء مهين؛ ثم سواه ونفخ فيه الروح.
* قوله: (وإنَّ فِي كلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثَ الْعَشْرِ إِلَّا مَا لَهُ مِنَ الْأَصَابعِ أُنْمُلَتَانِ كالإِبْهَامِ).
قوله: " وفي كل أنملة ثلث العشر "، والعشر:(عشر من الإبل)؛ فالإصبع فيه عشر من الإبل؛ إذ في الإصبع (ثلث هذه الدية)، ويرجع بعد ذلك إلى النقدين لضبطها، لكن بالنسبة للإبهام مفصلان في كل مفصل لو قطع ففيه خمس من الإبل، ولو قطع الإبهام كاملًا ففيه عشر من الإبل ولا فرق.
فهذه من حِكم هذه الشريعة؛ إذ لا فرق بين أن تقطع الأصابع وبين أن تقطع اليد من الرسغ؛ فاليد لو قُطعت كاملة من الرسغ ففيها (الدية كاملة)، ولو قُطعت الأصابع ففيها (الدية كاملة) كما في الذكر والحشفة الدية، ولو أخذ كاملًا ففيه أيضًا (الدية)
(1)
.
* قوله: (فَفِي أُنْمُلَتِهِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ
(2)
، وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا
(1)
وقد تقدم نقْلُ أقوال أهل العلم في هذا كله مفصلًا.
(2)
مذهب الحنفية، يُنظر:" مختصر القدوري "(ص 188) قال: " والأصابع كلها سواء وكل إصبع فيها ثلاثة مفاصل ففي أحدهما ثلث دية الإصبع وما فيها مفصلان ففي أحدهما نصف دية الإصبع ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" الشرح الكبير وحاشية الدسوقي " للدردير (4/ 278) قال: " وفي قطع الأنملة ثلثه، أي: العشر إلا في الإبهام من يد، أو رجل فنصفه، وهو خمس من الإبل، أو خمسون دينارًا لأهل الذهب ".=
جَاءَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْر مِنَ الْإِبِلِ"
(1)
).
إذن قد جاء في هذا نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك وُجد خلاف في المسألة نسب إلى عمر رضي الله عنه ومجاهد
(2)
.
* قوله: (وَخَرَّجَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الأَصَابع بِعُشْرِ الْعَشْرِ"
(3)
، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ
(4)
. وَهِيَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ بِحَسَبِ مَا يَرَى وَاحِدٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي الدِّيَةِ مِنَ الْوَرِقِ، فَهِيَ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا اثْنَا عَشَرَ
= ومذهب الشافعية، يُنظر:" مغني المحتاج " للشربيني (5/ 314) قال: " وفي كل أنملة منها من غير إبهام ثلث العشرة؛ لأن لكل أصبع ثلاث أنامل إلا الإبهام فله أنملتان كما قاله، وفي أنملة الإبهام نصفها عملًا بقسط واجب الأصبع ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 310) قال: " وفي الأنملة ولو مع ظفر إن كانت من إبهام يد أو رجل نصف عشر الدية؛ لأن في الإبهام مفصلين ففي كل مفصل نصف عقل الإبهام وفي الأنملة من غيره، أي: الإبهام ثلثه، أي: ثلث عشر الدية؛ لأن فيه ثلاثة مفاصل فتوزع ديته عليها ".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
لعمر في المسألة قولان، يُنظر:" الإشراف " لابن المنذر (7/ 425) قال: " قال الأكثر ممن حفظنا عنه من أهل العلم: الأصابع سواء، لا فضل لبعضها على بعض، وممن حفظنا ذلك عنه فيما روينا عنهم: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عباس رضي الله عنهم
…
وقد روينا فيه الباب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولًا ثانيًا، روينا عنه: أنه قضى في الإبهام بثلاث عشرة، وفي التي تليها ثنتي عشرة، وفي الوسطى بعشر، والتي تليها بتسع، وفي الخنصر بست ".
(3)
أخرجه أبو داود (4562) وغيره عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: في خطبته وهو مسند ظهره إلى الكعبة " في الأصابع عشر عشر ". وصححه الألباني في " صحيح الجامع "(4238).
(4)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 425) قال: " قال الأكثر ممن حفظنا عنه من أهل العلم: الأصابع سواء، لا فضل لبعضها على بعض، وممن حفظنا ذلك عنه فيما رويناه عنهم: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عباس رضي الله عنهم ".
أَلْفَ دِرْهَمٍ عُشْرُهَا، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا عشرةُ آلافٍ عُشْرُها. وَرُوِيَ عَنِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ اخْتِلَافٌ فِي عَقْلِ الْأَصَابعِ).
" عقل الأصابع "، أي: دية الأصابع، وفيها خلاف؛ إذ قد جاء فيها نصٌّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لكل إصبع عشرًا من الإبل، وقد وقع فيه خلاف عن بعض السلف كما سيذكر المؤلف عن عمر رضي الله عنه.
* قوله: (فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَضَى فِي الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا بِعَقْلِ نِصْفِ الدِّيَةِ
(1)
).
فنصف الدية للإبهام والذي يليه؛ لأن اليد الواحدة فيها خمسون؛ إذن في الإبهام (ثلاث عشرة)، وفي التي تليها السبابة (اثنا عشر)، وهذا قضاء عمر في الإبهام (بثلاث عشرة)، وفي التي تليها السبابة (باثني عشر)، وفي الوسطى (بعشر) جاءت على الأصل؛ فهذه خمس وثلاثون وفي التي تليها البنصر (تسع) هذه أربع وأربعون، وفي الخنصر (ستٌّ) هذه خمسون. فهذا هو قضاء عمر رضي الله عنه، لكن هل بقي على هذا القضاء أم أنه رجع عنه؟ فقد جاء أيضًا فيما نقل عن عمر رضي الله عنه أنه لما بلغه كتاب عمرو بن حزم قال ذلك
(2)
، ولهذا لا يصح القول بأن الإنسان يحيط بكل شيء علمًا، قال الله تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
ولا يظن أحدنا بأن العالم مهما علت منزلته، ومهما بلغ من الذكاء والفطنة؛ أنه قد أحاط بالعلم، حتى ولو كان من الصحابة، أليس أفضل الناس في هذه الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، وقد تحير في ميراث
(1)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 425) قال: " وقد روينا فيه الباب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولًا ثانيًا، روينا عنه: أنه قضى في الإبهام بثلاث عشرة، وفي التي تليها ثنتي عشرة، وفي الوسطى بعشر، والتي تليها بتسع، وفي الخنصر بست ".
(2)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 425 - 426) قال: " وقد روينا عنه أنه قال لما أخبر بكتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم: " وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل ". فأخذ به عمر رضي الله عنه، وترك قوله الأول ".
الجدة؛ فأخذ يبحث في كتاب الله فلم يجد فسأل الصحابة فأخبروه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، ثم طلب من يؤكِّد ذلك فجاء محمد بن مسلمة يؤكد ذلك فقضى به
(1)
.
وكذلك الحال بالنسبة لعمر لما جاءه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى الشام وكان فيها الطاعون وتوقف الصحابة رضي الله عنهم إلى أن جاء الحديث بأنه: " من كان فيها فلا يخرج منهما، ومن كان خارجها فلا يدخلها ". وأخذ عن عمر قوله: " نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله ". لما قيل له: أنفِرُّ من قدر الله؟!
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود (2894) وغيره عن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق، تسأله ميراثها؟ فقال: مالك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة، " حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس "، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال: مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر. ضعفه الألباني في " إرواء الغليل "(1680).
(2)
أخرجه البخاري (5729) ومسلم (2219/ 98) عن عبد الله بن عباس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة ابن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة ابن الجراح: " أفرارًا من قدر الله؟ " فقال عمر: " لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان، إحداهما: خصبة، والأُخرى: جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ " قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف - وكان متغيبًا في بعض حاجته - فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ".
فالذي لا يُخطئ في هذه الشريعة هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وأما مَن بعده فمجتهدون، وكلهم يريدون الخير، فمن أصاب منهم فله أجران، أجرٌ لاجتهاده، وأجرٌ لإصابته، ومن أخطأ فله أجرٌ لاجتهاده، ولا يُؤخذ على خطئه؛ إذ كان أهلًا للاجتهاد
(1)
.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم صاحب هوى أو عصبية، وقد مرَّ أن الصحابة اجتهدوا، بل اجتهد الرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل لذلك قال العلماء:" بأنه لا يُقرُّ على الخطإ؛ فإن اجتهد في أمرٍ وتبيَّن خلافه نزل الوحي ليبيِّن له "
(2)
. فالرسول صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أسرى بدر، فهناك من رأى قتلهم وهو عمر، وهناك من رأى أخذ الفداء منهم، وهو أبو بكر، ونزل القرآن مؤيِّدًا لأمر عمر بقوله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67]
(3)
.
(1)
هذا معنى حديث أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716/ 15) عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ".
(2)
هذه من المسائل الأصولية المعتبرة عند أهل العلم:
يُنظر: " التبصرة في أصول الفقه " للشيرازي (ص 524) وما بعدها قال: " يجوز الخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اجتهاده إلا أنه لا يقرأ عليه بل ينبه عليه ". وانظر: " الواضح في أصول الفقه "(3/ 118)، و" نهاية السول " للإسنوي (ص 396).
(3)
هذا جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (1763/ 58) وغيره عن ابن عباس، وفيه: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وعمر:" ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنَّا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان - نسيبًا لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أيِّ شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد =
فعمر رضي الله عنه اجتهد في هذه المسألة فقال في الإبهام: ثلاث عشرة، وفي الذي يليه: اثنا عشر، فهذه خمس وعشرون؛ لأن اليد ديتها خمسون، واليدان مائة، ثم جاء إلى الوسطى فبقيت في الوسط عشر كما جاء في الحديث، والتي تليها فيها تسع، وفي الأخيرة (الخنصر) فيها ست فمجموعها: خمسون، لكن الشاهد عندما بلغ عمر رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الكتاب لم يبقَ على رأيه، بل رجع عنه وإن لم يذكر المؤلف ذلك فقد نبهنا عليه.
* قوله: (وَفِي الْوُسْطَى بِعَشْرِ فَرَائِضَ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِتِسْعٍ، وَفِي الْخِنْصَرِ بِسِتٍّ).
هذا ما مرَّ ذكره، ومجموعها خمسون، وبهذا نرى أن الرجل الذي كان ينزل القرآن مؤيِّدًا له رضي الله عنه قد اجتهد، ومع ذلك خالف بعضُ اجتهاده ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولمَّا بلغه ذلك رجع إلى ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبه في ذلك الكتاب العظيم الذي اشتمل على جملة من الفرائض والسنن والديات.
وجاء من طريق آخر عن عمر رضي الله عنه أنه بعد أن بلغه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه إلى أهل اليمن بأن: " في الإصبع عشر من الإبل "
(1)
. رجع إليه وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم والتابعون والعلماء جميعًا إذا بلغهم النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو شأن كل مؤمن يعرف الحق.
قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
= بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] فأحل الله الغنيمة لهم.
(1)
تقدم تخريجه.
أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
وهذا عمرُ لمَّا تُوفي ابنه وترك ابنًا وكان يرى أن الجدَّ هو الذي يرث، وكان قد فهم أن ميراثه كله له رضي الله عنه استشار في ذلك زيدَ بن ثابت؛ لأنه أفرض الصحابة فلم يعطِه الجوابَ؛ فكرَّر عليه فأجابه فرجع إلى قول زيد بتوريث الإخوة
(1)
. وهذه مسألة فيها خلاف هل الجد يحجب الإخوة أم لا؟
(2)
.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الإِبْهَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا عَشْرٌ، وَفِي الْوُسْطَى عَشْرٌ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا ثَمَانٍ، وَفِي الْخِنْصَرِ سَبْعٌ
(3)
. وَأَمَّا التَّرْقُوَةُ
(4)
، وَالضِّلعُ
(5)
).
(1)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(10/ 265) عن الشعبي قال: كان عمر كره الكلام في الجد حتى صار جدًّا فقال له: كان من رأيي ورأي أبي بكر أن الجد أولى من الأخ وأنه لا بد من الكلام فيه فخطب الناس ثم سألهم هل سمعتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا؟ فقام رجل فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطاه الثلث " قال: من معه؟ قال: لا أدري، قال: ثم خطب الناس أيضًا فقال رجل: " شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه السدس "، قال: من معه؟ قال: لا أدري فسأل عنها زيد بن ثابت فضرب له مثل شجرة خرجت لها أغصان قال: فذكر شيئًا لا أحفظه " فجعل له الثلث ".
(2)
قال ابن المنذر في " الإشراف "(4/ 342): " وأنزلوا الجد بمنزلة الأب في الحجب، والميراث إذا لم يترك المتوفى أبًا أقرب منه في جميع المواضع، إلا مع الأخوة، فإنهم اختلفوا في ذلك بعد وفاة أبي بكر الصديق، فأما أيام حياته، فلا نعلم أحدًا خالفه في قوله.
واختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جماعهم على ما ذكرنا في ميراث الجد مع الأخوة، فكان أبو بكر الصديق يجعل الجد أبًا،
…
واختلفت الأخبار عن عمر بن الخطاب في هذا الباب ".
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف "(5/ 369) عن مجاهد، قال:" في الإبهام خمس عشرة، وفي التي تليها عشر، وفي التي تليها ثمان، وفي التي تليها سبع ".
(4)
" الترقوة ": هي عظم الصدر. انظر: " طلبة الطلبة " للنسفي (ص 166).
(5)
" الضلع ": عظم الجنب. انظر: " طلبة الطلبة " للنسفي (ص 166).
" الترقوة ": وهما العظمان اللذان يحيطان بالعنق حتى الصدر.
فمن العلماء من قال بأن هذه العظام فيها توقيت: ففي الزّند
(1)
: (بعير)، وفي الزندين:(بعيرين)، والأربعة بالنسبة لليدين فيها:(أربعة)، وبالنسبة لعظم الفخذ فيهما:(بعيران)، وبالنسبة للساق كذلك، وبالنسبة للترقوة كل عظم فيه: بعير؛ فيكون مجموع ذلك: بعيران، ومنهم من قال:(أربعة)، ومنهم من قال في ذلك (حكومة)؛ لأن هذه العظام ليس فيها توقيت
(2)
.
* قوله: (فَفِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ حُكُومَةٌ
(3)
).
الأئمة الثلاثة وأحمد في رواية عنه قالوا: بأن فيها حكومة. ولأحمد رواية أُخرى: في الضلع: (بعير)، وفي الترقوة:(بعيران)، وفي الزندين:(بعيران)، وإذا اجتمعت في اليدين:(أربعة)، وفي عظمي الفخذ أيضًا:
(1)
" الزندان ": طرفا عظم الساعد، ويقال:" الزند " ما انحسر عنه اللحم من الذراع والبطش الأخذ من حد ضرب ودخل جميعًا. انظر: " طلبة الطلبة " للنسفي (ص 166).
(2)
سيأتي ذكر ذلك كله.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:" البناية شرح الهداية " للعيني (13/ 109) قال: " وما لم يكن فيه رعاية المماثلة فلا يجب القصاص كما إذا كسر عظمًا أو ساعدًا أو كسر ضلعًا أو ترقوة أو ما أشبه ذلك ففيه حكومة عدل ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" عيون المسائل " للقاضي عبد الوهاب (ص 435) قال: " كسر الضلع والترقوة فيه حكومة ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" الحاوي الكبير " للماوردي (12/ 304) قال: " نقل المزني عن الشافعي أنه قال: في الترقوة جمل إذا كسرت، وفي الضلع جمل إذا كسر، وهذا قاله في القديم، ونقل عنه في الجديد أن فيهما حكومة ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 323) قال: " وفي كسر ضلع
…
جبر مستقيمًا أي: كما كان بأن لم تتغير صفته بعير وكذا، أي: كالضلع إذا جبر مستقيمًا، ترقوة
…
جبرت كما كانت ففيهما بعير نصًّا، وفي الترقوتين بعيران
…
لكل إنسان ترقوتان وإلا يجبر الضلع والترقوة مستقيمين ففي كل منهما حكومة ".
(بعيران)، وكذلك الحال بالنسبة للساق
(1)
. وهذه لم يرد فيها نص؛ ولذلك اختلف فيها العلماء وما ورد فيه نص وقف عنده، وقد يردُ في بعضها نص لكن يجتهد بعض العلماء لما يرى من التفاوت بينها.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا تَوْقِيتٌ
(2)
).
معنى التوقيت: أُثِر عن بعض الصحابة كعمر رضي الله عنه قوله: " في الضلع: بعير، وفي الترقوة: بعيران ". وهكذا .. هذا ما قصده بالتوقيت؛ أما ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا أعلم شيئًا في ذلك.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضِّرْسِ بِجَمَلٍ، وَالضِّلْعِ بِجَمَلٍ، وَفِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ
(3)
. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: " فِي التَّرْقُوَةِ بَعِيرَانِ ". وَقَالَ قَتَادَةُ: " أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ "
(4)
).
(1)
يُنظر: " كشاف القناع " للبهوتي (6/ 57 - 58) قال: " وفي كل واحد من الذراع وهو الساعد الجامع لعظمات الزند
…
وهو ما انحسر عنه اللحم من الساعد قال الجوهري: الزند وصل طرف الذراع بالكف وهما زندان بالكوع والكرسوع وهو طرف الزند الذي يلي الخنصر وهو الناتئ عند الرسغ، ومن العضد والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيمًا بأن بقي على ما كان عليه من غير أن يتغير عن صفته بعيران
…
وإلا، أي: وإن لم ينجبر ما تقدم من الضلع والترقوة والزند والفخذ والساق فحكومة لذلك النقص ".
(2)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 423 - 424) قال: " كان عمر بن الخطاب يقول: في الترقوة جمل
…
وروينا عن زيد بن ثابت أنه قال: فيها أربعة أبعرة
…
وقال عمرو بن شعيب: إن قطعت الترقوة فلم يعش فله الدية، وإن عاش ففيها خمسون من الإبل، وفيهما جميعا الدية ".
وفي " الإشراف "(7/ 432): " وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في الضلع بجمل ".
(3)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 861) عن أسلم مولى عمر بن الخطاب، أن عمر بن الخطاب، " قضى في الضرس بجمل، وفي الترقوة بجمل، وفي الضلع بجمل ".
(4)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 424) قال: " وقال سعيد بن جبير وقتادة: فيها بعيرإن
…
وقال قتادة: إن جبرت عشرون دينارًا، وإن كان فيها عثم فأربعون دينارًا ".
قال بعض الحنابلة: " في كل واحد منها بعيران "
(1)
. اختلفوا العلماء في هذه العظام؛ إذ ذهب أكثرهم إلى أنه ليس فيها شيء محدد، وإنما فيها حكومة، وبعضهم قال: بل فيها شيء محدد؛ لأنه أُثِر عن الصحابة كعمر أنه قضى في الأضلاع والترقوة أيضًا.
* قوله: (وَعُمْدَةُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَوْقِيتٌ؛ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حُكُومَةٌ).
أي: ما لم يرد فيه نص مؤقَّت محدد ففيه حكومة، أما ما ورد فيه نص وتحديد فيوقف عنده، كاللسان والأنف والأذنين والذكر واليدين والرجلين والأصابع، ومع ذلك قد ورد الخلاف في بعضها، وإن كان أكثرها محلّ اتِّفاق بين العلماء
(2)
.
* قوله: (وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ سِنٍّ مِنْ أَسْنَانِ الْفَمِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ
(3)
).
(1)
لم أقف عليه.
(2)
تقدمت هذه المسائل بالتفصيل.
(3)
مذهب الحنفية، يُنظر:" مختصر القدوري "(ص 188) قال: " وفي كل سن خمس من الإبل والأسنان والأضراس كلها سواء ".
ومذهب المالكية، يُنظر:" الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي "(4/ 278 - 279) قال: " وفي كل سن خمس من الإبل
…
وأراد بالسن ما يشمل الناب، والضرس، وإن كانت السن سوداء خلقة، أو بجناية، أو لكبر ففي الجناية عليها خمس من الإبل إن كان المجني عليه حرًّا مسلمًا ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:" تحفة المحتاج " للهيتمي (8/ 467) قال: " وفي كل سن أصلية تامة مثغورة نصف عشر دية صاحبها أو قيمته ففي كل سن كذلك لذكر حر مسلم خمسة أبعرة، ولأنثى نصف ذلك، ولذمي ثلثه، ولقن نصف عشر قيمته لخبر فيه، نعم إن كانت إحدى ثنيتيه أقصر من الأُخرى، أو ثنيته مثل رباعيته، أو أقصر نقص من الخمس ما يليق بنفصها إذ الغالب طول الثنية على الرباعية ".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:" شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (3/ 310 - 311) قال: " وفي سن أو ناب أو ضرس قلع بسنخه
…
أي: أصله، أو قلع الظاهر منه فقط، =
هذه ورد فيها نصٌّ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" وفي السن خمس من الإبل "
(1)
. ومع ذلك خالف بعض العلماء؛ لأن كلَّ إنسان فيه اثنان وثلاثون من الأسنان والأضراس فإذا ضربتها بخمسة صارت: (مائة وستين)، والدية (مائة) فستكون أكثر من الدية.
وإذا جُزِّئت هذه الأعضاء نفسها كانت أكثر من الدية؛ فلو قُطعت يد إنسان فيها دية، ورجلاه فيهما دية، والأنف كذلك، وهكذا ودية الإنسان مجتمعة واحدة (مائة من الإبل).
* قوله: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
(2)
).
وهو قول الأئمة الأربعة أيضًا بأن في كل سن خمسٌ من الإبل.
* قوله: (وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي الضّرْسِ بِجَمَلٍ
(3)
، وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا فِي مُقَدَّمِ الْفَمِ).
معنى قوله: " ما لم يكن في مقدمة الفم "، أي: في الأضراس؛ لأن بعض الفقهاء يرى: أن الأضراس أقلُّ فائدة من الأسنان، وقد يكون فائدتها أكثر؛ لأنها تطحن الطعام، لكن يلاحظ العلماء أن الأسنان موضع الجمال؛ لأنها في المواجهة، أما الأضراس ففي خفية، والبعيد منها لا يُرى.
وبعض العلماء يرى أن الأسنان أهمُّ وأكثر، كما سيأتي في قول سعيد بن المسيَّب.
= ولو كان السن من صغير ولم يعد أو عاد أسود واستمر أسود، أو عاد أبيض ثم اسودَّ بلا علة خمس من الإبل ".
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 416) قال: " وجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في السن خمس من الإبل ". قال أبو بكر: وبظاهر هذا الحديث نقول: لا فضل للثنايا منها على الأنياب، والأضراس، والرباعيات لدخولها كلها في ظاهر الحديث، وبه يقول الأكثر من أهل العلم
…
وروي ذلك عن ابن عباس ".
(3)
تقدم تخريجه.
* قوله: (وَأَمَّا الَّتِي فِي مُقَدَّمِ الْفَمِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ
(1)
. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي الْأَضْرُسِ بَعِيرَانِ
(2)
).
ذكر المؤلف قول سعيد بن المسيب: " لو كان الأمر لي لجعلت في كلِّ ضرس بعيرين ".
وعدد الأضراس: (عشرون)، ومجموع الأضراس والأسنان:(اثنان وثلاثون)، فإن فصلناها تكون الأضراس:(عشرين)، ويبقى الباقي:(اثنا عشر) فعندما نعطي لكلِّ ضرس بعيرين، ثم نضرب عشرين في اثنين فتصير:(أربعين بعيرًا)، واثنا عشر سنًّا نضربها في خمس فتصبح:(ستين)؛ فإذا جمعنا الستين والأربعين كان الناتج: (مائة) وهذا هو رأي سعيد بن المسيب.
فالمراد: أن الأسنان في كل واحد من التي تقع في مقدمة الفم الثمانية (اثنا عشر)، ثم يبقى بعد ذلك الأضراس وعددها عشرون.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ اعْتَرَضَ فِي ذَلِكَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: " أَتَجْعَلُ مُقَدَّمَ الأَسْنَانِ مِثْلَ الأَضْرَاسِ؟ " فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ إِلَّا بِالأَصَابعِ عَقْلُهَا سَوَاءٌ "
(3)
).
(1)
أخرجه ابن المنذر في " الأوسط "(3/ 237) عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - يعني - قضى فيما أقبل من الأسنان بخمسة أبعرة، وفي الأضراس بعير بعير.
(2)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 861) وغيره: قال سعيد بن المسيب: " فالدية تنقص في قضاء عمر بن الخطاب، وتزيد في قضاء معاوية، فلو كنت أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين، فتلك الدية سواء، وكل مجتهد مأجور ".
(3)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 862) وغيره: عن أبي غطفان بن طريف المري، أنه أخبره، أن مروان بن الحكم بعثه إلى عبد الله بن عباس يسأله: ماذا في الضرس، فقال عبد الله بن عباس:" فيه خمس من الإبل ". قال: فردني مروان إلى عبد الله بن عباس فقال: أتجعل مقدم الفم مثل الأضراس، فقال عبد الله بن عباس:" لو لم تعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء ".
ردَّ ابن عباس عليه كما سبق أنْ ردَّ على معاذ ومرَّ ذلك في الحج لمَّا كان يقبل الأركان فاعترض عبد الله بن مسعود عليه وقال: " ليس من البيت شيء مهجور ". فردَّ عليه وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] ولم نره يقبل إلا الركنين، (أي: اليمانيين) ". فقال: " صدقت "
(1)
.
فهنا ردَّ عبد الله بن عباس رضي الله عنه عليه حيث قال: " نحن نرى الأصابع تتفاوت فهي تختلف في أحجامها ومنافعها ومع ذلك نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في كلِّ واحد منها عشرًا من الإبل سواء كانت أصابع اليدين أم الرجلين. فهذا أمر محدد قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي الوقوف عنده، وربما تختلف المنافع، وربما تتفاوت ومع ذلك تكون الدية محددة، وهذه الأمور التي فيها أدلة تدخل في الأمور التوقيفية.
* قوله: (عُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: " فِي السِّنِّ خَمْسٌ "، وَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
(2)
).
وورد في حديث آخر: " في السنّ خمس من الإبل "، والمراد بالخمس هنا: خمس من الإبل.
إذن عبد الله بن عباس رضي الله عنه ردَّ على المعارض بدليل آخر، وهو كيف يكون في الأسنان خمس، وهي متفاوتة شكلًا ومنفعة.
(1)
أخرجه أحمد في " المسند "(3/ 369 - 370) وغيره: عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه طاف مع معاوية بالبيت، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها، فقال له ابن عباس:" لم تستلم هذين الركنين؟ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما "، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، فقال معاوية: صدقت. وحسنه الأرناؤوط.
(2)
تقدم تخريجه.
* قوله: (وَاسْمُ السِّنِّ يَنْطَلِقُ عَلَى الَّتِي فِي مُقَدَّمِ الْفَمِ وَمُؤَخَّرِهِ).
لأنه عند إطلاق السنِّ ينصرف إلى الكلِّ، ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم التفريق لبيَّنه؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، ومهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ما اختلفوا فيه، وبلاع ما جهلوه، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيِّن الأحكام ويفصلها ويوضحها للناس.
* قوله: (وَتَشْبِيهُهَا أَيْضًا بِالأَصَابعِ الَّتِي اسْتَوَتْ دِيَتُهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنَافِعُهَا).
ليس المقياس في ذلك حقيقة تفاوت المنافع أو الحجج، لكن المقياس أو الحجة في ذلك ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وإن كانت دية الأسنان إذا جمعت منفردة زائدة على مائة من الإبل، فإن ذلك لا يغير شيئًا بدليل أن الإنسان لو قُطِعت يداه ففيهما (دية)، ولو قُطِعت رجلاه ففيهما (دية)، ولو قُلِعت عيناه ففيهما (دية)، ولو أُذِهب سمعه ففيه (دية)، وكذلك لو قُطِعت أذناه ففيهما (دية)، وكذلك الحال بالنسبة للسان وللكلام، وهكذا
(1)
.
* قوله: (وَعُمْدَةُ مَنْ خَالَفَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْعَ يُوجَدُ فِيهِ تَفَاضُلُ الدِّيَاتِ؛ لِتَفَاضُلِ الأَعْضَاءِ).
يوجد هذا ولكن وُجِد بنصٍّ، وليس لدينا نصٌّ يفرِّق بينها؛ إذ النصُّ الذي عندنا في الأسنان لا يفرِّق بينها، والذي في الأصابع لم يفرق كذلك، ولم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم نصٌّ لنقف عنده كما ستأتي في باب (القسامة)، وقد مرَّ بنا أحكامٌ كثيرة تستثنى من بعض الأحكام، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدة أمور، مثل: المزابنة ثم رخَّص في بيع العرايا، والعرايا إنما هي نفسها المزابنة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رخَّص في بيع الرُّطب
(1)
تقدمت كل هذه المسائل بالتفصيل، ونقلنا أقوال أهل العلم فيها.
بالتمر، أو بيع التمر بالرُّطب على رؤوس النخل لحاجة الناس إلى ذلك، وقد جاء تحديد ذلك قدرًا وحاجة
(1)
.
فقد تأتي موانع ومع ذلك نجد أن هناك مَن استثني منها، ولا يقال بأن هذا يخالف الأصول إلا إذا لم يرد في ذلك دليل؛ لكن أن يأتي دليل عمن جاء بتلك الأصول فلا يعتبر ذلك خلافًا للأصول.
* قوله: (مَعَ أَنَهُ يُثْبِتُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ صَارَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّدْرِ الأَوَّلِ إِنَّمَا صَارَ إِلَيْهِ عَنْ تَوْقِيفٍ).
" التوقيف " إذا كان عندنا دليل صريحٌ ونصٌّ في المسألة صحيح، ولا نبني ذلك على أمر متوقع بدليل أن عمر رضي الله عنه رجع لما بلغه كتاب عمرو بن حزم.
* قوله: (وَجَمِيعُ هَذِهِ الأَعْضَاءِ الَّتِي تَثْبُتُ الدِّيَةُ فِيهَا خَطَأً فِيهَا الْقَوَدُ
(2)
فِي قَطْعِ مَا قُطِعَ، وَقَلْعِ مَا قُلِعَ).
القود يكون للعمد كما في قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
فقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} عام لكن استثنيت بعض الجنايات ألا يقتصَّ منها؛ لأنه يخشى على المقتص منه الهلاك، وأن يترتب عليها ضرر كما في المأمومة والجائفة، وبعضها يقتص منها كما في الموضحة وذاك مرَّ بنا.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي كَسْرِ مَا كُسِرَ مِنْهَا مِثْلُ السَّاقِ وَالذِّرَاعِ).
تختلف الكسور فغالبًا تجبر وتعود، وربما يعود بعضه وفيه ميل،
(1)
تقدم هذا في البيوع مُفصلًا.
(2)
" القَوَد ": القصاص، وأقدت القاتل بالقتيل، أي: قتلته به. انظر: " الصحاح " للجوهري (2/ 528).
ولكن هذه كما قال العلماء: (فيها حكومة)، وربما ترجع سليمة، ولذلك أيُّ جرح من الجروح أو كسر من الكسور؛ لا يقرر فيه الحكم الشرعي حتى يبرأ أو حتى يعود إلى الأصل فيُنظر ماذا حصل فيه.
* قوله: (هَلْ فِيهِ قَوَدٌ؟ أَمْ لَا؟).
أي: إذا كسر إنسانٌ ذراع آخر أو فخذه أو قدمه أو عضده هل في هذا قود أم ليس فيه قود، وفيه دية؟
* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْقَوَدَ فِي كسْرِ جَمِيعِ الْعِظَامِ إِلَّا الْفَخِذَ وَالصُّلْبَ
(1)
).
يرى الإمام مالك: أن أيَّ عظم يُكسَر في البدن فيه (القود)، أي: يُقاد ممن اعتدَى فيُكسَر عظمُه، إلا أنه استثنى الفخذ والصلب الذي في الظهر؛ لأن هذه يخشى فيها التجاوز فهذه أماكن مخوفة خطرة فلا يقادُ فيها.
* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
(2)
، وَاللَّيْثُ
(3)
: " لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ مِنَ
(1)
يُنظر: " إرشاد السالك " لابن عسكر (ص 109) قال: " والقصاص في الأعضاء كالنفس إلا لتعذر المماثلة كذهاب بعض البصر أو السمع أو الكلام، أو يخاف سرايته إلى النفس غالبًا ككسر العنق والترقوة والصلب والفخذ فيجب ما فيه من الدية في مال الجاني وتتعين المماثلة فلا يؤخذ عضو بغير مماثله، وفي عدمه يعدل إلى الدية ".
(2)
يُنظر: " نهاية المحتاج " للرملي (7/ 285) قال: " ولا قصاص في كسر العظام لعدم الوثوق بالمماثلة فيه
…
وله، أي: المجني عليه بقطع بعض ساعده أو فخذه سواء أسبق القطع كسر أم لا، كما أفاده كلامه هنا مع ما يأتي في قوله: ولو كسر عضده وأبانه إلى آخره المشتمل على ما هنا بزيادة فكرره المصنف
…
لها وللتفريع الآتي عليه الدافع لما اعترض عليه به هنا أن قضيته هنا لو قطع من عضده لم يكن له الأخذ من الكوع، قطع أقرب مفصل إلى موضع الكسر، وإن تعدد ذلك المفصل ليستوفي بعض حقه وحكومة الباقي لعدم أخذ عوض عنه ".
(3)
يُنظر: " مختصر اختلاف العلماء " للطحاوي (5/ 112) قال: " وقال الليث والشافعي مثل ذلك ولم يستثنوا السن ".
الْعِظَامِ بِكَسْرٍ "، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى السِّنَّ
(1)
، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ وَكذَلِكَ عَنْ عُمَرَ "
(2)
).
وقال الشافعيُّ، والليثُ، وأحمدُ
(3)
: " لا قصاص في عظم من العظام يكسر، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثني السِّن ".
وهذا أُثِر عن كثير من الصحابة؛ كعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وغيرهما، بأنه لا قصاص بالنسبة لكسر العظم.
* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثَبَتَ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَادَ فِي السِّنِّ الْمَكْسُورَةِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ).
هذا الحديث في قصة الربيع بنت مُعوِّذ، وهو حديث أخرجه البخاري وهو:" أن الربيع بنت معوِّذ كسَرت سنَّ جارية فطلبوا من أهلها - أولياء أمرها - العفو فأبوا وعرضوا عليهم الأرش، أي: الدية ثم إنهم - أولياء الجارية - رفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا القصاص فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقام أنس بن مالك فقال: أتكسر ثني الربيع يا رسول الله، لا والذي بعثك بالحق لا تُكسر فردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " يا أنس كتاب الله القصاص ".
فكتاب الله فيه القصاص ثم إنهم عرضوا على أوليائها فرضوا بالدية،
(1)
يُنظر: " بدائع الصنائع " للكاساني (7/ 323) قال: " في كسر العظام كلها حكومة عدل إلا السن خاصة؛ لأن استيفاء القصاص بصفة المماثلة فيما سوى السن متعذر، ولم يرد الشرع فيه بأرش مقدر فتجب الحكومة، وأمكن استيفاء المثل في السن، والشرع ورد فيها بأرش مقدر أيضًا فلم تجب فيها الحكومة ".
(2)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 439) قال: " فروينا عن ابن عباس أنه قال: ليس في العظام قصاص ".
(3)
يُنظر: " عمدة الفقه " لابن قدامة (ص 129) قال: " فأما كسر العظام والقطع من الساعد والساق فلا قود فيه ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره "
(1)
. فهذا أنس أقسم ولم تجب عليه كفارة؛ لأنه تنازل أولياؤه إلى أخذ الدية، ولا يرجع ذلك إلى مكانات الناس في الدنيا ومنازلهم؛ وإنما يرجع إلى صلاح المرء وتقواه واستقامته على دين الله " فرب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره "
(2)
حديث صحيح.
فمقياس الناس في هذه الحياة عند الله سبحانه وتعالى إنما هو التقوى، قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فلا ترفَع الإنسانَ مكانتُه ولا منصبُه ولا علمُه إذا لم يكن على الطريق السويِّ، أما إذا كان صالحًا تقيًّا نقيًّا كانت له المنزلة الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى، ويدخل ضمن من أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وبيَّن مكانتهم عند الله تعالى.
* قوله: (قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ " أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُقِدْ مِنَ الْعَظْمِ الْمَقْطُوعِ فِي غَيْرِ الْمَفْصِلِ "
(3)
إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ
(4)
).
(1)
أخرجه البخاري (2703) ومسلم (1675/ 24).
(2)
أخرجه الترمذي (3854) وغيره: عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك ". وحسنه الألباني في " مشكاة المصابيح "(6248).
(3)
أخرجه ابن ماجه (2636) وغيره: عن نمران بن جارية، عن أبيه، أن رجلًا ضرب رجلًا على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل، فاستعدى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر له بالدية فقال: يا رسول الله، إني أريد القصاص فقال:" خذ الدية بارك الله لك فيها "، ولم يقض له بالقصاص. وضعفه الألباني في " إرواء الغليل "(2235).
(4)
قال الألباني: " وهذا إسناد ضعيف، وله علتان:
الأولى: الجهالة.
قال الذهبي: " نمران بن جارية لا يعرف ". وقال الحافظ ابن حجر: " مجهول ".
والأُخرى: الضعف دهشم قال الذهبي: " قال أحمد: متروك "، وقال أبو داود:" ليس بشيء "، وقال النسائي:" ليس بثقة ". انظر: " إرواء الغليل "(7/ 295).
هذا الحديث أخرجه ابن ماجه والبيهقي
(1)
، وإسناده ضعيف، وهذا معنى قوله:" ليس بالقوي ". أما الأول فهو حديث صحيح.
* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقَادَ مِنْ كَسْرِ الْفَخِذِ
(2)
. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ
(3)
).
اتَّفقوا على ذلك؛ لأن هذا ثبت في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن الذي حمله عمرو بن حزم " ودية المرأة على النصف من دية الرجل "
(4)
. أما ما جاء بأنها مائة من الإبل؛ فتلك رواية فسَّرتها هذه الرواية على التسليم بصحَّتها. ولذلك اتَّفقوا العلماء عليه ولم يقل المؤلف: أجمعوا؛ لوجود بعض الخلاف لكن لو كان هناك خلاف، لنقل الإجماعَ، لكنه قال:" اتفقوا "؛ فمعنى هذا أن الخلاف ضعيف، ولا يُلتفت إليه
(5)
.
* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي دِيَاتِ الشِّجَاجِ وَأَعْضَائِهَا).
بعد أن اتَّفقوا على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل قالوا: ما ديتها بالنسبة للشجاج؟ (أي: الجراحات) هل هي كالرجل أم ترد إلى ديتها؟ أم هناك قدر فاصل بينهما إذا وصلت إليه تعود إلى أصلها على النصف من دية الرجل وتشارك الرجل إلى قدر معين الذي هو الثلث؟
الجواب: من العلماء من يقول: جراحات المرأة كجراحات الرجل
(1)
أخرجه البيهقي في " الكبرى "(8/ 114)(16102).
(2)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 875) أنه بلغه أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم " أقاد من كسر الفخذ ".
(3)
يُنظر: " الإشراف على مذاهب العلماء " لابن المنذر (7/ 395) قال: " أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ". وانظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (8/ 67).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
يُنظر؟ " الإشراف " لابن المنذر (7/ 395) قال: " أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ".
إلى الثلث تساويه، ثم إذا تجاوزت ذلك عادت إلى أصلها. كما سيأتي بعد ذلك في الديات.
* قوله: (فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ
(1)
: " تُسَاوِي الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي عَقْلِهَا مِنَ الشِّجَاجِ وَالأعْضَاءِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ ").
من هؤلاء الفقهاء الإمام مالك ومعهم من فقهاء العراق الإمام أحمد
(2)
.
* قوله: (فَإِذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ الدِّيَةِ عَادَتْ دِيَتُهَا إِلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَجُلِ).
يري أكثر العلماء: أن جراحات المرأة إلى الثلث كالرجل، ومن الأئمة الذين قالوا بذلك الإمامان: مالك وأحمد، أما الإمامان: أبو حنيفة والشافعي
(3)
، فكلٌّ منهما له رأي يختلف عن ذلك.
* قوله: (أَعْنِي: دِيَةَ أَعْضَائِهَا مِنْ أَعْضَائِهِ مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِهَا عَشْرًا مِنَ الإِبِلِ، وَفِي اثْنَيْنِ مِنْهَا عِشْرُونَ).
في كلِّ إصبع عشر من الإبل؛ لأن ذلك دون الثلث فتكون كالرجل، وفي إصبعين عشرون، وفي ثلاثة أصابع ثلاثون، فإذا ارتفعت إلى أربع أصابع ترجع إلى العشرين.
(1)
يُنظر: " النوادر والزيادات " لابن أبي زيد (13/ 455) قال: " والإجماع في حمالة الدية حتى ينزل إلى الثلث؛ ففيه الاختلاف، فقال السبعة من فقهاء التابعين: إنها مثل دية الرجل، في الجراح إلى ثلث ديته، فيرجع حينئذٍ إلى عقلها ".
(2)
يُنظر: " مطالب أُولي النهى " للرحيباني (6/ 96) قال: " ويستويان، أي: الذكر والأنثى حيث اتفقا دينًا في جرح موجب دون ثلث دية ذكر حر، فإذا بلغت جراحاتها الثلث أو زادت عليه صارت على النصف؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها ".
(3)
سيأتي قولهما في ذلك.
* قوله: (وَفِي ثَلَاثَةٍ ثَلَاثُونَ، وَفِي أَرْبَعَةٍ عِشْرُونَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ).
وأحمد أيضًا
(1)
.
* قوله: (وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
(2)
، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
(3)
، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ
(4)
، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(5)
).
كلُّ هؤلاء من التابعين.
* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ دِيَةُ جِرَاحَةِ الْمَرْأَةِ مِثْلُ دِيَةِ جِرَاحَةِ الرَّجُلِ إِلَى الْمُوضِحَةِ، ثُمَّ تَكُونُ دِيَتُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَهُوَ الأَشْهَرُ مِنْ قَوْلَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ فِي جِرَاحِهَا وَأَطْرَافِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي قَلِيلِ ذَلِكَ وَكثِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَرُوِيَ ذَلِكَ
(1)
قدمنا نقل قوله فيها.
(2)
يُنظر: " مختصر اختلاف العلماء " للطحاوي (5/ 105) قال: " قال مالك والليث يسوى الرجل والمرأة في عقل الجراح حتى يبلغ ثلث دية الرجل ثم تكون دية المرأة على النصف ".
(3)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 853) وغيره: عن سعيد بن المسيب، أنه كان يقول:" تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث الدية إصبعها كإصبعه، وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته، ومنقلتها كمنقلته ".
(4)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 854) عن ابن شهاب، وبلغه عن عروة بن الزبير، أنهما كانا يقولان مثل قول سعيد بن المسيب في المرأة:" أنها تعاقل الرجل إلى ثلث دية الرجل، فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت إلى النصف من دية الرجل ".
(5)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 396) قال: " وقالت طائفة: عقلها مثل عقل الرجل إلى ثلث، فإذا بلغت ثلث الدية كانت على النصف من دية الرجل. روينا هذا القول عن عمر، وزيد بن ثابت ".
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، إِلَّا أَنَّ الأَشْهَرَ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا
(1)
. وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(2)
، وَالشَّافِعِيُّ
(3)
، وَالثَّوْرِيُّ
(4)
. وَعُمْدَةُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَنَّ دِيَةَ المَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، فَوَاجِبٌ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الأصْلِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ مِنَ السَّمَاعِ الثَّابِتِ).
واستدل الآخرون بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: " دية الرجل كدية المرأة حتى يبلغ ثلثها فتكون على النِّصف من الرَّجل "
(5)
. لكن اختُلف في هذا الحديث؛ فهناك من يصححه ويأخذ به، وهناك من يضعِّفه ولا يأخذ به.
(1)
يُنظر: " الاستذكار " لابن عبد البر (8/ 65) قال: " وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال جراح المرأة على النصف من جراح الرجل في ما قل أو كثر وديتها مثل نصف دية الرجل وفي النصف ديته، وروي ذلك عن ابن مسعود أيضًا.
والأشهر والأكثر عن ابن مسعود: أن المرأة تعاقل الرجل في جراحها إلى أرش السن والموضحة خمس من الإبل ثم تعود إلى النصف من دية الرجل. وروي ذلك عن عثمان، وهو قول شريح ".
(2)
يُنظر: " الدر المختار وحاشية ابن عابدين " للحصكفي (6/ 574) قال: " ودية المرأة على النصف من دية الرجل في دية النفس وما دونها ".
(3)
للشافعي قولان فيها:
يُنظر: " البيان في مذهب الإمام الشافعي " للعمراني (11/ 551) قال: " دية نفس المرأة على النصف من دية الرجل، وأما ما دون النفس: فاختلف الناس فيه: فذهب الشافعي -رحمه الله تعالى- في الجديد إلى: أن أرشها نصف أرش الرجل في جميع الجراحات والأعضاء
…
وقال في القديم: تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زاد الأرش على ثلث الديهَ كانت على النصف من الرجل ".
(4)
يُنظر: " الإشراف " لابن المنذر (7/ 396) قال: " فقالت طائفة: دية المرأة على نصف من دية الرجل، فيما قل أو كثر. روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب، وبه قال سفيان الثوري ".
(5)
أخرجه النسائي (4805): عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها ". وضعفه الألباني في " إرواء الغليل "(2254).
* قوله: (إِذِ الْقِيَاسُ فِي الدِّيَاتِ لَا يَجُوزُ).
فعلى هذا دليل مالك وأحمد هو: " عقل المرأة كعقل الرجل إلى ثلث الدِّية حتى يبلغ ثلث الدِّية ". هذا هو الأثر الَّذي ورد في ذلك.
* قوله: (وَبِخَاصَّةٍ لِكَوْن الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ. وَلِذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ لِسَعِيدٍ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ عَنْهُ).
المراد بربيعة هو: ربيعة بن أبي عبد الرحمن
(1)
الذي يُعرَف بربيعة الرَّأي، وهو من التابعين، وهو شيخ الإمام مالك، وأما سعيد فهو: سعيد بن المسيَّب
(2)
كما سيأتي.
* قوله: (وَلَا اعْتِمَادَ لِلطَّائِفَةِ الأُولَى إِلَّا مَرَاسِيلَ، وَمَا رُوِيَ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حِينَ سَأَلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَمْ فِي أَرْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهَا؟ قَالَ: عِشْرُونَ
(3)
).
قطع المؤلِّف هنا الأثر وجاء بمحلِّ الشاهد منه. وهو: " كم في إصبع من أصابعها؟ " قال: " عشر من الإبل ". قال: " كم في إصبعين؟ " قال: " عشرون ". قال: " كم في ثلاث؟ " قال: " ثلاثون ". قال: " كم في أربع؟ " قال: " عشرون ". إذًا فقد جاء بمحلِّ الشاهد من الأثر.
(1)
ينظر ترجمته: " السير " للذهبي (6/ 89).
(2)
ينظر ترجمته: " السير " للذهبي (4/ 217).
(3)
أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 860) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ فقال: " عشر من الإبل "، فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل، فقلت: كم في ثلاث؟ فقال: " ثلاثون من الإبل "، فقلت: كم في أربع؟ قال: " عشرون من الإبل "، فقلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها؟ فقال سعيد:" أعراقي أنت؟ " فقلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، فقال سعيد:" هي السنة يا ابن أخي ".
* قوله: (قُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا وَاشْتَدَّتْ بَلِيَّتهَا نَقَصَ عَقْلُهَا!؟ قَالَ: " أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ ").
وصفه بقوله: " أعراقي أنت؟ "؛ لأنهم كانوا يعنون بالرأي ولتكلمون به كثيرًا ويأخذون به، لذلك قال:" أعراقي أنت؟ "، وهنا يرده إلى أنَّ هذا أمر قد ثبت فلا ينبغي أن يُعترض عليه. وهذا استغراب منه وهو إما طالب علم جاءه ليتعلم منه، وإما عالم يريد أن يتثبَّت فسأل ذلك السؤال استغرابًا:" كيف يكون في ثلاثة أصابع ثلاثون، وفي أربعة عشرون؟ " وجاء: " هذا هو دين الله ".
* قوله: (قلتُ: بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ، أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. قَالَ: "هِيَ السُّنَّةُ").
هذا فيه أدب السؤال، فإذا سأل الإنسان عن أمر يريد أن يستفيد منه فهو إما أن يسأل ليزداد علمًا، أو ليعرف حكمًا من الأحكام، أو أن يكون متردِّدًا في أمر من الأمور فيريد أن يتثبَّت فيما قد أُشكِل عليه. وذلك أمر قد أُشكِل عليه أن يكون في ثلاثة أصابع: ثلاثون، وفي أربعة أصابع: عشرون؛ فاستغرب لذلك فأورده، ولذلك يستدلُّ الجمهور بحديث:" عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث ".
* قوله: (وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مِنْ مُرْسَلِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
(1)
، وَعِكْرِمَةَ
(2)
).
وروي موصولًا أيضًا، ولكن المؤلِّف جاء به مرسلًا، وقد أخرجه
(1)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(9/ 396) عن عمرو بن شعيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ ثلث ديتها، وذلك في المنقولة، فما زاد على المنقولة، فهو نصف عقل الرجل ما كان ".
(2)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(9/ 396) عن معمر، عن رجل، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
النسائي والدارقطني
(1)
، وقد اختُلِف في الموصول أيضًا.
* قوله: (وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْقَوْلَ بِهِ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ
(2)
).
هكذا يقول بعض العلماء: أنه إذا جاء قولٌ للصحابة أو لصحابي، وعارض القياس؛ فينبغي أن يُؤخذ بقول الصحابي، وبخاصَّة إذا لم يخالف الصحابي؛ لأن الصحابي أو الصحابة قد يقولون قولًا يُشتهَر بين الصحابة، ولا يدرون من يعترض عليه، فبعضهم يعدُّ ذلك إجماعًا، وربما يوجد من يخالفه فالمسألة مختلف فيها:" إذا قال الصحابيُّ قولًا لم يُعرَف له معارض؛ فإنه يُقدَّم في هذا المقام "
(3)
. وهذه من المسائل التي يختلف فيها علماء الأصول، هل قول الصحابي حجَّة أم ليس بحجة؟ مسألة فيها تفصيل معروف
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
يُنظر: " القواعد والفوائد الأصولية " لابن اللحام البعلي في (ص 377) قال: " إذا قال الصحابي قولًا يخالف القياس فإنه يجب العمل به، ويجعل في حكم التوقيف المرفوع بحيث يعمل به ". وانظر: " العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى ابن الفراء (4/ 1178)، و" شرح مختصر الروضة " لنجم الدين الطوفي (3/ 186).
(3)
يُنظر: " العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى (4/ 1178) قال: " إذا قال بعض الصحابة قولًا ولم يظهر في الباقين، ولم يعرف له مخالف، فإن كان القياس يدل عليه: وجب المصير إليه والعمل به ".
(4)
يُنظر: " الواضح في أصول الفقه " لابن عقيل (1/ 43 - 44) قال: وأما قول الصحابي الواحد إذا لم ينتشر بين الباقين، فهل هو حجة؟ على خلاف، فبعضهم ذكر أنه حجة بنفسه، وبعضهم جعله حجة مع قياس ضعيف، وبعضهم قال: ليس بحجة، وإنه كقول واحد من سائر المجتهدين وحكمه إذا قيل: حجة، أن يعمل به، ويصار إليه، وهل يجوز أن يخص به العموم، ويصرف به ظاهر السنة والكتاب؟ على خلاف بين الناس. وهو على قول من جعله حجة، مما يفتقر أن يستند إلى دلالة، كالقياس لا بد له من دلالة وشاهد يشهد بصحته. والإجماع أيضًا لا بد أن يستند إلى دلالة من أحد الدلائل المتقدمة، وإذا جاء قول صحابي آخر بخلافه، رجح بينهما ترجيح =
* قوله: "لَكِنَّ فِي هَذَا ضَعْفٌ؛ إِذْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتْرُكَ الْقَوْلَ بِهِ إِمَّا لِأنَّهُ لَا يَرَى الْقِيَاسَ).
ليس كلُّ الصحابة يردُّون القياس؛ فممن اشتهر منهم القياس: عمر بن الخطاب، وعبد اللّه بن مسعود، ولذلك يقولون:"مدرسة الرأي"، وهي تنتسب إلى هؤلاء، ولعمر رضي الله عنه آراء كثيرة، ولكن ما المعتبر في القياس؟
الجواب: هو الذي لا يخالف نصًّا، والقياس ليس كما قال أهل الظاهر في قول اللّه تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
و"الاعتبار": إنما هو أخذ المقايسة
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم قاس وعمل بالقياس فعندما جاءه رجلٌ فقال: إن امرأته ولدت غلامًا يخالف لون أبيه وأمِّه" فسأله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أعندك إبل؟ " قال: نعم. قال: "ما ألوانها؟ " قال: كذا وكذا. قال: "هل فيها من أورق؟ " قال: نعم. قال: "وأين أتى؟ " قال: لعله نزعة عِرق. قال: "لعلَّ ابنك نزعة عرق أيضًا"
(2)
.
فالقياس إذا لم يخالف نصًّا من كتاب اللّه عز وجل أو من سنَّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإنه يؤخذ به
(3)
، وكثير من الأمور لم تكن موجودة في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعندما نأتي إلى الربويَّات التي ورد تحريمها فهل الأزر كان معروفًا؟
الجواب: لا، ولكن نقول بتحريمه قياسًا على الحِنطة والقمح بجامع
= الأدلة. وانظر: "المحصول" للرازي (6/ 129)، و"المسودة" لآل تيمية (ص 128)، وصنف العلائي كتاب "إجمال الإصابة في أقوال الصحابة" جمع فيه ما يخص هذا الباب.
(1)
"الاعتبار": رد الشيء إلى نظيره بضرب من الشبه، فهو: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم أو نفيه بإثبات صفة أو حكم أو نفيهما عنهما. انظر: "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى (4/ 1347)، و"المنخول" للغزالي (ص 422).
(2)
أخرجه البخاري (5305)، ومسلم (1500/ 18).
(3)
يُنظر: "التبصرة" للشيرازي (ص 416)، و"المحصول" للرازي (5/ 3)، و"المسودة" لآل تيمية (ص 365).
الطّعم في كلٍّ أو الوزن أو الكيل أو غير ذلك، فالعلَّة الموجودة هنا موجودة هناك.
و"القياس": هو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة تجمع بينهما
(1)
، والمختلف فيه هو "قياس الشبه" لضعفه
(2)
، أما "قياس العلة"
(3)
فهو قويّ، وقد عمل به العلماء قديمًا وحديثًا.
* قوله: (وَإِمَّا لِأَنَّهُ عَارَضَهُ فِي ذَلِكَ قِيَاسٌ ثَانٍ، أَوْ قَلَّدَ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ).
هذه كلها ظنونٌ واحتمالات لا يبنى عليها الحكم، فما دام الأمر قد ورد عن بعض الصحابة، وفي ذلك أثر يقبله بعض العلماء ويصحِّحه فينبغي
(1)
يُنظر: "الفصول في الأصول" للجصاص (4/ 127) قال: "كل حكم ثبت وصح من الوجوه التي ثبتت بها الأحكام، فجائز القياس عليه، إذا قامت الدلالة على وجود المعنى الذي هو علة للحكم فيه، سواء كان ما فيه المعنى أصلًا ثابتًا بتوقيف واتفاق، أو بدلالة غيرهما.
(2)
"قياس الشبه"، ويسمى: الخفي هو: أن يتردد فرع بين أصلين له شبه بكل واحد منهما، وشبه بأحدهما أكثر فيرد إلى أكثرهما شبهًا به. انظر:"رسالة في أصول الفقه" للعكبري (ص 71).
وهذا النوع مختلف فيه:
يُنظر: "الإحكام" لابن حزم (7/ 200) قال: ثم اختلفوا في هذا النوع من القياس فقالوا: هو على الصفات الموجودة في العلة، وذلك مثل أن يكون في الشيء خمسة أوصاف من التحليل، وأربعة من التحريم فيغلب الذي فيه خمسة أوصاف على الذي فيه أربعة أوصاف، وقال آخرون منهم: وهو على الصور كالعبد يشبه البهائم في أنه سلعة متملكة ويشبه الأحرار في الصور الآدمية وأنه مأمور منهي بالشريعة". وانظر: "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى (4/ 1325)، و"اللمع في أصول الفقه" للشيرازي (ص 100).
(3)
قال الشيرازي في "اللمع في أصول الفقه"(ص 99): "قياس العلة: فهو أن يرد الفرع إلى الأصل بالبينة التي علق الحكم عليها في الشرع، وقد يكون ذلك. معنى يظهر وجه الحكمة فيه للمجتهد". وينظر: "التلخيص" للجويني (3/ 235)، و"روضة الناظر" لابن قدامة (2/ 240).
أن يعمل به، قال رسول الله عز وجل فيما رواه النسائي وغيره
(1)
: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ ثلث ديتها فتكون على النصف من الرجل ". لكن الحديث مختلف فيه، فهناك من يصححه، وهناك من يضعِّفه بسبب ضعف بعض رواته.
* قوله: (فَهَذِهِ حَالُ دِيَاتِ جِرَاحِ الأَحْرَارِ وَالْحِنَايَاتِ عَلَى أَعْضَائِهَا الذُّكُورِ مِنْهَا وَالإِنَاثِ).
لقد تكلَّم المؤلف عن الجنايات وجراح الأحرار ذكورًا وإناثًا، ولا فرق بين الصغير والكبير في الجناية عليه ولا بين العاقل وغيره، فإن هذه الجناية لا تختلف باختلاف المكلَّف وغيره في الاعتداء عليه، لكن هناك رأي مرجوح يفرِّق بين الكبير والصغير في الاعتداء على الإنسان الصغير الذي لا يتكلَّم ولكن المعروف في الغالب أنه إذا كبر الصغير تكلم، والنادر جدًّا ألا يتكلم، فأكثر العلماء يعاملون الصغير مطلقًا كالكبير، وهناك من يفرِّق في بعض المسائل.
* قوله: (وَأَمَّا جِرَاحُ الْعَبِيدِ وَقَطْعُ أَعْضَائِهِمْ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ).
لا شكَّ أن العبد المسلم كالحرِّ؛ فله حرمته ومكانته ولا ينقصه فقط إِلَّا أنه مملوك، ولذلك راعته هذه الشريعة الكريمة الغرَّة في تخفيف بعض الأحكام كما أنها أيضًا راعت المرأة في تخفيف بعض الأحكام عنها؛ لوجود النقص بها؛ فالعلة هنا وهناك هي النقص، ولذلك يخفف عنه في بعض الأحكام كما مر بنا بالنسبة للعدَّة والطلاق وغير ذلك من الأحكام، وكذلك المرأة خُفِّفت عنها أحكام كثيرة؛ بأنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة
(2)
،
(1)
أخرجه النسائي (4805) والدارقطني في السنن (7714)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2254).
(2)
معنى حديث أخرجه مسلم (335) عن معاذة، قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة. فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست =
وبأن هناك أحكام كثيرة مرتبطة بها بالنسبة لصلاة الجماعة؛ إذ لا تجب عليها، وبالنسبة للجهاد عليهن جهاد لا قتال فيه
(1)
وهو الحج والعمرة.
* قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ فِي جِرَاحِهِمْ وَقَطْعِ أَعْضَائِهِمْ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ
(2)
).
أي: يقوَّم ثم ينظر إلى النقص فيحدد ذلك فيكون هذا هو القدر المطلوب.
* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ قَدْرُ مَا فِي ذَلِكَ الْجُرْحِ مِنْ دِيَتِهِ، فَيَكُونُ فِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَفِي عَيْنِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(3)
، وَالشَّافِعِيُّ
(4)
،
= بحرورية، ولكني أسأل. قالت:"كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة".
(1)
معنى حديث أخرجه ابن ماجة (2901)، وغيره عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول اللّه على النساء جهاد؟ قال: "نعم، عليهن جهاد، لا قتال فيه: الحج والعمرة". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(891).
(2)
وهو قول للحنابلة.
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 67) قال: "وعنه: أنه يضمن بما نقص مطلقًا، اختاره الخلال، والمصنف، وصاحب الترغيب، والشارح، وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين رحمهم النِّه. وغيرهم. قلت: وهو الصواب وجزم به في الوجيز".
(3)
يُنظر: "حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(6/ 619) قال: "قوله وما قدر"، أي: ما جعل مقدرًا من دية الحر، أي: من أرشه في الجناية على أطرافه جعل مقدرًا من قيمة العبد كذلك، وقوله: ففي يده نصف قيمته تفريع عليه؛ لأن الواجب في يد الحر مقدر من الدية بالنصف، فيقدر في يد العبد بنصف قيمته، وكذلك يجب في موضحته نصف عشر قيمته؛ لأن في موضحة الحر نصف عشر الدية كما ذكره في العناية".
(4)
يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (5/ 333) قال: "ويجب في إتلاف غيرها، أي: نفس الرقيق من أطرافه ولطائفه ما نقص من قيمته سليمًا إن لم يتقدر ذلك الغير في الحر ولم يتبع مقدرًا ولا يبلغ بالحكومة قيمة جملة الرقيق المجني عليه أو قيمة عضوه على ما سبق في الحر، وإلا بأن قدرت في الحر كموضحة وقطع عضو =
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
(1)
).
وأحمد في رواية
(2)
.
* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ
(3)
: "يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ إِلَّا مُوضِحَتَهُ وَمُنَقِّلَتَهُ وَمَأْمُومَتَهُ فَفِيهَا مِنْ ثَمَنِهِ قَدْرُ مَا فِيهَا فِي الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ").
كلُّ ذلك مرَّ ذكره فالموضحة التي ورد تحديدها فيها: خمس من الإبل، ووردت أيضًا المنقلة وهي التي تنقل العظم وفيها: خمسة عشر من الإبل، والهاشمة التي فيها: عشر من الإبل، ثم تأتي المأمومة والجائفة وفيها: ثلث الدية، وكل ذلك مرَّ ذكره.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الأَوَّلِ تَشْبِيهُهُ بِالْعُرُوضِ، وَعُمْدَةُ الفَرِيقِ الثَّانِي تَشْبِيهُهُ بِالْحُرِّ؛ إِذْ هُوَ مُسْلِمٌ وَمُكَلَّفٌ).
= فنسبته، أي: فيجب مثل نسبته من الدية من قيمته، أي: الرقيق؛ لأنا نشبه الحر بالرقيق في الحكومة ليعرف قدر التفاوت ليرجع به، ففي المشبه به أولى؛ ولأنه أشبه الحر في أكثر الأحكام بدليل التكليف فألحقناه به في التقادير، ففي قطع يده نصف قيمته، وفي يديه قيمته، وفي أصبعه عشرها، وفي موضحته نصف عشرها، وعلى هذا القياس".
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 112) قال: "وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته فجعل في عينه نصف قيمته كلها كما في أنف الحر ديته كلها وكذلك سائر جراحاته
…
وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وعن شريح والشعبي وإبراهيم وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز".
(2)
يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 66) قال: "قوله: (وفي جراحه إن لم يكن مقدرًا من الحر: ما نقصه، وإن كان مقدرًا من الحر: فهو مقدر من العبد من قيمته. ففي يده نصف قيمته. وفي موضحته نصف عشر قيمته، سواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر هذا إحدى الروايتين".
(3)
يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (4/ 607) قال: "والجائفة والمأمومة والمنقلة والموضحة في ثمن العبد بمنزلتهن في دية الحر".
وجه شبهه بالعروض - عروض التجارة - أنه يباع ويشترى إذًا هو كسلعة من السلع، بل هو سلعة في الحقيقة فمن هنا شُبِّه بعروض التجارة، فكما أن البضائع تُبَاع وتُشترى كذلك هو أيضًا، ومن ناحية أُخرى حرمته أنه آدمي وأنه مطالب ومكلف؛ فيلحق بالحُرِّ.
* قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ مِنْ هَذِهِ إِذَا جَاوَزَتِ الثُّلُثَ عَلَى الْعَاقِلَةِ
(1)
).
هذا لا خلاف فيه بين العلماء، ولكنَّ الخلاف بينهم فيما دونها، أي: دية الخطإ إذا تجاوزت الثلث فهي على العاقلة كما جاء في قصة المرأتين من هُذيل عندما اقتتلتا فرمَت إحداهما الأُخرى بحجر، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الدية على العاقلة
(2)
.
(1)
مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 322) قال: "وأما بيان الجناية التي تتحملها العاقلة، والتي لا تتحملها فيما دون النفس فنقول: لا خلاف أنه إذا بلغ أرش الجناية فيما دون النفس من الأحرار نصف عشر الدية فصاعدًا، وذلك خمسمائة في الذكور ومائتان وخمسون في الإناث تتحمله العاقلة، واختلف فيما دون ذلك في الرجل والمرأة، قال أصحابنا رحمهم اللّه تعالى: يكون في مال الجاني ولا تتحمله العاقلة".
ومذهب المالكية، يُنظر:"المدونة" للإمام مالك (4/ 573) قال: "أرأيت العاقلة في قول مالك، هل تحمل أقل من الثلث? قال: لا تحمل في قول مالك أقل من الثلث، ولا تحمل إِلَّا الثلث فصاعدًا. قلت: وكل شيء يكون في الجسد يبلغ الثلث من ذهاب بصر أو سمع أو لسان أو شلل أو غير ذلك مما هو في الجسد، فإذا بلغ الثلث حملته العاقلة في قول مالك؟ قال: نعم إذا كان ذلك خطأ".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (16/ 526 - 527) قال: "وإذا تبين أن أروش الأطراف تحملها العاقلة، كما تحمل ديات النفوس، فالأصح أنهم يحملون ما يقل وما يكثر، ولا يختص التحمل بمقدار، هذا هو المنصوص عليه في الجديد. ونص الشمافعي في القديم على أن العاقلة تحمل ثلث الدية الكاملة، فما فوقه، ولا تحمل ما دون الثلث؛ لأن ما دون الثلث قليل، وإذا بلغ الثلث، فهو على حد الكثرة".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 324) قال: "العاقلة من غرم ثلث دية فأكثر من ثلث الدية بسبب جناية غيره، أي: الغارم ".
(2)
أخرجه مسلم (1681/ 36) وغيره: عن أبي هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، =
* قوله: (وَاخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةُ وَجَمَاعَةٌ
(1)
).
وأحمدُ أيضًا
(2)
.
* قوله: (إِنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الثُّلُثَ فَمَا زَادَ).
أي: تحمل ما دون الثلث؛ فإذا تجاوز الثلث فلا، وهذا هو قول الإمامين مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة:"تحمل من ذلك العشر فما فوقه"، وحجة مالك وأحمد: أن ذلك أُثِر عن عمر رضي الله عنه
(3)
، وقالوا: لا مخالف له.
* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "تَحْمِلُ مِنْ ذَلِكَ الْعُشْرَ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ"
(4)
).
= فرمت إحداهما الأُخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول اللّه، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"إنما هذا من إخوان الكهان"، من أجل سجعه الذي سجع.
(1)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 126) قال: "وعليه جمهور جماعة أصحابه أن العاقلة لا تحمل إِلَّا الثلث فما زاد، وهو قول سعيد بن المسيب والفقهاء السبعة من المدينة وابن أبي ذئب وابن أبي سلمة".
(2)
يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 326) قال: "ولا تحمل العاقلة ما دون ثك دية ذكر حر مسلم كثلاث أصابع وأرش موضحة لقضاء عمر أنها لا تحمل شيئًا حتى يبلغ عقل المأمومة، ولأن الأصل الضمان على الجاني".
(3)
أخرجه الدارقطني في "السنن"(4/ 233) وغيره: عن عمر قال: "العمد والعبد، والصلح والاعتراف، لا تعقله العاقلة". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2305).
(4)
المنقول عنه نصف العشر: ينظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 322) قال: "وأما بيان الجناية التي تتحملها العاقلة، والتي لا تتحملها فيما دون النفس فنقول: لا خلاف أنه إذا بلغ أرش الجناية فيما دون النفس من الأحرار نصف عشر الدية فصاعدًا، وذلك خمسمائة في الذكور ومائتان وخمسون في الإناث تتحمله العاقلة".
وحجة أبي حنيفة: أنه جاء في حديث المرأتين اللتين اقتتلتا فرمت إحداهما الأُخرى بحجر فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بديتها ودية جنينها على العاقلة
(1)
. فجعل الدية على العاقلة، وهي عشر، فكذلك هنا.
لكن الجمهور أجابوا وهم المالكية والحنابلة: أن ما ورد إنما هو في حالة واحدة، وهي: إذا ضُرب بطن الأم فمات الجنين مع أمِّه فيكون ذلك هو تقديره، أما لو مات منفردًا أو بقيت أمُّه حية فلا يدخل في ذلك.
* قوله: (قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ
(2)
: "الْمُوضِحَةُ فَمَا زَادَ عَلَى الْعَاقِلَةِ"، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ
(3)
: "تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ دِيَةِ الْخَطَإِ").
وجهة الإمام الشافعي رحمه الله: أن مَن يحمل الكثير يحمل القليل؛ فإذا كانت العاقلة التي لا ذنب لها ولا يدَ لها ولا دخل لها في هذه الجناية قد حملت الكثير؛ فأولى أن تحمل القليل، فلذلك القاعدة المعروفة تقول:"من يحمل الكثير يحمل القليل". وإيجاب الدية في قتل الخطإ على العاقلة، وكذلك في القتل شبه العمد والقصد من ذلك هو التخفيف عن القاتل ومواساته وتطمين نفسه؛ لأن هذا لم يقتل قصدًا ولا عمدًا، وما أراد القتل أصلًا ولا أراد الاعتداء، فهو بحاجة إلى أن يخفف عنه، وأن ييسر عليه، وأن يؤانس، وأن تطمئن نفسه، وأولى الناس بذلك هم عصبته، وقد اختلف العلماء في تعريف العاقلة؟
فرأى الأكثر أنهم العصبة
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 126) قال: "وقال الثوري وابن شبرمة الموضحة فما زاد على العاقلة".
(3)
يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 126) قال: "وقال عثمان البتي والشافعي تحمل العاقلة القليل والكثير من أروش الدماء في الخطأ من قتل وجرح من حر وعبد وذكر وأنثى".
(4)
فمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (4/ 282) قال: =
ورأى أبو حنيفة أنهم أهل الديوان
(1)
.
وهل يرتَّب العصبة كترتيب الميراث؟
الجواب: من العلماء من قال بذلك
(2)
. وهل يدخل فيهم الفقير والمرأة؛ الجواب: لا، ولكن يدخل في ذلك الغائب.
* قوله: (وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ هِيَ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَإِ، فَمَنْ خَصَّصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ).
دليل الذين خصَّصوا: أن ذلك ثبت عن عمر ولم يخالف، وعمر رضي الله عنه عندما قضى بذلك قد اشتهر في الصحابة، فينبغي أن يكون رأيه وحكمه في ذلك حجة؛ إذ لم يجد ما يخالفه.
واستنبط أبو حنيفة ما يتعلق بدية الجنين فألحق ذلك به.
= "العاقلة عدة أمور: العصبة، وأهل الديوان، والموالي الأعلون، والأسفلون فبيت المال".
ومذهب الشافعية، يُنظر:"البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (11/ 595) قال: "العاقلة: هم العصبة، ولا يدخل فيهم أبو الجاني ولا جده وإن علا، ولا ابنه ولا ابن ابنه وإن سفل".
ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 59) قال: "عاقلة الجاني ذكرًا كان أو أنثى ذكور عصبته نسبًا كالآباء والأبناء والإخوة لغير أم والأعمام كذلك وولاء
…
قريبهم وبعيدهم حاضرهم وغائبهم صحيحهم ومريضهم ولو هرمًا وزمنًا وأعمى
…
ومنهم، أي: العاقلة عمودًا نسبه آباؤه، أي: أبوه وإن علا بمحض الذكور وأبناؤه صوإن نزلوا بمحض الذكور ..... وليس منهم، أي: العاقلة الإخوة لأم ولا سائر ذوي الأرحام ولا النساء
…
ولا الزوج ولا المولى من أسفل وهو العتيق؛ لأنه لا يرث ولا مولى الموالاة وهو الذي حالف رجلًا يجعل له ولاءه ونصرته".
(1)
يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (13/ 364) قال: "والعاقلة أهل الديوان إن كان القاتل من أهل الديوان يؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين، وأهل الديوان: أهل الرايات وهم الجيش الذين كتبت أساميهم في الديوان، وهذا عندنا".
(2)
وهم الحنابلة، كما تقدم.
وقال الشافعي: "إذا كانت تحمل هذه العاقلة الكثير فكيف لا تحمل القليل؟! ".
* قوله: (وَلَا عُمْدَةَ لِلْفَرِيقِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَعْمُولٌ بِهِ وَمَشْهُورٌ).
قوله: "لا عمدة" لعلَّه يقصد المالكية والحنابلة، وعمدتهم ما أُثِر عن عمر رضي الله عنه
(1)
.
* قوله: (وَهُنَا انْقَضَى هَذَا الْكِتَابُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ).
لا يقصد بانقضاء الكتاب الذي هو (بداية المجتهد)، وإن كنا بحمد اللّه قاربنا على الانتهاء منه، لكنه يقصد انقضاء الكتاب الذي هو فيه، وهو (كتاب الجنايات)، وهو من أهمِّ الكتب؛ لأنه يتعلق بحياة الناس ومماتهم، وما يترتب على ذلك من القتل ومن الجناية على الإنسان نفسًا أو عضدًا أو جرحًا، فالشريعة الإسلامية صانت حرمة المسلم وحافظت على دمائه، ولذلك لم يغفل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك الجانب في آخر خطبة خطبها الناس في مكان عظيم في يوم عرفة، فقال:"إن دماءَكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم"
(2)
. فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمةَ دم المؤمن، وأنه لا يجوز أن يُتعدَّى عليه، وقال:"كلُّ المسلم على المسلَم حرامٌ دمُه ومالُه وعرضه"
(3)
. وإن توسع المؤلِّف بعض التوسع في هذا الكتاب إِلَّا أنه أجمل
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (67)، ومسلم (30/ 1679) عن أبي بكرة، ذكر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه - أو بزمامه - قال:"أي: يوم هذا"، فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال:"أليس يوم النحر" قلنا: بلى، قال:"فأي شهر هذا" فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال:"أليس بذي الحجة" قلنا: بلى، قال:"فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه".
(3)
أخرجه مسلم (32/ 2564) عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، =
بالنسبة لغيره، لكنه طاف ومرَّ على أكثر المسائل وأهمها وقد عرضنا أيضًا وأضفنا إضافات إلى ما ذكر المؤلف مما رأينا أن الحاجة تستدعي بيانًا.
فقد انتهى إذًا من هذا الكتاب، وهو من الكتب المهمة، بل كتب الفقه كلها مهمة، لكنها قد تتفاوت من درجة إلى أُخرى، فترون بأنها تأتي في الأهمية "العبادات"؛ لأن العبادات تأتي في مقدمتها الصلاة وهي الركن الثاني بعد الشهادتين، ثم الزكاة وهي الركن الثالث، ثم الصِّيام وهو الركن الرابع، ثم الحج وهو الركن الخامس، ونحن بحمد الله قد قطعنا شوطًا كبيرًا وإن كنا قد أمضينا وقتًا كثيرًا في هذا الكتاب إِلَّا أنه بحمد الله قارب وأوشك على الانتهاء.
* * *
= ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا"، ويشير إلى صدره ثلاث مرات: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه".