المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(كتاب الصلاة) الصلاة في اللغة: الدعاء، لقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ - بغية المقتصد شرح بداية المجتهد - جـ ٣

[محمد بن حمود الوائلي]

فهرس الكتاب

(كتاب الصلاة)

الصلاة في اللغة: الدعاء، لقوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، أي: ادْعُ لهم.

أما في الشرع: فأقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.

* قوله: (الصَّلَاةُ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا وَبِالجُمْلَةِ إِلَى فَرْضٍ وَنَدْبٍ، وَالقَوْلُ المُحِيطُ بِأُصُولِ هَذِهِ العِبَادَةِ يَنْحَصِرُ بِالجُمْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ: أَعْنِي أَرْبَعَ جُمَلٍ، الجُمْلَةُ الأُولَى: فِي مَعْرِفَةِ الوُجُوبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَالجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِهَا الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي: شُرُوطَ الوُجُوبِ، وَشُرُوطَ الصِّحَّةِ، وَشُرُوطَ التَّمَامِ وَالكَمَالِ. وَالجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالٍ وَأَقْوَالٍ، وَهِيَ الأَرْكَانُ. وَالجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَضَائِهَا وَمَعْرِفَةِ إِصْلَاحِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الخَلَلِ وَجَبْرِهِ، لِأَنَّهُ قَضَاءٌ ما إِذَا كَانَ اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ).

يذكر المؤلف في بداية كتاب الصلاة مقدمة وملخصًا يبيِّن فيه منهجه في العرض على الأصل الذي اشترطه على نفسه: أن لا يذكر إلا المسائل الأمهات.

ص: 943

[الجملة الأولى في معرفة وجوب الصلاة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: (الجُمْلَةُ الأُولَى: وَهَذ الجُمْلَةُ فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: هِيَ فِي مَعْنَى أُصُولِ هَذَا البَابِ: المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا. الثَّانِيَةُ: فِي بَيَانِ عَدَدِ الوَاجِبَاتِ فِيهَا).

أي: في بيانِ وجوب الصلاة، وَما الواجب من الصلوات؟ وكم عدد الواجب منها؟! أهي الصلوات الخمس فقط، أم أن هناك واجبًا يزيد عليها؟!

(1)

.

* قوله: (الثَّالِثَةُ: فِي بَيَان عَلَى مَنْ تَجِبُ).

أي: لها شروط؛ فمثلًا: تجب الصلاة على كلِّ مسلم بالغ عاقلٍ

(2)

، ومعنى قولنا:"تجب على كل مسلم" يخرج من ذلك الكافر، ويتعلق بهذه المسألة قول الأصوليين:"إن الكفار مخاطَبون بفروع الشريعة"

(3)

.

فهذه إشاراتٌ يأتي بيانها إن شاء الله تفصيلًا.

» قوله: (الرَّابِعَةُ: مَا الوَاجِبُ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا؟

(4)

.

(1)

سيأتي الكلام على هذه المسائل تفصيليًّا.

(2)

سيأتي الكلام عليها بالتفصيل قريبًا.

(3)

هذه المسألة فيها خلاف طويل بين أهل العلم يتلخص في مذاهب: الأول: أنهم مخاطبون بفروع الإسلام.

والثاني: لا يخاطبون منها بغير النواهي.

والثالث: التفريق بين النواهي والأوامر.

انظر: "المنخول" للغزالي (ص 88) وما بعدها، "روضة الناظر" لابن قدامة المقدسي (1/ 160) وما بعدها، و"شرح الورقات" لجلال الدين المحلي (ص 113) وما بعدها.

(4)

لأهل العلم في هذه المسألة تفاصيل: فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين"(1/ 352) قال: "ويكفر جاحدها لثبوتها بدليل قطعي وتاركها عمدًا مجانة، أي: تكاسلًا فاسق يحبس حتى يصلي؛ لأنه يحبس لحق العبد فحق الحق أحق، وقيل يضرب حتى يسيل منه الدم". =

ص: 944

أي: ما الواجب على تارك فريضة الصلاة متعمدًا؟!

ولا يخلو حال تارك فريضة الصلاة من أمرين:

1 -

أن يتركها متعمدًا منكرًا وجوبَها؛ فهذا -نسأل الله العافية- مرتدٌّ بإجماع العلماء لا خلاف فيه.

2 -

أن يتركها معترفًا بوجوبها؛ لكنه لا يصليها.

والأخير يُعطى فرصة ويؤمر بها، وكذلك الأول؛ لكن بعض العلماء يرى: أن تارك الصلاة الذي يُؤمر بها وَيعترف بفرضيتها، ولا يصلي يلحق بالآخر، ولذا حكم عليه جمع من العلماء بأنه كافر؛ كما سيأتي بيان ذلك بأدلَّتهم.

= ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي"(1/ 238) قال: "وتاركها، أي: الصلاة اختيارًا بلا عذر يؤخر وجوبًا بعد الرفع للحاكم وطلبه بفعلها لما ذكر، أي: لقدر ما يسع ركعة بسجدتيها من آخر الضروري، إن كان عليه فرض فقط، وإن كان عليه مشتركتان أخر لقدر خمس في الظهرين، والأربع في العشاءين حضرًا وثلاث سفرًا أو قدر طهر خفيف وركعات خالية عن سنن صونًا للدماء ما أمكن. ويقتل بالسيف حدًّا: لا كفرًا خلافًا لابن حبيب".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 428) قال: "باب في حكم تارك الصلاة المفروضة على الأعيان أصالة جحدًا، أو غيره، وتقديمه هنا على الجنائز تبعا للجمهور أليق إن ترك المكلف الصلاة المعهودة شرعا الصادقة بإحدى الخمس جاحدًا وجوبها بأن أنكره بعد علمه به كفر بالجحد فقط لا به مع الترك

إذ الجحد وحده مقتض للكفر .. لإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة

أما من أنكر ذلك جاهلًا لقرب عهده بالإسلام، أو نحوه ممن يجوز خفاؤه عليه، أو نشئه ببادية بعيدة عن العلماء فلا يكون مرتدًّا بل يعرف وجوبها، فإن عاد بعده صار مرتدًّا".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 128) قال: "ومن تركها، أي: الصلاة جحودًا، يعني: من جحد وجوب الصلاة تركها أو فعلها، ولو كان جحده لوجوبها جهلًا به وعرف الوجوب وأصر على جحوده كفر، أي: صار مرتدًّا؛ لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع الأمة، وكذا لو تركها تهاونًا أو كسلًا إذا دعاه إمام أو نائبه لفعلها أي الصلاة وأبى فعلها حتى تضايق وقت التي بعدها بأن يدعى للظهر مثلًا، فيأبى حتى يتضايق وقت العصر عنها، فيقتل كفرًا".

ص: 945

» قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: أَمَّا وُجُوبُهَا، فَبَيِّن مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ، وَشُهْرَةُ ذَلِكَ تُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ القَوْلِ فِيهِ

(1)

).

أحسن المؤلف رحمه الله، فوجوب الصلاة بَيِّنٌ واضح، ولكنها ليست بينةً لكل أحد، لذا ينبغي أن نبين وجوبها ولو بشيء من الإجمال.

ولا شكَّ أن الصلاة واجبة وثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، ونقصد بذلك الصلوات الخمس فقط التي هي فرض عين، وهي التي يتحدث عنها المؤلف " فهناك أيضًا صلوات أُخرى سيأتي الحديث عنها؛ كصلاة الجنائز، وصلاة العيدين، والجمعة.

أما الكتاب:

فقد ورد ذلك في عدة آيات منها:

- قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5]، أي: أُمِرَ المؤمنون أن يعبدوا الله بإخلاص ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، والأمر يقتضي الوجوب، وهذا دليل قويٌّ من الكتاب العزيز على وجوب الصلاة.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 89) قال: "أما فرضيتها فثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول".

مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (1/ 379) قال: "ووجوبها معلوم من الكتاب والسنة والإجماع، ودين الأمة ضرورة، فلا نطول بذلك، وفرض الله سبحانه الصلوات الخمس ليلة المعراج على نبيه في السماء بخلاف سائر الشرائع قال في المقدمات: وذلك يدل على حرمتها وتأكيد وجوبها انتهى".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" الرملي (1/ 359) قال: "والأصل في الباب قبل الإجماع آيات كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} .. أي: حافظوا عليها دائمًا بإكمال واجباتها وسننها وأخبار".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 125) قال: "وفرضها بالكتاب والسنة والإجماع وكان ليلة الإسراء بعد بعثته صلى الله عليه وسلم بنحو خمس سنين، وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين".

ص: 946

- وَقول الله سبحانه وتعالى في آخر سورة الحج: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، وَهذا أيضًا دليل على وجوبها.

وأما السنة:

فالأدلة على ذلك كثيرة، ومنها:

قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهنَّ الله على العباد في اليوم والليلة"

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن عمر: "أُمِرت أن أُقاتِلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، إلى أن قال:"فإذا فعلوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم"

(2)

، وفي بعضها:"وبحقها"

(3)

.

وحديث أبي بكر رضي الله عنه: "والله لأُقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"

(4)

(1)

جُزء من حديث أخرجه النسائي (461) وغيره عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن وإن له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3243).

(2)

أخرجه البخاري (25).

(3)

أخرجه مسلم (36/ 22).

(4)

جُزء من حديث طويل أخرجه البخاري (1399) و (1400)، مسلم (32/ 20) عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"، فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق.

ص: 947

عندما ارتدَّ من ارتدَّ من العرب، وامتنع بعضهم عن أداء الزكاة، وأراد أبو بكر قتالهم، وتوقف عمر في ذلك، ثم رجع الصحابة وفي مقدمتهم عمر إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه لما تبيَّن لهم أنه الحق، وقاتلوا معه حتى استقرت شعائر الإسلام.

ومعنى الحديث: أنه لا خلاف بين الصحابة في قتال تارك الصلاة أو مانع الزكاة.

والأدلة في وجوب الصلوات الخمس أكثر من أن تحصر فى هذا الموضع، ونكتفي بهذه الإشارات.

» قوله: (المَسْأَلَة الثَّانِيَة: وَأَمَّا عَدَد الوَاجِبِ مِنْهَا فَفِيهِ قَوْلَان؛ أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَالِكٍ

(1)

وَالشَّافِعِيِّ

(2)

وَالأَكثَرِ، وَهُوَ أَنَّ الوَاجِبَ هِيَ الخَمْسُ صَلَوَاتٍ فَقَطْ لَا غَيْرُ. وَالثَّانِي: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ أَنَّ الوِتْرَ وَاجِبٌ مَعَ الخَمْسِ

(3)

.

(1)

يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 195) قال: "الصلوات المفروضات ابتداء بالشرع خمس وهي: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء الآخرة، والصبح، فأما الجمعة فإنها بدل من الظهر ولها باب مفرد".

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 360 - 361) قال: "وبدأ بالمكتوبات اهتمامًا بها؛ إذ هي أفضل مما سواها فقال: "المكتوبات"، أي: المفروضات العينية من الصلاة في كل يوم وليلة خمس معلومة من الدين بالضرورة أما الجمعة فستأتي في بابها ولم تدخل في كلامه على أنها خمس في يومها

وأما قيام الليل فنسخ في حقنا وكذا في حقه صلى الله عليه وسلم على الأصح".

(3)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 91) قال: "أما عددها فالخمس، ثبت ذلك بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة

والأمة أجمعت على هذا من غير خلاف بينهم؛ ولهذا قال عامة الفقهاء: إن الوتر سنة لما أن كتاب الله، والسنن المتواترة والمشهورة ما أوجبت زيادة على خمس صلوات فالقول بفرضية الزيادة عليها بأخبار الآحاد يكون قولا بفرضية صلاة سادسة، وأنه خلاف الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة ولا يلزم هذا أبا حنيفة؛ لأنه لا يقول بفرضية الوتر وإنما يقول بوجوبه، والفرق بين الواجب والفرض كما بين السماء والأرض على ما عرف في موضعه".

ص: 948

القول الأول: هو قول جماهير العلماء؛ كمالك والشافعي وأحمد

(1)

وغيرهم، فيقولون: إن المفروض من الصلوات -التي هي فرض عين- هي الصلوات الخمس فقط، وَهي أحد أركان الإسلام، كما جاء في الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن عمر:"بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ"

(2)

، والكلام هنا على الصلوات التي في اليوم والليلة، وإلا فهناك صلوات كالجمعة فرض عين بالإجماع، لكنها ليست التي يقصدها المصنف المأمور بها في اليوم والليلة، وسيأتي الكلام عنها وعن مسائلها، كَهَلْ هي بدل عن الظهر، أو هي أصل مستقل بذاته؟!

(3)

.

والقول الثاني: هو قول أبي حنيفة؛ فرأى أن الصلوات الخمس فرض، كما يقول جماهير العلماء إلا أنه خالفهم، وأضاف إلى الصلوات الخمس المعروفة صلاة الوتر، ورأى وجوبها لا فرضيتها؛ فالحنفية -كما هو معلوم من دراسة أصولهم ومنهجهم- أنهم لا يرون أن وجوب الوتر بمنزلة وجوب الصلوات الخمس؛ لأنهم يفرقون بين الفرض وبين الواجب، والفرض عندهم آكد من الواجب

(4)

.

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 125) قال: "وتجب الصلاة الخمس في اليوم والليلة على كل مسلم ذكر أو أنثى أو خنثى، حر أو عبد أو مبعض مكلف، أي: بالغ عاقل غير حائض ونفساء فلا تجب عليهما".

(2)

أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16/ 19).

(3)

فيها خلاف بين أهل العلم، وسيأتي في موضعه.

(4)

يُنظر: "الفصول في الأصول" للجصاص (3/ 236) قال: "الفرض: فهو ما كان في أعلى مراتب الإيجاب. والواجب دون الفرض، ألا ترى أنا نقول: الوتر واجب، وليس بفرض، وصلاة العيد واجبة، وليست بفرض، وقال عليه السلام: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"، ولم يرد به الفرض، ولا يجوز لنا أن نقول: يدل على أنه فرض على كل محتلم، ويدل على أن معنى الفرض قد يخالف معنى الواجب: أنه قد يمتنع إطلاق الفرض فيما لا يمتنع فيه إطلاق الواجب؛ لأنا نطلق أنه يجب على الله تعالى من جهة الحكمة مجازاة المحسنين، ولا نقول إن ذلك فرض عليه".

ص: 949

ومن هنا وقع الخلاف بين الجمهور وأبي حنيفة

(1)

، وَكلُّ فريق له أدلته الصحيحة، إلا أنهم يختلفون في الاستدلال.

• وأما أدلة أصحاب القول الأول؛ فكثيرة منها:

حديث أنس وغيره: فعندما أُسرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك عُرِج به إلى السماء، والتقى بعدد من الأنبياء؛ فالتقى بآدم في السماء الدنيا ثم إدريس ثم بموسى وعيسى ثم بإبراهيم، ثم فرضت عليه الصلاة أول ما فرضت خمسين صلاة؛ ثم أخذ يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين موسى وبين ربِّه، يسأل ربَّه التخفيف ثم يعود لموسى، وفي كل مرة يقول له موسى عليه السلام:"إن أمتك لا تطيق ذلك" فيرجع إلى ربه إلى أن قلَّ عددها من خمسين صلاة إلى خمس صلوات؛ حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي"

(2)

.

وفي رواية: قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَبْتُ، وَلَكِنّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"

(3)

، وهذا نص على أن الواجب من الصلوات هي الصلوات الخمس المعروفة.

وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من حديث عبادة بن الصامت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ [فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ] كتَبَهُنَّ (أي: أوجبهن)

(1)

لا يقتصر التفريق بين الفرض والواجب على الحنفية، بل قال به بعض الحنابلة بناءً على روايات وردت عن الإمام أحمد بشأن العلاقة بين الواجب والفرض، فوردت أقوال مختلفة يفهم من بعضها التفريق بينهما، ويفهم من بعضها عدم التفريق. انظر:"العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى الفراء (2/ 376) وما بعدها، و"المسودة" لآل تيمية (ص 50) وما بعدها، و"الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل (3/ 163) وما بعدها.

(2)

أخرجه البخاري (349)، ومسلم (163/ 263).

(3)

أخرجه البخاري (3887).

ص: 950

اللَّهُ عَلَى العِبَادِ، مَنْ أَنَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ"

(1)

.

وفي حديث طلحة بن عبيد الله عندما قال: جَاءَ رَجُل -من الأعرابِ- إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّاسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، -يعني: يرفع صوته ولكنه بعيد يختلط بالهواء- حَتَّى دَنَا (أي: اقترب) مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَسْأَل عَنِ الإِسْلَامٍ (أي: يسأل ما الواجب عليَّ من دين الإسلام)، فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم:"خمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ" فَقَال: هَلْ عليَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَال: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ"، فَقَال: هَلْ عليَّ غَيْرُهُ؟ فَقَال: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، وَذَكَرَ لَهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عليَّ غَيْرُهَا؟ قَال: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"

(2)

.

والشاهدُ قوله: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ" وهو- والذي قبله من الشواهد- نصٌّ في المدَّعى، يدل على أن المفروض من الصلوات هي الصلوات الخمس؛ فهي خمس في عددها، وخمسون في أجرها.

* وأما أصحاب القول الثاني؛ فلهم أدلة منها:

عَنْ أَبِي بَصْرَةَ، قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل زَادَكمْ صَلَاةً فَصَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ العِشَاءِ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ الوَتْرُ الوَتْرُ"

(3)

.

وعن خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ، أَنَّهُ قَال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:

(1)

ليس الحديث في "الصحيحين" كما ذكر الشارح رحمه الله وإنما أخرجه أبو داود (1420) وغيره عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1276).

(2)

أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11/ 8).

(3)

أخرجه أحمد (27229) وغيره، وصححه الأرناؤوط.

ص: 951

"إِنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: الوِتْرُ، جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ العِشَاءِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ"

(1)

.

وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الوَتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا" قَالَهَا ثَلَاثًا

(2)

.

فهذه الأحاديث وغيرها يستدلُّ بها الحنفية على أن الوتر زِيدَ على الصلوات الخمس، وهذه الزيادة يختص بها الوتر، فدلَّ ذلك على أنَ الوتر واجبٌ.

* أما جمهور العلماء فيقولون: لا يلزم من الزيادة أن تدل على الوجوب، والزيادة لا تختص بها الواجبات؛ لأن الزيادة قد تكون في السنن، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ عز وجل زَادَكُمْ صَلَاةً إِلَى صَلَاتِكُمْ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، أَلَا وَهِيَ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الفَجْرِ"

(3)

، وهذا الحديث أصحُّ من الحديث الذي أورده الحنفية، فهذه زيادةٌ، ولم يقل أحد من العلماء ومنهم الحنفية: إن الركعتين قبل الفجر واجبتان، وإنما هي سنة مؤكدة أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن العشر أو الاثني عشر ركعة التي نبَّه عليها وعدَّها، فهذا دليل على أنه لا يلزم من الزيادة أن تكون في الواجبات.

وأيضًا قد تكلم العلماء عن هذه الأحاديث من حيث سندها؛ لكنها إذا اجتمعت ارتقت إلى الحسن؛ لكنها ليست دليلًا على الوجوب.

وقضية الوتر حق؛ فلا شكَّ في ذلك؛ لكن ليس معنى هذا أنه واجب.

(1)

أخرجه أبو داود (1418)، والترمذي (1418) واللفظ له، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (423) دون قوله:"هي خير لكم من حمر النعم".

(2)

أخرجه أبو داود (1419) وغيره، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(417).

(3)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 659) وجود إسناده الألباني في "الصحيحة"(1141).

ص: 952

وأيضًا مما يدلُّ على عدم وجوب الوتر أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى الوتر على الراحلة

(1)

من غير ضرورة، فيضاف هذا الدليل إلى الأدلة النقلية.

ولا شكَّ أن أدلة الجمهور صريحة الدلالة في أن الصلوات المفروضة خمس صلوات؛ فهي خمس في العدد، وخمسون في الأجر، في اليوم والليلة، وأنه لا يزاد عليها.

وأما الوتر فلا شكَّ أنه من السنن الثابتة المؤكدة التي حافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، ورغَّب فيها، وبيَّنها، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله مفصلًا في عدد ركعاته.

» قوله: (وَاخْتِلَافُهُمْ هَلْ يُسَمَّى مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاجِبًا أَوْ فَرْضًا لَا مَعْنَى لَهُ).

أي: لا معنى لاختلاف الحنفية في التفرقة بين الواجبات، مثل أن نفرق بين ما ثبت بالكتاب، وما ثبت بالسنة، فنقول: ما ثبت بالكتاب هو الفرض، وما ثبت بالسنة هو الواجب؛ فهذا لا معنى له كما يقول المؤلف.

» قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ الأَحَادِيثُ المُتَعَارِضَةُ).

أي: أن سبب اختلاف الحنفية هو التعارض بين الأحاديث، وهذا غير صحيح، فالأحاديمث التي استدلَّ بها الجمهور كما بينَّا أدلة قوية، ونصٌّ في المسألة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ"

(2)

، فلا لبس فيها ولا غموض، وأما الأحاديث التي استدلَّ بها الحنفية فغير صريحة في هذا، ولا تبلغ صحتها ولا وضوحها؛ فلا يوجد تعارض بينهما في الحقيقة.

لكن الحنفية قد فهموا من هذه الأدلة ما يدلُّ على الوجوب، وأن

(1)

أخرجه البخاري (1000) وغيره عن ابن عمر، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته، حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل، إلا الفرائض ويوتر على راحلته".

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 953

الوتر يزاد على الصلوات الخمس، وأن الزيادة لا مانع منها، ولذلك قالوا بها وأوجبوها

(1)

.

» قوله: (أَمَّا الأَحَادِيثُ الَّتِي مَفْهُومُهَا وُجُوبُ الخَمْسِ فَقَطْ بَلْ هِيَ نَصّ فِي ذَلِكَ، فَمَشْهُورَةٌ وَثَابِتَةٌ، وَمِنْ أَبْيَنِهَا فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الإِسْرَاءِ المَشْهُورِ:"أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ الفَرْضُ إِلَى خَمْسٍ قَالَ لَهُ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ"

(2)

.

حديث الإسراء طويل جدًا، وقد نمرُّ على بعض مقتطفاته، والكلام عليه مفسر في شروح الأحاديث.

وآخر ما ورد في الحديث في شأن الصلوات هي خمس، يعني: في عددها، وهي خمسون، يعني: في أجرها، ثم قال الله:"لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ"

(3)

، فاستقرَّت بذلك على خمس صلوات، يعني: في عددها.

أما عدد ركعاتها؛ ففي حديث عائشة الصحيح، أَنَّهَا قَالَتْ:"فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الحَضَرِ"

(4)

؟ فهذا لا يتعرض لعدد الصلوات وإنما لعدد الركعات، وسيأتي الكلام فيه أيضًا.

[مسألة] ولم نتعرض لكلام العلماء في أن صلاة الليل كانت في أول الأمر واجبة ثم نُسخت بعد ذلك في حقِّ هذه الأمة، وهل أيضًا بقيت في حقِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

(5)

.

(1)

تقدَّم ذكر توجيههم في هذا.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري (350)، ومسلم (1/ 685) واللفظ له.

(5)

قال ابن حجر في "فتح الباري"(3/ 3): "وقد أجمعوا إلا شذوذًا من القدماء على أن صلاة الليل ليست مفروضة على الأمة، واختلفوا في كونها من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ". وانظر: "الفتح" أيضًا (3/ 22) و"عمدة القاري" للعيني (7/ 165).

ص: 954

حديث عائشة يدلُّ على أنها نُسِخت نسخًا مطلقًا.

وقد فرضت الصلوات الخمس بمكة، وَالآيات المكية عنيت أكثر بأمور العقيدة في الغالب؛ لأن المجتمع الذي نشأ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمع مشرك فيه البدع والشركيات والخرافات وعبادة الأوثان والأشجار ما فيه، ولذلك جاء هذا الدين ليجتثَّ تلكم العقائد الفاسدة من نفوس أولئك المشركين.

[مسألة]: ومع هذا نزلت أيضًا بعض الأحكام بمكة، ومنها فرض الصلوات الخمس، هل كانت قبل الهجرة بسنوات أو بسنة؟! فيه خلاف بين العلماء، وربما يعرض له المؤلف ونعرض له

(1)

.

[مسألة]: هل فُرض الوضوء أيضًا في مكة أم في المدينة؟ هناك أدلة تدل على أن الوضوء شرع بمكة، وهناك كلام حول آية المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، وهذه السورة كما هو معلوم مدنية؛ فكيف يقال: إن الوضوء فُرِضَ؟! هل جاءت هذه الآية لتأكد فرضًا سابقًا، أو أن الوضوء كان معروفًا ومطلوبًا وإنما فُرِض؟ وهذه المسائل قد ذكرناها وحررنا الكلام فيها في باب الوضوء

(2)

.

(1)

يُنظر: "فتح الباري" لابن رجب (2/ 307) حيث قال: "وقد أجمع العلماء على أن الصلوات الخمس إنما فرضت ليلة الإسراء، واختلفوا في وقت الإسراء: فقيل: كان بعد البعثة بخمسة عشر شهرًا، وهذا القول بعيد جدًّا. وقيل: أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو أشهر. وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة. وقيل: قبلها بستة أشهر. وقيل: كان بعد البعثة بخمس سنين، ورجحه بعضهم، قال: لأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف إنها توفيت قبل الهجرة بمدة، قيل بثلاث سنين، وقيل: بخمس، وقد أجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 91) حيث قال: "قوله: ففائدة نزول الآية إلخ" جواب عما يقال إذا كان الوضوء فرض بمكة مع فرضية الصلاة وهو أيضًا شرع من قبلنا فقد ثبتت فرضيته فما فائدة نزول آية المائدة؟

(قوله: تقرير الحكم الثابت)، أي: تثبيته، فإنه لما لم يكن عبادة مستقلة بل تابعًا للصلاة احتمل أن لا تهتم الأمة بشأنه، وأن يتساهلوا في شرائطه وأركانه بطول=

ص: 955

» قوله: (وَحَدِيثُ الأَعْرَابِيِّ المَشْهُورُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ: هَلْ عليَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطوَّعَ"

(1)

.

فهذا الأعرابي كلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر قال: "هَلْ علي غَيْرُهَا؟ " فهو حريص على أن يعرف الحكم؛ لأنه يجهله؛ فجاء من بعيد منتثرًا شعره، رافعًا صوته، يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،-وكان ينبغي أن يخفضه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان بأشد الحاجة إلى أن يبين له الحكم؛ فلو كان هناك زيادة في الفروض؛ لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا المقام مقامُ بيانٍ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

(2)

.

والخلاصة: أن مذهب الجمهور واضح الدلالة، والمذهب الثاني ضعيف في هذه المسألة

(3)

.

= العهد عن زمن الوحي وانتقاص الناقلين يومًا فيومًا، بخلاف ما إذا ثبت بالنص المتواتر الباقي في كل زمان وعلى كل لسان.

مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 180) حيث قال: اختلف متى فرضت الطهارة للصلاة؟ فقال الجمهور: من أول الأمر حين فرضت الصلاة وأن جبريل نزل صبيحة الإسراء فهمز النبي صلى الله عليه وسلم بعقبه فتوضأ وعلمه الوضوء وقال ابن الجهم: كانت في أول الإسلام سنة ثم فرضت في آية التيمم. نقله الأبي في شرح مسلم عن القاضي عياض وكلام القاضي أتم فلينظر. مذهب أهل الظاهر، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (19811) حيث قال: ولم تنزل آية الوضوء إلا بالمدينة في سورة النساء، وفي سورة المائدة، ولم يأت قط أثر بأن الوضوء كان فرضًا بمكة، فإذ ذلك كذلك فالوضوء بالنبيذ كلا وضوء، فسقط التعلق به لو صح. ويُنظر:"فتح الباري" لابن حجر (1/ 232 - 233) حيث قال: وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، قال: وهذا مما لا يجهله عالم.

(1)

تقدَّم تخريجه قريبًا.

(2)

هذه من القواعد الأصولية، وقد تكلمنا عليها في أكثر من موضع.

(3)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة.

ص: 956

» قوله: (وَأَمَّا الأَحَادِيثُ الَّتِى مَفْهُومُهَا وُجُوبُ الوِتْرِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:"إِنَّ اللَّهَ قَدْ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الوِتْرُ، فَحَافِظُوا عَلَيْهَا"

(1)

، وَحَدِيثُ حَارِثَةَ بْنِ حُذَافَةَ قَالَ:"خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مَنْ حُمُرِ النَّعَمِ وَهِيَ الوِتْرُ"، وَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ العِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ

(2)

، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا"

(3)

.

سبق الكلام على هذه الأدلة، وقلنا إن حديث:"إِنَّ اللَّهَ قَدْ زَادَكمْ صَلَاةً" تكلم فيه العلماء؛ لكن بعضهم جمع له شواهدَ، وقالوا: إنه صالح للاحتجاج به؛ وهو كذلك صالح؛ لكنه لا يصلح للاحتجاج به في إضافة صلاة الوتر إلى الصلوات الخمس

(4)

.

و"النَّعم"

(5)

: هي الإبل، وكان لها شأن عظيم، وأحسنها ذات الحمرة، ولذا كان يضرب بها المثلُ عند العرب، ويقولون: "خَيْرٌ لَكُمْ مَنْ

(1)

أخرجه أحمد (6919) وغيره، وحسنه الأرناؤوط.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 271) حيث قال: "والاستدلال به من وجهين: أحدهما أنه أمر بها ومطلق الأمر للوجوب، والثاني: أنه سماها زيادة والزيادة على الشيء لا تتصور إلا من جنسه، فأما إذا كان غيره فإنه يكون قِرَانًا لا زيادة، ولأن الزيادة إنما تتصور على المقدر وهو الفرض، فأما النفل فليس بمقدر فلا تتحقق الزيادة عليه، ولا يقال: إنها زيادة على الفرض لكن في الفعل لا في الوجوب؛ لأنهم كانوا يفعلونها قبل ذلك ألا ترى أنه قال: ألا وهي الوتر؟ ذكرها معرفة بحرف التعريف، ومثل هذا التعريف لا يحصل إلا بالعهد ولذا لم يستفسروها".

(5)

"النعم": واحد الأنعام، وهي البهائم، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والإبل الحمر أعز أموال العرب، فأخبر أنها خير من الأموال النفيسة. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 11).

ص: 957

حُمُرِ النَّعَم"، ولذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يضرب المثل بها كثيرًا، منها لما أرسل عليَّ بن أبي طالب إلى خيبر، وقال له صلى الله عليه وسلم: "فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"

(1)

.

[استدراك على الأدلة]، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في النكاح أنه من سنته، وأنه قال بعد ذكره ذلك:"فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"

(2)

، أي: من أعرض عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سنَّة غيره وتركها وعمل بغيرها؛ فليس على طريقتي.

وشتَّانَ بين إنسان يرد أمرًا من أمور هذه الشريعة واجبًا كان أو غير واجب، وبين إنسان لا يرد ذلك الأمر لكنه لا يرى وجوبه.

فمثلًا: يجري على النكاح الأحكام التكلفية؛ فالأصل في النكاح: أنه سنة

(3)

، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه من سنَّته، وقال: "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ

(1)

أخرجه البخاري (3701)، ومسلم (2406/ 34) عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لأعطين الراية كدًا رجلًا يفتح الله على يديه"، قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال:"أين علي بن أبي طالب". فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال:"فأرسلوا إليه فأتوني به". فلما جاء بصق في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال:"انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم".

(2)

أخرجه البخاري (063) ومسلم (401/ 5) عن أنس بن مالك، يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (3/ 7) قال: "ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينًا وولدًا حال=

ص: 958

الوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ"

(1)

.

لكن قد يجب النكاح -مثلًا- إذا خشي الإنسان العنت، وغلب على ظنه أنه سيقع في محرم

(2)

، وقد يحرم عليه النكاح -مثلًا- إذا تزوج امرأة

= الاعتدال، أي: القدرة على وطء ومهر ونفقة ورجح في النهر وجوبه للمواظبهَ عليه والإنكار على من رغب عنه ".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (2/ 215) قال: "والأصل فيه الندب؛ فلذا اقتصر عليه المصنف بقوله: (ندب لمحتاج)، أي: لراغب في الوطء أو فيمن يقوم بشأنه في حاله ومنزله رجا نسلًا أو لا أو غير راغب ورجا النسل؛ لأنه محتاج حكمًا ذي أهبة، أي: قدرة على صداق ونفقة نكاح بكر بل البكر مندوب مستقل فالأولى وبكر بالعطف".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 183) قال: "النكاح بمعنى التزوج مستحب لمحتاج إليه، أي: تائق له بتوقانه للوطء ولو خصيًّا يجد أهبته من مهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه، وإن اشتغل بالعبادة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 621 - 622) قال: "وسن النكاح لذي شهوة لا يخاف زنا من رجل وامرأة".

(1)

أخرجه أبو داود (2050) وغيره عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟، قال:"لا"، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال:"تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"، وصححه الألباني في "الصحيحة"(5/ 498).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (6/ 3) قال: "ويكون واجبًا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض نهاية وهذا إن ملك المهر والنفقة، وإلا فلا إثم بتركه بدائع".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (2/ 214) قال: "وتعتريه الأحكام الخمسة؛ لأن الشخص إما أن يكون له فيه رغبة أو لا فالراغب إن خشي على نفسه الزنا وجب عليه، وإن أدى إلى الإنفاق عليها من حرام".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 184) قال: "ووجه أنه واجب على من خاف زنا قيل مطلقًا؛ لأن الإحصان لا يوجد إلا به وقيل إن لم يرد التسري نعم حيث ندب لوجود الحاجة والأهبة وجب بالنذر على المعتمد الذي صرح به ابن الرفعة وغيره كما بينته في شرح العباب".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 622) قال: "ويجب النكاح بنذر وعلى من يخاف بتركه زنا وقدر على نكاح حرة، ولو كان خوفه ذلك ظنًا من رجل وامرأة؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام وطريقه النكاح".

ص: 959

ليلحق ضررًا بها، وكان غرضه من هذا النكاح هو إلحاق الضرر بغيره

(1)

.

وقد يكون النكاح سنة مؤكدة

(2)

، وقد يكون مباحًا

(3)

، ومع ذلك

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(3/ 7) قال: "قوله: (ومكروهًا)، أي: تحريمًا بحر (قوله: فإن تيقنه)، أي: تيقن الجور حرم؛ لأن النكاح إنما شرع لمصلحة تحصين النفس، وتحصيل الثواب، وبالجور يأثم ويرتكب المحرمات فتنعدم المصالح لرجحان هذه المفاسد بحر وترك الشارح قسمًا سادسًا ذكره في "البحر عن المجتبى" وهو الإباحة إن خاف العجز عن الإيفاء بموجبه. اهـ. أي: خوفًا غير راجح، وإلا كان مكروهًا تحريمًا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(2/ 215) قال: " (قوله: إلا أن يؤدي إلى حرام) كأن يضر بالمرأة لعدم قدرته على الوطء أو لعدم النفقة أو التكسب من حرام أو تأخير الصلاة عن أوقاتها لاشتغاله بتحصيل نفقتها".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"حاشية الشرواني على تحفة المحتاج"(7/ 186) قال: " (قوله: أي يتق) إلى قوله: بل بحث في النهاية وإلى قوله وعليه فيفرق في المغني (قوله وسيذكر إلخ) عبارة المغني تنبيه محل الكراهة فيمن يصح نكاحه مع عدم الحاجة، أما من لا يصح مع عدم الحاجة كالسفيه فإنه يحرم عليه النكاح حينئذ قاله البلقيني".

(2)

وهو قول الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (3/ 7) قال: "ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينًا وولدًا حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة ورجح في النهر وجوبه للمواظبة عليه والإنكار على من رغب عنه".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(3/ 7) قال: "والظاهر أنه إذا لم يقصد إقامة السنة بل قصد مجرد التوصل إلى قضاء الشهوة ولم يخف شيئًا لم يثب عليه إذ لا ثواب إلا بالنية فيكون مباحًا أيضًا كالوطء لقضاء الشهوة".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (2/ 215) قال: "والا أبيح إلا أن يرجو نسلًا أو ينوي خيرًا من نفقة على فقيرة أو صون لها فيندب ما لم يؤد إلى محرم".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (7/ 186) قال: "والا يفقد الأهبة مع عدم حاجته له فلا يكره له لقدرته عليه ومقاصده لا تنحصر في الوطء بل بحث جمع ندبه لحاجة صلة وتآنس وخدمة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 622) قال: "ويباح النكاح لمن لا شهوة له أصلًا كعنين أو ذهبت شهوته لعارض كمرض وكبر. لأن المقصود من النكاح التحصين والولد وكثرة النسل، وهو غير موجود فيه فلا ينصرف الخطاب به إليه إلا أن يكون مباحًا في حقه كسائر المباحات لعدم منع الشرع منه".

ص: 960

يقول: "فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"

(1)

، فليس قوله:"ليس منا" توجب النكاح، كما لا توجب الوتر مع الصلوات الخمس المفروضة.

» قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الزِّيَادَةَ هِيَ نَسْخٌ وَلَمْ تَقْوَ عِنْدَهُ هَذِهِ الأَحَادِيثُ قُوَّةً تَبْلُغُ بِهَا أَنْ تَكُونَ نَاسِخَةً لِتِلْكَ الأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ المَشْهُورَةِ - رَجَّحَ تِلْكَ الأَحَادِيثَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ثَبَتَ مِنْ قَوْله تَعَالَى فِي حَدِيثِ الإِسْرَاءِ "إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ"

(2)

، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا تُزَادُ فِيهَا، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وإِنْ كانَ هُوَ فِي النُّقْصَانِ أَظْهَرَ، وَالخَبَرُ لَيْسَ يَدْخُلُهُ النَّسْخُ. وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ قُوَّةُ هَذِهِ الأَخْبَارِ الَّتِى اقْتَضَتِ الزِّيَادَةَ عَلَى الخَمْسِ إِلَى رُتْبَةٍ تُوجِبُ العَمَلَ أَوْجَبَ المَصِيرَ إِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كانَ مِمَّنْ يَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تُوجِبُ نَسْخًا، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ).

مراد المؤلف أنه لا يُزاد في الصلوات ولا يُنقص؛ لكنه في النقصان أظهر، وليس معنى هذا أن المؤلف يقول بمذهب الحنفية؛ لكنه يقصد أمر الزيادة أو النقصان قد انُتِهِيَ منه؛ كما قال الله:"قَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ"

(3)

، وفي بعض الرواياتِ:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29]

(4)

كما هو لفظها في الآية.

» قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ، فَعَلَى المُسْلِمِ البالغِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ

(5)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(1/ 351 - 352) قال: " (قوله: على كل مكلف)، أي: بعينه؛ ولذا سمي فرض عين، بخلاف فرض الكفاية فإنه يجب على جملة المكلفين كفاية، بمعنى: أنه لو قام به بعضهم كفى عن الباقين وإلا أثموا كلهم. ثم المكلف هو المسلم البالغ العاقل ولو أنثى أو عبدًا". =

ص: 961

بدأ المؤلف يتكلم في موجبات الصلاة، فهذه الصلوات الخمس فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل، فأضفنا العاقل إلى كلام المصنف.

فقولنا: "مسلم" يخرج الكافر.

وهنا مسألة؛ وإذا يدرج الفقهاء والأصوليون الإسلام في موجبات الصلاة؟!

الجواب: لأن العلماء الأصوليين يختلفون في مسألة مخاطبة الكفار بفروع الشريعة

(1)

:

فبعضهم يقول: الكفار مخاطَبون بفروع الشريعة.

وبعضهم يقول: غَيْرُ مخاطَبِينَ بفروع الشريعة.

وبعضهم: يخص ذلك بالنواهي دون الأوامر.

وغيرها من الأقوال، ففي هذه المسألة سبعة أقوال ليس هذا محل تفصيلها" وقد ذكر المؤلف أن هذه المسألة قليلة الغناء في الفقه.

أما مراد الأصوليين بقولهم: "الكفار مخاطبون بفروع الشريعة"، أي: أنهم يعذبون عليها بالإضافة إلى تعذيبهم على كُفرهم

(2)

.

= ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 200) قال: "شروط الوجوب اثنان البلوغ وعدم الإكراه كذا قيل وفيه نظر؛ إذ الإكراه لا يمنع من أدائها؛ لأنه يجب أن يؤديها ولو بالنية بأن يجريها على قلبه".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 312) قال: "إنما تجب الصلاة على كل مسلم ذكر أو أنثى، فلا تجب على كافر أصلي وجوب مطالبة بها في الدنيا لعدم صحتها منه، لكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة لتمكنه من فعلها بالإسلام بالغ كذلك، فلا تجب على صغير لعدم تكليفه عاقل كذلك".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 125) قال: "وتجب الصلاة الخمس في اليوم والليلة على كل مسلم ذكر أو أنثى أو خنثى، حر أو عبد أو مبعض مكلف، أي: بالغ عاقل غير حائض ونفساء فلا تجب عليهما".

(1)

تكلمنا على هذه القاعدة الأصولية قريبًا.

(2)

يُنظر: "الورقات" للجويني (ص 14) وما بعدها، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي (1/ 205) وما بعدها. =

ص: 962

ويستدلون بقول الله-سبحانه وتعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر: 42 - 47].

ووجه الاستدلال في الآية الكريمة: أن العذاب حُقَّ عليهم بترك الصلاة وإطعام المساكين والخوض في الباطل وفيما يكرهه الله مع مَن يخوض فيه.

فأخبر الله عنهم أنه عاقبهم على تركهم الصلاة والإطعام والخوض في الباطل، -وهي فروع من الشريعة- عن الأصل في الشريعة، وهو التوحيد؛ فيعذبون على الكفر والشرك، وهو الأصل، وعلى تركهم الصلاة والزكاة ونحوها مما هو فرع عن هذا الأصل مما خوطب به أهل الإسلام.

• مسألة: هل يطالب الكافر إذا أسلم بما فاته من الصلوات؟

الجواب: الكافر على نوعين:

1 -

كافر أصلي: وهو الذي لم يسلم أصلًا ثم أسلم.

2 -

كافر مرتد: وهو الذي أسلم وذاق حلاوة الإيمان؛ ثم ارتدَّ بعد ذلك وكفر.

أما الكافر الأصلي: فلا خلاف بين العلماء أنه لا يُطالَبُ بقضاء ما فاته بعد بلوغه من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك من الأحكام الواجبة، ويُقَرُّ على نكاحهم السابق، وأجمعوا على ذلك

(1)

.

= ومراد الأصوليون في أنهم مخاطبون بفروع الإسلام: هي كثرة عقابهم في الآخرة، لا أنهم مطالبون بفعلها في الدنيا.

يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 121) قال: "فالكافر الأصلي مخاطب بها -أي: الصلاة -خطاب عقاب عليها في الآخرة، لتمكنه من فعلها بالإسلام، لا خطاب مطالبة بها في الدنيا لعدم صحتها منه". وانظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (1/ 503).

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين على الدر المختار"(2/ 75) قال: "الكافر الأصلي إذا أسلم لا يلزمه قضاء ما فاته زمن كفره لعدم خطاب الكفار بالشرائع عندنا كما في "فتح القدير"، بل يلزمه ما أدرك وقته بعد الإسلام، والحج وقته باق=

ص: 963

قال العلماء: لأن مطالبتهم بذلك تنفير للناس عن الدخول في الإسلام، والله-سببحانه وتعالي- يقول:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وهذا ترغيب من الله سبحانه وتعالى ودعوة لهم للإيمان به، ليغفر لهم ما قد سلف، وهؤلاء قد سلفت منهم أمور.

• مسألة:

ما القول في الكفار الأصليين الذي يعملون أعمالًا صالحة كالصدقة، وصلة الرحم، وعتق الرقاب، ومناصرة المسلمين، والقتال معهم، حال كفرهم؟! فهل يثابون على هذه الأعمال في الآخرة إذا أسلموا وحَسُنَ إسلامهم؟!

(1)

.

= فتلزمه كما يلزمه أداء صلاة أسلم في وقتها فكذا المرتد (قوله ولذا)، أي: لكونه كالكافر الأصلي (قوله: لأنه حبط)، أي: بطل والأحسن عطفه بالواو على قوله ولذا، ليكون علة ثانية للزوم الإعادة تأمل".

ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 470) قال: "وإذا أسلم الكافر والمرتد لم يجب عليهما قضاء ما خرج وقته من الصلوات في حال الكفر ويجب عليهما أن يصليا ما أسلما في وقته".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 389) قال: ""ولا قضاء على الكافر إذا أسلم كغيرها من العبادات ترغيبا له في الإسلام".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 223) قال: "ولا تجب الخمس على كافر أصلي؛ لأنها لو وجبت عليه حال كفره لوجب عليه قضاؤها؛ لأن وجوب الأداء يقتضي وجوب القضاء واللازم منتف، بمعنى: أنا لا نأمره، أي: الكافر بها، أي: بالصلاة في كفره، ولا بقضائها إذا أسلم؛ لأنه أسلم خلق كثير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده فلم يؤمر أحد بقضاء، لما فيه من التنفير عن الإسلام".

(1)

يقول الزركشي في "البحر المحيط"(2/ 148): "وقال ابن عطية: لا خلاف أن للكافر حفظة يكتبون سيئاته، واختلف في حسناته. فقيل: ملغاة يثاب عليها بنعم الدنيا فقط، وقيل: محصاة من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أنه يسلم فيضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحد التأويلين في قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير". وقيل: المعنى على إسقاط ما سلف من خير؛ إذ جوزيت بنعيم دنياك.

وقال غيره في معنى هذا الحديث: يحتمل أن يكون تركه ما سبق لك من خير، والصحيح: الأول". ويُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 254).

ص: 964

الجواب: يرى أكثر العلماء أنهم يجازون على ذلك، وَيثابون عليه

(1)

، ويستدلون على ذلك بأدلة منها: ما روي عَنْ حَكِيم بْنِ حِزَامِ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: أَيْ رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ (أي: أتعبدً) بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمِ، أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ"

(2)

.

لكن إذا كان يصلي ويزكي ويصوم ويفعل الصالحات ثم مات على كفره؛ فكل هذا لا ينفعه ولا يؤجر عليه؛ كما قال الله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].

وَأما الكافر المرتد: الذي يعود للإسلام مرة أُخرى؛ فالعلماء

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (4/ 468) قال: "ليس للإنسان الكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير ألبتة، ذكره الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي".

ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (17/ 251) قال: "قول مالك هذا في أن الكافر لا يثاب إذا أسلم بما عمله من الخير في حال كفره، صحيح

وما روي "عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت أمورًا كنت أتحدث بها في الجاهلية، من صدقة وعتاقة وصلة رحم، هل لي فيها من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير" يحمل على أن ذلك الخير هو الخير الذي يناله في دنياه من المحمدة والشكر والثناء وينتفع به ولده من بعده. فيحظى عند الناس من أجله".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (43) قال: "أما إذا فعل الكافر الأصلي قربة لا يشترط النية لصحتها كالصدقة والضيافة وصلة الرحم والإعتاق والقرض والعارية والمنحة وأشباه ذلك، فإن مات على كفره فلا ثواب له عليها في الآخرة، لكن يطعم بها في الدنيا ويوسع في رزقه وعيشه، وإن أسلم فالصواب المختار أنه يثاب عليها في الآخرة للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له بكل حسنة كان زلفها"، أي: قدمها ومعنى حسن إسلامه، أي: أسلم إسلامًا محققًّا لا نفاق فيه".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 148) قال: "بالكافر أي: ليس له من الخير إلا جزاء سعيه، يوفاه في الدنيا وماله في الآخرة من نصيب".

(2)

أخرجه البخاري (1436)، ومسلم (23/ 194).

ص: 965

مختلفون في مطالبته بقضاء ما فاته من صلوات وواجبات حال ردَّته وكفره، على قولين:

الأول: أنه يطالب بالقضاء، وهو قول الأكثرين؛ لأنه يختلف عن الكافر الأصلي، فقد دخل الإسلام وخالط المسلمين، لكن لم يخالط الإيمان بشاشة قلبه؛ فخرج وارتد عن الإسلام، فينبغي أن يعاقب، وأن يطالب بقضاء تلك الصلوات

(1)

.

الثاني: أنه لا يطالب بالقضاء، وأنه لا يختلف حاله عن الكافر الأصلي، لأن القصد أن يرد إلى ربقة الإسلام ويعود إليه، فربما لو طُولب بما فاته من واجبات؛ لظلَّ على ردته

(2)

.

(1)

وهو مذهب الشافعية والحنابلة:

فللشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 312) قال: "إلا المرتد فيلزمه قضاؤها بعد إسلامه تغليظًا عليه، ولأنه التزمها بالإسلام فلا تسقط عنه بالجحود كحق الآدمي، ولو ارتدَّ ثم جُنَّ قضى أيام الجنون مع ما قبلها تغليظًا عليه

ولو سكر متعديًا ثم جُنَّ قضى المدة التي ينتهي إليها سكره لا مدة جنونه بعدها، بخلاف مدة جنون المرتد؛ لأن مَن جُنَّ في ردته مرتد في جنونه حكمًا، ومن جُنَّ في سكره ليس سكران في دوام جنونه".

وللحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 223) قال: "ولا تجب الخمس على مرتد زمن ردته كالكافر الأصلي، ولا تصح الصلاة منه لفقد شرطها وهو الإسلام، ويقضي المرتد إذا عاد إلى الإسلام ما فاته قبل ردته؛ لاستقراره في ذمته، ولا يقضي ما فاته زمنها، أي: زمن ردته لعدم وجوبه عليه كالأصلي".

(2)

وهو مذهب الحنفية والمالكية:

فللحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية ابن عابدين (2/ 75) قال: "كما لا يقضي مرتد ما فاته زمنها، ولا ما قبلها إلا الحج؛ لأنه بالردة يصير كالكافر الأصلي، ولذا يلزم بإعادة فرض أداه ثم ارتد عقبه وتاب، أي: أسلم في الوقت؛ لأنه حبط بالردة".

وللمالكية، يُنظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 273) قال: "إذا أسلم المرتد لم يلزمه قضاء ما ترك من الصلاة والصوم في حال ردته

ولأنها حال كفر فلم يقض ما ترك فيها من الصلاة كالكفر الأصلي، ولأن كل معنى أثر في سقوط قضاء الفوائت فإنه إذا زال ثم عاد، فإن زواله ثانية يسقط=

ص: 966

ومن الأدلة للقول الثاني: أنه ارتدَّ أناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي زمن أبي بكر رضي الله عنه ثم عادوا إلى الإسلام، ولم يطالبوا بما فاتهم حال ردتهم من صلاة أو زكاة أو صيام ونحوها، ولا توجد أدلة صريحة تدلُّ على ذلك.

وبقولنا: "بالغ" يخرج الصبي؛ فإن الصبي يؤمر بالصلاة لكنها لا تجب عليه، لأن إلزامه بها معارضة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث علي وعائشة رضي الله عنها:"رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبرَ، وَعَنِ المَجْنُون حَتَّى يَعْقِلَ، أَوْ يُفِيقَ"

(1)

.

وقال العلماء: إن إيجاب الصلاة على الصغير تكليف، والرسول صلى الله عليه وسلم قد رفع التكليف عنه؛ فلا تجب عليه.

والصبية بمنزلة الصبي، لأنه يُتَكَلَّمُ عادة عن الصبي، وتدخل الصبية تبعًا، أو يتكلم عن الرجال ويدخل النساء تبعًا في كثير من الأحكام، وليس في كلِّ الأحكام، فهناك أحكام تنفرد بها النساء عن الرجال معروفة مبسوطة في علم الفقه.

وبقولنا: "عاقل" يخرج المجنون، فلا تجب الصلاة عليه حتى يعقل، وليس هذا على الإطلاق، فالمسألة فيها تفصيل.

مثلًا:

- لو أن إنسانًا شرب دواءً فغاب عن عقله؛ هل تلزمه الصلاة؟

(2)

.

= قضاء الفوائت معه، أصله الحيض، وهذا يتصور فيمن كان كافرًا ثم أسلم ثم أرتد ثم أسلم، ولأنه معنى يؤئر في سقوط الفوائت، فلم يفترق فيه حكم الطارئ والأصلي كالجنون".

(1)

أخرجه النسائى (3432) وغيره عن عائشة، وأخرجه أبو داود (4399) وغيره عن علي. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(297).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (2/ 650) قال: "وفي "البدائع": إذا زال عقله بالمرض حتى فاتته ست صلوات لا يجب عليه القضاء، وإن كان أقل من ذلك يجب عليه القضاء". =

ص: 967

- أو أن إنسانًا أُغمي عليه هل تجب عليه الصلوات التي فاتته في حال إغمائه؟

(1)

.

= ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 469) قال: "شروط الصلاة وهي على ثلاثة أقسام شرط في الوجوب والصحة وشرط في الوجوب فقط وشرط في الصحة فقط فأما شروط الوجوب والصحة فستة

(الثالث) العقل فلا تجب على مجنون ولا مغمى عليه. إلا إن أفاق في بقية من الوقت وإن خرج الوقت قبل إفاقتهما فلا قضاء عليهما بخلاف السكران فعليه القضاء؛ لأنه عاصٍ بإدخاله ذلك على عقله ولا تصح صلاة المجنون ولا السكران. إن كان عقله غائبًا".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 314) قال: "فورد النص في المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسبب يعذر فيه، وسواء قل زمن ذلك أو طال".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 125 - 126) قال: "أو كان مغطى عقله بشرب دواء فيقضي كالمغمى عليه، وأولى أو كان مغطى عقله بشرب محرم اختيارًا؛ لأنه معصية، فلا يناسبها إسقاط الواجب، أو كرها، إلحاقًا له بما تقدم".

(1)

ومذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين"(2/ 102) قال: "ومَن جُنَّ أو أغمي عليه ولو بفزع من سبع أو آدمي يومًا وليلة قضى الخمس، وإن زاد وقت صلاة سادسة لا للحرج، ولو أفاق في المدة، فإن لإفاقته وقت معلوم قضى وإلا لا زال عقله ببنج أو خمر أو دواء لزمه القضاء، وإن طالت؛ لأنه بصنع العباد كالنوم".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي"(1/ 364) قال: "ويجب على المكلف قضاء: أي فعل واستدراك ما فاته منها، أي: الصلاة بخروج وقته لغير جنون أو إغماء أو كفر أو حيض أو نفاس، أو لفقد الطهرين بل لتركها عمدًا، أو لنوم، أو لسهو، وكذا لو فعلها باطلة لفقد ركن أو شرط".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 314) قال: "ولا قضاء على شخص

ذي جنون أو إغماء إذا أفاق، ومثلهما المبرسم والمعتوه والسكران بلا تعد في الجميع".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 290) قال: "والمغمى عليه يقضي جميع الصلوات التي كانت في حال إغمائه، وجملة ذلك أن المغمى عليه حكمه حكم النائم، لا يسقط عنه قضاء شيء من الواجبات التي يجب قضاؤها على النائم؛ كالصلاة والصيام".

ص: 968

- وَهل هناك فرق بين مَن جُنَّ جنونًا طويلًا أو قصيرًا؟

(1)

.

- وَهل هناك فرق بين من أُغمِيَ عليه إغماءً يسيرًا لا يتجاوز خمس صلوات في يوم وليلة، وإغماءً طويلًا؟

(2)

.

فهذه مسائل فيها خلاف بين العلماء

(3)

.

والدليل على اشتراط العقل قوله: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: .. وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ"

(4)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 86) قال: "وسواء كانت الفوائت كثيرة أو قليلة فلا قضاء على مجنون حالة جنونه ما فاته في حالة عقله كما لا قضاء عليه في حالة عقله لما فاته حالة جنونه".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (1/ 364) قال: "ويجب على المكلف قضاء، أي: فعل واستدراك ما فاته منها، أي: الصلاة بخروج وقته لغير جنون أو إغماء أو كفر أو حيض أو نفاس، أو لفقد الطهرين بل لتركها عمدًا، أو لنوم، أو لسهو، وكذا لو فعلها باطلة لفقد ركن أو شرط".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 38) قال: "زوال العقل إذا لم يلزم معه قضاء المتروك في المدة الطويلة لم يلزم معه قضاء المتروك في المدة القصيرة كالجنون طردًا، والسكر عكسًا، ولأن كل صلاة لو مضى عليها وقتها في الجنون لم يقض فإذا مضى عليه وقتها في الإغماء لم يقض قياسًا على ما زاد على اليوم والليلة طردًا، وكوقت الظهر عكسًا، ولأن كل معنى يسقط معه أداء الصلاة يسقط معه قضاء الصلاة، كالصغر".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغنى" لابن قدامة (1/ 290) قال: "والمجنون غير مكلف، ولا يلزمه قضاء ما ترك في حال جنونه، إلا أن يفيق وقت الصلاة، فيصير كالصبي يبلغ. ولا نعلم في ذلك خلافًا".

(2)

مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإرشاد إلى سبيل الرشاد" لأبي علي الهاشمي (ص 82) قال: "والإغماء لا يُسقط الصلاة، وعلى المغمى عليه قضاءُ جميع الصلوات التي تفوته في حال إغمائه، قلت: أو كثرت

فأما المجنون فلا يقضي ما فاته في حال زوال عقله في الصحيح من المذهب".

(3)

هذه المسائل فيها تداخل واختلاف بين أهل العلم كما مر.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 969

» قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا مَا الوَاجِبُ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا عَمْدًا، وَأُمِرَ بِهَا فَأَبَى أَنْ يُصَلِّيَهَا لَا جُحُودًا لِفَرْضِهَا

(1)

؟ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يُقْتَلُ

(2)

، وَقَوْمًا قَالُوا: يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ

(3)

.

ترك الصلاة عمدًا من أخطر الأمور على الإطلاق في حياة المسلم، وهي من أجلِّ الأمور التي يطمئن بها نفس المؤمن، ويرتاح بها فؤاده، ويستقرّ فكره.

وكثيرًا ما نجد عددًا من المسلمين -لا سيما- في أول شبابهم يتساهلون في أمر الصلاة، فيقطعونها، وقد يصلي بعضهم لكنهم يتساهلون في أمر صلاة الجماعة.

وأرجو أن يغتنم الشباب هذه الفرصة التي أرشد إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ويكونوا من السبعة الذين يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ؛ فمنهم:"وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ"، ومنهم "وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسْحِدِ"

(4)

.

(1)

للعلماء تفصيل في هذه المسألة.

(2)

وهو قول جمهور العلماء؛ المالكية، والشافعية، والحنابلة:

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (1/ 238) قال: "وتاركها، أي: الصلاة اختيارًا بلا عذر

ويقتل بالسيف حدا لا كفرًا خلافًا لابن حبيب".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (3/ 84 - 87) قال: "أو تركها كسلًا مع اعتقاده وجوبها قتل".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 228) قال: "فإن تركها تهاونًا وكسلًا لا جحودًا دعاه إمام أو نائبه إلى فعلها

فإن أبى أن يصليها حتى تضايق وقت التي بعدها

وجب قتله".

(3)

وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين"(1/ 352) قال: "وتاركها عمدًا مجانة، أي: تكاسلًا فاسق يحبس حتى يصلي؛ لأنه يحبس لحق العبد فحق الحق أحق، وقيل: يضرب حتى يسيل منه الدم".

(4)

هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031/ 91) عن أبي هريرة.

ص: 970

والمسلمون الأوائل كان أول عمل يقومون به عندما يفتتحون بلدًا أو ينزلون مصرًا من الأمصار هو بناؤهم المسجد؛ ليقيموا فيه الصلاة، وليعلوا فيه ذكر الله سبحانه وتعالى؛ " كما قال في تنزيله:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36 - 40].

فما أُقِيمت هذه المساجد، وشُيِّدت هذه الجوامع إلا ليجتمع المسلمين فيها لذكر الله، ولصلاة الجماعة -التي يستهين بها بعض الناس- وتعلم العلم النافع، وسيأتي الكلام بتوسع عن صلاة الجماعة وعن خطورة المتخلفين عنها في موضعه.

والمؤلف في هذه المسألة لم يتعرض لتارك الصلاة الجاحد وجوبَها؛ لأن الذي جحد وجوبها محل إجماع على كفره، وليس فيه خلاف، لكنه ذكر تارك الصلاة الذي يتركها تهاونًا أو تساهلًا، ولا يجحد وجوبها.

فتارك الصلاة على نوعين:

1 -

إما أن يكون منكرًا لوجوبها -والعياذ بالله- فهذا أمره خطير، وشأنه كبير؛ فقد دلَّت النصوص على أنه في زمرة المرتدين؛ بل في مقدمتهم، ولا شكَّ أنه كفر بهذا، وارتد عن الإسلام، ويجب أن يستتاب من اعتقاده هذا، فإن تاب تاب الله عليه، وإن لم يتب وجحد قُتِل بأمر الإمام، وإن مات على كفره هذا، فلا يُصلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورَث؛ لأنه كافر بإجماع المسلمين

(1)

.

(1)

هذا محل إجماع بين أهل العلم:

فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين"(1/ 352) قال: "ويكفر جاحدها؛ لثبوتها بدليل قطعي".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 191) قال: "والتارك الجاحد لوجوبها أو ركوعها أو سجودها كافر مرتد اتفاقًا يستتاب ثلاثًا فإن تاب وإلا قتل كفرًا وماله فيء؛ كجاحد كل معلوم من الدين بالضرورة".=

ص: 971

2 -

وإما أن يكون غير منكر لوجوبها، لكن يتركها كسلًا وتهاونًا، كإنسان لا يصلي، ويقول: أنا أعلم أن الصلاة واجبة، وأنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأعلم أني مقصر بتركها؛ لكني لا أستطيع المحافظة عليها!!

(1)

.

ولا يوجد مانع ألبتة يمنعه من الصلاة؛ فليس عاجزًا على أن يصلي قائمًا؛ فيصلي قاعدًا وليس عاجزًا أن يصلي قاعدًا فيصلي على جنب؛ لكنه مفرط.

ويعلم ما ورد في شأنها أحاديث كثيرة تدلُّ على كفر مَن تركها وقتاله؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ العُقَيْلِيِّ، قَالَ:"كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ"

(2)

، و"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا قَوْمًا، لَمْ يَغْزُ بِنَا لَيْلًا حَتَّى يُصْبحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ"

(3)

.

ولذلك يقول بعض العلماء: هذا الصنف لا يوجد أصلًا؛ يقال له: صَلِّ، ويُهدد إن لم يصلِّ يقتل، ثم يعاند ويترك الصلاة؟ فيقتل!!

واختلف العلماء في حكمه

(4)

:

فمنهم من قال: يقتل، واختلفوا: هل يقتل كفرًا، أم يُقتل حدًّا!

= ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 428) قال: "إن ترك المكلف الصلاة المعهودة شرعًا الصادقة بإحدى الخمس جاحدًا وجوبها بأن أنكره بعد علمه به كفر بالجحد فقط لا به مع الترك".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 227) قال: "ومن جحد وجوبها، أي: وجوب صلاة من الخمس كفر".

(1)

هذا محل تفصيل بين أهل العلم وسيذكره المصنف بعد.

(2)

أخرجه الترمذي (2622) وغيره، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(579).

(3)

أخرجه البخاري (610) عن أنس بن مالك.

(4)

سيأتي بيان ذلك.

ص: 972

ومنهم من قال: لا يقتل، ويلزم بالصلاة، ويعزَّر حتى يصلي.

وسيذكر المؤلف بيان ذلك.

• مسألة: مَن ترك الصلاة لعذر، فهذا لا يدخل في المقام الذي سيتكلم عنه المؤلف؛ لأن الإنسان قد يترك الصلاة لعذر: إما أن يكون نائمًا، وإما أن يكون ناسيًا لهذه الصلاة.

وقد يحدث هذا كما بينته السنة:

- فعن عليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَقَالَ:"مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صلَاةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ"، وَهِيَ صَلَاةُ العَصْرِ

(1)

.

- وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سفر، ونام وبعض أصحابه عن صلاة الفجر، ولم يوقظهم إلا حرُّ الشمس

(2)

.

والإنسان معذور في مثل هذه الأحوال؛ ووقت الصلاة هو وقت زوال العذر.

- فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ

(1)

أخرجه البخاري (6396)، ومسلم (627/ 202).

(2)

أخرجه مسلم (680/ 309) عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، سار ليله حتى إذا أدركه الكرى عرس، وقال لبلال:"اكلأ لنا الليل"، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالًا عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلال، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظًا، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أي: بلال" فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ -بأبي أنت وأمي يا رسول الله بنفسك، قال:"اقتادوا"، فاقتادوا رواحلهم شيئًا، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالًا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال:"من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها"، فإن الله قال:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} .. قال يونس: وكان ابن شهاب: يقرؤها "للذكري".

ص: 973

نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا"

(1)

، وفي رواية:"لَا كفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} "

(2)

.

وليس القصد في الحديث عموم النوم، بل غلبة النوم على المرء، وعدم تعمده النوم كسلًا، مثل: أن يسهر الإنسان سهرًا طويلًا، تم يتعمد النوم قرب وقت صلاة الفجر، فهذا مفرط متعمد للتأخير، ويدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ كتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى العِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كلانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الجَنَّةَ"

(3)

.

ولماذا لا يحافظ على هذه الصلوات، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَاةِ كانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورُ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ"

(4)

.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأ المِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَن -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ"

(5)

.

فالصلاة نور لصاحبها في هذه الدنيا، ونور أيضًا ونجاة وبرهان يوم القيامة يوم يلقى ربه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللهَ بقلب سليم.

(1)

أخرجه مسلم (684/ 315).

(2)

أخرجها البخاري (597)، ومسلم (314/ 684).

(3)

أخرجها أبو داود (1420) وغيره عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1276).

(4)

أخرجه أحمد (6576) وغيره، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2851).

(5)

جُزء من حديث أخرجه مسلم (223/ 1) وغيره عن أبي مالك الأشعري.

ص: 974

» قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا يُقْتَلُ؛ مِنْهُمْ: مَنْ أَوْجَبَ قَتْلَهُ كُفْرًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ

(1)

وَإِسْحَاقَ وَابْنِ المُبَارَكِ

(2)

، وَمِنْهُمْ: مَنْ أَوْجَبَهُ حَدًّا وَهُوَ مَالِكٌ

(3)

، وَالشَّافِعِيُّ

(4)

. وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ

(5)

، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ

(6)

: مِمَّنْ رَأَى حَبْسَهُ وَتَعْزِيرَهُ حَتَّى يُصَلِّيَ. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُ الآثَارِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإحْدَى ثَلَاثٍ: كفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصانٍ،

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 128) قال: "ومن تركها، أي: الصلاة جحودًا، يعني: من جحد وجوب الصلاة تركها أو فعلها، ولو كان جحده لوجوبها جهلًا به وعرف الوجوب وأصر على جحوده كفر، أي: صار مرتدًّا

وكذا لو تركها تهاونًا أو كسلًا إذا دعاه إمام أو نائبه لفعلها، أي: الصلاة وأبى فعلها حتى تضايق وقت التي بعدها بأن يدعى للظهر مثلًا، فيأبى حتى يتضايق وقت العصر عنها، فيقتل كفرًا".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 149) قال: "وقال

عبد الله بن المبارك

وإسحاق بن راهويه من ترك صلاة واحدة متعمدًا حتى يخرج وقتها لغير عذر وأبى من أدائها وقضائها وقال: لا أصلي فهو كافر ودمه وماله حلالان إن لم يتب ويراجع الصلاة ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل ولا ترثه ورثته من المسلمين وحكم ماله حكم مال المرتد إذا قتل على ردته".

(3)

يُنظر: "الشرحِ الصغير للدردير وحاشية الصاوي"(1/ 238) قال: "ويقتل بالسيف حدًّا لا كفرًا خلافًا لابن حبيب".

(4)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 428) قال: "قتل بالسيف حدًّا لا كفرًا لخبر الصحيحين".

(5)

بُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 352) قال: "وتاركها عمدًا مجانة، أي: تكاسلًا فاسق يحبس حتى يصلي؛ لأنه يحبس لحق العبد فحق الحق أحق، وقيل يضرب حتى يسيل منه الدم".

(6)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (11/ 379 - 380) قال: "والامتناع من الصلاة

كل ذلك منكر بلا شك وبلا خلاف من أحد من الأمة

فإذ ذلك كذلك فواجب أن يضرب كل من ذكرنا عشر جلدات، فإن أدى ما عليه من صلاة أو غيرها؛ فقد برئ ولا شيء عليه، وإن تمادى على الامتناع فقد أحدث منكرًا آخر بالامتناع الآخر فيجلد أيضًا عشرًا وهكذا أبدًا حتى يؤدي الحق الذي عليه لله تعالى، أو يموت غير مقصود إلى قتله".

ص: 975

أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ"

(1)

. وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: "العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"

(2)

. وَحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ الكُفْرِ -أَوْ: قَالَ الشِّرْكِ- إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ"

(3)

. فَمَنْ فَهِمَ مِنَ الكُفْرِ هَاهُنَا الكُفْرَ الحَقِيقِيَّ، جَعَلَ هَذَا الحَدِيثَ كَأَنَّهُ تَفْسِيرَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ"، وَمِنْ فَهِمَ هَاهُنَا التَّغْلِيظَ وَالتَّوْبِيخَ، أَيْ: أَنَّ أَفْعَالَهُ أَفْعَالُ كَافِرٍ، وَأَنَّهُ فِي صُورَةِ كَافِرٍ كلمَا قَالَ:"وَلَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"

(4)

لَمْ يَرَ قَتْلَهُ كفْرًا).

تنبيه: من الأخطاء في بعض طبعات الكتاب سرد كلام المؤلف تباعًا دون توقف، فعند قوله:(مَالِكٌ وَالشَّافِعِىُّ) وقفة وتُوضَع نقطة، ثم يُستأنَفُ الكلام (وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَهْلُ الظُّاهِرِ) حتى لا يخلط الكلام بعضه ببعض، فتخلط الأحكام.

فكما ذكرنا اختلف العلماء في حكم تارك الصلاة:

فمنهم من قال: يُقتَل، واختلفوا: هل يقتل كفرًا، أم يُقتل حدًّا؟!

ومنهم من قال: لا يقتل، ويلزم بالصلاة، ويعزر حتى يصلي؛ فهم بذلك على ثلاثة مذاهب:

- المذهب الأول: وهم الذين أوجبوا قتله كفرًا: وفي مقدمتهم

(1)

أخرجه أبو داود (4502) وغيره عن عثمان، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2196).

(2)

أخرجه النسائي (463) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(4143).

(3)

أخرجه مسلم (82/ 134).

(4)

أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57/ 100) عن أبي هريرة.

ص: 976

الصحابي الجليل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه

(1)

، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وهي الرواية الصحيحة المشهورة في مذهب الإمام أحمد، والمزني من أئمة الشافعية

(2)

، وقالوا بأن تارك الصلاة يكفَّر، ويجب قتله؛ لتركه الصلاة

(3)

.

- المذهب الثاني: والذين أوجبوا قتله حدًّا

(4)

: وهم أكثر الفقهاء مثل: المالكية وغالب الشافعية؛ فيقولون بأنه يقتل حدًّا ولا يكفر؛ لأنهم يرون أنه لا يحكم على الإنسان بكفر إلا إذا كفَرَ بالله سبحانه وتعالى، بأن أنكر الشهادتين أو أحدهما.

- المذهب الثالث: الذين لم يوجبوا قتله كفرًا ولا حدًّا

(5)

، وهم: أبو حنيفة وأصحابه والظاهرية، وقالوا: لا يكفر ولا يقتل، ولكنه يحبس ويعزَّر حتى يصلي أو يموت.

وهؤلاء لم يتركوه أيضًا فقالوا بحبسه، فإما أن يرتدع ويعود إلى رشده ويصلي، وإما أن يعذَّب ويعزَّر إلى أن يصلي أو يموت! ولكلٍّ منهم أدلة يستدل بها.

وأما الأدلة والآثار لأصحاب المذهب الأول والثاني الذي يقولون بقتل تارك الصلاة سواء كفرًا أو حدّا؛ فأدلتهم واحدة على القتل، ولكن استدلالهم مختلف.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(30436) وغيره عن معقل الخثعمي قال: أتى عليًّا رجل وهو في الرحبة فقال: يا أمير المؤمنين ما ترى في امرأة لا تصلي؛ قال: "من لم يصل فهو كافر". وإسناده ضعيف؛ معقل مجهول.

(2)

قال المزني في "المختصر"(8/ 128): "قد قال في المرتد إن لم يتب قتل ولم ينتظر به ثلاثًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك دينه فاضربوا عنقه"، وقد جعل تارك الصلاة بلا عذر كتارك الإيمان؛ فله حكمه في قياس قوله؛ لأنه عنده مثله ولا ينتظر به ثلاثا".

(3)

تقدَّم نقل ذلك عنهم.

(4)

تقدَّم نقل ذلك عنهم.

(5)

تقدَّم نقل ذلك عنهم.

ص: 977

* ومن أدلة المذهبين على قتل تارك الصلاة سواء حدًّا أو كفرًا:

- قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5].

ووجه الاستدلال: أنه في أول الآية قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} أي: لا تقتلوهم؛ فهذا دليل على أن من أسباب القتل: ترك الصلاة.

- والحديث المتفق عليه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"

(1)

.

وبهذا استدلَّ أبو بكر على مَن خالفه في التفريق بين الصلاة؛ قال: أليس من حقِّها إقامة الصلوات وإيتاء الزكاة؟! قالوا: بلى؛ قال: كذلك يقاتل من امتنع عن أداء الزكاة.

- وحديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَّبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بالحِنَّاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا بَالُ هَذَا؟ " فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى النَّقِيعِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ:"إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ المُصَلِّينَ" قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: "وَالنَّقِيعُ نَاحِيَةٌ عَنِ المَدِينَةِ وَلَيْسَ بِالبَقِيعِ"

(2)

.

ووجه الاستدلال: أن غير المصلي يقتل.

وغيرها من الأدلة التي أخذ بها جماهير العلماء على أن قتل تارك الصلاة.

(1)

أخرجه البخاري (6924) و (6925)، ومسلم (32/ 20).

(2)

أخرجه أبو داود (4928) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2506).

ص: 978

* ومن أدلة المذهب الأول على قتل تارك الصلاة كفرًا:

- حديث جَابِرٍ، قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ"

(1)

.

وفي رواية: "بَيْنَ العَبْدِ، وَبَيْنَ الكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ"

(2)

.

وفي رواية: "بَيْنَ الكُفْرِ وَالإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ"

(3)

.

وفي رواية: "لَيْسَ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ أَوْ بَيْنَ الكُفْرِ إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ"

(4)

.

- وحديث جَابِرٍ بُرَيْدَةَ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كفَرَ"

(5)

.

- وحديث عَبْدِاللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ العُقَيْلِيِّ، قَالَ:"كانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ"

(6)

، و"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا قَوْمًا، لَمْ يَغْزُ بِنَا لَيْلًا حَتَّى يُصْبحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ"

(7)

.

وغيرها من الأدلة الصريحة، التي هي نصٌّ في المدعي على أن تارك الصلاة تهاونًا وتكاسلًا يكفَّر ويقتل.

* ومن أدلة المذهب الثاني على قتل تارك الصلاة حدًّا، ولا يكفرونه:

(1)

أخرجه مسلم (82/ 134).

(2)

أخرجه أبو داود (4678) وغيره.

(3)

أخرجه الترمذي (2618)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2849).

(4)

أخرجه الدارمي (1269) وغيره، وإسناده صحيح.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

تقدَّم تخريجه.

(7)

تقدَّم تخريجه.

ص: 979

قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

ووجه الاستدلال: عموم الآية بالمغفرة لمن لم يشرك به، فيقولون: تارك الصلاة من غير عذر غير مشرك بالله، فهو مقِرّ بأن الصلاة واجبة؛ ولم ينكرها؛ فلو أنكرها لألحقناه بأولئك.

وحديث أبي هريرة، قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ"

(1)

.

ووجه الاستدلال: أن الإخلاص في شهادة التوحيد تنجي في الآخرة، حتى وإن قصر في العمل!

لكن سؤال: تارك الصلاة هل يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ؟!

ويستدلون بأدلة عدة صحيحة؛ كلها تدور حول هذا معنى.

- وأقوى أدلتهم في نظرهم: حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ [فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ] كَتَبَهُنَّ (أي: أوجبهن) اللَّهُ عَلَى العِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ"

(2)

.

ووجه الاستدلال: أن المغفرة محتملة، وقالوا: الكافر لا يغفر له؛ فهذا دليل على أن تارك الصلاة تهاونًا ليس بكافر؛ لأنه قال: "إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ".

(1)

أخرجه البخاري (99).

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 980

ويجيبون على أدلة الذين قالوا بكفره أن تارك الصلاة سُمِّي كافرًا؛ لأنه شابه الكافر في بعض أعماله، فتارك الصلاة يشبه الكافر في تركه للصلاة، والكافر يقتل وتارك الصلاة يقتل؛ فالتقى مع الكافر في هذا الحكم.

والكفر الحقيقي: هو الكفر المطلق المعروف الذي يخرج من الملة، ويحكم على مرتكبه بأنه مرتد، وليس هو الكفر المجازي، الذي لا يخرج من الملة، فهو كفر دون كفر؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوق، وَقِتَالُهُ كفْرٌ"

(1)

.

* ومن أدلة المذهب الثالث على عدم كفر تارك الصلاة، وعدم قتله:

حديث: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ"

(2)

.

وهذا الحديث ليس متفقًا عليه، ولكن الحديث المتفق عليه الذي لم يذكره المؤلف، وهو في معناه، قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِي مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"

(3)

.

ووجه الاستدلال: أن تارك الصلاة ليس من هؤلاء الثلاثة؛ فيرى أصحاب هذا المذهب أن تارك الصلاة مرتكب لكبيرة؛ فلا يكفر ولا يقتل، وإنما يحبس ويعذَّر إلى أن يتوب ويعود إلى الصلاة أو يموت في سجنه؛ فحصروا القتل في هذه الأمور الثلاثة فقط.

لكن أصحاب المذهب الأول والثاني: كل منهما؛ يقوله: أن أدلتنا

(1)

أخرجه البخاري (48)، ومسلم (116/ 64) عن ابن مسعود.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (25/ 1676) عن ابن مسعود.

ص: 981

خصصت ذلك، فالأول خصَّصت أدلتهم تارك الصلاة بالقتل كفرًا، والثاني: خصَّصت أدلتهم تارك الصلاة بالقتل حدًّا.

ولا شكَّ أن الأمر خطير، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة، وتحذر من ترك الصلاة ومع ذلك فهناك مَن يعيشون بين أظهر المسلمين ويتساهلون في أمر الصلاة؛ فمنهم مَن يتركها تمامًا، ومنهم مَن يصليها أحيانًا، ويتركها أحيانًا، وهذا كله موجود ومنتشر في المجتمعات الإسلامية، ولا حول ولا قوة إلا باللّه، ولا ينبغي للمسلم أن يقع في هذا بعد أن يكلف وببلغ

(1)

.

وكم رغَّب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضَّ أولياء الأمور على أن يعوِّدوا أبناءهم عليها، وقال:"مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ"

(2)

.

» قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ يُقْتَلُ حَدًّا فَضَعِيفٌ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ إِلَّا قِيَاسٌ شِبْهُ ضَعِيفٍ إِنْ أَمْكَنَ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الصَّلَاةِ بِالقَتْلِ فِي كَوْن الصَّلَاةِ رَأْسَ المَأْمُورَاتِ، وَالقَتْلُ رَأْسَ المَنْهِيَّاتِ. وَعَلَى الجُمْلَةِ فَاسْمُ الكُفْرِ إِنَّمَا يُطْلَقُ بِالحَقِيقَةِ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَتَارِكُ الصَّلَاةِ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُكَذِّبٍ إِلَّا أَنْ يَتْرُكَهَا مُعْتَقِدًا لِتَرْكهَا هَكَذَا).

من مسائل أصول الفقه الدقيقة: القياس، ويصعب الكلام فيها على

(1)

وترك الصلاة ليس من خصال أهل الإيمان بحال؛ لأنه لا يتصور مؤمن لا يصلي! وقد ذكر الحافظ العراقي في أوائل كتابه "طرح التثريب"(150/ 2) عن بعض علماء المغرب، فيما حكاه له صاحبه الشيخ الإمام أبو الطيب المغربي أنه تكلم يومًا في ترك الصلاة عمدًا، ثم قال:"وهذه المسألة مما فرضها العلماء ولم تقع؛ لأن أحدًا من المسلمين لا يتعمد ترك الصلاة، وكان ذلك العالم غيرَ مخالط للناس ونشأ عند أبيه مشتغلًا بالعلم من صغره حتى كَبِرَ ودرَّس فقال ذلك في درْسه".

(2)

أخرجه أبو داود (495) وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(509).

ص: 982

غير المتخصص؛ ولكن باختصار، القياس: هو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة تجمع بينهما، كإلحاق الأرز بالقمح في العلة الجامع بينهما هل هي الطعم أو غير ذلك، ويسمَّى بـ (قياس العلة)، وهو الذي يعمل به جماهير الفقهاء عدا أهل الظاهر.

فَقِيَاسُ العِلَّةِ: مَا كَانَتِ العِلَّةُ فِيهِ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ

(1)

.

وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَحَدِ النَّظِيرَيْنِ عَلَى الآخَرِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ العِلَّةُ دَالَّةً عَلَى الحُكْمِ، وَلَا تَكُونُ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ

(2)

.

وَقِيَاسُ الشَّبَهِ: وَهُوَ الفَرْعُ المُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ، فَيُلْحَقُ بِأَكْثَرِهِمَا شَبَهًا، وَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ مَا قَبْلَهُ، وهو ضعيف عند الأصوليين؛ فمنهم من يردُّه، ومنهم من يأخذ به

(3)

، ولذلك ضعَّفه المؤلف لعدم وجود علة يلتقي فيها الملحق بالملحق به.

وقوله: أن هذا القياس قِيَاسُ شَبَهٍ ضَعِيفٍ، فهذه هي وِجْهَتُه؛ وإلا فالقائلون بقتله سواء كفرًا أو حدًّا لهم أدلة قوية ظاهرة، وقد ذكرناها آنفًا.

فالقائلون بقتل تارك الصلاة -كفرًا أو حدًّا- الَّذي عطَّل الركنَ الثاني من أركان الإسلام، والذي كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا حزبَهُ أمرٌ فزعَ إلى الصَّلاةِ

(4)

، والذي كانَ يوصي به عمر رضي الله عنه في آخر حياته، ويقول:"لَا حَظَّ فِي الإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ"

(5)

، وغيرها من الأحاديث العديدة،

(1)

يُنظر: "اللمع" للشيرازي (ص 99 - 100)، و"الواضح" لابن عقيل (2/ 48) وما بعدها، و"الإحكام" للآمدي (4/ 4) وما بعدها.

(2)

يُنظر: "اللمع" للشيرازي (ص 100) وما بعدها، و"المستصفى" للغزالي (ص 315) وما بعدها، و"الإحكام" للآمدي (4/ 4) وما بعدها.

(3)

يُنظر: "اللمع" للشيرازي (ص 100) وما بعدها، و"البرهان" للجويني (2/ 53) وما بعدها، و"روضة الناظر" لابن قدامة (2/ 240) وما بعدها.

(4)

أخرجه أبو داود (1319) وغيره عن حذيفة، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، صلَّى"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(4703).

(5)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 39) عن المسور بن مخرمة، أنه دخل على عمر بن=

ص: 983

يقولون: فإذا عَطِّل هذا الركنَ؛ فماذا بقي بعد ذلك من الإسلام؟!

ومع ذلك؛ فإنهم يشترطون استتباته ومراجعته، ولا يتسرعون لإقامة الحد؛ بل يلتزمون بالتُّؤَدَةِ في تطبيقه حتى لا يظلموا أحدًا من أهل الإسلام.

فمثلًا: مسلمٌ تارك للصلاة، وثبت يقينًا أنه لا يصلي؛ فإنه يعطى فرصةً، وُبعرَّف بالحكم، وعواقبَ ترك الصلاة، ويُستتاب ثلاثًا كالمرتد؛ فإن تاب وصلَّى، وإلا قتِل.

فإذا اُستُتِيب تارك الصلاة، ونُبِّه إلى أن الأمر ربما يودي به إلى قتله، ثمِ يصر على ترك الصلاة؛ فلا بد أن يكون وراءه شيء؛ فإن كان جاهلًا عُلِّم، وإن كان غافلًا ذُكِّر، فالعلماء يفرقون بين العالم بالحكم والجاهل به.

فالذي عاش بين أظهر المسلمين، غير الذي عاش بعيدًا في ديار الكفر؛ ولا يعرف الحكم، فينبه ويبين له؛ فإذا ظهر له واستقر في نفسه هذا الحكم؛ ثم أبى الصلاة فإنه يقام عليه الحد؛ لرفضه الصلاة بغير مبرر ولا عذر.

وأما طريقة تنفيذ حدّ القتل: فهي الضرب بالسيف على العنق على قول الأكثرين من العلماء

(1)

، وبعضهم يقوله: ينخس

(2)

حتى يموت

(3)

،

= الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال: عمر: "نعم. ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة"، فصلى عمر، وجرحه يثعب دمًا. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(209).

(1)

جمهور العلماء على ذلك: فمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي"(1/ 238) قال: "وتاركها، أي: الصلاة اختيارا

ويقتل بالسيف حدًّا لا كفرًا".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 431) قال: "ثم إذا لم يتب يضرب عنقه بالسيف ولا يجوز قتله بغير ذلك لخبر: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة"".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 228) قال: "وإلا أي: وإن لم يتب بفعل الصلاة قتل بضرب عنقه بالسيف".

(2)

"نخس الدابة" وغيرها: غرز جنبها أو مؤخرها بعود أو نحوه. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (6/ 228).

(3)

وهو قول عند الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 431) قال: "وقيل:=

ص: 984

وعلى كلٍّ: فقد اتَّفق الجمهور على قتله

(1)

.

قوله: (فَنَحْنُ إِذًا بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ نَفْهَمَ مِنَ الحَدِيثِ الكُفْرَ الحَقِيقِيَّ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتأَوَّلَ أَنَّهُ أَرَادَ عليه الصلاة والسلام مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُعْتَقِدًا لِتَرْكِهَا فَقَدْ كَفَرَ. وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الكُفْرِ عَلَى غَيْرِ مَوْضُوعِهِ الأَوَّلِ، وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الكَافِرِ -أَعْنِي: فِي القَتْلِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الكُفَّارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا-، وإِمَّا عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ أَفْعَالُ كَافِرٍ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ وَالرَّدْعِ لَهُ (أَيْ: أَنَّ فَاعِلَ هَذَا يُشْبِهُ الكَافِرَ فِي الأَفْعَالِ)، إِذْ كَانَ الكَافِرُ لَا يُصَلِّي كمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:"لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ"

(2)

. وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الكَافِرِ فِي أَحْكَامِهِ لَا يَجِبُ المَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ فِي الشَّرْعِ مِنْ طَرِيقٍ يَجِبُ المَصِيرُ إِلَيْهِ؛ فَقَدْ يَجِبُ إِذَا لَمْ يَدُلَّ عِنْدَنَا عَلَى الكُفْرِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ التَّكْذِيبُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى المَعْنَى المَجَازِيِّ لَا عَلَى مَعْنًى يُوجِبُ حُكْمًا لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ فِي الشَّرْعِ بَلْ يَثْبُتُ ضِدُّهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُهُ، إِذْ هُوَ خَارجٌ عَنِ الثَّلات الَّذِينَ نَصَّ عَلَيْهِمُ الشَّرْعُ فَتَأَمَّلْ هَذَا، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

الأمر الأول: هذا تأويل الذين يقولون بعدم كفره ويقتل حدًّا، ويأولون قوله صلى الله عليه وسلم:"العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كفَرَ"

(3)

،

= لا يقتل لانتفاء الدليل الواضح على قتله بل ينخس بحديدة، وقيل يضرب بخشبة، أي: عصا".

(1)

قدمنا نقل ذلك عنهم.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 985

وغيرها من الأدلة التي تحكم بكفره؛ بأن المقصود بالترك هنا: الإنكار؛ فتارك الصلاة -عندهم- الذي ترك الصلاة، وأنكر وجوبها.

ويقولون: بأنه يوجد في كلِّ مجتمع من المجتمعات الإسلامية السابقة، مَن لا يصلي ويرث ويورث، ولم يعرف أنهم كانوا يقتلون!

لكن؛ هل عرف أن هذا الشخص لا يصلي، واستقرَّ ذلك عندهم؟!

ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ"

(1)

.

فكيف يحرق الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم بيوتهم مع أنهم كانوا يصلون، ولكنهم كانوا يتخلفون عن شهود صلاة الجماعة فقط؟! فما بالك بمن يترك الصلاة بالكلية؟!

الأمر الثاني؛ الذي فيه معنيان:

المعنى الأول: أَنَّ حكم تارك الصلاة كحُكْمِ الكَافِرِ في القَتْلِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الكُفَّارِ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا، فالمؤلف قد أنكر ثبوت الكفر الحقيقي عليه، وحمله على المجازي؛ فقال بعدها:(لَا يجِبُ المَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، لِأنَّهُ حُكْمٌ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ فِي الشَّرْعِ مِنْ طَرِيقٍ يَجِبُ المَصِيرُ إِلَيْهِ) مع أنه قد ثبت سابقًا أن الذي حكم عليه بالكفر الحقيقي الواضح بدون قرينة تصرفه إلى الكفر المجازي، هو الرسول صلى الله عليه وسلم في الأدلة التي ذكرناها.

وأما (الثَّلَاثُ الَّذِينَ نَصَّ عَلَيْهِمُ الشَّرْعُ) في حلِّ دمهم كما في الحديث المتفق عليه: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ

(1)

أخرجه مسلم (651/ 252) عن أبي هريرة.

ص: 986

وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"

(1)

، وتارك الصلاة يدخل في قوله:"وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ المُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ".

في المعنى الثاني: قولهم في حديث: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ"

(2)

في تأويل كفر تارك الصلاة على أنه كَافِرٌ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ وَالرَّدْعِ لَهُ؛ فيه مساواة بين فريضة الصلاة وبين غيرها من سائر العبادات كتركَ الزنا والسرقة ونحوها، في الوجوب والفرضية، وهذا لا يصح.

فمع خطورة السرقة والزنا وشرب الخمر، وأنها من الكبائر ولها حدود معروفة؛ لكنها أيضًا لا تصل إلى حكم الصلاة؛ فهي تختلف عن الزنا والسرقة؛ فهي ركن من أركان الدين.

وبعض العلماء: يرى أن الإيمان يخرج من الزاني أو السارق حين فعله لهذا الذنب؛ ثم إذا عدل عن جريمته وانتهى منها، وتاب رجع إليه إيمانه

(3)

.

وليس معنى ذلك: أنه خرج عن الدين أو كفر؛ كما يقول المعتزلة أو الخوارج.

قوله: (أَعْنِي أَنَّهُ يجِبُ عَلَيْنَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ نُقَدِّرَ فِي الكَلَامِ مَحْذُوفًا إِنْ أَرَدْنَا حَمْلَهُ عَلَى المَعْنَى الشَّرْعِيِّ المَفْهُومِ مِنِ اسْمِ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(13/ 268): "ويحتمل تأويلها أربعة أوجه: أحدها: يعني أنه لا يستحلها وهو مؤمن؛ لأن تحريمها منصوص فيكفر باستحلالها.

والثاني: يعني لا يفعل أفعال المؤمنين؛ لأن المؤمن يمتنع منها.

والثالث: معناه لا يصدق أنه يحد إن زنا، ويقطع إن سرق، ويجلد إن شرب الخمر؛ لأنه لو تحقق أنه يقام عليه لامتنع منه ولم يقدم عليه.

والرابع: أنه قاله مبالغة في الزجر عنها كما قال: "مَن قتل عبده قتلناه، ومن غل صدقته فإنا آخذوها منه وشطر ماله".

ص: 987

الكُفْرِ، وَإِمَّا أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى المَعْنَى المُسْتَعَارِ. وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الكَافِرِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ مَعَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَشَيْءٌ مُفَارِقٌ لِلأصولِ، مَعَ أَنَّ الحَدِيثَ نَصٌّ فِي حَقِّ مَنْ يَجِبُ قَتْلُهُ كفْرًا أَوْ حَدًّا، وَلِذَلِكَ صَارَ هَذَا القَوْلُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ مَنْ يُكَفِّرُ بِالذُّنُوبِ).

ويشكل على المؤلف وغيره الأدلة التي توجب عموم المغفرة للموحد، وأنه داخل تحت المشيئة طالما حافظ على التوحيد؛ لأن الكافر لا يغفر له؛ كقوله الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، والأحاديث الصحيحة الكثيرة جدًّا كقوله:"يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ"

(1)

، وقوله:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ [فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ] كتَبَهُنَّ (أي: أوجبهن) اللَّهُ عَلَى العِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ"

(2)

.

ومال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" إلى القول بأن بعض الأمور التي قد يُكفَّر بها المسلم من الممكن أن تكون أيضًا داخلة تحت المغفرة كترك الصلاة؛ فهي- وإن سمي صاحبها كافرًا وحُكِم عليه بالكفر وقُتل- لا تصل إلى حدَّ من يشرك بالله سبحانه وتعالى

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي (2598) وغيره عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2450).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يُنظر: "نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 365): "والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على عدم كفر من ترك الصلاة وعدم استحقاقه للخلود في النار لقوله: (إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)، وقد عرفناك في الباب الأول أن الكفر أنواع: منها ما لا ينافي المغفرة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرًا، وهو يدلُّ على عدم استحقاق كل تارك للصلاة للتخليد في النار".

ص: 988

وأما قوله: (وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الكَافِرٍ فِي جَمِيع أَحْكَامِهِ مَعَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَشَيْءٌ مُفَارِقٌ لِلْأُصُولِ، مَعِ أَنَّ الحَدِيثَ نصٌّ فِي حَقِّ مَنْ يَجِبُ قَتْلُهُ كُفْرًا أَوْ حَدًّا، وَلذَلِكَ صَارَ هَذا القَوْلُ مُضاهِيًا لِقَوْلِ مَنْ يُكَفِّرُ بالذُّنُوب) فهذا كلام كلُّه خطأ وبعيد جدًّا عن عين الصواب، الذي يكفرُ تاركَ الصلاة ما أخذ إلا بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أمَّا الذي يكفر بالذنوب؛ فقد أخذ بأقوال أصحاب الأهواء والبدع، فشتان بين الأمرين.

فالأمر خطير، لعِظَم الصلاة وأهميتها، وحرمة التساهل والتفريط فيها، فكم من أناس تساهَلوا في أمر الصلاة في وقت شبابهم، وبعد أن قطعوا مسافات من العمر، عاشوا في حسرة وندم!

والذي يتدارك نفسه ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويعود إلى الصلاة فالله سبحانه وتعالى يتجاوز عن السيئات.

لكن هل يضمن كل متساهل في أمر الصلاة أو تاركها أنه سيصل إلى وقت يصلي فيه؟

فلن يدري متى يتخطفه الموت، قال تعالى:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]؛ فالله سبحانه وتعالى بيده الأمر؛ فقد يترك الإنسان الصلاة أوقاتٍ وأيامًا ثم تخترمه المنية ويموت على هذه الحالة.

[الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الشُّرُوطِ]

كتاب (بداية المجتهد) فيه نواقص، وكم نضيف عليه، وكم نصحح ما فيه من أقوال، ولعلي من أخبر الناس بهذا الكتاب، وأكثرهم دراسة ومعرفة به.

ولكن؛ يوجد بالكتاب ميزة يندر أن تجدها في غيره؛ فهو يقرب لك مسائل الفقه، في مقدمات وممهدات، ويعطيك تصورًا عن كل باب قبل أن تدخل فيه؛ فإذا دخلت فيه تسير على أمر واضح؛ فيجمع ما يدور في

ص: 989

الأبواب المتفرقة في مقدمة صغيرة؛ حيث يعطيك زُبدةً وملخصًا لها، وهذا أشبه ما يكون بكتب القواعد، بل هناك من سمى هذا الكتاب بـ (كتاب القواعد) واعتبره من كتب القواعد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: (وَهَذِهِ الجُمْلَةُ فِيهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، البَابُ الأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَوْقَاتِ. الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ. الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ القِبْلَةِ. الرَّابعُ: فِي سَتْرِ العَوْرَةِ وَاللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ. الخَامِسُ: فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ مِنَ النَّجَسِ فِي الصَّلَاةِ. السَّادِسُ: فِي تَعْيِينِ المَوَاضِعِ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا مِنَ المَوَاضِعِ الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا. السَّابعُ: فِي مَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ الَّتِي هِيَ شُرُوظ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. الثَّامِنُ: فِي مَعْرِفَةِ النِّيَّةِ، وَكيْفِيَّةِ اشْتِرَاطِهَا فِي الصَّلَاةِ).

الآن يذكر المؤلف شُرُوطَ الصَّلَاةِ، ومن الملاحظ أنه تكلَّم عن الطهارة في الأبواب السابقة ثم عاد مرَّة أُخرى يذكرها؛ كما يحدث في جملة من كتب الفقه؛ فيذكرون باب النجاسة في الصلاة في كتاب الصلاة، ولا يذكرون ذلك -تفصيلًا- في كتاب الطهارة، وإنما يومئ إليه، فهذه عادة الفقهاء في كتبهم حيث يكررون بحث هذه المسألة في كتاب الصلاة.

والسبب في ذلك: أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، فهي متقدمة عليها؛ لأن صحة الصلاة متوقفة على صحة الطهارة.

وعلى الصحيح: فالطهارة شرط صحة، لا شرط وجوب

(1)

.

(1)

المراد بشرط الوجوب: ما يتوقف الوجوب عليه، وبشرط الصحة: ما تتوقف الصحة عليه. انظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 200).

ومذاهب العلماء في المسألة:

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 401) قال: "شروط الصلاة هي ثلاثة أنواع: شرط انعقاد

وشروط دوام، كطهارة".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 200) قال: "أما شروط الصحة فقط فخمسة طهارة الحدث وطهارة الخبث". =

ص: 990

والطهارة من النجاسة تلازم المسلم في كل أحواله، فتلزمه الطهارة في بقعته، وفي ثوبه، وفي بدنه، وقد تعرض النجاسة للمسلم وهو في طهارته، ولا بد أن يعرف كيفية التعامل معها إذا عرضت له وهو طاهر.

وأما النية في الوضوء فقد ذكرناها سابقًا، وقلنا: إن الجمهور على وجوبها، وإنها شرط في صحته

(1)

، وخالفهم الحنفية في ذلك

(2)

.

وأما النية في الصلاة: فلا خلاف فيها، فالفقهاء مجمعون على أنها شرط في صحتها

(3)

.

= ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 395) قال: "شروط الصلاة خمسة

ورابعها طهارة الحدث الأصغر وغيره عند القدرة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 248) قال: "شروط الصلاة ما يجب لها قبلها بأن تتقدم على الصلاة وتسبقها

والرابع: الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر".

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي". (1/ 114 - 115) قال: "ونية رفع الحدث في ابتدائه أو استباحة ما منعه أو أداء الفرض: الفريضة السابعة: النية عند ابتداء الوضوء كغسل الوجه، بأن ينوي بقلبه رفع الحدث الأصغر، أي: المنع المترتب على الأعضاء أو استباحة ما منعه الحدث أو يقصد أداء فرض الوضوء، والأولى ترك التلفظ بذلك؛ لأن حقيقة النية القصد بالقلب لا علاقة للسان بها".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 167) قال: "فرضه

ستة

أحدها نية رفع حدث عليه، أي: رفع حكمه؛ لأن الواقع لا يرتفع".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 51) قال: "ويشترط لوضوء وغسل ولو مستحبين نية لخبر "إنما الأعمال بالنيات"، أي: لا عمل جائز ولا فاضل إلا بها؛ ولأن النص دل على الثواب في كل وضوء، ولا ثواب في غير منوي إجماعًا. قاله في "الفروع"؛ لأن النية للتمييز، ولأنه عبادة ومن شرطها: النية".

(2)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (1/ 235 - 236) قال: "النية في الوضوء سنة عندنا

ولنا أنه لا يقع عبادة إلا بالنية، ولكنه يقع مفتاحًا للصلاة لوقوعه طهارة باستعمال المطهر بخلاف التيمم؛ لأن التراب غير مطهر إلا في حال إرادة الصلاة أو هو ينبئ عن القصد".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 401) قال: "شروط الصلاة هي ثلاثة أنواع: شرط انعقاد: كنية". =

ص: 991

[الباب الأول: في معرفة أوقات الصلاة]

* قوله: (البَابُ الأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَوْقَاتِ وَهَذَا البَابُ يَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى فَصْلَيْنِ، الأوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَوْقَاتِ المَأْمُورِ بِهَا. الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الأَوْقَاتِ المَنْهِيِّ عَنْهَا).

إذن؛ فهناك أوقات أُمر المسلم أن يصلي فيها، وأوقات نهي أن يصلي فيها.

فأما الأوقات التي ينهى عن الصلاة فيها، فليست على الإطلاق؛ فمَن نام -مثلًا- عن صلاة أو نسيها؛ فليصلِّها متى ذكرها، سواء كان النهي وقت نهي، أو غير نهي؛ فالأمر يختلف في هذه الحال.

فالأَوْقَاتُ المَنْهِيُّ عَنْهَا؛ خمس

(1)

: (ثلاثة متفق عليها، واثنان مختلف فيها):

فأما المتفق عليها:

1 -

وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع.

= ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 231 - 233) قال: "فرائض الصلاة، أي: أركانها وأجزاؤها المتركبة هي منها خمس عشرة فريضة

وثالثها: نية الصلاة المعينة بأن يقصد بقلبه أداء فرض الظهر مثلًا والتعيين إنما يجب في الفرائض والسنن والفجر دون غيرها من النوافل".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 3 - 4) قال: "أركانها ثلاثة عشر

النية لما مر في الوضوء، وقيل: إنها شرط؛ لأنها قصد الفعل وهو خارج عنه ويجاب بأنه بتمام التكبير يتبين دخوله فيها من أوله".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"(1/ 175) قال: "النية شرط للصلاة

ولا تسقط بحال؛ لأن محلها القلب".

(1)

سيأتي الكلام عليها بالتفصيل.

ص: 992

2 -

وقت الزوال.

3 -

وقت غروب الشمس.

وأما المختلف فيها:

1 -

من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس.

2 -

من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.

وسيأتي الكلام فيها -إن شاء الله- مفصلًا.

والمؤلف -حقيقةً- قد أجاد في ذكر الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ فبحثها بحثًا طيبًا فيه نوع من البسط والبيان.

[الفصل الأول: في الأذان]

* قوله: (الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الأَوْقَاتِ المَأْمُورِ بِهَا. وَهَذَا الفَصْلُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا؛ القِسْمُ الأَوَّلُ: فِي الأَوْقَاتِ المُوَسَّعَةِ وَالمُخْتَارَةِ. وَالثَّانِي: فِي أَوْقَاتِ أَهْلِ الضَّرُورَةِ).

وقت الصلاة المأمور بها: إما أن يكون وقتًا موسعًا، وإما أن يكون وقت ضرورة

(1)

.

أما الأوقات التي هي أوقات موسعة؛ فهي أربعة متفق على أن لها وقتان: أول وآخر؛ أي: أن لها وقتًا أول، ولها وقتًا آخر؛ فهي موسعة، ما عدا صلاة المغرب؛ ففيها الخلاف المشهور الذي سيأتي إن شاء الله.

(1)

ويسميها المالكية: وقت اختياري ووقت ضروري. يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 181).

ص: 993

أما الأوقات التي هي أوقات أهل الضرورة؛ فمثلًا: أن يبقى على غروب الشمس مقدار ركعة؛ فلو أن امرأة كانت حائضًا؛ فطهرت، أو كان كافرًا فأسلم، أو صبيًا فبلغَ، فإنه في هذه الحالة يتطهر ويصلي؛ ويُسمَّى هذا:(وقت أهل الأعذار أو الضرورة)

(1)

.

ويدخل في أهل الأعذار: المسافرون؛ فإنهم يجمعون بين صلاة الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.

* قوله: (القِسْمُ الأَوَّلُ مِنَ الفَصْلِ الأَوَّلِ مِنَ البَابِ الأَوَّلِ مِنَ الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ. وَالأَصْلُ فِي هَذَا البَابِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 356 - 357) قال: "حتى تجب على مجنون ومغمى عليه أفاقا، وحائض ونفساء طهرتا، وصبي بلغ، ومرتد أسلم وإن صليا في أول الوقت، وبعد خروجه يضاف السبب إلى جملته ليثبت الواجب بصفة الكمال وإنه الأصل حتى يلزمهم القضاء في كامل هو الصحيح".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 183 - 184) قال: "ثم ذكر الأعذار بقوله بكفر أصلي بل، وإن حصل بردة وصبا فإذا بلغ في الضروري ولو بإدراك ركعة صلاها ولا إثم عليه وتجب عليه، ولو كان صلاها قبل، وإغماء وجنون ونوم، ولا إثم على النائم قبل الوقت ولو علم استغراق الوقت، وأما لو دخل الوقت فلا يجوز النوم بلا صلاة إن ظن الاستغراق".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 454) قال: "وحكمه أنه لو زالت هذه الأسباب الكفر الأصلي، والصبا ونحو الحيض، والجنون وقد بقي من آخر الوقت تكبيرة، أي: قدرها، وجبت الصلاة، أي: صلاة الوقت إن بقي سليمًا زمن يسع أخف ممكن منها كركعتين للمسافر القاصر".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (1/ 278) قال: "وإن بلغ الصغير في صلاة مفروضة بأن تمت مدة البلوغ، وهو فيها في وقتها لزمه إعادتها، وسمي بلوغًا لبلوغه حد التكليف أو بلغ بعدها، أي: الصلاة في وقتها لزمه إتمامها أي: الصلاة".

ص: 994

لِلصَّلَوَاتِ الخَمْسِ أَوْقَاتًا خَمْسًا هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاة، وَأَنَّ مِنْهَا: أَوْقَاتَ فَضِيلَةٍ، وَأَوْقَاتَ تَوْسِعَةٍ

(1)

.

وتقسيمات المؤلف الجيدة من الأشياء التي يمتاز بها هذا الكتاب.

فبدأ المؤلف يعدِّد شروط صحة الصلاة، وبدأ بـ: دخول الوقت؛ فلا تصح الصلاة إلا في وقتها؛ فكل صلاة من الصلوات الخمس لها وقتٌ لا ينبغي التفريط فيه؛ كما ورد في الحديث الصحيح: "ليس في النومِ تفريطٌ، إنما التفريطُ في اليَقَظَةِ أن تُؤخِّرَ صلاةً حتى يَدخلَ وقتُ أُخرى"

(2)

.

فالعلماء مجمعون على أن للصلوات الخمس أوقاتًا محددةً لا خلاف فيها، وإن اختلفوا في بعض نهايتها

(3)

، وأنه لا يجوز أن تؤدَّى الصلاة إلا

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 401) قال: "شروط الصلاة هي ثلاثة أنواع: شرط انعقاد: كنية، وتحريمة ووقت".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 175 - 176) قال: "في بيان أوقات الصلاة

الوقت وهو الزمان المقدر للعبادة شرعًا المختار ويقابله الضروري فالصلاة لها وقتان".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 396) قال: "أول الخمسة معرفة دخول الوقت يقينًا أو ظنًّا بالاجتهاد كما دلَّ عليه كلامه في المجموع، وليس المراد مدلول المعرفة الذي هو العلم بمعنى اليقين ليخرج الظن: فمن صلى بدونها لم تصحَّ صلاته وإن وقعت في الوقت".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 248 - 249) قال: "شروط الصلاة تسعة

والخامس: دخول الوقت

وتجب الصلاة بدخول أول وقتها في حق من هو من أهل الوجوب: وجوبا موسعًا، بمعنى: أنها تثبت في ذمته يفعلها إذا قدر لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] والأمر للوجوب على الفور، ولأن دخول الوقت سبب للوجوب، فترتب عليه حكمه عند وجوده".

(2)

أخرجه بهذا اللفظ أبو داود (441)، ومسلم (681/ 311) ولم يذكر: اليقظة.

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 114) قال: ووقت الصلاة من فرائضها، ولا يجوز الصلاة إلا به، ولا خلاف في هذا بين العلماء، إلا شيئًا روي عن أبي موسى الأشعري، وبعض التابعين. =

ص: 995

في أوقاتها المحددة المعروفة، إلا لأهل الضرورة -على اختلاف أنواعهم- وسيأتي تفصيلهم.

* بعض الفقهاء يقول: أوقات الصلاة

(1)

، وبعضهم يقول: مواقيت الصلاة

(2)

.

فأوقات جمع: وقت

(3)

، ومواقيت جمع: ميقات

(4)

، وتجوز التسميتان، فلك أن تقوله: باب المواقيت، أو باب الأوقات، ولا فرق بينهما

(5)

.

والوقت اصطلاحًا: هو الزمن المحدد شرعًا لأداء العبادة أو لقضائها

(6)

.

مثلًا: وقت صلاة الظهر: من بعد زوال الشمس إلى أن يصير ظلُّ كل شيء مثله.

فهذا زمن محدد تؤدى فيه صلاة الظهر، على خلاف مع الحنفية؛ كما سيأتي بيانه.

= وقد انعقد الإجماع على خلافه فلم أرَ [لذكره وجهًا؛ لأنه لا يصح عندي عنهم، وقد صحَّ عن أبي موسى خلافه بما يوافق الجماعة، فصار اتفاقًا صحيحًا].

(1)

كالمالكية والشافعية.

(2)

كالحنفية والحنابلة.

(3)

"الوقت": مقدار من الزمان، وكل شيء قدرت له حينًا، فهو مؤقت، والجمع: أوقات، وهو الميقات. يُنظر:"لسان العرب"(2/ 107).

(4)

"الميقات": الوقت المضروب للفعل والموضع، والجمع: المواقيت؛ فاستعير للمكان. يُنظر: "أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء" للقونوي (ص 16).

(5)

التوقيت والتأقيت: أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وقت الشيء يوقته، ووقته يقته، إذا بين حده، ثم اتَّسع فيه فاطلق على المكان، فقيل للموضع: ميقات. يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (5/ 212).

(6)

"الوقت" شرعًا: ما عين الشارع لأداء الصلاة فيه من زمان. يُنظر: "الكليات" لأبي البقاء الحنفي (ص 945).

ص: 996

ومن النحت التي قد تدور في ذهن الطالب: أن غالب الفقهاء؛ بل جلهم يبدأ عادةً بذكر ميقات صلاة الظهر، ولا يبدأون بميقات صلاة الفجر أو صلاة العصر.

والسبب:

1 -

أن جبريل عليه السلام بدأ بها عندما أمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين، فأَمَّهُ في اليوم الأول: في أول الوقت، وفي اليوم الثاني: في آخر الوقت، ما عدا صلاة المغرب؛ فقد أَمَّه فيهما في وقت واحد

(1)

، ومن هنا جرى الخلاف بين الفقهاء في صلاة المغرب: هل لها وقت واحد، أم لها وقتان: مضيَّق أو موسَّع؟

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود (393) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي يعني المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر ثم التفت إليَّ فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين"، وصححه الألباني في المشكاة (583). (249).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 361) قال: "ووقت المغرب منه إلى غروب الشفق وهو الحمرة عندهما، وبه قالت الثلاثة وإليه رجع الإمام كما في شروح المجمع وغيرها، فكان هو المذهب".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدرير وحاشية الدسوقي"(1/ 177 - 178) قال: "والوقت المختار للمغرب غروب، أي: غياب جميع قرص الشمس، وهو مضيق يقدر بفعلها ثلاث ركعات بعد تحصيل شروطها من طهارتي حدث وخبث وستر عورة واستقبال ويزاد أذان وإقامة وأفهم قوله يقدر أنه يجوز لمحصلها التأخير بقدر ذلك".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 420 - 421) قال: "والمغرب يدخل وقته بالغروب، أي: غيبوبة جميع قرص الشمس وإن بقي الشعاع

ويبقى وقتها حتى يغيب الشفق الأحمر في القديم

وفي الجديد ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم وطلب خفيف". =

ص: 997

2 -

وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا عندما جاءه السائل الذي يسأل عن أوقات الصلوات؛ فقال له: "صَلِّ معنا هذَيْنِ الوقتَيْنِ" يعني: اليومين؛ فبقي معه؛ فلمَّا زالتِ الشَّمسُ صلَّى الظُّهرَ

إلى آخر حديث بريدة الطويل الذي سيأتي بيانه

(1)

.

3 -

وأن الصحابة رضي الله عنه أيضًا عندما كانوا يعلمون أوقات الصلوات ويبدؤون بصلاة الظهر فناسب أن يبدأ الفقهاء بها.

وليس لأنها هي الصلاة الوسطى؛ وإن كان يرى كل فريق من العلماء: أن كل صلاة من الصلوات هي الوسطى

(2)

.

وأَوْقَاتُ الصلاةِ على نوعين: أَوْقَاتُ فَضِيلَةٍ، وَأَوْقَاتُ تَوْسِعَةٍ.

ووقتُ الفَضِيلَةِ: هو أول وقت الصلاة.

ففي الحديث المتفق عليه: عنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا"

(3)

.

= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للبهوتي (1/ 311) قال: "ويمتد وقتها لمغيب شفق أحمر

وكره تأخيرها لظهور نجوم، قال الآجري: من أخر حتى يبدو النجم أخطأ، وعلم منه أن لها وقتين: وقت فضيلة، ووقت جواز مع الكراهة، والأفضل تعجيلها إجماعًا".

(1)

أخرجه مسلم (613/ 176) وغيره، وسيأتي.

(2)

عند الحنفية أنها العصر، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 360) قال: "ووقت العصر منه إلى قبيل الغروب فلو غربت ثم عادت هل يعود الوقت بالظاهر، نعم، وهي الوسطى على المذهب".

وعند المالكية أنها الصبح، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 178 - 179) قال: "وللصبح من الفجر، أي: ظهور الضوء الصادق وهو المستطير

وهي الصلاة الوسطى، أي: الفضلى عند الإمام وعلماء المدينة وابن عباس وابن عمر، وقيل: العصر وهو الصحيح من جهة الأحاديث وما من صلاة من الخمس إلا قيل فيها هي الوسطى، وقيل غير ذلك".

(3)

جُزء من حديث أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85/ 139).

ص: 998

وفي بعض الروايات عن أُمِّ فَرْوَةَ -وَكَانَتْ مِمَّنْ بَايَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا"

(1)

.

ووقتُ التوسعة: هو الذي يكون بعد أول وقت الصلاة.

فأول وقت الصلاة: وقت فضيلة؛ ثم يسير بعد ذلك الوقت: وقت اختيار، إلى أن يضيق؛ فيسير وقت جواز.

وقد يكون وقت الصلاة: وقت ضرورة عند جمع الصلوات كالظهر والعصر معًا.

وستأتي أدلة تدلُّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر في أول الوقت، وأحيانًا كان يؤخر الصلاة عند اشتداد الحر.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي حُدُودِ أَوْقَاتِ التَّوْسِعَةِ وَالفَضِيلَةِ، وَفيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ، المَسْأَلَةُ الأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ الَّذِي لَا تَجُوزُ قَبْلَهُ هُوَ الزَّوَالُ

(2)

، إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا رُوِيَ عَنِ

(1)

أخرجه الترمذي (170) وغيره، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(607).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (359/ 1) قال: "ووقت الظهر من زواله، أي: ميل ذكاء عن كبد السماء إلى بلوغ الظل مثليه، وعنه مثله".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير وحاشية الدسوقي" (176/ 1) قال: "للظهر ابتداؤه من زوال الشمس، أي: ميلها عن وسط السماء لجهة المغرب منتهيًا لآخر القامة

فالمعنى: حتى يصير ظل كل شيء مثله بغير ظل الزوال فلا يحسب من القامة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 417) قال: "الظهر

وأول وقته زوال الشمس، أي: عقب وقت زوالها، أي: ميلها عن وسط السماء المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء باعتبار ما يظهر لنا لا نفس الأمر فلو ظهر أثناء التحرم لم يصحَّ وإن كان بعده في نفس الأمر، وكذا في نحو الفجر ويعلم بزيادة الظل على ظل الاستواء إن كان وإلا فبحدوثه وآخره مصير ظل الشيء".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 249 - 251) قال: "الظهر

=

ص: 999

ابْنِ عَبَّاسٍ

(1)

، وَإِلَّا مَا رُوِيَ مِنَ الخِلَافِ فِي صَلَاةِ الجُمُعَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي).

* الواقع أن العلماء أجمعوا على أن أول وقت صلاة الظهر: هو زوال الشمس، وهذا ليس محل خلاف بينهم؛ فالمسألة محل إجماع وليست محل اتفاق؛ لأن الاتفاق دون الإجماع

(2)

.

* وآخر وقت الظهر

(3)

: إذا صار ظلُّ كل شيء مثله، وهو مذهب الجمهور، وخالفهم الحنفية، فقالوا: إذا صار ظلُّ كل شيء مثليه.

* ومعنى زوال الشمس: ميل الشمس عن كبد السماء، وهذه هي علامة دخول وقت الظهر

(4)

.

فعلامة الزوال أن يستمرَّ الظل في القصر إلى أن يقف؛ ثم يعود في الامتداد والرجوع مرة أُخرى، والمقصود: أنه يضاف إلى الظل الذي كان موجودًا إلى وقت الزوال، يعني: مثل ظل الشيء يضاف إليه الظل الذي كان موجودًا عند الزوال وهو صغير جدًا. كما ورد في حديث جبريل أنه أم الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول حين صار ظل الفيء مثل الشراك، والشراك: سير النعل الذي يكون في أعلاه

(5)

، وهذا يعني: أنه قليل جدًا.

= وتسمى الهجير

ووقتها من زوال الشمس وهو ميلها عن وسط السماء، أجمع العلماء على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس حكاه ابن المنذر وابن عبد البر

ويمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي زالت عليه الشمس، إن كان ثم ظل زالت عليه".

(1)

لم أقف على قول ابن عباس.

(2)

نقل الإجماع ابن المنذر في "الإشراف"(1/ 394) قال: "أجمع أهل العلم على أن وقت الظهر زوال الشمس".

(3)

تقدَّم ذكره ضمن أول وقت الظهر آنفًا.

(4)

"ساعة الزوال"، أي: زوال الشمس من كبد السماء، ومنه: صلاة الظهر. يُنظر: "تاج العروس" للزبيدي (12/ 488).

(5)

"الشراك": سير النعل، والجمع: شرك. يُنظر: "لسان العرب"(10/ 451).

ص: 1000

ويستدلون بأدلة منها:

قول الله سبحانه وتعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، و (دلوك الشمس): زوال الشمس، على الراجح

(1)

.

والتطبيق العملي الذي فعله جبريل عليه السلام عندما أمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم.

والتطبيق العملي الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما علَّم أصحابه وقت صلاة الظهر، وكان كذلك عند زوال الشمس.

• مسألة:

أومأ المؤلف هنا إلى خلاف شاذٍّ عن ابن عباس في صلاة الجمعة، وهي رواية كذلك عند الحنابلة

(2)

، وهي أنه يجوز تقديم وقت صلاة الجمعة قبل الزوال، ولهم أدلة يتمسكون بها، وما هي إلا مفهومات أحاديث، فكانوا يخرجون ويمشون تحت الحيطان؛ ليتتبَّعوا الظل، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله في صلاة الجمعة.

والراجح: مذهب جمهور العلماء الذين يقولون: إن صلاة الجمعة تُصلَّى بعد الزوال؛ لأنه أحوط، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبادر بها من أول الزوال

(3)

.

(1)

يُنظر: "تفسير ابن كثير"(5/ 101) قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قيل لغروبها. قاله ابن مسعود، ومجاهد، وابن زيد، وقال هثيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن عباس:"دلوكها": زوالها. ورواه نافع، عن ابن عمر. ورواه مالك في تفسيره، عن الزهري، عن ابن عمر. وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية أيضا عن ابن مسعود. ومجاهد. وبه قال الحسن، والضحاك، وأبو جعفر الباقر، وقتادة. واختاره ابن جرير.

(2)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 21) قال: "ولجوازها، أي: الجمعة قبل الزوال".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين"(2/ 147) قال: "والثالث وقت الظهر فتبطل الجمعة بخروجه مطلقًا، ولو لاحقًا بعذر نوم أو زحمة على المذهب؛ لأن الوقت شرط الأداء لا شرط الافتتاح".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 372) قال: "الجمعة

وقوع كلها، أي: جميعها بالخطبة، أي: مع جنسها الصادق بالخطبتين وقت الظهر، فلو أوقع شيئًا من ذلك قبل الزوال لم يصح". =

ص: 1001

ولذلك يُذكلر عن أَبِي سُهَيلِ بْنِ مَالكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنتُ أَرَى طِنْفَسَةً (أي: سجادة) لِعَقِيلِ بنِ أَبِي طَالِبٍ، يومَ الجُمُعَةِ تُطرَحُ إِلى جِدَارِ المَسْجِدِ الغَرْبِيِّ، فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الجِدَارِ "خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَصَلَّى الجُمُعَةَ".

قَالَ مَالِكٌ وَالِدُ أَبِي سُهَيلٍ: "ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الجُمُحَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ"

(1)

.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي آخِرِ وَقْتِهَا المُوَسَّع، وَفِي وَقْتِهَا المُرَغَّبِ فِيهِ، فَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا المُوَسَّعِ، فَقَالَ مَالِكٌ

(2)

، وَالشَّافِعِيُّ

(3)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(4)

، وَدَاوُدُ

(5)

: "هُوَ أَنْ يَكُونَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(6)

: "آخِرُ الوَقْتِ أَنْ يَكُونَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيْهِ"، فِي

= ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 419 - 420) قال: "ولصحتها مع شرط، أي: شروط غيرها من الخمس شروط خمسة أحدها وقت الظهر بأن يبقى منه ما يسعها مع الخطبتين للاتباع رواه البخاري، وعليه جرى الخلفاء الراشدون فمن بعدهم، ولو أمر الإمام بالمبادرة بها أو عدمها فالقياس وجوب امتثاله، فلا يجوز الشروع فيها مع الشك في سعة الوقت اتفاقًا".

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 9)(13). وإسناده صحيح.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 176) قال: "فالمعنى حتى يصير ظلُّ كل شيء مثله بغير ظل الزوال فلا يحسب من القامة".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 417) قال: "الظهر

وآخره مصير ظل الشيء".

(4)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 394) قال: "واختلفوا في آخر وقت الظهر، فقالت طائفة: إذا صار كل شيء مثله بعد الزوال، فجاوز ذلك فقد خرج وقت الظهر، هذا قول

وأبي ثور".

(5)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 163) قال: "أول وقت الظهر أخذ الشمس في الزوال والميل؛ فلا يحل ابتداء الظهر قبل ذلك أصلًا، ولا يجزئ بذلك، ثم يتمادى وقتها إلى أن يكون ظل كل شيء مثله؛ لا يعد في ذلك الظل الذي كان له في أول زوال الشمس".

(6)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 359) قال: "ووقت الظهر

إلى بلوغ الظل مثليه، وعنه مثله".

ص: 1002

إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهُوَ عِنْدَهُ أَوَّلُ وَقْتِ العَصْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ هُوَ المِثْلُ، وَأَوَّلَ وَقْتِ العَصْرِ المِثْلَانِ، وَأَنَّ مَا بَيْنَ المِثْلِ وَالمِثْلَيْنِ لَيْسَ يَصْلُحُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّد

(1)

، وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الأَحَادِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ "أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ فِي اليَوْمِ الأَوَّلِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَفِي اليَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَه؛ ثُمَّ قَالَ: "الوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ""

(2)

).

قوله: (فَقَالَ مَالِل وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَهُ)، وكذلك الإمام أحمد

(3)

أيضًا معهم في قولهم هذا، فمن الاستدراكات على هذا الكتاب أنه في الغالب لا يذكر مذهب الإمام أحمد.

وأبو حنيفة له قولان

(4)

:

(1)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 122) قال: "وأما آخره فلم يذكر في ظاهر الرواية نصًّا، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، روى محمد عنه إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال، والمذكور في الأصل ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين، ولم يتعرض لآخر وقت الظهر، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن آخر وقتها إذا صار ظلُّ كل شيء مثله سوى فيء الزوال، وهو قول أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن والشافعي".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 249 - 251) قال: "الظهر

وتسمى الهجير

ووقتها من زوال الشمس وهو ميلها عن وسط السماء، أجمع العلماء على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس حكاه ابن المنذر وابن عبد البر

ويمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي زالت عليه الشمس، إن كان ثم ظل زالت عليه".

(4)

تقدَّم ذكرها قريبًا.

ص: 1003

القول الأول: أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظّهْرِ أَنْ يَكُونَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ أَوَّلُ وَقْتِ العَصْرِ.

القول الثاني: أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ هُوَ المِثْلُ، وَأَوَّلَ وَقْتِ العَصْرِ المِثْلَانِ، وَأَن مَا بَيْنَ المِثْلِ وَالمِثْلَيْنِ لَيْسَ يَصْلُحُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فمَا بَيْنَ المِثْلِ وَالمِثْلَيْنِ: هو فاصل بينهما، وقد وافقه الصاحبان: أبو يوسف القاضي، ومحمد الشيباني، على قوله هذا، ولم يوافقاه على الأول.

ففي حديث إمامة جِبْرِيلَ: أنه صلى بالرسول صلى الله عليه وسلم: الظهر في اليوم الأول: حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَكَانَتْ بِقَدْرِ الشِّرَاكِ.

والعصر في اليوم الأول: حِينَ كَانَ ظِل كُلِّ شَيءٍ مِثْلِهِ.

والظهر في اليوم الثاني: حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلِهِ، في الوقت الذي صلى به العصر في اليوم الأول.

والعصر في اليوم الثاني: حِينَ صَارَ ظِل كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيْهِ.

وقال للرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، الوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ"

(1)

.

• مسألة:

هل الوقت الذي صلَّى فيه العصر في اليوم الأول، وصلى فيه الظهر في اليوم الثاني، عندما يصير ظلُّ كلِّ شيء مثله هو وقت محدد؛ كما يقول -مثلًا- المالكية

(2)

: وقت مشترك تؤدى فيه صلاة الظهر والعصر، ولو قام

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 177) قال: "وعلى هذا فالعصر هي الداخلة على الظهر واشتركا، أي: الظهر والعصر بقدر إحداهما، أي: أن إحداهما تشارك الأخرى بقدر أربع ركعات في الحضر وركعتين في السفر، وهل الاشتراك في آخر القامة الأولى قبل تمامها بقدر ما يسع العصر وهو المشهور عند سند وغيره، وهو الذي قدمه المصنف، فمن صلى العصر في آخر القامة بحيث إذا سلم منها فرغت القامة صحت صلاته، ولو أخر الظهر عن القامة بحيث أوقعها في=

ص: 1004

اثنان أحدهما: يصلي الظهر، والآخر: يصلي العصر؛ هل كل منهما يصلي الصلاةَ في وقتها أم لا؟

الجواب:

من العلماء من يرى أنه من وقت الظهر من الزوال إلى أن يصير ظلُّ كلِّ شيء مثله؛ ثم بعد ذلك يدخل وقت العصر هذا يخص الظهر؛ ثم بعد المثل يدخل وقت العصر والظهر تشترك معها في ذلك، هذا روي عن عطاء وطاوس من التابعين، وإن اختلفوا في تفصيل ذلك، فعطاء: يقف بذلك إلى ما قبل الغروب

(1)

، وطاوس: يرى إن ذلك إلى الليل إلى أن تغرب الشمس

(2)

، ومثل ذلك في المغرب والعشاء

(3)

.

ووجهة هؤلاء:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ، وَالعَصْرِ، وَالمَغْرِبِ، وَالعِشَاءِ، فِي المَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ"

(4)

، وفي رواية:"وَلَا سَفَرٍ". قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "كَي لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ"، وفي رواية:"التَّوَسُّعَ عَلَى أُمَّتِهِ"

(5)

، وهذا سيأتي الكلام عنه إن شاء الله في موضعه.

= أول الثانية أثم، أو في أول القامة الثانية فالظهر داخلة على العصر فمن أخرها لأول الثانية فلا إثم ومن قدم العصر في آخر الأولى بطلت بناءً على أن أول وقت العصر أول الثانية".

(1)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 394) قال: "وقال عطاء: لا يفرط للظهر حتى تدخل الشمس صفرة".

(2)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 394) قال: "وقال طاوس: لا يفوت الظهر والعصر حتى الليل".

(3)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 399) قال: "وقد روينا عن طاوس أنه قال: لا تفوت المغرب والعشاء حتى الفجر".

(4)

أخرجه مسلم (705/ 54) وغيره.

(5)

أخرجه أحمد (3235) وغيره، وقال الأرناؤوط:"حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف".

ص: 1005

ولم يذكر المصنف حديث إِمَامَةِ جِبْرِيلَ كاملًا؛ فنسرده هنا بطوله ببعض رواياته:

عَنِ ابْن عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ البَيْتِ، فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَكَانَتْ بِقَدْرِ الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى بِي العَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيْهِ [مِثْلَهُ]، ثُمَّ صَلَّى بِي المَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ [حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ]، ثُمَّ صَلَّى بِي العِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى بِي الفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ [بَرَقَ الفَجْرُ] [بَرَقَ الفَجْرُ -أَوْ قَالَ: حِينَ سَطَعَ الفَجْرُ].

ثُمَّ صَلَّى الغَدَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ [صَارَ] ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَلَّى بِي العَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى بِي المَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ [وَقْتًا وَاحِدًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ]، ثُمَّ صَلَّى بِي العِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأوَّلِ، [حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ] ثُمَّ صَلَّى بِي الفَجْرَ فَأَسْفَرَ [حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا]، ثُمَّ التَفَتَ إليَّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، الوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ [مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ] "

(1)

.

"وَجَبَتِ الشَّمْسُ": غربت

(2)

.

"الشَّفَقُ": بَقِيَّةُ ضَوْءِ الشَّمْس وَحُمْرَتُهَا فِي أَوَّلِ اللَّيْل إِلَى قَرِيب مِنَ العَتَمَةِ

(3)

.

ذهب الجمهور إلى أن الشفق هو الأحمر

(4)

، ومذهب أبي حنيفة أنه

(1)

أخرجه الترمذي (149) وغيره، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(249).

(2)

وجبت الشمس: أي غابت، وأصل الوجوب السقوط. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 10).

(3)

"الشفق" من الأضداد: يقع على الحمرة التي ترى في المغرب بعد مغيب الشمس، وعلى البياض الباقي في الأفق الغربي بعد الحمرة المذكورة. انظر:"النهاية" لابن الأثير (2/ 487).

(4)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 178) قال:=

ص: 1006

الشفق الأبيض

(1)

، وهذه من المسائل التي فيها خلاف بين العلماء؛ فهل صلاة العشاء تكون بعد مغيب الشفق الأحمر، أو بعد مغيب الشفق الأبيض؟!

(2)

.

وبعضر المحققين: يرى أن الفرق بينهما ليس كبيرًا ولا يتجاوز اثنتي عشرة دقيقة؛ لكن الشفق الأحمر أولًا يغيب؛ ثم يبقى بياض ثم يتبعه؛ فالشفق: رقة الحمرة فيكون أمرًا بين البياض والحمرة

(3)

.

= "للعشاء من غروب حمرة الشفق للثلث الأول من الليل".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 420 - 421) قال: "والأحمر صفة كاشفة؛ إذ الشفق حيث أطلق إنما ينصرف للأحمر وخرج به الأصفر، والأبيض ولو لم يغب".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 253) قال: "ويمتد وقتها، أي: المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر".

(1)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 124) قال: "واختلفوا في تفسير الشفق، فعند أبي حنيفة هو البياض".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 124) قال: "وأما أول وقت العشاء فحين يغيب الشفق بلا خلاف بين أصحابنا

واختلفوا في تفسير الشفق، فعند أبي حنيفة هو البياض

وعند أبي يوسف ومحمد

هو الحمرة".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 178) قال: "والمختار للعشاء من غروب حمرة الشفق للثلث الأول من الليل".

ومدْهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 424) قال: "والعشاء يدخل وقتها

بمغيب الشفق الأحمر لما مر وينبغي ندب تأخيرها لزوال الأصفر، والأبيض خروجًا من خلاف من أوجب ذلك ".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (1/ 190) قال: "العشاء وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر، وآخره ثلث الليل".

(3)

قال النووي في "المجموع شرح المهذب"(3/ 41): "وقال صاحب التتمة: في بلاد المشرق نواح تقصر لياليهم فلا يغيب الشفق عندهم، فأول وقت العشاء عندهم أن يمضي من الزمان بعد غروب الشمس قدر يغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم.

فرع. قيل إن ما بين المغرب والعشاء نصف سدس الليل، فإن طال الليل طال نصف السدس، وإن قصر قصر".

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة ذلك في "مجموع الفتاوى"(22/ 93)؛ فلعل الشارح=

ص: 1007

"بَزَقَ الفَجْرُ": طلع الفجر

(1)

، والمراد بالفجر هو الفجر الصادق؛ فهناك فجران

(2)

:

الفجر الكاذب: وهو البياض المُسْتَطِيل الدقيق في السماء، ويشبهونه بـ (ذنب السِّرْحَان) يعني: الذئب. لا يحل أداء صلاة الصبح ولا يحرم الأكل على الصائم

(3)

.

والفجر الصادق: هو البياض المُسْتَطِيرُ الذي ينتشر في السماء، الذي يأتي بعد الكاذب، وبه يدخل وقت صلاة الفجر

(4)

.

= رحمه الله تعالى يقصد بالمحققين كلام شيخ الإسلام، ولكن كلام شيخ الإسلام ليس مقدرًا بالوقت، حيث قال:"أما وقت العشاء فهو مغيب الشفق الأحمر لكن في البناء يحتاط حتى يغيب الأبيض فإنه قد تستتر الحمرة بالجدران فإذا غاب البياض تيقن مغيب الأحمر. هذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد. وأما أبو حنيفة. فالشفق عنده هو البياض وأهل الحساب يقولون: إن وقتها منزلتان لكن هذا لا ينضبط فإن المنازل إنما تعرف بالكواكب بعضها قريب من المنزلة الحقيقية وبعضها بعيد من ذلك. وأيضًا فوقت العشاء في الطول والقصر يتبع النهار فيكون في الصيف أطول كما أن وقت الفجر يتبع الليل فيكون في الشتاء أطول. ومن زعم أن حصة العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء وفي الصيف: فقد غلط غلطًا حسيًّا باتفاق الناس".

وأما الشفق الأبيض أو ما يُسمَّى بالبياض، فلم أجد من تعرض لمدته إلا ما نقل الحطاب في "مواهب الجليل" (1/ 397) عن القاضي عياض؛ قال:"روي عن الخليل بن أحمد أنه قال: رقبت البياض فوجدته يبقى إلى ثلث الليل، وفي مختصر ما ليس بالمختصر إلى نصف الليل، فلو رتب الحكم لزم تأخير العشاء إلى نصف الليل أو آخره".

(1)

يبزغ الفجر، أي: بدا طلوعه، وقيل بزقت أيضًا بالقاف بمعناه. انظر:"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 87).

(2)

"الفجر" من: انفجر الشيء، إذا انفتح، والفجر فجران، يقال للأول منهما: الكاذب، والثاني: الصادق. انظر: "حلية الفقهاء" لابن فارس (ص 74).

(3)

"السرحان" الذئب، وإنما يشبه بذنب السرحان؛ لأنه مستدق صاعد في غير اعتراض، وهو الفجر الكاذب الذي لا يحل شيئًا ولا يحرمه. انظر:"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 174).

(4)

"الفجر الثاني" هو: المستطير الصادق، سمي مستطيرًا لانتشاره في الأفق. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 77).

ص: 1008

وجبريل عليه السلام صلى بالرسول صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الثاني، في الوقت الذي صلى به العصر في اليوم الأول.

وصلى به المغرب في اليوم الثاني، في الوقت الذي صلاه به في اليوم الأول، ولذا يقول كثير من العلماء: إن للمغرب وقتًا واحدًا.

وصلى به العشاء في اليوم الثاني، عندما مضى ثلث الليل، أو نصفه.

وثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَخَّرْتُ صَلَاةَ العِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، أَوْ نِصْفِ اللَّيْلِ"

(1)

.

وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر بغَلَس -تارةً

(2)

، ويصلي الفجر ويسفر بها تارةً

(3)

.

• مسألة:

أيهما أفضل في صلاة الفجر التغليس أم الإسفار؟!

(4)

.

الجواب:

الراجح: أن الأفضل هو التغليس؛ لأن آخر الأمرين من الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه الترمذي (167) وغيره، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(611).

(2)

أخرجه البخاري (578)، ومسلم (645/ 231) عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس".

(3)

أخرجه مسلم (613/ 176) عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له:"صل معنا هذين" -يعني: اليومين- فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذن، ثم أمره، فأقام الظهر، ثم أمره، فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال:"أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"وقت صلاتكم بين ما رأيتم".

(4)

ستأتي هذه المسألة مفصلة في موضعها من الشرح.

ص: 1009

أنه كان يصلي بغلس، وكان النساء يخرجن مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ.

فعن عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ:"لَقَدْ كَانَ نِسَاءٌ مِنَ المُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ الفَجْرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، وَمَا يُعْرَفْنَ مِنْ تَغْلِيسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ"

(1)

.

* قوله: (وَرُوِيَ عَنْهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بَقَاؤُكمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُوتيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتينَا القُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الكِتَابِ: أَيْ رَبَّنَا، أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيءٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتيهِ مَنْ أَشَاءُ"

(2)

، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ

(3)

، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى مَفْهُوم ظَاهِرِ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كانَ مِنَ العَصْرِ إِلَى الغُرُوبِ أَقْصَرَ مِنْ أَوَّلِ الظُّهْرِ إِلَى العَصْرِ عَلَى مَفْهُومٍ هَذَا الحَدِيثِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ العَصْرِ أَكْثَرُ مِنْ قَامَةٍ، وَأَنْ يَكُون هَذَا هُوَ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ

(4)

.

هذا الحديث هو عمدة الحنفية، وهو متفق عليه في "صحيح البخاري"، و"مسلم"، وفي غيرهما، وأول من استدلَّ بهذا الحديث من

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (557).

(3)

تقدَّم نقل مذاهبهم في هذه المسألة.

(4)

تقدَّم نقل مذهبه في هذه المسألة.

ص: 1010

الحنفية، هو صاحب "الأسرار المعروفة" الدبوسي

(1)

، ثم بعد ذلك تابعه من جاء بعده من الحنفية، ولا أدري إن سُبق إلى ذلك.

ومن التنبيهات الهامة التي نشير إليها: دقة العلماء وعمقهم في الاستنباط، كيف استطاع علماء الحنفية أن يستخرجوا الدليلَ من هذا الحديث، وكيف بنَوْا وجه الدلالة منه؛ ليقوى مذهبهم، بأن صلاة الظهر تنتهي عندما يصير ظلُّ كل شيء مثليه، وهو أول وقت صلاة العصر!!

وإن لم نوافق الحنفية في استدلالهم؛ لأن أدلة الجمهور نصٌّ في المسألة، وأدلتهم مفهومة إلا أننا أعجبنا باجتهادهم ونظرهم للأدلة.

شرح الحديث:

"إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ": مثلكم.

"أَهْلُ التَّوْرَاةِ": هم اليهود.

"أَهْلُ الإِنْجِيلِ": هم النصارى.

"ثُمَّ عَجَزُوا": لم يستطيعوا المواصلة، فلم يكمل اليهود والنصارى العمل.

* فَائدةٌ:

* غضبت اليهود والنصارى بكثرة العمل على كثرة علمهم، وقلة أجورهم، وسألوا عن السبب؛ فأجابهم الله:"هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيءٍ؟ "؛ قالوا: لا.

وهكذا الظن في الله، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال تعالى في الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي،

(1)

هذا لم يطبع كاملًا، بل طبع منه المناسك فقط قبل سنوات، وقد حقق الباقي في حوالي عشر رسائل علمية في السعودية ولكنه لم يطبع، وسيذكر ذلك الشارح قريبًا.

ص: 1011

وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا"

(1)

، ومن يظلم في هذه الدنيا فسيحاسب على ظلمه لا شكَّ، وفي الحديث:"المُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ"

(2)

.

فما هضمهم الله سبحانه وتعالى من حقِّهم شيئًا، وما بخسهم، بل وفَّاهم بذلك؛ فهو يجازي الناس على عملهم، ولا يظلمهم، ثم أجابهم:"فَهُوَ فَضْلِي أُوتيهِ مَنْ أَشَاءُ".

ومثله: حديث "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ"

(3)

.

فقد نجد رجلين من الصالحين، هذا يعمل صالحًا، وهذا يعمل صالحًا، لكن يعطي الله مِبئنهَ الأولَ مالًا، فينفق منه آناء الليل وأطراف النهار" فتزداد حسناته وترتفع درجاته عن الآخر، وهذا أيضا من فضل الله سبحانه وتعالى على خلقه.

ثم إن العبرة ليست بكثرة العمل، وإنما بتحسين هذا وتقديمه كما أراد طالبه، قال الله:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] فقد يعمل الإنسان أعمالًا كثيرة، ولكن لا يقبلُ الله منها إلا القليل، لأن صاحبها غير محسن في أكثرها

(4)

؛ فقد يختلف الناس في الصلاة بين خاشع، وغافل؛ والخشوعِ في الصلاة علامة ثبات القلب؛ ولذا قال سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ لما رَأَى رَجُلَا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ:"إِنّي لَأَرَى هَذَا لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ"

(5)

؛ فكلما خشع في الصلاة ازداد تواضعًا ووقارًا وأجرًا وقُربًا

(1)

هذا جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (2577/ 55) عن أبي ذر.

(2)

أخرجه مسلم (1827/ 18) عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".

(3)

هذا جزء من حديث أخرجه مسلم (1006/ 53) عن أبي ذر.

(4)

قال وهيب بن الورد: "لا يكن همّ أحدكم في كثرة العمل، وليكن همه في إحكامه وتحسينه؛ فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته". يُنظر: "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 422).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 266) وغيره.

ص: 1012

من الله، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 - 2].

وقد يحسِّنُ العبد عملَه القليل، ويمتاز على غيره، وقد تكون كثرة العمل مع حسنه ترفع الدرجات، لكن قد يكون القليل من العمل مع الإخلاص وصدق النية والصفاء والتوجه إلى الله سبحان وتعالى يرفع صاحبه أكثر.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:"هِيَ فِي النَّارِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:"هِيَ فِي الجَنَّةِ"

(1)

.

فالمرأة الأولى كان عملها كثيرًا ومع ذلك لم ينجها، والمرأة الأخرى كان عملها قليلًا، وربما كانت تقتصر على الواجبات منه كانت خيرًا منها، وأنجاها الله به.

قوله: " (فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ) "، ويضاف إليهم أحمد

(2)

.

‌استدلال الحنفية من الحديث

وجهة دلالة الحنفية من حديث: "إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ" أنه يدلُّ على أن المسلمين أقلُّ من غيرهم؛ فلو قلنا: إن صلاة العصر تبدأُ من المثل إلى الغروب أو إلى حتى المثلين؛ لكان هذا الوقت أطول من وقت الزوال إلى المثل، وهذا يخالف ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه أحمد (9675) وغيره، وصححه الألباني في "الصحيحة"(190).

(2)

قدمنا ذكر مذاهبهم في المسألة.

ص: 1013

وأجابهم جمهور العلماء بأجوبة عدة؛ منها

(1)

:

الأول: أن حديث إمامة جبريل نصٌّ في: أن وقت الظهر يبدأ بالزوال، وينتهي عند المثل.

الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ" في حديث إمامة جبريل؛ لأنهم يقولون: إن وقت الظهر يبدأ بالزوال وينتهي بالمثلين؛ فلو قلنا: وقت العصر يبدأ بالمثلين لما انطبق هذا القول على مذهب الحنفية؛ لأن الوقت ما بين هذين الوقتين؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأدلة القوية التي يرد بها على الحنفية.

الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر هنا صلاة العصر، ولم يذكر وقت العصر، وصلاة العصر -كأي صلاة- لا بد أن يتهيأ المسلم لها بالطهارة، وقد يصلي ركعتين؛ ثم ينتظر الأذان والإقامة، وكل هذا يسبق الصلاة، وتأخذ هذه الأعمال من هذا الوقتِ إلى حين يأتي وقت الصلاة.

الرابع: أنه ربما كان قصد الرسول صلى الله عليه وسلم أن عمل اليهود والنصارى مجتمعًا كان أكثر من عمل المسلمين، ومع ذلك أعطوا قيراطًا قيراطًا، وهذا السبب من أكثر الأسباب التي يذكرها العلماء.

(1)

قال النووي في "المجموع"(3/ 23): "وأوجز إمام الحرمين في "الأساليب" فقال: عمدتنا حديث جبريل ولا حجة للمخالف إلا حديث ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسعات والمجاز، ثم التأويل متطرق إلى حديثهم ولا يتطرق إلى ما اعتمدناه تأويل، ولا مطمع في القياس من الجانبين هذا كلام الإمام وأجاب الأصحاب عن حديث ابن عمر بأربعة أجوبة، (أحدها): جواب إمام الحرمين المذكور، (الثاني): أن المراد بقولهم: أكثر عملًا أن مجموع عمل الفريقين أكثر، (والثالث): أن ما بعد صلاة العصر مع التأهب لها بالأذان والإقامة والطهارة وصلاة السنة أقل مما بين العصر ونصف النهار، (الرابع): حكاه الشيخ أبو حامد في تعليقه عن أبي سعيد الإصطخري، قال: كثرة العمل لا يلزم منها كثرة الزمان فقد يعمل الإنسان في زمن قصير أكثر مما يعمل غيره في زمن مثله أو أطول منه". وانظر: "الاستذكار"(1/ 29) وما بعدها، "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 418) وما بعدها، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 140) وما بعدها.

ص: 1014

الخامس: أن الحديث ورد مضربًا للمثل، القصد منه: التمثيل؛ فلا يمكن أن ندع أدلةً قطعية صحيحةً، وهي نص في المدعى، تدلُّ على أول الوقت وآخره، ثم نأخذ بمفهوم حديث جاء مضربًا للمثل، وهناك كلام أيضًا للعلماء غير ذلك، ولكن هذا التعليل من أقوى التعليلات في نظري، في الرد على الحنفية في استدلالهم بهذا الحديث.

*‌

‌ فائدة:

أول ما بدأ الفقه كان مسائل جزئية؛ ثم بدأت تتسع، وأخذ الأئمة يتوسعون في مسائله ويجتهدون فيها؛ ثم جاء تلاميذهم؛ فخرجوا على مسائلهم؛ ثم بعد ذلك أخذ العلماء يبحثون عن أدلة وعلل الأحكام، ويزيدون في التخريج؛ ثم بعد ذلك خرجت كتب الخلاف والأدلة.

فكتب الأدلة جاءت متأخرة، ولذلك الدبوسي من أول مَن كتب في مسائل الخلاف في الفقه، وكتابه:"الأسرار المعروفة"، يعنى فيه بالأدلة النقلية، والأدلة العقلية والمناقشات، والكتاب كبير، وقد طبع منه أجزاء متفرقة، ولا يزال مخطوطًا، وهو مِن أول ما كُتب في الأدلة وأقواه، ولا يستطيع أن يتعمق فيه إلا طالب العلم الذي درس الفقه بدقة.

* قوله: (قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: "وَلَيْسَ كمَا ظَنُّوا وَقَدِ امْتَحَنْتُ الأمْرَ فَوَجَدْتُ القَامَةَ تَنْتَهِي مِنَ النَّهَارِ إِلَى تِسْع سَاعَاتٍ وَكَسْرٍ"؛ قَالَ القَاضِي: "أَنَا الشَّاكُّ فِي الكَسْرِ، وَأَظُنُّهُ قَالَ: وَثُلثٍ"

(1)

، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِاتِّصَالِ الوَقْتَيْنِ، (أَعْنِي: اتِّصَالًا -لَا بِفَصْلٍ- غَيْرَ مُنْقَسِمٍ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ

(1)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 191) قال: "وقت الظهر أطول من وقت العصر أبدًا في كل زمان ومكان؛ لأن الشمس تأخذ في الزوال في أول الساعة السابعة، ويأخذ ظل القائم في الزيادة على مثل القائم -بعد طرح ظل الزوال- في صدر الساعة العاشرة؛ أما في خمسها الأول إلى ثلثها الأول: لا يتجاوز ذلك أصلا في كل زمان ومكان".

ص: 1015

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا يَخْرُجُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ أُخْرَى"، وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِثٌ

(1)

).

وقد ذكر المؤلف عن ابن حزم أنه حسب الساعات، وعدَّها، ووجد كلامهم غير منضبط، وغير صحيح.

وأيضًا ممن أخذ ذلك على الحنفية الإمام الجليل ابن عبد البر صاحب شارح "الموطإ" في كتابيه "الاستذكار"

(2)

، و"التمهيد"

(3)

بيد أن الحنفية خالفوا في ذلك جماهير العلماء، وقد تمسكوا بحديث لا دلالة فيه على صحة مذهبهم.

ويبدو أن المؤلف أورد حديث: "لَا يَخْرُجُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ أُخْرَى"

(4)

بمعناه لا بلفظه؛ لأن الحديث الثابت المعروف الذي في "صحيح مسلم" قوله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِيَّ النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى

(1)

هذا الحديث رواه المصنف بالمعنى أخرجه الترمذي (151) وغيره عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس"، وصححه الألباني في "الصحيحة"(1696).

(2)

يُنظر: "الاستذكار"(1/ 26) حيث قال: "وقال أبو حنيفة آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثليه فخالف الآثار والناس لقوله بالمثلين في آخر وقت الظهر وخالفه أصحابه في ذلك".

(3)

يُنظر: "التمهيد"(8/ 75 - 76) حيث قال: "وقال أبو حنيفة آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثليه فخالف الآثار والناس لقوله بالمثلين في آخر وقت الظهر، وخالفه أصحابه وذكر الطحاوي رواية أُخرى عن أبي حنيفة زعم أنه قال آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله على قول الجماعة، ولا يدخل في وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه فترك بين الظهر والعصر وقتًا مفردًا لا يصلح لأحدهما".

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1016

مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةَ الأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِه لَهَا، فَإِذَا كلانَ الغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا"

(1)

؛ فالحديث الذي أورده المؤلف صحيح المعنى؛ بلا شك.

* فائدة:

الغرض من وضع علامات الترقيم في الكتابة؛ كالفواصل والنقاط والشرط وعلامات الاستفهام والتعجب، هو إرشاد القارئ وإفهامه للمكتوب متى يقف، ومتى يستأنف؛ ففوائدها عظيمة وكان النساخ في القديم يهتمون بها جدًّا.

* قوله: (وَأَمَّا وَقْتُهَا المُرَغَّبُ فِيهِ وَالمُخْتَارُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لِلْمُنْفَرِدِ أَوَّلُ الوَقْتِ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا عَنْ أَوَّلِ الوَقْتِ قَلِيلًا فِي مَسَاجِدِ الجَمَاعَاتِ

(2)

).

يرى مالك أن المنفرد يستحب له أداء صلاة الظهر في أول وقتها؛ لأنه لا مشقة عليه، فيسير عليه أن يهيئ نفسه للصلاة في أول وقتها؛ فهو يختار مكانه في الظلِّ، ويحضر وضوءه، وغيرها؛ فلا يرى وجهًا لتأخيره الصلاة عن أول وقتها.

أما الذي يصلي في الجماعة فإنه يخرج إلى المسجد، وربما يخرج في شدَّة الحرِّ، وربما يكون المسجد بعيدًا، وقد لا يجد من يدله، وفي هذا حرج عليه ومشقة، ولذلك رأى استحباب تأخير أداء صلاة الظهر عن أول وقتها، مع أن بعض العلماء لا يرى لهذا التفريق وجهًا.

(1)

أخرجه مسلم (681/ 311) وغيره عن أبي قتادة.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 180) قال: "والأفضل له تقديمها منفردًا على إيقاعها في جماعة يرجوها آخره لإدراك فضيلة أول الوقت، ثم إن وجدها أعاد لإدراك فضل الجماعة

والأفضل للجماعة تقديم غير الظهر، ولو جمعة والأفضل لها تأخيرها، أي: الظهر لربع القامة بعد ظل الزوال صيفًا وشتاءً لأجل اجتماع الناس فليس هذا التأخير من معنى الإبراد".

ص: 1017

ولا يفهم من هذا المذهب أن مالكًا يرى ترك صلاة الجماعة؛ هذه مسألة أُخرى.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "أَوَّلُ الوَقْتِ أَفْضَلُ إِلَّا فِي شِدَّةِ الحَرِّ"

(1)

، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ

(2)

).

وكذلك أحمد

(3)

؛ فيرى الإمامان الشافعي وأحمد أن أداء صلاة الظهر في أول وقتها أفضل إلا في شدَّة الحرِّ؛ فيستحب تأخيرها حتى يلطف الجو؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أَبْردُوا بِالظُّهْرِ؛ فَاِنَّ شِدَّة الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"

(4)

، وقَالَ:"أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ"

(5)

، وقَالَ:"أَبْرِدُوا عَنِ الحَرِّ فِي الصَّلَاةِ"

(6)

، وعن أبي برزة الأسلمي؛ قال:"كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الهَجِيرَةَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ"

(7)

.

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 376 - 377) قال: "ويسن الإبراد بالظهر، أي: تأخيره عن أول وقته في شدة الحر إلى أن يصير للحيطان ظل يمشي فيه طالب الجماعة

والمعنى فيه أن في التعجيل في شدة الحر مشقة تسلب الخشوع أو كماله فسن له التأخير".

(2)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (18/ 169 - 170) قال: "في الإبراد في الحر بالصلاة قال مالك: قال عمر بن الخطاب لأبي محذورة: إنك بأرض حارة فأبرد فكأني عندك

وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فقال أبو الفرج: اختار مالك رحمه الله لجميع الصلوات أول أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر

فقال: إن هذا هو مذهب مالك، ولم يفرق بين الجماعة والفذ على ظاهر الحديث".

(3)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 141) قال: "والأفضل: تعجيلها، أي: الظهر

إلا مع حر مطلقًا سواء كان البلد حارًّا أو لا، صلى في جماعة أو منفردًا في المسجد أو في بيته

لعموم حديث: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم"" متفق عليه، وفيحها: غليانها وانتشار لهبها ووهجها. فتؤخر مع حر حتى ينكسر الحر".

(4)

أخرجه البخاري (538)، وغيره عن أبي سعيد.

(5)

أخرجه البخاري (536)، ومسلم (615/ 180) عن أبي هريرة.

(6)

أخرجه مسلم (183/ 615) وغيره عن أبي هريرة.

(7)

أخرجه البخاري (547) وغيره.

ص: 1018

فالجمهور على استحباب تأخيرها عن أول وقتها حتى يلطف الجو، لأن مالكًا معهم أيضًا في هذه المسألة من حيث الجملة.

وتسمَّى صلاة الظهر بالظهر، وسبب تسميتها بذلك: لظهورها وبروزها في وسط النهار

(1)

.

وتسمى بالهَجِير؛ لأنها تصلى في الهاجرة، وفي وقت انتصاف النهار، وتسمى بالأُولَى

(2)

.

* فائدة:

وكذلك يرى الإمامان الشافعي

(3)

، وأحمد

(4)

أن تأخير أداء صلاة العشاء أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العشاء، وقال:"لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأخَّرْتُ صَلَاةَ العِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، أَوْ نِصْفِ اللَّيْلِ"

(5)

، وثبت عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ العِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، حَتَّى نَامَ القَوْمُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا، ثُمَّ نَامُوا، ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا"، قَالَ قَيْسٌ: فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ وَلَمْ يَذْكرْ أَنَّهُمْ تَوَضَّؤوا"

(6)

، وقد ذكرنا هذا أيضًا في كتاب الوضوء.

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَوَّلُ الوَقْتِ أَفْضَلُ بِإِطْلَاقٍ لِلْمُنْفَرِدِ

(1)

" الظهر" وهو: اسم لنصف النهار، سمي به من ظهيرة الشمس، وهو شدة حرها. وقيل: أضيفت إليه؛ لأنه أظهر أوقات الصلاة للأبصار. انظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 164).

(2)

"الهاجرة": ما بعد الزوال إلى قرب العصر. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 10).

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 424) قال: "والعشاء يدخل وقتها

بمغيب الشفق الأحمر لما مر وينبغي ندب تأخيرها لزوال الأصفر، والأبيض".

(4)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 143) قال: "ويليه، أي: وقت المغرب المختار للعشاء وهو أول الظلام

ويمتد وقتها المختار إلى ثلث الليل

وصلاتها، أي: العشاء آخر الثلث الأول من الليل أفضل".

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

أخرجه أحمد (2195) وغيره، وصحح إسناده الأرنؤوط.

ص: 1019

وَالجَمَاعَةِ، وَفِي الحَرِّ وَالبَرْدِ

(1)

وإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ إلا"حَادِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ ثَابِتَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"

(2)

، وَالثَّانِي:"أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالهَاجِرَةِ"

(3)

. وَفِي حَدِيثِ خَبَّابٍ: "أَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِهُمْ"، خَرَّجَهُ مُسْلِم. قَالَ زُهَيْرٌ رَاوِي الحَدِيثِ: قُلْتُ لِأبِي إِسْحَاقَ شَيْخِهِ: أَفِي الظُّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفِي تَعْجِيلِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ

(4)

، فَرَجَّحَ قَوْمٌ حَدِيثَ الإِبْرَادِ؛ إِذْ هُوَ نَصٌّ، وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الأَحَادِيثَ؛ إِذْ لَيْسَتْ بِنَصٍّ).

فمن العلماء من ذهب إلى أن أول الوقت أفضل مطلقًا، ومنهم من فرَّق بين الأوقات، كما ذكرنا

(5)

.

بل إن بعض العلماء فضَّل أداءَ صلاة الظهر في أول وقتها حتى لو اشتدَّ الحرُّ فيها، وذلك لما روي عن زيدِ بْنِ ثَابِتٍ؛ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالهَاجِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، فَنَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وَقَالَ:"إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ، وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ"

(6)

، وشدة الصلاة على الصحابة لاشتداد الحر أثنائها.

(1)

وهم الظاهرية، قال ابن حزم في "المحلى" (3/ 182):"وتعجيل جميع الصلوات في أول أوقاتها أفضل على كل حال، حاشا العتمة، فإن تأخيرها إلى آخر وقتها في كل حال وكل زمان أفضل؛ إلا أن يشق ذلك على الناس، فالرفق بهم أولى، وحاشا الظهر للجماعة خاصة في شدة الحر خاصة، فالإبراد بها إلى آخر وقتها أفضل".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه مسلم (619/ 190).

(5)

تقدَّم بيان مذاهب العلماء فيها.

(6)

أخرجه أبو داود (411) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(439).

ص: 1020

ومثله حديث خَبَّاب الذي ذكره المؤلف؛ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم "فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا" قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: "أَفِي الظُّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفِي تَعْجِيلِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ"

(1)

.

قوله: "حَرَّ الرَّمْضَاءِ" هي الرمل الحار بحرارة الشمس

(2)

.

قوله: "فَلَمْ يُشْكِهِمْ" من أشكى، إذا أزال شكواهم

(3)

.

والمعنى: أن الصحابة شَكَوْا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلَاة في الرمل الَّذِي اشتدت حرارته؛ فَلم يزل شكواهم.

وهذان الحديثان -وما في معناهما- مَنْسُوخانِ بِأَحَادِيث الإِبْرَاد.

فمن الأمور التي استُدركت على المؤلف- وخاصة في الأدلة-: أنه يسرد الأدلة، ولا يبين الناسخ والمنسوخ منها؛ فيظهر التعارض بين الأدلة.

مثلًا: أنه لو ذكر الأحاديث الذي استدلَّ بها الجمهور على الإبراد؛ كحديث المغيرة، ونبَّه إلى أن حديث خباب كان في أول الأمر ثم نسخ؛ لجمع بين الأدلة، وأزال كل خلاف؛ فيذكر أنهم كانوا يصلون بالهاجرة؛ ثم بعد ذلك صاروا يؤخرونها عن شدة الحر.

والأرجح في هذه المسألة: أن أداء صلاة الظهر في أول وقتها أفضل، ما لم يكن هناك حر؛ فإن كان هناك حر؛ فالأفضل الإبراد بها

(4)

.

* قوله: (وَقَوْمٌ رَجَّحُوا هَذِهِ الأحَادِيثَ لِعُمُومِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "وَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

"الرمض": حر الحجارة من الشمس. يُنظر: "غريب الحديث" لإبراهيم الحربي (3/ 1098).

(3)

فلم يشكهم، أي: لم يجبهم إلى ذلك، ولم يزل شكواهم. يُنظر:"النهاية" لابن الأثير (2/ 497).

(4)

قدمنا مذاهب أهل العلم فيها.

ص: 1021

لِأَوَّلِ مِيقَاتِهَا"، وَالحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهِ، أَعْنِي:"لِأَوَّلِ مِيقَاتِهَا" مُخْتَلَفٌ فِيهَا

(2)

).

الحديث المتفق عليه: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ، ثمَّ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"

(3)

؛ أما لفظ: "لِأَوَّلِ مِيقَاتِهَا" فليس في "الصحيحين"، وقد نبَّه عليه أيضًا المؤلف، وقال:(مُخْتَلَفٌ فِيهَا) من حيث الصحة وعدمها

(4)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ فِي مَوْضِعَيْنِ).

[الكلام على الصلاة الوسطى]

قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]، يأمر الله عباده في هذه الآية الكريمة بالمواظبة على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن، ومعاهدتهنَّ والالتزام بهن، وعلى الصلاة الوسطى منهنَّ

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (527) ومسلم (85/ 139) عن ابن مسعود ولفظه: "الصلاة على وقتها".

(2)

أخرج هذه الزيادة ابن خزيمة في "الصحيح"(327) وغيره.

وقوله: مختلف فيها؛ فلعله يعني أن صاحبا الصحيح أخرجا الحديث بدونها، مع أنها على شرطهما كما قاله الحاكم في "المستدرك"(1/ 300)، وقد ذكر الحاكم له شواهد.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم الكلام عليها، وقول الشارح رحمه الله: من حيث الصحة وعدمها، غير منضبط كما قدمنا بيانه.

(5)

قال ابن كثير في "التفسير"(1/ 645): "يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها

وخصَّ تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى".

ص: 1022

وننبِّه على أن الصلوات كلها مطلوب المحافظة عليها، وهي ركن من أركان الإسلام؛ لكن قد يؤكَّدُ على المحافظة على صلاة؛ لسبب من الأسباب، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ"

(1)

.

والعلماء مختلفون في المراد بالصلاة الوسطى في هذه الآية

(2)

.

يقول أكثر العلماء: هي صلاة العصر.

وأدلتهم قوية وكثيرة جدًّا؛ منها: ما نقل عن بعض الصحابة عن عليّ بن أبي طالب، وعن أبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وأبي أيوب، وهو أيضًا قول الإمامين أبي حنيفة

(3)

، وأحمد

(4)

كلهم يذهبون إلى أن المراد بالصلاة الوسطى: هي صلاة العصر، ومن أدلتهم:

(1)

أخرجه مسلم (651/ 252) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار".

(2)

قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(2/ 7 - 8): "واختلف الناس فيها على خمسة مذاهب؛ أحدها: أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح، وهذا قول ابن عباس، وجابر، وأبي موسى الأشعري

والمذهب الثاني: أنها صلاة الظهر، وهو قول زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر

والمذهب الثالث: أنها صلاة العصر، وهو قول علي، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي أيوب، وعائشة، وأم سلمة، وحفصة، وأم حبيبة، وجمهور التابعين

والمذهب الرابع: أنها صلاة المغرب وهو قول قبيصة

والمذهب الخامس: أنها إحدى الصلوات الخمس، ولا تعرف بعينها وهو قول نافع، وسعيد بن المسيب، والربيع بن خيثم".

(3)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 360) قال: "ووقت العصر منه إلى قبيل الغروب فلو غربت ثم عادت هل يعود الوقت بالظاهر، نعم، وهي الوسطى على المذهب".

(4)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 142) قال: "وهي، أي: العصر الصلاة=

ص: 1023

1 -

صحَّ عن أُمَّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنه سئلت عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى، فَقَالَتْ:"كُنَّا نَقْرَأُ فِي الحَرْفِ الأَوَّلِ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَصَلَاةِ العَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) "(1)، روي كذلك عن البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ

(2)

، وعن حفصة

(3)

، وقد نسخ في التلاوة.

2 -

عَنْ عليّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى، صَلَاةِ العَصْرِ، مَلَأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا"، ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ العِشَاءَيْنِ، بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ

(4)

، وهذا نصٌّ صريح.

3 -

وعَنْ عليّ، قَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهَا صَلاةُ الفَجْرِ، حَتَّى سَمِعْتُ

= الوسطى للخبر، بلا خلاف عن الإمام والأصحاب فيما أعلمه، ذكره في الإنصاف فهي بمعنى الفضلى والمتوسطة بين صلاة نهارية وصلاة ليلية، أو بين رباعيتين".

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 578) عن نافع قال: وسألت أمَّ حميد بنت عبد الرحمن عائشة رضي الله عنها عن الصلاة الوسطى، فقالت:"كنا نقرأها في الحهد الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وصلاة العصر {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ". والحديث عند مسلم (629/ 207) عن عائشة مرفوعًا.

(2)

أخرجه مسلم (630/ 208) عن البراء بن عازب، قال:"نزلت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] وصلاة العصر، فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فقال رجل كان جالسًا عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر، فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله، والله أعلم".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 578) عن نافع، أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم دفعت مصحفًا إلى مولى لها يكتبه، وقالت:"إذا بلغت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [لبقرة: 238] فآذني"، فلما بلغها جاءها، فكتبت بيدها:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]"وصلاة العصر"{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ".

(4)

أخرجه البخاري (2931)، ومسلم (627/ 205) -واللفظ له- عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا"، ثم صلاها بين العشاءين، بين المغرب والعشاء.

ص: 1024

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ يَوْمَ الخَنْدَقِ:"شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطَى: صَلاةِ العَصْرِ، مَلأ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا"

(1)

. وهذا نص صريح واضح قوي.

وكذلك يستدل أصحاب هذا القول بأدلة عامة، استنبط منها أن صلاة العصر لها مزايا خاصة بها؛ منها:

1 -

عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ فَاتَتْهُ العَصْرُ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ"

(2)

.

2 -

عَن أَبِي مُوسَى عَبْدِاللهِ بْنِ قَيْسٍ الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ"

(3)

، يعني: الفجر والعصر.

3 -

عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسلَمِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَقَالَ:"بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي اليَوْمِ الغَيْمِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ "

(4)

، وفي رواية:"مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ"

(5)

.

4 -

"إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ"

(6)

، وفيه دليل للذين يقولون بأن الصلاة الوسطى هي: الفجر.

ويقول فريق آخر: هي صلاة الظهر، وأدلتهم كالآتي

(7)

:

1 -

وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ

(1)

أخرجه النسائي فى "الكبرى"(358) وغيره عن زر، قال: قلنا لعبيدة سل عليًّا، عن صلاة الوسطى، فسأله؟ فقال: كنا نراها الفجر فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول يوم الأحزاب:"شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارًا".

(2)

أخرجه البخاري (552)، ومسلم (201/ 626) واللفظ له.

(3)

أخرجه البخاري (574)، ومسلم (215/ 635).

(4)

أخرجه ابن ماجه (694) وغيره، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(255).

(5)

أخرجه البخاري (553).

(6)

تقدَّم تخريجه.

(7)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 62) قال: "وقد اختلف أهل العلم في الصلاة الوسطى فقالت طائفة: صلاة الوسطى صلاة العصر

وفيه قول ثان وهو أن=

ص: 1025

بِالهَاجِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يُصلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، فَنَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وَقَالَ:"إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ، وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ"

(1)

، وشدة الصلاة على الصحابة لاشتداد الحر أثنائها؛ فورد هذا الحديث في أسباب نزول هذه الآية، وأن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى.

وروي أيضًا عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ، أنه قَالَ:"الصَّلَاةُ الوسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ"

(2)

، ونقل هذا عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ

(3)

، وعائشة

(4)

، وأبي هريرة

(5)

.

2 -

وعَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا وَقَالَتْ: "إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ فَآذِنِّي: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا، فَأَمْلَتْ عليّ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى، وَصَلَاةِ العَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ"، ثُمَّ قَالَتْ عَائِشَةُ:"سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "

(6)

.

فهذا الدليل استنبطوا منه أن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى، واستدلوا بـ "الواو" التي بين قوله:"وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى"، وَ"صَلَاةِ العَصْرِ"

= الصلاة الوسطى صلاة الظهر روي هذا القول عن ابن عمر وعائشة وعبد الله بن شداد". وانظر: "المغني" (1/ 274)، و"المجموع" للنووي (3/ 61).

(1)

أخرجه أبو داود (411) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(439).

(2)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 139) وغيره، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"(636).

(3)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 672) عن أبي سعيد الخدري يقول: "صلاة الوسطى هي صلاة الظهر" قال: فمرَّ علينا ابن عمر فقال عروة: أرسلوا إلى ابن عمر فسلوه فأرسلنا إليه غلامًا فسأله ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: هي صلاة الظهر فشككنا في قول الغلام فقمنا جميعًا فذهبنا إلى ابن عمر فسألناه فقال: هي الظهر".

(4)

ذكره الترمذي (1/ 341) معلقًا.

(5)

أثر أبي هريرة لم أقف عليه.

(6)

أخرجه مسلم (629/ 207) وغيره.

ص: 1026

فقالوا: ليست زائدة؛ فيدل على أن الصلاة الوسطى صلاة أُخرى غير صلاة العصر.

وخالفهم أصحاب القول الأول، فقالوا هي: زائدة، ومعنى هذا أن الصلاة الوسطى هي: العصر.

وروي أيضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: كَتَبْتُ مُصْحَفًا لِأُمِّ سَلَمَةَ فَأَمْلَتْ عليّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى صَلَاةِ العَصْرِ)

(1)

، بدون "الواو".

وبقول فريق آخر: هي صلاة المغرب

(2)

.

واستدلوا على ذلك بأنها جاءت وسطًا بين الصلوات في عدد الركعات.

وذكروا أيضًا أن صلاة الظهر هي الأولى، وصلاة العصر هي الثانية، وصلاة المغرب هي الثالثة فهي الوسط، وتكون صلاة العشاء الرابعة، وتكون صلاة الفجر الخامسة، ومعنى هذا أن الصلاة الوسطى هي: الفجر

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي داود في "المصاحف"(ص 218) عن عبد الله بن رافع قال: كتبت مصحفًا لأمِّ سلمة فأملت عليَّ: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر).

(2)

وهو قول قبيصة بن ذويب وابن قتيبة وقتادة.

قال البيهقي في "الكبرى"(1/ 675): "وروي عن قبيصة بن ذويب وهو من التابعين أنها صلاة المغرب". وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 400).

(3)

قال ابن قدامة في "المغني"(1/ 275): "وقيل: هي المغرب؛ لأن الأولى هي الظهر، فتكون المغرب الثالثة، والثالثة من كل خمس هي الوسطى؛ ولأنها وسطى في عدد الركعات، ووسطى في الأوقات؛ لأن عدد ركعاتها ثلاث، فهي وسطى بين الأربع والاثنين، ووقتها في آخر النهار وأول الليل، وخصت من بين الصلاة بأنها وتر، والله وتر يحب الوتر، وبأنها تصلى في أول وقتها في جميع الأمصار والأعصار".

ص: 1027

ويقول فريق آخر: هي صلاة العشاء

(1)

.

ومن العلماء من قال بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العشاء.

وبقول فريق آخر: هي صلاة الفجر

(2)

.

ويستدلون بأدلتهم عامة مشتركة مع صلاة العشاء أو العصر؛ مثل:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصلَاةُ الفَجْرِ"

(3)

.

وقالوا: هذا تنصيص على أهمية صلاة الفجر.

2 -

وعَن أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْس الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ صلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ"

(4)

، يعني: الفجر والعصر.

(1)

وممن ذكر أن صلاة العشاء هي الصلاة الوسطى أحمد بن علي النيسابوري، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 400) قال: وقيل: هي العشاء ذكره أحمد بن علي النيسابوري. وانظر: "المجموع" للنووي (3/ 61)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 275 - 276).

(2)

وهو المشهور عند المالكية، ونص عليه الشافعي:

مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 400) قال: "وأما قوله وهي الوسطى فأشار به إلى أن صلاة الصبح هي الصلاة الوسطى، وهذا قول مالك وهو المشهور وهو قول علماء المدينة".

وقول الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (2/ 6) قال: "وقد اختلف العلماء في الصلاة الوسطى، فالذي اختاره الشافعي أنها صلاة الصبح؛ فإنها محتوشة بصلاتين ليلتين قبلها، وصلاتين نهاريتين بعدها، وهي حرية بمزيد الاستحثاث، من حيث إن وقتها يوافي الناس وأكثرهم في غمرات النوم والغفلات. ثم الذي ذكره الشافعي وإن كان ظاهرًا، فهو مظنون، والذي يليق، بمحاسن الشريعة، ألا تتبين على يقين؛ حتى يحرص الناس على جميع الصلوات، حتى توافق الصلاة الوسطى، كدأب الشريعة في ليلة القدر. وقد ورد خبر في غزوة الخندق يدل على أن الصلاة الوسطى هي: صلاة العصر والله أعلم".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1028

فهذه الأقوال المشهورة في تعيين الصلاة الوسطى، وهناك من تجاوزها؛ لكن أظهرها أقواها أن الوسطى هي صلاة العصر؛ ثم يليها في القوة صلاة الفجر.

* قوله: (أَحَدُهُمَا: فِي اشْتِرَاكِ أَوَّلِ وَقْتِهَا مَعَ آخِرِ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ.

وَالثَّانِي: فِي آخِرِ وَقْتِهَا، فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الِاشْتِرَاكِ، فَإِنَّهُ اتَّفَقَ مَالِكٌ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

، وَدَاوُدُ

(3)

، وَجَمَاعَةٌ

(4)

عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ العَصْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَذَلِكَ إِذَا صَارَ ظِلُّ كلِّ شَيءٍ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَرَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلَ وَقْتِ العَصْرِ هُوَ وَقْتٌ مُشْتَرَكٌ لِلصَّلَاتَيْنِ مَعًا، أَعْنِي: بِقَدْرِ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعَ رَكعَاتٍ

(5)

).

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير وحاشية الدسوقي (1/ 177) قال: "وهو أي آخر وقت الظهر أول وقت العصر الاختياري، وينتهي للاصفرار وعلى هذا فالعصر هي الداخلة على الظهر".

(2)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 418 - 419) قال: "وهو أي مصير ظل الشيء مثله سوى ظل الاستواء، أي: عقبه هو أول وقت العصر، لكن لا يكاد يتحقق ظهور ذلك إلا بأدنى زيادة وهي من وقت العصر فلو فرض مقارنة تحرمه لها باعتبار ما يظهر لنا صح نظير ما قالوه في عرض الشراك أن فعل الظهر لا يسن تأخيره عنه، والتأخير في خبر جبريل لمصير الفيء مثله ليس للاشتراط، بل؛ لأن الزوال لا يتبين بأقل من قدره عادة فإن فرض تبينه بأقل منه عمل به".

(3)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 163 - 164) قال: "فإذا زاد الظل المذكور على ما ذكرنا بما قل أو أكثر فقد بطل وقت الدخول في صلاة الظهر؛ إلا للمسافر المجد فقط؛ ودخل أول وقت العصر".

(4)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 396) قال: "واختلفوا بعد؛ فقال بعضهم: آخر وقت الظهر أول وقت صلاة العصر، فلو أن رجلين على أحدهما الظهر والآخر العصر حين صار ظل كل شيء مثله لكانا مصليين للصلاتين في وقتهما، قال بهذا إسحاق ذكر ذلك عن ابن المبارك".

(5)

يُنظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 177) قال: "واشتركا، أي: الظهر والعصر بقدر إحداهما، أي: أن إحداهما تشارك الأخرى بقدر أربع ركعات في الحضر وركعتين في السفر".

ص: 1029

وقت العصر: إما أن يكون وقت فضيلة، وهو أولها بلا شك، وذلك موضع اتفاق بين العلماء، أو يكون وقت جواز

(1)

.

الخلاف في وقت صلاة العصر في أمرين:

الأول: في تعيين أول وقت صلاة العصر -وهو وقت الفضيلة- تبعًا للاختلاف في تعيين آخر وقت صلاة الظهر، وهو اختلاف الحنفية مع الجمهور

(2)

.

والثاني: في تعيين آخر وقت صلاة العصر -وهو وقت الجواز أو الضرورة- وهل يقف عند المثلين، أم أنه يتجاوز اصفرار الشمس، أم أنه يمتد إلى غروبها؟!

(3)

.

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (1/ 221) قال: "والوقت إما اختياري وإما ضروري، وهو الذي لا يجوز لغير المعذورين تأخير الصلاة إليه".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 419) قال: "والاختيار أن لا يؤخر بالفوقية عن وقت مصير الظل للشيء مثلين سوى ظل الاستواء إن كان؛ لأن جبريل صلاها به في ثاني يوم حينئذ ولها غير الأوقات الأربعة السابقة وقت اختيار وهو هذا".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 142) قال: "وقت ضرورة إلى الغروب

فتكون الصلاة فيه أداء

وتعجيلها، أي: العصر مطلقًا، أي: مع حر وغيم وغيرهما أفضل للأخبار".

(2)

تقدَّم مذهب الجمهور في وقت العصر، وأنه إذا صار ظل كل شيء مثله، خلافًا للحنفية.

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 122) حيث قال: "وإذا صار ظل العود مثليه من رأس الخط خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر عندهم".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 360) قال: "ووقت العصر منه إلى قبيل الغروب فلو غربت ثم عادت هل يعود الوقت بالظاهر، نعم".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 26) قال: "واختلفوا في آخر وقت العصر فقال مالك آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شيء مثليه بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، وهذا عندنا محمول من قوله على الاختيار وما دامت=

ص: 1030

محل الخلاف بين العلماء بسبب اختلاف توجيههم لحديث إمامة جبريل؛ فعندما صلى بالرسول صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الثاني حين كَان ظِلُّ كُلِّ شيءٍ مِثلهِ، وهو الوقت الذي صلَّى به العصر في اليوم الأول.

فهل هذا الوقت الذي صلَّى به الظهر في اليوم الثاني هو نفسه وقت العصر، أم أن هناك فصل بينهما، أم أنهما وقتان متلاصقان بحيث ينتهي هذا ويبدأ هذا؟!

جمهور العلماء ومن بينهم المالكية والشافعية والحنابلة

(1)

يذهبون إلى أن صلاة الظهر تنتهي بالمثل، وأن العصر تبدأ بذلك الوقت.

فأول وقت صلاة العصر عندهم: هو أن يصير ظلُّ كلِّ شيء مثله، وهذا ثبت في حديث إمامة جبريل

(2)

، وفي حديث بريدة

(3)

وفي غيره من الأحاديث الكثيرة وهي نص في الدلالة، ويضاف إلى ذلك الظل الذي كان موجودًا وقت الزوال؛ فإذا ما زاد أدنى زيادة؛ فإنه حينئذٍ يبدأ وقت صلاة العصر.

وأما الحنفية فيذهبون إلى أن صلاة العصر تبدأ بالمثلين

(4)

.

وبعض العلماء: لا يضيف زيادة الظلِّ الذي كان موجودًا وقت

= الشمس بيضاء نقية فهو وقت مختار أيضًا لصلاة العصر عنده وعند سائر العلماء".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 365) قال: "ويبقى وقته حتى تغرب الشمس".

ومدْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 252) قال: "وهو أي: بلوغ ظل الشيء مثليه سوى ظل الزوال آخر وقتها المختار في اختيار الخرقي وأبي بكر والقاضي، وكثير من أصحابه وقدمها في المحرر والفروع، وقطع به في المنتهى وغيره

وعنه إلى اصفرار الشمس، اختاره الموفق والمجد وجمع وصححها في الشرح وابن تميم وجزم بها في الوجيز".

(1)

تقدَّم مذهب الجمهور في هذه المسألة قريبًا.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم نقل مذهبهم.

ص: 1031

الزوال، وإنما يقول: ينتهي وقت صلاة الظهر حين يصير ظل كلِّ شيء مثله، وهو الوقت الذي يبدأ به وقت صلاة العصر.

ونتج عن هذا رأي لبعض العلماء منهم: عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه

(1)

، فقد ذهبا إلى أنه إذا صار ظلُّ كل شيء مثله، فإن ذلك الوقت صالح؛ لأن تؤدى فيه كلّ من الصلاتين: صلاة الظهر، وصلاة العصر، فهو وقت مشترك، وهي رواية كذلك عند المالكية

(2)

.

مثلًا: لو أن رجلين أحدهما: يصلي الظهر، والآخر يصلي العصر، في الوقت الذي يصير فيه ظلُّ كل شيء مثله؛ لأدى كل منهما الصلاة في وقتها؛ لأنه وقت مشترك.

فقال هؤلاء العلماء بوجود الاشتراك:

لقوله في حديث جبريل: "فصلى به الظهر في اليوم الثاني، في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول"

(3)

. وهذا هو موضع الخلاف في هذا القدر.

ولأن عدد ركعات الظهر أربع، وكذلك العصر مثلها، فإنه يجوز أن تؤدى فيه الصلاتين؛ لأنه مشترك بينهما.

قوله: "فَإِنَّهُ اتَّفَقَ مَالكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَدَاوُدُ، وَجَمَاعَة"، ومعهم أحمد

(4)

(1)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 397) قال: "وفيه قول رابع: وهو أن آخر وقتها غروب الشمس قبل أن يصلي المرء منها ركعة، هذا قول إسحاق بن راهويه، وبه قال الشافعي في أصحاب العذر".

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدرير (1/ 177) قال: "واشتركا، أي: الظهر والعصر بقدر إحداهما، أي: أن إحداهما تشارك الأخرى بقدر أربع ركعات في الحضر وركعتين في السفر".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 252) قال: "ووقتها المختار من خروج وقت الظهر إلى أن يصير ظل الشيء مثليه، سوى ظل الزوال إن كان".

ص: 1032

كذلك في هذه المسألة، لكن بعض العلماء يضيف شرطًا كما في المذهب الحنبلي، ففيه روايتان:

الرواية الأولى

(1)

: هي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ العَصْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ؛ كما قالوا.

الرواية الأخرى

(2)

: هو أن يزيد وقت العصر على المثل أدنى زيادة؛ لكنهم يشترطون ألا يوجد فصل بين الوقتين؛ فلا فاصل بينهما كما ذهب إلى ذلك الحنفية، ولا اشتراك كما ذهب إسحاق، وابن المبارك.

* قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ

(3)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(4)

، وَدَاوُدُ

(5)

فَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَهُمْ هُوَ الآنُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ العَصْرِ هُوَ زَمَانٌ غَيْرُ مُنْقَسِمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كمَا قُلْنَا أَوَّلُ وَقْتِ العَصْرِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ

(6)

، وَأَمَّا سَبَبُ

(1)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 433) قال: "وقال ابن تميم، وصاحب الفروع وغيرهما: وعن أحمد آخر وقت الظهر أول وقت العصر، قال في "الفروع": فبينهما وقت مشترك قدر أربع ركعات".

(2)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 4321 - 433) قال: "ووقتها من خروج وقت الظهر وهذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به أكثرهم، يعني: أن وقت العصر يلي وقت الظهر ليس بينهما وقت. وقيل: لا يدخل وقت العصر إلا بعد زيادة يسيرة عن خروج وقت الظهر. ويحتمله كلام الخرقي، و"التذكرة" لابن عقيل والتلخيص".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 417 - 418) قال: "وآخره مصير ظل الشيء

مثله سوى ظل استواء الشمس، أي: الظل الموجود عنده في غالب البلاد

وهو أي: مصير ظل الشيء مثله سوى ظل الاستواء، أي: عقبه هو أول وقت العصر".

(4)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 395) قال: "

وأبو ثور يقولون: أول وقت صلاة العصر إذا صار ظل كل شيء مثله".

(5)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 163 - 164) قال: "فإذا زاد الظل المذكور على ما ذكرنا بما قل أو أكثر فقد بطل وقت الدخول في صلاة الظهر؛ إلا للمسافر المجد فقط؛ ودخل أول وقت العصر".

(6)

تقدَّم نقل مذهبه في هذه المسألة، وسبب اختلافه مع الجمهور.

ص: 1033

اخْتِلَافِ مَالِكٍ مَعَ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ، فَمُعَارَضَةُ حَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي هَذَا المَعْنَى لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ

(1)

، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام الظُّهْرَ فِي اليَوْمِ الثَّانِي فِي الوَقْتِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ العَصْرَ فِي اليَوْم الأَوَّلِ

(2)

. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ العَصْرِ"، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

(3)

، فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ جِبْرِيلَ جَعَلَ الوَقْتَ مُشْتَرَكًا، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكا، وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ أَمْكَنَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي تَجَوَّزَ فِي ذَلِكَ؛ لِقُرْبِ مَا بَيْنَ الوَقْتَيْنِ، وَحَدِيثُ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ).

يرى "الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ" أنه إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله انتهى وقت الظهر، وبدأ وقت العصر؛ فلا فصل بين الوقتين ولا اشتراك بينهما.

ويفسرون ما ورد في حديث إمامة جبريل بأن جبريل صلى بالرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول حين صار ظلُّ كل شيء مثله، أي: حينما انتهى، يعني: بدأ به حين صار كلُّ شيء مثله، وفي اليوم الثاني: صلى به

(1)

هو ليس حديث ابن عمر كما قال المؤلف؛ إنما ابن عمرو بن العاص، وسينبه الشارح بعد قليل على أنه خطأ بالنسخ.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (612/ 172) وغيره عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"وقت الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس".

ص: 1034

الظهر، أي: انتهى من صلاة الظهر حين صار ظلُّ كل شيء مثله، وبذلك لا انفصال بين الوقتين ولا اشتراك

(1)

.

وبعض العلماء: يقول إن ذلك دليل على المقاربة، فصلى جبريل به الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى به العصر في اليوم الأول دليل على تقارب الوقتين

(2)

.

ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ، مَا لَمْ يَحْضُرِ العَصْرُ"

(3)

.

فهذا دليل للجمهور الذين يرون أن وقت الظهر ليس مشتركًا مع العصر، إلا لأهل الضرورة، وهذا معروف

(4)

.

(1)

قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(2/ 14): "فإن قيل: فتحمل صلاة جبريل به في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله على ابتداء الصلاة كما حملنا صلاته به في اليوم الأول عند الزوال على ابتداء الصلاة، قيل: لا يجوز أن تحمل صلاته في اليوم الأول إلا على الابتداء، وفي اليوم الثاني إلا على الانتهاء؛ لأن المقصود بها في اليوم الأول تحديد أول الوقت ولا يمكن تحديده إلا بابتداء الصلاة فيه، والمقصود بها في اليوم الثاني تحديد آخر الوقت، ولا يمكن تحديده إلا بانتهاء الصلاة فيه".

(2)

قال الكاساني في "بدائع الصنائع"(1/ 123): "ومعنى ما ورد أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كلُّ شيء مثليه، أي: قرب من ذلك فلا يكون منسوخًا؛ لأنا نقول: هذا نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغفلة وعدم التمييز بين الوقتين، أو إلى التساهل في أمر تبليغ الشرائع، والتسوية بين أمرين مختلفين، وترك ذلك مبهمًا من غير بيان منه أو دليل يمكن الوصول به إلى الافتراق بين الأمرين، ومنَله لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ".

(3)

أخرجه مسلم (612/ 173) وغيره عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان".

(4)

قال الماوردي في "الحاوي الكبير"(2/ 11): "قال الشافعي: "والوقت للصلاة وقتان وقت مقام ورفاهية، ووقت عذر وضرورة"، فقسم الشافعي أوقات الصلاة قسمين قسمًا جعله وقتًا للمقيمين المترفهين، وقسمًا ججله وقتًا للمعذورين والمضطرين".

ص: 1035

وكذلك أيضًا: قول جبريل بعد أن صلى بالرسول صلى الله عليه وسلم مرتين فى آخر الحديث: "يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، الوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ"

(1)

؛ فكونه فيما بين هذين، بين الزوال والمثل، دليل على أنه وقت العصر يعقب ذلك؛ فلينتبه.

وفي كتب الشافعية

(2)

، والحنفية

(3)

: ينصون على أن إذا صار ظل كل شيء مثله؛ فزاد أدنى زيادة -يعنى: قليل جدًا- يبدأ وقت العصر، ويكون وقت الظهر قد انتهى عند المثل.

وأما حديث عبد الله بن عمر

(4)

، وحديث إمامة جبريل؛ فظاهرهما التعارض:

أحدهما: جعل آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر.

والثاني: وضع حذا بين الصلاتين؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرِ العَصْرُ"؛ وظاهر هذا الحديث نصًّا ودلالةً أن وقت الظهر ينتهي بدخول وقت العصر.

ويرى المؤلف وغيره أن حديث عبد الله أقرب أن يحمل عليه حديث جبريل، من أن يحمل حديث جبريل على حديث عبد الله؛ لأن حديث جبريل يتطرق إليه الاحتمال؛ لوجود التقارب بين الوقتين.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 364 - 365) قال: "مصير ظل الشيء مثله سوى ما مرَّ أول وقت العصر للحديث المار، ولا يشترط حدوث زيادة فاصلة بينه وبين وقت الظهر، وأما قول الشافعي فإذا جاوز ظل الشيء مثله بأقل زيادة فقد دخل وقت العصر فليس مخالفًا لذلك بل هو محمول على أن وقت العصر لا يكاد يعرف إلا بها وهي منه".

(3)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 123) قال: "وأما أول وقت العصر فعلى الاختلاف الذي ذكرنا في آخر وقت الظهر، حتى روي عن أبي يوسف أنه قال: خالفت أبا حنيفة في وقت العصر فقلت: أوله إذا دار الظل على قامة اعتمادًا على الآثار التي جاءت، وآخره حين تغرب الشمس عندنا".

(4)

قدمت أنه من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص.

ص: 1036

أما حديث ابن عمر، فإنه نصٌّ في الدلالة وفي المدَّعى، لأنه قال صلى الله عليه وسلم:"وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرِ العَصْرُ"؛ فجعل وقت العصر غير وقت الظهر، وهذا أوضح دلالة وأصرح في ذلك.

والله سبحانه وتعالى قد فرض فرائض، وفرض ألا نضيعها، وحدَّ حدودًا، ونهانا عن تجاوزها، كما جاء في الحديث

(1)

.

والخلاف الذي وقع بين الجمهور والحنفية لم يكن تشهيًا؛ بل هو من الخلاف الذي أقره العلماء، وليس من الخلاف المذموم الذي ينتهي إلى التقاطع والتشاحن، أو الذي ينتهي إلى تفرقة هذا الأمة، إنما كان الخلاف للوصول إلى الحق فقط، فغايتهم كلهم رحمهم الله أن يصلوا إلى ما في كتاب الله عز وجل، وإلى ما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي آخِرِ وَقْتِ العَصْرِ: فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَان، إِحْدَاهُمَا

(2)

: أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(3)

. وَالثَّانِيَةُ

(4)

: أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ

(5)

، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: آخِرُ وَقْتِهَا قَبْلَ غُرُوبِ

(1)

معنى حديث أخرجه الدارقطني في "سننه"(5/ 325) عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها"، وضعفه الألباني في "غاية المرام"(ص 17).

(2)

يُنظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 202) قال: "آخر وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 419) قال: "والاختيار أن لا يؤخر بالفوقية عن وقت مصير الظل للشيء مثلين سوى ظل الاستواء إن كان".

(4)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 389) قال: "وهو أول وقت العصر للاصفرار

وذكر المصنف أن آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر المختار، وآخر وقتها المختار اصفرار الشمس

وهذا مذهب المدونة".

(5)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 252) قال: "وعنه إلى اصفرار الشمس، اختاره الموفق والمجد وجمع، وصححها في الشرح وابن تميم وجزم بها في الوجيز".

ص: 1037

الشَّمْسِ بِرَكعَةٍ

(1)

. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ مُتَعَارِضَة الظَّاهِرِ، أَحَدُهَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ:"فَإِذَا صَلَّيْتُمُ العَصْرَ، فَإِنَّهُ وَقْت إِلَى أَنْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ"

(2)

، وَفي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ:"وَقْتُ العَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ"

(3)

. وَالثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِمَامَةِ جِبْرِيلَ، وَفيهِ "أَنَّهُ صَلَّى بِهِ العَصْرَ فِي اليَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيْهِ"

(4)

. وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المَشْهُورُ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ"

(5)

، فَمَنْ

(1)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 164) قال: "ثم يتمادى وقت الدخول في العصر إلى أن تغرب الشمس كلها؛ إلا أننا نكره تأخير العصر إلى أن تصفر الشمس إلا لعذر، ومن كبر للعصر قبل أن يغرب جميع القرص: فقد أدرك العصر، فإذا غاب جميع القرص فقد بطل وقت الدخول في العصر".

(2)

أخرجه مسلم (612/ 171) وغيره عن عبد الله بن عمرو، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا صليتم الفجر فإنه وفت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول، ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر، فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس، فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه الترمذي (149) وغيره عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَمَّنِي جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين وإن الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر، وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلي جبريل، فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(249).

(5)

أخرجه البخاري (579)، ومسلم (608/ 163).

ص: 1038

صَارَ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ جَعَلَ آخِرَ وَقْتِهَا المُخْتَارِ المِثْلَيْنِ، وَمَنْ صَارَ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو جَعَلَ آخِرَ وَقْتِهَا المُخْتَارِ اصْفِرَارَ الشَّمْسِ، وَمَنْ صَارَ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَقْتُ العَصْرِ إِلَى أَنْ يَبْقَى مِنْهَا رَكعَةٌ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ كَمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الجُمْهُورُ، فَسَلَكُوا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ كانَ مُعَارِضًا لَهُمَا كُلَّ التَّعَارُضِ، مَسْلَكَ الجَمْعِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ تَتَقَارَبُ الحُدُودُ المَذْكُورَةُ فِيهِمَا، وَلذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ مَرَّةً بِهَذَا وَمَرَّةً بِذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَبَعِيدٌ مِنْهُمَا وَمُتَفَاوِتٌ فَقَالُوا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ أَهْلِ الأعْذَارِ).

اختلف العلماء في تحديد آخر وقت العصر، على ثلاثة أقوال:

1 -

وقت العصر يبدأ بالمثل وينتهي بالمثلين، وهذه رواية للأئمة مالك والشافعي

(1)

وأحمد

(2)

، وهذا ورد في حديث إمامة جبريل: مرة صلى به العصر عندما صار ظلُّ كل شيء مثله، ومرة عندما صار ظلُّ كل شيء مثليه؛ ثم قال جبريل في آخر الحديث:"يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، الوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ"

(3)

؛ فكونه فيما بين هذين، أن وقت العصر محصور بين المثل والمثلين.

2 -

وقت العصر يبدأ بالمثل وينتهي باصفرار الشمس.

(1)

تقدَّم نقله عنهما.

(2)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 252) قال: "ووقتها المختار من خروج وقت الظهر إلى أن يصير ظل الشيء مثليه، سوى ظل الزوال إن كان

وهو أي: بلوغ ظل الشيء مثليه سوى ظل الزوال آخر وقتها المختار".

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1039

وهي رواية للشافعي

(1)

ومالك

(2)

، وهو الصحيح في مذهب أحمد

(3)

: أن وقت صلاة العصر ينتهي عندما تصفرُّ الشمس، فيبدأ من المثل وينتهي باصفرار الشمس؛ كما جاء في "صحيح مسلم" وغيره: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْن العَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"وَوَقْتُ العَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ"

(4)

.

وكما جاء في حديث أبي موسى الأشعري في "صحيح مسلم" أن الرسول صلى الله عليه وسلم "أَخَّرَ العَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالقَائِلُ يَقُولُ قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ"

(5)

، يعني: في آخر اصفرارها.

والوقت ما بين المثلين وبين ما قبل الاصفرار وقت متقارب ضيق، وليس وقتًا واسعًا؛ إنما الوقت الذي هو أوسع يأتي بعد الاصفرار.

تنبيه: في بعض النسخ صُحِّف اسم الصحابي إلى عبد الله بن عُمَر، وهذا خطأ، والصحيح: عبد الله بن عمرو.

(1)

يُنظر: "فتح العزيز" للرافعي (3/ 17 - 18) قال: "وعلى ظاهر المذهب وقت الاختيار إلى مصير الظل مثليه وبعده وقت الجواز بلا كراهية إلى اصفرار الشمس، ومن اصفرار الشمس إلى الغروب وقت الكراهية، ومعناه: أنه يكره تأخيرها إليه".

(2)

تقدَّم نقله عنه.

(3)

تقدَّم نقل مذهبه فيها.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه مسلم (614/ 178) وغيره أبي موسى، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئا، قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره فأقام بالظهر، حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، تم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد طلعت الشمس، أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد احمرت الشمس، ثم أخَّر المغرب حمَى كان عند سقوط الشفق، ثم أخَّر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعًا السائل، فقال: الوقت بين هذين".

ص: 1040

3 -

وقت العصر يمتد إلى ما قبل الغروب، وهو مذهب الحنفية

(1)

، وأهل الظاهر

(2)

، والصحيح أيضًا من مذهب الشافعية

(3)

، وهو رأي لبعض العلماء

(4)

، ويستدلون بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ المَشْهُورِ:"وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ نَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ"

(5)

، وهو متفق عليه.

وجعل المؤلف هذا الحديث خاصًّا باهل الأعذار، وجعل وقتهم وقت ضرورة؛ لكن أيضا من فاتته الصلاة، وصلاها في ذلك الوقت من غير عذر؛ فإنه يكون مدركًا لها في وقتها.

وقصد المؤلف بالحديث المشهور هنا: هو المتفق عليه؛ لأن عادة المصنف أن يقول المشهور، ويقصد المتفق عليه، ويقول: الثابت ويقصد الذي هو في أحد "الصحيحين"، وقد يخالف ذلك أحيانًا.

ولا شكَّ أن الحنفية لا يقولون: إن العصر يبدأ بالمثل وينتهي بالمثلين؛ لأنه بداية الوقت عندهم؛ فيرون أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس أو حتى أقل من ركعة؛ فقد أدركها، لا سيما أن وقت العصر ضيق عندهم.

* فائدة:

يفرق الحنفية بين صلاتي العصر مع المغرب وبين الفجر؛ مع أنهم يرون أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس أو حتى أقل من ركعة؛ فقد أدركها؛ فيرون أن من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل

(1)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 360) قال: "ووقت العصر منه إلى قبيل الغروب فلو غربت ثم عادت هل يعود الوقت بالظاهر، نعم ".

(2)

تقدَّم نقله عنهم.

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 419) قال: "ويبقى وقته حتى تغرب الشمس للخبر الصحيح ".

(4)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 396) قال: "وفي قول ثالث: وهو أن آخر وقت العصر ما لم تصفر الشمس هذا قول أحمد، وأبي ثور، وبنحو ذلك قال الأوزاعي ".

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1041

شروق الشمس أو أقل من ركعة؛ فقد فاتته تلك الصلاة وبطلت؛ لأنه دخل في وقت النهي عن الصلاة

(1)

، وهذا رأي ضعيف ومردود.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ، قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ "

(2)

.

• مسألة: لو أن مسلمًا أدرك ركعة قبل صلاة المغرب، وليس من أهل الأعذار؛ كالرجل الذي كان نائمًا عن الصلاة فاستيقظ، ولا صغيًرا فبلغ، ولا مجنونًا فأفاق، ولا كافرًا فأسلم؛ أو كالمرأة التي كانت حائضًا أو نفساء فطهرت، ولكنه أخَّر الصلاة متعمدًا إلى ذلك الوقت؛ فأدرك ركعة قبل غروب الشمس؛ فهل يعتبر مدركًا لصلاة العصر في وقتها؛!

الصحيح: أنه مدرك لها؛ لكنه قصَّر بذلك؛ لأنه تجاوز الحد الذي وُضع له، والرسول صلى الله عليه وسلم حذَّر من تأخير صلاة العصر بقوله:"تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ فَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَي شَيْطَانٍ، أَوْ عَلَى قَرْنَيِ الشَّيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا"

(3)

، وهذا يحمل على الكراهة، ولا

(1)

المعتمد في المذهب خلاف ما قاله الشارح.

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (2/ 9) قال: " (وآخر وقتها) ش: أي آخر وقت صلاة الفجرم: (ما لم تطلع الشمس) ش: المراد به جزء قبل طلوع الشمس. وفي "البداية" في قوله ما لم تطلع الشمس إطلاق اسم الكل على البعض؛ لأن قوله: ما لم تطلع للشمس يتناول من أول الوقت إلى ما قبل طلوع الشمس، والمراد به الجزء كما ذكرنا".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود (413)، وغيره عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(441).

ص: 1042

يرضى المؤمنون أن يوصموا ويوصفوا أنهم من المنافقين؛ فإنه يجد في ذلك ثقلًا وحملًا على نفسه.

• مسألة:

لو أن مسلمًا لم يدرك ركعة من صلاة العصر، وقد تعمَّد تركها بغير عذر حتى خرج وقتها وفاتته؛ فلا يحل له تركها، بل يجب عليه أن يصليها ويقضيها في غير وقتها؛ ولا يفهم من قولنا أنه لم يدرك الصلاة أنه يتركها مطلقًا.

فهناك رأي شاذ لابن حزم في هذه المسألة: أن تارك الصلاة عمدًا حتى يخرج وقتها لا يقدر على قضائها أبدًا

(1)

، وهذا القول مخالف لجماهير العلماء.

بل؛ أجمع العلماء على أن مَن ترك صلاة من الصلوات ففاته وقتها؛ فإنه يجب عليه قضاؤها، ويعتبر آثمًا في ذلك؛ لأنه فرط في ترك الصلاة، وأخَّرها عن وقتها؛ لكن تلك الصلاة لا تسقط عنه؛ لأنه مطالب بها

(2)

،

(1)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 235) حيث قال: "وأما من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لا يقدر على قضائها أبدًا، فليكثر من فعل الخير وصلاة التطوع؛ ليثقل ميزانه يوم القيامة؛ وليتب وليستغفر الله عز وجل".

(2)

اتفق الفقهاء على وجوب قضاء الفوائت، ومنهم من أوجبها على الفور:

فمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (2/ 65 - 66) قال: "والقضاء فعل الواجب بعد وقته، وإطلاقه على غير الواجب كالتي قبل الظهر مجاز الترتيب بين الفروض الخمسة والوتر أداء وقضاء لازم يفوت الجواز بفوته، للخبر المشهور: "من نام عن صلاة"، وبه يثبت الفرض العملي، وقضاء الفرض والواجب والسنة فرض وواجب وسنة لف ونشر مرتب، وجميع أوقات العمر وقت للقضاء إلا الثلاثة المنهية كما مر".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 263 - 265) قال: "وجب فورًا قضاء صلاة فائتة على نحو ما فاتته من سفرية وحضرية وسرية وجهرية، فيحرم التأخير إلا وقت الضرورة، ويحرم التنقل لاستدعائه التأخير إلا السنن والشفع المتصل بالوتر وركعتي الفجر مطلقًا، ولو=

ص: 1043

وهو يدخل في قول الله سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59].

ويدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى العِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الجَنَّةَ"

(1)

.

فلا يفهم من هذا أن من تعمَّد ترك صلاة وانتهى وقتها؛ أنها تسقط عنه، وهذا يختلف عن الذي فرط في الصلاة زمنًا طويلًا.

• مسألة:

لو أن مسلمًا فرَّط في أمر الصلاة وتساهل بها ومضت به السنون ولا يشعر بذنبه؛ ثم أفاق من غفلته، وأراد أن يعود إلى رشده؛ هل يقضي ما فاته من الصلوات؟!

الجواب: هذه مسألة مختلف فيها بين العلماء؛ على قولين:

الأول: يرى أنه يقضيها مجتهدًا ما لم يلحقه ضرر

(2)

.

= وقت طلوع شمس وغروبها وخطبة جمعة سفرًا وحضرًا صحة ومرضًا، ولو فاتته سهوًا أو تبين له فسادها أو شك في فواتها لا مجرد وهم وتوقى وقت النهي في المشكوكة وجوبًا في المحرم وندبًا في المكروه وندب لمقتدى به إن قضى بوقت نهي أن يعلم من يليه ".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 439) فال: "ويبادر بالفائت الذي عليه وجوبًا إن فات بغير عذر وإلا كنوم لم يتعد به ونسيان كذلك بأن لم ينشأ عن تقصير بخلاف ما إذا نشأ عنه كلعب شطرنج، أو كجهل بالوجوب وعذر فيه ببعده عن المسلمين أو إكراه على الترك، أو التلبس بالمنافي فندبا تعجيلًا لبراءة ذمته".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 260) قال: "ومن فاتته صلاة مفروضة فأكثر من صلاة لزمه قضاؤها

مرتبًا نص عليه في مواضع ".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

هو قول الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 87) قال: "فالحاصل أن من=

ص: 1044

الثاني: يرى أنه لا يقضيها، حتى لا يكون ذلك منفِّرًا من الصلاة

(1)

.

• مسألة:

لو أن مسلمًا أدرك من صلاة العصر أقل من ركعة؛ كتكبيرة الإحرام درك سجدة؛ هل يكون مدركًا لها؟

الجواب: هذا رأي عند الحنابلة

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنفية

(4)

؛ فقد

= ترك واجبًا من واجباتها أو ارتكب مكروهًا تحريميًّا لزمه وجوبًا أن يعيد في الوقت فإن خرج الوقت بلا إعادة أثم ولا يجب جبر النقصان بعد الوقت، فلو فعل فهو أفضل؛ ولهذا حمل صاحب القنية قولهم بكراهة قضاء صلاة عمره مرة ثانية على ما إذا لم يكن فيها شبهة الخلاف ولم تكن مؤداة على وجه الكراهة".

(1)

وبنحوه قال بعض المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 8) حيث قال: "الشك الذي لا يستند لعلامة لغو؛ لأنه وسوسة فلا قضاء إلا لشك عليه دليل وقد أولع كثير من المنتمين للصلاح بقضاء الفوائت لعدم تحقق الفوات أو ظنه أو شك فيه ويسمونه صلاة العمر ويرونها كمالًا، ويريد بعضهم بذلك أنه لا يصلي نافلة أصلًا بل يجعل في محل كل نافلة فائتة لما عسى أن يكون من نقص أو تقصير أو جهل وذلك بعيد عن حال السلف وفيه هجران المندوبات وتعلق بما لا أجر له ".

(2)

يُنظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 188) قال: "ومن أدرك منها جزءًا قبل الغروب، فقد أدركها، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته" متفق عليه، وتعجيلها أفضل بكل حال، لقول أبي برزة في حديثه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 19) قال: "وإن صلى ركعة منها قبل غروب الشمس وباقيها بعد غروب الشمس، فإن كان لعذر في التأخير جاز وكان مؤديًا لجميعها ولا حرج عليه، وإن كان غير معذور فعلى وجهين:

أحدهما: قول أبي العباس بن سريج وأبي علي بن خيران: أنه يكون مؤديًا لجميعها غير عاص بتأخيرها

والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنه يكون مؤديًا لما فعله قبل غروب الشمس قاضيًا لما فعله بعدها عاصيًا بتأخيرها

والله أعلم بالصواب ".

(4)

هم يفرقون بين إدراك الجماعة وإدراك الفضل:

فقالوا: "ولا يكون مصليًا جماعة اتفاقًا من أدرك ركعة من ذوات الأربع؛ لأنه منفرد ببعضها لكنه أدرك فضلها، ولو بإدراك التشهد اتفاقًا، لكن ثوابه دون المدرك لفوات التكبيرة الأولى، واللاحق كالمدرك لكونه مؤتمًا حكمًا، وكذا مدرك الثلاث لا يكون=

ص: 1045

صح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ، قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ"

(1)

، وفي رواية:"فَقَدْ أَدْرَكَ"

(2)

.

الخلاصة: أن وقت العصر أربعة أقسام

(3)

:

الأول: وقت الفضيلة؛ وهو أول الوقت، وهو المثل.

الثاني: وقت الاختيار، إلى المثلين.

الثالث: وقت الجواز، إلى الاصفرار.

الرابع: وقت الضرورة، إلى غروب الشمس.

والراجح عندي: أن وقت العصر يبدأ من المثل إلى اصفرار الشمس؛ لأن الأدلة صحيحة وثابتة وقوية.

وأن قول مَن يقول بأنه من المثل إلى المثلين: قول مرجوح، لأن حديث إمامة جبريل -وإن وضع لنا وقتًا محددًا- بقول جبريل:"الوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ "

(4)

، فهذا وقت الاختيار، ووقت الفضيلة؛ لكن وقت الجواز: يمتد إلى ما بعد ذلك، ولذلك نجمع بين الأدلة ولا نهملها، لأن الأدلة الأخرى منها ما هو في "الصحيحين" أو أحدهما، وهي بلا شك أقوى سندًا مع صحة حديث جبريل.

بل نقول: إن حديث إمامة جبريل يُحمَل على وقت الفضيلة والاختيار وكراهة التأخير، وإن حديث الاصفرار: يُحمَل على وقت الجواز، وإن

= مصليًّا بجماعة على الأظهر. وقال السرخسي: للأكثر حكم الكل، وضعفه في البحر. يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (2/ 59).

(1)

أخرجه البخاري (556) وغيره عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري (579)، ومسلم (607/ 161) عن أبي هريرة.

(3)

تقدَّم ذكر مذهب أهل العلم في كل وقت من هذه الأوقات الأربع.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1046

حديث أبي هريرة: يُحمَل على وقت الضرورة لأهل الأعذار، وبهذا نجمع بين الأدلة، ونسلك مسلك الجمع كالجمهور، ولا يكون بينها تعارض كما ذكر المصنف.

وينبغي للفقيه أن ينظر للنصوص كلها، ويحاول أن يجمع بينها، فكلما أمكن الجمع بين الأدلة والأخذ بها مجتمعة، والتوفيق بينها كان أفضل وأولى من الأخذ ببعضها وترك بعضها الآخر.

ولا شكَّ أن المحافظة على أداء الصلوات في أوقاتها أمر مطلوب ومتعين، وكلما أمكن الإنسان أن يؤدي الصلاة في أول وقتها فذلك أفضل وخير له، ما عدا صلاتين اختلف العلماء فيهما، وهما: صلاة الظهر

(1)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالإبراد

(2)

بها في حالة اشتداد الحرِّ، وصلاة العشاء

(3)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّاها متأخرًا، ورغب في تأخيرها كما صحَّ عنه في كتير من الأحاديث.

فهذه الشريعة بنيت على التيسير والتخفيف ورفع الحرج ومراعاة مصالح الناس، ولم تبن على عكس ذلك.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي المَغْرِبِ؛ هَلْ لَهَا وَقْتٌ مُوَسَّعٌ كسَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا وَاحِدٌ غَيْرُ مُوَسَّعٍ، وَهَذَا هُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ

(4)

وَعَنِ الشَّافِعِيِّ

(5)

، وَذَهَبَ

(1)

تقدَّم ذكر مذاهب أهل العلم واختلافهم في وقت الظهر.

(2)

"الإبراد": انكسار الوهج والحر، وهو من الإبراد: الدخول في البرد. وقيل: معناه صلوها في أول وقتها، من برد النهار وهو أوله. انظر:"النهاية" لابن الأثير (1/ 114).

(3)

سيأتي ذكر مذاهب أهل العلم فيها واختلافهم.

(4)

يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب (ص 112) قال: "وقت صلاة المغرب: غروب الشمس، وفت واحد لا تؤخر عنه في الاختيار

وبه قال ابن عبد الحكم، أن لها وقتين".

(5)

هو قوله في الجديد، يُنظر:"التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص 25 - 26) =

ص: 1047

قَوْمٌ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا مُوَسَّع، وَهُوَ مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

، وَأَحْمَدُ

(2)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(3)

، وَدَاوُدُ

(4)

، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا القَوْلُ عَنْ مَالِكٍ

(5)

وَالشَّافِعِيِّ

(6)

، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةُ حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ

(7)

فِي ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ صَلَّى المَغْرِبَ فِي اليَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ

=قال: "والمغرب وأول وقتها إذا غابت الشمس، ولا وقت لها إلا وقت واحد في أظهر القولين، وهو بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويقيم، وله أن يستديمها إلى أن يغيب الشفق ".

(1)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 361) قال: "ووقت المغرب منه إلى غروب الشفق وهو الحمرة عندهما، وبه قالت الثلاثة وإليه رجع الإمام كما في شروح المجمع وغيرها، فكان هو المذهب".

(2)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 142) قال: "وهي أي المغرب وتر النهار للخبر لقربها منه واتصالها به، ويمتد وقتها حتى يغيب الشفق الأحمر".

(3)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 399) قال: "وفيه قول ثان: وهو أن وقت الغرب إلى أن يغيب الشفق هذا قول الثوري

وإسحاق، وأبي ثور".

(4)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 164) قال: "ثم يتمادى وقت صلاة المغرب إلى أن يغيب الشفق الذي هو الحمرة، فمن كبر للمغرب قبل أن يغيب آخر حمرة الشفق فقد أدرك صلاة المغرب بلا كراهة ولا ضرورة، فإذا غربت حمرة الشفق كلها فقد بطل وقت الدخول في صلاة المغرب؛ إلا للمسافر المجد، وبمزدلفة ليلة يوم النحر فقط".

(5)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 393) قال: واختلف هل وقتها متحد، أو ممتد إلى غروب الشفق الأحمر روايتان، قال ابن الحاجب: رواية الاتحاد أشهر، قال في "التوضيح" قال في "الاستذكار":"الاتحاد هو المشهور". انتهى. وقال صاحب "الطراز": "إنه ظاهر المدونة ورواه البغداديون عن مالك "، وقال في "الجواهر":"إنه رواية ابن عبد الحكم وقول ابن المواز وعزاه ابن عرفة للمشهور".

(6)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 300) قال: "والمغرب يدخل وفتها بالغروب ويبقى وقتها حتى يغيب الشفق الأحمر في القديم؛ لما في حديث مسلم وقت المغرب ما لم يغب الشفق، وسيأتي تصحيح هذا".

(7)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1048

وَاحِدٍ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ:"وَوَقْتُ صَلَاةِ المَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ "

(1)

، فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ جَعَلَ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ جَعَلَ لَهَا وَقْتًا مُوَسَّعًا، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يُخَرِّجِ الشَّيْخَان حَدِيثَ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ:(أَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ) الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَشْرَ صَلَوَاتٍ مُفَسَّرَةَ الأوْقَاتِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَالَّذِي فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَوْجُود أَيْضًا فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِي، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

، وَهُوَ أَصْلٌ فِي هَذَا البَابِ. قَالُوا: وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِالمَدِينَةِ عِنْدَ سُؤَالِ السَّائِلِ لَهُ عَنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ كَانَ فِي أَوَّلِ الفَرْضِ بِمَكَّةَ).

وقت صلاة المغرب: يبدأ بغروب الشمس، بالإجماع

(3)

، واختلفوا في آخر وقتها.

للإمام مالك ثلاث روايات في مسألة آخر وقت صلاة المغرب بين التوسع والتضييق، وقد يكون أكثر من تكلَّم فيها من الأئمة:

(1)

تقدَّم تخريجه، والنبيه على أنه ابن عمرو.

(2)

أخرجه مسلم (613/ 176) وغيره عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، "أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: "صلِّ معنا هذين" -يعني: اليومين- فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذن، ثم أمره، فأقام الظهر، ثم أمره، فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها"، ثم قال:"أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا، يا رسول الله، قال:"وقت صلاتكم بين ما رأيتم ".

(3)

نقل الإجماع ابن المنذر في "الإجماع"(ص 38) قال: "وأجمعوا على أن صلاة المغرب: تجب إذا غربت الشمس ".

ص: 1049

الرواية الأولى

(1)

: أن صلاة المغرب ليس لها إلا وقت واحد، وهو: غروب الشمس، ومقدار هذا الوقت: أن يؤذن المؤذن ويتطهر المسلم ويصلي ركعتين ثم يصلي المغرب، فوقتها مضيق وليس بموسع، وهذه أشهر رواية عنه، ووافقه الشافعي في الجديد، وأكثر الشافعية

(2)

، ودليلهم: حديث إمامة جبريل، الذي فيه أنه (صَلَّى بِالنَّبِيِّ عَشْرَ صَلَوَاتٍ مُفَسَّرَةَ الأوْقَاتِ) يعني: في يومين، وقد سبق ذكره.

الرواية الثانية

(3)

: أن الوقت يتجاوز ذلك، وأنه يمتد إلى مغيب الشفق الأحمر، وهي رواية للشافعية، وهو قول أبي حنيفة وأحمد كذلك، وأبي ثور وداود، وقول أكثر العلماء

(4)

، وهو الراجح، وأدلتهم كثيرة جدًّا؛ منها:

أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا،

وذكر منها: وإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ المَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الأُفُقُ"

(5)

.

2 -

عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"وَقْتُ صَلَاةِ المَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ""صحيح مسلم"

(6)

.

(1)

تقدَّم ذكر قوله.

(2)

تقدَّم ذكر قوله.

(3)

تقدَّم ذكر قوله.

(4)

تقدَّم ذكر مذاهبهم فيها.

(5)

أخرجه الترمذي (151) وغيره عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس "، وصححه الألباني في "الصحيحة"(1696).

(6)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1050

3 -

عن أَبِي مُوسَى الأشعريِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ "أَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، وفي الحديث أنه: أَخَّرَ المَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ ". "صحيح مسلم "

(1)

.

4 -

عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "وَوَقْتُ المَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ

(2)

" "صحيح مسلم"

(3)

، وفي رواية أبي داود:"فَوْرُ الشَّفَقِ"

(4)

.

5 -

عَنْ بُرَيْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ:"صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ " -يَعْنِي اليَوْمَيْنِ-

ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ المَغْرِبَ

(1)

أخرجه مسلم (614/ 178) وغيره عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه "أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئًا، قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره فأقام بالظهر، حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد طلعت الشمس، أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد احمرت الشمس، ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل، فقال: "الوقت بين هذين ".

(2)

"ثور الشفق"، أي: انتشاره وثوران حمرته، من ثار الشيء يثور إذا انتشمر وارتفع. انظر:"النهاية" لابن الأثير (1/ 229).

(3)

أخرجه مسلم (612/ 172) وغيره عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"وقت الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس ".

(4)

أخرجه أبو داود (396) وغيره عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وقت الظهر ما لم تحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس "، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(425).

ص: 1051

حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ العِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ،

فَلَمَّا أَنْ كَانَ اليَوْمُ الثَّانِي صَلَّى المَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، ثُمَّ قَالَ:"أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ ". وهو في "صحيح مسلم "

(1)

.

فبين صلى الله عليه وسلم له الأوقات؛ ففي اليوم الأول: صلى المغرب عند مغيب الشمس، وفي اليوم الثاني: صلى المغرب عند مغيب الشفق.

والمراد بالشفق في جميع الأحاديث: هو الشفق الأحمر

(2)

.

ومغيب الشفق، أو فوره، أو ثوره، أو سقوطه: بمعنى واحد وهو: ذهاب ضوئه وحمرته

(3)

.

الرواية الثالثة: وقت المغرب يمتدُّ إلى طلوع الفجر، وتُؤوّلَ ذلك بأن هذا لأهل الأعذار؛ عند الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، وصلاتي الظهر والعصر، ووافقه طاوس وعطاء

(4)

.

وهذه الأدلة المذكورة في روايتي مالك كلها صحيحة، وإن تعارض بعضها، فالأولى أن نجمع بينها، ولا نهملها، لأن الإعمال أولى من الإهمال، ولا يُرجح بين حديثين، ولا يُبحث عن الناسخ والمنسوخ منهما ما دام الجمع ممكنًا

(5)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

"الشفق الأحمر": من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة ثم يغيب. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 318).

(3)

"فور الشفق " هو: بقية حمرة الشمس في الأفق الغربي، سمي فورًا لسطوعه وحمرته. ويروى بالثاء. انظر:"النهاية" لابن الأثير (3/ 478).

(4)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (1/ 399) قال: "وقد روينا عن طاوس أنه قال: لا تفوت المغرب والعشاء حثى الفجر، وروينا عن عطاء أنه قال: لا تفوت صلاة المغرب، والعشاء حتى النهار".

(5)

قال ابن قدامة في "روضة الناظر"(2/ 80): "إذا تعارض عمومان: فأمكن الجمع بينهما، بأن يكون أحدهما أخص من الآخر، فيقدم الخاص، أو يكون أحدهما=

ص: 1052

والجمع بين هذه الأدلة -التي ظاهرها التعارض- غير متعذر؛ بل هو ممكن وميسور.

وأما الجمع ببنها فيكون كالآتي:

1 -

تأوَّل أكثر العلماء حديث إمامة جبريل على أن ما ورد فيه من وقت للصلوات: هو وقت الفضيلة والاختيار وكراهة تأخير الصلوات، وما ورد في الأحاديث الأخرى هو وقت الجواز أو الضرورة؛ فلا تعارض بين الأدلة.

2 -

الأحاديث التي فيها امتداد للشفق متأخرة وهي صريحة الدلالة عن حديث إمامة جبريل؛ فحديث إمامة جبريل كان في أول الإسلام، وأحاديث بريدة وغيره كانت بالمدينة؛ فلا شك أن أحاديثهم مقدَّمة على حديث جبريل.

فالصلاة أول ما فُرِضَت فرضت بمكة عندما عُرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وبعدها نزل جبريل؛ ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات الخمس؛ فكان حديث جبريل.

وبعد انتشار الإسلام كانت الأعراب تأتي من البادية إلى المدينة لتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان يعلمهم ويبين لهم الإسلام أحسن بيان؛ فهي أصرح وأبين وأدلّ على المراد من غيرها.

• الخلاصة:

أن العلماء مجمعون على أن الأفضل في صلاة المغرب هو أن تُصلَّى

= يمكن حمله على تأويل صحيح، والآخر غير ممكن تأويله، فيجب التأويل في المؤول، ويكون الآخر دليلًا على المراد منهن جمعًا بين الحديثين، إذ هو أولى من إلغائهما، وإن تعذر الجمع بينهما، لتساويهما، ولكونهما متناقضين، كما لو قال:"من بدل دينه فاقتلوه "، "من بدل دينه فلا تقتلوه ": فلا بد أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر، فإن أشكل التاريخ طلب الحكم من دليل غيرهما. وانظر:"الشرح الكبير" للمنياوي (ص 554).

ص: 1053

في أول وقتها، وأنه لا ينبغي تأخيرها؛ لكن لا يعتبر من يؤخرها عن أول وقتها أنه قد تجاوز الحدَّ، وأخطأ؛ لأنه لا يزال في وقت قد أبيح له أن يؤخرها إليه.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا مِنْ وَقْتِ العِشَاءِ الآخِرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا فِي أَوَّلِهِ، وَالثَّانِي فِي آخِرِهِ. أَمَّا أَوَّلُهُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

، وَجَمَاعَةٌ

(3)

إِلَى أَنَّهُ مَغِيبُ الحُمْرَةِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ مَغِيبُ البَيَاضِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الحُمْرَةِ

(4)

).

* وقع الخلاف بين العلماء في أول وقت صلاة العشاء، وفي آخره.

أولًا: أول وقت صلاة العشاء:

لا خلاف في: أن صلاة العشاء تبدأ بعد مغيب الشفق؛ كما في النصوص الواردة آنفًا.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدرير (1/ 178) قال: "والمختار للعشاء من غروب حمرة الشفق للثلث الأول من الليل ".

(2)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 424) قال: "والعشاء يدخل وقتها

بمغيب الشفق الأحمر لما مر وينبغي ندب تأخيرها لزوال الأصفر، والأبيض خروجًا من خلاف من أوجب ذلك ".

(3)

منهم الحنابلة والظاهرية:

فللحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (1/ 190) حيث قال: "ثم العشاء وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر".

والظاهرية، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (3/ 164) حيث قال: "فإذا غربت حمرة الشفق كلها فقد بطل وقت الدخول في صلاة المغرب

ودخل وقت صلاة العشاء الآخرة، وهي العتمة، ومن كبر لها ومن الحمرة في الأفق شيء لم يجزه ".

(4)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 124) قال: "وأما أول وقت العشاء فحين يغيب الشفق بلا خلاف بين أصحابنا

واختلفوا في تفسير الشفق، فعند أبي حنيفة هو البياض

وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي هو الحمرة

وهو رواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة".

ص: 1054

وسبب الخلاف: هو اختلافهم في ماهية الشفق، فالشفق شفقان

(1)

:

الشفق الأول: هو الحُمرة، وهي التي تظهر أولًا في السماء ثم تنتهي، وُيُسمَّى (الشَّفَقَ الأحمرَ).

الشفق الثاني: هو البَياض، الذي يظهر في السماء بعد الشفق الأحمر، ويسمى:(الشَّفَقَ الأبيضَ).

فاختلف العلماء في أول وقت صلاة العشاء على مذهبين:

الأول: أنه يبدأ بمغيب الشفق الأحمر، وهو قول الجمهور، كمالك والشافعي وأحمد

(2)

، وجماعة من الصحابة والتابعين

(3)

، ومن أدلتهم:

1 -

عن عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: الصَّلَاةَ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ:"مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ غَيْرُكُمْ "، قَالَ: وَلَا يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلَّا بالمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ.

وهو في "الصحيحين"

(4)

، و"الشَّفَقُ ": هو الحُمرة

(5)

.

2 -

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"الشَّفَقُ الحُمْرَةُ، فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ"

(6)

، يعني: العِشَاءَ.

(1)

والشفق شفقان، الأحمر والأبيض، وسمي شفقًا؛ لأنه حمرة وبياض ليس بالمحكم، ومنه يقال: ثوب شفق، إذا كان رقيقًا مهلهلًا. انظر:"التلخيص فى معرفة أسماء الأشياء" للعسكري (ص 265).

(2)

تقدَّم ذكر مذاهبهم فيها.

(3)

روي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وقال به: وسفيان الثوري، وابن أبى ليلى، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد. يُنظر:"الإشراف" لابن المنذر (1/ 399).

(4)

أخرجه البخاري (569)، ومسلم (638/ 218).

(5)

تقدَّم ذلك.

(6)

أخرجه الدارقطني في "السنن"(1/ 506) وغيره عن ابن عمر قال: فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(3440).

ص: 1055

3 -

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَقْتُ المَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ فَوْرُ الشَّفَقِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

(1)

.

الثاني: أنه يبدأ بمغيب الشفق الأبيض، وهو قول أبي حنيفة

(2)

، وجماعة من الصحابة والتابعين

(3)

، ومن أدلتهم:

1 -

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ:"وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَلَاةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ القَمَرِ لِثَالِثَةٍ"

(4)

.

وفي رواية: "كَانَ يُصَلِّيهَا بَعْدَ سُقُوطِ القَمَرِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ"

(5)

.

وفي رواية: "كَانَ يُصَلِّيهَا مِقْدَارَ مَا يَغِيبُ القَمَرُ لَيْلَةَ ثَالِثَةٍ، أَوْ رَابِعَةٍ"

(6)

، والشك فيها من شعبة، والصحيح: ليلة ثالثة كما في المتابعات والروايات الأخرى، يعني: في الليلة الثالثة من ليالي الشهر، بعد أن يغيب القمر، فالمراد مغيب الشفق الأبيض.

2 -

عن أَبي مَسْعُودٍ البدري الأَنْصَارِيَّ؛ قال: "رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي العِشَاءَ حِينَ يَسْوَدُّ الأُفُقُ، وَرُبَّمَا أَخَّرَهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ "

(7)

. مغيب الشفق الأبيض.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم نقل قوله في ذلك.

(3)

روي عن ابن عباس أيضًا، وأنس، وأبي هريرة، وعمر بن عبد العزيز. يُنظر:"الإشراف" لابن المنذر (1/ 399).

(4)

أخرجه أبو داود (419) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(446).

(5)

أخرجه أحمد (18377) وغيره، وصححه الأرناؤوط في تعليقه.

(6)

أخرجه أحمد (18396) وغيره، وصححه الأرناؤوط في تعليقه.

(7)

أخرجه أبو داود (394) وغيره، عن أبي مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نزل جبريل صلى الله عليه وسلم فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه، ثم=

ص: 1056

والصحيح: المذهب الأول، ولا تعارض مع الأدلة.

وأما الجمع بينها فيكون كالآتي:

أن المعروف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤخِّر الصلاة عن أول الوقت قليلًا، وهو الأفضل والأولى، بل ثبت أنه أخرها في أحاديث كثيرة في "الصحيحين "، وفي غيرهما إلى ثلث الليل.

أ- عَنْ بُرَيْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ:"صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ" -يَعْنِي: اليَوْمَيْنِ-، .. ففي اليوم الأول: أَقَامَ العِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ،

وفي اليوم الثاني: صَلَّى العِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ

(1)

.

2 -

عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"وَوَقْتُ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ"

(2)

.

3 -

عن أَبي بَرْزَةَ، يَقُولُ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُبَالِي بَعْضَ تَأْخِيرِ صَلَاةِ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَكَانَ لَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَلَا الحَدِيثَ بَعْدَهَا"

(3)

.

4 -

وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ العِشَاءَ

= صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه "يحسب بأصابعه خمس صلوات. "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين تزول الشمس، وربما أخرها حين يشتد الحر، ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل أن تدخلها الصفرة، فينصرف الرجل من الصلاة، فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس، وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أُخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (418).

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (647/ 236).

ص: 1057

الآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّؤُونَ"

(1)

.

فكون الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّاها عند مغيب الشفق الأبيض؛ كما في حديثي النعمان وأبي مسعود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها، وليس معناه أن العشاء عند مغيب الشفق الأبيض.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ: اشْتِرَاكُ اسْمِ الشَّفَقِ فِي لِسَانِ العَرَبِ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الفَجْرَ فِي لِسَانِهِمْ فَجْرَانِ كَذَلِكَ الشَّفَقُ شَفَقَانِ

(2)

: أَحْمَرُ، وَأَبْيَضُ، وَمَغِيبُ الشَّفَقِ الأَبْيَضِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِمَّا بَعْدَ الفَجْرِ المُسْتَدِقِّ

(3)

مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ: (أَعْنِي الفَجْرَ الكَاذِبَ)، وَإِمَّا بَعْدَ الفَجْرِ الأَبْيَضِ المُسْتَطِيرِ، وَتَكُونُ الحُمْرَةُ نَظِيرَ الحُمْرَةِ، فَالطَّوَالِعُ -إِذًا- أَرْبَعَةٌ: الفَجْرُ الكَاذِبُ، وَالفَجْرُ الصَّادِقُ، وَالأَحْمَرُ وَالشَّمْسُ، وَكذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الغَوَارِبُ).

يريد المؤلف أن يربط بين بياضين؛ وهما:

1 -

بياض يعقب الحمرة، الذي هو مغيب الشفق الأحمر؛ كما يحدث في صلاة العشاء.

2 -

وبياض يعقبه ظلمة؛ ثم يأتي بياض آخر كما يحدث في صلاة الفجر.

* فالبياض الذي في الفجر الأول يسمونه: (الفجر الكاذب)، ويشبهونه بـ:(ذنب سِرحان)، وهو الذئب؛ لأنه يخرج مستطيل الأفق، فهو يلمع، وقد ينخدع به الإنسان ثم يزول وينتهي، لا يعتد به في شيء

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود (200) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(195).

(2)

تقدَّم ذكره.

(3)

سيأتي تعريفه.

(4)

"السرحان": الذئب، وإنما يشبه بذنب السرحان؛ لأنه مستدق صاعد في غير=

ص: 1058

* والبياض الذي في الفجر الثاني يسمونه: (الفجر الصادق)

(1)

، وهو الذي يصدق عن الصبح ويبينه؛ لأنه مستطير منتشر في السماء؛ فهو لا يكذبك مرة أُخرى، وبطلوعه تبدأ الأحكام عمومًا من صيام وغيره.

* ولا خلاف بين العلماء في وقت الفجر كما سيأتي.

* قوله: (وَلِذَلِكَ مَا ذُكِرَ عَنِ الخَلِيلِ مِنْ أَنَّهُ رَصَدَ للشَّفَقِ الأَبْيَضِ، فَوَجَدَهُ يَبْقَى إِلَى اللَّيْلِ

(2)

، كُذِّبَ بِالقِيَاسِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ

(3)

، وَحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ صَلَّى العِشَاءَ فِي اليَوْمِ الأوَّلِ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ

(4)

، وَقَدْ رَجَّحَ الجُمْهُورُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا ثَبَتَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلّي العِشَاءَ عِنْدَ مَغِيبِ القَمَرِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ"

(5)

. وَرَجَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ مَذْهَبَهُ بِمَا وَرَدَ فِي تَأْخِيرِ العِشَاءِ وَاسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِهِ وَقَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ"

(6)

.

ورَدُّ المؤلف كلامَ الخليل في أن الشفق الأبيض يمتدُّ إلى ثلث

= اعتراض، وهو الفجر الكاذب الذي لا يحل شيئًا ولا يحرمه. انظر:"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 174).

(1)

"الفجر الثاني" هو: المستطير الصادق، سمي مستطيرًا لانتشاره في الأفق. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 77).

(2)

روى عن الخليل بن أحمد فإنه قال: راعيته إلى نصف الليل. انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 177)، و"الحاوي الكبير"(24/ 2).

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

أخرجه ابن ماجه (691) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي، لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل، أو نصف الليل "، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5312).

ص: 1059

الليل، ردٌّ في محله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث إمامة جبريل، وفي حديث بريدة "صلى العشاء عند مغيب الشفق وفي اليوم الثاني عند آخر وقتها عند ثلث الليل"

(1)

.

وكلام المؤلف صحيح، لأنه ما يظهر لي أن الشفق يمضي إلى ثلث الليل، وهو لا يبعد كثيرًا عن الشفق الأحمر.

• والخلاصة:

أن الخلاف وقع في تعيين الشفق المقصود في الحديث، لأن العرب تُطلِقُه على الشفقين الأحمر والأبيض، ولذا اختلفت أحكامهم.

فيستحب للفقيه أن يخرج من الخلاف، ويؤخر العشاء قليلًا، فالوقت ما بين الشفقين الأحمر والأبيض: وقت يسير لا يتجاوز اثني عشر دقيقة تقريبًا، والثابت من سيرته صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء أنه كان يؤخِّرها قليلًا" فهو أولى وأفضل.

وعندما يريد الفقيه أن يقرِّر مسألة من المسائل الفقهية، ويحررها على ضوء الأدلة، فينبغي له أن يكون ترجيحه على ضوء ما يرى أن الأدلة تؤيده وتدعمه، وقد تكون الأدلة كلها صحيحة، لكن يمكن تأويل بعضها، وحمله على الأدلة الأخرى.

* فائدة:

اختلاف العلماء في تقرير هذه المسألة بسبب اختلاف لسان العرب في ضبط بعض المصطلحات، مثل: قولهم: الفجران، ويقصدون (الكاذب والصادق)، والشفقان، ويقصدون (الأحمر والأبيض)

(2)

، فالخلاف له صلة باللغة العربية.

فاللغة لها شأن عظيم، وكلما تمكن طالب العلم في معرفة اللغة؛

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم الكلام على هذه المصطلحات وما يتبعها من أحكام.

ص: 1060

زادته علمًا وبصيرةً وفهمًا ودقةً بكتاب الله عز وجل وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كثيرًا من الأحكام لا يمكن أن نقف على كنهها في بعض المسائل الدقيقة، إلا عندما نرجع إلى اللغة العربية.

مثلًا: عدة الحيض: ثلاثة قروء، بعض العرب قال: القُرْء: الحيض، وبعضهم؛ قال القُرْء: الطُّهر

(1)

؛ فاختلافهم في المراد بالقُرء ترتَّب عليه عدة أحكام؛ فهنا تظهر لنا أهمية اللغة العربية، وفهم لسان العرب.

ومثلًا: العينُ: تأتي بعدة معانٍ؛ منها: الجارحة المعروفة

(2)

، أو الجاسوس

(3)

، أو ينبوع الماء

(4)

، فالمراد هنا تغير؛ فلا بد من الرجوع إلى لغة العرب ليفهم المراد

(5)

.

فاللغة العربية تُعين الفقيه والمحدث والمفسر في فهم كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن قرأ بعمق في القواعد الفقهية؛ لوجد أن من العلماء من يُخرِّج بعض المسائل الفرعية على بعض المسائل اللغوية.

وينبغي لطالب العلم أن يكون على وعي وإدراك بلغة العرب، وأن يتعلم علوم العربية مثل: النحو والصرف؛ لأنها تقوِّم اللسان من اللحن في الكلام. وكذلك: البلاغة التي تعين في تركيب الجمل، وضمها إلى بعض.

وكثيرًا من المفسرين يملؤون كتبهم بالمسائل اللغوية؛ لكن ليس معنى

(1)

"القرء": من الأضداد يقع على الطهر، وإليه ذهب الشافعي وأهل الحجاز، وعلى الحيض، وإليه ذهب أبو حنيفة وأهل العراق. انظر:"النهاية" لابن الأثير (4/ 32).

(2)

"العين": حاسة البصر والرؤية، أنثى، تكون للإنسان وغيره من الحيوان. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (13/ 301).

(3)

"العين ": الديدبان والجاسوس. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 303).

(4)

"العين": عين الماء، التي يخرج منه الماء، وهي: ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض ويجري، والجمع أعين وعيون. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (13/ 303).

(5)

نعم كما قال الشارح اللغة لها وجه للمعنى، لكن يضاف لذلك سياق الكلام، فهو أيضًا له وجه في فهم المعنى.

ص: 1061

هذا أن العالم يجنح كثيرًا؛ ليفسر باللغة فقط، ويأتي بخيالات وبشذوذات وغرائب اللغة، وإنما القصد أن يأتي بما يعين على فهم كتاب الله، وعلى فهم النصوص الشرعية.

* قوله: (وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، قَوْلٌ: إِنَّهُ ثُلُثُ اللَّيْلِ. وَقَوْلٌ: إِنَّهُ نِصْفُ اللَّيْلِ. وَقَوْلٌ: إِنَّهُ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ. وَبِالأَوَّلِ (أَعْنِي ثُلُثَ اللَّيْلِ) قَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

، وَهُوَ المَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ

(3)

، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ القَوْلُ الثَّانِي: أَعْنِي نِصْفَ اللَّيْلِ

(4)

، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَوْلُ دَاوُدَ

(5)

. وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ تَعَارُضُ الآثَارِ، فَفِي

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 424) قال: "والاختيار أن لا تؤخر عن ثلث الليل اتباعًا لفعل جبريل ".

(2)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 126) حيث قال: "وأما العشاء المستحب فيها التأخير إلى ثلث الليل في الشتاء".

(3)

يُنظر: "الشرح الصغير وحاشية الصاوي" للدردير (1/ 225 - 226) قال: "وللعشاء من غروب الشفق الأحمر للثلث الأول، أي: والمختار للعشاء من غياب الشفق الأحمر فلا ينتظر غياب الأبيض إلى ثلث الليل الأول ".

(4)

هو قول ابن حبيب وابن المواز من المالكية، والظاهرية:

فقول ابن حبيب وابن المواز، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 398) حيث قال: "وقال: ابن حبيب وابن المواز إلى نصف الليل وقد وردت الأحاديث بما يدل لكل واحد من القولين ".

والظاهرية، يُنظر:"المحلى" لابن حزم (3/ 164) حيث قال: "ثم يتمادى وقت صلاة العتمة إلى انقضاء نصف الليل الأول، وابتداء النصف الثاني، فمن كبر لها في أول النصف الثاني من الليل فقد أدرك صلاة العتمة بلا كراهة ولا ضرورة، فإذا زاد على ذلك فقد خرج وقت الدخول في صلاة العتمة".

(5)

لم أقف عليه، وقد قال به ابن عباس والشافعية:

فقول ابن عباس، يُنظر:"الإشراف" لابن المنذر (1/ 400) حيث قال: "وفيه قول رابع: وهو أن آخر وقتها إلى طلوع الفجر، روينا هذا القول عن ابن عباس ".

وللشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 424) قال: "ويبقى وقتها إلى الفجر الصادق ".

ص: 1062

حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي اليَوْمِ الثَّانِي ثُلُثَ اللَّيْلِ

(1)

. وَفِي حَدِيتِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: "أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ "، خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ

(2)

. وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ

(3)

، وَأَبِي هُرَيْرَةَ

(4)

عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ العِشَاءَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ "، وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ:"لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الأُخْرَى"

(5)

، فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ لِحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ قَالَ: ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَمِنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: شَطْرُ اللَّيْلِ).

ثانيًا: آخر وقت صلاة العشاء:

اختلف العلماء في تحديد آخر وقت صلاة العشاء على ثلاثة مذاهب:

الأول: أنه ثلث الليل، وهو قول الشافعي

(6)

، وأبي حنيفة

(7)

، وهو

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (572) وغيره عن أنس بن مالك، قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال:"قد صلى الناس وناموا، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها".

(3)

أخرجه أبو داود (422) وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: علينا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل فقال: "خذوا مقاعدكم" فأخذنا مقاعدنا فقال: "إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل "، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(449).

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه أبو داود (441) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(468).

(6)

تقدَّم نقل مذاهبهم وأقوالهم فيها.

(7)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 126) حيث قال: "وأما العشاء المستحب فيها التأخير إلى ثلث الليل في الشتاء".

ص: 1063

المشهور من مذهب مالك

(1)

، وأحمد

(2)

، وهو أقوى الأقوال؛ لأن الأحاديث تجتمع عند هذا.

الثاني: أنه نصف الليل أو (شطر الليل)، وهي رواية عن مالك

(3)

، وأحمد

(4)

.

الثالث: أنه إلى طلوع الفجر، وهو قول داود

(5)

، وهي رواية عن مالك أيضًا

(6)

؛ فيرى أن المغرب والعشاء وقتهما يمتد إلى الفجر، وهو رأي ضعيف، ووقته: وقت ضرورة؛ لأهل الضرورة، وسيأتي الكلام عليه مفصلًا.

فكما أن هناك وقت ضرورة للظهر والعصر، فالوقت بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر الثاني للعشاء وقت ضرورة كذلك.

مثل: كمن يكون صبيًا فيبلغ، أو كافرًا فيسلم، أو نائمًا فيستيقظ؛ فإنه يصلي في ذلك الوقت، ويكون وقت ضرورة، وكذلك؛ مثل: المرأة التي زال عذرها من حيض أو نفاس.

وهناك حديث يعتبر بمثابة قاعدة للأوقات كلها وهو حديث أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي اليَقَظَةِ أَنْ تُؤَخّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ أُخْرَى"

(7)

.

(1)

تقدَّم نقل مذاهبهم وأقوالهم فيها.

(2)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 254) قال: "وآخر وقتها المختار إلى ثلث الليل الأول نص عليه، واختاره الأكثر".

(3)

تقدَّم أن هذا قول ابن حبيب وابن المواز من المالكية.

(4)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 254) قال: "وعنه يمتد وقت العشاء المختار إلى نصفه، أي: الليل، اختاره الموفق والمجد، وجمع منهم القاضي وابن عقيل، وقدمه ابن تميم قال في "الفروع": وهو أظهر".

(5)

لم أقف عليه، وقد قال به ابن عباس والشافعية، وقدمت أقوالهم.

(6)

هذا في الوقت الضروري، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 181) قال: "وضروري العشاء من الثلث الأول ويستمر للفجر فى العشاءين ".

(7)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1064

فقد وضع حذًا للتفريط في الصلاة؛ فالتفريط فيها لا ينطبق على مَن ينام، أو ينساها، أو يحول بينه وبين أدائها بعذر من مرض أو سفر أو غير ذلك من الأعذار المعروفة؛ لكن التفريط هو أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى، وهذا فيه تأكيد على أهمية أوقات الصلوات، وأنها متعينة، وواجبة وشرط في صحة الصلاة.

وفي حديث أَبِي قَتَادَةَ دليل لمن ذهب أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس، وأن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر؛ ولكننا نقول: إن ذلك وقت ضرورة.

وكثير من الأحاديث تلتقي مع حديث عبد الله بن عباس في إمامة جبريل، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ العِشَاءَ إِلَى ثلث اللَّيْلِ"

(1)

.

وفي بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم أخَّرها فعلًا إلى ثلث الليل، وكذلك حصل ذلك في زمن الصحابة؛ بل ثبت في "الصحيحين" عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أنه قَالَ:"أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثمَّ صَلَّى .. "

(2)

؛ فدلَّ ذلك على أن الأفضل في صلاة العشاء هو تأخيرها عن أول وقتها إلى ثلث الليل، أو نصف الليل، شريطة ألا يدركه النوم في ذلك الوقت الذي أخَّرها إليه؛ فإن خشي الإنسان أن يدركه النوم؛ فالأولى التبكير، وألا يشق الإمام على المأمومين بتأخيرها.

يقول سبحانه وتعالى في رحمة رسوله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128] وقال: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]؛ فهذا هو منهج إلى سول صلى الله عليه وسلم بأمته،

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1065

وهو الرحمة، وكم حذَّر صلى الله عليه وسلم أن يشقَّ أحد بأمَّتِه ودعا عليه بأن يشقَّ اللهُ سبحانه وتعالى عليه؛ فقال:"اللهُمَّ، مَنْ وَليَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَليَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ"

(1)

.

* قوله: (وَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ، فَاعْتَمَدُوا حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ، وَقَالُوا: هُوَ عَامٌّ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ، فَهُوَ نَاسِخٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نَاسِخًا لَكَانَ تَعَارُضُ الآثَارِ يُسْقِطُ حُكْمَهَا، فَيجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَى اسْتِصْحَابِ حَالِ الإِجْمَاعِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الوَقْتَ يَخْرُجُ لِمَا بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا قَبْلُ، فَإِنَّا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الوَقْتَ عِنْدَهُ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَصْحَبَ حُكْمُ الوَقْتِ إِلَّا حَيْثُ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى خُرُوجِهِ

(2)

، وَأَحْسَبُ أَنَّ بِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

).

ورد في ذلك كما سيأتي في أهل الأعذار ما نقل عن عبد الله بن عباس

(4)

،

(1)

أخرجه مسلم (1828/ 19) وغيره عن عائشة.

(2)

يُنظر: "المحلى"(3/ 178 - 179) حيث قال: "وقد احتجَّ في هذا بعض مَن ذهب إلى ذلك مِن أصحابنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت أخرى"، وراموا بهذا اتصال وقت العتمة بوقت صلاة الصبح، فإن هذا لا يدل على ما قالوه أصلًا، وهم مجمعون معنا -بلا خلاف من أحد من الأمة- أن وقت صلاة الفجر لا يمتد إلى وقت صلاة الظهر، فصح أن هذا الخبر لا يدلّ على اتصال وقت كل صلاة بوقت التي بعدها، وإنما فيه معصية من أخر صلاة إلى وقت غيرها فقط، سواء اتصل آخر وقتها بأول الثانية لها، أم لم يتصل، وليس فيه: أنه لا يكون مفرطًا أيضًا من أخَّرها إلى خروج وقتها، وإن لم يدخل وقت أُخرى، ولا أنه يكون مفرطًا؛ بل هو مسكوت عنه في هذا الخبر، ولكن بيانه في سائر الأخبار التي فيها نص على خروج وقت كل صلاة".

(3)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للزيلعي (2/ 29 - 30) حيث قال: وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر الثاني؛ لقوله عليه السلام: "وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر".

(4)

أثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 122) وغيره عن ابن عباس قال: "إذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء".

ص: 1066

وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

(1)

: "في الحائض تطهر قبل الفجر بركعة؛ فإنها تصلي المغرب والعشاء، وكذلك لو طهرت أيضًا قبل العصر بركعة المغرب بركعة؛ فإنها تصلِّي الظهر والعصر".

• مسألة:

لو أن امرأة أدركها أول الوقت الذي تؤدي فيه الصلاة؛ ثم بعد ذلك حاضت قبل أن تصلي الصلاة في أول وقتها هل تطالب بقضائها؟

الجواب: نعم؛ تطالب بقضائها، وفي المسألة خلاف بين العلماء

(2)

.

(1)

أثر ابن عوف أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 333) وغيره عن عبد الرحمن بن عوف قال: "إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس صلت صلاة النهار كلها، وإذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت صلاة الليل كلها"، وإسناده فيه مجهول.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 65) حيث قال: "المرأة إذا مضى عليها وقت الصلاة وهي طاهرة ثم حاضت لا يسقط عنها فرض الوقت حتى يجب عليها القضاء إذا طهرت من حيضها".

ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (2/ 168) حيث قال: "قال مالك: والطاهر تنسى الصلاة، أو تفرط فيها، ثم تحيض، أنها إن حاضت في وقت، فلا قضاء عليها فيما حاضت في وقته، وما خرج وقته قبل أن تحيض، كان عليها قضاؤه بعد أن تطهر، قال ابن القاسم وتفسير ذلك، أنها إن نسيت الظهر والعصر أو فرطت فيهما، ثم حاضت لمقدار خمس ركعات قبل الغروب، فلا قضاء عليها لهما، وإن كان لمقدار أربع ركعات فأدق، قضت الظهر؛ لأن وقتها قد خرج، ولا قضاء عليها للعصر؛ لأن هذا الوقت لها".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص 26) حيث قال: "ومن أدرك من وقت الصلاة قدر ما يؤدي فيه الفرض ثم جن أو كانت امرأة فحاضت وجب عليهما القضاء، وإن

طهرت حائض أو نفساء

قبل طلوع الشمس بركعة لزمهم الصبح، وإن كان بدون ركعة ففيه قولان: وإن كان ذلك قبل الغروب، أو قبل طلوع الفجر بركعة لزمهم العصر والعشاء، وفي الظهر والمغرب قولان: أحدهما يلزم بما يلزم به العصر والعشاء، والثاني يلزم بقدر خمس ركعات ومن لم يصل حتى فات الوقت ".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الكافي" لابن قدامة (1/ 194) حيث قال: "فلو جن بعد دخول جزء من وقت الصلاة، أو حاضت المرأة، لزمها القضاء؛ لأنه إدراك جزء=

ص: 1067

فبعضهم يقول: إذا مضى في الظهر والعصر: وقت تؤدي فيه أربع ركعات، وفي المغرب: وقت تؤدي فيه ثلاث ركعات، وفي الفجر: وقت تؤدي فيه ركعتان" فإنها تقضي هذه الصلاة

(1)

.

وبعضهم يقول: لو أدركت أقل من ذلك، فإنها تقضي

(2)

.

وبعضهم يفرق بين المسافر والحاضر، فالمسافر إن مضت مدة مثلًا من صلاة الظهر أو العصر يمكن أن يؤدي فيها ركعتي السفر يعني صلاة السفر، لأنها تقصر، للحقه عذر فإنه يطالب بذلك بعد أن يزول العذر

(3)

.

• مسألة:

لو أن مسلمًا صلَّى قبل الوقت، أتصح صلاته؛ أم تلزمه الإعادة؟

(4)

.

= تجب بها الصلاة، فاستقرت به، كآخر الوقت، وهل تجب العصر بإدراك جزء من وقت الظهر؟ فيه وجهان؛ أحدهما: تجب، لأنه أدرك جزءًا من وقت إحدى صلاتي الجمع، فلزمته الأخرى، كإدراك جزء من وقت العصر. والثاني: لا تجب؛ لأنه لم يدرك شيئًا من وقتها، ولا وقت تبعها، فأشبه من لم يدرك شيئًا بخلاف العصر، فإنها تفعل تبعًا للظهر، فمدرك وقتها مدرك لجزء من وقت تبع الظهر، وهكذا القول في المغرب والعشاء".

(1)

وهو مذهب المالكية والشافعية.

(2)

وهو وجه عند الحنابلة.

(3)

وهو مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (2/ 439 - 440) حيث قال: "والمسافر لا يلتزم الإتمام إذا خرج في وسط الوقت، وحاول هذا فرقًا عظيمًا، ولكنه عسر، وحاصله: أن المسافر مرَّ عليه الوقت مسافرًا، كما مر عليه الوقت في البلد، وإذا استمر الوقت والتكليف بالصلاة، ففرضية الصلاة لا تضاف على التخصيص إلى وقت معين. والحائض أدركت قبل الحيض وقتا، ثم استمر المانع، فانحصر الوجوب في وقت الإمكان على التعيين، وهذا لا يتحصل إذا تأمل. والله أعلم، ولو انقضى الوقت بكماله في البلد، وجب إتمام القضاء عند أصحابنا".

(4)

ذهب الجمهور إلى أنه لا تجوز قبل وقتها ولا تصح:

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 121) حيث قال: "الوقت لأن الوقت كما هو سبب لوجوب الصلاة فهو شرط لأدائها، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، أي: فرضًا مؤقتًا حتى لا يجوز أداء الفرض قبل وقته إلا صلاة العصر يوم عرفة على ما يذكر".=

ص: 1068

الجواب:

نُقِل عن بعض الصحابة أنه صلى قبل الوقت؛ فأعاد تلك الصلاة؛ نقل ذلك عن عبد الله بن عمر

(1)

، وعن غيره

(2)

.

لكن نقل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في المسافر إذا صلى الظهر قبل الزوال؛ " قال: يجزِئه

(3)

، وخالفه في ذلك عامة العلماء

(4)

، ولعل هذا هو

= ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 469) حيث قال: "شروط الصلاة وهي على ثلاثة أقسام شرط في الوجوب والصحة وشرط في الوجوب فقط وشرط في الصحة فقط فأما شروط الوجوب والصحة فستة

(الثاني) دخول وقت الصلاة على ما قال بعضهم وجعل القرافي في دخول الوقت سببًا للوجوب، وسواء جعلناه سببًا أو شرط

فلا تجب الصلاة قبل الوقت إجماعًا ولا تصح أيضًا إلا على ما سيأتي في باب الجمع ".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج للشربيني (1/ 308) حيث قال: "فإن صلى باجتهاده ثم تيقن أن صلاته وقعت قبل الوقت أو بعضها ولو تكبيرة الإحرام أو أخبره ثقة بذلك، وعلم بذلك في الوقت، أو قبله أعادها بلا خلاف، أو علم به بعده قضاها في الأظهر؛ لفوات شرطها وهو الوقت، حتى لو فرض أنه صلى الصبح مثلًا سنين قبل الوقت لزمه أن يقضي صلاة فقط ".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 145) حيث قال: "ويعيد إن اجتهد وتبين له أنه أخطأ الوقت فصلى قبله؛ لوقوعها نفلًا وبقاء فرضه عليه، فإن لم يتبين له الخطأ، فلا إعادة".

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 121) عن نافع، عن ابن عمر، "أعاد صلاة الصبح بجمع في يوم ثلاث مرات، فإذا هو قد صلى بليل، ثم أعادها، فإذا هو قد صلى بليل، ثم أعادها الثالثة".

(2)

وروي عن أبي موسى أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 345) عن صفوان بن محرز المازني قال: "صلى بنا أبو موسى الأشعري صلاة العصر في يوم مطير، فلما أصحت إذا هو قد صلاها لغير وقت، فأعاد الصلاة".

(3)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(3/ 83) عن عكرمة، عن ابن عباس، سئل عن رجل صلى الظهر في السفر قبل أن تزول الشمس. قال:"تجزيه ثم قال: أرأيت إن كان على أحدكم دين إلى أجل فقضاه قبل محله أليس ذلك قد قضيناه ".

(4)

وعلى رأسهم عمر فأخرج ابن المنذر في "الأوسط"(3/ 83) عن الحارث بن أبي ربيعة، أن عمر بن الخطاب "صلى الفجر بليل فأعاد الصلاة".

وقد قدمنا مذاهب أهل العلم في المسألة، وأن رأي الجمهور أنها لا تجزئه ويعيد.

ص: 1069

الذي أشار إليه المؤلف في أول حديثه عن الأوقات. فالصلوات لا يجوز أداؤها قبل الوقت، ومَن أدَّاهَا قبل الوقت؛ فعليه أن يعيدها، لأن الوقت شرط في صحَّتها.

* فائدة:

حديث جبريل تكرَّر كثيرًا

(1)

، لأنه شاهد ودليل على جميع الأوقات، ومثله أيضًا حديث بريدة الأسلمي الذي علَّم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الرجلَ الذي طلب منه أن يمكث معه يومين أيضًا

(2)

، فهو شاهد على جميع الأوقات، وهناك غيرهما.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصُّبْحِ طُلُوعُ الفَجْرِ الصَّادِقِ وَآخِرَهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ

(3)

، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 357 - 359) حيث قال: "وقت صلاة الفجر

من أول طلوع الفجر الثاني وهو البياض المنتشر المستطير لا المستطيل إلى قبيل طلوع ذكاء بالضم غير منصرف اسم الشمس ".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 32) حيث قال: "وأجمعوا على أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر وانصداعه وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي في آخر الليل، وهو الفجر الثاني الذي ينتشر ويظهر، وأن آخر وقتها طلوع الشمس ".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 425) حيث قال: "والصبح يدخل وقتها بالفجر الصادق؛ لأن جبريل صلاها أول يوم حين حرم الفطر على الصائم وإنما يحرم بالصادق إجماعًا

وهو بياض شعاع الشمس عند قربها من الأفق الشرقي المنتشر ضوءه معترضًا بالأفق، أي: نواحي السماء بخلاف الكاذب وهو ما يبدو مستطيلًا وأعلاه أضوأ من باقيه، ثم تعقبه ظلمة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 143) حيث قال: "وقت ضرورة إلى طلوع الفجر الثاني

وهو أي: الفجر الثاني المستطيل البياض=

ص: 1070

القَاسِمِ

(1)

، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ

(2)

مِنْ أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الإِسْفَارُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهَا المُخْتَارِ، فَذَهَبَ الكُوفِيُّونَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ

(3)

، وَالثَّوْرِيُّ، وَاَكْثَرُ العِرَاقِيِّينَ

(4)

إِلَى أَنَّ الإِسْفَارَ بِهَا أَفْضَلُ، وَذَهَبَ مَالِكٌ

(5)

، وَالشَّافِعِيُّ

(6)

، وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ

(7)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(8)

،

= المعترض بالمشرق ولا ظلمة بعده ويقال له: الفجر الصادق والفجر الأول ويقال له: الكاذب مستطيل بلا اعتراض أزرق له شعاع ثم يظلم ولدقته يُسمَّى ذنب السرحان، وهو الذئب ويليه، أي: وقت الضرورة للعشاء الوقت للفجر إجماعًا".

(1)

وقوله: هو المختار في المذهب: قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(1/ 32): "إلا أن بن القاسم روى عن مالك آخر وقتها الإسفار، وكذلك حكى عنه بن عبد الحكم أن آخر وقتها الإسفار الأعلى". ويُنظر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للدردير (1/ 179).

(2)

وهو الاختيار ألا تؤخر عنه، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 371) قال: "والاختيار أن لا تؤخر عن الإسفار، أي: الإضاءة لخبر جبريل المار، وله أربعة أوقات فضيلة، وهي: أوله ثم اختيار إلى الإسفار، ثم جواز بلا كراهة إلى الحمرة قبل طلوعها، ثم جواز مع الكراهة بمعنى: أنه يكره تأخيرها إليه ".

(3)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" للحصكفي (1/ 366) حيث قال: "والمستحب للرجل الابتداء في الفجر بإسفار والختم به هو المختار".

(4)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (1/ 195) حيث قال: "وقال أصحابنا يسفر بالفجر في سائر الأوقات وهو أفضل وهو قول الثوري والحسن بن حي".

(5)

يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 205) حيث قال: "التغليس بالفجر أفضل من الإسفار".

(6)

يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 93) حيث قال: "ويصليها أول ما يستيقن الفجر معترضًا حتى يخرج منها مغلسًا".

(7)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 256) حيث فال: "وتعجيلها أول الوفت أفضل "لقول عائشة كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، ما يعرفهن أحد من الغلس" متفق عليه

قال ابن عبد البر صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون ومحال أن يتركوا الأفضل، وهم النهاية في إتيان الفضائل ".

(8)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 74) حيث قال: "وممن مذهبه أن يصلى الصبح بغلس

وإسحاق وأبو ثور".

ص: 1071

وَدَاوُدُ

(1)

إِلَى أَنَّ التَّغْلِيسَ بِهَا أَفْضَلُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي طَرِيقَةِ جَمْعِ الأَحَادِيثِ المُخْتَلِفَةِ الظَّوَاهِرِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ طَرِيقِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ:"أَسْفِرُوا بِالصُّبْحِ، فَكُلَّمَا أَسْفَرْتُمْ، فَهُوَ أَعْظَمُ لِلأجْرِ"

(2)

، وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ مِيقَاتِهَا"

(3)

، وَثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام "أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الصبْحَ فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الغَلَسِ"

(4)

. وَظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنَّهُ عَمَلَهُ فِي الأَغْلَبِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ حَدِيثَ رَافِعٍ خَاصٌّ، وَقَوْلَهُ:"الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ مِيقَاتِهَا" عَامٌّ، وَالمَشْهُورُ أَنَّ الخَاصَّ يَقْضِي عَلَى العَامِّ

(5)

إِذَا هُوَ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا العُمُومِ صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَجَعَلَ

(1)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 182) حيث قال: "وتعجيل جميع الصلوات في أول أوقاتها أفضل على كل حال؛ حاشا العتمة؛ فإن تأخيرها إلى آخر وقتها في كل حال وكل زمان أفضل؛ إلا أن يشق ذلك على الناس؛ فالرفق بهم أولى، وحاشا الظهر للجماعة خاصة في شدة الحر خاصة، فالإبراد بها إلى آخر وقتها أفضل ".

(2)

أخرجه الترمذي (154) وغيره عن رافع بن خديج، قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر"، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"(614).

(3)

أخرج هذه الزيادة ابن خزيمة في "الصحيح"(327) وغيره.

وقوله: مختلف فيها؛ فلعله يعني أن صاحبا الصحيح أخرجا الحديث بدونها، مع أنها على شرطهما كما قاله الحاكم في "المستدرك"(300/ 1)، وقد ذكر الحاكم له شواهد.

(4)

أخرجه البخاري (867)، ومسلم (645/ 232) عن عائشة، قالت:"إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح، فينصرف النساء متلفعات بمروطهن، ما يعرفن من الغلس ".

(5)

هذه من القواعد الأصولية الهامة، ولها عند أهل العلم ضوابط، يقول أبو المظفر السمعاني في "قواطع الأدلة في الأصول" (1/ 199): "إن كان ورد الخاص قبل أن يحضر وقت العمل بالعام فإنه يكون الخاص مقضيًا به على العام، وإن ورد الخاص=

ص: 1072

حَدِيثَ عَائِشَةَ مَحْمُولًا عَلَى الجَوَازِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا تَضَمَّنَ الإِخْبَارَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ لَا بِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ غَالِبَ أَحْوَالِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الإِسْفَارُ أَفْضَلُ مِنَ التَّغْلِيسِ ". وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ العُمُومِ لِمُوَافَقَةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ لَهُ، وَلأَنَّهُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ أَوْ ظَاهِرٌ، وَحَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مُحْتَمِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ تَبَيُّنَ الفَجْرِ، وَتَحَقُّقَهُ، فَلَا تكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلَا العُمُومِ الوَارِدِ فِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ - قَالَ: أَفْضَلُ الوَقْتِ أَوَّلُهُ).

أجمع العلماء على: أن وقت صلاة الفجر: يبدأ بطلوع الفجر الصادق، وليس الفجر الكاذب الذي يطلع ضوؤه ثم يختفي

(1)

.

وقد مرَّ آنفًا أن الفجر ينقسم إلى نوعين

(2)

:

الفجر الكاذب: وهو الفجر الأول، وهو البياض المُسْتَطِيل الدقيق في السماء، ويشبهونه ب (ذنب السِّرْحَان) يعني: الذئب؛ لأنه يمتد بعد ذلك ثم يغيب، ولا يحل أداء صلاة الصبح ولا يحرم الأكل على الصائم.

والفجر الصادق: وهو الفجر الثاني، وهو البياض المُسْتَطِيرُ الذي ينتشر في السماء، الذي يأتي بعد الفجر الكاذب، ويختلط بحمرة، وبه يدخل وقت صلاة الفجر، وتترتب عليه أحكام الصلاة والصيام وغيرها من أحكام هذا الوقت؛ فهو المعتبر والمعتد به.

ولذلك يقال عن الرجل الذي فيه بياض وحمرة: رجل صادق وجهه، يعني مضيء.

= بعدما حضر وقت العمل بالعام فإنه يكون نسخًا". وانظر: "الأشباه والنظائر" للسبكي (2/ 196).

(1)

نقل الإجماع ابن المنذر في "الإشراف"(1/ 401) قال: "وأجمع أهل العلم على أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر".

(2)

تقدَّم الكلام عليه.

ص: 1073

واختلف العلماء: في آخر وقت صلاة الفجر، على قولين:

الأول: أن آخر وقت الصبح: طلوع الشمس

(1)

.

الثاني: أن آخر وقت الصبح: الإسفار، وهو قول ابن القاسم، وبعض أصحاب الشافعي

(2)

.

واختلف العلماء في التفضيل بين التغليس والإسفار

(3)

بصلاة الصبح؛ على قولين:

الأول: أن التغليس بصلاة الصبح أفضل، والتغليس: هو آخر ظلمة الليل، أو هو اختلاط الظلمة بالنور

(4)

، وهو قول الجمهور كالمالكية والشافعية والحنابلة

(5)

.

وهو وقت الفضيلة عند الحنابلة، ثم يأتي بعده وقت الضرورة والعذر، وربما لم يطلع المؤلف على مذهب الحنابلة.

ومن أدلتهم:

* عامة الأدلة التي دلت على أن الأولى هو أداء الصلاة في أول وقتها.

1 -

عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّ الأَعْمَالِ أَحَبّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؛ قَالَ: "ثُمَّ بِرّ الوَالِدَيْنِ "، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي

(6)

.

(1)

وهم الجمهور، وتقدم نقل مذاهبهم وأقوالهم.

(2)

تقدَّم نقل أقوالهم.

(3)

"الإسفار": الإضاءة يقال أسفر الصبح إذا أضاء. انظر: "انيس الفقهاء" للقونوي (ص 17)، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 52).

(4)

"الغلس": ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. انظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 377).

(5)

تقدَّم نقل مذاهبهم وأقوالهم فيها.

(6)

أخرجه البخاري (527).

ص: 1074

وفسَّر العلماء قوله: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا" أنه يريد أول الوقت

(1)

.

2 -

وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الغَلَسِ"

(2)

، وفي رِوَايَةٍ:"مُتَلَفِّفَاتٍ"

(3)

.

وهذا دليل على أنهن كن يصلين في الظلمة.

ويريد المؤلف أن يُشير إلى أن القائلين بتفضيل الإسفار يتأولون حديث عائشة هذا على أن فعله فيه ليس هو الأغلب من حاله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو بعض من حاله، ولا ينكرون التغليس لكنهم يفضلون الإسفار.

3 -

وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في حديث الحج المشهور؛ قال: "ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المزدلفة حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، وَصَلَّى الفَجْرَ، حِينَ تبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ"

(4)

؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم بأداء صلاة الصبح في أول وقتها في هذا الموقف الواحد، وعجلها.

الثاني: أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل، وهو قول الكوفيين، وأبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، وأكثر العراقيين، وهو وقت الجواز والاختيار

(5)

.

(1)

قال ابن رجب في "فتح الباري"(4/ 209): "وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلاة على وقتها- أو على مواقيتها": دليل- أيضًا- على فضل أول الوقت للصلاة؛ لأن "على" للظرفية، كقولهم: "كان كذا على عهد فلان "، والأفعال الواقعة في الأزمان المتسعة عنها لا تستقر فيها، بل تقع في جزء منها، لكنها إذا وقعت في أول ذلك الوقت فقد صار الوقت كله ظرفًا لها حكمًا".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (654/ 232).

(4)

هذا جزء من حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم (1218/ 147) وغيره.

(5)

تقدَّم ذكر مذاهبهم وأقوالهم فيها.

ص: 1075

ومن أدلتهم:

1 -

عنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ"

(1)

، فقوله:"أَسْفِرُوا"؛ أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أُنيطت به علته، ألا وهي عِظَمُ الأجر؛ فدلَّ هذا على أن الإسفار بها أفضل.

2 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ البَيْتِ،

ثُمَّ صَلَّى بِي الفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ أبَزَقَ الفَجْرُ،

(2)

[بَرَقَ الفَجْرُ

(3)

- أَوْ قَالَ: حِينَ سَطَعَ الفَجْرُ]

(4)

...... ثُمَّ صَلَّى بِي الفَجْرَ فَأَسْفَرَ

(5)

[حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا]

(6)

، ثمَّ التَفَتَ إليَّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، الوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ

(7)

[مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ]

(8)

".

3 -

عَنْ بُرَيْدَةَ الأسلميِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ:"صَلّ مَعَنَا هَذَيْنِ "-يَعْنِي اليَوْمَيْنِ-

ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الفَجْرَ،

وَصَلَّى الفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا"، ثُمَّ قَالَ: "أَيْنَ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

هذه الرواية أخرجها الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 263) وغيره.

(3)

هذه الرواية أخرجها الترمذي (149) وغيره. وصححها الألباني في "إرواء الغليل "(250).

(4)

هذه الرواية أخرجها النسائي (526) وغيره. وصححها الألباني في "إرواء الغليل "(250).

(5)

هذه الرواية أخرجها أبو داود (393) وغيره. وصححها الألباني في "المشكاة"(583).

(6)

هذه الرواية أخرجها النسائي (526) وغيره. وصححها الألباني في "إرواء الغليل"(250).

(7)

هذه الرواية أخرجها أحمد (3081) وغيره. وحسن إسناده الأرناوؤط.

(8)

هذه الرواية أخرجها النسائي (526) وغيره. وصححها الألباني في "إرواء الغليل"(249).

ص: 1076

السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ"

(1)

.

4 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ"

(2)

.

والجمع بين الأدلة:

ويمكن الجمع بين الأدلة بأنه يجوز الأمرين معًا، فيجوز التغليس ويجوز الإسفار، والدليل الواضح: حديث أَبي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيَّ؛ قال: "فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

وَصَلَّى الصُّبْحَ مَرَّةً بِغَلَسٍ، ثُمَّ صَلَّى مَرَّةً أُخْرَى فَأَسْفَرَ بِهَا، ثُمَّ كلانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّغْلِيسَ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ"

(3)

. وهو حديث صحيح، ويظهر أن المؤلف لم يقف عليه.

فأكَّد هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا، وفعل هذا، وأنه في آخر أمره استقرَّ على التغليس بها؛ فالتغليس أفضل بلا شكَّ؛ لأن

(1)

أخرجه مسلم (613/ 176) وغيره.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود (394) وغيره، عن أبي مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نزل جبريل صلى الله عليه وسلم فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه "يحسب بأصابعه خمس صلوات. "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين تزول الشمس، وربما أخرها حين يشتد الحر، ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل أن تدخلها الصفرة، فينصرف الرجل من الصلاة، فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس، وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أُخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(418).

ص: 1077

النبي صلى الله عليه وسلم لازم التغليس حتى مات، ولهذا ذكر المؤلف أنه الأغلب من فعله صلى الله عليه وسلم، فيحمل على الأفضلية.

وليس المقصود بالتغليس هو أن يصليها المسلم بمجرد بزوق الفجر؛ بل المراد هو أن يتأكد ويحتاط في طلوع الفجر.

وفي نظري أن ما ذكره المؤلف من الترجيح بين المسائل بالأدلة الأصولية لا حاجة له؛ لأن حديث أبي مسعود رفع الإشكال؛ وبه اجتمعت الأدلة، وعُمِل بها جميعًا.

وأما حديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَسْفِرُوا بالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأجْرِ"

(1)

. فالمراد به: التأكد والتحري والدقة والتبينَ من طلوع الفجر الصادق، والحيطة في ذلك الأمر، وليس المراد من ذلك أن الإسفار أفضل من التغليس.

وكذلك نبَّهَ المؤلف على حديث رَافِعٍ، وقال: إنه (مُحْتَمِلٌ؛ لِأنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ تَبَيُّنَ الفَجْرِ، وَتَحَقُّقَهُ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلَا العُمُومِ الوَارِدِ فِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ)، وهذا قول وجيه، وهو زُبدة القول، وخلاصة المسألة، وتلتقي حوله الأدلة؛ كحديث أبي مسعود الأنصاري.

وليس المراد من هذا الحديث: أن يُنتظَر بها إلى أن يأتي الإسفار، ويقرب خروج الشمس. يعني: ومما يقوي مذهب الجمهور: أن التغليس كان فعل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وفعله الصحابة رضوان الله عليهم

(2)

، وهم لا يختارون في هذا المقام إلا الأفضل؛ فهم أشد الناس حرصًا على اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أكثر الناس مسابقة الخيرات.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

قال ابن المنذر في "الإشراف"(1/ 402): "وقد روينا عن أبي بكر، وعمر، وابن الزبير، وابن مسعود وأبي موسى الأشعري، وعمر بن عبد العزيز أخبارًا تدلُّ على أن التغليس بالصلاة أولى من الإسفار فيها".

ص: 1078

ولا شكَّ أن أداء صلاة الفجر في أول وقتها، والتغليس بها أفضل من التأخير والإسفار بها؛ لكن من يؤخرها إلى الإسفار، لا يكون مقصرًا، وإنما عدل عما هو أفضل.

* فائدة:

ينبغي أن يلحظ الأمام أحوال المأمومين:

فإذا عرف من أحوال الذين يصلون معه في مسجده أنهم ممن يبادرون إليه؛ فينبغي أن يبادر بالصلاة ويغلس بها، ولا يشق عليهم.

وإذا أحسَّ بتأخر بعض الناس؛ فالأولى له أن يؤخر الصلاة ويسفر بها -ولو قليلًا-، حتى يدرك الناس صلاة الجماعة، وهو لا يزال -بعدُ- في وقت الاختيار؛ فسدِّدُوا وقاربوا.

وقد نقل عن الإمام أحمد -رحمة الله-: أن الإمام لا بد أن يلحظ أحوال المأمومين:

إن جاؤوا مسفرين متأخرين؛ فإنه يسفر بهم، وإن جاؤوا مغلسين؛ فإنه يغلس بهم

(1)

.

* فائدة:

وابن القاسم من أئمة المالكية المشهورين، وهو صاحب مالك، ونشر كثيرًا من فقهه في (المدونة)

(2)

، وأصل (المدونة): أسئلة سألها الإمام أسد بن الفرات

(3)

لابن القاسم، وأجابها على مذهب الإمام مالك؛

(1)

يُنظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد" لأبي الخطاب الكلوذاني (ص 71) حيث قال: "وعنه: أن المعتبر بحال المأمومين، فإن أسفروا، فالأفضل الإسفار".

(2)

يُنظر ترجمته: "السير" للذهبي (9/ 120) وما بعدها.

(3)

يُنظر ترجمته: "السير" للذهبي (10/ 225) وما بعدها.

ص: 1079

فلمَّا ارتحل الإمام سحنون

(1)

بها، عرضها على ابن القاسم، فأصلح فيها كثيرًا، وأسقط، ثم رتبها سحنون، وبوبها.

وأحيانًا ابن القاسم يجيب عن مسائل توقف الإمام مالك، وأحيانًا يتكلم بالرأي المحض، إلى غير ذلك، وهو الذي يقصده المؤلف.

ولا يقصد ابن قَاسم مُحمد بن قَاسم الغَزِّي الشَّافِعِي؛ لأنه من متأخري الشافعية، وهو من أعيان المذهب الشافعي

(2)

.

* فائدة:

لم يختلف العلماء بأن أداء الصلوات في أول أوقاتها أفضل، ولا يرون إثمًا على الذي يؤخرها إلى وقت الاختيار.

ولو أخَّر المسلم الصلوات التي يفضل أداؤها في أول أوقاتها إلى آخر أوقاتها، لا يكون آثمًا أيضًا في ذلك

(3)

.

مثلًا: أداء صلاة الظهر أفضل في أول وقتها؛ إلا في شدة الحر؛ فالأفضل حينها الإبراد؛ فمن صلاها في وقت اشتداد الحر؛ فلا يعتبر آثمًا، ومن أبرد بها وأخَّرها؛ فلا يعتبر آثمًا، كذلك.

فالذي أخَّر الصلاةَ عن أول وقتها إلى آخر وقتها بنية أدائها؛ فلا إثم عليه.

وأما الذي أخَّر الصلاةَ عن أول وقتها إلى آخر وقتها دون نية أدائها؛ فإذا فمات فإنه يأثم.

مثلًا: رجل أخَّر صلاة الظهر، وهو ينوي أن يؤديها في آخر وقتها؛ فمات قبل ذلك؛ فإنه لا يأثم في هذا؛ لأنه أخَّرها إلى وقت يجوز لها أن

(1)

يُنظر ترجمته: "السير" للذهبي (63/ 12) وما بعدها.

(2)

يُنظر ترجمته: "الأعلام" للزركلي (7/ 5) وما بعدها.

(3)

قدمنا مذاهب أهل العلم في هذه المسائل بالتفصيل، والشارح يضرب أمثلة على ذلك.

ص: 1080

يصليها فيه، ولا دَخْلَ له فيما يتعلَّق بالوفاة؛ لأن ذلك أمر خارج عن إرادته، وإنما هو أمر الله سبحانه وتعالى وإرادته؛ فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يتوفى الأنفس.

• ومن الفوائد أيضًا:

قوله: "وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيسَ بِهَا أَفْضَلُ ".

ذكر المؤلف في هذا الموضوع الإمام أحمد؛ لأنه ليس له منهج مستقر في ذلك، ولا يفهم منه أنه لا يرى أن الإمام أحمد من الفقهاء؛ لكنه يكثر النقل من كتاب (الاستذكار) لابن عبد البر، وقد نصَّ على أنه متأثر به؛ فإن ذكر ابن عبد البر الإمام أحمد ذكره.

ومنها أيضًا:

حديث: "أَسْفِرُوا بِالصُّبْحِ، فَكُلَّمَا أَسْفَرْتُمْ، فَهُوَ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ"

(1)

.

رواية من الروايات، وهناك رواية أُخرى مختصرة، وهي الأسهل للحفظ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ"

(2)

.

ومن المآخذ التي تؤخذ على هذا الكتاب أنه قد يفوت جملة من الأدلة؛ بل أحيانًا يقول: "لو صح الحديث "، وهو في "الصحيحين" أو أحدهما؛ لكن الكتاب له مزايا وحسنات كثيرة.

وفي قوله: "وَالمَشْهُورُ أَنَّ الخَاصَّ يَقْضِي عَلَى العَامِّ "

(3)

.

تكلم المؤلف في قضية أصولية، وهو ما يتعلَّق بالعموم والخصوص؛ فهو ممن اشتغل في المنطق وتعمق فيه؛ فربما يعتري هذا الكتاب بعض الغموض في بعض عباراته ومسائله.

(1)

زيادة: فكلما أسفرتم؛ أخرجها الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 178)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(258).

(2)

تقدَّم تخريجها.

(3)

قدمنا الكلام على هذه القاعدة الأصولية المهمة.

ص: 1081

والمؤلف يتكلم عن مسألة: هل يقضى بالعموم على الخصوص؛ أم بالخصوص على العموم؟!

(1)

.

أو هل يقضى بالمطلق على المقيد، أم بالمقيد على المطلق؟!

أو هل الخاص يخص العام أم لا؟

الرأي الصحيح عند الأصوليين: أن العام يُخَصُّ، فهناك آيات خُصَّتْ بآيات، وآيات خُصَّتْ بأحاديث

(2)

.

مثلًا: يقول الله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، وجاء في الحديث الصحيح: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُحِلَّتْ لنَا مَيْتَتَان، وَدَمَان. فَأَمَّا المَيْتَتَان: فَالحُوتُ وَالجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَان: فَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ"

(3)

. والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا.

* والمراد بقوله: "إنَّ الخَاصَّ يَقْضِي عَلَى العَامِّ ": أن الخاص يخصُّ العام

(4)

؛ فقد يشكل على البعض معنى "يَقْضِي عَلَى العَامِّ" هل يذهبه؟!

(1)

الأصوليون لهم تفصيلات كثيرة في هذه المسائل الدقيقة. يُنظر: "الإبهاج في شرح المنهاج" للسبكي (2/ 168) وما بعدها، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 539) وما بعدها.

(2)

هذه من القواعد الأصولية المهمة، وتقدم ذكر طرف منها؛ يقول الجصاص في "الفصول في الأصول" (1/ 406):"وأما إذا ورد لفظ العموم والخصوص في خطاب واحد فإنهما يستعملان جميعًا؛ لأن لفظ التخصيص إذا ورد مع العام فهو بمنزلة الاستثناء مع الجملة وهذا لا خلاف فيه "، وأيضًا (1/ 381) وما بعدها.

وانظر: "البحر الحيط" للزركشي (4/ 539) وما بعدها.

(3)

أخرجه ابن ماجه (3314) وغيره، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2526).

(4)

يقول الزركشي في "تشنيف المسامع بجمع الجوامع"(2/ 715): "التخصيص ": قصر العام على بعض أفراده. (ش) لم يقل اللفظ العام ليتناول ما عمومه عرفي أو عقلي وكالمفهوم على ما سبق، فإنه يدخله التخصيص مع أنه ليس بلفظ، وإنما لم يقل بدليل؛ لأن القصر لا يكون إلا كذلك، وتناول ما أريد به جميع الأفراد أولًا، ثم أخرج بعضها كما في الاستثناء وما لم يرد إلا بعض أفراده ابتداء. وانظر:"شرح الورقات" لجلال الدين المحلي (ص 177) وما بعدها.

ص: 1082

لا، هو لا يذهبه كليًّا، لكنه يخصص بعض أفراده؛ كما أن أيضًا المقيد يقيد أيضًا المطلق.

ويناقش المؤلف في كتابه الأقوال والآراء ويعرضها؛ ومن مزايا صاحب الكتاب أنني ما لاحظتُ أنه يتعصب لمذهبه المذهب المالكي؛ لكنه يحاول دائمًا الوصول إلى الحق، وإن كان يندر فيه أن يرجح.

وقد بدأ أول الكتاب بالترجيح بين المسائل؛ ثم بعد ذلك عاد وأطلقها، ولذلك سمى هذا الكتاب (المجتهد) ثم بعد ذلك (بداية المجتهد)؛ فكأن المؤلف قد وضعه للمجتهدين، وللمبتدئين من طلاب العلم.

وهناك أجزاء من هذا الكتاب لم تكن مضافة إليه في الأصل؛ كـ (كتاب الحج)؛ لذا نجد أن المؤلف توسع فيه أكثر من غيره؛ لأنه كان كتابًا مفردًا؛ ثم بعد ذلك بدا له أنه يضيفه إلى هذا الكتاب؛ فضمَّه إليه، وله تعليق في آخر هذا الكتاب.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الإِسْفَارُ، فَإِنَّهُ تَأَوَّلَ الحَدِيثَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لِأَهْلِ الضَّرُورَاتِ

(1)

أَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ "

(2)

، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا فَعَلَهُ الجُمْهُورُ فِي العَصْرِ، وَالعَجَبُ أَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ فِي هَذَا، وَوَافَقُوا أَهْلَ الظَّاهِرِ

(3)

، وَلِذَلِكَ لِأَهْلِ الظَّاهِرِ أَنْ يُطَالِبُوهُمْ بِالفَرْقِ بَيْنَ ذَلِكَ).

قوله: "وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الإِسْفَارُ

" ليس

(1)

الضرورات ومنهم أصحاب الأعذار، ومن نام حتى أصبح، ومن أغمي عليه فأفاق بعد الوقت وغيرهم.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة.

ص: 1083

الأمر كما ذكره المؤلف، ما تأولوا ذلك على أنه لأهل الأعذار.

يشير المؤلف إلى قول ابن القاسم والإصطخري من الشافعية، وهي رواية للحنابلة، وهو أن نهاية وقت الفضيلة والاختيار لصلاة الفجر هو الإسفار؛ ثم يأتي بعد ذلك وقت أهل الأعذار والضرورة بعد الإسفار، وهذا هو قصد المؤلف.

ثم يريد المؤلف أن يقيم دعوى على الجمهور؛ لماذا فرقوا بين وقتي العصر والفجر؛ فقالوا: إن آخر وقت العصر الذي هو بمقدار ركعة، بعد اصفرار الشمس، أو بعد المثلين على قول؛ وقت ضرورة

(1)

، وقال الجمهور هنا: إن آخر وقت الفجر الذي هو بمقدار ركعة، عند الإسفار، وقت ضرورة؟!

فهو يريد أن يحتج عليهم في الفجر بما فعلوه في العصر.

والجواب: أنه لا حجة؛ لأن في صلاة العصر ورد التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يؤخرها بقوله: "تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ فَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَي شَيْطَانٍ، أَوْ عَلَى فَرْنَيِ الشَّيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا"

(2)

، ولم يرد ذلك في صلاة الفجر؛ فلا ينبغي أن يحتج على الجمهور بهذا.

وللجمهور أقوال في آخر وقت العصر؛ منها:

الأول: أن وقت العصر ينتهي بالاصفرار

(3)

.

الثاني: وجعلوا ما بين الاصفرار إلى الغروب، خاص لأهل الأعذار أن من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر

(4)

.

(1)

تقدَّم ذكر مذاهبهم في هذه المسألة.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

وهي رواية عن مالك، ومذهب أحمد، وتقدم قريبا ذكر مذاهبهم وأقوالهم فيها.

(4)

وهو مذهب الحنفية والظاهرية، وقد تقدم ذكر مذاهبهم في ذلك.

ص: 1084

وسيأتي هذا -إن شاء الله- في أوقات أهل الأعذار.

وما ذكره المؤلف من احتمال أن يحتج أهل الظاهر على الجمهور، أنه احتجاج -لو قُدِّرَ- في غير محله، وغير مسلَّم به.

وأقول: بأن أهل الظاهر أدركوا ذلك؛ فلم يحتجوا به على الجمهور.

• فوائد:

* أجمع العلماء على:

- أن وقت صلاة الظهر: يبدأ بزوال الشمس

(1)

.

- وأن وقت صلاة المغرب: يبدأ بغروب الشمس

(2)

.

- وأن وقت صلاة الفجر: يبدأ بطلوع الفجر الصادق، وليس الفجر الكاذب الذي يطلع ضوؤه ثم يختفي

(3)

.

* ووقع الخلاف بين العلماء

(4)

:

- في أول وقت صلاة العصر، وفي آخره.

- في أول وقت صلاة العشاء، وفي آخره.

- في آخر أوقات جميع الصلوات.

ومن علامات المؤمن الصالح: المحافظة على هذه أوقات الصلوات؛ فاللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78].

(1)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 38) حيث قال: "وأجمعوا على أن وقت الظهر: زوال الشمس ".

(2)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 38) حيث قال: "وأجمعوا على أن صلاة المغرب: تجب إذا غربت الشمس ".

(3)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 38) حيث قال: "وأجمعوا على أن وقت صلاة الصبح: طلوع الفجر".

(4)

تقدَّم الكلام عليها مفصلًا.

ص: 1085

ومن العلماء من قال: إن في هذه الآية دليل على الأوقات كلها؛ فقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} : تشمل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقوله:{قُرْآنَ الْفَجْرِ} : هو إشارة إلى وقت صلاة الفجر، وأشير إلى الصلاة بالقراءة؛ لأنها تطول فيها

(1)

.

وقد مرَّت بنا الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي وردت في تعليم جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها، وما ذاك لأهمية الصلاة وأهمية أدائها في وقتها، لأن جبريل نزل؛ فبين للرسول صلى الله عليه وسلم أوقاتها طبقها تطبيقًا عمليًا عند بيت الله الحرام مرتين، ثم جاء بعض الأعراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألوه عن أوقات الصلوات؛ فبين لهم ذلك تطبيقًا عمليًّا، حتى لا يلتبس عليهم الأمر ولا تشتبه عليهم المسائل، ثم جاء الصحابة بعد ذلك، فأخذوا يبينون ويوضحون لمن يأتيهم سائلًا عن أوقات الصلوات.

والصلاة أمرها عظيم، وقد أوجبها بقوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43]، وينبغي الاهتمام بها وعدم التساهل في أمر من أمورها، لأنها الركن الثاني بعد الشهادتين، وهي الوسيلة التي يناجي فيها المرء ربه، ويطَّرِحُ فيها بين يديه، يُمَرِّغُ أشرف ما في بدنه وهو الوجه، فيضع على الأرض ذلًا وخضوعًا للّه سبحانه وتعالى، وورد في الحديث الصحيح:"أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعَاءَ"

(2)

.

وكل مسلم يخرج إلى صلاته متطهرًا" يكتب الله سبحانه وتعالى له الحسنات في خطواته إليها؛ لأنه خرج مستجيبًا لنداء الله سبحانه وتعالى، فإذا سمع نداء المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ هرع إلى المسجد، ومشى بسكينة ووقار، وذلك خير له؛ فإذا دخل المسجد صلى، فإذا جلس فهو في حكم

(1)

قال ابن كثير في "التفسير"(5/ 102): "فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلاة الخمسة فمن قوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهو: ظلامه، وقيل: غروب الشمس، أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقوله تعالى: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني: صلاة الفجر".

(2)

أخرجه مسلم (482/ 215) وغيره عن أبي هريرة.

ص: 1086

المصلي أيضًا، وبذلك قد استجاب لأمر الله سبحانه وتعالى ونزل على أحكامه؛ فما خرج إلا رجاء الثواب من الله سبحانه وتعالى.

إننا لنجد المصلين يعيشون في اطمئنان نفس، وراحة بال، وسعادة فكر، تغمرهم السعادة، وترى النور يضيء في وجوههم إذا كانوا مخلصين في صلواتهم؛ لأن هذه الصلاة متى أعطاها حقها فإنه يدخل في قولى الله نجِتيلأَ:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

ولا شك أن الإنسان إذا التزم هذه الصلاة؛ فأداها بشروطها وأركانها وواجباتها؛ فلا شك أن الصلاة حينها تكون مدرسةً في توجيه الإنسان، ومدرسة في تعليمه، وستردعه عن كل ما يعيبه أو يشينه.

وللصلاة ثمرات عظيمة لو تكلمنا عن فوائدها وما فيها من حكم؛ لطال بنا المقام.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الأول)

انتهى المؤلف-رحمة الله- من أوقات التوسعة -كالأوقات الخمسة- التي ذكرها الله بقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78]. وقد مرت في كثير من الأحاديث السابقة، كحديث إمامة جبريل من طريق عبد الله بن عباس

(1)

،

(1)

أخرجه أبو داود (426) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمَّني جبريل عند البيت مرتين فصلَّى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلَّى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلَّى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم فلما كان الغد". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(249).

ص: 1087

وغيره، وكذلك حديث بريدة

(1)

، وأبي قتادة

(2)

، وغيرها

(3)

وقد بينت أوقات التوسعة: وهي الأوقات التي لا يجوز للإنسان من غير عذر أن يؤخِّر الصلاة فيها حتى يخرج وقتها.

وعلى ذلك: من أخَّر صلاة العصر -مثلًا- إلى ما قبل غروب الشمس بركعة؛ فعليه أن يؤديها ويكون مدركًا لوقتها، لكنه يأثم بتأخيرها. ويكون الأثم على ما إذا أخرها إلى آخر الوقت بدون عذر.

(1)

أخرجه مسلم (613) عن سليمان بن بريدة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له:"صلِّ معنا هذين " -يعني: اليومين- فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذن، ثم أمره، فأقام الظهر، ثم أمره، فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخَّرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال:"أين السائل عن وقت الصلاة؟ "، فقال الرجل: أنا، يا رسول الله، قال:"وقت صلاتكم بين ما رأيتم ".

(2)

أخرجه مسلم (681) عن أبي قتادة وفيه: "

ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم، قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبنا معه، قال: فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال: "أما لكم فيَّ أسوة؟ "، ثم قال:"أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على مَن لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها"".

(3)

مثل حديث أبي هريرة، أخرجه النسائي (502) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هذا جبريل عليه السلام جاءكم يعلمكم دينكم "، فصلى الصبح حين طلع الفجر، وصلى الظهر حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين رأى الظل مثله، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس وحل فطر الصائم، ثم صلى العشاء حين ذهب شفق الليل، ثم جاءه الغد فصلَّى به الصبح حين أسفر قليلًا، ثم صلى به الظهر حين كان الظل مثله، ثم صلى العصر حين كان الظل مثليه، ثم صلى المغرب بوقت واحد حين غربت الشمس وحلّ فطر الصائم، ثم صلى العشاء حين ذهب ساعة من الليل، ثم قال:"الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم "، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(249).

ص: 1088

* قوله: (فَأَمَّا أَوْقَاتُ الضَّرُورَةِ، وَالعُذْرِ، فَأَثْبَتَهَا كَمَا قُلْنَا فُقَهَاءُ الأمْصَارِ

(1)

، وَنَفَاهَا أَهْلُ الظَّاهِر

(2)

، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِك).

إذا أطلق المؤلف "فقهاء الأمصار" فإنما يقصد بهم الأئمة الأربعة، وهم بذلك الجمهور قال:"إذا قلت الجمهور فأعني: الأئمة الأربعة عدَا أحمد"؛ وسبب ذلك هو عدم معرفته الدقيقة بمذهب أحمد.

* قوله: (وَقَدْ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتُوهَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا: لِأَيِّ الصَّلَوَاتِ تُوجَدُ هَذِهِ الأَوْقَاتُ، وَلِأَيِّهَا لَا؟ وَالثَّانِي: فِي حُدُودِ هَذِهِ الأَوْقَاتِ).

لعلَّ القارئ يلاحظ أن الحنفية

(3)

قد خالفوا؛ فهم لا يرون أن الجمع بين الصلاتين أمر معروف، ويتأولون ما ورد في الأحاديث من ثبوت الجمع وصحته بأنه جمع صوري، ومعنى ذلك: أن تأخر أداء الصلاة الأولى إلى آخر وقتها؛ ودخول وقت الثانية وأداؤها أيضًا، يكون المصلي هكذا قد صلى كل واحدة من الصلاتين في وقتها؛ فالأولى في آخر الوقت، والثانية في أول الوقت، وهذا لا شك رأي ضعيف، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في صلاة المسافر.

وقوله: "لأي الصلوات توجد هذه الأوقات"؛ فلا شك أن هذا ليس لكل الصلوات، فهي ثابتة للصلوات التي ثبت فيها الجمع [كالظهر

(1)

سيأتي تفصيله.

(2)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (2/ 197) وما بعدها.

(3)

يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 149) حيث قال: "وتأويل الأخبار أن الجمع بينهما كان فعلًا لا وقتًا وبه نقول، وبيان الجمع فعلًا أن المسافر يؤخر الظهر إلى آخر الوقت، ثم ينزل فيصلي الظهر، ثم يمكث ساعة حتى يدخل وقت العصر فيصليها في أول الوقت، وكذلك يؤخر المغرب إلى آخر الوقت، ثم يصليها في آخر الوقت والعشاء في أول الوقت فيكون جامعًا بينهما فعلًا".

ص: 1089

والعصر، والمغرب والعشاء]، أما صلاة الفجر فلا تلتقي مع غيرها في الوقت.

وقوله: (وَالثَانِي: في حُدُودِ هَذِهِ الأَوْقَاتِ،) يقصد بها أوقات الضرورة لا الأوقات الواجبة التي مرت.

* قوله: (وَالثَّالِثُ: فِيمَنْ هُمْ أَهْلُ العُذْرِ الَّذِينَ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذِهِ إلا"وْقَاتِ، وَلِأَيِّهَا لَا؟ وَفِي أَحْكَامِهِمْ فِي ذَلِكَ أَعْنِي: مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَمِنْ سُقُوطِهَا).

أهل العذر هم أهل الضرورة، ولا شكَّ أنه يأتي في مقدمتهم: الحائض، والنفساء، وكذلك الكافر إذا أسلم، والصبي أيضًا إذا بلغ، والمجنون إذا أفاق، والمسافر، والناسي، والنائم، فهؤلاء كلهم يدخلون ضمن أهل الأعذار.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: اتَّفَقَ مَالِكٌ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ)

(2)

.

وأحمد

(3)

أيضًا.

* قوله: (عَلَى أَنَّ هَذَا الوَقْتَ هُوَ لِأَرْبَعِ صَلَوَاتٍ: لِلظُّهْرِ، وَالعَصْرِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَالمَغْرِبُ وَالعِشَاءُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ

(1)

يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 339) حيث فال: "والمراد بالوقت هنا الضروري وهو الغروب في الظهر والعصر، وطلوع الفجر في المغرب والعشاء، وطلوع الشمس في الصبح ".

(2)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 33) حيث قال: "والوقت الآخر: هو وقت العذر والضرورة، فإذا أغمي على رجل فأفاق، وطهرت امرأة من حيض أو نفاس، وأسلم نصراني، وبلغ صبي قبل مغيب الشمس بركعة؛ أعادوا الظهر والعصر، وكذلك قبل الفجر بركعة أعادوا المغرب والعشاء، وكذلك قبل طلوع الشمس بركعة أعادوا الصبح وذلك وقت إدراك الصلوات في العذر والضرورات ".

(3)

يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 183) حيث قال: "يجوز بين الظهر والعصر والعشاءين في وقت أحدهما".

ص: 1090

اشْتِرَاكهِمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ)

(1)

.

هناك أمران محل خلاف بين المالكية من جانب والشافعية والحنابلة من جانب آخر وهو:

أن الإمام مالك

(2)

يرى وجود قدر مشترك بين الظهر والعصر تؤدَّى فيه أربع صلوات؛ لما ورد في حديث إمامة جبريل: "عندما صلى بالرسول صلى الله عليه وسلم اليوم الأول العصر حين صارَ ظلُّ كلِّ شيء مثله، وهو الوقت الذي صلى به الظهر أيضًا في اليوم الثاني "

(3)

.

فهنا وقت مشترك بينهما، وذاك ما ذهب إليه المالكية.

قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ اشْتِرَاكهِمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ

(4)

، فَقَالَ:"إِنَّ هَذَا الوَقْتَ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَصْرِ فَقَطْ، وَاِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا وَقْتٌ مُشْتَرَكٌ "، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ).

يرى الإمام أبو حنيفة أن الوقت المشترك هو العصر فقط، كصاحب العذر حين تخرج وقت الصلاة الأولى وما زال بعذره؛ وكالحائض مثلًا إذا زال حيضها؛ أي: طهرت في آخر وقت العصر؛ فلا تُطالب بالظهر؛ لخروج وقت الظهر وهي معذورة، ومثلها بقية أهل الأعذار.

(1)

يُنظر: "التجريد" للقدوري (ص 399) حيث قال: "إذا بلغ الصبي، أو أسلم الكافر، أو طهرت الحائض، أو أفاق المجنون في وقت العصر لم يلزمهم الظهر، وإن كان ذلك في وقت العشاء لم يلزمهم المغرب ".

(2)

يُنظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 148) حيث قال: "وتشارك العصر الظهر في وقتها المستحب من أول زوال الشمس للعذر. وقد قيل: إن الظهر يختص من أول الزوال بمقدار أربع ركعات لا يشاركها فيه العصر".

(3)

أخرجه أبو داود (393)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(249).

(4)

تقدَّم.

ص: 1091

ثم يقيسون خروج وقت العصر على خروج وقت المغرب فيقولون: لأن الحائض لو فاتها وقت العصر، ودخل وقت المغرب لما طُولبت بذلك؛ فكذلك الحال بالنسبة لصلاة العصر.

وحجة الحنفية: أن وقت الظهر قد خرج دون أن يُلزَم صاحب العذر بصلاة فيه، وزال عذره في وقت الصلاة الثانية، وكذلك أيضًا صلاة المغرب مع العشاء إذا خرج وقتها؛ فلا تجب قياسًا على مَن فاته وقت العصر كليًّا ودخل عليه وقت المغرب؛ فإنه لا يصلي صلاة العصر.

قوله: (فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالنَّصِّ الوَارِدِ فِي صَلَاةِ العَصْرِ أَعْنِي: الثَّابِتَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ"

(1)

، وَفَهِمَ مِنْ هَذَا الرُّخْصَةَ، وَلَمْ يجِزْ الِاشْتِرَاكَ فِي الجَمْعِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"لَا يَفُوتُ وَقْتُ صلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الأُخْرَى"

(2)

، وَبمَا سَنَذْكُر بَعْدُ فِي بَابِ الجَمْعِ مِنْ حُجَجِ الفَرِيقَيْنِ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا الوَقْتُ إِلَّا لِصَلَاةِ العَصْرِ فَقَطْ، وَمَنْ أَجَازَ الِاشْتِرَاكَ فِي الجَمْعِ فِي السَّفَرِ قَاسَ عَلَيْهِ أَهْلَ الضَّرُورَاتِ).

أراد المؤلف بقوله: "حتى يدخل وقت الصلاة"؛ أي: حتى يحضر وقتها، ولا بد أن ننظر في أحكام المسافر خاصة في أبواب الجمع بين الصلاتين حتى يتضح الأمر؛ فقد فسر المؤلف حقيقة الخلاف وعلته بين

(1)

أخرجه البخاري (579)، ومسلم (608).

(2)

ذكره ابن المنذر في "الأوسط"(3/ 24) عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تفوت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى" ولم يسنده، ولم أقف عليه مسندًا، وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 165) عن ابن عباس قال:"لا تفوت صلاة حتى ينادى بالأخرى" عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 582) عن عطاء قال: "لا تفوت صلاة النهار الظهر والعصر حتى الليل، ولا تفوت صلاة الليل المغرب والعشاء حتى النهار، ولا يفوت وقت الصبح حتى تطلع الشمس ".

ص: 1092

الجمهور والحنفية هناك؛ وإنما هو خلاف في جواز الجمع بين الصلاتين وعدمه، وهذا هو أصل سبب الخلاف.

قوله: (وَلمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ فِي بَابِ الجَمْعِ مِنْ حُجَجِ الفَرِيقَيْنِ).

وهؤلاء هم الجمهور.

قوله: (لِأَنَّ المُسَافِرَ أَيْضًا صَاحِبُ ضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ، فَجَعَلَ هَذَا الوَقْتَ مُشْتَرَكًا لِلظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَالمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ).

ومعلوم أن المسافر من أهل الأعذار، بل هو في مقدمة أهل الأعذار.

فجعل هذا الوقت مشتركًا بين الظهر والعصر؛ لأنهما يشتركان في الجمع، وكذلك بين المغرب والعشاء، فبين الظهر والعصر إلى ما قبل غروب الشمس بركعة، وسيأتي خلاف مالك في ذلك، وبالنسبة للمغرب والعشاء إلى ما قبل الفجر بركعة.

قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الوَقْتِ المُشْتَرَكِ لَهُمَا، فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: هُوَ لِلظُّهْرِ وَالعَصْرِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ بِمِقْدَارِ أَرْبَعِ رَكعَاتٍ لِلظُّهْرِ لِلْحَاضِرِ وَرَكْعَتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ إِلَى أَنْ يَبْقَى لِلنَّهَارِ مِقْدَارُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلْحَاضِرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ).

(1)

يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 88) حيث قال: "وبيان هذه الأوقات هو أن ابتداء الزوال وقت للظهر مختصٌّ به لا تشاركها فيه العصر بوجه، ومنتهى هذا الاختصاص قدر أربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر ثم يصير الوقت مشتركًا بينهما وبين العصر فلا يزال الاشتراك قائمًا إلى أن يصير قبل الغروب بقدر أربع ركعات للحاضر أو ركعتين للمسافر فيزول الاشتراك ويختص الوقت بالعصر وتفوت الظهر حينئذ على كل وجه وإدراك وقت الصلاة المعتد به هو إدراك ركعة منها وما قصر عن ذلك فليس بإدراك ".

ص: 1093

اختلف مالك والشافعي

(1)

في آخر الوقت المشترك لهما، وذهب الإمام أحمد

(2)

إلى ما ذهب إليه الشافعي في هذا المقام، فكل ما ذكره عن الإمام الشافعي يوافقه فيه الإمام أحمد إلا في حالة واحدة، وهي هذه المسألة: فيما إذا بقي على المغرب أقل من ركعة؛ فالإمام أحمد

(3)

ينفرد عن الشافعي في هذه المسألة، وتفصيلها كالآتي:

قال مالك: "هو للظهر والعصر من بعد الزوال بمقدار أربع ركعات للظهر للحاضر وركعتين للمسافر"، وهناك مسألتان ذكرهما الإمام:

الأولى: من أدرك صلاة الظهر مثلًا ثم طرأ عليه عذر بعد مرور ركعتين بالنسبة للمسافر، أو أربع ركعات للحاضر؛ فهل يلزمه قضاء صلاة الظهر إذا زال العذر؟ وهذه المسألة سيرجئها المؤلف عند الكلام فيمن أدرك جزءًا من وقت العصر؛ فهل يلزمه أن يؤدي الصلاتين معًا؟ وما مقدار ذلك؟

(1)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 105) حيث قال: "إذا بلغ الصبي، أو أسلم الكافر، أو طهرت الحائض أو النفساء، أو أفاق المجنون أو المغمى عليه، وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة لزمه فرض الوقت

وأما الصلاة التي قبلها فينظر فيها؛ فإن كان ذلك في وقت الصبح أو الظهر أو المغرب لم يلزمه ما قبلها؛ لأن ذلك ليس بوقت لا قبلها وإن كان ذلك في وقت العصر أو في وقت العشاء قال في الجديد: يلزمه الظهر بما يلزم به العصر ويلزم المغرب بما يلزم به العشاء، وفيما يلزم به العصر والعشاء قولان؛ أحدهما: ركعة، والثاني: تكبيرة، والدليل عليه: أن وقت العصر وقت الظهر ووقت العشاء وقت المغرب في حق أهل العذر وهو المسافر وهؤلاء من أهل العذر فجعل ذلك وقتًا لها في حقهم ".

(2)

يُنظر: "مختصر الخرقي"(ص 19) حيث قال: "وإذا طهرت الحائض، وأسلم الكافر، وبلغ الصبي قبل أن تغيب الشمس، صلوا الظهر فالعصر، وإن بلغ الصبي، وأسلم الكافر، وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر، صلوا المغرب وعشاء الآخرة".

(3)

يُنظر: "الهداية" للكلوذاني (ص 73) حيث قال: "وإذا بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو أفاق مجنون، أو طهرت حائض، أو نفساء قبل طلوع الشمس بمقدار تكبيرة الإحرام؛ لزمهم الصبح، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر، أو قبل غروب الشمس؛ لزمهم المغرب والعشاء والظهر والعصر".

ص: 1094

يشترط الإمام مالك

(1)

أن يدرك المصلي ما مقداره من الوقت خمس ركعات، فإن أدرك أربعًا فأقل فلا يصلي للعصر.

أما الشافعي وأحمد فيريان: أن مَن أدرك ركعة من العصر من أهل الأعذار قبل أن تغرب الشمس؛ فإنه يصلي الظهر والعصر معًا، ثم يحصل الخلاف بعد ذلك بين الشافعية والحنابلة فيما حتى لو أدرك تكبيرة الإحرام.

قوله: (وجَعَلَ الوَقْتَ الخَاصَّ لِلظُّهْرِ إِنَّمَا هُوَ مِقْدَارُ أَرْبَعِ رَكعَاتٍ لِلْحَاضِرِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَإِمَّا رَكعَتَانِ لِلْمُسَافِرِ، وَجَعَلَ الوَقْتَ الخَاصَّ بِالعَصْرِ إِمَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ المَغِيبِ لِلْحَاضِرِ، وَإِمَّا ثِنْتَانِ لِلْمُسَافِرِ؛ أَعْنِي: أَنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ الوَقْتَ الخَاصَّ فَقَطْ).

أما آخر الوقت فيرى الإمام مالك: أن حديث: "مَن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر"

(2)

؛ خاص بالعصر وحده؛ لأن مقدار ركعة سيدخل به الوقت وهو يصلي هذه الصلاة؛ لكن لو أدرك وقتًا من الممكن أن يؤدي خمس ركعات بأن يصلي الظهر والعصر معًا فيصلي الظهر أربع ركعات، وينتهي ثم يدخل في العصر فيدرك مقدار ركعة منها، ثم بعد ذلك يتمها، وهذا خلاف لما ذهب إليه الحنفية حيث يرون: أن مَن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فإنه مدرك للعصر، وخالفوا فيمن أدرك ركعة قبل طلوع الفجر فليس مدركًا للفجر؛ لأنه

(1)

يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 88) حيث قال: "فإذا طهرت حائض، أو أفاق مغمًى عليه، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر، وقد بقي من النهار بعد فراغهم ما يمكنهم به أداء الصلاة من طهارة وستر عورة وغير ذلك قدر خمس ركعات في الحضر أو ثلاث في السفر؛ فعليهم الظهر والعصر؛ لإدراكهم وقتهما، وذلك لقاء ركعة من وقت الظهر المشترك وإدراك جميع وقت العصر، وإن كان الباقي أربعًا أو أقل من الخمس فقد فات وقت الظهر فسقط عنهم ويخاطبون بالعصر فقط لإدراكهم وقتها".

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1095

سيخرج به الوقت، وهذا مجانب للصواب؛ وذلك لأن الأحاديث التي ورد النهي فيها عن الصلاة في بعض الأوقات كمثلِ حديث:"لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس"

(1)

إنما هو خاص بالنوافل، أما الفرائض فإن الإنسان يصليها متى ذكرها إن كان ناسيًا أو مستيقظًا إن كان نائمًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها، فهذا وقتها لا وقت لها غيره"

(2)

.

وبيان مذهب الإمام مالك: أن المسافر إن دخل عليه المغرب ولم يبقَ إلا مقدار ركعتين على خروج الوقت لا يصلي إلا العصر، أما لو بقي مقدار ما تؤدَّى فيه أربع ركعات بالنسبة للحاضر؛ لا يلزمه إلا العصر، أما لو زاد الوقت إلى إمكان أداء ركعة خامسة؛ فإنه يلزمه أن يؤدي الظهر، ولذلك يلتقي مع الشافعية والحنابلة في هذه المسألة.

قوله: (لَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا الصَّلَاةُ الخَاصَّةُ بِذَلِكَ الوَقْتِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّلَاةُ قَبْلَ ذَلِكَ الوَقْتِ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَدْرَكَ الصَّلَاتَيْنِ مَعًا أَوْ حُكْمَ ذَلِكَ الوَقْتِ وَجَعَلَ آخِرَ الوَقْتِ الخَاصِّ لِصَلَاةِ العَصْرِ مِقْدَارَ رَكْعَةٍ قَبْلَ الغُرُوبِ).

بيان القول: أن الإمام مالكًا يقول: من أدرك مقدار خمس ركعاتٍ من أهل الأعذار قبل مغيب الشمس، فإنه يلزمه أن يصلي الظهر والعصر معًا، وإن لم يبقَ من ذلك الوقت إلا ما يمكن أن يؤدى فيه أربع ركعات فأقل فلا يلزم فيه إلا العصر.

قوله: (وَكذَلِكَ فَعَلَ فِي اشْتِرَاكِ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ إِلَّا أَنَّ الوَقْتَ الخَاصَّ مَرَّةً جَعَلَهُ لِلْمَغْرِبِ فَقَالَ: هُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ

(1)

أخرجه البخاري (1197)، ومسلم (827).

(2)

أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684).

ص: 1096

الفَجْرُ، وَمَرَّةً جَعَلَهُ لِلصَّلَاةِ الأَخِيرَةِ كلمَا فَعَلَ فِي العَصْرِ)

(1)

.

انتقل المؤلف إلى ما يتعلَّق بوقت أهل الأعذار، وذلك بالنسبة للمغرب والعشاء، فهنا اختلف رأي الإمام مالك عن سابقه؛ لأن صلاة الظهر أربع ركعات كالعصر بخلاف المغرب ثلاثة ركعات فمرَّة يقول: من أدرك مقدار ثلاث ركعات قبل الفجر فلا يصلي إلا العشاء، ومرة يقول: إن لم يدرك إلا وقتًا تؤدى فيه أربع ركعات؛ فلا يصلي إلا العشاء، لكن لو أدرك مقدار خمس ركعات؛ فإنه يصلي المغرب والعشاء على قولنا، وعلى القول الآخر في الرواية الأخرى أنه يدرك ثلاث ركعات، ولو أدرك أربع ركعات صلَّى المغرب ثلاثًا ثم يبدأ بعد ذلك بركعة واحدة من العشاء.

قوله: (فَقَالَ: هُوَ مِقْدَارُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَهُوَ القِيَاسُ، وَجَعَلَ آخِرَ الوَقْتِ مِقْدَارَ رَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَجَعَلَ حُدُودَ أَوَاخِرِ هَذِهِ الأَوْقَاتِ المُشْتَرَكَةِ حَدًّا وَاحِدًا وَهُوَ إِدْرَاكُ رَكْعَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ لِلظُّهْرِ وَالعَصْرِ مَعًا، وَمِقْدَارُ رَكْعَةٍ أَيْضًا قَبْلَ انْصِدَاعِ الفَجْرِ وَذَلِكَ لِلْمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ مَعًا).

قد اتضح مذهب الشافعية والحنابلة: أنه إن أدرك ركعة قبل غروب الشمس أو قبل طلوع الفجر؛ فإنه يلزمه أن يصلي هناك الظهر والعصر

(1)

والخلاف عند المالكية.

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 419) حيث قال: "اختلف في مدرك أربع ركعات قبل الفجر هل يكون مدركًا لصلاة المغرب والعشاء كما قاله مالك وأكثر أصحابه، أو يكون مدركا للعشاء خاصة كما قاله ابن الماجشون وابن مسلمة لأجل الاختلاف في آخر الوقت؟ هل يكون وقتًا لأول الصلاتين أو لآخرهما؟ فمن قدَّره لأول الصلاتين جعله مدركًا للمغرب لحصول جميع ركعاتها. وتفضل ركعة يكون مدركًا بها للعشاء أيضًا. ومن قدَّره لآخر الصلاتين جعله مدركا للعشاء خاصة لكون هذا المقدار من الزمن لا يسع أكثر من قدر ركعات العشاء. وهكذا قال ابن الماجشون أن المغرب إنما يكون لها ما فضل بعد ركعات العشاء".

ص: 1097

بالنسبة لركعة قبل المغرب، والمغرب والعشاء لمن أدرك ركعة قبل الفجر.

قوله: (وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ

(1)

بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةٍ، أَعْنِي: أَنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ تَكْبِيرَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ مَعًا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

فَوَافَقَ مَالِكًا فِي أَنَّ آخِرَ وَقْتِ العَصْرِ مِقْدَارُ رَكعَةٍ لِأَهْلِ الضَّرُورَاتِ عِنْدَهُ قَبْلَ الغُرُوبِ).

هذا علة الخلاف بين الشافعية والحنابلة في هذه المسألة؛ فالشافعية يعتمدون على دليل وهو ما نقل عن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنهما قالَا في الحائض: إذا أدركت ركعة قبل طلوع الفجر؛ فإنها تصلِّي المغرب والعشاء معًا، ولو أدركت ركعة قبل كروب الشمس؛ فإنها تصلي الظهر والعصر معًا.

أما حجة الشافعية في ذلك: ما نقل عن الصحابيين عبد الرحمن بن عوف

(3)

، وكذلك أيضًا: عبد الله بن عباس

(4)

.

أما الحنابلة

(5)

فيقولون: مَن أدرك مقدار تكبيرة قبل غروب الشمس؛ فإنه يصلي الظهر والعصر معًا، ومَن أدرك مقدار تكبيرة قبل طلوع الفجر؛

(1)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 105) حيث قال: "وفيما يلزم به العصر والعشاء قولان؛ أحدهما: ركعة، والثاني: تكبيرة".

(2)

يُنظر: "الهداية شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 38) حيث قال: "وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها".

(3)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 243) عن عبد الرحمن بن عوف، قالت: سمعته يقول: "إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء".

(4)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 243) عن ابن عباس، قال:"إذا طهرت قبل المغرب صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت فبل الفجر صلت المغرب والعشاء".

(5)

تقدَّم.

ص: 1098

فإنه يصلي المغرب والعشاء؛ لأننا لا نرى فرقًا بين من يدرك ركعة وبين أن يدرك أقل من ركعة، فما دام إدراك الركعة غير كافٍ لأداء الصلاتين سيدخل به الوقت الآخر، فلا نرى فرقًا.

والحنابلة هنا ألحقوا الجزء بالكل، أما الشافعية فوقفوا عند أثر الصحابيين كما مر، والمعروف أن هذا في مذهب الحنابلة، لكن الذي قيل عن الشافعي ليس في أهل الأعذار.

أما أبو حنيفة

(1)

فيرى: أن وقت العصر يبدأ بالمثليين، أي:"إذا صار ظل كل شيء مثليه "، وينتهي على القول بالاصفرار، وفي قول آخر مشهور في المذهب، بإدراك ركعة.

هذا بالنسبة للعصر لا في الجمع بين الصلاتين مطلقًا، وقد وافق مالكًا في أن آخر وقت العصر مقدار ركعة لأهل الضرورات عنده قبل الغروب، وهو قول الجمهور

(2)

، لكن وافقهم في جزء واحد في صلاة العصر، وخالفهم بالنسبة لصلاة الظهر.

قوله: (وَلَمْ يُوَافِقْ فِي الِاشْتِرَاكِ وَالِاخْتِصَاصِ).

ولم يوافق الإمام أبو حنيفة في الاشتراك بين صلاتي الظهر والعصر جمعًا، ولا في الاختصاص فيما يتعلَّق بأن الظهر تختصر بوقت دون العصر، ولم يوافق بالاشتراك بأن الظهر تشترك مع العصر بالنسبة لأهل الأعذار. وكذلك الوقت بعد أن يصير ظل كل شيء إلى أن يتغير، أو أن يزيد أدنى زيادة، وهو الوقت الذي صلى فيه جبريل بالرسول صلى الله عليه وسلم العصر أولًا، والظهر في اليوم الثاني، فوافق بذلك الشافعية والحنابلة.

(1)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 23) حيث قال: "وأول وقت العصر: إذا خرج وقت الظهر على القولين، وآخر وقتها: ما لم تغرب الشمس ".

(2)

تقدَّم تفصيل المذاهب.

ص: 1099

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ (أَعْنِي: مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ) هَلِ القَوْلُ بِاشْتِرَاكِ الوَقْتِ لِلصَّلَاتَيْنِ مَعًا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمَا وَقْتَيْنِ: وَقْتٌ خَاصٌّ بِهِمَا وَوَقْتٌ مُشْتَرَكٌ؟ أَمْ إِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمَا وَقْتًا مُشْتَرَكًا فَقَطْ؟ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الجَمْعَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَقَطْ لَا عَلَى وَقْتٍ خَاصٍّ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَاسَ الِاشْتِرَاكَ عِنْدَهُ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ عِنْدَهُ فِي وَقْتِ التَّوْسِعَةِ أَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا كانَ لِوَقْتِ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ المُوَسَّعِ وَقْتَان، وَقْتٌ مُشْتَرَكٌ وَوَقْتٌ خَاصٌّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَةِ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يُوَافِقُهُ عَلَى اشْتِرَاكِ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ فِي وَقْتِ التَّوْسِعَةِ، فَخِلَافُهُمَا فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ إِنَّمَا يَنْبَنِي -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تِلْكَ الأُولَى "فَتَأَمَّلْهُ، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

قاس الإمام مالك هنا الاشتراك في آخر الوقت بين الظهر والعصر، على الاشتراك في وقت واحد يؤدى فيه أربع ركعات، إما الظهر أو العصر، وهو أن يصير ظل كل شيء مثله.

وقصد بالأولى في قوله: "على اختلافهم في تلك الأولى": الوقت الذي يمكن أن تؤدى فيه إحدى الصلاتين معًا في وقتها ألا وهو حين يصير ظل كل شيء مثله كما ذكر المؤلف.

قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا هَذِهِ الأَوْقَاتُ: أَعْنِي أَوْقَاتَ الضَّرُورَةِ، فَاتَّفَقُوا

(1)

عَلَى أَنَّهَا لِأَرْبَعٍ: لِلْحَائِضِ تَطْهُرُ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ أَوْ تَحِيضُ فِي هَذِهِ الأوْقَاتِ وَهِيَ لَمْ تُصَلِّ).

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"تحفة الفقهاء" للسمرقندي (1/ 233) حيث قال: "الحائض إذا طهرت في آخر وقت الظهر أو المسافر إذا أقام، أو الصبي إذا بلغ، أو الكافر أسلم، أو المجنون أو المغمى عليه آفاق؛ فعليهم صلاة الظهر ويصلي المقيم أربعًا". مذهب المالكية، يُنظر:"المقدمات الممهدات" لابن رشد الجد (1/ 187) حيث قال: "ويشترك الظهر والعصر إلى الغروب، والمغرب والعشاء إلى طلوع الفجر لأهل =

ص: 1100

هذه آخر مسألة من مسائل الضرورة، وقال فيها: فاتفق الفقهاء على أن هذه الأوقات لأربع، وذكر منها:

أولًا: الحائض، وكذلك أيضًا النفساء يندرج تحتها؛ لأن عادة الفقهاء إذا أجملوا أو اقتصروا ذكروا الحائض فيلحق بها النفساء لعدم الاختلاف، ومثلها كذلك الصغير إذا بلغ، والكافر إذا أسلم، والمغمى عليه إذا زال إغمامه، والمجنون إذا أفاق.

قوله: (وَالمُسَافِرِ يَذْكُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ وَهُوَ حَاضِرٌ، أَوِ الحَاضِرِ يَذْكُرُهَا فِيهَا وَهُوَ مُسَافِرٌ).

الثاني: المسافر وما يتعلَّق به، وإن شاء الله ستأتي تفصيلات أحكامه في باب صلاة المسافر.

قوله: (وَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِيهَا، وَالكَافِرِ يُسْلِمُ).

الثالث: الصبي حتى يبلغ.

الرابع: الكافر حتى يُسلم.

قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي المُغْمَى عَلَيْهِ فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

:

= الضرورات، وهم خمسة: الصبي يحتلم، والكافر يسلم، والمغمى عليه يفيق، والحائض تطهر أو الطاهر تحيض، والحاضر يسافر أو المسافر يقدم ".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 11) حيث قال: "المعذورين هم المسافرون والمضطرون في تأخير الصلوات للجمع، وأن المضطرين هم من ذكرهم الشافعي من المجنون إذا أفاق، والحائض إذا طهرت، والصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم ".

ومذهب الحنابلة. يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 287) حيث قال: "إذا طهرت الحائض، وأسلم الكافر، وبلغ الصبي قبل أن تغيب الشمس، صلوا الظهر فالعصر، وإن بلغ الصبي، وأسلم الكافر، وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر، صلوا المغرب وعشاء الآخرة".

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم.

ص: 1101

"هُوَ كالحَائِضِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي عِنْدَهُمُ الصَّلَاةَ الَّتِي ذَهَبَ وَقْتُهَا").

ذكر المؤلف هنا سبب الخلاف في الأصل، هل يلحق المغمى عليه بالنائم أو بالمجنون؟

فمن يلحقه بالنائم، فعليه القضاء لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها، فذلك وقتها لا وقت لها غيره "

(1)

، مهما تعددت هذه الصلوات.

واختلف مَن يلحقه بالمجنون فيما إذا زاد إغماؤه أو نقص؛ فيقولون: إن زاد به الوقت أو استمر فتجاوز الخمس صلوات لحق بالمجنون؛ فلا قضاء عليه، وإلا بقي في حكم النائم، فيقضي.

والمالكية

(2)

، والشافعية

(3)

يلحقون المغمى عليه بالنائم، ولا يرون عليه قضاءً، بجامع زوال العقل؛ لكنهم يقيدون ذلك بأن يفيق في وقت من هذه الأوقات، فإن أفاق قضى في الوقت الذي أفاق فيه وعاد إليه عقله.

قوله: (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

(4)

أَنَّهُ يَقْضِي الصَّلَاةَ فِيمَا دُونَ الخَمْسِ، فَإِذَا أَفَاقَ عِنْدَهُ مِنْ إِغْمَائِهِ مَتَى مَا أَفَاقَ قَضَى الصَّلَاةَ).

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (1/ 235) حيث قال: " (والمغمى عليه)، ومثله: السكران بحلال، وبالأولى المجنون (لا يقضي) - واحد منهم (ما خرج وقته) الضروري (في) زمن (إغمائه) أو جنونه أو سكره الحلال، كمن شرب خمرًا يظنه عسلًا، أو لبنًا لعدم خطابهم في تلك الحالة.

(و) إنما (يقضي)، أي: يؤدي المغمى عليه ومَن ذكر معه (ما)، أي: الفرض الذي (أفاق في وقته) ".

(3)

يُنظر: "المجموع" للنووي (3/ 6) حيث قال: "من زال عقله بسبب غير محرم كمن جُنَّ، أو أُغمي عليه، أو زال عقله بمرض أو بشرب دواء لحاجة، أو اكرِه على شرب مسكر؛ فزال عقله؛ فلا صلاة عليه، وإذا أفاق؛ فلا قضاء عليه ".

(4)

تقدَّم.

ص: 1102

أما الحنفية

(1)

فيفصلون القول في ذلك؛ إذ يفرقون بين أن يطول به ذلك أو يقصر، فيقولون: إن كان إغماؤه قد وصل إلى خمس صلوات فما دونها؛ فإنه يقضي، وإن زاد على ذلك فلا قضاء عليه، وعللوا لعدم القضاء فيما زاد عن الخمس، بأن ما زاد عن الخمس يعتبر تكرارًا فلا يحتاج إلى القضاء.

وأما الحنابلة

(2)

: فيرون القضاء عليه مطلقًا زاد عن خمس صلواتٍ، أو نقص عنها.

وهذا يبين أن الأرجح: ما ذهب إليه السادة الحنفية من التفرقة بين أن يطول به الإغماء عن خمس أو ينقص.

ومن الصحابة رضي الله عنه مَن حصل له إغماء -كعمار بن ياسر- في عدة أيام ثم قضى ما فاته

(3)

، وهذا قد تم تفصيله فيما مر.

قوله: (وَعِنْدَ الآخَرِينَ: أَنَّهُ إِذَا أَفَاقَ فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَةِ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي أَفَاقَ فِي وَقْتِهَا، وَإِذَا لَمْ يُفِقْ فِيهَا لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّلَاةُ، وَسَتَأْتِي مَسْأَلَةُ المُغْمَى عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدُ).

يلحق بالمغمى عليه: الذين لا يستطيعون الإفاقة من الغيبوبة في غرف الإنعاش؛ فينظر في أحوالهم: إن كان المريض يعود إليه عقله ويدرك؛ فإنه

(1)

يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 217) حيث قال: "فإن كان مغمًى عليه؛ يُنظر إذا كان مغمى عليه يومًا وليلة، أو أقل؛ يجب عليه إعادة الصلاة، وإن كان أكثر من يوم وليلة، ولا يجب عليه إعادة الصلاة عند علمائنا".

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 50) حيث قال: "وجملة ذلك أن المغمى عليه حكمه حكم النائم، لا يسقط عنه قضاء شيء من الواجبات التي يجب قضاؤها على النائم؛ كالصلاة والصيام ".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 479)"أن عمار بن ياسر رمى، فأغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل، فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء".

ص: 1103

يجب عليه أن يصلي حسب حاله. يعني: إذا كان حاضرَ العقل، ويعرف ما له وما عليه ففي هذه الحالة يصلي، فإن استطاع أن يتطهر وأن يصلي قائمًا صلى، وإن عجز صلى قاعدًا، وإن عجز صلَّى مستلقيًا، وإلا يومئ إماءً، (أي: يُشير إشارة)، وإن كانت عليه نجاسة، واستطاع أن يزيلها فعل، وإن عجز عن ذلك أيضًا" فإنه يصلي على حالته؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه، وإن أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"

(1)

، وقال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ المَرْأَةَ إِذَا طَهُرَتْ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا).

اتفق الأئمة على أن المرأة إذا طهرت -مثلًا- في وقت صلاة الظهر؛ فإنه يجب عليها أن تصلي صلاة الظهر، أو طهرت في أول وقت صلاة العصر وجب عليها أن تصلي صلاة العصر، ولا يلزمها أن تصلي صلاة الظهر.

وهناك رواية أشرنا إليها للحنابلة فيما مضى؛ أنهم يربطون بين الوقتين لتداخلهما واشتراكهما في صلاتي الجمع وهذا الذي يُشير إليه المؤلف.

قوله: (فَإِنْ طَهُرَتْ عِنْدَ مَالِكٍ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لِغُرُوبِ الشَّمْسِ فَالعَصْرُ فَقَطْ لَازِمَة لَهَا، وَإِنْ بَقِيَ خَمْسُ رَكعَاتٍ فَالصَّلَاتَانِ مَعًا)

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1327).

(2)

يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 88) حيث قال: "فإذا طهرت حائض، أو أفاق مغمًى عليه، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر، وقد بقي من النهار بعد فراغهم ما يمكنهم به أداء الصلاة من طهارة وستر عورة وغير ذلك قَدْر خمس ركعات في الحضر آو ثلاث في السفر، فعليهم الظهر والعصر؛ لإدراكهم وقتهما، وذلك لقاء =

ص: 1104

انتقل المؤلف إلى جزء آخر من المسألة وضابطها: إذا طهرت المرأة في آخر وقتَي الجمع، أي: قبل غروب الشمس، أو قبل طلوع الفجر فماذا عليها؟

فيرى الإمام مالك

(1)

رحمه الله أن حديث: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر"

(2)

، هذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، ولذلك يرى أن صلاة الظهر بالنسبة للحاضر تحتاج إلى وقت يؤدَّى فيه أربع ركعات، فإن كان هذا الوقت يؤدى فيه مقدار أربع ركعات فأقل، فلا يلزمه إلا صلاة العصر، وإن زاد ذلك الوقت ولو مقدار ركعة، أي: يستطيع أن يؤدي فيه مقدار خمس صلوات فيلزمه أن يصلي الظهر والعصر معًا.

قوله: (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ

(3)

: إِنْ بَقِيَ رَكْعَةٌ لِلْغُرُوبِ، فَالصَّلَاتَانِ مَعًا كَمَا قُلْنَا، أَوْ تَكْبِيرَةٌ عَلَى القَوْلِ الثَّانِي لَهُ، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي المُسَافِرِ النَّاسِي يَحْضُرُ فِي هَذِهِ الأوْقَاتِ، أَوِ الحَاضِرِ يُسَافِرُ).

عند الشافعي وكذلك الإمام أحمد

(4)

: إن بقي مقدار ركعة؛ فإنه يصلي الصلاتين معًا، وهناك خلاف بين الإمامين: إن بقي مقدار أقل من ركعة كوقت تؤدَّى فيه تكبيرة الإحرام، فعند الحنابلة: يؤدي الصلاتين معًا

(5)

،

= ركعة من وقت الظهر المشترك، وإدراك جميع وقت العصر، وإن كان الباقي أربعًا أو أقل من الخمس؛ فقد فات وقت الظهر فسقط عنهم ويخاطبون بالعصر فقط لإدراكهم وقتها".

(1)

تقدَّم.

(2)

أخرجه البخاري (579)، ومسلم (608).

(3)

تقدَّم.

(4)

تقدَّم.

(5)

يُنظر: "مختصر الخرقي"(ص 19) حيث قال: "وإذا طهرت الحائض، وأسلم الكافر، وبلغ الصبي قبل أن تغيب الشمس، صلوا الظهر فالعصر، وإن بلغ الصبي، وأسلم الكافر، وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر، صلوا المغرب وعشاء الآخرة".

ص: 1105

وأما الشافعية فيخالفون في ذلك وفيه أوجه في مذهب الشافعية كذلك

(1)

.

• مسألة:

لو أن إنسانًا أخَّر صلاة العصر إلى غروب الشمس من غير عذر وصلاها فقد سقط عنه اشتغال ذمته بها، ولكون قد صلاها في وقتها؛ لكنه يأثم للتأخير؛ لأنه قد دخل في وقت النهي الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"تلك صلاة المنافقين" كررها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، وقال:"يجلس أحدهم حتى إذا كانت الشمس بين قرن الشيطان قام فنقر أربع ركعات لا يذكر اللّه فيها إلا قليلًا"

(2)

، وهذا تحذير من أن يؤخِّر الإنسان الصلاة إلى آخر وقتها فماذا على مَن يتحرى هذا الوقت!! وسيأتي الكلام عن ذلك مفصلًا في أوقات النهي، وكذلك حديث عمر بن عبسة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الشمس حين تَطلعُ تَطلعُ بين قرني شيطان فيسجد لها حينئذٍ الكفار، وحين تغرب تغرب بين قرني شيطان "

(3)

.

قوله: (وَكَذَلِكَ الكَافِرُ يُسْلِمُ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ، أَعْنِي: أَنَّهُ تَلْزَمُهُمُ الصَّلَاةُ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ يَبْلُغُ، وَالسَّبَبُ فِي أَنْ جَعَلَ مَالِكٌ الرَّكْعَةَ جُزْءًا لِآخِرِ الوَقْتِ، وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ جُزْءَ الرَّكْعَةِ حَدًّا مِثْلَ التَّكْبِيرَةِ مِنْهَا

(1)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 105) حيث قال: "إذا بلغ الصبي، أو أسلم الكافر، أو طهرت الحائض، أو النفساء أو أفاق المجنون، أو المغمى عليه، وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة؛ لزمه فرض الوقت

وأما الصلاة التي قبلها؛ فينظر فيها فإن كان ذلك في وقت الصبح أو الظهر أو المغرب لم يلزمه ما قبلها؛ لأن ذلك ليس بوقت لا قبلها، وإن كان ذلك في وقت العصر أو في وقت العشاء قال في الجديد: يلزمه الظهر بما يلزم به العصر ويلزم المغرب بما يلزم به العشاء، وفيما يلزم به العصر والعشاء قولان؛ أحدهما: ركعة، والثاني: تكبيرة، والدليل عليه: أن وقت العصر وقت الظهر، ووقت العشاء وقت المغرب في حق أهل العذر وهو المسافر، وهؤلاء من أهل العذر فجعل ذلك وقتا لها في حقهم ".

(2)

أخرجه مسلم (622).

(3)

أخرجه مسلم (832).

ص: 1106

أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ"

(1)

، وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالأَقَلِّ عَلَى الأَكثَرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالأَكْثَرِ عَلَى الأَقَلِّ، وَأَيَّدَ هَذَا بِمَا رُوِيَ:"مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ"

(2)

؛ فَإِنَّهُ فَهِمَ مِنَ السَّجْدَةِ هَاهُنَا جُزْءًا مِنَ الرَّكْعَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ تَكْبِيرَةً قَبْلَ الغُرُوبِ أَوِ الطُّلُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الوَقْتَ).

اعتمد الشافعية والحنابلة على ما نُقل عن الصحابيين الجليلين عبد الله بن عباس

(3)

، وأبي مسعود الأنصاري البدري

(4)

، فقد صحَّ عنهما أنهما قالا في الحائض:"تدرك ركعة قبل الفجر فإنها تصلي المغرب والعشاء"، ونقل عنهم أيضًا فيما يتعلَّق بالظهر والعصر:"إذا أدركت ركعة قبل المغرب؛ فإنها تصلي الظهر والعصر، وبذلك يكون فعل الصحابيين، أو قولهما موضحًا ومبينًا لما جاء في حديث: "مَن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"، وهو الذي وقف عنده الشافعية عندما قالوا: ما نقص عن ركعة لا تقضيهما، وقال الحنابلة: "إذا كانت

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه النسائي (550) وغيره، وقال الأرناؤوط في "حاشية المسند":"إسناده صحيح على شرط الشيخين ".

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 122) عن ابن عباس في الحائض: "إذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء".

(4)

لم أقف عليه لأبي مسعود الأنصاري، وأخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 243) عن ابن عباس، وعزاه لطاوس، والنخعي، ومجاهد، والزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، وإسحاق، وعزاه ابن قدامة في "المغني"(1/ 287) لعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، وطاوس، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وربيعة، ومالك، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور.

ص: 1107

تقضي في حالة إدراكها لركعة فإنه يلحق بذلك ما دونها" ويدخل في ذلك التكبيرة والسجدة، فهي جزء من الركعة.

قوله: (وَمَالِكٌ يَرَى أَنَّ الحَائِض إِنَّمَا تَعْتَدُّ بِهَذَا الوَقْتِ بَعْدَ الفَرَاغِ مِنْ طُهْرِهَا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ يَبْلُغُ، وَأَمَّا الكَافِرُ يُسْلِمُ فَيُعْتَدّ لَهُ بِوَقْتِ الإِسْلَامِ دُونَ الفَرَاغِ مِنَ الطُّهْرِ، وَفِيهِ خِلَافٌ

(1)

. وَالمُغْمَى عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ كَالحَائِضِ، وَعِنْدَ عَبْدِ المَلِكِ كَالكَافِرِ يُسْلِمُ)

(2)

.

ذكر المؤلف مسألة أُخرى، وهي: طُهر الحائض، والقصد من طهر الحائض هنا:

الاغتسال، فمجرد انقطاع الحيض لا يُسمَّى طهرًا؛ فتحتاج أيضًا إلى أن تتطهر بالاغتسال قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، فقيد اللّه عدم القرب بالتطهر، وهو الاغتسال وليس بمجرد انقطاع الدم.

وقد مر تفصيل ذلك في أبواب الوضوء.

وعلى ذلك؛ فالحائض إذا انقطع حيضها وكذلك النفساء هل يعتد بالوقت من بعد انقطاع هذا الدم؟ أم من بعد الطهارة؟ وقع خلاف بين المالكية والشافعية والحنابلة من جهة أُخرى في ذلك.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 183) حيث قال: "ثم ذكر الأعذار بقوله: (بكفر) أصلي بل (وإن) حصل (بردة وصبا)، فإذا بلغ في الضروري ولو بإدراك ركعة صلاها".

(2)

يُنظر: "النوادر والزيادات"(1/ 273) حيث قال: "قال سحنون في (العُتْبِيَّة)، قال ابن القاسم: وكذلك المغمى عليه يفيق أيضًا يراعي ما يبقى له من الوقت بعد وضوئه بغير تفريط، وأما النصراني يسلم فمن وقت أسلم استحسن ذلك فيه. قال ابن حبيب، قال ابن الماجشون، ومطرف، وعبد الله: مراعاة الوقت في الذي أسلم أو أفاق، من وقت أسلم هذا، أو أفاق هذا. وقال ابن سحنون، عن أبيه: إن المراعاة في الحائض تطهر، والذي يسلم، والمفيق، سواء".

ص: 1108

و"عبد الملك" من أصحاب مالك، وهو ابن الماجشون، وقد اختلف عن قول مالك، حيث جعل المغمى عليه كالكافر، على حين جعله مالك كالحائض.

قوله: (وَمَالِكٌ

(1)

يَرَى أَنَّ الحَائِضَ إِذَا حَاضَتْ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ، وَهِيَ لَمْ تُصَلِّ بَعْدُ أَنَّ القَضَاءَ سَاقِطٌ عَنْهَا، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

يَرَى أَنَّ القَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا).

يرى السادة المالكية: لو أن حائضًا دخل بها وقت الظهر ومضى بها وقت يمكن أن تؤدي ي فيه الصلاة، فلم تصلها ثم حاضت بعدها فلا يلزمها القضاء، أما الشافعي وكذلك أحمد

(3)

فيريان أن القضاء واجب عليها.

وقد أشار المؤلف إلى قضية أُخرى، ولم يبسط القول فيها وهي: هل تجب الصلاة بأول وقتها كالحال في الصيام أو لا؟

أولًا: مر فيما سبق أن أوقات الصلوات موسعة، وذلك "لما أتى جبريل عليه السلام وصلى برسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، جاءه في اليوم الأول في أول الوقت وصلى به، وفي اليوم الثاني في آخره فقال له: ما بين هذين وقت لك ولأمتك "

(4)

، وكذلك علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك كما في حديث بريدة

(5)

، وفعل ذلك الصحابة وعلَّموا غيرهم.

(1)

يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 88) حيث قال: "وكذلك لو أخرت امرأة الظهر والعصر إلى أن طرأ عليها الحيض، وقد بقي من النهار قدر خمس ركعات أو ثلاثًا على التفصيل الذي ذكرناه؛ فلا قضاء عليها إذا طهرت؛ لأنها حاضت في وقتهما، وإن كان الباقي دون ذلك كان عليها قضاء الظهر لإدراك وقتها ولم يلزمها قضاء العصر؛ لأنها حاضت في وقتها وكذلك الحكم في المغلوب وغيره ".

(2)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 106) حيث قال: "وإن أدرك من الوقت ما يسع الفرض، ثم طرأ الجنون أو الحيض استقر الوجوب ولزمه القضاء إذا زال العذر".

(3)

يُنظر: "الشرح الكبير" لابن قدامة (الم 447) حيث قال: "ومَن أدرك من الوقت قدر تكبيرة، ثم جُنَّ أو حاضت المراة لزمهم القضاء؛ لأن الصلاة تحب بأول الوقت ".

(4)

تقدَّم.

(5)

أخرجه مسلم (613) عن سليمان بن بريدة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له:"صلّ معنا هذين" -يعني: اليومين-، فلما زالت =

ص: 1109

وعلى ما سبق هل الصلاة تجب بأول الوقت أم لا؟

يرى السادة الحنفية

(1)

أن الصلاة لا تجب بأول الوقت؛ لأنها لو وجبت في أول الوقت لما جاز تأخيرها كصوم رمضان، حيث يجب من أول الوقت؛ فلا يجوز التأخير عنها، وكذلك الصلاة لو وجبت في أول وقتها لما جاز للمصلي أن يؤخرها، ودليلهم في ذلك: قياس الصلاة على الصوم في عدم التأخير.

ويرى جمهور العلماء (المالكية

(2)

، والشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

) أن الصلاة تجب في أول الوقت، لكن لا يلزم من وجوبها في أول الوقت أن تؤدى مباشرة في أول وقتها، واستدلوا بقول الله سبحانه وتعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].

= الشمس أمر بلالًا فأذن، ثم أمره، فأقام الظهر، ثم أمره، فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال:"أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا، يا رسول الله، قال:"وقت صلاتكم بين ما رأيتم ".

(1)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 95) حيث قال: "وعند المحققين من أصحابنا لا تجب في أول الوقت على التعيين، وإنما تجب في جزء من الوقت غير معين، وإنما التعيين إلى المصلي من حيث الفعل حتى أنه إذا شرع في أول الوقت يجب في ذلك الوقت، وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره ".

(2)

يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 238) حيث قال: "لأن الصلاة عندنا تجب بأول الوقت ".

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 30) حيث قال: "فمذهب الشافعي، ومالك، وأكثر الفقهاء، أنها تجب بأول وقت ورفه بتأخيرها إلى آخر الوقت ".

(4)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 259) حيث قال: " (ومن أدرك من أول وقت) مكتوبة (قدر تكبيرة ثم طرأ) عليه (مانع من جنون أو حيض ونحوه) كنفاس (ثم زال المانع بعد خروج وقتها؛ لزمه قضاء) الصلاة (التي أدرك) التكبيرة (من وقتها فقط)؛ لأن الصلاة تجب بدخول أول الوقت ".

ص: 1110

و"الدلوك"

(1)

هو: الزوال وذاك إشارة إلى أول الوقت، هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولا صارف له لغير الوجوب؛ فدلَّ ذلك على أن الصلاة تجب في أول الوقت، لكن الواجب هنا واجب موسَّع كما ذكر.

وتظهر ثمرة الخلاف: لو أن إنسانًا دخل عليه وقت الصلاة فلم يصلِّ في أوله بأن طرأ عذر منعه من الصلاة، فلا يطالب بتلك الصلاة في أول الوقت بل الأمر موسَّع لآخر الوقت لوجود العذر.

وقوله: (وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ يَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ تجِبُ بِدُخُولِ أَوَّلِ الوَقْتِ).

أراد المؤلف أن يُلزِم المالكية بمذهب الشافعية والحنابلة، فيقول: هذا لازم لمن يقول بأن الصلاة تجب في أول الوقت، فلماذا خرج المالكية عن ذلك الأصل؟

وبذلك يكون المالكية قد خرجوا عن أصل من أصولهم، وهو وجوب الصلاة في أول الوقت، فاعترض عليه المؤلف لذلك؛ إذ قال به السادة الحنفية فهو على مذهبهم؛ فإذا قال به الإمام مالك؛ فذلك خارج عن أصولهم.

قوله: (لِأنَّهَا إِذَا حَاضَتْ وَقَدْ مَضَى مِنَ الوَقْتِ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ فِيهِ الصَّلَاةُ؛ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِآخِرِ الوَقْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ

(2)

لَا مَذْهَب مَالِكٍ، فَهَذَا كمَا تَرَى لَازِمٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ جَارِيًا عَلَى أُصُولِهِ، لَا عَلَى أُصُولِ قَوْلِ مَالِكٍ)

(3)

.

يريد المؤلف أن يناقش المالكية في قولهم: "بسقوط الصلاة عن الحائض إذا مضى من الوقت ما يمكن أن تؤدي فيه الصلاة وحاضت بعد

(1)

"دلوك الشمس": زوالها عن وسط السماء، وغروبها أيضًا. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 130)"تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 69).

(2)

تقدَّم.

(3)

تقدَّم.

ص: 1111

ذلك "، ولا يمكن القول بذلك إلا إذا قلنا بأن الصلاة إنما تجب بآخر الوقت، وهذا ينطبق على أصول مذهب الحنفية لا على مذهبكم فلماذا قلتم به؟!

قال المصنف-رحمه الله:

[الفَصْلُ والثَّانِي مِنَ البَابِ الأَوَّلِ فِي الأَوْقَاتِ المَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا]

(وَهَذهِ الأَوْقَاتُ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ مِنْهَا فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي عَدَدِهَا. وَالثَّانِي: فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ عَنْ فِعْلِهَا فِيهَا. المَسْأَلَةُ الأُولَى: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ

(1)

عَلَى أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ الأَوْقَاتِ مَنْهِيٌّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا).

انتقل المؤلف إلى مسألة جديدة وهي: الأوقات التي نهى الشارع عن الصلاة فيها.

وقد جاء ذلك في جملة من الأحاديث الدالة على ذلك؛ ولكن منها ما جاء مطلقًا، ومنها ما جاء مقيدًا، أي: من الأحاديث ما جاء النهي فيها عامًّا في الأوقات، وفي الصلوات، ومنها ما جاء عامًّا في الأوقات خاصًّا في الصلوات، ومنها ما جاء خاصًّا في بعض الصلوات عامًّا في الأوقات، وكل ذلك ورد في هذا الباب؛ ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء

(2)

في عدفى ها ووقتها، والأوقات التي نهى الشارع عن الصلاة فيها خمسة أوقات، وليست محل إجماع عند العلماء:

(1)

سيأتي ذكر أقوال المذاهب الأربعة مضمن فيها الأوقات الثلاثة.

(2)

سيأتي تفصيله.

ص: 1112

الأول: من بعد صلاة الصبح حتى تطلع الضمس.

الثاني: بعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح.

الثالث: إذا تعمدت الشمس كبد السماء.

الرابع: وقت الزوال، وهو من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.

الخامس: وقت الغروب.

وكذلك اختلف الفقهاء

(1)

حول الصلوات التي تؤدى في مثل هذه الأوقات.

فمنها ما تكون فريضة فائتة.

ومنها ما تكون صلاة منذورة؛ كمَن نذر أن يصلي في هذه الأوقات.

ومن الصلوات ما يكون غير واجب، لكنه قد يكون له سبب من أسباب الوجوب.

ومنها ما فيه خلاف في وجوبه وفي فرضيته كصلاة الجنازة.

وكذلك الصلوات التي تقضى قد تكون فائتة، وقد تكون غير فائتة، وغير الفائتة منها ما هو واجب، ومنها ما هو غير واجب، وهذه أيضًا منها ما له سبب، ومنها ما ليس له سبب، ثم اختلف العلماء أيضًا في استثناء الصلوات غير المفروضة ذوات الأسباب؛ بأنها تؤدَّى في هذه الأوقات بلا حرج، ويقول بعضهم: إن المراد تقدم السبب لا أن تؤخره؛ فيفرِّقون بين أن يأتي السبب متأخِّرًا وبين أن يأتي متقدِّمًا؛ فمثلًا: الصلاة الفائتة سببها متقدم، وسجدة التلاوة سببها متقدم، وسجدة الشكر كذلك، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف، والجنازة، هذه كلها أسبابها متقدمة معروفة، وبعضها قد يأتي سببها متأخرًا كركعتي الإحرام؛ لأن الركعتين تسبقان الإحرام.

(1)

سيأتي تفصيله، وما بعده.

ص: 1113

إذن الأوقات التي نهى الشارع عن الصلاة فيها: خمسة، وخالف في ذلك الإمام مالك

(1)

؛ وحجته في ذلك؛ أن عمل أهل المدينة جاء على خلاف ذلك، وعمل أهل المدينة مسلك أصولي يأخذ به الإمام مالك وأتباعه

(2)

، فيرى المالكية أن وقت الزوال جاء العمل عليه عند أهل المدينة؛ حيث كانوا يصلون فيه، ولذلك قالوا: إن الأوقات التي نهى الشارع عنها أربعة.

ونجد الجمهور (الحنفية

(3)

، والشافعية

(4)

، والحنابلة

(5)

) متفقين من

(1)

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 809) حيث قال: "الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وقتان راجعان إلى الفعل. وهو إذا صُليت الصبح أو العصر، ووقتان راجعان لنفس الوقت. وهما بعد الاصفرار وعند الطلوع ".

(2)

يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (1/ 243) حيث قال: "اتفق الأكثرون على أن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة على مَن خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافًا لمالك، فإنه قال: يكون حجة، ومن أصحابه من قال إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم، ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى، ولا ثمتنع مخالفته. ومنهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمختار مذهب الأكثرين، وذلك أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة، والخارج عن أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين، فلا يكون إجماعهم حجة".

(3)

يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 150) حيث فال: "واعلم بأن الأوقات التي تكره فيها الصلاة: خمسة؛ ثلاثة منها لا يصلى فيها جنس الصلوات عند طلوع الشمس إلى أن تبيض وعند غروبها إلا عصر يومه فإنه يؤديها عند الغروب

".

(4)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 174) حيث قال: "الساعات التي نهى الله عن الصلاة فيها، وهي خمس: اثنتان نهى عنهما لأجل الفعل، وهي بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس

وثلاثة نهى عنها لأجل الوقت وهي عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند الاستواء حتى تزول، وعند الاصفرار حتى تغرب ".

(5)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 85) حيث قال: "اختلف أهل العلم في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ فذهب أحمد رحمه الله إلى أنها من بعد الفجر حتى ترتفع الشمس قدر رمح، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وحال قيام الشمس حتى تزول، وعدها أصحابه خمسة أوقات؛ من الفجر إلى طلوع الشمس وقت، ومن طلوعها إلى ارتفاعها وقت، وحال قيامها وقت، ومن العصر إلى شروع الشمس في الغروب وقت، وإلى تكامل الغروب وقت ".

ص: 1114

حيث الجملة لا التفصيل على أن هذه الأوقات الخمسة منهي عن الصلاة فيها إلا يوم الجمعة؛ فإن السادة الشافعية

(1)

يرون جواز الصلاة في وقت الزوال، ولهم في ذلك دليل ضعيف يتمسكون به، وهو:"إن جهنم تسجر يوم الجمعة وقت الزوال"

(2)

، ولهم أثر في ذلك عن عمر وهو: "الطَنْفُسَة

(3)

التي كانت توضع لعمر في الجدار الغربي؛ فإذا غشيها الظل خرج عمر وكان الناس يصلون قبل ذلك حتى يخرج إليهم وذلك قبل الزوال"

(4)

.

ولقد استدلَّ عامة الجمهور بحديث عبد الله بن عباس عندما قال: "شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر، يعني: عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس "

(5)

، ومتله أيضًا حديث أبي هريرة، وهو متفق عليه

(6)

، وحديث أبي سعيد

(7)

، وحديث عبد الله بن عمر

(8)

، وكلها

(1)

سيأتي تفصيله.

(2)

أخرجه أبو داود (1083) وغيره عن أبي الخليل عن أبي قتادة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم كره الصلاة نصف النهار حتى نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة وقال: "إن جهنم تسجر إلا بوم الجمعة"، وضعفه الألباني في "المشكاة"(1047).

(3)

"الطنفسة": بفتح الفاء، وهي النمرقة، وهو بساط صغير. انظر:"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 320).

(4)

أخرجه مالك في "الموطأ"(911).

(5)

أخرجه البخاري (581)، ومسلم (826).

(6)

أخرجه البخاري (584)، ومسلم (825). عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين، وعن لبستين وعن صلاتين: نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ".

(7)

أخرجه البخاري (586) عن أبي سعيد الخدري، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس ".

(8)

أخرجه البخاري (1191) أن ابن عمر رضي الله عنهما، كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين: يوم يقدم بمكة، فإنه كان يقدمها ضحى فيطوف بالبيت، ثم يصلي ركعتين خلف المقام، ويوم يأتي مسجد قباء، فإنه كان يأتيه كل سبت، فإذا دخل المسجد =

ص: 1115

وردت في النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر.

وورد أيضًا حديث عقبة بن عامر الجهني الذي قال فيه: "ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة - وقت الاستواء - وحين تتضيف الشمس نحو الغروب، (تميل للغروب) "

(1)

.

ويستثنى من هذه الأوقات الصلاة الفائتة؛ عملًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكر، فذلك وقتها لا وقت لها غيره"

(2)

، فهذا عام في الصلوات، وذلك في قوله:"مَن نام عن صلاة"، أيّ صلاة، وفي الأوقات يشمل أيّ صلاة من الصلوات؛ فيشمل الفائتة، وكذلك السنن؛ لأن من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكر، أي: في أيِّ وقت من الأوقات.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"

(3)

، فهذا عامٌّ في الوقت خاصٌّ في الصلاة؛ لأنه يتكلم عن تحية المسجد وحديث:"لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس "

(4)

، وهذا خاصٌّ في الوقت وعامٌّ في الصلاة.

ولكن هل النهي متعلق بالفعل أم بالزمان في الصلوات التي نهى الشارع عن الصلاة فيها؟ في المسألة خلاف؛ فنجد قوله: "لا صلاةَ

= كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه، قال: وكان يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزوره راكبًا وماشيًا، قال: وكان يقول: "إنما أصنع كما رأيت أصحابي يصنعون، ولا أمنع أحدًا أن يصلي في أيِّ ساعة شاء من ليل أو نهار، غير أن لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها".

(1)

أخرجه مسلم (831).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري (2/ 57)، ومسلم (714).

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1116

بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس" فلو أُخِّرت صلاة الصبح عن وقتها إلى آخر الوقت فله أن يصلي قبلها، وهذا على الرأي الصحيح. وكذلك لو أن جماعة أخَّروا صلاة العصر عن أول وقتها تُصلَّى كذلك قبلها.

فعلى ذلك النهي عن الصلاة في الوقتين، (أي: ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، وما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) متعلق بالفعل لا بزمانه؛ فمتى ما أخَّر هذه الفريضة، فله أن يصلي قبلها؛ إذ النهي متعلق بالفعل.

أما الأوقات الثلاثة التي هي: وقت الطلوع، ووقت الزوال، ووقت الغروب؛ فالنهي متعلق بالزمان، أي: في الوقت، وهو قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عقبة:"ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن"

(1)

؛ فالنهي هنا متعلق بالزمن، وليس فقط لأجل الفعل كما هناك في النهي وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها.

وقد جاء في بعض الأحاديث: "أنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان؛ وحينئذ يسجد لها الكفار، وأنها تغرب حينئذ بين قرني شيطان وشمجد لها الكفار"

(2)

، والمراد بقرني شيطان

(3)

: جانب رأسه وهما القرنان؛ والمراد: أن الشيطان يجلس في محاذاة الشمس عند غروبها وعند شروقها فيأتي إذا جاء الذين يعبدون الشمس فيسجدون لها؛ فكأنهم بذلك سجدوا للشيطان، والشيطان يسعى إلى إغواء الإنسان فهؤلاء هم أولياء الشيطان؛ إذ يتمثل لهم ويتصور لهم في هذه الحالة فيسجدون للشمس،

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

"قرني شيطان": فيه أقوال، أحدها: أن قرني الشيطان ناحيتا رأسه، وقيل: قرناه جمعاه اللذان يغريهما بإضلال البشر، يقال: هؤلاء قرن من الناس. ويقال: معنى القرن الاقتران يريد أنه يظهر مع الشمس مقارنًا لها. انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 725).

ص: 1117

ويسجدون له، وكذلك روي أن: "جهنم في وقت الزوال تُسجر

(1)

في وقت زوال الشمس"

(2)

، ولذلك ورد في الحديث الذي فرَّق به الشافعية بين وقت الزوال في وقت الجمعة وبين غيره:"إن جهنم تسجر يوم الجمعة وقت الزوال"

(3)

لكن الصحيح أن الحديث ضعيف، وسيأتي الكلام عليه.

ولكن الشافعية لهم حجة كما مر، وهو أثر عن عمر رضي الله عنه، حيث كان الناس يصلون حتى يخرج عمر، وكان ذلك قبل الزوال

(4)

، وفيما سبق عرض للأدلة المختلفة ومناقشات الفقهاء فيها، ومن ذلك أيضا ورد:"لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس"

(5)

، بينما نجد أنه ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر في بيتي قط"

(6)

، وثبت عنها في بعض الروايات أنها قالت:"صلاتان ما تركهما قط هما: الركعتان قبل الفجر، والركعتان بعد العصر"

(7)

وورد أيضًا عن عمر أنه قال: "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى المصلي طلوع الشمس وغروبها"

(8)

، وسيأتي أيضًا الرد على ذلك والجواب عنه، وهو أن عمر ليس الوحيد الذي أورد أحاديث النهي، بل ورد عن عليٍّ أنه قال: إن

(1)

"تسجر": توقد. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"(2/ 343).

قال الخطابي: "وذكره تسجير جهنم وكون الشمس بين قرني الشيطان وما أشبه ذلك من الأشياء التي تذكر على سبيل التعليل لتحريم شيء، أو لنهي عن شيء أمور لا تدرك معانيها من طريق الحس والعيان، وإنما يجب علينا الإيمان بها والتصديق بمخبوءاتها، والانتهاء إلى أحكامها التي علقت بها". انظر: "معالم السنن"(1/ 276).

(2)

ما روي في ذلك هو حديث أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصلاة نصف النهار، إلا يوم الجمعة، وقال:"إن جهنم تُسْجَرُ إلا يومَ الجمعة". وتقدم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 133).

(7)

أخرجه البخاري (590)، ومسلم (835).

(8)

أخرجه البخاري (585)، ومسلم (828): بلفظ: "إلا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها".

ص: 1118

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد صلاة العصر إلا والشمس مرتفعة"

(1)

، فمعنى هذا إذا كانت الشمس غير نقية؛ فليس هناك نهي.

فمن هذه الأدلة نجد أنها تتعارض مع حديث النهي بعد صلاة العصر، ولذلك نُقِل عن بعض الصحابة أنه كان يصلي بعد العصر؛ فقد نقل عن عليِّ بن أبي طالب ذلك

(2)

، ونقل كذلك عن الزبير بن العوام، وعن ابنه عبد الله بن الزبير

(3)

، وعن أبي أيوب

(4)

، وكذلك أيضًا نقل عن النعمان بن بشير

(5)

، وعن عائشة

(6)

التي روت هذه الأحاديث، وسنجد أيضًا أن من الأدلة في ذلك ما رواه ذكوان عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال

(7)

، لكن هذا الحديث فيه محمد بن إسحاق، وابن إسحاق ممن يعنعن في روايته

(8)

.

(1)

أخرجه أبو داود (1274) عن علي، "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر، إلا والشمس مرتفعة"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (200).

(2)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 393) أن عليًّا، صلى وهو منطلق إلى صفين العصر ركعتين، ثم دخل فسطاطه، فصلى ركعتين.

(3)

أخرج ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 393) عن تميم الداري، "أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين، وزعم أن الزبير وعبد الله بن الزبير كانا يصليان بعد العصر ركعتين ".

(4)

أخرج ابن المنذر في "الأوسط"(3/ 394) عن ابن طاوس، عن أبيه، أن أبا أيوب، كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر، فلما استخلف عمر تركهما، فلما توفي عمر ركعهما.

(5)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 394) عن حبيب، كاتب النعمان بن بشير قال:"كان النعمان بن بشير يصلي بعد العصر ركعتين ".

(6)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 394) عن سعيد بن جبير، قال:"رأيت عائشة تصلي بعد العصر ركعتين وهي قائمة، وكانت ميمونة تصلي أربعًا وهي قاعدة".

(7)

أخرجه أبو داود (1280)، وقال الألباني في "إرواء الغليل" (2/ 189):"ورجال إسناده ثقات، ولكن ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه ".

(8)

يُنظر: "إرواء الغليل"(2/ 189). قال ابن حجر في "فتح الباري"(11/ 163): "ما ينفرد به محمد بن إسحاق، وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث ".

ص: 1119

قوله: (وَهِيَ: وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتُ غُرُوبِهَا، وَمِنْ لَدُنْ تُصَلَّى صَلَاةُ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ).

ثلاث أوقات ذكرها المؤلف، وهو وقت الطلوع، ووقت الغروب، ومن وقت صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس.

قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتَيْنِ: فِي وَقْتِ الزَّوَالِ، وَفِي الصَّلَاةِ بَعْدَ العَصْرِ؛ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ

(1)

إِلَى أَنَّ الأَوْقَاتَ المَنْهِيَّ عَنْهَا هِيَ أَرْبَعَةٌ: الطُّلُوعُ، وَالغُرُوبُ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ العَصْرِ، وَأَجَازَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الزَّوَالِ).

اتَّفق الأئمة في أداء ما يتعلَّق بالفوائت، عدا الحنفية؛ فإنهم يستثنون ما قبل المغرب، وسيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله.

وأما صلاة الجنازة؛ فقد نقل بعض العلماء إجماعهم على أنها تصلى في وقتي من أوقات النهي:

بعد صلاة الصبح لما قبل الطلوع.

ومن بعد صلاة العصر لما قبل الغروب.

وهذا قد نقله ابن المنذر وغيره

(2)

من إجماع العلماء على ذلك.

وهناك خلاف

(3)

أيضًا في أداء صلاة الجنازة في الأوقات الثلاثة،

(1)

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 809) حيث قال: "الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وقتان راجعان إلى الفعل. وهو إذا صُليت الصبح أو العصر، ووقتان راجعان لنفس الوقت. وهما بعد الاصفرار وعند الطلوع ".

(2)

نقله عنه ابن قدامة في "المغني"(2/ 82) فقال: "قال ابن المنذر: إجماع المسلمين في الصلاة على الجنازة بعد العصر والصبح ". والذي في "الأوسط"(5/ 430): "اختلف أهل العلم في الصلاة على الجنائز بعد العصر، وبعد الصبح فكرهت طائفة الصلاة عليها في ثلاثة أوقات

".

(3)

سيأتي الخلاف.

ص: 1120

وأقرب الأدلة إلى الصواب هو مذهب الشافعية في هذه المسائل مجتمعة.

قوله: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ

(1)

إِلَى أَنَّ هَذِهِ الأَوْقَاتَ خَمْسَة كُلُّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا إِلَّا وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الجُمُعَةِ

(2)

؛ فَإِنَّهُ أَجَازَ فِيهِ الصَّلَاةَ).

وكذا أبو حنيفة

(3)

، وأحمد

(4)

إلا أن الشافعي استثنى وقت الزوال يوم الجمعة فجوَّز فيه الصلاة.

قوله: (وَاسْتَثْنَى قَوْمٌ

(5)

مِنْ ذَلِكَ الصَّلَاةَ بَعْدَ العَصْرِ).

نُقِل هذا القول عن الظاهرية، وحقيقته أنه منقول عن عدد من الصحابة كما ذكر

(6)

، ونُقِل أيضًا عن بعض التابعين، كشُريح،

(1)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 174) حيث قال: "الساعات التي نهى الله عن الصلاة فيها، وهي خمس: اثنتان نهى عنهما لأجل الفعل وهي بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس

وثلاثة نهى عنها لأجل الوقت وهي عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند الاستواء حتى تزول وعند الاصفرار حتى تغرب ".

(2)

يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 194) حيث قال: "الصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات يستثنى منها زمان ومكان، أما الزمان فعند الاستواء يوم الجمعة، ولا يلحق به باقي الأوقات يوم الجمعة على الأصح ".

(3)

يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 150) حيث قال: "واعلم بأن الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة؛ ثلاثة منها لا يصلى فيها جنس الصلوات عند طلوع الشمس إلى أن تبيض وعند غروبها إلا عصر يومه، فإنه يؤديها عند الغروب

".

(4)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 85) حيث قال: "اختلف أهل العلم في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ فذهب أحمد رحمه الله، إلى أنها من بعد الفجر حتى ترتفع الشمس قدر رمح، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وحال قيام الشمس حتى تزول، وعدها أصحابه: خمسة أوقات، من الفجر إلى طلوع الشمس وقت، ومن طلوعها إلى ارتفاعها وقت، وحال قيامها وقت، ومن العصر إلى شروع الشمس في الغروب وقت، هالى تكامل الغروب وقت ".

(5)

هو قول ابن حزم، يُنظر:"المحلى"(2/ 264) فقد أجاب على قول الأحاديث التي احتج بها الجمهور على المنع من الصلاة بعد العصر، وذكر ما يدل على جوازها.

(6)

تقدَّم نقله عن الزبير وابنه والنعمان بن بشير وعائشة.

ص: 1121

وغيره

(1)

؛ حيث كانوا يصلون بعد صلاة العصر، ولذلك سُئِل الإمام أحمد عن الصلاة بعد العصر فقال:"لا نفعله ولا نلوم فاعله"

(2)

، أي: لا نصلي بعد العصر، ولا نلوم مَن يصلي فيه، ثم ذكر حديث عائشة:"ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر في بيته قط "

(3)

، وكذلك في الحديث الطويل المتفق عليه

(4)

: أن ثلاثة من الصحابة، (وهم: عبد الله بن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أظهر) قد اجتمعوا وتدارسوا فيما يتعلَّق بالصلاة بعد العصر، فاتفقوا على أن يرسلوا قريبًا وهو مولى عبد الله بن عباس إلى عائشة رضي الله عنها يُقرِئها السلام عن هؤلاء الثلاثة، ثم يسألها قائلًا على لسانهم:"بلغنا أنكِ تصلين بعد العصر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك؟! فلَم تُجبه، وردَّته إلى أمِّ سلمة، ولم يذهب إلى أمِّ سلمة مباشرة، وإنما عاد إلى الثلاثة الذين أرسلوه وأخبرهم بما دار بينه وبين عائشة وبما قالت له، فأرسلوه إلى أمّ سلمة رضي الله عنها فسألها عن ذلك، فأخبرته بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وأنه نهى عن ذلك؛ لأنه قال: "أتاني وفد من بني عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر" فصلاهما بعد العصر فهما هاتان الركعتان، فصلاة النبي بعد العصر إنما كان قضاءً لسنة فائتة.

وعلى ذلك أجاز السادة الشافعية أن تُقضَى السنن الراتبة في أوقات النهي

(5)

، وللحنابلة

(6)

تفصيل في ذلك (أي: بعد العصر وبعد الصبح).

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 394) حيث قال: "وفعل ذلك الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون، ومسروق، وشَريح، وعبد الله بن أبي الهذيل، وأبو بردة، وعبد الرحمن بن الأسود، وعبد الرحمن بن البيلماني، والأحنف بن قيس ".

(2)

يُنظر: "فتح الباري" لابن رجب (5/ 49) حيث قال: "قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد: هل ترى بأسًا أن يصلي الرجل تطوعًا بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة؟ قال: لا نفعله، ولا نعيب فاعله ".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (834).

(5)

سيأتي.

(6)

سيأتي.

ص: 1122

قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إِمَّا مُعَارَضَةُ أَثَرٍ لِأَثَرٍ).

لا يقصد بالأثر هنا الحديث وإنما هو: ما يوقف به على أقوال الصحابة، أمَّا ما يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحديث، وليس خطأً لغةً أن يُسمَّى قول الصاحبة أثرًا.

قوله: (وَإِمَّا مُعَارَضَةُ الأَثَرِ لِلْعَمَلِ عِنْدَ مَنْ رَاعَى العَمَلَ، أَعْنِي: عَمَلَ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فَحَيْثُ وَرَدَ النَّهْيُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُعَارِضٌ لَا مِنْ قَوْلٍ وَلَا مِنْ عَمَلٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَحَيثُ وَرَدَ المُعَارِضُ اخْتَلَفُوا).

الذين خالفوا في وقت الزوال هم المالكية، أما الشافعية فخلافهم في يوم الجمعة للحديث الذي ورد وهو ضعيف

(1)

، وأثر عمر الذي أشرنا إليه، ويعرف بحديث الطنفسة، الذي رواه مالك في موطئه

(2)

، وهو حديث صحيح، و"الطنفسة": هو بساط رقيق يوضع عند الجدار، فإذا غشيه الظل خرج عمر، وخطب الناس، وجلس على المنبر وأذن المؤذِّن بعد صعوده.

فالأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر أذان واحد يوم الجمعة بعد أن يجلس الإمام على المنبر، وفي خلافة عثمان زاد النداء الثاني، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ"

(3)

، وعندما زاد عثمان ذلك زاده للحاجة، إذ المدينة قد اتسعت وامتدت أطرافها وتنوعت الأعمال فيها؛ فاحتاج الناس إلى أن يُنبَّهوا إلى وقت الصلاة بوقت يعطيهم الفرصة؛ ليذهبوا للاغتسال، وذلك كما ورد في حديث عائشة: "كان الناس يعملون

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه ابن ماجه (42)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2455).

ص: 1123

بأنفسهم فقيل لهم: لو اغتسلتم"

(1)

، فهناك مَن يشتغل بالحدادة، والجزارة، وهؤلاء وأمثالهم يحتاجون إلى أن يتهيؤوا للصلاة. وسيأتي الكلام إن شاء الله عن تفصيل ذلك في باب الجمعة.

قوله: (أَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ فَلِمُعَارَضَةِ العَمَلِ فِيهِ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ:"ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ "، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

، وَحَدِيثُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ فِي مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي "مُوَطَّئِهِ")

(3)

.

حديث عقبة من الأحاديث الصحيحة وقد أخرجه مسلم في صحيحه وغيره، وهو أيضًا في السنن

(4)

، وعند أحمد

(5)

وغيرهم

(6)

.

ولا يقتصر على طلوع الشمس فقط، بل بعد أن تطلع الشمس ثم ترتفع، وإذا تعمدت الشمس كبد السماء

(7)

حتى تميل، وإذا مالت للغروب حتى تغيب، ولذلك بعض العلماء

(8)

يرى أن الوتر إذا نُسِي قُضِي بعد

(1)

أخرجه البخاري (903)، ومسلم (847).

(2)

أخرجه مسلم (831).

(3)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 219) عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها". ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات. وصححه الألباني في "المشكاة"(1048).

(4)

أخرجه النسائي (565)، والترمذي (1030)، وأبو داود (3192)، وابن ماجه (1519).

(5)

أخرجه أحمد (17377).

(6)

مثل البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 32).

(7)

"كبد السماء": ما استقبلك من وسطها. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 74).

(8)

ومذهب الحنفية أنه يقضي بعد الفجر وقبل طلوع الشمس. =

ص: 1124

الفجر مباشرة، أو بعد طلوع الشمس، وذلك أيضًا بالنسبة لركعتي الفجر، والصحيح: أن ذلك جائز في كليهما؛ لكن بعض العلماء يرجئه إلى ما بعد طلوع الشمس وارتفاعها.

والصحيح في حديث أبي عبد الله الصنابحي؛ أنه مرسل صحيح، وليس منقطعًا

(1)

.

قوله: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ كلِّهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَقْتَ الزَّوَالِ إِمَّا بِإِطْلَاقٍ وَهُوَ مَالِكٌ، وَإِمَّا فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ فَقَطْ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، أَمَّا مَالِكٌ فَلِأَنَّ

= يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 155) حيث قال: "لا وتر بعد الصبح المراد النهي عن تأخيرها لا نفي قضائها وكذلك تقضى بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس ".

ولا يقضيه بعد طلوع الشمس في مذهب المالكية والشافعية.

مذهب المالكية، يُنظر:"الذخيرة" للقرافي (2/ 395) حيث قال: "ولا يقضي بعد الشمس إلا الفجر إن شاء فإن بقي أربع ركعات، قال أصبغ في الموازية: يوتر بثلاث ويدرك الصبح بركعة، وقال ابن المواز: يوتر بواحدة ويكمل الصبح في الوقت ".

ومدْهب الشافعية، يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 287) حيث قال: " "أما إذا نسي الوتر وذكرها قبل طلوع الفجر فيصليها وتكون أداء لا قضاء، فأما إذا نسي الوتر وذكرها بعد طلوع الفجر، أو نسي ركعتي الفجر ثم ذكرها بعد زوال الشمس فقد ذكر المزني في هذا الموضع أنه لا يقضي ونقله في القديم، وذكر في هذا الموضع أيضًا ما يدلُّ عمومه على القضاء بعد فوات الوقت ".

ومذهب الحنابلة قضاؤه مطلقًا.

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 178) حيث قال: "وأما قضاء الوتر: فالصحيح من المذهب: أنه يقضى".

(1)

يُنظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 474) قال: "قال مطرف وإسحاق بن الطباع وغيرهما عن أبي عبد الله الصنابحي وهو الصواب، وهو عبد الرحمن بن عسيلة، وهو ثابعي كبير لا صحبة له، وقال ابن القطان نص حفص بن ميسرة على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وترجم ابن السكن باسمه في الصحابة، وقال عباس عن ابن معين: يشبه أن تكون له صحبة، ثم حكى الخلاف فيه إلى أن قال: ولست أثبت أنه عبد الرحمن بن عسيلة، ولا أثبت أن له صحبة".

ص: 1125

العَمَلَ عِنْدَهُ بِالمَدِينَةِ لَمَّا وَجَدَهُ عَلَى الوَقْتَيْنِ فَقَطْ وَلَمْ يَجِدْهُ عَلَى الوَقْتِ الثَّالِثِ، أَعْنِي: الزَّوَالَ أَبَاحَ الصَّلَاةَ فِيهِ).

منع الأئمةُ الصلاةَ في هذه الأوقات عدا مالك بالنسبة لوقت الزوال، واستثنى الشافعي وقت الجمعة.

ومع ذلك ينقل عن الإمام مالك في يوم الجمعة أنه قال: "مَن لم يتأكد من وقت الزوال فلا مانع من ذلك، ومَن تأكد من ذلك فالنهي باقٍ ".

قوله: (وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ مَنْسُوخٌ بِالعَمَلِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي المَنْعِ)

(1)

.

وهذا هو الصحيح؛ أن العمل لا ينسخ الأحاديث الصحيحة الثابتة.

قوله: (وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي العَمَلِ وَقُوَّتِهِ فِي كِتَابِنَا فِي الكَلَامِ الفِقْهِيِّ وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى بِأُصُولِ الفِقْهِ).

أشار المؤلف إلى كتاب له في الأصول، وله مقدمة في أول هذا الكتاب عرض فيها بعض مسائل الأصول.

قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَمَّا صَحَّ عِنْدَهُ مَا رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ القُرَظِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ يُصَلُّونَ يَوْمَ الجُمُعَةِ حَتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ خُرُوجَ عُمَرَ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى مَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ الطُّنْفُسَةِ الَّتِي كَانَتْ تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ المَسْجِدِ الغَرْبِيِّ، فَإِذَا غَشِيَ الطُّنْفُسَةَ كلَّهَا ظِلُّ الجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ مَعَ مَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ

(1)

يعني: من لم يرَ لعمل أهل المدينة أثر وقتة في الاحتجاج، وهم من سوى المالكية تمسك بإطلاق النهي عن الصلاة في تلك الأوقات المنهي عنها.

ص: 1126

الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلَّا يَوْمَ الجُمُعَةِ"

(1)

اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ النَّهْيِ يَوْمَ الجُمُعَةِ).

يذكر المؤلف استدلال السادة الشافعية، وهو:"أن الناس كانوا يصلون قبل خروج عمر، وهذا من الأوقات التي جاء النهي عنها" فيستثنون بذلك يوم الجمعة، ويؤيدون ذلك بالحديث:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، فإن جهنم تسجر إلا في يوم الجمعة"

(2)

، وهذا الحديث ضعيف فيه انقطاع من جهه، ومن جهة أخرى يرويه أبو سليم، وهو ضعيف

(3)

.

وحديث الطُّنْفُسَةِ قد ضعَّفه كثير من محققي كتب الشافعية، وخاصة الكتب التي تُعنى بالأحاديث كالنووي في كتابه المعروف:"المجموع" في مقدمته

(4)

.

قوله: (وَقَوَّى هَذَا الأثَرَ عِنْدَهُ العَمَلُ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كلانَ الأَثَرُ عِنْدَهُ ضَعِيفًا، وَأَمَّا مَنْ رَجَّحَ الأَثَرَ الثَّابِتَ فِي ذَلِكَ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي النَّهْيِ. وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ العَصْرِ فَسَبَبُهُ

(1)

أخرجه الشافعي في "مسنده"(1/ 139)، وهو ضعيف، فال ابن الملقن في "البدر المنير" (3/ 270):"هذا الحديث رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد، عن إسحاق بن عبد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا به، وهو مخرج في "مسنده". وإبراهيم هذا قد عرفت حاله في الطهارة. قال ابن عبد البر في تمهيده: إبراهيم هذا هو ابن أبي يحيى المدني، متروك الحديث. وإسحاق بعده في الإسناد: هو ابن أبي فروة، ضعيف أيضًا".

(2)

تقدَّم.

(3)

أبو سليم في رواية قتادة لا أبا هريرة، وحديث أبي قتادة أخرجه أبو داود (1083)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(1849).

(4)

يُنظر: "المجموع" للنووي (4/ 512) حيث قال: " (وأما) الأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان (فضعيف) باتفاقهم؛ لأن ابن سيدان ضعيف عندهم، ولو صحَّ لكان متأولًا لمخالفة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ص: 1127

تَعَارُضُ الآثَارِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ)

(1)

.

بل هناك جملة أحاديث في هذا الباب، وليس حديثين فقط، وقد عرضت أكثرها.

كحديمث أبي هريرة، وحديمث عمر، وحديث عبد الله بن عمر، وحديث أبي سعيد، وغيرهم.

قوله: (أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ)

(2)

.

ومثله أيضًا: حديث عمر المتفق عليه الذي قال فيه عبد الله بن عباس: "شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر بن الخطاب

"

(3)

.

فالأحاديث التي وردت تلتقي في معناها، وإن اختلفت الألفاظ، وذلك مثل:"نهى النبي عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس"

(4)

، وبعضهم قال:"حتى تطلع الشمس"

(5)

، وبعضهم قال:"عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس"، وبعض الأحاديث فيها:"حتى تغيب"

(6)

، وكلها متفقة في المعنى، وإن اختلفت في بعض ألفاظها.

(1)

فالذين رأوو الصلاة بعد العصر استدلوا بحديث عائشة، والذين منعوا الصلاة بعد العصر استدلوا بحديث أبي هريرة.

وسبأتي الحديثان.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري (586) عن أبي سعيد الخدري، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس ".

(5)

أخرجه البخاري (1197)، ومسلم (827).

(6)

هي في نفس رواية أبي سعيد المتقدمة.

ص: 1128

قوله: (وَالثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَيْنِ فِي بَيْتِي قَطُّ سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الفَجْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ"

(1)

، فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بِالمَنْعِ، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَوْ رَآهُ نَاسِخًا، لِأَنَّهُ العَمَلُ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِالجَوَازِ، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ

(2)

يُعَارِضُ حَدِيثَ عَائِشَةَ).

حديث أمِّ سلمة الذي أشرنا إليه، عندما أرسل ابن عباس ورفقته مولاه إلى عائشة، فردتهم إلى أمِّ سلمة، وكون عائشة تحيل إلى أم سلمة؛ فهذا يدلُّ أن أمَّ سلمة عندها مزيد علم في هذا الأمر، وقد بينت ذلك فيما سبق.

قوله: (وَفيهِ: "أَنَّهَا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ؛ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَهُمَا هَاتَانِ").

وفي بعض الروايات: أنها سألته، وفي بعضها: أنها سُئلت - للمجهول- والواقع: أنها هي السائلة؛ فبعض الروايات -كما ذكر المؤلف- أنها رأته فسألته، وفي بعضها: سُئل رسول اللَّه

(3)

.

قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ؛ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(4)

إِلَى أَنَّهَا

(1)

أخرجه مسلم (835) ولفظه: "صلاتان ما تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي قط، سرًّا ولا علانية، ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر".

(2)

تقد تخريجه.

(3)

الرواية السابقة المتفق عليها فيها أنها سُئلت ثم سألت هي النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 32) حيث قال: "لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيامها في الظهيرة ولا عند غروبها، ولا يصلي على جنازة، ولا يسجد للتلاوة إلا عصر يومه عند غروب الشمس ".

ص: 1129

لَا تَجُوزُ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ صَلَاةٌ بِإِطْلَاقٍ لَا فَرِيضَةٌ مَقْضِيَّةٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا نَافِلَةٌ إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ).

تبين مما سبق أن هناك أحاديثُ تنهى عن الصلاة في هذه الأوقات، وأحاديثُ يفهم منها جواز ذلك، ومن ذلك اختلفت وجهة الفقهاء في الصلاة التي لا تجوز في هذه الأوقات:

فالحنفية يستدلون بعموم هذه الأدلة، فلا يرون قضاء الفائتة في أوقات النهي، ولا المنذورة، ولا الكسوف، ولا غيرها وهي كل الصلوات ذات السبب ما عدا صلاة الجنازة؛ فهم مع إجماع العلماء.

واستدلَّ الحنفية على عدم القضاء مطلقًا؛ بما ثبت في "الصحيحين": "أن الرسول صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح، فأخَّرها حتى ابيضت الشمس"

(1)

، وردَّ العلماء على ذلك بتأويلهم ذلك، وقالوا: إنه لم يؤخِّر الصلاة بعد طلوع الشمس، لكن احتاج مَن معه من الصحابة أن يتطهروا فأخَّرها رحمة بهم، وسيأتي خلاف العلماء في الفائتة في أبواب الأذان، أيؤذن لها أم لا؟

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (682).

(2)

مذهب الحنفية التأذين للفوائت كلها.

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 25) حيث قال: "وإن جمع أو صلى فوائت أذن للأولى وأقام لكل صلاة".

وللمالكية ثلاثة أقوال:

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 423) حيث قال: "فقيل: لا يؤذن لها قاله أشهب، وهو نقل الأكثر، وبه الفتوى عندنا بأفريقية، قال في شرح الرسالة: وقيل يؤذن لأولى الفوائت حكاه الأبهري رواية عن المذهب، واختار إن رجا اجتماع الناس لها أذن وإلا فلا وكلاهما حكاه عياض في الإكمال، وقول ابن عبد السلام: المذهب أنه لا يؤذن للفوائت ".

وفي مذهب الشافعية قولان: في القديم يؤذن للفائتة الأولى فقط، وفي الجديد لا يؤذن لأي فائتة.

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 48) حيث قال: "أحدها: وبه قال في القديم =

ص: 1130

أما المالكية

(1)

، والحنابلة

(2)

، والشافعية

(3)

فاستثنوا:

"الصلوات الفائتة"، فقالوا: تقضى في أيِّ وقت من الأوقات، ومذهب الشافعية في ذلك هو أوسع المذاهب، لذلك نعرض له مؤخرًا.

وكذلك: "تحية المسجد"، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"

(4)

، وكذلك السنن الراتبة إذا فأتت الإنسان؛ فله أن يقضيها في أيِّ وقت.

وكذلك: "صلاة الكسوف" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة"

(5)

، وهذا مطلق والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقيِّد ذلك بزمن.

وكذلك: "السنن الرواتب "، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فاته الركعتان الراتبتان بعد صلاة الظهر؛ قضاهما بعد صلاة العصر

(6)

، ولما سُئِل عن ذلك بيَّن أنه جاءه من بني عبد القيس أناس يعلنون إسلامهم،

= أنه يؤذن للصلاة الأولة، ويقيم لما سواها

والقول الثاني: وبه قال في الجديد، إنه يقيم للأولى وجميع الفوائت، ولا يؤذن ".

والمعتمد عند الحنابلة الأذان للأولى فقط.

يُنظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 280) حيث قال: "وإن جمع أو صلى فوائت أذن للأولى وأقام لكل صلاة".

(1)

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 746) حيث قال: "اختلف الناس في قضاء الفوائت المفروضة هل يجوز قضاؤها في سائر الأوقات أو يمتنع في بعض الأوقات؟ فذهب مالك والشافعي إلى إجازة ذلك في سائر الأوقات ".

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 80) حيث قال: "وجملته أنه يجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي وغيرها".

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 274) حيث قال: "أما تخصيص بعض الصلاة بالنهي فهي صلاة نافلة ابتدأ بها المصلي من غير سبب، فأما ذوات الأسباب من الصلوات المفروضات، والمسنونات فيجوز فعلها في جميع هذه الأوقات كالفائتة، والوتر، وركعتي الفجر، وتحية المسجد، وصلاة الجمعة، والعيدين، والاستسقاء".

(4)

تفدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه البخاري (1046)، ومسلم (901).

(6)

هو حديثَ أم سلمة، وتقدم تخريجه.

ص: 1131

ولا شكَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سينشغل بهم؛ لأن ذلك أمر هام للمسلمين عمومًا؛ لذلك انشغل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم فمضى الوقت؛ فلم يصل الركعتين، فلما تذكرهما صلاهما بعد العصر.

وجه الدلالة مما سبق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى الركعتين بعد العصر مما يدلُّ أن السنن الرواتب تُقضَى بعد العصر.

وورد في مثل هذا بعض الأحاديث، منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي بعد الفجر فقال: "ما هذا؟ " فقال: هما الركعتان قبل الفجر صليتهما بعده، فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

.

كذلك قصة الرجلين اللذين كانا في مؤخرة القوم؛ فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه قال: "عَلَيّ بهما"، فجيء بهما ترتعد فرائصهما

(2)

؛ فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا: صلينا في رحالنا، فقال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا صليتما في رحالكما وأتيتما مسجد جماعة فصليا تكن لكما نافلة"

(3)

، وسيأتي اختلاف العلماء فيمَن دخل المسجد وقد صلى ووجد الناس يصلون فيصلي معهم

(4)

، حتى لا يوقع نفسه بالشبهة؛

(1)

أخرجه الترمذي (422) وفيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقيمت الصلاة، فصليت معه الصبح، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم فوجدني أصلي، فقال:"مهلًا يا قيس، أصلاتان معًا"، قلت: يا رسول الله، إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر، قال:"فلا إذن ". قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث سعد بن سعيد، وإسناده ليس بمتصل ومحمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس"، وقال ابن الجوزي في "التحقيق في مسائل الخلاف" (1/ 455):"قلت قال أحمد بن حنبل سعد بن سعيد ضعيف وقال ابن حبان لا يحل الاحتجاج به ".

(2)

"ترعد فرائصهما"، أي: ترجف وتضطرب من الخوف. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 234).

(3)

أخرجه الترمذي (219)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(533).

(4)

من دخل المسجد لا يخلو من أمرين: إما أن يكون صلى منفردًا خارج المسجد الذي دخله. وإما أن يكون صلى في جماعة من خارج هذا المسجد. وستأتي هذه المسألة عند قول المصنف: (الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ) (المَسْأَلَةُ=

ص: 1132

فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على زيد، وأنكر أيضًا على رجل آخر في قصة الرجل الذي كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُذِّن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع وهذا الرجل في مجلسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟ " قال: نعم. قال: "فما منعك أن تصلي معنا؟ " قال: صليت في أهلي. قال: "إذا صليت في أهلك وأتيت المسجد فصلِّ مع الناس؛ فإنها تكون لك نافلة"

(1)

.

وفي حديث أبي ذرٍّ -الذي أخرجه مسلم وغيره- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "كيف أنت إذا كان عليك أمر يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ " قال: فما تأمرني؟ قال: "صلِّ الصلاة لوقتها؛ فإن أدركتها معهم فصلِّها؛ فإنها تكون لك نافلة"

(2)

.

فهذه الأدلة مجتمعة تبيِّن أن هناك جملة من الأحاديث تنهى عن الصلوات في هذه الأوقات، وهناك أدلة تدلُّ على جواز الصلاة فيها؛ فكيف نستطيع أن نوفِّق بين هذه الأدلة؟ فهل نقول: إن هذا ناسخ لهذا، أو نرجح أحدهما إذا أمكن الجمع بين الأدلة؟

والجواب: أن ما أخذ به الشافعية هو الراجح، وهي أيضًا رواية للحنابلة، وإن لم تكن مشهورة، وهي التي أيَّدها كثير من المحققين من

= الثَّانِيَةُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ المَسْجِدَ وَقَدْ صَلَّى، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الجَمَاعَةِ الصَّلَاةَ الَّتِي قَدْ صَلَّاهَا أَمْ لَا؟)، وقد استوفيناها هناك في البحث بفضل الله تعالى.

(1)

أخرجه النسائي (857) وغيره، عن رجل من بني الديل يقال له: بسر بن محجن، عن محجن، أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟ " قال: بلى. ولكني كنت قد صليت في أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت "، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(467).

(2)

أخرجه مسلم (648).

ص: 1133

علماء هذه الأمة، وهي "التفريق بين ما له سبب وما ليس له سبب "؛ فكل صلاة لها سبب؛ تُصلَّى في وقت النهي وفي غيره، أما التطوع في وقت النهي فهذا هو الممنوع.

مثال ما لها سبب: صلاة الجنازة في وقت النهي وفي غيره، ولذلك ورد حديث -وإن كان فيه بعض مقال من العلماء-:"يا علي، ثلاث لا تؤخروهن؛ الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفء"

(1)

، وهذا يدل على أن الجنازة لا تؤخَّر، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في أبواب أُخرى.

وهناك أدلة كثيرة صحيحة ثابتة تؤيد ما ذهب إليه السادة الشافعية وغيرهم، ومنها:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى الركعتين بعد الظهر"

(2)

.

وخلاصة القول: أن كل صلاة لها سبب كتحية المسجد، والصلوات الواجبة المقضية، والفائتة، وكذلك أيضًا صلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وسجدة الشكر، وغيرها من الصلوات التي لها سبب؛ تؤدى في أوقات النهي وفي غيرها، وعند هذا القول تلتقي الأدلة مجتمعة ولا تتعارض في هذا المقال.

ومعنى "ذات سبب": كالفائتة، فسببها: عدم قضائها في وقتها، وصلاة الكسوف؛ لأن الشمس كسفت، أو الخسوف لخسف القمر، وكذلك تحية المسجد؛ فما فُعِلت إلا لسبب دخول المسجد، ومثله تحية الطواف، وهي من المسائل التي حصل فيها خلاف بين العلماء في هذا المقام فيما يتعلَّق بالصلاة في أوقات النهي بمكة، هل هناك فرق بينها وبين غيرها؟ فالشافعية يقولون: الصلاة بمكة تختلف عن غيرها؛ فالتطوع في مكة يجوز في كل وقت من الأوقات، ويستدلون بحديث: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت أو صلَّى أيَّ ساعة من ليل أو نهار

(1)

أخرجه الترمذي (171) وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(5751).

(2)

هو حديث أم سلمة المتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قضى الركعتين بعد الظهر بعد العصر.

ص: 1134

إن شاء"

(1)

، والآخرون يقولون: إن ذلك مخصوص بركعتي الطواف، ولذلك نجد أن ركعتي الطواف يوافق فيها الحنابلة

(2)

الشافعية

(3)

؛ في أن ركعتي الطواف قد تُصلَّى في أوقات النهي، ويختلف الحنابلة عن المالكية مع التقائهم معهم في كثير من أوقات النهي.

إذن قصار القول: إن أوقات النهي الأوقات الخمسة التي وردت في أحاديث صحيحة، ووردت أدلة أُخرى تدل على جواز أداء بعض الصلوات في وقت النهي فكيف نجمع بينها؟

الجمع بينها: أن ما له سبب يؤدى في وقت النهي، وما ليس له سبب عدا صلاة الجنازة تؤدَّى بعد صلاة الصبح، أو بعد صلاة العصر؛ فهذه مسألة مجمع عليها، والفرائض الفائتة، فإنها تصلى فيها؛ إذ نقل ابن المنذر إجماع العلماء

(4)

على أن صلاة الجنازة تؤدى بعد صلاة الصبح إلى ما قبل طلوعها، أو بعد العصر إلى ما قبل غروبها، ولذلك فإن الشافعية يحتجون على الذين يمنعون ذوات الأسباب في أوقات النهي؛ إذ كيف اجتمعتم معنا على أن صلاة الجنازة تؤدى في هذين الوقتين؛ بحجة أن لها سببًا فكذلك تلحق بها غيرها من ذوات الأسباب. فهم بذلك يحتجون بهذا القول على مخالفهم من المالكية والحنفية والحنابلة، وإن كان الحنابلة يوافقونهم في كل شيء إلا عصر يومه.

(1)

أخرجه الترمذي (868) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(481).

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 81) حيث قال: "ويركع للطواف)، يعني: في أوقات النهي ".

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 274) حيث قال: "إذا ثبت تخصيص مكة فقد اختلف أصحابنا في تخصيصها على وجهين؛ أحدهما: وهو قول أبي بكر القفال: إنها مخصوصة بركعتي الطواف، وجواز فعلها في جميع الأوقات دون سائر النوافل والوجه الثاني: وهو أصح، وبه قال أبو إسحاق المروزي، وجمهور أصحابنا إنها مخصوصة بجواز فعل النوافل كلها في الأوقات المنهي عنها لعموم التخصيص ".

(4)

تقدَّم نقله.

ص: 1135

قوله: (قَالُوا: فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِذَا نَسِيَهُ).

يقول الحنفية

(1)

: مَن أدرك مقدار ركعة قبل غروب الشمس؛ فإنه يصلي العصر ولا يصلي الظهر؛ لأنهم لا يرون الجمع، وإنما تعليلهم لذلك أنه جمع صوري، ولا يرون أن مَن أدرك مقدار ركعة قبل طلوع الشمس أن يصلي الصبح، وهم بذلك لا يسقطون عنه صلاة الصبح، لكن يؤخرها إلى ما بعد وقت النهي؛ لأنه لو شرع في صلاة الصبح فصلى ركعة لحقه وقت النهي. وأجاب الجمهور عن ذلك بقولهم: إن النهي ينصرف إلى السنن لا الواجبات، والفرائض المقضية؛ فإنه لا يشملها النهي؛ لأنها مستثناة.

ولأن أبا حنيفة يرى أن عصر اليوم يختلف عن غيره فله مزايا؛ أولًا: صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعد صلاة العصر، ونقل ذلك عن عدد من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وأبو أيوب، وعائشة، وفعل ذلك عمر مع أنه ورد أيضًا نهيه عن ذلك

(2)

.

قوله: (وَاتَّفَقَ مَالِكٌ

(3)

، وَالشَّافِعِيُّ

(4)

أَنَّهُ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةَ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ).

وهناك إشكال يثيره بعض العلماء، وهو ما يأخذ به الشافعية ومَن

(1)

سيأتي في الجمع بين الصلوات.

(2)

تقدَّم تخريج تلك الآثار.

(3)

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 746) حيث قال: "اختلف الناس في قضاء الفوائت المفروضة هل يجوز قضاؤها في سائر الأوقات أو يمتنع في بعض الأوقات؟ فذهب مالك والشافعي إلى إجازة ذلك في سائر الأوقات ".

(4)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 274) حيث قال: "أما تخصيص بعض الصلاة بالنهي فهي صلاة نافلة ابتدأ بها المصلي من غير سبب، "أما ذوات الأسباب من الصلوات المفروضات، والمسنونات فيجوز فعلها في جميع هذه الأوقات كالفائتة، والوتر، وركعتي الفجر، وتحية المسجد، وصلاة الجمعة، والعيدين، والاستسقاء".

ص: 1136

معهم: أن الأحاديث التي ورد فيها النهي عامة وقد خصصت، وقد ذكرنا الأحاديث التي خصصت؛ فلماذا خصصت تلك الأحاديث، ولم يخصص حديث:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "؟

(1)

، وهذا الحديث عامٌّ في الوقت خاصٌّ في الصلاة؛ لأن المقصود هنا: الصلاة غير المفروضة، وهي تحية المسجد؛ فالذين يخالفون الشافعية ومن معهم يقولون: قلتم إن أحاديث النهي التي نهت عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وقتها وقت الطلوع، أو وقت الغروب، أو وقمت الزوال، فاستثنيتم من ذلك هذه وأبقيتموها على عمومها؟

والجواب عن ذلك: أن تلك الأحاديث التي استُثنيت؛ جاءت أحاديث أُخرى خصَّصتها؛ أما حديث: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "، فلم يرد هناك ما يخصصه، ولذلك بقي هذا الحديث على عمومه.

فالأوقات التي تكلمنا عنها هي الأوقات المشهورة عند العلماء بأنها أوقات نهي، لكن هناك أوقات أُخرى هي محل خلاف بين العلماء في أداء النوافل، منها: ما بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ثم وقمت الطلوع إلى أن ترتفع قيد رمح، ثم وقت الزوال، ثم من بعد صلاة العصر إلى الغروب، ثم وقت الغروب، فهذه الأوقات الخمسة.

• مسألة:

ورد عدة أحاديث تبين فضيلة ركعتي الفجر

(2)

؛ ولكن ما بعد الركعتين إلى الصلاة هل للإنسان أن يتزود من النوافل فيها أم لا؟

اختلف العلماء ما بين أداء الركعتين بعد طلوع الفجر إلى البدء

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

منها ما أخرجه مسلم (725) عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".

ص: 1137

بصلاة الفجر

(1)

، وكذلك أيضًا بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة المغرب، وقد اختلف العلماء أيضًا في أداء السنن فيه أو في التنفل فيه هل ذلك مكروه أم لا

(2)

؟ أو أنه لا يجوز أصلًا، أو أن ذلك مستحب، أو أنه جائز؟ ومما اختلف فيه العلماء أيضًا: فيما إذا دخل المصلي والإمام يخطب أيركع ركعتين تحية للمسجد أم لا؟

(3)

، وهناك أيضًا خلاف في صلوات أُخرى بالنسبة لصلاتي العيدين وغيرها من الصلوات الأخرى، فهل يتنفل أم لا

(4)

؟ والصحيح بالنسبة للعيدين: ألَّا يُتنفَّل قبلهما ولا بعدهما في المسجد، وله ذلك في البيت؛ فقد نقل ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسنعرض -إن شاء الله- لبعض المسائل إضافة إلى ذلك؛ لأن القصد من ذلك هو الفائدة.

أوقات النهي خمسة كما مر؛ لذلك فإن السادة الحنفية يرون أن لا تؤدى في هذا الأوقات أيّ صلاة من الصلوات، لا المقضية، ولا المنذورة، ولا السنن ذات الأسباب، ولا غير ذات الأسباب عدا عصر يومه؛ فإن له أن يصلي فيه، ووافقوا أيضًا عامَّة العلماء في موضع الإجماع فيما يخصُّ صلاة الجنازة؛ فإن الجنازة يصلى عليها ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس ومن بعد صلاة العصر إلى غروبها هذا هو مذهب الحنفية.

وقد اتفق مالك

(5)

، والشافعي

(6)

، وكذلك، أحمد

(7)

، والاتفاق من حيث الجملة، لا التفصيل؛ فللمالكية -من حيث الجملة- عدة روايات؛

(1)

سيأتي.

(2)

سيأتي.

(3)

سيأتي.

(4)

سيأتي.

(5)

سيأتي.

(6)

سيأتي.

(7)

سيأتي.

ص: 1138

حيث يرون قضاء الفوائت في أيِّ وقمت من الأوقات

(1)

، ويرون كذلك أن الجنازة يصلى عليها بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر

(2)

، وكذلك الحنابلة أيضًا يتفقون مع عامَّة العلماء في الصلاة على الجنازة في وقتي ما بعد صلاة الصبح إلى ما قبل الطلوع، ومن بعد صلاة العصر إلى الغروب، ويذهب الحنابلة أيضًا إلى أن الصلاة المنذورة تؤدى في أوقات النهي

(3)

، وركعتي الطواف تؤدى في أيِّ وقت

(4)

؛ ويرون أن ركعتي الظهر تقضى أيضًا بعد صلاة العصر

(5)

؛ لأن ذلك صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهم أيضًا عدة آراء في مسائل أُخرى، لكن المذهب لم يلقَ اتفاقًا عليها.

قوله: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ

(6)

إِلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ هِيَ النَّوَافِلُ فَقَط الَّتِي تُفْعَلُ لِغَيْرِ سَبَبٍ، وَأَنَّ السُّنَنَ مِثْلُ صَلَاةِ الجِنَازَةِ تَجُوزُ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ، وَوَافَقَهُ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ بَعْدَ العَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ، أَعْنِي: فِي السُّنَنِ، وَخَالَفَهُ فِي الَّتِي تُفْعَلُ لِسَبَبٍ)

(7)

.

قسَّم الشافعية الصلوات بالنسبة إلى أوقات النهي قسمين:

1 -

ماله سبب.

2 -

وما ليس له سبب.

(1)

سيأتي.

(2)

سيأتي.

(3)

سيأتي.

(4)

سيأتي.

(5)

سيأتي.

(6)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 274) حيث قال: "أما تخصيص بعض الصلاة بالنهي فهي صلاة نافلة ابتدأ بها المصلي من غير سبب، فأما ذوات الأسباب من الصلوات المفروضات، والمسنونات فيجوز فعلها في جميع هذه الأوقات كالفائتة، والوتر، وركعتي الفجر، وتحية المسجد، وصلاة الجمعة، والعيدين، والاستسقاء".

(7)

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 1168) حيث قال: "استثنى مالك في المدونة ما بعد العصر إذا اصفرت الشمس إلى أن تغرب وما بعد الصبح إلى أن تطلع ".

ص: 1139

فالصلاة ذات السبب تؤدى في هذه الأوقات، والصلاة التي ليست لها سبب لا تؤدى في هذه الأوقات عمومًا وهي النوافل.

ووافقه مالك، وأحمد

(1)

، وللإمام أحمد رواية

(2)

وإن لم تكن مشهورة في المذهب يلتقي فيها مع الشافعية فيما ذهبوا إليه.

لماذا أجمع العلماء على أن صلاة الجنازة يصلى عليها في وقتي نهي عنهم، من بعد صلاة الصبح إلى ما قبل طلوع الشمس، ومن بعد صلاة العصر إلى ما قبل غروبها؟ ولماذا منع غير الشافعية ذلك في الأوقات الأخرى التي هي وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ووقت الزوال؟

الجواب: أن هناك دليلان عقليان.

الأول: أن ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس؛ وقت طويل، ومثله من بعد صلاة العصر إلى غروبها؛ ولذلك قال النبي: "يا علي، ثلاث لا تؤخروهن

"، وذكر منها الجنازة

(3)

؛ فبين هذين الوقتين إذًا طولٌ، وقد يضرُّ ذلك بالجنازة.

الثاني: أن النهي الوارد في حديث عقبة بن عامر الجهني؛ أقوى من النهي الوارد في الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، وذلك لأن النهي لهذين الوقتين متعلق بفعل الصلاة التي هي صلاة الفجر، وصلاة العصر، أما

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 258) حيث قال: " (حتى ما له سبب) من التطوع (كسجود تلاوة) في غير صلاة شكر (وصلاة كسوف وقضاء) سنة (راتبة وتحية مسجد) وعقب الوضوء والاستخارة، لعموم ما سبق (إلا) تحية مسجد دخل (حال خطبة جمعة مطلقًا).

(2)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 207) حيث قال: "فأما الذي لا سبب له وهو التطوع المطلق فجزم المصنف هنا: أنه لا يجوز فعله في شيء منها وهو المذهب بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم، وقيل: يجوز".

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1140

الأوقات الأخرى الثلاثة؛ فمتعلق بالزمن وهو قوله: "ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا

"

(1)

.

فلو أُخِّرت صلاة الصبح؛ فإن النوافل تؤدى قبلها مهما أُخِّرت، كذلك صلاة العصر على خلاف بين الحنابلة والشافعية؛ فالشافعية يأخذون قولًا واحدًا، وللحنابلة روايتان؛ لكنهم يسلمون مع الشافعية بالنسبة للعصر فالوقتان مرتبطان بالصلاة.

• قوله: (مِثْلَ رَكْعَتَيِ المَسْجِدِ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُجِيزُ هَاتَيْنِ الرَّكعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَاحتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي جَوَازِ السُّنَنِ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالغُرُوبِ).

أي: وخالف الإمام مالك في صلاة النوافل بعد الفجر وبعد العصر، ومثال ذلك: لو أن إنسانًا فاتته ركعتَا الفجر فهل يصليهما بعد صلاة الفجر؟ أجاز ذلك الشافعية، أما الحنابلة فلهم روايتان، والرواية المشهورة: أنه يؤخرها إلى ما بعد طلوع الشمس

(2)

.

• قوله: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ: "هِيَ مَا عَدَا الفَرْضَ"، وَلَمْ يُفَرِّقْ سُنَّةً مِنْ نَفْلٍ)

(3)

.

مذهب الإمام رحمه الله، وإن لم يكن متفقًا مع الحنفية إلا أنه قريب منهم؛ حيث يرى أن المخصوص في أوقات النهي، إنما هي الصلوات المفروضة فقط، أما ما عدا ذلك من السنن، والواجبات كالصلاة المنذورة؛ فلا تقضى.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم الكلام عن ذلك.

(3)

لم أقف عليه، ونقل الطحاوي في "مختصر اختلاف العلماء" (1/ 24) عنه قال:"وقال الثوري يؤخر السجدة بعد الفجر وبعد العصر، فأما الطواف والجنازة فلا بأس بذلك ما دامت في وقت".

ص: 1141

• قوله: (فَيَتَحَصَّلُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ هِيَ الصَّلَوَاتُ بِإِطْلَاقٍ، وَقَوْلٌ: إِنَّهَا مَا عَدَا المَفْرُوضَ سَوَاءٌ أكَانَتْ سُنَّةً أَوْ نَفْلًا، وَقَوْلٌ: إِنَّهَا النَّفْلُ دُونَ السُّنَنِ).

يختصر المؤلف ما سبق إلى ثلاثة أقوال:

الأول: هي الصلوات بإطلاق فلا تؤدى، وليست حقيقة على إطلاق تام؛ لأن الحنفية استثنوا صلاة العصر قبل الغروب، واستثنوا أيضًا صلاة الجنازة في وقتي النهي، ولكن المؤلف أراد أن يعمم وربما ما وقف على ذلك.

الثاني: ما عدا الفروض سواء كانت سنة أو نفلًا.

الثالث: إنها النفل دون السنن، وهذا هو مذهب الشافعية، وهي الرواية الأخرى التي وافقهم عليها الحنابلة.

• قوله: (وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي مَنَعَ مَالِكٌ فِيهَا صَلَاةَ الجَنَائِزِ عِنْدَ الغُرُوبِ قَوْلٌ رَابعٌ، وَهُوَ أَنَّهَا النَّفْلُ فَقَطْ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالعَصْرِ وَالنَّفْلُ وَالسُّنَنُ مَعًا عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالغُرُوبِ)

(1)

.

وذكر المؤلف قولًا رابعًا: وهو أداء النفل فقط بعد صلاة الصبح، وصلاة العصر، والمؤلف أحيانًا يدخل في التفريعات بالنسبة لمذهب المالكية؛ لأن معرفته بمذهب المالكية أكثر من غيره، ولذلك يدخل في بعض التفصيلات أو الجزئيات، ولو أردنا أن نتتبع الأقوال أو الروايات في المذاهب؛ لطال بنا المقام، ولكن نحاول أن نأتي بالآراء المشهورة، والظاهرة، والراجحة في المذاهب.

• قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ، أَعْنِي: الوَارِدَةَ فِي السُّنَّةِ، وَأَيّ يُخَصُّ بِأَيٍّ؟).

أي: أن هذه الأحاديث التي وردت منها ما فيه عموم، ومنها ما فيه

(1)

لم أقف عليه في كتب المالكية.

ص: 1142

خصوص، وقد يكون الحديث الواحد عام من جانب، وخاص من جانب آخر، وذلك كحديث:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"

(1)

، فهذا عام في الوقت خاص في تحية المسجد.

وكذلك حديث: "مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها، فإنه لا كفارة لها إلا ذلك"

(2)

، فهذا عام في الأوقات؛ خاص بالنسبة للصلاة المقضية؛ ففيه عموم من جانب، وخصوص من جانب آخر.

وكذلك حديث: "لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس"

(3)

، فهذا فيه عموم بالنسبة لجنس الصلوات، وهذا الذي يريد أن يبحثه المؤلف.

وكما هو معلوم أن من مباحث الأصول المعروفة: العام والخاص

(4)

، والمطلق المقيد

(5)

، وقد يأتي مثلًا أسلوب عام فيدخله التخصيص، والمراد به: قصر العام على بعض أفراده، كأن يأتي دليل عام يشتمل على عدة أفراد؛ فيأتي دليل آخر فيخصصه فيقصره على بعض أفراده.

• قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكرَهَا"، يَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ جَمِيعِ الأوْقَات"

(6)

).

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

"العامُّ" هو ما عم شيئين فصاعدًا، من قوله: عممت زيدًا وعمرًا بالعطاء، وعممت جميع الناس بالعطاء، والخاصُّ يقابله في المعنى. يُنظر:"الورقات" للجويني (ص 16).

(5)

"المطلق" هو التناول لواحد لا بعينه باعتباره حقيقة شاملة لجنسه، و"المقيد" هو المتناول لمعين أو لغير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه كقوله تعالى:{وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . يُنظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (ص 260).

(6)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1143

فالحديث الذي ذكره المؤلف صريح في أن مَن نسي صلاة، أو نام عنها" فإنه يؤديها، وإن وقتها هو وقت تذكره لها، أو استيقاظه من نومه؛ إلا إذا وُجِد مانع يمنعه، أو أن ينشغل بطهارة، أو غيرها فهذا يعتبر من مقدمات الصلاة.

ولا شكَّ أن هذا الحديث، يقتضي استغراق جميع الأوقات:"مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكر؛ فإنه لا كفارة له إلا ذلك"

(1)

، وورد في بعض الروايات:"فإن ذلك وقتها لا وقت لها غيره"، فهذا عام في الأوقات، ولم يخصَّ ذلك بوقت من الأوقات، وإنما أطلق ذلك، ولا شكَّ أن ذلك خاص فيمن نام عن صلاة أو نسيها.

• قوله: (وَقَوْلُهُ فِي أَحَادِيثِ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا"

(2)

، يَقْتَضِي أَيْضًا عُمُومَ أَجْنَاسِ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَاتِ وَالسُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ، فَمَتَى حَمَلْنَا الحَدِيثَيْنِ عَلَى العُمُومِ فِي ذَلِكَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّعَارُضِ الَّذِي يَقَعُ بَيْنَ العَامِّ وَالخَاصِّ، إِمَّا فِي الزَّمَان، وَإِمَّا فِي اسْمِ الصَّلَاةِ).

أتى المؤلف بمجموع من الأحاديث يبين معنى العموم والخصوص فيها، فمن الأحاديث في ذلك قوله:"لا صلاة بعد صلاة الصبح، حتى ترتفع الشمس، أو حتى تشرق الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس"، وفي بعضها:"حتى تغيب الشمس"

(3)

، وغير ذلك من الأدلة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها؛ كحديث عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وغيره.

فأشار بذلك إلى: حديث ينهى عن الصلاة في هذه الأوقات، ولا يوجد حديث واحد ينهى عن الصلوات في هذا الأوقات؛ لكن

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1144

بمجموع الأدلة، فهناك من نهى عن الصلاة بعد الفجر، وبعد العصر، وهناك حديث عقبه نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، لكن كلها تلتقي حول النهي.

أما الحديث الآخر: "مَن نام عن صلاة أو نسيها

" فلو تُرك هذين الحديثين على إطلاقهما، وعمومهما، لوُجِد تعارض بينهما، إذ يدل قوله: "مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكر"، أي: يصلهما سواء كان ذلك في وقت نهي، أو غيره، والأحاديث الأخرى تنهى عن الصلوات في أوقات النهي فظاهر ذلك التعارض، ولذلك قال المؤلف بعدها: (وَقَعَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّعَارُضِ

).

فالأحاديث السابقة ظاهرها التعارض، إما في الزمان كحديث عقبة في النهي عن الأوقات الثلاثة، أو إما في جنس الصلاة، وهو قوله: "لا صلاة بعد صلاة الصبح

"، فهذا يعم جميع الصلوات في هذين الوقتين.

• قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الزَّمَانِ، أَعْنِي: اسْتِثْنَاءَ الخَاصِّ مِنَ العَامِّ مَنَعَ الصَّلَوَاتِ بِإِطْلَاقٍ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ

(1)

، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى اسْتِثْنَاءِ الصَّلَاةِ المَفْرُوضَةِ المَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِالقَضَاءِ مِنْ عُمُومِ اسْمِ الصَّلَاةِ المَنْهِيِّ عَنْهَا مَنَعَ مَا عَدَا الفَرْضَ فِي تِلْكَ الأَوْقَاتِ)

(2)

.

أي: فمن استثنى الزمان؛ منع الصلوات كلها في هذه الأوقات إلا الذي جاء الإجماع عليه، ثم يختلفون أيضًا في تخصيص ذلك، فبعضهم يمنع مطلقًا كما عند الحنفية، وبعضهم يخصص بعض ما ورد في الأحاديث.

ومَن استثنى الصلاة المفروضة المنصوص عليها في الحديث بالقضاء، منع ما عدا الصلاة المفروضة في تلك الأوقات.

(1)

وهم الحنفية.

(2)

وهم المالكية.

ص: 1145

ويشير المؤلف إلى مذهب الإمام مالك في هذه المسألة

(1)

؛ فهو الذي خص الفرائض بالقضاء، ومثله الثوري؛ لكن مالكًا له استثناءات أُخرى من أدلة أخرى.

• قوله: (وَقَدْ رَجَّحَ مَالِكٌ مَذْهَبَهُ مِنِ اسْتِثْنَاء الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ مِنْ عُمُومِ لَفْظِ الصَّلَاةِ بِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ")

(2)

.

استثنى الإمام مالك من ذلك الصلوات المفروضة؛ إذ هناك أحاديث تنهى عن الصلاة في أوقات النهي، وأما حديث:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها"

(3)

، فقد خصصه مالك بالفوائت الفرضية التي يراد قضاؤها، وقوى استدلال المالكية إلى ما ذهبوا إليه بحديث آخر:"من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس، أو قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر"

(4)

، وفي بعض الأحاديث:"مَن أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر"

(5)

، وهو عكس الأول، وكلها أحاديث صحيحة وثابتة.

• قوله: (وَلذَلِكَ اسْتَثْنَى الكُوفِيُّونَ

(6)

عَصْرَ اليَوْمِ مِنَ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ).

المراد بالكوفيين هنا ليس الحنفية وحدهم؛ بل يراد غيرهم معهم؛ لكن المشهور أنهم الحنفية، فأحيانًا يطلق مصطلح الكوفيين، ويقصد به أوسع من الأحناف، وأحيانًا يطلق عليهم: أهل الرأي؛ لأنهم اشتهروا

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

تقدَّم.

ص: 1146

بمدرسة الرأي، وليس معنى هذا أن كل فقه أبي حنيفة قائم على الرأي، لكن اشتهرت هذه المدرسة بمدرسة الرأي، ومنذ أن بدأت المدارس كان هناك مدرستان: مدرسة الحديث في الحجاز، ومدرسة الرأي في العراق، وكلها تنهل من معين بعض الصحابة بواسطة التابعين، لكن تغير الحال؛ فلم تظل العراق مدرسة الرأي؛ إذ ظهر فيه أكابر العلماء، وانتقل إليها العلماء وتجمعوا فيها أمثال: الإمام الشافعي فقد ظل بها فترة، وكذلك الإمام أحمد الذي بقي فيها، والثوري، وإسحاق بن راهويه، وابن المبارك، وغيرهم؛ فلذلك أصبحت هذه المدرسة - إلى جانب كونها تُعرف بمدرسة الرأي - بها علماء من مدرسة الحديث.

• قوله: (لَكِنْ قَدْ كانَ يجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَيْضًا؛ لِلنَّصِّ الوَارِدِ فِيهَا، وَلَا يَرُدُّوا ذَلِكَ بِرَأْيِهِمْ مِنْ أَنَّ المُدْرِكَ لِرَكعَةٍ قَبْلَ الطُّلُوعِ يَخْرُجُ لِلْوَقْتِ المَحْظُور).

يعقب المؤلِّف على ما ذهب إليه السادة الحنفية؛ حيث استثنوا من ذلك وقتًا واحدًا هو أداء صلاة العصر، أي: قضاء العصر الفائت، والتي تأخر وقتها قبل غروب الشمس بمقدار ركعة. فلماذا فرقوا بين ما قبل الغروب، وما قبل طلوع الشمس؟

أجاب الحنفية على ذلك بقولهم: إذا بدأ المصلي في صلاة العصر قبل غروب الشمس بركعة؛ سينتقل إلى وقت غير منهي عنه، وهو وقت المغرب، أما لو بدأ في صلاة الصبح؛ سينتقل إلى وقت النهي وهو طلوع الشمس فيمنع.

ورد عليهم جماهير العلماء، - ومنهم الأئمة الثلاثة - بأن دعواهم هذه غير مسلمة؛ لأن ذلك خاص بالسنن، والنوافل ولا تدخل في تلك الفرائض؛ فإنها تصلى في كل وقت، وذلك عند المالكية، والحنابلة.

• قوله: (وَالمُدْرِكَ لِرَكعَةٍ قَبْلَ الغُرُوبِ يَخْرُجُ لِلْوَقْتِ المُبَاحِ. وَأَمَّا الكُوفِيّونَ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذَا الحَدِيثَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ

ص: 1147

الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ مِنْ عُمُومِ اسْمِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِهَا فِي تِلْكَ الأيَّامِ؛ لِأنَّ عَصْرَ اليَوْمِ لَيْسَ فِي مَعْنَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ).

قال الحنفية: هذا الحديث ليس نصًّا في استثناء الفرائض، وإن قوله:"مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها"

(1)

، قول مطلق يدخل في ذلك الوتر، وركعة الفجر، ونحو ذلك من النوافل.

• قوله: (وَكَذَلِكَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الصُّبْحِ لَوْ سَلَّمُوا أَنَّهُ يُقْضَى فِي الوَقْتِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِذًا الخِلَافُ بَيْنَهُمْ آيِلٌ إِلَى أَنَّ المُسْتَثْنَى الَّذِي وَرَدَ بِهِ اللَّفْظُ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ؟ أَمْ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ؟ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَأَى أَنَّ المَفْهُومَ مِنْ ذَلِكَ هِيَ صَلَاةُ العَصْرِ وَالصُّبْحِ فَقَطِ المَنْصُوصُ عَلَيْهِمَا، فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الخَاصُّ).

قولهم: خاصٌّ أريد به الخاص، أي: الفوائت التي أريد بها الفرائض، ومنهم من قال: هو خاص يشمل أكثر من الفرائض؛ فيدخل فيه النوافل كما هو مذهب الشافعية.

وقصد بصلاة العصر والصبح المنصوص عليهما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر؛ حتى تطلع الشمس"

(2)

.

• قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ المَفْهُومَ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ صَلَاةَ العَصْرِ فَقَطْ، وَلَا الصُّبْحِ بَلْ هِيَ جَمِيعُ الصَّلَاةِ المَفْرُوضَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ العَامُّ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ هَاهُنَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1148

عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةَ هِيَ المُسْتَثْنَاةُ مِنِ اسْمِ الصَّلَاةِ الفَائِتَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا دَلِيلٌ أَصْلًا لَا قَاطِعٌ وَلَا غَيْرُ قَاطِعٍ).

نعارض ما ذهب إليه المؤلف؛ وذلك لأن الرسول ذكر الحديث بعلته في قوله: "مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك"، ومعنى الحديث يدل على أن هناك تقصير لا يُلام عليه الإنسان، لقوله سبحانه وتعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وورد في الحديث الصحيح:"إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه"

(1)

؛ فالمخطئ والناسي والمكرَه - والمراد بالمكره هنا: الملجأ

(2)

، وليس غير الملجأ

(3)

- لهم أحكام تخصهم قد بحثها العلماء، وخاصة في مباحث الأصول والقواعد الفقهية، ودقَّقوا فيها وساقوا أمثلتها وفصلوا القول فيها.

• قوله: (عَلَى اسْتثْنَاءِ الزَّمَانِ الخَاصِّ الوَارِدِ فِي أَحَادِيثِ النَّهْيِ مِنَ الزَّمَانِ العَامِّ الوَارِدِ فِي أَحَادِيثِ الأمْرِ دُونَ اسْتِثْنَاءِ الصَّلَاةِ الخَاصَّةِ المَنْطُوقِ بِهَا فِي أَحَادِيثِ الأمْرِ مِنَ الصَّلَاةِ العَامَّةِ المَنْطُوقِ بِهَا فِي أَحَادِيتِ النَّهْيِ، وهذا بَيِّنٌ).

هذا في مفهوم المؤلف على أنه ليس هناك استثناء، والأمر على خلاف ذلك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى

(1)

أخرجه ابن ماجه (2045) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1731).

(2)

ويسمى الإكراه التام: وهو ما فيه تلف نفس، أو عضو، أو ضرب مبرح. انظر:"مجلة الأحكام العدلية"(ص: 185)، و"حاشية ابن عابدين"(6513).

(3)

ويسمى الإكراه غير الملجئ: وهو الذي يوجب الغم والألم فقط كالضرب غير المبرح والحبس غير المديد. انظر: "مجلة الأحكام العدلية"(ص: 185)، و"حاشية ابن عابدين"(3/ 651).

ص: 1149

يصلي ركعتين"

(1)

، وهي تحية المسجد، ومثلها في الكسوف:"إذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة"

(2)

.

وكذلك رأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم "قضى الركعتين التي بعد الظهر بعد العصر"

(3)

، إذن قد وردت نصوص صريحة صحيحة في هذا المقام متنوعة فهذه نستثنيها من تلكم الأدلة العامة على خلاف ما ذهب إليه المؤلف.

وقصد بأحاديث الأمر كحديث: "مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها

"

(4)

، فهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وكذلك أحاديث النهي كحديث نهي النبي عن الصلاة بعد صلاة الصبح، وعن الصلاة بعد صلاة العصر، في قوله:"لا صلاة بعد صلاة العصر، حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر، حتى تطلع الشمس".

• قوله: (فَإِنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ حَدِيثَان فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ وَخَاصٌّ لَمْ يجِبْ أَنْ يُصَارَ إِلَى تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، أَعْنِي: اسْتِثْنَاءَ خَاصِّ هَذَا مِنْ عَامِّ ذَاكَ، أَوْ خَاصِّ ذَاكَ مِنْ عَامِّ هَذَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(5)

).

لم يستوعب المؤلف الأدلة في المسألة، ولا شكَّ أن جهوده طيبة في هذا الكتاب ومعروف أن له مزايا قد لا نجدها في غيره، لكنه في الجانب

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

الأصل في كل شريعة ثبوتها على الإطلاق والعموم وبقاؤها إلى أن يوجد المخصص فلا يثبت والتقييد بالاحتمال بل يحتاج إلى دليل. فإذا وجد نصان متنافيان أحدهما عام والآخر خاص، فإما أن يعلم تاريخهما أولًا، فإن علم فإما أن يعلم تأخر أحدهما على الآخر أو تقاربهما، فإن علم المتأخر فإما أن يتأخر عن وقت العمل أم لا.

يُنظر: "كشف الأسرار" لعلاء الدين البخاري (2393)، و"تشنيف المسامع" للزركشي (2/ 807).

ص: 1150

الحديث - وهي كلمة حق - وليس هذا تنقُّص في قدر الكتاب؛ فمعلوم أن أيَّ كتاب من الكتب مهما بلغ الغاية، فإنه تنقصه بعض القضايا، إذ الكمال غاية لا تدرك؛ فكتاب:"فتح الباري بشرح صحيح البخاري "لابن حجر - مثلًا - كتاب جليل القدر، لكننا نقول: إن هناك بعض القضايا العلمية أيضًا فاقه فيها الإمام العيني كمباحث اللغة، وبعض المباحث الفقهية، فليس معنى هذا أننا نريد أن نجري موازنة دقيقة فاحصة تقوم على البسط والإيضاح، ولو أصدرنا حكمًا على الخصوص لقلنا: إن كتاب "عمدة القارئ للعيني" يقدَّم على كتاب "فتح الباري"، أما إن أصدرنا حكمًا عامًّا لقلنا: إن "فتح الباري" هو المقدم، وهكذا، ولو أننا جدلًا أردنا أن ندرس "صحيح مسلم بشرح النووي" دراسة فاحصة دقيقة؛ لوجدنا أن النووي بدأ بالتوسُّع في أول شرحه؛ لأنه تأثر بالقاضي عياض؛ لأن القاضي عياض سبقه في شرح مسلم. فهل معنى هذا أن النووي قلَّ علمه؟ ولذلك أيضًا ردَّ الانتقال الذي أخرجه ابن حجر بعد أن جاء العيني وأخرج الكتاب، وقد وُلِد قبله، وتوفي بعد ابن حجر وكانا قديمًا يعيشان في عصر واحد، ويعرفان بعضهما، وبينهما نسب.

والشاهد: أن ابن حجر قد أثيرت حوله قضايا كان يُشير إليها العيني من شرح البخاري، وردَّ ابن حجر على كثير منها في كتاب:"انتقاض الاعتراض" لكن هناك بعض القضايا لم يرد عليها، وذلك لربما لم يستطع أن يتم الكتاب، إذ وافته المنية.

والواقع أن هناك قضايا على طالب العلم أن يدرسها دراسة فاحصة، ليجد أن العيني قد أصاب فيها، لكن هل معنى هذا أن هذه الموازنة تجعلنا نقول: إن هذا يوجد فيه بعض المزايا التي يمتاز بها على ذاك؟ لا، وكذلك أيضًا هل نقول: إن ابن حجر عندما جاء ووضع كتابه: "فتح الباري"، وأخذ هذا العنوان من ابن رجب الحنبلي قبله الذي بدأ بشرح صحيح البخاري وسماه:"فتح الباري" هل ينقص من قدر الكتاب، لأنه أخذ اسم الكتاب من غيره؟ لا.

ص: 1151

إن ابن رجب قد بدأ في شرح الكتاب وهو في الناحية الحديثية يمتاز على ابن حجر، لكن ابن حجر نوَّع المعلومات؛ فتجد أنه يعنى في كتابه:"فتح الباري" بأسماء الرجال، وكذلك القضايا اللغوية، والفقهية، والبلاغية، والأصولية، وفيما يتعلَّق أيضًا بالتفسير، والقضايا التاريخية، ولو جُمعت لربما جمع منها مجلدات.

وعلى ما سبق أريد أن أقول: إن أيَّ كتاب من الكتب له ما له وعليه ما عليه، فلو أخذنا مثلًا كتاب:"المغني" لابن قدامة، وهو من أنفع الكتب، وأجلها، هل نقول: إنه جمع كل مسائل الفقه؟ لا وكذلك أيضًا: "المجموع" للنووى.

فهذه الكتب قد حوت أهم مسائل الفقه، والمسائل التي فأتت المؤلف فيها قليلة وربما قصدوا ذلك حيث أرادوا أن ينتقوا مسائلهم، ولذلك نجد أن الكتب تتفاوت" إذ لو كل ما في هذا الكتاب موجود في الآخر، لقصر على البعض دون غيره، ومن الحكمة أن يقرأ الإنسان هنا وهناك، ويوازن، ويجمع إلى غير ذلك.

• مسألة: ما يتعلَّق بوقت صلاة الفجر:

إنما يثبت بطلوع الفجر الصادق، إذ قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث تبين فضيلة الركعتين قبل صلاة الصبح، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم هي خير لكم من حمر النعم

(1)

ألا وهما الركعتان قبل الفجر"

(2)

، وكان من أجل النعم عند العرب "الإبل"، إذ كانت لها مكانة عظيمة، ولذلك كان يكثر ضرب الأمثلة بها، كما فعل

(1)

"حمر النعم": حُمْر بتسكين الميم جمع أحمر، والنعم واحد الأنعام وهي البهائم، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والإبل الحمر أعز أموال العرب فأخبر أنها خير من الأموال النفيسة. انظر:"طلبة الطلبة" للنسفي (ص: 11).

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 469) وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(1141).

ص: 1152

الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل عليًّا إلى خيبر وقال له: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا؛ خير لك من حمر النعم"

(1)

، ومن العلماء مَن يستحب أن تصلى ركعتا الفجر في البيت؛ لثبوته عن الرسول صلى الله عليه وسلم

(2)

، وادعي أن ذلك متعين وواجب، وهذا غير صحيح؛ لأن أصل السنة غير واجب.

فهل يُتنفَّل بعد هاتين الركعتين إلى صلاة الفجر؟

الجواب: اختلف العلماء في ذلك؛ فذهب الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

إلى المنع.

وللشافعية روايتان؛ راوية

(5)

يستحبون فيها التنفل، ورواية يرون أن ذلك جائز، وهذا أيضًا مروي عن الحنابلة

(6)

.

وسبب الخلاف يدور حول حديث عبد الله بن عمر الذي ورد فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد الفجر إلا الركعتين قبل صلاة الصبح"

(7)

،

(1)

أخرجه البخاري (2942).

(2)

أخرجه البخاري (6310)، ومسلم (736) عن عائشة رضي الله عنها:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يجيء المؤذن فيؤذنه".

(3)

يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (1/ 239) حيث قال: "ويكره أن يتنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر".

(4)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (1/ 238) حيث قال: "وسئل عن الرجل يركع ركعتي الفجر في منزله، ثم يأتي المسجد، أترى أن يركعهما؟ قال مالك: كل ذلك قد رأيت من يفعله، فأما أنا فأحب إليَّ أن يقعد ولا يركع".

(5)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 175) حيث قال: "وهل يكره التنفل لمن صلى ركعتي الفجر؟ فيه وجهان: أحدهما: يكره

والثاني: لا يكره".

(6)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 446) حيث قال: "ولا يسجد في الأوقات التي لا يجوز أن يصلي فيها تطوعًا، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عمن قرأ سجود القرآن بعد الفجر وبعد العصر، أيسجد؟ قال: لا

وعن أحمد رواية أُخرى، أنه يسجد".

(7)

أخرجه أبو داود (1159) عن يسار، مولى ابن عمر، قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي، بعد طلوع الفجر، فقال: يا يسار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن =

ص: 1153

لكن هذا حديث ضعيف لا يتمسك به، وتمسك الآخرون بعموم الأدلة المبيحة للصلاة.

• مسألة: ما يتعلَّق بصلاة المغرب:

مر أن صلاة العصر تنتهي إلى ما بين المثل إلى المثليين على رأي، أو إلى الاصفرار في رأي آخر، وهذا الذي رجحناه وأن ما بعد ذلك هو وقت لأهل الأعذار، ولو أن إنسانًا أدرك ركعة قبل غروب الشمس؛ فإنه يكون قد أدرك صلاة العصر، لكنه أثِمَ بتأخيرها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذَّر من تأخير صلاة العصر بقوله:"ومَن فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله"

(1)

، وفي رواية:"مَن فاتته صلاة العصر حبط عمله"

(2)

، لكن بعد أذان المغرب إلى الإقامة هل هناك وقت تصلى فيه صلاة النافلة أم لا؟

الجواب: ذهب المالكية

(3)

، والحنفية

(4)

إلى المنع على اختلاف بينهم في كراهية النهي أو حرمته، وللشافعية

(5)

روايتان في ذلك: رواية استحباب، ورواية جواز، ويرى الحنابلة

(6)

أن ذلك جائز.

وسبب الخلاف: اختلاف الأدلة في ذلك؛ فاستدل المانعون: أنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حضَّ على المبادرة في صلاة المغرب وقال: "لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم"

(7)

،

= نصلي هذه الصلاة، فقال:"ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين" وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(478).

(1)

أخرجه البخاري (552)، ومسلم (626).

(2)

أخرجه البخاري (553).

(3)

أخرجه البخاري (553).

(4)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 32) حيث قال: "ويكره أن يتنقل بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر ولا يتنقل قبل المغرب".

(5)

أخرجه البخاري (553).

(6)

أخرجه البخاري (553).

(7)

أخرجه أبو داود (418) عن مرثد بن عبد الله، قال: لما قدم علينا أبو أيوب غازيًا =

ص: 1154

واستدلوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصليها إذا غابت الشمس

(1)

، أي: بعد الغروب مباشرة، فوجه الدلالة: أن هذه المبادرة تدلُّ على أنه لا نافلة في هذا المقام وهذا الوقت.

واستدلَّ المجيزون للنافلة بحديث أنس: "أنهم كانوا يفعلون ذلك على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(2)

، وكذلك حديث عبد الله بن المغفل:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين"

(3)

، وفي رواية أُخرى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم "أمر بصلاة ركعتين قبل المغرب"

(4)

.

• مسألة: فيما يتعلَّق بدخول المصلي يوم الجمعة والإمام يخطب:

اختلف أقوال الفقهاء في ذلك:

فذهب السادة الحنفية

(5)

، والمالكية

(6)

إلى المنع. واستدلوا بما ورد

= وعقبة بن عامر يومئذ على مصر فأخر المغرب فقام إليه أبو أيوب، فقال: له ما هذه الصلاة يا عقبة، فقال: شغلنا، قال: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال أمتي بخير، - أو قال: على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم". وقال الألباني في "صحيح أبي داود"(الأم)(445): "إسناده حسن صحيح".

(1)

أخرجه مسلم (613) عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له:"صل معنا هذين" -يعني: اليومين - فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذن، ثم أمره، فأقام الظهر، ثم أمره، فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس

الحديث".

(2)

أخرجه البخاري (625)، ومسلم (837) عن أنس بن مالك، قال:"كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك، يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء".

(3)

أخرجه ابن حبان (42614)، وذكره الألباني في "السلسلة الضعيفة"(5662)، وقال:"شاذ".

(4)

أخرجه البخاري (1183) عن عبد الله المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صلوا قبل صلاة المغرب"، قال:"في الثالثة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة".

(5)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 167) حيث قال: "إذا خرج الإمام فلا صلاة، ولا كلام".

(6)

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 1009) حيث قال: "أما الشروع في تحية المسجد فإنه يمنع عندنا إذا خرج الإِمام".

ص: 1155

عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قال الإنسان لصاحبه: أنصت فقد لغى"

(1)

، أي: لا جمعة له؛ فلذلك قالوا بعدم الصلاة.

بينما ذهب الحنابلة

(2)

، والشافعية

(3)

إلى جواز صلاتها، واستدلوا على ذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"

(4)

، وبحديث سُلَيْك الغطفاني، عندما جاء فجلس فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم وأن يركع ركعتين

(5)

، وفي حديث آخر:"إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة؛ فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما"

(6)

.

• مسألة: فيما يتعلَّق بالصلاة عامة:

تلكم الممهدات والمقدمات التي عرضنا لها إنما تدل على أهمية الصلاة، فهي الركن الثاني بعد الشهادتين وكان من آخر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى:"الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"

(7)

، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يفزع إلى الصلاة، ويقول: أرحنا بها

(1)

أخرجه مسلم (851) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغيت".

(2)

يُنظر: "البيان" للعمراني (2/ 595) حيث قال: " (ولا ينقطع التنفل، ولا الكلام قبل خروج الإمام بالإجماع، فإذا خرج الإمام لم ينقطع التنفل عندنا".

(3)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 236) حيث قال: " (ومن دخل والإمام يخطب، لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما) ".

(4)

أخرجه البخاري (444)، ومسلم (714) عن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس".

(5)

أخرجه مسلم (875) عن عن جابر بن عبد الله، قال: جاء سُلَيك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له:"يا سليك قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما"، ثم قال:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما".

(6)

هو تتمة حديث سليك السابق في مسلم.

(7)

أخرجه ابن ماجه (697)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2178).

ص: 1156

يا بلال"

(1)

، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم، - بل المسلمون الذين جاؤوا من بعدهم - من أول أعمالهم عندما يفتحون مصرًا، أو ينزلون بلدًا؛ يخططون لإقامة المسجد.

ولقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول أعماله أن بنى المسجد في المدينة الطاهرة، وكذلك نجد أنه صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء، وقال أيضًا:"مَن بنى لله مسجدًا، ولو كمفْحَص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة"

(2)

، وما أعظم أن تقام الصلوات في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولقد كانت المساجد ملتقًى للمسلمين. وفي أبواب صلاة الجماعة - إن شاء الله - سنبين ما في صلاة الجماعة من أحكام، وما فيها من فوائد تؤدي إلى جمع كلمة المسلمين، والتفاف صفوفهم، وانتظامهم، وخضوعهم لله سبحانه وتعالى، وخشوعهم في كل أحوالهم إلى جانب أنها عبادة فيها التزام وطاعة لله سبحانه وتعالى.

* تنبيه:

يوجد خلافٌ بين الفقهاء في مسائل الفائتة، وهذا الخلاف قد يمتد ويشعب، وربما يقصر، ويضيق، وكل هؤلاء العلماء بلا شك كان يروم الوصول إلى الحق من أقرب طريق، وأهدى سبيل فيما قاله سبحانه وتعالى، وفيما قاله رسوله سبحانه وتعالى، وكلهم يسعى إلى اقتفاء آثار الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نبَّهنا وأمرنا أن نقتدي بالصحابة الكرام، ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"الله الله في أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"

(3)

(4)

، ولذلك نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "اقتدوا

(1)

أخرجه أبو داود (4964)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(4703).

(2)

أخرجه ابن ماجه (738)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6128).

(3)

"مد أحدهم ولا نصيفه"، أي: لو أنفق أحدكم ما في الأرض ما بلغ مثل مدٍّ يتصدق به أحدهم أو يُنفقه ولا مثل نصفه، والعرب تسمي النصف. انظر:"غريب الحديث" للقاسم بن سلام (16412).

(4)

أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540).

ص: 1157

باللَّذَين من بعدي بأبي بكر وعمر"

(1)

، وقال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ"

(2)

؛ فالصحابة يختلفون عن غيرهم، لأنهم تلاميذ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين تربَّوا في مدرسته، ونهلوا من معينها، وهم الذين أيضًا سايروا التنزيل؛ فتلقوه من مشكاة النبوة صافيًا غضًّا طريًا لم تشبْه شائبة، ولم يخالطه إشكال.

وهم مَن أخذوا العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى جانب أخذهم العلم كانوا يطبقونه على أنفسهم؛ فلا يتجاوزن ما تعلموه، وكانوا إذا تعلموا من الرسول صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزها حتى يعلموا ما فيها من العلم ويعملوا بها

(3)

، وعلى ذلك كان الناس يتسابقون إلى دين الله، وكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا، وذلك لما كانوا يرونه من سيرة أولئك القوم الكرام؛ لأنهم يرون أن الإسلام مطبق في أقولهم، وأعمالهم، وأخلاقهم، وسائر تصرفاتهم، أولئك أناس آثروا الآخرة على الباقية؛ فتركوا الدنيا وراءهم ظهريًا، وليس معنى ذلك أن الإنسان يزهد فى الدنيا، ويتركها بل لا ينسى قوله تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، فكانوا كذلك رضي الله عنهم، وما كان يشغلهم عن طاعة الله سبحانه وتعالى شيء؛ بل كانوا أسودًا بالنهار، رهبانًا بالليل.

وقد وصفهم من كان أعرف الناس بهم ألا وهو: عبد الله بن مسعود حيث قال: "من كان مستنًا؛ فليستنَّ بمَن مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"؛ ثم قال: "أولئك أصحاب رسول الله كانوا أبرّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلف، قوم اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة رسوله؛ فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في أثرهم"

(4)

، فقد رأينا من الناس في هذا

(1)

أخرجه الترمذي (3662)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1142).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرج الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(4/ 83) عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: أخبرنا أصحابنا الذين، كانوا يعلمونا، قالوا:"كنا نعلم عشر آيات فما نتجاوزهن حتى نعلم ما فيهن من عمل".

(4)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 116).

ص: 1158

الزمان من كان على خير ثم تغير؛ لأن الإنسان قد يعمل عمل الخير فيتأخر في آخر حياته، وقد يعمل أعمالًا لا تكاد الجبال تحملها من السيئات؛ لكن الله سبحانه وتعالى يختم له الخاتمة الحسنة، وإنما الأعمال بالخواتيم

(1)

، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يعترض على قضاء الله وقدره، بل ينصح، ويوجه وينبه الناس؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:"مَن ذا الذي يتعالى عليَّ في كبريائي" في قصة الذي قال: "لا يهدي الله ذلك الرجل"

(2)

، "ورب أشعث أغبر لو تمنى على الله لأبره"

(3)

.

فليست الأمور إذن بالمظاهر في هذه الحياة بل بالتقوى والعمل الصالح؛ كما قال الله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وعلى ما سبق لماذا يختلف المسلمون في قضية من القضايا، وخاصة القضايا التي تتعلق بأصل هذا الدين وجوهرها وهي العقيدة، فلِمَ لا تردُّ هذه المسائل إلى تلكم القرون المفضلة قرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، ولذلك قال عبد الله بن مسعود في أثره الآخر:"إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المسلمون حسنًا؛ فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا؟ فهو عند الله سيئ"

(4)

، فلماذا لا نرجع إلى ما نختلف فيه

(1)

أخرجه البخاري (6607) عن سهل بن سعد: وفيه

"إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم".

(2)

أخرجه مسلم (2621) عن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث:"أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك".

(3)

أخرجه مسلم (2622).

(4)

أخرجه أحمد في "المسند"(3600)، وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (532):"موضوع".

ص: 1159

من أمور جدت من بعض البدع؟ أمور طرأت ودنس بها أعداء الإسلام المسلمين، إذ جاؤوا بها ودخلوا بها على المسلمين؛ ليصرفوهم عن دينهم الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لهم.

لماذا لا نطبقها على عصر الصحابة؟! أليس الصحابة أحرص الناس على الفضل؟! ونرى أن أول أمر شَغل المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو: مَن الذي سيخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام بحمل كيان الدولة الإسلامية؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث بمكة فغرس العقيدة، وثبتها في النفوس، وطهرها من كل دنس، ثم أقام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، فبموت النبي صلى الله عليه وسلم فُجِع الصحابة فجيعة كبرى، واحتار بعضهم واضطرب، وكان من بين أولئك الصحابة مَن كان ينزل القرآن مؤيدًا لرأيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد اضطرب عندما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتًا، فاحتار من ذلك الأمر، هل توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران وسيعود؟ وكان أبو بكر غائبًا في العوالي؛ فلما أتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله، وقال:"بأبي أنت وأمي يا رسول الله طِبتَ حيًّا وميتًا". ثم قام في الناس خطيبًا فقال: "مَن كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت"

(1)

، ثم تلا قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]، فلماذا لا يرجع إليهم المختلفون في كل أمر من أمورهم؟

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفه الله بالرسالة، وقال في شأنه:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فالردُّ إلى كتاب الله عز وجل وحده، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت حياته، وإلى سنته بعد وفاته

(2)

. لكن بعد أن

(1)

أخرجه البخاري (3668).

(2)

أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 505) عن ميمون بن مهران: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، قال: الرد إلى الله، الردّ إلى كتابه والرد إلى رسوله إن كان حيًا، فإن قبضه الله إليه فالردّ إلى السنة".

ص: 1160

مات الرسول صلى الله عليه وسلم بقيت له الشفاعة المحمودة التي يتخلى عنها الكل؛ إلا من رحم ربي، وورد في ذلك أحاديث الشفاعة.

يقول الله سبحانه وتعالى في شأن نبيه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، فلماذا إذن لا يتجه العباد إلى رب العباد؟ ولماذا لا يتجه المخلوق إلى خالق هذا الكون، ومدبره؟

ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا، فلما زالت الصدمة التي وقع فيها الصحابة؛ فلم يعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بالخلافة بعينه؛ لكن هناك قرائن، ودلالات فهم منها بعد ذلك عمر وغيره أنَّ أبا بكر أولى الناس بهذه الخلافة لما له من المزايا، ومن الفضائل؛ إذ قال الله تعالى في شأنه:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "سدوا عليَّ هذه الخوخة

(1)

إلا خوخة أبي بكر"

(2)

، ثم قال:"مُرْنَ أبا بكر فليصل بالناس"

(3)

، وكذلك مما دار في السقيفة

(4)

، وما حصل فيها من اجتماع الأنصار، وما دار من كلام، وأراد عمر أن يتكلم متحمسًا؛ فأجلسه أبو بكر رضي الله عنه؛ وهذا احترام بين الصحابة جمٌّ؛ إذ كانوا يدركون قول الرسول صلى الله عليه وسلم في أثر عائشة:"أمرنا أن ننزل الناس منازلهم"

(5)

، قال عمر:"ما دفعني أن أتكلم إلا أنه دار بخاطري كلام كنت أخشى أن يفوتني وألا يدركهم أبو بكر". قال: "فقام أبو بكر فتكلم أبلغ ما يكون، وتكلم فيما

(1)

"الخوخة": واحدة الخوخ. والخوخة أيضا: كوة في الجدار تؤدي الضوء. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 420).

(2)

أخرجه البخاري (467)، ومسلم (2382).

(3)

أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418).

(4)

"سقيفة بني ساعدة": موضع بالمدينة، ظلة كانوا يجتمعون تحتها. انظر:"جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 847).

(5)

أخرجه أبو داود (4842)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(1894).

ص: 1161

كان يدور في خاطر عمر، وزاد على ذلك ووفَّى"، يتقدم أبو بكر؛ فيقول: "بايعوا عمر"، ثم يتقدم عمر فيقول: "فلنبايعك، لقد ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا؛ أفلا نرتضيك لأمر دنيانا؟! "، والحديث طويل، وهو في صحيح البخاري

(1)

، وغيره

(2)

.

ثم يأتي بعد ذلك أمر آخر وهو: ما حصل من ارتداد بعض أحياء العرب، وما حصل من قتال لمانعي الزكاة؛ فهناك مَن ارتد عن عقيدة التوحيد كمسيلمة الكذاب، وطلحة، وأمثال هؤلاء، ثم بعد ذلك منع أناس الزكاة؛ إذ قالوا:"أطعنا رسول الله؛ إذ كان بيننا فيا عجبًا ما بال دين أبي بكر؟! "، ثم بعد ذلك يقف أبو بكر الذي عرف بحلمه، وبرقة جانبه يقف شديدًا أقوى من عمر في ذلك الموقف ويقول:"والله لأقاتلن مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله، لو منعوني عناقًا"

(3)

، - وفي بعض الروايات -: "عقالًا

(4)

(5)

كانوا يؤدونه إلى الرسول لقاتلتهم عليه"

(6)

، ويظل النقاش بينه وبين عمر فينتهي بعد ذلك عمر إلى قول أبي بكر، لأن عمر رضي الله عنه أدرك أن الحق مع أبي بكر وأن الحق ضالة المؤمن، وهو الذي كان يوصي أبا موسى في خطابه العظيم في كتابه المشهور الذي

(1)

أخرجه البخاري (3668) وفيه: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلامًا قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس

الحديث".

(2)

أخرجه أحمد (391)، و"صحيح ابن حبان"(2/ 145).

(3)

"العناق": الأنثى من المعز التي لم تستكمل سنه، وجمعها عنوق. انظر:"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 193).

(4)

"العقال ": الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة؛ لأن على صاحبها التسليم. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 280).

(5)

أخرجه البخاري (7284)، ومسلم (32).

(6)

أخرجه البخاري (1400).

ص: 1162

شرحه الإمام القيم ابن القيم في كتابه المعروف: "كلام الموقعين، "الحق الحق فيما يعتلج في صدرك"

(1)

، فقد أدرك أن الله سبحانه وتعالى قد شرح صدر أبي بكر إلى الحق فقاموا، وقاتلوا المرتدين، ومانعي الزكاة فعادوا إلى حظيرة الإسلام.

فما أريد أن أنبِّه عليه: أن الصحابة اختلفوا في أول الأمر في قتال مانعي الزكاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام"

(2)

، فبسبب هذا الحديث نجد بعض الصحابة قالوا: كيف نقاتل مَن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول اللَّه؟! لكن في حديث آخر قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا قالوها؛ فقد عصموا مني دماءهم، وأموالهم"

(3)

، فحصل الخلاف في أول الأمر في ذلك، وهناك عدة مسائل حصل فيها خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم لكنهم انتهوا بعد ذلك إلى الإجماع، وهي قليلة، وهناك مسائل أُخرى اختلف فيه الصحابة، وظل الخلاف قائمًا لكن ذلك لم يؤدِّ إلى التباعد بينهم.

وعلى ما سبق فإن الخلاف الذي ورد ذمّه إنما هو الخلاف الذي ينتهي إلى تفريق كلمة المسلمين، وأيضًا الذي ينتهي إلى غير فائدة، أما الخلاف في مسائل العلم الذي يقصد منها الوصول إلى الحق والصلاح والإصلاح؛ فإنما ذلك أمر لا بد منه، وهو من الأمور التي سلكها العلماء، وساروا عليها.

وهذه الخلافات في جانب الشريعة، أما مسائل العقيدة فليست محلًّا للخلاف، وكذلك أيضًا قضايا العبادة؛ وأسباب الخلاف كثيرة جدًّا، وقد

(1)

يُنظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (1/ 67) وما بعده.

(2)

أخرجه البخاري (25)، ومسلم (21).

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1163

تكلم العلماء عن ذلك ككتاب: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"

(1)

، وكثير من العلماء تصدوا لذالك بكتبهم؛ لكن الخلاف الذي يؤدي إلى تفريق المسلمين كالخلاف الذي نشأ عند مجيء التتار وهجومهم على الدولة الإسلامية؛ حيث كان المسلمون منشغلين بالخلاف، وأعداء الإسلام يطوقون عاصمتهم، ولما تغيرت الأحوال واجتمعت الكلمة وما كان لذلك الإمام العلم الجليل شيخ الإسلام "ابن تيمية" من فضل في ذلكم المقام، وما له من جهود يستحق أن ندعو له بالنسبة إلى تلكم المواقف التي انتهت إلى هزيمة التتار، ورجوع قوة المسلمين إلى ما كانوا عليه سابقًا.

قال المصنف رحمه الله:

(البَابُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ)

هَذَا البَابُ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى فَصْلَيْنِ؛ الأَوَّلُ: فِي الأَذَان، وَالثَّانِي: فِي الإِقَامَةِ).

بعد أن انتهى المؤلف من باب الصلاة وما يتعلَّق بها من أوقات الضرورة والعذر، وأفاض بما دار بين الفقهاء في ذلك؛ بدأ في باب جديد وهو:"باب الأذان والإقامة"، وأريد أن أنبِّه إلى أمر يقع فيه كثير من

(1)

كتاب صنفه ابن تيمية، دلَّ عنوانه على مضمونه؛ رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ذكر فيه أسباب اختلاف الأئمة في فروع مسائل الفقه الإسلامي، من بين أسباب الاختلاف: أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومَن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالمًا بموجبه .. وهذا السبب: هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، كذلك السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره.

ص: 1164

المسلمين في غير هذه البلاد ألا وهو: ما يتعلَّق حقيقة بدعاء غير الله سبحانه وتعالى، فربما يظن البعض أن بعض الصالحين إذا مات فإن من الخير له أن يذهب إلى قبره فيطلب منه أن يدعو له، أو أن يشفي لهم مريضًا، أو أن يرفع له كربًا، أو أن يرزقه، أو أن يخفف عنه ألمًا، أو أن يرفع ما حلَّ به من مشكلات.

ومثل هذه الأفعال شبيهة بأفعال المشركين، فهذا إنسان قد مات وأفضى إلى ربه، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، والله سبحانه وتعالى يقول لنبيه:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم وقت حياته؛ فإنه كان قادرًا على دعاء الله سبحانه وتعالى؛ لكن بعد مماته ما اتَّجه الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو موجود بينهم في قبره، وإنما لما أجدبت الأرض طلبوا من العباس عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم

(1)

؛ فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل خلق الله سبحانه وتعالى - لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا حال موته فكيف بغيره؟ ويجوز لنا أن نسلم عليه عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله سبحانه وتعالى يرد عليه روحه فيرد علينا السلام؛ فما من أحد يسلم عليه إلا ردَّ الله عليَّ روحي فأردّ عليه السلام

(2)

، وموته صلى الله عليه وسلم إنما هو موت برزخي

(3)

، فلم يكن الآن في الحالة التي كان عليها قبل الموت، ولم تكن أيضًا حالته كحالة الشهداء؛ فهو فوق ذلك، لكنه ميِّت كما قال الله سبحانه وتعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ

(1)

أخرجه البخاري (1010) عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال:"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا"، قال: فيسقون.

(2)

أخرجه أبو داود (2041) عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(5679).

(3)

"البرزخ": الحائل بين الشيئين، ولقال: فلان في البرزخ، إذا مات كأنه بين الدنيا والآخرة. انظر:"جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 1116).

ص: 1165

مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك أن ينفع أحدًا؛ فما بالك بغيره من سائر الناس؟ وربما يكون الذي تتجه إليه قد ارتكب كثيرًا من المعاصي والذنوب، وقد يكون هذا الذي تذهب إليه، وتذبح له، وتتقرب له خيال من الخيالات التي أريد بها شغل المسلمين عن دينهم، وإضعاف كلمة المسلمين، فإذا أردنا مسألة فلِمَ لا نرجع إلى الحي القيوم؟! والله تعالى يقول:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186]، وقال سبحانه وتعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].

وقال الشاعر:

الله يغضب إن تركت سؤاله

وبُنَيّ آدم حين يُسألُ يَغضَبُ

(1)

وقال آخر:

ولو سُئِل الناسُ التراب لأوشكوا

إذا قيل: هاتوا أن يملُّوا ويسأموا

(2)

فهذا في شأن الأحياء حين تطلب منهم شيئًا من حطام الدنيا؛ فكثير منهم لا يعطيك ما تطلب، فلماذا تتجه إلى إنسان قد أصبح رميمًا لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا؟! فتطلب منه، واللّه تعالى يقول:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]، فهذه قضية هامَّة، وأمرها خطير وجسيم، ويقع فيها كثير من المسلمين؛ فقد رأينا أناسًا يذبحون لغير الله، والذبح لا يكون إلا لله، لأن الذبح

(1)

البيت بلا نسبة في "المستطرف في كل فن مستظرف"(ص 303).

(2)

البيت بلا نسبة في "شرح التسهيل" لابن مالك (1/ 392)، و"لسان العرب"(10/ 513).

ص: 1166

نوع من أنواع العبادة، ومن يذبح لغير الله فهو مشرك، يقول سبحانه وتعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163].

فهذه أمور لا ينبغي أن نتجاوز حدَّها، فإذا كنا قد أفنينا جزءًا من أعمالنا، وجمعنا المال بعد جهد جهيد ومشقة ومرور سنين طويلة؛ لنحج به فما جئنا إلى الحج إلا طاعة لله سبحانه وتعالى، واستجابة لندائه، وإرضاء له سبحانه وتعالى، وطلبًا لمغفرته؛ فإذا كنا نسعى إلى ذلك؛ فلماذا نتجه إلى المخلوقين؟ ولماذا لا نربط صلتنا بالله سبحانه وتعالى في كل أمر من أمورنا؟ فالله سبحانه وتعالى سيفرج عنا كل كرب، ويرفع عنا كل ضيق؛ لأن الله سبحانه وتعالى يغفر لكل مؤمن صادق يدعوه؟ وإذا ما دعوت الله سبحانه وتعالى؛ فهناك شروط لإجابة الدعاء، ومنها:

فينبغي أن تكون صادقًا في دعوتك، وأن تكون مخلصًا، وأن تتحرى أوقات الإجابة، والمواضع التي يدعى فيها كأن تكون ساجدًا؛ فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد

(1)

، وألا تتعجل الإجابة فالله سبحانه وتعالى قد يدَّخر لك ذلك في الآخرة؛ ليرفعك به درجات، وقد يستجيب لك الله سبحانه وتعالى؛ فيدفع عنك به شرًّا

(2)

.

فإذا توجهت إلى الله بقلب صادق ومخلص؛ فالله سبحانه وتعالى وعدك بالإجابة فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، والله لا يخلف الميعاد.

(1)

معنى حديث أخرجه مسلم (482) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".

(2)

معنى حديث أخرجه أحمد في "المسند"(11133) عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذًا نكثر، قال:"الله أكثر"، وجود إسناده الأرناؤوط.

ص: 1167

وينبغي علينا أن نربط صلتنا بالله سبحانه وتعالى، وأن نتجه إليه في كل أمورنا؛ فلا ندعو إلا الله، ولا ننذر ولا نذبح إلا له، ولا نستغيث إلا به، ولا نتوكل إلا عليه سبحانه وتعالى، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصًا وتروح بطانًا"

(1)

.

تعريف الأذان في اللغة، والشرع، وكيفية مشروعيته، ومتى شرع؟

أولًا: الأذان في اللغة هو: الإعلام، والإعلام إنما هو دعاء ونداء، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]، أي: إعلام منه سبحانه، وقوله سبحانه وتعالى:{آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109]، أي: أعلنتكم.

ويقول الشاعر:

آذَنَتنا بِبَينِها أَسماءُ

رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنهُ الثَواءُ

(2)

أي: أعلنتنا.

وفي الاصطلاح هو: الإعلام بدخول وقت الصلاة في أمر مخصوص.

ولا شك أن الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، وإذا ما نظر المسلم نظرة فاحصة في ألفاظ الأذان؛ لوجد أنه يشتمل على عقيدة التوحيد الخالصة. فهذا النداء الذي يُنادَى به لصلاة الجماعة في كلِّ يوم خمس مرات سواء كانت الصلاة تؤدى في وقتها، أو فوائت؛ وسيأتي الكلام عن ذلك.

والأذان خاصٌّ بالصلوات الخمس، أما بقية الصلوات، فلا يؤذن لها وما قيل من أنه يؤذن للعيدين فهو كلام ضعيف؛ لما جاء في حديث

(1)

أخرجه ابن ماجه (4164)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(310).

(2)

من معلقة الحارث بن حلزة. انظر: "شرح المعلقات السبع" للزوزني (ص: 269).

ص: 1168

جابر بن سمرة: "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيدين غير مرة ولا مرتين، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يؤذن لهما ولا يقيم"

(1)

.

والأذان مشتمل على عقيدة التوحيد وهو مشروع للصلاة، والصلاة كما هو معلوم إنما فرضت بمكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عُرِج به إلى السماء السابعة، وفُرِضت عليه أول الأمر خمسين صلاة؛ لكنه ما زال صلى الله عليه وسلم يتردد بين ربه وموسى يطلب التخفيف حتى قال الله سبحانه وتعالى:"هي خمس في العمل، خمسون في الأجر لا يبدل القول لدي"

(2)

، ولا شكَّ أن هذه من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة أن فرض علينا خمس صلوات، وهي قليلة إذا ما قورنت بالوقت الذي نمضيه في كل يوم؛ لكن الله سبحانه وتعالى منح هذه الأمة، وخصَّها بخصائص، وميَّزها بمزايا لا توجد في غيرها، ومن ذلك قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

وهذه من الأمور التي ينبغي أن يتناصح الناس بها بعضهم بعضًا؛ لأنه إذا ما أصلح الله على يديه رجلًا واحدًا أحب إليه من حمر النعم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب عندما أرسله إلى خيبر:"فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم"

(3)

، والصلاة فرضت على المسلمين بمكة وكان المسلمون في مجتمع مشرك يحاربونهم، وقد أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالهجرة إلى المدينة، وكان من أول أعمالهم بناء مسجد قباء، وكان في السنة الأولى.

‌كيفية مشروعيته، ومتى شرع الأذان؟

شرع الأذان في السنة الأولى بعد أن تمَّ بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في حديث عبد الله بن زيد، وهذا الحديث كان في السنة

(1)

أخرجه مسلم (887).

(2)

أخرجه البخاري (349)، ومسلم (163).

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1169

الأولى من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما قدم الرسول والصحابة المدينة وأرادوا الصلاة؛ لأن فرض الصلاة سبقت الأذان؛ فكانوا يحيلون الأوقات، ويتحرونها؛ فأصبح ذلك شاقًّا عليهم؛ ولذلك فكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في وسيلة يجتمع حولها المسلمون؛ لأداء الصلوات الخمس ففكروا في صنع ناقوس

(1)

يُضرَب "كما هو شعار النصارى، أو أن يضعوا بوقًا ينادون به الصلاة، وانتهى بهم الأمر إلى الأذان، وذلك كما ورد في حديث عبد الله بن زيد: "أن الناس اختلفوا في جمع الناس للصلاة؛ فأشار بعضهم: أن يعمل ناقوسًا مثل ناقوس النصارى يُضرَب به لجمع الناس في الصلاة، وأشار بعضهم: بالنفخ في البوق

(2)

كما يفعل اليهود، وبينما كان عبد الله بن زيد نائمًا آتاه رجل فقال: طافَ بي رجل وأنا نائم، وفي يده ناقوس فقلت: يا عبدَ الله، أتبيع ما في يدك؟ قال: وما تصنع به؟ قال: ننادي به في الصلاة. فقال له: ألا أدلُّك على خير من ذلك؟ قال: بلى. قال تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، ذكرها مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر غير بعيد عني، ثم قال لي: إذا أقمت الصلاة فقل: الله أكبر الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. فذهب عبد الله بن زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقصَّ عليه رؤياه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنها لرؤيا حقٍّ إن شاء الله، قُم فألقِ على بلال ما رأيت؟ فإنه أندى منك صوتًا"؛ فقام بلال ينادي بذلك، فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج مسرعًا يجرُّ

(1)

الضرب بالناقوس: خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها. والنصارى يعلمون بها أوقات صلاتهم. انظر: "النهاية" لابن الأثير (5/ 106)، و"الصحاح" للجوهري (3/ 985).

(2)

"البوق": الذي ينفخ فيه ويزمر، والجمع بوقات وبيقات. انظر:"المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص: 53)، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص: 869).

ص: 1170

رداءه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقد رأيت ما رأى عبد الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"فلله الحمد"

(1)

.

فينبغي أن يكون المؤذن حسن الصوت؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم أبا محذورة الأذان وكان صيِّتًا حسن الصوت، وكذلك بلالًا وقال فيه:"أندى منك صوتًا"، أي: أبعد صوتًا منك، وأعلى، وأقوى.

فينبغي للمسلم إذا نزل به أمر عظيم، أو أمر فيه فائدة أن يتذكر الله سبحانه وتعالى، وأن يحمده كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلله الحمد"، فحمد الله سبحانه وتعالى شاكرًا له فهو أهل للشكر، وهو الذي يستحق الشكر كله؛ لأنه أنعم عليهم سبحانه وتعالى بأن وفقهم إلى هذا الأذان الذي يشتمل على عقيدة التوحيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فكر في أمر الناقوس والبوق وانتهى إلى الناقوس كان لذلك كارهًا؛ لأن ذلك من فعل النصارى.

فهذه نعمة من نعم الله تعالى، فينبغي أن نكون كذلك في كل موقف إذا ما أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بنعمة، أو وفقنا إلى فعل خير، أو ردع الله عنَّا صْرًّا؛ أن نتجه إليه سبحانه وتعالى بالحمد والثناء والشكر؛ تقديرًا له سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يعز ويذل، وليس ذلك لأحد غيره سبحانه وتعالى.

فالأذان إنما شرع للصلاة، والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول:"أرحنا بها يا بلال"

(2)

؛ فكلما ضاقت على المسلم ضائقة أو تكدر خاطره فليتجه إلى الله سبحانه وتعالى وليصلِّ مقبلًا عليه سبحانه وتعالى، مدبرًا عمَّا سواه، وينطرح بين يديه، ويمرغ أعز شيء في بدنه ألا وهو وجهه؛ خضوعًا وانقيادًا واستجابة له؛ فالله سبحانه وتعالى سيجزيه على ذلك، وسيوفيه أجره غير منقوص.

‌فضله، وأهميته:

ورد في فضل الأذان، ومكانته، وأهميته أحاديثُ كثيرة منها:

(1)

أخرجه ابن ماجه (706)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1/ 265).

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1171

1 -

قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا

(1)

عليه"

(2)

، أي: لو يدرك الناس قيمة الأذان ثم لم يجدوا إلا أن يقرعوا بينهم لتسابقوا إلى ذلك.

2 -

ويقول أيضًا صلى الله عليه وسلم: "المؤذون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة"، وهذا حديث صحيح أيضًا

(3)

.

وهذا دليل على فضل المؤذنين، وأن أعناقهم ترتفع فوق الناس يوم القيامة، وما أحوج المرء أن يكون رافعًا عنقَه في ذلك اليوم العظيم.

3 -

وفيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنت في غنمك، أو باديتك فارفع صوتك بالأذان؛ فإنه لا يسمع صوت المؤذن إنس، ولا جن، إلا شهد له يوم القيامة"

(4)

.

ومن هنا وقع خلاف بين العلماء: أيهما أفضل: الإمامة في الصلاة، أم الأذان؟

قال بعض العلماء

(5)

: إن الإمامة أفضل، واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

"لاستهموا"، أي: يقترعوا بالسهام. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 229).

(2)

أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437).

(3)

أخرجه مسلم (387).

(4)

أخرجه البخاري (609).

(5)

هو مذهب الحنفية والمالكية.

يُنظر: "الدر المختار"(1/ 594) حيث قال: "هي أفضل من الأذان".

ويُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 422) حيث قال: "والمشهور أن الإمامة أفضل".

وهو أحد الوجهين عند الشافعي، ورواية عن أحمد.

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 62) حيث قال: "اختلف أصحابنا أيهما أفضل

على وجهين أحدهما: أن الإمامة أفضل من الأذان".

ويُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 292) حيث قال: "واختلفت الرواية، هل الأذان أفضل من الإمامة، أو لا؟ فروي أن الإمامة أفضل".

ص: 1172

كان إمامًا يصلي بالمسلمين، وكان خلفاؤه الراشدون أئمة يصلون بالناس بعده، ولا يختار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما هو أفضل.

واستدلوا أيضًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم والمالك بن الحويرث في الحديث المتفق عليه: "ليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"

(1)

.

وجه الدلالة: تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الإمامة بقوله: "وليؤمكم أكبركم"؛ فدلَّ ذلك على أنها تمتاز على الأذان.

وذهب بعضهم

(2)

: إلى أن الأذان أفضل من الإمامة: واستدلوا بالأحاديث التي مرت في فضل الأذان، واستدلوا بدليل عقلي على أفضلية الأذان: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن، خشية أن يفرض عليهم بأذانه، وكذلك الخلفاء لم يؤذنوا؛ لأنهم كانوا مشغولين بالخلافة، ولذلك نُقِل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:"لولا الخلافة لأذنت"

(3)

" فدلَّ ذلك على أنهم كانوا مشغولين بالخلافة.

ودليل آخر: أن الإمامة لا يحتاج فيها الإنسان إلا أن يأتي إلى الصلاة، أما الأذان فيحتاج فيه إلى أن يتحرى الوقت، ويحدد له، ويربط نفسه في أوقات معينة لذلك، فإن الأذان أفضل من الإمامة من هذه الجهة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

أخرجه البخاري (628)، ومسلم (674).

(2)

وهو أحد الوجهين عند الشافعي، ورواية عن أحمد. يُنظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 62) حيث قال: "والوجه الثانى: أن الأذان أفضل".

ويُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 292) حيث قال: "واختلفت الرواية، هل الأذان أفضل من الإمامة، أو لا؟ فروي أن الإمامة أفضل

والثانية: الأذان أفضل".

(3)

ذكر الأثر ابن قدامة في "المغني"(1/ 293).

ص: 1173

‌(الفَصْلُ الأَوَّل:

هَذَا الفَصْلُ يَنْحَصِرُ الكَلَامُ فِيهِ فِي خَمْسَةِ أَقْسَامٍ؛ الأَوَّلُ: في صِفَتِهِ. الثَّانِي: فِي حُكْمِهِ. الثَّالِثُ: فِي وَقْتِهِ. الرَّابِعُ: فِي شُرُوطِهِ. الخَامِسُ: فِيمَا يَقُولُهُ السَّامِعُ لَهُ.

‌القِسْمُ الأَوَّلُ مِنَ الفَصْلِ الأَوَّلِ مِنَ البَابِ الثَّانِي: فِي صِفَةِ الأَذَانِ

اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الأَذَانِ عَلَى أَرْبَعِ صِفَاتٍ مَشْهُورَةٍ).

انتقل المؤلف في هذا الفصل من القسم الأول من الباب الثاني إلى ما يتعلَّق بصفة الأذان، أي: ألفاظ الأذان، وهو الأذان الذي علَّمه النبي لبلال:"الله أكبر أربع مرات، أشهد ألا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله"، وبذلك تكون ألفاظ الأذان خمس عشرة كلمة، وهو الأذان الذي ورد في حديث عبد الله بن زيد

(1)

، ولم

(1)

أخرجه الدارمي (1224)، وابن ماجه (706)، وأبو داود (498) عن عبد الله بن زيد أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه طاف بي الليلة طائف: مرَّ بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم استأخر غير كثير، ثم قال مثل ما قال، وجعلها وترًا، إلا أنه قال: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله =

ص: 1174

ينقطع عنه بلال بعد فتح مكة، وهناك صيغة أُخرى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علَّم أبا محذورة الأذان كما في "صحيح مسلم"

(1)

، وغيره

(2)

وفيه: "التكبير أربع مرات لكن عند قول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله يقولها مرتين بصوت منخفض، وكذلك أشهد أن محمدًا رسول الله بصوت منخفض مرتين، ثم يعود فيرفع صوته فيقول: أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله"، وهذه هي الصيغة التي أخذ بها الشافعية والمالكية، لكنهم يختلفون في تقدير ذلك:

فعدد جمل الأذان عند الشافعية

(3)

: تسع عشرة جملة، وهي:"الله أكبر" أربع مرات، ثم "أشهد ألا إله إلا الله " أربع مرات بالترجيع فيه مرتان في السر، ومرتان في الجهر، ثم "أشهد أن محمدًا رسول الله" أربع مرات بالترجيع فيه مرتان في السر، ومرتان في الجهر، ثم "حي على الصلاة" مرتين، ثم "حي على الفلاح" مرتين، ويختم بـ "لا إله إلا الله" مرة واحدة فيكون المجموع تسع عشرة جملة.

= أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه، فإنه أندى صوتًا منك". وحسَّنه الألباني في "إرواء الغليل"(246).

(1)

أخرجه مسلم (379) عن أبي محذورة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذان "الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله"، ثم يعود فيقول:"أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة مرتين، حيَّ على الفلاح مرتين" زاد إسحاق: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

(2)

أخرجه ابن ماجه (709)، وأبو داود (500)، والنسائي في "السنن الكبرى"(1607).

(3)

يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 309) حيث قال: "الأذان، مثنى، والإقامة فرادى. والمراد: معظم الأذان مثنى. وإلا، فقول: لا إله إلا الله، في آخره مرة، والتكبير في أوله، أربع مرات. فكذا المراد".

ص: 1175

أما عدد جمل الأذان عند المالكية

(1)

: فسبع عشرة جملة، وهي:"الله أكبر" مرتين؛ لأنه ورد في حديث أبي محذورة أن الرسول علمه: "الله أكبر" أربع مرات، ومرة علمه مرتين؛ فالشافعية أخذوا بالرواية المشهورة (الأربع مرات) وقالوا: تسع عشرة جملة، وأما المالكية فحذفوا اثنتين في التكبير؛ فصار عدد كلمات الأذان سبع عشرة جملة:"الله أكبر" مرتين، ثم "أشهد ألا إله إلا الله" أربع مرات بالترجيع فيه مرتان في السر، ومرتان في الجهر ثم "أشهد أن محمدًا رسول الله" أربع مرات بالترجيع فيه مرتان في السر، ومرتان في الجهر، ثم "حي على الصلاة" مرتين، ثم "حي على الفلاح" مرتين، ويختم بـ "لا إله إلا الله" مرة واحدة.

أما عند الحنفية

(2)

، والحنابلة

(3)

: فيأخذون بالأشهر وهو خمس عشرة جملة، وهي الواردة في حديث عبد الله بن زيد.

ثم ذكر المؤلف أذان البصريين، ولا يصل صحته إلى الأذان بالنسبة للصفات الثلاثة المتقدمة؛ لأن هذه الصفات الثلاثة قد ورد فيها أحاديث صحيحة، وعلى ذلك لو أذن الإنسان بأيِّ صفة منها سواء بأذان بلال، أو

(1)

يُنظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (ص 92) حيث قال: "الأذان في الصبح: تسع عشرة كلمة وغيرها سبع عشرة كلمة، وحكاية لفظ في غير الصبح: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، وفي الصبح يزيد بعد حيَّ على الفلاح: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم".

(2)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 25) حيث قال: "وصفة الأذان: أن يقول: الله أكبر الله أكبر - إلى آخره ولا ترجيع فيه ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين".

(3)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 133) حيث قال: " (وهو)، أي: الأذان (خمس عشرة كلمة)، أي: جملة (بلا ترجيع) للشهادتين، بأن يخفض بهما صوته، ثم يعيدهما رافعًا بهما صوته، فيكون التكبير في أوله أربعًا".

ص: 1176

بأذان أبي محذورة؛ لا يعتبر مخالفًا؛ لكن مِن العلماء

(1)

مَن اختار ورجح أذان بلال؛ وحجتهم في ذلك: أنه أُلقِيَ على بلال، وأقره رسول الله، وأذَّنَ به لرسول الله صلى الله عليه وسلم حضرًا وسفرًا في حياته، وكذلك استمر في عهد الخلفاء الراشدين، واشتهر ذلك بينهم.

ومنهم من رجَّح أذان أبي محذورة

(2)

، وحجتهم في ذلك:

أنه جاء متأخِّرًا عن بلال؛ إذ إن أبا محذورة أسلم بعد فتح مكة

(3)

، حتى إن بعضهم

(4)

يقول: إن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة الترجيع، والتكرار وهو أن يقول:"أشهد أن لا إله إلا الله" مرتين بصوت منخفض، و"أشهد أن محمدًا رسول الله" مرتين ثم يرفع صوته بهما؛ لتثبيت عقيدة التوحيد في قلب أبي محذورة؛ لأنه قريب العهد بالإسلام فهو بحاجة إلى ذلك، وبعد أن علم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا محذورة عاد بلال وأذن بعده بفتح مكة بنفس ألفاظ الأذان التي يؤذدن بها؛ ولذلك لا نجد الخلاف في هذه المسألة كثيرًا، وإنما الخلاف فيما هو الأولى، فلو أذن بالأذان الذي أخذ به المالكية أو الشافعية، أو الذي أخذ به الحنفية والحنابلة كان ذلك صحيحًا وثابتًا.

(1)

وهم الحنفية، والحنابلة وتقدم مذهبهم.

(2)

وهم المالكية والشافعية.

(3)

يُنظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1753) حيث قال: "وكان أبو محذورة مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أمره بالأذان بها منصرفه من حنين، وكان سمعه يحكي الأذان، فأمر أن يؤتى به، فاسلم يومئذ، وأمره بالأذان فأذن بين يديه، ثم أمره فانصرف إلى مكة، وأقره على الأذان بها".

(4)

قال القدوري في "التجريد"(ص 414) في سبب الترجيع: "لأنه أراد أن يتعود لفظ الشهادة، لأنه كان كافرًا، وكرر ذلك، فقد جرت عادة من يلقن غيره أن يردد عليه ما يلقنه ليحفظ، فلما حفظ أمره بإعادتها بصفتها"، وقال ابن قدامة في "المغني" (1/ 294):"ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر أبا محذورة بذكر الشهادتين سرًّا، ليحصل له الإخلاص بهما، فإن الإخلاص في الإسرار بهما أبلغ من قولهما إعلانًا للإعلام، وخصَّ أبا محذورة بذلك، لأنه لم يكن مقرًّا بهما حينئذ".

ص: 1177

وكذلك وقع الخلاف أيضًا بينهم في الإقامة على أقوال:

1 -

فذهب الحنفية

(1)

: أنها كالأذان في ألفاظه، ويزيدون عليه لفظين:"قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة"؛ فتكون تسع عشرة جملة، ودليلهم على ذلك: حديث أبي محذورة: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم علَّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإمامة سبع عشرة كلمة".

2 -

وذهب الشافعية

(2)

، والحنابلة

(3)

إلى أن ألفاظ الإقامة: إحدى عشرة كلمة، وهي صيغة الإقامة المشهورة الآن.

3 -

بينما ذهب المالكية

(4)

إلى أن ألفاظ الإقامة: عشر كلمات فقط، فاكتفوا بقول:"قد قامت الصلاة" مرة واحدة.

وعلى ذلك فقد التقى الشافعية مع المالكية في جزء من أذان أبي محذورة، ووافقوا الحنابلة بالنسبة للإقامة، والتقى الحنفية مع الحنابلة بالنسبة للأذان" فجعلوه خمس عشرة جملة، وخالفوهم بالنسبة للإقامة" إذ جعل الحنفية الإقامة: تسع عشرة جملة، بينما جعلها الحنابلة: إحدى عشرة جملة كالشافعية.

(1)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 25) حيث قال: "والإقامة مثل الأذان إلا أنه يزيد فيها بعد الفلاح: قد قامت الصلاة مرتين".

(2)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 111) حيث قال: "وأما الإقامة فإنها إحدى عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 236) حيث قال: "خمس عشرة كلمة، أي: خمس عشرة جملة لا ترجيع فيه والإقامة إحدى عشرة".

(4)

يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 197) حيث قال: "والإقامة: عشر كلمات وهي: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، وقد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

ص: 1178

قوله: (إِحْدَاهَا: تَثْنِيَةُ التَّكْبِيرِ فِيهِ وَتَرْبِيعُ الشَّهَادَتَيْنِ وَبَاقِيهِ مُثَنًّى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ المَدِينَةِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ، وَاخْتَارَ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ التَّرْجِيعَ

(1)

، وَهُوَ أَنْ يُثَنِّيَ الشَّهَادَتَيْنِ أَوَّلًا خَفِيًّا، ثُمَّ يُثَنِّيهمَا مَرَّةً ثَانِيَةً مَرْفُوعَ الصَّوْتِ).

" تثنية التكبير" أن يقول: "الله أكبر الله أكبر" وتربيع الشهادتين أن تقول: "أشهد ألا إله إلا الله" أربع مرات، وكذلك:"أشهد أن محمدًا رسول الله" أربعًا، المرتان الأولتان سرًا بصوت منخفض، ثم يعيدهما بعد ذلك جهرًا ليُسمِع غيره، وهذا الذي اختاره المالكية في إحدى روايات أبي محذورة، وكذلك اختاره الشافعية إلا أنهم أخذوا برواية تربيع "الله أكبر"، أي: أن يقول: "الله أكبر" أربع مرات؛ فتكون ألفاظ الأذان عند المالكية: سبع عشرة كلمة، والشافعية: تسع عشرة كلمة، وعند الحنفية والحنابلة: خمسة عشر كلمة كما مضى آنفًا

(2)

.

• قوله: (وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَذَانُ المَكِّيِّينَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ)

(3)

.

يقصد بأذان المكيين: أذان مكة.

والشافعي هو أحد الأئمة الأربعة، ولا يفهم أنه من أهل مكة، وإنما أخذ أذان المكيين، فالشافعي كما هو معلوم من فلسطين، وجاء إلى العراق، وبقي به فترة، ثم بعد ذلك ذهب إلى مكة، وألقى دروسه في المسجد الحرام، وذهب إلى اليمن، وآخر حياته ألقى عصا التسيار

(4)

في مصر، أي: انتهت به الحياة أن أقام بمصر، وأخذ يلقي دروسًا، وتخرج

(1)

تقدَّم ذلك.

(2)

تقدَّم أول المسألة.

(3)

تقدَّم.

(4)

ألقى عصا التَّسْيار: كلمة تقال للرجل إِذا أقام بمكان بعد أن جال في البلاد. انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص: 159)، و"شمس العلوم" لنشوان الحميري (2/ 976).

ص: 1179

عليه تلاميذ كُثُر، وكتب مذهبه الجديد في مصر، وله مذهب قديم في العراق.

أما الإمام مالك

(1)

فهو إمام دار الهجرة، تابع التابعين المعروف الذي كانت تضرب إليه أكباد الإبل

(2)

.

وأما أبو حنيفة فهو العالم الجليل الذي عاش بالكوفة، وله مواقف جليلة، وأول ما بدأ تعلمه علم الكلام المعروف: بـ "علم التوحيد"، وكان يذهب من الكوفة إلى البصرة لينافح فرق المعتزلة.

أما الإمام أحمد فهو إمام دار السلام "بغداد"، ويكفيه من المواقف الجليلة موقفه العظيم في قضية (خلق القرآن) عندما ذبَّ عن كتاب الله سبحانه وتعالى ودافع عنه مع عدد من العلماء، وباع نفسه رخيصة في سبيل الله، ولذلك ضُرِب له المثل، فقيل:"أبو بكر يوم الردة، وأحمد يوم الفتة"، يعني: فتة خلق القرآن

(3)

.

وهكذا كان العلماء والعاملون يخلصون دينهم لله سبحانه وتعالى، ولم تكن دعوتهم وموافقهم لتنفير الناس، أو تفريق الكلمة، بل كان الإمام أحمد رحمه الله مثلًا في قضية خلق القرآن فقد أوذي وسُجن، وعُذِّب، ومع ذلك كان يقول:"لو كانت لي دعوة مستجابة لدعوت بها للسلطان"

(4)

؛

(1)

أخرجه الترمذي (2680) عن أبي هريرة: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة". وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(4833).

(2)

فلان تضرب إليه أكباد الإبل، أي: يرحل إليه في طلب العلم وغيره. انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 530).

(3)

ينسب هذا القول لعلي ابن المديني، أخرجه عنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 278) قال:"إن الله أعزَّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة".

(4)

نسبها ابن تيمية للإمام أحمد والفضيل بن عياض في "مجموع الفتاوى"(28/ 391) حيث قال: "ولهذا كان السلف - كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما - يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان"، وأسنده أبو نعيم في "حلية =

ص: 1180

لأنه يعلم أن إصلاح السلطان، وباجتماع الكلمة عليه؛ فيه إصلاح للرعية فما بالك بأولئك الذين يقلقون الأمة، ويتكلمون بأمور لا تجد لها حقيقة، ولا صدقًا، فمسؤولية الأمة نحو واليها، وراعيها مسؤولية كبيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد حذَّر من المخالفة حتى بيَّن أنه لو ضُرِبَ ظهر المرء وأخذ ماله؛ فإنه يسمع ويطيع إذ يقول:"اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ"

(1)

، فالإمام أحمد كان على الحقِّ، وكان غيره على الباطل، ومع ذلك يُضرب في بعض الأحيان حتى يغيب عن الدنيا، وبعد ذلك ينطلق ما عليه من السراويل فإذا ما أفاق يُسأل عن ذلك فيقول:"لو كانت لي دعوة مستجابة لدعوتُ بها للسلطان".

هؤلاء الذين أدركوا الفقه غاية الإدراك، إذ عرفوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"

(2)

، فالفقه في الدين هو أن تدرك هذا الدين غاية الإدراك، وأن تعرف ما لك وما عليك، فللوالي واجبات ينبغي أن تؤديها نحوه، ومن هذه الواجبات بل في مقدماتها أن تدعو له بالصلاح، والتُّقى، وأن يرزقه الله البطانة الصالحة الذين يعينوه على الخير، وأن تذبَّ عنه، فقد عرف السابقون قيمة ومكانة اجتماع الكلمة وأنه بطاعة السلطان تجتمع الكلمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"

(3)

.

فيجب على المسلم أن يدعو لولاة الأمر، وأن يخلص لهم، وأن يناصحهم، فهذه من الأمور الطيبة التي رأيناها في كلِّ العصور السابقة؛ إذ

= الأولياء" (8/ 91) للفضيل بن عياض قال: "لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام"، ولم أقف عليه مسندًا للإمام أحمد.

(1)

أخرجه مسلم (1837).

(2)

أخرجه البخاري (71).

(3)

أخرجه البخاري (2955)، ومسلم (1839) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة".

ص: 1181

وجد هذا في عصر الصحابة كيف كانوا يتعاونون مع الخلفاء؟ وفي العصر الأموي، وكذلك في العصر العباسي وجدنا تعاونًا بين العلماء والخلفاء؛ لأنه بوجود هذا التعاون يتم بعون الله سبحانه وتعالى وتوفيقه اجتماع كلمة الأمة، ولا شكَّ أن الإنسان في هذه الحياة غير معصوم.

إذن السعي في جمع كلمة المسلمين إنما هي مسؤولية كل مسلم بقدر طاقته، وأن الإنسان في طريق دعوته ينبغي أن يكون مقتديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يكون بصيرًا عالمًا بالأمر الذي يدعو إليه، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]، وأن يتعامل مع الناس برفق ولين وروية، والله تعالى يقول عن نبيه:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال أيضًا:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، فهذه القضايا التي مرت هي قضايا اختلف فيها العلماء في ما هو الأولى، فلم يكن اختلافهم تفرقا، ولا تباعدًا، وإنما هو سعي للوصول إلى الحق من أقرب طرقه وأهداها.

• قوله: (وَهُوَ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ الأَوَّلِ وَالشَّهَادَتَيْنِ وَتَثْنِيَةُ بَاقِي الأَذَان. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَذَانُ الكُوفِيِّينَ، وَهُوَ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ الأَوَّلِ، وَتَثْنِيَةُ بَاقِي الأَذَان، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)

(1)

.

يقصد بالكوفيين: أهل الكوفة، وفي مقدمتهم: الإمام أبو حنيفة.

وهو مذهب الحنفية والحنابلة

(2)

السابق، وهو تربيع التكبير الأول:"الله أكبر" أربعًا، ويثني باقي الأذان إلا قوله:"لا إله إلا الله" مرة واحدة.

قوله: (وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: أَذَانُ البَصْرِيِّينَ، وَهُوَ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم.

ص: 1182

الأَوَّلِ وَتَثْلِيثُ الشَّهَادَتَيْنِ، وَحَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، يَبْدَأُ بِـ "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ"، ثُمَّ يُعِيدُ كذَلِكَ مَرَّةً ثَانِيَةً، أَعْنِي: الأَرْبَعَ كلِمَاتٍ تَبَعًا ثُمَّ يُعِيدُهُنَّ ثَالِثَةً، وَبِهِ قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ)

(1)

.

هذا هو المذهب الثالث، وهو في الحقيقة أقل المذاهب شيوعًا، وإنما ذكره المؤلف حتى نكون على بينة منه من باب معرفة الشيء، أما الأقوال الأخرى، والصفات الأخرى فكلها لها أدلة:

فما أخذ به المالكية والشافعية على اختلاف روايتيهم من حديث تعليم الرسول لأبي محذورة.

وما أخذ به الحنفية والحنابلة من حديث عبد الله بن زيد، وهو الأذان الذي أذَّن به بلال في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده.

هناك قضية هامة نتطرق إليها وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه عبد الله بن زيد فألقى عليه الأذان، قصَّ عليه رؤياه فقال:"إنها لرؤيا حق". ثم قال له: "قُم فعلمه بلالًا"

(2)

، وكما هو مشهور أن بلالًا حبشي، وكان مولى لأبي بكر، وإنما أعتقه أبو بكر بعدما اشتراه؛ إذ كان مملوكًا، ومع ذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن زيد قائلًا له: قم فألقه على بلال.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 370) حيث قال: "حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا يزيد بن إبراهيم أنه سمع الحسن وابن سيرين يصفان الأذان: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، يسمع بذلك من حوله ثم يرجع فيمد صوته ويجعل إصبعيه في أذنيه فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، حيَّ على الصلاة مرتين، حيَّ على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1183

وفي هذا فوائد عظيمة، منها: أن قيمة المسلم بتقواه؛ فالإسلام لا ينظر إلى جنس، ولا إلى نسب، ولا إلى عنصر، ولا إلى وطن؛ وإنما قيمة الإنسان بطاعة الله سبحانه وتعالى، وبامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

فهذا بلال ظلَّ يؤذن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حبشي فلم ينقص قدره ولم يكن عربيًّا، ولم ينفع نسب أبي لهب؛ لأنه كان عمَّ رسول الله" لأنه كان مشركًا، ولم يرفع ذلك أبا جهل؛ بل حطه في الحضيض حتى ينتهي إلى نار جهنم وبئس المصير.

فإنما يعز الله سبحانه وتعالى بهذا الدين أقوامًا، ويضع به آخرين، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أعزَّ هؤلاء، ومن بينهم بلال، لأن بلالًا كان من أوائل الذين استجابوا لدين الله سبحانه وتعالى، وكان سابع سبعة آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم لاقى من الأذى، والتعب إذ كان يسوقه غلمان مكة، وكان يُضرَب منهم ويقول:"أحد أحد"، وتوضع الصخرة على ظهره في بطحاء مكة وهو يقول:"أحد أحد"

(1)

، فتمضي الأيام وإذا بلال يرد المدينة ويصبح مؤذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويهبه الله سبحانه وتعالى صوتًا مؤثرًا نديًا إذا ما سمعته القلوب وجِلت تأثرًا به، ولذا نجد عمر رضي الله عنه عندما ذهب إلى بيت المقدس ألحَّ على بلال ليؤذن ليذكرهم بما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، ولما عاد

(1)

أخرجه ابن ماجه (150) عن عبد الله بن مسعود قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد؛ فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالًا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد. وصححه ابن الملقن في "مختصر تلخيص الذهبي"(4/ 1963). والألباني في "التعليقات الحسان"(7041).

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 419) وفيه أن بلالًا لم يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد، فأراد أبو بكر منعه وحبسه فقال: إن كنت أعتقتني لله فلا تحبسني عن الجهاد وإن كنت أعتقتني لنفسك أقمت. فخلَّى سبيله، فكان بالشام حتى قدم عليهم عمر بن الخطاب الجابية، فسأل المسلمون عمر بن الخطاب أن =

ص: 1184

إلى المدينة أيضًا أذن فاهتزت قلوب الناس لتذكرهم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. قال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فقيمة المرء بلا شك إنما تكون بتقوى الله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"تنكح المرأة لأربع، لمالها وجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ويمينك"

(2)

.

إذن لا شك أن الدين مقدَّم على غيره، فقد ينكح الإنسان امرأة لجمالها، أو لأنها صاحبة مال؛ أو صاحبة حسب ونسب ووجاهة لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الأمر الذي ينبغي أن يفعله المؤمن:"فاظفر بذات الدين"؛ لأن السعادة تكون بها، والاطمئنان.

والإسلام إنما يضع قيمة الإنسان ويحددها بتقوى الله سبحانه وتعالى، وهكذا رأينا مكانة بلال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك صهيب الرومي، وسلمان الفارسي عندما قال صلى الله عليه وسلم:"سلمان منا آل البيت"

(3)

، وظلت قيمتهم في المجتمع الإسلامي إلى يومنا هذا عند كل من يدرك قيمة المسلم.

= يسأل لهم بلالًا يؤذن لهم، فسأله؛ فأذن لهم يومًا أو قالوا: صلاة واحدة، قالوا: فلَم ير يومًا كان أكثر باكيًا منهم يومئذ حين سمعوا صوته ذكرًا منهم لرسول الله.

(1)

ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(3/ 217) أن: بلالًا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول: "ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ ". فانتبه حزينًا، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده، ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يضمهما، ويقبلهما. فقالا له: يا بلال! نشتهي أن نسمع أذانك. ففعل، وعلا السطح، ووقف. فلما أن قال: الله أكبر، الله أكبر، ارتجت المدينة. فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ازداد رجتها. فلما قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، خرجت العواتق من خدورهن. وقالوا: بعث رسول الله. فما رؤي يوم أكثر باكيًا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم. وقال بعده: "إسناده لين، وهو منكر".

(2)

أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466).

(3)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(6/ 261)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(3272).

ص: 1185

• قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الأَرْبَعِ فِرَقٍ: اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ).

هذا الكلام يتعلَّق بألفاظ الأذان، وعُلِم مما سبق أن الصيغ متعددة، وكلها صحيحة، وأن ما وقع بين العلماء من اختلاف في وجهات نظرهم؛ إنما هو اختلاف في الأفضل منها، وما هو الأولى؟

فهناك مَن أخذ بالأذان الذي كان يؤذن به بلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ورد في حديث عبد الله بن زيد كما ذهب إلى ذلك السادة الحنفية والحنابلة.

ومنهم من أخذ بما ورد بحديث أبي محذورة كالسادة الشافعية.

ومنهم من أخذ أيضًا ببعض روايات حديث أبي محذورة كالسادة المالكية.

وكل واحد منهم يتمسك بقول صحيح.

ولا شك مما سبق أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تكون باتباعه، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، ويقول أيضا:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"

(1)

، ويقول أيضًا:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"

(2)

، ولا شكَّ أن علامة محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تكون بطاعته صلى الله عليه وسلم باتباع أوامره، واجتناب ما نهى عنه فلا يعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما جاء عن طريق هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 12)، والبغوي في "شرح السنة"(1/ 212)، وقال الألباني في "المشكاة" (167):"رواه في شرح السنة، وقال النووي في أربعينه: هذا حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح. وسنده ضعيف".

(2)

أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44).

ص: 1186

قوله: (وَاخْتِلَافُ اتِّصَالِ العَمَلِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ المَدَنِيِّينَ يَحْتَجُّونَ لِمَذْهَبِهِمْ بِالعَمَلِ المُتَّصِلِ بِذَلِكَ فِي المَدِينَةِ).

يقصدب "المدنيين" مدرسة المدينة، لصاحبها الإمام مالك؛ إذ أخذ برواية من حديث أبي محذورة، والإمام الشافعي إنما أخذ بما انتهى إليه عند المكيين، وأخذ بالرواية الأخرى من حديث أبي محذورة، وأما الحنفية والحنابلة فأخذوا بأذان بلال: وقال المؤلف: أذان الكوفيين، والصحيح: إنما هو أذان بلال الذي كان يؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

• قوله: (وَالمَكِّيُّونَ كَذَلِكَ أَيْضًا يَحْتَجُّونَ بِالعَمَلِ المُتَّصِلِ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ، وَكلذَلِكَ الكُوفِيُّونَ وَالبَصْرِيُّونَ وَلكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ آثَارٌ تَشْهَدُ لِقَوْلِهِ، أَمَّا تَثْنِيَةُ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلهِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الحِجَازِ فَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ).

كل ذلك مضى شرحه قريبًا.

• قوله: (وَتَرْبِيعُهُ أَيْضًا مَرْوِيّ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَهِيَ زِيَادَاتٌ يَجِبُ قَبُولُهَا مَعَ اتِّصَالِ العَمَلِ بِذَلِكَ بِمَكَّةَ")

(1)

.

يريد أن يقول: إن الذي أخذت به الشافعي له أدلة، ويضاف إلى ذلك أن الحمل ظل متصلًا به إلى وقته بمكة.

قوله: (وَأَمَّا التَّرْجِيعُ الَّذِي اخْتَارَهُ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ

(1)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 43) وفيه: "ولأنه سنة أهل الحرمين ينقله خلفهم عن سلفهم، وأصاغرهم عن أكابرهم، من غير تنازع بينهم، ولا اختلاف فيه، فكان ذلك من دلائل الإجماع وحجج الاتفاق".

ص: 1187

مَالِكٍ

(1)

؟ فَرُوِيَ مِنْ طُرُقِ أَبِي قُدَامَةَ، قَالَ أَبُو عُمَر

(2)

: "وَأَبُو قُدَامَةَ عِنْدَهُمْ ضَعِيف").

ذكر المؤلف أمرًا غريبًا بالحديث الذي عن طريق أبي قدامة، فإن هذا الطريق الذي ذكره هو طريق ضعيف كما قال؛ لكن هناك طرق صحيحة جاءت عن طريق ابن جريج، ومكحول، وليس معنى أنه ذكر هذه الرواية الضعيفة أن تبقى حجة هذا الفريق ضعيفة؛ بل هناك طرق صحيحة، منها ما هو في "صحيح مسلم"

(3)

، وفي السنن

(4)

، وفي مسند أحمد

(5)

؛ فكان ينبغي للمؤلف أن يأتي بها بدل هذه الرواية الضعيفة.

• قوله: (وَأَمَّا الكُوفِيُّونَ فَبِحَدِيثِ أَبِي لَيْلَى

(6)

، وَفِيهِ: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ رَأَى فِي المَنَامِ رَجُلًا قَامَ عَلَى خرم

(7)

حَائِطٍ).

(1)

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري (1/ 434) حيث قال: "والمشهور عن مالك تربيع الشهادتين".

(2)

ذكر ابن عبد البر أبو قدامة في حديث سجود النبي صلى الله عليه وسلم في المفصل، فقال في "الاستذكار" (8/ 99):"ومن حجة من لم يرَ السجود في المفصل حديث مطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة هذا حديث منكر؛ لأن أبا هريرة لم يصحبه إلا بالمدينة وقد رآه يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وحديث مطر لم يروه عنه إلا أبو قدامة وليس بشيء".

(3)

أخرجه مسلم (379) عن أبي محذورة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذان:"الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله"، ثم يعود فيقول:"أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة مرتين، حيَّ على الفلاح مرتين".

(4)

أخرجه ابن ماجه (709)، وأبو داود (500)، والنسائي في "السنن الكبرى"(1607).

(5)

أخرجه أحمد (15376).

(6)

أخرجه أحمد (22377) وقال ابن الملقن في "تحفة المحتاج"(1/ 269): "إسناده على شرط الصحيح".

(7)

"الجذم": الأصل، وجذم الحائط أراد به بقية حائط أو قطعة من حائط. انظر: "طلبة =

ص: 1188

أراد به: عبد الرحمن بن أبي ليلى، فسقطت كلمة:"ابن". وأراد بالخرم هنا: "أصل حائط".

• قوله: (وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، فَأَذَّنَ مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى، وَأَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ بِلَالٌ فَأَذَّنَ مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى"، وَالَّذِي خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ

(1)

فِي هَذَا البَابِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فَقَطْ وَهُوَ: "أَنَّ بِلَالًا أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ).

الحديث المتفق عليه وهو: "أمر بلالًا أن يشفع الأذان مرتين مرتين، ويوتر الإقامة"، يعني: مرة في الإقامة يقول: "الله أكبر الله أكبر"، "أشهد ألا إله إلا له"، "أشهد أن محمدًا رسول الله"، "حي على الصلاة"، "حي على الفلاح"، "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة"، "الله أكبر الله أكبر"، "لا إله إلا الله"، وفي بعض الروايات: إلا الإقامة يشفعها، أي: يقول: "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" مرتين.

وهذا الخلاف ظاهر بين الأئمة:

يرى الشافعي

(2)

، وأحمد

(3)

: أن ألفاظ الإقامة: "إحدى عشرة كلمة"، وهي المشهورة.

ويرى مالك

(4)

: أنها: "عشر كلمات" فيرى أن المؤذن يقول: "قد قامت الصلاة" مرة واحدة، والإمامان الشافعي وأحمد يقولان:"قد قامت الصلاة" مرتين.

والراجح: هو الذي ورد في حديث عبد الله بن زيد

الذي ذكرناه بطوله ثم استأخر غير بعيد فذكر الإقامة (إحدى عشرة كلمة).

= الطلبة" للنسفي (ص 10)، و"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 252).

(1)

أخرجه البخاري (603)، ومسلم (378).

(2)

تقدَّم.

(3)

تقدَّم.

(4)

تقدَّم.

ص: 1189

• قوله: (ويُوتِرَ الإِقَامَةَ إِلَّا: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهُ يُثَنِّيهَا"

(1)

، وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ

(2)

عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ عَلَى صِفَةِ أَذَان الحِجَازِيِّينَ، وَلمَكَانِ هَذَا التَّعَارُضِ الَّذِي وَرَدَ فِي الأَذَانِ رَأَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ

(3)

، وَدَاوُدُ

(4)

أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ المُخْتَلِفَة إِنَّمَا وَرَدَتْ عَلَى التَّخْيِيرِ لَا عَلَى إِيجَابِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَأَنَّ الإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ فِيهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ المُؤَذِّن فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ).

هذا ما يعرف فقهيًا بالتثويب

(5)

، ومعناه في اللغة: يقال: ثوب بالصلاة، أي: نادى بها المؤذن.

وفي الشرع: أن يقول المؤذن في صلاة الفجر: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم".

فقد يسأل سائل فيقول: ما الحكمة من تخصيص هذا بصلاة الفجر؟

الجواب: أولًا: هل التثويب يخص صلاة الفجر، أم يشمل غيرها من

(1)

أخرجه البخاري (603)، ومسلم (378).

(2)

أخرجه مسلم (379) عن أبي محذورة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذان:"الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله"، ثم يعود فيقول:"أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة مرتين، حيَّ على الفلاح مرتين" زاد إسحاق: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله".

(3)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 294) حيث قال: "وهذا من الاختلاف المباح، فإن رجع فلا بأس. نص عليه أحمد".

(4)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 370) حيث قال: "ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير".

(5)

"التثويب": الدعاء للصلاة وغيرها. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 263).

ص: 1190

الصلوات؟

(1)

، الصحيح: أن ذلك خاص بصلاة الفجر؛ أما في غيرها فقد وجدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه دخل مسجدًا فوجد رجلًا يثوب فقال: هيا بنا فخرج ثم سئل عن ذلك

"

(2)

.

وسمي تثويبًا؛ لأنه من ثاب يثوب إذا رجع فالمؤذن عندما يقول: "حي على الصلاة، حي على الصلاة"، "حي على الفلاح، حي على الفلاح" يدعو الناس إلى الصلاة، ويحضهم إلى الإقبال على الصلاة، وينبههم للمسارعة إلى ما فيه فلاح في الدنيا والآخرة، والدعوة إلى أداء هذه الصلاة في الجماعة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، ثم يتبع

(1)

والتثويب يخص صلاة الفجر في قوله جمهور العلماء.

مذهب الحنفية، يُنظر:"المختصر" للقدوري (ص 25) حيث قال: "ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين".

ومذهب المالكية، يُنظر:"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (1/ 436) حيث قال: "وقد يقع التثويب على قول المؤذن في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم، روي عن بلال أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تثويب في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر". وليس هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم؛ لأنه من السنة في الأذان. ومذهب الشافعية، ينظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 199) حيث قال: التثويب: أن يقول في أذان الصبح بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم، مرتين، وهو سنة على المذهب الذي قطع به الأكثرون.

ومذهب الحنابلة يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 296). (ويقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم. مرتين) وجملته أنه يسن أن يقول فىِ أذان الصبح: الصلاة خير من النوم. مرتين، بعد قوله: حيَّ على الفلاح. ويُسفَى التثويب.

قال إبراهيم النخعي: "إنه سنة في سائر الصلوات"، قال الماوردي في "الحاوي الكبير" (2/ 56):"وأما سائر الصلوات فقد كان إبراهيم النخعي يذهب إلى أن التثويب فيها سنة كالصبح، وهذا خطأ".

(2)

أخرجه أبو داود (538) عن مجاهد، قال:"كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر أو العصر، قال: اخرج بنا فإن هذه بدعة"، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(236).

وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 475) عن مجاهد قال: "كنت مع ابن عمر فسمع رجلًا يثوب في المسجد، فقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع".

ص: 1191

ذلك فيقول: "الصلاة خير من النوم" هي دعوة أُخرى، ولذلك سمي لهذا بالتثويب بمعنى؛ رجع.

لماذا خُصَّ ذلك بصلاة الصبح؟ لا شك أن صلاة الصبح تختلف عن غيرها؛ فالناس في الغالب في نوم عميق، وهم بحاجة إلى من ينبههم، ويوقظهم، ويحضهم، ولذلك جاءت هذه الزيادة في أذان الصبح، حتى يتنبه الناس، ويتهيؤوا للصلاة.

• قوله: (هَلْ يُقَالُ فِيهَا أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ

(1)

إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ ذَلِكَ فِيهَا. وَقَالَ آخَرُونَ

(2)

: إِنَّهُ لَا يُقَالُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الَأذَان المَسْنُون، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ)

(3)

.

هناك خلاف بين العلماء في المقصود بالتثويب نبينه فيما يأتي:

ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد إلى أن التثويب بعدما يفرغ المؤذن في صلاة الصبح من قوله: "حي على الفلاح"، فيقول:"الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم" مرتين. والإمام الشافعي له رواية

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 25) حيث قال: "وصفة الأذان: أن يقول: الله أكبر الله أكبر إلى آخره، ولا ترجيع فيه ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين".

ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" للمواق (1/ 425) حيث قال: "يزاد قبل التكبير الأخير في نداء الصبح الصلاة خير من النوم مرتين".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (1/ 199) حيث قال: "الرابعة: التثويب: أن يقول في أذان الصبح بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم، مرتين، وهو سنة على المذهب الذي قطع به الأكثرون".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 134) حيث قال: " (و) يسن (قول) مؤذن (الصلاة خير من النوم مرتين. بعد حيعلة أذان الفجر) ".

(2)

مثل إسحاق بن راهويه، وسيأتي.

(3)

هي قوله في الجديد، والراجح في المذهب أنه سنة.

يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 191) حيث قال: "هو سنة على المذهب الذي قطع به الأكثرون، وقيل: قولان: القديم الذي يفتى به: أنه سنة، والجديد: ليس سنة".

ص: 1192

أُخرى

(1)

ليست الصحيحة في المذهب وهي: ليس التثويب في صلاة الصبح ولا غيرها، إذ ليس مسنونًا في الأذان، فلا يقال به.

ولقد أخذ المؤلف الرواية المرجوحة في المذهب فنسبها إلى الشافعي مع أن الصحيح من مذهب الإمام الشافعي هي الرواية التي حررها أصحابه، ودققوا القول فيها، وانتهوا إلى أنها الصحيحة مع الجمهور.

بينما ذهب السادة الحنفية بأن التثويب له معنًى آخر، وهو: الدعاء ما بين الأذان والإقامة، أي: هناك فترة بين الأذان والإقامة، فيقال فيها:"حي على الصلاة" مرتين "حي على الفلاح مرتين"

(2)

.

ونُقِل عن إسحاق بن راهويه أنه قال: "الدعاء بين الأذان والإقامة، إنما أحدثه الناس"

(3)

.

ونُقل عن الترمذي أيضًا أنه قال: "ما نقل عن بعض العلماء من إنكار التثويب - يعنون: الحنفية - فهموا من التثويب الدعاء ما بين الأذان والإقامة"

(4)

، ولا يمنع أن الإنسان قد يفعل ذلك لكن ليس من قبيل السنة.

• قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ هَلْ قِيلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ إِنَّمَا قِيلَ فِي زَمَانِ عُمَرَ؟).

ذكر المؤلف رحمه الله وعفا عنا وعنه - كلامًا عجيبًا في هذا، إذ ليس هناك خلاف؛ لأنه غالبًا ما يقتصر في الأحاديث على ما في "موطإ الإمام

(1)

تقدمت.

(2)

يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 130) حيث قال: "فهذا دليل على أن التثويب بعد الأذان، وكان التثويب الأول الصلاة خير من النوم

فأحدث الناس هذا التثويب إشارة إلى تثويب أهل الكوفة فإنهم ألحقوا الصلاة خير من النوم بالأذان، وجعلوا التثويب بين الأذان والإقامة حيَّ على الصلاة مرتين حيَّ على الفلاح مرتين".

(3)

يُنظر: "مسائل أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (2/ 497). قال: "التثويب بين الصلوات، وهو مما ابتدعه القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتركه أفضل".

(4)

قال الترمذي في "السنن"(1/ 378): "وإنما كره عبد الله التثويب الذي أحدثه الناس بعد".

ص: 1193

مالك"، وما في كتب ابن عبد البر خاصة "الاستذكار" منها، ولذلك ذكر ما ورد في "موطإ مالك": "أنه بلغه (أي: مالك) أن مؤذن عمر رضي الله عنه تأخَّر عن الصلاة فذهب المؤذن ليؤذنه بالصلاة، (أي: ليعلمه بالصلاة) فوجده نائمًا، فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن استيقظ وجاء فقال لمؤذنه: افعل ذلك في صلاة الصبح"

(1)

، هذا ما ورفى في موطإ الإمام مالك، فقال: إنه حصل خلاف، والحقيقة ليس هناك خلاف؛ إذ ذاك ثابت في عهد رسول الله كما في حديث بلال

(2)

، وأبي محذورة

(3)

، وحديث عبد الله بن زيد

(4)

، وحديث أنس

(5)

، وكذلك حديث عائشة

(6)

،

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ" بلاغًا (1/ 72).

(2)

أخرجه ابن ماجه (707) وفيه: "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا به، فأذن، قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2/ 279): "ضعيف، وبعضه صحيح".

(3)

أخرجه أبو داود (500) عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله علمني سنة الأذان؟، قال: فمسح مقدم رأسي، وقال:"تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ترفع بها صوتك، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" الأم (515).

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(42311) عن أنس قال: "من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حيَّ على الفلاح قال: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله .. "، وقال:"إسناده صحيح".

(6)

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7/ 309) عن عائشة، قالت:"جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الصبح، فوجده نائمًا، فقال: الصلاة خير من النوم، فأقرت في أذان الصبح". قال في "مجمع الزوائد"(1/ 330): "رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه صالح بن أبي الأخضر، واختلف في الاحتجاج به، ولم ينسبه أحد إلى الكذب".

ص: 1194

وحديث أبي هريرة

(1)

، وابن عمر

(2)

، وفي غيرها من الأحاديث، وبعضها في "صحيح مسلم"، وفي غيره.

فهذا ثابت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاطلاع المؤلف على ما ذهب إليه، وعدم اطلاعه على غيره؛ يعتبر غريبًا منه أن تفوت مثل هذه المسألة وهي من الأمور الدقيقة التي ينبغي أن ينتبه لها في مثل هذا الكتاب، وخاصة فيما يتعلَّق بالأمور الحديثية.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(القِسْمُ الثَّانِي مِنَ الفَصْلِ الَأوَّلِ مِنَ البَابِ الثَّانِي

اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الَأذَانِ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؟ وَإِنْ كانَ وَاجِبًا، فَهَلْ هُوَ مِنْ فُرُوضِ الأَعْيَانِ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَةِ؟ فَقِيلَ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّ الَأذَانَ هُوَ فَرْضٌ عَلَى مَسَاجِدِ الجَمَاعَاتِ. وَقِيلَ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَمْ يَرَهُ عَلَى المُنْفَرِدِ لَا فَرْضًا، وَلَا سُنَّةً).

ولا ينبغي للمسلم في مثل هذه القضايا أن يتتبع الخلافات وتنوعاتها، ولو أردنا أن نتتبعها فهي كثيرة في المسائل الفرعية من الفقه الإسلامي ولا ينفع ذلك عموم المسلمين؛ إذ المهم هو العمل بها في دينهم ودنياهم.

(1)

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7/ 267) عن أبي هريرة، قال:"أن بلالًا، أتى النبي صلى الله عليه وسلم عند الأذان في الصبح فوجده نائمًا، فناداه: الصلاة خير من النوم، فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله، في الأذان فلا يؤذن لصلاة قبل وقتها غير صلاة الفجر". قال في "مجمع الزوائد"(1/ 330): "رواه الطبراني في "الأوسط"، وقال: "تفرد به مروان بن ثوبان". قلت: "ولم أجد من ذكره".

(2)

قال الترمذي في "السنن"(5/ 287): "وقد روى عن ابن عمر أنه كان - يقول في صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم".

ص: 1195

وهذه رواية للإمام مالك يرى فيها أن الأذان مفروض على مساجد الجماعات

(1)

؛ لأن هذا الأذان نداء وبه يجتمع الناس في هذا المسجد، والرواية الأخرى له: أن الأذان سنة مؤكدة

(2)

، لكن بالنسبة للمنفرد أو الجماعة الذين يصلون في غير المساجد فليس بواجب ولا سنة

(3)

.

وللإقامة نفس الحكم، لكنه فصلهما عن بعض، وكان يحسن بالمؤلف أن يجمع بينهما؛ لأن الحكم فيهما واحد عند العلماء، لكن لعله فعل ذلك لوجود تفريق بينهما عند المالكية، وإلا لو اطلعنا على المذاهب الأخرى لما وجدنا فرقًا بينهما جملة من حيث الحكم.

• قوله: (وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الَأعْيَان)

(4)

.

كل أهل الظاهر لا يرون أنه شرط في صحة الصلاة؛ لأن الأذان لمجس جزءًا منها، والطهارة هي كذلك ليست جزءًا من الصلاة لكنها شرط في صحتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"

(5)

، أو:"حتى يتطهر"

(6)

.

• قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ

(7)

عَلَى الجَمَاعَةِ كانَتْ فِي سَفَرٍ أَوْ فِي

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (2/ 68) حيث قال: "إنما يجب في مساجد الجماعات".

(2)

يُنظر: "إرشاد السالك إلى أشرف المسالك" لابن عسكر (ص 13) حيث قال: "الأذان سنة مؤكدة للمصلين الفرض في وقته جماعة".

(3)

يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(1/ 253) حيث قال: "ومكروه للسنن وللجماعة التي لم تطلب غيرها".

(4)

يُنظر: "المحلى بالآثار"(2/ 166) حيث قال: "وممن قال بوجوب الأذان والإقامة فرضًا أبو سليمان، وأصحابه، وما نعلم لمن لم ير ذلك فرضًا حجة أصلًا، ولو لم يكن إلا استحلال رسول الله صلى الله عليه وسلم دماء من لم يسمع عندهم أذانًا، وأموالهم وسبيهم لكفى في وجوب فرض ذلك".

(5)

أخرجه البخاري (6954)، ومسلم (225) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(6)

لم أقف عليه.

(7)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (2/ 163، 164) حيث قال: "ولا تجزئ صلاة =

ص: 1196

حَضَرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ

(1)

: فِي السَّفَرِ. وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ

(2)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(3)

عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ لِلْمُنْفَرِدِ وَالجَمَاعَةِ إِلَّا أَنَّهُ آكَدُ فِي حَقِّ الجَمَاعَةِ).

وهذه هي الرواية التي يرجحها الشافعية، ولهم رواية أُخرى يتفقون فيها مع الحنابلة أنه فرض كفاية

(4)

، ورواية ثالثة على أنه فرض كفاية بالنسبة للجمعة دون غيرها

(5)

.

• قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ

(6)

: وَاتَّفَقَ الكُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكدَة، أَوْ فَرْضٌ عَلَى المِصْرِيِّ؛ لِمَا ثَبَتَ "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ لَمْ يُغِرْ، وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْهُ أَغَارَ")

(7)

.

= فريضة في جماعة - اثنين فصاعدًا - إلا بأذان وإقامة، سواء كانت في وقتها، أو كانت مقضية لنوم عنها أو لنسيان، متى قضيت، السفر والحضر سواء في كل ذلك، فإن صلى شيئًا من ذلك بلا أذان ولا إقامة فلا صلاة لهم".

(1)

لم أقف عليه.

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 401) حيث قال: "ومشروعية الأذان والإقامة ثابتة بالإجماع، وإنما الخلاف في كيفية مشروعيتهما والأصح أن كلا منهما سنة".

(3)

يُنظر: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 240) حيث قال: "الأذان سنة للصلوات الخمس والجمعة دون ما سواها".

(4)

مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (1/ 460) حيث قال: " (وقيل) إنهما (فرض كفاية) لكل من الخمس للخبر المتفق عليه "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم"".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 131) حيث قال: " (وهما) أي الأذان والإقامة (فرض كفاية).".

(5)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 318) حيث قال: "وقيل: هما فرض كفاية في الجمعة دون غيرها".

(6)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 387) حيث قال: "وأجمع المسلمون على أن الأذأن في المكتوبات على ما قد ذكرناه عنهم ولم يختلفوا أن ذلك واجب في المصر على جماعته".

(7)

أخرجه البخاري (2943)، ومسلم (382) من حديث أنس رضي الله عنه، وفيه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قومًا لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار بعدما يصبح، فنزلنا خيبر ليلًا".

ص: 1197

قوله هنا: "أبو عمر" يقصد به ابن عبد البر، وكذلك إذا قال القاضي بالإطلاق، وكثيرًا ما ينقل المؤلف عن كتابه "الاستذكار".

و"المصري" هو الذي يعيش في المصر.

وهذه دقة من ابن عبد البر رحمه الله، وحتى الذين يقولون بأنه فرض كفاية - وهم الحنابلة - في الرواية الأخرى يقولون على أهل المصر، فلا يجب على المسافر الأذان والإقامة عندهم

(1)

.

• قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ المَقْهُومِ مِنْ ذَلِكَ لِظَوَاهِرِ الآثَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ وَلصَاحِبِهِ:"إِذَا كُنْتُمَا فِي سَفَرٍ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمُّكُمَا أَكبَرُكمَا"

(2)

).

حديث مالك بن الحويرث له عدة روايات؛ والتي ذكرها المؤلِّف رواية منهم، والرواية الأخرى:"فليؤذِّن لكما أحدكما وليؤمّكما أكبركما"

(3)

، وفي أُخرى:"فليؤذِّن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"

(4)

على الجمع.

• قوله: (وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنِ اتِّصَالِ عَمَلِهِ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الجَمَاعَةِ).

أي: أنه ثبت ذلك من قوله -يعني: من أمره - فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر به مالك بن الحويرث وصاحبه كما مرَّ في الحديث المذكور، ومن فعله؛ لأنه أقره، فهو يؤذن له صلى الله عليه وسلم وإن لم يباشر الأذان بنفسه.

(1)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 407) حيث قال: "وعنه هما فرض كفاية في الأمصار، سنة في غيرها".

(2)

أخرجه البخاري (2848)، ومسلم (674).

(3)

لم أقف عليه.

(4)

أخرجه البخاري (628)، ومسلم (674).

ص: 1198

• قوله: (فَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا الوُجُوبَ مُطْلَقًا، قَالَ: إِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الَأعْيَان، أَوْ عَلَى الجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ المُغَلِّسِ

(1)

عَنْ دَاوُدَ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ الدُّعَاءَ إِلَى الِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ قَالَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ فِي المَسَاجِدِ، أَوْ فَرْضٌ فِي المَوَاضِعِ الَّتِي يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا الجَمَاعَةُ، فَسَبَبُ الخِلَافِ: هُوَ تَرَدُّدُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنْ أَقَاوِيلِ الصَّلَاةِ المُخْتَصَّةِ بِهَا، أَوْ يَكُونَ المَقْصُودُ بِهِ هُوَ الِاجْتِمَاعَ).

إن الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم من الخلفاء ومن بعدهم من المسلمين قد حافظوا عليه، وهذا الأذان أيضًا مما يجلب المسلمين إلى المساجد ويدعوهم إليها، وفيه -كما هو معروف- ترقيق للقلوب، وما أجمل أن يتردد فيه توحيد الله سبحانه وتعالى وإخلاص العبادة له، فقد اشتمل على عقيدة التوحيد، ولو أردنا أن نأخذه كلمة كلمة لاحتاج منا وقتًا كبيرًا.

وباختصار فإنه يبدأ بالتكبير وقول المؤذن: الله أكبر الله أكبر، أي: الله أكبر من كل شيء، ثم الاعتراف بالشهادتين فيقول: أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أدت محمدًا رسول الله، وهذه كلمة قيمتها في الميزان معلومة، وفي الحديث:"مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة"

(2)

، ثم يأتي بعد ذلك الدعاء إلى الصلاة وإلى الفلاح، ثم أيضًا العودة إلى تكبير الله سبحانه وتعالى، ثم يكون ختام ذلك المسك فيختم بالتوحيد: لا إله إلا الله.

(1)

ابن المغلس: عبد الله بن أَحْمَد بن مُحَمَّد بن المغلس، أبو الْحَسَن الفقيه الظاهري له مصنفات على مذهب داود بن عليٍّ، وكان ثقة فاضلًا فهمًا، أخذ العلم عن أبي بكر مُحَمَّد بن داود، وعن ابن المغلس انتشر علم داود في البلاد. انظر:"تاريخ بغداد"(11/ 26).

(2)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1/ 429) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه دخل الجنة"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2355).

ص: 1199

إذن هي كلمات عظيمة، ومن أحسن مَن تكلم فيها كلامًا دقيقًا جميلًا القاضي عياض رحمه الله في:"شرحه لصحيح مسلم"

(1)

.

• قوله: (فَسَبَبُ الخِلَافِ: هُوَ تَرَدُّدُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنْ أَقَاوِيلِ الصَّلَاةِ المُخْتَصَّةِ بِهَا، أَوْ يَكُونَ المَقْصُودُ بِهِ هُوَ الِاجْتِمَاعَ).

والأذان حقيقة ليس قولًا من أقوال الصلاة، ولكنه دعوة إلى الصلاة،

(1)

يُنظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 253)؛ حيث قال: "وقوله: (إذا قال المؤذن: الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر

) الحديثَ إلى قوله: (فإذا قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة)؛ لأن في حكايته لما قال المؤذن من التوحيد والإعظام، والثناء على الله، والاستسلام لطاعته، وتفويض الأمور إليه بقوله عند الحيعلتين: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذ هي دعاء وترغيب لمن سمعها، فإجابتها لا تكون بلفظها بل بما يطابقها من التسليم والانقياد، بخلاف إجابة غيرها من الثناء والتشهيدين بحكايتهما، وإذا حصل هذا للعبد فقد حاز حقيقة الإيمان وجماع الإسلام واستوجب الجنة، وكذلك مضمن الحديث الآخر في القول عند أذان المؤذن: (رضيت بالله ربا

) الحديثَ، ومثل هذا من التصريح بحقيقة الإيمان والاعتراف بقواعده. واعلم أن الأذان كلمات جامعة لعقيدة الإيمان ومشتملة على نوعيه من العقليات والسمعيات، فابتدأ بإثبات الذات بقوله:(الله) وما تستحقه من الكمال والتنزيه عن أضدادها المضمنة تحت قولك: (الله أكبر)، فإن هذه اللفظة على قلة كلمها واختصار صيغتها مشعرة بما قلناه لمتأمله، ثم صرح بإثبات الوحدانية والإلهية ونفى ضدها من الشركة المستحيلة في حقه، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على سائر وظائفه، ثم ابتدأ بإثبات النبوة لنبينا صلى الله عليه وسلم ورسالته لهداية الخلق ودعائهم إلى الله، إذ هي تالية الشهادتين، وموضعها من الترتيب بعدما تقدم لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات، وهنا كمل تراجم العقائد العقليات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه تعالى، ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات فصرح بالصلاة ثم رتبها بعد إثبات النبوة؛ إذ معرفة وجوبها من جهته صلى الله عليه وسلم لا من جهة العقل، ثم الحث والدعاء إلى الفلاح، وهو البقاء في النعيم. وفيه الإشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء، وهي آخر تراجم العقائد الإسلامية، ثم تكرر ذلك عند إقامة الصلاة للإعلام بالشرع فيها للحاضر ومن قرب، وفي طي ذلك تأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظيم حق من عبده، وجزيل ثوابه على عبادته".

ص: 1200

ونحن نجد أن الطهارة كما - سبق وبينَّا - ليست من الصلاة، وكذلك ستر العورة واستقبال القبلة ليست من الصلاة، لكنها شروط يتطلبها أداء هذا الركن، قال الله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].

فنقول إذن: إن هناك شروط للصلاة لا بد من توافرها، وهناك أركان للصلاة هي جزء منها كقراءة الفاتحة والركوع والسجود والقيام والاطمئنان، وهناك قضايا أُخرى كشروط وجوب الصلاة، وهي مما ينبغي أن تُدرك وتُعرف.

ثم نقول: إن كلَّ العلماء الذين يعتدُّ بأقوالهم متَّفقون على أنه لو صلى إنسان بغير أذان ولا إقامة فقد فعل مكروهًا لكن صلاته صحيحة

(1)

، ولو أن إنسانًا ترك الأذان والإقامة فقد ترك شعيرة من شعائر الإسلام، ونحن نقول: لا ينبغي التسامح بأمر الأذان ولا التساهل فيه، فهو شعيرة من شعائر الإسلام، وإظهار لأهمية الصلاة، ولذلك سيمرُّ بنا حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قومًا انتظر فإن أذَّن المؤذن توقَّف وإن لم يؤذن أغار عليهم صلى الله عليه وسلم

(2)

، وذلك لأن الأذان شعار وعلامة لأهل هذه القرية والبلدة على أنهم مسلمون، وإذا لم يؤذِّنوا فقد عطَّلوا شعيرة من شعائر الإسلام.

واختلف العلماء في حكم من عطَّل هذه الشعيرة، وقالوا: إذا عطَّل قوم هذه الشعيرة يُقاتلون عليها، وحتى مَن يقول بأنها سنة بعضهم يرى قتالهم

(3)

.

(1)

مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (2/ 395) حيث قال: "وكذلك لو صلَّى بغير أذان كرهت ذلك له ولا إعادة عليه".

(2)

سبق تخريجه.

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام" لملا خسرو (1/ 54) حيث قال: "وقال محمد بمقاتلة أهل بلدة اجتمعوا على تركه، وأبو يوسف يحبسون ويضربون ولا يقاتلون".

ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 228): "وأما في المصر فواجب على الكفاية يُقاتَلون لترك"، ويُنظر:"منح الجلي" للشيخ عليش (1/ 196). =

ص: 1201

والأذان دعاء للركن الناني من أركان الإسلام، وقد حافظوا عليه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"إذا كنتَ في باديتك أو غنمك فارفع صوتَك بالأذان؛ فإنه لا يسمع صوت المؤذن إنس ولا جن إلا شهد له يوم القيامة"

(1)

، وقد مرت بنا أحاديث فضائل المؤذنين.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(القِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الفَصْلِ الَأوَّلِ فِي وَقْتِهِ

وَأَمَّا وَقْتُ الأَذَانِ: فَاتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَذَّنُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، مَا عَدَا الصُّبْحَ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهَا)

(2)

.

= ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 402) حيث قال: " (وقيل) كل (فرض كفاية)؛ لأنهما من الشعائر الظاهرة وفي تركهما تهاون، فعليه لو تركهما أهل بلدة قُوتلوا بخلاف ذلك على الأول".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام" للحجاوي (1/ 76) حيث قال: "فإن تركهما أهل بلد قُوتِلوا".

(1)

أخرجه البخاري (609) وفيه: "فإذا كنتَ في غنمك، أو باديتك، فأذَّنتَ بالصلاة فارفع صوتَك بالنداء، فإنَّه لا يسمع مدى صوت المؤذن، جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ، إلا شهدَ له يوم القيامة".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"مجمع الأنهر" لشيخي زاده (1/ 75) حيث قال: " (ولا يؤذن لصلاة قبل) دخول (وقتها) ".

ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 230) حيث قال: "يشترط في الأذان أن لا يكون مقدمًا على الوقت إجماعًا لفوات فائدته".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 78) حيث قال: "وشرط صحة الأذان الوقت؛ لأنه للإعلام به فلا يصح قبله".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 507) حيث قال: "وإن أذَّن لغيره الفجر قبل دخول الوقت أعاد إذا دخل الوقت".

ص: 1202

أما صلاة الصبح فبالإضافة إلى ما ورد فيها من أحاديثَ تدلُّ على جواز الأذان لها قبل الوقت - ومن ذلك الحديث المتفق عليه - فإنَّ الحاجة أيضًا تدعو إلى ذلك؛ لأن الناس في الغالب نيام يحتاجون إلى مَن يوقظهم وينبِّهُهم بدخول وقت الصلاة، ولذلك ورد في بعض روايات حديث بلال رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"فإذا يؤذن - أو قال: ينادي - بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم"

(1)

.

• قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ

(2)

وَالشَّافِعِيُّ

(3)

إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا قَبْلَ الفَجْرِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ

(4)

).

وكذلك أحمد يرى الجواز

(5)

، وأما غير الصبح من الصلوات فالعلماء مجمِعُون - كما هو معلوم - على أنَّه لا يجوز أن يؤذّن لصلاة غير صلاة الفجر قبل وقتها

(6)

، ومَن فعل ذلك فيجب عليه أن يعيد، وقد نقل ذلك الأئمة ابن جرير الطبري

(7)

، وابن المنذر

(8)

.

(1)

أخرجه البخاري (7247)، ومسلم (1093).

(2)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 230) حيث قال: "إلا الصبح يستحبّ تقديم أذانها بسدس الليل الأخير".

(3)

يُنظر: "المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 78) حيث قال: "وشرط صحة الأذان الوقت؛ لأنه للإعلام به فلا يصح قبله إلا الصبح فيجوز بعد نصف الليل".

(4)

يُنظر: "ملتقى الأبحر" لإبراهيم الحلبي (ص 113) حيث قال: "ولا يؤذن لصلاة قبل وقتها ويعاد فيه لو فعل خلافًا لأبي يوسف في الفجر".

(5)

يُنظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 508) حيث قال: "ويعتدِّ بالأذان للفجر قبل دخول وقتها على المذهب".

(6)

سبق بيانه.

(7)

لم أقف عليه.

(8)

يُنظر: "الإقناع" لابن المنذر (1/ 87) حيث قال: "لا يؤذن للصلوات كلها إلا بعد دخول أوقاتها إلا أن يكون للمسجد مؤذنان، يؤذن أحدهيا للصبح خاصة قبل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر"، ويُنظر:"الأوسط" لابن المنذر (3/ 29).

ص: 1203

• قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ لِلصُّبْحِ إِذَا أُذِّنَ لَهَا قَبْلَ الفَجْرِ مِنْ أَذَافيِ بَعْدَ الفَجْرِ؛ لِأَنَّ الوَاجِبَ عِنْدَهُمْ هُوَ الَأذَانُ بَعْدَ الفَجْرِ).

والمقصود بالقوم: طائفة من أهل الحديث كما ذكر ذلك ابن المنذر

(1)

، ووجه هذا القول أن الأذان إنما شُرع للإعلام بدخول وقت الصلاة، فإذا أُذِّن للصلاة قبل وقتها لم يؤدَّ الغرض الذي شُرع لأجله، لكن لا مانع أن يؤذن لها قبل الوقت ثم يؤذن بعد دخول الوقت كما كان الأمر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.

• قوله: (وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: "لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَذَافيِ بَعْدَ الوَقْتِ، وَإِنْ أُذِّنَ قَبْلَ الوَقْتِ جَازَ إِذَا كانَ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَسِيرٌ قَدْرَ مَا يَهْبِطُ الَأوَّلُ، وَلَصْعَدُ الثَّانِي")

(2)

.

ودليل ذلك كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: "لم يكن بين أذانيهما -يعني: بلال وابن أم مكتوم- إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا"

(3)

، وفي قولها: إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا حجة للذين يقولون بأنه ينبغي أن يؤذن المؤذن على مكان عالٍ مرتفع، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

• قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ؛ أَحَدُهُمَا: الحَدِيثُ المَشْهُورُ الثَّابِتُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 30) حيث قال: "وقالت طائفة: لا بأس أن يؤذن للصبح قبل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر".

(2)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (2/ 159) حيث قال: "ولا يجوز أن يؤذَّن لصلاة قبل دخول وقتها إلا صلاة الصبح فقط، فإنه يجوز أن يؤذن لها قبل طلوع الفجر الثاني بمقدار ما يتم المؤذن أذانه وينزل من المنار أو من العلو ويصعد مؤذن آخر".

(3)

أخرجه البخاري (1918) من قول القاسم بن محمد لا من قول عائشة رضي الله عنهما.

ص: 1204

ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"

(1)

، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ).

ما ذكره من أنَّ عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه رجل أعمى صحيح، ودليله: ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه كان رجلًا أعمى، وأنه لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت

(2)

.

• قوله: (وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِي: أَلَا إِنَّ العَبْدَ قَدْ نَامَ"

(3)

، وَحَدِيثُ الحِجَازِيِّينَ أَثْبَتُ، وَحَدِيثُ الكُوفِيِّينَ أَيْضًا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ).

ومذهب الجمهور: أنَّه لا تعارض بين الحديثين

(4)

؛ إذ إنَّ الحديث الأول متَّفق عليه، وهو نصٌّ في المسألة، والحديث الآخر ضعيفٌ، وقد

(1)

أخرجه البخاري (620)، ومسلم (1092).

(2)

أخرجه البخاري (617).

(3)

أخرجه أبو داود (532)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(542).

(4)

يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (2/ 251)؛ حيث قال: "قال ابن القصار: فأخبر عليه السلام أن نداء بلال للصبح يقع في الوقت الذي يجوز لمن أراد الصوم أن يأكل ويشرب، وهو قبل الفجر. وأما قولهم: (إن نداء بلالًا كان لِيُسَحِّرَ الناسَ بأذانه ويستيقظ النائم وينام القائم كما جاء في الخبر)، فالجواب: أنه لو أراد به السحور فقط لقال: (حي على السحور)، ولم يقل: (حي على الصلاة) فيدعوهم، وهو يريد أن يدعوهم إلى السحور، فشأنه يدعوهم إلى الصلاة، وقد يكون لهما جميعًا فيكون أذانه حضًّا على الصلاة، وإن احتاج أحد إلى غسل اغتسل، أو يكون فيهم من عادته صلاة الليل ذلك الوقت، أو يكون إنسانًا قائمًا فيعرف أنه قد بقي عليه وقت يستريح فيه بنومه كما كان يفعل الرسول عليه السلام، فهذا معنى قوله: (ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم)، وهذا يحتاج إليه في شهر رمضان وغيره ممن يصوم دهره أو عليه نذر، وقوله: (إن بلالًا ينادي بليل)؛ أي: إن من شأنه أن يؤذن بليل الدهر كله، فإذا جاء رمضان فلا يمنعنكم أذانه المعهود من سحوركم، وفي إجماع المسلمين على أن النافلة بالليل والنهار لا أذان لها دليل بَيِّنٌ أنَّ أذانه كان لصلاة الصبح".

ص: 1205

تكلَّم فيه أبو داود

(1)

- وهو أحد رواته - وبيَّن وقْفَه، وأمَّا من صحَّحه فهم قلَّة من أهل العلم بخلافِ قول المؤلِّف أن كثيرًا منهم قد صحَّحه

(2)

.

• قوله: (فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ إِمَّا مَذْهَبَ الجَمْعِ، وَإِمَّا مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ فَالحِجَازِيُّونَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: حَدِيثُ بِلَالٍ أَثْبَتُ، وَالمَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْجَبُ، وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ فَالكُوفِيُّونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءُ بِلَالٍ فِي وَقْتٍ يَشُكُّ فِيهِ فِي طُلُوعِ الفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَصَرِهِ ضَعْفٌ، وَيَكُونُ نِدَاءُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فِي وَقْتٍ يَتَيَقَّنُ فِيهِ طُلُوعَ الفَجْرِ).

التوجيه الذي ذكره المؤلف غير مسلَّم به؛ لأن المؤذِّن الثاني كما مرَّ في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الذي رواه البخاري كان رجلًا أعمى، وكان لا يؤذِّن حتى يقال له: أصبحت أصبحت

(3)

.

ويشار إلى أن للحنفية أدلّة أُخرى على مذهبهم لم يستوفها المؤلِّف، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه:"لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر"

(4)

، وهم يرون أن هذا أقوى من الحديث الأول من حيثُ الدلالة على المقصود،

(1)

يُنظر: "سنن أبي داود"(1/ 146)؛ حيث قال: "وهذا الحديث لم يروه عن أيوب، إلا حماد بن سلمة"، ثُم ذكر بعده حديث قائلًا:"وقد رواه حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أو غيره أن مؤذنًا لعمر، يقال له: مسروح أو غيره، قال أبو داود: رواه الدراوردي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان لعمر مؤذن، يقال: له مسعود وذكر نحوه وهذا أصح من ذاك".

(2)

يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 103) حيث قال: "ورجاله ثقات حُفَّاظ، لكن اتفق أئمة الحديث - عليّ بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والأثرم، والدارقطني - على أن حمادًا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، وأن حمادًا انفرد برفعه".

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه أبو داود (534)، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود".

ص: 1206

أمَّا من حيثُ السند ففي كلا الحديثين مقالٌ، فالأول قد حكَم بوقفه أكابر العلماء كما سبق ذكره، وأما الآخر فضعفه ابن عبد البر وغيره، وأشار أيضًا إلى انقطاعه

(1)

.

• قوله: (وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانَيْهِمَا إِلَّا بِقَدْرِ مَا يَهْبِطُ هَذَا، وَيَصْعَدُ هَذَا"

(2)

، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، أَعْنِي أَنْ يُؤَذَّنَ قَبْلَ الفَجْرِ وَبَعْدَهُ، فَعَلَى ظَاهِرِ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ خَاصَّةً، أَعْنِي: أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ لَهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنَان: بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ).

استدلَّ العلماءُ بحديث عائشةَ رضي الله عنهما على استحباب اتِّخاذ مؤذِّنَين

(3)

، وقال بعضهم: يُزاد على ذلك إذا دعت الحاجة كما فعل عثمان رضي الله عنه، فإنَّه اتَّخذ أربعة مؤذنِين

(4)

.

وقد سبقت الإشارة إلى ما يتعلَّق بالأذان يوم الجمعة

(5)

،

(1)

يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (10/ 59) حيث قال: "وهذا حديث لا تقوم به حجة، ولا بمثله لضعفه وانقطاعه"، وضعفه ابن حجر في "الدراية" (1/ 119) حيث قال:"فيه انقطاع".

(2)

سبق تخريجه.

(3)

مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (1/ 477) حيث قال: "ويسنُّ مؤذنان للمسجد".

ومذهب الحنابلة: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 133) حيث قال: " (ويكفي مؤذن) في المصر (بلا حاجة) إلى زيادة نصًّا. ولا يستحب الزيادة على اثنين، وقال القاضي: على أربعة لفعل عثمان، إلا من حاجة والأولى أن يؤذن واحد بعد وأحد، (ويزاد) مع الحاجة أكثر بأن لم يحصل الإعلام بواحد".

(4)

يُنظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 522)(314) حيث قال: "حديث أن عثمان اتخذ أربعة من المؤذنين ولم تزد الخلفاء الراشدون على هذا العدد، هذا الأثر ذكره جماعة من فقهاء أصحابنا منهم صاحب المهذب، وبيض له المنذري والنووي ولا يعرف له أصل".

(5)

سبقت.

ص: 1207

وأن عثمان رضي الله عنه زاد النداء الثاني على الزوراء

(1)

، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في أبواب الجمعة.

ومن المسائل التي يتكلم عنها العلماء كذلك فيما يتعلَّق بالأذان صفة الأذان وكيفيته، وكذلك الإقامة، فيقولون: ينبغي على المؤذن أن يترسَّلَ في أذانه، وأن يحدرَ إقامته

(2)

، ويستدلُّون على ذلك بحديث بلال رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:"إذا أذَّنت فاسترسل، وإذا أقمْتَ فاحدرْ"

(3)

، ونُقِل أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لمؤذن بيت المقدس:"إذا أذَّنت فترسَّل، وإذا أقمتَ فاحزم"

(4)

، ومعنى الحزم: الإسراع

(5)

.

والترسُّل في الأذان إنما هو التمهّل فيه

(6)

، والحدر هو الإسراع

(7)

، ومن ذلك قولهم: جاء على رسله، أي: جاء غير مسرعٍ.

فالقصد من الترسّل في الأذان إذن هو عدم الإسراع فيه، فيقول مثلًا: الله أكبر

الله أكبر، وأما حركة الراء في التكبير فقد منع بعض العلماء ضمَّ الرَّاء من التكبيرة الأولى، وقالوا: له أن يفتع الأولى فيقول: الله أكبرَ الله أكبر، بناءً على أنه وقف وحرّك بالفتح لالتقاء الساكنين، والحاصلُ: أنه مخير بين الوجهين، إمَّا التسكين فيقول: الله

(1)

أخرجه البخاري (912).

(2)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 271) حيث قال: "ويترسل فيه ويحدر فيها، أي: يتمهل في الأذان ويسرع في الإقامة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 503) حيث قال: "ويترسل في الأذان، ويحدر الإقامة".

(3)

أخرجه الترمذي (195)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(228).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 195)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 51) وفيه:"وإذا أقمت فاحدر".

(5)

"وحذم في القراءة حذمًا، أي: أسرع فيها"، يُنظر:"معجم ديوان الأدب" لأبي إبراهيم الفارابي (2/ 182).

(6)

"وترسَّل في قراءته بمعنى: تمهَّل"، يُنظر:"المصباح المنير" للفيومي (1/ 226).

(7)

"الإسراع في القراءة وفي كل عمل"، يُنظر:"تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 238).

ص: 1208

أكبرْ

الله أكبرْ، وإمَّا التحريك فيقول: اللهُ أكبرَ الله أكبر، ولأهل اللُّغة كلام في هذه المسألة

(1)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(القِسْمُ الرَّابُع مِنَ الفَصْلِ الَأوَّلِ في الشُّرُوطِ

وَفِي هَذَا القِسْمِ مَسَائِلُ ثَمَانِيَةٌ).

المسائل التي ذكرها المؤلِّف في هذا القسم والمتعلقة بالاستحباب وعدمه لا تدخل ضمن لثروط الأذان التي لو تركت لم يصحَّ الأذان، ما عدا مسألة واحدة يمكن أن تدخل ضمن ذلك، وهي ما يتعلَّق بأخذ الأجرة على الأذان.

• قوله: (إِحْدَاهَا: هَلْ مِنْ شُرُوطِ مَنْ أَذَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ أَمْ لَا؟).

هذه القضايا سلك فيها المؤلف غير عادته؛ لأنه عادة إذا تعرَّض لمسألة يذكرها بأدلَّتها ويناقش ذلك في الغالب، أمَّا هنا فسَرَد المسائل فقط، وتحدَّث عن اثنتين أو ثلاث منهما وسكت عن الباقي، وقد قاس ذلك على الصلاة، والسبب أن هذه المسائل ليست من أمَّهات المسائل

(1)

يُنظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس" للأنباري (1/ 32) حيث قال: "وأجاز أبو العباس: الله أكبر الله أكبرْ، واحتج بأن الأذان سُمع وقفًا لا إعراب فيه، كقولهم: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاحْ، ولم يُسمعْ: حيّ على الصلاةِ، حيّ على الفلاحِ، فكان الأصل فيه: الله أكبرْ الله أكبرْ، بتسكين الراء، فألقوا على الراء فتحة الألف، من اسم "الله" عز وجل، وانفتحت الراء وسقطت الألف، كما قال عز وجل: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، كان الأصل فيه والله أعلم: ألمْ الله لا إله إلا هو، بتسكين الميم، فأُلقِيت فتحة الألف على الميم، وسقطت الألف".

ص: 1209

التي جعلها المؤلف قاعدة كتابه، وإنما هي من فروعها التي لم يستقصِها، وإنما ذكر جملة منها.

ومعنى هذا الشرط: هل تختص الإقامة بالمؤذن فقط، فالذي يؤذِّن هو الذي يقيم، أو أن لغيره أن يقيم كذلك؟ وكلهم

(1)

متَّفقون على أنه لو أذَّنَ رجل وأقام آخر فذلك جائز، ولهم قولان في المسألة:

الأول: الشافعي

(2)

وأحمد

(3)

استحبَّا أن يكون المؤذن هو الذي يقيم، واستدلُّوا بحديث:"إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ"

(4)

.

الثاني: ذهب الحنفية

(5)

والمالكية

(6)

إلى جواز ذلك، واستدلوا بما جاء في بعض الروايات في حديث عبد الله بن زيد قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان أشياء لم يصنع منها شيئًا، قال: فأُري عبد الله بن زيد الأذان في المنام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ" فألقاه عليه فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته وأنا كنت أريده، قال:"فَأَقِمْ أَنْتَ"

(7)

.

والذين قالوا بالاستحباب - وهو الأظهر - قالوا: إن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد رضي الله عنه في الإقامة؛ لأنه اختصَّ بالرؤيا، والمسألة جزئية ويسيرة، وليس هناك بحثٌ أوسع من الذي ذكرناه فيما عرض له العلماء.

(1)

سيأتي توثيق ذلك من ظاهر المذاهب.

(2)

يُنظر: "المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 79)" (وكونه) كالإقامة أيضًا (من واحد) فلا يصحّ بناء غير المؤذن والمقيم على ما أتيا به؛ لأنه يورث اللبس في الجملة، وإن اشتبها صوتًا".

(3)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 135) حيث قال: " (و) سنَّ أيضًا (أن يتولاهما)، أي: الأذان والإقامة رجل (واحد) ".

(4)

أخرجه أبو داود (514)، وغيره، وضعفه الألباني في "ضعيف أبى داود"(83).

(5)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 271) حيث قال: "ولو أقام غيره جاز".

(6)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 235) حيث قال: "وإقامة غير من أذن، أي: يجوز لكن المطلوب أن يكون المؤذن هو الذي يقيم".

(7)

أخرجه أبو داود (512)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(81).

ص: 1210

• قوله: (وَالثَّانِيَةُ: هَلْ مِنْ شُرُوطِ الَأذَان أَلَّا يُتَكَلَّمَ فِي أَثْنَائِهِ أَمْ لَا؟).

وهذه قضية أُخرى، وهي أن الأذان يشتمل على عدَّة أمور، ففيه ثناء، ودعاء، وفيه إقرار بالوحدانية لله سبحانه وتعالى، أي: بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهذه الأمور الثلاثة تجعله يشبه خطبة الجمعة، فكلّ منهما فيه ذكر، والخطبة - كما هو معروف - يُمنع على الإنسان أن يتكلَّم فيها وخاصة المأموم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ"

(1)

.

وقد تكلَّم العلماء حول مسألة تكلُّم الإمام، كما في حديث أنس بن مالك، قال:"أصابت الناسَ سَنةٌ على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي، فقال يا رسول الله: هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة .. "

(2)

، وتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهو يخطب كما جاء في الحديث: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال:"أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ " قال: لا، فقال:"قُمْ فَارْكَعْ رَكعَتَيْنِ"، وقال لآخر:"أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ " قال لا، قال:"قُمْ فَارْكَعْ رَكعَتَيْنِ"

(3)

.

والعلماء متفقون تمامًا على أن الأولى ألا يتكلَّمَ في الأذان إلا أن يكون هناك أمر لمصلحة، وقالوا: إن المؤذنين ما كانوا يتكلمون

(4)

،

(1)

أخرجه البخاري (934)، ومسلم (851) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (933)، ومسلم (897) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (930)، ومسلم (875) من حديث جابر رضي الله عنه.

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"ملتقى الأبحر" لإبراهيم الحلبي (ص 117) حيث قال: "ولا يتكلم في أثنائهما".

ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 230) حيث قال: "فلا يفصل بينها بسلام ولا رد ولا بإشارة لرد سلام أو غيره ولا بغير ذلك، أي: يكره ذلك".

ص: 1211

وهناك من يفَصِّل القول في ذلك فيقول: فرْقٌ بين أن يطولَ الكلام أو يكثر؛ فإن كان الكلام قصيرًا لا يفصل بين ألفاظ الأذان، فإنه لا يضرّ، وأما إن كان كثيرًا فبعضهم يستحبّ إعادة الأذان

(1)

، وأكثر العلماء لا يرى ذلك

(2)

.

وأمَّا مسألة ردّ السلام؛ فبعضهم كرِهَ ذلك، وبعضهم أباحه

(3)

، والمسألة كلها تتعلَّق بصلاحية القياس على خطبة الجمعة من عدمه

(4)

.

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 411) حيث قال: " (و) يشترط (موألاته) وكذا الإقامة؛ لأن ترك ذلك يخل بالإعلام فلا يفصل بين كلماته بسكوت أو كلام طويل. نعم لا يضر يسيرهما ولو عمدًا كيسير نوم وإغماء وجنون لعدم إخلاله بالإعلام، وشنّ أن يستأنف في غير الأولين وكذا فيهما في الإقامة".

وهناك قول آخر عند الشافعية ببطلان الموالاة، وبالتالي يستأنف. يُنظر:"العزيز شرح الوجيز" للرافعي (1/ 417) حيث قال: "وإن تكلَّم بكلام كثير ففيه قولان مرتَّبان على السكوت الطويل، وهو أولى بإبطال الولاء".

وذهب الحنفية: إلى أنه لو تكلم في الأذان والإقامة استأنف. يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 389) حيث قال: " (ولا يتكلم فيهما)، أصلًا ولو رد سلام، فإن تكلم استأنفه".

(2)

يُنظر: "العزيز شرح الوجيز" للرافعي (1/ 417) حيث قال: "واعلم أن صاحب "الإفصاح" والعراقيين قالوا: يجوز البناء في هذه الصور وإن طال الفصل، وحكوه عن نص الشافعي رضي الله عنه، لكن الأشبه وجوب الاستئناف عند تخلل الفصل الطويل".

(3)

فمن منعه، وأوجبوا الاستئناف الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 389) حيث قال: " (ولا يتكلم فيهما) أصلًا ولو رد سلام، فإن تكلم استأنفه".

وممن أباحه الحنابلة يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 241) حيث قال: " (وله رد سلام فيهما)، أي: في الأذان والإقامة ولا يبطلان به، ولا يجب الرد؛ لأن ابتداء السلام إذن غير مسنون".

(4)

فمن العلماء من قاس على الخطبة كما عند الشافعية، يُنظر:"العزيز شرح الوجيز" للرافعي (1/ 417) حيث قال: "الكلام في خلال الأذان بمطلقه لا يبطله؛ لأنه ليس بآكد من الخطبة، وهي لا تبطل به، ولكن ينظر إن كان يسيرًا لم يضر كما في الخطبة، وكما في السكوت اليسير، هذا هو المشهور". مذهب الحنفية يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 134) حيث قال: " (ولا يتكلم المؤذن في أذانه وإقامته)؛ لأنه ذكر معظم كالخطبة فيكره التكلم في خلاله لما فيه من ترك الحرمة". =

ص: 1212

• قوله: (وَالثَّالِثَةُ: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ أَمْ لَا؟).

هذه قضية مهمة، وهي من أكثر المسائل التي بحثها العلماء، وإن لم يكن بحثًا موسعًا.

والمعلوم: أن الطهارة نوعان؛ طهارة من الحدث الأصغر وطهارة من الحدث الأكبر، ولا شكَّ عند كافَّة العلماء أن الطهارة مستحبَّة، بالنسبة لمن يؤذن، فالعلماء تكلَّموا في الأذان وأن المؤذن يُكره له أن يخرج من المسجد إلا لحاجة، وحتى غير المؤذنين ممن يحضرون في المسجد يُكره لهم الخروج إلا لحاجة

(1)

، وهذه مسائل لم يتعرض لها المؤلف.

فينبغي للمؤذن إذن أن يكون على طهارة في حالة الأذان والإقامة، يقول العلماء: إذا ما أذن المؤذِّن وهو غير طاهر سواء كان محدِّثًا حدثًا أكبر أو أصغر فأذانه صحيح، لكنه يكون قد فعل مكروهًا

(2)

، ونُقِل عن عطاء أنه قال:"من أذَّن من غير طهارة يلزمه أن يعيد"

(3)

.

= ومن العلماء من لم يرَ القياس على الخطبة كما عند المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 194) حيث قال: "ويكره الفصل (ولو) كان (بإشارة لكسلان) أو رده أو تشميت عاطس خلافًا لمن قال: لا بأس برده إشارة كالصلاة، والفرق: أن الصلاة لها وقع في النفس لحرمة الكلام فيها فأبيح فيها الرد بالإشارة بخلاف الأذان".

(1)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 78) حيث قال: "وكره خروجه من مسجد أذَّن فيه حتى يصلي".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"ملتقى الأبحر" لإبراهيم الحلبي (ص 118) حيث قال: "ويؤذن ويقيم على ظهرٍ وجاز أذان المحدث".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (1/ 472) حيث قال: "ويكره كل منهما للمحدث"

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 135) حيث قال: " (و) يسن كونه في الأذان والإقامة (متطهرًا) من الحدثين".

(3)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 37) حيث قال: "اختلف أهل العلم في الأذان على غير طهارة، فكرهَتْ طائفة أن يؤذن المؤذن إلا طاهرًا، فممن قال: لا يؤذن المؤذن إلا متوضئًا عطاء".

ص: 1213

إذن جماهير العلماء يُجيزون الأذان من غير طهارة مع الكراهة، ومن العلماء منِ اشترط الطهارة في الأذان

(1)

، ومنهم من فرَّق بين المسجد وغيره

(2)

.

والذين اشترطوا الطهارة، استدلّوا بما يلي:

الأول: حديث: "لَا يُؤَذِّنُ إِلَّا مُتَوَضِّئ"

(3)

، والصحيح: أن هذا الأثر ليس مرفوعًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو موقوف على أبي هريرة

(4)

.

الثاني: كذلك ورد عن عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه قال: "حَقٌّ وَسُنَّةٌ مَسُنُونَةٌ أَلَّا يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ"

(5)

، وهذا أيضًا مثل الأول موقوف. وقد تكلَّم عنه العلماء وبينوا أن فيه انقطاعًا، فراويه عن وائل بن حجر لم يدركه، وقالوا: هو مرسل أيضًا

(6)

.

إذن الشاهد: أنه لم يرد حديث مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صحيح في هذا المقام يُثبِت ما يتعلَّق بوجوب الطهارة، ومن هنا قال العلماء بجواز ذلك، لكن الذي يستأنس به بعض العلماء حديث المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلَّم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه

(1)

كمثل عطاء كما سبق بيانه.

(2)

يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (2/ 259)؛ حيث قال: "وأجازه سحنون في غير المسجد".

(3)

أخرجه الترمذي (200) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(6317).

(4)

يُنظر: "الدراية" لابن حجر (1/ 121) حيث قال: "لا يؤذن إلا متوضئ، أخرجه الترمذي مرفوعًا وموقوفًا، وقال: الصواب موقوف"، وانظر:"سنن الترمذي"(1/ 390).

(5)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 583)، وضعفه الألبانى فى "إرواء الغليل"(1/ 240).

(6)

يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 583) حيث قال: "عبد الجبار بن وائل، عن أبيه مرسل".

ص: 1214

فقال: "إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ عز وجل إِلَّا عَلَى طُهْرٍ"، أو قال:"عَلَى طَهَارَةٍ"

(1)

.

وهذا الحديث توقَّف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ردِّ السلام؛ لأن السلام ذِكْر، وهذا من باب الكراهة، وإلا فله أن يردَّ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في كلِّ أحيانه.

إذن لا شكَّ أنَّه يستحب أن يكون المؤذن على طهارة، وأن المحدث حدثًا أصغر أخف من المحدث حدثًا أكبر؛ لأن بعض العلماء يتشدد في هذا.

• قوله: (وَالرَّابِعَةُ: هَلْ مَنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إِلَى القِبْلَةِ أَمْ لَا؟).

وهذه المسألة أيضًا تعتبر من جزئيات مسائل الأذان، وبعض العلماء متفقون على أنه لو أذن إنسان إلى غير القبله فأذانه جائز لكنه فعل مكروهًا

(2)

.

ويستحب أن يتجه المؤذن إلى القبلة، وقد استدلُّوا على ذلك بأمور:

الأول: أنه قد ورد في بعض روايات عبد الله بن زيد رضي الله عنه في قصة الذي رأى رجلًا عليه ثوبين أخضرين - قال: "فاتجه إلى القبلة أو وقف إلى القبلة فأذن"

(3)

.

الثاني: قالوا كذلك أن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذِّنون قِبَل القبلة، يعني: جهة القبلة.

(1)

أخرجه أبو داود (17) من حديث المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(13).

(2)

مذهب الشافعية: "بحر المذهب" للروياني (1/ 402) حيث قال: "فإن ترك الاستقبال كره وأجزأه".

(3)

لم أقف عليه.

ص: 1215

الثالث: ثم إن بعضَ أهل العلم يضيف إلى ذلك تعليلًا آخر فيقول: الأذان كما هو معلوم يشتمل على الثناء على الله سبحانه وتعالى؛ إذ فيه تكبير الله عز وجل، وفيه أيضًا ذكر للشهادتين من توحيد لله سبحانه وتعالى، أولًا:(شهادة ألا إله إلا الله) ثم شهادة أن محمَّدًا رسول الله، كما فيه دعاء إلى الصلاة (حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح)، فقد اشتمل إذن على ذكْرٍ ودعاء وثناء وتوحيد، وإن أحسن أحوال الذاكر الداعي أن يكون متجهًا إلى القبلة، ومنه فلا شكَّ أن التوجه إلى القبلة مطلوب.

فإذا أذَّن إنسان إلى غير القبلة فقد خالف السنَّة في ذلك، ولا يعتبر أذانه باطل، لكن لا ينبغي أيضًا للمؤذن أن يتجه إلى غير القبلة.

• قوله: (وَالخَامِسَةُ: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا أَمْ لَا؟).

أي: هل من شرط الأذان أن يكون المؤذِّن في حالة أذانه قائمًا أو يجوز له الجلوس، والذي ورد في ذلك أن المؤذنين كانوا يؤذنون قيامًا، وقد ورد عن أبي زيد الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه أنه أذَّن قاعدًا

(1)

، لكن ذلك لأنه أصيبت رجله في الجهاد في سبيل الله، وأهل العلم أيضًا متَّفقون على أنه لو أذَّن الإنسان جالسًا فأذانه صحيح، لكنَّه خالف السنة، فالسنة في ذلك أن يؤذِّن الإنسان قائمًا

(2)

، والدليل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه لما رأى عبد الله بن زلد الأذان وحكى الرؤية: "قُم فأذِّن"

(3)

، وفعل الأمر (قُم) القصد به أن يؤذِّن قائمًا، كما أن المؤذنين كانوا يأذِّنون قيامًا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي زمن خلفائه رضي الله عنهم، ولو أذن المؤذن جالسًا صحَّ، لكنه خلاف السنة.

(1)

أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/ 20)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 577)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(225).

(2)

مذهب الحنابلة: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 135) حيث قال: " (و) يسن (كونه قائمًا فيهما)، أي: الأذان والإقامة، لقوله صلى الله عليه وسلم لبلال: "قم فأذن"، وكان مؤذِّنو النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنون قيامًا والإقامة أحد الأذانين (فيكرهان)، أي: الأذان والإقامة (قاعدًا)، أي: من قاعد (لغير مسافر ومعذور) لمخالفة السنة".

(3)

سبق تخريجه.

ص: 1216

• قوله: (وَالسَّادِسَةُ: هَلْ يُكْرَهُ أَذَانُ الرَّاكِبِ أَمْ لَيْسَ يُكْرَهُ؟).

أي: أن يؤذِّن وهو راكب على دابة أو على سيارته - في زمننا - وقد أجاز ذلك جماهير العلماء

(1)

واستدلُّوا بقصة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما أذَّن فنزل وأقام الصلاة

(2)

، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أذَّن على الراحلة

(3)

لكن ذلك كان في يوم مطير، ولذلك قد يعترض على جوازه ويقال: إنه كان يوم مطر، وقد فعل ذلك للضرورة، لكن فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نصٌّ في المسألة، فإنه أذَّن على دابَّته، وفي بعض الروايات على جمله ثم نزل فأقام

(4)

.

• قوله: (وَالسَّابِعَةُ: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ البُلُوغُ أَمْ لَا؟).

أما البلوغ: فلا يخلو الأمر من أن يكون الصغير مميِّزًا أو غير مميِّز، فإن كان مميز فأذانه صحيح، وإن كان غير مميز فلا.

وأهل العلم يضعون شروطًا كثيرة للأذان لم يتعرض لها المؤلف، ومن تلكم الشروط:

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(ص 56) حيث قال: " (ويكره أذان جنب

وراكب إلا لمسافر" باختصار.

ومذهب الشافعية، يُنظر:"العزيز شرح الوجيز" للرافعي (1/ 414) حيث قال: "ينبغي أن يؤذن ويقيم قائمًا؛ لأن الملك الذي رآه عبد الله بن زيد في المنام أذن قائمًا، وكذلك كان يفعل بلال وغيره من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه أبلغ في الإعلام، فلو ترك القيام مع القدرة ففيه وجهان؛ أصحهما: أن الأذان والإقامة صحيحان لحصول أصل الإبلاغ والإعلام؛ ولأنه يجوز ترك القيام في صلاة النفل ففي الأذان أولى إلا أنه يُكره ذلك إلا إذا كان مسافرًا فلا بأس بأن يؤذن راكبًا قاعدًا".

ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرُّعيني (1/ 441) حيث قال: "وأما أذان الراكب فجائز، قاله في المدونة؛ لأنه في معنى القائم".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام" للحجاوي (1/ 78) حيث قال: "ويؤذن ويقيم قائمًا، ويكرهان من قاعد وراكب وماشٍ بغير عذر لا لمسافر راكبًا".

(2)

أخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء"(2/ 691)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 577)، وحسَّنه الألباني بمجموع الطرق في "إرواء الغليل"(226).

(3)

أخرجه الترمذي (411)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(6434).

(4)

لم أقف عليه.

ص: 1217

- أن يكون المؤذن مسلمًا؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادات فلا يُقبل أذانه.

- وأن يكون عاقلًا، فالمجنون ليس مطالبًا بالعبادة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "رُفِعَ القلم عن ثلاثة

"

(1)

في حديث عليّ وعائشة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، وذكر من بينهم:"المجنون حتى يفيق" فهو مرفوع عنه القلم.

- وأن يكون ذكرًا، وقد قال العلماء لا تؤذِّن المرأة للرجال؛ لأن الأذان غير مشروع في حقِّها.

كما أنهم ذكروا أشياء اعتبروها من المستحبات منها:

- استحبوا أن يكون المؤذِّن حرًّا.

- ويستحب للمؤذن أن يرفع صوته في الأذان، ومن أدلَّة ذلك:

الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا محذورة رضي الله عنه بذلك، فعن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جدِّه قال: قلت: يا رسول الله علِّمني سنَّة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسي، وقال:"تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ترفع بها صوتك ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح حيّ على الفلاح، فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله"

(2)

.

الثاني: وقال أيضًا لعبد الله بن زيد رضي الله عنه: "فقم مع بلال فألق عليه ما

(1)

أخرجه البخاري (7/ 45) من حديث عليّ رضي الله عنه معلقًا، وهو موصول عند أبي داود (4399)، وغيره، وأخرجه أبو داود (4389)، وغيره، من حديث عائشة رضي الله عنهما، وصحح الألباني كلا الحديثين في "إرواء الغليل"(279).

(2)

أخرجه مسلم (379).

ص: 1218

رأيت فليؤذِّن به فإنه أندى صوتًا منك"

(1)

، أي: أعلى صوتًا وأرفع.

الثالث: وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتَ في باديتك فارفع صوتك بالأذان"

(2)

.

واختلفوا في الأعمى هل يؤذن أو لا؟ والصحيح: أنه يؤذن؛ لأن ابن أم مكتوم رضي الله عنه كان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

• قوله: (وَالثَّامِنَةُ: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَلَّا يَأْخُذَ عَلَى الأَذَانِ أَجْرًا أَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ؟).

وهذه المسألة قد تكررت معنا، وقد تأتي معنا أيضًا في أبواب قادمة، فقد تكلمنا عنها عندما دخلنا في أول مباحث الصلاة، هل يجوز أخذ الأجرة على الإمامة؟ كما تكلمنا عنها بعد ذلك في موسم الحج عندما ذكر المؤلف ما يتعلَّق بحكم أخذ الأجرة على الحجِّ، أي: إذا أراد إنسان أن يحجَّ عن آخر، هل يجوز له أن يأخذ الأجرة - أو لا؟

وهذه مسألة يختلف فيها العلماء، وسبب الخلاف بينهم في الأصل هل يجوز أخذ الأجرة على القربى أم لا؟ كالإمام الذي يصلي بالناس، والمعلم الذي يعلم العلوم الإسلامية، والمؤذن الذي يؤذن للصلاة.

ونقول: أولًا لا شكَّ أن مَن يتورع عن ذلك خير له وأولى، ثم يبقى بعد ذلك الكلام عن الجواز أو المنع، وقد اختلف أهل العلم في ذلك على رأيين:

الأول: من العلماء مَن قال: لا يجوز أخذ الأجرة. على القربات؛ لأن الإنسان مطالب بأن يصلي، والأذان أيضًا يُعتبر عبادة، وينبغي للإنسان أن يتبرع به، وقِسْ على ذلك باقي القربات الأخرى، ومن القائلين بعدم

(1)

أخرجه أبو داود (499)، وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(512).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 1219

جواز أخذ الأجرة على الأذان - كما هو معلوم - الحنفية

(1)

، والحنابلة

(2)

في الرواية المعتمدة في المذهب، والشافعية في قول لهم

(3)

، واستدلُّوا على ذلك بدليلين:

الدليل الأول: وهو حديث أبي العاص - وهو نص في المسألة - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على آذانه أجرًا"

(4)

، وقوله:"اتَّخِذ" هذا أمر، وهو حديث حسن صالح للاحتجاج به، وليس كما قال المؤلف:"اختلفوا في تصحيحه".

الدليل الثاني: قولهم: إن هذه قربة من القربات؛ فلا ينبغي للإنسان أن يأخذ أجرًا على فعل من أفعال القربات والبر والطاعات.

الثاني: وذهب في مقابل هؤلاء المالكية

(5)

، والشافعية في المشهور من المذهب إلى جواز ذلك

(6)

، واستدلُّوا على ما ذهبوا إليه بقولهم: إن الأذان عمل؛ لأن الإنسان سيحبس نفسه في وقت محدد وسيلتزم فيه بأداء

(1)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 268) حيث قال: "أن لا يأخذ على الأذان أجرًا".

(2)

يُنظر: "الإقناع في فقه الإمام" للحجاوي (1/ 76) حيث قال: "ولا يجوز أخذ الاجرة عليهما".

(3)

يُنظر: "بحر المذهب" للرولاني (1/ 432) حيث قال: "اختلف أصحابنا في جواز عقد الإجارة على الأذان من الإمام، أو من واحد من الرعايا، فقال الأكثرون: يجوز كما يجوز على تعليم القرآن وأداء الحج عن الغير".

(4)

أخرجه أبو داود (531)، وغيره، من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(541).

(5)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 236) حيث قال: "يجوز أخذ الأجرة على الأذان وحده أو على الإقامة وحدها أو على أحدهما مع الصلاة فريضة أو نافلة، وسواء كانت الأجرة من بيت المال كما فعل عمر أو من آحاد الناس على المشهور".

(6)

يُنظر: "بحر المذهب" للرولاني (1/ 432) حيث قال: "اختلف أصحابنا في جواز عقد الإجارة على الأذان من الإمام، أو من واحد من الرعايا، فقال الأكثرون: يجوز كما يجوز على تعليم القرآن وأداء الحج عن الغير، وبه قال مالك، وهذا أشبه بالمذهب".

ص: 1220

الأذان، ولذلك اشترط العلماء في المؤذن أن يكون أمينًا - أي: على الوقت - وأن يكون أيضًا عالمًا بالأوقات، والعمل يجوز أخذ الأجرة عليه قياسًا على أخذ الرزدتى، فما دام أنه يجوز للإمام أن يعطي مَن يقوم بالقربات من بيت المال بأن يضع له نفقة محددة، فكذلك يجوز أخذ الأجرة على فعل القربات.

وقد قال أهل العلم: لو وُجِد متبرع لأداء تلك المهمة؛ فلا ينبغي أن يؤتى بإنسان يأخذ عليها أجرةً، ولذلك نقول: مَن يتبرع يكون أولى، وسيجد في ذلك ثوابًا عظيمًا عند الله تبارك وتعالى، وأما لو أخذ أجرة فلا يظهر لنا حقيقة عدم جواز ذلك، وقد سبق وذكرنا في الأبواب السابقة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ أعظم ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"

(1)

، وكذلك قصة الذين أخذوا الأجرة على الرقية لما مروا بقوم فاستضافوهم ولم يقدموا لهم حقَّ الضيافة، فلُدِغ لهم لديغٍ فأبوا أن يرقوه ويقرؤوا عليه إلا أن يقدموا لهم شيئًا، فقدموا لهم مقابلًا لتلك الرقية، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرهم عليه

(2)

.

لكنننا نذكر دائمًا أنَّ كل فعل من أفعال القرب إذا ما تقدم به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى وأراد به ثواب الآخرة خالصة فهو أولى وأحسن.

• قوله: (فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الرَّجُلَيْنِ يُؤَذِّنُ أَحَدُهُمَا وَيُقِيمُ الآخَرُ، فَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الَأمْصَارِ عَلَى إِجَازَةِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ).

وهذا غريب من المصنف؛ إذ ما وجدت أحدًا قال: لا يجوز أبدًا، وإنما هناك من قال بالاستحباب، ومن قال بالجواز، وكلهم متفقون على الجواز.

(1)

أخرجه البخاري (5737) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (2276)، ومسلم (201) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

ص: 1221

وتفصيل الخلاف أن الحنفية والمالكية يقولون: الأمر سيان، والشافعية والحنابلة يقولون: يستحب أن يكون المقيم هو المؤذن

(1)

.

• قوله: (وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَان، أَحَدُهُمَا حَدِيثُ الصُّدَائِيِّ، قَالَ:"أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كلانَ أَوَانُ الصُّبْحِ، أَمَرَنِي فَأَذَّنْتُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَجَاءَ بِلَالٌ لِيُقِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَخَا صُدَاءَ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ"

(2)

).

وهذا أيضًا فيه كلام للعلماء، فهناك من صححه وهناك من لم يصحِّحْه

(3)

، وفيه دلالة على أنه يستحب للمؤذن أن يقيم الصلاة بنفسه.

• قوله: (وَالحَدِيثُ الثَّانِي: مَا رُوِيَ "أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ زَيْدٍ حِينَ أُرِيَ الأَذَانَ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَ عَبْدَ اللهِ فَأَقَامَ"

(4)

، فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ النَّسْخِ قَالَ: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ مُتَقَدِّمٌ، وَحَدِيثُ الصُّدَائِيِّ مُتَأَخِّرٌ. وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ قَالَ: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ أَثْبَتُ، لِأَنَّ حَدِيثَ الصُّدَائِيِّ انْفَرَدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الإِفْرِيقِيُّ، وَليْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ).

حقيقةً: لم يبحث العلماء هذا البحث ولا عنوا بالنسخ ولا غيره، فالقضية قضية جواز واستحباب، والمسألة جائزة عند الكل كما سبق وبيَّنا.

(1)

سبق بيانه.

(2)

أخرجه أبو داود (514)، وغيره، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(83).

(3)

ممن ضعَّفه الترمذي في "سننه"(1/ 384) حيث قال: "والإفريقي هو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، قال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي".

(4)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 142)، والدارقطني في "سننه"(1/ 454) بهذا اللفظ، وهو عند أبي داود (512) وفيه: "

أنا رأيته وأنا كنت أريده، قال:"فأقم أنت""، وضعفه الألباني، وقد سبق.

ص: 1222

وعبد الرحمن بن زياد الإفريقي ضعيف، والعلماء قد تكلموا فيه

(1)

.

• قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الأُجْرَةِ عَلَى الأَذَانِ، فَلِمَكَانِ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَصْحِيحِ الخَبَرِ الوَارِدِ فِي ذَلِكَ، أَعْنِي: حَدِيثَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا")

(2)

.

والحديث حسَّنه العلماء، ومنهم من صححه

(3)

، وهو حديث حجة في المسألة، وقوله:"اتخذ" أمر، لكنه يدلُّ على الاستحباب وليس الوجوب، وهو أولى وأفضل.

وأما العلماء الذين قالوا بعدم جواز أخذ الأجرة على الأذان، قالوا: لا بد أن يأخذ الرزق على ذلك من بيت المال، فتحدد له نفقة معينة، وإذا لم تحدد له نفقة وكان المؤذن ذا حاجة فلأهل الحيّ أن يساعدوه

(4)

.

• قوله: (وَمَنْ مَنَعَهُ، قَاسَ الأَذَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ).

(1)

يُنظر: "سنن الترمذي"(1/ 384) حيث قال: "والإفريقي هو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، قال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي"، ويُنظر:"تهذيب الكمال"(17/ 105).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

حسنه الترمذي في "سننه"(1/ 410) حيث قال: "حديث عثمان حديث حسن"، وممن صححه الحاكم في "المستدرك" (1/ 317) حيث قال:"حديث صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.

(4)

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 418) حيث قال: "رزقه الإمام من سهم المصالح عند حاجته بقدرها أو من ماله ما شاء، ويجوز للواحد من الرعية أن يرزقه من ماله".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولى النهى" للبهوتي (1/ 132) حيث قال: "فإن لم يوجد متطوع بأذان وإقامة (رزق الإمام من بيت المال) من مال الفيء (من يقوم بهما)؛ لأن بالمسلمين حاجة إليهما. وهذا المال مُعذٌ للمصالح كأرزاق القضاة. وعلم منه: أنه إذا وُجِد المتطوع لم يعطَ غيره شيئًا من ذلك لعدم الحاجة إليه".

ص: 1223

ولو قال: على الإمامة لكان أولى، وبهذا قال بعض العلماء، قالوا: يُقاس على الإمامة؛ لأن الإمام مطالب بأن يصلِّي بالناس.

• قوله: (وَأَمَّا سَائِرُ الشُّرُوطِ الأُخَرِ، فَسَبَبُ الخِلَافِ فِيهَا هُوَ قِيَاسُهَا عَلَى الصَّلَاةِ).

وليس القياس على الصلاة فقط كما ذكر المؤلف، وإنما في ذلك أدلة أُخرى قد بيَّناها عند ذكر كل مسألة مرت بنا.

• قوله: (فَمَنْ قَاسَهَا عَلَى الصَّلَاةِ، أَوْجَبَ تِلْكَ الشُّرُوطَ المَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ لَمْ يَقِسْهَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: قَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: "حَقٌّ وَسُنَّة مَسْنُونَةٌ أَلَّا يُؤَذِّنَ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَا يُؤَذِّنَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ، قَالَ: وَأَبُو وَائِلِ هُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ". وَقَوْلُهُ: سُنَّةٌ يَدْخُلُ فِي المُسْنَدِ وَهُوَ أَوْلَى مِنَ القِيَاسِ)

(1)

.

هو وائل بن حُجْر الصحابي الجليل رضي الله عنه وليس أبو وائل، والذي روى عنه هذا هو ابن عبد الجبار، وقالوا: إنه لم يدركه؛ ومنه فالإسناد فيه انقطاع

(2)

.

والمؤلف يُشير هنا إلى قضية: حكم قول الصحابي عن أمرٍ أنه سنة، أو قال: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا

(3)

، لكنه منقطع كما سبق وبينا.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 404) حيث قال: "رولنا عن وائل بن حجر قال: حق وسنة ألا يؤذن إلا وهو قائم، ولا يؤذن إلا وهو على طهر، ووائل بن حجر من الصحابة، وقوله: حق وسنة يدخل في المسند وذلك أولى من الرأي والله الموفق".

(2)

سبق بيانه.

(3)

قول الصحابي عن أمرٍ أنه سنة، أو قال: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا مرفوع مسند عند أصحاب الحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وخالف في ذلك فريق، منهم الإسماعيلي. يُنظر:"التقريب والتيسير" للنووي (ص 33) حيث قال: "قول الصحابي كنا نقول أو نفعل كذا. إن لم يضفه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهو موقوف، وإن أضافه =

ص: 1224

• قوله: (قَالَ القَاضِي: وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "لَا يُؤَذِّنُ إِلَّا مُتَوَضِّئٌ")

(1)

.

سبق الحديث عن كلمة "القاضي"، وقد يتصور البعض أنه يقصد بالقاضي المصطلح عليه عند الأصوليين والفقهاء، والصحيح: أن كل كلمة يقول فيها: القاضي إنما يقصد بها نفسه يعني: ابن رشد الحفيد.

وقد مر ذكر هذا الحديث، وقلنا: إن الصحيح وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

‌(القِسْمُ الخَامِسُ

اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَا يَقُولُهُ السَّامِعُ لِلْمُؤَذِّنِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَقُولُ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ إِلَى آخِرِ النِّدَاءِ).

وهذه رواية عن الإمام أحمد

(2)

، وقال بها بعض العلماء

(3)

، وله رواية أُخرى يلتقي فيها مع الأئمة الثلاثة، أي: أنه يتابعه في كل شيء إلا في قول: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله

(4)

.

= فالصحيح أنه مرفوع وقال الإمام الإسماعيلي: موقوف"، ويُنظر: "الباعتَ الحثيث إلى اختصار علوم الحديث" (ص 46، 47).

(1)

سبق تخريجه.

(2)

يُنظر: "مختصر الخرقي"(ص 20) حيث قال: "ويستحبُّ لمن سمع المؤذن أن يقولَ كما يقول".

(3)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 425)"قال الخرقي، وصا حب المستوعب، وغيرهما: يقول كما يقول. وقاله القاضي".

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 274) حيث قال: "حيث سمع الأذان ندب له الإجابة أو وجبت على القولين

وأما الحوقلة عند الحيعلة فهو =

ص: 1225

• قوله: (وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ إِلَّا إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوة إِلَّا بِاللهِ. وَالسَّبَبُ فِي الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ تعَارُضُ الآثَارِ).

ولو أردنا أن ندقِّق في الحكمة لوجدنا أيضًا فرقًا بين ألفاظ الأذان، فأولها ثناء على الله ثم ذكر للشهادتين ثم بعد ذلك دعاء للناس بالإتيان إلى الصلاة، وفيه حضٌّ لهم على الإقدام على الفلاح في هذه الدنيا وفي الآخرة؛ إذ لا شكَّ أن إتيان المسلم إلى المسجد ليصلي هو حقيقةً غاية الفلاح والسعادة.

• قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ"، وَجَاءَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ

(1)

، وَحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ

(2)

أَنَّ

= وإن خالف ظاهر قوله عليه السلام: "فقولوا مثل ما يقول" لكنه ورد فيه حديث مفسر لذلك".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (1/ 418) حيث قال: "فإن سمع الأذان خارج الصلاة، فالمستحب أن يقول مثل ما يقوله إلا قوله: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فإنه يقول في ذلك. لا حول ولا قوة إلا بالله".

ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 233) حيث قال: "ويتابعه على المشهور لمنتهى لفظ الشهادتين؛ لأن التكبير والتهليل والتشهد لفظ هو في عينه قربة؛ لأنه تمجيد وتوحيد والحيعلة دعاء إلى الصلاة والسامع ليس. بداع إليها

فيبدل عن الحيعلتين الحوقلة، أي: يعوض حيَّ على الفلاح بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، زاد في توضيحه العلي العظيم، ويكرر الحوقلة أربعًا على عدد الحيعلة ويحكي ما بعد ذلك".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 138) حيث قال-: " (إلا في الحيعلة فيقولان)، أي: المؤذن وسامعه أو المقيم وسامعه (لا حول ولا قوة إلا بالله) للخبر".

(1)

أخرجه مسلم (385).

(2)

أخرجه البخاري (914).

ص: 1226

السَّامِعَ يَقُولُ عِنْدَ: حَيَّ عَلَى الفَلَّاحِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَخَذَ بِعُمُومِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَمَنْ بَنَى العَامَّ فِي ذَلِكَ عَلَى الخَاصِّ جَمَعَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ).

وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه متَّفق عليه رواه البخاري ومسلم

(1)

.

وقوله: "بنى العام على الخاص"، بمعنى: جعل حديث أبي سعيد عامًّا، وحديثي عمر ومعاوية خاصين فخصص بهما العام، وهذا هو الصحيح.

وكوننا نبني العام على الخاصِّ بمعنى: أننا نقيد الحديث العام بالحديثين الخاصين؛ لأن فيهما زيادة بيان وتخصيص له، فنخصص حديث أبي سعيد بذلك، ولا تعارض إذن بين الأحاديث، ولا نحتاج حينئذ أن نرجح؛ لأنه يمكننا الجمع بين الأحاديث، وبذلك نعمل جميع الأحاديث، فنعمل حديث أبي سعيد فيما اتفق مع الأحاديث الأخرى ونأخذ بالزيادة التي جاءت في الحديثين الآخرين، وإعمال الحديثين خير من إهمال أحدهما كما هو معروف عند أهل العلم.

وهذا هو مذهب مالك بن أنس كما ذكر المصنف، ومذهب جماهير العلماء عمومًا

(2)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

أخرجه البخاري (611)، ومسلم (383).

(2)

سبق بيانه.

ص: 1227

‌الفَصْل الثَّانِي مِنَ البَابِ الثَّانِي مِنَ الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ: فِي الإِقَامَةِ)

(اخْتَلَفُوا فِي الإِقَامَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي حُكْمِهَا، وَفِي صِفَتِهَا).

سبق وذكرنا أنَّ من عادة الفقهاء أصحاب الكتب المطولة أنهم يجمعون بين ذكر الأذان والإقامة في نفس الموضع من الكتاب، لكن المؤلف فصَل بينهما؛ لأن الإقامة فيها زيادة تأكيد، فبعض العلماء يرى أيضًا أنه لو لم يُقم للصلاة لا تصح الصلاة

(1)

.

وقد ذكرنا أن العلماء اختلفوا في حكم الأذان وأكثرهم يقول: إنه سنة، كما هو مذهب الحنفية والصحيح عند الشافعية ورواية للإمام أحمد، وأن الإمام مالك إنما يرى أنها فرض على مسجد الجماعات وسنة في غير ذلك

(2)

.

وذكرنا أن الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة يقولون: إن الأذان والإقامة فرض كفاية، والشافعية قالوه مرة مطلقًا ومرة قالوا: فرض كفاية في أذان الجمعة، والحنابلة عندما قالوا: الأذان والإقامة فرض كفاية خصّوا ذلك في الحضر دون السفر

(3)

.

وأما الإقامة ففيها زيادة تأكيد؛ لأنه وجد من العلماء كعطاء - وهو من التابعين - قال: لو أن أقيمت الصلاة، يعني: لو صلى المصلي ولم

(1)

سبق بيانه.

(2)

سبق بيانه.

(3)

سبق بيانه.

ص: 1228

يقم الصلاة فصلاته غير صحيحة وتلزمه الإعادة

(1)

، ونُقل عن الأوزاعي - وهو أيضًا من أكابر الفقهاء - قال: إن كان في الوقت أعاد، في رواية عنه: وإلا فلا.

إذن هناك مَن يرى أن الصلاة لا تصح بدون إقامة، لكن جماهير العلماء يقولون كما مرَّ في حكم الأذان، وحتى الذين يقولون بأن الأذان والإقامة فرض كفاية يقول: لو أن إنسانًا صلى بغير أذان ولا إقامة فصلاته صحيحة

(2)

، وهذا الكلام فيما إذا لم يوجد مؤذن في الحيِّ، أمَّا لما نقول فرض كفاية فإنه إذا وُجد البعض كفى عن الباقين، فإذا جاء أحد مثلًا إلى المسجد وقد انتهت الصلاة فلا يحتاج إلى أن يؤذِّن - وإن كان بعض العلماء يقول بذلك - لأنه سبق وأُذِّن للصلاة وأُدِّي هذا الفرض.

ومع أن الأذان والإقامة مشروعان وجاءت الأحاديث بتأكيدهما، فقد قال العلماء بصحة الصلاة التي لا يؤذَّن ولا يقام لها، ويستدلُّون على ذلك بما ورد عن الأسود وعلقمة صاحبا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنهما دخلا عليه فصلى بهما من غير أذان ولا إقامة

(3)

، وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنه كما هو معروف - من أكابر الصحابة رضي الله عنه، وهو مَن قال:"ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولو أعلم أن أحدًا أعلم منِّي بكتاب الله تصل إليه أكباد الإبل لركبتها إليه"

(4)

، وعليه ففعله ذلك ليس عن رأيه، وفيه دليل على أن صحَّة الصلاة.

لكن المشروع والمطلوب إنما هو تأدية الأذان والإقامة، وهذا قد يكون حجة لمالك؛ إذ يرى أنها واجبة على مسجد الجماعات دون غيرهم

(5)

.

(1)

سبق بيانه.

(2)

مذهب الحنابلة: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 132) حيث قال: "ومن صلى بلا أذان ولا إقامة صحت صلاته".

(3)

أخرجه مسلم (534).

(4)

أخرجه البخاري (5002)، ومسلم (2463).

(5)

سبق بيانه.

ص: 1229

• قوله: (أَمَّا حُكْمُهَا، فَإِنَّهَا عِنْدَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ فِي حَقِّ الأَعْيَانِ وَالجَمَاعَاتِ سُنَّةٌ مُؤَكدَةٌ أَكْثَرُ مِنَ الأَذَانِ).

أي: أن الإنسان قد يصلي في جماعة، وقد يصلي منفردًا، وحكم الأذان والإقامة في حقِّه لا يختلف، إلا أن الإمام مالك خصَّ مساجد الجماعات فأوجبها على الجماعة.

• قوله: (وَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَرْضٌ، وَلَا أَدْرِي، هَلْ هِيَ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الإِطْلَاقِ، أَوْ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ؟ وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَلَى القَوْلِ الَأوَّلِ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكهَا وَعَلَى الثَّانِي: تَبْطُلُ).

فأهل الظاهر يرون أنها واجبة، لكنَّهم لا يرونها من شروط صحَّة الصلاة، فتصح الصلاة بدونها

(1)

، عكس صلاة الجماعة فهي عندهم شرط في صحَّة الصلاة، ولو أنَّ إنسانًا صلَّى بغير جماعة لا تصحُّ صلاته إلا أن يكون معذورًا

(2)

.

فإن كانت فرضًا من فرائض الصلاة فهي إذن جزء منها، وتبطل حينئذ الصلاة بتركها، ومثل ذلك: لو صلى إنسان إلى غير القبلة أو دون ستر لعورته فصلاته غير صحيحة.

(1)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (2/ 166) حيث قال: "وممن قال بوجوب الأذان والإقامة فرضا: أبو سليمان، وأصحابه، وما نعلم لمن لم يرَ ذلك فرضًا حجة أصلًا".

(2)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (3/ 104) حيث قال: "ولا تجزئ صلاة فرض أحدًا من الرجال: إذا كان بحيث يسمع الأذان أن يصليها إلا في المسجد مع الإمام، فإن تعمَّد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته، فإن كان بحيث لا يسمع الأذان ففرض عليه أن يصلي في جماعة مع واحد إليه فصاعدًا ولا بدَّ، فإن لم يفعل فلا صلاة له إلا أن لا يجد أحدًا يصليها معه فيجزئه حينئذ، إلا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة وليس ذلك فرضًا على النساء".

ص: 1230

• قوله: (وَقَالَ ابْنُ كنَانَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: مَنْ تَرَكهَا عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ: اخْتِلَافُهُمْ هَلْ هِيَ مِنَ الَأفْعَالِ الَّتِي وَرَدَتْ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الَأمْرِ بِالصَّلَاةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الوُجُوبِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"صَلُّوا كلمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"

(1)

، أَمْ هِيَ مِنَ الَأفْعَالِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ؟ وَظَاهِرُ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ يُوجِبُ كَوْنَهَا فَرْضًا إِمَّا فِي الجَمَاعَةِ، وَإِمَّا عَلَى المُنْفَرِدِ).

الحقيقة: أن هذا التعليل الذي ذكره المؤلِّف بعيد مخالف لظاهر النصِّ.

والكلام في الخلاف هنا قد ذكرناه سابقًا وفصلناه في أول مباحث الأذان، وأنه قد وردت أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن حويرث رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه:"ليؤذن لكما أحدكما"

(2)

، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وهو حجة ودليل في المسألة، وكذلك أمر بلال رضي الله عنه ليشفع الأذان، وحديث:"واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على الأذان أجرًا"

(3)

، فهذه حجة الذين قالوا بالفرضية - فرض كفاية - وليس كهذا التعليل الذي ذكره المؤلف.

• قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ الإِقَامَةِ، فَإِنَّهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَمَّا التَّكْبِيرُ الَّذِي فِي أَوَّلِهَا فَمَثْنَى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَرَّةً وَاحِدَةً إِلَّا قَوْلَهُ: قَدْ - قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهَا عِنْدَ مَالِكٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَرَّتَيْنِ. وَأَمَّا الحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّ الإِقَامَةَ عِنْدَهُمْ مَثْنَى مَثْنَى).

(1)

أخرجه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 1231

فصفة الإقامة عند مالك

(1)

والشافعيِّ

(2)

كما ذكره، فالتكبير الذي في أوله مثنى، وأما ما بعد ذلك فمرة واحدة، إلا قوله: قد قامت الصلاة، فإنها عند مالك مرة واحدة، وهذا سبق أن تكلمنا عنه، وقلنا: إن هناك التقاء بين الإمامين - الشافعي وأحمد - فيما يتعلَّق بالإقامة، فهي عندهما إحدى عشرة كلمة

(3)

، وهناك اتفاق بين الإمامين أبي حنيفة وأحمد في عدد ألفاظ الأذان

(4)

، وهي خمس عشرة كلمة، وذهب الشافعي في ألفاظ الأذان إلى أنها تسع عشرة كلمة

(5)

، وقد خالفه مالك فيما يتعلَّق بالتكبير الأول، فرأى أن الأذان سبع عشرة كلمة

(6)

.

فنختصر ونقول: إن الإقامة سبع عشرة كلمة عند أبي حنيفة؛ لأنه

(1)

يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(1/ 257) حيث قال: "والإقامة: أي صفتها أنها وتر، يعني: ما عدا التكبير، وهي الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله مرة واحدة".

(2)

يُنظر: "العزيز شرح الوجيز" للرافعي (1/ 411) حيث قال: "قولنا: (الإقامة فرادى) لا نعني به: أن جميع كلماتها موحدة، بل كلمة التكبير مثناه في الابتداء والانتهاء، وكذلك كلمة الإقامة".

(3)

مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (1/ 422) حيث قال: "الإقامة فرادى، وهي إحدى عشرة كلمة التكبير مرتين، والشهادتان مرتين، وحيّ على الصلاة مرة، وحيّ على الفلاح مرة، وقد قامت الصلاة مرتين، والله أكبر مرتين، ولا إله إلا الله مرة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (3/ 66) حيث قال: "الإقامة إحدى عشرة كلمة. هو المذهب، وعليه الإمام والأصحاب".

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 270) حيث قال: "فالأذان عندنا خمس عشرة كلمة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 133) حيث قال: " (وهو)، أي: الأذان (خمس عشرة كلمة)، أي: جملة".

(5)

يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (1/ 403) حيث قال: "في مذهبنا أنه تسع عشرة كلمة".

(6)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب الرُّعيني (1/ 424) حيث قال: "الأذان سبع عشرة جملة".

ص: 1232

يُثنِّي كلّ الكلمات، وهي إحدى عشرة كلمة عند الإمامين الشافعي وأحمد؛ لأنهما يثنيان كلمة: قد قامت الصلاة، وعشر كلمات عند مالك؛ لأنه يقتصر على مرة واحدة.

• قوله: (وَخَيَّرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بَيْنَ الإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ عَلَى رَأْيِهِ فِي التَّخْيِيرِ فِي النِّدَاءِ، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: تَعَارُضُ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي هَذَا المَعْنَى وَحَدِيثِ أَبِي لَيْلَى المُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الثَّابتِ "أُمِرَ بِلَالًا أَنْ يَشْفَعَ الَأذَانَ، وَبُفْرِدَ الإِقَامَةَ إِلَّا: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ"

(1)

. وَفِي حَدِيثِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم: "أَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى"

(2)

.

أي: أن مذهب أحمد الجواز، ونقول: إن مذهب أحمد هو الذي ذكرناه، ويلتقي في ذلك مع الشافعي.

• قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ، وَلَا إِقَامَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ:"إِنْ أَقَمْنَ فَحَسَنٌ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "إِنْ أَذَّنَّ وَأَقَمْنَ فَحَسَن". وَقَالَ إِسْحَاقُ

(3)

: "إِنَّ عَلَيْهِنَّ الَأذَانَ وَالإِقَامَةَ").

إن العلماء متفقون على أن النساء ليس عليهن أذان ولا إقامة، لكن لو أذن لهن وأقمن فلا بأس

(4)

، هذا من حيث الجملة، وبعض العلماء

(1)

أخرجه البخاري (603)، ومسلم (378).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 185)، وصححه الألباني في "الثمر المستطاب"(1/ 206، 207).

(3)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 53) حيث قال: "قال إسحاق بن راهويه: كلما صلين أذن وأقمن، وحكي عنه أنه قال: ليس على النساء أذان ولا إقامة، ولأن تقيم أحب إلينا".

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 253) حيث قال: "وليس على النساء أذان ولا إقامة؛ لأنهما سنتا الصلاة بالجماعة وجماعتهن منسوخة وإن صلين بجماعة صلين بغير أذان ولا إقامة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 132) حيث قال: " (يكرهان)، أي: الأذان والإقامة (لخناثى ونساء، ولو) كان الأذان والإقامة منهما (بلا رفع صوت)؛ لأنهما وظيفة الرجال، ففيه نوع تشبه بهم".

ص: 1233

يستحسِن لهن الإقامة كمالك

(1)

، أو الأذان والإقامة كالشافعي، والمقصود: أن للمرأة أن تؤذن ولكن ليس لها أن ترفع صوتها، والحقيقة: أن الاراء كثيرة في مذهب الشافعي لكن المؤلف اختار واحدًا منها

(2)

.

وإذا أطلق المؤلف "إسحاق"؛ فالمراد به إسحاق ابن راهويه قرين الإمام أحمد وصاحبه.

• قوله: (وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَذِّنُ وَتُقِيمُ فِيمَا ذَكرَهُ ابْنُ المُنْذِرِ).

روى ذلك عنها أيضًا الحاكم والبيهقي

(3)

.

• قوله: (وَالخِلَافُ آيِلٌ إِلَى هَلْ تَؤُمُّ المَرْأَةُ أَوْ لَا تَؤُمُّ؟ وَقِيلَ: الَأصْلُ أَنَّهَا فِي مَعْنَى الرَّجُلِ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهَا، أَمْ فِي بَعْضِهَا هِيَ كَذَلِكَ وَفِي بَعْضِهَا يُطْلَبُ الدَّلِيلُ؟).

إن سبب الخلاف ما ورد عن عائشة رضي الله عنهما، وكذلك أيضًا ما ورد عن

(1)

يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(1/ 254) حيث قال: "وأما المرأة فإن أقامت فحسن، أي: مستحب (وإلا)، أي: وإن لم تقم (فلا حرج) بفتح الحاء والراء، أي: لا إثم (عليها) ".

(2)

يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (1/ 417) حيث قال: "الأذان للنساء غير مسنون، وهذا لأن الأذان لإعلام الغائبين، ولا يستحب لها رفع الصوت. وروي عن ابن عمر وأنس رضي الله عنهما أنهما قالا: "ليس على النساء أذان". ولو أذنت قال الشافعي: "لم يكن مكروهًا". وقال البويطي: "لأن ذلك تحميد". ومن أصحابنا من قال: يكره لها، وهو خلاف النص. وقال الحسن وابن سيرين: "ليس عليهن أذان، فإن فعلن، فهو ذكر ولا يكون أذانًا شرعيًّا". وهو قول بعض أصحابنا ولو صفين جماعة، وأذنت واحدة منهن. قال في "الأم": "لا بأس ولا ترفع صوتها إلا بقدر ما يسمع صواحباتها". وأما الإقامة فإنها مسنونة لها، فإن تركت الإقامة قال في "الأم": أكره لها من تركها ما أكره للرجال".

(3)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(3/ 53)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 320)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 600).

ص: 1234

أمِّ ورقة أنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤذن ويقام لها فأذن لها

(1)

، والحديث فيه كلام عند العلماء

(2)

، وقيل: الأصل أنها في معنى الرجل في كلِّ عبادة إلا أن يقوم الدليل على تخصيصها، فكما هو معروف أن الأصل في الخطاب أنه يتوجه إلى الرجال والنساء، لكن النساء انفردن بأحكام كثيرة، منها ما يتعلَّق بالطهارة كأحكام الحيض والنفاس، ومنها ما يتعلَّق باللباس فلها أن تلبس الذهب والحرير ولا يجوز ذلك للرجل، وهذا أمر معلوم، فكل من درس الفقه وتعمق فيه يندر أن يمر به باب من أبوابه إلا ويجد فرقًا أو فروقًا بين المرأة والرجل، ومن يعرف الفروق الفقهية يعرف مثل هذه المسائل.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(البَابُ الثَّالِثُ مِنَ الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ: فِي القِبْلَةِ)

(اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ التَّوَجُّهَ نَحْوَ البَيْتِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}).

انتقل المؤلف إلى بيان حكم استقبال القبلة، والعلماء مجمعون على أن الصلاة لا تصح إلى غير القبلة

(3)

، وأن التوجه إلى الكعبة أمر لازم، لا

(1)

أخرجه أبو داود (591)، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(605).

(2)

ضعفه بعض أهل العلم كالمنذري يُنظر: "مختصر سنن أبي داود"(1/ 181) حيث قال: "في إسناده الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي. وفيه مقال، وقد أخرج له مسلم"، وابن الجوزي يُنظر:"التحقيق في مسائل الخلاف"(1/ 313) حيث قال: "الوليد بن جميع ضعيف وأمه مجهولة، قال ابن حبان: لا يحتج بالوليد بن جميع".

(3)

يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 26) حيث قال: "واتفقوا أن استقبال القبلة لها فرض لمن يعاينها أو عرف دلائلها ما لم يكن محاربًا ولا خائفًا".

ص: 1235

فرق في ذلك بين الفرض والنفل، ومن الأدلة على ذلك:

الأول: قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149].

فقوله: (ومن حيث)، أي: حيثما كنتم في سفر أو حضر، في بر أو بحر، غربًا أو شرقًا.

وقوله: (شطره)، الشطر يطلق في اللغة على معان منها:

- الناحية والجهة

(1)

: يقال: توجهت شطره، أي: ناحيته أو جهته.

- القصد

(2)

: يقال: شطرت شطره، أي: قصدت قصده.

- النصف

(3)

: يقال: وضعت عليه شطره، أي: نصفه.

والمراد بالشطر هنا: المعنى الأول، أي: ولِّ وجهك ناحية أو جهة المسجد الحرام.

الثاني: حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنه عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصلِّ فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين وقال:"هذه القبلة"

(4)

.

ويستثنى من وجوب اسقبال القبلة في الصلاة حالتان لم يتعرض المؤلف لهما بالذكر؛ لأنهما سيأتيان تفصيلًا:

(1)

"الشطر: نصف الشيء وجزؤه، ومنه حديث الإسراء: "فوضع شطرها"، أي: بعضها والجمع: أشطر وشطور، والجهة، والناحية" يُنظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 415).

(2)

"يقال ت شطر شطره، أي: قصد قصده" يُنظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 415).

(3)

"شطر كل شيء نصفه"، يُنظر:"تهذيب اللغة" للأزهري (11/ 210).

(4)

أخرجه مسلم (1330)، وهو عند البخاري (398) ولم يذكر أسامة.

ص: 1236

أما الحالة الأولى: فهي حالة اشتداد الخوف، كخوف العدو أو السبع، أو خشية الهلاك بالحريق أو السيل أو غير ذلك، فإنه في مثل هذه الأحوال يصلي إلى القبلة وغيرها يومئ إيماءً.

وأما الحالة الثانية: فصلاة المسافر تطوعًا على الراحلة أو في السيارة أو السفينة أو الطائرة.

وهاتان المسألتان محلُّ اتفاقٍ بين العلماء من حيث الجملة، وإن وقع الخلاف بينهم في بعض فروعها، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في محلِّها.

والكلام عن القبلة مرتبط بعدة مسائل نذكر منها:

الأولى: ذكر العلماء أن أول نسخ في القرآن كان في حكم القبلة

(1)

؛ إذ أن القبلة كانت في أول الأمر إلى بيت المقدس حين فرضت الصلاة بمكة، وظل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه على ذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا كما ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه المتفق عليه

(2)

، على أن من العلماء مَن يرى أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بمكة إلى الكعبة

(3)

، وكانت هي قبلة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحوَّل إلى بيت المقدس ليتألف اليهود رغبة في دخولهم في الإسلام، لكنهم لما بقوا على عنادهم وأسروا على كفرهم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء، وكان يحب أن يُحولَ إلى الكعبة، فحصل ذلك كما هو معلوم من الأخبار الصحيحة الثابتة

(4)

.

(1)

أخرجه القاسم بن سلام في "الناسخ والمنسوخ"(ص 18)، وأبو بكر الهمداني في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" (ص 63) من طريق ابن عباس قال: "أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة

".

(2)

أخرجه البخاري (399)، ومسلم (525).

(3)

يُنظر: "انتقاض الاعتراض" لابن حجر (1/ 83) حيث قال: "وقيل: إنه كان يصلّي وهو بمكة إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس، وهذا ضعيف؛ إذ يلزم منه النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنّه يجمع القولين".

(4)

ومن تلك الأخبار الثابتة ما أخرجه البخاري (399)، ومسلم (525) من حديث =

ص: 1237

الثانية: اختلف أهل العلم في مسألة التوجه إلى بيت المقدس؛ فقيل: إنه كان باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

، ومنهم من قال: إنه خُيِّر بين أن يتوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة

(2)

، وقيل: إن ذلك كان بأمر من الله سبحانه وتعالى، وأشهر تلك الأقوال وأقواها أن ذلك بأمر من الله سبحانه وتعالى، ودليل ذلك:

- قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].

فقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} دليل على أن التوجه إلى القبلة الأولى كان بأمر من الله سبحانه وتعالى.

- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو

= البراء بن عازب رضي الله عنه، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس، ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكلعبة، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، فتوجه نحو الكعبة"، وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمرَّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم، حتى توجهوا نحو الكعبة.

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 425) حيث قال: "وكان عليه الصلاة والسلام أول أمره يستقبل بيت المقدس. قيل: بأمر، وقيل: برأيه، وكان يجعل الكعبة بينه وبينه فيقف بين اليمانيين".

(2)

يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (1/ 445) حيث قال: "واختلف أصحابنا، هل استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس برأيه أو عن أمر الله تعالى على قولين:

أحدهما: برأيه؛ لأن الله تعالى خيَّره في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، أي: قبلة ألله، فاختار بيت المقدس وبه قال الحسن وعكرمة وأبو العالية والربيع بن أنسٍ.

والثاني: استقبله بأمر الله تعالى لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143]. وبه قال ابن عباس وابن جريج". ويُنظر: "تفسير الطبري" (3/ 138).

ص: 1238

بيت المقدس، ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة

(1)

، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمرَّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم، حتى توجهوا نحو الكعبة.

- حديث ابن عمر رضي الله عنه وفيه: قال: بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزِلَ عليه الليلة، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة"

(2)

.

وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القبلة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة المعروف بمسجد القبلتين، وأنهم كانوا في الركوع فلما جاءهم الشاهد وأخبرهم تحوَّلُوا.

كما يشار إلى أن مسألة تحويل القبلة تنبني عليها أحكام كثيرة، ومن أهمِّها حكم قبول خبر الواحد وروايته.

الثالثة: الآية التي يستدلّ بها العلماء على نسخ القبلة، وهي قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] مع أنها متأخرة في النسق عن قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142] إلا أنها متقدِّمة في النزول عليها،

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (403)، ومسلم (526).

ص: 1239

وقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} وإن كان ظاهره للمستقبل إلا أنه في هذا الموضع مُستعمل للماضي؛ لأن الآية نزلت والسفهاء قد قالوا ذلك، وفائدة الإتيان بالمستقبل موضع الماضي للدلالة على استدامة ذلك، وأنهم سيستمرون على ذلك القول، وهذا المعنى معروف في كلام العرب.

واختُلف في السفهاء على أقوال:

- قيل: هم اليهود، وذلك أنهم قالوا: إن محمدًا قد التبس أمره وتحيَّر.

- وقيل: هم مشركو قريش لما أنكروا تحويل القبلة، وقالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وأبى إلا الرجوع إلى موافقتنا.

- وقيل: هم المنافقون، لحرصهم على الطعن والاستهزاء

(1)

.

و"السفهاء": جمع سفيه وهو خفيف العقل، يقال: ثوب سفيه إذا كان نسجه خفيفًا

(2)

، وإنما سماهم الله سبحانه وتعالى سفهاء؛ لأنهم اعترضوا على حكمه، ولذلك قال الله عز وجل:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، فإذا كان سبحانه وتعالى هو الذي يملك المشرق والمغرب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أيِّ جهة شاء؛ لأنه هو المتصرف في ذلك وهو الحاكم والمهيمن عليه.

الرابعة: أنه إذا أطلق المسجد الحرام في الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية؛ فالصحيح أنه لا يخرج إطلاقه عن واحد من معان أربعة:

(1)

يُنظر: "تفسير الراغب الأصفهاني"(1/ 327) حيث قال: "وهؤلاء السفهاء المنكرون لتغيير القبلة: اليهود على ما ورد عن ابن عباس، ومشركو العرب عن الحسن، والمنافقون عن السدي، ولا تنافي بين أقوالهم، فكل قد عابوا وكل سفهاء".

(2)

"السفيه": الخفيف العقل من قولهم: تسفهت الرياح الشيء إذا استخفته فحركته. وقال مجاهد: "السفيه الجاهل والضعيف الأحمق"؛ والسفه: الخفة. وثوب سفيه لهله سخيف. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 499).

ص: 1240

المعنى الأول: الكعبة: ومن ذلك قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فالمراد بالمسجد الحرام هنا: الكعبة.

المعنى الثاني: الكعبة وما حولها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"

(1)

، والمراد بالمسجد الحرام هنا: هو الكعبة وما حولها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"

(2)

.

المعنى الثالث: مكة، ومن ذلك قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، فقد ذكر العلماء أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان من دور مكة، فالمراد بالمسجد الحرام هنا هو مكة.

المعنى الرابع: عموم الحرم المكي: ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، أي: لا يدخلوا الحرم.

قوله: (أَمَّا إِذَا أَبْصَرَ البَيْتَ، فَالفَرْضُ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى عَيْنِ البَيْتِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ).

الكعبة بالنسبة للمصلي لا تخلو من حالين؛ فإما أن يعاين الكعبة ببصره، وإما ألا يعاينها ولكن يوجد بينه وبينها حائل - يمكن إزالته أو لا - يمنعه من رؤية البيت.

فإذا كان المصلي يعاين الكعبة، فإن واجبه بإجماع العلماء التوجه بجميع بدنه إلى عينها

(3)

ولو كان على مكان مرتفع، فلو أن المصلي

(1)

أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1379) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لأبي الحسن ابن القطان (1/ 123) حيث قال: "واتفقوا أن استقبال الكعبة فرض في الصلاة لمن عاينها أو عرف دلائلها ما لم يكن =

ص: 1241

استقبل الكعبة في آخر ركن من أركانها وكان بعض بدنه قد خرج عن الكعبة، فأكثر العلماء على بطلان صلاته

(1)

؛ لأن بعض بدنه ليس إلى القبلة، والمطلوب في حالة المعاينة إنما هو الاتجاه إلى عين القبلة.

إلا أن بعض العلماء يفصل في حال المعاينة بين حالة القرب والبعد من الكعبة، فإذا كانوا قريبين منها فلا بدَّ مع امتداد الصفوف أن تقوس حولها، وإن تباعدوا فلا مانع أن تمتدَّ الصفوف

(2)

.

قوله: (وَأَمَّا إِذَا غَابَتِ الكَعْبَةُ عَنِ الأَبْصَارِ، فَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هَلِ الفَرْضُ هُوَ العَيْنُ أَوِ الجِهَةُ؟ وَالثَّانِي: هَلْ فَرْضُهُ الإِصَابَةُ أَوْ الِاجْتِهَادُ: أَعْنِي إِصَابَةَ الجِهَةِ أَوِ العَيْنِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ العَيْنَ؟).

إن غياب الكعبة عن الأبصار لا يختص بمن كان بعيدًا عنها، بل يعمُّ كل مَن تعذَّر عليه مشاهدتها ببصره وإن كان قريبًا منها، لكن لو وجد حائل طارئ كجدار أو نحوه فاعتبار ذلك حائلًا وأن حكم هذا الإنسان في حكم غير المعاين فيه خلاف بين العلماء

(3)

.

= محاربًا أو خائفًا، وواجب على المرء استقبال الكعبة إذا كان على التوجه قادرًا، فإن كان شاهدًا للكعبة صلى إليها من طريق المشاهدة، وإن كان عنها غائبًا استدل عليها، بالدلائل التي نصبها الله تعالى لها كالشمس والقمر والنجوم والرياح والجبال وغير ذلك، ولا تنازع بين أهل العلم في ذلك".

(1)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب الرُّعيني (1/ 508) حيث قال: "قوله استقبال عين الكعبة يريد بجميع بدنه فلو خرج عضو منه عن الكعبة بطلت صلاته نقله ابن المعلى في مناسكه في الفصل الثاني في كيفية الإحرام وبيان المناسك ناقلًا له عن القرافي".

(2)

يُنظر: "الفروق للقرافي"(2/ 157) حيث قال: "الصف الطويل بقرب الكعبة يصلون دائرة أو قوسًا إن قصروا عن الدائرة، وفي البعد يصلون خطًّا مستقيمًا"، ويُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (1/ 508).

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 300) حيث قال: "مَن كان بينه وبين الكعبة حائل الأصح أنه كالغائب، ولو كان الحائل أصليًّا كالجبل كان له أن يجتهد، والأولى أن يصعده ليصل إلى اليقين".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 336) حيث قال: "ولو حال =

ص: 1242

كما اختلفوا في حال غياب الكعبة عن الأبصار: هل المصلي مطالب بأن يصيب عين الكعبة أو جهتها فقط؟

ثم هل الواجب في حقِّه هو الاجتهاد فقط في التوجه إلى عين الكعبة أو جهتها؟ أم يجب عليه أن يصيب عينها أو جهتها؟

وليس المقصود بالمجتهد هنا مَن حاز آلة الاجتهاد الفقهي، بل المقصود مَن له علم بالأدلة التي تعرف بها القبلة كحركة الشمس والقمر وهبوب الرياح وجهة القطب الشمالي وغير ذلك، فإذا وُجِد من هذا وصفه وجب عليه أن يجتهد في معرفة القبلة، وأما غيره فالواجب عليه تقليد المجتهد، لكن إن وُجِد اثنان أحدهما أوثق من الآخر في دينه ورأيه وإدراكه فالواجب متابعة الأوثق؛ لأنه الأحوط.

قوله: (فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الفَرْضَ هُوَ العَيْنُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ الجِهَةُ).

المقصود بالقوم: الشافعية

(1)

، فالرواية الصحيحة عندهم أن الفرض هو التوجه إلى عين الكعبة، أما مذهب الأئمة (أبي حنيفة ومالك وأحمد)، أن الفرض هو الجهة وليست العين

(2)

، وهي كذلك رواية مشهورة عن الإمام الشافعي.

= بين الحاضر بمكة وبين الكعبة حائل خلقي كجبل أو حادث كبناء جاز له أن يجتهد للمشقة في تكليف المعاينة كما ذكره في التحقيق، ومحله إذا كان لحاجة، فإن بنى حائلًا منع المشاهدة بلا حاجة لم تصحَّ صلاته بالاجتهاد لتفريطه".

(1)

يُنظر: "المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 116) حيث قال: "استقبال عين القبلة، أي: الكعبة فلا يكفي التوجه لجهتها".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 269) حيث قال: "مَن كان بمكة ففرضه إصابة عينها، ومَن كان غائبًا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح؛ لأن التكليف بحسب الوسع".

ومذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 256) حيث قال: "ومع الأمن استقبال عين الكعبة لمن بمكة، فإن شقَّ ففي الاجتهاد نظر (ش)، أي: وشرط لفرض ونفل مع الأمن من عدو ونحوه ومع القدرة مسامتة بناء ذات الكعبة تيقنا =

ص: 1243

قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] مَحْذُوفٌ حَتَّى يَكُونَ تَقْدِير: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ جِهَةَ شَطْرِ المَسْجِدِ الحَرَامِ؟ أَمْ لَيْسَ هَاهُنَا مَحْذُوفٌ أَصْلًا، وَأَنَّ الكَلَامَ عَلَى حَقِيقَتِهِ؟ فَمَنْ قَدَّرَ هُنَالِكَ مَحْذُوفًا قَالَ: الفَرْضُ الجِهَةُ، وَمَنْ لَمْ يُقَدِّرْ هُنَالِكَ مَحْذُوفًا قَالَ: الفَرْضُ العَيْنُ، وَالوَاجِبُ حَمْلُ الكَلَامِ عَلَى الحَقِيقَةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى المَجَازِ).

ما ذكره المؤلف من سبب الخلافِ لم أقفْ عليه، ولعلَّ بعض المفسرين قد ذكره.

أمَّا الشافعية فاستدلُّوا على ما ذهبوا إليه بما يلي:

الأول: قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ثم قال بعده: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فسوَّى بين الأول والثالث.

الثاني: حديث ابن عباس عن أسامة رضي الله عنهما المتفق عليه: أن

= بجميع بدنه لمن هو بمكة اتفاقًا ولا يكفي الاجتهاد ولا جهتها".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي (305/ 1) حيث قال: " (و) الفرض في القبلة (إصابة الجهة بالاجتهاد، ويعفى عن الانحراف قليلًا".

أمَّا عن مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (1/ 448) حيث قال: "وليست المسألة على قولين، بل هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال: فرضه اليقين إذا كان الحائل دونها حادثًا كالبناء والسترة، ولا يجوز الاجتهاد، بل ينتقل إلى حيث يرى البيت ويصلي إليها على اليقين. والموضع الذي قال: فرضه الاجتهاد إذا كان الحائل دونها من خلقة الأصل كالجبال والتلول ونحوها، فالحاصل من هذا: أنه إذا كان بالبُعد من مكة ففرضه الاجتهاد، وإن كان بالقرب منها يُنظر، فإن كان الحائل من خلقة الأصل، ففرضه الاجتهاد، وإن كان الحائل حادثًا، ففرضه الإحاطة".

ص: 1244

الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وخرج ولم يصلِّ، ثمَّ صلى ركعتين قبل الكعبة، ثم قال:"هذه القبلة"

(1)

.

قالوا: إن الإشارة في قوله: "هذه القبلة" دليل على أن عين الكعبة هي المطلوبة في الصلاة، وهي القبلة التي ستبقى إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها.

قالوا: إنه مع البُعد تحصل المسامتة، وأجيب: بأن هذه حقيقة غير مسلم بها، نعم تحصل المسامتة إذا حصل تقوُّس في الصَّف، لكن إذا كانوا كلهم على خطٍّ ونسقٍ واحد فلا يمكن أن تحصل.

وأما جمهور العلماء فيقولون إنَّ هذه الآية فيها دلالة على أن المطلوب هي الجهة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. ثم قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فالمقصود من الشطر في الآية الأولى هو الشطر في الآية الثانية وهو الجهة، ولم يرد ذكر للعين.

واستدلُّوا على ذلك بعدة أمور منها:

- أن الممكن في استقبال القبلة إنما هو الجهة، أمَّا استقبال العين فأمر يصعب الوصول إليه - كما ذكر المؤلف - إلا أن يحصل صدفة أو أن يكون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يأتيه الوحي فلا يقاس غيره عليه، أو أيضًا مواضع يقولون صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو رأي لبعض العلماء.

- أن الصف الطويل قد يمتدّ لمئات الأمتار، وكلُّهم يتجهون نحو جهة واحدة، ولا يمكن أن يصيب كلهم عين القبلة، ومع ذلك فصلاتهم صحيحة بالإجماع

(2)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (1/ 269) حيث قال: "ومن كان غائبًا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح؛ لأن التكليف بحسب الوسع".=

ص: 1245

- لو أنَّ رجلين قاما إلى الصلاة على خطٍّ متساوٍ، أحدهما في أقصى طرف، والآخر في أقصى الطرف الآخر، وكانت اتجاههم إلى جهة القبلة لكان صلاتهما معًا صحيحة، فدلَّ ذلك على أن المطلوب إنما هي الجهة وليست العين.

أما قوله: (محذوف حتى يكون تقديره إلخ) فهذه المسألة مبنية على وجود المجاز في القرآن، والصحيح: أنه لا مجاز في القرآن، ثم إنه لا حاجة لتقدير محذوف في الآية إذا كان العلماء قد فسَّروا الشطر بالجهة، والمقرر في علم الأصول: أن حمل الكلام على حقيقته أولى، لأنه الأصل عند الإطلاق

(1)

.

قوله: (وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا المَحْذُوفِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَة إِذَا تَوَجَّهَ نَحْوَ البَيْتِ").

هذا الحديثُ أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي، وقال عنه الترمذي:

= مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 224) حيث قال: "وأيضًا يلزم على ذلك عدم صحة صلاة الصف الطويل؛ فإن الكعبة طولها من الأرض للسماء سبعة وعشرون ذراعًا، وعرضها عشرون ذراعًا، والإجماع على خلافه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 491) حيث قال: "ولو وقف صف طويل في آخر المسجد بلا استدارة حول الكعبة جاز على ما جزم به الشيخان".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 171) حيث قال: "ولانعقاد الإجماع على صحة صلاة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة، وعلى صحة صلاة الصف الطويل على خطٍّ مستوٍ لا يقال: مع البُعد يتسع المحاذي؛ لأنه إنما يتسع مع التقوس، لا مع عدمه".

(1)

يُنظر: "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (1/ 213) حيث قال: "باب القول في الحقيقة والمجاز كل كلام مفيد؛ فإنه ينقسم إلى حقيقة ومجاز: فأما الحقيقة، فهو الأصل في اللغة"، ويُنظر:"منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز" للشنقيطي رحمه الله فقد ناقش هذه المسألة.

ص: 1246

"إنه حديث حسن صحيح"

(1)

، إلا أن العلماء حكموا عليه بالضعف

(2)

، والحاصل: أن الحديث شاهد للآية.

قوله: (قَالُوا: وَاتِّفَاقُ المُسْلِمِينَ عَلَى الصَّفِّ الطَّوِيلِ خَارِجَ الكَعْبَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الفَرْضَ لَيْسَ هُوَ العَيْنَ، أَعْنِي: إِذَا لَمْ تَكُنِ الكَعْبَةُ مُبْصَرَةً).

وهذا من أدلة الجمهور على أن الفرض استقبال الجهة وهو حجة على الشافعية؛ إذ الجميع متفقون على صحَّة صلاة الصف الطويل، ولو كان الفرض عين الكعبة لما صحَّت صلاتهم، ولا يمكن أن يقال: إنهم أصابوا عين الكعبة كلهم

(3)

.

قوله: (وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا قَصْدُ العَيْنِ، لَكَانَ حَرَجًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]).

هذا بيانٌ من المؤلِّف لرأيه وهو مذهب الجمهور، والأمر كما قال؛ إذ لو كانت إصابة العين مطلوبة لكان في ذلك حرج ومشقة، وذلك أمر نفته النصوص الشرعية والقواعد الكلية، يقول سبحانه وتعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، ويقول سبحانه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ويقول عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ

(1)

أخرجه الترمذي (344) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال:"حديث حسن صحيح"، وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 323) والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 14) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(292).

(2)

ممن ضعفه النسائي يُنظر: "السنن"(4/ 171) حيث قال: "وأبو معشر المدني اسمه نجيح وهو ضعيف، ومع ضعفه أيضًا كان قد اختلط عنده أحاديث مناكير، منها محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة".

(3)

سبق بيانه.

ص: 1247

وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"يسِّروا ولا تعسِّروا، بشِّروا ولا تنفِّروا"

(1)

، ومن القواعد الكلية التي قامت عليها الأحكام الشرعية: قاعدة رفع الحرج، وقاعدة التيسير، وقاعدة مراعاة المصالح، ولذلك كان مذهب الجمهور هو المذهمب الصحيح؛ لأنه الذي يلتقي مع روح الشريعة وقاعدتها الكلية.

قوله: (فَإِنَّ إِصَابَةَ العَيْنِ شَيْءٌ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِتَقْرِيبٍ وَتَسَامُحٍ بِطَرِيقِ الهَنْدَسَةِ، وَاسْتِعْمَالِ الأَرْصَادِ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِغَيْرِ ذَلِك مِنْ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ وَنَحْنُ لَمْ نُكَلَّفْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ بِطَرِيقِ الهَنْدَسَةِ المَبْنِيِّ عَلَى الأَرْصَادِ المُسْتَنْبَطِ مِنْهَا طُولُ البِلَادِ وَعَرْضُهَا).

ما ذكره المؤلف من أن المصلي غير مكلَّف بالاجتهاد في معرفة القبلة بواسطة الهندسة والأرصاد هو الصواب، إذ لا دليل على التكليف بذلك، على أنه إن أمكنه التوجّه إلى عين الكعبة بواسطة ذلك فذلك أفضل.

ويجدر بنا التنبيه لمسألة بطلان الصلاة أو صحتها لمن اجتهد في معرفة القبلة فصلَّى ثم تبيَّن لى وهو يصلي أنه قد أخطأ القبلة، فأما على مذهب الجمهور فلا تبطل صلاته

(2)

، وإنما يتحوَّل إلى القبلة قياسًا على الذين تحوَّلُوا في مسجد قباء وفي مسجد القبلتين؛ لأن أولئك نزل تحويل القبلة قبل أن يصلوا هذه الصلاة ومع ذلك لم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة

(1)

أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 272) حيث قال: "فإن علم أنه أخطأ بعدما صلى لا يعيدها".

ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد الله المواق (2/ 199) حيث قال: "لو علم في الصلاة أنه انحرف يسيرًا عن القبلة فلينحرف إلى القبلة ويبني على الصلاة ولا يقطعها".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (2/ 17) حيث قال: "ومَن صلى بالاجتهاد ثم علم أنه أخطأ القبلة فلا إعادة عليه".

ص: 1248

الصلاة، وإنما أتمُّوا صلاتهم إلى القبلة، وأمَّا على مذهب الشافعية فتبطل الصلاة في هذه الحالة

(1)

.

قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ هَلْ فَرْضُ المُجْتَهِدِ فِي القِبْلَةِ الإِصَابَةُ، أَوْ الِاجْتِهَادُ فَقَطْ حَتَّى يَكُونَ؟ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ فَرْضَهُ الإِصَابَةُ، مَتَى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَخْطَأَ، أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَمَتَى قُلْنَا: إِنَّ فَرْضَهُ الِاجْتِهَادُ، لَمْ يجِبْ أَنْ يُعِيدَ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الخَطَأُ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى قَبْلَ اجْتِهَادِهِ).

وثمرة الخلاف هنا هي في معرفة الفرق بين مَن يقول: إن الفرض إصابة العين أو الجهة، فمَن يقول إن الفرض إصابة العين لو أخطأ إنسان في القبلة ونبَّه، أو صلى صلاته ثم تبيَّن أنه أخطأ، فصلاته غير صحيحة وعليه إعادتها.

وأمَّا الذين يقولون إن المطلوب إصابة الجهة، فلو أخطأ لا يعيد، لكن بعضهم يقول يعيد ما دام في الوقت.

قوله: (أَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّ فَرْضَهُ الإِصَابَةُ، وَأَنَّهُ إِذَا تبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَخْطَأَ، أَعَادَ أَبَدًا).

وهنا يظهر الخلاف بين مذهب الجمهور

(2)

والرواية في الصحيح عند

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (1/ 504) حيث قال: " (فلو تيقنه فيها) ولو يمنة، أو يسرة إن كان بإخبار ثقة عن علم كما يأتي (وجب استئنافها) لعدم الاعتداد بما مضى وخرج بتيقن الخطأ ظنه".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"(2/ 144) حيث قال: "مَن كان بمكة، ففرضه إصابة عينها، ومَن كان غائبًا ففرضه إصابة جهتها".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 224) حيث قال: " (فالأظهر) عند ابن رشد (جهتها)، أي: استقبال جهتها، أي: الجهة التي هي فيها لا سمتها خلافًا لابن القصار".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 170) حيث قال: " (و) =

ص: 1249

الشافعية

(1)

.

وعلينا التنبيه هنا بأنه لا يُفهم من كلمة زعم بأنها للذَّمِّ؛ لأنها تأتي بمعنى ظنَّ أو بمعنى حسب أو رأى

(2)

.

قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُعِيدُ، وَقَدْ مَضَتْ صَلَاتُهُ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ، أَوْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا اسْتَحَبَّ لَهُ الإِعَادَةَ فِي الوَقْتِ).

وجماهير العلماء على ذلك، ومنهم الإمام أحمد

(3)

، وزاد مالك أنه يستحب له أن يعيد في الوقت

(4)

، لكن الذي يتعمَّد ويتلاعب في الصلاة كأن يتساهل في الطهارة أو في القبلة، فهذا لا يدخل في مسألتنا.

فلو أتى إنسان مثلًا في الحضر فصلَّى في بيته إلى أيِّ جهة دون التأكُّدِ من مكان القبلة، فهذا لا يعذر، لأن القبلة غالبًا تكون معروفة، والمساجد موجودة وفي إمكانه أن يسألَ غيره، لكن الكلام عمَّن اجتهد وبدل الوسع والطاقة وسأل غيره فصلَّى ثم تبيَّن خطأه، أو أنه أخطأ في بعض الصلاة فنُبِّه؛ وهذا هو الذي يُنزل فيه الحديث.

= فرض (من بعد) عن الكعبة ومسجده صلى الله عليه وسلم (هو من لم يقدر على المعاينة) كذلك و (لا) يقدر (على من يخبره) باليقين (عن علم إصابة الجهة)، أي: جهة الكعبة".

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 437) حيث قال: "ولو خرج عن محاذاة الكعبة ببعض بدنه بأن وقف بطرفها وخرج عنه بعضه بطلت صلاته".

(2)

"في الزعم ثلاث لغات: فتح الزاي للحجاز، وضمها لأسد، وكسرها لبعض قيس، ويطلق بمعنى: القول، ومنه زعمت الحنفية وزعم سيبويه، أي: قال، وعليه قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} [الإسراء: 92]، أي: كما أخبرت، ويطلق على الظن، يقال: في زعمي كذا" يُنظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 253).

(3)

سبق بيانه.

(4)

يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 227) حيث قال: " (و) إن تبين الخطأ (بعدها)، أي: بعد الفراغ من الصلاة (أعاد) ندبًا من يقطع أن لو اطلع عليه فيها وهو البصير المنحرف كثيرًا (في الوقت").

ص: 1250

قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةُ الأَثَرِ لِلْقِيَاسِ مَعَ الِاخْتِلَافِ أَيْضًا فِي تَصْحِيحِ الأَثَرِ الوَارِدِ فِي ذَلِكَ، أَمَّا القِيَاسُ فَهُوَ تَشْبِيهُ الجِهَةِ بِالوَقْتِ: (أَعْنِي: بِوَقْتِ الصَّلَاةِ)، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الفَرْضَ فِيهِ هُوَ الإِصَابَةُ، وَأَنَّهُ إِفي انْكَشَفَ لِلْمُكَلَّفِ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الوَقْتِ أَعَادَ أَبَدًا إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ المُسَافِرَ إِذَا جَهِلَ، فَصَلَّى العِشَاءَ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ أَنَّهُ قَدْ مَضَتْ صَلَاتُهُ).

والقصد: أن الفرض في الوقت هو الإصابة فلو صلَّى أحدهم قبل الوقت تلزمه الإعادة ولا يعذر بكونه أخطأ.

ومعلوم: إجماع العلماء على أنَّ الصلاة لا تصح قبل الوقت

(1)

، عدا خلاف عند الحنابلة فيما يتعلَّق بالجمعة قبل الزوال

(2)

، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وهناك خلاف نُقِل عن ابن عباس رضي الله عنه

(3)

، كما نقل أيضًا عن الإمام مالك

(4)

كما ذكره المؤلف.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 114) حيث قال: "ووقت الصلاة من فرائضها، ولا يجوز الصلاة إلا به، ولا خلاف في هذا بين العلماء، إلا شيئًا روي عن أبي موسى الأشعري، وبعض التابعين. وقد انعقد الإجماع على خلافه فلم أرَ لذكره وجهًا؛ لأنه لا يصح عندي عنهم، وقد صحَّ عن أبي موسى خلافه بما يوافق الجماعة، فصار اتفاقًا صحيحًا".

(2)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 308 - 309) حيث قال: "وهي (أفضل من الظهر) بلا نزاع قاله في الإنصاف (و) هي (مستقلة) ليست بدلًا عن الظهر، لجوازها قبل الزوال".

(3)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 384) عن ابن عباس، سئل عن رجل صلى الظهر في السفر قبل أن تزول الشمس. قال:"تجزيه، ثم قال: أرأيت إن كان على أحدكم دين إلى أجل، فقضاه قبل محله، أليس ذلك قد قضيناه".

(4)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 391) حيث قال: "وقال أشهب في المجموعة:=

ص: 1251

قوله: (وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا مِيقَاتُ وَقْتٍ، وَهَذَا مِيقَاتُ جِهَةٍ).

أي: أنَّ هذا ميقات وقت، وهو ظرف زمان، وذاك ظرف مكان فالتقيا من هذه الناحية.

قوله: (وَأَمَّا الأَثَرُ، فَحَدِيثُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ:"كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فِي سَفَرٍ فَخَفِيَتْ عَلَيْنَا القِبْلَةُ، فَصَلَّى كل وَاحِدٍ مِنَّا إِلَى وَجْهٍ، وَعَلَّمْنَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، فَإِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا إِلَى غَيْرِ القِبْلَةِ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَضَتْ صَلَاتُكُمْ"، وَنَزَلَتْ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] "

(1)

، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةً، وَتَكُونُ فِيمَنْ صَلَّى فَانْكَشَفَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ القِبْلَةِ، وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149]، فَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ هَذَا الأَثَرُ، قَاسَ مِيقَاتَ الجِهَةِ عَلَى مِيقَاتِ الزَّمَانِ، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الأَثَرِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ).

في هذه الرواية قال: "ليلة ظلماء"، وفي بعضها:"مظلمة"

(2)

، والحديث تقدم فيه كلام للعلماء والمؤلف قد أشار إليه.

ومن هذا الحديث أخذ العلماء على أنه إذا وجد عدد من المجتهدين فليس لأحدهم أن يقلِّد الآخر ما دام ليست له مزايا يختص بها، وعلى كلٍّ

= أرجو لمن صلى العصر قبل القامة، والعشاء قبل الشفق أن يكون قد صلى، وإن كان لغير عذر، وقد يصليها المسافر عند رحلته والحاج بعرفة".

(1)

أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(2/ 462)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 18)، وحسنه الألباني بشواهده في "إرواء الغليل"(291).

(2)

أخرجه الترمذي (345)، وحسنه الألباني بشواهده في "إرواء الغليل"(291).

ص: 1252

منهم أن يجتهد، ولذلك اجتهد الصحابة رضي الله عنهم وتحروا، ثم صلى كل واحد منهم إلى وجهة.

وقوله: "وعلَّمنا"، يعني: وضعنا علامة أو علامات، فكلّ واحد منهم وضع علامة ليعرف الجهة التي صلى إليها؛ لأنه إذا ظهر الصبح فستظهر الأدلة والعلامات التي يعرفون بها القبلة.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "مضت صلاتكم"

(1)

، يعني: صحت صلاتكم ووقعت، وهو حجة للجمهور.

وقيل

(2)

: إن الآية نزلت في النافلة، ولكن أيضًا ورد أنها نزلت بهذه المناسبة.

قوله: (وَفِي هَذَا البَابِ مَسْأَلَة مَشْهُورَةٌ، وَهِيَ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي دَاخِلِ الكَعْبَةِ).

إن العلماء عادة يتكلَّمون عن الصلاة داخل الكعبة وعن الصلاة على ظهرها، لكن المؤلِّف علَّق على هذه المسألة فقال: لأنها أشهرها، واعتبر الأخرى فرعية، وإلا فإنهم يتكلمون في الصلاة فوق ظهر الكعبة ويختلفون فيما إذا كان هناك شاخص أمام المصلي أو لا.

قوله: (وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّفْلِ فِي ذَلِكَ وَالفَرْضِ).

ذكر المؤلِّف أن منهم مَن منعه على الإطلاق، ولم يذكر المانع، وقد

(1)

سبق تخريجه.

(2)

يُنظر: "تفسير الطبري"(2/ 530) حيث قال: "وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، إذنًا منَ الله عز وجل له أن يصلِّي التطوع حيثُ توجَّه وجهه من شرق أو غرب"، ثم أسند إلى ابن عمر رضي الله عنهما قوله الذي أخرجه البخاري (1096)، ومسلم (700).

ص: 1253

نُسِب إلى ابن جرير المفسر العالم المشهور الذي قال عنه الفقهاء: إن باب الاجتهاد أغلق به، وإن كانت هذه الدعوة غير مسلمة، وقد سبق أن نبَّهنا عليها وقلنا: إن الاجتهاد لا ينتهي في وقت؛ لأن الحوادث تجِد والنوازل تتكرر، والمسلمون لا يزالون بحاجة إلى الاجتهاد، وكتاب الله عز وجل لا يزال بين أيدينا غضًّا طريًّا، وكذلك سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الحاجة تقتضي ذلك، لكن هناك أسباب ذكرها أهل الأصول والذين كتبوا في تاريخ التشريع.

فابن جرير

(1)

ومعه أصبغ أيضًا من المالكية

(2)

، وبعض الظاهرية

(3)

، وحُكِي أيضًا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنهم قالوا: لا تُصلَّى صلاة داخل الكعبة، ولا فرق بين النفل وبين الفرض

(4)

، ودليل هؤلاء قول الله سبحانه وتعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وقالوا: مَن يصلِّي داخل الكعبة إنما يصلِّي إلى حائط من حيطانها لا إلى جهة الكعبة، فلا ينبغي أن يصلي داخل الكعبة.

وفريق آخر أجازوا ذلك مطلقًا وهم كما ذكر المؤلف: الحنفية

(5)

، والشافعية

(6)

وهؤلاء استدلُّوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبد الله بن

(1)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 206) حيث قال: "قال ابن عمر: لا يصلي في الكعبة فرضًا، ولا نفلًا وبه قال ابن جرير الطبري".

(2)

يُنظر: "اختلاف الأئمة العلماء" لابن هبيرة (1/ 100) حيث قال: "وعن مالك روايتان المشهورة منهما كمذهب أحمد، وهو أنه لا تصح بحال وهي رواية أصبغ".

(3)

يُنظر: "المجموع" للنووي (3/ 194 - 195) حيث قال: "لا يجوز الفرض ولا النفل، وبه قال أصبغ بن الفرج المالكي وجماعة من الظاهرية".

(4)

يُنظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (1/ 234) حيث قال: "روي عن ابن عباس أنه قال: إنما أمر الناس أن يصلوا إلى الكعبة ولم يؤمروا أن يصلوا فيها".

(5)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 254) حيث قال: "يصحّ فرض ونفل فيها وفوقها".

(6)

يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (14312) حيث قال: "صلاة الفريضة والنافلة يجوز فعلها داخل الكعبة".

ص: 1254

عمر رضي الله عنه عن بلال رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وطلحة وأنه صلى ركعتين

(1)

.

وقالوا: إن هذا يدلُّ على أنه عليه الصلاة والسلام صلى داخلها، ولا فرق بين الفرض والنفل، وفيه زيادة على ما ورد في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن أسامة رضي الله عنه، لأن حديث أسامة رضي الله عنه فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ولم يصلِّ، ثم خرج فوقف قبل الكعبة وصلى ركعتين، وقال: هذه القبلة

(2)

، يعني: وقف مواجهًا الكعبة.

وردَّ أصحابُ القول الآخر بأن معنى قوله: لم يصلِّ، أي: لم أره صلى، كما أن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن بلال رضي الله عنه -عبه فيه زيادة، وهي زيادة ثقة ثابتة، وأنه مَن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومنه فينبغي الأخذ بهذه الزيادة.

وأما القول الثالث فقال به مالك

(3)

، وأحمد

(4)

، وقد فرَّقوا بين النفل وبين الفرض فقالوا: إنه ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى لكنه أيضًا خرج وصلى ركعتين خارج الكعبة، وقال:"هذه الكعبة"، فإن إشارته دليل على أن هذه هي القبلة، واستدلُّوا أيضًا بما استدلَّ به الأولون وهو قوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، أي: جهته، وأما النافلة: فمبناها على التخفيف، ولذلك تُصلى النافلة داخل الكعبة، فإنه يجوز أن يصليها المرء قاعدًا أو يصليها على الراحلة في السفر وقد وردت في ذلك أحاديث.

(1)

أخرجه البخاري (505)، ومسلم (1329).

(2)

أخرجه البخاري (398)، ومسلم (1330) ولم يذكر البخاري عن أسامة.

(3)

يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد الله بن المواق (2/ 200) حيث قال: "لا يُصلَّى في ولا في الحجر فريضة، ولا ركعتا الطواف الواجب ولا الوتر ولا ركعتا وأما غير ذلك من ركوع الطواف والنوافل فلا بأس به".

(4)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 166) حيث قال: "ولا يصح فرض الصلاة في الكعبة ولا على ظهرها".

ص: 1255

ونقول: لا شكَّ أن الأحوط للإنسان في هذه المسألة هو أن يصلي إلى الكعبة، وليس داخلها، وخاصة فيما يتعلَّق بالفريضة.

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَالِاحْتِمَالُ المُتَطَرِّقُ لِمَنِ اسْتَقْبَلَ أَحَدَ حِيطَانِهَا مِنْ دَاخِلٍ، هَلْ يُسَمَّى مُسْتَقْبِلًا لِلْبَيْتِ كمَا يُسَمَّى مَنِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْ خَارجٍ أَمْ لَا؟ أَمَّا الأَثَرُ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَان مُتَعَارِضَان كلَاهُمَا ثَابِتٌ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم البَيْتَ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ، رَكَعَ رَكعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ القِبْلَةُ"

(1)

. وَالثَّانِي: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زيدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ، وَمَكَثَ فِيهَا، فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى")

(2)

.

قد سبق وذكرت أن المؤلف له مصطلح خاص، إذ يقول: الأثر، وأما في زمننا فقد تغير مدلول المصطلح، فإذا قيل: الحديث فهو المرفوع، وأما الأثر: فهو الموقوف على الصحابة رضي الله عنهم

(3)

، وقد يُطلَق على هذا

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

يُنظر: "توجيه النظر إلى أصول الأثر" لطاهر الجزائري (1/ 40) حيث قال: "الحديث ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيختصّ بالمرفوع عند الإطلاق ولا يراد به الموقوف إلا بقرينة، وأما الخبر فإنه أعمُّ؛ لأنه يُطلَق على المرفوع والموقوف فيشمل ما أضيف إلى الصحابة والتابعين وعليه يسمَّى كل حديث خبرًا ولا يسمَّى كل خبر حديثًا، وقد أَطلق بعض العلماء الحديث على المرفوع والموقوف فيكون مرادفًا للخبر وقد خصَّ بعضهم الحديث بما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، والخبر بما جاء عن غيره فيكون مباينًا للخبر، وأما الأثر فإنه مرادف للخبر فيطلق على المرفوع =

ص: 1256

وذاك، وأمَّا المصنف فيقصد بالأثر هنا الحديث، وحديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كلاهما متفق عليهما.

والتعارض حاصل في قضية واحدة، حيثُ أن أسامة وبلال رضي الله عنهما كلاهما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلال ذكر أنه صلى ركعتين، بينما أسامة قال: لم يصل، ومن هنا ورد التعارض، والجواب: أن بلالًا رضي الله عنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي دون صاحبه، ولذلك جاء المؤلف بالرواية التي فيها التفصيل ووصف المكان الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَوِ النَّسْخِ قَالَ إِمَّا بِمَنْعِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا إِنْ رَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِمَّا بِإِجَازَتِهَا مُطْلَقًا إِنْ رَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ).

والنسخ هنا لا مكان له؛ لأن القضية وقعت في وقت واحد ويرويها صحابيان، لكن المسألة مسألة ترجيح كما ذكر، فمن رجَّح حديث بلال رضي الله عنه الذي رواه عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قالوا: لأن فيه زيادة وزيادة الثقة مقبولة، وقد حفظ ذلك وشاهده، وقول أسامة رضي الله عنه:"لم أرَ أنه صلى"

(1)

فهو يحكي الحالة التي رآها.

قوله: (وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ بَيْنَهُمَا، حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الفَرْضِ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى النَّفْلِ، وَالجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِيهِ عُسْرٌ، فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَلَّاهُمَا عليه الصلاة والسلام خَارجَ الكَعْبَةِ، وَقَالَ: "هَذِهِ قِبْلَةٌ"، هِيَ نَفْلٌ).

وهذا على رأي المؤلف، وأما الآخرون الذين فرَّقوا بين النفل

= والموقوف، وفقهاء خراسان يسمون الموقوف بالأثر والمرفوع بالخبر"، ويُنظر: "مصطلح الحديث" لابن عثيمين (ص 5).

(1)

أخرجه مسلم (1330) وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل البيت، دعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ فيه حتى خرج".

ص: 1257

والفرض فقالوا: إن النافلة مبناها على التخفيف واستدلُّوا بقول الله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، ورأوا أن الآية تدلُّ على أن المطلوب هو استقبال جهة الكعبة لما ذكره المؤلف هنا.

قوله: (وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ سُقُوطِ الأَثَرِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَإِنْ كانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الإِجْمَاعِ وَالِاتِّفَاقِ، لَمْ يُجِزِ الصَّلَاةَ دَاخِلَ البَيْتِ أَصْلًا).

ومراد المؤلف من قوله: استصحاب حكم الإجماع أن هناك مسألتين:

الأولى: مجمعٌ عليها لورود النصّ، وهو أن القبلة إنما هي الجهة التي هي شرط في صحة الصلوات، وقد عرفنا أن الإنسان يلزمه أن يستقبل عينه إذا كان شاهدها أو كان يوجد حائل يمكن زواله عند بعض العلماء، أما إذا كان بعيدًا عنها فالواجب هي الجهة خلافًا للشافعية

(1)

، إذن استقبال جهة الكعبة مجمع عليه وليس فيه خلاف.

والثانية: الصلاة داخل الكعبة، وهي محلّ خلاف

(2)

، قال: فمن استصحب حكم الإجماع -وهم الأولون- قالوا: إذن نأخذ بما يجمع عليه ونطرخ الباقي.

قوله: (وَإِنْ كانَ مِمَّنْ لَا يَرَى اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الإِجْمَاعِ، عَادَ النَّظَرُ فِي انْطِلَاقِ اسْمِ المُسْتَقْبِلِ لِلْبَيْتِ عَلَى مَنْ صَلَّى دَاخِلَ الكَعْبَةِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ أَجَازَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ -وَهُوَ الأَظْهَرُ- لَمْ يُجِزِ الصَّلَاةَ فِي البَيْتِ).

فالمؤلف في النهاية عاد إلى مذهبي المالكية والحنابلة؛ لأنه قال: ومن لم يجوزه وهو الأظهر.

(1)

سبق بيانه.

(2)

سبق بيانه.

ص: 1258

قوله: (وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ بِأَجْمَعِهِمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّتْرَةِ بَيْنَ المُصَلِّي وَالقِبْلَةِ إِذَا صَلَّى؛ مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ إِمَامًا

(1)

، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤَخَّرَةِ الرَّحْلِ، فَلْيُصَلِّ"

(2)

.

ولا شكَّ أن الإمام نفسه له سترة، أما المأموم فالإمام يحمل عنه، وهذه قضية مهمة لكن يتساهل فيها الكثير من الناس فيمرون بين يدي المصلي، وحكم اتخاذ السترة فيه تفصيل، وذلك حسب الأماكن والأحوال:

أولًا: في الحرم المكي: العلماء في هذه الحالة قالوا يجوز للمصلي ألا يتخذ سترة، واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وغيره من السلف؛ فقد كان يصلي دون سترة

(3)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 365) حيث قال: " (فصلٌ في اتخاذ السترة ودفع المار بين يدي المصلي إذا ظن)، أي: مريد الصلاة (مروره)، أي: المار (يستحب له)، أي: مريد الصلاة (أن يغرز سترة) ".

ومذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد الله بن المواق (2/ 233) حيث قال: " (وسترة لإمام وفذ إن خشيا مرورًا) ابن عرفة: سترة المصلي غير مأموم حيث توقع مارًّا. قال عياض: مستحبة. الباجي: مندوبة. وفيل: سنة وفيها لا يصلي حيث يتوقع مرورًا إلا لها".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 127) حيث قال: "ويستحب لكلِّ مصلِّ أن يصلي إلى شاخص من نحو جدار أو محمود، فإن لم يجد فنحو عصا أو متاع يجمعه".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى"(1/ 214) حيث قال: " (و) سن أن تكون (الصلاة إلى سترة) فإن كان في مسجد، أو بيت: صلى إلى حائط، أو سارية، وإن كان في فضاء، صلى إلى سترة بين يديه (مرتفعة) قدر ذراع فأقل".

(2)

أخرجه مسلم (499) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 371) عن أبي حماد قال: رأيتُ ابن الزبير "طاف بالبيت، ثم جاء يصلي والطواف بينه وبين القبلة".

ص: 1259

أن المصلي في الحرم المكي يشاهد القبلة.

أن المسجد الحرام يختص بوجود الزحام فيه، فيتعذر ويصعب على الناس ألا يتخطوا المصلي.

ثانيًا: المسجد النبوي وغير ذلك من المساجد: فإذا كثُرَ الزحام وصعب على الناس المرور إلا بتجاوز المصلي فيجوز ذلك لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

ثالثًا: إذا كان المصلي مأمومًا: فسترة الإمام سترة له، والإمام يتحمَّل عن المأموم أشياء كثيرة من بينها السترة لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ"

(1)

.

رابعًا: إذا كان المصلي منفردًا: سواء كانت الصلاة التي يصليها فرضًا أو نافلة، يستحب له أن يتخذ سترة بينه وبين قبلته حتى تكون كحماية له من مرور بعض الناس بين يديه، والسترة تكون إما عمودًا أو سارية أو أمرًا ينصبه بين يديه، فإن لم يجد فعصًا، ودليل ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه "كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ، فَيُصَلِّي إِلَيهَا"

(2)

، وما ورد عن أبي جحيفة صلى الله عليه وسلم قال:"ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الحِمَارُ وَالكَلْبُ"

(3)

، والعَنَزَة: عصا تشبه الرمح في أسفلها

(4)

، وقد ورد عن الصحابة رضي الله عنه فعل ذلك أيضًا

(5)

.

ولمسألة السترة جزئيات مهمَّة منها:

الأولى: المقدار الذي ينبغي أن يكون بين المصلي وبين سترته، فعن

(1)

أخرجه البخاري (378)، ومسلم (411) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (507)، ومسلم (502) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (376)، ومسلم (503).

(4)

"والعنزة كهيئة عصا في طرفها الأعلى زج يتوكأ عليها الشيخ"، يُنظر:"العين" للفراهيدي (1/ 356).

(5)

أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1812) عن الأسود قال: "إن كان عمر ربما يركز العنزة فيصلي إليها، والظعائن يمررن أمامه".

ص: 1260

سهل بن سعد، قال:"كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممرُّ الشاة"

(1)

، وقد قدَّره العلماء بثلاثة أذرع

(2)

، وعلى المصلي أن لا يجعل مسافة كبيرة بينه وبين سترته مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا"

(3)

.

الثانية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يمرَّ بين المصلي وسترته، فإن فعل فإنه يقع في التحذير الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"لَوُ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيْ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَان أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ"

(4)

.

وفي حديث آخر: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان"

(5)

.

وأما قولُه صلى الله عليه وسلم: "تَقْطَعُ الصَّلَاةَ المَرْأَةُ، وَالكَلْبُ، وَالحِمَارُ"

(6)

، فاختلف العلماء في هذا الحديث، منهم مَن حمله على حقيقته، ومنهم من تأولَّه

(7)

، وظاهر الحديث أن هذه الأشياء تقطع.

(1)

أخرجه البخاري (496)، ومسلم (508).

(2)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 101) حيث قال: "وحدُّ دنو المرء من سترته أقرب ذلك قدر ممر الشاة، وأبعده ثلاثة أذرع لا يحل لأحد الزيادة على ذلك، فإن بعد عن سترته عامدًا أكثر من ثلاثة أذرع، وهو ينوي أنها سترته بطلت صلاته، فإن لم ينوِ أنها سترة له فصلاته تام".

(3)

أخرجه أبو داود (695)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(692).

(4)

أخرجه البخاري (510)، ومسلم (507) من حديث أبي جهيم رضي الله عنه.

(5)

أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(6)

أخرجه مسلم (511) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7)

يُنظر: "طرح التثريب" للعراقي (2/ 388) حيث قال: "وفيه أن المرأة إذا كانت بين يدي المصلي لا تقطع صلاته، وهو قول الجمهور من التابعين فمَن بعدهم، وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو ثور وداود الظاهري، وروي عن ابن عمر وأنس والحسن البصري وأبي الأحوص أنه يقطع الصلاة الخمار والمرأة والكلب".

ص: 1261

التالثة: القول في حكم السترة، فالبعض يقول: السترة غير واجبة لأدلة عدة، من بينها:

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يجد سترة اتَّخذ عصا هي العَنَزَة.

2 -

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ ثُمَّ يُصَلِّي"

(1)

.

3 -

وقوله أيضًا عليه الصلاة والسلام: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا، فَلْيَخُطَّ خَظا، وَلَا يَضُرُّه مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ"

(2)

، ولقد تكلَّم العلماء حول شكل الخط هل يكون على شكل محراب؟ أم يضعه مستقيمًا أمامه؟ أم يجعله عن يمينه وشماله؟ لكن المؤلِّف لم يتكلم عن هذه المسائل الجزئية، لأن مقصده أمهات المسائل.

4 -

بالإضافة إلى ما ورد عن الفَضلِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ عبَّاسًا، وَنَحْنُ فِي بَادِيَةٍ لَنَا، فَقَامَ يُصَلِّي، قَالَ: أُرَاهُ قَالَ: العَصْرَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ كُلَيْبَةٌ لَنَا، وَحِمَارٌ يَرْعَى لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا شَيْءٌ، يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا"

(3)

.

الرابعة: وهي جزئية تدخل ضمن المسائل التي يجتهد العلماء في تقديرها، لأنه- في الحديث وردت مطلقة ولم تحدد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤَخّرَةِ الرَّحْلِ ثُمَّ يُصَلِّي"

(4)

، وفي الحديث:"رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ"

(5)

، و"العَنَزَة" على شكل رمح قدرت بنصف رمح، فقدر

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه أبو داود (689)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(107).

(3)

أخرجه أبو داود (718)، والنسائي (753) واللفظ له، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(114).

(4)

سبق تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

ص: 1262

بعض العلماء عرض السترة بذراع، وبعضهم بثلثي ذراع

(1)

، وعليه فإنه لم يُحَدَّد العرض، والمهمّ: أن يضع المصلي أمامه شيئًا، أما الطول فبعض العلماء حدده، والبعض الآخر تركه.

قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الخَطِّ إِذَا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً، فَقَالَ الجُمْهُورُ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُطَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ

(2)

"يَخُطُّ خَطًّا بَيْنَ يَدَيْهِ").

إن المصلي إذا لم يكن أمامه سترة -كالأعمدة والسواري أو الحائط- فعليه أن يضع عصًا أو نحوها، أما أن يخطَّ خطًّا فأكثر العلماء من الحنفية والمالكية والشافعي في الجديد يرون ألا يفعل ذلك

(3)

؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف.

وأما المحقِّقون من الشافعية فإنهم يرجِّحون قول الإمام الشافعي القديم، ويأخذون بمذهب الحنابلة

(4)

الذي يقوم على الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال

(5)

مع أنه يُرَجَّح أن الحديث حسن، فإنه قد

(1)

كالشافعية، يُنظر:"المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 127) حيث قال: "ويستحب أن يصلي إلى شاخص قدر ثلثي ذراع".

(2)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 214) حيث قال: "ويصح تستر ولو بخيط".

(3)

مذهب الحنفية: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 19) حيث قال: "الثالث عشر أنه إذا لم يجد ما يتخذه سترة، فهل ينوب الخط بين يديه منابها ففيه روايتان؛ الأولى: أنه ليس بمسنون ومشى عليه كثير من المشايخ واختاره في الهداية؛ لأنه لا يحصل المقصود به؛ إذ لا يظهر من بعيد والثانية عن محمد أنه يخط".

ومذهب المالكية، يُنظر:"منح الجليل" للشيخ عليش (1/ 256) حيث قال: " (و) لا (خط) يخطه في الأرض من المشرق للمغرب أو من جهة القبلة إلى الجهة التي ثقابله" وكذا حفرة وماء ونار ولا مشغل كنائم وحلقة علم أو ذكر ولا بكافر أو مأبون أو من يواجه المصلي فيكره في الجميع".

(4)

يُنظر: "المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 127) حيث قال: "فإن لم يجد بسط مصلى أو خط خطًّا".

(5)

اتفق العلماء على عدم الأخذ بالحديث الضعيف في العقائد والأحكام، واختلفوا في الأخذ به في فضائل الأعمال والذي عليه جمهور العلماء أنه يستحب العمل به في الفضائل، لكن بشروط، يُنظر:"تدريب الراوي" للسيوطي (1/ 351) حيث قال: =

ص: 1263

تتبعه الحافظ ابن حجر -وهو الذي يضرب به المثل في الدقة في تصحيح الأحاديث وتضعيفها- وحسن إسناده

(1)

.

والإمام الشافعي قد وضع قاعدة مهمة، إذ يقول:"إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي الحائط"

(2)

، فأيّ مسألة يخالف فيها الشافعي ويصح فيها حديث لم يبلغه أو بلغه ولم يصحّ عنده، فإن ما تقرر في هذا الحديث هو مذهب الشافعي، وبذلك يتبين أن العلماء رحمهم الله تعالى كانت غايتهم هي الوصول إلى الحق، وذلك بمعرفة شرع الله تعالى وما جاء فيه من أحكام.

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ الأَثَرِ الوَارِدِ فِي الخَطِّ، وَالأَثَرُ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَصًا، فَلْيَخُطَّ خَطًّا وَلَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(3)

، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنبلٍ يُصَحِّحُهُ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يُصَحِّحُهُ).

وقول الإمام أحمد نُقل عن بعض التابعين كسعيد بن الزبير، وكما مرَّ قال به الإمام الشافعي في القديم.

والخلاف بين الإمامين هو في تصحيح وتضعيف الحديث، فأحمد صحَّ عنده والشافعي لم يصحَّ عنده، ثم جاء المحققون فحققوا في سند الحديث وانتهوا إلى أنه حديث حسن، وإذا ثبتَ حُسنه عُمِل به، وما دام

= "وذكر شيخ الإسلام له ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه، نقل العلائي الاتفاق عليه. الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به. الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط".

(1)

يُنظر: "بلوغ المرام" لابن حجر (ص 70) حيث قال: "ولم يصب مَن زعم أنه مضطرب، بل هو حسن".

(2)

يُنظر: "شرح مسند الشافعي" للرافعي (1/ 19)، و"خلاصة الأحكام" للنووي (1/ 353).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 1264

يعمل به فينبغي أن ينسب إلى الإمام الشافعي، ويقال: إنه مذهبه؛ لأنه قال: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي الحائط"

(1)

.

وقد وُجد للحديث طرق صحَّ بها، وهذا هو شأن المحقق في أيِّ مسألة من مسائل العلم فلا ينبغي أن يدفعه التعصب فيقول: إن مذهب الشافعي هو الجديد، فكم من المسائل رجَّحها الشافعية على المذهب الجديد ورأوها صوابًا؛ لأن الأحاديث جاءت فعضدتها، أو أن بعضها لم يبلغ الإمام الشافعي.

والمقصود: أن الأئمة بشَرٌ فقد يبلغ بعضَهم ما لم يبلغ البعض الآخر، فأكثر الأئمة إحاطة وعناية بالأحاديث -كالإمام أحمد والإمام مالك- لا يستطيع أن يدعي أنه قد بلغه كلُّ الأحاديث والآثار، وحتى قبلهم من الصحابة لم يكن يبلغهم كلهم الحديث، ومن ذلك ما وقع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في مسألة توريث الجدة حيث لم يبلغه الحديث، لكنه بلغ غيره ممن هو أصغر منه من الصحابة

(2)

.

قوله: (وَقَدْ رُوِيَ "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى لِغَيْرِ سُتْرَةٍ"

(3)

، وَالحَدِيثُ الثَّابِتُ "أَنَّهُ كَانَ يُخْرَجُ لَهُ العَنَزَةُ"

(4)

. فَهَذ جُمْلَةُ قَوَاعِدِ هَذَا البَابِ، وَهِيَ أَرْبَعُ مَسَائِلَ).

وهو حديث الفضل بن عباس رضي الله عنه، وقد سبق ذكره.

(1)

سبق بيانه.

(2)

أخرجه أبو داود (2894) عن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال:"جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق، تسأله ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنَّة نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: "حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس"، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال: مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1680).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 1265

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(البَابُ الرَّابعُ مِنَ الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ)

(وَهَذَا البَابُ يَنْقَسِمُ إِلَى فَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي سَتْرِ العَوْرَةِ. وَالثَّانِي: فِيمَا يُجْزِئُ مِنَ اللّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ).

إن ستر العورة والمجزئ من اللباس في الصلاة أمران متلازمان، أما العورة: فلا تخلو أن تكون عورة رجل أو امرأة، ثم لا تخلو المرأة أن تكون حرة أو أمة، ولكلِّ واحد من هذه الأقسام حكم يخصه.

[الفصل الأول: في ستر العورة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: (الفَصْلُ الأَوَّلُ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سَتْرَ العَوْرَةِ فَرْضق بِإِطْلَاقٍ).

يقول العلماء: إن العورة مأخوذة من العور، وهو النقص والعيب، ومن ذلك قولهم عن الكلمة القبيحة: عورة؛ لما فيها من القبح والعيب، و"العورة" هي كل ما يسوء إخراجه ويمنع النظر إليه لقبحه، فإن النظر إليه يعتبر من العيب

(1)

، ولذلك كان ستر العورة مطلوبًا.

(1)

يُنظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 319) حيث قال: "وكل عيب وخلل في شيء فهو عورة".

ص: 1266

ثم إن ستر العورة -من حيث الجملة- لا يخلو من حالين: ستر الحورة عمومًا، وسترها في الصلاة خاصة، ثم لا يخلو ستر العورة مطلقًا أن يكون في خلوة أو في حضور الناس خلا الزوج مع زوجته؛ لأن لهما حكمًا خاصًّا في المسألة، والمؤلف هنا لم يتعرض بالتفصيل إلا لستر العورة في الصلاة خاصة.

أما بالنسبة لستر العورة عمومًا فالإجماع حاصل -كما أشار المؤلف- على أن الإنسان يجب عليه أن يستر عورته في الصلاة وفي غيرها، يقول الله سبحانه وتعالى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26]، ويقول سبحانه:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].

إلا أن العلماء يختلفون في حال الخلوة، وأكثرهم على أنه لا فرق بين كون الإنسان خاليًا بنفسه أو يحضر معه غيره

(1)

، والدليل: ما ورد في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه -حبه قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملعت يمينك"، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال:

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (1/ 404) حيث قال: " (قوله: ووجوبه عام)، أي: في الصلاة وخارجها (قوله: ولو في الخلوة)، أي: إذا كان خارج الصلاة يجب الستر بحضرة الناس إجماعًا وفي الخلوة على الصحيح".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 215) حيث قال: " (وندب) لغير مصل من رجل أو امرأة (سترها)، أي: العورة المغلظة (بخلوة) حياء من الملائكة وكره كشفها لغير حاجة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 6) حيث قال: "ويجب سترها في غير الصلاة أيضًا، لما صحَّ من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمشوا عراة"، وقوله: "الله أحق أن يستحيا منه"، قال الزركشي: "والعورة التي يجب سترها في الخلوة السوأتان فقط من الرجل، وما بين السرة والركبة من المرأة نبه عليه الإمام، وإطلاقهم محمول عليه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 149) حيث قال: " (ويجب) ستر العورة (حتى خارجها، وحتى في خلوة، وحتى في ظلمة) ".

ص: 1267

"فالله تبارك وتعالى أحقّ أن يُستحْيَا منه"

(1)

.

فالواجب إذن على المرء: أن يستر عورته في جميع الأحيان والأحوال، وسواء كان خاليًا بنفسه أو في حضرة الناس، ويستثنى من ذلك بعض الحالات، كحال الضرورة أو إذا كان الإنسان مع أهله.

قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ العَوْرَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ).

ذكر المؤلِّف هنا خلاف العلماء في حكم ستر العورة في الصلاة، وجماهير العلماء على أن ستر العورة في الصلاة شرط من شروط صحتها، وأنه لا يجوز لمسلم قادر على ستر العورة أن يصلي دون القيام بذلك، وهذا مذهب الأئمة أبي حنيفة والشافعي وأحمد

(2)

، أما المالكية فتعددت الأقوال في مذهبهم فصارت أقرب إلى الاضطراب، فقيل: إنه واجب مع الذِّكْر والقدرة، ساقط مع النسيان والعجز، وقيل: إنه فرض، وقيل: إنه سنَّة، وهو الذي اقتصر عليه المؤلف، والأول هو المعروف من مذهبهم

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود (4017)، وغيره، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1810).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"درر الحكام" لملا خسرو (1/ 59) حيث قال: "ومنها، أي: من الشروط ستر العورة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 115) حيث قال: "الشرط الثامن: ستر العورة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الفروع" لابن مفلح (2/ 240) حيث قال: "شروط الصلاة: الوقت ثم ستر العورة".

(3)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب الرعيني (1/ 497) حيث قال: "قال القاضي عبد الوهاب: اختلف أصحابنا هل ستر العورة من شرائط الصلاة مع الذكر والقدرة أو هي فرض وليست بشرط في صحة الصلاة حتى إذا صلى مكشوفًا مع العلم والقدرة يسقط عنه الفرض وإن كان عاصيًا آثمًا".

ص: 1268

والحق في المسألة: ما ذهب إليه الجمهور من أن ستر العورة -على الجملة- شرط من شروط صحة الصلاة، وإن كانوا مختلفين في تفصيل ذلك، وسيأتي بيان أدلة الفريقين، وتفصيلات المذاهب في ذلك.

قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ: تَعَارُضُ الآثَارِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي مَمهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، هَلِ الأَمْرُ بِذَلِكَ عَلَى الوُجُوبِ، أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟ فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الوُجُوبِ قَالَ: المُرَادُ بِهِ سَتْرُ العَوْرَةِ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ كَانَ أَنَّ المَرْأَةَ كَانَتْ تَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانَةً، وَتَقُولُ: اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كلُّهُ

وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامٍ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْب قَالَ: المُرَادُ بِذلِكَ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ مِنَ الرِّدَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَلَابِسِ الًّتِي هِيَ ؤِينَة، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ "كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَاقِدِي أُزُرِهُمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: لَا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا"

(1)

.

انتقل المؤلف رحمه الله إلى بيان سبب الخلاف في المسألة، وذكر شيئًا من الأدلة التي استدلَّ بها كل فريق، وما وقع من اختلاف الأنظار في توجيه تلك الأدلة، وفيما يلي بيان لكل ذلك:

أما الجمهور -وهم القائلون بأن ستر العورة شرط صحَّة في الصلاة- فاستدلوا بما يلي:

أولًا: من الكتاب: قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26].

(1)

أخرجه البخاري (362)، ومسلم (441) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما".

ص: 1269

وقالوا: إن الآية فيها دليل على وجوب ستر العورة على سبيل العموم سواء كان ذلك في الصلاة أو في خارجها.

وبقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].

وقالوا: إن الآية نصٌّ في وجوب ستر العورة في الصلاة؛ لأنهم حملوا الأمر في قوله: (خذوا) على الوجوب، ومما يؤيِّد هذا المعنى ما ورد في سبب نزولها، وهو أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة رجالًا ونساء، لا رغبة في ذلك، بل لأنهم يرون أن الطواف قربة لله سبحانه وتعالى، وأنه لا يصلح لأحدهم أن يطوف في ثياب ارتكب فيها الذنوب، فكانوا إذا طافوا بالبيت ألقوا ثيابهم وطافوا عراة إلا أن تعيرهم الحمس ما يطوفون به، وكانت المرأة إذا أرادت الطواف تقول: من يعيرني تِطْوافًا؟ أي: ثوبًا أو غطاءً، تجعله على فرجها وتقول:

اليوم يبدو بعضه أوكله

وما بدا منه فلا أحله

فنزلت الآية: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .

ثانيًا: من السُّنة:

عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمَة رضي الله عنه قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيلٍ، وعليَّ إزار خفيف، قال: فانحلَّ إزاري ومعي الحجرُ، ولم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارجع إلى ثوبك فخذه، ولا تمشوا عراة"

(1)

. فقوله: "لا تمشوا عراة"، نصٌّ في وجوب ستر العورة.

وعن جرهد بن رِزاح رضي الله عنه أنه قال: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا كاشف فخذي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غطِّها فإنها من العورة"

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (341) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أحمد في "المسند"(15971) واللفظ له، وأبو داود (4014)، وغيرهما، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7906).

ص: 1270

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجّة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: "لا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان"

(1)

.

وأما القائلون بعدم الوجوب فاستدلُّوا بما يلي:

أولًا: من الكتاب:

قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [لأعراف: 26] قالوا: إن هذه الآية وردت مورد الإنعام والتفضل من الله على عباده بأن أنزل عليهم لباسًا يغظَي عوراتهم، ونبَّههم على المنة العظيمة بذلك.

وأجيب عنه: بأن من إنعام الله على عباده أيضًا أن وجههم إلى ستر عوراتهم وأنزل عليهم لباسًا لذلك.

وفي قوله تعالى: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ} تأويلان: فيحتمل أن يراد به: خلقنا لكم لباسًا، ويحتمل التدرج، أي: أن الله أنزل المطر فنبت الزرع والكلأ فتغذت منه الأنعام فنبت منه الصوف والوبر وغير ذلك فنتج عنه جميع اللباس.

وقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، قالوا: إن المراد بالزينة في الآية هي الزينة الظاهرة من الرداء والنعال والطيب، ولذلك حملوا الأمر في قوله:{خُذُوا زِينَتَكُمْ} على الندب لا على الوجوب.

ثانيًا: من السُّنة:

عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر عن فخذه كأني أنظر إلى بياض فخذه"

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (1622)، ومسلم (1347).

(2)

أخرجه البخاري (371) واللفظ له، ومسلم (1365).

ص: 1271

وأجيب عنه: بأنه قد ورد في رواية مسلم لفظ: (وانحسر)

(1)

بد رضي الله عنه: (حسر)، والفرق ظاهر بين اللفظتين، أي: أن ذلك كان عن غير قصد منه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الجمهور: إن حديث أنس قضية عين لا يمكن أن يقاس عليها

(2)

.

ومما استدلَّ به القائلون بعدم الوجوب كذلك ما جاء في "الصحيحين" من حديث سهل رضي الله عنه -وقد أورده المؤلف رحمه الله أنه قال: "كان رجال يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويُقال للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا"

(3)

. قالوا: فقوله: (لا ترفعن رؤوسكن إلخ)، أي: لا تعجلن برفع رؤوسكن لأجل أن لا تقع أبصاركن على عورات الرجال التي قد تبدو بسبب أنهم كانوا يصلون في أثواب يلتفون بها ويربطونها في أعناقهم، فالحديث إذن دليل على أنه لا يجب ستر العورة، والحديث أيضًا دليل للذين يقولون بالتجاوز عن خروج بعض العورة.

وأصرح منه في الدلالة على عدم وجوب الستر حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه وفيه أنه قال: كنا بماء مَمَرِّ الناس، وكان يمرُّ بنا الركبان فنسألهم: ما للناس ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه، أو: أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يقرُّ في صدري، وكانت العرب تلوَّم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلمَّا كانت وقعة أهل الفتح، بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال:

(1)

أخرجه مسلم (1365).

(2)

يُنظر: "عمدة القاري" لبدر الدين العيني (4/ 81) حيث قال: "وأما الجواب عن حديث أنس فهو أنه محمول على غير اختيار الرسول فيه بسبب ازدحام الناس، يدلُّ عليه ركبة أنس فخذه. وقال القرطبي: ويرجح حديث جرهد، وهو أن تلك الأحاديث المعارضة له قضايا معينة في أوقات وأحوال مخصوصة، يتطرق إليها الاحتمال ما لا يتطرق لحديث جرهد".

(3)

سبق تخريجه.

ص: 1272

جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، فقال:"صلوا صلاة كذا في حين كلذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا". فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا منِّي، لِما كنت أتلقَّى من الركبان، فَقَدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بُردة كنت إذا سجدت تقلَّصت عني، فقالت امرأة من الحيِّ: ألَّا تغطوا عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا في قميصًا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص

(1)

.

قوله: (قَالُوا: وَلِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا بِهِ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّهُ يُصَلِّي، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ عَدِمَ الطَّهَارَةَ، هَلْ يُصَلِّي أَمْ لَا؟).

أما مسألة عادم الطهارة فقد تقدم الكلام عنها في أبواب الطهارة، وأن الصحيح في ذلك وجوب الصلاة عليه؛ لأنه فاقد للطهورين وليس في استطاعته تحصيل أحدهما، والله سبحانه وتعالى يقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ويقول سبحانه:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

ثم اختلف العلماءُ بعد ذلك في إعادته إن هو وجد الطهور بعد أن صلى على أقوال، وأما بالنسبة لمن لم يجد ما يستر به عورته مطلقًا فإنه يصلي على حاله، على خلاف بين العلماء في هيئة صلاته، فبعض العلماء - ومنهم الحنابلة -يرى أنه يصلي قاعدًا حتى لا تبدو عورته

(2)

، وأكثر الفقهاء على أنه يصلي قائمًا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:"صلّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"

(3)

، ولأن القيام ركن في الصلاة فلا يسقط بالعجز عن ستر العورة،

(1)

أخرجه البخاري (4302).

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 424) حيث قال: "ومن لم يقدر على ستر العورة صلى جالسًا يومئ إيماء وجملة ذلك، أن العادم للسترة الأولى له أن يصلي قاعدًا".

(3)

أخرجه البخاري (1117) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

ص: 1273

ولكن يسقط عنه وجوب ستر العورة لتعذر ذلك عليه، فإن وجد ما يستر به بعض العورة فإنه يبدأ بالأهمِّ فالأهم وهكذا.

ولو كانوا جماعة فيهم رجل معه ثوب ساتر، فالعلماء مختلفون أيصلي كلُّ واحد منهم في هذا الثوب بمعنى يصلون فرادى واحدًا بعد واحد؟

وإذا لم يكن مع أحد منهم ثوب، فهل يصلون فرادى، أو يصلون جماعة يتوسطهم إمام حتى لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض؟

هذه كلها مسائل اختلف فيها العلماء، وأشار إليها المؤلف إشارة بسيطة دون أن يذكر شيئًا منها.

قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ حَدُّ العَوْرَةِ مِنَ الرَّجُلِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ حَدَّ العَوْرَةِ مِنْهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ قَوْئم: العَوْرَةُ هُمَا السَّوْءتَان فَقَطْ مِنَ الرَّجُلِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَثَرَانِ مُتَعَارِضَان كِلَاهُمَا ثَابِتٌ، أَحَدُهُمَا: حَدِيتُ جُرْهُدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الفَخِذُ عَوْرَةٌ". وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم حَسَرَ عَنْ فَخِذِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ". قَالَ البُخَارِيُّ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيتُ جُرْهُدٍ أَحْوَطُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: العَوْرَةُ الدُّبُرُ، وَالفَرْجُ وَالفَخِذُ).

اختلف العلماء في حدِّ العورة من الرجل والمرأة، فأما بالنسبة للرجل قد اختلفوا فيها على أقوال:

الأول: أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وليست السرة والركبة من العورة، وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة

(1)

. ومن أدلتهم على ذلك:

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"إرشاد السالك" لابن عسكر (ص 14) حيث قال: "ستر العورة شرط، وهي من الرجل ما بين السرة إلى الركبة"، ومذهب الشافعية، يُنظر: =

ص: 1274

قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26].

وعن جرهد بن رِزاح رضي الله عنه أنه قال: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا كاشف فخذي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غطِّها فإنها من العورة"

(1)

.

وعن المِسْوَرِ بن مَخْرَمَة رضي الله عنه قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيلٍ، وعليَّ إزار خفيف، قال: فانحلَّ إزاري ومعي الحجرُ، ولم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارجع إلى ثوبك فخذه، ولا تمشوا عراة"

(2)

.

الثاني: أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة، فتكون الركبة داخلة في العورة، وهو مذهب الحنفية

(3)

، ومن أدلتهم على ذلك: ما جاء في "سنن الدارقطني" عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الركبة عورة"

(4)

، وأجيب: بأن الحديث ضعيف، كما استدلّوا بأحاديث أُخرى لا تخلو من مقال.

الثالث: أن السُرَّة من العورة، وهى رواية للمالكية ووجه عند الشافعية

(5)

.

= "المنهاج القويم" لابن حجر الهيتمي (ص 115) حيث قال: "وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة"، ومذهب الحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (150/ 1) حيث قال: " (وعورة ذكر وخنثى) حرين كانا أو رقيفين أو مبعضين (بلغا)، أي: استكملا (عشرًا) من السنين ما بين سرة وركبة".

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم (341).

(3)

يُنظر: "درر الحكام" لملا خسرو (1/ 313) حيث قال: " (ينظر الرجل إلى الرجل إلا العورة)، وهي من تحت سرته إلى تحت ركبته فالركبة عورة لا السرة".

(4)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(1/ 431)، وضعفه حيث قال:"أبو الجنوب ضعيف".

(5)

مذهب المالكية، يُنظر:"جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 89) حيث قال: "ستر العورة، وفي الرجل: ثلاثة أقوال -السوءتان خاصة، ومن السرة إلى الركبة، والسرة حتى الركبة، وقيل: ستر جميع البدن واجب". ومذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج في شرح المنهاج" للدميري (190/ 2) حيث قال: "وقيل: منه" وقيل: الركبة دون السرة. وقيل: عكسه".

ص: 1275

ورُدَّ عليه بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما: "اكشف عن سرتك"، فكشف عنها فقبلها، وقال:"إنما قبلتها لأني رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقبِّلُها"

(1)

، قالوا: فلو كانت السرة من العورة لما قبَّلها أبو هريرة رضي الله عنه، ولما مكَّنه الحسن رضي الله عنه من أن يقبلها، فد رضي الله عنه ذلك على أنها خارجة عن مسمى العورة.

الرابع: أن العورة السوءتان فقط، وهو مذهب الظاهرية

(2)

، ورواية عند المالكية

(3)

.

قَالَ: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ حَدُّ العَوْرَةِ مِنَ الرَّجُلِ).

حَدُّ العَوْرة من الرجل: ما بين السُّرة والرُّكبة، وَلَكن العلماء يختلفون في الرُّكبة؟ فبَعْضهم يجعل الركبة من العورة، وهو قول أبي حَنيفَة

(4)

، ويَسْتدل بدليل:"الرُّكبة عورةٌ"

(5)

.

وَبينَّا أنَّ هذا الحَديثَ الذي استدلَّ به ضعيف، وَردَّ الجمهور عليه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"غطِّ فخذَكَ؛ فإنَّ الفخْذَ عورةٌ"

(6)

، ولَمْ يذكر الرُّكبة، فَعَدم ذكره لها دليلٌ على أنها ليست من العورة.

(1)

أخرجه ابن حبان (5593) وفيه: "فقال: للحسن بن علي: أرني المكان الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله منك، فال: فكشف عن سرته، فقبلها"، وضعفه الألباني في "التعليقات الحسان"(5566).

(2)

يُنظر: "المحلى بالآثار"(2/ 241) حيث قال: "والعورة المفترض سترها على الناظر وفي الصلاة: من الرجل: الذَّكَر وحلقة الدبر فقط".

(3)

يُنظر: "جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 89) حيث قال: "ستر العورة، وفي الرجل: ثلاثة أقوال: السوءتان خاصة، ومن السرة إلى الركبة، والسرة حتى الركبة وقيل: ستر جميع البدن واجب".

(4)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 26)، حيث قال:"والعورة من الرجل: ما تحت السُّرَّة إلى الركبة، والركبة من العورة".

(5)

أخرجه الدارقطني (1/ 431) بلفظ: "الركبة من العورة"، وقال الأَلْبَانيُّ في "الثمر المستطاب" (1/ 278): متفق على ضعفه.

(6)

أخرجه أبو داود (4014)، وذكر الأَلْبَانيُّ طرق الحديث في "الإرواء" (269) ثم قال:"مجموع هذه الأسانيد تُعْطي للحديث قوةً، فيرقى بها إلى درجة الصحيح".

ص: 1276

وأما فيما يتعلَّق بالسرة، ففيه قصة أبي هريرة مع الحسن عندما قبَّل سرته، وقال: رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَل ذلك

(1)

، وَوَردتْ في ذلك عدة أحاديث، ولكنها لا تَخْلو من مقالٍ، ومنها حديث أبي سَعِيدٍ الخدريِّ:"عَوْرة الرَّجل ما بين السُّرة والرُّكبة"

(2)

، ولمَّا كانت هذه أحاديث مُتكلمًا فيها، لم نعرض لها.

قَالَ: (فَذَهَبَ مَالِكٌ

(3)

وَالشَّافِعِيُّ

(4)

إِلَى أَنَّ حَدَّ العَوْرَةِ مِنْهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(5)

).

فَذَهبَ مالكٌ والشافعيُّ، وَكَذلك أحمد

(6)

، وأبو حنيفة وَافَقهم إلا في جزئية أنه اعتبر الرُّكْبَتين من العورة، وأخرج السُّرَّة، وبذلك خَالَفهم، وَهَذَا ليس قولًا واحدًا، فمثلًا في مذهب الشافعية نجد خمسة أقْوَالٍ في المسألة

(7)

، ونحن لا نتتبع الجزئيات، وَلَكن هذه هي الأقوال الثابتة المستقرة عنه.

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده"(7462)، عن عُمَير بن إسحاق، قال: كُنْتُ مع الحسن بن عليٍّ، فلقينا أبو هريرة، فقال: أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل. قال: فقال بقميصه، قال: فقبل سرته .. وضعفه الأرناؤوط.

(2)

أخرجه الحارث ابن أبي أسامة في "بغية الحارث"(1/ 264)، وضَعَّفه ابن حجر في "التلخيص الحبير"(1/ 667)، وقال:"وهو سلسلة ضعفاء إلى عطاء".

(3)

يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 288)، حيث قال:"قوله: "ما بين سرة وركبة": فَعَلَى هذا يكون فَخِذ الرجل عورةً مع مثله ومحرمه، وهو المشهور، فيَحْرم كشفه. وقيل: لا يحرم، بل يُكْره مطلقًا. وقيل عند مَنْ يستحي منه، وَقَد استدلَّ صاحب هذا القول "بكشفه صلى الله عليه وسلم فخذه بحضرة أبي بكرٍ وعمر، فلما دخل عثمان ستره، وقال:"ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة".

(4)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 7)، حيث قال:"أمَّا نفس السُّرَّة والركبة، فليستا منها، لَكن يجب ستر بعضهما؛ ليحصل سترها".

(5)

سبق ذكر مذهب الحنفية، وأن الرُّكبة من العورة.

(6)

يُنظر: "الإقناع " للحجاوي (1/ 87)، حيث قال:"وعورة الرجل ولو عبدًا، وابن عشر والأمة ما بين السُّرة والركبة".

(7)

يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 397)، حيث قال:"وخرج بذلك السرة والركبة، فليسا من العورة على الأصح. وقيل: الركبة منها دون السرة. وقيل عكسه. وقيل: السوءتان فقط".

ص: 1277

(وَقَالَ قَوْمٌ: العَوْرَةُ هُمَا السَّوْءتَانِ فَقَطْ مِنَ الرَّجُلِ).

وهذه أيضًا روايةٌ للإمام أحمد

(1)

، نُقِلَ ذلك عن ابن جريرٍ

(2)

.

وَعَنْ بعصْ أهل الظاهر

(3)

، ويستدلُّون بقول الله سبحانه وتعالى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر} [الأعراف: 26].

وفي آيةٍ أُخْرَى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأَعْرَاف: 27].

فَقَالوا: هي الَّتي وَرَد عليها النَّصُّ، ويُؤيِّدون ذلك بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حَسَر عن فخذِهِ وهو جَالسٌ مع أصحابِهِ

(4)

فَقَالوا: دل ذلك على أنه ليس

(1)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 449)، حيث قال:"وعنه: أنَّها الفرجان .. اختاره المجد في "شرحه"، وصاحب "مجمع البحرين"، و "الفائق". قال في "الفروع": وهي أظهر، وقدمه ابن رزين في "شرحه"، وقال: هي أظهر، وإليها مَيْل صاحب النظم أيضًا فيه".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابْن عبد البَر (2/ 197)، حيث قال:"وقال ابن أبي ذئب: العَوْرة من الرجل الدبر والقبل دون غيرهما، وهو قول داود وأهل الظاهر، وقول ابن علية والطبري".

وَتَعقَّب ابن حجر النَّووي في نسبة هذا القول لابن جرير، فقال في "فتح الباري" (1/ 481):"في ثُبُوت ذلك عن ابن جرير نظرٌ؛ فقَدْ ذكر المسألة في "تَهْذيبه"، ورد على مَنْ زعم أن الفخذ ليست بعورةٍ".

(3)

يُنظر: "المُحلَّى" لابن حزم (2/ 241)، حيث قال:"مسألة: والعورة المفترض سترها على الناظر وفي الصلاة -من الرجل: الذكر وحلقة الدبر فقط، وليس الفخذ منه عورة".

(4)

أخرجه مسلم (2401) أنَّ عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي، كاشفًا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكرٍ فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوَّى ثيابه- قال محمد: ولا أقول ذلك في يومٍ واحدٍ - فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكرٍ فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال:"ألا أَسْتَحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة".

ص: 1278

بعورةٍ، إذًا العورة هما السوءتان، هذا -ولا شك- قول ضعيف.

قَالَ: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَثَرَانِ مُتَعَارِضَانِ كلَاهُمَا ثَابِتُ، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ جُرْهُدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الفَخِذُ عَوْرَةٌ"

(1)

.

يَجْعل المؤلِّف سببَ الخلاف في هذه المسألة وُجُود أثرين:

الأوَّل: ليس في "الصَّحيحين"، وإنما ذكره البخاري تعليقًا، ومعنى "ذَكَره تعليقًا"، أَيْ: أشَار إليه في تراجمه بمعنى أنه سَاقَه دون سندٍ، أمَّا الأحاديث غير المعلقة التي يرويها فهي المسندة.

وأيضًا ذَكَره غير البخاريِّ، وهُوَ حَديثٌ صحيحٌ، وهو حديث جُرْهدٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الفَخِذُ عَوْرةٌ".

الثانى: حديث متفق عليه، وهو حديث أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"غَطِّ فَخِذَك، فَإنَّ الفَخِذَ عَورةٌ"

(2)

.

قالوا: هَذَا أمرٌ، والأمرُ يَقْتضى الوجوب، فدل ذلك على وجوب تغطية الفخذ، وكونه أمرًا، فهو دليل على الوجوب، إذًا الأمر فيه إيجابُ تغطية الفخذين، فدلَّ ذلك على أن عورةَ الرجل ما بين السُّرَّة والرُّكبة، وأيَّدوا ذلك بما وَرَد من آثارٍ وأَحَاديثَ فيها كلامٌ للعُلَماء.

قَالَ: (وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَسَرَ عَنْ فَخِذهِ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ"

(3)

).

هَذَا في يوم خَيْبر، وأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم حَسَر عن فَخذهِ، وهذا الذي

(1)

سبق تخريجه.

(2)

الحديث الثاني الذي سيذكره ابن رشد هو حديث أنس، وأما حديث: "غَطِّ فَخِذَكَ

"، فَهَذا هو حديث جرهد الذي معنا، وليس متفقًا عليه، فلعله خطأٌ من الناسخ.

(3)

أدخل المصنف حديث أنسٍ في حديث عائشة، وسينبه الشارح إلى ذلك.

ص: 1279

يُشير إليه المؤلف حديث آخر غير حديث أنسٍ

(1)

.

الذي ورد فى حديث عائشة: "أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم كان قَدْ حَسَر عن فخذِهِ، فَدَخل أبو بكرٍ وهو كذلك، ثم عمر"، وَجَاء في حديثٍ آخر أنه غطاه لما دخل عثمان وقال:"ألَا أسْتَحِي من رَجُلِ تَسْتحي منهُ المَلَائكةُ"

(2)

.

قَالوا: فيه دَليل على أن الفخذ ليس بعورة، ولكن جَاءَ في بعض روايات "الصحيحين" ليس الرسول هو الذي حسر عن فخذه، وإنما انحسر إزاره عن فخذِهِ

(3)

، وبذلك استدلَّ العلماء بهذه الرواية على الرواية الأخرى، وهو أن الرداء قد انحسر

(4)

، أي: هو انكشف دون أن يفعل ذلك الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم

(5)

.

(1)

يشير الشارح بذلك إلى ما أَخْرَجه البخاري (371)، ومسلم (1365)، عن أنس بن مالكٍ أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، فَصلَّينا عندها صلاة الغداة بغلسٍ، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأَجْرَى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وَإِنَّ رُكْبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ حَسَر الإزار عن فخذه حتى إنِّي أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم

الحديث .. وهذا لفظ البخاري.

(2)

أخرجه مسلم (2451) عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي، كاشفًا عن فخذَيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكرٍ فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له، وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوى ثيابه -قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكبر فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال:"ألَا أَسْتَحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة".

(3)

هذا لفظ مسلم (1365)، وفيه:" (وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنِّي لأرى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ".

(4)

"الحَسْر": كشط الشيء عن الشيء، وانحسر على صيغة "انفعل"، وهو لازم مطاوع للفعل "حسر"، نحو: كسرته فانكسر. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 187)، و"شرح شافية ابن الحاجب" للرضي الإستراباذي (1/ 108).

(5)

يُنظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 219)، حيث قال: "ومذهبنا أنه عورة، ويحمل أصحابنا هذا الحديث على أن انحسار الإزار وغيره كان بغير اختياره صلى الله عليه وسلم، فانحسر=

ص: 1280

قَالَ: (قَالَ البُخَارِيُّ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جُرْهُدٍ أَحْوَطُ).

" حَديث أَنَسٍ أَسْند": أَيْ: أقوَى من حيث السَّند، لأنه ثَابتٌ في "الصَّحيحَين"، وفِي غَيْرهما، "وَحَديث جرهد أحوط"؛ لا شك أن ما ذكره البخاري هو القول الحق؛ لأن حديث جرهد فيه احتياطٌ، أن الفخذ عورة، والآخَر يُفْهم منه أن الفخذَ ليس بعَوْرةٍ، ولا شكَّ أن المسلم في هذا المقام يأخذ بالأحوط، وهو حديث جُرهد.

وسيأتي بعد ذلك تفسيرات العلماء لاشتمال الصماء

(1)

.

= للزحمة وإجراء المركوب، وَوَقع نظر أَنَسٍ إليه فجأةً لا تعمدًا، وكذلك مَسَّت ركبته الفخذ من غير اختيارهما، بل للزحمة، ولم يقل: إنه تعمد ذلك، ولا أنه حسر الإزار، بل قال: انحسر بنفسه".

(1)

اختلفت عبارات الفقهاء في تفسير اشتمال الصماء المنهي عنه في الحديث.

ومعناه عند الحنفية: هو تخليل الجسد بالثوب من رأسه إلى قدمه مع عدم رفع جانب يخرج منه يده.

يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (1/ 652)، حيث قال: " (قوله: يُكْره اشتمال الصماء)؛ لنهيه عليه الصلاة والسلام عنها، وهي أن يأخذ بثوبه فيخلل به جسده كله من رأسه إلى قدمه، ولا يرفع جانبًا يخرج يده منه

وقيل: أن يشتمل بثوبٍ واحدٍ ليس عليه إزار

وظاهر التعليل بالنهي أن الكراهة تحريمية".

وعند المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 219)، حيث قال: " (و) كره (صماء)، أي: اشتمالها

وهي عند الفقهاء أن يشتمل بثوبٍ يلقيه على منكبيه مخرجًا يده اليسرى من تحته أو إحدى يديه من تحته

ومحل الكراهة إن كانت (بستر)، أي: معها ستر كإزارٍ تحتها، و (إلا) تكن بساترٍ تحتها (مُنعَت) لحصول كشف العورة، وهو ظاهر على تفسير الفقهاء".

وعند الشافعيَّة، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 400)، حيث قال:"وأن يشتملَ اشتمال الصماء بأن يجلل بدنه بالثوب، ثمَّ يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر".

وَعند الحنابلة، انظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 275)، حيث قال: " (ويُكْره) في الصلاة (اشتمال الصماء)

(وهو)

أن (يضطبع بالثوب ليس عليه غيره)، والاضطباع: أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر".

ص: 1281

وكذلك أيضًا اختلاف العلماء في صلاة الرجل كاشفًا عن عَاتقَيه، أيْ: يُصلي ليس على عاتقه شيءٌ، هل يجوز ذلك؟ أَمْ لا

(1)

.

وَقَد اعتبَر المُؤلِّف ذلك شاذًّا، وَهَذَا الَّذي اعْتَبره شاذًّا في نَظَرنا هو الصَّحيح، وَهَذَا سيأتي قريبًا إن شاء الله.

قَالَ: (وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: العَوْرَةُ: الدُّبُرُ، وَالفَرْجُ، وَالفَخِذُ)

(2)

.

(1)

اشترط الحنابلة ستر المنكبين في صلاة الفرض، خلافًا للجمهور.

وَانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 415)، حيث قال: "يجب أن يضعَ المصلي على عاتقه شيئًا من اللباس إن كان قادرًا على ذلك

وُيشْترط ذلك لصحة الصلاة في ظاهر المذهب؛ لأنه منهيّ عن تركه في الصلاة، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه

وذكر القاضي أنه نقل عن أحمد ما يدل على أنه ليس بشرطٍ".

وأما في النافلة فيُجْزئ عندهم الاقتصار على ستر العورة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 88)، حيث قال:"فإن اقتصر على ستر عورته، وأعرى العاتقين في نفل، أجزأه، ويُشْرَط في فرض مع سترها ستر جميع إحداهما بشيء من لباسٍ ولو وصف البشرة، فلا يجزئ حبلٌ ونحوه ".

ولم يشترط ذلك الحنفية".

وانظر: "رد المحتار" لابن عابدين (1/ 404)، حيث قال: " (قوله: وشرط أحمد

إلخ)، هو شرطٌ عنده في صلاة الفرض

"، وعندنا ستر المنكبين مستحب".

وَكَره المالكية الصلاة بثوب ليس على أكتافه منه شيءٌ، يُنْظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 218)، حيث قال:"وكره صلاة بثَوْبٍ ليس على أكتافه منه شيءٌ".

وَكَذلك الشافعيَّة حملوا النهي على الكراهة التنزيهيَّة.

يُنْظَر: "أَسْنَى المطالب" لزَكَريا الأنصاري (1/ 179)، حيث قَالَ: "كانْ ضَاق (اتَّزر به، وجعل شيئًا منه) على (عاتقه)

قال في "المهذب" و"شرحه ": فإن لم يجد ثوبًا يجعله على عاتقه، جعل حبلًا حتى لا يخلو من شيءٍ، ويُكْره ترك ذلك ".

(2)

يُنْظَر: "المبسوط" للسرخسي (10/ 146)، حيث قال:"فأما ما دون السُّرَّة عورة في ظاهر الرواية للحديث الذي روينا، وكان أبو بكر محمد بن الفضل -رحمه الله تعالى- يقول إلى موضع نبات الشعر ليس من العورة أيضًا لتعامل العمال في الإبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار، وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج؛ وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ التعامل بخلاف النص لا يعتبر، وإنما يُعْتَبر فيما لا نص فيه".

ص: 1282

هَذِهِ كلُّها أقوالٌ في المذاهب، لكن ما ذكرَ هىَ الأقوَال الثَّابتة المَشْهورة.

(المَسْأَلَةُ الثَّالِتَةُ: وَهِيَ حَدُّ العَوْرَةِ مِنَ المَرْأَةِ).

لَا شكَّ أنَّ المرأةَ الاحتياطُ في عورتها أكثر من غيرها، وخاصة الحرة، أما الأَمَة فسيأتي الكلام فيها، هل هي كالرجل؟ أم هي كالحرة؟ أو هي وسط بينهما؟ فيه كلام للعلماء في ذلك، وإن كان أقواها وأَصْرَحها أن الأَمَة كالرجل، لأنَّ الأَمَة تَخْتلف عن الحُرَّة، وَسنُورِدُ عدَّة آثارٍ وَرَدتْ فيما يتعلَّق بالأَمَة.

قَالَ: (فَأَكثَرُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ بَدَنَهَا كلَّهُ عَوْرَى مَا خَلَا الوَجْهَ وَالكَفَّيْنِ).

لَا خلَاف بين العلماء على أنَّ بدن المرأة كله عورة عدا أجزاء ثلاثة:

• الوجه.

• الكفان.

• القدمان.

وَأمَّا الخلافُ في القَدَمين فهو ضَعيفٌ، ويردُّه حديث أم سلمة مرفوعًا أو موقوفًا، والموقوف هو الصحيح، وسيُوردُهُ المؤلف.

وهناك من العلماء مَنْ يقول بأن المرأة كلها عورة حتى الظفر، ونُقِلَ ذلك عن التابعي أبي بكر بن عبد الرحمن

(1)

كما ذكر المؤلف، وهي رواية للإمام أحمد

(2)

، وهي قولٌ لبَعْض السلف

(3)

.

(1)

سيأتي.

(2)

ستأتي.

(3)

قَالَ ابْن عَبْد البَر في "الاستذكار"(2/ 201): "وأقول: لا نَعْلمه قاله غيره إلا أحمد بن حنبل، فإنَّه جاءت عنه روايةٌ بمِثْلِ ذلك".

ص: 1283

وَهُنَاك روايةٌ تَقُول: إنَّ المرأةَ كلها عورة إلا الوجه بمَعْنى أن الكفين عورةٌ، وهي رواية أيضًا ثالثة للإمام أحمد، وهي قول داود الظاهري

(1)

.

وَالقولُ المشهورُ عند عامة العلماء: أن المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفاها، وهذا هو قول -كما ذكر المؤلف- مالك

(2)

، والشافعي

(3)

، ورواية للإمام أحمد

(4)

، وأبي حنيفة إلا أنه أضاف القدمين في روايةٍ أيضًا، وضعَّفها بعض الحنفية

(5)

.

قَالَ: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ قَدَمَهَا لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ

(6)

، وَذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ

(7)

، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ المَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ

(8)

).

فالإمَامُ أحمدُ هنَا في المسألة له ثَلَاثُ رواياتٍ:

(1)

يُنْظَر: "المُحئَى" لابن حزم (2/ 241)، حيث قال:"وهي من المرأة: جميع جسمها، حاشا الوجه والكفين فقط ".

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 214)، حيث قال:" (و) هي من حرة (مع) رجل (أجنبي) مسلم (غير الوجه والكفين (من جميع جسدها حتى قصتها، وإن لم يحصل التلذذ، وأما مع أجنبي كافر فجميع جسدها حتى الوجه والكفين، هذا بالنسبة للرؤية، وكذا الصلاة".

(3)

يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 30)، حيث قال:"والحُرَّة ما سوى الوجه والكفين".

(4)

وهي ظاهر المذهب كما سيأتي.

(5)

يُنظر: "النهر الفائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم الحنفي (1/ 183)، حيث قال:"وأما القدمان ففيهما اختلاف، وقَدْ رجح غير واحدٍ ما هنا، لكن رجح الأقطع وقاضي خان أنهما عورة، واختاره الإسبيجابي والمرغيناني، وانتصر له العلامة الحلبي، ورجح في الاختيار أنه عورة خارج الصلاة فقط ".

(6)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 26)، حيث قال:"وبدن المرأة الحرة كله عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها".

(7)

يُنْظَر: "الاستذكار" لابن عبد البَرِّ (2/ 251)، حيث قال:"وقد رُوِيَ عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال: كلُّ شيءٍ من المرأة عورة حتى ظفرها. وأقول: لا نَعْلمه قاله غيره إلا أحمد بن حنبل، فإنَّه جاءت عنه رِوَايةٌ بمِثْلِ ذلك".

(8)

يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 88)، حيث قال:"والحُرَّة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهه" قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها"، وسيأتي ذكر الروايات الثلاث عند الحنابلة.

ص: 1284

• الرواية المشهورة مع الجمهور: إلا الوجه والكفين.

• الثانية فقط: يستثني الوجه.

• الثالثة: كلها عورة

(1)

.

قَالَ: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ احْتِمَالُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]).

وَرَد في ذلك حديث لكنه ضعيف: "المَرْأةُ عَورةٌ"

(2)

.

وَمن أَصْرَح الأدلة في ذلك أن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَقْبَلُ اللهُ صلاةَ حَائِضٍ إلا بخِمَارٍ"

(3)

.

وَالمُرَادُ بالحائض هنا الَّتي بَلَغتْ سنَّ الحيض، وَهَذَا أيضًا إطلاق في الغالب، فالمُرَاد بذلك المرأة التي وَصَلتْ سنَّ الحيض، أَيْ: بلَغت، وَأَصْبَحت تَحيض، وَهنا خَرَج ذلك مَخْرج الغالب، فلو أن مميزةً صَلَّتْ، فإنها تُغطي رأسها كما تُغطِّي البالغ، والقَصْد بالخمار هنا ما تُخَمِّرُ بها رأسها وعُنُقها

(4)

أي: ما تَضَعه، وَسَنأتِي -إِنْ شَاء الله- إلَى ما تَلْبسه

(1)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 452)، حيث قال: "قوله: (والحرة كلها عورة، حتى ظفرها وشعرها إلا الوجه)، الصحيح من المذهب أنَّ الوجه ليس بعَوْرةٍ، وَعَلَيه الأصحاب، وَحَكاه القاضي إجماعًا، وعنه الوجه عورة أيضًا

قال الشيخ تقي الدين: والتحقيق أنه ليس بعورةٍ في الصلاة، وهو عورةٌ في باب النظر إذا لم يجز النظر إليه".

(2)

أخرجه الترمذي (1173)، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(273).

(3)

أخرجه أبو داود (641)، وغيره، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(648).

(4)

يُنظر: "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (2/ 314)، حيث قال:"قوله: لا تُقْبل صلاة الحائض .. المراد من الحائض مَنْ بلغ سن المحيض لا مَنْ هي ملابسة المحيض، فإنها ممنوعة من الصلاة إلا بخمار -بكسر الخاء: هو ما يغطى به رأس المرأة. قال في "القاموس": الخِمَارُ -بالكسر- النصيف كالخمر كطمر، وكل ما ستر شيئًا فهو خماره، جمعه: أخمرة وخمر وخمر. وَقَالَ: نصيف كاسيرٍ، الخمَار والعمامة، وكل ما غطَّى الرأس. انتهى".

ص: 1285

المرأة، ما هو جائزٌ، وَمَا هو واجبٌ، أَيْ: ما هو فاضل، وما هو مَكْروه أو محرم.

قَالَ: (هَلْ هَذَا المُسْتَثْنَى المَقْصُودُ مِنْهُ أَعْضَاءٌ مَحْدُودَةٌ، أَمْ إِنَّمَا المَقْصُودُ بِهِ مَا لَا يُمْلَكُ ظُهُورُهُ؟).

الذين استثنوا الوجه والكفين استدلوا بدليلين:

• الدليل الأول: هو قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الحديث الصحيح المتفق عليه: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"وَلَا تَنْتَقِب المرأةُ المُحْرِمةُ، ولا تَلْبَسِ القُفَّازينِ"

(1)

قالوا: هذا دليلٌ على أن الوجَهَ والكفَّين ليسا بعَوْرةٍ، لأنهما لو كانا عورة لما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن تنتقب أي: أن تضع النقاب في وجهها، وأن تلبس القفازين.

• الدَّليل الثَّانِي: وَهُوَ تَفْسير عبد الله بن عباس لقَوْل الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].

قَالَ: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، المراد: الوَجْه والكَفَّان

(2)

، ويُخَالفه في هذا التفسير الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود

(3)

. وهذه من المسائل التي يدور عليها الخلاف (مسألة الحجاب)، أي: وُجُوب تغطية المرأة وجهها، وعدم تغطيته في غير الصلاة، والقصد عن الأجانب، وفي هذا وَرَد حديث عائشة أَنَّ النساءَ كنَّا وَهُنَّ في طريقهنَّ إلَى الحجِّ إذا مرَّ بهنَّ من ركب،

(1)

أخرجه البخاري (1838)، وليس مما اتفق عليه البخاري ومسلم.

(2)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 251، 252)، حيث قال:"وقد روينا عن ابن عباس {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الكف، والخاتم، والوجه. وعن ابن عمر: الوجه، والكفان، وعن أنبى: الكف، والخاتم، وكلُّ هذا عنهم في غاية الصحة، وكذلك أيضًا عن عائشة وغيرها من التابعي".

(3)

أخرجه الطبري في "تفسيره"(19/ 155)، عن ابْن مَسْعودٍ، قال:"الزينة زينتان، فالظاهرة منها الثياب، وما خفي الخَلْخَالان والقرطان والسواران".

ص: 1286

أرخين الخمار على وجوههن

(1)

، وكذلك في حديث أسماء بنت عُمَيس

(2)

.

قَالَ: (فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ المَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُمْلَكُ ظُهُورُهُ عِنْدَ الحَرَكَةِ قَالَ: بَدَنُهَا كُلُّهُ عَوْرَةٌ حَتَّى وَجْهُهَا، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [لأحزاب: 59]).

" ما لا يملك ظهوره"، أَيْ: ما يَسْتَطيع الإنسانُ إخفاءَه كصوت الخلخال مثلًا، وبروز شَيْءٍ من الثياب وَهي تتحرك، قد يظهر شيء من حركات بدنها، هذه أمور لا تملك هي إخفاءها، هذا معنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} .

التفسير الآخر هو تفسير ابن عباس: هما الوجه والكفان.

والَّذين قَالوا: إن المرأة كلها عورة، ليس، جزء منها إلا وهو عورة حتى أظفارها، ويَسْتدلون بقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأجزاب:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59].

قَالُوا: هذا فيه دلالةٌ واضحةٌ على أن المرأة كلها عورة

(3)

.

وبحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ"، رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيَّ

(4)

، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود (1833)، وَضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1024).

(2)

لعل الشيخ يقصد حديث فاطمة بنت المنذر، أخرجه مالك (328/ 1) أنها قالت:"كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق "، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الإرواء"(1023)، وليس عن أسماء بنت عُمَيس.

(3)

يُنظر: "تفسير الطبري"(324/ 20)، حيث قال في تفسير هذه الآية:"يقول -تعالى ذكرُهُ- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هُنَّ خرجن من بيوتهنَ لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليُدْنين عليهن من جلابيبهنَّ؛ لئلا يعرض لهن فاسقٌ، إذا علم أنهنَّ حرائر بأذًى من قولٍ".

(4)

أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377)، وابن ماجه (655) وأحمد (25167)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(648).

(5)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 380).

ص: 1287

قَالَ: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ المَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَرُ وَهُوَ الوَجْهُ وَالكَفَّان، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ).

* وَخُلَاصَة القَوْل فيما يَتَرجَّح عندي قول مَنْ يقول بأن المرأةَ كلها عورة إلا وَجْهها وكَفَّيها في الصلاة شريطة ألَّا تكون بحضرة أجنبيٍّ، فإن كانت بحضرة أجنبيٍّ، فيَنْبغي أن تُغطِّي وَجْهها وكفَّيها؛ لأنها عَورةٌ، أمَّا إِنْ كانت في خلوة، أو عند محرم، فإنها تكشف وَجْهها وكفَّيها.

قَالَ: (وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ المَرْأَةَ لَيْسَتْ تَسْتُرُ وَجْهَهَا فِي الحَجِّ).

يشير إلى أن المرأة لا تنتقب، ولا تلبس القُفَّازين في الحجِّ، وسيأتي فيما يكره للمرأة لبسه في الصلاة.

(الفَصْلُ الثَّانِي مِنَ البَابِ الرَّابِعِ فِيمَا يُجْزِئُ فِي اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ)

اختصر المؤلف كلامه اختصارًا مُخِلًّا؛ فلم يستوف.

ولكي نقربه، فنقسم اللباس إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: الجائز، وهو ثوبٌ للرجل، وثوبان للمرأة.

‌دليل لباس الرجل:

1 -

أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيصلي الرجل في ثوب واحد؟ فردَّ مستفهمًا: "أو لكم ثوبان؟ "

(1)

.

وسبب هذا الاستفهام منه صلى الله عليه وسلم: أنَّ أحوالَ الناس في زمنه كانت صعبةً، ولم يَمْتلكوا ألبسةً كثيرةً، ولكن في زماننا لا نضطر -والحمد لله-

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده"(10503)، وصحَّحه الأرناؤوط.

ص: 1288

إلى لباس واحد؛ إذًا، فالأصل عندهم هو الثوب الواحد للرجُل.

2 -

حديث جابر الصحيح "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بثوب واحد، متوشحًا به"

(1)

، أي: ملتفًّا به

(2)

.

‌ودليل لباس المرأة:

أنها تصلي في درعٍ وخمارٍ، كما ورد في الحديث

(3)

، والدرع بالنسبة للمرأة هو القميص الذي يجب أن يكون ساترًا للقدَمَيْن

(4)

، ويُعْرف عند بعض الناس بالثياب؛ لأنه طويل؛ ولذلك لما ورد في أحاديث نَهْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الإسبال

(5)

، سألته أمُّ سلمة رضي الله عنها عما تصنعه النساء بذيولهن؟ فقال:"يُرْخين شبرًا"، فقالت: تنكشف عورتهن، فتظهر الأقدام، فقال:"يرخينه ذراعًا، ولا يَزِدْنَ"

(6)

.

فَتبيَّن من الحديث أن المرأة تصلي في هذا الدرع الذي يستر القدمين مع الخمار الذي تغطي به رأسها، وسُمِّيَ خمارًا، لأنها تخمر وتغطي به رأسها

(7)

.

(1)

أخرجه مسلم (518/ 281).

(2)

"المتوشح بالثوب": هو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وبيانه هو أن يأخذ طرف الثوب الأيسر من تحت اليد اليسرى، فيلقى على المنكب الأيمن، ويؤخذ الطرف الأيمن من تحت اليد اليمنى فيلقى على المنكب الأيسر. انظر:"مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (2/ 296).

(3)

أخرجه أبو داود (640) وغيره، عن أُمِّ سلمة، أنها سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أتُصلِّي المرأة في درعٍ وخمارٍ ليس عليها إزار؟ قال: "إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها"، وضعَّفه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(274).

(4)

"دِرْعُ المرأة": قَميصُها، انظر:"الصحاح" للجوهري (3/ 1206).

(5)

"أسبل إزارَه"، أي: أرخاه. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1723).

(6)

أخرجه الترمذي (1731)، عن ابن عمر قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جرَّ ثوبَه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمة: فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبرًا"، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال:"فيرخينه ذراعًا، لا يَزِدْن عليه"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "جلباب المرأة"(ص 80).

(7)

"الخمار": هو ما تخمر المرأة به رَأسها أي: تستره وتغطيه. انظر: "تفسير غريب ما في الصحيحين" للحميدي (ص 181).

ص: 1289

القسم الثاني: المستحب، وُيعرَف عند العلماء بـ "لباس الفضيلة".

ووصْفُه للرجُل: أن يكونا ثوبين، قميصًا وإزارًا، أو قميصًا ورداءً، أو قميصًا وسراويل

(1)

.

(1)

أَوَّلاً: مذاهب العلماء في الجائز والمُسْتحب من لِبَاسِ الرجل في الصلاة.

انظر في مذهب الأحناف: "النتف في الفتاوى"، للسغدي (1/ 61)، وفيه قال:"والأفضل للرجل أن يصلي في ثوبين؛ إزار ورداء وقميص وسراويل، وإن صلى في ثوب واحد يجزيه إن كان الثوب صفيقًا يستر العورة". وانظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 95). وانظر:"حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 211).

وانظر في مذهب المالكية: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 168)، وفيه قال:" (وأقل ما يُصلِّي فيه الرجل من اللباس ثوب ساتر) للعورة (من درع) .. (أو رداء) .. أما الرداء فهُوَ ما يلتحف به، ويُشْترط فيه أن يكون كثيفًا لا يصف، ولا يشف (و) أما (الدرع) فهو (القميص)، وهو ما يسلك في العنق".

وَانْظُرْ في مذهب الشافعية: "حاشية الشرواني على تحفة المحتاج"(2/ 117)، وفيه قال:"ويسن للرجل أن يلبس للصلاة أحسن ثيابه، ويتقمص ويتعمم ويتطلس ويرتدي ويتزر أو يتسرول، فإن اقتصر على ثوبين فقميص مع رداء أو إزار أو سراويل أولى من رداء مع إزار وسراويل، وَمن إزارٍ مع سراويل".

وَانظر في مَذْهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 150، 151)، وفِيهِ قال:" (ويُسَن صلاة رجل) حر أو عبد (في ثوبين) كقميص ورداء أو إزار وسراويل، ذَكَره بعضهم إجماعًا، ولا تُكْره في ثوب واحدٍ، والقميص أولى؛ لأنه أبلغ ثم الرداء، ثم المئزر أو السراويل".

ثانيًا: مذاهب العلماء في الجائز والمستحب من ثياب المرأة في الصلاة.

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 219)، وفيه قال:"فأما المرأة، فالمستحبُّ لها ثلاثة أثواب في الروايات كلها: درع وإزار وخمار، فإن صلت في ثوب واحد متوشحة به يجزئها إذا سترت به رأسها وسائر جسدها سوى الوجه والكفين، وَإنْ كان شيء مما سوى الوجه والكفين منها مكشوفًا، فإن كان قليلًا جاز، وإن كان كثيرًا لا يجوز". وانظر: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 211). وانظر في مذهب المالكية: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 169، 175)، وفيه قَالَ:" (وأقل ما يجزئ المرأة) الحرة البالغة (من اللباس في الصلاة) شيئان: أحدهما (الدرع الحصيف) .. (السابغ)، أي: الكامل التام (الذي يَسْتر ظهور قدميها و) الشيء الثاني (خمار) .. ما يستر الرأس والصدغين (تتقنع)، أي: تستر (به) شعرها وعنقها، ومن شرطه أن يكون كثيفًا غير واصفٍ". =

ص: 1290

تنبيه: كلمة "سراويل" مفرد، جَمْعها: سراويلات

(1)

.

أما وَصْفه للمرأة: فثلاثة أثواب: درع، وخمار، ولحاف، وتسميه "ملحفة"، لأنها تَلْتَحف به على جسدها وملابسها

(2)

، ويُسمى أيضًا عام

(3)

؛ لأنه يعم الجسد، ويُغطِّي الثياب التي عليها.

فالدِّرع يغطي القدمين، والخمار يغطي الرأس والعُنُق، واللحاف في الستر.

القسم الثالث: المكروه، وهو ما يُكرَه من اللباس.

فيُكْره للرجُل أن يَلْتَثِمَ

(4)

، كما يُكره له أيضًا عند كثير من العلماء أن ثيابه

(5)

، أو يكون ثوبًا مثقوبًا

(6)

.

= وانظر في مَذْهب الشافعية: "نهاية المحتاج "، للرملي (2/ 13)، وفيه قال:"وشن للمرأة .. ثوب سابغ لجميع بدنها وخمار وملحفة كثيفة". وانظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 171، 172).

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع "، للحجاوي (1/ 88)، وفيه قال: "ويسن للمرأة الحرة أن تصلي في درع وهو القميص، وخمار وهو غطاء رأسها، وملحفة وهي الجلباب، ولا تضم ثيابها في حال قيامها

وإن اقتصرت على ستر ما سوى وجهها كأن صلت في درع وخمار، أجزأها".

(1)

السراويل معروف، يذكر ويؤنث، والجمع السراويلات. انظر:"الصحاح" للجوهري (5/ 1729).

(2)

"الملحفة": إزار تلتحفه المرأة بالليل مثل الملاءة. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"، للأزهري (ص 233).

(3)

لم أقف على هذا الاسم.

(4)

"التثَم"، أي: شد اللثام. انظر: "معجم ديوان الأدب "، للفارابي (2/ 418). والملثم: ما حول الفم. وقالوا: بل الأنف وما حوله. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 432).

(5)

"سَدَل توبَه يسدُله -بالضم- سدلًا"، أي: أرخاه. انظر: "الصحاح"، للجوهري (5/ 1728).

(6)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح "(ص 350، 351)، وفيه قال:"ويُكْرَه سَدْله تكبرًا وتهاونًا، وبالعذر لا يكره، فيكره التلثم وتغطية الأنف والفم في الصلاة؛ لأنه يشبه فعل المجوس حال عبادتهم النيران ".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 218)، وفيه قال:=

ص: 1291

أما المرأة فيُكرَه لها أن تنتقب

(1)

.

= (و) كره (انتقاب امرأة)، أي: تغطية وجهها بالنقاب، وهو ما يصل للعيون في الصلاة؛ لأنه من الغلو، والرجل أَوْلَى ما لم يكن من قوم عادتهم ذلك (ككف)، أي: ضم وتشمير (كم وشعر لصلاة)، فالنقابُ مكروهٌ مطلقًا، وكان الأَوْلَى تأخيره عن قوله:(و) كره (تلثم) ولو لامرأةٍ".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب "، لزكريا الأنصاري (1/ 60، 61)، وفيه قال:"وكره الْتفَات، وتغطية فم، وقيام على رجل لا لحاجة، ونظر نحو سماء، وكف شعر أو ثوب".

وفي كَرَاهة السدل، انظر:"تحفة المحتاج "، للهيتمي (383)، وفيه قال:"والحاصل أن كلَّ ما كان مشتملًا على هيئة السدل مكروه ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 156)، وفيه قال:" (و) كره أيضًا في صلاة (تغطية وجه، وثلثم على فم وأنف) "، وفيه دليل على كراهة تغطية الوجه لاشتماله على تغطية الفم، وقياسه: تغطية الأنف، وفي تغطية الوجه تشبه بالمجوس عند عبادتهم النيران، ولأنه ربما منع تحقيق الحروف.

وفي كراهة السدل، انظر:"الإقناع "، للحجاوي (1/ 90)، وفيه قال:"يكره في الصلاة السدل، سواء كان تحته ثوب أو لا".

والذي وقفت عليه في الصلاة في الثوب المثقوب، ما ذكره البغوي، إذ قال:"وكذلك لو صلى، ثم علم أن على إزاره ثقبة يظهر منها العورة، يجب عليه الإعادة على الصحيح من المذهب ". انظر: " (التهذيب في فقه الإمام الشافعي "(2/ 201).

(1)

"انتقبت وتنقبت ": غظَت وجهَها بالنقاب. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (2/ 620).

انظر في مذهب الأحناف: "شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (2/ 559)، وفيه قال:"قال: (ولا بأس بأن تغطي المرأة فاها في إحرامها إلا في الصلاة، فإنها لا تغطيه فيها)، وهذا ينبغي أن يكون على سبيل سَدْل الخمار، لا على جهة النقاب؛ لأنه لا ينبغي لها أن تنتقب ".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 218)، وفيه قال:" (و) كره (انتقاب امرأة)، أي: تغطية وجهها بالنقاب، وَهُوَ ما يصل للعيون في الصلاة؛ لأنه من الغلو".

وانظر في مذهب الشافعية: "الإقناع "، للشربيني (1/ 124)، وفيه قال:"ويُكْره أن يصلي الرجل متلثمًا، والمرأة منتقبة إلا أن تكون في مكانٍ، وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع "، للحجاوي (1/ 88)، وفيه قال:"ويكره في نقاب وبرقع بلا حاجة".

ص: 1292

القسم الرابع: المحرم، وهذا لم يذكره المؤلف، ولكن نقول:

ينقسم المحرم إلى:

1 -

عام للرجال والنساء: كالثياب النجسة، أو المغصوبة

(1)

.

2 -

خاص بالرجال: كالثياب المصنوعة من الحرير، أو المموهة بالذهب، أو المنسوجة منه أيضًا

(2)

.

أما النجسة، فتحرم الصلاة فيها للرجال والنساء

(3)

؛ لأن الأئمةَ الثلاثة متفقون على شرطية الطهارة في صحة الصلاة، ولم يُخَالف في ذلك إلَّا المالكيَّة، فهم يَرَون أنها سُنَّة، وذلك على تفصيلٍ عندهم

(4)

.

(1)

ستأتي.

(2)

ستأتي.

(3)

ولذلك من صلى بثوب نجس أعاد صلاته.

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (1/ 564)، وفيه قال:"وكذا الرجل لو صلى في ثوب نجس وفي رحله ثوب طاهر قد نسيه، أو صلى مع النجاسة ونسي ما يزيلها، أو محدثًا نسي غسل بعض الأعضاء أو ستر العورة، أو صلى مع النجاسة ناسيًا، تجب الإعادة".

وانظر في مذهب المالكية: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني "(1/ 332، 333)، وفيه قال:" (وكذلك مَنْ صلى) ناسيًا (بثوب نجس أو) صلى (على مكان نجس) أو كانت على بدنه نجاسة، ثم تذكر بعد الفراغ نجاسة ذلك أعاد في الوقت ".

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج "، للهيتمي (2/ 136)، وفيه قال:" (ولو صلى بنجس) لا يُعْفى عنه بثوبه أو بدنه أو مكانه (لم يعلمه) عند تحرمها، ثم بعد فراغها علم وجوده فيها (وجب) عليه (القضاء في الجديد) ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 337)، وفيه قال:" (و) يصلي (في) ثوب (نجس لعدم) غيره مع عجزٍ عن تطهيره في الوقت؛ لأن الستر آكد من إزالة النجاسة لوجوبه في الصلاة وخارجها، وتعلق حق الآدمي به، (ويعيد (مَنْ صلى في ثوب نجسٍ ".

(4)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 207، 208)، وفيه قال:" (و) منها (طهارة الجسد والثوب والمكان) الذي يصلي عليه ".

وانظر في مذهب المالكية: "التاج والإكليل "، للمواق (1/ 188)، وفيه قال: "فصل: (هل إزالة النجاسة عن ثوبِ مصلٍّ ولو طرف عمامته وبدنه ومكانه لا طرف حصيره=

ص: 1293

وهنا تأتي معنا مسألة، وهي: ماذا إنْ لم يجد إلَّا ثوبًا نجسًا وكان عريانًا؟

الجواب: أن هذه مسألة اختلف فيها العلماء، والصحيحُ أنْ يصلي الرجل أو المرأة بالثوب النجس؛ لأن ستر العورة مطلوبٌ ومُتعَينٌ

(1)

،

= سُنَّة أو واجبة. قال الجلاب وابن رشد: هي سنة. ابن يونس: وهو الصحيح من المذهب. اللخمي: مذهب "المدونة" هي واجبة مع الذكر والقدرة. ابن رشد: المشهور قول ابن القاسم، وروايته عن مالك أنَّ مَنْ صلى بثوب نجسٍ عالمًا غير مضطرٍّ متعمدًا أو جاهلًا أعاد أبدًا، وإنْ صلى به ناسيًا أو جاهلًا بنجاسة أو مضطرًّا إلى الصلاة فيه، أعاد في الوقت ".

وَانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج "، لابن حجر الهيتمي (2/ 120)، وفيه قال:" (و) خامسها (طهارة النجس) الذي لا يُعْفى عنه (في الثوب) وغيره من كل محمولٍ له، وملاق لذلك المحمول (والبدن)، ومنه داخل الفم والأنف والعين، وإنما لم يجب غسل ذلك في الجنابة؛ لأن النجاسة أغلظ (والمكان) الذي يصلي فيه؟ للخبر الصحيح: "فاغسلي عنكِ الدم وصلي "، ثبت الأمر باجتناب النجس، وهو لا يجب في غير الصلاة، فَتعين فيها، والأمرُ بالشيء نَهْيٌ عن ضده، والنهي في العبادة يقتضي فَسَادها".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع "، للحجاوي (1/ 95)، وفيه قال:"وهو الشرط السابع طهارة بدن المصلي وثيابه، وموضع صلاته، وهو محل بدنه وثيابه من نجاسة غير معفوٍّ عنها شرط لصحة الصلاة، فمتى لاقاها ببدنه أو ثوبه أو حملها عالمًا أو جاهلًا أو ناسيًا أو حمل قارورة فيها نجاسة أو آجرة باطنها نجس قادرًا على اجتنابها، لم تصح صلاته ".

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع "، للكاساني (1/ 117)، وَفِيهِ قال:"ولَوْ كان معه ثوب نجس، فلا يخلو إما أن كان الربع منه طاهرًا، وإما أن كان كله نجسًا، فإن كان ربعه طاهرًا، لم يجزه أن يصلي عريانًا، بل يجب عليه أن يُصلِّي في ذلك الثوب؛ لأن الربع فما فوقه في حكم الكمال، كَمَا في مسح الرأس وحلق المحرم ربع الرأس، وإن كان كله نجسًا أو الطاهر منه أقل من الربع -فهو بالخيار في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، إن شاء صلى عريانًا، وإن شاء مع الثوب، لكن الصلاة في الثوب أفضل ". وانظر: "درر الحكام "، لمنلا خسرو (1/ 58).

وانظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني "، للنفراوي (1/ 130)، وفيه قال:"ولا يشترط طهارته إلا عند القدرة وإلا استتر بالنجس، وأولى الحرير، فإن لم يجد شيئًا صلى عريانًا". وانظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف "، للقاضي عبد الوهاب (1/ 280).=

ص: 1294

واختلفوا في قضاء تلك الصلاة بعد ذلك

(1)

.

أما الثياب المغصوبة، فهي ما أُخِذَتْ غصبًا

(2)

.

والغَصبُ ذاته مُحرَّمٌ؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].

ولقوله أيضًا: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، [المائدة: 87].

ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن اقْتطَعَ شِبرًا من الأرض؛ طوقه الله به سبع أرضين يوم القيامة"

(3)

.

ولقوله أيضًا: " (إن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بينكم محرمًا"

(4)

.

لأنه ظلمٌ للغير، واعتداء على حقه، وقد يضطر الإنسان إذا كان في فلاة

(5)

أو غير ذلك من الضرورات، وأراد النجاة بأي وسيلةٍ؛ فيطلب من

= وانظر في مذهب الشافعية: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 152، 153)، وفيه قال:"وإن وجد العريان ثوبًا نجسًا عليه ستر العورة به، وهل يُصلِّي فيه أم يصلي عاريًا؟ فيه قولان، أحدهما: يُصلِّي فيه كما يلبسه لمَنْع أبصار الناس، ثم يعيد الصلاة. والثاني وهو الأصح: يصلي عاريًا، ثمَّ هل يصلي قائمًا؟ الأصحُّ أنه يُصلِّي قائمًا، ولا تلزمه الإعادة". وانظر: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (1/ 350).

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 270)، وفيه قال:" (ومن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا، ولم يقدر على غسله، صلى فيه وجوبًا)؛ لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة؟ لتعلُّق حقِّ الآدمي به في ستر عورته، ووجوب الستر في الصلاة وغيرها، فكان تقديم الستر أهم ".

(1)

سبقت هذه المسألة.

(2)

"الغَصْبُ ": أخذ الشيء ظلمًا وقهرًا. انظر: "العين "، للخليل (4/ 374).

(3)

أخرجه مسلم (1610/ 137)، بلفظ:"مَن اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين ".

(4)

أخرجه مسلم (2577/ 55)، بلفظ:"يا عبَادي، إنِّي حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا".

(5)

"الفلاة": المفازة، والجمع: الفَلَوات. انظر: "العين"، للخليل (8/ 333).

ص: 1295

أخيه وسيلة فيأبى، فيَطْلبها بقيمتها فيأبى، إذًا في هذه الحال

إذا لم تكن إلَّا الأسنة مَرْكبًا

فما حيلة المضطر إلا ركوبها

(1)

والله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وهو يكاد أن يهلك، فلذلك له أن يأخذ ما يُنجيه حتى ولو بالقوة أو المقاتلة.

وكذلك لا يَجُوز للمسلم أن يمنع أخاه من ذلك إلا إذا كان هو بحاجةٍ إليه مثله، حينئذ ليسر له أن يعتدي عليه، لأن هذه حاجة تساوي حاجة الآخَر، وهو صاحب الحق.

وقد عرفنا من أمثلة الصحابة -رضوان الله عليهم- في معركة أحُد معنى الإيثار، وكيف كان كل واحد منهم يحيل الماء على صاحبه، وهذا ما جاءت به هذه الشريعة؛ لذلك يقول الله عز وجل:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

أما حكم الصلاة في الثياب المغصوبة، فاختلف العلماء في حكمها كما اختلفوا في حكم الصلاة في الدار المغصوبة.

فالصَّلاة في ثوب مغصوب للرجال والنساء صحيحة على قول جماهير العلماء، حيث يرَوْن أنَّ الجهة هنا منفكة، فيقولون: إنه ارتكب محرمًا؛ فهو آثم به، لكن الصلاة أمرٌ آخَر؛ لأنه مُطَالب بها، وهي ركن من أركان الإسلام من جانبٍ آخر، وقد أدى ما وَجَب عليه، وارتكب ما نُهِيَ عنه؛ فيعاقب من حيث الغصب، أما الصلاة، فقد أدَّى ما وَجَب عليه

(2)

.

(1)

بيت شعر من الطويل للكميت بن زيد، وهو في "جمهرة أشعار العرب "، لأبي زيد (ص 790)، و"الشعر والشعراء"، لابن قتيبة (2/ 568).

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "الجوهرة النيرة"، للحدادي (1/ 46)، وفيه قال:"وإنْ صلى في ثوب مغصوب أو توضأ بماء مغصوب أو صلى في أرض مغصوبة، فصلاته في ذلك كله صحيحة".

وانظر في مذهب المالكية: "مناهج التحصيل "، للرجراجي (1/ 359)، وفيه قال:"كمَنْ صلَّى بثوب مغصوب، فإن صلاته تجزئه ". وانظر: "التاج والإكليل "، لمواق (2/ 193) ".

ص: 1296

وهناك علماء دَقَّقوا في أمر الغصب، فقالوا: لو أن إنسانًا غصب أرضًا، ثم بعد ذلك أراد التوبة، وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من اقتطع شبرًا من الأرض، طوقه الله بسبع أرضين يوم القيامة"؛ وأراد أن يخرج منها؟

الجواب: بعضهم يتشدد، ويقول: هو آثم، رغم هذه الخطوات التي يمضيها تائبًا عائدًا إلى الله، وهذا قول ضعيف .. والصحيح قول عامة العلماء أنه لا يأثم، لأنه تاب، وبتوبته سيرد الحق لصاحبه. ويقول بعضهم أيضًا: لو غصب شيئًا، وحمَلَه على رأسه حتى يوصله إلى صاحبه، فهو آثم؛ لأنه قدر أن يوصله، وهذا أيضًا رأي ضعيف

(1)

.

= وانظر في مذهب الشافعية: "التنبيه في الفقه الشافعي"، للشيرازي (ص 29)، وفيه قال:"ولا تحلُّ الصلاة في أرض مغصوبة، ولا ثوب مغصوب، ولا ثوب حرير، فإن صلى لم يعد". وانظر: "تحفة المحتاج "، لابن حجر الهيتمي (2/ 117).

وفي مذهب الحنابلة روايتان، والمشهور فساد الصلاة، انظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 152)، وفيه قال:" (ومَنْ صلى في غصب) أي مغصوب عينًا أو منفعة، ومثله مسروق ونحوه، وما ثمنه المعين حرام (ولو) كان المغصوب (بعضه) مشاعًا أو معينًا، في محل العورة أو غيرها؛ لأنه يتبع بعضه بعضًا في البيع (ثوبًا) كان المغصوب كله أو بعضه (أو بقعة) لم تصح ". وانظر الروايتين في "الروايتين والوجهين "، لأبي يعلي الفراء (1/ 158).

(1)

اتفق الفقهاء على قبول توبة الغاصب بشرط أن يعيد ما غَصَبه إلى صاحبه.

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية منحة الخالق على البحر الرائق "، لابن عابدين (2/ 364)، وفيه قال:"فمنْ غصب شيئًا، ثم تاب، لا تتم توبته إلا بضمان ما غصب، والمراد من قولنا: لا تتم توبته إلا بفعل الواجب أنه لا يخرج عن عهدة الغصب في الآخرة إلا بذلك، وإلا فلو غصب وتاب عن فعل الغصب المذكور وحبس الشيء المغصوب عنده، ومنع صاحبه عنه، وقد عزم على رده إلى صاحبه، تصح توبته وإن بقيت ذمته مشغولةً به إلى أن يرده إلى صاحبه، فحِينَئذٍ تتم توبته بمعنى أنه يخرج عن عهدته من كل جهة".

وانظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني "، للنفراوي (2/ 175)، وفيه قال: " (والغاصب)، وَهُوَ الذي يأخذ المال من صاحبه قهرًا عليه على وجه التعدي، (ضامن لما) أي لكل شيءٍ (غصب)، ومعنى ضمانه تعلق الضمان به لا أنه تضمنه بالفعل بدليل قوله:(فإن رد) الغاصب (ذلك) الذي غصب قائمًا (بحاله) أَيْ: لم يتغير بنقص في بدنه، إذ لا تعتبر حوالة أسواقه. (فلا شيء عليه) لربه، وإنما يجب=

ص: 1297

أما الصلاة في ثياب حرير أو فيها ذهب؛ فتَحِل للمرأة إذا فعلَتْه، وتَحرُم على الرجال

(1)

، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير:

= عليه التوبة والاستغفار، ويجب على الحاكم تأديبه ولو صبيًّا استصلاحًا لحاله ".

وانظر في مذهب الشافعية: "الحا وي الكبير"، للماوردي (17/ 29، 30)، وفيه قال:"وإن كان الذنب معصية يتعلَّق بها مع الإثم حق، فهي على ضربين: فعل وقول، فأما الفعل فعلى ضربين، أحدهما: ما كان الحق المتعلق به مختصًّا بالآدميين كالغصوب والقتل، فصحة توبته منه معتبرة بثلاثة شروط، أحدها: بالندم على فعله. والثاني: بالعزم على ترك مثله. والثالث: برد المغصوب أو بدله إن عدم على صاحبه ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع "، للبهوتي (6/ 425)، وفيه قال:" (ويعتبر لصحة توبة من) نحو غصب (رد مظلمة إلى ربها) إن كان حيا (أو إلى ورثته إن كان ميتًا أو) أن (يجعله منها) أي المظلمة (في حل) بأن يطلب منه أن يبرئه (ويستمهله معسرًا)، أي: يستمهل التائب رب المظلمة إنْ عجز عن ردها أو بدلها لعسرته ".

(1)

أولًا مذهبهم في تحريم الصلاة في ثوب حرير على الرجال دون النساء.

انظر في مذهب الأحناف: "النتف في الفتاوى"، للسغدي (1/ 61)، وفيه قال:"ولا بأس للمرأة بالصلاة في الديباح والحرير، ولا يحل لبسهما للرجال، وإن صلى فيهما، فليس عليه أن يعيد بعد أن كان نظيفًا يستر العورة".

وانظر: "الدر المختار"، للحصكفي (6/ 351، 352).

وانظر في مذهب المالكية: "البيان والتحصيل "، لمحمد بن رشد (2/ 152)، وفيه قال:"مسألة: الرجل أيصلي بالثوب الحرير، مسألة قال: وسألت أشهب عن الرجل أيصلي بالثوب الحرير؟ قال: لا. قلت له: فإن صلى به؟ قال: إن كان عليه ثوب يواريه غيره، فلا إعادة عليه ".

وانظر في مذهب الشافعية: "المهذب في فقه الإمام الشافعي "، للشيرازي (1/ 127)، وفيه قال:"ولا يجوز للرجل أن يصلي في ثوب حرير، ولا على ثوب حرير، لأنه يَحْرم عليه استعماله في غير الصلاة، فلأن يحرم في الصلاة أَوْلَى، فإن صلى فيه أو صلى عليه، صحَّت صلاته؛ لأن التحريم لا يختصُّ بالصلاة، ولا النهي يعود إليها، فلم يمنع صحتها، وتجوز للمرأة أن تصلي فيه وعليه؛ لأنه لا يحرم عليها استعماله ". وَانظر في مذهب الحنابلة: "الكافي "، لابن قدامة (1/ 230، 231)، وفيه قال:"ويحرم على الرجال استعمال ثياب الحرير، في لبسها وافتراشها، وكذلك المنسوج بالذهب، والمموه به، وإن صلى في ذلك، ففيه روايتان، وإن صلى في عمامة محرمة، أو خاتم ذهب، صحت صلاته؛ لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة، ولا بأس في صلاة المرأة في الحرير والذهب؛ لحِلِّهِ لها". وانظر: "كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 269).

ص: 1298

"حَرَامٌ على ذكور أُمَّتي، حلٌّ لإنَاثها"

(1)

.

وقال في حديث عمر المتفق عليه: "لا تلبسوا الحرير؛ فمانَّ مَنْ لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"

(2)

.

ويُسْتثنى الحرير للرَّجُل إذا كان لضرورةٍ، كما وَرَد في حديث عمر بن الخطاب:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لبس الحرير إلا موضع إصبع أو ثلاثة أو أربع"

(3)

.

= ثانيًا: مذهبهم في تحريم الصلاة في ثوب به ذهب على الرجال.

الذي وقفت عليه في مذهب الأحناف حرمة لباسه فقط: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 312)، وفيه قال:" (فلا يتحلى)، أي: لا يتزين الرجل (بذهب أو فضة إلا بخاتم ومنطقة وحلية سيف منها)، أي: الفضة لا الذهب (ومسمار ذهب لثقب فص)؛ لأنه تابع ولا يعد لبسًا له (وحل للمرأة كلها) ".

وانظر في مذهب المالكية: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب "، لخليل (1/ 312)، وفيه قال:"وكذلك القولان لو صلى بخاتم ذهب أو سوار، أو تلبس بمعصية في الصلاة، كما لو نظر إلى عورة آخر، أو أجنبية، أو سردتى درهمًا. وَنقلَ عن سحنون في ذلك كلِّه البطلان ". وانظر: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (1/ 267).

وَانظر في مذهب الشافعية: "عمدة السالك "، لابن النقيب (ص 80)، وفيه قال:"وَيَجوز لبسُ ثوبٍ نجسٍ في غير الصلاةِ، ويحرُمُ على الرجال حليُّ الذهب، حتى سن الخاتم، والمطليُّ به ". وانظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 368).

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 152)، وفيه قال:"أو صلَّى في منسوج (ذهب أو فضة، أو) في حرير) كله (أو) فيما (غالبه) حرير (حيث حرم) الذهب والفضة والحرير، بأَنْ كان على ذكرٍ، ولم يكن الحرير لحاجةٍ لم تصح ". وانظر: "الكافي "، لابن قدامة (1/ 231).

(1)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(13/ 51)، عن عبد الله بن عميرو، قال: خَرَج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إحدى يديه ذهب، وفي الأخرى حرير، فقال:"هَذَان حَرامٌ على ذكور أمتي، حلٌّ لإناثها".

وأخرج نحوه ابن ماجه (3595)، عن عليِّ بن أبي طالب، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الصحيحة"(337).

(2)

أخرجه البخاري (5834)، ومسلم (2069/ 11)، واللفظ له.

(3)

أخرجه مسلم (2069/ 15)، عن عمر بن الخطاب، خطب بالجابية، فقال:"نهى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاث، أو أربع ".

ص: 1299

كذلك يُسْتثنى منه مَنْ كان بحاجةٍ إلى لبسه لمرضٍ في جلده "حساسية"، أو قُمَّل ونحو ذلك، لأنه أملس، ومفيد في بعض الحالات؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخَّص للصحابِيَّين الجليلين المشهود لهما بالجنة، عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام

(1)

.

‌واختلف العلماء فيما لو كان هذا خاصًّا بهما أو عامًّا لغيرهما؟

والصحيح أنه لهما ولغيرهما، لأنه لم يَرِدْ ما يدل على اختصاصهما

(2)

.

(1)

أخرج البخاري (2919)، ومسلم (2076/ 24)، عن أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير، من حكةٍ كانت بهما".

وجاء في رواية أنهما اشتكيا من القُمَّل، أخرجها البخاري (2920)، ومسلم

(2076/ 26).

(2)

مذهب الأحناف أن هذا خاص بهما؛ لأنه عرف من الوحي أن شفائهما به. انظر: "مجمع الأنهر"، لشيخي زاده (2/ 536)، وفيه قال:"ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام خص عرفجة بذلك كما خص الزبير وعبد الرحمن - رضي الله تعالى عنهما - بلبس الحرير لأجل الحكة في جسمهما". وانظر: "المبسوط"، للسرخسي (1/ 54).

ومشهور مذهب المالكية على المنع مطلقًا. انظر: "كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي"(2/ 447)، وفيه قال:" (ونهى الرسول عليه) الصلاة و (السلام) في "الصحيحين" نَهْي تحريم الذكر (عن لباس)، أي: لبس (الحرير و) عن (تختُّم الذهب)، ظاهر قوله: الذكر كبيرًا كان أو صغيرًا، وظاهره أيضًا كان لعذرٍ أو لغيره ". قال العدوي: "قوله: كان لعذرٍ، أيْ: كحكةٍ أو جهادٍ

إلخ. بالنسبة للحرير، وهذا الظاهر هو المشهور".

ومَذْهب الشافعية الجواز للضرورة، انظر:"تحفة المحتاج "، لابن حجر الهيتمي (3/ 22، 23)، وفيه قال: " (ويحل للرجل لبسه) فضلًا عن غيره من بقية أنواع الاستعمال (للضرورة كحر وبرد مهلكين)

(وللحاجة) كستر العورة ولو في الخلوة و (كجرب وحكة)، وقَدْ آذاه لبس غيره أي: تأذيًا لا يحتمل عادة فيما يظهر، (ودفعِ قمل) لا يحتمل أذاه عادةً وإن لم يكثر حتى يصير كالداء المتوقف على الدواء خلافًا لبَعْضهم ولو في الحضر في الكلِّ، خلافًا لما أطال به الأذرعي ".

ومذهب الحنابلة الجواز للضرورة. انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 357)، وفيه قال:" (ولا) يحرم (خالص) من حرير (لمرض أو حكة ولو لم يؤثر) لبسه (في زوالها) "، وما ثبت في حق صحابيٍّ، ثبت في حق غيره، ما لم يقم دليل على اختصاصه به. (أو قمل)، (أو حرب مباح، ولو في غير حالة قتال)، وكذا لغير حاجة على أرجح الروايتين ".

ص: 1300

وَتَكلَّم العلماء عن لبس الحرير والذَّهب في الصلاة لغير حاجةٍ، وأَلْحَقوه بالمغصوب؛ كما عند جماهير الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهي روايةٌ للإمام أحمد وليست المشهورة؛ فيَرون أن الجهة منفكة، فالصلاة صحيحة، ويأثم لِلُبْسه

(1)

.

* قوله: (أَمَّا اللِّبَاسُ، فَالأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]).

لا شكَّ أن هذا اللباس نعمةٌ من نِعَمِ الله سبحانه وتعالى على عباده، وقد استدلَّ بعض العلماء بهذه بالآية على وُجُوب ستر العورة، ومنهم مَنْ قصَرَ ذلك على الإنعام

(2)

، وعلَّق عليه آخرون بأنه لا تعارض بين الإنعام والستر؛ فستر العورة يأتي في مُقدِّمة الإنعام؛ لأن من الإنعام أن يلبس الإنسان ملابس طيبة، بل هو مُطَالب بهذا

(3)

.

(1)

سبقت هذه المسألة.

(2)

لم أقف على مَنْ فسرها بهذا، وقد ذكر بعضهم تأويلاتٍ أُخْرَى.

انظر: "المدخل "، لابن الحاج (4/ 26)، وفيه قال:"وقالت الصوفية: أراد بقوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} أنه الطاعة؛ لأنه لا شيء أجمل ولا أزين منها، إذ إنه بالطاعة والتقوى يكون القبول؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين} ".

(3)

مذهب الفقهاء على أن المقصود بالآية الأمر بستر العورة في الصلاة، وعند المالكية قولٌ بأن الأمر في الآية للاستحباب، فيكون المقصود بالآية الأمر بالزينة.

انظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق "، للزيلعي (1/ 95)، وفيه قال:" (وستر عورته)؛ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، أي: محل زينتكم، والمراد: ما يواري عورته عند كل صلاة".

في مذهب المالكية، اختلفوا في تأويل هذه الآية. انظر:"مناهج التحصيل "، للرجراجي (1/ 350، 351)، وفيه قال:"هل الأمر بذلك على الوجوب أو على الندب؟ فمَنْ حمله على الوجوب قال: المراد به ستر العورة، ومَنْ حمَله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة؛ مثل الرداء وغيره من اللباس ". وانظر: "شرح مختصر خليل "، للخرشي (1/ 245).

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب "، لزكريا الأنصاري (1/ 176)، وفيه قال:"الشرط الخامس: ستر العورة عن العيون، فإن تركه مع القدرة لم تصحَّ صلاته؛ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، قال ابن عباس: يعني الثياب فيها".

ص: 1301

ولَيْسَ معنى ذلك أن يأتي أَحَدٌ إلى حديث مثل: "البَذَاذة من الإيمان "

(1)

، ويفهمه على أن الثياب المقطعة أو المُتَّسخة من الإيمان، لكن المقصود أن الإنسان يَتَواضع في لباسه

(2)

.

وَسَوْف يأتي معنا في "باب الجُمُعة" أن الذين كانوا يشتغلون في الحدادة وغيرها، كانوا يؤمرون بالنظافة وتغيير الملابس؛ ولذلك لمَّا اختلف العلماء في حكم غسل الجمعة، قال أهل الظاهر بوجوبه، وقال الأئمة الأربعة وغيرهم بعدم وجوبه

(3)

، ثم وجدنا أن حديث عائشة حسم الخلاف، فقالت:"كان الناس عمال أنفسهم، فيأتون من أعمالهم بهيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم"

(4)

. والعمال منهم الجزار، فيأتي والدماء في ثوبه، ويأتي الحداد وريح الكير تملؤه

وهكذا؛ لأن المُصلِّين يتأذّون من ذلك.

ولذلك، قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم:"من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا"

(5)

، مع ما فيها من فوائدَ، فما بالك بشرب الدخان الذي

= وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 328)، وفيه قال:" (من شروط الصلاة)، فلا تصحُّ صلاة مكشوفها مع القدرة على سترها" لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ".

(1)

أخرجه ابن ماجه (4118)، عن عبد الله بن أبي أُمَامة الحارثي، عن أبيه، قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "البذاذة من الإيمان "، قال: البذاذة: القشافة، يعني التقشف .. وصححه الأَلْبَاني في "السلسلة الصحيحة"(341).

(2)

قال ابن بطال: "والمراد بهذا الحديث -والله أعلم- بعض الأوقات، ولم يأمر بلزوم البذاذة في جميع الأحوال لتتفق الأحاديث، وقد أمر الله تعالى بأخذ الزينة عند كل مسجد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ الطيب، وحسن الهيئة واللباس في الجمع وما شكل ذلك من المحافل ". انظر: "شرح صحيح البخاري"(9/ 164).

(3)

سيأتي الكَلام عنها عند قول المصنف حُكْم طهر الجُمُعةِ.

(4)

أخرجه البخاري (903)، واللفظ له، ومسلم (847)، عن يحيى بن سعيد: أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة، فقالت: قالت عائشة رضي الله عنهما: "كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة، راحوا في هيئتهم فقيل لهم: لو اغتسلتم ".

(5)

أخرجه البخاري (5452)، واللفظ له، ومسلم (564/ 73)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:=

ص: 1302

يُولَع

(1)

به عددٌ من المسلمين اليوم، ويُقلِّدون غيرهم، ومع ذلك لا فائدة لمحيه، بل هو داخلٌ في قول الله سبحانه وتعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، فهو خبيث في رائحته، وفي أضراره على صحة الإنسان، وعلى ماله، هذا المال الذي مِنَ الأَوْلَى أن يُنْفق على الزوجة والأولاد، أو في سبيل ما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، لأن الإنسان يؤجَر على هذه النفقات، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنك لا تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله حتى اللقمة تضعها فِي فيِّ امرأتك إلا وأُجِرْتَ عليها"

(2)

، لأن ذلك عبادة يُثَاب الإنسان على أدائها.

فكلُّ عادةٍ قُصِدَ بها وجه الله، أُجر الإنسان عليها.

من أمثلة ذلك: الزواج بنية تكثير الأولاد، كما ثَبتَ في الحديث:"تناكحوا تَكْثُروا، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة"

(3)

، وقال:"تزوَّجوا الولود الودود"

(4)

، وكذلك قال:"النكاح سُنَّتي، فمَنْ رغب عن سنتي فليس مني"

(5)

.

= زعمَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أكَل ثومًا أو بصلًا فَلْيَعْتزلنا"، أو "ليعتزل مسجدنا".

(1)

"أولع بالشيء" بالبناء للمفعول يولع وَلوعًا بفتح الواو: علقَ به. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 672).

(2)

أخرج البخاري (5668)، واللفظ له، ومسلم (1628/ 5)، عَنْ سعد بن أبي وقاص أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"ولن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 173)، عن سعيد بن أبي هلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"تناكحوا، تَكْثروا، فإني؛ أُبَاهي بكم الأمم يوم القيامة"، وَضعَّفه الأَلْبَانيّ في "ضعيف الجامع"(2484).

(4)

أخرجه النسائي (3227)، عن معقل بن يسار قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبتُ امرأةً ذات حسب ومنصبٍ إلا أنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فنهاه، فقال:"تَزوَّجوا الولودَ الودودَ، فإني مكاثرٌ بكم "، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(3091).

(5)

أخرجه ابن ماجه (1846)، عَنْ عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النكاحُ من سُنَّتي، فمَنْ لم يعمل بسُنَّتي فليس مني، وتزوَّجوا، فإني مكاثرٌ بكم الأمم، ومَنْ كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصيام، فإن الصوم له وجاء"، وصححه الأَلْبَانيُّ بمجموع طرقه في "السلسلة الصحيحة"(2383).

ص: 1303

وكذلك طاف سليمان على نسائه بغية الولد، والتماس الأجر بذلك

(1)

.

فلهذا كله، حضَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على النكاح؛ لِمَا فيه من التوالد، وتكثير المسلمين الذين يجاهدون في سبيل الله، والدعوة إليه، وغير ذلك من نوايا الطاعة، وخدمة المجتمع المسلم.

ومن الأمثلة أيضًا: البيع والشراء، فإذا صدق الإنسان فيه وأحسن إلى الناس، وصدق في البيع؛ بُورِكَ له، وإن كذب وكتم العيوب؛ مُحِقَتِ البركة

(2)

.

فَعَلى الإنسان أنْ يَصْدُق، ويقصد بأعماله وجه الله، ليُثَاب عليها.

* قوله: (وَالنَّهْيُ الوَارِدُ عَنْ هَيْئَاتِ بَعْضِ المَلَابِسِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا فِيمَا أَحْسَبُ عَلَى أَنَّ الهَيْئَاتِ مِنَ اللِّبَاسِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا مِثْلَ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ).

وَرَدَ في تفسير (اشتمال الصماء) عدة أقوال، منها:

قول أهل اللغة: أنْ يلتف بثوبٍ واحدٍ، ولا يخرج يديه منه أي: كأنه مطوَّق به

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (5242)، ومسلم (1654/ 24)، عن أبي هريرة، قال:"قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل ونسي، فأطاف بهن، ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان "، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو قال: إنْ شاء الله، لم يحنث، وكان أرجى لحاجته ".

(2)

معنى حديث أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532/ 47)، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقَا -أو قال: حتى يتفرَّقَا- فإنْ صَدقَا وبيَّنَا، بورك لهما في بيعهما، وإن كثمَا وكذبَا، محقت بركة بيعهما".

(3)

انظر: "غريب الحديث "، لأبي عبيد (2/ 117، 118)، وفيه قال: "قال الأصمعي: اشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوبه، فيجلل به جسده=

ص: 1304

وَقَدْ كَره بعض أهل العلم هذه الهيئة لأمرين

(1)

:

الأوَّل: أن الإنسان قد يفاجأ بما يتطلب منه الإسراع بدَفْعه عن نفسه، وإخراج يده أو كليهما؛ فهو بهذا قد قيَّدَ نفسه.

الضاني: قَدْ يلحقه أذًى، فلو أسرع بإخراج اليد أو كليهما؛ ربما تنكشف عورته، وهو منهِيٌّ عن ذلك

(2)

.

= كله، ولا يرفع منه جانبًا، فيخرج منه يده. وقال أبو عبيد: وربما اضطجع فيه على هذه الحال. قال أبو عبيد: كأنه يذهب إلى أنه لا يدري لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه، وأن يقيه بيديه، فلا يقدر على ذلك لإدخاله إياهما في ثيابه، فهذا كلام العرب ".

(1)

انظر في مذهب المالكية: "التنبيه على مبادئ التوجيه "، لابن بشير (1/ 486)، وفيه قال:"وعلل النهي عن اشتمال الصماء بوجهين، أحدهما: ما أشرنا إليه من سَتْر اليدين عند السجود. والثاني: لأنه قَدْ يعرض للإنسان ما يفتقر إلى مدافعته بيديه، ولا يمكنه ذلك مع سَتْرهما".

وانظر في مذهب الشافعية: "المجموع شرح المهذب "، للنووي (صم 176)، وفيه قال:"قال صاحب المطالع: اشتمالُ الصماء: إدارة الثوب على جسده لا يخرج منه يده، نهى عن ذلك؛ لأنه إذا أتاه ما يتوقاه لم يمكنه إخراج يده بسرعةٍ، ولأنه إذا أخرج يده انكشفت عورته".

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "البحر الرائق "، لابن نجيم (2/ 26)، وفيه قال:"ومن المكروه اشتمال الصماء، واشتمال اليهود هو الصماء، وهو إدارة الثوب على الجسد من غير إخراج اليد، سُمِّي بها لعَدَم منفذ يخرج يده منها كالصخرة الصماء، وفَسَّرها في المحيط بأن يجمع طرفي ثوبه ويخرجهما تحت إحدى يديه على أَحَد كتفيه. اهـ. وقيده في البدائع بألّا يكون عليه سراويل، وإنما كره؛ لأنه لا يؤمن انكشاف العورة".

وانظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (1/ 251، 252)، وفيه قال:"وكره في الصلاة اشتمال الصَّمَّاء، وهي عند الفقهاء أن يشتمل بثوب يُلْقيه على منكبيه مُخرِجًا يده اليسرى من تحته، أو مُخْرجًا إحدى يديه من تحته وهَذَا الثاني ظاهر الرسالة، وإنما كره لأنه يبدو معه جنبه، فهو كمَنْ صلى بثوبٍ ليس على أكتافه منه شيءٌ؛ لأن كشف البعض ككشف الكل، وإنما كان مكروهًا؛ لأنه في معنى المربوط، ولا يتمكن من الركوع والسجود المندوب ".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج "، للرملي (2/ 14)، وفيه قال: "ويُكْره أن=

ص: 1305

يقول الفقهاء، ولهم عدة تفسيرات:

أوَّلها: الاضطباع.

ولا يَقْصدون اضطباع الحج الذي يكون برِدَاءٍ فوق يضطبع به، وإزار بالأسفل لستر العورة

(1)

، إنما يقصدون الاضطباع بثوبٍ واحدٍ، وصفته: أن يجعل طرف الرداء الأيمن تحت عاتقه الأيمن، ثم رد الطرفين على العاتق الأيسر

(2)

.

وقد حظَر بعض العلماء هذا أيضًا؛ لأنه لو سجد أو تحرك ستنكشف عورته

(3)

، وكرهه بعضهم وإنْ لم تنكشف العورة

(4)

.

= يشتمل اشتمال الصماء واليهود بأن يخلل في الأول بدنه بالثوب، ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر، وفي الثاني بأن يخلل بدنه بالثوب بدون رفع طرفيه ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 155)، وفيه قال:" (و) كره أيضًا في صلاة (اشتمال الصماء وهو أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره)؛ لحديث أبي هريرة، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء، وأن يشتمل الصماء بالثوب الواحد، ليس على أحد شقيه منه، يعني شيء".

(1)

قال ابن قدامة في التفريق بينهما: "وَرَوى حنبل، عن أحمد في اشتمال الصماء: أن يضطبع الرجل بالثوب ولا إزار عليه، فيبدو منه شقه وعورته، أما إن كان عليه إزار، فتلك لبسة المحرم". انظر: "المغني"(1/ 418).

(2)

"الاضطباعُ بالثوب ": هو أن يُدخِلَ الثَّوبَ من تحت يده اليمنى، فَيُلقيه على مَنْكبه الأيسر. انظر:"الغريب المصنف"، لأبي عبيد (2/ 431).

(3)

سبق.

(4)

انظر في مذهب الأحناف: "البحر الرائق "، لابن نجيم (2/ 26)، وفيه قال:"وقيده (أي: اشتمال الصماء) في البدائع بألَّا يكون عليه سراويل، وإنما كره لأنه لا يؤمن انكشاف العورة".

وانظر في مذهب المالكية: "المقدمات الممهدات "، لمحمد بن رشد (3/ 434)، وفيه قال:"كذلك مشتمل الصماء تنكشف عورته من الناحية التي ألقى الثوب منها على منكبه إلا أن يكون عليه إزار، فإن كان عليه إزار، جاز له أن يشتمل الصماء عليه لارتفاع علة النهي، وهي انكشاف العورة. وقيل: إنَّ ذلك لا يجوز وإنْ كان عليه إزار، واختلف في ذلك قول مالك ".

ص: 1306

ثَانيها: أن يَلْتحفَ بالثوب، ويُخْرج يده مِن قِبَلِ صَدْره

(1)

.

وهذا أيضًا نُهِيَ عنه؛ لأن فيه تضييقًا عليه، وقد يحتبي فتنكشف عورته؛ فيدخل لباسه في اللباس المُحَرَّم

(2)

.

وَ"يَحْتبي ": فِعْلٌ من الاحتباء، وسيأتي معناه

(3)

.

وقَدْ وَرَد في حديثٍ متفقٍ عليه من حديث أبي هُرَيرة، قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء، وأن يشتمل الصماء بثوبٍ واحدٍ ليس على أحد شقَّيه منه شيء

(4)

"

(5)

.

كَذَلك ليس للإنسان أن يتلثم، ولا أن يسدل ويرخي رداءه من على عاتقه؛ فينكشف العاتق مع صدره، كما يُرَى من بعض المُحْرِمين؛ فهذا كله كرهه العلماء.

(1)

انظر: "المهذب"، للشيرازي (1/ 126)، وفيه قال:"ويُكْرَه اشتمال الصماء وهو أن يلتحف بثوب، ثم يخرج يديه من قِبَلِ صدره ".

وفي مذهبً الحنابلة، قال أبو الفرج المقدسي:"وقال بعض أصحاب الشافعي: اشتمال الصماء أن يلتحف بالثوب، ثم يخرج يديه من قِبَلِ صدره فتبدو عورته، وهو في معنى تفسير أصحابنا". انظر: "الشرح الكبير"(1/ 470).

(2)

انظر في مذهب المالكية: "المقدمات الممهدات "، لمحمد بن رشد (3/ 434)، وفيه قال:"وصفة الاحتباء المنهي عنه أن يجلس الرجل، ويضم ركبتيه إلى صدره، ويدير ثوبه من وراء ظهره إلى أن يبلغ به ركبتيه، ويشده حتى يكون كالمعتمد عليه، والمسند إليه، فهذا إذا فعله بدت عورته إلا أن يكون تحته ثوب ".

وَانْظُرْ في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 344)، وفيه قال:"والاحتباء: هو أن يحتبي بالثوب ليس على فرجه منه شيءٌ، وعلم منه أنه إذا كان عليه ثوب آخر لم يكره؛ لأنها لبسة المحرم، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وأن صلاته صحيحة إلا أن تبدو عورته ".

(3)

"احْتَبى الرَّجلُ ": إذا جمع ظهره وساقيه بعمامتِهِ، وقد يَحْتَبي بيديه. انظر:"الصحاح" للجوهري (6/ 2307).

(4)

زيادة يقتضيها السياق.

(5)

أخرجه بهذا اللفظ البخاري فقط (5821).

ص: 1307

وبعضهم لم يكره السدل، ففيه أقوالٌ للسَّلَف والفُقَهاء لم يذكرها المؤلف

(1)

.

* قوله: (وَهُوَ أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ).

" الاحتبَاء": أَنْ يضعَ الإنسان أَلْيَتيه على الأرض، وينصب ساقيه، ثم يجمعهما بيديه أو يأتي بما يجمعهما ناحية صدره بحبل أو شماغ، ونحوه

(2)

.

* قوله: (لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ).

وإذا كان ليس على فرجه منه شيءٌ، فستبدو عورته إذا تحرك.

فالعلة هنا: "إِنْ لم يكن على فَرْجه شيءٌ"، فهذا ممنوع، أمَّا إن كان على فرجه شيءٌ؛ فهو مكروهٌ

(3)

.

* قوله: (وَسَائِرِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ كلَّهُ سَدُّ ذَرِيعَةِ أَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ).

وهنا يُشير إلى قضية مهمة، وهي قضية:(سدُّ الذَّرَائع)، التي تُعَدُّ من المباحث الأصولية المعروفة، فهناك أمور ينصُّ عليها الفقهاء، وَيمْنعونها سَدًّا للذريعة.

إذًا، المؤلف نهَى عن اشتمال الصماء بجميع أوصافها، والاحتباء؛ لأنها عُرْضةٌ لانكشاف العورة، والمسلم مأمور بسَتْر عورته؛ فيكون النهي هنا من باب سد الذرائع عنده

(4)

، وعند مَنْ لا يرى ذلك مكروهًا

(5)

.

(1)

سبق تحرير هذا.

(2)

سبق.

(3)

سبق.

(4)

انظر: "الفروق"، للقرافي (3212) وفيه قال:" والذرائع معناه: حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة، مغ مالك من ذلك الفعل في كثيرٍ من الصور". وانظر: "إرشاد الفحول "، للشوكاني (2/ 193).

(5)

سبق.

ص: 1308

* قوله: (وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ: لَا تَجُوزُ صَلَاةٌ عَلَى إِحْدَى هَذِهِ الهَيْئَاتِ إِنْ لَمْ تَنْكَشِفْ عَوْرَتُهُ).

وَهَذَا صحيحٌ، فلم يقل أحدٌ من إهل العلم والفقهاء: إنَّ الإنسانَ لو صلَّى على إحدى الهيئتين ولم تَنْكشف عورته، فصلاتُهُ باطلةٌ

(1)

.

(وَقَدْ كَانَ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ الظَّاهِرِ يَجِبُ ذَلِكَ

(2)

، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ الرَّجُلَ مِنَ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ الثَّوْبُ الوَاحِدُ).

إذَنْ، تكلَّمنا عن أنه مجزئ، ولكن قرَّرنا أنَّ انفضيلة ثوبان:

ثوب ورداء، أو ثوب وإزار، أو ثوب وسروال

(3)

، وليس معنى هذا ألَّا يقال بتغطية الإنسان رأسه، فقد يغطي لا سيما أن الثياب تَخْتلف عن الرداء الذي يمكِّنه من تغطية الرأس والعاتقين، وسيأتي الكلام عن هذه المسألة.

* قول: (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُئِلَ: أَيُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ؟ فَقَالَ: "أَوَ لِكُلِّكُمْ ثَوْبَانٍ؟ "

(4)

).

الحديث الآخر الذي ذكرتُ قبل حديث جابر، وهو متفق عليه، قال:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبٍ واحدٍ متوشحًا به "

(5)

.

(1)

لأن غَايتَه الكراهة، كما سَبَق، فإن كان فيه انكشاف عورته، فَهُوَ محرمٌ، ولا تأثيرَ له على صحة الصلاة.

(2)

انظر: "المحلى"، لابن حزم (2/ 390)، وفيه قال: "وفرض على الرجل- إنْ صلى في ثوب واسع- أن يطرح منه على عاتقه أو عاتقيه، فإن لم يفعل بطلت صلاته، فإن كانً ضيقا، اتزر به وأجزأه، كان معه ثياب غيره أو لم يكن

ولا يجوز لأحدٍ أن يصلي وهو مشتمل الصماء، وهو أن يشتمل المرء ويداه تحته، الرجل والمرأة سواء".

(3)

سبقت هذه المسألة.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

هو في "صحيح مسلم" فقط كما تقدم.

ص: 1309

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي مَكْشُوفَ الظَّهْرِ وَالبَطْنِ، فَالجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ صَلَاتِهِ؛ لِكَوْنِ الظَّهْرِ وَالبَطْنِ مِنَ الرَّجُلِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ

(1)

).

إذن، تكلم المؤلف عن قضية، واعتبر هذا شاذًّا.

* قوله: (وَشَذَّ قَوْمٌ، فَقَالُوا: لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ "لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ").

مثل: الطبري، وابن وهب، وغيرهما ممن شذَّ

(2)

.

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (1/ 695، 696)، وفيه قال:"قال أبو جعفر: (ومَنْ صلى من الرجال، فستر ما دون سُرَّته إلى ركبته، ووارى ركبتيه في ذلك: أجزأه)، وذلك لأن هذا من الرجل عورة". وانظر: "البحر الرائق "، لابن نجيم (1/ 283، 284).

وانظر في مذهب المالكية: "شرح الزرقاني على مختصر خليل "(1/ 312)، وفيه قال:"والحاصل أن عورةَ الرجل والأمة بالنسبة للصلاة ما بين السُّرة والركبة".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج "، للرملي (2/ 7)، وفيه قال:" (وعورة الرجل)، أي: الذكر ولو كافرًا أو عبدًا أو صبيًّا، وإن لم يكن مميزًا، وتظهر فائدته في طوافه إذا أحرم عنه وليه (ما بين سُرَّته وركبته)، لما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عَوْرَة المؤمن ما بين سُرَّته ورُكْبته ". وانظر: "التنبيه "، للشيرازي (ص 28).

وفي مذهب الحنابلة، مشهور المذهب على أنها من السرة إلى الركبة. انظر:"كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 265)، وفيه قال:" (وعورة الرجل)، أي: الذكر البالغ (ولو) كان (عبدًا أو ابن عشر) حرًّا أو عبدًا: ما بين السرة والركبة؛ لحديث عليِّ قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُبْرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حيٍّ أو ميتٍ "، وانظر: "الروايتين والوجهين "، لأبي يعلى الفراء (1/ 136).

وقال بعضهم: العورة هي السوءتان فقط. انظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (6/ 380)، وفيه قال:"وقال ابن أبي ذئب: العورة من الرجل الفَرْج نفسه القُبُل والدّبُر دون غيرهما، وهو قول داود وأهل الظاهر، وقول ابن عُليَّة والطبري ".

(2)

الظاهر أنَّ الذين قالوا ببطلان صلاة مَنْ صلى مكشوف البطن والظهر هم الذين اعتبروا عورة الرجل جميع بدنه. قال ابن العربي: "

وهذا تنبيهٌ على وجوب ستر=

ص: 1310

وهَذِهِ الصِّفة تحصل إذا صلى الإنسان في سراويل أو إزار فقط؛ فهو لا شكَّ مكشوف الظهر والبطن والعاتقين، واعتبر المؤلف القول بالجواز هو الصحيح، قياسًا على أنَّ الجمهورَ اتفقوا على حدِّ العورة ما بين السُّرَّة والركبة، وبعضهم أدخل الركبة

(1)

؛ فيكون غير ذلك ليس بعورةٍ، وكشفه لا يضرُّ.

وفي نظري أن القول الشاذ عنده هو الصحيح عندنا، لأنه شهد له النص الصحيح الصريح المتفق عليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي الرجل في

= العورة في الصلاة، وقد تقدَّم القول فيها: وأقل ما يجزي فيه الصلاة ثوب واحد يَسْترها. وقَدْ روى أبو الفرج عن مَالِكٍ رضي الله عنه أنَّ البدن كله عورة في الصلاة من الرجل، وهي رواية ضعيفة". وانظر:"شرح ابن ناجي على متن الرسالة"(1/ 85).

فإن كان كَذَلك، فإن الطبري لا يدخل في هؤلاء؛ لأنه كما سبق النقل عنه اعتبر حد العورة السوءتين فقط .. أما قول ابن وهب فلم أقف عليه.

(1)

في مذهب الأحناف أن الركبة عورة، أما السرة فليست بعورة.

انظر في مسألة الركبة: "مختصر القدوري"(ص 26)، وفيه قال:"والعورة من الرجل: ما تحت السرة إلى الركبة، والركبة من العورة".

وفي مذهب المالكية اختلفوا، فبعضهم أدخلهما في حد العورة، والآخرون أخرجوهما، ومشهور المذهب على أنهما ليسا بعَوْرَةٍ.

انظر المشهور من المَذْهب: "كفاية الطالب الربَّانِي "، لأبي الحسن الشاذلي (1/ 170)، وفيه قال:"عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وهما غير داخلين فيها على المشهور".

انظر الخلاف في: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب "، لخليل (1/ 300، 301).

وفي مذهب الشافعية أنهما ليسا بعورة، وهو المشهور، وفي قولٍ بأنهما عورة، انظر:"المهذب"، للشيرازي (1/ 124)، وفيه قال:"وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليستا من العورة، ومن أصحابنا مَنْ قال: هما منها، والأوَّل هو الصحيح"، وانظر:"الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (1/ 347).

وفي مذهب الحنابلة أنهما ليسا بعورة، انظر:"الكافي"، لابن قدامة (1/ 226)، وفيه قال:"وعورة الرجل ما بين سُرَّته وركبتيه؛ لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة"، وليست السُّرة والركبة من العورة".

ص: 1311

الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء"

(1)

. و"لا" ناهية، والنهي يعمُّ، ويقتضي فساد وحُرمة ارتكاب المنهي عنه

(2)

.

وَمَعَ ذلك نقول بصحة صلاة مَنْ صلى على هذه الحالة، ولم يجد ما يستر به عاتقيه " لأنه عجز عما يستر به، والله تعالى يقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ويقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، لكن الإنسان القادر على التَّستُّر كيف يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى مكشوفًا؟! فإذا كان يَسْتحي من الناس أن يظهر أَمَامهم هكذا، فاللّه أحقُّ أن يُسْتحيى منه، خصوصًا في أهمِّ رُكْنٍ من أركان الإسلام بعد الشَّهادتين ألا وهو الصلاة، بل ينبغي أن يَكُون الإنسَان على أحْسَن حَالَةٍ، كما قال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].

فَالحُجَّة ليست مع الأكثرية ولا الجمهور، ما دام هناك نصٌّ، والفقيه المتدبر ينظر إلى الدليل، ويُقدمه على أيِّ رأيٍ، فمعنا حديث رسول الله الذي فيه نهي، ومَنْ خالف نَهْي رسول الله يكون مخالفًا.

وأقلُّ ما يُقَال في ذلك أيضًا أنَّ الخروج من الخلاف مستحبٌّ، كمَا هو معروف في القواعد الفقهية إلا الخلاف الباطل

(3)

، ومَنْ لا يُعتَد

(1)

أخرجه البخاري (359)، ومسلم (516/ 277)، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء".

(2)

سبق ذكر هذا.

(3)

انظر: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام "، لعز الدين عبد السلام (1/ 253، 254)، وفيه قال: "الخلاف على أقسام:

القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز، فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.

القسم الثاني: أن يكونَ الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب، فالفعل أفضل كقراءة البسملة في الفاتحة، فإنها مكروهة عند مالك، واجبة عند الشافعي، وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه، حذرًا من كون الصواب مع الخصم، والشرعُ يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لتَرْك المحرمات والمكروهات ".

ص: 1312

بخلافهم كالأصم وابن عُليَّة

(1)

.

* قوله: (وَتَمَسَّكَ بِوُجُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]).

يقصد الذين أوجبوا ستر العاتق استدلوا بهذه الآية

(2)

، وهُمْ أكثر الفقهاء

(3)

، أما الجمهور فقد نَازَعوا فيها، لأنها دليلٌ عامٌّ، والصحيح أنها نصٌّ في إيجاب ستر العورة

(4)

.

(1)

انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف "، للقاضي عبد الوهاب (2/ 652)، وفيه قال:"جواز الإجارة في الجملة مجمعٌ عليه إلا ما يُحْكى عن ابن عُليَّة والأصم، وهؤلاء لا يعد أهل العلم خلافهم خلافًا".

(2)

ذهب المؤلف إلى أن مَنْ قال ببطلان صلاة مكشوف الظهر والبطن استدل على ذلك بهذه الآية، وهي في وجوب ستر العورة، فاعتبروا أن البطن والفخذ من العورة، بينما ذكر الشارح أنَّ هذه الآية هي دليل الذين أوجبوا ستر العاتق في الصلاة، وليس كذلك، بَلْ إنَّ الذين قالوا بذلك (وهم الحنابلة والظاهرية) لم يعتبروا أنهما عورة، وإنما قالوا بذلك؛ منعًا لانكشاف العورة إذا ما سقط الثوب، ولأن هذا أكمل في معنى الزينة.

انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 331)، وفيه قال:" (وشرط في فرض رجل بالغ مع ستر عورته ستر جميع أحد عاتقيه بلباس)؛ لحديث أبي هريرة: "لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء"، رواه البخاري، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقوله: "بلباس"، أي: سواء كان من الثوب الذي ستر به عورته أم من غيره، ومحل ذلك إذا قدر عليه، فأيّ شيءٍ ستر به عاتقه أجزأه ". وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 416).

(3)

بل أكثر الفقهاء على عَدَم الوجوب، والذين قالوا بالوجوب هُمُ الحنابلة والظاهرية كما سبق التفصيل.

قال ابن قدامة: "وجملة ذلك أنه يجب أن يضعَ المصلي على عاتقه شيئًا من اللباس، إنْ كان قادرًا على ذلك، وهو قول ابن المنذر، وحُكِيَ عن أبي جعفر أنَ الصلاة لا تُجْزئ مَنْ لم يخمر منكبيه.

وقال أكثر الفقهاء: لا يجب ذلك، ولا يُشْترط لصحة الصلاة .. وبه قال مالكٌ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي؛ لأنهما ليسا بعورةٍ، فأشبها بقية البدن ". انظر:"المغنى"(1/ 415).

(4)

هذه الآية نعم هي نص، ولكنها نص في وجوب ستر السوءتين، كما سبق، ونزاع=

ص: 1313

لكن البعض يقولون: إنها تنزل على ستر العورة في غير الصلاة

(1)

، لأنها نَزَلتْ في العُرَاة الذين كانوا يطوفون البيت، وهو مسجدٌ واحدٌ، والآية تقول:{كُلِّ مَسْجِدٍ} ، وقد رد على أمثال هؤلاء بعض المفسرين، وقالوا: إن هؤلاء لا يُدْركون مثل هذه الأمور!

(2)

.

* قوله: (وَاتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اللِّبَاسَ المُجْزِئَ لِلْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ هُوَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ).

هَذَا بالنِّسبة للمجزئ، أما الأفضل فيكون بإضافة رداء تَلْتَحف به على ثيابها

(3)

.

= الجمهور مع الذين أوجبوا ستر العاتق في الصلاة ليس في هذه الآية، وإنما في حديث النهي السابق من أن النهي فيه ليس للفساد.

(1)

استدل جمهور الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة، وهي السوءتان في الصلاة، وخالف بعض المالكية، فقالوا: الأمر الذي في الآية إنما هو بسترها في خارج الصلاة، وقالوا أيضًا بان الآية في الأمر بالزينة.

قال المازري: "وأما ستر العورة في الصلاة، فقال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب القاضيان إسماعيل وابن بكير والأبهري إلى أن ذلك من سنن الصلاة. وذهب أبو الفرج إلى أن ذلك من فروض الصلاة. وأما أبو حنيفة والشافعي فذهبا إلى أنه من فروض الصلاة. وقد تَعلَّق بعض مَنْ رأى أن ستر العورة من فُرُوض الصلاة بقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، وهَذِهِ الآية قَدْ كثر كَلَام الناس عليها، فأَشَار مالكٌ رضي الله عنه في المستخرجة إلى أن المراد بالزينة الأردية، وبالمساجد الصلوات في المساجد. وذكر ابن مزين أن المراد بالمساجد الصلوات، والآية إنما نزلت ردّا لما كانوا يَفْعلونه من الطواف عراةً تحريمًا للباس، فهذا القصد بها". انظر: "شرح التلقين"(1/ 468، 469).

(2)

الشارح رحمه الله يريد أن يقول: إن من الناس مَنْ قال: إن الآية ليست في الطواف؛ لأن الله يقول: {كُلِّ مَسْجِدٍ} ، ومن المعلوم أن الطواف يكون في مسجد واحد، وقد رد بعضهم على مَنْ قال هذا.

انظر: "تفسير القرطبي"(7/ 189)، وفيه قال:"ومِنَ العلماء مَنْ أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة .. وهذا قول مَنْ خفي عليه مقاصد الشريعة".

(3)

سبقت هذه المسألة.

ص: 1314

* قوله: (لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَاذَا تُصَلِّي فِيهِ المَرْأَةُ؟ فَقَالَ: فِي الخِمَارِ

(1)

، وَالدِّرْعِ السَّابغِ

(2)

إِذَا غَيّبَتْ ظُهُورَ قَدَمَيْهَا").

هذا الحديث جاء مرفوعًا

(3)

وموقوفًا

(4)

، أما وَقْفه فهو صحيحٌ

(5)

، وقد نُقِل عن عائشة أيضًا، وغيرهما

(6)

.

* قوله: (وَلِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ")

(7)

.

" الخمار": هو ما تخمر (أي: تغطي) به رأسها وعنقها.

ثم يُضَاف القميص الذي سمَّاه درعًا، ويشترط أن يكون طويلًا

(8)

، لأن أُمَّ سلمة لمَّا سَمِعَتْ تحذيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسبال الإزار، سألته عن إسبال المرأة، فقال:"يُرْخين شبرًا"، قالت:"تَنْكَشف عورتهن "، لأنه إذا

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أي: الواسع. قال ابن دريد: "كل ضافٍ سابغ، ثوب سابغ، وَشعر سابغ؛ ولذلك سميت الدروع سوابغ ". انظر: "جمهرة اللغة"(1/ 338).

(3)

سبق من رواية أبي داود، وهو ضعيف.

(4)

أخرج أبو داود (639)، عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن أمه أنها سألت أم سلمة: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها.

قال الأَلْبَانيُّ رحمه الله: "هو موقوف، وإسناده ضعيف؛ لأن أم محمد بن زيد هذه لا تعرف، كما قال الذهبي، واسمها أم حرام، وقد روي مرفوعًا، ولا يصح أيضًا". انظر: "ضعيف أبي داود - الأم "(98).

(5)

ممَّن صححه: عبد الحق الإشبيلي. انظر: "الأحكام الصغرى"(1/ 197)، وفيه قال:"هذا هو الصحيح من قول أم سلمةَ".

(6)

وهو ما سيذكره المؤلف.

(7)

أخرجه أبو داود (641)، وغيره، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود- الأم "(648).

(8)

سبق ذكر درع المرأة.

ص: 1315

سجدت ستخرج بطون قَدَميها، فقال:"يُرْخينه ذراعًا، ولا يزدن"

(1)

.

* قوله: (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ

(2)

، وَمَيْمُونَةَ

(3)

، وَأُمِّ سَلَمَةَ

(4)

أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ بِذَلِكَ).

هنا قال المؤلف: "أنَّهم "، والصَّحيح:"أنَّهنَّ "، والصَّواب أيضًا قَوْل: يُفْتين.

* قوله: (وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا إِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةً).

يقصد بـ "كل هؤلاء": العلماء.

* قوله: (أَعَادَتْ فِي الوَقْتِ وَبَعْدَهُ).

وما استُثْنِيَ من ذلك، فالوَجْه والكَفَّان

(5)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أَخْرَجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 333)، عن معاذة، عن عائشة "أنها قامت تصلي في درع وخمار، فأتتها الأمة فألقت عليها ثوبًا".

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 330)، عن عبيد الله الخولاني، عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها صَلَّتْ في درع وخمارٍ. قال الحافظ ابن حجر:"صحيح موقوف ". انظر: "المطالب العالية"، لابن حجر (3/ 37).

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

انظر في مذهب الأحناف: "الهداية"، للمرغيناني (1/ 45)، وفيه قال:"وبدن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "المرأة عورة مستورة"، واستثناء العضوين للابتلاء بإبدائهما".

وانظر في مذهب الشافعيَّة: "أسنى المطالب "، لزكريا الأنصاري (1/ 176)، وفيه قال:" (وعورة الحرة في الصلاة وعند الأجنبي) ولو خارجها (جميع بدنها إلا الوجه، والكفين) ظهرًا وبطنًا إلى الكوعين؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال ابن عباس وغيره: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: وجهها وكفاها، وإنما لم يكونا عورة؛ لأن الحاجة تدعو إلى إبرازهما، وإنما حرم النظر إليهما؛ لأنهما مظنة الفتنة". وانظر: "المجموع شرح المهذب "، للنووي (3/ 166).

وفي مذهب الحنابلة: العورة جميع بدنها إلا الوجه فقط، انظر:"شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 150)، وفيه قال: " (والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة (=

ص: 1316

(إِلَّا مَالِكًا، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا تُعِيدُ فِي الوَقْتِ فَقَطْ

(1)

، وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الخَادِمَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ وَالقَدَمَيْنِ

(2)

، وَكَانَ الحَسَنُ

= حتى ظفرها نصًّا (إلا وجهها)؛ لحديث: "المرأة عورة"، وهو عامٌّ في جميعها ترك في الوجه للإجماع، فيبقى العموم فيما عداه ". وانظر:"مختصر الخرقي "(ص 25).

(1)

انظر: "شرح مختصر خليل "، للخرشي (1/ 247، 248)، وفيه قال:"عورة الحرة مع الرجل الأجنبي جميع بدنها حتى دلاليها وقصتها ما عدا الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما، فيجوز النظر لهما بلا لذة، ولا خشية فتنة من غير عذر ولو شابة. (ص) وأعادت لصدرها وأطرافها بوقت (ش) يعني أن الحرة إذا صلت بادية الصدر فقط أو الأطراف فقط أو هما، فإنها تُعِيدُ تلك الصلاة في الوقت الآتي بيانه، ومثل الحرة أم الولد في أنها تُعِيدُ لصدرها وأطرافها في الوقت؛ وسواء حصل منهما كشف ذلك عمدًا أو جهلًا أو نسيانًا، والمراد بأطرافها ظهور قدميها وكوعيها وشعرها وظهور بعض هذه كظهور كلها، وفي الأبي ذراعيها بدل كوعيها وهو الظاهر، إذ كفاها لكوعيها لَيْسَا من عورتها".

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "النتف في الفتاوى" للسغدي (1/ 84)، وفيه قال:"وأما صلاة الأَمَة، فإنها تجزيها مكشوفة الرأس والساقين والذراعين والصدر لا الظهر والبطن وما بين السُّرة والركبة". وانظر: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 405).

وانظر في مَذْهب المالكية: "شرح مختصر خليل "، للخرشي (1/ 248)، وفيه قال:" (ص) ولا تطلب أمة بتغطية رأس (ش) لما قدم تحديد عورة الأمة الواجب سترها أشار لحكم ما عدَاها، والمعنى أن الأمة ومَنْ فيها بقية رق من مكاتبة ومبعضة غير أم الولد بدليل ما يأتي لا تطلب لا وجوبًا ولا ندبًا بتغطية رأس بخلاف سَتْر جميع الجسد، فمطلوب لها".

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 171، 172)، وفيه:"قال الشافعي رضي الله عنه: فإن صلت الأمة مكشوفة الرأس أجزأها. قال الماوردي: وهَذَا كما قال لا يختلف المذهب أن ما بين سرة الأمة وركبتها عورة في صلاتها ومع الأجانب، ولا يختلف أنَّ رأسها وساقيها ليس بعورةٍ في الصلاة، ولا مع الأجَانب ". وانظر: "أسنى المطالب" للأنصاري (1/ 178).

وَانظر في مَذْهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 329، 330)، وفيه قال:" (و) عورة (أمة مطلقًا) -أي: مدبرة كانت أو مكاتبة- (وأم ولد ومبعضة) - أَيْ: بعضها حر وبعضها رقيق -ما بين سرة وركبة؛ لأنها دون الحرة فألحقت بالرجل. (و) عورة (حرة مميزة ومراهقة) قاربت البلوغ: (ما بين سرة وركبة)؛ لمَفْهوم حديث: "لا يَقْبل الله صلاة حَائِضٍ إلا بخمار"، وعلم منه أن السُّرَة والركبة ليسا من العورة، وهذا كلُّه في الصلاة". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 432).

ص: 1317

البَصْرِيُّ يُوجِبُ عَلَيْهَا الخِمَارَ)

(1)

.

المؤلف هنا لم يذكر دليلًا، تبعًا لكثيرٍ من الفقهاء علَى أنَّ عورة الأَمَة ما بين السُّرة والركبة، وغاية ما عندهم أثران:

الأوَّل: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قام على المنبر، فقال: لا أعرفن أحدًا أراد أن يشتري جاريةً ينظر، فلينظر إلى ما فوق ركبتها، وما تحت سُرَّتها، لا أعرف ذلك منه إلا عاقبته

(2)

.

فيكون المنصوص عندهم أن النظر إلى ما فوق الركبة، وما دون السُّرَّة المنع.

الثَّانِي: عن عمر رضي الله عنه "أنه كان يمنع الإماءَ من تغطية رؤوسهنَّ حتى لا يلتبسن بالحرائر"

(3)

.

فقالوا: ما دام أنَّ رأسها غير عَوْرةٍ، فَكَذلك بقية البدن، سوى الموضع الذي بين السُّرَّة والرُّكبة

(4)

.

* قوله: (وَكَانَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ يُوجِبُ عَلَيْهَا الخِمَارَ

(5)

، وَاسْتَحَبَّهُ

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 134)، عن معمرٍ، عمن سمع الحسن، "يأمر الأمة إذا تزوجت عبدًا أو حرًّا أن تختمر"، قَالَ: وكان الحسن لا يرى على الأمة خمارًا إلا أن تتزوج أو يطأها سيدها. وانظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 432).

(2)

أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(4/ 411)، عن أبي تميمة الهجيمي، قال: سَمعتُ أبَا موسى الأشعري يقول: "لا أعرفن أحدًا نظر من جاريةٍ إلا إلى ما فوق سرتها، وأسفل من ركبتيها، لا أعرفن أحدًا فعل ذلك إلا عاقبته "، أما حكمه فظاهر كَلَام الأَلْبَانيُّ صحته. انظر:"الثمر المستطاب "، للأَلْبَانيِّ (1/ 279)، وفيه قال:"والأثر رجاله كلهم ثقات، رجال الصحيح غير علي بن شيبة وحكيم الأثرم ".

(3)

أخرجه محمد بن الحسن في "الآثار"(1/ 611)، عن إبراهيم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب الإماء أن يتقنعن، يقول:"لا تتشبهين بالحرائر". قال الأَلْبَانيُّ: إسناده معضل. انظر: "جلباب المرأة"(ص 99).

(4)

سبق ذكر هذا.

(5)

تقدَّم.

ص: 1318

عَطَاءٌ

(1)

، وَسَبَبُ الخِلَافِ: الخِطَابُ المُوَجَّهُ إِلَى الجِنْسِ الوَاحِدِ).

الكَلامُ هنا عن حَدِّ العورة، وليس معنى أنَّ حد العورة من كذا إلى كذا أنَّ الصَّلاة تصحُّ على كل حالٍ؛ فقد مر بنا قوله صلى الله عليه وسلم:"نهي أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء"

(2)

، وبعض العلماء اقتصر على وَضْع شيءٍ على العاتق؛ سواء على المنكبين أو أحدهما

(3)

، المهم أن يطبق ذلك الحديث، والعاتقان خارجان عن العورة بشكلٍ عامٍّ.

ولذَلكَ، قلنا بأنَّ الذين يستدلُّون بأن تغطية المنكبين بين العاتقين ليس بِوَاجِبٍ، يقولون بأنه ليس من العَوْرة

(4)

.

والصَّحيح أنه ليس كل ما خَرَج عن العورة لا يلزم تغطيته أو بعضه في الصلاة" فهناك أمورٌ هي عورةٌ في الصلاة، وعورةٌ في غيرها، ونجد أنها تظهر في الصلاة، وكذلك العكس

(5)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 136)، عن عطاء قال:"إذا صلَّت أمة غيبت رأسها بخمارها، أو خرقة"، كذلك كُنَّ يصنعن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده. وانظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 432).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

وهم الحنابلة والظاهرية كما سبق.

(4)

سبق ذكره في أدلة الجمهور.

(5)

من ذلك مثلًا أن عورة المرأة في الصلاة جميع بدنها إلا الوجه والكَفين عند الجمهور، والوجه فقط عند الحنابلة كما سبق. والوجه والكفان والقدم عند الأحناف كما سيأتي، بينما خارج الصلاة فإن عورتها جميع بدنها، وهذا باعتبار النظر وخشية الفتنة.

انظر في مذهب الأحناف: "الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(6/ 370)، وفيه قال: " (فإن خاف الشهوة) أو شك (امتنع نظره إلى وجهها)، فَحِلُّ النظر مقيدٌ بعَدَم الشهوة، وإلا فحرام، وهذا في زمانهم، وأما في زماننا فمنع من الشابة قهستاني وغيره (إلا) النظر لا المس (لحاجةٍ) كقاضٍ وشاهد يحكم (ويشهد عليها).

وانظر في مَذْهب المالكية: "مواهب الجليل "، للحطاب (1/ 499)، وفيه قال:(ومع أجنبي غير الوجه والكفين). ش قال الأبي عن القاضي عياض وقيل ما عدا=

ص: 1319

إذًا، هُنا تغطِيَة المنكبين بوضع شيءٍ على العاتقين لا يدخل في كشف العورة، ولذلك، للرجل أن يُخْرج عاتقيه أمام الرجال، ولا يكون كاشفًا لعورته، لكنه في الصلاة مطالب بأن يغطيهما، أو أحدهما على رأي البعض.

كذلك المرأة منهيةٌ عن أن تكشف وجهها للأجانب في الصلاة، ولكنها تكشف أمام مَنْ ليسوا أجانب، وَهَكَذا بالنسبة للعقبين

(1)

، وغَيْرهما

(2)

.

= الوجه والكفين والقدمين. انتهى. واعلم أنه إنْ خشي من المرأة الفتنة، يجب عليها ستر الوجه والكفين .. قاله القاضي عبد الوهاب".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح القريب المجيب "، لابن القاسم الغزي (ص 84)، وفيه قال:(وجميع بدن) المرأة (الحُرَّة عورة إلا وجهها وكفيها). وهذه عورتها في الصلاة؛ أما خارجَ الصلاة فعورتها جميع بدنها. وانظر: "أسنى المطالب "، لزكريا الأنصاري (1/ 176).

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 266)، وفيه قال:" (وهما)، أي: الكفان (والوجه) من الحرة البالغة (عورة خارجها)، أي: الصلاة (باعتبار النظر كبقية بدنها)؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "المَرْأة عورة".

(1)

انظر: "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء"، لأبي هلال العسكري (ص 73)، وفيه قال:"وفي القَدَم العَقِبُ، وهو الذي يُمسِك شِرَاكَ النعل العربيَّة من خَلْف ".

(2)

بالنسبة للعَقبَين لا يجوز للمرأة أن تكشفهما في الصلاة؛ لأنه ليس لها أن تُظْهرَ شيئًا من بدنها في الصلاة إلا الوجه والكفين، كما سبق تفصيلها، وهذا ما عليه الجمهور، وعند الأحناف في القدم روايتان، الأصح على أنه ليس بعورةٍ. انظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي "، للمرغيناني (1/ 45)، وفيه قال:"وبدن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها"؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "المرأة عورة مستورة"، واستثناء العضوين للابتلاء بإبدائهما. قال رضي الله عنه: وهذا تنصيص على أن القدم عورة ويروى أنها ليست بعورة، وهو الأصح. وانظر:" تبيين الحقائق "، للزيلعي (1/ 96).

أما تغطية المرأة وجهها: فإنه يكره لها أن تغطيه في الصلاة بأن تصلي في نقاب ونحوه إلا لِحَاجَةٍ كحضور أجانب، فتغطي وجهها خشية الفتنة، وهذا هو قول جمهور الفقهاء.

انظر في مذهب المالكية: "التاج والإكليل "، للمواق (2/ 185)، وفيه قال:" (وانتقاب امرأة) من "المدونة"، قال مالك: إن صلت الحرة منتقبةً لم تُعِدْ. ابن القاسم: وكذا=

ص: 1320

وبَعْدَ هذا كله، نريد أن نصلَ إلى نَتِيجَةٍ، وهي: أنه ليس واجبًا تغطية ما هو عورةٌ في الصلاة فقط، بل قَدْ يلزم تغطية ما زاد عن العورة.

* قوله: (هَلْ يَتَنَاوَلُ الأَحْرَارَ وَالعَبِيدَ مَعًا).

يقصد بـ (الجنس الواحد) النساء، فإذا قيل:(امرأة) يدخل في ذلك الحرة دون الأَمَة؛ وعلى سبيل المثال حديث: "لا يَقْبل الله صلاة حائض إلَّا بخمارٍ"

(1)

، هذا يشمل الحُرَّة والأمة من حيث الإطلاق، لكن العلماء خصُّوا ذلك بالحرة؛ لوجود آثارٍ تختص بها الأَمَة، ولأن الأمَة تُبَاع وتُشْترى؛ فيحتاج المشتري إلى أن ينظر إلى وَجْهها ورأسها، ومواضع من بدنها.

ولذلك، وجدنا أنا أبا موسى رضي الله عنه حدَّد الموضع الذي لا يجوز النظر إليه، وما عداه فيُنظَر إليه، وكونه حدد ذلك؛ فالعلماء فَهمُوا منه أن هذه هي العورة، وما عَدَاه -علَا أو سَفُل- فليس من العَوْرة

(2)

.

* قوله: (أَمِ الأَحْرَارَ فَقَطْ دُونَ العَبِيدِ؟

(3)

، وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الحَرِيرِ).

= المتلثمة. اللخمي: يكرهان وتسدل على وجهها إن خشيت رؤية رجل".

وانظر في مذهب الشافعية: "كفاية الأخيار"، للحصني (ص 93)، وفيه قال:"ويُكْرَه أن يصلي في ثوبٍ فيه صورة وتمثيل والمرأة متنقبة إلا أن تكون في مسجد، وهناك أجانب لا يَحْتَرزون عن النظر، فإن خيف من النظر إليها ما يجر إلى الفساد، حرم عليها رفع النقاب ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 268)، وفيه قال:" (ويُكْره) أن تصلي (في نقاب وبرقع بلا حاجة). قال ابْن عبد البَر: أجمعوا علي أن على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام، ولأن ستر الوجه يخلُّ بمباشرة المصلي بالجبهة والأنف، ويغطي الفم، وقد نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عنه، فَإِنْ كان لحاجة كحضور أجانب، فلا كراهة".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

سبق ذكر هذا.

(3)

فالجمهور أخرج العبيد من العموم بدليل ما جاء عن عمر -رضي الله عن - وغيره، فلم يُسَوُّوا بين الأمة والحرة في العورة، وبعضهم ألحقها بالحرة في بعض الأحكام.=

ص: 1321

هذه مسألةٌ سَبَق الكلام عنها إجمالًا، ونعيدها بشيءٍ من التفصيل:

كثيرًا ما يرى الفُقَهاء بمَنْع صلاة الرجل في ثوب حرير، ويضيف بعضهم ألَّا يصلِّي عليه وقوفًا وركوعًا وسجودًا، وغير ذلك، إذْ لا يكفي عندهم أن يكون النهي مختضًا بالصلاة فيه، بل وعليه

(1)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم

= قال ابن المنذر: "في صلاة الأمة مكشوفة الرأس، ثبت أن عمر بن الخطاب قال لأَمَؤ رآها مقنعة: اكشفي عن رأسك، لا تَشبَّهي بالحرائر، وممَّن رأى أن ليس عليها أن تخمر: شريح، والنخعي، والشعبي، وما لك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وحكم المكاتبة والمدبرة والمعتق بعضها حكم الأمة، وكان عطاء يستحب أن تقنع الأمة إذا صلَّت. وكان الحسن البصري من بين أهل العلم يوجب عليها الخمار إذا تزوجت، أو اتخذها الرجل لنفسه ". انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(2/ 239، 240).

(1)

اتفق الفقهاء على حرمة لبس الرجال الحرير، واختلفوا في غير ذلك من وُجُوه الاستعمال.

انظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق "، للزيلعي (6/ 14)، وفيه قال:" (فصل في اللبس)، قال رحمه الله: (حرم للرجل لا للمرأة لبس الحرير إلا قدر أربع أصابع) أَيْ: حرم على الرجل لا على المرأة لبس الحرير، وإنما حرم لبس الحرير على الرجال دون النساء"

(وحل توسده وافتراشه)، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله.

وانظر في مذهب المالكيَّة: "شرح مختصر خليل "، للخرشي (3/ 302)، وفيه قال:" (ص) ومنكر كفرش حرير (ش)، أي: ومن شروط وجوب الإجابة ألا يكون هناك منكر، فإن كان سقطت كفرش حرير يجلس هو عليه أو يجلس عليه الرجال بحضرته ولو من فوق حائل؛ لأن علة الحرمة التَّرفّه بلين الفراش، وأما تغطية الجدران بالحرير من غير استناد إليه، فليس بممتنع ". وانظر: "البيان والتحصيل "، لمحمد بن رشد (18/ 617، 618).

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج "، للشربيني (1/ 581، 582)، وفيه قال: " (يحرم على الرجل) في حال الاختيار، وكذا الخُنْثى المشكل (استعمال الحرير)، وهو ما يحل عن الدودة بعد موتها. (بفرش وغيره) من وجوه الاستعمال إلا ما يأتي استثناؤه؟ كلبسه، والتدثُّر به، واتخاذه سترًا، أما لبسه للرجل فمُجْمَعٌ على تحريمه وللخنثى احتياظا. (ويحل للمرأة لبسه)، وقد انعقد الإجماع بعد عبد الله بن الزبير عليه (والأصح تحريم افتراشها) للسرف والخيلاء، بخلاف اللبس

(قلت: الأصح حل افتراشها) إياه (وبه قطع العراقيون وغيرهم، والله أعلم) لما مر". وانظر: "أسنى المطالب "، لزكريا الأنصاري (1/ 277).

ص: 1322

قال: "مَنْ لَبسَه في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة"

(1)

، والقصد بذلك الرجال.

وقال صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: "حرام على ذكور أمتي، حلٌّ لإناثها "

(2)

.

ولكنهم مُجمِعون على أن لبس ثوب الحرير حرام؛ سواء كان ذلك خارج الصلاة أو داخلها

(3)

، لكن محل الخلاف بينهم فيمن صلَّى في ثوب حرير، أو دار مغصوبة، أو ثوب مغصوب، إذْ إنَّ المصلي في هذه الحال جمع بين أمرين:

1 -

تأدية الواجب، لأنه فرض متعين عليه.

2 -

تلبُّسه بمعصية.

فَالأَئمَّة الثلاثة، ورواية لأحمد ليست مَشْهورةً يرون جواز صحة صلاتِهِ، ولأحمد رواية أخرى، وأقوال آخرين يَرَوْن بعدم صحَّتها؛ لأنه متلبسٌ بمَعْصيةٍ، فكيف يؤدِّي فرضًا حال ذلك

(4)

.

وكَي نخرج من الخلاف، علينا الرجوع إلى القاعدة الأصولية، وهي:"انفكاك الجهة"، فهذا أمر، وهذا أمرٌ آخر، فقد أدَّى واجبًا يثاب عليه، وارتكب معصيةً يُعاقَب عليها.

= وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 158)، وفيه قال:" (و) حرم (على غير أنثى) من رجل وخنثى حتى كافر لبس ما كله وما غالبه ظهورًا حرير (و) وحرم أيضًا على غير أنثى (افتراشه)، أي: الحرير. و (لا) يحرم افتراشه (تحت) حائل (صفيق)، فيجوز أن يجلس على الحائل (ويصلي عليه)؛ لأنه حِينَئذٍ مفترش للحائل، مجانب للحرير. (و) يحرم أيضًا على غير أنثى (استناد إليه، وتعليقه)، أي: الحرير".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

سبق.

(4)

سبقت هذه المسألة.

ص: 1323

وهنا مسألة أُخرى: أنَّ النهي عن ثوب الحرير ليس مُطلقًا، فهناك أثواب ليست حريرًا، لكن فيها شيءٌ من الحرير، وهذه مستثناة في حديث عمر:"إلا موضع إصبع أو ثلاثة أو أربع"

(1)

.

وَعَلَيه، استثنى العلماء مَنْ فيه حَكَّةٌ أو مرضٌ من الأمراض التي تتطلب لبس ثوب ناعم رقيق

(2)

، أو كان في حرب

(3)

، ونحو ذلك؛ لأننا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخَّص للزُّبير وعبد الرحمن بن عوف أن يلبسا الحرير، وهذا لا يخصهما، بل على إطلاقه

(4)

.

تبقى معنا قضية أُخرى فرع عن هذه المسألة، وهي:

لو أن حائكًا

(5)

(خياطًا) خاط خيطًا حريرًا لإنسان لا يجوز له لُبْسه، ولا عُذر لذلك الإنسان؟

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

سبقت هذه المسألة.

(3)

أنظر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"، للحصكفي (6/ 351)، وفيه قال:" (يحرم لبس الحرير ولو بحائلٍ) وهي رخصة عظيمة في موضع عمت به البلوى (أو في الحرب)، فإنه يحرم أيضًا عنده، وقالا: يحل في الحرب ".

وانظر في مذهب المالكية: "البيان والتحصيل "، لمحمد بن رشد (18/ 618)، وفيه قال:"واختلف أيضًا في إجازة لباس الحرير في الحرب، فأجازه جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك، لما في ذلك من المباهاة بالإسلام، والإرهاب على العدو، ولما يقي عند القتال من أدل وغيره من السلاح، فإن استشهد وهو عليه، نزع عنه على مذهب مَنْ لا يجيز له لباشه في الجهاد".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج "، للرملي (2/ 377)، وفيه قال:" (أو فُجَأءة حرب) جائز بضم الفاء وفتح الجيم والمد، وبفتح الفاء وسكون الجيم أي: بغتتها (ولم يجد غيره) يقوم مقامه للضرورة".

وفي مذهب الحنابلة روايتان، والمشهور الجواز. انظر:"كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 282)، وفيه قال:" (و) يباح لبس الحرير (في حرب مباح إذا تراءى الجمعان إلى انقضاء القتال ولو) كان لبسه (لغير حاجة)؛ لأنَ المنعَ من لبسه لما فيه من الخيلاء، وذلك غير مذموم في الحرب". وانظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 188).

(4)

سبق ذلك.

(5)

حَاكَ الثوب يَحوكُهُ حَوْكًا وحِياكةً: نسجَه. انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1582).

ص: 1324

الجواب: أن الحائك يأثم إذا كان عالمًا بالحُكْم، وعالمًا بأن ذلك الإنسان لا يجوز له لُبْسه؛ لأنه أعان على معصية، ومن أعان على معصية كان مشاركًا فيها

(1)

.

وذلك قياسًا على حامل الخمر، وعاصرها، وبائعها

(2)

، وكذلك قياسًا على ما يتعلَّق بالربا، "لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه"

(3)

.

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "البحر الرائق "، لابن نجيم (6/ 185)، وفيه قال:"سُئِلَ عمر النسفي عمَّن دفع إلى حائك غزلًا لينسج له عمامة من سداه فجاء بها منسوجةً، فقال صاحب الغزل: اشتريت منك ما في هذا المنسوج من الإبريسم بكذا، وقال الاخر: بعت، هل يصِح؟ فقال: بيع ما صار على الآمر للمأمور من الإبريسم السدا بالعقد الأول صار ملكًا للآمر. قال أبو الفضل: الإبريسم دين على الآمر، وأجرة العمل عليه".

وَانْظُرْ في مذهب المالكية: "المدخل "، لابن الحاج (4/ 24)، وفيه قال:"وكذلك يتعين عليه ألا يخيط أقباع الحرير للرجال كما لا يخيط ثوبًا حريرًا لهم؛ لأنه إنْ فعل ذلك كان معينًا لهم على ما لا يجوز، فبهان شْريكًا لهم في الإثم كما تقدم ".

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج "، للشربيني (1/ 582)، وفيه قال:"وسئل قاضي القضاة ابن رزين عمن يفصل الكلونات والأقباع الحرير ويشتري القماش الحرير مفصلًا ويبيعه للرجال، فقال: يأثم بتفصيله لهم وبخياطته وبيعه وشرائه كما يأثم بصوغ الذهب للبسهم. قال: وكذا خلع الحرير يحرم بيعها والتجارة فيها، وأما اتخاذ أثواب الحرير للرجل بلا لبسٍ، فأفتى ابن عبد السلام بأنه حرامٌ، لكن إثمه دون إثم اللبس ". وانظر: "حاشية البجيرمي على الخطيب"(3/ 228).

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 283)، وفيه قال:" (وما حرم استعماله من حرير) كله أو غالبه (ومذهب)، ومفضض منسوج أو مموه (ومصور ونحوها)؛ كالذي يتخذ لتشبه النساء بالرجال وعكسه (حرم بيعه) لذلك. (و) حرم (نسجه) لذلك (وخياطته) لذلك (وتمليكه)، لذلك وتملكه لذلك (وأجرته لذلك)، أي: للاستعمال".

(2)

معنى حديث أخرجه أبو داود (3674)، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وَعَاصرها، ومُعْتصرها، وَحَاملها، والمحمولة إليه "، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(2385).

(3)

أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده"(3725)، عَنْ عبد الله بن مسعود أنه قال:=

ص: 1325

والبعض يُفَصِّلون في حكم الأجرة التي أَخَذها؛ فيقولون: إنها مِنَ الكسب الخبيث، وعليه أنْ يتصدَّق به، ويكون تَصدُّقه عمَّا وقَع فيه مِنْ خَطَإٍ

(1)

.

فتأمَّل دقة العلماء في مثل هذه المسائل، إذْ لم يقف الأمر عندهم على اللباس، بل تعَدَّى إلى غير ذلك مما يتعلَّق به.

مَسْأَلة أُخرى: لَوْ أنَّ حائكًا حاك ثوبًا حريرًا لمَنْ يلبسه (أي: لامرأة أو لرجل صاحب عُذر)؛ فلَا شيء عليه. يدخل في هذا أيضًا الثياب المُحَلَّاة بالذهب، وما أشبه ذلك مِنَ الممنوعات، إذن، تختلف الأمور باختلاف مقاصدها، وهذه قاعدةٌ فقهيةٌ.

* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَجُوزُ)

(2)

.

سبق بيان هذا.

* قوله: (وَقَوْمٌ اسْتَحَبُّوا لَهُ الإِعَادَةَ فِي الوَقْتِ).

وهذا عند مَالِكٍ

(3)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: هَلِ الشَّيْءُ المَنْهِيُّ عَنْهُ مُطْلَقًا اجْتِنَابُهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟).

مُرَاد المؤلف أنَّ النهي جاء عن لبس ثوب الحرير: "لَا تَلْبسوا

= لا تصلح سفقتان في سفقةٍ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَعَن الله آكل الربا، وموكله، وشاهده، وكاتبه "، وحَسَّنه الأرناؤوط.

(1)

انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (3/ 605)، وفيه قال:" (و) عمل (ثياب حرير لذكر)، ويَحْرم عليه استعمالها لغير ضرورةٍ (و) يتجه (أنه) من استؤجر لعمل شيءٍ من ذلك (لا أجرة له)، لصرفه عمله فيما هو محرمٌ، وهو متجه. (لكن قال الشيخ) تقي الدين: (فلا يقضى على مستأجر بدفعها) -أي: الأجرة- (فإن دفعت لم يقض -على أجير بردها؛ كتفصيل عقود كفار محرمة، وأسلموا قبل قبض أو بعده ".

(2)

تقدَّم ذكره.

(3)

انظر: "شرح مختصر خليل "، للخرشي (1/ 249)، وفيه قال:"من صلى بحرير أو بذهب لابسًا لكلِّ، فإنه يعيد في الوقت، وإن انفرد باللبس مع وجود غيره خلافًا لابن حبيب القائل بإعادته أبدًا".

ص: 1326

الحرير؛ فإنَّ مَنْ لبسه في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة"

(1)

، وفي الذهب والحرير قال:"حَرَامٌ على ذكور أُمَّتي، حِلٌّ لإنَاثِهِم "

(2)

.

إذًا، هذا نهيٌ عامٌّ مُطلقٌ، فهل يبقى عامًّا يشمل الصلاة وغيرها؟ لأنَّ القائلين بالمنع يقولون: إذا مُنِعَ الإنسان مِنْ لبس الحرير خارج الصلاة، فلا يُمْنع منه

(3)

داخل الصلاة؛ فينبغي في التحريم إنْ لم يكن مساويًا على الأقل؛ فهو أَوْلَى داخل الصلاة.

* قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ، قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجُوزُ بِهِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ بِلِبَاسِهِ مَأْثُومًا، وَالصلَاةُ جَائِزَةٌ، قَالَ: لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ كَالطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ

(4)

، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ هِيَ نَؤعٌ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ المَغْصُوبَةِ، وَالخِلَافُ فِيهَا مَشْهُورٌ)

(5)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

الصواب أن يقال: فيمنع منه.

(4)

في مذهب الأحناف لا يعيد. انظر: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 404)، وفيه قال:" (قوله: والرابع: ستر عورثه)، أي: ولو بما لا يحل لبسه كثوب حرير وَإِنْ أَثِمَ بلا عذرٍ، كالصلاة في الأرض المغصوبة".

وفي مذهب المالكية ثلاثة أقوال، ومعتمد المذهب على أنه يعيد في الوقت. انظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 216، 217)، وفيه قال:" (كمُصلٍّ بحرير) لابسًا له عجزًا أو نسيانًا أو عمدًا مختارًا، فيعيد في الوقت (وإن انفرد) بلبسه مع وجود غيره خلافًا لمَنْ قال بالإعادة أبدًا". وانظر: "الجواهر الثمينة"، لابن شاس (1/ 117). وفي مذهب الشافعية: صلاته صحيحة، انظر:"البيان "، للعمراني (2/ 125)، وفيه قال:"ولا يجوز للرجل: أن يُصَلِّي في ثوب حرير ولا عليه؛ لأنه يَحْرم عليه لبسه في غير الصلاة، ففي الصلاة أَوْلَى، فإن صلى فيه، صحت صلاته؛ لأن النهي لا يختص بالصلاة".

وفي مذهب الحنابلة تبطل الصلاة، انظر:"كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 269)، وفيه قال:" "ومَنْ صلى ولو نفلًا في ثوب حرير) أو منسوج بذهب أو فضة (أو) صلى في ثوب (أكثره) حرير وهو (ممن يحرم عليه) ذلك: لم تصح صلاته إن كان عالمًا ذاكرًا ".

(5)

سبقت هذه المسألة.

ص: 1327

قياسُهُ ثوب الحرير على الطهارة قياسٌ مع الفارق، لأن الطَّهارةَ بنَوْعيها طهارةٌ من الحدث بنوعيه الأصغر والأكبر، وسيأتي الكلام -إن شاء الله- عن اشتراط الطهارة من النجس في الصلاة.

[الباب الخامس: اشتراط الطهارة للصلاة]

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(البَابُ الخَامِسُ، وَأَمَّا الطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَسِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ، أَيْ: مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا).

دَخَلَ المؤلِّف هنا في بَاب سَبَقَ أنْ تَعرَّضنا له، فقَدْ تكلَّمنا عن أبواب الطهارة بقِسْمَيْهَا: طهارةً مِن الحدَث، وطهارة مِن الخبَث، وقلنا: إن الطهارة من الحدث على نوعين:

1 -

طهارة من الخدث الأصغر: كخروج بول، أو غائط، أو دَم، ومتى يكون خروج الدم ناقضًا للوضوء أو غير ناقض.

2 -

وطهارة من الحدث الأكبر: وهو ما يُوجِبُ الاغتسالَ.

وَمَرَّ أيضًا ما يتعلَّق بالطَّهارة مِنَ الخبَث، وهي: الطهارة من النجاسة.

وَبيَّنا أقوال العلماء إذا ما كانت الطَّهارةُ مُعَلَّلةً أو غير معللة، أو معقولة.

وَسَيَعُود مرَّةً أُخرى في بحث بعض المسَائل كالصَّلاة في المقبرة، ومعاطن الإبل، وحكم ذلك.

ص: 1328

ومرَّتْ بِنَا عِدَّة أدلَّة عرَفنا منها أنه يُشْترط في المصلي خلُوُّ بدنه وثوبه وموضع صلاته من النجاسة، وذكرنا من الأدلة:

* قوله سبحانه وتعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]، وفيها عدة تفسيرات ذكرنا بَعْضها

(1)

.

* وقَوْل رسول صلى الله عليه وسلم للحائض: "إذا أَقْبَلَت الحَيْضة، فدعي الصلاة، فإذا ذهبت فاغسِلي عنك الدم، وصَلِّي "

(2)

، ومعروفٌ نجاسة دم الحيض

(3)

.

كذلك لمَّا سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن الثوب يصيبه دم الحيض؟ قال: "تَحتُّه

(4)

، ثمَّ تَقْرصه

(5)

بالمَاء، ثم تَنْضحه

(6)

ثم تصلي فيه"

(7)

.

وأيضًا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في صاحبي القبر: "إنهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ"

(8)

، أي: ليس كبيرًا عند الناس، ثم قال: "أمَّا أحدُهُما

(1)

انظر: "النكت والعيون" للماوردي (6/ 135، 136)، وفيه قال:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} فيه خمسة أقاويل:

أحدها: أن المراد بالثياب العمل.

الثاني: القلب.

الثالث: النفْس.

الرابع: النساء والزوجات.

الخامس: الثياب الملبوس على الظاهر.

(2)

أخرجه البخاري (331)، واللفظ له، ومسلم (333/ 62) عن عائشة.

(3)

تقدَّم.

(4)

"الحَتُّ": فَرْكك شيئًا عن ثَوب ونحوه. انظر: "العين "، للفراهيدي (3/ 21).

(5)

"قَرصت الدَّم من الثَّوب بالماء"، أي: قطعته. انظر: "تفسير غريب ما في الصحيحين "، للحميدي (ص 548).

(6)

"نضحت الشيءَ بالماء"، إذا رششته عليه. انظر:"جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 548).

(7)

أخرجه البخاري (227)، ومسلم (291/ 110).

(8)

جُزء من حديث أخرجه البخاري (218)، ومسلم (292/ 111).

ص: 1329

فكان لا يَسْتبرئ من البول"

(1)

، وفي بعض الروايات:"لَا يَسْتنزه من البول "

(2)

، متفق عليه.

وقال في حديث آخر: "تَنزَّهوا من البول، فإن عامَّة عذاب القبر منه "

(3)

، وهذا فيه كلامٌ

(4)

، وهناك أحاديث كثيرة فيما يتعلَّق بالطهارة من النجس.

وكذلك فصَّلنا في حكم ما يخرج من السبيلين من بول أو غائط أو دم، وذكرنا أدلة نجاسته، وَوَقع معنا خلافٌ يسيرٌ فيما يتعلَّق بخروج الحَصَا عند المالكية، فَإنَّهم في رِوَايةٍ: لا يرون نجاسة ذلك، وذكرنا أن الشافعية يَقْصرون بعض الأمور على ما يتعلَّق بالسبيلين، ومر معنا اختلافهم في الدم ومقداره، واختلافهم في نجاسات الحيوانات، ومرَّت معنا مسألة طهارة ريق الإنسان وعرقه، واختلافهم في بقية أجزائه بعد إجماعهم على أدلة نجاسة ما يخرج من السبيلين عند الإنسان، أما عند الحيوانات فهي أقسام:

* - مأكول اللحم، وهذا قَسَّمه العلماء إلى ثلاثة أقسامٍ:

1 -

ريقه وما أشبه ذلك؛ وهذا طاهر.

2 -

بوله وروثه؛ على الصحيح أنه طاهر.

3 -

دمه؛ وهذا اختلفوا فيه.

(1)

هذه الرواية ليست في "الصحيحين"، وإنما أَخْرَجها النسائي (2069)، عن ابن عباس، قال: مَرَّ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بقَبْرين، فقال: "إنَّهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبيرٍ، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله

". الحديث. وصححه الأَلْبَانيُّ.

(2)

أخرجه مسلم (292)، بلفظ:"وكان الآخر لا يستنزه عن البول "، أو "من البول".

(3)

أخرجه الدارقطني في "سننه "(1/ 231)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(280).

(4)

ممَّن ذكر ضعفه: ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"(1/ 157)، وفيه قال:"رواه الدارقطني من رواية أبي جعفر الرازي، وهو متكلَّم فيه. قال ابن المديني: ثقة وكان يخلِّط. وقال أحمد: ليس بقوي. وقال أبو زرعة: يهم كثيرًا. وقال الدارقطنيُّ: المحفوظ مرسل".

ص: 1330

* واختلفوا أيضًا في دم ما لا نفس له سائلة، مثل: البراغيث والذباب، وما أشبه ذلك، على خلاف بينهم أيضًا في الذباب.

*واختلفوا في السباع، فهم يقسمونها إلى أقسام بعد إجماعهم أيضًا -ما عدا المالكية- على نجاسة الكلب والخنزير، ومر معنا أثر:"يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإننا نرد على السباع"

(1)

.

والكلامُ في كل هذا طويلٌ، لكن المؤلف عرَّج عليه، شأنُهُ شأن الفقهاء عامة في ذكرهم أبواب الطهارة مفصلة، ثمَّ العودة إليها، لينبهوا على أن المصلي ينبغي عليه أن يكون طاهر الثياب، والبدن، والبقعة التي يصلي فيها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صُبُّوا على بَوْل الأعرابي ذَنوبًا

(2)

من ماءٍ"

(3)

.

إذًا، هي أشياء لا بُدَّ منها، والجمهور مُتَّفقون (الحنفية والشافعية والحنابلة) على أن الطهارة من النجس شرط في صحة الصلاة، وخالف في ذلك المالكية في روايتين عنهم، ووافقوا الجمهور في الرواية الثالثة، وللكلام تفاصيل طويلة، ولبعض السلف أيضًا نقاشات في هذا

(4)

.

* قوله: (وَأَمَّا الطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَسِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُنَّة مُؤَكَّدَةٌ! فَيَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ أَيْ: مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا).

قوله: "إنَّها سُنَّة مؤكدةٌ"، يُشير إلى روايةٍ في مَذْهب المالكية، وهي ليست الرَّاجحة، ولا المشهورة، وإنما الرَّاجح عندهم التَّفريق بين الناسي وغيرهم

(5)

.

(1)

أخرجه مالكٌ في "الموطإ"(1/ 24)، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(486).

(2)

"الذَّنوب": الدلو الملأى ماءً. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 129).

(3)

أخرجه أبو داود (380)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(406).

(4)

سبقت هذه المسألة.

(5)

بل الراجح عندهم هو التفريق بين الذاكر والناسي، فإزالة النجس واجبة على الذاكر، لَكن مَنْ نسي فلا شيء عليه. انظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"=

ص: 1331

* قوله: (وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا فَرْضٌ بِإِطْلَاقٍ

(1)

، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ، وَبَجُوزُ أَلَّا يَقُولَ ذَلِكَ

(2)

؛ وَحَكَى عَبْدُ الوَهَّاب عَنِ المَذْهَبِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ)

(3)

.

قصد بالمذهبِ المالكيةَ.

* قوله: (أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ).

هذا مَذْهب بقيَّة الأئمَّة

(4)

.

* قوله: (فِي حَالِ القُدْرَةِ وَالذِّكْرِ).

لَكن لَا يُقيِّدونه بالقدرة والذِّكر، وهذه مَسْألةٌ أُخرى لا يَعْتبرها بقية الفُقهَاء أصلًا، وإنما يعتبرون الأصل، أنَّ الطهارة من النجس في الثوب والبدن والبقعة شرط

(5)

.

= (1/ 64)، وفيه: تجب إزالة

إلخ. أي: وجوب شرط كما يأتي، قوله: المصلي: المراد به مريد الصلاة، وأما إن لم يردها، فلا تجب إزالتها، بل تندب إذا لم تكن خمرًا، وأراد بالمصلي ما يشمل الصبي. قوله: وبدنه أي: ظاهره. ومن ذلك دأخل أنفه وأذنه وعينه، فَهي من الظاهر في طهارة الخبث، ومن الباطن في طهارة الحدث. قوله:"إن ذكر وقدر"، وهذا هو المشهور من أقوالٍ أربعةٍ الذي انبنت عليه فروع المذهب". وانظر:"التبصرة"، للخمي (1/ 106، 107).

(1)

وهم الجمهور خلافًا للمالكية كما سبق.

(2)

أي أنَّ الذين اشترطوا الطهارة من النجس وهو الجمهور، وقد سبق.

(3)

انظر: "التلقين في الفقه المالكي "، للقاضي عبد الوَهَّاب (1/ 42)، وفيه قال:"وأما إزالة النجاسة، فاختلف فيه، هل هو من شُرُوط الصحة أو ليس من شرطها، فإذا قيل ت ليس من شرطها، فلا نقول: إنه ليس بفرضٍ، ولكن ليس كل الفروض من شرط الصحة، وإذا قيل: إنه من شرط الصحة، فذلك مع الذكر والقدرة".

(4)

سبق.

(5)

اشتراط طهارة الثوب والبدن والمكان في الصلاة هو قول الجمهور، وعند المالكية شرطٌ مع الذكر.

انظر في مَذْهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (1/ 702)، وفيه قال: " (إذا وجب التطهير)، ش: أي تطهير المصلي بما ذكرنا، م:(في الثوب)، ش: أي: في اشتراط طهارة ثوب المصلي بما ذَكَره من الآية والحديث، م:(وجب في البدن)،=

ص: 1332

ثمَّ يأتون بعد ذلك في مَسْألةٍ مثل: لو أن إنسانًا صلَّى وثوبه غير طاهرٍ، أو هناك نجاسة في بدنه؛ فبعضهم يفصِّل القول، ويفرِّق بين أن يكون عالمًا أو غير عالمٍ، وبين أن يذكر ذلك في الصلاة أو يعرفه بعد الصلاة، أو يَذكُر ذلك قبلَ خروج الوقت أو بعده

(1)

.

والصَّحيح في هذا جملةً: أنَّ مَن صلَّى وعليه نجاسة ولم يعلم بها إلَّا بعد الفراغ من الصلاة؛ فصلاتُهُ صحيحة، هذا هو الرأي الظاهر في المسألة

(2)

.

= ش: أي: وجب التطهير في بدن المصلي، م:(والمكان)، ش: أي: وفي المكان الذي يصلي عليه، م:(لأنَّ الاستعمال)، ش: أي استعمال المصلي، م:(في حالة الصلاة يشتمل الكل)، ش: أي الثوب والبدن والمكان ".

وانظر في مذهب المالكية: "مواهب الجليل"، للحطاب (1/ 470)، وفيه قال:"طهارة الخبث وهو النجس من البدن والثوب والمكان ابتداءً ودوامًا، لكن مع الذكر للنجاسة والقدرة على إزالتها كما تقدم ذلك في فَصْل إزالة النجاسة".

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج "، للهيتمي (2/ 120)، وفيه قال:" (و) خامسها (طهارة النجس) الذي لا يُعْفى عنه (في الثوب) وغيره من كل محمولٍ له، وملاقٍ لذلك المحمول (والبدن)، ومنه داخل الفم والأنف والعين، وإنما لم يجب غسل ذلك في الجنابة، لأن النجاسة أغلظ (والمكان) الذي يصلي فيه".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع "، للحجاوي (1/ 95)، وفيه قال:"طهارة بدن المصلى وثيابه وموضع صلاته وهو محل بدنه وثيابه من نجاسة غير معفؤ عنها شرط لصحة الصلاة، فمتى لاقاها ببدنه أو ثوبه أو حملها عالمًا أو جاهلًا أو ناسيًا، أو حمل قارورة فيها نجاسة، أو آجرة باطنها نجس، أو بيضة مذرة أو فيها فرخ ميت أو عنقود عنب حباته مستحيلة خمرًا -قادرًا على اجتنابها، لم تصح صلاته ".

(1)

سبق تفصيل هذا.

(2)

تكلم الشارح على هذه المسألة، وهنا زيادة تفصيل وتوضيح هو قول عند المالكية، والقول القديم للشافعية، ورواية عن الحنابلة، والمشهور على خلافها، وقد سبق هذا، وأكثر الفقهاء على إعادة صلاة مَنْ صلى في هذه الحالة، وهو مَذْهب الأحناف والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة. وفي مذهب المالكية قولان مشهوران، الأول: يعيد في الوقت وهو المعتمد. والثاني: يعيد أبدًا.

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (1/ 564)، وفيه قال: "وكذا الرَّجل لو صلَّى في ثوبٍ نجسٍ وفي رحله ثوب طاهر قد نسيه، أو صلى مع=

ص: 1333

ودليل ذلك: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنعليه، إذ خلعهما فوضعهما عن يساره، فرأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلعوا نعالهما، فلما قضى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بالكم خلعتم نعالكم؟ "، قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَخْبَرني جبريل أنَّ فيهما قذرًا فَخَلعتهما""

(1)

.

= النجاسة، ونسي ما يزيلها، أو محدثًا نسي غسل بعض الأعضاء أو ستر العورة، أو صلى مع النجاسة ناسيًا، تجب الإعادة".

وانظر في مذهب المالكية: "مواهب الجليل"، للحطاب (1/ 132)، وفيه قال:"اختلف في رفع النجاسة من الأبدان والثياب، فقيل: فرض، وهو قول ابن وهب، فيعيد مَنْ صلى بثوب نجسٍ أبدًا؛ عالمًا كان أو جاهلًا أو ناسيًا، وقيل: إنها سنة، وهو المشهور، وعليه فيعيد مَنْ صلى بثوبٍ نجسٍ في الوقت إن كان ناسيًا، أو لم يجد غيره، وأما مَنْ صلى به متعمدًا أو جاهلًا وهو يجد ثوبًا طاهرًا أعاد أبدًا لتَرْكه السنة عامدًا مستخفًّا بصلاته، أو جاهلًا، ولا يعذر بجهله".

وَانظر في مذهب الشافعية: "المنهاج القويم "، للهيتمي (ص 114)، وفيه قال:" (ولَوْ صلَّى بنجسٍ) لا يعفى عنه (ناسيًا) له (أو جاهلًا) به أو بكونه مبطلًا ثم تيقن كونه فيها (أعادَها) وجوبًا؛ لأنَّ الطهر عنه من قَبيل الشروط، وهي من باب خطاب الوضع، وهو لا يؤثر فيه الجهل والنسيان ". وانظر: "المهذب"، للشيرازي (1/ 118). وانظر في مشهور مذهب الحنابلة:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 362)، وفيه قال:" (وتبطل) صلاته (بعجز عن إزالة ما)، أي: نجاسة (سقطت عليه سريعًا) لإفضائِهِ إلى استصحاب النجاسة في الصلاة زمنًا طويلًا، أو لعمل كثير إنْ أخذ يطهرها. (أو جهل عينها) بأنْ أصَابه شيءٌ لا يعلمه طاهرًا أو نجسًا، ثم علم نجاسته (أو) جهل (حكمها) بأنْ لم يعلم أن إزالتها شرط للصلاة (أو نسيها)، أي: النَّجاسة، (أو) جهل (أنها كانت في الصلاة ثمَّ علم)، فلا تصح صلاته على المذهب ". وانظر: "الروايتين والوجهين "، لأبي يَعْلى الفراء (1/ 153).

(1)

أقرب رواية للفظ الشارح ما أخرجه البزَّار في "مسنده"(5/ 16)، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: خَلَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نعليه، فَخَلع من خلفه، فقال:"ما حَملَكم أن خلعتم نعالكم؟ "، قالوا: رأيناك خلعتَ فخلعنا، قال:"إنَّ جبريلَ أخبرني أن فيهما قذرًا، فخلعتهما لذلك، لا تخلعوا نعالكم". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 56): "رواه البزار والطبراني في "الأوسط" و"الكبير". قال البزار: لا نعلم رواه هكذا إلا أبو حمزة. انتهى. وأبو حمزة هو ميمون الأعور ضعيف".

وبنحوه أخرجه أبو داود (650)، عن أبي سعيد الخدري، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(284).

ص: 1334

إذًا، الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى فيهما على أنهما طاهرتان، ولم يَخْلعهما إلا لما أخبره جبريل، فاقتدوا به دون أن يعلموا السَّبب؛ لأنه قدوتهم وأُسوَتهم، وهذا أيضًا مِمَّا يستدل به العلماء علَى أنه لا يُتكَلَّم في الصَّلاة، مع أنه له علاقةٌ بالصَّلاة.

ثمَّ أخْبَرهم بعد ذَلكَ بوُجُود قذرٍ فيهما، وهذا عمدة استدلال المالكية فيما يتعلَّق بعدم اشتراط الطهارة من النجاسة، مع أنه دليلٌ يرد عليه اعتراضٌ؛ لأنه في حالة مَنْ لم يعلم؛ ولذلك نجد أن مذهب المالكية طردت في هذا المذهب، فَمرَّةً قالوا: سُنَّة، وَمرَّةً قالوا: شرطًا، وثالثةً فرقوا بين القادر وغيره وبين المتعمد

(1)

.

وَتَفْصيل المالكيَّة في استدلالهم بهذا الحديث: أنَّ الطهارَةَ لو كانت شرطًا، لاستأنف الرَّسول صلى الله عليه وسلم الصلاة، لكنه بَنَى على ما كان منه واستمرَّ، فكونه لَمْ يقطع صلاته، ولم يبطلها دليلٌ على أنَّ الطهارة مِنَ النجاسة ليست شرطًا، إذْ لو كانت شرطًا لَمَا استمر في صلاته

(2)

.

وناقش الجمهورُ المالكِيَّةَ في أن فيهما قذرًا، والقذر قد يحمل على ما تَسْتقذره النفس، فالبصاق ليس نجسًا، ومع ذلك أيضًا تَسْتقذره النفس

(3)

،

(1)

سبق بيان هذا.

(2)

وهَذَا هو قول عند المالكية، لكن المشهور عنهم ما سبق، إما أنْ يعيدَ في الوقت، أو يعيد أبدًا.

انظر هذا القول في: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف "، للقاضي عبد الوهاب (1/ 139)، وفيه قال:"ودليلنا على أنه إذا صلى بها ساهيًا أو مع عدم العلم، أجزأه خلافا للشافعي. ما روي أنه عليه السلام (صلى ثم وجد في ثوبه لمعةً من دم، فَصَرَّهُ وأنفذه ليغسل)، ولم ينقل أنه أعاد، ولا أنه أمرهم بالإعادة. وُيرْوَى أنه عليه السلام خلَع نَعْليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فلمَّا فرغ قال: "ما بَالكُمْ خَلَعتم؟ ". قالوا: رأينَاك خلعتَ فخلعنا، فقال: "إنَّ جبريل أخبرني أن فيهما قذرًا"، ويُرْوى: "نجسًا" موضع الدليل أنه بنى، ولم يقطع مع العِلْم بها".

(3)

انظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي "، للبغوي (2/ 201)، وفيه قال:"ومَنْ قال بالإعادة، حَمَل ذلك الأذى على ما يَسْتقذره الإنسان من الطاهرات كالنُّخامة ونحوها، أمر بمسحه تنزيهًا للمسجد عنها".

ص: 1335

فقد كانوا فيما مضى يبصقون في ثيابهم

(1)

، فلو كان نجسًا لما فعلوه

(2)

، ومع ذلك فقد نَهى النبيُّ أن يبصق في المسجد عنايةً به

(3)

، لا أن البصاق نجش، فقد يكون أنَّ ما كان في النعلين شيءٌ يسيرٌ، كدمٍ أو نحوه

(4)

، وليكن ما يكون، فإنَّ هذا في نظري يُحْمَل على مَنْ لم يكن عَالمًا.

(1)

من ذلك ما أخرجه أبو داود (389)، عن أبي نضرة، قال:"بزق رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه، وحك بعضه ببعض "، وصحَّحه الأَلبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(414).

(2)

انظر، في مذهب الأحناف:"المبسوط"، للسرخسي (1/ 52)، وفيه قال:"والدليل على طهارة البزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان في محو بعض الكتابة به، والدليل على المخاط أن النبي صلى الله عليه وسلم امتخط في صلاته، فأخذه بثوبه، ودلكه، ثم المخاط، والنخامة سواء". وانظر في مذهب المالكية: "حاشية الدسوقي"(1/ 51)، وفيه قال:" (قوله: وصفراء)، أي: ومن الطاهر صفراء وبلغم وهو المعروف بالنخامة (قوله: من آدمي) أن سواء كان كلٌّ من الصفراء والبلغم من آدمي (قوله: أو غيره)، كان ذلك الغير من مباح الأكل أم لا".

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (1/ 287)، وفيه قال:" (قوله المستقذر)، أي: ولو طاهرًا كالبصاق والمخاط والمني ".

وَانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 109)، وفيه قال:" (وسائل من فم): ذكر أو أنثى صغير أو كبير (وقت نوم) طاهر كالبصاق ".

(3)

من ذلك ما أخرجه أبو داود (480)، عن أبي سعيد الخدري، أن النبيٍ صلى الله عليه وسلم كان يحب العراجين، ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد، فرأى نخامة في قبلة المسجد فحكها، ثم أقبل على الناس مغضبًا، فقال:"أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه؟ إنَّ أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه عز وجل، والمَلَك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه، ولا في قبلته، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه، فإن عجل به أمر فليقل هكذا"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن أبي داود".

(4)

هذا ما تعامل به الجمهور مع الحديث السابق.

انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (2/ 735، 736)، وفيه قال:"قال أصحابنا: قليل النجاسة معفو عنه؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعلَه في الصلاة، فلما سلم قال: "أَخْبَرني جبريل أن عليهما أذى"، ورُوِيَ: "سرجين"، وروي: "دم حلمة"، ولم يستأنف الصلاة، فلَوْلَا أن قليل النجاسة معفوٌّ عنه لاستأنف ".

وَانظر في مَذْهب الشافعية: "المجموع شرح المهذب "، للنووي (3/ 156)، وَفِيهِ قال:"ومَنْ قال بالجديد أجاب عن الحديث بأن المراد بالقذر الشيء المستقذر؛ كالمخاط ونحوه، وبدم الحلمة إن ثبت الشيء اليسير المعفو عنه، وإنما خَلَعه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تَنزُّهًا".=

ص: 1336

فإذا كان الإنسان قَدْ صلَّى صلاةً وهو متلبس بنجاسة لا يعلم بها إلا بعد فراغ الصلاة؛ فنرَى أنَّ هذا الدليل وغيره من الأدلة حُجَّة للذين يقولون بأن الصلاة صحيحة، وأنه لا تلزمه الإعَادَة

(1)

.

* قوله: (وَالقَوْلُ الآخَرُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا، وَالَّذِي حَكَاهُ مِنْ أَنَّهَا شَرْطٌ لَا يَتَخَرَّجُ عَلَى مَشْهُورِ المَذْهَبِ مِنْ أَنَّ غَسْلَ النَّجَاسَةِ سُنَّة مُؤَكدَةٌ

(2)

.

القَوْلُ هنا على مَشْهور المذهب، لكنه ليسَ صحيح المذهب

(3)

.

ويَخْتلف المشهور عن الصحيح، فلو قلنا: مشهور مذهب الشافعية أو الحنابلة أو الحنفية قَدْ لا يكون هو الصحيح، وقد يكون الصحيحُ هو غير المشهور؛ لأن الصحيح في المذهب هو الذي يلتقي مع الأدلة الصحيحة، أما الرأي -وَإِن اشتهر واستفاض في المذهب- فهو رأيٌ قد يستند إلى أدلةٍ أَوْ لا، فالاشتهار لا يُعْتبر حُجَّةً.

= وَانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 361)، وفيه قال:" (أو سقطت) النجاسة (عليه فزالت أو أزالها سريعًا)، فَتَصح صلاته؛ لحَدِيثِ أبي سَعِيدٍ "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فخلع الناس نعالهم

ولأن من النجاسة ما يُعْفى عن يسيرها، فعفي عن يسير زمنها، ككشف العورة".

بل وردَّ بعض المالكية على هذا الحديث. انظر: "شرح التلقين "، للمازري (1/ 466).

(1)

وهو قول عند المالكية، والقول القديم في مذهب الشافعية، ورواية عن الحنابلة كما سبق.

(2)

سبق هذا.

(3)

يقصد الشارح أن مشهور المذهب هو السنية، لكن صحيح المذهب على شرطية إزالة النجاسة.

وانظر: "المنتقى شرح الموطإ" للباجي (1/ 41)، وفيه قال:"وإنما الخلاف في الإزالة هل هِيَ شرط في صحة الصلاة أم لا، وهذا هو الصحيح عندي .. والدليل على وُجُوب إزالة النجاسة قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}، ولا خلاف أنه ليست هاهنا طهارة واجبة للثياب غير طَهَارتها من النجاسة".

ص: 1337

* قوله: (وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى القَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالقُدْرَةِ).

بَيَّنَّا هذه القضيَّة من قبل، وأنها لا ينبغي أن تُتَّخذ أصلًا، وإنَّما هي فرعٌ، لأننا نتكلَّم عن شرطية إزالة النجاسة في صحة الصلاة بالنسبة للمصلِّي، فلما نأتي إلى مسألة فرعية كإنسان صلى وهو لا يعلم أنه متلبسٌ بنجاسة، ثم فرغ من صلاته أو حتى تذكَّر فأزالها" وحينها صار متصلًا بنجاسةٍ؛ فهذه الصورة تختلف؛ لأنها فرعٌ عن تلك، وهذا هو رأي الجمهور

(1)

.

* قوله: (وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ فِي كتَابِ الطَّهَارَةِ).

مَضَتْ مُفصَّلةً بالنسبة للمؤلف، وقد زِدْنَاها تفصيلًا فيما مَضَى.

* قوله: (وَعُرِفَ هُنَاكَ أَسْبَابُ الخِلَافِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَاهُنَا الكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ هَلْ مَا هُوَ فَرْضٌ مُطْلَقٌ مِمَّا يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ وَالحَقُّ أَنَّ الشَّيْءَ المَأْمُورَ بِهِ عَلَى الإِطْلَاقِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ شَيْءٍ مَا آخَرَ مَأْمُورٍ بِهِ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ إِلَّا بِأَمْرٍ آخَرَ، وَكذَلِكَ الأَمْرُ فِي الشَّيْءِ المَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى الإِطْلَاقِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ شَيْءٍ مَا إِلَّا بِأَمْرٍ آخَرَ).

لَكن هَذَا التعليل الذي ذَكَره المؤلف تعليل مجمل، لكننا إذا رجعنا إلى حديث أسماء: إحدانا يصيب ثوبها دم الحيض، كيف تصنع أو ما تصنع؟ يقول صلى الله عليه وسلم:"تَحتُّه ثم تَقْرصه بالمَاء، ثم تنضحه ثم تُصلِّي فيه "

(2)

، نجد أنه رتَّب الصلاة فيه بعد التطهير؛ فدلَّ ذلك على أن طهارة ذلك مطلوبة.

(1)

سبقت هذه المسألة.

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1338

" قوله: (وَكَذَلِكَ الأَمْرُ فِي الشَّيْءِ المَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى الإِطْلَاقِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ شَيْءٍ مَا إِلَّا بِأَمْرٍ آخَرَ).

هَذَا صَحيحٌ، لكن نحن عندنا أدلةٌ تدلُّ على أن الطهارة من النجاسة مطلوبة.

[الباب السادس: المواضع التي لا يصلى فيها]

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(البَابُ السَّادِسُ، وَأَمَّا المَوَاضِعُ الَّتِي لا يُصَلَّى فِيهَا).

مَوَاضعُ أداء الصلاة جاءت فيها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: "أُعْطيتُ خمسًا لم يُعطهن أحدٌ قبلي من الأنبياء

"

(1)

، وهذه من خَصَائصه صلى الله عليه وسلم الَّتي خصَّه الله بها. وفي رِوَاياتٍ: "أُعْطيت

"، أكثر من خمس

(2)

.

وَالشَّاهد قَوْله: "وَجُعلَتْ لي الأَرْض مسجدًا وطهورا، فأيما رَجُلٍ من

(1)

أخرج البخاري (438)، واللفظ له، ومسلم (3/ 521)، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعلَت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحلَّت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة".

(2)

أخرجها أحمد في "مسنده"(9337)، عن أبي هُرَيرة، قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلت على الأنبياء بستٍّ "، قيل: ما هن أي رسول الله: قال: "أعْطيت جَوَامع الكلم، وَنُصرت بالرُّعب، وأُحلَّت لي الغنائم، وجُعلَت لي الأَرْض طهورًا ومسجدًا، وأُرْسلت إلى الخلق كافَّة، وختم بي النبيُّون "، وصحَّحه الأرناؤوط.

ص: 1339

أمتي أدركته الصلاة، فليصلِّ فإنه مسجدٌ"، والحديث في "الصحيحين"

(1)

.

وفي رِوَايةٍ في "الصحيحين" أيضًا: "وتربتها طهورًا"

(2)

.

وهذه أصرح من الرواية الأولى؛ فالإنسان يصلي في أيِّ مكانٍ، وجُعِلَتْ تربتها طهورًا، فإذا عدم الماء تيَمَّم.

وفي روايةٍ أُخرى: "فأَيْنَما أدركته الصلاة فليُصلِّ"

(3)

، و"أين" ظرف زمان

(4)

.

وفي بعض الرِّوايات: "فحيثما أدركته الصلاة

"

(5)

، و"حيث" ظرف مكان

(6)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم (522/ 4)، عن حذيفة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلنا على الناس بثلاثٍ: جُعلت صفوفنا كصفوت الملائكة، وجُعلَت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء"، وذكر خصلةً أُخرى.

(3)

أخرج النسائي (432)، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطيت خمسًا لم يُعْطَهنَّ أحدٌ قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شَهْرٍ، وجُعلَت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأينما أدرك الرجل من أُمَّتي الصلاة يصلي، وأعطيت الشفاعة ولم يعط نبي قبلي، وبُعثْت إلى الناس كافة، وكان النبي يُبْعث إلى قومه خاصة"، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ.

(4)

الصواب أنها ظرف مكان.

انظر: "البحر المحيط "، لأبي حيان (1/ 569)، وفيه قال:"أين: من ظروف المكان، وهو مبنيٌّ لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه، وفي الشرط معنى حرفه، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده "ما"، ومما جاء فيه شرطًا بغير "ما" قوله: أين تضرب بنا العداة تجدنا".

(5)

أخرجه البخاري (3425)، ومسلم (520/ 2)، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال:"المسجد الحرام". قلت: ثم أي؟ قال: "ثمَّ المسجد الأقصى، قلت: كَمْ كان بينهما؟ قال: "أَرْبَعون "، ثم قال: "حَيْثما أدركتك الصلاة فَصلِّ، والأَرْض لك مسجدٌ".

(6)

انظر: "الدر المصون "، للسمين الحلبي (1/ 281)، وفيه قال:"حيث: ظرفُ مكانٍ، والمشهور بناؤُها على الضمِّ لشَبَهِها بالحرفِ في الافتقارِ إلى جملةٍ، وكانت حركتُها ضمةً تشبيهًا بـ "قبل "و"بعد".

ص: 1340

إذن، يَتبيَّن لنا مِنْ هذا أن الأرض كلها مسجد، لكن متى أدركتك الصلاة فَصلِّ؛ هل يكون هذا على إطلاقه أو أن هناك أدلة أُخرى خصت مواضع بعَدَم الصلاة فيها كالمقبرة، والحمام، والمجزرة، والمزبلة، وقارعة الطريق التي يُسمِّيها بعض الفقهاء حجة الطريق، وسطح الكعبة، ومعاطن الإبل

؟

الجواب: وَقَعَ خلافٌ بين العلماء، فمنهم مَنْ تمسك بهذا الحديث ورواياته الصحيحة، وهي كلها أدلة عامة على أن الأرض كلها مسجد، ومنهم مَنْ خصص مواضع بعدم الصلاة؛ لورود النهي عن ذلك.

وَسَوْف يعرض المؤلف لاحقًا كل هذا إن شاء الله، وهل كان النهي تعبديًا، والعبادة غير معقولة المعنى كالنية مثلًا؛ فلَا يُبْحث عن العلة، وسوف يأتي كل هذا.

والفقهاء أحيانًا يلتقون عند مسألةٍ على أنها عبادة توقيفية، أي: غير معقولة المعنى، وأحيانًا يقولون: مُعلَّلة المعنى، أَيْ: مُدرَكة، وأحيانًا يختلفون: منهم مَنْ يقول: معقولة، ومنهم مَن لا يقول

(1)

، ومن ذلك بعض المسائل التي معنا؛ باستثناء هذه المسائل السبع، سوى مسألة واحدة، وهي: الصلاة على بيت الله (الكعبة)، إذْ بقية المسائل في الجملة أكثر الفقهاء يعللون مَنْع الصلاة فيها لكونها مظنَّة النجاسة، أما بيت الله فلا

(2)

.

(1)

انظر: "الموافقات"، للشاطبي (2/ 9 - 13)، وفيه قال:"وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا، وزعم الفخر الرازي أن أحكام الله ليست معللةً بعلة ألبتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى مُعلَّلة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين. والمعتمد إنَّما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وُضعَتْ لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسُّنَّة، فأكثر من أن تُحْصى، كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ".

(2)

انظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 38)، وفيه قال: "ونُهِيَ عن الصلاة في سبعة مواطن: المزبلة لقذرها، والمجزرة للدماس، والمقبرة. فقيل: على العموم،=

ص: 1341

‌أمَّا عن المَوَاضع الست:

‌فأولها: المقبرة:

تعريفها: مكان يُدْفن فيه الموتى

(1)

، ومعلوم أن الميت له صديد

(2)

، ولحم، ودم، وقد تُنْبش

(3)

المقبرة، فيختلط الدم بعظام موتى وصديدهم، وغير ذلك؛ فيُؤثِّر هذا في الأرض، أو نحو ذلك

(4)

.

‌ثانيها: الحَمَّام:

ويُقصد به المواضع التي تُغسَل فيها النجاسات وغيرها، لا الذي تُقضى فيه الحاجة من بولٍ وغائطٍ؛ لذلك لم يرد فيه كلام؛ لأن حاله معروف

(5)

.

‌ثالثها: المجزرة،

وهي محل الذبح، وفيها دماء

(6)

.

= وقيل: يختص النهي بمقبرة المشركين، ومحجة الطريق؛ لأنه لا يؤمن من المرور ولا النجاسة، والحمام للأوساخ، فإن طهر فيه موضع جاز، ومعان الإبل وهو غير معلل على الأصح، وظهر الكعبة. وقيل: إنْ كان بين يديه جزء من بنائها، جاز، وتمنع -في المذهب- الفرائض داخل الكعبة". وانظر:"المغني"، لابن قدامة (2/ 52).

(1)

"المقبرة": موضع القبور ومدافن الموتى، سُمِّيت باسم الواحد من القبور. انظر:"مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (1/ 386).

(2)

"الصديد": الدم والقيح الذي يسيل من الجسد. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (3/ 15).

(3)

"النبش": استخراجك الشيء المدفون. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 345).

(4)

انظر: "معالم السنن"، للخطابي (1/ 147)، وفيه قال:"واختلف العُلَماءُ في تأويل هذا الحديث، فكان الشافعيُّ يقول: إذا كانت المقبرةُ مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدها وما يخرج منهم، لم تجز الصلاة فيها للنجاسة، فإنْ صلى رجلٌ في مكان طاهر منها، أجزأته صلاته".

(5)

"الحَمَّام": مشدد، واحد الحمامات المبنية، ولا فرق في الحمام بين مكان الغسل وصب الماء، وبِن بيت المشلح الذي تنتزع فيه الثياب". انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع"، للبعلي (ص 84).

(6)

قال ابن الأثير: "المجزرة: الموضع الذي تنحر فيه الإبل، وتذبح فيه البقر والشاء، وجمعها المجازر". انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"(1/ 267).

ص: 1342

‌رابعها:

المزبلة، وهي محل تُرمَى فيه القمامة وغيرها، وهي مظنة النجاسة

(1)

.

‌خامسها:

قارعة الطريق، وسُمي الطريق قارعةً؛ لأنه يُقرع ويوطأ بالأقدام

(2)

، ويقال أيضًا: محجة الطريق، أي: الطريق السَّابل التي يُمَر فيها

(3)

. ومُنِعَ مِنَ الصلاة فيها؛ لأنها عرضة للنجاسة، ومرور الدواب وإلقاء النجاسات، أو لأن المصلي يقف في طريق الناس، فيعطل حركتهم، وهذا نوعٌ مِن الأذى، والمؤمن منهي عن ذلك عامة؛ فكيف في وقت الصلاة! أو منع من ذلك لأنه لو صلى في طريق الناس مقبلين مدبرين؛ فيشوشون عليه، ويذهب خشوعه وثواب صلاته، ويفكر في أمور الدنيا

(4)

، وقَدْ كان عمر رضي الله عنه يقول:"كنت أجهز الجيش وأنا في الصلاة"

(5)

، فما بالك بإنسان عادي، وقد يفكر في أمورٍ مذمومةٍ؛ فهذا لا يجوز.

‌سَادسُهَا:

معاطن الإبل، وَقَد اختلفوا: هَلْ هي الأماكن التي تأوي إليها، مقابل مراح الغنم

(6)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صلُّوا في مرابض

(1)

"المزبلة": موضع الزبل، وهو العذرة. انظر:"النظم المستعذب"، لابن بطال الركبي (1/ 66).

(2)

انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه"، للنووي (ص 38)، وفيه قال:"قارعة الطريق أعلاه. وقيل: صدره. وقيل: ما برز منه، وهو متقاربٌ، والطريق يُذكَّر ويُؤنَّث".

(3)

"محجة الطريق": الجادة المسلوكة التي تَسْلكها السابلة. وقارعة الطريق: يعني التي تقرعها الأقدام، مثل الأسواق والمشارع والجادة للسفر". انظر:"المغني"(2/ 53).

(4)

انظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 262)، وفيه قال:" (فأَمَّا نَهْيه صلى الله عليه وسلم على قارعة الطريق، فالمعنى فيه: إيذاء المارة والمجتازين، وإيذاء المصلى بهم، وقلة خشوعه باجتيازهم"، انظر:"البيان" للعمراني (2/ 113).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 306)، عن أبي عثمان النهدي، قال: قال عمر: إنِّي لأجهز جيوشي وأنا في الصلاة.

(6)

"مُرَاحُ الغنم" بضم الميم: موضع مبيتها. وقيل: مسيرها إلى المبيت. انظر: "مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (1/ 301).

ص: 1343

الغنم

(1)

، ولا تصلُّوا في أعطان

(2)

الإبل"

(3)

، وفي بعض الروايات:"لأنَّهَا خُلقَت من الشيطان"

(4)

.

وفي "صحيح مسلم" من حديث جابر بن سمرة: "أن رجلًا سأل رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: أنُصلِّي في مَرَابض الغنم؟ قال: "نعم". قال: أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: "لا"

(5)

.

أَمْ هي الأماكن التي إذا ذهبت عادة وأراحت فيها، ثم ارتدت مرةً أُخرى؟

فالعُلَماء يَخْتلفون في تفسيرها

(6)

، ومهما يَكُنْ من أمرٍ؛ فبَعْضهم يذكر

(1)

"مَرْبضُ الغنم": مأواها الذي تَأُوي إليه، وجمعه: مرابض. انظرت "تفسير غريب ما في الصحيحين"، للحميدي (ص 256).

(2)

"الأعطانُ": جمع عَطَن، وهو ماء حول الحوض والبئر من مبارك الإبل ومناخ القوم. انظر:"العين"، للخليل (2/ 14).

(3)

أخرجه الترمذي (348)، وغيره، عن أبي هريرة، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(176).

(4)

أخرج ابن ماجه (769)، عَنْ عبد الله بن مغفل المزني؛ قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل، فإنها خُلقَت من الشياطين"، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ.

(5)

أخرجه مسلم (360/ 97)، عن جابر بن سمرة، أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ"، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم، فتوضأ من لحوم الإبل"، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا".

(6)

أي: اختلفوا، هَلْ هي المَواضعُ التي تأوي إليها وتبيت فيها أَمْ هي الأماكن التي تتردد عليها لشرب الماء. انظر في مذهب الأحناف:"حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 380)، وفيه قال:"ومعاطن الإبل: وطنها، ثم غلب على مَبْركها حول الماء. والأَوْلَى الإطلاق كما هو ظاهر الحديث".

وانظر في مذهب المالكية: "مواهب الجليل"، للحطاب (1/ 420)، وفيه قال:"ص (وبمعطن إبل). ش قال ابن الحاجب: وهو مجتمع صدرها من المنهل. قال في "التوضيح": أي موضع اجتماعها عند صَدْرها من الماء، فيُفْهم منه أن موضعَ مبيتها ليس بمعطنٍ، ولا تُكْرَه الصلاة فيه".

ص: 1344

أن علة النهي لكونها خُلِقَتْ من الشياطين، وليسَ هذا على الحقيقة، إنما المقصود أنَّ لها نفورًا وَحركةً، لا كالأغنام في هُدُوئها وَسَكينتها

(1)

؛ ولذلك وَرَد في الحديث الصحيح: "ما من نبيٍّ إلا رَعَى الغنم"

(2)

.

وَبَعْضهم يذكر أن علة النهي لكون البعير إذا برك صار كالجدار

=وانظر في مذهب الشافعية: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 160)، وفِيهِ قال:"واتفق تفسير الشافعي على أن العطن الموضع الذي يقرب موضع شرب الإبل تنحى إليه الإبل الشاربة ليشرب غيرها ذودًا ذودًا، فإذا شربت كلها، واجتمعت فيه، سيقت إلى المراعي".

وانظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (2/ 52)، وفيه قال:"وأما المعاطن، فقال أحمد: هي التي تقيم فيها الإبل، وتأوي إليها. وقيل: هي المواضع التي تناخ فيها إذا وردت .. والأول أجود؛ لأنه جعله مقابلة مراح الغنم".

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 357)، وفيه قال:"وقال يحيى بن آدم: جاء النهي من قبل أن الإبل يخاف وُثُوبها، فتعطب من تلاقيه، ومعنى كونها من الشياطين أن خصالها من خصال الشياطين، وفي حديث آخر: "فإنها خلقت من الشياطين"، وأوله ابن حبان بأنها خُلقَت معها".

وانظر في مذهب المالكية: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 821)، وفيه قال:"وقال غير هؤلاء من أصحابنا: بل لأنها خُلقَت من الشياطين. وقال غير هؤلاء من أصحابنا: إنما نُهِيَ عن ذلك لِنِفَارها، فإنَّ نفارَها يمنع من إتمام الصلاة".

وَانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 166)، وفيه قال:"ولا تُصلُّوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقَت من الشياطين"، وفي روايةٍ:"إنَّها جنٌّ خُلقَت"، وبه علم أن الفرق أن الإبلَ خلقت من الشياطين، بل في حديثٍ أن على سنام كل واحدٍ منها شيطانين، والصلاة تكره في مأوى الشياطين، فالإبل من شأنها أن يشتدَّ نِفَارُهَا، فتشوش الخشوع".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح العمدة"، لابن تيمية (ص 453، 454)، وفيه قال:"وأما أعطان الإبل، فقَدْ صرَّح النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في توجيه ذلك بأنها من الشياطين، وبأنها خُلقَت من الشياطين، فمعاطنها مأوى الشياطين، أعني أنها في أنفسها جنٌّ وشياطين لمُشَاركتها لها في العُتوِّ والتَمرُّد والنفر وغير ذلك من الأخلاق، وأن ذرية إبليس مقترنة بها".

(2)

أخرج البخاري (5453)، ومسلم (2050/ 163)، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجني الكباث، فقال:"عليكم بالأسود منه، فإنه أطيب"، فقال: أكنت ترعى الغنم؟ قال: "نَعَمْ، وهل من نبيِّ إلا رعاها".

ص: 1345

لطوله؛ فَكَان بعض الناس يَسْتتر به ليتبول

(1)

، وهذا حَصَل لعبد الله بن عمر رضي الله عنه حيث استظلَّ ببعيره وبال

(2)

.

فكلُّ هذه عللٌ سيأتي الكلام عنها في سياق كلام المؤلف.

قوله: (وَأَمَّا المَوَاضِعُ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا).

إذن، نُقرِّر باختصارٍ أن الأئمة -ومنهم: الشافعيُّ، ورواية للإمامين مالك وأحمد

(3)

- يَقُولُون بصحَّة الصلاة في هَذِهِ المواضع شريطة أن تَخْلو من النجاسة؛ لأنَّ الأصلَ فيها الطهارة، ومن الحنابلة مَنْ قال بالحرمة، وبطلان الصلاة، ويلتقي معهم بعض العلماء إلا أنهم يستثنون من ذلك المقبرة والحمام

(4)

، ويستدلون بحديث: "جُعلَتْ لي الأرض كلها مسجدًا

(1)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 52)، وفيه قال:"ويحتمل أن المنع في هذه المواضع معللٌ بأنها مظان للنجاسات، ومعاطن الإبل يُبَال فيها، فإن البعير البارك كالجدار يُمْكن أن يستتر به ويبول".

(2)

أخرجه أبو داود (11)، عن مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ قال: بلى، إنَّما "نُهِيَ عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بَيْنك وبَيْن القبلة شيءٌ يسترك، فلا بأس"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود -الأم"(8).

(3)

انظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 156)، وفيه قال: "واختلفت في المواضع المنهيِّ عن الصلاة فيها إذا صلى فيها، هل تبطل صلاته؟

ونقل أبو الحارث: إذا صلَّى في المقبرة أو الحمام يُكْره، فقيل له: يعيد؟ قال: إنْ أعاد كان أحب إليَّ، وظاهر هذا أن الإعادة غير واجبةٍ؛ لأنها بقعة طاهرة مستقبل بها القبلة، فَصحْت الصلاة فيها".

(4)

اتفق الفقهاء على كراهية الصلاة في هذه المواطن؛ لأنَّها مظنة وُجُود النجاسة والانشغال عن الصلاة، وقطع الخشوع، وإذا ما تيقن وجود نجاسة، فإنها تبطل، وخالف الحنابلة، فقالوا في المشهور عنهم بالبطلان من غير تفصيل.

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 379، 380)، وفيه قال: " (قوله: وكذا تكره

إلخ)، لما ذكر الكراهة في الزمان، استطرد ذكر الكراهة في المكان، (قوله: ومقبرة)، ولا بأس بالصلاة فيها إذا كان فيها موضعٌ أُعدَّ للصلاة، وليس فيه قبر ولا نجاسة، كمَا في الخانية، ولا قبلته إلى قبر حلية.=

ص: 1346

إلا المقبرة والحمام"

(1)

، وهذا حديثٌ فيه نزاعٌ

(2)

، وله طرق وشواهد؛

= (قوله: ومغتسل) أَيْ: موضع الاغتسال في بيته. تأمَّل. (قوله: وحمام) لمَعْنيين، أحدهما: أنه مصب الغسالات. والثاني: أنه بيت الشياطين، فعلى الأوَّل إذا غسل منه موضعًا لا تُكْره، وعلى الثاني تُكْره، وهو الأولى لإطلاق الحديث".

وانظر في مذهب المالكية: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (1/ 165 - 168)، وفيه قال:"أما النَّهي عن الصلاة (في معاطن الإبل)، وهو موضع اجتماعهما عند صدورها من الماء، فنهي كراهة المشهور ولو أمن من النجاسة. (و) أما النهي عن الصلاة في (محجة الطريق) وهي قارعتها، فنهي كراهة (و) أما النهي عن الصلاة على (ظهر بيت الله الحرام)، أي: الكعبة، فنهي تحريم على المشهور. (و) أما النهي عن الصلاة في (الحمام)، فنهي كراهة (حيث لا يوقن منه بطهارة)، (و)، أما النهي عن الصلاة في (المزبلة)، (و) عن الصلاة في (المجزرة)، فنهي كراهة إنْ لَمْ يؤمن من النجاسة، وإلا جازت، وحيث قيل بالكراهة، وصلى فيها أعاد في الوقت على المشهور عامدًا أو غيره. (و) أما النهي عن الصلاة في (مقبرة المشركين)، فنهي كراهة".

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 424، 425)، وفيه قال:" (و) تكره (الصلاة في) (الحمام) ولو في مسلخه، (و) في (عطن الإبل) ولو طاهرًا، وهو الموضع الذي تنحى إليه الإبل الشاربة ليشرب غيرها، ولا تختص الكراهة بالعطن، بل مأواها ومقيلها ومباركها، بل مواضعها كلها كذلك. (و) في (المقبرة) (الطاهرة) وهي التي لم تنبش)، أمَّا المنبوشة، فلا تصح الصلاة فيها بغير حائلٍ، ومعه تُكْره".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 366 - 368)، وفيه قال:" (ولا تصح تعبدًا صلاة غير جنازة في مقبرةٍ قديمةٍ، أو لا تقلبت أو لا) وهي: مدفن الموتى، (ولا) تصح الصلاة (في حمام) داخله وخارجه وأتونه (و) كل، (ما يتبعه في بيع مما يغلق عليه بابه) لشمول الاسم لذلك كله، (ولا) تصح الصلاة (في حش)، (وهو: محل قضاء حاجة مما هو)، (ولا) تصح أيضًا في (أعطان إبل)، (وهي: ما تقيم فيها وتأوي إليها) ".

(1)

أخرجه الترمذي (317)، عن أبي سَعِيدٍ الخدري، وصححه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(737).

(2)

سبق ذكر تصحيح الأَلْبَانيِّ له، وهناك مَنْ ضعَّفه. قال الإشبيلي:"اختلف في إسناد هذا الحديث، فأسنده ناسٌ، وأرسله آخرون، منهم الثوري. قال أبو عيسى: وكأن المرسل أصح". انظر: "الأحكام الوسطى"(1/ 288). وانظر: "خلاصة الأحكام"، للنووي (1/ 321).

ص: 1347

فيُمكن الاحتجاج به إلا أن الأَوْلَى الاحتجاج بغيره ما دام أصح:

منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها"

(1)

.

وقوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"

(2)

.

وقوله في الحديث المتفق عليه: "إن مَنْ كان قبلكم كانوا يَتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تَتَّخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"

(3)

.

ولذلك، يفرق أهل العلم عند مسألة الصلاة في مسجدٍ فيه قبر بين مسجد يقام على قبر، أو مسجد يقام، فيدخل فيه قبر

(4)

، ويتكلمون في حكم الصلاة إن كان القبر أمام المصلي، أو خلفه، أو عن يمينه أو يساره

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (972/ 97)، عن أبي مرثد الغنوي.

(2)

أخرجه البخاري (5815)، ومسلم (22/ 531) عن عائشة، وعبد الله بن عباس.

(3)

أخرجه مسلم (532/ 23)، ولم يخرجه البخاري.

(4)

مسألة الصلاة في مسجدٍ يُقَام على قبر، اختلفوا فيه بين الكراهة والتحريم، ومنهم مَنْ قال ببطلان الصلاة، كما سيأتي، أما الصلاة في مسجد يدخله قبر، فالأكثرون على صحتها؛ لأن النهي لا يتعلَّق بشرطٍ من شروط صحتها، وهي مسألة: هل النهي يقتضي الفساد؟ وقد سبقت.

(5)

كره الأحناف الصلاة إلى القبر، وَلَكنهم جوَّزوها. انظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (116/ 1)، وفيه قال:"ويكره أن تكون قبلة المسجد إلى .. أو قبر؛ لأن جهة القبلة يجب تعظيمها، والمساجد كذلك، ومعنى التعظيم لا يحصل إذا كانت قبلة المسجد إلى هذه المواضع؛ لأنها لا تَخْلو عن الأقذار، ولو صلى في مثل هذا المسجد، جازت صلاته عند عامة العلماء؛ لأن النهي ليس لمعنى في الصلاة، فلا يمنع جواز الصلاة، وهذا إذا لم يكن بين المسجد وبين هذه المواضع حائلٌ من بيت أو جدار أو نحو ذلك، فإن كان بينهما حائلٌ لا يكره؛ لأنَّ معنى التعظيم حاصل". وانظر: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 356).

وفي مذهب المالكية تجوز ولو لم يضع بينه وبين القبر حائلًا، انظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (1/ 225)، وفيه قال: "والمعنى أن الصلاة تجوز في المقبرة عامرة=

ص: 1348

هذه مسألة عارضة أحببنا الإشارة إليها، ولعلنا نفصلها -إن شاء الله- لا سيما أن هذه صور تتشابه مع صلوات الكفار والمشركين، فهم الذين يرتادون القبور، ويأتون إلى الموتى، ويتقربون إليهم، ومع الأسف فكثير من المسلمين في هذا الزمان يسلكون هذا المسلك.

قوله: (فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَكُونُ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةَ مَوَاضِعَ).

= أو دارسة تيقن نبشها أو شك فيه جعل بينه وبينها حائل أم لا كانت لمسلم أو لمشرك، ولو كان القبر بين يديه على المشهور في الجميع".

وكرهوا بناء المسجد على القبر: "البيان والتحصيل"، لابن رشد (12/ 234، 235)، وفيه قال:"إنما كره اتخاذ المساجد على القبور؛ صيانةً لها لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى الصلاة عليها، وأما إذا عفت المقبرة وانقطع الدفن فيها، فلا بأس أن يبنى عليها مسجد للصلاة فيه".

وفي مذهب الشافعية يحرم إذا كان يصلي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويكره في حق غيره.

انظر: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (1/ 262)، وفيه قال:"ويحرم أن يصلي متوجهًا إلى قبره صلى الله عليه وسلم، ويكره إلى غيره، ومستقبل آدمي أي لأنه يشغل القلب غالبًا، ويقاس بما قاله في قبره صلى الله عليه وسلم سائر قبور الأنبياء صلى الله عليهم وسلم".

وَكَرهوا بناء المسجد على القبر، انظر:"المجموع شرح المهذب"، للنووي (5/ 316)، وفيه قال:"واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كَرَاهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهورًا بالصلاح أو غيره؛ لعموم الأحاديث".

وفي مذهب الحنابلة يُكْره الصلاة إليها من غير حَائِلِ، وإلا كانت باطلةً.

انظر: "شَرْح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 165)، وفيه قال:" (وتكره) الصلاة (إليها)، وألحق بذلك باقي المواضع، واعترض بأنه تعبديٌّ، فلا يُقَاس عليه (بلا حائل)، فإن كان حائلٌ لم تكره الصلاة (ولو) كان (كمؤخرة رحل) كسترة المتخلي، فلا يكفي الخط، ويَكْفي حائط المسجد". وانظر: "الإنصاف"، للمرداوي (1/ 495). ويحرم بناء المسجد على القبر. انظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 141)، وفيه قَالَ:" (و) يحرم (اتخاذ المسجد عليها)، أي: القبور (وتتعين إزالتها)، أي: المساجد، إذا وُضعَتْ على القبور، أو بينها (وفي كتاب الهدي) النبوي لابن قيم الجوزية (لو وضع المسجد والقبر معًا، لم يجز، ولم يصح الوقف ولا الصلاة) تغليبًا لجانب الحظر".

ص: 1349

الَّذين استثنوا هذه السبعة مواضع استدلوا بحديثين:

أَحَدُهُما: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(1)

.

وثانيهما: حديث ابن عبد الله

(2)

.

وكلاهما فيه مقالٌ -بلا شكٍّ- إلا أننا نستثني المقبرة والحمام؛ وذلك لوُرُود دليلٍ خاصٍّ

(3)

، ولخطر ما يُلْحق بذلك، وقَدْ سبق البيان.

قوله: (المَزْبَلَةَ).

سبق تعريف المزبلة، وليس سبب المنع من الصلاة فيها مظنة النجاسة فحسب، بل لأنها أيضًا غير لائقة بصلاة المسلم

(4)

، ولكن قد يُقدَّر لإنسانٍ الصلاة فيها لأي سببٍ أو عارضٍ، أو قد يصلي في مسجد بُنِيَ بالطين، وخالط الطينَ نجاسةٌ، أو خُلط بماء خالطته نجاسة؛ فتصح صلاته لأسباب ذكرها العلماء، ولا تزال هناك بحوثٌ وكلامٌ في كلِّ هذه المسائل، ومع ذلك، فالمؤلف مقتصِرٌ ومُختصِرٌ

(5)

.

قوله: (وَالمَجْزَرَةَ وَالمَقْبَرَةَ).

سَبَق تعريفهما، وعلة المنع أنها مأوًى للشياطين؛ لأن الإنسان يتعرى في هذه الأماكن، والشياطين تَأْوي إليها أيضًا

(6)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه (747)، عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سَبْع مَوَاطن لا تجوز فيها الصلاة: ظاهر بيت الله، والمقبرة والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق"، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ.

(2)

الصواب حديث ابن عمر أخرجه الترمذي (346)، عن ابن عمر، أنَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله. وضعفه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(287).

(3)

تقدَّم من حديث أبي سعيد.

(4)

سبق.

(5)

سبق تفصيل هذا.

(6)

سبق.

ص: 1350

قوله: (وَقَارِعَةَ الطَّرِيقِ).

الفُقَهاء اختلَفوا فيما لو صلى إنسانٌ على ما ارتفع من الطريق، والصحيح من أقوالهم صحة الصلاة ما لم تكن فيه نجاسةٌ، وهذا رأي من يعللون المنع بوجود نجاسةٍ، ولا يعتبرون بمرور الناس مقبلين أو مدبرين؛ لأنَّ هذا لا يضرُّ الناس أو يَمْنعهم من المرور

(1)

.

قوله: (وَالحَمَّامَ، وَمَعَاطِنَ الإِبِلِ).

سَبَق الكلام عن الحمام، أما معاطن الإبل فعلَّة النهي عن الصلاة فيها لَيْسَت لنجاستها

(2)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذِنَ للعرنيين أن يشربوا أبوالها وألبانها؛ فدلَّ على طَهَارتها

(3)

، والمسألة فيها خلاف معروفٌ بين نجاستها أو طهارتها

(4)

.

(1)

وهذا التفصيل هو مذهب الجمهور خلافًا لمعتمد مذهب الحنابلة الذين أبطلوا الصلاة من غير ذكر هذا التفصيل.

(2)

وهذا مذهب الأكثرين، فقد ذَكَروا عللًا أُخرى، وقد سبق.

(3)

أخرج البخاري (1501)، واللفظ له، ومسلم (1671/ 9)، عن أنسٍ رضي الله عنه: أن ناسًا من عُرَينة اجتووا المدينة "فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها، وأبوالها"، ففتلوا الراعي، واستاقوا الذود، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُتِيَ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وتركهم بالحرة يعضون الحجارة.

(4)

في مذهب الأحناف: نجسة ولكن نجاستها خفيفة. انظر: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري"، للحدادي (1/ 38)، وفيه قال:" (قوله: وإن أصابه نجاسة مخففة كبول ما يؤكل لحمه)، المخففة ما ورد بنَجَاستها نص وبطهارتها نص كبول ما يؤكل لحمه ورد بنجاسته قوله عليه السلام: "استنزهوا الأبوال"، وهو عام فيما يؤكل لحمه وفيما لا يؤكل، والاستنزاه هو التباعد عن الشيء.

وفي مذهب المالكية: طاهرة، انظر:"الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 282)، وفيه قال:"أبوال ما يؤكل لحمه وأرواثه طاهرة. لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية، (ولما روي أنه عليه السلام أباح للعرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها) ". وانظر: "حاشية العدوي على شرح مختصر خليل"(1/ 278). وفي مذهب الشافعية: نجس، انظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 233)، وفيه=

ص: 1351

لكن العلة أكثر من واحدة:

منها: أنها مأوى للشياطين؛ فالشياطين تأوي إلى هذه الأماكن؛ لأن الإبلَ خُلقَت منها.

ومنها: أنها تُعرَف بالنفور والشرود، وهذا يُؤثِّر على المصلي.

ومنها: أنها يرتادها بعض الناس لقضاء الحاجة؛ لأنهم يستترون بطول الإبل إنْ لم يكن هناك جدار

(1)

، كما فعل ابن عمر

(2)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "احفظ عَوْرتَك إلا من زوجتك، وما ملكت يمينك"

(3)

، ونهى صلى الله عليه وسلم أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وأن تنظر المرأة على عورة المرأة

(4)

.

وَهُنَا يَتفرّع الفقهاء إلى جواز نظر المرأة إلى عورة المرأة

(5)

،

=قال: " (وبول) للأمر بصبِّ الماء عليه في بول الأعرابي في المسجد. وَقيس به سائر الأبوال، وأما أمره صلى الله عليه وسلم العُرَنيين بشرب أبوال الإبل، فكان للتداوي، والتداوي بالنجس جائزٌ عند فَقْد الطاهر الذي يقوم مقامه".

في مذهب الحنابلة روايتان، ومعتمد المذهب على طهارته، انظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 108)، وفيه قال:" (والبول والغائط مما لا يؤكل أو) من (آدمي) نجس، وأما ما يؤكل لحمه فبَوْله وروثه طاهر؛ لحديث العرنيين في الإبل، وقيس عليه الباقي". انظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 155). وانظر:"الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 155).

(1)

سبق ذكر هذا.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود (4017)، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قلت: يا رسول الله، عَوْراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال:"احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في:"إرواء الغليل"(1810).

(4)

أخرجه مسلم (338/ 74)، عن أَبِي سَعِيدٍ الخدريِّ، أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَنْظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفْضي الرجل إلى الرجل في ثوبٍ واحدٍ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد".

(5)

اتفق الفقهاء على أن المرأة لا يحل لها أن تنظر إلى غيرها فيما بين السُّرَّة إلى الركبة.=

ص: 1352

ويَخْتلفون في نظر المرأة غير المسلمة إلى عورة المسلمة

(1)

، ثم يستدل

= انظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 161)، وفيه قال:" (قوله: وقيل: مطلقًا) هو رواية النوادر، فيستر من سرته إلى تحت ركبته .. وهذا شامل للمرأة والرجل؛ لأن عورة المرأة للمرأة كالرجل للرجل".

وانظر في مذهب المالكية: "مواهب الجليل"، للحطاب (1/ 499)، وفيه قال:"وحكم المرأة مع المرأة على المشهور كحكم الرجل مع الرجل، وحكمهما أن من السرة إلى الركبة لا يكشفه أحدهما للآخر بخلاف سائر البدن".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (3/ 111)، وفيه قال:" (كنظر بعض النساء بعضًا)، أي: كما يُبَاح لبعضهنَّ أن ينظرن من بعضهن ما فوق السرة وتحت الركبة؛ لأنه ليس بعورةٍ منهن بالنظر إليهنَّ".

وفي مذهب الحنابلة قولان، انظر:"الإنصاف"، للمرداوي (8/ 24)، وفيه قال: "قوله: (وللمرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل: النظر إلى ما عَدَا ما بين السُّرَّة والركبة)، يَجُوز للمرأة المسلمة النظر من المرأة المسلمة إلى ما عدا ما بين السُّرة والركبة، جزم به في الهداية، والمذهب، والمستوعب، والخلاصة

والصحيح من المذهب أنها لا تنظر منها إلا إلى غير العورة، وجزم به في "المحرر"، و"النظم"، و"الفروع"، و"الفائق"، و"المنور".

(1)

في مذهب الأحناف: أن المسلمة لا تظهر للكافرة شيئًا من بدنها إلا ما تظهره للأجنبي من الوجه والكفين والقدم.

انظر: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(6/ 371)، وفيه قال:" (والذمية كالرجل الأجنبي في الأصح، فلا تنظر إلى بدن المسلمة) ".

وفي مذهب المالكية: أن المسلمة لا يحل لها أن تُظْهر للكافرة إلا وجهها وكفيها، أما إذا كانت هذه الكافرة أمةً لها، فإن لها أن تظهر لها جميع بدنها إلا ما بين السرة إلى الركبة. انظر:"حاشية العدوي على شرح مختصر خليل"(1/ 247)، وفيه قال:"والحاصل أن عورةَ الحرة المسلمة مع الكافرة غير أمتها جميع جسدها إلا وجهها وكفيها، وأما عورتها مِع أمتها الكافرة فكَعَوْرتها مع امرأة مسلمة جميع ما بين سرتها وركبتها، كَذا أفَاده بعض الشيوخ، ولكن الأحسن أن يُقَال: إن عورتها مع الكافرة كعورتها مع المسلمة غير أنه يَحْرم عليها أن تكشف لها أزيد من الوجه والكفين؛ لأنه لا يَلْزم من حُرْمة الكشف كونه عورة".

وَفِي مذهب الشافعية: أن المسلمة تحتجب عن الكافرة، فلا ترى منها شيئًا.

انظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (3/ 111)، وفيه قال: " (وتحتجب مسلمة عن كافرة) وجوبًا، فيَحْرم نظر الكافرة إليها؛ لقوله تعالى:{أَوْ نِسَائِهِنَّ} ، والكافرة=

ص: 1353

المجيزون بقصة عائشة: "أن غير المسلمات كُنَّ ينظرن إليها"

(1)

، فهذه مسألة فرعية يتعرض لها الفقهاء، وغابت عن المؤلف.

قوله: (وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّه).

لَيْسَت القضية هنا تتعلَّق بالنجاسة، بَلْ هي مسألة يخرجها العلماء من السبعة إجماعًا

(2)

، لكنهم يختلفون أنَّ مَن يصلِّي فوق البيت الحرام، هل

= ليست من نساء المؤمنات، ولأنها ربما تحكيها للكافر، فلا تدخل الحمام مع المسلمة".

وفي مذهب الحنابلة روايتان. ومعتمد المذهب أنها كالمسلمة. انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 626)، وفيه قال:" (و) يباح (لامرأة مع امرأة ولو كافرة مع مسلمة، ولرجلٍ مع رجلٍ ولو أمرد نظر غير عورة وهي)، أي: العورة هنا (من امرأة ما بين سُرَّة وركبة) كالرجل". وانظر: "الهداية"، للكلوذاني (ص 382).

(1)

انظر: "الشرح الكبير على متن المقنع"، لأبي الفرج المقدسي (7/ 351)، وفيه قال: "النساء من اليهوديات وغيرهن قَدْ كُنَّ يدخلن على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يحجبن، ولا أمرن بحجاب، وقد قالت عائشة: جاءت يهودية تسألها فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكر الحديث"، والحديث أخرجه البخاري (1372)، ومسلم (8/ 903).

(2)

في مذهب الأحناف يجوز الصلاة فوق ظهر الكعبة وَإنْ لم توجد سترة.

انظر: "الهداية"، للمرغيناني (1/ 93، 94)، وفيه قال:"ومَنْ صلى على ظهر الكعبة جازت صلاته، خلافًا للشافعي رحمه الله؛ لأن الكعبة هي العرصة والهواء إلى عنان السماء عندنا دون البناء إلا أنه يكره لما فيه من ترك التعظيم، وقد ورد النهي عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم". وانظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (121/ 1). وفي مَذْهب المالكية: الصلاة باطلة؛ كانت لسترةٍ أم لم تكن، واستثنوا صلاة النافلة. انظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 229)، وفيه قال: " (قَوْله: وبطل فرض على ظهرها) أَيْ: على ظهر الكعبة (قوله: فيعاد أبدًا)، أي: على المشهور، ولو كان بين يديه قطعة من حائط سطحها بناءً على أن المأمور به استقبال جملة البناء لا بعضه ولا الهواء، وهو المعتمد وقيل: إنما يُعَاد في الوقت بناءً على كفاية استقبال هواء البيت أو استقبال قطعهَ من البناء، ولو من حائط سطحه.

وفي مذهب الشافعية: الصلاة إذا كانت لسترة جازت؛ فريضةً كانت أو نافلةً، انظر:"حلية العلماء"، للقفال الشاشي (2/ 60)، وفيه قال:"فإن صلى على ظهر الكعبة وليس بين يديه سترة، لم تَصحَّ صلاته".=

ص: 1354

يولِّي وجهه نحو البيت أم جهة أُخرى؛ لأنَّ الله عز وجل قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144، 150]، أيْ: جهته

(1)

.

هَذَا هو سبب الخلاف في الأصل.

(وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ المَقْبَرَةَ فَقَطْ).

لَا يَجُوز للمسلم أن يصلي في المقابر، لكن بعض العلماء أجاز ذلك، بشروط:

منها: إذا أَمِنَ أن تكون قد نُبِشَتْ.

ومنها: ألا يرتادها بقصد الصلاة؛ لأن فيها الموتى لا يضرون، ولا ينفعون

(2)

.

=وفي مذهب الحنابلة: الصلاة إذا كانت لسترةٍ، جازت النافلة فقط لا الفريضة. انظر:"المغني"، لابن قدامة (2/ 55)، وفيه قال:"ولا تصح الفريضة في الكعبة، ولا على ظهرها؛ لقوله الله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، والمصلي فيها أو على ظهرها غير مستقبل لجهتها، والنافلة مبناها على التخفيف والمسامحة بدليل صلاتها قاعدًا، هالى غير القبلة في السفر على الراحلة. وانظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 99).

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "النتف في الفتاوى"، للسغدي (1/ 61، 62)، وفيه قال: "وأما استقبال القبلة، فالناس بحذائها صنفان، أحدهما: يكون في القبلة، والآخر يكون خارجًا من القبلة؛ فأما الذي في القبلة فهما صنفان، أحدهما: يكون في جوف الكعبة. والثاني: يكون على ظهر الكعبة، ثمَّ حكمهم على وجهين؛ فإن صلوا فرادى تجوز صلاتهم كيف كانت؛ لأنهم كلهم في القبلة، وإن صَلَّوا جماعةً، فإنها على سبعة أوجه

".

وفي مذهب المالكية: يكفيه استقبال جزءٍ من البيت كَمَا سبق، وهذا في صلَاة النافلة لأنهم يُبْطلون صلاة الفريضة فوق ظهر الكعبة.

وفي مذهب الشافعية: إذا كانت بين يديه سترة، فإنه يكون بذلك مستقبلًا لشيءٍ من البيت وإلا يكون مستقبلًا للفضاء لا للبيت، كما سبق. وانظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 207).

وفي مذهب الحنابلة: لم يجوزوا الصلاة؛ لأنه لا يعد مستقبلًا القبلة، ولا جهتها إلا إذا كانت نافلةً لسترة، كما سبق.

(2)

سبق ذكر هذا.

ص: 1355

ومُرْتادو تلك المقابر تحصل منهم مخالفات عظيمة، فيطلبون من الموتى الشفاعَةَ، وشفاءَ المرضى، وفَكَّ الكَرْب، وَبَعْضهم يذبح له، وكلُّ هذه من أعمال التوحيد التي لا تَجُوز إلا لله وَحْده، وصَرْفها لغير الله شركٌ أكبَر، وبعضهم تحصل منهم مخالفاتٌ تُعَدُّ شركًا أصغر.

فَابْتَعِدْ عن هذا كله، واتجه في أمورك إلى الله سبحانه وتعالى بطلب العون والتوفيق؛ فهو الذي يشفى المريض، ويفك الكرب، ويَهَب المُلْكَ لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء، وبيده كل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

أما الرسل والأنبياء فهم عَبِيدُ الله، لا يختلفون عن غيرهم إلَّا أن الله شرفهم وميزهم بالرسالة والنبوة، فلا يُصْرف لهم نوعٌ مِنْ أنواع العبادة التي لا تجوز إلا لله.

كَذَلك الصالحون، لا نغلو فيهم، ولا نجعلهم واسطةً بيننا وبين الله سبحانه وتعالى

(1)

.

فعلينا أن نتنبه ونحذر، وننبه إخواننا المسلمين، فما أكثرَ ما يقَع المسلمون في ذلك! وربما نجد أن بعض الذين يَقُودونهم على عِلْمٍ، ولكن قد أغلقت قلوبهم وَتَحجَّرَت، والمخدوعون لو أعملوا أفكارهم، ودقَّقُوا لأدركوا حقيقة الأمر ووضوحه في كتاب الله عز وجل، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كقَوْل الرسول صلى الله عليه وسلم:"لَعْنة الله على اليهود والنَّصَارى، اتَّخذوا قبور أنبيائهم مَسَاجد"

(2)

، واللعنُ طردٌ من رحمة الله

(3)

؛ لأنهم اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

(1)

انظر تفصيل هذا في: "الإخنائية"، لابن تيمية (ص 280)، وما بعده.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

"اللعن": الطرد والإبعاد من الخير. انظر: "الصحاح"، للجوهري (6/ 2196).

ص: 1356

وقوله: "اللَّهمَّ لا تَجْعل قبري وثنًا يُعْبد"

(1)

.

وَمِنْ مَخاطِر الصَّلاة في القُبور أيضًا: التشبُّه بالكفار، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك، فقال:"مَنْ تشبه بقومٍ، فَهو منهم"

(2)

.

إذًا، الإنسان في باب التوحيد يَنْبغي أن يحمل كلَّ جَانِبٍ من جوانبه، وكل أمر قَدْ تكون فيه وسيلةٌ للشرك؛ فيجب غلقها حتى لا تجرَّه.

قوله: (وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى المَقْبَرَةَ وَالحَمَّامَ

(3)

، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ المَوَاضِعِ المَنْهِيِّ عَنْهَا وَلَمْ يُبْطِلْهَا، وَهُوَ أَحَدُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ)

(4)

.

شَريطة أَنْ يأْمَنَ جانب النجاسة، وألَّا يكون قاصدًا المَقْبرة لذَاتها، وأن يكون في صَلَاتِهِ بعيدًا عن كلِّ ما يوقع في الشِّرْك.

وإذا كانت الصَّلاة في المسجد إذا كان فيه قبرٌ لا تصح؛ فما ظنك بالمقبرة؟!

قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الجَوَازُ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ القَاسِمِ

(5)

، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَاهُنَا

(1)

أخرجه مالك في "الموطإ"(1/ 172)، عن عَطَاء بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعْبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وَصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(750).

(2)

أخرجه أبو داود (4031)، عن ابن عمر، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(1269).

(3)

سبق.

(4)

سبق ذكر هذا. انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (1/ 286).

(5)

انظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (1/ 329)، وفيه قال:"فأما مقبرة المسلمين: فاختلف فيها المذهب على ثلاثة أقوال، أحدها: الجواز جملة، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"، وإن كانت القبور بين يديه".

ص: 1357

حَدِيثَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِمَا، وَحَدِيثَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا، فَأَمَّا المُتَّفَقُ عَلَيْهِمَا فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي -وَذَكَرَ فِيهَا- وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ صَلَّيْتُ"

(1)

.

هَذِهِ الأَحَاديثُ لَهَا ألفاظٌ عدة، منها في "الصحيحين"، ومنها في غيرهما.

قوله: (وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تتَخِذُوهَا قُبُورًا"

(2)

.

هَذَا الحديث في "الصَّحيحَين"، وهو دليل على إقامة الجماعة في المساجد، ولكن قد يفهم منه بعض الناس أن الإنسان يُعْذر في ألا يحضر صلاة الجماعة، وهذا فهمٌ خاطئٌ، والصحيحِ: أنَّ المُراد النوافل غير المكتوبات، وصلوات التطوع، أما المفروضة فتُؤدَّى في المساجد؛ لأنها عُدَّت لإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله سبحانه وتعالى.

ووَجْه الدلالة من الحديث: أن الإنسان لو لم يُصلِّ في بيته؛ كان البيت أشْبَه بالمَقْبرة، ودل ذلك على أن المقابر لا يُصلَّى فيها.

قوله: (وَأَمَّا غَيْرُ المُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا، فَأَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي المَزْبَلَةِ، وَالمَجْزَرَةِ، وَالمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفِي الحَمَّامِ، وَفِي مَعَاطِنِ الإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ"، خَرَّجَهُ التّرْمِذِيُّ

(3)

.

بخُصُوص معاطن الإبل قَدْ ذكرنا مِن العلل أن الأمر تعبدي، وأنها

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (432)، ومسلم (777/ 208)، عن ابن عمر.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1358

ليست نجسة

(1)

، وذلك بناءً على اختلافهم أصلًا في تعريف معاطن الإبل، كمَن اعتبروها أماكن إقامتها التي تَأْوي إليها ليلًا، وتبقى ذاهبةً فيها وعائدةً عندما تشرب

إلى آخر العلل التي ذكرها الفقهاء

(2)

.

قوله: (وَالثَّانِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ"

(3)

.

إذًا، هذا نصٌّ صريحٌ في جواز الصلاة في مرابض الغنم، ومنعها في معاطن الإبل.

قوله: (فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الأحَادِيثِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ).

الناسُ منهم الجاهل بالشَّريعة، ومنهم مَنْ يَحمِل فكرًا سيئًا، أو حاقدًا على هذه الشَّريعة، فيُعارض الأحاديث، ويستنكر قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم بجواز الصَّلاة فِي مَرابض الغنم؛ لأنها تَحْمل الأوساخ والعفن، وغير ذلك، وَهَذا يُؤْتى من الجهل؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإقامة مَسَاجد في هذه المَواضع، ولا حضَّ علَى الصَّلاة فيها، وَلَكن المراد أنَّ الإنسان لو صلَّى فيها؛ صحت صلاته.

أمَّا الخِلَافُ فِي معَاطِن الإبِل؛ فلأنَّها فيها نجاساتٌ وروائحُ كريهةٌ، ولذَلكَ نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرَ مَنْ أكل ثومًا أو بصلًا أن يعتزلَ المسجد، فَقَال:"مَنْ أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا"

(4)

.

وفي روايةٍ: "فَلْيَعْتزل مُصلَّانا"

(5)

.

(1)

وذلك على اعتبار أن أبوال الإبل ليست نجسةً كما تقدم، وَهُوَ مذهب المالكية، ومشهور مذهب الحنابلة.

(2)

تقدَّم ذكر هذا.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أقرب رواية لهذا اللفظ ما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(12/ 396)، عن مَعْقل بن يسار، قال: سمعتُهُ يقول: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرةٍ، فَقَال: "مَنْ=

ص: 1359

وهذا يعمُّ كل رائحة كريهة، حتى رائحة الإبط في الإنسان إذا كانت تؤذي الناس، فيَدْخل صاحبها في النهي عن إتيان المسجد في هذه الحال، ولا ينبغي للإنسان أن يأكل ليتخذ الأكل ذريعةً لاعتزال المسجد، لكن هذا قد يُقدَّر عليه، ولا يجد أكلًا غيره، وهذا كلام النبي عن المباح، فما بالك بما حَرُم كالدخان، مع ما فيه من إضَاعة النَّفْس والمَال؛ فلا ينبغي على المؤمن أن يكون مؤذيًا.

كلُّ هذه أحكام عامة وضعها الفقهاء، وعمَّموا بها كل ما يؤذي ويضر؛ انطلاقًا من حديث:"لا ضررَ، ولَا ضرارَ"

(1)

.

قوله: (فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ).

نتعرف مِن خلال هذه النصوص والمذاهب -في جواز أو النهي عن الصلاة في بعض الأماكن- على سماحة الشريعة التي قامت علَى اليُسْر؛ فكل شيءٍ لا يترتب عليه مخالفة لشرع الله في أمر عقدي أو تعبُّدي، فإن الشريعة أَجَازته، وحتى بعض الأمور التي هي من أنوَاع الحبادة إذا ترتَّب عليها ضررٌ يلحق المخلوق؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى، يُخفِّف عنه ذلك الحكم، ويَنْقله إلَى ما هو أيسر منه.

قوله: (أَحَدُهَا: مَذْهَبُ التَّرْجِيحِ، وَالنَّسْخِ. وَالثَّانِي: مَذْهَبُ البِنَاءِ، أَعْنِي: بَنَى الخَاصَّ عَلَى العَامِّ).

مَذْهب الترجيح أو النسخ يعني: الأخذ بالأحاديث التي في "الصَّحيحَين"؛ دون النظر إلى غيرها؛ لأنها نُسخَت بما في "الصَّحيحَين"، فَنَقول: تصحُّ الصلاة في كلِّ مكانٍ، هَذَا قولٌ

(2)

.

= أكل من هذه الشجرة، فلا يقربن مصلانا"، وبنحوه أخرجه أحمد في "مسنده" (20352)، وهو حسنٌ لغيره، كما قال الأرناؤوط.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2340)، عن عُبَادة بن الصامت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أَنْ "لا ضرر ولا ضرار"، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(896).

(2)

أي: ترجيح العُمُوم على الخصوص، والقضاء بصحة الصلاة في كل مكان بما فيها المقابر.

ص: 1360

أمَّا مَذْهب البناء، فَهو بناء الخاصِّ على العامِّ، ويعني: تَخْصيص الدليل العام بالدليل الخاص؛ فالأَحَاديثُ التي فيها أن الأرضَ مسجدٌ وطهورٌ عامة، وتُخصَّص بغيرها

(1)

.

قوله: (وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ الجَمْعِ

(2)

، فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ وَالنَّسْخِ).

لا شكَّ أنَّ منهجَ النسخ أوْلَى؛ لأن الجمع عادةً تلتقي حوله الأدلة، لكن لا يُجمَع بين نصوصٍ صحيحةٍ صريحةٍ، ونصوصٍ أُخرى ضعيفةٍ واهيةٍ، بل شرط الجمع صحة النصوص وإن اختلفت دَرَجاتُها، كأن يكون بعضها في "الصحيحين"، والأخرى في السنن، أو مشكل الآثار أو التمهيد أَوْ غير ذلك من الكتب دون "الصحيحين"، حتى وإنْ كَانَت كتب الأدب، أو التاريخ، كـ "تاريخ دمشق"، و"تاريخ بغداد"، و"تاريخ الإسلام" للذهبي، و"سير أعلام النبلاء"، وغيرها، ما دام الحديث له سند متصل، وكتب التاريخ مليئة بهذا

(3)

، وقَدْ جَمَع الإمام السيوطي رحمه الله بعضًا في كتاب "جمع الجوامع" من تاريخ ابن عسافة

(4)

، وقد نجد بعض الأحاديث أيضًا في كتب الضعفاء، وإن كانت قليلة الطرق إلا أن هناك طرقًا أُخرى تُقوِّيها فتحسِّنها.

(1)

القَائلُون بالتخصيص عندهم تجوز الصلاة في كل البقاع إلَّا ما خصه الدليل من المقابر، وغيرها.

(2)

أَيْ: جمعوا بين أدلة العموم والخصوص، فحملوا كل دليلٍ على وجه، فهؤلاء أجازوا الصلاة في مثل المقابر بشروط كأن تكون حديثةً لم تنبش، وأن تكون طاهرةً لم يصبها نجاسة، وهذا كله قد سبق تفصيله.

(3)

وفي شروط الجمع بين الأدلة، انظر:"المهذب في علم أصول الفقه المقارن" للنملة (5/ 2420)، وفيه قال: "الشرط الأول: أن يكون كل دليل من الدليلين المتعارضين ثابت الحجية، فلا يجوز الجمع بين دليلين ضعيفين؛ لأنهما ليسا بدليلين. الشرط الثاني: أن يكون كل دليلٍ من الدليلين المتعارضين مساويًا للآخر، فلا يَجُوز الجمع بين دليلٍ قويِّ ودليلٍ ضعيفٍ، بل يُصَار هنا إلى ترجيح الأقوى

".

(4)

لعل صواب العبارة: "وقَدْ جمع الإمام السيوطي رحمه الله بعضًا في كتاب "الجامع الصغير" من "تاريخ ابن عساكر".

ص: 1361

قوله: (فَأَخَذَ بِالحَدِيثِ المَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا"، وَقَالَ: هَذَا نَاسِخٌ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ فَضَائِلُ لَهُ عليه الصلاة والسلام، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ، وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ بِنَاءِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ، فَقَالَ: حَدِيثُ الإِبَاحَةِ عَامٌّ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ خَاصٌّ، فَيَجِبُ أَنْ يُبْنَى الخَاصُّ عَلَى العَامِّ).

هَذِهِ المَسْألة الأُصُولية فيها خلافٌ، لكنه خلافٌ ضعيفٌ من حيث إبقاء العموم على عمومه، فيؤخذ به، ولا يُنْظر إلى الخاص، أو أنَّ العامَّ يخصَّص، كما أن المطلق يقيده المقيد؛ فالخلاف والنزاع عند ابن حزم، أما جماهير العلماء فيرون التخصيص

(1)

.

قوله: (فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنِ اسْتَثْنَى السَّبْعَةَ مَوَاضِعَ

(2)

، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى الحَمَّامَ وَالمَقْبَرَةَ، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام.

(1)

الظاهر أن ابن حزم خالف الجمهور في صورةٍ من صور التخصيص، وهو تخصيص العموم بالقياس، وإلا فهو يُوَافقهم في صوره الأخرى. انظر:"الإحكام في أصول الأحكام"، لابن حزم (1/ 81)، وفيه قال:"فأما وُجُوه البَيَان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص، فقَدْ يَكُون بالقرآن للقرآن وبالحديث للقرآن، وبالإجماع للقرآن، وقَدْ يكون بالقرآن للحديث، وبالحديث للحديث، وبالإجماع المنقول للحديث".

وانظر نفيه للتخصيص بالقياس في: "الإحكام في أصول الأحكام"، لابن حزم (3/ 152)، وفيه قال: "ومما تناقض فيه القائلون بتخصيص النصوص بالقياس أن قالوا بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

}، فقالوا: المدخول بها وغير المدخول بها سواء، ولم يقيسوا غير المدخول بها في الوفاة على غير المدخول بها في الطلاق كما قاس بعضهم الإحداد على المطلقة ثلاثًا على الإحداد على المتوفى عنها زوجها، فإن كان القياس حقًّا، فليستعملوه في كل مشتبهين، دان كان باطلًا فليجتنبوه".

(2)

أي: استثناهم من عموم الحلِّ، فقال بجواز الصلاة في كل مكانٍ إلا هذه المواضع، فهي خاصة من هذا العموم.

ص: 1362

ونَذْكر مثالًا ممَّا يضربه الفقهاء، فلو أنَّ إنسانًا ضاق به الأمر، ولَمْ يجد مكانًا إلا الحمام، فَيَجوز له الصلاة فيه شريطة أن يتوقَّى النجاسة، وكذا الحال مع مَعَاطن الإبل، أو أي بقعهٍ أُخرى، ويجوز له أن يفترش حائلًا على مكان النجاسة ليصلي، وسوف يأتي هذا تفصيلًا.

قوله: (لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْهُمَا مُفْرَدَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى المَقْبَرَةَ فَقَطْ لِلْحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ).

سَبَق الكلام عن نَهْيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقابر، وتحريم بناء المساجد عليها.

قوله: (وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ خَاصًّا مِنْ عَامِّ، فَقَالَ: أَحَادِيثُ النَّهْيِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الكَرَاهَةِ، وَالأَوَّلُ عَلَى الجَوَازِ

(1)

، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فِي البِيَعِ وَالكَنَائِسِ).

البِيَعُ جَمْعُ بيعةٍ، والكنائس جمع كنيسة، وهي أماكن مُعَدَّة للعبادة

(2)

، إلَّا أنها عبادةٌ باطلةٌ يُمَارسها الكفار، مثل اليهود: فقد ضلُّوا الطريق، فسَمَّاهم ربُّ العالمين {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، والنصارى الذين سَمَّاهم الله تعالى:{الضَّالِّينَ}

(3)

.

إذًا، هؤلاء أعدُّوا هذه الأماكنَ لإشراك العبادة مع الله، وبهذا فَهي تضرُّهم ولا تنفعهم، وقد شُرعَ لنا التعامل معهم، وأَكْل ذَبَائحهم والزواج من نِسَائِهِمْ؛ لأنهم يُعدُّون من أهل الكتاب وَإنْ بدَّلوا وأشركوا، لكنهم

(1)

سبق.

(2)

الكنائِس والبِيعَة موضع صلاةِ النصارى، وجمعُها: البِيَع. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 93).

(3)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(14/ 140)، عن عدي بن حاتم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المغضوب عليهم اليهود، والضالون النصارى"، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "التعليقات الحسان"(6213).

ص: 1363

ليسوا كالبوذيين

(1)

مثلًا، وَسَائر الكفار الآخرين الذين لا كُتُب، ولا شرائع عندهم.

إذن، لا ننسى أنَّ هذه البِيَعَ أو الكنائس جزءٌ من الأرض، والرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ:"جُعلَتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا"

(2)

، وَلَكن إشراكهم بالله في عبادتهم جعل للعلماء في صحة صلاتنا أقوالًا ثلاثة:

أوَّلها: المنع المطلق؛ لأنها أُعدَّت لعبادة غير الله سبحانه وتعالى، فلا نَأمن النجاسة فيها

(3)

.

ثَانيها: الجَوَاز المطلق؛ لأنها مَوْضعٌ من الأرض كغَيْره من المواضع

(4)

.

ثالثها: التفصيل، حَيْثُ فرَّقوا بين أن تكون فيها صور أو لا، فإن كانت خاليةً من الصور، فَالصَّلاة صحيحة، وإنْ كانت فيها صور فلا،

(1)

"البوذية": ديانَة أسسها بوذا الهندي (564 ق م- 483 ق م) واسعة الانتشار في الهند والشرق الأقصى. انظر: "المعجم الوسيط"(1/ 76).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 380)، وفيه قال:"تُكْره الصلاة في الكنيسة؛ لأنها مأوى الشياطين، وإنما يكره من حيث إنه مجمع الشياطين لا من حيث إنه ليس له حق الدخول، والظاهر أنها تحريمية؛ لأنها المرادة عند إطلاقهم، وقد أفتيت بتعزير مسلم لازم الكنيسة مع اليهود. اهـ. فإذا حرم الدخول، فالصلاة أَوْلَى، وبه ظهر جهل مَنْ يدخلها لأجل الصلاة فيها".

(4)

هُوَ الصحيح من مذهب الحنابلة: انظر: "الإنصاف"، للمرداوي (1/ 496)، وفيه قال:"ولَه دخول بيعة وكنيسة، والصلاة فيهما من غير كراهة، على الصحيح من المذهب. وعنه تُكْره. وعنه: مع صور، وظاهر كلام جماعة: يحرم دخوله معها". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 57).

وهو قول لبعض السلف. انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 158، 159)، وفيه قال:"ونقل الترخيص في الصلاة فيها عن أبي موسى والحسن والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وهي رواية عن ابن عباس، واختاره ابن المنذر".

ص: 1364

وهذا أسلم الأقوال، وقد نُقِلَ ذلك عن عُمَر بن الخطاب

(1)

، وهو قول ابن عباس

(2)

، ومالك

(3)

، وأقوى الرِّوايات عن أحمد

(4)

، ونقل أيضًا عن

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1/ 411)، عن أسلم مولى عمر قال: لما قدم عمر الشام، صنع له رجل من عظماء النصارى طعامًا ودعاه، فقال عمر:"إنا لا ندخل كنائسكم من الصور التي فيها"، يعني: التماثيل. وَذَكره الأَلْبَانيُّ في "الثمر المستطاب"(1/ 394)، ولم يتعقبه، وظاهر كلامه أنه صحيح.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1/ 411)، عن ابن عباس أنه كان "يكره أن يُصلَّى في الكنيسة إذا كان فيها تماثيل".

(3)

انظر: "المدونة"، لابن القاسم (1/ 182)، وفيه قال:"قال مالك: وأنا أكْرَه الصلاة في الكنائس لنَجَاستها من أقدامهم وما يَدْخلون فيها، والصور التي فيها، فقيل له: يا أبا عبد الله، إنا ربما سافرنا في أرضٍ باردةٍ، فيجننا الليل، ونغشى قرى لا يكون لنا فيها منزل غير الكنائس تكننا من المطر والثلج والبرد؟ قال: أرجو إذا كانت الضرورة أن يكون في ذلك سعة إن شاء الله، ولا يُسْتَحب النزول فيها إذا وجد غيرها".

ومعثمد مذهب المالكية الكراهة مطلقًا. انظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 168)، وفيه قال:"المعتمد أن الصلاة مكروهة مطلقًا عامرة ودارسة على فرشها أو غيره حيث صلى فيها اختيارًا، وإلا فلا كراهة، فهي صور ثمانية، الكراهة في أربع، وعدمها في أربع، وأما الإعادة في الوقت فمقيدة بقيود ثلاثة: أن تكون الصلاة فيها اختياريًّا، وأن تكون عامرة، وأن يصلي على فُرُشها المشكوك، فإن اختل شرطٌ، فلا إعادة".

وَكَذَا هو مذهب الشافعية، انظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 424)، وفيه قال في كراهة الصلاة فيها:" (و) في (الكَنيسة) وهي بفتح الكاف معبد النصارى، وفي البيَعَة بكسر الباء وهي معبد اليهود ونحوهما من أماكن الكفر؛ لأنها مَأْوَى الشياطين".

ومشهور مذهب الحنابلة الجواز إذا كانت طاهرةً ولم يكن فيها تَصَاويرُ، انظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 293)، وفيه قال:" (ويُبَاح دخول البيع) جمع بيعة بكسر الباء (و) دخول (الكنائس التي لا صور فيها و) تُبَاح (الصلاة فيها إذا كانت نظيفةً)، رُوِيَ عن عمر وأبي موسى لخبر: "جُعلَت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، (وتُكْره) الصلاة (فيما فيه صور) بيعة كانت أو كنيسة؛ لما تقدَّم من حديث: "لا تَدْخل الملائكة بيتًا فيه صورة".

(4)

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 293)، وفيه قال:(وتُكْره) الصلاة (فيما فيه صور) بيعةً كانت أو كنيسةً؛ لما تقدم من حديث: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة".

ص: 1365

عُمَر بن عبد العزيز، والحسَن، وَكَثير مِن التابعين

(1)

إلا أنَّ البعض قرن جواز الصلاة بالكراهة؛ لأن مَن رُئِيَ يتردد على كنيسة، فقَدْ يَرْتَاب الناس من دينِهِ

(2)

.

وإذا كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لمَّا مرَّ به بعض أصحابه وهو مع زوجتِهِ؛ بيَّن لهم أنها صفية، خشية أن يتطرَّق إليهم شكٌّ، أو يَتلَاعب بهم الشيطان، فيَظُنوا سوءًا

(3)

، فالأَوْلَى مَن دونه أن يتجنب كل موقع تلحقه فيه ريبة أو شبهة أو شك.

وَاستدلُّوا بعَدَم جواز الصلاة مع وُجُود الصور بما ثبت عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا تَدْخل الملائكةُ بيتًا فيه صورة"

(4)

.

وفي بعض رواياته: "لا تَدْخل الملائكة بيتًا فيه صورةٌ، ولا كلبٌ"

(5)

. وقَدْ توقَّف الوحي عن رسول الله لمثل هذه الأسباب

(6)

، وكذا امتنَع

(1)

نقل عن هؤلاء الجواز مطلقًا كما سبق من كلام النووي، ونقل هذا عنهم أيضًا ابن قدامة، فقال:"ولا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، رخص فيها الحسن، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز"، انظر:"المغني"(2/ 57).

(2)

سبق.

(3)

أخرج البخاري (3281)، ومسلم (2175/ 24)، عن صفية بنت حيي، قالت: كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمَرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"علَى رِسْلِكُما، إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: "إنَّ الشَّيطان يَجْري من الإنسان مجرى الدم، وَإنِّي خشيتُ أن يقذف في قلوبكما سوءًا"، أو قال:"شيئًا".

(4)

أخرجه البخاري (3226)، ومسلم (2106/ 85)، عن أبي طلحة.

(5)

أخرجه البخاري (3225)، ومسلم (2106/ 83)، عن أبي طلحة، قال: سَمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب، ولا صورة".

(6)

من ذلك ما أخرجه مسلم (2104/ 81)، عن عائشة، أنها قالت: واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعةٍ يأتيه فيها، فجاءت تلك الساعة ولم يأته، وفي يده عصا، فألقاها من يده، وقال:"ما يخلف الله وعده ولا رسله"، ثم التفت، فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال:"يا عائشة، متى دخل هذا الكلب هاهنا؟ "، فقالت: والله، ما=

ص: 1366

رَسُول الله من دخول الكعبة لما كان فيها تماثيلُ وصورٌ

(1)

.

وقال عمر فيما صح عنه: "لا يُصلَّى فيها لوجود تماثيلهم"

(2)

.

وثبت في "الصحيحين" أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذُكِرَت له كنيسة في الحبشَة لمَّا رجَع أصحابه من الهجرة الأولى، وذكروا ما فيها مِن الحسن والتصاوير؛ فقال صلى الله عليه وسلم:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا عليه مسجدًا، أولئك شرار القوم عند الله"، ويكفي هذا القول الشديد:"أولئك شرار القوم عند الله"

(3)

.

وَمِنْ هنا قال بَعْض العلماء بأنَّ الصلاة في الكنيسة ذات الصور تشبه الصلاة في المقبرة، وهي محل ريبة، ولو صلى فيها أحدٌ، فقد يتعلَّق قلبُهُ بغير الله سبحانه وتعالى، أما المساجد الخالصة، فلا شكَّ أنها أوْلَى بتَطْهير القلب، وإخلاصه لربه وَحْده لا شريك له.

إذًا، فَالصَّلاةُ جائزةٌ عند الاضطرار إذا خَلَتْ من الصور والتماثيل.

قوله: (فَكَرِهَهَا قَوْمٌ، وَأَجَازَهَا قَوْمٌ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صُوَرٌ أَوْ لَا يَكُونَ).

هناك رواياتٌ ثلاثٌ في مذهب أحمد

(4)

، أما في مذهب مالك،

= دريت، فأمر به فأخرج، فجاء جبريل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَاعدتني فَجَلست لك فلم تأتِ"، فقال:"منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة".

(1)

أخرج البخاري (3352)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال "قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط".

(2)

سبق.

(3)

أخرج البخاري (427)، ومسلم (528/ 16)، عن عائشة أم المؤمنين أن أم حبيبة وأم سلمة ذَكَرتا كنيسةً رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنَّ أُولَئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شِرَارُ الخَلْق عند الله يوم القيامة".

(4)

سبق من كلام المرداوي.

ص: 1367

فَالجَواز مع الكراهة، وله روايةٌ أُخرى

(1)

، أمَّا الشافعية فأَقْوَالهم مُتَعدِّدة في هذه المسألة

(2)

.

قوله: (وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ: لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَهُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ)

(3)

.

فهنا لم يورد الأدلة كاملةً، وكان الأَوْلَى أن يأتي بها، لأنها هي التي يستدل بها العلماء لقُوَّتها، لا سيما قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تَدْخل الملائكة بيتًا فيه صورةٌ، ولَا كلب"

(4)

، وتوقفه أيضًا عن دخول الكعبة وفيها صور

(5)

؛ فالفقهاء كثيرًا ما يستدلون بهذا.

قوله: (وَالعِلَّةُ فِيمَنْ كرِهَهَا لَا مِنْ أَجْلِ التَّصَاوِيرِ).

أَيْ: علة مَنْ كرهها لا من أجل التصاوير، ولكن لعلةٍ أُخرى، وهي مظنة النجاسة.

قوله: (حَمَلَهَا عَلَى النَّجَاسَةِ).

فالقصد أن الأقوال الثلاثة التي ذكرناها أصحها ما كانت علَّته من أجل التصاوير.

قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الأَرْضِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الطَّنَافِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ).

عَلَينا أن نُدقِّق النظر، فَفي زَمَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كان الأمر مختلفًا عن زمننا، فالمَسَاجد اليوم ضخمة، ومفروشة بما يُريح المُصلِّين من أفخر

(1)

سبق.

(2)

الذي وَقَفتُ عليه أن الشافعية لهم قولٌ واحد وهو الكراهة كَمَا سبق.

(3)

سبق.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1368

وأنعم أنواع المَفْروشات، أمَّا مَسْجد رَسُول الله في عهده فكان مبنيًّا مِن اللَّبِنِ، ومَسْقوفًا بالجريد وسعف النخل

(1)

، وكان إذا جاء المطر، نَزَل الماء على أرض المسجد وداخله، وقَدْ ثبت أن الرسول "سَجَد في الماء والطين"

(2)

.

فَمِنْ هنا تكلم العلماء عَنْ جواز مسح الجبهة والوجه لمَنْ يسجد في ماءٍ وطينٍ، ولكن بعد الصلاة لا خلالها بدليل أن الصحابة لمَّا صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفَتَ، رأوا أثر الطين على جبهته وأنفه

(3)

.

وَوَرد أنهم لما جدَّدوا، وضعوا الحصير، كما ثبت ذلك في حديث إقبال

(4)

بن مالك

(5)

، وفي حديث أنسٍ في قوله: "فقمت إلى حصيرٍ لنا قد

(1)

"السَّعَفُ": أغصان النخلة. الواحدة: سَعَفَةٌ. انظر: "العين"، للخليل (1/ 340).

(2)

أخرجه البخاري (669)، واللفظ له، ومسلم (1167/ 216)، عن أبي سلمة، قال: سَألتُ أبا سعيد الخدري، فقال: جاءت سحابة، فمطرت حتى سال السقف، وكان من جَريد النخل، فأُقِيمَتِ الصلاة، "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته".

(3)

وهذا الحديث رد به المالكية على الشافعية في اشتراطهم مباشرة الأرض بالجبهة في السجود.

انظر: "رياض الأفهام"، للفاكهاني (3/ 507)، وفيه قال:"والشافعية يَشْترطون مباشرة الأرض بالجبهة، والحديث دليل عليهم، وبيانه: إذا سجد في الماء والطين، ففي السجود الأول تعلق الطين بالجبهة، فإذا سجد ثانيًا، كان ما علق بالجبهة في السجود الأول حائلًا في السجود الثاني عن مباشرة الجبهة بالأرض، ويَبْعد أن يكون مسح جبهته عليه الصلاة والسلام من الأول، ثم سجد بُعْدًا شديدًا".

(4)

صوابه: عتبان بن مالك.

(5)

أخرجه البخاري (670)، عن أنس بن مالك، قال: قال رجلٌ من الأنصار: إنِّي لا أستطيع الصلاة معك، وكان رجلًا ضخمًا، "فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا، فدعاه إلى منزله، فبسط له حصيرًا، ونضح طرف الحصير فصلى عليه ركعتين"، فقال رجل من آل الجارود لأنس بن مالكٍ: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قال: ما رأيته صلَّاها إلا يومئذٍ.

قال العيني: "قوله: (قال رجلٌ من الأنصار)، قال بعضهم: قيل: إنه عتبان بن مالك، وهو محتمل لتقارب القضيتين". انظر: "عمدة القاري"(5/ 195).

ص: 1369

اسودَّ من طول ما مكث فنضحته"

(1)

.

وكان صلى الله عليه وسلم يتَّقي بوجهه حرارة الشمس

(2)

، وثبت ذلك عن الصحابة

(3)

، وصح أن عمر "صلى على

" يعني: من البسط

(4)

.

وَصحَّ عن عبد الله بن عباس أنه "صلى على الطنفسة

(5)

"

(6)

، وكل هذا سيَمُر معنا.

إذن، لم يَتَّخذوا فُرُشًا مخصوصةً للصلاة، كما يَحْصل اليوم من بعض مَنْ يأتون المسجد، ترَى بعضهم يتأبط سجادةً لا يصلي إلا عليها رغم وجود فُرُش بالمسجد، وَسَلامتها من النجاسة، لكنها العادة التي اعتادوها؛ وهي خاطئة.

(1)

أخرجه البخاري (380)، ومسلم (658/ 266)، عن أنس بن مالكٍ، أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعته له، فأكل منه، ثم قال:"قُومُوا فلأُصلِّ لكم"، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس، فنضحته بماء.

(2)

أخرج البخاري (381)، واللفظ له، ومسلم (513/ 270)، عن ميمونة، قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة".

(3)

أخرجه البخاري (385)، ومسلم (620/ 191)، عن أنس بن مالك، قال:"كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يُمكِّن جبهته من الأرض، بسط ثوبه، فسجد عليه".

(4)

لعل صواب العبارة: وصح أن عمر "صلى على عبقري"، يعني من البُسُط.

وهذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1/ 394)، عن عبد الله بن عامر، قال: رأيت عمر بن الخطاب: "يصلي على عبقري"، قلت: ما العبقري؟ قال: "لا أدري".

قال أبو عبيد: "عبقري هذه: البُسُط التي فيها الأصباغ والنقوش، والعبقري جمع، واحدته: عبقرية". انظر: "غريب الحديث"(3/ 400).

(5)

"الطَّنفَسة": واحدة الطنافسِ للبُسْط والثياب، والحصيرُ من سَعَفٍ عرضُه ذراع. انظر:"القاموس المحيط"، للفيروزآبادي (ص 555).

(6)

أَخْرَجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 554)، عن مقاتل بن بشير العجلي، عن رجلٍ يُقَال له: موسى: أن ابن عباس قدم من سفرٍ، فصلى في بيته ركعتين على طنفسَة.

ص: 1370

و"الطنافس": جمع طنفسة، وهي نوعٌ من المنسوجات أو الأقمشة يُفْرش بها

(1)

.

وَللفائدة نَذْكر ما حَصَل زمن مالك رحمه الله، حيث قَدِمَ عليه من العراق المُحدِّث الكبير والعالم الجليل عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، فَدَخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافترش سجادةً ليصلي عليها، فبلغ الأمر مالكًا؛ فأمر بحبسه، فقيل لمالكٍ: إنه عبد الرحمن بن مهدي! فقال: إنه ابتدع في مسجدنا

(2)

.

نقول: يصح أن نصلي على الصوف، والقطن، والوبر، وسائر ما تُنبته الأرض ويصير منسوجًا، وتصحُّ الصلاة أيضًا على جلود الحيوانات إذا طهرت، ونُقِلَ "أن جابرًا رضي الله عنه كان يَكْره أن يُصلِّي على شيءٍ من الحيوان، ويحب أن يصلي على ما تنبته الأرض"

(3)

، وهذا رأيٌ له، لكن عامة الصحابة والعلماء لا يرون بأسًا في ذلك

(4)

.

(وَاتَّفَقُوا عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الأَرْضِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الطَّنَافِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ).

(1)

سبق ذكره.

(2)

انظر: "الفتاوى الكبرى"، لابن تيمية (2/ 60)، وفيه قال:"وقد رُوِيَ أن عبد الرحمن بن مهدي لما قدم المدينة، بسط سجادةً، فأمر مالك بحبسه، فقيل له: إنه عبد الرحمن بن مهدي، فقال: أما علمت أن بسط السجادة في مسجدنا بدعة".

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 349)، عن صالح الدهان: أن جابر بن زيد كان يكره الصلاة على كل شيءٍ من الحيوان، ويستحب الصلاة على كل شيءٍ من نبات الأرض.

(4)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 57، 58)، وفيه قال:"ولا بأس بالصلاة على الحصير والبسط من الصوف والشعر والوبر، والثياب من القطن والكتان وسائر الطاهرات، وصلى عمر على عبقري، وابن عباس على طنفسة، وزيد بن ثابت وجابر على حصير، وعلي وابن عباس وابن مسعود وأنس على المنسوج .. وهو قول عوام أهل العلم إلا ما رُوِيَ عن جابر، أنه كره الصلاة على كل شيء من الحيوان، واستحب الصلاة على كل شيءٍ من نبات الأرض".

ص: 1371

وَالخلَافُ ليس على الصحَّة إنما على الكراهة.

وقَدْ ذكرنا ما مَنَّ الله به علينا من نعمة هذه الفُرُش الناعمة التي نُصلِّي عليها، وهي تَسْتوجب منا الشكر، لكن نُهِينَا عن الخُيَلاء، فلا ينبغي أن نُغَالي فيها، كما لا نغالي في حياتنا، سواء في مشينا أو ملبسنا؛ لذلك صح أن "مَنْ جرَّ ثَوْبَه خُيَلاء، فهو في النار"

(1)

.

وفي حديثٍ آخَرَ: من الثلاثة الَّذين لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ: الرجل الذي جرَّ ثوبه خيلاء

(2)

.

فَعَلى المسلمين أن يتواضعوا في مساجدهم وأبنيتهم، كما يتواضعون في أنفسهم، ولذلك وَرَد في الحديث الصحيح:"البذَاذَة من الإيمان"

(3)

، حتى وإنْ كان لابسًا ثيابًا حسنةً؛ لأنه ثَبتَ في الحديث الصحيح:"إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال"

(4)

.

إذًا، الإسلام لا يَمْنع من النظافة والجمال وحُسْن الملبس، ولكنه يُحرم الكِبْرَ والخيلاء، ويحث على التواضع، وقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده"(15605) بلفظ: "مَنْ وطئه خيلاء، وطئه في النار"، وصححه الأرناؤوط.

وأخرجه البخاري (5783)، ومسلم (2085) بلفظ:"لا يَنْظر الله إلى مَنْ جرَّ ثوبه خُيَلاء".

(2)

أقرب لفظ لما قاله الشيخ، ما أخرجه مسلم (106/ 171)، عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ثَلَاثةٌ لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم" قال: فقرأها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرارًا، قال أبو ذر: خابوا وخسروأ، مَنْ هم يا رسول الله؟ قال:"المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرج مسلم (91/ 147)، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَدْخل الجنة مَنْ كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْرٍ"، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، قال:"إنَّ اللهَ جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس".

ص: 1372

"إن الله يحب أن يُرَى أثر نعمتِهِ على عبده"

(1)

.

فالعبرة بمَا وَقَر في القلب، وصدَّقه اللسان، وكانت الجوارح دليلًا على ذلك.

قوله: (مِمَّا يُقْعَدُ عَلَيْهِ عَلَى الأَرْضِ، وَالجُمْهُورُ عَلَى إِبَاحَةِ السُّجُودِ عَلَى الحَصِيرِ وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الأَرْضُ، وَالكَرَاهِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ)

(2)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(1)

أخرجه الترمذي (2819)، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(4350).

(2)

الجمهور على إباحة الصلاة على البسط والفرش، وقال المالكية بالكراهة.

انظر في مذهب الأحناف: "مراقي الفلاح"، للشرنبلالي (ص 137)، وفيه قال:"ولا بأس بالصلاة على الفرش والبسط .. "، إذا وجد حجم الأرض، ولا بوضع خرقة يسجد عليها اتقاء الحر والبرد والخشونة الضارة "والأفضل الصلاة على الأرض" بلا حائل "أو على ما تنبته" كالحصير والحشيش في المساجد، وهو أولى من البسط لقربه من التواضع".

وانظر في مذهب المالكية: "التاج والإكليل"، للمواق (2/ 254)، وفيه قال:" (وكره سجود على ثوب) من "المدونة" قال مالك: يكره أن يسجد على الطنافس وبسط الشعر والأدم وثياب القطن والكتان، وأحلاس الدواب، ولا يضع كفيه عليه، ولا شيء على مَنْ صلَّى على ذلك".

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 426)، وفيه قال:"أَجْمَع المسلمون إلا الشيعة على جَوَاز الصلاة على الصوف وفيه، ولا كلراهة في الصلاة على شيءٍ من ذلك إلا عند مالكٍ، فإنه كره الصلاة عليه تنزيهًا، وقالت الشيعة: ولا يجوز ذلك؛ لأنه ليس من نبات الأرض". وانظر: "بحر المذهب"، للروياني (2/ 193).

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 352)، وفيه قال:(ولا) بأس بلبس ما نسج من (صوف ووبر وشحر)

(و) تباح (صلاة عليها كحصر ومعمول من نحو قطن) كليف، لما روي عن المغيرة بن شعبة، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والفروة المدبوغة".

ص: 1373

(البَابُ السَّابِعُ فِي مَعْرِفَةِ التُّرُوكِ التِي هِيَ شُرُوطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ)

(وَأَمَّا التُّرُوكُ المُشْتَرَطَةُ فِي الصَّلَاةِ، فَاتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مِنْهَا قَوْلًا، وَمِنْهَا فِعْلًا).

التُّرُوك في الصلاة، منها أفعالٌ يجب على الإنسان أن يَتْركها؛ كالأَكْل، والشُّرْب، ومنها أقوالٌ كالكلام والضحك

(1)

، وهناك أشياء أخرى تَعْرض للمصلِّي، منها قولٌ، ومنها فعلٌ، ومنها ما يُبْطل الصلاة، ومنها ما لايُبْطلها، مثل:

1 -

الأكل والشرب؛ فإنهما يبطلان الصلاة

(2)

.

2 -

الكلام، ومنه العَمْد لمصلحةٍ أو لغير مصلحةٍ، أو لما له علاقة بالصلاة

(3)

، وقَدْ يكون ناسيًا أنه في صلاةٍ، وقَدْ يكون ظانًّا أن الصلاة قد انتهت، وقد يغلبه الكلام في الصلاة بدون قصدٍ لا سيما إذا كان بَكَّاءً، فَتأوَّه أو قال:"آه"، ونحو ذلك، وقد يكون مُكرَهًا على الكلام بأن يُهدَّد وهو يصلي، وقد ينعس فيتفوَّه بتمتماتٍ

(4)

.

(1)

قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة". انظر: "الإجماع"(ص 39).

(2)

قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن المصلي ممنوع الأكل والشرب. وأجمعوا على أن مَنْ أكل وشرب في صلاته الفرض عامدًا أن عليه الإعادة". انظر: "الإجماع"(ص 39).

(3)

قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن مَنْ تكلم في صلاته عامدًا، وهو لا يريد إصلاح شيءٍ من أمرها، أن صلاته فاسدة". انظر: "الإجماع"(ص 39).

(4)

التمتمة في الكلام ألا يبين اللسان، يخطئ موضع الحرف فيرجع إلى لفظ كأنه التاء والميم. انظر:"العين"، للخليل (8/ 111).

ص: 1374

ولا يمكن أن نعطي حكمًا واحدًا على كل هذه المسائل؛ لأنها محل خلافٍ بين العلماء، لكن المسألة المجمَع عليها: بُطْلان صلاة مَنْ تكلَّم عامدًا عالمًا بالتحريم

(1)

؛ لحديث مُعَاوية بن الحكم السُّلمي رضي الله عنه قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فَرَماني القوم بأَبْصَارهم، فقلت: أمياه -وَفِي بعض الروايات: أبياه

(2)

- مَا شأنكم؟ فأخذوا يَضْربون بأيديهم على أفخاذهم، يريدون أن أسكت فَسَكت، فلما انصرَف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، بأبي وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فما كهرني

(3)

ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال:"إنَّ هَذِهِ الصَّلاة لا يَصْلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"

(4)

، فكان معاوية لا يعلم أن الكلام في الصلاة قد حُرِّم؛ لأنه كان جائزًا عندما فُرِضَتْ، ولذلك لم يأمره بإعادة الصلاة.

وقَدْ أشار المؤلف إلى حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الذي قال فيه: كنَّا نتكلم في الصلاة حتى نزل قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} .

وفي رِوَايةٍ في "الصَّحيحين": "أُمِرْنا بالسُّكوت"

(5)

، وزاد مسلم:"ونُهِينَا عن الكلام"

(6)

.

(1)

تقدَّم.

(2)

لم أقف على هذه الرواية.

(3)

قال أبو عبيد: قال أبو عمرو في قوله: "ولا كهرني": الكهر: الانتهار، يقال منه: كهرت الرجل فانا أكهره كهرًا. انظر: "غريب الحديث"(1/ 114، 115).

(4)

أخرجه مسلم (537/ 33).

(5)

أخرجه البخاري (4534)، عن زيد بن أرقم، قال:"كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا أخاه في حاجته" حتى نزلت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} ، فأمرنا بالسكوت.

(6)

أخرجه مسلم (539/ 35)، عن زيد بن أرقم، قال:"كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام".

ص: 1375

وقال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: "كنا نسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا السلام"، وهذا كان بمكة، قال:"فلما رجعنا من عند النجاشي، سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: كنا نسلم عليك يا رسول الله فكنتَ ترد علينا. فقال: "إنَّ فِي الصَّلاة لشغلًا"

(1)

.

وفي روايةٍ: "إِنَّ اللهَ يحدث من أمره ما يشاء، وإن اللّه أحدث ألَّا تكلموا في الصلاة"

(2)

.

إذًا، المقصود من الكلام في الصلاة هو الكلام العام، أما الكلام بالقراءة والذكر والتسابيح التي هي من الصلاة، فلا تَدْخل في الكلام المنهيِّ عنه؛ ولهذا ثَبتَ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ نابه شيءٌ في صلاتِهِ، فليسبِّح الرجالُ، ولتُصفِّق النِّساءُ"

(3)

.

•‌

‌ مسألة:

لو انعكس الأمر، فصفق الرجال، وسبحت النساء، لم تبطل الصلاة، لكنه خلاف الصحيح

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (1199)، ومسلم (538/ 34).

(2)

أخرجه أبو داود (924)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(857).

(3)

أخرج البخاري (684)، ومسلم (421/ 102)، عن سهل بن سعد الساعدي، وفيه قال صلى الله عليه وسلم "ما لي رأيتُكُم أكثرتم التصفيق، مَنْ رابه شيءٌ في صلاتِهِ، فليُسبِّح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء".

(4)

في مذهب الأحناف أن المرأة ليس لها إلا أن تصفق، وأنَّ الرجل ليس له إلا التسبيح، انظر:"حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 504)، وفيه قال:"وإذا نابها شيءٌ في صلاتها تصفق، ولا تسبح". وانظر: "البناية"، للعيني (2/ 418).

وفي مذهب المالكية أن الرجل يسبح، واختلف في المرأة فقيل: تسبح كالرجل، وقيل: تصفق، والمشهور أن كلاهما يسبح. انظر المشهور في:"التاج والإكليل"، لمواق (2/ 310)، وفيه قال:" (وتسبيح رجل، أو امرأة لضرورة ولا يصفقن) من "المدونة". قال مالك: لا بأس بالتسبيح في الصلاة للرجال والنساء، وضعف أمر التصفيق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نابه شيءٌ في صلاتِهِ فليسبِّح". وانظر الخلاف في "التبصرة"، للخمي (1/ 396).

ص: 1376

ثم يرى الحنفية (أبو يوسف وغيره) أن أيَّ متكلم في الصلاة، سواء عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، أو لمصلحة الصلاةً أو غيرها؛ فصلاتُهُ باطلةٌ إلا أنْ يُسبِّح، فَحِينَئذٍ يفصلون الحكم

(1)

.

وَيجُوز ردُّ السلام إشارةً باليد

(2)

، ويجوز الانتظار والرد بعد الفراغ

= وفي مذهب الشافعية: التسبيح يكون للرجال، والتصفيق للنساء، وإذا كان العكس جاز لكنه خلاف السُّنَّة، انظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 416، 417)، وفيه قال: " (ويسن لمن نابه شيءٌ) في صلاته (كتنبيه إمامه) لنحو سهو (أن يسبح وتصفق المرأة)، ومثلها الخنثى (بضرب) بطن (اليمين على ظهر اليسار) أو عكسه

فلو صفق الرجل، وسبحت المرأة جاز، لكن خالفا السُّنَّة".

وفي مذهب الحنابلة: التسبيح يكون للرجال، والتصفيق للنساء، ولهما التنبيه بغيرهما من التسبيح والتكبير.

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 213)، وفيه قال:" (وإذا نابه)، أي: عرض لمصل (شيء)، أي: أمر (كاستئذان عليه، وسهو إمامه) عن واجب، أو بفعل في غير محله (سبح) بإمام وجوبًا، وبمستأذن استحبابًا (رجل، ولا تبطل) صلاته (إن كثر) تسبيحه؛ لأنه من جنس الصلاة، (وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى)، (وتبطل صلاتها إن كثر) تصفيقها؛ لأنه عمل من غير جنسها".

(1)

انظر: "مراقي الفلاح"، للشرنبلالي (ص 120، 121)، حيث قال فيما يفسد الصلاة:"ومنه: "الكلمة" وإن لم تكنِ مفيدة؛ وكيا، "ولو" نطق بها "سهوًا" يظن كونه ليس في الصلاة، "أو" نطق بها "خطأَ"، والعمل القليل عفو لعدم الاحتراز منه، "و" يفسدها "الدعاء بما يشبه كلامنا"؛ نحو: اللهم ألبسني ثوب كذا أو أطعمني كذا

"و" يفسدها "تشميت" الدعاء بالخير خطاب "عاطس بيرحمك الله" عندهما خلافًا لأبي يوسف".

(2)

اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فذهب الجمهور إلى جواز الرد بالإشارة، وخالف الأحناف فَقَالوا بعدم الجواز.

انظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 157)، وفيه قال:"ولا يرد بالإشارة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يرد بالإشارة على ابن مسعود ولا على جابر، ما روي من قول صهيب: "سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فردَّ عليَّ بالإشارة" يحتمل أنه كان نهيًا له عن السلام أو كان في حالة التشهد، وهو يُشير فظنه ردًّا، ولو أشار يريد به رد السلام لا تفسد صلاته، وكذا لو طُلِبَ من المصلي شيء، فأشار بيده أو برأسه بنعم أو بِلَا، لا تفسد صلاته".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 284)، وفيه قال:=

ص: 1377

منها؛ فقد سلم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على أُبيِّ بن كعب، فلم يرد، وأسرع في صلاته، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَسَأله الرسول صلى الله عليه وسلم:"سلمتُ عليك فلم تجبني؟! "، فقال: إنني كنت أصلي، فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ألَيْسَ فيما أوحي إليَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} "

(1)

،

أما مَنْ تكلَّم في الصلاة ناسيًا، فيأخذ حكم الجاهل في عدَم بطلان صلاتِهِ، ومن العلماء مَنْ قال بإعادة صلاة الجاهل، لا سيما الحنفية الَّذين تشدَّدوا في هذه المسألة، أما الشافعية

(2)

والحنابلة، فَلَهم روايتان في

= (ولا) سجود (لجائز) ارتكابه في الصلاة

(وإشارة) بيد أو رأس (لسلام)، أي: لرده لا ابتدائه، فإنه مكروهٌ، وأما رده باللفظ فمبطل، والراجح أن الإشارة للرد واجبة".

وانظر في مذهب الشافعية: "حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج"(2/ 47)، وفيه قال:" (قوله: ويسنُّ ردُّ السلام)، أي: يُسَن للمصلي أن يرد السلام بالإشارة على مَنْ سلم عليه، وإن كان سلامه غير مندوبٍ. (قوله: ويجوز الرد بقوله وعليه)، أي: ولا تبطل به؛ لأنه دعاء لا خطاب فيه، وقضيته أنه لا يشترط قصد الدعاء".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 212)، وَفِيهِ قال:" (و) لمصلٍّ أيضًا (رد السلام إشارة)؛ لحديث: "كان يُشير في الصلاة". فإن رده المصلي لفظًا بطلت، ولا يرده في نفسه، بل يستحب بعدها، وظاهر ما سبق: لو صافح إنسانًا يريد السلام لم تبطل، ولا بأس بالإشارة في الصلاة باليد والعين، ولا بالسلام على المصلي".

(1)

أخرجه الترمذي (2875)، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أُبَي بن كعب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبي"، وهو يصلي، فالتفت أبيٌّ ولم يجبه، وصلى أبيٌّ فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وعليك السلام، ما منعك يا أُبَى أن تجيبني إذ دعوتك؟! "، فقال: يا رسول الله، إني كنت في الصلاة، قال:"أفلُم تَجد فيما أُوحِيَ إليَّ أن {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟! ". قال: بلى، ولا أَعُودُ إن شاء الله. وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(5806).

(2)

الروايتان في مذهب الشافعية فيمن تكلَّم في الصلاة ناسيًا، وأطال فيه، هل تبطل صلاته أم لا؟ فيه وجهان.

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 78)، وفيه قال: "وإنْ أطال الكلام وهو ناسٍ أو جاهل بالتحريم أو مغلوب، فَفِيهِ وَجْهان، المنصوص في البويطي أن=

ص: 1378

المسألة

(1)

.

أما مَنْ ظنَّ أن الصلاة تمت فتكلم، فهنا فصَّل العلماء الحكمَ

(2)

.

= صلاته تبطل؛ لأنه كلام الناسي والجاهل والمغلوب كالعمل القليل، ثم العمل القليل إذا كثر أبطل الصلاة، فكذلك الكلام، ومن أَصْحَابنا مَنْ قال: لا تبطل كأكل الناسي لا يبطل الصوم قلَّ أو كثر".

والمشهور أن كثير الكلام يبطل الصلاة، كما سيأتي.

(1)

اختلف العلماء في حكم مَنْ تكلم في الصلاة جاهلًا أو ناسيًا.

في مذهب الأحناف: تبطل الصلاة؛ سواء كان ذلك عمدًا أو جهلًا سهوًا أو نسيانًا، كما سبق.

وفي مذهب المالكية: لا تبطل به الصلاة إذا كان يسيرًا، انظر:"كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (1/ 323)، وفيه قال:" (ومن) كان إمامًا أو فذًّا و (تكلم) في صلاته كلامًا يسيرًا (ساهيًا سجد بعد السلام)؛ لأنه قلادة، ولا تبطل الصلاة به؛ إِذْ هو معذورٌ، فيَنْجبر سهوه بالسجود، وقيَّدنا بالإمام والفذ احترازًا من المأموم، فإنَّ الإمام كما تقدم يحمل سهوه ما لم يكن فريضةً، وباليسير احترازًا من الكثير، فإنه مبطلٌ، واحترز بالساهي من العامد والجاهل والمكره ومَنْ وجب عليه لإنقاذ أعمى مثلًا، فإن صلاتهم باطلة".

ومذهب الشافعية كمذهب المالكية من أنها لا تبطل بالكلام اليسير إذا كان ذلك نسيانًا.

انظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 180)، وفيه قال:" (فلو تكلم ناسيًا) أنه في الصلاة (أو جاهلًا) تحريمه فيها (وكان) كل منها (كثيرًا) في العرف (بطلت) صلاتُهُ؛ لأن ذلك يقطع نظمها (أو يسيرًا في العرف لم تبطل) للعذر".

وفي مذهب الحنابلة روايتان، والمشهور بطلان الصلاة، انظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 225)، وفيه قال:" (أو تكلم مطلقًا)، أي: إمامًا كان أو غيره، عمدًا أو سهوًا أو جهلًا، طائعًا أو مكرهًا، فرضًا أو نفلًا، لمصلحتها، أو لا في صلبها، أو بعد سلامه سهوًا واجبًا، كتحذير نحو ضرير، أو لا -بطلت. وعنه: لا تبطل بيسير لمصلحتها، ومشى عليه في "الإقناع" وغيره، لقصة ذي اليدين". وانظر: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 276).

(2)

في مذهب الأحناف: إذا كان كلامه سلامًا يخرج به من الصلاة لا تبطل.

انظر: "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"(1/ 155)، وفيه قال: "قال الكمال .. في زاد الفقير يُفْسدها الكلام عمده وسهوه قبل أن يقعد قدر التشهد إلا السلام ساهيًا، وليس مَعْناه السلام على إنسانٍ؛ إذْ صَرَّحوا أنه إذا سلم على إنسان ساهيًا فقال السلام، ثمَّ علم فسكت فسدت صلاته، بل المراد الخروج من الصلاة ساهيًا قبل=

ص: 1379

ومعنا دليلٌ قويٌّ وعمدةٌ في هذه المسألة، وهو قصة ذي اليدين:"أنه عندما صلى رسول الله صلاة الرباعية، سلَّم من اثنتين، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيتَ؟ فقال: "لم تقصر، ولَمْ أنسَ"، ثم اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الصحابة: "أصدق ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، فقال: فصلى ركعتين ثم سلم، وسجد للسهو"

(1)

.

فتكلم ذو اليدين وهو مأمومٌ، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم، وردوا

= إتمامها، ومعنى المسألة أنه يظن أنه أكمل، أما إذا سلم في الرباعية مثلًا ساهيًا بعد ركعتين على ظن أنها ترويحة ونحو ذلك، فتفسد صلاته".

وفي مذهب المالكية: لا تبطل إذا كان لا يفهم إلا به، انظر:"التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 300)، وفيه قال:"وإن سلَّم الإمام من اثنتين فسبحوا به فلم يفقه، فأعلمه أحدهم متكلمًا، فسأل الإمام بقيتهم فصدقوه، بنى فيما قرب، وسجد بعد السلام، ويُجْزئهم مَنْ تكلم، ومَنَّ لم يتكلم".

وَكَذَا هو مذهب الشَّافعيَّة، انظر:"حاشية الشرواني على تحفة المحتاج"(2/ 140)، وفيه قال: " (قوله: كالناسي) (قوله: كأن سلم فيها

إلخ) ولو سلم إمامه فسلم معه ثم سلم الإمام ثانيًا، فقال له المأموم: قَدْ سلمت قبل هذا، فقال الإمام: كنت ناسيًا، لم تبطل صلاة واحد منهما، أما الإمام فلأن كلامه بعد فراغ صلاته، وأما المأموم فلأنه يظن أن الصلاة قد فرغت، فهو غير عالم بأنه في الصلاة، لكن يسن له سجود السهو ثم يسلم؛ لأنه تكلم بعد انقطاع القدوة".

وفي مذهب الحنابلة: إذا كان شيئًا من جنس الصلاة صح، انظر:"المغني"، لابن قدامة (2/ 36)، وفيه قال:"أن يظن أن صلاته تمت، فيتكلم، فهذا إن كان سلامًا لم تبطل الصلاة، رواية واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه، وبَنَوا على صلاتهم، وإن لم يكن سلامًا، فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعةٍ من أصحابه، أنه إذا تكلم بشيءٍ مما تكمل به الصلاة، أو شيء من شأن الصلاة، مثل كلام النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، لم تَفْسد صلاته، وإن تكلم بشيءٍ من غير أمر الصلاة كقوله: يا غلام، اسقني ماءً، فصلاته باطلة".

(1)

أخرج البخاري (6051)، ومسلم (573/ 97)، عن أبي هُرَيرة: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبةٍ في مقدم المسجد، وَوَضع يده عليها، وفي القوم يومئذٍ أبو بكر وعمر، فهابا أن يُكلِّماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم رجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه: ذا اليدين، فقال: يا نبي الله، أنسيت أم قصرت؟ فقال:"لم أنس، ولم تقصر"، قالوا: بل نسيتَ يا رسول الله. قال: "صَدَق ذو اليَدَين

". الحديث.

ص: 1380

عليه؛ ومع ذلك لم يستأنف الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته، إنما بنَى على ما مضى.

فمن هنا نقول: إن النَّاسي يدخل في ذلك.

وقَدْ فصَّل بعض العلماء، فقالوا: إن كان الذي يظن أن الصلاة قد تمت ولم يحصل موافقة إلا التسليم من الصلاة، فهذا لا يضر، لأنه موافق للنص، أما إن كان كلامه خارجًا عن أمر الصلاة كأن يقول:"ناولني كذا"، أو نحو ما يخرج عن أمور الصلاة؛ فأكثر العلماء على بطلان صلاتِهِ

(1)

إلا قليلًا يُجَوِّزون

(2)

.

وبَعْضُهُم يقولون بأن حديث ذي اليدين منسوخٌ

(3)

، لأنهم قالوا: إنَّ ذي اليدين مات يوم بدرٍ، ولعله التبس على البعض وإلا فالصحيح الذي حققه العلماء أن الذي تُوفِّي يوم بدرٍ إنما هو الشمالين غير ذي اليدين، فهذا اسمه عمر بن عمر، والآخر الخرباق بن عمر

(4)

، فيلتقيان في اسم الأب، ولذلك سنرى أن الذي روى إنَّما هو أبو هريرة الذي أسلم في السنة السابعة يوم خَيْبَر، وللعلماء كلام طويل في هذه المسألة

(5)

.

(1)

وهُوَ الأحناف والحنابلة، كما سبق.

(2)

وهو المالكية والشافعية، كما سبق.

(3)

ممَّن قال بنسخه الأحناف. انظر: "الدر المختار"، للحصكفي (1/ 615)، وفيه قال:"وحديث ذي اليدين منسوخ بحديث مسلم: "إنَّ صلاتنا هَذِهِ لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس". وانظر التفصيل في: "اللباب"، للمنبجي (1/ 271، 272).

(4)

الصواب أن ذا الشمالين اسمه: عمير بن عمرٍو، وذو اليدين اسمه: الخرباق بن عمرو، كما سيأتي.

(5)

انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (3/ 221)، وفيه قال:"وما ادعاه الكوفيون أن حديث ذي اليدين منسوخٌ بحديث ابن مسعود، فغير مسلم لهم؛ لأن حديث ابن مسعود في تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة وقت قدومه من الحبشة، وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر، وقَدْ صح شهود أبي هريرة لقصة ذي اليدين، وأنها لم تكن قبل بدرٍ. وقولهم: إن ذا اليدين قتل يوم بدرٍ، فغير صحيح، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين، ذكر ذلك سعيد بن المسيب، وجماعة من أهل السير: ابن إسحاق وغيره، قالوا: وذو الشمالين هو عمير بن عمرو، من خزاعة حليف لبني زهرة، وذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر، وإن المتكلم كان من بني سليم".

ص: 1381

أما حديث عبد الله بن مسعود إنما كان بمكة؛ لأنه بعد أن هاجر إلى الحبشة، فهو حديث ناسخٌ، ومعه حديث زيد بن الأرقم

(1)

.

قوله: (فَأَمَّا الأَفْعَالُ، فَجَمِيعُ الأَفْعَالِ المُبَاحَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ إِلَّا قَتْلَ العَقْرَبِ وَالحَيَّةِ فِي الصَّلَاةِ).

وَرَد في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم "أنه أمر بقتل الأسودين؛ الحية والعقرب"

(2)

، فهذا دليل للعلماء، وهناك مَنْ ينازع إلا أن دليلَه ضعيف.

قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ لِمُعَارَضَةِ الأَثَرِ فِي ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ، وَاتَّفَقُوا فِيمَا أَحْسَبُ عَلَى جَوَازِ الفِعْلِ الخَفِيفِ).

الفعل الخفيف الذي لا يؤثر في هيئة الصلاة، كما فتح الرسول البابَ لأُمَامة

(3)

، وكما حمل الحسن والحسين على ظهره، إذ كانا يصعدان وينزلان وهما صغيران

(4)

؛ فعلى هذا، الحركة اليسيرة لا تؤثر في الصلاة، أما إذا كَثُرت وتَجَاوزت الحد، فإنها -بِلَا شكٍّ- تؤثر على الصلاة، وأكثر

(1)

هذا على قول الأحناف. لكن كَمَا سبق فإن دعوى النسخ ضعيفة.

(2)

أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (390)، وغيره، عن أبي هُرَيرة. وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح سنن الترمذي".

(3)

الذي جاء في خبر أُمَامَة أن الرسول حملها في الصلاة.

كما أخرجه البخاري (516)، ومسلم (543/ 41)، عن أبي قَتَادة الأنصاري، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمَامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سَجَد وضعها، وإذا قام حملها".

أما ما جاء من فتحه الباب في الصلاة، فهذا كان لعائشة، أخرجه أبو داود (922)، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والباب عليه مغلق، فجئت فاستفتحت، فمشى ففتح لي، ثم رجع إلى مصلاه، وذكر أن الباب كان في القبلة. وحسنه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(386).

(4)

أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(7/ 318)، عن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما، أشار إليهم أن دعوهما، فلما صلى وضعهما في حجره ثم قال:" (مَنْ أحبني فليحب هذين"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الصحيحة"(312).

ص: 1382

مَنْ يتشدَّد من الفقهاء في هذه المسألة الحنفية، ولعله تأتى زيادةُ بَيَانٍ وتفصيلٍ في هذه المسألة

(1)

.

قوله: (وَأَمَّا الأَقْوَالُ، فَهِيَ أَيْضًا الأَقْوَالُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ أَقَاوِيلِ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ أَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ عَمْدًا

(2)

؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]).

فالآية فيها بيان كلام زيد بن الأرقم: "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}

(3)

.

قوله: (وَلِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ فِي أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَمِمَّا أَحْدَثَ أَلَّا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ"

(4)

، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ: "كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238])

(5)

.

رواية: "كنَّا نتكلم في الصلاة لا يكلم أحدنا صاحبه إلى جنبه

"، متفق عليها، وجاءت زيادة في مسلمٍ: "نهينا عن الكلام"، وهي تؤكد الأولى، وإلا فالأُولَى كافيةٌ

(6)

.

(1)

ولذلك ردُّوا على هذه الأحاديث التي تُجِيزُ الحركة القليلة في الصلاة.

انظر: "اللباب" المنبجي (1/ 273)، وفيه قال:"فإن قيل: فقد روى أبو داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. قيل له: قال بعض الناس: هذا الحديث منسوخ، وقال بعضهم، هذا مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يؤمن على الطفل البول وغير ذلك على حامله، وقد يعصم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مدة إمساكه .. وانظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 35).

(2)

سبق نقل الإجماع.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

حديث ابن مسعود تقدم تخريجه.

(5)

حديث زيد بن أرقم تقدم تخريجه.

(6)

سبق تخريج هذه الروايات.

ص: 1383

قوله: ("فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الكَلَامِ"، وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ صَلَاتَنَا لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ وَقِرَاءَةُ القُرْآن")

(1)

.

أتَى المؤلف هنا بجزءٍ من الحديث، وقَدْ سَبَق وأوردناه كاملًا أثناء الشَّرح، وسيأتي مرةً أُخرى ليستدل به وبغيره من هذه الأحاديث على التكبير -إن شاء الله- في مسألةٍ قريبةٍ قادمةٍ.

قوله: (إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِذَا تَكَلَّمَ سَاهِيًا

(2)

، وَالآخَرُ إِذَا تَكَلَّمَ عَامِدًا لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ، وَشَذَّ الأَوْزَاعِيُّ، فَقَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ أَوْ لِأَمْرٍ كبِيرٍ، فَإِنَّهُ يَبْنِي)

(3)

.

" يبني"، أي: يستمر في صلاته، و"إحياء نفس" بأن يرى -مثلًا- إنسانًا أو طفلًا أو أعمًى سيسقط في نارٍ أو بئرٍ، فيُنبِّهه، وبهذا لا تتأثر صلاته، بل يبني ويستمر.

قوله: (وَالمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ التَّكَلُّمَ عَمْدًا عَلَى جِهَةِ الإِصْلَاحِ لَا يُفْسِدُهَا

(4)

).

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

سبقت هذه المسألة.

(3)

انظر: "الاستذكار"(1/ 498)، لابن عبد البر، وفيه قال:"أجمع المسْلمون أن الكلام في الصلاة عمدًا إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة ولم يكن ذلك في إصلَاح صلاتِهِ تفسد صلاته إلا الأوزاعي، فإنه قال: مَنْ تكلم في صلاته لإحياء نفسٍ أو مثل ذلك من الأمور الجسام -لم تفسد بذلك صلاته، وَمَضى عليها".

(4)

انظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 289)، وفيه قال:" (إلا) أن يكون تعمد الكلام (لإصلاحها)، أي: الصلاة (فـ) لا تبطل إلا (بكثيره) ". وانظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقَاضي عبد الوَهَّاب (1/ 263، 264).

ص: 1384

هذه أيضًا ورد فيها رواياتٌ في مذهبي الشافعية والحنابلة، ويعني المؤلف أن المذهبين يلتقيان مع بعضهما، لكن الحقيقة أنه عند تحرير مذهب الحنابلة نَرَاهم اعتبروا ذلك داخلًا ضمن النسيان، فيرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسي لأنه قال:"ما قصرت الصلاة، وما نسيت"، لكن الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وَجَّه لهم ذلك وأجابوا.

قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْسِدُهَا التَّكَلُّمُ كيْفَ كَانَ إِلَّا مَعَ النِّسْيَانِ)

(1)

.

إلا النسيان والجهل

(2)

، ويلتقي أحمد مع الشافعيِّ في ذلك

(3)

.

قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُفْسِدُهَا التَّكَلُّمُ كَيْفَ كَانَ)

(4)

.

أَكْثَر المَذَاهب تَشددًّا في هَذِهِ المسألة هم الحنفية، فإنهم حَسَموا القول في ذلك، وَرَأوا أن أي كلامٍ في الصلاة يفسدها؛ سَوَاء كان المتكلم عامدًا أو ساهيًا، وسواء لإصلاحَ الصلاة أو غير ذلك، وَسَواء غلب على أمره أو لم يغلب، حتى وإن كانت الكلمة من حرفين، فإنه يفسد عندهم الصلاة

(5)

.

(1)

انظر: "البيان"، للعمراني (2/ 303، 304)، وفيه قال:"وإن تكلم في الصلاة، نظرت: فإن كان بالتسبيح، أو التهليل، لم تبطل صلاته، وإنْ تكلَّم بكلامٍ يصلح لخطاب الآدميين، فإن كان يتكلم عامدًا عالمًا بتحريمه لمصلحة الصلاة، فهذا يبطل الصلاة عندنا؛ لأنه لو كان الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، أمَّا كلام الناسي، مثل: أن يعتقد أنه سلم، أو أنه ليس في الصلاة، فتكلم، ولا يطيل الكلام، فهذا لا تبطل به الصلاة عندنا". وانظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 140).

(2)

مسألة التكلم جهلًا أو نسيانًا سبق تحريرها.

(3)

انظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 520)، وفيه قال:" (أو تكلم) مصلِّ؛ إمامًا كان أو غيره، طائعًا أو مكرهًا، فرضًا أو نفلًا (ولو لمصلحة) بها عمدًا (أو سهوًا)، في صلبها، أو بعد سلامه سهوًا، لتحذير نحو ضرير، أو لا؛ بطلت"، هذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب.

(4)

سبق ذكر مذهبهم.

(5)

سبق.

ص: 1385

قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الأَحَادِيثَ المُتَقَدِّمَةَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ الكَلَامِ عَلَى العُمُومِ).

إن حديث: "إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس"

(1)

لا ينفي أي كلامٍ، فهو عامٌّ، مَنْ أخذوا به وبغَيْره من الأدلة العامة قالوا بعَدَم جوَاز الكلام مطلقًا، ومَنْ نَظَروا إلى الأدلة الأخرى، وإلى أسباب الكلام، مع أمْرَي النسيان والإكراه؛ اعتبروا بها شرعًا

(2)

، وسيأتي حديثٌ في آخِرِ هذه المسَألة يُذْكر أن الشافعي يستدل به.

قوله: (وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ المَشْهُورَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَكعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ"

(3)

. ظَاهِرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ).

مثل هذا يَتَرتب عليه مسألة سجود السهو، وللعلماء كلامٌ في هذه المسألة، هل يكون السُّجُود قبل الصلاة أو بعدها، وقَدْ عقد المؤلف بابًا مستقلًّا لهذه المسألة سنعرض له إن شاء الله.

قوله: (وَأَنَّهُمْ بَنَوْا بَعْدَ التَّكَلُّمِ، وَلَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ التَّكَلُّمُ صَلَاتَهُمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا الظَّاهِرِ، وَرَأَى أَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَخُصُّ الكلَامَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ، اسْتَثْنَى هَذَا مِنْ ذَلِكَ العُمُومِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ).

اختلَف أهل العلم في هذا الكلام على ما إذا كان يدخل في باب التعمُّد لمصلحة الصلاة أو في باب النسيان؛ فالذين اقتصروا على الجهل

(1)

تقدَّم.

(2)

وهم الجمهور خلافًا للأحناف كما سبق.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1386

والنسيان، حملوا الحديث عليه، والذين قالوا بالعمد لمصلحة الصلاة كالمالكية حملوا ذلك أيضًا عليه

(1)

.

قوله: (وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَمْدًا فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ قَصُرَتْ، وَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَمَّتْ).

إذًا، فعلَى تَأْويل المؤلف: منهم مَنْ ظنَّ أن الصلاة قَدْ قصرت، ومنهم من ظنَّ أن الصلاةَ تامةٌ.

قوله: (وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ تَكَلَّمُوا بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ، وَمَا نَسِيتُ"، قَالَ: إِنَّ المَفْهُومَ مِنَ الحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ إِجَازَةُ الكَلَامِ لِغَيْرِ العَامِدِ).

كلما تكلم المؤلف عن الشافعي، فأحمد معه؛ لأن رأيهما واحدٌ فيها من حَيْث الجُمْلة

(2)

.

قوله: (فَإِذًا، السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي المُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ العُمُومِ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ هَذَا الحَدِيثِ).

المَالكيَّة يَحْملون ذلك على العمد، ولا تبطل الصَّلاة إذا كان

لإصلاحها؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بنَى على ما مضى، أما الآخرون فيعدون كلام ذي اليدين سؤالًا وظنًّا أن الصلاة قد قصرت، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسي؛ فهو يريد أن يتتبع، والمسلمون تكلموا لمَّا سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم مطالبون بأن يجيبوا في هذه المسألة.

(1)

سبق.

(2)

تقدَّم ذكر مذهبيهما.

ص: 1387

قوله: (مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَمَدَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ أَصْلًا عَامًّا، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ .. ")

(1)

.

هذا الحديث

(2)

من الأحاديث المهمة في الشريعة، وَقَد اشتمل على أمورٍ ثلاثةٍ: أن اللهَ رَفَع عن الأمة الخطأ، والنسيان، وما اسْتُكرهوا عليه، وَهَذه الثلاثة أمور يَذْكرها العلماء ضمن أمورٍ سبعةٍ، وهي أسباب التخفيف، مثل:

• المرض؛ فالشريعة راعت المريض، وخففت عنه كثيرًا من الأحكام في حال مرضه.

• السفر؛ فالمسافر يقصر الصلاة، ويجمع بين الصلاتين، ولا تلزمه الجمعة، ويمسح ثلاثة أيام بلياليهن، وغير ذلك من الأحكام التي تخصه.

• النقص؛ فهنالك من الناس مَنْ هو أقل من بعض، فالمملوك أقل من الحر، ولذلك نجد أن الحد بالنسبة للعبيد على النصف من الأحرار، ونجد أن المرأة لا تجب عليها جمعة، ولا جماعة.

• عُمُومُ البلوى؛ فنرى ذلك في الاستحاضة، وَسَلس البول.

(1)

أي: اعتمده الشافعية والحنابلة، وكذا المالكية في عدم بطلان صلاة مَنْ تكلم فيها على وجه الخطإ والنسيان.

انظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 263)، وفيه قال:"الكلام سهوًا لا يبطل الصلاة".

وانظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (2/ 304)، وفيه قال:"كلام الناسي، مثل: أن يعتقد أنه سلم، أو أنه ليس في الصلاة، فتكلم، ولا يطيل الكلام، فهذا لا تبطل به الصلاة عندنا".

وانظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (2/ 37)، وفيه قال:"أن يُكْرَه على الكلام، فيحتمل أن يخرج على كلام الناسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما في العفو".

(2)

أخرجه ابن ماجه (2045)، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللهَ وَضَع عن أمتي الخَطأَ والنسيان وما استكرهوا عليه". وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(2566).

ص: 1388

وغير ذلك من أسباب التخفيف التي وردت، وقد عقد لها العلماء أبوابًا خاصة في كتبهم، وأكثروا من ذِكْرِهَا في كتب الفقه، وخَصَّصوا لها في الأشباه والنظائر حَيِّزًا كبيرًا

(1)

.

إذًا، الناسي والمُكرَه والمخطئ لكلٍّ منهم أحكامه التي تخصُّهُ؛ لأنَّ الشريعة نَظَرتْ إليهم نظرةً خاصةً، والله تعالى يقول:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

وَكَذلك الجاهل أيضًا له أحكامه التي تخصه.

وليس الجهل أو النسيان في كل حالة على إطلاقها، فلو أن إنسانًا نسي أو جَهِلَ ركنًا من أركان الصلاة؛ لَما سقط عنه ذلك الركنُ؛ فهناك قضايا مستثناة

(2)

.

قوله: (مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَمَدَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ أَصْلًا عَامًّا).

قد مر بنا الكلام عن هذا في أحكام الطهارة.

قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَحَمَلَ أَحَادِيثَ النَّهْي عَلَى عُمُومِهَا، وَرَأَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِحَدِيثِ ذِي اليَدَيْنِ، وَأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا)

(3)

.

يَتبيَّن لنا أن حَمْل أحاديث النهي على عمومها هو رأي الحنفية، وبقية العلماء خَصَّصوا، وَهُنَاك مَنْ يُوَافق الحنفية أن حديث ذي اليدين منسوخٌ

(4)

، وقَدْ سَبق بيان دَعْوى النسخ، والرد عليها.

(1)

انظر هذه القاعدة في: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (9/ 2) وما بعده.

(2)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 144)، وفيه قال:"وإذا صلى الجنب بقوم، فصلاته باطلة، سواء كان عالمًا بالجنابة حين دخوله في الصلاة أو ناسيًا لا خلاف في ذلك".

(3)

سبق ذكر هذا.

(4)

ممن قال بهذا أيضًا الثوري. انظر: "شرح النووي على مسلم"(5/ 71)، وفيه قال:"وقال أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه والثوري في أصح الروايتين تبطل صلاته بالكلام ناسيًا أو جاهلًا".

ص: 1389

وَالَّذين قالوا بعُذْر الناسي، وصحَّة صلاته، لهم وجهٌ، ولهم أدلتُهُم، وهي أدلة صحيحة كما بينَّا، وكذلك أيضًا مَنْ يتكلمون عن المغلوب أو الجاهل

(1)

.

أمَّا من يتكلم عمدًا؛ فالظاهر أنَّ صلاته باطلةٌ إذا كان لإصلاح الصلاة، وَسَبَق تفصيل ذلك

(2)

.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(البَابُ الثَّامِنُ: فِي مَعْرِفَةِ النِّيَّةِ، وكَيْفِيَّةِ اشْتِرَاطِهَا فِي الصَّلَاةِ)

" النيَّة": أصلها "نِوْيَة"، اجتمعت الواو والياء في كلمةٍ، فسبقت إحداهما في السكون، وهذه قاعدة صرفية معروفة مطردة

(3)

، فقلبت الواو ياءً؛ فسارت "نية"، ثم أدغمت إحدى الياءين؛ فصارتا "نية"

(4)

.

والحقيقة، أنه مهما تكرر الكلام عن النية، فلا بد أن نبيِّنه؛ نَظرًا لأهمِّيَّتها، وكَمَا هو معلومٌ أن النية محلها القلب، وهي الإخلاص؛ لأن الإخلاص إنما هو عمل القلب.

وقَدْ مَرَّ معنا في اشتراط النية فِي الوضوء والحج، وهاهنا نجدد

(1)

سبق.

(2)

سبق.

(3)

انظر: "علل النحو"، لابن الوراق (ص 479)، وفيه قال:"ومتى اجتمعت الواو والياء، والأول منها ساكن قُلبَت الواو ياءً، إذا كان الأول واوًا، وأدغمت الأول في الثاني".

(4)

النيَّة أصلُها نِوْيَة، أُدغِمت الواو في الياء، ووزنها فِعْلَة، واللغة الثانية خُفِّفت بحذف الواو، ووزنُها: فِلَّةٌ، بحذف العين. انظر:"تاج العروس"، للزبيدي (40/ 139).

ص: 1390

الكلام عنها في الصلاة، لكننا نرى خلافًا بين العُلَمَاء في اشتراط النيَّة في الوضوء والغسل

(1)

، ونرى أنهم اتَّفقوا على اشتراطها في التيمم

(2)

، كما

(1)

في مذهب الجمهور تشترط النية في الطهارة من الحدث، وخالف الأحناف، فقالوا بعدم اشتراطها، وأن العبادة تصح مع عَدَم وجودها.

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 20)، وفيه قال:"حتى لو سال عليه المطر، أَجْزَأه عن الوضوء والغسل فلا يُشْترط لهما النية، إذ اشتراطها لاعتبار الفعل الاختياري، وبه تبين أن اللازم للوضوء معنى الطهارة، ومعنى العبادة فيه من الزوائد، فإن اتصلت به النية يقع عبادةً، وإن لم تتصل به لا يقع عبادةً، لكنه يقع، وسيلة إلى إقامة الصلاة لحصول الطهارة كالسعي إلى الجمعة". وانظر: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 248).

وانظر في مذهب المالكية: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 22)، وفيه قال:"في فرائض الغسل وهي خمسة النية، خلافًا لأبي حنيفة". وانظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(1/ 125).

وفي اشتراطها في الوضوء. انظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 19)، وفيه قال:"في فرائض الوضوء، وهي ستة: النية".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 28)، حيث قال في شُرُوط الوضوء:"وفروضه ستة الأول النية".

وكذا هو شرط في الغسل. انظر: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (1/ 155)، وفيه قال:"ولكون الغسل كالوضوء في النية".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 51)، وفيه قال:"ويشترط لوضوء وغسل ولو مستحبين نية؛ لخبر: "إنما الأعمال بالنيات". ولأن النص دلَّ على الثواب في كل وضوءٍ، ولا ثواب في غير منويٍّ إجماعًا؛ لأن النية للتمييز، ولأنه عبادة، ومن شرطها: النية". وانظر: "الإنصاف"، للمرداوي (1/ 142).

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "مراقي الفلاح"، للشرنبلالي (ص 49، 50)، وفيه قال:"يصح التيمم "بشروط ثمانية": "الأول" منها "النية"؛ لأن التراب ملوث، فلا يصير مطهرًا إلا بالنية، والماء خلق مطهرًا". وانظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 52).

وانظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 116)، وفيه قال:"النية شرط في طهارة الأحداث كلها"، وانظر:"منح الجليل"، لعليش (1/ 143).

وانظر في مذهب الشافعية: "اللباب"، للمحاملي (ص 74)، وفيه قال: "فأما الفرض، =

ص: 1391

أنهم أجْمَعوا على أن النية فرضٌ في الصلاة

(1)

، لكن الخلاف بينهم: هل هي فرض من فروض الصلاة، فتكون جزءًا منها، أو هي كاستقبال القبلة، وستر العورة

(2)

.

= فسبعة أشياء: طلب الماء، والقصد إلى نقل التراب، والنية". وانظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 295).

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 23)، وفيه قال:"والنية شرط لطهارة الحدث، ولتيمم وغسل وتجديد وضوء مستحبين".

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 62)، حيث قال في شروط الصلاة:" (ومنها)، أي: من الشروط (النية)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، (وهي الإرادة) ".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 233)، وفيه قال:" (و) ثالثها (نية الصلاة المعينة) بأن يقصد بقلبه أداء فرض الظهر مثلًا، والتعيين إنما يجب في الفرائض والسنن والفجر دون غيرها من النوافل، فلا يشترط التعيين، فيكفي فيه نية النافلة المطلقة".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 45)، وفيه قال:"باب صفة الصلاة، أركانها نية بقلب لفعلها مع تعين ذات وقت أو سبب ومع نية فرض فيه، وسن نية نفل فيه".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 106)، وفيه قال:"النية، وهي الشرط التاسع: وهي شرعًا عزم القلب على فعل العبادة تقربًا إلى الله تعالى، فلا تَصحُّ الصلاة بدونها بحال".

(2)

في مذهب الأحناف شرط. انظر: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 62)، وفيه قال:" (ومنها)، أي: من الشروط (النية)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" (وهي الإرادة)، وهي صفة من شأنها ترجيح أحد المتساويين على الآخر". وانظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 138).

في مذهب مالك فرض، وقيل شرط. انظر:"الشامل"، للدميري (1/ 102)، وفيه قال: " [فرائض الصلاة].

وفرائضها: نية، وقيل شرط".

في مذهب الشافعية هي جزءٌ من الصلاة وقيل: شرط خارج الصلاة. انظر: "الإقناع"، للشربيني (1/ 129)، وفيه قال:" (النية)؛ لأنها واجبةٌ في بعض الصلاة وهو أولها لا في جميعها، فكانت ركنًا كالتكبير والركوع. وقيل: هي شرط؛ لأنها عبارة عن قصد فعل الصلاة، فتكون خارج الصلاة، ولهذا قال الغزالي: هي بالشرط أشبه". =

ص: 1392

ولكنهم اتفقوا على أن الصلاة بدون نية غير صالحة، وهنا يفرِّعون مسائل كثيرة على النية لم يذكر المؤلف منها سوى مسألة واحدة سيأتي بيانها.

ومسألة النية - كما قدَّمنا - عُنِيَ بها العلماء، ومنهم مَنْ كتب فيها كتابة مستقلة؛ كالإمام القرافي المالكي المعروف في رسالته المعروفة "الأمنية في إدراك النية"، و "منتهى الآمال في شرح الحديث: "إنما الأعمال

" للسيوطي.

وَتعرَّض لشرح الحديث ابن حجر في "فتح الباري"، وذلك في عدة مواضع، وتعرض له أيضًا النووي في "شرح مسلم"، وغير هؤلاء من العلماء.

والنية هي التي تميز أفعال العباد ما بين العبادات والعادات، ثم تميز بعض العبادات عن بعضٍ، فالوضوء عبادة، والإنسان يتوضأ قد يريد به الصلاة، أو قراءة القرآن، أو الطواف

وقد يتوضأ، أو يغتسل يريد النظافة، وهنا تكون عادة من العادات.

كذلك الصوم، فقَدْ يصوم صيامَ فرضٍ كرمضان، أو تطوعٍ ناويًا العبادة، أو صيام واجب بوفاء نذرٍ، أو صيام لأجل الحِمْية

(1)

الغَذائية، وتنظيم الغذاء؛ فلا شك أن لكلٍّ نيَّته.

كذلك إنفاق المال، فقَدْ تذهب وتُعْطي أحدًا على سبيل الزكاة، وقد

= وفي مذهب الحنابلة أنها شرطٌ في قول الأكثرين، وقيل: فرض. انظر: "الإنصاف"، للمرداوي (2/ 19)، وفيه قال:"الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم: أن النية شرط لصحة الصلاة، وعنه فرض .. قال في "المستوعب": وقال القاضي وغيره من أصحابنا: شرائطها خمسة، فنقصوا منها النية وعدوها ركنًا. وقال الشيخ عبد القادر: وهي قبل الصلاة شرط، وفيها ركنٌ". وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 200).

(1)

"الحمية": ألَّا تدخل طعامًا على طعام، وأن تمسك عن الاستكثار من الأكل. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (12/ 18).

ص: 1393

تُعْطي على سَبيل الصدقة، وقَدْ يكون على سبيل القرض أو التبرُّع، وقَدْ يكون على سبيل غرضٍ كرشوةٍ ونحوها؛ فالذي يميز ذلك كله النية.

وقَدْ يجاهد الإنسان حَمِيَّةً أو عصبيةً، وهذا قد وقع في زَمَن الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي امتنع، ثم وجد يتشحط بدمه

(1)

، فذكرت قصته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هو في النار"، فتعجبوا، فرجعوا فوجدوه في آخر رمقٍ من حياته فسألوه، فبين أنه قاتل عصبيةً

(2)

.

ولذلك، جاء في الحديث الصحيح:"مَنْ قاتلَ لتكون كلمة الله هي العليا، فَهو في سبيل الله، ومَنْ يقاتل حميةً أو عصبيةً، فهذا لا ينفعه إنما يهوي به في النار"

(3)

.

كذلك قَدْ يصلي الإنسان صلاةً ينوي بها وجه الله صلى الله عليه وسلم، وطلب الثواب منه؛ فيُثَاب، وقد يُصلِّي رياءً وسمعةً، وقد يكون في عبادةٍ، فيراه أحدٌ فيُزيِّنها لأجله؛ وهنا يكون قد خلط عملًا صالحًا بعملٍ سيئٍ، ولذلك

(1)

"يتشحط في دمه" أي: يتخبط فيه ويضطرب ويتمرغ. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 449).

(2)

أخرج البخاري (4207)، واللفظ له، ومسلم (12/ 179)، عن سهل، قال: التقى النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا، فَمَال كل قومٍ إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجلٌ لا يدع من المشركين شاذةً ولا فاذةً إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله، ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان، فقال:"إنه من أهل النار"، فقالوا: أينا من أهل الجنة إنْ كان هذا من أهل النار؟ فقال رجلٌ من القوم: لأتبعنه، فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح، فاستعجل الموت، فوضع نصاب سيفه بالأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال:"وما ذَاكَ؟ "، فأخبره، فقال:"إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإنَّه لمن أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة".

(3)

أخرج البخاري (7458)، ومسلم (1904/ 150)، واللفظ له، عن أبي موسى، قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميةً، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قاتلَ لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله".

ص: 1394

جاء في الحديث الصحيح: "أنَا أغنَى الشُّركاء عن الشرك، مَنْ عمل عملًا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه"

(1)

.

يقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].

وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 14، 15]

إذًا، الإخلاص هو عمل القلب، ولا يصح عملٌ إلا به، وعملُ القلب هو النية، والنية محلها القلب، وقَدْ جاء في الحديث الصحيح:"إنَّما الأعْمَال بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ ما نَوَى، فمَنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورَسُولِهِ، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلَى ما هاجر إليه"

(2)

.

وقَدْ قدَّر العلماء في هذا الحديث محذوفًا "إنما الأعمال

"، أي: إنما ثواب الأعمال، أو صحة الأعمال

(3)

، وهناك عدة تقديرات أُخرى ذَكَرها العلماء في هذا الحديث

(4)

.

إذًا، النيَّةُ أمرُهَا عظيمٌ، وتميِّز بها بين العادات والعبادات، ولذلك فمَن أخلصَ في عمله، فإنه ينال الثواب، ولذلك عندما نتحدث عن التكبير في الصلاة، سنجد أن العلماء أيضًا تكلموا عن النية.

(1)

أخرجه مسلم (2985/ 46)، عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري (6689)، ومسلم (1907/ 155).

(3)

انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 244)، وفيه قال:"قوله: "إنما الأعمال بالنيات"، معناه أن صحة الأعمال ووجوب أحكامها إنما يكون بالنية، فإن النية هي المصرفة لها إلى جهاتها، ولم يرد به أعيان الأعمال؛ لأن أعيانها حاصلة بغير نية، ولو كان المراد به أعيانها، لكان خلفًا من القول".

(4)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 54)، وفيه قال:"قال جماهير العلماء من أهل العربية والأصول وغيرهم لفظة: "إنما" موضوعة للحصر تثبت المذكور، وتنفي ما سواه، فتقدير هذا الحديث: إن الأعمال تحسب بنية، ولا تُحْسَب إذا كانت بلا نِيَّةٍ".

ص: 1395

مثال ذلك:

مَنْ أراد أن يصلي صلاةً، فبعض العلماء يقول: لا بد له من أمور ثلاثة:

الأول: أن يَنوِيَ فِعل الصلاة.

الثاني: أن ينوي تعَيُّن الصَّلاة، هل هي العشاء أو الظهر، أو العصر.

الثالث: أن ينوي بها الفريضة؛ لأن هناك صلوات نافلة.

فالأولان متفق عليهما بلا خلاف بين العلماء مِنْ حيث الجملة، لكنهم يختلفون في اشتراط الفرضية

(1)

.

(1)

في مذهب الأحناف يُشْترط نية الصلاة، ونية تعيين الفرض، ولا يَرَون اشتراط نية الفريضة.

انظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 99)، وفيه قال:"ويحتاج هنا إلى ثلاث نيات: نية الصلاة التي يدخل فيها، ونية الإخلاص لله تعالى، ونية استقبال القبلة عند الجرجاني، وفي "المبسوط" الصحيح أن استقبالها يغني عن النية، والأول ذكره المرغيناني. قال رحمه الله: (ويكفيه مطلق النية للنفل والسنة والتراويح) هو الصحيح؛ لأن وقوعها في أوقاتها يغني عن التعيين، وبه صارت سُنَّة لا بالتعيين، قال رحمه الله: (وللفرض شرط تعيينه كالعصر مثلًا)؛ لأن الفروض متزاحمة، فلا بُدَّ من تعيين ما يريد أداءه حتى تبرأ ذمته".

وانظر في عدم اشتراط نية الفريضة: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 128).

وفي مذهب المالكية يشترط الثلاثة، انظر:"المدخل"، لابن الحاج (2/ 274)، وفيه قال:"ومن صفة النية على الكمال أن ينوي بصلاته التقرُّب إلى الله تعالى بأداء ما افترض عليه من تلك الصلاة بعينها، وذلك يَحْتوي على خمس نيات، وهي: نية الأداء، ونية التقرب إلى الله تعالى، ونية الفرض، وتعيين الصلاة، وإحضار الإيمان والاحتساب، وهو شرط في صحة ذلك كله". وانظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 236).

وفي مذهب الشافعية تشترط نية الصلاة والتعيين، أما اشتراط الفريضة فقولان، الأصح اشتراطها، انظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 451، 452)، وفيه قال: " (فإن صلى)، أي: أراد أن يصلي (فرضًا) ولو نذرًا أو قضاء أو كفاية (وجب قصد فعله) بأن يقصد فعل الصلاة لتتميز عن سائر الأفعال، وهي هنا ما عدا النية؛ لأنها لا تنوى كما مر، (و) وجب (تعيينه) من ظُهْر أو غيره

(والأصح وجوب نية =

ص: 1396

مثال ذلك: لو أنَّ إنسانًا جَاءَ إلى صلاة الظهر؛ فهو ينوي فِعْلَ هذه الصلاة، وكذلك ينوي تعيُّنها، لكن هل يحتاج أن يضيفَ إلى ذلك الفريضة، أو أنَّ ذلك معروفٌ بأن الظهر صلاة مكتوبةٌ مفروضة ومحفوظة في هذا الوقت؟

الجواب: بعض العلماء يتشدَّد في نية تعيين الفرضية ويشترطها؛ لأن الصلاة المكتوبة قد تكون فرضًا في حقِّ البعض، وقَدْ تكون غير فرضٍ في حقِّ آخرين؛ فَالصَّغيرُ لا تَجب في حقه، بَلْ هي نفلٌ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم يقول: "رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلَاثةٍ

"، وذكر منهم الصغير حتى يبلغ

(1)

.

كَذَلك الذي أدَّى الصلاة وأراد أن يعيدها مع الجماعة، فهي في حقه نافلة

(2)

بدليل الحديث الصَّحيح الذي أخرجَه مسلمٌ في "صحيحه" من

= الفرضية)، ومقابل الأصح لا تجب؛ لأن ما يعينه ينصرف إليها بدون هذه النية بخلاف المعادة، فلا ينصرف إليها إلا بقصد الإعادة".

وَفِي مَذْهب الحنابلة: يُشْترط نية الفعل، وتعيين الفرض، أما نية الفرضية ففيها وجهان، أشهرهما عدم اشتراطها.

انظر المشهور في: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 176)، وفيه قال:" (وشرط" بالبناء للمفحول (مع نية الصلاة تعيين معينة)؛ فرضًا كانت أو نفلًا، فيَنْوي كون المكتوبة ظهرًا أو عصرًا، أو كون الصلاة نذرًا، إن كانت كذلك، أو تراويح أو وترًا، أو راتبةً إن كانت، لتمتاز عن غيرها، (ولا) تُشْترط نية (قضاء في فائتة)، (و) لا نية (فرضية في فرض) ". وانظر الوجهين في:"الإنصاف"، للمرداوي (2/ 22).

(1)

أَخْرَجه النسائيُّ في "الكبرى"(6/ 487)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(297).

(2)

هذان التعليلان اللذان ذكرهما المؤلف هو حجة مَنْ ذهب إلى اشتراط نية الفريضة، وهو أصح الوجهين عند الشافعية، ورواية عن الحنابلة والمشهورة غيرها، كما سبق. انظر في مذهب الشافعية:"المهذب"، للشيرازي (1/ 134)، وفيه قال:"وهل يلزمه نية الفرض؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يلزمه لتتميز عن ظهر الصبي، وظهر مَنْ صلى وحده ثم أدرك جماعةً فصلاها معهم. وقال أبو علي بن أبي هريرة: تكفيه نية الظهر أو العصر؛ لأن الظهر والعصر لا يكونان في حق هذا إلا فرضًا".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 241)، وفيه قال:"قال ابن حامد: ويلزمه أن ينوي فرضًا، لتتميز عن ظهر الصبي والمعادة. وقال غيره: لا يلزمه؛ لأن ظهر هذا لا يكون إلا فرضًا".

ص: 1397

حديث أبي ذرٍّ، عندما قال له رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"كيفَ أنتَ إذا كان عَلَيك أُمَراء يُؤخِّرون الصَّلاة عن وقتها؟ "، قال: يا رسول الله، فما تأمرني؟ قال:"صَلِّ الصَّلاة لوَقْتها - أَيْ: وَحْدك - فإن أدركتها معهم، فإنها تَكُون لك نافلة"

(1)

.

وَمِنْ فَوَائد هذا الحديث: أنَّ فيه حَضًّا من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وأمرَ إلزام بلُزُوم جماعة المسلمين؛ لأنه قال:"فَإِنْ أَدْرَكتها معَهم فَصلِّ"، وَحذَّرَه مِن ألَّا يُصَلي معهم؛ لأن في عدم الصلاة معهم افتياتًا على الإمام

(2)

، وخروجًا عن جماعة المسلمين في عدم الصلاة معهم؛ فلا ينبغي أن يلقي الإنسان نفسه في الشبهة والريبة؛ ولذلك جاء في قصة الرجلين عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما انصرف من صلاته وجد رجلين قد اعتزلا القوم، فجيء بهم ترتعد فرائصهم

(3)

، فقال لهما صلى الله عليه وسلم:"ما مَنعَكُمَا أن تُصلِّيا معنا؟ "

(4)

.

وَفِي حَديث الرَّجلين اللَّذين صليا وحدهما، قال لأحدهما:"ألست مسلمًا؟ "، فقال: يا رسول الله، صلينا في رحالنا. قال:"إذا صلَّيتما فِي رِحَالِكُمَا، وأتيتما مسجد جماعة، فصليا، فإنها تكون لكما نافلة"

(5)

؛

(1)

أخرجه مسلم (648/ 238)، عن أبي ذرٍّ.

(2)

"الافتيات": افتعال من الفوت، وهو السبق إلى الشيءِ دون ائتمار مَنْ يؤتمر. انظر:"الصحاح"، للجوهري (1/ 260).

(3)

"تَرْتعد فرائصهم"، أيْ: تَرجُف وتضطرب من الخوف. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (2/ 234).

(4)

أخرجه الترمذي (219)، عَنْ يزيد بن الأسود، قال: شهدتُ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف، فإذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يصليا معه، فقال:"عليَّ بهما"، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ "، فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صَلَّينا في رحالنا. قال:"فَلَا تَفْعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(1152).

(5)

الشارح رحمه الله أدخل حديثين في بعض، فهذا الحديث حدث مع رجل، والآخر مع رجلين. =

ص: 1398

لأن هذا شذوذ وخلاف، والمأمور به اجتماع المسلمين، وقد جاء الإسلام بجمع كلمة المسلمين، وتَوْحيد صُفُوفهم، ونبذ الخلاف بينهم، والله تعالى يقول:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105].

فيَنْبغي أن تكونَ اجتماعاتُ المُسْلمين حاصلةً في هذه الصلوات الخمس، حيمث يَجْتمعون في اليوم والليلة خمس مرات، ويجتمعون أيضًا في كل أسبوع مرةً في صلاة الجمعة؛ وهكذا تَحْصل الألفة والمودة والقوة للمسلمين.

إذًا، النية أَمْرها مهمٌّ، وَيَجب الاهتمام بها، ومع ذلك نجد أن العلماءَ يَضَعون من مسائل النية استصحاب حكم، أيْ: ألَّا ينوي قَطْعها.

مثال: إنسان يريد صلاة العشاء، فيَنْوي لذلك، ويَسْتصحب تواصلها وإكمالها وعدم قطعها؛ ولذلك قال:"استصحاب حكمها ألا ينوي قطعها".

مثال آخر: لو أن إنسانًا دخل في صلاةٍ من الصلوات المفروضة، ثم تذكر أنه نسي صلاةً فائتةً، فأراد أن يقطع نية الصلاة التي دخل فيها لينتقل إلى صلاة أُخرى، وهنا تبطل صلاتاه (التي دخل فيها، والتي أراد أن ينويها)؛ لأنه قطع النية بنيةٍ أُخرى، وفقَدَ تكبيرة الإحرام للصلاة الأولى، ولم يأتِ بتكبيرة إحرام للصلاة الثانية

(1)

.

= أما هذا الحديث، فأخرج النسائي (857)، عن بسر بن محجن، عن أبيه، أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟ "، قال: بلى، ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا جئت فَصلِّ مع الناس وإنْ كنت قد صَلَّيتَ"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(1153).

(1)

في مذهب الأحناف: لا تبطل صلاة مَنْ نوى قطعها أو نوى الانتقال إلى غيرها.

انظر: "التجريد"، للقدوري (1/ 462)، وفيه قال: "قال أصحابنا: إذا دَخَل في الصلاة، ثم نوى أن يقطعها، أو نوى صلاةً أُخرى لم تؤثر نيته في صلاته. لنا: أنها =

ص: 1399

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عبادة صح دخوله فيها، فلا تفسد إذا نوى الخروج منها، كالحج".

وفي مذهب المالكية: تبطل الصلاة إذا نوى قطعها أو نوى الانتقال إلى غيرها، واستثنوا مَنْ كان في فريضةٍ ونوى الانتقال منها إلى نافلةٍ. انظر:"التلقين"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 48)، وفيه قال:"ويُفْسد الصلاة اثنتا عشرة خصلةً قطع النية عنها جملة"، وهو المذهب، انظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 290)، وفيه قال:" (و) بطلت (بانصراف) أي إعراض عن صلاته بالنية، وإن لم يتحوَّل من مكانه (لحدث) تذكره أو أحس به (ثم تبين نفيه) لحصول الإعراض، إِذْ هو رفضٌ، ولا يبنى ولو قرب".

وانظر في الانتقال بالنية من صلاةٍ إلى أُخرى: "مسائل أبي الوليد ابن رشد"(1/ 493)، وفيه قال:"إذا نقل النية من نافلةٍ إلى فريضةٍ بعد أن دخل في النافلة، أو من فريضةٍ إلى فريضةٍ، مثل أن يحرم بصلاة الظهر، وقد دخل وقت العصر، فيذكر أنه قد كان صلَّى الظهر، فينقل نيته إلى صلاة العصر، فلا اختلاف في أن الصلاة لا تجزئة بخلاف نقل نيته في الصلاة من الفريضة إلى النافلة؛ لأن الفريضة تجمع نية الفريضة والنافلة".

ومذهب الشافعية كمذهب المالكية، إلا أن مَنْ نوى أن يدخل في نافلةٍ وهو فريضة، ففيه وجهان.

انظر: "المهذب"، للشيرازي (1/ 135)، وفيه قال:"وإنْ نوى الخروج من الصلاة، أو نوى أنه سيخرج أو شك هل يخرج أم لا، بطلت صلاته؛ لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطع ذلك بما أحدث، فبطلت صلاته كالطهارة إذا قطعها بالحدث، وإنْ دخل في الظهر ثم صرف النية إلى العصر بطل الظهر؛ لأنه قطع نيتها ولم يصح العصر؛ لأنه لم ينوِ عند الإحرام وإنْ صرف نية الظهر إلى التطوع بطل الظهر، وفي التطوع قولان، أحدهما: لا يصح في العصر. والثاني: تصح؛ لأنَّ نية الفرض تتضمن نية النفل". وانظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 347).

ومذهب الحنابلة كمذهبي المالكية والشافعية. انظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 107)، وفيه قال:"ويجب استصحاب حكمها إلى آخر الصلاة، فإن قطعها في أثنائها أو عزم عليه أو تردد فيه أو شك هل نوى، فعمل مع الشك عملًا ثم ذكر أنه نوى أو شك في تكبيرة الإحرام، أو شك هل أحرم بظهر أو عصر، ثم ذكر فيها أو نوى أنه سيقطعها أو علقه على شرط، بطلت".

وانظر في بطلان الصلاة فيمَن انتقل بنيته من فرضٍ إلى آخَرَ: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 177، 178)، وفيه قال: " (وإن انتقل) من أحرم بفرض كظهر (إلى) فرض (آخر) كعصر (بطل فرضه) الذي انتقل عنه (وصار) ما انتقل عنه =

ص: 1400

وسيأتي كلام العلماء عن موضع النية بالنسبة للصلاة، فبعضهم قال بمُصَاحبتها تكبيرة الإحرام، أيْ: ينوي بقلبه، ويتلفَّظ بلسانه؛ فيتواكبان معًا كما هُوَ مَذْهب الشافعيَّة

(1)

، وبعضهم قال بتقدُّمها تقدُّمًا يسيرًا دون فصلٍ كَمَا هو مذهب الحنفية

(2)

، والحنابلة

(3)

، وبعضهم قال بجَوَاز خروج الإنسان من بيتِهِ ناويًا الصلاة، وهذا رأيٌ لبعض الحنفية، وفي مقدمتهم أبو يُوسُف

(4)

.

= (نفلًا إن استمر) على حالِهِ؛ لأنه قطع نية الفرضية بنية انتقاله عنه دون نية الصلاة، فتصير نفلًا، ولا يصحُّ الفرض الذي انتقل إليه (إن لم ينو) الفرض (الثاني من أوله بتكبيرة إحرام)؛ لخلو أوله عن نية تعينه".

وانظر في صحتها لمَن انتقل من فرضٍ إلى نافلةٍ: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 189)، وفيه قال:"والمذهب صحة قلبه نفلًا"، قال في "الإنصاف": ولو قلب نية نذر وقضاء إلى النفل، كان حكمه حكم من انتقل من فرض صلاة إلى نفلها، وجزم بصحته في "الفروع" و "التنقيح" و "المنتهى".

(1)

انظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 141)، وفيه قال:" (وتجب مقارنتها للتكبيرة)، أي: تكبيرة الإحرام؛ لأنها أول الأركان، وذلك بأن يأتي بها عند أولها، ويستمر ذاكرًا لها إلى آخرها".

(2)

انظر: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 217)، وفيه قال:"قوله: "أن توجد مقارنة للنية حقيقة" مثال المقارنة حقيقة أن ينوي مقارنًا للشروع بالتكبير، وهو الأفضل بإجماع أصحابنا

"أو حكمًا" مثال المقارنة الحكمية أن يقدم النية على الشروع، قالوا: لو نوى عند الوضوء أنه يصلي الظهر مثلًا، ولم يشتغل بعد النية بعملٍ يدل على الأعراض كأكلٍ وشربٍ وكلامٍ ونحوها، ثم انتهى إلى محل الصلاة ولم تحضره النية، جازت صلاته بالنية السابقة".

(3)

انظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 106، 107)، وفيه قال:"ويأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام، والأفضل مقارنتها للتكبير، فإن تقدمت عليه بزمنٍ يسيرٍ بعد دخول الوقت في أداء وراتبة ولم يفسخها مع بقاء إسلامه، صحت".

ومذهب المالكية كمذهب الأحناف والحنابلة. انظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 236)، وفيه قال:" (وبطلت) الصلاة اتفاقًا (بسبقها)، أي: النية لتكبيرة الإحرام (إن كثر) السبق كأن تأخرت عنها (وإلا) يكثر السبق بأن كان يسيرًا بأن نوى في نيته القريب من المسجد، وكبر في المسجد ذاهلًا عنها، (فخلاف) في البطلان بناءً على اشتراط المقارنة وعدمه بناءً على عدم الاشتراط".

(4)

هو نفس قول الأحناف السابق. انظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 129)، وفيه =

ص: 1401

ومن هنا يتضح لنا عظم أمر النية.

وقَدْ يَنْشغل الإنسان بذهنه عمَّا نوى إليه كعادة سائر البشر، فيسرح في الصلاة؛ وهذا لا يؤثر على النية، لا سيما إذا استصحب ونوى ألَّا يقطعها بأيِّ قاطعٍ أو شاغلٍ.

وَسَببُ تلك الشَّواغل عن الصلاة إنما يأتي من ضعف الخشوع، وهذا نابعٌ من عدم حضور القلب؛ فكلما كان قلب المؤمن مطمئنًّا خاشعًا، وبالله مرتبطًا عما سواه؛ كان القلب أحضر، والجوارح أخشع؛ لذلك قال عمر:"لو خشع قلبه، لخشعت جوارحه"

(1)

، ومع ذلك عمر نفسه لم يسلم؛ لأنه بشرٌ رضي الله عنه؛ فيُذكَر أنه "جهَّز الجيش وهو في الصلاة"

(2)

.

فالذي كان يشغل فكره عنايتُه بأمر المسلمين، واهتمامُه بشُؤُونهم، وَسَعيُه رضي الله عنه وغيره من الصحابة إلى ما فيه رِفْعَة المُسْلمين وَعزهم ومَجْدهم.

وهناك أمورٌ لا تحتاج إلى نيةٍ؛ كالإيمان بالله تعالى؛ لأن هذا أمر تصديق، فقد صدَّق العبد وآمَنَ وانتهى الأمر؛ فلا يحتاج إلى إيمانٍ في وقتٍ دون وقت، ومما يدخل فيما لا نية فيه عند بعض العلماء قراءة القرآن، وكذلك بعض المعاملات كالزواج؛ فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"النكاح سُنَّتي، فمَنْ رَغب عن سُنَّتي فليس مني"

(3)

، أما لو نوَى بالزواج تكثير

= قال: "فإذا قدم النية ولم يشتغل بعمل يقطع نيته يجزئه، كذا رُوِيَ عن أبي يُوسُف ومحمد، فإن محمدًا ذكر في كتاب المناسك أن مَنْ خرج من بيته يريد الحج فأحرم، ولم تحضره نية الحج عند الإحرام يجزئه".

(1)

الذي وَقَفتُ عليه أنه من قول ابن المسيب، أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 266)، عن أبان قال: رأى ابن المسيب رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال:"إني لأرى هذا لو خشع قلبه خشعت جوارحه". قال الأَلْبَانيُّ: الحديث موضوع مرفوعًا، ضعيف موقوفًا، وهو معروف عن ابن المسيب. انظر:"السلسلة الضعيفة"(110).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1402

المسلمين، والأبناء الصالحين الذين يتعلمون العلم وينشرون الفضيلة، ليهدي الله بهم جمعًا من الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله، لأنْ يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْر النعم

(1)

"

(2)

؛ فلا شك أنه يثاب، وإذا كان الإنسان يُثَاب على لقمةٍ يضعها في فيِّ امرأته يبتغي بذلك وجه الله

(3)

، أفلا يُؤْجر على هذا.

قوله: (فَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى كَوْنِهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ لِكَوْنِ الصَّلَاةِ هِيَ رَأْسَ العِبَادَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الشَّرْعِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ مَعْقُولَةٍ)

(4)

.

هي رأس العبادات؛ لأن العلماء يقسمون الأحكام في الشريعة إلى أقسام:

القسم الأول: العقيدة، وهي أصل كل شيء؛ فإذا فسدت العقيدة، فسَدَ كل شيء، كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خَيْره وَشَره، وما يتبع ذلك من البعث والجزاء والنشور.

القسم الثاني: أحكام العبادات.

القسم الثالث: أحكام المعاملات، الخارجية منها كعلاقة الدول الإسلامية مع بعضها البعض، والداخلية كالزواج، ويُضَم الخراج

(5)

إلى المعاملات، وأحكام أُخرى كثيرة تُضَم إلى المعاملات

(6)

.

(1)

"النَّعَم": الإِبل، وحمرها: كرامها، وأعلاها منزلة. انظر:"الزاهر في معاني كلمات الناس"، للأنباري (2/ 280).

(2)

جُزء من حديث أخرجه البخاري (4210)، ومسلم (2406/ 34)، عن سهل بن سعد.

(3)

معنى حديث تقدم تخريجه.

(4)

سبق ذكره.

(5)

"الخراج والخَرْج": ما يحصل من غلَّة الأرض، ولذلك أطلق على الجِزْيَةِ. انظر:"المصباح المنير"، للفيومي (1/ 166).

(6)

انظر في هذا التقسيم: "الفقيه والمتفقه"، للخطيب البغدادي (2/ 132). وانظر:"شرح التلويح على التوضيح"، للتفتازاني (1/ 411).

ص: 1403

فالصلاة هي رأس العبادات؛ لأنها هِيَ الركن الثاني من أركان الإسلام، ولأهميتها ومكانتها في الإسلام، وقَدْ كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزَبَهُ أمرٌ فزعَ إلى الصلاة

(1)

، وكان يقول:"أَرِحْنَا يا بلَال"

(2)

.

قوله: (أَعْنِي مِنَ المَصَالِحِ المَحْسُوسَةِ).

يقصد بغير المعقولة المحسوسة، فَاللهُ سبحانه وتعالى تعبَّدَنا بأن نصلي الصَّلوات المفروضة خمس مرات في كُلِّ يومِ وليلةٍ، وَجَعل صلاة الظهر أربع رَكَعاتٍ لا يُجْهر فيهنَّ بالقراءة، وفيهَا ركوعٌ وسجودٌ، وغير ذَلكَ من الأحكام الكثيرة، وَحدَّد لنا في وقت الحصر صلاةً أُخرى نصليها أيضًا أربع ركعاتٍ لا يُجهَر فيهن بالقراءة؛ فكلتاهما سرية، ثم تأتي صلاة المغرب، وقد حُدِّدَت بثلاث ركعات، وتكون أول الليل والصلاة فيها جهرية، ولها وقت محدد، ثم تأتي صلاة العشاء وهي أربع ركعات، والقراءة فيها جهر أيضًا، ثم صلاة الفجر الجهرية، ولكنها ركعتان

(3)

؛ لذلك يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} [الحج: 77]، وقال:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78].

ثمَّ جاءت سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففصَّلَت لنا وبينت أحكام الصلاة تبيينًا دقيقًا شافيًا لا لبس فيه، ولا غموض، ولا إشكال يعتريه.

(1)

أخرجه أبو داود (1319)، وحسنه الأَلْبَانيُّ.

(2)

أخرجه أبو داود (4985)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(1253).

(3)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 129، 130)، وفيه قال:"اتفق أهل العلم على أن صلاة الفجر ركعتان يجهر فيهما بالقراءة، وأن صلاة الظهر والعصر أربع أربع، لا يجهر بالقراءة في شيءٍ منها، وأن المغرب ثلاث، يجهر منها في الركعتين الأوليين، ولا يجهر في الثالثة، وأن العشاء الآخرة أربع، يجهر منها في الركعتين الأوليين، ولا يجهر في الأخيرتين".

ص: 1404

قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ مِنْ شَرْطِ المَأْمُومِ أَنْ يُوَافِقَ نِيَّةَ الإِمَامِ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ).

هنا دَخَل المؤلف في مسألةٍ تتعلق بارتباط الإمام بالمأموم.

معلومٌ أن الإمامَ قدوةٌ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتمَّ به"

(1)

، و "إنما" أداة حصر، فقصر الائتمام بالإمام، وسُمِّيَ إمامًا لتقدُّمه ليأتم به المأمون

(2)

.

وَالإمامُ قَدْ يحمل عن المأموم أشياء، منها: السُّترة

(3)

، والقراءة

(4)

إلا الفاتحة، وسيأتي الخلاف فيها.

إذًا، لا بد من موافقة نية المأموم لإمامه؛ فلو صلَّى الظهر، فليصل المأموم الظهر، وهكذا ما دام يصلي صلاةً مكتوبةً في وقتها، أما غير ذلك فليؤتم به في الأفعال لا كل شيءٍ، فللمأموم إن يصلي الظهر وراء إمام يصلي العصر بعد الجماعة الأولى، وله أن يدخل فيجد إنسانًا يقضي الصلاة بعد الإمام، فيَجْعله إمامًا له.

إذًا، قوله: "إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به

"، مراده أن بعض العلماء يشترطون أن تكون نية المأموم وَفْق نية الإمام، فلا يختلف عنه، فلو صلى نفلًا فيُصلَّى وراءه نفلًا، ولو فرضًا ففرضًا، ولا العكس، وبعض العلماء يُخَالفون في هذا

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (722)، ومسلم (414/ 86).

(2)

قال الخليل: "كلُّ من اقْتُدِيَ به، وقُدِّم في الأمور فهو إمام". انظر: "العين"(8/ 428).

(3)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 143)، وفيه قال:"والإجماع المتيقن الذي لا شك فيه أن سترة المصلي لا يكلف أحدٌ من المأمومين اتخاذ سترة أُخرى؛ بل تَكْفي الجميع سترة الإمام".

(4)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 152)، وفيه قال:"ولا يختلفون أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر فيه بالقراءة".

(5)

ستأتي هذه المسألة.

ص: 1405

وَالخلَاف يَدُور حول أَدلَّةٍ، منها:

أولًا: الحديث الذي ذَكَره المؤلف، وهو متفق عليه، قال صلى الله عليه وسلم:"إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"

(1)

، فالمؤلف وقف هنا، ولكن جَاءَ في الحديث:"فَإذَا كبَّرَ فكَبِّروا، وإذا ركَع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فَاسْجُدُوا، وإذا صلى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا أجمعون"

(2)

.

وفي بعض الروايات: "أجمعين"

(3)

.

وفي بعضها: "إذا قَالَ: سَمع الله لمَنْ حمده، فقولوا: ربَّنا ولك الحمد"

(4)

.

فَالمُرَاد بمتابعة الإمام أنها تَخْتلف من حالٍ إلى حالٍ، والأقوال ليست كالأفعال، فلا مانعَ من أن تخالف نية المأموم نية الإمام

(5)

.

وقَدْ ثبت في صلاة الخوف سبع صفات، منها:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بطائفةٍ من المسلمين ركعتين ثم سلم"؛ لأنها تقصر الصلاة، "ثم صلى بالآخرين وسلم"

(6)

، والصلاة الأولى فريضة في حقه، والثانية نفل

(7)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أقرب رواية لما ذكره الشارح، ما أخرجه البخاري (688)، ومسلم (412/ 82)، عن عائشة، وفيه: قال: "إنما جُعِلَ الإمام ليوتمَّ به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا".

(3)

أخرجها ابن ماجه (1238)، عن أنس بن مالكٍ، وفيه: "

وإذا صلى قاعدًا، فصلوا قعودًا أجمعين"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "التعليقات الحسان" (2099).

(4)

أخرجه البخاري (734)، واللفظ له، ومسلم (417/ 89)، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّما جُعِلَ الإمام ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكَبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سَمِعَ الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون".

(5)

ستأتي.

(6)

أخرجه أبو داود (1248)، عن أبي بكرة، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر، فصفَّ بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين. وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود - الأم"(1135).

(7)

وهذا دليل لمَنْ قال بجواز اختلاف نية الإمام والمأموم، كما سيأتي.

ص: 1406

ثانيًا: حديث معاذ الذي رواه عنه جابر، وهو متفق عليه "أنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة عشاء الآخرة في مسجده، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة"

(1)

.

وجاءت زيادة صحيحة في غير "الصحيحين": "هي له تطوع، ولهم مكتوبة"

(2)

.

ومن هنا اختلف العلماء كما ذكر المؤلف في جواز اقتداء المفترض بالمتنفل أو منعه، وهذا الحكم يترتب عليه أحكام كثيرة، فمَنْ يجيز اقتداء المفترض بالمتنفل يستدل بهذا الحديث وبغيره؛ لأنهم حملوا الأدلة على الأفعال دون الأقوال، ومن يمنع يستدل بحديث: "إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به

"

(3)

.

قوله: (وَفِي الوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يُصَلِّيَ المَأْمُومُ ظُهْرًا بِإِمَامٍ يُصَلِّي عَصْرًا؟).

أَيْ: لَيْس له أن يصلِّي صلاةَ الظهر.

مثال: إنسانٌ فَاتَته صلاة الظهر ناسيًا أو نام عنها، أو عرض له عذرٌ مِن الأعذار، فجاء ليصليها وراء الإمام حينما ذكرها؛ فينوي ظُهرًا والإمام يصلي الفرض، فيدرك فضل الجماعة في هذه الحالة؛ لأنه صلى وراء إمامٍ.

قوله: (وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُصَلِّيَ الإِمَامُ ظُهْرًا يَكُونُ فِي حَقِّهِ نَفْلًا،

(1)

أخرجه البخاري (700)، ومسلم (465/ 180).

(2)

أخرجه الشافعي في "مسنده"(1/ 308)، عن جابر قال: كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم ينطلق إلى قومه فيصليها، هي له تطوع، وهي لهم مكتوبة العشاء. وهو صحيح. انظر:"البدر المنير"، لابن الملقن (4/ 477).

(3)

ستأتي.

ص: 1407

وَفِي حَقِّ المَأْمُومِ فَرْضًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُوَافِقَ نِيَّةُ المَأْمُومِ نِيَّةَ الإِمَامِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ

(3)

).

هي أيضًا روايةٌ للإمام أحمد

(4)

.

وَذَهب الشَّافعيُّ وأحمد في الرواية الأخرى

(5)

، وأيضًا قول لِكَثِيرٍ من العلماء من التابعين وغيرهم

(6)

.

(1)

انظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 339)، وَفِيهِ قال:" (و) ثاني شروط الاقتداء (مساواة) من الإمام ومأمومه (في) عين (الصلاة)، فلا تصح ظهرًا خلف عصرٍ، ولا عكسه، فإن لم تحصل المساواة بطلت".

(2)

انظر: "الهداية"، للمرغيناني (1/ 59)، وفيه قال:"ولا يصلي المفترض خلف المتنفل"؛ لأن الاقتداء بناء ووصف الفرضية معدوم في حق الإمام، فلا يتحقق البناء على المعدوم. قال:"ولا مَنْ يصلي فرضًا خلف من يصلي فرضًا آخر"؛ لأن الاقتداء شركة وموافقة، فلا بد من الاتحاد".

(3)

انظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (2/ 332)، وفيه قال:" (و) من شروط القدوة توافق نظم صلاتيهما في الأفعال الظاهرة، فَحِينَئذٍ (تصح قدوة المؤدي بالقاضي، والمفترض بالمنتفل وفي الظهر بالعصر وبالعكوس) أي بعكس كل مما ذكر نظرًا لاتفاق الفعل في الصلاتين، وإن تخالفت النية".

(4)

وهي مشهور المذهب. انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 484، 485)، وفيه قال:" (و) يصح ائتمام (متنفل بمفترض)، (ولا) يصح أن يأتم (مفترض بمتنفل) لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"، وعنه يصح، لما روى جابر أن "معاذًا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء الأخيرة، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة".

(5)

انظر: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 296)، وفيه قال:"المتنفل يصح أن يؤم متنفلًا، وهل يصح أن يؤم مفترضًا؟ فيه روايتان، إحداهما: لا يصحُّ؛ لأن صلاة المأموم لا يتأدى بنية الإمام، فأشبه الجمعة خلف مَنْ يصلي الظهر. والثانية: يصح، وإن صلى الظهر خلف مَنْ يُصلِّي العصر، أو صلى العشاء خلف مَنْ يصلي التراويح، ففيه روايتان، وجههما ما تقدم".

(6)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 166)، وَفِيهِ قال:"وهذا قول عطاء، وطاوس، وأبي رجاء، والأوزاعي، والشافعي، وسليمان بن حرب، وأبي ثور، وابن المنذر، وأبي إسحاق الجوزجاني".

ص: 1408

قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ ليُؤْتَمَّ بِهِ"، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ).

المؤلف قَدْ جاء بمعنى الحديث، وهنا لفظان: لفظ "إنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة عشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة"

(1)

.

وزيادة غير "الصحيحين": "هي له تطوع، ولهم مكتوبة العشاء"

(2)

؛ فهذا نص صريِح في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر ذلك أيضًا بين الصحابة أن معاذًا كان يُصلِّي مع رسول الله، فلا يمكن أن يُقدِمَ على عملٍ من الأعمال دون أن يتأكَّد من صحتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش بين أظهرهم.

قوله: (فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ خَاصًّا لِمُعَاذٍ، وَأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ"، يَتَنَاوَلُ النِّيَّةَ - اشْتَرَطَ مُوَافَقَةَ نِيَّةِ الإِمَامِ لِلْمَأْمُومِ).

دَعْوَى التخصيص هنا تحتاج إلى دليلٍ، فهذا حكم شرعي لا يختلف فيه معاذ عن غيره، فإن صحَّ لمعاذٍ، وجاز له أن يفعل ذلك، فليجوز لغيره؛ لأنه لَمْ يرد دليلٌ على التخصيص

(3)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

انظر: "شرح النووي على مسلم"(14/ 18)، وفيه قال:"وتأولوا حديث معاذ رضي الله عنه على أنه كان يُصلِّي مع النبي صلى الله عليه وسلم تنفلًا، ومنهم مَنْ تأوله على أنه لم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَنْ قال حديث معاذ كان في أول الأمر، ثم نسخ، وكل هذه التأويلات دعاوى لا أصلَ لها، فلا يترك ظاهر الحديث بها".

ص: 1409

‌فَائدةٌ:

وُجُود الفواصل والنقط أمرٌ مفيد جدًّا، فأحيانًا يقع الإنسان في خطإٍ نتيجة عدم إدراكه لوجود فاصلٍ، أو نقطة تدلُّ على انتهاء الكلام؛ ولذلكَ نرى أن الكتب التي تعنى بمثل هذه العلامات فيها فوائدُ كبيرةٌ وتوجيهيةٌ للقارئ بانتهاء الكلام أو باستفهام أو بتعجُّب، وهكذا؛ فلا نظن أنها من الشكليات التي لا فائدة منها.

قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ الإِبَاحَةَ لِمُعَاذٍ فِي ذَلِكَ هِيَ إِبَاحَة لِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ المُكَلَّفِينَ وَهُوَ الأَصْلُ، قَالَ: لَا يَخْلُو الأَمْرُ فِي ذَلِكَ الحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ).

والأصل في الأحكام العموم، ولكي نقول بالتخصيص لا بد من دليلٍ، وهذا بيانٌ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

(1)

.

ثم قلنا: إنه قد حَصَل للرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، ودعوى أن صلاة الخوف تختلف عن غيرها، وأنه جاز فيها ما لم يَجُز في غيرها - مردودٌ بأن صلاةَ الخوف لها عدَّة صِفَاتٍ.

قوله: (إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ العُمُومُ الَّذِي فِيهِ لَا يَتَنَاوَلُ النّيَّةَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي الأَفْعَالِ، فَلَا يَكُونُ بِهَذَا الوَجْهِ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ مُعَاذٍ

(2)

، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَتَنَاوَلُهَا، فَيَكُونُ حَدِيثُ مُعَاذٍ قَدْ خَصَّصَ ذَلِكَ العُمُومَ، وَفِي النِّيَّةِ مَسَائِلُ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالمَنْطُوقِ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ رَأَيْنَا

(1)

سبقت.

(2)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 272)، وفيه قال:"وأمَّا الجواب عن حديث: "إنَّما جُعِلَ الإمام ليؤتم به"، فهو أن المراد ليؤتم به في الأفعال لا في النية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا"، إلى آخره".

ص: 1410

تَرْكهَا إِذْ كَانَ عَرْضُهَا عَلَى القَصْدِ الأَوَّلِ إِنَّمَا هُوَ الكَلَامُ فِي المَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالمَنْطُوقِ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ).

المؤلف هنا يقول: "وفي النية مسائل"، فمثلًا من مسائل النية العامة ما يتعلَّق بالتكبير.

قوله: (وَفِي النِّيَّةِ مَسَائِلُ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالمَنْطُوقِ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ).

" مَسَائل"، ممنوعةٌ من الصرف، أيْ أنها لا تُنَوَّن

(1)

، لكن لو أضيفت فإنها تُصْرف

(2)

.

ويُنبه المؤلف هنا إلى قضيةٍ مهمَّةٍ ذات علاقة لمنهجه في الكتاب، فهو يريد أن يقول: إنَّ للنية مسائل كثيرة لم يَسْتوفِهَا، ولم يذكر إلا أُمَّهاتها، والمنطوق من الشرع عنى به النص، كآيةٍ أو حديثٍ، لكنها تتعلق بمفهومه؛ لذلك سنجده أنه في بعض المواضع يقتصر على ما نطق به النص، أو ما هو قريبٌ من النص، أما المسائل المُسْتنبطة، فهو لا يذكرها غالبًا، وإن ذكرها فإنه يأتي بها سردًا كما في مسائل الحج حيث عرض كثيرًا من المسائل الجزئية، وقد نبَّهْنا أن منهجه في الحج يختلف عنه في باقي الكتاب؛ لأنه في الأصل ألَّف في الحج كتابًا مستقِلًّا، ثم رأى أن يدخله في كتابه "بداية المجتهد".

(1)

انظر: "شرح الأزهرية" لخالد الأزهري (ص 15) وفيه قال في حده: " (وهو ما كان على وزن صيغة منتهى الجموع، وضابطه كل جمع بعد ألف تكسيره حرفان كمساجد، أو ثلاثة أوسطها ساكن سواء كان في أوله ميم أو لا (كمصابيح) وإنما استأثر هذا الجمع بالمنع؛ لأنه بمثابة جمعين".

(2)

انظر: "توضيح المقاصد"، للمرادي (1/ 342)، وفيه قال:"*وجر بالفتحة ما لا ينصرف * فشمل ذلك: المفرد والجمع المكسر. وقوله: *ما لم يضف أو يك بعد أل "ردف" * يعني: فإنه يجر حينئذ بالكسرة".

ص: 1411

إذًا، المؤلِّف في كتابِهِ هذا يأخذ بأُمَّهات المسائل الَّتي جاءت نصًّا، مثل: "إنَّما الأعمال بالنيات

"، فأخذ هنا المسألة الكُبْرى وهي النيَّة، وإلا فَمَسائل النية كثيرة.

مثالٌ: هناك إنسانٌ أراد أن يدخل في الصلاة، فيدخل بتكبيرة الإحرام، وهي ركنٌ من أركان الصلاة، وهناك من ينازع وبقول: بَلْ هي شَرْطٌ، وهذا اختلافٌ لفظيٌّ؛ لأن من يقول: إنها شرط، يرى أنها متعينة لا بد منها، ومن يقول: إنها ركن - وهو الأقرب - يرى أنها جزءٌ من الصلاة.

الشاهد: أن مَنْ أراد الدخول في الصلاة، فَعَليه بأمور ثلاثة:(فعل الصلاة، وتعيينها، وكونها مكتوبة أو غير مكتوبة)، كلها تتعلق بالمسألة الكُبْرَى وهي النيَّة

(1)

.

[الجملة الثالثة: من كتاب الصلاة أركان الصلاة]

قوله: (الجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهو مَعْرِفَةُ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الأَقْوَالِ، وَالأَفْعَالِ، وَهِيَ الأَرْكَانُ وَالصَّلَوَاتُ المَفْرُوضَةُ تَخْتَلِفُ فِي هَذَيْنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، إِمَّا مِنْ قِبَلِ الِانْفِرَادِ وَالجَمَاعَةِ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الزَّمَانٍ (مِثْلُ مُخَالَفَةِ ظُهْرِ الجُمُعَةِ لِظُهْرِ سَائِرِ الأَيَّامِ)، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الأَمْنِ وَالخَوْفِ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الصِّحَّةِ وَالمَرَضِ).

هذه كلها أبواب يذكرها المؤلف هنا إجمالًا وسيعود إليها بشيء من التفصيل، وسيتكلم عن أركان الصلاة ومما سيتكلم عنه أيضًا قول:

(1)

سبقت.

ص: 1412

باسم الله، وافتتاح القراءة بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، وعن حكم القراءة وهل وجوبها فقط في الركعتين الأوليين، كذلك يبحث أيضًا أحكام المسافر وغيرها من المسائل.

قوله: (فَإِذَا أُرِيدَ أَنْ يَكُونَ القَوْلُ فِي هَذِا صِنَاعِيًّا، وَجَارِيًا عَلَى نِظَامٍ).

أي: أن ترتيب المسائل الفقهية وتقسيمها وتقديم بعضها وتأخير أُخرى هي بمثابة صنعة لا يتقنها إلا من تخصص فيها، وهذا الكتاب كما سبق وذكرنا من أوائل الكتب التي استفادت منه الدراسات في الوقت الحاضر، وهو من أول الكتب - إن لم يكن أولها - التي عنيت بالتقسيم والترتيب وتبويب المسائل، ووضعها في أبواب ثم في فصول، وربما يدخل تحتها مباحث.

ثم إن له طريقة جيدة: فهو يتطرق للمسألة فيذكر آراء العلماء فيها،

ثم بعد ذلك يناقشها، وقلَّما يحرر المسائل؛ لأنه حقيقة لم يكن هدفه دراسة المسائل دراسة محررة، وإنما هو يعرضها ولا يتطرق إلى الترجيح إلا في مسائل نادرة؛ ولذلك من يعرف هذا الكتاب حق المعرفة سيجد أنه في أول مباحثه عني بالمسائل التي جعلها بمثابة مفتاح للكتاب وفسر القول فيها واستدل وناقش ورجح، ثم تركها بعد ذلك لدارس الكتاب من طلاب العلم.

قوله: (فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ أَوَّلًا فِيمَا تَشْتَرِكُ فِيهِ هَذِهِ كلُّهَا، ثُمَّ يُقَالَ فِيمَا يَخُصُّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً مِنْهَا، أَوْ يُقَالَ: فِي وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَهُوَ الأَسْهَلُ).

أي: أن هذه الأبواب كلها تشترك في الكلام عن الصلاة، فإذا أطلق لفظ الصلاة فهي تشمل الصلوات بكل أنواعها المفروضة والمسنونة؛ كالصلوات الخمس والجمعة وصلاة المريض والمسافر، وكذلك الاستسقاء والخوف وغيرها من أنواع الصلوات، لكن عندما يأتي للتفصيل نجد أن

ص: 1413

كل موضوع منها يختص بأحكام خاصة مما يجعله ينفرد بكتاب أو بباب مستقل.

قوله: (وَإِنْ كانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّعْلِيمِ يَعْرِضُ مِنْهُ تَكْرَارٌ مَا، وَهُوَ الَّذِي سَلَكَهُ الفُقَهَاءُ).

أي: أن التفصيل والتقسيم بهذه الطريقة هو الأقرب إلى الأذهان، والأسرع إلى الفهم، وقد سلكه الفقهاء بأن وضعوا كل موضوع متحد في باب تحته فصول ومسائل؛ لِما وجدوا فيه من الفائدة الكبيرة على طلبة العلم، وقد يتطلب هذا المنهج التكرار في بعض المسائل كما رأينا، فمسألة النية مثلًا قد تكررت وستتكرر أيضًا في مواضع أُخرى.

قوله: (وَنَحْنُ نَتْبَعُهُمْ فِي ذَلِكَ؛ فَنَجْعَلُ هَذِهِ الجُمْلَةَ مُنْقَسِمَةً إِلَى سِتَّةِ أَبْوَابٍ، البَابُ الأَوَّلُ: فِي صَلَاةِ المُنْفَرِدِ الحَاضِرِ الآمِنِ الصَّحِيحِ. البَابُ الثَّانِي: فِي صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، أَعْنِي: فِي أَحْكَامِ الإِمَامِ وَالمَأْمُومِ فِي الصَّلَاةِ. البَابُ الثَّالِثُ: فِي صَلَاةِ الجُمُعَةِ. البَابُ الرَّابِعُ: فِي صَلَاةِ السَّفَرِ. البَابُ الخَامِسُ: فِي صَلَاةِ الخَوْفِ. البَابُ السَّادِسُ: فِي صَلَاةِ المَرِيضِ).

يريد المؤلف كعادة العلماء وخاصة أصحاب الكتب المطولة: أن يذكر المسائل إجمالًا قبل تفصيلها ليسهل بذلك الفهم والتركيز على القارئ، فبدأ بصفة الصلاة، ثم بعد ذلك أفرد بابًا مستقلًّا يتحدث فيه عن أحكام الإمامة، ولا شك أن الحديث عن أحكام الإمامة يدخل فيه أيضًا أحكام المأمومين؛ فعلاقة المأموم بالإمام ظاهرة، وفيه يذكر الإمام كيف يتقدم الناس وكيفية الاقتداء به، ثم صلاة المفترِض خلف المتنفِّل إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة.

ثم الجمعة كما هو معروف لها باب مستقل، والعلماء لهم كلام

ص: 1414

فيها: هل هي مستقلة أو هي بدل من الظهر، أو على الرأي الضعيف أنها هي الأصل والظهر بدل، أو كل منهما مستقل بنفسه، هذا كله إن شاء الله يأتي في الجمعة

(1)

.

وما قلنا في الجمعة يُقال كذلك في صلاة المسافر، وصلاة الخوف، وصلاة المريض.

(البَابُ الأَوَّلُ فِي صَلَاةِ المُنْفَرِدِ الحَاضِرِ الآمِنِ الصَّحِيحِ)

(وَهَذَا البَابُ فِيهِ فَصْلَانِ، الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي أَقْوَالِ الصَّلَاةِ)

الصلاة كما تعلمون لها أقوال وأفعال:

فمن الأقوال: فيها القراءة والتكبير والتسبيح والتحميد

أما الأفعال: فالركوع والرفع منه والسجود والرفع منه والجلوس بين السجدتين

إلى غير ذلك من أفعال الصلاة.

وفي هذا الفصل: يذكر المؤلف تسعًا من قواعد المسائل، ومنه فلا يلزم ابن رشد أن يستوعب مسائل الفقه، وذلك لأنه لم يقصد الاستيعاب بل اقتصر على القواعد.

ومن أدلة ما ذكرناه: أن مَن جاؤوا من الفقهاء المتأخرين كالإمام العيني صاحب "البناية" نجد أنه لما يُشير إلى هذا الكتاب يقول: قال ابن

(1)

ستأتي.

ص: 1415

رشد في قواعده

(1)

؛ فالكتاب عندهم من كتب القواعد؛ أي: أمهات المسائل التي تعتبر أصولًا وقواعد بالنسبة للمسائل التي تتفرع عنها.

قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ).

سيتكلم أولًا عن التكبير من حيث الجملة، والمعروف عند الفقهاء أنهم يذكرون التكبير بعد ذلك، فيقدمون الكلام عن تكبيرة الإحرام أولًا.

قوله: (فَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّ التَّكْبِيرَ كُلَّهُ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ).

وهذا قول لبعض أهل الظاهر

(2)

، وهي رواية عن الإمام أحمد

(3)

.

قوله: (وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهُ كُلَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ شَاذٌّ).

وهو نقل عن بعض التابعين كسعيد بن المسيب والزهري

(4)

، ونقل

(1)

من ذلك قول العيني: "وقال ابن رشد في "قواعده": وصحح قوم من أهل الحديث هذه الزيادة يعني تتوضأ لكل صلاة". انظر: "البناية شرح الهداية"(1/ 677).

(2)

انظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (2/ 286 - 287)، وفيه قال: "والتكبير للركوع فرض

والتكبير لكل سجدة منهما فرض

والجلوس بين السجدتين فرض؛ والطمأنينة فيه فرض؛ والتكبير له فرض، لا تجزئ صلاة لأحد بأن يدع من هذا كله عامدًا شيئًا؛ فإن لم يأتِ به ناسيًا ألغى ذلك وأتى به كما أمر، ثم سجد للسهو".

(3)

في مذهب أحمد أكثر من رواية. انظر: "المبدع في شرح المقنع"، لابن مفلح (1/ 443)، وفيه قال:" (وواجباتها تسعة) .... (التكبير غير تكبيرة الإحرام) في الأصح، لأنه عليه السلام كان يكبر، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وعنه: ركن لا يسقط بالسهو كتكبيرة الإحرام. وعنه: يسقط في حق مأموم فقط. وعنه: سنة، لأنه عليه السلام لم يعلم المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة".

ومشهور المذهب على أنها واجب من تركها عمدًا بطلت صلاته.

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 218)، وفيه قال:" (واجباتها) وهي (ما كان فيها) خرج الشرط (وتبطل) الصلاة (بتركه عمدًا) خرج السنن (و) يسقط للسهو (ويسجد له)، أي: لتركه (سهوًا) خرج الأركان وهي ثمانية، الأول: (تكبيرة لغير إحرام) ".

(4)

انظر: "نخب الأفكار"، للعيني (3/ 600)، وفيه قال:"وعكس آخرون فقالوا: كل تكبيرة في الصلاة ليست بواجبة مطلقًا، منهم ابن شهاب وابن المسيب وغيرهما".

ص: 1416

أيضًا عن الأصم وابن عُلية؛ وهذان الآخران لا يُنظر إليهما في مسائل الخلاف، وخاصة إذا حصل إجماع؛ لأنهما يعتبران شاذين في رأيهما

(1)

.

قوله: (وَقَوْمٌ أَوْجَبُوا تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ فَقَطْ، وَهُمُ الجُمْهُورُ

(2)

).

(1)

من ذلك ما قاله الروياني عنهم في مخالفتهم الإجماع في جواز الإجارة. قال: "وروي عن عبد الرحمن الأصم والقاشاني وإسماعيل بن عليه وبعض المتكلمين أنه لا تجوز الإجارة. ولا اعتبار بخلافهم أيضًا لأنهم ليسوا من أهل الصنعة". انظر: "بحر المذهب"(7/ 141).

وانظر: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (15/ 358).

(2)

في مذهب الأحناف تكبيرة الإحرام فرض، وسائر التكبيرات سنة. انظر:"درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 65)، وفيه قال:" (لها فرائض منها التحريمة) التحريم جعل الشيء محرمًا، وخصت التكبيرة الأولى بها؛ لأنها تحرم الأشياء المباحة قبل الشروع بخلاف سائر التكبيرات".

وانظر في سنية باقي التكبيرات: "البحر الرائق"، لابن نجيم (1/ 319، 320)، وفيه قال:" (قوله وتكبير الركوع)؛ لما روي "أنه عليه الصلاة والسلام كان يكبر عند كل رفع وخفض"، (وقوله والرفع منه) أي من الركوع

(قوله وتكبير السجود) ".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 231)، وفيه قال:" (فرائض الصلاة)، أي: أركانها وأجزاؤها المتركبة هي منها خمس عشرة فريضة أولها (تكبيرة الإحرام) على كل مصل فرضًا أو نفلًا ولو مأمومًا، ولا يحملها عنه إمامه كالفاتحة". وانظر في سنية باقي التكبيرات: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 243)، وفيه قال:" (و) الخامسة (كل تكبيرة)، أي: كل فرد من التكبير سنة (إلا الإحرام) فإنه فرض".

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 13)، وفيه قال:" (الثاني تكبيرة الإحرام)؛ للحديث الصحيح: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" مع قوله للمسيء صلاته في الخبر المتفق عليه: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر"، سميت بذلك لتحريمها ما كان حلالًا قبلها".

وانظر في سنية التكبيرات الأخرى: "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، للشربيني (1/ 144)، وفيه قال:" (و) الثامنة (التكبيرات عند) ابتداء (الخفض) لركوع وسجود (و) عند ابتداء (الرفع) من السجود ويمده إلى انتهاء الجلوس والقيام".

ومذهب الحنابلة كما تقدم فيه أكثر من رواية في حكم التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، ومشهور المذهب على وجوبها كما سبق.

أما تكبيرة الإحرام فهي ركن. انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 216)، وفيه قال: "فـ (أركانها: ما كان فيها) احترازًا عن الشروط (ولا تسقط عمدًا) خرج =

ص: 1417

فجمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم

(1)

، وكذلك الأئمة الأربعة - عدا الرواية التي ذكرناها عن الإمام أحمد

(2)

- فهؤلاء كلهم يرون أن الواجب من ذلك فقط هي تكبيرة الإحرام، وما عدا ذلك فليس بواجب.

قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ كلَّهُ وَمَنْ أَوْجَبَ مِنْهُ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ فَقَطْ: مُعَارَضَةُ مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام.

ومراد المؤلف: أنه ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقوال في المسألة، ووردت عنه فيها أفعال.

فالأفعال التي وردت عنه: كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أشار إليه المؤلف: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع كبر، وإذا رفع رأسه من الركوع كبر وقال: "سمع الله لمن حمده" فإذا استوى قال: "ربنا ولك الحمد"، وإذا رفع رأسه من السجود كبر، وإذا عاد إلى السجود كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا قام كبر وإذا عاد

" إلى أن قال: "وإذا نهض من الاثنتين كبر"

(3)

، وهذا حصل في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت من

= السنن، و (لا) تسقط (سهوًا) خرج الواجبات (وهي) أربعة عشر ركنًا

(و) الثاني (تكبيرة الإحرام) ".

(1)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (1/ 416)، وفيه قال: "

وهذا يدلك على أن التكبير في غير الإحرام لم ينقله السلف من الصحابة والتابعين على الوجوب ولا على أنه من مؤكدات السنن، بل قد قال قوم من أهل العلم: إن التكبير إنما هو إذن بحركات الإمام وشعار الصلاة، وليس بسنة إلا في الجماعة، وأما من صلى وحده فلا بأس عليه ألا يكبر".

(2)

وهي المشهورة عنهم كما سبق.

(3)

أخرجه البخاري (789)، ومسلم (392/ 28)، واللفظ له، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع ثم يقول:"سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم:"ربنا ولك الحمد" ثم يكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس".

ص: 1418

فعله، فهل تكبيره في كل خفض ورفع دليل على وجوب التكبير كله أو أن ذلك يخص تكبيرة الإحرام فقط؟ هذا ما سيفصل المؤلف القول فيه.

قوله: (فَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ: فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المَشْهُورُ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي عَلَّمَهُ الصلَاةَ: "إِذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ؛ فَأَسْبغِ الوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ، ثُمَّ كَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ"

(1)

. فَمَفْهُومُ هَذَا: هُوَ أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى هِيَ الفَرْضُ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّكْبِيرِ فَرْضًا لَذَكَرَهُ لَهُ كَمَا ذَكَرَ سَائِرَ فُرُوضِ الصَّلَاةِ)

(2)

.

يشير المؤلف هنا إلى الحديث الذي يعرف بحديث المسيء في صلاته، وهو الرجل الذي جاء فصلى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارجع فصل فإنك لم تصل" فعلها ثلاثة، قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن إلا هذا فعلمني، فقال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن

" الحديث

(3)

، وفي بعض الروايات

(1)

أخرج قريبًا من هذه الرواية النسائي (1053) عن رفاعة بن رافع، وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أردت الصلاة فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قم فاستقبل القبلة، ثم كبر، ثم اقرأ، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع رأسك حتى تطمئن قاعدًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، فإذا صنعت ذلك فقد قضيت صلاتك، وما انتقصت من ذلك فإنما تنقصه من صلاتك". وصححه الألباني في "صحيح النسائي".

(2)

ما ذكره المؤلف هو أدلة الجمهور لنفي وجوب تكبيرات الصلاة عدا تكبيرة الإحرام. انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 290)، وفيه قال:"وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر

" وذكر الحديث، لم يذكر له صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلا الفروض خاصة، وثبت في "الصحيحين" عن جماعات من الصحابة رضي الله عنهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر الإحرام" وهذا مقتضى وجوب كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما خرج وجوبه بدليل".

(3)

أخرجه البخاري (6251)، ومسلم (397/ 45)، واللفظ له، عن أبي هريرة، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:"إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها".

ص: 1419

قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر"

(1)

.

وهذا الحديث سيأتي الاستدلال به في عدة مواضع للدلالة على وجوب تكبيرة الإحرام وفي مسائل أُخرى.

قوله: (وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ، فَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، فَيُكَبِّرُ كلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "

(2)

، وَمِنْهُ: حَدِيثُ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: "صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ الحُصَيْنِ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، وَانْصَرَفْنَا، أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: أَذْكَرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم "

(3)

، فَالقَائِلُونَ بِإِيجَابِهِ تَمَسَّكُوا بِهَذَا العَمَلِ المَنْقُولِ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ، وَقَالُوا: الأَصْلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَفْعَالِهِ الَّتِي أَتَتْ بَيَانًا لِوَاجِبٍ مَحْمُولَةً عَلَى الوُجُوبِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"

(4)

، "وخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"

(5)

)

(6)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (785)، ومسلم (392/ 27).

(3)

أخرجه البخاري (826)، ومسلم (393/ 33)، عن مطرف، قال:"صليت أنا وعمران، صلاة خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فكان إذا سجد كبر وإذا رفع كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما سلم أخذ عمران بيدي، فقال: لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم ".

(4)

أخرجه البخاري (631) عن مالك بن الحويرث، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:"ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم" وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها "وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم".

(5)

أخرجه مسلم (1297/ 310) عن جابر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول:"لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".

(6)

الذين قالوا بالوجوب الحنابلة في المشهور عنهم وهو ما عليه متأخرو المذهب خلافًا للجمهور كما سبق، وقد استدلوا على الوجوب بالأدلة التي ذكرها المؤلف.

انظر: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 250)، وفيه قال: "وفي هذه التكبيرات روايتان: =

ص: 1420

وكل هذه الأحاديث صحيحة ثابتة في الصحاح، وإنما كان الخلاف بين الفريقين في الأحكام المستنبطة منها.

قوله: (وَقَالَتِ الفِرْقَةُ الأُولَى: مَا فِي هَذِهِ الآثَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العَمَلَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ؛ وَلذَلِكَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "، وَقَالَ عِمْرَانُ:"أَذْكَرَنِي هَذَا بِصَلَاتِهِ صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ". وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ التَّكْبِيرَ كُلَّهُ نَفْلًا، فَضَعِيفٌ"

(1)

.

الذي يظهر لي أن المؤلف لم يتعمق في المسألة؛ ولذلك نحن نعود إليها مرة أُخرى فننظر:

أولًا: ما الدليل على أن تكبيرة الإحرام ركن؟

فقد أشرنا إلى أن جماهير العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة يذهبون إلى أن تكبيرة الإحرام ركن

(2)

، وبعض الحنفية - وينسبون ذلك إلى الإمام الكرخي المعروف من علماء الحنفية المتقدمين - يذهبون إلى أنها شرط

(3)

، وكلهم - أي: القائلون بأنها ركن والذين يقولون بأنها شرط -

= إحداهما: أنها واجبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها، وقد قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي" متفق عليه. ولأن الهوي إلى الركوع فعل، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام".

(1)

سبق.

(2)

الفرق بين الركن والشرط: أن الركن جزء من الشيء أما الشرط فخارج عنه.

انظر في حد الشرط: "شرح التلويح"، للتفتازاني (1/ 279)، وفيه قال:"والشرط في العرف العام ما يتوقف عليه وجود الشيء، وفي اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون داخلًا في الشيء، ولا مؤثرًا فيه".

وانظر في حد الركن: "فصول البدائع"، للفناري (1/ 265)، وفيه قال:"الركن: فهو ما يتقوم به الشيء وهو جزؤه".

(3)

نقل قولَ الكرخي القدوري في "التجريد"(1/ 473)، قال: "هل تكبيرة الإحرام من الصلاة؟ كان أبو الحسن يقول: إن التحريمة ليست من الصلاة، إنما يتعقبها الصلاة. =

ص: 1421

متفقون على أن مَن تركها تبطل صلاته.

إذن؛ كلهم متفقون على أن الصلاة لا تنعقد بغير تكبيرة الإحرام، لكن الخلاف في كونها شرطًا فتكون خارج الصلاة، أم هي ركن فتكون جزءًا منها.

والحديث الذي يدور حوله كثير من خلاف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة ستأتي أيضًا هو حديث علي رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"

(1)

.

وفي هذا الحديث مسائل:

أولًا: من حيث السند: هو محل خلاف بين العلماء؛ فمن العلماء مَن يضعفه لأنه من رواية عبد الله بن عقيل، وقد تكلم فيه بعض العلماء من

= لقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} ، فجعله مصليًا عقب الذكر، فهذا يدل على أن الصلاة بعد التكبيرة. ويدل عليه: قوله عليه السلام: "تحريمها التكبير" فجعله تحريمًا لجميعها، فهذا يدل على أنه ليس منها".

والقول بالشرطية هو ما عليه المذهب. انظر: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 437)، وفيه قال:"وإنما وقع الاختلاف بينهم في تكبيرة الإحرام، والمعتمد أنها شرط كالنية، وقيل بركنيتها".

وفي مذهب المالكية هي ركن. انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 226)، وفيه قال:"تكبيرة الإحرام من نفس الصلاة وركن من أركانها، خلافًا لأبي حنيفة". وانظر: "التاج والإكليل"، لمواق (2/ 332).

وفي مذهب الشافعية ركن. انظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 449 - 459)، وفيه قال: " (أركانها ثلاثة عشر) ركنًا

(الثاني) من أركانها (تكبيرة الإحرام) ".

وفي مذهب الحنابلة ركن. انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيبانى (1/ 494)، وفيه قال: وليست تكبيرة الإحرام بشرط بل هي من الصلاة، لحديث:"إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".

(1)

أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده"(1072)، وحسنه الأرناؤوط. وأخرج نحوه أبو داود (61)، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(55).

ص: 1422

جهة حفظه

(1)

، وبعض العلماء وثقه وأثنى عليه، وهم من أكابر العلماء الأئمة كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وكذلك أيضًا الإمام الحميدي، حكاه الإمام البخاري عنهم

(2)

.

وممن صحح هذا الحديث أيضًا الإمام الترمذي؛ قال: "هو أصح ما في الباب"

(3)

، وقد رواه أيضًا أبو داود

(4)

، وغيره

(5)

، وقد تتبع النووي طرقه وحكم بصحته

(6)

.

ومن كل ما سبق ننتهي إلى أن هذا الحديث صحيح.

ثانيًا: معاني الحديث:

قد جاء فيه ثلاث جمل هي:

- مفتاح الصلاة الوضوء.

- وتحريمها التكبير.

(1)

قال ابن سعد: "كان عبد الله بن محمد يكنى أبا محمد، وروى عن الطفيل بن أبي، وعن ربيع بنت معوذ بن عفراء، وعن محمد بن الحنفية، وكان منكر الحديث لا يحتجون بحديثه". انظر: "الطبقات الكبرى"(ص 264). وانظر: "الكامل"، لابن عدي (5/ 205).

(2)

انظر: "السنن" للترمذي (1/ 54)، وفيه قال في حديث محمد بن عقيل:"هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن. وعبد الله بن محمد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي، يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عقيل، قال محمد: وهو مقارب الحديث".

وقال عنه الحاكم في "المستدرك"(1/ 143): "هو عند المتقدمين من أئمتنا ثقة مأمون"

(3)

سبق.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

وأخرجه الترمذي (3)، كما سبق.

(6)

انظر: "تهذيب الأسماء واللغات"، للنووي (4/ 67، 68). وانظر: "الإيجاز في شرح سنن أبي داود"، للنووي (ص 254).

ص: 1423

- وتحليلها التسبيح.

وتفصيل ذلك:

الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الوضوء": معناه: أن الحدث مانع يمنع الإنسان من الصلاة؛ فإذا ما توضأ ارتفع ذلك الحدث، فإن لم يجد ماءً أو تعذر عليه استعماله - لمرض أو لغيره - فإنه ينتقل إلى التيمم؛ فالمصلي إذن يمنع من الصلاة حتى يتوضأ، فشبه الوضوء بمفتاح الباب المغلق، فإن الباب المغلق لا ينفذ إليه إلا عن طريق فتحه بالمفتاح، وكذلك الصلاة لا يُدخل فيها إلا عن طريق الوضوء.

الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: "وتحريمها التكبير": فالقصد بالتحريم هنا إنما هو المنع

(1)

، أي: أن الإنسان إذا أحرم في هذه الصلاة - أي قال: الله أكبر - فكبر تكبيرة الإحرام التي هي بداية الصلاة والمنفذ إليها؛ فإنه يحرم عليه أن يتكلم وأن يأكل وأن يشرب

(2)

، فكل ما مُنِع في الصلاة لا يجوز إلا ما حصل - كما سبق وذكرنا - من أنواع الكلام التي تكلم فيها العلماء، وفرقوا بين المتكلم عمدًا أن يكون كلامه لمصلحة الصلاة أو لغيرها

(3)

، وذلك بعد إجماعهم على أن كل متكلم عمدًا لا لمصلحة الصلاة فإن صلاته قد بطلت، وهذا لا خلاف فيه

(4)

.

والمالكية كما مر بنا يصححون كلام من يتكلم لمصلحة الصلاة؛ كأن ينبه الإمام إذا خطأ فيقول مثلًا: قمت إلى خامسة، أو نقصت في الصلاة ونحو ذلك

(5)

.

(1)

التحريم أصله من قولك: حرمت فلانًا عطاءه؛، أي: منعتُه إياه. انظر: "الزاهر" للأزهري (ص 60).

(2)

انظر نحو هذا الكلام في "الإيجاز في شرح سنن أبي داود"، للنووي (ص 256).

(3)

سبقت.

(4)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 141)، وفيه قال:"واتفقوا على أن الكلام عمدًا في الصلاة مع غير الإمام في إصلاح الصلاة أو في رد الإمام أو ما نابه فإنه ينقض الصلاة".

(5)

سبق.

ص: 1424

أما ما يتعلَّق بقراءة القرآن وكذلك الذكر والدعاء؛ فجماهير العلماء يرون أن ذلك لا يؤثر في الصلاة، كأن يقول مثلًا: الحمد لله، أو سبحان الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، شريطة ألا يصحب ذلك غيره، كأن يربط بكلمة سبحان الله أو لا حول ولا قوة إلا بالله كلمة أُخرى أدخلها عليها خارج الصلاة. خلافًا للحنفية

(1)

.

أما الحنفية: فيرون أنه لا ينبغي للمصلي أن يتكلم إلا فيما ورد به النص وهو: سبحان الله، إلا أنه قد يكون أيضًا من الدعاء والذكر ما يقوله

(1)

انظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 283 - 285)، وفيه قال: " (ولا) سجود (لحمد عاطس أو) حمد (مبشر)

(و) لا في (ذكر) قرآن أو غيره كتسبيح (قصد التفهيم به بمحله) كأن يسبح حال ركوعه أو سجوده أو غيرهما لذلك، أو يستأذن عليه شخص وهو يقرأ:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)} فيرفع صوته بقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} لقصد الإذن في الدخول، أو يبتدئ ذلك بعد الفراغ من الفاتحة، (وإلا) بأن قصد التفهيم به بغير محله كما لو كان في الفاتحة أو غيرها فاستؤذن عليه فقطعها إلى آية:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} (بطلت) صلاته لأنه في معنى المكالمة".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 42)، وفيه قال:" (ولو نطق بنظم القرآن) أو بذكر آخر كما شمله كلام كثير (بقصد التفهيم؛ كـ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} مفهمًا به من يستأذنه في أخذ ما يريد أخذه، وكقوله لمن استأذنه في الدخول عليه: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} أو لمن ينهاه عن فعل شيء: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (إن قصد معه)، أي: التفهيم (قراءة لم تبطل)؛ لأنه قرآن فصار كما لو قصد به القرآن وحده، (وإلا) بأن قصد التفهيم فقط أو لم يقصد شيئًا (بطلت)؛ لأن القرآن لا يكون قرآنًا إلا بالقصد".

وفي مذهب الحنابلة هذه الأفعال لا تبطل الصلاة لكنها مكروهة.

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 210)، وفيه قال:" (و) يكره أيضًا (حمده)، أي: المصلي (إذا عطس، أو) إذا (وجد ما يسره و) يكره أيضًا (استرجاعه)، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون (إذا وجد ما يغمه) وكذا قول: باسم الله إذا لسع، أو سبحان الله إذا رأى ما يعجبه ونحوه، خروجًا من خلاف مَن أبطل الصلاة به. وكذا لو خاطب بشيء من القرآن، كقوله لمن دق عليه: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} ولمن اسمه يحيى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} ومن أتى بصلاة على وجه مكروه استحب له إعادتها في الوقت، على وجه غير مكروه". وانظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 41).

ص: 1425

ابتداء لا ما يقوله جوابًا، فلو أنه مثلًا وجد خطأ من الإمام فلا يرد عليه في مثل هذه المسألة؛ ولذلك نهوا عن الفتح على الإمام، لكن أن يذكر منه سبحان الله أو الحمد لله وغير ذلك من الألفاظ فنعم

(1)

.

الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها التسليم" أي: تحليل ما سبق وحُرم بتكبيرة الإحرام من كلام وأكل وغير ذلك، فهو بمثابة مفتاح الخروج منها.

وهذا الحديث دليل على أن تكبيرة الإحرام ركن، وهو الدليل الأول في هذه المسألة

(2)

.

وأما الدليل الثاني: فهو حديث المسيء المتفق عليه الذي مر معنا، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:"إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر"

(3)

. ومعروف أن حديث المسيء إنما اشتمل على الفرائض، وسيأتي الاحتجاج بهذا الحديث للمالكية، ويرد عليهم غيرهم بنفس الحديث.

وفي مسألة الدعاء عند التوجه إلى الصلاة: فالمالكية لا يرون ذلك؛ خلافًا لجماهير العلماء، فهم يختلفون فيما يقوله الإنسان في توجُّهه إلى الصلاة، هل يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك

(1)

انظر: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 101 - 103)، وفيه قال:" (و) يفسدها (الكلام مطلقًا)، أي سواء كان عمدًا أو سهوًا أو نسيانًا أو قليلًا أو كثيرًا (والدعاء بما يشبه كلامنا)؛ نحو: اللهم ألبسني ثوب كذا، اللهم زوجني فلانة. (والأنين) وهو أن يقول: آه، (والتأوه) وهو أن يقول: أوه، (والتأفيف) وهو أن يقول: أف (وبكاء بصوت لوجع أو مصيبة لا لذكر الجنة والنار)، (وتشميت عاطس)، وهو أن يقول: يرحمك الله، وجه إفساده: أنه من كلام الناس إذ يقع به التخاطب بينهم، ولو قال العاطس أو السامع: الحمد لله، لا تفسد؛ لأنه ليس جوابًا عرفًا، ولو قال العاطس لنفسه: يرحمك الله، لا تفسد؛ لأنه بمنزلة قوله: يرحمني الله، وبه لا تفسد كذا في "الظهيرية". (وفتحه على غير إمامه)؛ لأنه تعليم وتعلم فكان من كلام الناس".

(2)

سبق.

(3)

أخرجه البخاري (6251)، ومسلم (397/ 46).

ص: 1426

ولا إله غيرك"

(1)

، كما هو مذهب الحنفية

(2)

، والحنابلة

(3)

.

أو يقول كما هو عند الشافعي

(4)

: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض

"

(5)

إلى آخره

أما المالكية فلا يرون ذلك

(6)

، وسيأتي معنا أنهم يستدلون بهذا الحديث.

(1)

أخرجه أبو داود (776)، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة، قال:"سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(749).

(2)

انظر: "مراقي الفلاح"، للشرنبلالي (ص 97)، وفيه قال:" (و) يسن (الثناء) لما روينا ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قمتم إلى الصلاة فارفعوا أيديكم ولا تخالف آذانكم ثم قولوا: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وإن لم تزيدوا على التكبير أجزاكم". وانظر:"شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (1/ 580).

(3)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 187)، وفيه قال:" (ثم يستفتح، فيقول) ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك".

(4)

انظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 48)، وفيه قال:" (وسن عقب محرم) بفرض أو نفل (دعاء افتتاح) نحو: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"".

(5)

أخرجه مسلم (771/ 201)، عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قام إلى الصلاة، قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين

".

(6)

كره المالكية الدعاء قبل القراءة؛ لأن فيه فصلًا بين الإحرام والقراءة، ورجح المتأخرون الجواز.

انظر: "الشرح الصغير" للدردير مع "حاشية الصاوي"(1/ 338)، وفيه قال:" (و) كره (دعاء قبل القراءة) للفاتحة أو السورة (وأثنائها) أي القراءة. قال الصاوي: قوله: [قبل القراءة] إلخ: ومثله في الكراهة قول: "سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين"، خلافًا لمن يأمر بذلكْ بعد تكبيرة الإحرام وقبل الفاتحة. قوله: =

ص: 1427

فالدليل الثاني في كون تكبيرة الإحرام ركنًا حديث: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر"

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"

(2)

.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه لم يترك تكبيرة الإحرام؛ بل كان إذا افتتح الصلاة يقول: "الله أكبر"، كما في حديث عائشة رضي الله عنها:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ""

(3)

.

وفي بعض الروايات حديث أنس رضي الله عنه: "أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأنهم كانوا يفتتحون الصلاة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "

(4)

، وسيأتي الجمع بين الأحاديث في ذلك.

إذن؛ تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة، ونحن نجد أن العلماء يتفاوتون في عدِّ الأركان، فبعضهم يوصلها إلى أربعة عشر ركنًا، وبعضهم يقول: ثلاثة عشر، وبعضهم يقول: اثنا عشر

وهكذا، لكنهم متفقون على أن تكبيرة الإحرام ركن، عدا الخلاف الذي في مذهب الحنفية

(5)

.

وتكبيرة الإحرام: ينبغي أن يقولها الإنسان وهو قائم إذا كان قادرًا، أما إذا كان عاجزًا فهو معذور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فصلِّ قائمًا، فإن

= [أي القراءة]: ظاهر كراهتها بين الفاتحة والسورة، والراجح الجواز كما استظهره "ح" نقلًا عن "الجلاب" و "الطراز"، بل قيد في الطراز كراهة الدعاء في أثناء القراءة بالفرض، وأما في النفل فيجوز".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (498/ 240)، عن عائشة، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير. والقراءة، بـ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

".

(4)

أخرجه البخاري (743)، ومسلم (1/ 299)، واللفظ له، عن أنس بن مالك، أنه قال:"صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها".

(5)

من قولهم بأنها شرطية كما سبق.

ص: 1428

لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"

(1)

.

وقال العلماء: إذا لم يستطع يومِئ إيماءً

(2)

.

فالقادر على القيام لا بد أن يقوم ويقول: الله أكبر.

وركزت على هذه المسألة: لأننا نشاهد بعض المصلين أنه يأتي وقد ركع الإمام فيكبر تكبيرة الإحرام وهو يهوي، وأكثر العلماء يرون أن الصلاة لا تنعقد بذلك، بل يرون أن تكبيرة الإحرام ينبغي أن تؤدى، وفي هذه الحالة دعاء الاستفتاح هو الذي يسقط؛ لأنه ليس - كما ذكر المؤلف - واجبًا، بل هو مستحب، ولو تركه الإنسان لما بطلت صلاته.

وبنبغي للإنسان هنا: أن يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم، وبتعبير أدق أن يفرغ منها وهو قائم

(3)

، وهذا يخص تكبيرة الإحرام فقط، ولا يشمل بقية

(1)

أخرجه البخاري (1117)، عن عمران بن حصين.

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"، للحصكفي (2/ 99)، وفيه قال:" (وإن تعذر القعود) ولو حكمًا (أومأ مستلقيًا) على ظهره (ورجلاه نحو القبلة) غير أنه ينصب ركبتيه لكراهة مد الرجل إلى القبلة ويرفع رأسه يسيرًا ليصير وجهه إليها (أو على جنبه الأيمن) أو الأيسر ووجهه إليها".

وانظر في مذهب المالكية: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (1/ 346)، وفيه قال:" (وإن لم يقدر) المريض الذي فرضه الجلوس (على الركوع والسجود) أيضًا (فليومئ بالركوع والسجود) برأسه وظهره، فإن لم يقدر بظهره أومأ برأسه فإن لم يقدر برأسه أومأ بما يستطيع".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 469 - 470)، وفيه قال:"فإن عجز أومأ برأسه والسجود أخفض من الركوع، فإن عجز عن الإيماء برأسه فبطرفه: أي: بصره".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 707)، وفيه قال:" (ويومئ بركوع وسجود) عاجز عنهما ما أمكنه نصًّا. (فإن عجز) عن إيماء برأسه (أومأ بطرفه)، أي: عينه (ناويًا مستحضرًا) تفسير له (الفعل) عند إيمائه (بقلبه، وكذا) ناويًا (القول) إذا أومأ له (إن عجز عنه بلسانه) ".

(3)

مذهب الأحناف على أن من ترك القيام ولو مسبوقًا فسدت صلاته.

انظر: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري"، للحدادي (1/ 52)، وفيه قال: "ولو =

ص: 1429

التكبيرات، فإذا ما جاء وقد ركع الإمام، فيقول: الله أكبر، وينوي بها إما تكبيرة الإحرام والركوع، أو يقتصر على تكبيرة الإحرام فقط والأخرى تدخل تبعًا، لكن لو جاء وكبر ناويًا تكبيرة الركوع فهذا لا يصح إلا عند الزهري، لأنه يرى - ومن معه - أن تكبيرة الإحرام ليست بركن وأنه يُكتفى عنها بالنية

(1)

.

وقد اختلف العلماء - كما سبق وذكرنا - في كون تكبيرة الإحرام ركنًا أو شرطًا، وقد استدل كل فريق بأدلة نبين بعضها فنقول:

الفريق الأول: من يقول هي شرط

(2)

، ويلزم المصلي أن يأتي بها لكنه يراها خارج الصلاة، واستدلوا بأدلة:

= أنه لما انتهى إلى الإمام كبر للإحرام منحنيًا إن كان إلى الركوع أقرب فصلاته فاسدة؛ لأن تكبيرة الإحرام لا تصح إلا في حالة القيام". وانظر: "المبسوط"، للسرخسي (1/ 200).

ومذهب المالكية على أن القيام فيها من فرائض الصلاة إلا المسبوق.

انظر: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 231)، وفيه قال:" (و) ثانيها (قيام لها) أي لتكبيرة الإحرام في الفرض للقادر غير المسبوق فلا يجزي إيقاعها جالسًا أو منحنيًا (إلا لمسبوق) ابتدأها حال قيامه وأتمها حال الانحطاط أو بعده بلا فصل كثير". وانظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (1/ 327).

ومذهب الشافعية على أن القيام فرض على الجميع ومن تركه فسدت صلاته فرضًا أو نفلًا على الصحيح.

انظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 514)، وفيه قال:" (ويكبر) المسبوق الذي أدرك إمامه في الركوع (للإحرام) وجوبًا كغيره قائمًا؛ فإن وقع بعضه في غير القيام لم تنعقد صلاته فرضًا قطعًا ولا نفلًا على الأصح".

ومذهب الحنابلة على أن من تركه فسدت صلاته فرضًا وصحت نافلة.

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 184)، وفيه قال:" (فإن أتى به)، أي: بتكبير الإحرام كله غير قائم، بأن قال وهو قاعد أو راكع ونحوه: الله أكبر (أو ابتدأه)، أي: التكبير غير قائم، كأن ابتدأه قاعدًا وأتمه قائمًا (أو أتمه غير قائم)، بأن ابتدأه قائمًا وأتمه راكعا مثلًا (صحت) صلاته (نفلًا)؛ لأن ترك القيام يفسد الفرض فقط دون النفل".

(1)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (2/ 7)، وفيه قال:"وقد روينا عن الزهري قولًا ثالثًا: أنه سئل عن رجل افتتح الصلاة بالنية ورفع يديه، قال: يجزيه".

(2)

وهم الأحناف خلافًا للجمهور كما سبق.

ص: 1430

- الدليل الأول: وهو قول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 14، 15]، يقولون: إن الله تعالى يقول: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} ، فأولًا جاء بالذكر ثم عقبه بالصلاة، قالوا: والتكبير يدخل في الذكر، فدل ذلك على أنه خارج الصلاة، فهو شرط في صحتها لكنه خارج عنها وليس جزءًا منها، وهو دليل على أن التكبير ليس بركن وإنما هو شرط

(1)

.

- الدليل الثاني: وهو دليل من حيث اللغة: فهم يستدلون بالحديث الذي استدل به الجمهور - وقد سبق ذكره - وهو حديث: "مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير

"

(2)

، وفي الحديث إضافة، قالوا: والمعروف لغةً أن المضاف دائمًا يكون مغايرًا للمضاف إليه

(3)

، فلو يقول قائل مثلًا: قلم زيد أو ثوب زيد، فقلم زيد ليس جزءًا منه وقلمه وثوبه أيضًا، قالوا: وأنتم تقولون بأنها جزء من الصلاة، والحديث يدل على خلاف ذلك

(4)

.

الفريق الثاني: وهم الجمهور، وقد قالوا بأنها ركن وعدُّوها جزءًا من الصلاة، ولهم كذلك عدة أدلة كالتالي:

- الدليل الأول: وقد مر بنا من الأدلة حديث معاوية بن الحكم السلمي، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث عن هذه الصلاة: "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة

(1)

سبق ذكر هذا في أدلة الأحناف.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

قال ابن مالك: "المضاف يعرف أو يخصص بالمضاف إليه. والشيء لا يعرف ولا يتخصص إلا بغيره. فلا بد من كون المضاف غير المضاف إليه بوجه ما". انظر: "شرح الكافية الشافية"(2/ 923).

(4)

ذكر هذا النووي عن الأحناف. انظر: "المجموع شرح المهذب"(3/ 290)، وفيه قال:"وللكرخي بقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} فعقب الذكر بالصلاة فدل على أنه ليس منها وبقوله صلى الله عليه وسلم: "وتحريمها التكبير" والإضافة تقتضي أن المضاف غير المضاف إليه كدار زيد".

ص: 1431

القرآن"

(1)

. وهذا نص بيَّن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصلاة تقوم على عدة أمور؛ منها التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، فذكر أن التكبير من أجزاء الصلاة، وهذا نص لا يحتمل تأويلًا ولا (تغيرًا؟) تغييرًا، وهو دليل قطعي على أن التكبير ركن من أركان الصلاة وليست شرطًا من شروطها؛ لأنه قال:"إنما هي" أي: الصلاة "التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، أي: أن الصلاة تتكون من أمور منها التسبيح والتكبير وكذلك قراءة القرآن

(2)

.

- الدليل الثاني: واستدلوا أيضًا بالحديث المسيء صلاته الذي مر بنا كذلك، وفيه:"إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر"

(3)

، وهذه التكبيرة إنما هي تكبيرة الإحرام بدليل أن هذا الحديث اقتصر على ذكر الفرائض، ومنه فالتكبير المشار إليه إنما هي تكبيرة الإحرام، ففي الحديث:"إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة" ومعلوم أن الإنسان إذا استقبل القبلة لم يبق عليه إلا أن يدخل في الصلاة فينوي ويكبر، فدل ذلك أيضًا على أن تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة

(4)

.

هذا وقد أجاب الجمهور على ما استدل به مخالفوهم فقالوا:

- ثبت في الحديث الصحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما

(1)

سبق.

(2)

انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 226)، وفيه قال:"قوله عليه الصلاة والسلام: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هو تكبير وتسبيح"، ظاهره: أن كل تكبير يتعلَّق بالصلاة فإنه منها، ولأنه ذكر من شرط صحة كل صلاة فوجب أن يكون منها، أصله القراءة، ولأنه ذكر من شرط صحة الصلاة فكان من الصلاة كالتشهد، ولأن كل ما افتقر إلى استقبال القبلة كان من الصلاة كالركوع والسجود، ولأن كل ما افتقر إليه أفعال الصلاة من ستر العورة واستقبال القبلة وطهارة، ثبت أنه منها".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

قال النووي: "وهذا أحسن الأدلة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر له في هذا الحديث إلا الفروض خاصة". انظر: "المجموع شرح المهذب"(3/ 290).

ص: 1432

رأيتموني أصلي"

(1)

، وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير

(2)

.

- وأما حديث أنس رضي الله عنه: "أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما فكانوا يفتتحوا الصلاة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} "

(3)

، فالجواب عنه: أنه جاء مبينًا في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "

(4)

، ودل ذلك أيضًا على أن الصلاة إنما هي تُفتتح بالتكبير.

- وأما الجواب عمن استدل بالآية: وهي قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 14، 15]، وقالوا: إن الله عز وجل جاء بالذكر أولًا ثم عقبه بالصلاة، فجوابهم: بأن هذه الآية قد أجمع العلماء - قبل أن يأتي هذا المخالف - على أنها ليست في التكبير، وأنها في الذكر عامة؛ إذن لا وجه للاستدلال بها لأنه استدلال بالآية في غير محلها

(5)

.

- وأما الاستدلال اللغوي: بحديث: "وتحريمها التكبير" وأن ذلك مضاف ومضاف إليه، وأن المضاف يغاير المضاف إليه، فقالوا: كلامكم هذا صحيح؛ لكن ليس على إطلاقه، فالإضافة على نوعين:

* إضافة يغاير فيها المضافُ المضافَ إليه.

* وإضافة لا يكون فيها تغاير بينهما، وإنما يكون المضاف جزءًا من المضاف إليه.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

انظر: "العدة شرح العمدة"، لبهاء الدين المقدسي (ص 87)، وفيه قال:"ودليل أنه ركن في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرتبة وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 303)، وفيه قال:"وأما احتجاجهم بالآية فقد سبق أن المفسرين مجمعون على أنها لم ترد في تكبيرة الإحرام".

ص: 1433

وبيان ذلك: لو قلنا مثلًا: ثوب زيد أو رأس زيد، فقولنا: ثوب زيد، هذه إضافة مغايرة لأن المضاف غير المضاف إليه، ولكن في قولنا: رأس زيد، فهذا يُسمَّى إضافة جزئية، فالرأس هنا جزء من زيد، ومثل ذلك قولنا: صحن البيت، فهو جزء من البيت

(1)

. قالوا: وما ورد في الحديث من هذا النوع؛ أي: أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير" أن التكبير جزء من الصلاة.

وأعتقد أن مذهب جمهور العلماء واضح الدلالة في ذلك، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم تشهد لما أقرُّوه.

قوله: (وَلَعَلَّهُ قَاسَهُ عَلَى سَائِرِ الأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ مِمَّا لَيْسَتْ بِوَاجِبٍ؛ إِذْ قَاسَ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ عَلَى سَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِالبَرِّ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الجُمْهُورِ: مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ بْنُ الحَجَّاجِ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عِمْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ"

(2)

، "وَصلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالعَزِيزِ، فَلَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ"

(3)

، وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه:"أَنَّهُ كَانَ لَا يُكَبِّرُ إِذَا صَلَّى وَحْدَهُ"

(4)

(5)

، وَكأَنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْا أَنَّ التَّكْبِيرَ

(1)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 291)، وفيه قال: "والجواب عن قولهم: الإضافة تقتضي المغايرة: أن الإضافة ضربان:

أحدهما: تقتضي المغايرة كثوب زيد.

والثاني: تقتضي الجزئية كقوله: رأس زيد وصحن الدار.

فوجب حمله على الثاني لما ذكرناه".

وانظر هذه القاعدة النحوية في "التذييل والتكميل"، لأبي حيان (9/ 83).

(2)

أخرجه أبو داود (837). وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(150).

(3)

أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(2/ 300) عن الحسن بن عمران. وضعفه.

(4)

الذي وقفت عليه أنه من حديث ابن عمر، لا عمر كما ذكر المؤلف، ثم هو في تكبيرأت العيد أيام التشريق، لا في تكبيرة افتتاح الصلاة.

فقد أخرجه من طريق الإمام أحمد الطبراني في "المعجم الكبير"(2/ 268): "أن ابن عمر كان إذا صلى وحده في أيام التشريق لم يكبر دبر الصلاة".

(5)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 417).

ص: 1434

إِنَّمَا هُوَ لِمَكَان إِشْعَارِ الإِمَامِ لِلْمَأْمُومِينَ بِقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِلَى هَذَا ذَهَبَ مَنْ رَآهُ كلَّهُ نَفْلًا).

ومعنى قوله: "فلم يتم التكبير"؛ أي: أنه لم يأت به في كل المواضع.

كل الذين يعارضون في هذه المسألة ردُّهم: أن القصد من قوله: "لم يتم التكبير" أنه ما كان يُسمعهم التكبير

(1)

، والتكبير كان من القضايا المهمة، بمعنى أنه ينبغي للإمام أن يرفع صوته فيها لأن الغرض من التكبير أن يُسمع المأمومين ليعرفهم كيف يصلون؛ ولذلك نص العلماء على أنه إذا لم يكن صوته جَهْوَرِيًّا، أو كان صوته جَهْوَرِيًّا لكن المسجد واسع والجمع الذي يصلي فيه غفير لا يستطع إبلاغه صوته؛ فإنه حينئذٍ يبلغ بعض المأمومين بعضًا

(2)

.

(1)

قال النووي: "والجواب عن حديث ابن أبزى من أوجه (أحدها) أنه ضعيف. (والثاني) أنه محمول على أنه لم يسمع التكبير وقد سمعه غيره، فقدمت رواية المثبت. (والثالث) لعله ترك التكبيرات أو نحوها لبيان الجواز". انظر: "المجموع شرح المهذب".

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص 262)، وفيه قال:"قوله: "ويسن جهر الإمام بالتكبير والتسميع" وكذا السلام والمراد بالتكبير ما يعم تكبير العيدين والجنازة، واعلم أن التكبير عند عدم الحاجة إليه بأن يبلِّغهم صوت الإمام مكروه، أما عند الاحتياج إليه بأن كانت الجماعة لا يصل إليهم صوت الإمام إما لضعفه أو لكثرتهم فمستحب".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 337)، وفيه قال:" (و) جاز (مسمع)، أي: اتخاذه ونصبه ليسمع المأمومين برفع صوته بالتكبير فيعلمون فعل الإمام (و) جاز (اقتداء به)، أي: الاقتداء بالإمام بسبب سماعه والأفضل أن يرفع الإمام صوته ويستغني عن المسمع".

في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 144)، وفيه قال:" (و) أن (يجهر بالتكبيرات)، أي: تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقا لات (الإمام) ليسمع المأمومون فيعلموا صلاته (لا غيره) من مأموم ومنفرد فلا يجهر بل يسر، إلا ألا يبلغ صوت الإمام جميع المأمومين فيجهر بعضهم واحد أو أكثر بحسب الحاجة ليبلغ عنه". =

ص: 1435

وقد ورد نص صحيح في ذلك: وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي صلى بالناس في مرضه، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ولا شك أن مَن ذهب إلى أنه نفل قوله غير صحيح، فالأدلة واضحة في ذلك

(2)

.

قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ مِنْ لَفْظِ التَّكْبِيرِ إِلَّا: اللهُ اَكْبَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّهُ اَكْبَرُ، وَاللَّهُ الأَكْبَرُ، اللَّفْظَان كِلَاهُمَا يُجْزِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئ مِنْ لَفْظِ التَّكْبِيرِ كُلُّ لَفْظٍ فِي مَعْنَاهُ مِثْلُ: اللَّهُ الأَعْظَمُ، وَاللَّهُ الأَجَلُّ).

في الاصطلاح الشرعي واللغوي: عندما يطلق لفظ التكبير إنما ينصرف إلى لفظ: الله أكبر، وهذه هي التي وردت نصًّا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقولها.

واختلف أهل العلم فيما يجزئ في ذلك على ثلاثة أقوال:

الأول: الاقتصار على هذه اللفظة كما هي. وهو مذهب الإمامين مالك

(3)

وأحمد

(4)

.

= وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 421 - 423)، وفيه قال:" (وكره جهر مأموم) في الصلاة بقول من أقوالها (إلا بتكبير، وتحميد، وسلام لحاجة) بأن لم يكن الإمام أسمع جميعهم، لنحو: بعد، وكثرة (فيسن) جهر بعض المأمومين بذلك، ليسمع من لا يسمع الإمام".

(1)

أخرج مسلم (413/ 85)، عن جابر، قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا

" ثم ذكر نحو حديث الليث.

(2)

تقدَّم.

(3)

انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 232، 233)، وفيه قال:" (قوله: وإنما يجزئ الله أكبر)، أي: إن المصلي لا يجزئه في تكبيرة الإحرام شيء من الألفاظ الدالة على التعظيم إلا لفظ "الله أكبر" لا غيره من "الله أجل أو أعظم أو الكبير أو الأكبر" للعمل، ولأن المحل محل توقيف".

(4)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 183)، وفيه قال: " (ثم يقول) مصل =

ص: 1436

الثاني: أنه من الممكن أن يدخل عليها زائد شريطة ألا يتغير مبناها ولا معناها. وهو قول الشافعي

(1)

.

الثالث: أن الغرض من ذلك هو الذكر، وإن كان الغرض هو الذكر فأي لفظ يأتي فيه تعظيم لله سبحانه وتعالى وثناء له فإنه يكفي في ذلك، فإذا قيل: الله الأعظم أو الله العظيم أو الله الأجل أو الجليل، أو قال: سبحان الله أو لا إله إلا الله وغير ذلك من الألفاظ التي فيها تعظيم لله تبارك وتعالى؛ فهو يجزئ، ويستدلون أيضًا بقوله تعالى:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 15]. وهو مذهب الحنفية

(2)

.

فالأقوال كما ذكرنا إذن ثلاثة، وأما اللفظ المجمع عليه والذي لا يتطرق إليه أي خلاف فهو لفظ: الله أكبر، والشافعية في الرأي القديم لهم يلتقون مع المالكية والحنابلة

(3)

، وأما القول الثالث كما ترون فكل ما فيه تعريض.

= إمامًا كان أو غيره (قائمًا مع قدرة) على قيام (لمكتوبة: الله أكبر) لا تنعقد الصلاة بغيره نصًّا".

(1)

انظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 459)، وفيه قال:" (ويتعين) فيها (على القادر) بالنطق بها (الله أكبر) لأنه المأثور من فعله عليه الصلاة والسلام، وصح "تحريمها التكبير" وهي صيغة حصر، فلا يجزئ "الله كبير"؛ لفوات معنى أفعل ولا "الرحمن ولا الرحيم أكبر"، أي: ولا "الله أعظم وأجل"؛ لأنه لا يُسمَّى تكبيرًا (ولا تضر زيادة لا تمنع الاسم) أي اسم التكبير (كالله الأكبر) لأنها لا تغير المعنى بل تقويه بإفادة الحصر، لكنه خلاف الأولى، خروجًا من الخلاف".

(2)

انظر: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 65، 66)، وفيه قال:" (وهي التكبير)، أي: الوصف بالكبرياء بقوله: "الله أكبر" (بالحذف) وهو ألا يأتي بالمد في همزة الله ولا في باء أكبر

(وجازت) التحريمة (بما يدل على التعظيم)، نحو الله أجل أو أعظم أو الرحمن أكبر (وبالتسبيح) نحو سبحان الله (والتهليل) نحو لا إله إلا الله".

(3)

الذي عليه الشافعية أن الصيغتين معمول بهما، وأن المتأخرين رجحوا صيغة "الله أكبر" خروجًا من الخلاف كما سبق. والشارح يقول: إن القول القديم للشافعية الذي يلتقون به مع المالكية والحنابلة هو اللّه أكبر. وهو لفظ مجمع عليه. =

ص: 1437

وأما مذهب جمهور العلماء فيقولون: "وتحريمها التكبير" والتكبير ينصرف إلى لفظ: الله أكبر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، وهذا أمر من قوله صلى الله عليه وسلم، والأمر يقتضي الوجوب، وقد كان يقول في صلاته:"الله أكبر"، فإنه مع كثرة الصفات التي نُقلت من صلاته صلى الله عليه وسلم التي تناقلها الصحابة كلها ليس فيها إلا لفظ: الله أكبر.

قالوا: فيجب أن نقف عند النص، وقد جاء ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء قوله مؤكدًا لذلك.

وهناك خلاف بين العلماء: هل الفعل يدل على الوجوب أو لا؟

(1)

وهنا جاء القول مؤيِّدًا للفعل، لحديث:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(2)

، كما في الحديث الآخر:"خذوا عني مناسككم"

(3)

، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم قد أخذوا مناسكهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًّا.

= قال النووي: "تنعقد الصلاة بقوله "الله الأكبر" بالإجماع وتنعقد بقوله: "الله أكبر" عندنا وعند الجمهور، وقال مالك وأحمد وداود: لا تنعقد، وهو قول قديم". انظر: "المجموع شرح المهذب"(3/ 302)،

والظاهر أن نص النووي فيه تصحيف، وأن صوابه:"تنعقد الصلاة بقوله: "الله أكبر" بالإجماع، وتنعقد بقوله: "الله الأكبر" عندنا وعند الجمهور وقال مالك وأحمد وداود: لا تنعقد، وهو قول قديم". فتبين بهذا أن القول القديم لهم هو: "الله الأكبر".

(1)

قال الخطيب البغدادي: "إن كان فعل قربة: فلا يخلو من أن يكون بيانًا لغيره، أو ابتداء من غير سبب، فإن كان بيانًا لغيره، فحكمه مأخوذ من المبين، فإن كان المبين واجبًا، كان البيان واجبًا، وإن كان المبين ندبًا كان البيان ندبًا، وإن كان فعلًا مبتدأً من غير سبب ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه على الوجوب، إلا أن يدل الدليل على غيره.

والثاني: أنه على الندب، إلا أن يدل الدليل أنه على الوجوب.

والثالث: أنه على الوقف، فلا يحمل على الوجوب ولا على الندب إلا بدليل، وهو الأصح. انظر:"الفقيه والمتفقه"(1/ 350).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1438

وقد رد أصحاب القول الأول على القولين الثاني والثالث بردود:

فأما قول الشافعية بأنه يجوز أن يدخل عليها: (أل) التعريف؛ قالوا: لأن (أل) هي لا تنقصه من الكلام شيئًا، وإنما تزيده في مبناه وفي معناه أيضًا إذ تفيد التعريف

(1)

.

قيل: الرد عليهم من عدة أوجه:

- إن بقاء صيغة التكبير: (الله أكبر) تفيد إضمارًا وتكبيرًا، فلما يقال: الله أكبر؛ يعني تقديرها: أكبر من كل شيء، إذن كلمة أكبر تفيد تكبيرًا وإضمارًا أيضًا وفيها زيادة.

- ثم أيضًا ما ذهبتم إليه هو عدول عن النص، وينبغي الوقوف عند النص لا العدول عنه إلا بدليل، ولا دليل هنا لأنه لم يَرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في صلاته: الله الأكبر.

- أنه لم ينقل ذلك عن الصحابة، وإنما ذلك فهم وتأويل منكم؛ فينبغي ألا نخرج عن النص إلا بنص صحيح آخر يقابل ذلك النص

(2)

.

وأما الذين قالوا: أن أي لفظ يأتي فيه تعظيم لله عز وجل وثناء له يجزئ، واستدلوا بقول الله تعالى:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} كما سبق وذكرنا، وقاسوا التكبير على الخطبة فقالوا: خطب الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد فيها لفظ معين، إذن نقيس التكبير عليه؛ فكل ما اشتمل على تعظيم الله سبحانه وتعالى وإجلاله فإنه يؤدي المعنى وهو جائز

(3)

.

قيل في الرد عليهم:

- أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} فقد سبق الكلام عن الآية وتبيين تفسيرها، وقلنا: إنها لم ترد في التكبير؛ فلا ينبغي الاحتجاج بها.

(1)

سبق.

(2)

انظر هذه الأجوبة في "المغني"، لابن قدامة (1/ 333 - 334).

(3)

سبق.

ص: 1439

- وأما قياسهم على الخطبة؛ فهو قياس مع الفارق وهو غير مسلَّم لهم؛ لأنهم يريدون أن يقيسوا الصلاة على الخطبة وشتان بينهما، فخطب الرسول صلى الله عليه وسلم متعددة، وقد خطب خطبًا كثيرة، وهذه الخطب لم ترد محددة بألفاظ معينة لم يتجاوزها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه.

والأمر الآخر: أن الخطبة يُتكلم فيها والصلاة لا يُتكلم فيها؛ ففرق بين هذا وذاك

(1)

.

ولا شك أن مذهب الجمهور إلى جانب كونه أكبر وكونه أصح وأسلم أيضًا؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

(2)

، فإذا اقتصرت على لفظ: الله أكبر؛ حينها تصلي وأنت مطمئن النفس منشرح الفؤاد لا يتطرق إليك أي شك، ولا ينفذ إليك الشيطان من أي طريق، لكن ربما لو صلى الإنسان وكبر بصيغة أُخرى لم ترد في النص فقد يدخله الشك ويوسوس له الشيطان وغير ذلك من الأمور التي إن لم تفسد صلاته تذهب خشوعه.

إذن ينبغي أن نقتصر على لفظ: الله أكبر، خاصة وأن ذلك ركن من أركان الصلاة - التي هي تكبيرة الإحرام - والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، فنحاول قدر الإمكان أن نتمثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(3)

.

والشافعية في كتبهم نجد أنهم يقدمون الرأي الأول - رأي الجمهور - فيذكرون التكبير بلفظ: الله أكبر، يقولون: ولفظ الله أكبر مجمع عليه بين العلماء وهو على الصحيح عندنا جائز؛ إذن فالأولى أن نأخذ بالمجمع عليه وليس بالمختلف فيه، وخاصة أن مثل هذه الأمور ليس فيها مشقة على الإنسان

(4)

.

(1)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 333).

(2)

جُزء من حديث أخرجه الترمذي (2518) عن الحسن بن علي. وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(2773).

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

سبق ذكر هذا.

ص: 1440

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ اللَّفْظُ هُوَ المُتَعَهَّدُ بِهِ فِي الِافْتِتَاحِ أَوِ المَعْنَى).

أي: أن سبب اختلافهم هو: هل هذا اللفظ - الله أكبر - تعبدي ليس لنا أن نتجاوزه فنعدل عنه إلى لفظ آخر - وإن أدَّى المعنى - فنقف عنده

(1)

، أو أنه ليس تعبديًّا؛ فكل ما دل على الثناء يجوز أن نأتي به بدله

(2)

، أو - على قول الشافعية - أن لفظ (الله أكبر) لا بد أن يكون موجودًا، ولكن إذا زدنا عليه فلا يضر لأن المنهي عنه هو تغييره.

* قوله: (وَقَدِ اسْتَدَلَّ المَالِكِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "

(3)

، قَالُوا: وَالأَلِفُ وَاللَّامُ هَاهُنَا لِلْحَصْرِ، وَالحَصْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الحُكْمَ خَاصٌّ بِالمَنْطُوقِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِهِ).

وقد استدل المالكيون والشافعيون بهذا الحديث، فهم متفقون على أن لفظ التكبير مطلوب

(4)

، واختلافهم في الاقتصار على لفظ:(الله أكبر) هل هو واجب أم أنه يجوز التكبير بزيادة الألف واللام؛ أي: (الله الأكبر).

والشافعية قالوا: إن هذه الإضافة لا تغير شيئًا وتفيد أمرين:

الأول: زيادة مبنًى؛ لأننا أضفنا (أل).

الثاني: وزيادة المعنى؛ لأنها أفادت التعريف

(5)

.

(1)

وهذا حجة المالكية والحنابلة كما سبق.

(2)

وهو قول الأحناف.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

وكذا الحنابلة كما سبق.

(5)

انظر: " العزيز شرح الوجيز "، للرافعي (1/ 473)، وفيه قال:" ولو قال: " الله الأكبر " أجزأه؛ لأن زيادة الألف واللام لا تبطل لفظة التكبير ولا المعنى بل قول القائل: " الله الأكبر " يشتمل على ما يشتمل عليه قول: " الله أكبر " مع زيادة مبالغة في التعظيم للإشعار بالاختصاص، والزيادة التي لا تغير النظم ولا المعنى لا تقدح ".

ص: 1441

* قوله: (وَلَيْسَ يُوَافِقُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا الأَصْلِ، فَإِنَّ هَذَا المَفْهُومَ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الخِطَابِ، وَهُوَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِضِدِّ حُكْمِ المَنْطُوقِ بِهِ، وَدَلِيلُ الخِطَابِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ)

(1)

.

أبو حنيفة: لا يرى الاستدلال بدليل الخطاب كما سبق وذكرنا في عدة مواضع، فمعنى التكبير عنده هو الذكر.

والجمهور: لا يسلمون له بهذا، فالكلام عندهم يدور حول كلمة:" وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ " وهذا الحديث عندهم نص في لفظ التكبير، فأخذوا بمنطوق الحديث، ومفهومه المخالف أن ما عدا التكبير لا ينبغي أن يأتي مكانه.

ولهم مجموع أدلة في المسألة منها:

- حديث: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر "

(2)

. وفيه نص أيضًا على التكبير.

- حديث المسيء صلاته؛ قالوا: وهذا رجل قد أساء في صلاته فهو أحوج الناس إلى البيان، وخاصة فيما يتعلَّق بالفرائض، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم رده مرارًا ولم يحسن الصلاة إلى أن عاد فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له صلى الله عليه وسلم:" إذا قمت إلى الصلاة فكبر " فبدأ بالتكبير؛ وهو إذن نص على التكبير.

(1)

مفهوم المخالفة: هو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، ويُسمَّى دليل الخطاب أيضًا. انظر:" الإحكام في أصول الأحكام "، للآمدي (3/ 69).

ومفهوم المخالفة ليس بحجة عند الأحناف. انظر: " فتح القدير "، لابن الهمام (8/ 171)، وفيه قال:" مفهوم المخالفة ليس بحجة عندنا فلا يتم الاستدلال به ".

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1442

- ثم إن صلوات الرسول صلى الله عليه وسلم التي وصفت لنا جاء فيها لفظ التكبير

(1)

.

فهذه كلها أدلة جاءت منطوقة بلفظ التكبير، وليس هو مفهوم مخالفة أو دليل خطاب كما يسمونه، ومعلوم أن مفهوم المخالفة هناك ما يُستَدَّل به وهناك ما هو ضعيف، والمسألة معروفة، والحنفية هم الذين يخالفون أكثر في مفهوم أو دليل الخطاب.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالثَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّوْجِيهَ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ).

التوجيه: هو ما يعرف بدعاء الاستفتاح، وأول ما نبدأ به هذا الفصل هو إصلاح كلمة (واجب) وتبديلها بكلمة (مستحب)، وهذا خطأ فلم يقل أحد من العلماء قاطبة بأنه واجب.

والعلماء من الصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة وغيرهم كلهم متفقون على أن دعاء الاستفتاح مستحب

(2)

، وأنه يجوز للإنسان أن يأتي بأي صفة من صفاته، وخلافهم في أيِّ الصيغ أفضل أو مستحب

(3)

.

* قوله: (وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ؛ إِمَّا " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ "، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ

(4)

، وَإِمَّا أَنْ يُسَبِّحَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ

(5)

، وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي

(1)

سبق ذكر هذه الأدلة.

(2)

مذهب الجمهور على أن هذا الدعاء من سنن وآداب الصلاة، والمالكية كما سبق لا يقولون به إلا أن المتأخرين أجازوه.

(3)

سبق ذكره.

(4)

سبق.

(5)

سبق.

ص: 1443

يُوسُفَ صَاحِبِهِ

(1)

، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ التَّوْجِيهُ بِوَاجِبٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بِسُنَّةٍ

(2)

).

فقد اختلف إذن أئمة المذاهب في هذه المسألة على أقوال:

الأول: الشافعية يأخذون بما ورد في الحديث الصحيح الذي جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين "

(3)

.

الثاني: الحنفية والحنابلة في هذه المسألة فهم متفقون على الأخذ بدعاء: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك "، كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها

(4)

، وفيه كلام للعلماء في سنده صحة وضعفًا، فمنهم من يصححه وهناك من يضعفه

(5)

، لكن يشهد له أثر عمر رضي الله عنه في صحيح مسلم: أنه كان يدعو بهذا الدعاء

(6)

. والذين يردون عليهم بأن ذلك ليس في الصلاة المفروضة، وإنما هو في صلاة الليل، أما حديث " وجهت وجهي

" فقد ورد مطلقًا

(7)

.

(1)

انظر: " الهداية "، للمرغيناني (1/ 49)، وفيه قال:" ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يضم إليه قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} إلى آخره ".

(2)

سبق ذكره.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

انظر في اختلافهم في الحكم عليه: " تنقيح التحقيق "، لابن عبد الهادي (2/ 153 - 155).

(6)

أخرجه مسلم (399/ 52)، عن عمر بن الخطاب، أنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول:" سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ".

(7)

وجَّه الحنابلة دليل الشافعية فقالوا: هذا الدعاء خاص بالنفل.

قال ابن قدامة: " واختار أحمد: " سبحانك اللهم، وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى =

ص: 1444

فنقول: إن ما قووا به حديث عائشة رضي الله عنه وهو حديث عمر رضي الله عنه إنما ورفى في الصلاة مطلقًا

(1)

.

الثالث: المالكية لا يرون دعاء الاستفتاح مطلقًا، والأمر عندهم أن تقول: الله أكبر، ثم تدخل في القراءة مباشرة

(2)

. ومن أدلتهم:

- حديث المسيء صلاته وفيه: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر " فلم يذكر دعاء الاستفتاح

(3)

.

والجواب عن استدلالهم بهذا الحديث: أنه ذكر فرائض الصلاة ولم يذكر السنن

(4)

.

- حديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه أنه قال: " صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يفتتحون الصلاة ب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "

(5)

.

= جدك، ولا إله غيرك ". وجوز الاستفتاح بغيره، لكونه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال في حديث علي: بعضهم يقول في صلاة الليل. ولأن العمل به متروك، فإنا لا نعلم أحدًا يستفتح به كله، وإنما يستفتحون بأوله ". انظر: " المغني "(1/ 342 - 343).

لكن الشافعية قالوا: هذا الدعاء عام يقال في فرض ونفل.

قال النووي: "" إذا قام إلى الصلاة " يتناول الفرض والنفل ". انظر: " المجموع شرح المهذب "(3/ 315).

(1)

أي: حديث: " سبحانك اللهم وبحمدك

".

(2)

سبق.

(3)

انظر: " الإشراف "، للقاضي عبد الوهاب (1/ 230، 231)، وفيه قال:" المستحب أن يقرأ الفاتحة عقيب الإحرام، خلافًا للشافعي، في استحبابه التوجيه والتسبيح؛ لما روى في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه ويكبر ثم يقرأ، وقوله: للذي علمه الصلاة: " كبر ثم اقرأ " وقوله: " تكبر ثم تقرأ "، وفي حديث أُبَيِّ: " كيف تقرأ إذا فتحت الصلاة؟ قال: (الله أكبر)(الحمد لله رب العالمين) ".

(4)

سبق ذكر هذا الجواب.

(5)

تقدَّم تخريجه.

وهذا الدليل حجة للمالكية على مذهبهم.

انظر: " شرح التلقين "، للمازري (1/ 566)، وفيه قال:" والحجة لمالك قول أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ".

ص: 1445

والجواب عن استدلالهم بحديث أنس رضي الله عنه: أنه جاء تفسيره في حديث عائشة رضي الله عنها الذي قالت فيه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "

(1)

.

ولذلك بعض العلماء عندهم وبعض الأئمة المحققين لا يذكرون هذا الحديث في هذه المسألة

(2)

، فابن قدامة مثلًا لا يُشير لذلك في كتابه " المغني "، ولا يذكر هذه الرواية التي تنسب إلى الإمام أحمد

(3)

.

وهذه القضية أيضًا من القضايا التي لا مشاحة فيها، فلو أن الإنسان أخذ بهذا الرأي أو بذاك فلا يلام، ولا يقال بأنه أخطأ، أو أنه خالف في هذه المسألة، فقد وردت عدة أحاديث في المسألة، وللمرء أن يأخذ منها ما يشاء، لكن بعض العلماء ترجح عنده هذا الحديث فأخذ به، وآخرون رأوا أن غيره أولى فأخذوا به.

* قوله: (وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ الآثَارِ الوَارِدَةِ بِالتَّوْجِيهِ لِلْعَمَلِ عِنْدَ مَالِكٍ، أَوْ الِاخْتِلَافُ فِي صِحَّةِ الآثَارِ الوَارِدَةِ بِذَلِكَ

(4)

. قَالَ القَاضِي: قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،

(1)

تقدَّم تخريجه.

هذا الرد الذي ذكره الشارح على دليل المالكية قاله النووي في " المجموع شرح المهذب "(3/ 321)، قال:" معنى: أنهم كانوا يفتتحون الصلاة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: أنهم كانوا يقرؤون الفاتحة قبل السورة، وليس المقصود أنه لا يأتي بدعاء الاستفتاح وبينه حديث عائشة رضي الله عنها ". وانظر: " المغني "، لابن قدامة (1/ 342).

(2)

يقصد حديث أنس في افتتاح الصلاة بالفاتحة، لأنه خارج محل النزاع.

(3)

لعله يقصد الرواية السابقة التي تنسب للإمام أحمد في نفي تكبيرات الانتقال في الصلاة من أن ابن عمر كان إذا صلى وحده في أيام التشريق لم يكبر دبر الصلاة. وقد سبقت.

(4)

سبق.

ص: 1446

بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! إَسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ، وَالقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ:" اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ "

(1)

. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى اسْتِحْسَانِ سَكَتَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الصَّلَاةِ، مِنْهَا حِينَ يُكَبِّرُ، وَمِنْهَا حِينَ يَفْرُغُ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ القُرْآنِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنَ القِرَاءَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ).

مسألة السكتات مهمة في الصلاة: وقد أخذ بها الشافعية والحنابلة، وخالفهم في ذلك جمع من العلماء كالحنفية والمالكية.

وسبب الخلاف: الاختلاف في تصحيح ما ورد في ذلك من أحاديث

(2)

.

وقد ذكر المؤلف عمدة ما ورد في هذه المسألة وأن العلماء اختلفوا فيه، فمنهم من يصحح الحديث ومنهم مَن يضعفه، ولا شك أن هذه السكتات ترفع الحرج عن المأموم لأن الله صلى الله عليه وسلم يقول:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204].

وجاء في الحديث الصحيح: " وإذا قرأ فأنصتوا "

(3)

، وقد ورد في ذكر مواضعها في مجموع الروايات ثلاث سكتات:

- سكتة بعد التكبير.

- وأُخرى بعد قراءة الفاتحة.

- والثالثة بعد الفراغ من قراءة السورة

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598/ 147).

(2)

ستأتي.

(3)

أخرجه مسلم (404/ 63).

(4)

سيأتي تفصيل هذه المسائل.

ص: 1447

ومن العلماء من أخذ بها ورأى أن هذه السكتات هي وقت للمأموم يقرأ فيها الفاتحة، وسيأتي الخلاف في حكم قراءة القرآن في الصلاة وهو قسمان:

الأول: في حكم القراءة من حيث الجملة.

الثاني: بعد ذلك تفصيلًا الاختلاف في قراءة الفاتحة.

وفي الحقيقة محل هذه المسألة أن تأتي في مسألة القراءة يعني في مسألة القراءة هي أقرب.

* قوله: (وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ الشَّافِعِيُّ

(1)

، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالأَوْزَاعِيُّ

(2)

، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ

(3)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(4)

،

(1)

انظر: " نهاية المحتاج "، للرملي (1/ 494)، وفيه قال:" والسكتات المستحبة في الصلاة أربع على المشهور: سكتة بعد تكبيرة الإحرام يفتتح فيها، وثانية بين: {وَلَا الضَّالِّينَ} وآمين، وثالثة للإمام بين التأمين في الجهرية وقراءة السورة بقدر قراءة المأموم الفاتحة، ورابعة قبل تكبيرة الركوع ".

وهو مذهب الحنابلة، انظر:" مطالب أولي النهى "، للرحيباني (1/ 626)، وفيه قال:" (وهي)، أي: سكتات الإمام ثلاث (قبل فاتحة) في الركعة الأولى فقط، (وبعدها)، أي: الفاتحة في كل ركعة. (وتسن) أن: تكون (هنا)، أي: بعد الفاتحة (بقدرها)، ليقرأها المأموم فيها، (وبعد فراغ قراءة) ليتمكن المأموم من قراءة سورة فيها ".

(2)

انظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (1/ 468)، وفيه قال:" وقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور حق على الإمام أن يسكت سكتة بعد التكبيرة الأولى وسكتة بعد فراغه بقراءة فاتحة الكتاب وبعد الفراغ بالقراءة ليقرأ من خلفه بفاتحة الكتاب ".

(3)

انظر " الاستذكار "، لابن عبد البر (1/ 469)، وفيه قال:" وأما مالك فأنكر السكتات ولم يعرفها قال: لا يقرأ أحد مع الإمام إذا جهر لا قبل القراءة ولا بعدها ".

وهو ما عليه المذهب. انظر: " الشرح الكبير "، للشيخ الدردير (1/ 247)، وفيه قال:" (و) الخامسة عشرة (إنصات مقتد) لقراءة إمامه في صلاة جهرية (ولو سكت إمامه) بين تكبير وفاتحة أو بين فاتحة وسورة أو لم يسمعه لعارض، فتكره قراءته ولو لم يسمعه ".

(4)

انظر: " مجمع الأنهر "، لشيخي زاده (1/ 106)، وفيه قال:" (ولا يقرأ المؤتم) خلف الإمام في السرية والجهرية (بل يستمع وينصت) من الإنصات بمعنى السكوت خلافًا للشافعي، فإنه يقول يجب على المؤتم قراءة الفاتحة بعد قراءة الإمام في الجهرية ومع الإمام في السرية؛ لأن القراءة ركن من الأركان فيشتركان ".

ص: 1448

وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ

(1)

أَنَّهُ قَالَ: " كَانَتْ لَهُ عليه الصلاة والسلام سَكَتَاتٌ فِي الصَّلَاةِ: حِينَ يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الكِتَابِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنَ القِرَاءَةِ قَبْلَ الرُّكوعِ ")

(2)

.

عبارة المؤلف: (وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ) قد يكون فيها قصور، وإنما الأمر أنَّ الحديث لم يثبت عندهم؛ فلم يأخذوا به

(3)

.

فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم له سكتتان

(4)

، وورد في بعض الروايات ثلاثة

(5)

.

والحديث الذي ذكره المؤلف قال فيه الشافعية والحنابلة: إنه حديث حسن وصالح للاحتجاج به

(6)

، والآخرون خالفوهم.

(1)

ليس من حديث أبي هريرة وإنما من حديث سمرة.

(2)

أخرجه أبو داود (780)، عن سمرة، قال: سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيه: قال سعيد: قلنا لقتادة: ما هاتان السكتتان؟ قال: " إذا دخل في صلاتهِ، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال: بعد، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ". وضعفه الألباني في " ضعيف أبي داود - الأم "(138).

(3)

وهو حديث سمرة كما سبق.

انظر: " بيان الوهم والإيهام " لابن القطان (4/ 153) وفيه قال: " والحديث عنده من رواية عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن عنه. وسعيد بن أبي عروبة مشهور الاختلاط، وعبد الأعلى لا يعرف متى سمع منه. ولم يتجنب أبو محمد من حديث سعيد شيئًا، بل ساق عنه ما لا يحصى من عند مسلم وغيره، ولم يعتبر في الرواة عنه من سمع منه قبل الاختلاط أو بعده، أو من لم يعرف متى سمع، كعبد الأعلى هذا.

(4)

سبق.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "(2/ 516)، عن الحسن، قال:" كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سكتات: سكتة إذا افتتح التكبير حتى يقرأ الحمد، وإذا فرغ من الحمد حتى يقرأ السورة، وإذا فرغ من السورة حتى يركع ". وضعفه الألباني في " إرواء الغليل "(2/ 287).

(6)

انظر: " المجموع شرح المهذب "، للنووي (3/ 351)، وفيه قال:" قال الدارقطني: كلهم ثقات، وكان علي بن المديني يثبت سماع الحسن من سمرة ".

ص: 1449

والمسألة لها ارتباط أيضًا بما يحمله الإمام عن المأموم؛ وهي مسألة محل خلاف بين العلماء

(1)

.

وقبل أن نختم الكلام في هذه المسألة: يجدر بنا التنبيه إلى أن دعاء الاستفتاح مشروع في كل الصلوات؛ سواء كانت الصلاة صلاة مفروضة أو كانت نافلة، وسواء كانت صلاة ليل أو صلاة نهار، وسواء كان الإنسان مسافرًا أو حاضرًا، أو كان ذكرًا أو أنثى

(2)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي افْتِتَاحِ القِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ).

هذه مسألة تكلم عنها العلماء كثيرًا خاصة في كتب التوحيد والعقيدة؛ حيث يفتتحون كتبهم بـ: بسم الله الرحمن الرحيم.

وكما جاء في الحديث: " كل كلام لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع "

(3)

، وفي بعض الروايات جاء قوله:" بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} "

(4)

. مكان: " بحمد الله "؛ ولذلك نجد أن كثيرًا من الشراح وأصحاب المتون يبدؤون بالبسملة ويتكلمون عن حكمها من عدة نواحٍ:

أولًا: فيما يتعلَّق بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، فليس هناك خلاف في أنها آية من كتاب الله، وقد وردت في سورة النمل

(5)

في قول الله سبحانه وتعالى:

(1)

سبقت.

(2)

سبق.

(3)

أخرجه ابن حبان في " صحيحه "(1/ 173)، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ". وضعفه الألباني في " التعليقات الحسان "(1).

(4)

أخرجه الخطيب البغدادي في " الجامع لأخلاق الراوي "(2/ 69)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ (باسم الله) الرحمن الرحيم أقطع ". والحديث ضعيف. انظر: " تخريج أحاديث الكشاف "، للزيلعي (1/ 24).

(5)

انظر: " الإقناع "، لابن القطان (1/ 46)، وفيه قال:" واتفقوا أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية من القرآن في سورة النمل ".

ص: 1450

{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)} [النمل: 30].

ولكن الخلاف في كونها جزءًا من كل سورة افتتح بها أو لا، وكونها جزءًا من الفاتحة أم إنما أنزلت للفصل بين السور، أو أنها للتبرك بها كما ورد في الأحاديث الصحيحة:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف نهاية السورة إلا بنزول بسم الله الرحمن الرحيم "

(1)

.

وقد جاءت عدًّا في كتاب الله سبحانه وتعالى في ثلاثة عشر ومائة موضع؛ أي: في بداية كل سورة ما عدا سورة براءة

(2)

؛ ولذلك بعض العلماء - كعبد الله بن المبارك

(3)

، والإمام الشافعي

(4)

- يشدد في أنه لا يجوز تركها.

ثانيًا: اختلفوا في كونها آية في كل موضع وردت فيه أو في موضع خاص على أقوال:

- من العلماء من يرى أنها آية من كل السور التي افتتحت بها، وهي رواية للإمام الشافعي

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود (788)، عن ابن عباس، قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ". وصححه الألباني في " صحيح أبي داود - الأم "(754).

(2)

أخرج البيهقي في " شعب الإيمان "(4/ 24)، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: " من لم يقرأ مع كل سورة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية ". وانظر: " الكامل في القراءات العشر "، لأبي القاسم الهذلي (ص 474).

(3)

انظر: " التمهيد "، لابن عبد البر (20/ 207)، وفيه قال:" وقال ابن المبارك: من ترك (بسم الله الرحمن الرحيم) فقد ترك مائة آية وثلاث عشرة آية من القرآن ".

(4)

انظر: " الأم "، للشافعي (1/ 129)، وفيه قال:" بسم الله الرحمن الرحيم: الآية السابعة فإن تركها، أو بعضها لم تجزه الركعة التي تركها فيها (قال الشافعي): وبلغني أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح القراءة بـ: بسم الله الرحمن الرحيم ".

(5)

انظر: " البيان "، للعمراني (2/ 182)، وفيه قال:" وهل هي آية من أول كل سورة غير براءة؟ الظاهر من المذهب: أنها آية من أول كل سورة غير براءة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها في أول كل سورة غير براءة، ولم يثبتوا بين الدفتين غير القرآن. ومن أصحابنا من يحكي فيها قولًا آخر للشافعي، وبعضهم يحكيه وجهًا لبعض أصحابنا: أنها ليست بآية من أول كل سورة ".

ص: 1451

- ومنهم من يرى أنها آية من سورة الفاتحة وحدها، وهو مشهور مذهب الشافعي

(1)

، ورواية للإمام أحمد

(2)

.

- ومنهم من يرى أنها تنزل مع كل سورة من القرآن ولكنها ليست جزءًا من السورة عدا ما جاء في سورة النمل، وهذا مروي عن عامة فقهاء الحديث

(3)

.

(1)

مشهور مذهب الشافعية على أنها آية من الفاتحة وكذلك آية من جميع القرآن إلا براءة.

انظر: " تحفة المحتاج "، لابن حجر الهيتمي (2/ 35، 36)، وفيه قال: " (والبسملة) آية كاملة (منها)؛ لإجماع الصحابة على ثبوتها في المصحف بخطه مع تحريمهم في تجريده عما ليس بقرآن

والأصح أنها آية كاملة من أول كل سورة، ما عدا {بَرَاءَةٌ} ".

(2)

انظر: " الروايتين والوجهين "، لأبي يعلى الفراء (1/ 118)، وفيه قال:" ونقل أبو زرعة الدمشقي، وأحمد بن إبراهيم الكوفي: أنها إحدى آياتها؛ لما روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: " الحمد سبع آيات. إحدى آياتها بسم الله الرحمن الرحيم ".

(3)

انظر قولهم في: " الاستذكار "(1/ 455، 456)

وهو أيضًا مذهب الأحناف والمالكية ومشهور مذهب الحنابلة. فكلهم يقولون بأنها ليست آية من السور ولا من الفاتحة وهي فاصلة بين السور، إلا أن الأحناف يقولون بأنها آية من القرآن لكن ليست آية من أول السور ولا من الفاتحة.

انظر في مذهب الأحناف: " الدر المختار "، للحصكفي (1/ 491)، وفيه قال:" (وهي آية) واحدة (من القرآن) كله (أنزلت للفصل بين السور) فما في النمل بعض آية إجماعًا (وليست من الفاتحة ولا من كل سورة) في الأصح ".

وانظر في مذهب المالكية: " حاشية الدسوقي على الشرح الكبير "(1/ 251)، وفيه قال:" (قوله: وجازت) المراد بالجواز عدم الكراهة، وقيل: المراد بالجواز الجواز المستوي الطرفين في الفاتحة وغيرها (قوله: وكرها بفرض)، أي: للإمام وغيره سرًّا أو جهرًا في الفاتحة أو غيرها ابن عبد البر وهذا هو المشهور عند مالك ومحصل مذهبه عند أصحابه وإنما كرهت لأنها ليست آية من القرآن إلا في النمل ". وانظر: " الإشراف "، للقاضي عبد الوهاب (1/ 233 - 234).

وانظر في مشهور مذهب الحنابلة: " مطالب أولي النهى "، للرحيباني (1/ 427 - 428)، وفيه قال:" (وليست) بسم الله الرحمن الرحيم (من الفاتحة)، أي: ولا من غيرها، (بل) البسملة بعض آية من النمل إجماعًا، و (آية فاصلة بين كل سورتين، سوى براءة، فيكره ابتداؤها بها) لنزولها بالسيف ".

ص: 1452

ثالثًا: واختلفوا في حكم قراءتها في الصلاة على أقوال:

- فمن العلماء من يرى أنها واجبة، وأن من لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم كأنه أسقط آية من الفاتحة، فلا تصح حينئذ صلاته، وهذا هو مشهور مذهب الشافعية

(1)

.

- ومنهم من يرى أنها مستحبة، وهذا هو قول الحنابلة

(2)

والمحققين من الحنفية

(3)

.

- ومنهم من يرى أن المصلي مخيَّر في ذلك، فله أن يقرأ بها وله ألا يقرأها، فإن قرأها فحسن وإن لم يقرأها فلا شيء عليه، ونسب ذلك إلى إسحاق بن راهويه

(4)

، وهو من أقران وأصحاب الإمام أحمد، وهو اختيار

(1)

انظر: " نهاية المحتاج "، للرملي (1/ 478)، وفيه قال:" ويجهر بها حيث يجهر بالفاتحة للاتباع ". وانظر: " نهاية المطلب "، للجويني (2/ 137).

(2)

انظر: " كشاف القناع "، للبهوتي (1/ 336)، وفيه قال:" (أو) ترك (البسملة حتى شرع في القرآن) وفي نسخ " القراءة " (سقط) لأنه سنة فات محلها ".

(3)

انظر: " البحر الرائق "، لابن نجيم (1/ 329)، وفيه قال:" (قوله: وسمى سرًّا في كل ركعة)، أي: ثم يسمي المصلي بأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا هو المراد بالتسمية هنا، والمراد بالمصلي هنا الإمام أو المنفرد، أما المقتدي فلا دخل له فيها فإنه لا يقرأ، وقد عدها المصنف فيما سبق من السنن، وهو المشهور عن أهل المذهب ".

ومذهب المالكية على الجواز في النفل والكراهة في الفرض.

انظر: " شرح مختصر خليل "، للخرشي (1/ 289)، وفيه قال:" (ص) وجازت كتعوذ بنفل (ش)، أي: وجازت البسملة في النفل كما يجوز فيه التعوذ وظاهره قبل الفاتحة أو بعدها وقبل السورة جهرًا أو سرًّا وهو ظاهر المدونة. (ص) وكرها بفرض (ش)، أي: وكرهت البسملة والتعوذ في الفرض للإمام وغيره سرًّا وجهرًا في الفاتحة وغيرها ".

(4)

الذي ثبت عن إسحاق هو التخيير بين الجهر والإسرار بها في الصلاة، وليس كما قال الشارح من أنه قال: هو مخير بين الفعل والترك.

ومما يؤكد ذلك ما جاء في " مسائله "، وفيه:" قلت لإسحاق: رجل صلى الصلوات ولم يقرأ بـ: بسم الله الرحمن الرحيم مع الحمد؟ قال: يعيد الصلوات ". انظر: " مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه " للكوسج (9/ 4854).=

ص: 1453

الإمام ابن حزم الظاهري

(1)

.

ولكلٍّ أدلة يستدلون بها:

فالذين يرون أن البسملة آية من سورة الفاتحة لأنها جزء منها:

- يستدلون بأن الصحابة رضي الله عنهم قد كتبوها بخط المصحف ولم يكتبوها بخط مغاير، وأنهم رضي الله عنهم ما كانوا يكتبون في المصحف إلا ما كان من القرآن

(2)

.

- وقد ثبت: " أن أبا هريرة رضي الله عنه صلى بأصحابه فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " فلما فرغ من صلاته قال: إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(3)

.

- وجاء عن أم سلمة رضي الله عنها أيضًا: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة بـ: بسم الله الرحمن الرحيم " وعدَّها آية

(4)

.

= وممن نقل عن إسحاق القول بالتخيير بين السر والجهر ابنُ المنذر في " الأوسط "(3/ 290)؛ حيث قال: " وقال آخرون: لما ثبت أنهم كانوا لا يجهرون بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، وثبت حديث أبي هريرة: " أنه جهر بـ: بسم الله الرحمن الرحيم "، كان المصلي بالخيار إن شاء جهر بقراءة فاتحة الكتاب، وإن شاء أخفاها، وهذا موافق مذهب الحكم وإسحاق ". وانظر نحوه في: " مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه "(2/ 535 - 536).

(1)

قال ابن حزم بعد ذكر دليل من قال بقراءتها ومن رأى تركها: " والحق من هذا أن النص قد صح بوجوب قراءة أم القرآن فرضًا، ولا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن هذه القراءات حق كلها مقطوع به، فقد وجب؛ إذ كلها حق أن يفعل الإنسان في قراءته أي ذلك شاء؛ وصارت " بسم الله الرحمن الرحيم " في قراءة صحيحة آية من أم القرآن، وفي قراءة صحيحة ليست آية من أم القرآن ". انظر: " المحلى "(2/ 284).

(2)

سبق.

(3)

أخرجه النسائي (905). وضعفه الألباني.

(4)

أخرجه بهذا اللفظ ابن خزيمة في " صحيحه "(1/ 248)، وصححه الألباني في " إرواء الغليل "(343).

ص: 1454

وأما الذين ذهبوا إلى أنها ليست من الفاتحة:

- فاستدلوا بأن الصحابة رضي الله عنهم قد كتبوها في سطر مستقل ولم يدمجوها مع السورة بل فصَلُوها عنها

(1)

.

- واستدلوا بالحديث الذي جاء فيه: " سورة عدد آياتها ثلاثون آية شفعت لرجل

هي سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} "

(2)

، وسورة الملك آياتها ثلاثون، فدل ذلك على أن البسملة ليست من السورة.

- كما أجمع العلماء على أن سورة الكوثر عدد آياتها ثلاث

(3)

، ولو كانت منها البسملة لكانت أربع آيات

(4)

.

- ويستدلون بالحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل " فإذا قال عبدي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} قال الله سبحانه وتعالى: حمدني عبدي

"

(5)

، ولم يرد ذكر البسملة، فلو كانت آية لذُكرت

(6)

.

ومسألة البسملة: هي من المسائل التي طال فيها الخطب والجدال، وعني بها بعض العلماء وكتبوا فيها مصنفات عديدة، ومنهم من حقق القول فيها، ومنهم مَن ربما دفعه التعصب لمذهبه فمال إليه.

وكثير من العلماء يذهبون إلى أن قراءتها مستحبة كالاستفتاح، ولكن

(1)

انظر: " المغني "، لابن قدامة (1/ 348).

(2)

أخرجه أبو داود (1400)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" سورة من القرآن ثلاثون آية، تشفع لصاحبها حتى يغفر له: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ". وحسنه الألباني في " مشكاة المصابيح "(2153).

(3)

انظر: " البيان في عد آي القرآن "، للداني (ص 292)، وفيه قال:" وهي ثلاث آيات في جميع العدد ليس فيها اختلاف ".

(4)

انظر: " المغني "، لابن قدامة (1/ 347).

(5)

أخرجه مسلم (395/ 38).

(6)

انظر: " المغني "، لابن قدامة (1/ 347).

ص: 1455

الأمر المستحب قد يترتب عليه تنفير الناس وإيقاع الخلاف بينهم، والأَوْلى في تلك الحالة أن يترك العمل بالمستحب، كما ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها:" لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة ولأعدتها على قواعد إبراهيم "

(1)

؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب في هدم الكعبة وإعادة بناءها كما كانت على قواعد الخليل إبراهيم عليه السلام، لكن الذي منعه من ذلك هو أن العرب كانوا قريبي عهد بكفر فخشي أن يدب الخلاف بينهم وتقع بينهم الفرقة، فترك صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر المستحب الذي كان يرغب فيه خشية أن يترتب على ذلك مفسدة تنفير الناس وإيقاع الخلاف بينهم.

وكما ورد أيضًا: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنكر على عثمان رضي الله عنه إتمام الصلاة في السفر، فقصر الصلاة في السفر رخصة من الله سبحانه وتعالى كما في قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]؛ فالآية وإن كانت نزلت في صلاة الخوف لكنها نعمة من الله وهدية منحها لعباده فأبقاها.

ولذلك لما أُشكل الأمر على يعلى بن أمية وذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن ذلك قال: أليس قد أمِنَ الناس؟ فقال عمر: رضي الله عنه عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته "

(2)

.

وقد أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه أنه أتم الصلاة، وعثمان رضي الله عنه لم يفعل منكَرًا لأنه أخذ بالإتمام وكلاهما جائز، لكن أنكر عليه أنه لم يأخذ بالرخصة - وهي القصر - ثم قال لما سُئل عن ذلك:

(1)

أخرج البخاري (4484)، ومسلم (1333/ 399)، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم " قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت ".

(2)

أخرجه مسلم (686/ 4).

ص: 1456

كيف تنكر على عثمان وتصلي خلفه؟: " الخلاف شر "

(1)

، فقد تبعه إذن في الاقتداء؛ لأنه عَلِمَ أنه لو لم يصلِّ خلفه لترتب على ذلك خلاف قد يؤدي إلى الفرقة والشقاق.

وكذلك أيضًا ما نُقل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: " أنه جهر بقراءة الفاتحة فصلى صلاة الجنازة، وقال: إنما فعلت ذلك لأعلمكم السنة "

(2)

.

وثبت: " أن عمر رضي الله عنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح "

(3)

.

وثبت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ربما جهر بالآية في سورة الظهر أو العصر، مع أن القراءة في تلك الصلوات سرية

(4)

.

والمالكية: لا يرون قراءة " بسم الله الرحمن الرحيم "، بل ويكرهون قراءتها سرًّا وجهرًا

(5)

.

وقال بعض العلماء الذين يرون أن السنة الإسرار بالبسملة: يستحب لمن صلى في المدينة أن يجهر بها لإظهار السنة، وقد ثبت هذا نصًّا عن الإمام أحمد

(6)

.

إذن قد يُترك المستحب ويُؤخذ بغيره إذا كان يترتب على فعل المستحب تنفير للناس، والذي يؤدي إلى إيقاع الجفوة بينهم كان تركه تقريبًا للقلوب وجمعًا للشمل.

(1)

أخرجه أبو داود (1960)، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود - الأم "(1712).

(2)

أخرج البخاري (1335)، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال:" صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب قال: ليعلموا أنها سنة ".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري (778)، ومسلم (451/ 155)، واللفظ له، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحيانًا، ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ".

(5)

وذلك في الفريضة لا النافلة كما سبق.

(6)

انظر: " المبدع في شرح المقنع "، لابن مفلح (1/ 384 - 385)، وفيه قال:" وعنه: بالمدينة ليتبين أنها سنة، لأن أهل المدينة ينكرونها، كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ".

ص: 1457

ولقد نص العلماء في قاعدة " درء المفاسد مُقدمٌ على جلب المصالح ": على أن الإنسان قد يترك أحيانًا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجوبهما خشية أن يترتب على فعلهما ضرر أكبر من نفعهما

(1)

.

* قوله: (فَمَنَعَ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ؛ جَهْرًا كَانَتْ أَوْ سِرًّا، لَا فِي اسْتِفْتَاحِ أُمِّ القُرْآنِ، وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

، وَالثَّوْرِيُّ

(4)

، وَأَحْمَدُ

(5)

: يَقْرَؤُهَا مَعَ أُمِّ القُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سِرًّا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْرَؤُهَا وَلَا بُدَّ فِي الجَهْرِ جَهْرًا، وَفِي السِّرِّ سِرًّا

(6)

، وَهِيَ عِنْدَهُ آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الكِتَابِ

(7)

، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ

(8)

، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ

(9)

، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ؟ أَمْ إِنَّمَا هِيَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ فَقَطْ، وَمِنْ فَاتِحَةِ الكِتَابِ؟ فَرُوِيَ عَنْهُ القَوْلَانِ جَمِيعًا

(10)

.

(1)

قال ابن القيم: " شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبُّه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والوُلاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر ". انظر: " إعلام الموقعين "(4/ 338).

(2)

سبق تفصيل هذا.

(3)

سبق.

(4)

انظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (1/ 438)، وفيه قال:" وقال الثوري وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل يقرؤها مع أم القرآن في كل ركعة سرًّا ".

(5)

سبق.

(6)

سبق.

(7)

سبق.

(8)

وهذا في رواية عنه كما سبق.

(9)

انظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (1/ 456)، وفيه قال:" وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد هي آية من فاتحة الكتاب ".

(10)

سبق.

ص: 1458

وقوله عن الإمام مالك أنه أجاز قراءتها في النافلة إنما هي رواية

(1)

.

وفي رواية عن الإمام أحمد: أنها آية من فاتحة الكتاب

(2)

، وفي أُخرى له أنها ليست بآية

(3)

.

وأما الإمام الشافعي فله رواية أنها آية من كل سورة افتتحت بها، وأخرى: أنها آية من سورة الفاتحة وآية من سورة النمل أو جزء منها

(4)

.

والخلاف بين الشافعية وغيرهم في كون البسملة لم يرد متواترًا أنها من القرآن، وأن كونها من القرآن مظنون؛ ولذلك نقل بعض محققي الشافعية - كالغزالي وغيره - أنه يكفي الظن، وهو في هذه الحالة قريب من اليقين، والشك هنا وهمٌ، بينما الظن فإنه يلي مرتبة اليقين، فيكفينا هنا إذن الظن

(5)

، ومن حيث الجملة فالأحوط للمصلي ألا يدع قراءة البسملة.

وقد قال الحافظ ابن حجر: " عجبي من هؤلاء! أن يأتي بعضهم فيرد ذلك فلا يقرأ الفاتحة في القرآن ولا يقرأ أيضًا إلا آية أو لا يقرأ في الصلاة وهي الركن الثاني بعد الشهادتين، وذلك لكونه يُخالف في المسألة "

(6)

.

(1)

وهي المشهورة كما سبق.

(2)

وهي غير المشهورة.

(3)

وهي الرواية المشهورة كما سبق.

(4)

سبق.

(5)

انظر: " المستصفى "، للغزالي (ص 82)، وفيه قال:" البسملة آية من القرآن. لكنه هل هي آية من أول كل سورة؟ فيه خلاف، وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة الحمد وسائر السور، لكنها في أول كل سورة آية برأسها. فإن قيل: القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر، فإن كان هذا قاطعًا فكيف اختلفوا فيه؟ وإن كان مظنونًا فكيف يثبت القرآن بالظن؟ وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول: بأن البسملة منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة، وأنها كتبت مع القرآن بخط القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

(6)

انظر: " فتح الباري "، لابن حجر (2/ 242)، وفيه قال: " وقد قال بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة الحنفية، لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطًا =

ص: 1459

ولكل رأيٍ أدلة ولكن لا شك أنه من حيث الجملة فإن الأحوط للمصلي ألا يدع البسملة خروجًا من الخلاف، وكذلك يقرأ الفاتحة في كل ركعة ويقرأ أيضًا في الركعتين الأوليين شيئًا من القرآن.

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي هَذَا آيِلٌ إِلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ. وَالثَّانِي: اخْتِلَافُهُمْ: هَلْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الكِتَابِ أَمْ لَا؟).

ولو أردنا أن نتتبع الخلاف في هذه المسألة وجزئياتها لما استطعنا إكمال ذلك ولأخذ منا عدة مجلدات، لكن أن المسألة خلاصتها كالتالي:

أولًا: أن (بسم الله الرحمن الرحيم) يختلفون في قراءتها في الصلاة على ثلاثة أقوال:

- بعضهم من يوجبها

(1)

.

- ومنهم من يرى أنها مستحبة

(2)

.

- ومنهم من يكرهها

(3)

.

ثانيًا: أنهم يختلفون في الجهر بها من عدمه على ثلاثة أقوال كذلك:

- بعضهم يرى أن السنة الجهر بها

(4)

.

- في صحة الصلاة؛ لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن، وقد قال تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فالفرض قراءة ما تيسر وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجبًا يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه، وإذا تقرر ذلك لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره ".

(1)

وهم الشافعية كما سبق.

(2)

وهم الأحناف والحنابلة كما سبق.

(3)

وهم المالكية وذلك في الفرض لا في النفل، كما سبق.

(4)

وهو مذهب الشافعية. انظر: " مغني المحتاج "، للشربيني (1/ 355)، وفيه قال:" والسنة أن يصلها بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وأن يجهر بها حيث يشرع الجهر بالقراءة ".

ص: 1460

- ومنهم من يرى أن السنة عدم الجهر بها

(1)

.

- ومنهم من يسوي بين الأمرين

(2)

.

* قوله: (فَأَمَّا الآثَارُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مَنْ أَسْقَطَ ذَلِكَ، فَمِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: " سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقْرَأُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَالحَدَثَ، فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَلَمْ أَسْمَعْ رَجُلًا مِنْهُمْ يَقْرَؤُهَا "

(3)

. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: ابْنُ مُغَفَّلٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ)

(4)

.

وحديث ابن مغفل هذا دليل لمن يرى أنه لا يقرأ بها.

وقوله: " إياك والحدث " وفي بعض الروايات: " أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ، إِيَّاكَ

(1)

وهو مذهب الجمهور. انظر في مذهب الأحناف: " تبيين الحقائق "، للزيلعي (1/ 112)، وفيه قال:" (وسمي سرًّا في كل ركعة)، لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ: بسم الله الرحمن الرحيم ".

وانظر في مذهب المالكية: " مواهب الجليل "، للحطاب (1/ 544)، وفيه قال:" إن قرأها لم يجهر، فإن جهر بها فذلك مكروه ".

وانظر في مذهب الحنابلة: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 188)، وفيه قال:" (ولا يسن جهر بشيء من ذلك)، أي: الاستفتاح والتعوذ والبسملة في الصلاة ".

(2)

وهو قول إسحاق كما سبق.

(3)

أخرجه قريبًا من هذا اللفظ أحمد في " مسنده "(20559)، عن ابن عبد الله بن مغفل، قال:" سمعني أبي وأنا أقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}، فلما انصرف، قال: يا بني إياك والحدث في الإسلام، فإني صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر، وخلف عمر، وعثمان، فكانوا لا يستفتحون القراءة بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، ولم أرَ رجلًا قط أبغض إليه الحدث منه ". وحسنه الأرناؤوط بشواهده.

(4)

انظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (1/ 454 - 455)، وفيه قال:" فهذه الآثار التي احتج بها من كره قراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة ومن أبى من أن يعدها آية من فاتحة الكتاب، وهي أحاديث حسان رواها العلماء المعروفون إلا حديث ابن مغفل فإنه حديث ضعيف لأنه لم يعرف ابن عبد الله بن مغفل ".

ص: 1461

وَالحَدَثَ "

(1)

، يعني: هذا أمر محدث لم يكن معروفًا.

وفي روايات أُخرى جاءت مفصلة: " هذا حدث محدث، وإنهم يكرهون الحدث "

(2)

؛ يعني: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحذير له من محدثات الأمور، فإن " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار "، كما جاء في الحديث

(3)

.

واختلفوا في كون المحدث هنا هل هو قراءتها أو الجهر بها؟ وقد ذكرنا خلاصة القول في ذلك، والمحققون من الحنفية والحنابلة الذين قالوا بالإسرار لا شك مذهبهم أقوى؛ لأن أدلتهم صحيحة وصريحة، وهي نصوص لا تحتمل تأويلًا، لكن أدلة الذين قالوا بالجهر الصريح منها ضعيف، وما صح منها فهو غير صريح في المسألة بل يحتمل تأويلًا.

إذن؛ حديث عبد الله بن مغفل هذا هو دليل المالكية

(4)

، وفي بعض الروايات:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} "

(5)

، ولمَّا لم يرد ذكر لـ:(بسم الله الرحمن الرحيم)، دل ذلك على عدم قراءتها، كما استدلوا كذلك بحديث المسيء صلاته وأنها لم ترد فيه

(6)

.

وأبو عمر بن عبد البر إمام جليل معروف من علماء المالكية، ولكنه

(1)

أخرجها الترمذي (244)، وضعفها الألباني في " ضعيف الترمذي ".

(2)

لم أقف على هذه الرواية.

(3)

أخرجه النسائي (1578)، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول:" من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ". وصححه الألباني.

(4)

أي: في كراهة البسملة قبل الفاتحة وقبل السورة كما سبق.

(5)

تقدَّم ذكره.

(6)

سبق.

ص: 1462

أيضًا من أصحاب الآراء المستقلة، ومن العلماء المحققين الذين وهبهم الله سبحانه وتعالى سعة في العلم وإدراكًا، وهو صاحب كتاب " الاستذكار " المعروف، الذي يعتبر من أهم مراجع كتابنا هذا، فقد عول عليه المؤلف - ابن رشد - في نقل المذاهب، وله أيضًا كتاب " التمهيد " الذي شرح فيه " الموطأ "، وله كتب أُخرى.

* قوله: (وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: " قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم، فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ: " بِسْمِ اللهِ " إِذَا افْتَتَحُوا الصَّلَاةَ ")

(1)

.

وقوله: " لا يقرأ (باسم الله) " في معناه احتمالان:

الأول: أنه لا يقرؤها مطلقًا.

الثاني: وقد يكون المقصود أنه كان لا يسمعها.

وإذا أخذنا الأحاديث الصحيحة الصريحة التي فيها القراءة، نجد أنها دلت على المراد بذلك، وهو أنهم كانوا يقرؤونها ولا يجهرون بها

(2)

.

* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ: " قُمْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ لَا يَقْرَأُ " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الحَدِيثِ قَالُوا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا: إِنَّ النَّقْلَ فِيهِ مُضْطَرِبٌ اضْطِرَابًا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَرَّةً رُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّةً لَمْ يُرْفَعْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ عُثْمَانَ وَمَنْ لَا يَذْكُرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فَكَانُوا يَقْرَؤُونَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فَكَانُوا لَا يَقْرَؤُونَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فَكَانُوا

(1)

أخرج مالك في " الموطأ "(1/ 81). وصححه الألباني موقوفًا ومرفوعًا. انظر: " أصل صفة صلاة النبي "(1/ 282).

(2)

سبق.

ص: 1463

لَا يَجْهَرُونَ بِـ: بَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(1)

. وَأَمَّا الأَحَادِيثُ المُعَارِضَةُ لِهَذَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ المُجَمِّرِ قَالَ:" صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَبْلَ أُمِّ القُرْآنِ، وَقَبْلَ السُّورَةِ، وَكَبَّرَ فِي الخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَقَالَ: أَنَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ")

(2)

.

وحديث نعيم بن عبد الله المجمر هذا هو الأصح في المسألة، وقد تلقاه العلماء بالقبول، وقد نقل فيه فعل أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه قوله بعد أن انتهى من الصلاة:" أنا أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وكونه نسب الفعل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك

(3)

.

* قوله: (وَمِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِـ: بَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "

(4)

، وَمِنْهَا: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ

(1)

انظر: " الاستذكار "، لابن عبد البر (1/ 436 - 437).

(2)

أقرب ما وقفت عليه ما أخرجه النسائي (905)، عن نعيم المجمر قال:" صليت وراء أبي هريرة فقرِأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: آمين. فقال الناس: آمين ويقول: كلما سجد: (الله أكبر)، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: (الله أكبر)، وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ". وضعفه الألباني.

(3)

ذكر ابن عبد الهادي من صححه، فقال:" واستدل به البيهقي في كتاب " الخلافيات " ثم قال: رواة هذا الحديث كلهم ثقات، مجمعٌ على عدالتهم، محتج بهم في الصحيح. وقال في " السنن الكبير ": هو إسنادٌ صحيح وله شواهد. واعتمد عليه الخطيب في مسألة الجهر بالبسملة، وقال: هذا الحديث ثابت صحيح، لا يتوجه عليه تعليل في اتصال إسناده وثقة رجاله. وقد اعتمد أكثر من صنف في الجهر على هذا الحديث ". انظر: " تنقيح التحقيق "(2/ 178).

(4)

أخرجه الدارقطني في " سننه "(2/ 68). وضعفه الألباني في " أصل صفة صلاة النبي "(1/ 289).

ص: 1464

رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} "

(1)

، فَاخْتِلَافُ هَذِهِ الآثَارِ أَحَدُ مَا أَوْجَبَ اخْتِلَافَهُمْ فِي قِرَاءَةِ " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فِي الصَّلَاةِ).

وفي رواية عن أم سلمة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدَّها آية "

(2)

. وهذه الرواية فيها إثبات قراءة البسملة، لكن الشافعية احتجوا بذلك على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها، لأنها قالت: " كان

يقرأ بـ: بسم الله الرحمن الرحيم "؛ أي: أنهمِ كانوا يسمعونه، وأما من خالفوهم فقالوا: إنهم ربما يسمعونه أحيانًا

(3)

.

الأمر الآخر أنهم قالوا هذا موقوف على أم سلمة

(4)

.

* قوله: (وَالسَّبَبُ الثَّانِي كَمَا قُلْنَا هُوَ: هَلْ " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " آيَةٌ مِنْ أُمِّ الكِتَابِ وَحْدَهَا، أَوْ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، أَمْ لَيْسَتْ آيَةً لَا مِنْ أُمِّ الكِتَابِ وَلَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أُمِّ الكِتَابِ، أَوْجَبَ قِرَاءَتَهَا بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ أُمِّ الكِتَابِ عِنْدَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَجَبَ عِنْدَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا مَعَ السُّورَةِ، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ قَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَالمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ)

(5)

.

(1)

أخرجه الحاكم في " المستدرك "(1/ 356). وصححه الألباني في " أصل صفة صلاة النبي "(1/ 293).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

انظر: " المغني "، لابن قدامة (1/ 346)، وفيه قال:" وحديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها، وسائر أخبار الجهر ضعيفة؛ فإن رواتها هم رواة الإخفاء، وإسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه، فدل على ضعف رواية الجهر، وقد بلغنا أن الدارقطني قال: لم يصح في الجهر حديث ".

(4)

لم أقف على مَن قال بهذا، وإنما ردوا حديث أم سلمة بالضعف وعدم دلالته على الجهر بالبسملة، كما سبق.

(5)

سبق بيان هذا.

ص: 1465

وهُنَاك أيضًا مسألةٌ أُخرى يختلفون فيها متعلقة بهذه: وهي هل التعوذ وكذلك قراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) يُكتفى بها في أول ركعة أو لا بد أن يكرر ذلك في كل ركعة، وهي عند مَن يقول بأنها آية لا بد أن يقرأها مع الفاتحة في كل ركعة، لا سيما أن الشافعية ممن يرى أن قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة، سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية، وسواء كان المصلي إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا

(1)

.

وقول المؤلف: (هَذِهِ المَسْأَلَةُ قَدْ كَثُرَ الاِخْتِلَافُ فِيهَا) لا شك في كونه محقًّا، والكلام فيها طويل جدًّا، فترى هذا يضع أدلة ويأتي الآخر ويناقشها، ثم يرد أدلته، وذاك يعترض عليها وهكذا.

(وَلَكِنْ مِنْ أَعْجَبِ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: وممَا اخْتُلِفَ فِيه هَلْ " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " آيَةٌ مِنَ القُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ؟ أَمْ إِنَّمَا هِيَ آيَةٌ مِنَ القُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فَقَطْ؟ وَيَحْكُونَ عَلَى جِهَةِ الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنَ القُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ القُرْآنَ نُقِلَ تَوَاتُرًا .. هَذَا الَّذِي قَالَهُ القَاضِي فِي الرَّدِّ عَلَى الشافِعِيِّ، وَظَنَّ أَنَّهُ قَاطِعٌ

(2)

، وَأَمَّا أَبُو حَامِدٍ فَانْتَصَرَ لِهَذَا بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَيْضًا لَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ القُرْآنِ، لَوَجَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ

(1)

انظر: " الغرر البهية "، لزكريا الأنصاري (1/ 324)، وفيه قال:" (و) سن عقب الافتتاح. (الاستعاذ)، أي: الاستعاذة من الشيطان بل يكره تركها كما في المجموع عن النص وتحصل بكل ما اشتمل على التعوذ من الشيطان، وأفضله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (كل ركعة)، لكنه في الركعة الأولى آكد ".

(2)

انظر: " المستصفى "، للغزالي (ص 82)، وفيه قال: "

فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع. وعن هذا المعنى قطع القاضي رحمه الله بخطأ من جعل البسملة من القرآن إلا في سورة النمل، فقال: لو كانت من القرآن لوجب على الرسول عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانًا قاطعًا للشك والاحتمال. إلا أنه قال: أخطئ القائل به ولا أكفره، لأن نفيها من القرآن لم يثبت أيضًا بنص صريح متواتر فصاحبه مخطئ وليس بكافر ".

ص: 1466

يُبَيِّنَ ذَلِكَ

(1)

، وَهَذَا كلُّهُ تَخَبُّطٌ وَشَيْءٌ غَيْرُ مَفْهُومٍ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ فِي الآيَةِ الوَاحِدَةِ بِعَيْنِهَا أَنْ يُقَالَ فِيهَا: إِنَّهَا مِنَ القُرْآنِ فِي مَوْضِعٍ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ القُرْآنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ).

المقصود من قوله أبو حامد هو الغزالي رحمه الله.

وممن رأيت أنه حقق هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " الفتاوى "، فقد تكلم عنها وانتهى إلى رأي وسط في المسألة، وقد اعتبره رأي فقهاء الحديث والمحققين أيضًا.

وقد ذهب هؤلاء: إلى أن {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية من القرآن في كل موضع ذكرت فيه عند كل سورة، لكنها ليست آية من السورة، بمعنى أنها آية في كل موضع وردت فيه مع كل سورة لا أنها جزء منها، ويستدلون على ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف انتهاء السورة حتى تنزل عليه:{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

(2)

.

وأما المالكية: فيقولون إنما وضعت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} للتبرك بها -يعني: قراءة - والتقدير: أتبرك بأن أبدأ باسم الله الرحمن الرحيم

(3)

.

(1)

انظر: " المستصفى "، للغزالي (ص 83).

(2)

انظر: " مجموع الفتاوى "، لابن تيمية (13/ 398، 399)، وفيه قال:" والصواب أن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف؛ إذ لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه عما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور؛ ولكن مع ذلك لا يقال هي من السورة التي بعدها كما أنها ليست من السورة التي قبلها؛ بل هي كما كتبت آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة ".

(3)

انظر: " الفواكه الدواني "، للنفراوي (1/ 6).

وهو قول الأحناف. انظر: " التجريد "، للقدوري (2/ 499)، وفيه قال:" قال أصحابنا: (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست آية من الفاتحة، وإنما هي افتتاح لها تبركًا ". وانظر: " البناية شرح الهداية "، للعيني (2/ 192).

ص: 1467

وقد رد عليهم الآخرون فقالوا: لو كانت للتبرك لماذا لم تذكر في سورة براءة

(1)

؟!

وقضية الردود في مثل هذه المسائل طويلة جدًّا، وهي ليست من مقاصد شرحنا هذا.

* قوله: (بَلْ يُقَالُ: إِنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مِنَ القُرْآنِ حَيْثُمَا ذُكِرَتْ، وَأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَهَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ أُمِّ القُرْآنِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ يُسْتَفْتَحُ بِهَا، مُخْتَلَفٌ فِيهِ

(2)

، وَالمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي سَائِرِ السُّوَرِ فَاتِحَةٌ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا، فَإِنَّهُ بَيِّنٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ).

وهذا كلام مفصل جيد.

ومما يذكر من فوائد في المسألة: قول بعض أهل العلم أنه حتى سليمان عليه السلام افتتح بها كتابه كما ذكر الله تعالى، فمن باب الأولى أن تستفتح بها سور القرآن.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا

(3)

، إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه:" أَنَّهُ صَلَّى، فَنَسِيَ القِرَاءَةَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟ فَقِيلَ: حَسَنٌ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذنْ "

(4)

، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ

(1)

انظر: " المجموع شرح المهذب "، للنووي (3/ 336)، وفيه قال:" (فإن قيل) لعلها كتبت للتبرك بذكر الله (فجوابه) أنه لو كانت للتبرك لاكتفى بها في أول المصحف أو لكتبت في أول براءة ولما كتبت في أوائل السور التي فيها ذكر الله كالفاتحة والأنعام وسبحان والكهف والفرقان والحديد ونحوها فلم يكن حاجة إلى البسملة ".

(2)

سبق.

(3)

ستأتي.

(4)

أخرجه البيهقي في " معرفة السنن والآثار "(3/ 327) من طريق الشافعي.

ص: 1468

عِنْدَهُمْ

(1)

، أَدْخَلَهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ

(2)

).

وهذه مسألة مهمة جدًّا، وهي من أدق المسائل لأنه يرتبط بها صحة الصلاة من عدمها.

فإن قيل: بأن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة أو شرط من شرائطها، فمعنى ذلك أن الصلاة لا تصح بدونها

(3)

، إلا في حق العاجز عن قراءتها.

ويختلف أيضًا العلماء في العاجز عن قراءتها - كالأخرس - هل يلزمه أن يحرك لسانه في القراءة أو لا على قولين:

(1)

سيأتي.

(2)

أخرجه مالك في " الموطأ " برواية أبي مصعب الزهري (1/ 189).

(3)

قراءة الفاتحة ركن في قول الجمهور واجب في قول الأحناف لا تفسد الصلاة بتركها.

انظر في مذهب الأحناف: " مجمع الأنهر "، لشيخي زاده (1/ 88)، وفيه قال:" (وواجبها)، أي: واجب الصلاة الذي لا يلزم فسادها بتركه، وإنما يلزم الإثم إن كان عمدًا وسجدتي السهو إن كان خطأ (قراءة الفاتحة) فلا تفسد الصلاة بتركها عندنا ".

وانظر في مذهب المالكية: " الشرح الكبير "، للشيخ الدردير (1/ 231 - 237)، وفيه قال: " (فرائض الصلاة)، أي: أركانها وأجزاؤها المتركبة هي منها خمس عشرة فريضة أولها (تكبيرة الإحرام)

(و) خامسها (فاتحة)، أي: قراءتها (بحركة لسان على إمام وفذ)، أي: منفرد، لا على مأموم، هذا إذا أسمع نفسه، بل (وإن لم يسمع نفسه) فإنه يكفي في أداء الواجب ".

وانظر في مذهب الشافعية: " نهاية المحتاج "، للرملي (1/ 472)، وفيه قال:" (الرابع) من أركانها (القراءة) للفاتحة ".

وانظر في مذهب الحنابلة: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 216)، وفيه قال: " تنقسم أفعال الصلاة وأقوالها إلى ثلاثة أقسام الأول: ما لا يسقط عمدًا، ولا سهوًا وهي الأركان، لأن الصلاة لا تتم إلا بها فشبهت بركن البيت الذي لا يقوم إلا به، وبعضهم سماها فروضًا

(و) الثالث (قراءة الفاتحة) في كل ركعة ".

ص: 1469

الأول: من العلماء مَن يرى وجوب تحريك اللسان وقالوا: إن ذلك لأهمية الفاتحة

(1)

.

الثاني: منهم من قال لا يلزمه ذلك

(2)

.

وفي نظري: أن الذين قالوا لا يلزمه أولى؛ لأن اللسان أصلًا آلة ووسيلة للقراءة، فلما أصبح الإنسان غير قادر على القراءة فما فائدة تحريك اللسان؟!

ومثله تمامًا الإنسان الذي ليس له شعر - أي: الأصلع - فهل يلزمه إذا حج مثلًا أن يمر الموسى على رأسه؟ أو الذي تلده أمه مختونًا هل يلزمه أيضًا الختان؟

هذه مسائل كلها يذكرها العلماء ويستدلون بالحديث الطويل الذي جاء في آخره: " وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "

(3)

، وقد أسسوا في ذلك قاعدة معروفة وهي قولهم:(الميسور لا يسقط بالمعسور)

(4)

.

(1)

انظر في مذهب الشافعية: " أسنى المطالب "، لزكريا الأنصاري (1/ 144)، وفيه قال:" (والأخرس يحرك) وجوبًا (لسانه وفمه) بأن يحرك شفتيه ولهاته (قدر إمكانه) قال ابن الرفعة: فإن عجز عن ذلك نواه بقلبه كما في المريض، ومثل ذلك يجري في القراءة، والتشهد والسلام وسائر الأذكار ".

(2)

انظر في مذهب الأحناف: " الدر المختار "، للحصكفي (1/ 481، 482)، وفيه قال:" (ولا يلزم العاجز عن النطق) كأخرس وأمي (تحريك لسانه) وكذا في حق القراءة هو الصحيح، لتعذر الواجب، فلا يلزم غيره إلا بدليل فتكفي النية ".

وانظر في مذهب المالكية: " التاج والإكليل "، للمواق (2/ 271)، وفيه قال:" ابن حبيب: من أعجزه قراءة لسانه أجزأته بقلبه. ابن رشد: من عجز عن حركات لسانه أجزأته صلاته دون أن يحرك لسانه. ابن بشير: إن عجز عن جميع الحركات ولم يبق له سوى النية بالقلب فلا نص فيها في المذهب ". وانظر: " الفواكه الدواني "، للنفراوي (1/ 382).

وانظر في مذهب الحنابلة: " الإقناع "، للحجاوي (1/ 117)، وفيه قال:" فإن لم يحسن إلا بعض الذكر كرره بقدر الذكر، فإن لم يحسن شيئًا منه وقف بقدر الفاتحة كالأخرس ولا يحرك لسانه ".

(3)

أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337/ 412).

(4)

انظر هذه القاعدة في: " الأشباه والنظائر "، للسبكي (1/ 155 - 156).

ص: 1470

وبعضهم صاغها صياغة أُخرى فقال: (من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا).

فهذا يستطيع أن يحرك اللسان فلماذا لا يحرك لسانه؟

لكن نحن نأتي إلى تحريك اللسان فنقول: هل تحريك اللسان مقصود لذاته أو أنه وسيلة إلى القراءة، فإذا كان وسيلة للقراءة والقراءة قد انتهت، فما كان من ضرورة القراءة قد انتهت أيضًا.

وكذلك الإنسان الذي يستطيع أن يصوم جزءًا من النهار ولا يستطيع أن يصوم النهار كله، فلا يلزمه أن يصوم بعض النهار لأنه لا يفيده.

إذن؛ من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها لا يلزمه في هذه الحالة شيء.

لكن هناك صور يلزم الإنسان أن يؤدي فيها ما يستطيعه: كالذي يستطيع القيام ولا يستطيع القراءة، فيلزمه حينئذٍ أن يقوم، وآخر لا يستطيع القيام إلا على حد الراكعين، فيلزمه أيضًا القيام بالقدر الذي يستطيع وهكذا، وهذه قاعدة من أهم القواعد وأجلها.

وفي مطلع هذه المسألة: يبين المؤلف أن القراءة ركن من أركان الصلاة، لكن القراءة التي يقول عنها لا تسقط عمدًا ولا سهوًا يقصد بها قراءة الفاتحة، أما ما عداها ففيها خلاف، وبعض السلف يُوجب القراءة فيها

(1)

،

(1)

اختلفوا في قراءة ما عدا سورة الفاتحة في الصلاة، فالأحناف على وجوبها في الركعتين الأوليين والجمهور على الاستحباب.

انظر في مذهب الأحناف: " درر الحكام "، لمنلا خسرو (1/ 69)، وفيه قال: " (ويقرأ الفاتحة ويسمي)، أي: يقول بسم الله الرحمن الرحيم

(ويضم إليها)، أي: الفاتحة (سورة أو ثلاث آيات) من أي سورة شاء (وما سوى الفاتحة والضم سنة)

(وهما)، أي: الفاتحة والضم (وأجبان) قراءة الفاتحة ليست بركن عندنا، وكذا ضم السورة إليها ".

وانظر في مذهب المالكية: " الشرح الكبير "، للشيخ الدردير (1/ 242)، وفيه قال: " (وسننها)، أي: الصلاة الفرض وكذا النفل إلا الأربعة الأول السورة والقيام لها =

ص: 1471

لكن التي هي محل اتفاقٍ بين العلماء هي وجوب قراءة الفاتحة

(1)

.

فقراءة الفاتحة إذن ركن من أركان الصلاة عند جماهير العلماء بمعنى أنها لا تسقط سهوًا ولا عمدًا

(2)

.

ويتعلق بها عدة مسائل في تفريعات المذاهب نذكر منها:

أولًا: مَن نسي قراءة الفاتحة وانتقل إلى ركن آخر؛ أي: لو نسي قراءتها ثم تذكر مثلًا وهو قد سجد أو رفع رأسه من السجود، فهل يقوم ليأتي بالقراءة؟ والحال تختلف فيما لو أتم الركعة الأولى ثم انتقل إلى الثانية؛ فإن كثيرًا من العلماء يلغي هذه الركعة ويعتبر أن الثانية هي الركعة الأولى لأن قراءة الفاتحة ركن أيضًا

(3)

.

= والجهر والسر (سورة بعد الفاتحة في) الركعة (الأولى والثانية) والمراد قراءة ما زاد على أم القرآن ولو آية أو بعض آية له بال في كل ركعة بانفرادها على الأظهر ".

وانظر في مذهب الشافعية: " مغني المحتاج "، للشربيني (1/ 361)، وفيه قال:" (وتسن) للإمام والمنفرد (سورة) يقرؤها في الصلاة (بعد الفاتحة) ولو كانت الصلاة سرية (إلا في الثالثة) من المغرب وغيرها (والرابعة) من الرباعية (في الأظهر) للاتباع ".

وانظر في مذهب الحنابلة: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 191)، وفيه قال:" (ثم يقرأ) المصلي بعد الفاتحة (سورة كاملة ندبًا) ويستحب أن يفتتحها بالبسملة سرًّا (من طوال) (المفصل في) صلاة (الفجر و) من (قصاره)، أي: المفصل (في) صلاة (المغرب، وفي الباقي) من الخمس، وهي الظهر والعصر والعشاء (من أوساطه)، أي: المفصل ".

(1)

سبق.

(2)

سبق.

(3)

انظر في مذهب الأحناف: " مراقي الفلاح "، للشرنبلالي (ص 96)، وفيه قال:" ولو تذكر الفاتحة بعد قراءة السورة قبل الركوع يأتي بها ويعيد السورة في ظاهر المذهب كما لو تذكر في الركوع يأتي بها ويعيده، (ولو ترك الفاتحة) في الأوليين (لا يكررها في الأخريين) عندهم ويسجد للسهو لأن قراءة الفاتحة في الشفع الثاني مشروعة نفلًا وبقراءتها مرة وقع عن الأداء لفوته بمكانه، وإذا كررها خالف المشروع إلا في النفل ".

وانظر في مذهب المالكية: " الشرح الكبير "، للشيخ الدردير (1/ 238)، وفيه قال: =

ص: 1472

ثانيًا: فيما يتعلَّق بالمسبوق - وهو من يأتي والإمام قد ركع - فإنه في هذه الحالة لا يدرك قراءة الفاتحة، فهل قراءة الفاتحة سقطت عنه في هذه الحالة التي لا يتمكن فيها من قراءتها أو أن الإمام يحملها عنه؟

وهنا أكثر العلماء على أن الإمام يحملها عنه لكن شريطة ألا يكون الإمام قد أحدث في هذه الركعة التي أدرك فيها المأموم الإمام، وألا يكون الإمام قد قام إلى خامسة لأن الخامسة زائدة بالنسبة للرباعية، فهذه تفصيلات مسائل جزئية لم يعرض لها المؤلف

(1)

.

= " (وإن ترك) الفذ أو الإمام (آية منها) أو أقل أو أكثر أو تركها كلها سهوًا ولم يمكن التلافي بأن ركع (سجد) قبل سلامه، ولو على أنها واجبة في الكل مراعاة للقول بوجوبها في الجل؛ فإن أمكن التلافي تلافاها فإن لم يسجد أو تركها عمدًا بطلت ولو تركها في ركعة من ثنائية أو في ركعتين من رباعية سهوًا تمادى وسجد للسهو وأعاد أبدًا احتياطًا على الأشهر ".

وانظر في مذهب الشافعية: " التهذيب "، للبغوي (2/ 96)، وفيه قال:" ولو ترك قراءة الفاتحة، أو حرفًا أو تشديدة منها عمدًا أو سهوًا - لا تصح صلاته، فإن تذكَّر بعدما ركع، يجب أن يعود إلى القيام، وإن تذكر بعدما قام إلى الركعة الثانية، فهذه الركعة أولاه ". وانظر: " نهاية المحتاج "، للرملي (1/ 541).

وانظر في مذهب الحنابلة: " مطالب أولي النهى "، للرحيباني (1/ 525)، وفيه قال:" إذا كان المتروك (قراءة)؛ فيقوم، ويأتي بها (و) يجعلها (من) ركعة (أولى)، فيأتي بركعة بدلها؛ ليحصل له تأدية فرضه يقينًا ".

(1)

هذه المسألة مبناها على مسألة أُخرى وهي هل الإمام يتحمل عن المأموم قراءة الفاتحة أم لا، فإذا كان يتحمل عنه، ولم يقرأ المأموم الفاتحة، أو فاتته فلا شيء عليه، وهذا هو قول الجمهور. وقال الشافعية لا يتحمل عنه، لكن يستثنى المسبوق.

انظر في مذهب الأحناف: " بدائع الصنائع "، للكاساني (1/ 111)، وفيه قال:" وأما الحديث فعندنا " لا صلاة بدون قراءة " أصلًا، وصلاة المقتدي ليست بصلاة بدون قراءة أصلًا، بل هي صلاة بقراءة وهي قراءة الإمام على أن قراءة الإمام قراءة للمقتدي، ثم المفروض هو أصل القراءة عندنا من غير تعيين ". وانظر: " الدر المختار "، للحصكفي (1/ 544).

وانظر في مذهب المالكية: " شرح مختصر خليل "، للخرشي (1/ 269)، وفيه قال:" خامسها قراءة أم القرآن ولو بحركة لسانه وإن لم يسمع نفسه على الإمام والمنفرد في الفرض والنفل لا على المأموم لخبر: " قراءة الإمام قراءة المأموم " وسواء السرية =

ص: 1473

وأما حكم القراءة في الصلاة - بغض النظر عن كونها الفاتحة أو غير الفاتحة

(1)

-: فجماهير العلماء يذهبون إلى أن القراءة في الصلاة واجبة

(2)

، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن بن صالح بن حي وأبو بكر الأصم، ولا يعتد بخلافهما في مقابل الإجماع

(3)

.

وقد خالفا جماهير العلماء في أن القراءة في الصلاة مستحبة وليست واجبة، وليس لهم حديث مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ذهبوا إليه، لكنهم يتمسكون ببعض الآثار الموقوفة على بعض الصحابة رضي الله عنهم، ومنها:

- الأثر الذي ذكره المؤلف في قصة عمر رضي الله عنه: " أنه صلى صلاة المغرب ولم يقرأ فيها، فلما فرغ من صلاته ذكر له ذلك فقال: ما حال الركوع والسجود، قالوا: حسنًا -يعني: كان حسنًا - فقال: لا بأس "

(4)

.

- واستدلوا أيضًا بما روي عن علي رضي الله عنه: " أن رجلًا ذكر له أنه صلى

= والجهرية كان الإمام يسكت بين القراءة والتكبير أم لا ".

وانظر في مذهب الشافعية: " نهاية المحتاج "، للرملي (1/ 476، 477)، وفيه قال:" (وتتعين الفاتحة) في السرية والجهرية حفظًا أو تلقينًا أو نظرًا في مصحف (في كل ركعة) في قيامها، ويدل على دخول المأمومين في العموم، ما صح عن عبادة " كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال:" لعلكم تقرؤون خلفي؟ " قلنا: نعم، قال: " لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب

" (إلا ركعة مسبوق) بها حقيقة أو حكمًا فلا تتعين فيها بل يتحملها عنه إمامه ".

وانظر في مذهب الحنابلة: " شرح منتهى الإرادات "، للبهوتي (1/ 263)، وفيه قال:" (ويتحمل) إمام (عن مأموم قراءة) الفاتحة، فتصح صلاة مأموم بدون قراءة ".

(1)

هذا القيد غير صحيح وإنما هذا في الفاتحة فقط.

(2)

هذا الوجوب خاص بقراءة الفاتحة، كما سبق، أما غيرها من السور فهي في قول الجمهور سنة وقول الأحناف بالوجوب كما سبق.

(3)

انظر: " بدائع الصنائع "، للكاساني (1/ 110)، وفيه قال:" (وأما) الأول فالقراءة فرض في الصلاة عند عامة العلماء، وعند أبي بكر الأصم وسفيان بن عيينة ليست بفرض بناءً على أن الصلاة عندهما اسم للأفعال لا للأذكار، حتى قالا: يصح الشروع في الصلاة من غير تكبير ".

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1474

ولم يقرأ فقال له علي رضي الله عنه: هل أتممتَ الركوع والسجود؟ قال: نعم، قال: قد تمت صلاتك "

(1)

.

- ونُقل أيضًا عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: " أنه قال: القراءة في الصلاة من السنة "

(2)

.

هذه هي الأدلة التي يستدل بها من قال بأن القراءة غير واجبة، ولا شك أن هذا قول ضعيف ومردود، وقد رد أهل العلم عليها بما يردها ويبطلها من أصلها فقالوا:

- فأما أثر عمر رضي الله عنه أجاب عنه العلماء بأجوبة ثلاثة:

الأول: قالوا هو أثر ضعيف لأنه منقطع، فاللذان روياه لم يسمعا من عمر رضي الله عنه أو لم يدركاه

(3)

.

الثاني: أنهم قالوا: إن عمر رضي الله عنه إنما أسرَّ في هذه الصلاة - وكانت صلاة جهرية - ولم يكن قد ترك القراءة.

الثالث - وهو أحسنها في نظري وأقواها -: ما ذكره البيهقي بأن أثر عمر رضي الله عنه ثبت عن طريقين موصولين -يعني: وصلهما سندًا - وقد صح

(1)

أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(2/ 122) عن الحارث، عن علي. وضعفه النووي، قال:" الحارث مجمع على ضعفه، كان كذابًا ". انظر: " خلاصة الأحكام "(1/ 364).

(2)

أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "(2/ 539) عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت قال:" القراءة سنة ".

وذكر الكاساني لهم أدلة أُخرى، فقال:" (وجه) قولهما أن قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} مجمل، بيَّنَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بفعله، ثم قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، والمرئي هو الأفعال دون الأقوال؛ فكانت الصلاة اسمًا للأفعال؛ ولهذا تسقط عن العاجز عن الأفعال وإن كان قادرًا على الأذكار، ولو كان على القلب لا يسقط وهو الأخرس ". انظر: " بدائع الصنائع "(1/ 110).

(3)

انظر: " خلاصة الأحكام "، للنووي (1/ 364)، وفيه قال:" وحديث أبي سلمة ومحمد بن علي: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى المغرب فلم يقرأ

" ضعيف، منقطع، لأنهما لم يدركا عمر. وفي رواية للبيهقي موصولة: " أن عمر أعاد الصلاة ". وانظر: " السنن الكبرى "، للبيهقي (2/ 533).

ص: 1475

فيهما أن عمر رضي الله عنه أعاد الصلاة؛ إذن هذا الأثر الذي استدل به هؤلاء غير صحيح لأن ما صح عن عمر رضي الله عنه في هذه الصلاة أنه أعاد

(1)

.

- وأما ما نُقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فهو أثر ضعيف لأنه من رواية الحارث الأعور وهو كثيرًا ما يروى عن علي رضي الله عنه، والعلماء متفقون على ضعفه

(2)

.

- وأما ما نُقل عن زيد رضي الله عنه بأن القراءة في الصلاة من السنة؛ قيل: قصده بذلك ما كان على سنن المصحف؛ أي: ما جاء في كتاب الله عز وجل، وليس المراد من ذلك ما هو في لغة العرب مما قد يختلف مع القرآن

(3)

.

وبهذا ننتهي إلى أن القراءة واجبة، ونذكر من الأدلة على ذلك:

الأول: حديث عبادة المتفق عليه الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "

(4)

. وحرف " لا " نافية، وكلمة " صلاة " نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم

(5)

، فلا يصح صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب.

(1)

أخرج البيهقي في " السنن الكبرى "(2/ 534): " أن أبا موسى الأشعري قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أقرأت في نفسك قال: لا؛ فأمر المؤذنين فأذنوا وأقاموا وأعاد الصلاة بهم ". وهذه الروايات عن إبراهيم والشعبي مرسلة كما قال الشافعي، ورواية أبي سلمة وإن كانت مرسلة فهو أصح مراسيل، وحديثه بالمدينة في موضع الواقعة كما قال الشافعي: لا ينكره أحد إلا أن حديث الشعبي قد أسند من وجه آخر، والإعادة أشبه بالسنة في وجوب القراءة، وأنها لا تسقط بالنسيان كسائر الأركان.

(2)

تقدَّم.

(3)

قال البيهقي: "" القراءة سنة " إنما أراد - والله أعلم - أن اتباع من قبلنا في الحروف وفي القراءات سنة متبعة لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة، وإن كان غير ذلك سائغًا في اللغة أو أظهر منها وبالله التوفيق ". انظر: " السنن الكبرى "(2/ 539).

(4)

أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394/ 34).

(5)

انظر هذه القاعدة في: " روضة الناظر "، لابن قدامة (2/ 13)، وفيه قال " النكرة في سياق النفي، كقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} ".

ص: 1476

الثاني: حديث أبي هريرة أيضًا المتفق عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج " ذكر ذلك ثلاثًا

(1)

. أي: ناقصة

(2)

.

والأدلة كثيرة جدًّا، وسنعرض لعدد منها إن شاء الله ونحن نتكلم عن حكم قراءة الفاتحة.

ومسألة القراءة في الصلاة: من أحسن المسائل التي ناقشها الإمام البيهقي في كتابه

(3)

، فذكر الآثار الواردة فيها وتكلم عنها من حيث السند، كما تناولها أيضًا بالبحث والتحقيق العلماء عمومًا ومن بينهم الإمام النووي في كتابه " المجموع "؛ فقد عرض لها وأورد كل ما يتعلَّق بهذه المسألة في مباحث الصلاة.

* قوله: (وَإِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ، وَأَنَّهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَوَاتٍ، وَسَكَتَ فِي أُخْرَى، فَنَقْرَأُ فِيمَا قَرَأَ، وَنَسْكُتُ فِيمَا سَكَتَ "

(4)

، وَسُئِلَ:" هَلْ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ قِرَاءَةٌ؟ فقال: لا "

(5)

.

هو ما نُقل عن ابن عباس رضي الله عنه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ في بعض الصلوات.

(1)

أخرجه مسلم (395/ 38) فقط.

(2)

" فهي خِداج "، أي: نقصان. وأخدجت الناقة، إذا جاءت بولدها ناقصَ الخَلْق، وإن كانت أيامه تامَّة ". انظر:" الصحاح "، للجوهري (1/ 309).

(3)

يقصد كتاب " القراءة خلف الإمام ".

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه عبد بن حميد في " مسنده "(ص 202) عن ابن عباس أنه قال: " ليس في الظهر، والعصر قراءة، فقيل له: إن ناسًا يقرؤون، فقال: لو كان لي عليهم سلطان لقطعت ألسنتهم، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقراءته لنا قراءة، وسكت فسكوته سكوت ".

ص: 1477

وفي بعض الروايات: " أن ابن عباس تردد فقال: لا أدري أقرأ أم لم يقرأ "

(1)

.

ولذلك أجاب العلماء عن ذلك: بأن ابن عباس وإن كان ذكر ذلك، فغيره من الصحابة رضي الله عنهم ممن هم أعلم منه وأكبر سنًّا وأكثر معاصرة للرسول صلى الله عليه وسلم بينوا - كما سيأتي في حديث أبي قتادة

(2)

وغيره -: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بالفاتحة وسورتين؛ يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وأنه قرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب

(3)

.

* قوله: (وَأَخَذَ الجُمْهُورُ بِحَدِيثِ خَبَّابٍ: " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقْرأُ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، قِيلَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ كنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ "

(4)

).

وهذا الحديث أورده الإمام البخاري في عدة روايات بصيغة الاستفهام عن طريق معرفتهم لقراءة رسول الله وهي سرية

(5)

، فقال

(1)

أخرجه أحمد في " مسنده "(2332)، عن ابن عباس، قال:" ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شيئًا إلا وقد علمته غير ثلاث: لا أدري أكان يقرأ في الظهر والعصر أم لا؟ ". قال الأرناؤوط: إسناده صحيح.

(2)

أخرجه البخاري (759)، واللفظ له، ومسلم (451/ 155)، عن أبي قتادة، قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب، وسورتين يطول في الأولى، ويقصر في الثانية ويُسمع الآية أحيانًا، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطول في الأولى، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية ".

(3)

انظر: " المسالك في شرح موطأ مالك " لابن العربي (2/ 354)، وفيه قال:" وأما ما روي عن ابن عباس: " أنه سأله رجل: أفي الظهر والعصر قراءة؟ قال: ل ا". فإنه لا يعارضه بحال؛ لأن الأول - وهو حديث أبي قتادة - أثبت، وعليه العمل عند جماعة العلماء. والحجة القاطعة في ذلك: ما روي عن أبي هريرة أنه قال: " في كل صلاة قراءة، فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفاه عنا أخفينا عنكم ".

(4)

تقدَّم.

(5)

أخرجه البخاري (746) بلفظ: " بم كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لحيته ".=

ص: 1478

خباب رضي الله عنه: " باضطراب لحيته "؛ يعني: بتحركها؛ لأن الإنسان إذا تكلم تتحرك لحيته.

(وَتَعَلَّقَ الكُوفِيُّونَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَرْكِ وُجُوبِ القِرَاءَةِ فِي الرَّكعَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ مِنَ الصَّلَاةِ لِاسْتِوَاءِ صَلَاةِ الجَهْرِ وَالسِّرِّ فِي سُكُوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ).

والمعروف: أن الكوفيين ما تمسكوا بهذا، إنما تمسكوا بأثر علي رضي الله عنه أنه قال:" قرأ في الركعتين الأوليين وسبح في الأخريين "

(1)

.

وفي رواية: " اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين "

(2)

.

وهذا أقوى دليل عندهم إلى جانب عموم الأدلة الأخرى، لكن هذا يعتبرونه نصًّا

(3)

.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي القِرَاءَةِ الوَاجِبَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ أُمُّ القُرْآنِ لِمَنْ حَفِظَهَا، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا لَيْسَ فِيهِ تَوْقِيتٌ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي كُلِّ رَكعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي

وفي رواية (760): " قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون؟ قال: باضطراب لحيته ".

وفي رواية (761): " قلت: بأي شيء كنتم تعلمون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته ".

وفي رواية (777): " قلنا: من أين علمت؟ قال: باضطراب لحيته ".

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "(3/ 266) عن الحارث، عن علي أنه قال:" يقرأ في الأوليين، ويسبح في الأخريين ".

(2)

أخرجه ابن المنذر في " الأوسط "(3/ 114) عن الحارث، عن علي قال:" اقرأ به في الأوليين وسبح في الأخريين ". قال ابن المنذر: " فأما حديث الحارث فغير ثابت، كان الشعبي يكذبه ".

(3)

قال الخطابي بعد أن ضعف أثر علي: " ولو صح ذلك عن علي صلى الله عليه وسلم لم يكن حجة؛ لأن جماعة من الصحابة قد خالفوه في ذلك

وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ما اتبع، بل قد ثبت عن علي رضي الله عنه من طريق عبيد الله بن أبي رافع: أنه كان يأمر أن يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب ". انظر: " معالم السنن " (1/ 211).

ص: 1479

أَكْثَرِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي نِصْفِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ، وَبِالأوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إِنْ قَرَأَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ أَجَزَأَتْهُ)

(1)

.

فالشافعية: أوجبوها في كل ركعة

(2)

، وهي أيضًا الرواية المشهورة الصحيحة في المذهبين المالكي

(3)

والحنبلي

(4)

.

وأما القول بأنها واجبة في أكثر الصلاة: فنُسب إلى الإمام مالك

(5)

، والحسن البصري

(6)

.

وأما كونها واجبة في نصف الصلاة: فرواية للإمامين مالك

(7)

وأحمد

(8)

،

(1)

ذكر ابن عبد البر عن مالك أكثر من رواية.

انظر: " الاستذكار "(1/ 428)، وفيه قال:" وأما اختلافهم فيما يجزئ من القراءة في الصلاة، فقال مالك: إذا لم يقرأ في الركعتين -يعني: من صلاة أربع أعاد -، وقد قال: من لم يقرأ في نصف صلاته أعاد، وقال مرة أُخرى: من نسي أن يقرأ في الصلاة كلها أو في أكثرها رأيت أن يعيد الصلاة كلها ".

(2)

انظر: " فتح الوهاب "، لزكريا الأنصاري (1/ 47)، وفيه قال:" (و) رابعها (قراءة الفاتحة كل ركعة) في قيامها أو بدله لخبر الشيخين: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "؛ أي: في كل ركعة، لما مر في خبر المسيء صلاته (إلا ركعة مسبوق) ".

(3)

انظر: " كفاية الطالب الرباني "، لأبي الحسن الشاذلي (1/ 286)، وفيه قال:" (و) إنما (يقرأ في الأولى والثانية في كل ركعة بأم القرآن وسورة سرًّا و) يقرأ (في الأخيرتين بأم القرآن وحدها سرًّا) ".

(4)

انظر: " الإقناع "، للحجاوي (1/ 133)، وفيه قال:" وقراءة الفاتحة في كل ركعة على الإمام والمنفرد وكذا على المأموم لكن يتحملها الإمام عنه ".

(5)

سبق.

(6)

الذي ورد عن الحسن، كما سيأتي من كلام المؤلف: أنه لو قرأها في ركعة واحدة أجزأته. انظر: " المنتقى شرح الموطأ "، للباجي (1/ 156)، وفيه قال:" وقال المغيرة المخزومي: إذا قرأ بأم القرآن في ركعة واحدة من الصلاة أجزأه، وبه قال الحسن البصري ". وانظر: " المغني "، لابن قدامة (1/ 350).

(7)

سبق.

(8)

انظر: " المغني "، لابن قدامة (1/ 350)، وفيه قال: " وعن أحمد: أنها لا تجب =

ص: 1480

وهو أيضًا مذهب أبي حنيفة (1).

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّهَا تُجْزِي فِي رَكعَةٍ، فَمِنْهُمُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ البَصْرَةِ).

فالحسن البصري يرى أنها تجزئ في ركعة

(2)

، وأما إسحاق بن راهويه فيرى أنها تجزئ في أكثر ما يطلق عليه صلاة ألا وهي ثلاث ركعات بالنسبة للرباعية

(3)

.

* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَالوَاجِبُ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ قِرَاءَةُ القُرْآنِ أَيُّ آيَةٍ اتَّفَقَتْ أَنْ تُقْرَأَ، وَحَدَّ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةً طَوِيلَةً مِثْلَ آيَةِ الدَّيْنِ

(4)

، وَهَذَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ، وَأَمَّا فِي

= إلا في ركعتين من الصلاة. ونحوه عن النخعي، والثوري؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال:" اقرأ في الأوليين، وسبح في الأخريين ".

انظر: " تبيين الحقائق "، للزيلعي (1/ 173)، وفيه قال:" (والقراءة فرض في ركعتي الفرض) لما لم يعين محل القراءة عبر عنها بالفرض؛ فحاصله: أن القراءة فرض في ركعتين منها غير متعينتين، حتى لو لم يقرأ في الكل أو قرأ في ركعة منها لا غير تفسد صلاته، وهي واجبة في الأوليين حتى لو ترك القراءة فيهما وقرأ في الأخريين تجوز صلاته ويجب عليه سجود السهو ".

(2)

سبق.

(3)

قال إسحاق: كلما قرأ في ثلاث ركعات إمامًا كان أو منفردًا؛ فصلاته جائزة، لما أجمع الخلق أن كل من أدرك الإمام راكعًا فركع معه ركعة أدرك تلك الركعة وقراءتها. انظر:" مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه "(9/ 4644).

(4)

انظر: " حاشية الشرنبلالي على درر الحكام "(1/ 69)، وفيه قال: " قوله: (وفرضها آية

) إلخ؛ قال في " البرهان ": وعلى هذه الرواية رواية مطلق الآية لو قرأ آية هي كلمات، نحو:{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} ، أو كلمتان، نحو:{ثُمَّ نَظَرَ (21)} يجوز بلا خلاف بين المشايخ، أو آية هي كلمة، نحو:{مُدْهَامَّتَانِ (64)} . قوله: (وعندهما ثلاث آيات

" إلخ؛ أقول: وهو رواية عن أبي حنيفة؛ لأن قارئ ما دون الثلاث أو الآية الطويلة لا يعد قارئًا عرفًا؛ فشرطت الآية الطويلة أو ثلاث قصار تحصيلًا لوصف القراءة احتياطًا ".

ص: 1481

الأَخِيرَتَيْنِ، فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُ التَّسْبِيحُ فِيهِمَا دُونَ القِرَاءَةِ

(1)

، وَبِهِ قَالَ الكُوفِيُّونَ

(2)

، وَالجُمْهُورُ يَسْتَحِبُّونَ القِرَاءَةَ فِيهَا كُلِّهَا

(3)

).

فكون الواجب القراءة في الركعتين الأوليين فقط ليس هذا مذهب الحنفية وحدهم، وإنما أيضًا هذه رواية عند الحنابلة

(4)

، وعند المالكية

(5)

، وأما التفصيل فالحنفية قالوا يقرأ في الركعتين الأوليين، وهو بالخيار إن شاء سكت في الركعتين الأخيرتين، وإن شاء سبح وهو المستحب

(6)

.

فهناك إذن اختلاف بين العلماء في الواجب قراءته في الصلاة، ولكل أدلته وسنذكرها ونناقشها على النحو التالي:

الأول: الحنفية يقولون: أي قراءة تكفي في الصلاة، ولا يشترط أن تكون الفاتحة بكاملها، بل لو قرأ من أي آية لأجزأه

(7)

، واستدلوا على ذلك بأمور:

(1)

سبقت.

(2)

سبق.

(3)

سبق.

(4)

سبق.

(5)

سبق.

(6)

انظر: " بدائع الصنائع "، للكاساني (1/ 112)، وفيه قال:" والصحيح جواب ظاهر الرواية لما روينا عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان: " إن المصلي بالخيار في الأخريين، إن شاء قرأ وإن شاء سكت وإن شاء سبح ". وهذا باب لا يدرك بالقياس؛ فالمروي عنهما كالمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ".

(7)

خالف الأحناف الجمهور في مسألة ركنية الفاتحة، فعندهم أنها واجبة لا ركن، وأن الركن منها قدر آية.

انظر: " العناية شرح الهداية " للبابرتي (1/ 293 - 294)، وفيه قال: " اختلف العلماء فيما هو الركن من القراءة؛ فذهب علماؤنا إلى ركنية قراءة آية، والشافعي إلى ركنية الفاتحة، ومالك إلى ركنية الفاتحة وضم سورة معها. لنا: أن الركن لا يثبت إلا بدليل قطعي، وخبر الواحد ليس بقطعي لكنه يوجب العمل به فقلنا به. ولنا: قوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، ووجه الاستدلال: أن قوله: {مِنَ الْقُرْآنِ} مطلق =

ص: 1482

- قالوا: إن سور القرآن كلها تتساوى في الحرمة، فليس للجنب أن يقرأ القرآن وليس للمحدث أن يمس المصحف

(1)

.

- قول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]

(2)

.

- حديث المسيء صلاته، وفيه:" ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن "

(3)

.

- حديث: " لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب "

(4)

.

واختلفوا في القدر الواجب: فمنهم من قال ما يتناوله اسم القراءة،

= ينطلق على ما يُسمَّى قراَنًا فيكون أدنى ما ينطلق عليه القرآن فرضًا لكونه مأمورًا به ". لكن عندهم من ترك قراءتها كلها فإنه يُعيد صلاته.

انظر: " البناية شرح الهداية " للعيني (2/ 460)، وفيه قال:" قال أصحابنا: لو ترك الفاتحة يؤمر بالإعادة ".

(1)

وهذا الدليل ذكروه أيضًا في جواز قراءة آية أو أكثر بعد الفاتحة.

انظر: " المبسوط "، للسرخسي (1/ 222)، وفيه قال:" وأبو حنيفة -رحمه الله تعالى - استدل بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، والذي تيسر عليه قراءة آية واحدة فيكون ممتثلًا للأمر، ولأنه يتعلَّق بالقراءة حكمان: جواز الصلاة، وحرمة القراءة على الجنب والحائض، ثم في أحد الحكمين لا فرق بين الآية القصيرة والطويلة، فكذلك في الحكم الآخر، وهو بناءً على الأصل الذي بيَّناه لأبي حنيفة -رحمه الله تعالى -: أن الركن يتأدى بأدنى ما يتناوله الاسم ".

(2)

انظر: " شرح مختصر الطحاوي "، للجصاص (1/ 688، 689)، وفيه قال:" قال أبو جعفر: (ومن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وقرأ آية غيرها: أجزأته في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه إلا ثلاث آيات، أو آية طويلة مثل آية الدين). والحجة لأبي حنيفة لجواز الصلاة بغير فاتحة الكتاب: قول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ".

(3)

تقدَّم تخريجه.

هذا الدليل ذكروه أيضًا في القول بعدم ركنية الفاتحة ووجوبها. انظر: " تبيين الحقائق "، للزيلعي (1/ 105).

(4)

أخرجه أبو داود (819). وضعفه الألباني في " ضعيف أبي داود - الأم "(145).

وجاءت رواية أُخرى صحيحة، أخرجها أبو داود (820)، بلفظ:" لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ". وصححه الألباني في " صحيح أبي داود - الأم "(778).

ص: 1483

وسبب تعدد الآراء في المذهب تفسير عبارة: " ما تيسر "، فأقل ما يتناوله اسم القراءة قد يكون آية تامة، أو ثلاث آيات قصيرة، أو آية طويلة كآية الدين

(1)

.

وفي سياق الرد عليهم - أي: الحنفية - نقول:

- وأما قولهم بأن آيات القرآن تتساوى في الحرمة: فنحن نقول: إن آيات القرآن وسوره كلها لها حرمة، ولكنها حقيقة تتفاوت، ومن أدلة ذلك موضوع القراءة في الصلاة؛ فالفاتحة ورد النص في وجوب قراءتها كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتفق عليه:" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "

(2)

.

- أما استدلالهم بالآية: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، فقد أجاب العلماء عن ذلك بأنها وردت في صلاة الليل، ولم يقصد بها تحديد القدر الذي يجب قراءته في الصلاة

(3)

.

- وأما ما جاء في حديث المسيء صلاته: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " فقالوا: إنه جاء في بعض الروايات قوله: " ثم اقرأ بأم القرآن "

(4)

. وفي أُخرى قال: " ثم اقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة "

(5)

. فهذه الروايات

(1)

سبق من كلام الجصاص في ذكر الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه. وهذا الاختلاف أيضًا وارد في السورة التي بعد الفاتحة.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

انظر: " المغني "، لابن قدامة (1/ 344)، وفيه قال:" وأما الآية، فتحتمل أنه أراد الفاتحة وما تيسر معها، ويحتمل أنها نزلت قبل نزول الفاتحة، لأنها نزلت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بقيام الليل، فنسخه الله تعالى عنه بها ".

(4)

أخرج هذه الرواية أحمد في، " مسنده "(18995)، وصححها الأرناؤوط.

(5)

أقرب ما وقفت عليه ما أخرجه البغوي في " شرح السنة "(3/ 10)، وفيه:" ثم اقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر، ثم اركع، فإذا ركعت، فاجعل راحتيك على ركبتيك، فامدد ظهرك، ومكن لركوعك، وإذا رفعت رأسك، فقم حتى ترجع العظام إلى مفاصلها، ثم اسجد، فإذا سجدت، فمكن لسجودك، فإذا رفعت، فاجلس على فخذك اليسرى، ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة ". قال البغوي: حديث حسن.

ص: 1484

تقيد الإطلاق الذي جاء في الأخرى

(1)

.

قالوا: ولو سلمنا لهم بذلك فإن المراد بما يتيسر يحتمل عدة أمور: إما الفاتحة وما تيسر معنا، كما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر "

(2)

. إذن ما تيسر زيادة على الفاتحة

(3)

، ومنهم من فسر ذلك وقال: ما تيسر هذا في حق من لم يحسن القراءة، أو غير القادر على القراءة، ويلزمه أيضًا التعلم في ذلك

(4)

.

- وأما استدلالهم بحديث: " لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب "

(5)

. فردوا عليهم بأن هذا الحديث ضعيف

(6)

، وحتى لو سلمنا صحته فهو يحتمل التأويل، فلو يقول أحدهم مثلًا: صم من الشهر ولو ثلاثة أيام، فكأنه يقول: صم أكثر الشهر؛ فإن لم يكن فلا أقل من أن تصوم ثلاثة أيام، ومنه فتأويل قوله:" ولو بفاتحة الكتاب " أي: بفاتحة الكتاب وغيرها، فإن لم يزد عليها فلا أقل من أن يقتصر على قراءتها

(7)

.

الثاني: وهو مذهب جماهير العلماء: إذ قالوا: إن قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة.

واستدلوا على ذلك بأدلة هي:

- في مقدمة هذه الأدلة حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "

(8)

. و" لا " هنا نافية،

(1)

قال ابن قدامة في هذا الخبر: " نحمله على الفاتحة، وما تيسر معها، مما زاد عليها، ويحتمل أنه لم يكن يحسن الفاتحة ". انظر: " المغني "(1/ 344).

(2)

أخرجه أبو داود (818)، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود - الأم "(777).

(3)

سبق.

(4)

سبق من كلام ابن قدامة.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

سبق.

(7)

هذا الجواب من توجيه النووي. انظر: " المجموع شرح المهذب "(3/ 329).

(8)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1485

وكلمة: " صلاة " نكرة، ومعروف أن النكرة في سياق النفي تعم

(1)

؛ إذن لا تصح أي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب إلا ما استثناه العلماء بالنسبة للمأموم، وهي أيضًا محل خلاف بينهم، فمنهم من يرى أنه تسقط عنه القراءة وخاصة في الجهرية، ومنهم من يرى أنها لا تسقط عنه، ولكل أدلته

(2)

.

وهذا الحديث هو حجة لبعض الذين قالوا يقتصر على ركعة واحدة، لأن في قوله:" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " أن أقل ما يطلق على ذلك أن يصليها في ركعة

(3)

.

- حديث أبو هريرة رضي الله عنه: " من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ذكر ذلك ثلاثًا

(4)

. وهو دليل على وجوب قراءة الفاتحة؛ لأنه إذا لم يقرأها فصلاته غير تامة، وإذا كانت غير تامة فهي ناقصة، وإذا كانت ناقصة فلم يؤد الواجب فيها، ومنه فيتعين قراءة الفاتحة

(5)

.

- حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر "

(6)

. ومعلوم أن الأمر يقتضي الوجوب

(7)

.

(1)

سبق.

(2)

سبق.

(3)

انظر: " رياض الأفهام "، للفاكهاني (2/ 282)، وفيه قال:" وظاهر هذا الحديث يدل على وجوبها في كل ركعة، ووجه الدليل منه: أن كل ركعة تسمى صلاة، وهو قد قال عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ". وقد يستدل به من يرى وجوبها في ركعة واحدة بناءً على أنه يقتضي حصول اسم الصلاة عند قراءة الفاتحة، فإذا حصل مسمى قراءة الفاتحة وجبت أن تحصل الصلاة، والمسمى يحصل بقراءة الفاتحة مرة واحدة ".

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

سبق.

(6)

تقدَّم تخريجه.

(7)

سبق.

ص: 1486

- والدليل الرابع من الأدلة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في كل صلواته.

- حديث أبي قتادة والذي جاء فيه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحيانًا، ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب "

(1)

. قالوا: وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "

(2)

.

ومنهم من يعترض على أدلة الجمهور فيقولون:

- حديث عبادة حديث صحيح نسلِّم لكم بذلك، ولا اعتراض عليه سندًا ولا حتى في دلالته على النفي، فقوله:" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " يعني: لا صلاة كاملة، إذن النفي هنا هو نفي الكمال لا نفي الأجسام، ويرد على هؤلاء بأنه جاء في بعض روايات حديث عبادة رضي الله عنه وقد صح ذلك أيضًا وإن لم يكن في " الصحيحين " - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب "

(3)

. وإذا كانت لا تجزئ فهي غير صحيحة، وإذا كانت غير صحيحة فهي باطلة

(4)

.

وفي رواية أُخرى من روايات نفس الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه ابن حبان في " صحيحه "(5/ 91) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " قلت: وإن كنت خلف الإمام؟ قال: فأخذ بيدي، وقال:" اقرأ في نفسك ". وصححه الألباني في "التعليقات الحسان "(1786).

(4)

انظر: " تحفة المحتاج "، للهيتمي (2/ 34، 35)، وفيه قال:" (وتتعين الفاتحة كل) قيام من قيامات الكسوف الأربعة وكل (ركعة) كما جاء عن نيف وعشرين صحابيًّا، وللخبر المتفق عليه: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " الظاهر في نفي الحقيقة لا كمالها للخبر الصحيح كما قاله أئمة حفاظ: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بأم القرآن "، ونفي الإجزاء وإن لم يفد الفساد على الخلاف الشهير في الأصول، لكن محله فيما لم تنف فيه العبادة لنفي بعضها ".

ص: 1487

" لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن "

(1)

. وهي أيضًا رواية صحيحة، وإذا كانت لا تقبل فهي مردودة على صاحبها، وإذا كانت مردودة على صاحبها فهي لا تنفع، وذلك يدل على تعيُّن قراءة الفاتحة.

وهناك أقوال ليست مشهورة ذكرها المؤلف، فقيل: تجب في ركعة واحدة، أو في ثلاث ركعات أو في ركعتين

(2)

.

ونقول في آخر هذه المسألة: إن مذهب جماهير العلماء هو المذهب الصواب الذي تعضده الأدلة.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: تَعَارُضُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الكِتَابِ لِلْأَثَرِ).

إذن فالمؤلف ذكر للخلاف سببين:

الأول: وجود أحاديث ظاهرها التعارض.

الثاني: أنه قد يوجد تعارض بين بعض الآثار - ويقصد بذلك الأحاديث - وبين ظاهر القرآن؛ أي: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} .

وقد أجبنا على ذلك فيما سبق.

* قوله: (أَمَّا الآثَارُ المُتَعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ، فَأَحَدُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ "، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ، فأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا

(1)

أخرجه أحمد في " مسنده "(20741) عن رجل من أهل البادية، عن أبيه وكان أبوه أسيرًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب ". قال الأرناؤوط: صحيح لغيره.

(2)

سبقت هذه المسألة.

ص: 1488

أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:" إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَسْبغِ الوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا ")

(1)

.

والرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه وصفًا دقيقًا عن ركعة من الركعات، وهو بعد ذلك يفعل ما فعله في هذه الركعة في البقية، لكنه بعد ركعتين سيجلس للتشهد كما هو معلوم، وكل الصلوات فيها تشهدان ما عدا صلاة الفجر إذ ليس فيها إلا ركعتان.

وقوله: " ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ فَكَبِّرْ " فيه أنه سكت هنا عن النية؛ لأن النية إنما ترتبط بالتكبير فتكون معه تمامًا كمذهب الشافعية، أو تسبقه ولو بقليل دون فصل كما هو مذهب الحنفية والحنابلة

(2)

.

وبظهر جليًّا في هذا الحديث شيء من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه: فقد يعطي الرجل الفرصة لتصحيح غلطه أو ليعرف أنه مخطئ فيسأل ثم بعد ذلك يذكِّره بما يجب، فهذا الصحابي رضي الله عنه في قوله:" والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره "؛ أي: فعلمني، وهنا أظهر حاجته للتعلم، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمه، ومعلوم أن الإنسان عندما يطلب الشيء فيُلقى عليه يترك أثرًا في نفسه أكثر من غيره.

ومثل هذه الفوائد الكثير في تعامله عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، ولا ينبغي لنا تفويت مثل هذه الأمثلة التربوية المستفادة ممن لا ينطق عن الهوى.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

سبقت هذه المسألة.

ص: 1489

فمن ذلك: ما رواه الإمام مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثُكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال:" إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن "

(1)

. إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن له ما ينبغي أن يفعله فوجهه توجيهًا سليمًا لا عوج فيه ولا انحراف.

وقد يسأل السائل عن شيء فيجيبه بأكثر من سؤاله، ومن ذلك: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هو الطهور ماؤه، الحل ميتته "

(2)

. والشاهد من الحديث أنه أجابه بقاعدة عظيمة فيها جوابه وأجوبة لأسئلة كثيرة أُخرى، وهذا ما يُسمَّى بجوامع الكلم.

* قوله: (وَأَمَّا المُعَارِضُ لِهَذَا، فَحَدِيثَان ثَابِتَان مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا).

والمؤلف أورد هذا الحديث حجة للحنفية، لكن قد أجبنا عن الاستدلال به كما سبق من أنه جاء في بعض رواياته:" ثم اقرأ بأم القرآن "

(3)

، وفي بعضها أيضًا:" ثم اقرأ بفاتحة الكتاب "

(4)

، كما أن من العلماء مَن فسر الإطلاق في قوله:" ما تيسر " بأن القصد بما تيسر هي الفاتحة

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (537/ 33).

(2)

أخرجه أبو داود (83) وغيره عن أبي هريرة، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود - الأم "(76).

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

سبق.

ص: 1490

* قوله: (أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ")

(1)

.

ونحن نقول: هل يطمئن مسلم بعد أن يسمع هذا الحديث الذي نطق به محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ثم يتساهل في هذا الأمر، هل تطمئن نفس المؤمن ويرتاح فؤاده وتستقر جوارحه وهو يصلي ويتعبد للَّه سبحانه وتعالى دون أن يقرأ الفاتحة، والصلاة كما هو معروف هي الركن الثاني بعد التوحيد، فكيف يصلي المرء وهو لا يقرأ الفاتحة وهذه الأحاديث تقرع آذانه

(2)

؟!

فمهما حصل من خلاف بين العلماء ومهما حاولوا من إقامة أدلة، ومهما حاولوا أيضًا من رد أدلة من خالفهم والإجابة عنها، فكل أدلتهم في نظري هي إما أدلة ضعيفة أو أدلة مجملة بيَّنَتْها أدلة أُخرى صحيحة صريحة نص في المسألة.

فلا ينبغي للمسلم في هذه الصلاة التي هي أقرب وسيلة يناجي فيها ربه، وهي التي قال فيها اللَّه سبحانه وتعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} [البقرة: 45، 46]، كما أن فيها:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"

(3)

، وأهل العلم يقولون: إنه لا ينبغي للإنسان أن يقصر في أمر من أمور الصلاة في السنن، فما بالكم أن يترك الإنسان ركن من أركان الصلاة؟!

كما أنه لا ينبغي أن يُحمل المسلم على أن يخالف حديثًا من أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صحيحًا وصريحًا في أمر من الأمور لمجرد أنه

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقرع آذانه: أي تضربها وتؤثر فيها، وكل شيء ضربته بشيء فقد قرعته. انظر:"غريب الحديث"، للحربي (3/ 1024).

(3)

معنى حديث أخرجه مسلم (482/ 215) عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".

ص: 1491

يخالف مذهبًا وهو ينحي ذلك المذهب أو يأخذ به، فإذا كان أصحاب المذاهب الذين يتعصب البعض لارائهم ويقتدون بآرائهم هم أنفسهم تبرؤوا من أقوالهم إذا كانت على خلاف ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

والإمام الشافعي قد وضع قاعدة بقوله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"

(1)

.

ومالك إمام دار الهجرة يقول: "ما منا إلا راد ومردود إلا صاحب هذا القبر"

(2)

صلى الله عليه وسلم.

وأحمد يقول: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكًا ولا الأوزاعي، ولكن خذوا من حيث أخذوا

(3)

".

وأبو حنيفة لما قيل له ما معناه: "أهذا الحق الذي انتهيت إليه؟ قال: لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه"

(4)

.

(1)

أخرج البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/ 472) عن الربيع بن سليمان المرادي، قال: سمعت الشافعي يقول: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت".

وللإمام تقي الدين السبكي رسالة تناول فيها كلمة الشافعي هذه بالشرح والبيان، وما يجب أن تحمل عليه وتقيد به سماها:"معنى قول المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي".

(2)

نسبة هذا الكلام إلى مالك هو المشهور عند المتأخرين، وقد أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 925)، وابن حزم في "أصول الأحكام"(6/ 179) من قول الحكم بن عُتَيبة ومجاهد، وأورده تقي الدين السبكي في "الفتاوى"(1/ 138) من قول ابن عباس -متعجبًا من حسنه-، ثم قال:"وأخذ هذه الكلمة من ابن عباسٍ مجاهدٌ، وأخذها منهما مالك رضي الله عنه، واشتهرت عنه". وانظر: "سير أعلام النبلاء"، للذهبي (8/ 93).

(3)

ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين"(2/ 139) عن الإمام أحمد.

وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص 369): "قلت لأحمد: أليس الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير".

(4)

أخرج الخطيب البغدادي في "تاريخه"(13/ 402) عن مزاحم بن زفر قال: "قلت =

ص: 1492

إذن؛ هؤلاء هم الأئمة وأقوالهم؛ فالعلماء الصادقون المخلصون الذين وقفوا أنفسهم لخدمة هذا الدين، وأفنوا أعمارهم في بيانه وفي دعوة الناس إليه، وفي تقريبه أيضًا إلى النفوس، وفي تبيين ما في بعض مسائله مما يحتاج إلى بيان، هؤلاء كلهم ما دعوا إلى تقليدهم فيما يخالف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما بالك أيضًا فيما يعارض كتاب اللَّه عز وجل! واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء: 59].

إذن؛ في كل أمر يختلف فيه ينبغي أن نرجع إلى كتاب اللَّه عز وجل، وذلك في كل عصر وفي كل مصر؛ فقد كانوا يرجعون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما مات كان المرجع إلى ما صح من سنته صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب اللَّه وسنتي"

(1)

.

إذن؛ معنا مصدران غضَّان

(2)

طريان لا ينتهيان مهما أخذ منهما، فهما لا يتجددان ولا ينتهيان ولا ينفذان، إنهما مصدر هذه الأمة وهما دستورها وهما المرجع الذي يرجع إليه المسلمون في كل وقت وفي كل زمان.

* قوله: (وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ القُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ"، ثَلَاثًا

(3)

. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَقَدِّمُ ظَاهِر أَنَّهُ يُجْزِئُ مِنَ

= لأبي حنيفة: يا أبا حنيفة، هذا الذي تفتي، والذي وضعت في كتبك، هو الحق الذي لا شك فيه؟ قال: فقال: واللَّه ما أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه".

(1)

أخرج ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 755) عن كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب اللَّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم". وأخرجه مالك في "موطئه" بلاغًا (2/ 899)، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"(186).

(2)

الغَضّ والغَضيضُ: الطري. انظر: "العين"، للخليل (4/ 341).

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1493

القِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ

(1)

، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّانِي يَقْتَضِيَانِ أَنَّ أُمَّ القُرْآنِ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ

(2)

. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] يُعَضِّدُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَقَدِّمَ).

و"خداج"، أي: ناقصة

(3)

.

أما حديث عبادة رضي الله عنه: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"

(4)

، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثاني:"من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج"

(5)

. فقد سبق الكلام عن هذه المسألة وأدلة كل من الحنفية والجمهور وردودهم على بعض، وقد رجحنا رأي الجمهور.

* قوله: (وَالمُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا ذَهَبُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ مَذْهَبَ الجَمْعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا ذَهَبُوا مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، وَعَلَى كِلَا القَوْلَيْنِ يُتَصَوَّرُ هَذَا المَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ مَنْ أَوْجَبَ قِرَاءَةَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ لَهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا أَرْجَحُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الكِتَابِ يُوَافِقُهُ

(6)

، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى طَرِيقِ الجَمْعِ: إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ عُبَادَةَ المَقْصُودُ بِهِ نَفْيُ الكَمَالِ لَا نَفْيُ الإِجْزَاءِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المَقْصُودُ مِنْهُ الإِعْلَامُ بِالمُجْزِئِ مِنَ القِرَاءَةِ، إِذَا كَانَ المَقْصُودُ

(1)

وهو ما ذهب إليه الأحناف كما سبق.

(2)

وهو قول الجمهور كما تقدم.

(3)

سبق.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

انظر: "المبسوط"، للسرخسي (1/ 19)، وفيه قال:" (ثم قراءة الفاتحة لا تتعين ركنًا في الصلاة عندنا). لنا قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، فتعيين الفاتحة يكون زيادة على هذا النص، وهو يعدل النسخ عندنا، فلا يثبت بخبر الواحد".

ص: 1494

مِنْهُ تَعْلِيمَ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ

(1)

).

هذا أمر غير مسلَّم

(2)

، ولعل المؤلف أيضًا -كبعض العلماء- لم يطلع على الروايات التي وردت بالنسبة لحديث عبادة وفيها:"لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"

(3)

. ورواية أُخرى سندها صحيح فيها: "لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن"

(4)

، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر"

(5)

، وفي ذلك نفي لما ذكره المؤلف رحمه الله.

* قوله: (وَلأُولَئِكَ أَيْضًا أَنَّ يَذْهَبُوا هَذَيْنِ المَذْهَبَيْنِ بِأَنْ يَقُولُوا: هَذِهِ الأَحَادِيثُ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ المَشْهُورَ يُعَضِّدُهُ، وَهُوَ الحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: نِصْفَهَا لِي، وَنِصْفَهَا لِعَبْدِي، وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}، يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. . . ". الحَدِيثَ)

(6)

.

المؤلف هنا يعرض مذهب الذين يوجبون قراءة الفاتحة

(7)

، وقد ورد

(1)

انظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (1/ 692)، وفيه قال:"ويدل على أن قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب": لم يرد به نفي الأصيل، وإنما أريد به نفي الكمال، ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها". ومعلوم أنه لم يرد فيما عدا فاتحة الكتاب نفي الأصل، فكذلك فيها؛ لأنه لفظة واحدة، فلا يجوز أن يراد بها نفي الكمال، ونفي الأصل في حال واحدة".

(2)

يقصد القول بنفي الكمال الذي قال به الأحناف، وهو غير مسلم باعتبار أحاديث عدم الإجزاء ونفي الصحة كما سبق.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

تقدَّم تخريجه.

(7)

سبق تفصيله.

ص: 1495

في بعض الروايات في حديث أبي هريرة: "من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" ذكر ذلك ثلاثًا، فسأله عن ذلك الذين سمعوا هذا الحديث قالوا: يكون أحدنا وراء الإمام فإذا يفعل، قال:"اقرأها في نفسك"

(1)

، وبذلك تمسك الذين يوجبون قراءة الفاتحة وراء الإمام

(2)

.

وكذلك حديث عبادة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من صلاته أقبل علينا بوجهه فقال:"إني لأراكم تقرؤون خلف إمامكم إذا جهر". قال: قلنا أجل واللَّه يا رسول اللَّه هذا. قال: "فلا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"

(3)

.

وفي حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال:"هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟ "، فقال رجل: نعم يا رسول اللَّه، قال: "إني أقول ما لي أنازع القرآن

(4)

؟ "، قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(5)

.

وهذا الحديث من حجج الذي يرون أن الفاتحة لا تجب في الجهرية وراء الإمام، أو لا تجب مطلقًا

(6)

.

(1)

أخرج مسلم (395/ 38) عن أبي هريرة، عن النبي-صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" ثلاثًا "غير تمام". فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك"؛ فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "قال اللَّه تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. . . " الحديث.

(2)

تقدَّم تفصيل هذه المسألة.

(3)

أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (311)، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي"(229).

(4)

أنازع القرآن؛ أي: أجاذبه. انظر: "الفائق في غريب الحديث"، للزمخشري (3/ 420).

(5)

أخرجه أبو داود في "سننه"(826). وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(781).

(6)

سبق تفصيلها.

ص: 1496

وقد أجابوا عنه: بأن عبارة: "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" من قول راوي الحديث وهو الزهري

(1)

.

والكلام في مسألة قراءة المأموم خلف الإمام يطول وسنفصل القول فيه إن شاء اللَّه تعالى لما يأتي موضعه.

* قوله: (وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ"، مُبْهَمٌ، وَالأَحَادِيثَ الأُخرَى مُعَيِّنَةٌ، وَالمُعَيِّنُ يَقْضِي عَلَى المُبْهَمِ، وَهَذَا فِيهِ عُسْرٌ، فَإِنَّ مَعْنَى حَرْفِ "مَا" هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ مَعْنَى أَيِّ شَيْءٍ تَيَسَّرَ، وَإِنَّمَا يَسُوغُ هَذَا إِنْ دَلَّتْ "مَا" فِي كَلَامِ العَرَبِ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لَامُ العَهْدِ، فَكَانَ يَكُونُ تَقْدِيرُ الكَلَامِ: اقْرَإِ الَّذِي تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآن، وَيَكُونُ المَفْهُومُ مِنْهُ أُمَّ الكِتَابِ، إِذَا كَانَتِ الأَلِفُ وَاللَّامُ فِي "الَّذِي" تَدُلُّ عَلَى العَهْدِ، فَيَنْبَغِي أَنَّ يُتَأَمَّلَ هَذَا فِي كَلَامِ العَرَبِ، فَإِنْ وَجَدْتَ العَرَبَ تَفْعَلُ هَذَا -أَعْنِي: تَتَجَوَّزُ فِي مَوْطِنٍ مَا- فَتَدُلُّ بِـ "مَا" عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَلْيَسُغْ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ

(2)

، فَالمَسْأَلَةُ كَمَا تَرَى مُحْتَمِلَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرْتَفِعُ الِاحْتِمَالُ لَو ارْتَفَعَ النَّسْخُ).

حقيقة هذا الكلام الذي دخل فيه المؤلف -بأن تطرق لهذه الجزئية- وهذا التفصيل ما كان يحتاج إليه لو وقف على الروايات الأخرى، فهو هنا أراد أن يتعمق فيما يتعلَّق باللغة في عبارة:"ما تيسر منه".

(1)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 363)، وفيه قال:"وقوله: "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه" هو من كلام الزهري، وهو الراوي عن ابن أكيمة. قاله محمد بن يحيى الذهلي والبخاري وأبو داود، واستدلوا برواية الأوزاعي حين ميزه من الحديث وجعله من قول الزهري".

(2)

لكن للجمهور رد آخر خلاف ما ذكره المؤلف.

قال النووي في الجواب عن الحديث: "وعن الحديث: أن الفاتحة تتيسر فيحمل عليها جمعًا بين الأدلة أو يحمل على من يحسنها" انظر: "المجموع شرح المهذب"(3/ 329). وانظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 343).

ص: 1497

ونحن نقول: إن الإبهام الذي ذكره قد ارتفع بما جاء في روايات أُخرى ترفع الإبهام وتزيل اللبس

(1)

.

وقلنا: إن الكلام الذي ذكره المؤلف كله لا حاجة له؛ لأنه حقيقة لا اجتهاد مع النص

(2)

، فالنصوص في هذه المسألة صحيحة وواضحة ولا تحتمل مثل هذا الخوض والتعمق في مثل هذه الكلمة ودلالاتها.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُ مَنْ أَوْجَبَ أُمَّ الكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، أَوْ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ

(3)

، فَسَبَبُهُ احْتِمَالُ عَوْدَةِ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ القُرْآنِ" عَلَى كُلِّ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، أَوْ عَلَى بَعْضِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَرَأَ فِي الكُلِّ مِنْهَا، أَوْ فِي الجُزْءِ -أَعْنِي: فِي رَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ- لَمْ يَدْخلْ تَحْتَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا"

(4)

، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي أَصَارَ أَبَا حَنِيفَةَ إِلَى أَنْ يَتْرُكَ القِرَاءَةَ أَيْضًا فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ، أَعْنِي: فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ).

(1)

وهو الذي استدل به الجمهور في تبيين مبهم الحديث.

(2)

وذلك لأن الاجتهاد لا يكون إلا مع الدليل الظني. انظر: "صفة الفتوى"، لابن حمدان (ص 53)، وفيه قال:"ويجوز التقليد فيما يطلب فيه الظن من الأحكام الشرعية وإثباتها بدليل ظني، وكل حكم يثبت بدليل ظني فهو اجتهادي؛ إذ لا اجتهاد مع القطع؛ فإن الاجتهاد بذل الوسع في طلب الحكم الشرعي بدليله".

وضرب الخطيب لذلك مثلًا، فقال:"وذلك كنص اللَّه تعالى على وجوب الجزاء من النعم في المقتول من الصيد، ولم ينص على ما يعتبر من المماثلة، فكان ما نص عليه أنه من النعم لا اجتهاد فيه". انظر: "الفقيه والمتفقه"، للخطيب البغدادي (1/ 467).

(3)

سبقت هذه المسألة.

(4)

لكن ذهب ابن عبد البر في توجيه الحديث إلى وجه آخر هو أقوى مما ذكره المؤلف، خلاصته: أن ظاهر الحديث يقضي بأن من صلى بالفاتحة في ركعة واحدة أجزأته الصلاة، وغير الظاهر وهو مذهب الجمهور، خلافًا للأحناف أنه لا بد منها في كل ركعة؛ لأن كل ركعة تسمى صلاة. =

ص: 1498

ونحن نقول: إن أبا حنيفة قال هذا، لكن هل هو ترك القراءة في الصلاة؟ هذا يحتاج إلى دليل

(1)

، فعندما يأتي إمام ويقرر رأيًا في مسألة معينة أو يميل إلى رجحانه، فليس معناه أنه لا يأخذ بغيره، وأبو حنيفة نفسه يرى أن الأولى والأحوط في هذا القول، ولا يُلتفت لما قيل في مثل هذه المسألة وما ينقل عن المذهب.

* قوله: (وَاخْتَارَ مَالِكٌ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ بِالحَمْدِ وَسُورَةٍ، وَفِي الأَخِيرَتَيْنِ بِالحَمْدِ فَقَطْ)

(2)

.

وهذا أيضًا مذهب الشافعي

(3)

، وأحمد

(4)

.

* قوله: (فَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يقْرَأَ فِي الأَرْبَعِ مِنَ الظُّهْرِ بِالحَمْدِ وَسُورَةٍ إِلَّا أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي تُقْرَأُ فِي الأُولَيَيْنِ تَكُونُ أَطْوَلَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الثَّابِتِ: "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقْرَأُ فِي

= انظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (20/ 199)، وفيه قال:"هل يتعين وجوبها في كل ركعة أو مرة واحدة في الصلاة كلها على ظاهر الحديث، لأنه لا يخلو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، وقوله: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج" من أن يكون على ظاهره أو يكون معنى قوله: "كل صلاة" كل ركعة. . . وقد قام الدليل من أقوالهم أن القراءة لا بد منها في ركعتين أقل شيء؛ فعلمنا بذلك أن الحديث المذكور ليس على ظاهره، وأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فلا صلاة له وهي خداج غير تمام" أنه أراد كل ركعة".

(1)

قد يوجَّه هذا بأن المؤلف لم يرد حقيقة اللفظ دانما أراد أن يصف مذهبه.

(2)

سبق.

(3)

انظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 48)، وفيه قال:"سن أن (يقرأ غيره)، أي: غير المأموم من إمام ومنفرد (سورة) غير الفاتحة (في) ركعتين (أوليين) جهرية كانت الصلاة أو سرية للاتباع".

(4)

انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 435)، وفيه قال:" (ثم يقرأ) المصلي بعد الفاتحة حال كونه (مبسملًا) نصًّا (سورة كاملة ندبًا). قال في "شرح الفروع": لا خلاف بين أهل العلم في استحباب قراءة سورة مع الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة".

ص: 1499

الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ مِنْهَا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فَقَطْ"

(1)

، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الثَّابِتِ أَيْضًا:"أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيةً، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيةً"

(2)

، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي العَصْرِ لِاتِّفَاقِ الحَدِيثَيْنِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا: "أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُولَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ

(3)

).

(1)

أخرجه البخاري (759)، ومسلم (451/ 155).

(2)

أخرجه مسلم (452/ 157) عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية -أو قال: نصف ذلك-، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك".

(3)

صورة الخلاف في هذه المسألة التي ذكرها المؤلف: أنهم اختلفوا في قدر طول الركعتين من صلاة الظهر؛ فذهب الشافعية إلى أن الركعتين الأوليين تكونان بنفس الطول. وهو مذهب الأحناف. وذهب المالكية ووافقهم الحنابلة إلى أن الركعة الأولى تكون أطول من الثانية. ووافقهم الأحناف في الفجر.

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 309)، وفيه قال:" (وقال) ش: أي: محمد في الأصل م: (ويطيل الركعة الأولى من الفجر على الثانية) ش: وهذا بالاتفاق بين أصحابنا. م: (إعانة للناس على إدراك الجماعة) ش: أي لأجل الإعانة للناس على إدراك الجماعة؛ لأن وقت الفجر وقت نوم وغفلة، فاستحب تطويل الركعة الأولى ليدرك الناس الجماعة. م: (قال: وركعتا الظهر سواء) ش: أي الركعتان الأوليان من الظهر مستويتان في الإطالة والقصر، لأنهما استويا في وجوب القراءة ويستويان في مقدارها".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 247)، وفيه قال: " (وتطويل قراءة بصبح) بأن يقرأ فيها من طوال المفصل إلا لضرورة أو خوف خروج وقت (والظهر تليها) في التطويل؛ أي: دونها فيه، وأوله الحجرات، وهذا في غير الإمام، وأما هو فينبغي له التقصير إلا أن يكون إمامًا بجماعة معينة وطلبوا منه التطويل، (وتقصيرها)، أي: القراءة (بمغرب وعصر) بأن يقرأ فيهما من قصاره، وأوله والضحى، (كتوسط بعشاء) بأن يقرأ فيها من وسط، وأوله من عبس، وسمي =

ص: 1500

وباختصار: الذي ننتهي إليه هو أن القول الحق هو مذهب جماهير العلماء الذين قالوا بوجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، ولا شك أن أدلة هذا القول هي أدلة صحيحة وصريحة ينبغي الوقوف عندها، وزيادة على كل ذلك فهي أيضًا أحوط للمسلم في هذه المسألة

(1)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ

(2)

، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ قَالَ: "نَهَانِي

= مفصلًا لكثرة الفصل بين سوره، (و) ندب تقصير قراءة ركعة (ثانية عن) قراءة ركعة (أولى) في فرض".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 48، 49)، وفيه قال:" (و) سن لمنفرد وإمام (في صبح طوال المفصل، و) في (ظهر قريب منها)؛ أي: من طواله كما في "الروضة" كأصلها وغيره، (و) في (عصر وعشاء أوساطه، و) في (مغرب قصاره) لخبر النسائي في ذلك، وأول المفصل الحجرات كما صححه النووي في "دقائقه" وغيرها". وانظر: "المهذب"، للشيرازي (1/ 141).

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 267)، وفيه قال:" (و) يسن لإمام وغيره (تطويل قراءة) الركعة (الأولى عن) قراءة الركعة (الثانية) لحديث أبي قتادة مرفوعًا: "كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب وكان يطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية". وهكذا في صلاة العصر وهكذا في صلاة الصبح".

(1)

سبقت هذه المسألة.

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"(1/ 115)، وفيه قال:"ويكره قراءة القرآن في الركوع والسجود والتشهد بإجماع الأئمة الأربعة لقوله عليه الصلاة والسلام: "نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا". اهـ. كاكي". وانظر: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 523).

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 253)، وفيه قال:" (و) كره (قراءة بركوع أو سجود)، لخبر: "نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا؛ فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فادعوا فيه فقمن أن يستجاب لكم"".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 477)، وفيه قال:" (وإذا قرأ فانصتوا) محمول على السورة لحديث عبادة وغيره، ودل على أن محلها القيام فلا تجزئ في نحو الركوع ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: "إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا".

ص: 1501

جِبْرِيلُ

(1)

صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ القُرْآنَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا". قَالَ الطَّبَرِيُّ

(2)

: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَبِهِ أَخَذَ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ)

(3)

.

وفي بعض الطبعات (جبريل) بدل (حبي)، لكن الصحيح:"نهاني حبي. . . " يقصد بـ: "حبي" رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

.

وهذه مسألة جديدة وهي القراءة في الركوع والسجود: ومعلوم أن الركوع ورد فيه أدعية أهمها أن يقول المصلي في ركوعه: (سبحان ربي العظيم)، وقد يزيد على ذلك أيضًا كما سيبين المصنف، ويقول في سجوده:(سبحان ربي الأعلى).

والعلماء يختلفون في القدر:

فالجمهور يقولون: أدنى الكمال أن يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ثلاثًا، وكذلك في السجود، وقالوا: لو تركها لبقيت صلاته صحيحة لأنها ليست واجبة، وأما أعلى الكمال فيزيد بعضهم إلى خمس وبعضهم إلى سبع

(5)

.

= وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 446)، وفيه قال:" (وتكره قراءة فيه)، أي: الركوع (وفي سجود) لنهيه صلى الله عليه وسلم؛ ولأنهما حال ذل وانخفاض، والقرآن أشرف الكلام".

(1)

هذه الكلمة مصحَّفة كما سيذكره الشارح.

(2)

لم أقف على قوله.

(3)

قال ابن عبد البر: "وأما قراءة القرآن في الركوع فجميع العلماء على أن ذلك لا يجوز". انظر: "الاستذكار"(1/ 431).

(4)

أخرجه مسلم (480/ 212) عن علي، قال:"نهاني حبي صلى الله عليه وسلم أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا".

(5)

انظر في مذهب الأحناف: "مختصر القدوري"(ص 27)، وفيه قال:"ويقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ثلاثًا وذلك أدناه. . . ويقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) ثلاثًا، وذلك أدناه، ثم يرفع رأسه".

وانظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل" للخرشي، و"حاشية العدوي"(1/ 281)، وفيه قال: " (ص) وتسبيح بركوع وسجود (ش)، أي: وندب تسبيح بركوع =

ص: 1502

وينبغي التنبيه إلى قضية هامة جدًّا فيما يتعلَّق بالإمام والمأمومين: وقد تكلم عنها العلماء، فالإمام عليه أن يراعي دائمًا أحوال المأمومين، فإذا كان الإمام يصلي وراءه جماعة من الناس لا يعلم أحوالهم؛ فالأولى في حقه أن يخفف؛ لأن فيهم من لا يطيق الإطالة في الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم عاتب معاذًا رضي الله عنه وقال له:"أتريد أن تكون فتانًا"

(1)

. ثم قال: "إذا أم أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة"

(2)

.

= نحو: سبحان ربي العظيم. قال العدوي: (قوله: وتسبيح بركوع) إلخ؛ وظاهر كلامه أنه غير محدود بواحدة أو ثلاث ولا مخصوص بلفظ معين خلافًا لمن يقول أقله ثلاث".

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 61)، وفيه قال:" (و) من جملته أيضًا أنه (يقول) بعد استقراره فيه (سبحان ربي العظيم) وبحمده (ثلاثًا) للاتباع وصح: أنه لما أنزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} قال صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} قال: "اجعلوها في سجودكم. . . ". وأكمله إحدى عشرة ودونه تسع فسبع فخمس فثلاث فهي أدنى كماله". وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 195)، وفيه قال:"وسن تكريره (ثلاثًا) في قول عامة أهل العلم (وهو)؛ أي: التكرار ثلاثًا (أدنى الكمال). . . (وأعلاه)؛ أي: الكمال في التسبيح الإمام عشر) مرات. . . (و) أعلى الكمال (المنفرد العرف)؛ أي: المتعارف في موضعه، وسكت عن مأموم؛ لأنه تجع لإمامه (وكذا سبحان ربي الأعلى في سجود) فحكمه كتسبيح الركوع فيما يجب وأدنى الكمال وأعلاه لما تقدم".

(1)

أخرجه مسلم (465/ 179) عن جابر أنه قال: صلى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاء فطول عليهم؛ فانصرف رجل منا فصلى؛ فأُخبر معاذ عنه فقال: إنه منافق؛ فلما بلغ ذلك الرجل دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره ما قال معاذ؟ فقال له النبي-صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تكون فتانًا يا معاذ؟ إذا أممت الناس فاقرأ بـ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ". وبنحوه أخرجه البخاري (6106).

(2)

أخرجه البخاري (90)، ومسلم (466/ 182)، واللفظ له، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال:"يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة".

ص: 1503

وقد يفهم من كلام المؤلف: أن الإنسان لو قرأ آية أو آيات في الركوع أو في السجود بطلت صلاته، وليس ذلك هو المقصود، فالذين يقولون بذلك قصدهم الكراهة

(1)

، والقصد ألا يقرأ الإنسان في ركوعه أو سجوده قراءة مرتبة مقصودة، لكن أن يأتي بآيات الدعاء فهذا أمر وارد.

وسيأتي في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه وهو حديث صحيح-: أنه لما نزل قول اللَّه سبحانه وتعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزل قوله تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} قال: "اجْعَلُوها فِي سُجُودِكُمْ"

(2)

.

وسنجد أيضًا أن أدعية السجود بعضها مقتبس من آيات أو جزء من آية.

والحكمة من كراهة قراءة القرآن في الركوع والسجود: أن الركوع وضع لغاية والسجود كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ

(3)

أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ"

(4)

.

وقال: "وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"

(5)

.

وينبغي لنا التنبيه على مسألة مهمة متعلقة بما نحن بصدد الحديث عنه: وهي كون الركوع فيه انحناء الإنسان، فقد كان قائمًا في صلاته ثم ينحني، وهذا الانحناء إنما فيه خضوع وخنوع

(6)

وذل للخالق تبارك

(1)

سبق.

(2)

أخرجه أبو داود (869)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(152).

(3)

قَمِن، أي: جدير. انظر: "العين"، للخليل (5/ 181).

(4)

أخرجه مسلم (479/ 207) عن ابن عباس.

(5)

أخرجه مسلم (482/ 215) عن أبي هريرة.

(6)

أي: ذل وخضوع. يقال: خنع الرجل يخنع خنوعًا وخناعة، إذا ذل وأعطى الحق من نفسه. انظر:"جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 613).

ص: 1504

وتعالى، وأما السجود فهو أكثر من ذلك، لأن الإنسان فيه يخضع ويذل ويمرغ

(1)

أشرف شيء في جسمه -وهو الوجه- وهذا كله فيه خضوع للَّه سبحانه وتعالى، لأن اللَّه هو الذي خلقنا وأوجدنا من العدم وتفضل علينا بالنعم، فمهما شكرناه وعبدناه لا يمكن أن نؤدي شيئًا من شكره على ما تفضل به علينا؛ ولذلك كان إدخال من يدخل اللَّه سبحانه وتعالى الجنة إنما هو برحمته لا بعمل الإنسان كما جاء في الحديث

(2)

.

ولكن لو يخضع الإنسان للمخلوقين فتلك هي الذلة، ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعظموه كما يعظم الأعاجم رؤساءهم

(3)

، فعلينا أن نفرق بين ما يتعلَّق بالخضوع والذل والتعظيم وبين ما يتعلَّق بالاحترام، وقد أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم

(4)

، فالإنسان عندما يأتيه ضيف عزيز، أو إنسان كبير، أو طالب علم؛ فلا حرج أن يقوم له ويبش

(5)

في وجهه، وذلك من صفات المؤمنين، قال اللَّه تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وفي مقابل ذلك صفات نهى عنها الشرع كالخيلاء والكبر والاختيال في الأرض، قال اللَّه تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]، ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وجد أبا دجانة رضي الله عنه يمشي مِشية المتبختر في وقت المعركة قال له: "إنها لمشية يكرهها اللَّه إلا في هذا

(1)

تمرَّغ في التراب، بالغين معجمةً: إِذا تمسَّح به وتقلَّب عليه. انظر: "شمس العلوم"، للحميري (9/ 6283).

(2)

أخرج البخاري (6467)، ومسلم (2816/ 76)، واللفظ له، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله" قالوا: يا رسول اللَّه ولا أنت؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة منه وفضل".

(3)

من ذلك ما أخرجه البخاري (3445) عن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد اللَّه ورسوله".

(4)

أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(8/ 246)، عن عائشة قالت:"أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم". وبنحوه أخرجه أبو داود (4842)، وضعفه الألباني.

(5)

(البَشاشة) طلاقة الوجه، وقد (بَشَّ) به يَبَشُّ بالفتح. ورجل هَشٌّ بَشٌّ، أي: طَلْقُ الوجه. انظر: "مختار الصحاح"، للرازي (ص 35).

ص: 1505

الموقف"

(1)

؛ وذلك لأن موقف الجهاد ينبغي للإنسان أن يُظهر فيه القوة أمام الأعداء.

ومعنى الحديث: أن هذه المشية التي فيها خيلاء واعتزاز بالنفس إنما هي مشية مكروهة، لكنها في هذا الموقف غير مكروهة لأن فيها إظهار عزة وقوة المسلمين.

وكذلك عندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة قال المشركون: "قدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم أن يرملوا في الطواف"، وذلك حتى يظهروا لهم القوة

(2)

.

إذن؛ على الإنسان أن يخفض جناحه

(3)

للمؤمنين، ويعطف عليهم ويكرمهم، فيرحم الصغير ويحترم الكبير؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا والأكناف الذين يألفون ولا يأنفون"

(4)

،

(1)

أخرج الطبراني في "المعجم الكبير"(7/ 104)، وفيه: أن أبا دجانة يوم أحد أعلم بعصابة حمراء، فنظر إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو مختال في مشيته بين الصفين، فقال:"إنها مشية يبغضها اللَّه إلا في هذا الموضع".

قال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه". انظر: "مجمع الزوائد"(6/ 109).

(2)

أخرجه البخاري (4256)، واللفظ له، ومسلم (2661/ 240) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنهم حمى يثرب، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يامرهم، أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" قال أبو عبد اللَّه: وزاد ابن سلمة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن، قال:"ارملوا" ليرى المشركون قوتهم، والمشركون من قبل قعيقعان.

(3)

خفض الجناح: لين الجانب. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (4/ 94).

(4)

أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"(1/ 362) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف". وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(751).

ص: 1506

وقال: "من تواضع للَّه رفعه"

(1)

، فالتواضع مطلوب، لكن التواضع غير الخنوع والذل.

والإنسان عندما يخضع في ركوعه ويذل في سجوده إنما هو يخضع للحي القيوم فالق الحب والنوى، وهذا فيه عزة ورفعة للمؤمن؛ ولذلك نجد أن العبادات تختلف أحوالها باختلاف الإخلاص، فقد تجد إنسانًا يصلي يطيل صلاته فيطيل القيام والركوع والسجود، لكن صلاته خالطها الرياء، فما فعل ذلك إلا ليُري الناس أنه رجل يحسن صلاته، وقد تجد إنسانًا آخر يصلي صلاة معتدلة ولا يرائي أحدًا، وإنما يخشى الحي القيوم، وهذه هي الصلاة المطلوبة.

ويظهر جليًّا خضوع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأدعية المأثورة عنه في الصلاة.

وقد أخرج مسلم في "صحيحه"

(2)

وغيره

(3)

من حديث علي رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا قامٍ إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"، ثم إذا ركع يقول في ركوعه:"اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت"، ثم يقول:"خشع لك بصري وسمعي ومخي وعظمي وعصبي" وهذا غاية في الذل.

ثم بعد ذلك إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "ربنا ولك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد" والدعاء هنا ورد بألفاظ متعددة، فإذا ما سجد أيضًا يقول:"سبحان ربي الأعلى"، ثم:"اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره. . . " إلى آخر الحديث.

(1)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 46) عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من تواضع للَّه رفعه اللَّه". وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2328).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود (760)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(738).

ص: 1507

والملاحظ في كلام المؤلف عن هذه المسألة: أنه لو رجعنا وبحثنا عنها في الكتب الكبيرة لا نجد هذا التفصيل فيها، وما مر عليَّ من كتب لم تُبحث فيها هذه المسألة كما هو الأمر هنا، وقد تمنيت لو أن هذا الكتاب فصل في كثير من المسائل كما فصل الحديث عن الركوع في الصلاة، فقد استقصى تقريبًا كل الأقوال في هذه المسألة، وهذا حقيقةً مسلك جيد.

* قوله: (وَصَارَ قَوْمٌ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ

(1)

، وَهُوَ مَذْهَبُ البُخَارِيِّ

(2)

؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ الحَدِيثُ عِنْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

وقول المؤلف: (لم يصح الحديث عنده) هو حقيقة كلام يحتاج إلى وقفة وتدقيق، فالإمام البخاري وضع لكتابه شروطًا، وكونه لم يخرج هذا الحديث فلأن شروطه لم تتوفر فيه، ولا يلزم من كون الحديث لم يخرجه البخاري أن يكون غير صحيح، وهذا الحديث قد أخرجه مسلم

(3)

، فهو إذن حديث صحيح، وكل ما في "الصحيحين" صحيح.

وأما قول المؤلف: (صححه الطبري) فلأنه ما وقف عليه في "صحيح مسلم"، وهو كذلك عند أبي داود

(4)

، وأحمد

(5)

، وغيرهم

(6)

.

(1)

ذكر ذلك القاضي عياض من غير تعيين.

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 394)، وفيه قال:"النهي عن القراءة في الركوع والسجود مذهب فقهاء الأمصار، وأباح ذلك بعض السلف".

(2)

ونسبته إلى البخاري خطأ كما سيبين الشارح.

(3)

تقدَّم.

(4)

أخرجه أبو داود (4044) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي، وعن لبس المعصفر، وعن تختم الذهب، وعن القراءة في الركوع". وصححه الألباني.

(5)

أخرجه أحمد في "مسنده"(601) عن علي: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهاني عن ثلاث -قال: فما أدري له خاصة، أم للناس عامة- نهاني عن القسي، والميثرة، وأن أقرأ وأنا راكع". قال الأرناؤوط: حسن لغيره.

(6)

أخرجه الترمذي (264) عن علي بن أبي طالب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي، والمعصفر، وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع". وصححه الألباني.

ص: 1508

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ قَوْلٌ مَحْدُودٌ يَقُولُهُ المُصَلِّي أَمْ لَا؟).

إن في الركوع وفي السجود قولًا محدودًا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه:"سبحان ربي العظيم"

(1)

، وفي بعض الروايات جاء:"سبحان ربي العظيم وبحمده"

(2)

، وأما في سجوده فيقول:"سبحان ربي الأعلى"

(3)

، وفي روايات أُخرى:"سبحان ربي الأعلى وبحمده"

(4)

.

وهذه مسألة أيضًا كثر فيها الخلاف عند العلماء: هل الأولى أن يقتصر على قول: (سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى)، أو أن يزيد فيقول:(وبحمده)

(5)

.

ولا شك أكثر الأحاديث جاء فيها قول: (سبحان ربي العظيم)، ومنها -وهي صحيحة- فيها زيادة:"وبحمده".

ولذلك لما سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة قال: ورد هذا وورد هذا، فهو إذن يأخذ بقوله:(سبحان ربي العظيم)، ولا ينكر على غيره

(6)

.

(1)

أخرجه أبو داود (871) وغيره عن حذيفة: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه:"سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده:"سبحان ربي الأعلى". وصححه الألباني في "الإرواء"(333).

(2)

أخرجه أبو داود (870)، عن عقبة بن عامر، بمعناه زاد، قال: فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: "سبحان ربي العظيم وبحمده" ثلاثًا، وإذا سجد قال:"سبحان ربي الأعلى وبحمده" ثلاثًا. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(153).

(3)

سبق.

(4)

سبق.

(5)

ستأتي.

(6)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 361)، وفيه قال:"وإن قال: سبحان ربي العظيم وبحمده. فلا بأس، فإن أحمد بن نصر روى عن أحمد، أنه سئل عن تسبيح الركوع والسجود، سبحان ربي العظيم، أعجب إليك، أو سبحان ربي العظيم وبحمده؟ فقال: قد جاء هذا وجاء هذا، وما أدفع منه شيئًا".

ص: 1509

وأما الشافعية: فهناك خلاف في المذهب: هل المستحب أن يقول: (سبحان ربي العظيم)؛ لأن أكثر الأحاديث وردت كذلك، أو أن يزيد:(وبحمده)، فقد جاءت في أحاديث صحيحة وفيها فضل وزيادة في الدعاء؛ فينبغي أيضًا أن يأخذ بها، وهذا أولى

(1)

.

ونقول: إن الأمر فيه سعة والحمد للَّه، فلو اقتصر الإنسان على قول إحدى الصيغتين الواردتين في الروايات الصحيحة لكان ملتزمًا عاملًا بالسنة.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ مَحْدُودٌ).

الإمام مالك كما ذكر المؤلف يقول: ليس فيها قول محدود، بمعنى أن الإنسان لو قال مثلا:(سبحان ربي العظيم)، أو جاء بنحو ذلك لأجزأه

(2)

، وخالفه الأئمة الثلاثة على ما سيأتي تفصيله.

* قوله: (وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ

(3)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(4)

، وَأَحْمَدُ

(5)

، وَجَمَاعَةٌ

(1)

قال النووي: "قال أصحابنا: ويستحب أن يقول سبحان ربي العظيم وبحمده وممن نص على استحباب قوله وبحمده القاضي أبو الطيب والقاضي حسين وصاحب الشامل والغزالي وآخرون، وينكر على الرافعي لأنه قال وبعضهم يضيف إليه وبحمده فأوهم أنه وجه شاذ مع أنه مشهور لهؤلاء الأئمة". انظر: "المجموع شرح المهذب"(3/ 412). والمذهب على استحباب هذه الزيادة.

وهو مذهب المالكية، انظر:"منح الجليل"، لعليش (1/ 259)، وفيه قال:" (و) ندب (تسبيح بركوع) بأي لفظ كان والأولى سبحان ربي العظيم وبحمده (وسجود) كذلك والأولى سبحان ربي الأعلى وبحمده ودعاء بسجود فقط".

وفي مذهب الحنابلة الأفضل أن تقال من غير زيادة. انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 445)، وفيه قال:" (ويقول) في ركوعه: (سبحان ربي العظيم). . . والأفضل الاقتصار عليها من غير زيادة: وبحمده".

وهو ظاهر مذهب الأحناف، انظرت "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 70)، وفيه قال:" (مسبحًا) أي: قائلًا سبحان ربي العظيم مرات (ثلاثًا هي أدناه) ". وانظر: "الإشراف"، لابن المنذر (2/ 29).

(2)

سبق.

(3)

سبق.

(4)

سبق.

(5)

سبق.

ص: 1510

غَيْرُهُمْ

(1)

، إِلَى أَنَّ المُصَلِّيَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ" ثَلَاثًا، وَفِي السُّجُودِ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى" ثَلَاثًا عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ

(2)

).

فالأئمة الثلاثة إذن قالوا: فيه دعاء محدود لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ركع فليقل: سبحان ربي العظيم، وإذا سجد يقول: سبحان ربي الأعلى"

(3)

. وكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده:"سبحان ربي الأعلى"

(4)

. وقال: "إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي العظيم ثلاثًا أو أدناه"

(5)

. كل ذلك ورد في أحاديث.

ولو زاد الإنسان على ذلك فهو زيادة خير؛ أي: لو قال الإنسان: (سبحان ربي العظيم) أربعًا أو خمسًا أو ستًّا أو سبعًا فهو طيب لأنه دعاء، فالإنسان يعظم ربه بهذا التسبيح، ولو يقتصر على ثلاث فهو أدنى الكمال

(6)

.

ولذلك مثلًا لو قرأنا في كتب الشافعية

(7)

. . . . . .

(1)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (1/ 432)، وفيه قال:"وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق يقول المصلي في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ثلاثًا) وفي السجود: (سبحان ربي الأعلى) ثلاثًا، وهو أقل التمام والكمال في ذلك".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه أبو داود (886)، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، وذلك أدناه". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(155).

(6)

سبق ذكر مذاهبهم في هذا.

(7)

انظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 49)، وفيه قال: " (و) أن (يقول سبحان ربي العظيم) للاتباع. رواه مسلم. وأضاف إلى ذلك في التحقيق وغيره: وبحمده =

ص: 1511

والحنابلة

(1)

لوجدنا قولهم: يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) وأدناه ثلاثًا والواجب واحدة.

* قوله: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقُولَهَا الإِمَامُ خَمْسًا فِي صَلَاتِهِ).

ومنهم من قال: سبعًا

(2)

، حتى يدرك الذي خلفه ثلاث تسبيحات

(3)

.

* قوله: (حَتَّى يُدْرِكَ الَّذِي خَلْفَهُ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا البَابِ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ القُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ")

(4)

.

وقوله: "قَمِنٌ"؛ أي: جدير وحري أن يستجاب لكم

(5)

، ولا شك أن الإنسان في مثل هذا الموضع أقرب للَّه عز وجل لما فيه من ذل وخضوع واطِّراحِ بين يديه، واللَّه سبحانه وتعالى متى ما أدرك صدق العبد وإخلاصه في عبادته فإنه يجازيه على ذلك ويثيبه الثواب الأكبر.

= (ثلاثًا) للاتباع رواه أبو داود، فإن اقتصر على مرة أدى أصل السنة، وعليه يحمل قول "الروضة": أقل ما يحصل به ذكر الركوع تسبيحة واحدة".

(1)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 195)، وفيه قال:"والواجب من التسبيح مرة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر عددًا فيما سبق".

(2)

انظر: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 556)، وفيه قال:"وقال الحسن: التام من السجود سبع والمجزي ثلاث".

(3)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (1/ 432)، وفيه قال:"وقال الثوري: أحب إلي أن يقولها الإمام خمسًا في الركوع والسجود حتى يدرك الذي خلفه ثلاث تسبيحات".

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

سبق.

ص: 1512

* قوله: (وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ"، وَلَمَّا نَزَلَتْ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} ، قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ"

(1)

).

وفيه دليل على أن هذه الصيغة مقتبسة من القرآن، فلما نزلت الآية أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن يجعلها الإنسان في ركوعه فيقول: سبحان ربي العظيم، والآية الأخرى بأن يجعلها في سجوده فيقول: سبحان ربي الأعلى.

* قوله: (وَكذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ).

العلماء لم يختلفوا في الثناء على اللَّه سبحانه وتعالى في الركوع والسجود، والأحاديث في ذلك كثيرة، لكن الخلاف في كون الدعاء مشروعًا في الركوع وفي السجود أم في السجود فقط.

ولا شك أن الأدلة دلت على أن المصلي يدعو اللَّه عز وجل في ركوعه وفي سجوده، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول:"سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"

(2)

. يقول ذلك في ركوعه وفي سجوده. وهذا دعاء، ولكن ورد أيضًا أن السجود يدعو فيه أكثر؛ لأن السجود كما جاء في الحديث الصحيح أنه أحرى للإجابة، ولحديث:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. . . "

(3)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (794)، ومسلم (484/ 217)، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي".

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1513

* قوله: (فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ

(1)

؛ لِحَدِيثِ عَلِيِّ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وأَمَّا الرُّكُوعُ، فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ")

(2)

.

كلام المؤلف يُشير إلى أن الإمام مالكًا كره ذلك لأنه لم يرد فيه نص، لكن الحقيقة أن حديث عائشة رضي الله عنها فيه دعاء في الركوع كما سيأتي.

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ الدُّعَاءُ فِي الرُّكُوعِ، وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَعَا فِي الرُّكُوعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ البُخَارِيِّ

(3)

، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي")

(4)

.

(1)

انظر: "البيان والتحصيل"، لابن رشد الجد (18/ 63)، وفيه قال: "وسئل مالك عن الدعاء في الركوع، قال: لا أحب ذلك، قيل: ففي السجود؟ قال: نعم، قد دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد.

قال محمد بن رشد: كره مالك الدعاء في الركوع -واللَّه أعلم- لوجهين:

أحدهما: لحديث ابن عباس أنه قال: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء".

والثاني: أنه قد يوافق في دعائه ما في القرآن فيكون قد خالف ما نهى النبي من قراءة القرآن في الركوع". وانظر: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 253).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

وهذا مأخوذ من تبويب البخاري في "صحيحه"؛ إذ قال: "باب الدعاء في الركوع". انظر: "صحيح البخاري"(1/ 158).

قال ابن حجر: " (قوله: باب الدعاء في الركوع) ترجم بعد هذا بأبواب التسبيح والدعاء في السجود وساق فيه حديث الباب؛ فقيل: الحكمة في تخصيص الركوع بالدعاء دون التسبيح مع أن الحديث واحد: أنه قصد الإشارة إلى الرد على من كره الدعاء في الركوع كمالك". انظر: "فتح الباري"(2/ 281).

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1514

والطائفة هنا هم جمهور العلماء الذين يرون جواز الدعاء في الركوع

(1)

.

والحديث متفق عليه

(2)

، ونزيد عليه ما سبق وذكرناه من قبل وهو حديث علي رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم

(3)

وغيره

(4)

، وفيه: وكان صلى الله عليه وسلم إذا ركع يقول: "اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخى وعظمى وعصبى. . . "، وهو حديث طويل اكتفينا بذكر موضع الشاهد منه.

* قوله: (وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يجِيزُ الدُّعَاءَ فِى الصَّلَاةِ بِغَيْرِ أَلْفَاظِ القُرْآنِ).

(1)

انظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 366)، وفيه قال:"ويستحب الدعاء في الركوع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك: اللهم اغفر لي".

وفي مذهب الأحناف: أن هذا محمول على صلاة النافلة، فلا يصح أن يقوله في الفريضة إلا ما ورد من التسبيح.

انظر: "الدر المختار"، للحصكفي (1/ 505، 506)، وفيه قال:" (وليس بينهما ذكر مسنون، وكذا) ليس (بعد رفعه من الركوع) دعاء، وكذا لا يأتي في ركوعه وسجوده بغير التسبيح (على المذهب) وما ورد محمول على النفل".

وفي مذهب الحنابلة الذي وقفت عليه: القول هو بعدم الجواز. انظر: "الإرشاد إلى سبيل الرشاد"، لأبي علي الهاشمي (ص 56)، وفيه قال:"ولا يدعو في ركوعه بشيء".

وظاهر كلام ابن رجب أن المذهب على الجواز وأوَّل الرواية التي جاءت عن أحمد بعدم الجواز.

انظر: "فتح الباري"، لابن رجب (7/ 184)، وفيه قال:"وروي عن أحمد رواية، أنه قال: لا يعجبني الدعاء في الركوع والسجود في الفريضة. قال بعض أصحابنا: وهي محمولة على الإمام إذا طول بدعائه على المأمومين أو نقص بدعائه التسبيح عن أدنى الكمال، فأما في غير هاتين الحالتين فلا كراهة فيه".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (771/ 201).

(4)

وأخرجه أبو داود (760)، وغيره، عن علي بن أبي طالب، وفيه:"وإذا ركع قال: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظامي وعصبي". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(738).

ص: 1515

منع أبو حنيفة الدعاء في الصلاة بغير القرآن؛ لأنه يرى أن الدعاء كلام ولا ينبغي للإنسان أن يتكلم في الصلاة، وقد مرت معنا مسألة الكلام في الصلاة، ورأينا أن الحنفية يشددون في ذلك، وأنه لا ينبغي عندهم للمأموم أن يفتح على الإمام أو يرد عليه بأمر إلا بلفظ من ألفاظ القرآن أو ما فيه تسبيح كما ورد في الحديث

(1)

.

* قوله: (وَمَالِكٌ

(2)

، وَالشَّافِعِيُّ

(3)

يُجِيزَان ذَلِكَ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ، هَلْ هُوَ كَلَامٌ أَمْ لَا؟).

وكذلك أحمد يجيزه

(4)

، وهو عندهم كلام لكنه ليس كسائر الكلام، فهو كلام مستثنًى في الصلاة لا يؤثر عليها، وحجتهم: أنه ورد في أحاديث صحيحة، فالدعاء بتلك الأدعية في الصلاة مشروع.

(1)

انظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (1/ 349)، وفيه قال:" (قوله: ودعا بما يشبه ألفاظ القرآن والسنة لا كلام الناس)، أي: بالدعاء الموجود في القرآن، ولم يرد حقيقة المشابهة، إذ القرآن معجز لا يشابهه شيء، ولكن أطلقها لإرادته نفس الدعاء لا قراءة القرآن مثل: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا}، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا}، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}. . . ".

(2)

انظر: "الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 255)، وفيه قال:"يجوز أن يدعو في الصلاة بكل دعاء يجوز له بخارجها. خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا يجوز أن يدعو إلا بألفاظ القرآن وما يقاربها". وانظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 33).

(3)

في مذهب الشافعية: يجوز ذلك لكن مأثور الدعاء أفضل.

انظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 549)، وفيه قال:" (و) يسن (الدعاء في سجوده)، لخبر: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء. . . " ومأثور الدعاء أفضل".

(4)

في مذهب الحنابلة: أنه يكره أن يدعو بغير المأثور.

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 367، 368)، وفيه قال:" (ويدعو بدعاء معهود)، أي: مأثور، إما من القرآن، أو السنة، أو عن الصحابة أو التابعين، أو الأئمة المشهورين، ويكون جامعًا (بتأدب) في هيئته وألفاظه، فيكون جلوسه إن كان جالسًا كجلوس أذل العبيد بين. يدي أعظم الموالي". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 393).

ص: 1516

* قوله: (المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّشَهُّدِ

(1)

، وَفِي المُخْتَارِ مِنْهُ؛ فَذَهَبَ مَالِكٌ

(2)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(3)

، وَجَمَاعَة إِلَى أَنَّ التَّشَهُّدَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ

(4)

. وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى وُجُوبِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(5)

، وَأَحْمَدُ

(6)

، وَدَاوُدُ

(7)

).

(1)

هذا في التشهد الأخير كما سيأتي.

(2)

انظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 243)؛ حيث قال في سنن الصلاة:" (و) السابعة: (كل تشهد)؛ أي: كل فرد منه سنة مستقلة ولا تحصل السنة إلا بجميعه وآخره ورسوله. (و) الثامنة: (الجلوس الأول) يعني: ما عدا جلوس السلام".

(3)

الصواب في المذهب القول بالوجوب. انظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 274)، وفيه قال:"م: (وتشهد) ش: يعني قرأ التحيات للَّه. . . إلخ في القعدة الأخيرة أيضًا م: (وهو واجب عندنا) ش: أي: التشهد واجب عندنا".

(4)

سبق أن ذكرنا أن الصحيح عن الأحناف هو القول بالوجوب لا بالاستحباب.

وقد فهم المؤلف من كلام ابن عبد البر أن الأحناف يقولون بالاستحباب، لكن ابن عبد البر قال: هم يقولون ليس بواجب فرضًا، ففهم المؤلف أن ابن عبد البر نفى عنهم القول بالوجوب. انظر:"الاستذكار"(1/ 528)، وفيه قال:"الجلوس مقدار التشهد فرض وليس التشهد ولا التسليم بواجب فرضًا. وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين".

(5)

انظر: "الإقناع"، للشربيني (1/ 137)، وفيه قال:" (و) الثالث عشر من أركان الصلاة: (الجلوس الأخير) لأنه محل ذكر واجب فكان واجبًا كالقيام لقراءة الفاتحة. (و) الرابع عشر: من أركان الصلاة (التشهد فيه) أي الجلوس الأخير".

(6)

انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 499)، وفيه قال:"و (الحادي عشر: التشهد الأخير). . . (بعد) الإتيان بـ (أقل مجزئ من) التشهد (الأول). . . (والركن منه)؛ أي: من التشهد الأخير: (اللهم صل على محمد) فقط. و (الثاني عشر: الجلوس له)، أي: التشهد الأخير، (و) الجلوس (للتسليمتين) ".

(7)

انظر: "الاستذكار"(1/ 527)، وفيه قال:"الجلسة الآخرة فرض والتشهد فرض والسلام فرض. وممن قال بذلك الشافعي وأصحابه وأحمد في رواية وداود. وكذلك حكى أبو مصعب في "مختصره" عن مالك وأهل المدينة".

وهو مذهب الظاهرية. انظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (2/ 300)، وفيه قال:"التشهد فرضًا، وصار القعود الذي لا يكون التشهد إلا فيه فرضًا؛ إذ لا يجوز أن يكون غير فرض ما لا يتم الفرض إلا فيه أو به".

ص: 1517

هناك تشهُّدان في الصلاة: التشهد الأول والتشهد الأخير، وكل منهما يقتضي جلوسًا، وقد اختلف أهل العلم في حكم هذا الجلوس على أقوال:

‌أولًا: التشهد الأول والجلوس له: وفي حكمه قولان:

الأول: يرى جمهور العلماء أن التشهد الأول والجلوس له ليسا بواجبين

(1)

، بمعنى أن الإنسان لو تركهما عامدًا أو ساهيًا لا يؤثر ذلك على صلاته، وإن حصل له ذلك فإنه يجبره بسجود السهو، واستدلوا على قولهم بأدلة:

- حديث الرجل المسيء صلاته

(2)

؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قد عَلَّمَه؛ إذ كان

(1)

هو قول المالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة.

انظر في مذهب المالكية: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 542)، وفيه قال: "ودليلنا على سقوط الوجوب في التشهد الأول والجلوس له: أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين ولم يرجع إلى الجلوس والتشهد. ولو وجبا أو أحدهما لرجع إليه.

فإن قيل: فلعله إنما لم يرجع إليه لأنه لم يذكره.

فقيل: قد ذكر الترمذي أنهم سبحوا به. وهذا يقتضي أنه علم بسهوه لما سبحوا له. وإذا ثبت علمه به ولم يرجع إليه دل على سقوط وجوبه".

وهذا هو مشهور مذهب المالكية كما سبق.

وانظر في مذهب الشافعية: "الإقناع"، للشربيني (1/ 141)، وفيه قال:" (و) سننها -أي: الصلاة- مطلقًا (بعد الدخول فيها) أبعاض وهيئات؛ فأبعاضها ثمانية المذكور منها هنا (شيئان) الأول: (التشهد الأول) كله أو بعضه (و) الثاني القنوت".

وفي سنية الجلوس له. انظر: "البيان"، للعمراني (2/ 260)، وفيه قال:"المسنونات في الصلاة -وقد يسميها بعض أصحابنا: الأبعاض- وهي التي تجبر بالسجود: فهي أربعة: الجلوس الأول، والتشهد فيه. . . ". وانظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 62).

وفي مذهب الحنابلة، انظر:"الكافي"، لابن قدامة (1/ 262)، وفيه قال:"وواجباتها المختلف فيها: تسعة: التكبير سوى تكبيرة الإحرام. . . والتشهد الأول، والجلوس له. . . وقد ذكرنا في وجوب جميعها روايتين".

والمشهور هو وجوبهما كما سيأتي.

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1518

يجهل كثيرًا من أحكام الصلاة ولم يذكر له التشهد وهو بحاجة إلى البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

(1)

، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين له فذلك دليل على عدم وجوبه.

- عندما قام الرسول صلى الله عليه وسلم من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد، ثم سجد سجدتين -يعني: للسهو- ثم صلى، ولو كان واجبًا لعاد إليه وجلس، فدل ذلك على عدم وجوبه كما جاء في الحديث الصحيح

(2)

.

الثاني: وهو قول الإمام أحمد في رواية

(3)

، ومعه الحسن بن صالح

(4)

، وبعض العلماء

(5)

، وهم يرون أن التشهد الأول والجلوس له واجبان، قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وجلس للتشهد وتشهد صلى الله عليه وسلم وداوم على ذلك، وقد قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي" في حديث مالك بن الحويرث

(6)

، وذلك دليل على أنه واجب.

(1)

سبق بيان هذه القاعدة.

(2)

أخرجه البخاري (829)، واللفظ له، ومسلم (570/ 85) عن عبد اللَّه بن بحينة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم".

(3)

سبقت.

والقول بالوجوب هو المشهور. انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 219)، وفيه قال:" (ومنها)، أي: الواجبات (تشهد أول) وهو السابع. (و) الثامن: (جلوس له) للأمر به من حديث ابن عباس، مع ما تقدم، ولأنه صلى الله عليه وسلم سجد لتركه".

(4)

لم أقف على قوله.

(5)

وهو مذهب الأحناف من أنه واجب استحسانًا.

انظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 213)، وفيه قال:"التشهد في القعدة الأولى واجب استحسانًا، وقال القاضي أبو جعفر الأسروشني: إنه سنة، وهذا أقرب إلى القياس؛ لأن ذكر التشهد أدنى رتبة من القعدة؛ ألا ترى أن القعدة الأخيرة لما كانت فرضَا كانت القراءة فيها واجبة؟ فالقعدة الأولى لما كانت واجبة يجب أن تكون القراءة فيها سنة ليظهر انحطاط رتبته والصحيح أنه واجب". وانظر: "المحيط البرهاني"، لابن مازه (1/ 338).

(6)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1519

وقالوا: ولا يُعترض علينا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بالاثنتين ولم يجلس؛ لأنه سقط في هذه الحالة إلى بدل، فمثلًا التيمم يأتي بدل الوضوء إذا عدم الماء أو وجد ما يمنع من استعماله، سواء كان حائلًا يحول بين المرء وبين الوصول إليه أو مانعًا في بدنه يلحقه ضرر بسبب استعماله.

وهو كالحال بالنسبة لأحكام الحج، فواجبات الحج إنما عندما يخل المرء بها -ما عدا الأركان- فإنه يجبرها بدم، وكذلك ترك المصلي للتشهد الأول وللجلوس له إنما هو سقط إلى بدل لا لأنه سقط مطلقًا، أما السنن فإنها إذا تركت لا تحتاج إلى بدل

(1)

.

وعلى أساس هذا القول لا شك أنه ينبغي للمسلم ألا يتساهل في أمر التشهد، لكن لو سها المرء فالرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل منه ذلك وقد سجد للسهو.

‌ثانيًا: التشهد الأخير:

إن التشهد الأول يأتي في جميع الصلوات عدا صلاة الفجر فليس فيها إلا تشهد واحد، لكن التشهدان يأتيان في بقية الصلوات؛ الظهر والعصر والمغرب العشاء.

والتشهد الأخير انقسم العلماء فيه إلى قسمين:

الأول: أن التشهد الأخير والجلوس له واجب، وقد نُقل ذلك عن جمع من الصحابة

(2)

، وهو قول أكثر الأئمة كالإمام الشافعي وأحمد

(3)

.

(1)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 382)، وفيه قال:"وهذا الجلوس والتشهد فيه مشروعان بلا خلاف. . . فإن كانت الصلاة مغربًا أو رباعية، فهما واجبان فيها، على إحدى الروايتين. وهو مذهب الليث، وإسحاق. . . ولنا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وداوم على فعله، وأمر به في حديث ابن عباس، فقال:"قولوا: التحيات للَّه. . . . " وسجد للسهو حين نسيه. وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وإنما سقط بالسهو إلى بدل فأشبه جبرانات الحج تجبر بالدم، بخلاف السنن، ولأنه أحد التشهدين فكان واجبًا كالآخر".

(2)

انظر: "الدراري المضية"، للشوكاني (1/ 83) وفيه قال:"والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في حديث المسيء فقد وردت به الأوامر وصرح الصحابة بافتراضه".

(3)

هو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية، وهو مذهب الأحناف لكنهم يفرقون بين =

ص: 1520

ويستدلون بعدة أدلة:

- ما ورد في حديث عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "قولوا التحيات للَّه"

(1)

.

وقد ورد أيضًا ما يشبه ذلك في حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: "قولوا التحيات"

(2)

. قالوا: هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فدل ذلك على وجوب التشهد

(3)

.

- حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على اللَّه من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، فقال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا تقولوا: السلام على اللَّه من عباده، ولكن قولوا: التحيات للَّه والصلوات والطيبات"

(4)

.

= التشهد الأخير والجلوس له، فعندهم الجلوس فرض والتشهد واجب.

انظر: "مراقي الفلاح"، للشرنبلالي (ص 88)، وفيه قال:" (و) يفترض (القعود الأخير) بإجماع العلماء وإن اختلفوا في قدره، والمفروض عندنا الجلوس (قدر) قراءة (التشهد) في الأصح".

أما باقى المذاهب فسبق تفصيلها.

(1)

أخرجه مسلم (403/ 60) عن ابن عباس، أنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: "التحيات المباركات، الصلوات الطيبات للَّه، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه".

(2)

أخرجه البخاري (835) عن عبد اللَّه، قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، قلنا: السلام على اللَّه من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تقولوا السلام على اللَّه، فإن اللَّه هو السلام، ولكن قولوا: التحيات للَّه والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، فإنكم إذا قلتم أصاب كلَّ عبد في السماء أو بين السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو".

وأخرجه مسلم (402/ 55)، ولفظه:"فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات للَّه والصلوات والطيبات. . . ".

(3)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 382).

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1521

- وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه تركه، إنما فعله وداوم عليه، وفعله كذلك الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينقل عنهم أنهم تركوا ذلك التشهد والجلوس له، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(1)

.

ولا شك أن الحق مع الذين يقولون بوجوب التشهد الأخير وبوجوب الجلوس له.

الثاني: ذهب أبو حنيفة

(2)

ومالك

(3)

إلى عدم وجوبهما -هذا من حيث الإطلاق-؛ لكن عندما نحرر القول في مذهب المالكية لا نجد أنه قول واحد، فهناك رواية للإمام مالك أنه يجب الجلوس بمقدار التشهد، بمعنى أنه يجب على الإنسان أن يجلس القدر الذي يتلو فيه التشهد، وهو مذهب الحنفية، فهم يقولون: إن التشهد الأخير ليس بواجب لكن يجب على المرء أن يجلس بمقدار التشهد

(4)

.

وأما الإمام مالك فاختلفت عنه الروايات:

إحداها: رواية أن التشهد والجلوس ليسا بواجبين كما ذكر المؤلف.

والثانية: أن الجلوس بمقدار التشهد واجب، وبذلك يلتقي قول مالك مع قول الحنفية

(5)

.

واحتجوا بحديث المسيء صلاته، قالوا: لو كان ركنًا كما تقولون

(1)

تقدَّم.

(2)

سبق عن الأحناف أن التشهد الأخير واجب والجلوس له فرض. وليس كما ذهب الشارح.

(3)

المالكية على عدم وجوب التشهد، لكن قالوا بوجوب الجلوس للتشهد الأخير وهي جلسة السلام كما سبق.

انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 240، 241)، وفيه قال:" (قوله: وجلوس لسلام)؛ أي: لأجل إيقاع السلام؛ فالجزء الأخير من الجلوس الذي يوقع فيه السلام فرض وما قبله سنة".

(4)

سبق توضيح ذلك.

(5)

سبق.

ص: 1522

- أي: أنكم قلتم: إن حديث المسيء إنما بَيَّن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأركان، وقلتم: إن من ترك التشهد الأخير والجلولس له إنما تبطل صلاته -بينما لم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك الحكم لذلك الرجل الذي جهل ما هو أبسط منه؛ وهو الاطمئنان في الركوع وفي السجود؛ فكونه لم يبين له ذلك دليل على عدم وجوبه

(1)

.

‌خلاصة المسألة في بيان حكم التشهد:

والقول في هذه المسألة على قسمين:

الأول: حكم التشهد هل هو واجب أم لا، والخلاف فيه ليس في قضية أنه واجب بمعنى الوجوب الذي يسقط بالنسيان أو يجبر، فالذين يقولون بوجوبه يرون أنه ركن وأن الإنسان لو تركه بطلت صلاته.

إذن، فهذه المسألة ليس الخلاف فيها سهلًا؛ فالذين يقولون بوجوبه يرون أن الصلاة تبطل بتركه.

الثاني: يكون في المختار منه، وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم علَّم عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه التشهد كما في "الصحيحين"

(2)

، وعلم عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه التشهد قال:"كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، وهذا في "صحيح مسلم"

(3)

، وهناك أيضًا دعاء التشهد الذي كان

(1)

انظر: "الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 251)، وفيه قال:"التشهدان جميعًا مسنونان غير مفروضين. خلافًا للشافعي في إيجابه الأخير، ولغيره في إيجابه إياهما؛ لقوله عليه السلام للأعرابي لما علمه الصلاة: "ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك" ففيه دليلان:

أحدهما: أن التشهد لو كان مفروضًا لعلمه إياه مع علمه بأنه لا يحسن الصلاة.

والآخر: قوله: "فقد تمت صلاتك" فحكم بتمامها مع عدم هذا، ولأنه ذكر يختص بالجلوس فلم يكن فرضًا كالأول".

(2)

تقدَّم.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1523

يقوله عمر رضي الله عنه

(1)

، وقد أخذ به الإمام مالك كما سيأتي، وكان يقوله عمر على المنبر أو يعلمه الناس، وأنه لم ينكر ذلك أحد عليه، وهذا سيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه في موضعه

(2)

.

فالخلاصة في ذلك: أن العلماء قد اختلفوا في هذه المسأله وأن كلًّا منهم قد استدل بأدلة؛ فالذين قالوا بعدم الوجوب عمدتهم حديث المسيء صلاته، والرد عليهم لا حجة فيه، فكونهم يقولون: إنه ذكر الأركان هذا غير مسلم لأن حديث المسيء لم يذكر النية والنية مجمع عليها بين الجمهور؛ فكل أصحاب المذاهب الأربعة متفقون على أن النية شرط في الصلاة، ومع ذلك لم تذكر؛ إذن حديث المسيء ليس بحجة على قولهم.

ولو نناقش المذاهب واحدًا واحدًا يمكننا القول بأن النية لم تذكر في حديث المسيء صلاته، ومالك وأبو حنيفة يريان اشتراط النية

(3)

، فهذا الحديث إذن حجة عليهم، فقد استدلوا به وقالوا بأن التشهد لم يذكر فيه فهو إذن ليس بواجب

(4)

.

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 90) عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري: أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول: قولوا: التحيات للَّه، الزاكيات للَّه، الطيبات الصلوات للَّه، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". وصححه الألباني في "صفة صلاة النبي" (3/ 901).

(2)

انظر: "المعونة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 224)، وفيه قال:"والاختيار عندنا من ألفاظه تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو: "التحيات للَّه الزاكيات للَّه الطيبات الصلوات للَّه، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد اللَّه ورسوله"، وإنما اخترنا ذلك لأن عمر علمه الناس على المنبر فلم ينكر عليه أحد وهو إمام، ولأن ألفاظه متفق على نقله وثبوتها".

(3)

سبقت هذه المسألة.

(4)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 463)، وفيه قال:"أما الجواب عن حديث المسيء صلاته فقال أصحابنا: إنما لم يذكره له لأنه كان معلومًا عنده، ولهذا لم يذكر له النية وقد أجمعنا على وجوبها ولم يذكر القعود للتشهد".

ص: 1524

ونرد على المالكية في قولهم: إن الجلوس للتشهد واجب، فنقول لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر للمسيء صلاته الجلوس للتشهد؛ إذن فلماذا أوجبتموه؟!

والحاصل: أنكم خرجتم عن حديث المسيء صلاته إلى أدلة أُخرى، فما دمتم أوجبتم الجلوس فعليكم أن توجبوا التشهد كذلك.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ القِيَاسِ لِظَاهِرِ الآثَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ القِيَاسَ يَقْتَضِي إِلْحَاقَهُ بِسَائِرِ الأَرْكَانِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فِي الصَّلَاةِ، لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ القُرْآنِ، وَأَنَّ التَّشَهُّدَ لَيْسَ بِقُرْآنِ فَيَجِبُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ"

(1)

، يَقْتَضِي وُجُوبَهُ).

لم يكن الخلاف هنا خلاف قياس وآثار، وإنما هو في وجود أدلة تمسك بها بعض العلماء، وأدلة خاصة اعتبرها الآخرون نصًّا في المسألة فأوجبوا ذلك

(2)

.

لكن حقيقةً هذا قياس ضعيف؛ لأن القياس على القرآن إنما هو قياس مع الفارق، فيؤدي ذلك إلى ضعفه وهو غير مسلَّم به، ولا حاجة للقياس هنا، فالمسألة لم تكن خلافًا في القياسات، وإنما الخلاف أن هؤلاء استدلوا بأدلة والآخرون استدلوا بأدلة أُخرى.

فالمؤلف يريد أن يستنبط من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن هذا يقتضي تأكده، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤكد ذلك الأمر عليهم ويكرره حتى استقر في نفوسهم، وهذا دليل على وجوبه.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

سبق ذكر هذا.

ص: 1525

* قوله: (مَعَ أَنَّ الأَصْلَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ فِي الصَّلَاةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى الوُجُوبِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ)

(1)

.

الأصل في الأمر إذا ورد: أنه يحمل على الوجوب، لكن ذلك ما لم توجد قرينة تصرفه إلى غير ذلك.

* قوله: (وَالأَصْلُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ مَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا اتُّفِقَ عَلَيْهِ أَوْ صُرِّحَ بِوُجُوبِهِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ إِلَّا مَا صُرِّحَ بِهِ، وَنُصَّ عَلَيْهِ، فَهُمَا كَمَا تَرَى فَصْلَانِ مُتَعَارِضَانِ).

والأقوال محمولة على الوجوب أصلًا، وأما الأفعال فليست كذلك، وإنما تحتاج إلى دليل

(2)

، لكن الذين يقولون بأن الأفعال محمولة على الوجوب يقوُّون ذلك بحديث:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(3)

، وحديث:"خذوا عني مناسككم"

(4)

في الحج.

(1)

انظر: "الإحكام في أصول الأحكام"، للآمدي (1/ 178، 178)، وفيه قال:"وأفعاله عليه السلام قائمة مقام أقواله في بيان المجمل وتخصيص العموم وتقييد المطلق من الكتاب والسنة، فكان فعله محمولًا على الوجوب كالقول، كما أن فعله احتمل أن يكون واجبًا واحتمل ألا يكون واجبًا، واحتمال كونه واجبًا أظهر من احتمال كونه ليس بواجب، لأن الظاهر من النبي عليه السلام أنه لا يختار لنفسه سوى الأكمل والأفضل، والواجب أكمل مما ليس بواجب".

(2)

وذلك لاحتمال أن تكون للندب أو الإباحة أو تكون خاصة به صلى الله عليه وسلم، فلا يكون عليه العمل.

قال الآمدي: "إذا فعل النبي عليه السلام فعلًا ولم يكن بيانًا لخطاب سابق، ولا قام الدليل على أنه من خوأصه، وعلمت لنا صفته من الوجوب أو الندب أو الإباحة إما بنصه عليه السلام على ذلك وتعريفه لنا أو بغير ذلك من الأدلة، فمعظم الأئمة من الفقهاء والمتكلمين متفقون على أننا متعبَّدون بالتأسي به في فعله واجبًا كان أو مندوبًا أو مباحًا". انظر: "الإحكام في أصول الأحكام"(1/ 186).

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1526

والمؤلف يريد أن يوضح أنه ليس معنى هذا أن كل ما ثبت وجوبه بنص صحيح صريح في الصلاة ينبغي أن يلحق به غيره، فالقراءة وجوبهما متأكد ومتعين لكن ليس لنا أن نلحق بها التشهد، فكل كلامه يدور حول القياس.

أما عن المختار من التشهد:

* قوله: (وَأَمَّا المُخْتَارُ مِنَ التَّشَهُّدِ، فَإِنَّ مَالِكًا رحمه الله اخْتَارَ تَشَهُّدَ عُمَرَ رضي الله عنه الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ النَّاسَ عَلَى المِنْبَرِ)

(1)

.

لو نضرب مثالًا تمهيديًا لهذه المسألة نقول: إن في علم القراءات هناك قراءات مختلفة تُعرف بالقراءات السبع، أو القراءات العشر، فمثلًا قوله تعالى:{وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68]، "والعنهم لعنًا كثيرًا"

(2)

. فلكل قراءةٍ توجيه يعرفه الذين درسوا هذا العلم

(3)

.

وكذلك نجد أيضًا أحكامًا في الصلاة ورد فيها دليلان مختلفان، فقد ورد مثلًا في رفع اليدين أنهما يرفعان إلى المنكبين وهذا رأي جمهور العلماء، والحنفية يرون أنه يرفعهما إلى الأذنين، وكل ذلك صحيح.

وقول الجمهور: بأنه إذا كبر يرفع يديه إلى منكبيه، ولو رفعهما إلى الأذنين فلا يقولون بأنه أخطأ ولا أنه خالف السنة، لكن يرون أن تلك الأحاديث أقوى وأشهر فقدموها، وخالفهم الحنفية فقدموا غير أدلة الجمهور، وهناك أمثلة كثيرة جدًّا على ذلك، فقال العلماء بجواز هذا وجواز ذاك

(4)

.

(1)

سبق.

(2)

قرأ عاصم وحده: {لَعْنًا كَبِيرًا} بالباء، وقرأ الباقون (كثيرًا) بالثاء. انظر:"معاني القراءات"، للأزهري (2/ 286).

(3)

قال أبو علي الفارسي: "الكبر مثل العظم، والكبر وصف للَّعن بالكبر، كالعظم، والكثرة أشبه بالمعنى، لأنَّهم يلعنون مرَّة، وقد جاء: يلعنهم اللَّه ويلعنهم اللاعنون؛ فالكثرة أشبه بالمرار المتكررة من الكبر". انظر: "الحجة للقراء السبعة"(5/ 481).

(4)

سبقت هذه المسألة.

ص: 1527

ومن ذلك ما نحن بصدده وهو التشهد فقد ورد فيه ثلاث صفات:

الأول: تشهد عمر رضي الله عنه الذي أخذ به الإمام مالك

(1)

.

الثاني: وهو تشهد عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه، وقد أخذ به الإمام الشافعي

(2)

.

الثالث: تشهد عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه الذي أخذ به الإمامان أبو حنيفة

(3)

، وأحمد

(4)

، وهو أقوى سندًا من غيره لأنه في "الصحيحين"

(5)

.

ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن ذلك قال: "أنا آخذ بتشهد

(1)

انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 251)، وفيه قال:" (قوله: وهو الذي علمه عمر بن الخطاب للناس. . .) إلخ، أي: هو التحيات للَّه الزاكيات للَّه الطيبات الصلوات للَّه، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (قوله: ولذا)؛ أي: ولأجل جريان اللفظ الوارد عن عمر مجرى الخبر المتواتر اختاره الإمام".

(2)

انظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 53)، وفيه قال:" (وأكمل التشهد مشهور) ورد فيه أخبار صحيحة اختار الإمام الشافعي رضي الله عنه منها خبر ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد فكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات للَّه، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه". رواه مسلم".

(3)

انظر: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 74)، وفيه قال:" (ويتشهد كابن مسعود -رضي اللَّه تعالى عنه-) وهو: التحيات للَّه والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

(4)

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 357)، وفيه قال:" (فيقول) تفسير للتشهد (التحيات للَّه، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) لحديث ابن مسعود. . . (وبأي تشهُّد تشهَّد مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز) كتشهد ابن عباس".

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1528

عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه ولا أنكر على من يأخذ بغير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أصحابه رضي الله عنهم هذا وذاك"

(1)

.

ولذلك لما قيل له: "نقل عن إسحاق بن راهويه أنه يقول: من لم يقل بتشهد عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه بطلت صلاته، فأنكر الإمام أحمد ذلك وقال: لا أقول به لأن هذه صفات علمها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه"

(2)

.

وهكذا شأن أهل الحديث الذين أعطاهم اللَّه سبحانه وتعالى بسطة

(3)

في العلم وفقهًا في الدين، فليس حقيقة الفقه كما يتصور البعض أنه مجرد قراءة للحديث ثم إصدار للحكم، فأمتال هؤلاء الأئمة كانوا فقهاء ومحدثين، وقد أفنوا أعمارهم في خدمة هذا الدين من كل نواحيه عقيدة وحديثًا وفقهًا، وكانوا يربطون بين العلوم؛ لأن علوم الشريعة لا ينفصل بعضها عن بعض، فهي بمثابة شجرة لها أصل؛ أصلها كتاب اللَّه عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم الأغصان التي تتفرع عنها إنما هي علوم أُخرى.

وأصل العلوم: علم العقيدة وتوحيد اللَّه سبحانه وتعالى الذي التقت حوله دعوة الرسل جميعًا، قال اللَّه تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، ثم تأتي بعد ذلك العلوم الشرعية المعروفة من فقه وحديث وغيرها، فهي تتغذى من هذا الأصل -كتاب اللَّه عز وجل وسنة رسوله-، والإسلام بني على خمس؛ أولها شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، ومتى ما فسد هذا الركن فإن بقية الأعمال تفسد.

(1)

سبق.

(2)

الذي وقفت عليه أنه قاله فيمن ترك الصلاة على النبي في التشهد.

انظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 388)، وفيه قال:"قال المروذي: قيل لأبي عبد اللَّه: إن ابن راهويه يقول: لو أن رجلًا ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بطلت صلاته. قال: ما أجترئ أن أقول هذا. وقال في موضع: هذا شذوذ. وهذا يدل على أنه لم يوجبها".

(3)

البَسْطةُ: الفضيلة على غيرك. انظر: "العين"، للخليل (7/ 218).

ص: 1529

والمقصود: أن علوم الشريعة الإسلامية كلها مرتبطة لا ينفك بعضها عن بعض

(1)

.

والإمام مالك -إمام دار الهجرة-: أخذ بتشهد عمر رضي الله عنه

(2)

، وقد صح أنه موقوف عليه، وعمر رضي الله عنه لم يأت به من عند نفسه، وقد ألقاه على الناس وهو على المنبر، ولو كان عمر رضي الله عنه أخطأ فيه لما تركه الصحابة، الصحابة رضي الله عنهم لا يجاملون في الحق، وقصة المرأة التي ردت عليه معروفة

(3)

؛ إذن التشهد الوارد عنه مشروع.

وأما الشافعية: فقد أخذوا بحديث عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه وهو في "صحيح مسلم"، ولم يأخذوا بحديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه وهو في "الصحيحين"، وقد ذكروا عدة تعليلات لرأيهم منها قولهم: أولًا نأخذ بحديث عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه، ثم بحديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، وقالوا: لأن هذا جاءت فيه عبارات مقتبسة من القرآن

(4)

.

ونفهم مما سبق: أن كل مذهب من المذاهب له توجيه في اختياراته، فهم ما أخذوا هذا الأمر تشهِّيًا ولا رغبة، وما أخذوه لأن فلانًا قال به،

(1)

أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16/ 21) عن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان".

(2)

سبق.

(3)

ولم أقف عليها مسندة.

وانظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (1/ 308) وفيه قال: روى الزبير بن بكار، عن عمه مصعب بن عبد اللَّه، عن أبيه، قال: قال عمر: "لا تزيدوا في مهور النساء، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال". وذكر نحوه وفيه: فقال عمر: "امرأة أصابت ورجل أخطأ".

(4)

انظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 156)، وفيه قال:"وما اختاره الشافعي من تشهد ابن عباس أولى من وجوه: منها: زيادة على الروايات بقوله: (المباركات)، ولتعليم النبي صلى الله عليه وسلم له كتعليم القرآن، ولتأخره عن رواية غيره، والأخذ بالمتأخر أولى ولقوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وما وافق كتاب اللَّه عز وجل أولى، وبأي هذه الروايات تشهد أجزأه".

ص: 1530

إنما أخذوا هذا على اقتناع مع تسليمهم بصحة الآخر وجوازه.

* قوله: (وَهُوَ: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ").

كلمة التحيات لها عدة معانِ في اللغة، فهي تأتي بمعنى العظمة، وتأتي بمعنى الملك، وتأتي بمعنى البقاء

(1)

، وعلى أي تصريف أو توجيه نوجه فالكلام في محله، فلما نقول العظمة؛ لا شك أن العظمة للَّه، وكذلك الملك فهو للَّه جميعًا، قال اللَّه تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1].

أما الصلوات: فقد ذكروا في معناها أقوالًا، من بينها أنها الصلوات الخمس وقد أخذ به الأكثر.

وأما الطيبات: فهي الأعمال الصالحة.

ومما يجدر بنا التنبيه عليه: أنه أحيانًا تمر علينا عبارات مرور الكرام، لكن عندما نأخذها ونحللها نجد أنها تحمل معاني عظيمة، ولو وقفنا عندها شرحًا وتحليلًا سنخرج عن مقصود الكتاب.

والمقصود: أن كل الكلمات التي خرجت من مشكاة النبوة إنما هي من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي. . . " ومنها: "جوامع الكلم"

(2)

.

(1)

انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه"، للنووي (ص 69)، وفيه قال:"التحيات: جمع تحية، وهي الملك، وقيل: البقاء الدائم، وقيل: العظمة، وقيل: السلامة؛ أي: السلامة من الآفات وجميع وجوه النقص".

(2)

أخرج البخاري (335)، واللفظ له، ومسلم (521/ 3)، عن جابر بن عبد اللَّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا. . . " الحديث. =

ص: 1531

والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يقول الكلمات القليلة التي تحمل المعاني العظيمة.

ولا ننسى أن الصحابة رضي الله عنهم تربوا في مدرسته، ونهلوا من علمه وأخذوا من مشكاته صلى الله عليه وسلم، فتأثروا به سلوكًا ومنهجًا وسيرة واقتداءً واقتباسًا؛ ولذلك أرشد وأوصى عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أن يقتدى بأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"مَن كان مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات"

(1)

.

وقد سميت هذه التحيات بجميع ألفاظها التي وردت بالتشهد لذكر الشهادتين فيها، ومعلوم أن نواة الدين الشهادتان، وقد جاء ذكرهما في كل من تشهد عمر، وتشهد عبد اللَّه بن عباس، وتشهد عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنهم أجمعين.

وكل هذه الأمور -التحيات والزاكيات والطيبات- إنما هي تصب في هذا المقام لأجل شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه؛ فقد أنزلت الكتب وأرسلت الرسل ورفعت راية الجهاد لأجلها، ولأجلها أيضًا قام العدل وقام الميزان يوم القيامة، قال اللَّه تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].

وفي حديث البطاقة أو أعمال الإنسان أنها توضع في الميزان، وأنه يؤتى بهذه الكلمة فترجح بها، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ

= وأخرج مسلم (523)، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم. . . " الحديث.

(1)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 305). وضعفه الألباني في "مشكاة المصابيح"(193).

ص: 1532

فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ"

(1)

.

فهذه الكلمة إذن خفيفة على اللسان لكنها ثقيلة في الميزان، ولذلك عندما يضيق صدر المرء فيكررها يجد أن نفسه قد اطمأنت، وأن صدره قد انشرح، وأن فؤاده قد استقر، قال اللَّه تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28]، ولا شك أن خير ما يكرره المسلم هذه الكلمة، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"

(2)

.

* قوله: (وَاخْتَارَ أَهْلُ الكُوفَةِ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

وَغَيْرُهُ تَشَهُّدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الحَدِيثِ؛ لِثُبُوتِ نَقْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ:"التَّحِيَّاتُ للَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ")

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي (2639) عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(135).

(2)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 422) عن طلحة بن عبيد اللَّه بن كريز، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1503).

(3)

سبق ذكر مذهبهم.

(4)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (1/ 484 - 485)، وفيه قال: "وتشهد ابن مسعود ثابت أيضًا من جهة النقل عند جميع أهل الحديث مرفوع إلى النبي عليه السلام. . . وبه قال الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث. . . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد =

ص: 1533

ولا شك أننا عندما نريد أن نوازن بين هذه الروايات التي وردت، فنحن أيضًا مع الذين اختاروا تشهد عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، ولا نختاره لأنه رأي لفلان، ولكننا عندما نقيم الميزان لنقارن بين الأحاديث التي وردت في ذلك نجد أن الذي ورد في "الصحيحين" هو حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، وهو أيضًا الذي أخذ به أكثر العلماء وأهل الحديث، وذلك لتقدُّمه من حيث قوة السند، وليس معنى هذا أن غيره سنده ضعيف، لكن هذا أقواها سندًا، ولنا أن نقول كذلك أنها كلها صحيحة وهذا أصحها، وللمسلم أن يأخذ بهذا أو يأخذ بذاك.

وقد نرجحه أيضًا لما نجد فيه من سهولة في الحفظ مقارنة بغيره، وربما نقول هذا لأننا تعودنا على حفظه في الصغر، واللَّه أعلم بالصواب.

* قوله: (وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ تَشَهُّدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ

(1)

، الَّذِي رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ").

وأما سبب ترجيح الشافعية لهذه الرواية، فقالوا

(2)

:

- لأن فيه اقتباسًا.

- ولأن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه من صغار الصحابة، ولا شك أنه تعلمه من النبي صلى الله عليه وسلم متأخرًا، أي: أن هذا التشهد جاء في آخر الأمر.

= وأبو ثور: أحب التشهد إلينا تشهد ابن مسعود الذي رواه عن النبي عليه السلام، وهو قول أحمد".

(1)

سبق ذكر هذا.

(2)

سبق ذكر هذا من كلام الماوردي.

ص: 1534

- وقوله في الحديث: "يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" قالوا: وهذا دليل على تأكيده.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ ظُنُونِهِمْ فِي الأَرْجَحِ مِنْهَا، فَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ رُجْحَانُ حَدِيثٍ مَا مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ، مَالَ إِلَيْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا كلَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كالأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى الجَنَائِزِ وَفِي العِيدَيْنِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَوَاتَرَ نَقْلُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)

(1)

.

فقد مر بنا أن للأذان خمس صيغ: أذان بلال رضي الله عنه وغيره، وبيَّنَّا أنها في النهاية كلها صحيحة، فالحنفية والحنابلة اختاروا أذان بلال، والمالكية اختاروا أذانًا آخر، والشافعية اختاروا كذلك، واختلف أيضًا الشافعية مع المالكية في الترجيح وغيره.

والمؤلف ذكر هذه المسألة -اختلاف صيغ الأذان- وغيرها من التكبير على الجنائز وفي العيدين لاشتراكها مع مسألة صيغ التشهد في كونها حصل فيها خلاف ما هو المقدم وما هو المختار، وكلها صحيحة وجائزة

(2)

.

وقد أحسن المؤلف في قوله: (وهذا هو الصواب)، فالحق أن هذه التشهدات كلها صحيحة، وللإنسان أن يختار ما يرى أنه أرجح من غيره، وأما نحن فنرجح ما جاء في حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

* قوله: (وَقَدِ اشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ، وَقَالَ: إِنَّهَا فَرْضٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّسْلِيمَ هُوَ التَّسْلِيمُ مِنَ

(1)

سبق ذكر التخيير عنهم.

(2)

سبق.

ص: 1535

الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ التَّسْلِيمُ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَقِبَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ)

(1)

.

فجمهور العلماء يقولون بأن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ليست بواجبة

(2)

، وهي مشروعة، واللَّه سبحانه وتعالى يقول في سورة الأحزاب:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} .

وفي الحديث: "من صلى علي صلاة واحدة صلى اللَّه عليه عشرًا".

فالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مطلوبة وفيها فضل عظيم، لكن المسألة تتعلق بحكم، وهو هل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة في التشهد أم لا؟

بمعنى أنه إذا قلت أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده

(1)

ستأتي.

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 108)؛ حيث قال في آداب الصلاة:"قال رحمه الله (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء) يعني: بعد التشهد في القعدة الأخيرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بالثناء على اللَّه تعالى، ثم بالصلاة، ثم بالدعاء"".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 251)؛ حيث قال في مندوبات الصلاة:" (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) بعد التشهد وقبل الدعاء بأي صيغة".

وفي مذهب الشافعية ركن في الصلاة. انظر: "الإقناع"، للشربيني (1/ 139)، وفيه قال:" (و) الثامن عشر من أركان الصلاة (ترتيبها)؛ أي: الأركان (كما ذكرناه) في عددها المشتمل على قرن النية بالتكبير، وجعلهما مع القراءة في القيام، وجعل التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القعود".

وفي مذهب الحنابلة: اختلفت الرواية في حكمه. انظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 587)، وفيه قال:"اختلف في حكمها، فعنه أنها فرض، وعنه أنه سنة، وعنه أنها واجبة، وهي اختيار الخرقي، وأبي البركات، ونقل عنه أبو زرعة رجوعه عن الثانية. واللَّه أعلم".

والمذهب على أنها ركن وأن من تركها يعيد الصلاة. انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 359)، وفيه قال:" (وتسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الصلاة) فإنها ركن في التشهد الأخير وكذا في خطبة الجمعة (بتأكد) لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] الآية والأحاديث بها شهيرة".

ص: 1536

ورسوله، هل يلزمك أن تقول الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنها وردت في الأحاديث وقد علمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقد قال الصحابي كعب بن عجرة رضي الله عنه صاحب القصة التي وردت في الحج-: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ:"قُولُوا: اللَّهُم صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيد مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

إذن؛ الرسول صلى الله عليه وسلم علمهم الصلاة عليه، لكن الكلام هنا في مسألة حكم هذه الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، مع العلم أن بعض العلماء لا يراها أصلًا، ومنهم من أوجبها وهو مذهب الشافعية، ورواية لأحمد، بل يقول الحنابلة هي الرواية الصحيحة عن الإمام أحمد.

ودليل القائلين بوجوبها: قول اللَّه سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.

قال الإمام الشافعي في توجيه هذه الآية: "هذه الآية تدل على وجوب الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأدنى أحوالى أن يكون ذلك في الصلاة"

(1)

.

وقوله: (في الصلاة) يعني: في التشهد، فيجب أن يقول المصلي ذلك، وذهب إلى أن هذا التسليم المذكور في الآية هو التسليم من الصلاة، بينما خالفه الجمهور في ذلك وقالوا: إنه التسليم الذي يؤتى به عقب الصلاة عليه.

ومعلوم أن الإمام الشافعي هو أول من أظهر علم الأصول، والحنفية يقولون إنهم كتبوا في ذلك ولكن ما رأيناه، وما وصل إلينا أن أول من

(1)

انظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 523، 524)، وفيه قال:"والأصل في ذلك قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ}، وقد أجمع العلماء على عدم وجوبها في غير الصلاة فتعين وجوبها فيها".

ص: 1537

دوَّن علم الأصول وخطه بقلمه هو الإمام الشافعي في كتابه العظيم "الرسالة"

(1)

.

أما أكثر العلماء -الحنفية والمالكية وأحمد فى الرواية الأخرى- يقولون بعدم وجوبها

(2)

، ولهم أدلة هي:

- حديث المسيء صلاته، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلمها إياه.

- حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه عندما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم التشهد، فقال له:"التحيات للَّه. . . " إلى أن قال: "أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" ثم قال بعد ذلك: "إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك"، فقالوا: لو كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة لبينها لعبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، ولما قال له:"فقد تمت صلاتك" قال له ذلك أيضًا قبل أن يذكر الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على عدم وجوبها

(3)

.

ونقول: لا شك أنه لا ينبغى للإنسان حقيقة أن يترك الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا المقام.

(1)

انظر: "البحر المحيط في أصول الفقه"، للزركشي (1/ 18)، وفيه قال:"الشافعي رضي الله عنه أول من صنف في أصول الفقه صنف فيه كتاب "الرسالة"، وكتاب "أحكام القرآن"، و"اختلاف الحديث"، و"إبطال الاستحسان" وكتاب "جماع العلم" وكتاب "القياس" الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم، ثم تبعه المصنفون في الأصول. قال الإمام أحمد بن حنبل: لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي. وقال الجويني في "شرح الرسالة": لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها".

(2)

سبق.

(3)

انظر: "الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 252)، وفيه قال:"الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسنونة وليست بشرط في صحة الصلاة، خلافًا للشافعي وابن المواز في قولهما إنها واجبة في التشهد الأخير، لقوله في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد: "فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك"، ولأن الجلوس لم يكن من أركان الصلاة فلم تكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحقة فيه كالقيام والسجود، ولأن الصلاة على الأنبياء ليس بشرط في صحة الصلاة اعتبارًا بسائر الأنبياء؛ ولأنه ذكر آدمي في تضاعيف الصلاة منفصل عن القرآن فلم يكن شرطًا".

ص: 1538

* قوله: (وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ أَنْ يَتَعَوَّذَ المُتَشَهِّدُ مِنَ الأَرْبَعِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الحَدِيثِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهَا فِي آخِرِ تَشَهُّدِهِ

(1)

. وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ أَرْبَعٍ. . . ". الحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)

(2)

.

حقيقة: لم يقل بهذا القول أحد من الأئمة؛ أي: بوجوب أن يتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال

(3)

. ولا شك أنه وردت أحاديث -بعضها في الصحيحين-

(1)

أخرجه النسائي (1310)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليتعوذ باللَّه من أربع: من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال، ثم يدعو لنفسه بما بدا له". وصححه الألباني.

(2)

أخرجه مسلم (588/ 130)، عن أبي هريرة.

(3)

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 271)، وفيه قال:"قوله: (وإن كان في آخر الصلاة) إلى آخره؛ لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ باللَّه من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال"".

وانظر في مذهب المالكية: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 47)، وفيه قال:"والدعاء بعدها مستحب، وأوجب الظاهرية أن يستعيذ من أربع". وانظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 251).

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 54)، حيث قال في سنية الدعاء:" (ومأثوره)، أي: منقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم (أفضل) من غيره، (ومنه: "اللهم اغفر لي ما قدمت. . . " إلخ ". . . اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال) ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 202، 203)، وفيه قال:" (ثم يقول ندبًا: أعوذ باللَّه من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات)؛ أي: الحياة والموت (ومن فتنة المسيح الدجال) ".

ص: 1539

حضت على قول ذلك ورغبت فيه، لكن لم يقل بذلك أحد من العلماء المشهورين.

والترتيب الذي أتى به المؤلف جاء في رواية، بينما في روايات أُخرى ورد الترتيب مخالفًا لهذه الرواية.

والحاصل: أن تقديم أو تأخير بعض هذه الأربعة لا يضر، فكل ذلك وارد وفيه سعة والحمد للَّه، وأما الذي جعل أهل الظاهر يقولون بالوجوب ورود لفظ:"فليتعوذ" وهو أمرٌ

(1)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا فِي التَّسْلِيمِ مِنَ الصَّلَاةِ).

نجد في بعض الكتب المطولة، إذا أراد القارئ أن يصل إلى مسألة "التسليم"، فإنه يحتاج لأربعة أشهر على الأقل، ولكن لأنَّ المؤلف يأخذ بأمهات المسائل، وكذلك لأننا أحيانًا نعرض لكثيرٍ من المسائل التي ليست في الكتاب، ثم نرى المسألة وننبّه عليها؛ فيحسن بنا أن نأخذ مثل هذا الكتاب المجمل؛ حتى نستطيع أن نسير ونُسرع قدر المستطاع من باب الاختصار.

ومع ذلك، فلا نزال في أوله، حيث مسألة "الخروج من الصلاة"، ولعلِّي أذكر حديث علِيٍّ رضي الله عنه الذي مرَّ بنا في عدة مسائل، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الصلاة الطُّهور

(2)

، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"

(3)

.

إذًا، مفتاح الدخول إلى الصلاة: الطهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

انظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (2/ 301)، وفيه قال:"ويلزمه فرض أن يقول إذا فرغ من التشهد في كلتي الجلستين: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال" وهذا فرض كالتشهد ولا فرق".

(2)

الطُّهور على مثال فُعول: الماء الذي يتطهر به. انظر: "الزاهر" للأزهري (ص 19). ويُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 289) حيث قال: "وإنما سمي الوضوء مفتاحًا لأن الحدث مانع من الصلاة كالغلق على الباب يمنع من دخوله إلا بمفتاح".

(3)

أخرجه أبو داود (61) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(55).

ص: 1540

"لا يقبل اللَّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"

(1)

.

وقال: "لا يقبل اللَّه صلاةً بغير طهور، ولا صدقةً من غلول

(2)

"

(3)

.

وقد ذكر اللَّه عز وجل في آية "المائدة" التي جاءت بإيجاب الطهارة، حيث قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة: 6].

كذلك قال صلوات اللَّه عليه وسلامه: "وتحريمها التكبير"

(4)

؛ لأن الإنسان عندما يُكبِّر تكبيرة الإحرام، يكون قد دخل في الصلاة؛ فَحَرُمتْ عليه أشياء كان يجوز له أن يفعلها مسبقًا، كأنْ يتكلم، أو يأكل، أو يشرب. . .، إلى غير ذلك من الأمور الممنوعة على المصلي في صلاته.

وقوله: "وتحليلها التسليم"، أيْ: كما أنه تَحرُم عليه أمور بتكبيرة الإحرام، فكذلك يحل له ما مُنع عليه بالتسليم.

وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم "كان يخرج من الصلاة فيسلم عن يمينه

(1)

أخرجه البخاري (6954)، ومسلم (225).

(2)

الغلول: الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (3/ 380).

(3)

أخرجه مسلم (224).

(4)

"تحريمها التكبير: أي أن المصلي -يدخلها- بالتكبير والدخول في الصلاة صار ممنوعًا من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها، فقيل للتكبير: تحريم؛ لمنعه المصلي من ذلك، ولهذا سميت تكبيرة الإحرام: أي الإحرام بالصلاة. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (1/ 373).

ص: 1541

حتى يُرَى بياض خده الأيمن، ويسلم عن يساره حتى يُرى بياض خده الأيسر"

(1)

.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يبالغ في سلامه من اليسار حتى يُرى بياض خديه"

(2)

، بمعنى أنه يلتفت إلى اليسار أكثر من المعتاد.

وللعلماء كلام كثير في التسليم من الصلاة، فجمهورهم يُوجِبُونَ التسليمة الأولى، وما عدا ذلك؛ فَسُنَّة.

وهناك من يجعلون التسليم ثلاثًا، فواحدة عن يمينه التي يحل بها الخروج من الصلاة، والثانية للإمام، والثالثة للمأمومين

(3)

.

وللفقهاء كلام كثير في هذه المسألة لم يتعرض له المؤلف، وربما يأتي بشيء مناسب ليُذكر لاحقًا.

* قوله: (فَقَالَ الجُمْهُورُ بِوُجُوبِهِ).

فجمهور العلماء من المالكية

(4)

،. . . . .

(1)

أخرجه النسائي (1325) عن عبد اللَّه بن مسعود أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة اللَّه؛ حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة اللَّه؛ حتى يرى بياض خده الأيسر. وصححه الألباني في "المشكاة"(950).

وأصله في مسلم (582/ 119) عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال:"كنت أرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه، وعن يساره، حتى أرى بياض خده".

(2)

أخرجه أحمد في المسند (1564) عن سعد بن مالك، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خديه". وصححه الأرناؤوط.

(3)

سيأتي الكلام عنها.

(4)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 241) حيث ذكر من واجبات الصلاة (التسليم) فقال: "فلا بد من: (السلام عليكم) أي فلو أسقط الميم من أحدٍ اللفظين لم يجزه فلا بد من صيغة الجمع سواء كان المصلي إمامًا أو مأمومًا أو فذًّا إذ لا يخلو من جماعة من الملائكة مصاحبين له أقلهم الحفظة ولا يضر زيادة ورحمة اللَّه وبركاته لأنها خارجة عن الصلاة وظاهر كلام أهل المذهب أنها غير سنة. . وقوله فلا بد من =

ص: 1542

والشافعية

(1)

، والحنابلة

(2)

يوجبون التسليم من الصلاة، ويرَوْنَ أنه لا يجوز للإنسان أن يخرج من الصلاة إلَّا بسَلام؛ لأنه كما دخل فيها مكبرًا تكبيرة الإحرام، فكذلك ينبغي أن يخرج منها بأمرٍ مشروع ألَا وهو السلام.

أما الحنفية

(3)

فلا يرون ذلك، بل له أن يخرج منها بأي أمرٍ يُخرجه، كانتقاض وضوئه أو إذا أكل، أو حتى انصرف منها دون تسليم، ونحو ذلك، فكله عندهم لا يبطل الصلاة، وإن كان أصلًا من مبطلاتها، أما الآخرون فيرونها من المبطلات.

= السلام عليكم بالعربية أي للقادر عليها، ولا يكفيه الخروج بالنية ولا بمرادفها من لغة أُخرى وأما العاجز عنها فيجب عليه الخروج بالنية قطعًا". وانظر:"المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد ابن رشد (1/ 160).

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 385) حيث قال: " (الثاني عشر) من الأركان (السلام) لخبر مسلم "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". . (وأقله السلام عليكم) مرة".

(2)

يُنظر: "كشاف القناع عن متن الإقناع"(1/ 388) حيث قال: "والثالث عشر (التسليمتان) لقوله صلى الله عليه وسلم "وتحليلها التسليم" وقالت عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم صلاته بالتسليم" وثبت ذلك من غير وجه ولأنهما نطق مشروع في أحد طرفيها فكان ركنًا كالطرف الآخر (إلا في صلاة جنازة وسجود تلاوة وشكر) فيخرج منها بتسليمة واحدة".

(3)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(1/ 448 - 449) حيث ذكر أن الخروج من الصلاة يحصل بأي وجه كان من قول أو فعل ينافي الصلاة بعد تمامها كالضحك والقهقهة، فقال:" (قوله ومنها الخروج بصنعه إلخ) أي بصنع المصلي أي فعله الاختيار، بأي وجه كان من قول أو فعل ينافي الصلاة بعد تمامها كما في البحر؛ وذلك بأن يبني على صلاته صلاةٍ ما فرضًا أو نفلًا، أو يضحك قهقهة، أو يحدث عمدًا، أو يتكلم، أو يذهب، أو يسلم تتارخانية، ومنه ما لو حاذته امرأة لأن المحاذاة مفاعلة فكان الفعل موجودًا من الرجل بصنعه كوجوده من المرأة وإن لم يكن للرجل فيه اختيار، وتمامه في النهاية، واحترز بصنعه عما لو كان سماويًّا كأن سبقه الحدث (قوله كفعله المنافي لها) الأولى التعبير بالباء بدل الكاف ليكون تفسيرًا نقوله بصنعه، إلا أن يقال أراد بالخروج بصنعه الخروج بلفظ السلام حملًا للمطلق على الكمال لأنه الواجب" وانظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 54).

ص: 1543

إذًا، ليس للمسلم أن يخرج من صلاته إلا بالتسليم عند الجمهور، سِوَى الحنفية.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالَّذِينَ أَوْجَبُوهُ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الوَاجِبُ عَلَى المُنْفَرِدِ وَالإِمَامِ تَسْلَيمةٌ وَاحِدَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ اثْنَتَانِ).

دليل الجمهور: "وتحليلها التسليم"، وهناك أدلة كثيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره، وقد قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(1)

، لكن عُمدتهم "وتحليلها التسليم"، ولم يُنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه انصرف من صلاةٍ مِن الصلوات دون تسليم، ولا أصحابه رضي الله عنهم؛ لذلك فإن هذا الأمر انتشر، ونقله العلماء جيلًا بعد جيل

(2)

، أما الخروج بغير تسليم؛ فهو اعتماد على أن ذلك لم يُذكر في حديث المسيء صلاته، لكن علينا أن نعلم أن ذلك الحديث سكت عن كثيرٍ مِن الأحكام

(3)

، أما كونهم يستدلون بحديث عبد الرحمن الإفريقي؛ فإنه حديث ضعيف، وسيذكره المؤلف وينبه عليه.

* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ مَذْهَبَ ظَاهِرِ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ

(1)

أخرجه البخاري (6008) عن مالك بن الحويرث، قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن شَبَبَة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رفيقًا رحيمًا، فقال:"ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي. . . " الحديث.

(2)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 136) حيث قال: "وأجمع أهل العلم أن الصلاة لا تتم إلا بالسلام منها، إلا أبا حنيفة، فقال: من قعد في الجلسة الآخرة قدر التشهد، ثم أحدث فصلاته تامة، فذهب إلى أن التحليل يقع بما يضاد الصلاة من فعل أو قول كالسلام".

(3)

يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 280) حيث قال: "فمما لم يذكر فيه -يعني حديث المسيء- صريحًا من الواجبات المتفق عليها النية والقعود الأخير ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه والسلام في آخر الصلاة".

ص: 1544

-عليه الصلاة والسلام فِيهِ: "تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ"، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ تَسْلَيمَتَان، فَلِمَا ثَبَتَ مِنْ "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ"، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ حَمَلَ فِعْلَهُ عَلَى الوُجُوبِ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ لِلْمَأْمُومِ تَسْلِيمَتَيْنِ وَللْإِمَامِ وَاحِدَةً

(1)

، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: إِنَّ المَأْمُومَ يُسَلِّمُ ثَلَاثًا: الوَاحِدَةُ لِلتَّحْلِيلِ، وَالثَّانِيَةُ لِلْإِمَامِ، وَالثَّالِثَةُ لِمَنْ هُوَ عَنْ يَسارِهِ).

هذا قول المؤلف -واللَّه أعلم بحقيقته- فلم أدقق البحث في مذهب المالكية، والعهدة عليه، ولكني أعرف أن هناك من يقول بثلاث تسليمات

(2)

.

* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَذَهَبَ إِلَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الإِفْرِيقِيُّ).

*‌

‌ هنا فائدة:

لا نفهم مِن أنَّ الراوي ضعيف، أي: ضعيف في سلوكه واعتقاده،

(1)

يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 280) حيث قال: " (تسليمة واحدة عن يمينك تقصد بها قبالة وجهك وتتيامن برأسك قليلًا هكذا يفعل الإمام والرجل وحده) ويجهران به إلا أن الإمام يستحب له جزمه، وجزم الإحرام لئلا يسبقه المأموم فيهما. . . وأما المأموم فصفة سلامه أنه (يسلم تسليمة واحدة يتيامن بها قليلًا ولرد أُخرى على الإمام قبالته) أي قبالة الإمام وهو سنة (يشير بها إليه) بقلبه وقيل: برأسه إن كان أمامه وإن كان خلفه أو على يمينه أو على يساره ترك الإشارة برأسه لأنه لا يمكنه ذلك". وانظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 226).

(2)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (17/ 608) حيث قال: "ويسلم المأموم على هذا القول تسليمات ثلاث: واحدة قبالة وجهه واجبة عليه يتحلل بها عن الصلاة، وثانية عن يساره سنة وإن لم يكن على يساره أحد، ثم يرد على الإمام ثالثة يقول كل واحد منهم في ذلك كله: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم".

ص: 1545

بل قد يكون صالحًا فتعتريه غفلة الصالحين

(1)

، أو شيء من النسيان، وهذا الراوي من هذا النوع، فهو رجل صالح، ولكنه ضُعِّف في بعض الأمور.

وقد يَسْرِي إلى بعض الرواةِ الضعفُ في آخر حياتهم، بل قد يُضعَّفوا بالكلية

(2)

.

كما ذُكِر عن ابن لَهِيعَة بأنه طارت أوراقه؛ فصار يُحدِّث من حفظه؛ فكانت روايته ضعيفة، وهذا معروف عند مَن يدرسون عِلم "مصطلح الحديث"

(3)

، و"الجرح والتعديل"

(4)

؛ فلا يُغتر بصلاح إنسان فقط، وليس

(1)

هو لفظ من ألفاظ الجرح المتعلقة بالضبط يقولونه في الراوي الذي لا يشتغل بالحديث وليس من أهله. يُنظر: "عمدة القاري"، للعيني (2/ 150) حيث قال:"وقوم عندهم غفلة إذا لقنوا تلقنوا. . . سئل يحيى بن سعيد عن مالك بن دينار ومحمد بن واسع وحسان بن أبي سنان، قال: ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث". وقد ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية للسهو والغفلة سبعة أسباب: ومنها الاشتغال عن هذا الشأن -يعني الحديث- بغيره فلا ينضبط له ككثير من أهل الزهد والعبادة. انظر: "مجموع الفتاوى"(18/ 45).

(2)

ضعف الراوي من قبل سوء حفظه؛ إما أن يكون سوء الحفظ طارئًا على الراوي لأسباب مختلفة:

إما لكبر سنه: كإسماعيل بن عياش فقد اختلط لما كبر سنه. انظر: "الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط" لسبط ابن العجمي (ص: 56).

أو بسبب ذهاب بصره: كعبد الرزاق الصنعاني فقد ذكر الإمام أحمد أنه عمي في آخر عمره فكان يلقن فيتلقن. انظر "الكواكب النيرات" لابن الكيال (269).

أو بسبب احتراق كتبه: كعبد اللَّه بن لهيعة. انظر: "الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط" لسبط ابن العجمي (ص: 190).

(3)

مصطلح الحديث: قال ابن حجر: "أولى التعاريف له أن يقال فيه هو: معرفة القواعد والمعرفة بحال الراوي والمروي". انظر: "تدريب الراوي" للسيوطي (1/ 25 - 26).

(4)

علم الجرح والتعديل: هو علم يُبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب تلك الألفاظ. انظر:"كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة (1/ 582). ويُنظر: "الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط" لسبط ابن العجمي هامش (ص 190) حيث قال: وعبد اللَّه بن لهيعة -كما رأيناه من كلام الأئمة- صدوق في نفسه غير متهم بالكذب ولم يقصد =

ص: 1546

كل مَن حدَّث يُصدَّق، كما قال عمر رضي الله عنه: "لست بالخِب

(1)

ولا الخب يخدعني"

(2)

.

ويُذكر ذلك عند قول اللَّه تعالى في ذِكر المكر: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30].

وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن، قويًّا ذكيًّا، لا ضعيفًا، وهذا لا يتنافى مع حسن الظن بالمؤمنين، فقد قال اللَّه تعالى:{فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، وهذا في كل شيء.

إذًا، علينا أن نقتدي بالخليفة الراشد عمر، ومع ذلك كان يقول:"إذا بلغني مبلغًا حملته على تسعة وتسعين حسن وواحد سيئ"

(3)

، لكنه في

= الكذب، وإنما جاء ضعفه واختلاطه أنه حدث من حفظه بعد احتراق كتبه، واختلاطه هذا ينسب لهذه العلة أكثر مما ينسب لذهاب عقله وتغيره قبل موته، وإن كان قد وقع له هذا أيضًا قبل موته كما قال أبو جعفر الطبري في تهذيب الآثار. . ورواية العبادلة عنه كابن المبارك وابن وهب صحيحة وأعدل من رواية الآخرين، وقد أنصفه الحاكم بقوله:"لم يقصد الكذب إنما حدث من حفظه بعد احتراق كتبه فأخطأ".

(1)

الخِبُّ: الرَّجل الخدَّاع الجُرْبُزُ، تقول منه: خَبِبْتَ يا رجُل تَخَبُّ خِبًّا، مثال: عَلِمْت تعلم عِلمًا، وقد خَبَّبَ غلامي فلانٌ" أي خدعه. انظر:"الصحاح" للجوهري (1/ 117 - 118).

(2)

لم أقف عليه من قول عمر، وإنما أخرجه ابن عساكر، في "تاريخ دمشق"(10/ 19)، والمزي في "تهذيب الكمال"(3/ 418) من قول إياس بن معاوية بلفظ "لست بخِبٍّ، والخِبُّ لا يخدعني، ولا يخدع ابنَ سيرين، ويخدع الحَسَن، ويخدع أبا معاوية بن قرة، ويخدع عُمَرَ بْن عَبْد العزيز"، وهذا لفظ وكيع.

وقد اشتهر نسبة الأثر عن عمر ولعل ذلك لوقوعه في كتب شيخَي الإسلام: ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(5/ 265)، وابن القيم في "إعلام الموقعين"، معزوةً له، وكذلك نسبها ابن عبد ربه لعمر في ثلاثة مواضع من "العقد الفريد". (1/ 43) (2/ 105) (5/ 23). ولكن أخرج الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (1/ 327) قال: قال أبو عبد الرحمن: "أخبرت أن المغيرة بن شعبة ذكر عمر بن الخطاب فقال: كان واللَّه أفضل من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع".

(3)

لم أقف عليه.

ص: 1547

المقام الآخر لم يكن ضعيفًا، ولا يمكن أن يأتي مكَّار فيخدعه. فينبغي على المؤمن أن يحتاط لهذه الأمور.

وقد عني العلماء بعلم الجرح والتعديل، ودقَّقُوا في ذلك، وحرَّرُوا مسائله، حفاظًا علَى سُنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ليُعلَم صحيحها مِن سقيمها، لأنه -كما هو معلوم- دخلَتْ في صُفوف الأُمة الإسلاميَّة فِرَقٌ، كالزنادقة

(1)

وغيرهم مِمَّن انحرفوا في العقيدة، وغالوا فيها أو فرَّطوا؛ فكل أولئك يريدون أن يضعوا أدلةً يثبتوا بها مذاهبهم.

* قوله: (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَافِعٍ، وَبَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَلَسَ الرَّجُلُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، فَأَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ"

(2)

).

سبق الكلام عن هذا الحديث، وضعف بعض رواته

(3)

.

* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ)

(4)

.

أيْ في كتابه "الاستذكار"، وهو من أهم مراجع هذا الكتاب، وبخاصة فيما يتعلَّق بنقل آراء العلماء ومذاهبهم.

(1)

الزِّنديق فارسيّ معرَّب، كَأَن أَصله زَنْده كَر، أَي يَقُول بدوام بَقَاء الدَّهْر. وزندقته أنه لا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق. انظر:"جمهرة اللغة" لابن دريد (3/ 1329) و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 147).

(2)

أخرجه أبو داود (617)، وغيره، عن عبد اللَّه بن عمرو، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قضى الإمام الصلاة وقعد فأحدث قبل أن يتكلم، فقد تمت صلاته، ومن كان خلفه ممن أتم الصلاة" وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(الأم)(95).

(3)

سيأتي الكلام عليه.

(4)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 524) حيث قال: "والمحفوظ في حديث عبد اللَّه بن عمرو من رواية الإفريقي أن النبي عليه السلام قال: "إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته" وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس، وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه نقلًا وهو قوله عليه السلام: "تحليلها التسليم" والحجة في السنة لا فيما قال".

ص: 1548

*‌

‌ فائدة:

ابن عبد البر له كتابان مشهوران جليلَا القدر: "التمهيد" المعروف، و"الاستذكار"، وكلاهما شرح لـ "موطأ مالك"، لكن هذا عني به من جانب الحديث، والآخر عني بالمسائل الفقهية، وإن لم يُغفل هذا وذاك

(1)

.

وقد سبق التنبيه أن المؤلف عُمدته في نقل آراء العلماء إنما هو كتاب "الاستذكار"؛ لأنه نَصَّ في موضعٍ على أنه عوَّل في نقل آراء العلماء عليه؛ فإن قُدِّر أنْ وَهِمَ في "الاستذكار" فربما يقع المؤلف هنا تباعًا.

والمؤلف في حقيقة الأمر قد يقع في وهمٍ في نقل المذاهب والآراء؛ لأنه ربما ينقل القول على أنه مشهور، أو راجح؛ فيتبيَّن أنه المرجوح أو الضعيف في المذهب.

* قوله: (وَحَدِيثُ عَلِيٍّ المُتَقَدِّمُ أَثْبَتُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، لِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ انْفَرَدَ بِهِ الإِفْرِيقِيُّ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ ضَعِيفٌ)

(2)

.

(1)

يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (18/ 157) حيث قال: "وقال أبو علي الغساني: ألّف أبو عمر في "الموطأ" كتبًا مفيدة منها: كتاب "التمهيد" رتبه على أسماء شيوخ مالك، على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله. . قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه، ثم صنع كتاب "الاستذكار" شرح فيه "الموطأ" على وجهه. وانظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (3/ 217).

(2)

ضعفه أحمد ويحيى بن معين وابن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان. انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (17/ 106).

وقال البيهقي في السنن الكبرى (2/ 250): لا يصح وعبد الرحمن بن زياد ينفرد به وهو مختلف عليه في لفظه، ولا يحتج به، كان يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي لا يحدثان عنه لضعفه وجرحه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهما من الحفاظ.

وقال الدارقطني في "العلل الواردة في الأحاديث النبوية"(1/ 235): "وعبد الرحمن بن زياد ضعيف لا يحتج به".

ص: 1549

أمَّا مسألة النقل فلا يختص بها مَن يَهِم أحيانًا في نقل رأيه؛ فيكون هو الراجح، ويتبيَّن على خلاف ذلك.

ويقع في هذا أيضًا صاحب "المغني"، وهو كتاب جليل، ومؤلفه أيضًا معروف، وكذلك يقع في ذلك النووي، رحم اللَّه الجميع.

فالإنسان إذا نقل عن غيره مِن غير المذهب الذي درسه، وتمَرَّسَ فيه، وعني به، وحقَّقَ مسائله، فقد يحصل الخطأ، لأنه قد ينقل رأيًا ضعيفًا، أو رأيًا لأحد أتباع الإمام علَى أنه للإمام، وهذا يحصل في كثيرٍ مِن الكُتب ليس هذا وحده.

* قوله: (قَالَ القَاضِي).

القاضي، هو أبو الوليد صاحب "بداية المجتهد".

* قوله: (إِنْ كَانَ أَثْبَتَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ التَّسْلِيمِ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنْ دَلِيلِ الخِطَابِ).

من الأدلة الفعلية: أنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه "كان يخرج من صلاته بالتسليم"

(1)

، فهذا أمر قد اشتهر وعُرف، وقد أخذه الصحابة وتلقَّوْهُ وعمِلُوا به، وتلقَّتْهُ الأجيَالُ بعدهم مِن التَّابعِين ومَن بَعْدَهم، وأمَّا دليل الخِطَاب

(2)

الذي يتكلَّم عنه، فَهُو الذي يُعرف عند الأصوليِّين ويشتهر بمفهوم المخالفة، وهذا فيه كلام معروف، فالحنفية يضعِّفونه

(3)

، وغيرهم

(1)

أخرجه مسلم (498) عن عائشة وفيه ". . . وكان يختم الصلاة بالتسليم".

(2)

يُنظر: "المستصفى" للغزالي (ص 265) حيث قال: "ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه، ويُسمَّى مفهومًا؛ لأنه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق،. .. ، وحقيقته أن تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة".

(3)

يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 72) حيث قال: "اختلفوا في الخطاب الدال على حكم مرتبط باسم عام مقيد بصفة خاصة. . فأثبته الشافعي ومالك =

ص: 1550

يحتج به، أو يحتجون ببعض أنواعه؛ فهو مفهوم شرطٍ

(1)

ومفهوم صفة

(2)

، وله عِدَّة أنواع معروفة تعرفونها في أصول الفقه.

* قوله: (وَهُوَ مَفْهُومٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الأَكْثَرِ).

فهو مفهوم موافقة

(3)

، وهذا حُجة، وموضع اتفاق بين العلماء

(4)

، ومفهوم المخالفة هو الذي يُشير إليه وإلى ضعفه.

*‌

‌ فائدة:

ومِن المآخذ التي يأخذها البعض على هذا الكتاب: أنه أحيانًا يناقش بعض المسائل مناقشةً عقليَّةً مع وجود الأدلة.

والسبب في ذلك: أنه لم يكن رحمه الله متمكِّنًا أو مُطَّلِعًا كثيرًا على الأدلة؛ فعمدته هو "الاستذكار" مع أن الكتاب يفصل القول بالنسبة للأدلة، لكن المؤلف قد تفوته أدلة؛ ولذلك تراه أحيانًا في بعض المسائل لو صح الحديث، وقد يكون الحديث في "الصحيحين"، فيقول:"لو ثبت دليلًا عن طريق النقل"؛ لذلك يُعنى أحيانًا بالأدلة العقلية؛ لأنه لم يقف على الأدلة النقلية.

= وأحمد بن حنبل والأشعري وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وأبو عبيد وجماعة من أهل العربية، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه. . . ".

(1)

يُنظر: "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب" لأبي الثناء الأصبهاني (2/ 445) حيث قال: "مفهوم الشرط هو أن يكون الحكم على الشيء مقيدًا بالشرط".

(2)

يُنظر: "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب" لأبي الثناء الأصبهاني (2/ 445) حيث قال: "مفهوم الصفة؛ وهو أن يكون اللفظ عامًّا مقترنًا بصفة خاصة".

(3)

يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 66) حيث قال: "وأما مفهوم الموافقة فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقًا لمدلوله في محل النطق، ويُسمَّى أيضًا فحوى الخطاب، ولحن الخطاب".

(4)

يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 71) حيث قال: "أما مفهوم الموافقة فقد أتفق الكل على صحة الاحتجاج به سوى الظاهرية، وإن اختلفوا في دلالته، هل هي لفظية أو قياسية".

ص: 1551

* قوله: (وَلَكِنْ لِلْجُمْهُورِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي لِلْحَصْرِ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الخِطَابِ فِي كَوْنِ حُكْمِ المَسْكُوتِ عَنْهُ بِضِدِّ حُكْمِ المَنْطُوقِ بِهِ)

(1)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي القُنُوتِ).

هذه آخر مسائل هذا الفصل؛ والقنوت، له معانٍ، منها:

طول القيام، كما قال تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]

(2)

.

ومن معاني القنوت: الدعاء؛ ولذلك سمي الدعاء قنوتًا

(3)

.

والقنوت في الصَّلاة: هو الدعاء فيها

(4)

.

(1)

يريد المؤلف أن يقول إن الحديث الذي استدل به الجمهور، وهو:"تحليلها التكبير وتحريمها التسليم" قد يقال فيه -أي: الأحناف ومن وافقهم-: إن دلالته على حصر الدخول في الصلاة بالتكبير والخروج منها بالتسليم، ضعيفة؛ لأنها تؤخذ من مفهوم الخطاب، وهي غير ملزمة عندهم. فيقال عندئذ للجمهور أن يرد فيقول: إن دليل الحصر لا نأخذه من مفهوم الخطاب وإنما نأخذه من لفظ الحصر في الحديث. يُنظر: "إيضاح المحصول من برهان الأصول" للمازري (ص 349) وما بعدها، حيث قال:"وكذا رأى قوله عليه السلام: "تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم" من ألفاظ الحصر، وهذا اللفظ عندي يقتضي ألا تحريم إلا بالتكبير، كما لا تحليل إلا بالتسليم، وليس ذلك من ناحية دليل الخطاب المختلف فيه كما ظنه أصحاب أبي حنيفة الذاهبون إلى أن نفى التحريم بغير التكبير إنما يتلقى من دليل الخطاب، ورأوا أن قوله: "تحريم الصلاة التكبير" دليله أن غير التكبير لا يكون تحريمًا، وهم ينكرون دليل الخطاب، ولأجل إنكارهم إياه، قالوا: إن المصلي يدخل الصلاة بغير التكبير كالقول: اللَّه أعظم، اللَّه أجل، كما يخرج منها بغير التسليم. وأنكر أبو المعالي هذا، ورأى أن مثل هذا اللفظ إنما يستعمل في اللسان لحصر التحريم على التكبير، وهذا عنده مشهور عند أهل اللسان لا ينكره أحد".

(2)

القنوت فِي الصَّلاة: طول القيام هكذا قال المفَسِّرُونَ فِي قَوْله جلّ وَعزّ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 408).

(3)

قال الزجاج: "المشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت: الدعَاءُ في القيام. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" (1/ 320).

(4)

القنوت في الوتر: الدعاء. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 11).

ص: 1552

والقنوت قد يكون في الخير أو في الشر، لأنه دعاء، فقَدْ يُدعَى علَى فلان أو يُدعَى له، والرسول صلى الله عليه وسلم دعَا لأناسٍ ودعا علَى آخَرِين

(1)

.

فقد ثبت أنه: "قنَتَ صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو علَى حيٍّ من أحياء العرب ثم تركه"

(2)

.

وفي حديث آخر: "قنت شهرًا يدعو علَى رِعْل وذَكْوان"

(3)

.

وكذلك أيضًا "دعَا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علَى عُصَية"

(4)

.

وأيضًا: "دعا صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا القُراء في بئر معونة"

(5)

، وهي مسألة مشهورة عند الفقهاء وغيرهم.

واختلف العلماء في كونه يقنت في كل الصلوات، وفي صلاة الفجر خاصة، أو أنه لا يقنت في أي صلاةٍ، وأن ذلك كان في أول الأمر للحاجة إليه، ثم نزل علَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ

(1)

القنوت له معان في اللغة منها الدعاء ولهذا سمي الدعاء قنوتًا ويطلق على الدعاء بخير وشر؛ يقال قنت له وقنت عليه. انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص 73).

(2)

أخرجه مسلم (677/ 304) عن أنس: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه".

(3)

أخرجه البخاري (4090) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رِعْلًا، وذكوان، وعصية، وبني لحيان، استمدوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم "فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل، وذكوان. . . " الحديث.

(4)

أخرجه البخاري (5/ 105) عن أنس أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم "قنت شهرًا في صلاة الصبح يدعو على أحياء من أحياء العرب، على رعل، وذكوان، وعصية، وبني لحيان".

(5)

أخرجه البخاري (4095) ومسلم (677) عن أنس بن مالك، قال:"دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا يعني أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحًا حين يدعو على رعل، ولحيان، وعصية عصت اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم" قال أنس: "فأنزل اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الذين قتلوا -أصحاب بئر معونة- قرآنًا قرأناه حتى نسخ بعد: بلغوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه".

ص: 1553

شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [آل عمران: 128]

(1)

؛ فترك ذلك؛ لأنه قنت شهرًا ثم تركه، لكن جاء في بعض الأحاديث أنه "ظل يقنت في صلاة الصبح" وهذا هو متمسك الشافعية كما سيأتي.

إذًا، سيَمُرُّ معنا أنَّ مِن العلماء مَن يرى أنَّ القنوت في صلاة الصبح مشروع، وأنه باقٍ في أيِّ حالٍ مِن الأحوال، ومنهم مَن لا يرَى القنوت مطلقًا، ومنهم مَن يرَى أنَّ القنوت يُحتاج إليه عندما تنزل بالمسلمين نازلة، كأنْ يدهمهم عدوٌّ، أو يحل بهم مرض، أو غير ذلك مِمَّا ينزل بالمسلمين في حالٍ مِن الأحوال؛ فإنهم يلجؤون إلَى اللَّه سبحانه وتعالى؛ إظهارًا لضعفهم، ولحاجتهم إليه سبحانه، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].

* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ القُنُوتَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ مُسْتَحَبٌّ

(2)

، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ

(3)

).

هذه قضية مصطلحية، أي: اختُلف فيها اصطلاحًا، وإلا فعندما نقرأ في كتب الشافعية نجدهم يذهبون إلى الاستحباب، وعليهِ فيرَى مالك والشافعي أن القنوت مستحب في صلاة الصبح؛ إذًا كلمة "سُنة" وكلمة "مستحب" في هذا المقام واحد.

(1)

أخرجه البخاري (7346) عن سالم، عن ابن عمر، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول في صلاة الفجر ورفع رأسه من الركوع قال:"اللهم ربنا، ولك الحمد في الأخيرة"، ثم قال:"اللهم العن فلانًا وفلانًا"، فأنزل اللَّه عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} .

(2)

وهو المشهور عندهم، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 539) حيث قال: "وقنوت سرًّا بصبح فقط وقبل الركوع؛ يعني أن القنوت مستحب في صلاة الصبح وهذا هو المشهور، وقال ابن سحنون: سنة".

(3)

سنة مستحبة عندهم، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 504) حيث قال: "مذهبنا أنه يستحب القنوت فيها سواء نزلت نازلة أو لم تنزل وبها قال أكثر السلف ومن بعدهم".

ص: 1554

* قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ القُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ)

(1)

.

أيْ أنَّ القنوت غير مشروع، وهو يوافق الإمام أحمد

(2)

وغيره، لكن الإمام أحمد يستثني مسألة وهي: إذا بعث الإمام الجيوش، فإنه يقنت، أو نزلت بالمسلمين نازلة فإنه يقنت

(3)

، وهذا قول كثير مِن المُحَدِّثين، كإسحاق بن راهويه

(4)

وغيرهما

(5)

.

* قوله: (وَأَنَّ القُنُوتَ إِنَّمَا مَوْضِعُهُ الوَتْرُ).

هذا لا خلاف فيه، أن يقنت الإنسان في الوتر

(6)

، وكذلك في آخر

(1)

وهو بدعة عنده، يُنظر:"مجمع الأنهر" لشيخي زاده، (1/ 129) حيث قال:" (ولا يقنت في صلاة غيرها) أي غير صلاة الوتر عندنا؛ قال الإمام: القنوت في الفجر بدعة خلافًا للشافعي".

(2)

وهو مكروه عندهم، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 421) حيث قال: " (ويكره قنوته في غير الوتر) روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء لما روى مسلم عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 421) حيث قال: " (فإن نزل بالمسلمين نازلة) هي الشديدة من شدائد الدهر (غير الطاعون)؛ لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس ولا في غيره ولأنه شهادة للأخيار فلا يُسأل رفعه (سن لإمام الوقت خاصة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي قنت فيتعدى الحكم إلى من يقوم مقامه (واختار جماعة ونائبه) لقيامه مقامه (القنوت بما يناسب تلك النازلة في كل مكتوبة) لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رواه أحمد وأبو داود؛ (إلا الجمعة) للاستغناء عنه بالدعاء في خطبتها".

(4)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (2/ 544) حيث قال: "قال إسحاق: أما الفجر فهو سنة عند حوادث الأمور من أمر حروب وغيرها، لا يدعن الأئمة ذلك".

(5)

كالثوري، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 115) حيث قال: "فإن نزل بالمسلمين نازلة، فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح؛ نَصَّ عليه أحمد. . . وبهذا قال. . والثوري".

(6)

محل القنوت عند أبي حنيفة في جميع السنة خلافًا للشافعي ومالك في غير المشهور =

ص: 1555

رمضان؛ ولذلك سيعدد المؤلف هذه الأقوال التي سيذكرها المؤلف، أو يُومئ إليها، فهي خلافات في المذاهب وآراء داخلة.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَقْنُتُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا قُنُوتَ إِلَّا فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ فِي النِّصْفِ الأَخِيرِ مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ فِي النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنْهُ).

لا حاجة هنا لذكر الآراء، فبعضها في المذهب الحنبلي، وبعضها في الشافعي، وهذه كلها هي الأقوال الموجودة في المذاهب وبعضها أيضًا قال بها بعض المحدثين كما أسلفنا.

= عنه فإنهما قالا: "ولا يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من رمضان (قبل الركوع) ".

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 273) حيث قال: "فالقنوت واجب عند أبي حنيفة وعندهما سنة، والكلام فيه كالكلام في أصل الوتر. وأما محل أدائه فالوتر في جميع السنة قبل الركوع عندنا". وانظر: "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" لشيخي زاده (1/ 128).

مذهب المالكية في المشهور عنهم كراهة القنوت في الوتر، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 256) حيث قال: "ولا قنوت في شهر رمضان ولا غيره في السنة كلها إلا في الصبح وحدها. وقد روي عن مالك إجازة القنوت في النصف الأخير من شهر رمضان والقول الأول تحصيل مذهبه عند أصحابه". وانظر: "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس" لابن الجلاب (1/ 126).

مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (1/ 253) حيث قال: "وهو مستحب بعد الرفع من الركوع، في الركعة الثانية من الصبح، وكذلك الركعة الأخيرة من الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان". وانظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (4/ 24).

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 417) حيث قال: " (ويسن أن يقنت فيها) أي في الركعة الأخيرة من الوتر (جميع السنة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في وتره أشياء، يأتي ذكرها وكان للدوام".

وفي آخر رمضان، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (2/ 170) حيث قال: "وعنه لا يقنت إلا في نصف رمضان الأخير، نقله الجماعة".

ص: 1556

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُ الآثَارِ المَنْقُولَةِ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

هذا هو أسلوب الأحاديث التي وردت في ذلك، ومن الآثار التي يُشير إليها أحاديث في "الصحيحين" أو في أحدهما.

* قوله: (وَقِيَاسُ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فِي ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ (أَعْنِي: الَّتِي قَنَتَ فِيهَا عَلَى الَّتِي لَمْ يَقْنُتْ فِيهَا)، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: وَالقُنُوتُ بِلَعْنِ الكَفَرَةِ فِي رَمَضَانَ مُسْتَفِيضٌ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي دُعَائِهِ عَلَى رِعْلَ وَذَكْوَانَ، وَالنَّفَرِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ

(2)

)

(3)

.

الذين قتلوا القراء في بئر معونة

(4)

، من المسائل المشهورة

(1)

فالذين ذهبوا إلى أنه يقنت في الوتر هم الحنفية واستدلوا بما: أخرجه الدارقطني في سننه (2/ 357) ثنا عمرو بن شمر، عن سلام، عن سويد بن غفلة، قال: سمعت أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، يقولون:"قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر وكانوا يفعلون ذلك" وذكر ابن حجر في الدراية (1/ 193) أن في إسناده عمرو بن شمر، وهو واهٍ.

والذين رأوا أنه لا يقنت إلا في آخر رمضان هم الشافعية والحنابلة واستدلوا بما: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 98) عن علي، "أنه كان يقنت في النصف من رمضان". وأيضًا في المصنف (2/ 98) عن ابن عمر، "أنه كان لا يقنت، إلا في النصف؛ يعني من رمضان".

(2)

وكان عددهم سبعين قارئًا، أخرجه البخاري (4078) عن قتادة، قال: ما نعلم حيًّا من أحياء العرب أكثر شهيدًا أعز يوم القيامة من الأنصار، قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه "قتل منهم يوم أحد سبعون، ولوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون".

(3)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 73) حيث قال: "كانوا يقنتون في الوتر من صلاة رمضان وللعنون الكفرة في القنوت اقتداء برسول اللَّه في دعائه في القنوت على رعل وذكوان وبني لحيان الذين قتلوا أصحاب بئر معونة".

(4)

أخرجه البخاري (4090) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رعلًا، وذكوان، وعصية،=

ص: 1557

والمعروفة، كما أنه حصلت أيضًا قضية أُخرى فيما يتعلَّق بالقراء أيام حرب اليمامة، عندما اجتمع الصحابة عند أبي بكر وأشاروا عليه بجمع القرآن

(1)

، وتكرر ذلك في زمن عُمَر إلى أنْ استقر ذلك حتى الجَمْعة الأخيرة المعروفة التي استقرت في مصحف عثمان في زمنه، ومَن يدرس التاريخ التشريعي وعلوم القرآن يعرف ذلك تفصيلًا.

* قوله: (وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ).

الليث بن سعد، هو صاحب "الرسالة"، وحصلت رسائل متبادلة بينه وبين الإمام مالك، ورسالته معروفة، وهو أيضًا أحد الأئمة الأجِلَّاء، ولكن الأئمة الأربعة خدَمهُم تلاميذهم، فدَوَّنُوا فقههم وحَفِظُوه، وأَصَّلوا أصوله، وخرَّجُوا على تلكم الأصول، وظلوا يخدمون تلك الآراء، أما الليث

(2)

، وغيره، كالثوري، أو الأوزاعي لم يبقَ لهم تلاميذ يخدمون فِقْهَهُم.

فالليث إمام الفقهاء والمُحَدِّثين في مصر قبل الإمام الشافعي، وله مكانة؛ فليس معنى اشتهار الأئمة الأربعة أن الفقه والعلم انحصر فيهم.

= وبني لحيان، استمدوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويُصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم "فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل، وذكوان، وعصية، وبني لحيان" قال أنس: "فقرأنا فيهم قرآنًا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا".

(1)

أخرجه البخاري (4679) أن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن يكتب الوحي- قال: "أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: قلت لعمر: "كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ " فقال عمر: هو واللَّه خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح اللَّه لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. . . ".

(2)

أخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(50/ 358) إلى الشافعي أنه قال: "الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به".

ص: 1558

* قوله: (مَا قَنَتُّ مُنْذُ أَرْبَعِينَ عَامًا أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا إِلَّا وَرَاءَ إِمَامٍ يَقْنُتُ

(1)

).

وسبب ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"

(2)

، فالمتابعة في هذه الحالة مطلوبة.

* قوله: (قَالَ اللَّيْثُ: وَأَخَذْتُ فِي ذَلِكَ بِالحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا أو أَرْبَعِينَ يَدْعُو لِقَوْمٍ وَيَدْعُو عَلَى آخَرِينَ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تبارك وتعالى عَلَيْهِ مُعَاتِبًا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [آل عمران: 128]، فتَرَكَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم القُنُوتَ، فَمَا قَنَتَ بَعْدَهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّه)

(3)

.

هذا الذي ذكره عن الليث هي عدة أحاديث كثيرة متداخلة، بعضها في "الصحيحين" وبعضها في غيرهما، وكلها صحيحة، ولكن المؤلف جاء بجملتها.

وهنا وقع الخلاف، فالشافعية والمالكية يتأولون ذلك، ويقولون: ترك القنوت في غير الصفة. والآخرون يقولون: بل ترك القنوت مطلقًا

(4)

.

(1)

نقله عنه الإمام العيني، فقال: وقال الليث بن سعد رحمه الله: "ما قنت منذ أربعين عامًا أو خمسة وأربعين عامًا إلا وراء إمام يقنت". انظر: "البناية شرح الهداية"(2/ 500).

(2)

أخرجه البخاري (722)، ومسلم (414) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع، فاركعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون، وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

سبق أن ذكر المؤلف خلافَ الفقهاء في القنوت في صلاة الصبح، وأن المالكية والشافعية على جواز القنوت فيه، والأحناف والحنابلة على عدم الجواز، وهنا يذكر سبب الخلاف بينهم؛ فالأحناف والحنابلة استدلوا على عدم جواز القنوت في صلاة =

ص: 1559

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الصبح من فعل النبي صلى الله عليه وسلم من أنه ترك القنوت بعد أن جلس يدعو على قوم في الصلوات الخمس شهرًا كاملًا. والمالكية والشافعية قالوا: ليس المقصود بتركه هنا ترك القنوت بالكلية، وإنما المراد هو تركه الدعاء عليهم، أي ترك الدعاء على هذه القبائل وترك القنوت في الصلوات الأربع، ولم يتركه في صلاة الصبح، لحديث أنس من مواظبته على القنوت في صلاة الصبح. وذهب الشارح -الشيخ الوائلي رحمه الله في تأويل الحديث على مذهب المالكية والشافعية إلى أنه ترك القنوت في غير الصفة، أي: تركه في غير النازلة من الصلوات المفروضة لا تركه عمومًا. واستثني صلاة الصبح بحديث أنس. وهذه مذاهب الفقهاء في تناول هذا الحديث الذي دار حوله الخلاف:

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 494، 495)، حيث قال:" (ولا يقنت في صلاة غيرها) أي في غير الوتر (خلافًا للشافعي في الفجر) فعنده السنة أن يقنت في صلاة الفجر بعد الركوع، وبه قال مالك، (لما روى ابن مسعود رضي الله عنه "أنه عليه السلام قنت في صلاة الفجر شهرًا ثم تركه" هذا الحديث حجة لنا على الشافعي، لحديث ابن مسعود، قال: "لم يقنت رسول اللِّه عليه السلام في الصبح إلا شهرًا ثم تركه لم يقنت قبله ولا بعده". وجه الاستدلال به أنه يدل على أن قنوت رسول اللَّه في الصبح إنما كان شهرًا واحدًا، وكان يدعو على أقوام، ثم تركه فدل على أنه كان مشروعًا ثم نسخ".

وانظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 256)، وفيه قال:"يقنت في صلاة الصبح خلافًا لأبي حنيفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت فيما رواه أبو هريرة وخفاف بن إيماء والبراء وأنس بن مالك وقال أنس: "ما زال يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا". وذكر القاضي عياض تأويل هذا الحديث، فقال: "قيل في معنى قول أنس: "قنت شهرًا ثم تركه": أي ترك الدعاء على هذه القبائل وفي الصلوات الأربع، ولم يتركه في صلاة الصبح، ويدل حديث أنس على استدامته عليه السلام القنوت في صلاة الصبح، وأن الاختلاف عنه في قنوته وتركه على هذا". انظر:"إكمال المعلم بفوائد مسلم"(2/ 659).

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 152)، وفيه قال:"فقنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس شهرًا حتى نزل عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} فكفَّ. قيل: إنما كف بعد شهر عن ذكر أسمائهم، وعن القنوت فيما سوى الصبح من الأربع الباقية".

وانظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (2/ 114)، وفيه قال: "ولا يسن القنوت في الصبح، ولا غيرها من الصلوات، سوى الوتر. وبهذا قال الثوري، وأبو =

ص: 1560

* قوله: (قَالَ: فَمُنْذُ حَمَلْتُ هَذَا الحَدِيثَ، لَمْ أَقْنُتْ

(1)

، وَهُوَ مَذْهَبُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى

(2)

. قَالَ القَاضِي: وَلَقَدْ حَدَّثَنِي الأَشْيَاخُ أَنَّهُ كَانَ العَمَلُ عَلَيْهِ بِمَسْجِدِهِ عِنْدَنَا بِقُرْطُبَةَ، وَأَنَّهُ اسْتَمَرَّ إِلَى زَمَانِنَا أَوْ قَرِيبٍ مِنْ زَمَانِنَا).

ويحيى بن يحيى من علماء الأندلس، وكان له مسجد ظل يُقنت فيه إلى وقت قريب من وقتهم، وحدثهم بهذا الأشياخ عن الأشياخ.

* قوله: (وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]، وَخَرَّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الظُّهْرِ، وَالعِشَاءِ الأَخِيرَةِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ"

(3)

. وَخَرَّجَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

= حنيفة، لما روي، "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا، يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه". وحديث أنس يحتمل أنه أراد طول القيام، فإنه يُسمَّى قنوتًا. وقنوت عمر يحتمل أنه كان في أوقات النوازل؛ فإن أكثر الروايات عنه أنه لم يكن يقنت، وروى ذلك عنه جماعة، فدل على أن قنوته كان في وقت نازلة".

(1)

يُنظر: "ترتيب المدارك وتقريب المسالك" للقاضي عياض (6/ 109، 110) حيث نقل عن الليث هذا الكلام، فقال:"ويحتج بالحديث الذي رواه عن عبيد بن يحيى عمّ أبيه، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن ابن شهاب: إنما قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعو لقوم ويدعو على آخرين، ثم أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن اللَّه لم يبعثك سبابًا ولا لعانًا، إنما بعثك رحمة، ولم يبعثك عذابًا، {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. قال يحيى بن سعيد: فمنذ سمعت هذا الحديث من محمد بن شهاب، لم أقنت. وقال الليث: ومنذ سمعت هذا الحديث من يحيى بن سعيد، لم أقنت. وقال يحيى بن يحيى: ومنذ سمعت هذا الحديث من الليث، لم أقنت".

(2)

يُنظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" لخليل (1/ 346) حيث قال: "والمشهور: أن القنوت في الفجر فضيلة. . . وقال يحيى بن يحيى: إنه غير مشروع. ومسجده بقرطبة -إلى حين أخذها الكفار- على الترك". وانظر: "روضة المستبين" لابن بزيزة (1/ 343 - 344).

(3)

أخرجه البخاري (797)، ومسلم (676)، عن أبي هريرة، قال: لأقربن صلاة =

ص: 1561

وَالسَّلَامُ: "أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَدْعُو عَلَى بَنِي عُصَيَّةَ"

(1)

).

هناك دعاءان وردا في القنوت، فالأول سيذكره المؤلف، وقد أخذ به الإمام مالك، ويبدو أنَّ المؤلف إنما جاء به بالمعنى، وأنها رواية غير التي نعرفها، ربما -واللَّه أعلم- فقد تكون الروايات متعددة.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَقْنُتُ بِهِ، فَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ القُنُوتَ بِـ "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنَسْتَهْدِيكَ)

(2)

.

لا شك أن الإنسان في هذه الحالة يطلب العون من اللَّه سبحانه وتعالى ويستغفره ويستهديه، وفي الحديث القدسي:"فاستهدوني أهدكم"

(3)

.

* قوله: (وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَخْنَعُ

(4)

لَكَ).

لا شك أن في هذا الموقف التصديق والإيمان، والانقياد للَّه سبحانه وتعالى، وإظهار الذل والخضوع له سبحانه.

= النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر، وصلاة العشاء، وصلاة الصبح، بعدما يقول: سمع اللَّه لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار.

(1)

أخرجه مسلم (677).

(2)

يُنظر: "منح الجليل" لعليش (1/ 260) حيث قال: " (و) ندب (لفظه) أي القنوت المخصوص الذي قيل كان سورتين من القرآن ونسختا (وهو) أي لفظه المندوب (اللهم إنا نستعينك) (إلخ) أي ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونخنع ونخلع لك، ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد. . . ".

(3)

معنى حديث قدسي أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن اللَّه تبارك وتعالى أنه قال:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. . . " الحديث.

(4)

الخنوع: الخضوع والذل. "الصحاح" للجوهري (3/ 1206). وانظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 223).

ص: 1562

* قوله: (وَنُخَالِعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ)

(1)

.

أيْ: نترك مَن يعصيك ويلحد في أسمائك وصفاتك.

* قوله: (اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ).

ونحفد، أيْ: نسارع إليك في الطاعات، وأصل الحفد كما يقوله أهل اللغة إنما هو الجد في العمل والخدمة

(2)

فَهُم يُسَارعون في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى، ويتسابقون إلى ذلك؛ عملًا بقول اللَّه تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وقوله:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].

* قوله: (نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخَافُ عَذَابَكَ إِنَّ عَذَابَكَ بِالكُفَّارِ مُلْحِقٌ

(3)

").

كلمة "ملحق" فيها تحقيق لذلك، لكن يحتمل معناها الغفران أو التعذيب، لكنها في هذا المقام على نحو ما ذكرنا، وهي اسم فاعل.

* قوله: (وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ العِرَاقِ السُّورَتَيْنِ، وَيُرْوَى أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ

(4)

)

(5)

.

(1)

نخالع من يكفرك: أي نبغضه ونتبرأ منه ونطرحه ناحية فلا يكون منا في شيء. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 178)، و"شرح غريب ألفاظ المدونة" للجبي (ص 27).

(2)

الحفد: الخدمة والعمل، أي نعبدك ونسعى في طلب رضاك ونسرع إلى طاعتك. انظر:"غريب الحديث" للقاسم بن سلام (3/ 375)، "غريب الحديث" للخطابي (2/ 111)، "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 247).

(3)

ملحق: أي لاحق. واللحق: ما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه فتلحق به ما سقط عنه. ويجمع ألحاقًا. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 37).

(4)

قال ذلك ابن عبد البر. انظر: "الاستذكار"(2/ 295).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/ 114) أن عليًّا كان يقنت بهاتين السورتين في الفجر، غير أنه يقدم الآخرة ويقول: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك، إن عذابك بالكافرين ملحق، اللهم =

ص: 1563

ذلك لأنه يُذكر أنها كانت مكتوبة في مصحف أُبَيٍّ، وأنها تبتدئ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1)، ونُقل ذلك عن عمر رضي الله عنه

(2)

.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(3)

، وَإِسْحَاقُ

(4)

).

وأحمد

(5)

، فلا يتصور البعض بقول الإمام أحمد أنه لا يري القنوت إلَّا إذا نزلت نازلة فحسب، بل هو يرى القنوت في رمضان كما بينَّا قبلُ، ويرى القنوت في الوتر، ففي هذه الحالات يدعو بهذا الدعاء، وكذلك أكثر العلماء.

= إنا نستعينك، ونستهديك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك ونؤمن بك، ونخلع ونترك من يفجرك.

يُنظر: "مختصر قيام الليل" للمروزي (ص 322) حيث قال: "وعن سلمة بن كهيل: اقرأها في مصحف أبي بن كعب مع {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ".

(2)

يُنظر: "مختصر قيام الليل" للمروزي (ص 321) حيث قال: "وعن عمر بن الخطاب، أنه كان يقنت بالسورتين: اللهم إياك نعبد، واللهم نستعينك".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 368) حيث قال: " (ويسن القنوت في اعتدال ثانية الصبح) بعد ذكر الاعتدال كما ذكره البغوي وغيره، وصوبه الإسنوي، وقال الماوردي: محل القنوت إذا فرغ من قوله: سمع اللَّه لمن حمده ربنا لك الحمد فحينئذ يقنت، وعليه اقتصر ابن الرفعة،. . . . (وهو اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره) كذا في المحرر، وتتمته كما في الشرح: وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضى ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت".

(4)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" للكوسج (9/ 4851 - 4852) حيث قال: "وكان إسحاق يقرأ بالسورتين ويقرأ في كل واحدة بسم اللَّه الرحمن الرحيم، ثم يدعو ويؤمّن من خلفه؛ يدعو للمؤمنين والمسلمين، ويدعو على الكافرين، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو بدعاء الحسن بن علي رضي الله عنهما".

(5)

يُنظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (1/ 267) حيث قال: "ويقول في قنوته ما روى الحسن بن علي قال: علمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت. . . ".

ص: 1564

* قوله: (بَلْ يَقْنُتُ بِـ "اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، تبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ").

جاء هذا الدعاء بألفاظٍ متعددة، وروايات كثيرة، وهذا من ضمنها.

وقد اختاره الإمام مالك

(1)

، وأخرجه البيهقي في "سننه"

(2)

، وقال:"إسناده صحيح".

وهو مَرْوِيٌّ أيضًا من طريق عمر

(3)

.

* قوله: (وَهَذَا يَرْوِيهِ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ طُرُقٍ ثَابِتَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَلَّمَهُ هَذَا الدُّعَاءَ يَقْنُتُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ دَاوُدَ: مَنْ لَمْ يَقْنُتْ به بِالسُّورَتَيْنِ فَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ

(4)

).

أما هذا الثاني فقد أخرجه بعض أصحاب السنن

(5)

، وأحمد

(6)

، وهو أيضًا حديث صحيح.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِي القُنُوتِ شَيءٌ مَوْقُوتٌ)

(7)

.

(1)

وهو المشهور من مذهب المالكية. يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 249) حيث قال: اللهم اهدنا فيمن هديت إلخ على المشهور.

(2)

أخرجه البيهقي فى "الكبرى"(2/ 701).

(3)

لم أقف عليه من طريق عمر.

(4)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 296)، وقال عبد اللَّه بن داود:"من لم يقنت بالسورتين فلا تصل خلفه".

(5)

أخرجه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (1745)، وابن ماجه (1178)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(429).

(6)

أخرجه أحمد في "المسند"(1718)، وصححه الأرناؤوط.

(7)

قاله مالك في المدونة، يُنظر:"المدونة"(1/ 192) قال: "وليس في القنوت دعاء =

ص: 1565

قصد هؤلاء أنه ليس هناك شيء محدد من الدعاء كما هو الحال في دعاء يوم عرفة: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا اللَّه. . . "

(1)

، بل يُدعى بما يناسب الوضع، كما في الأدعية الكثيرة التي يقولها الإنسان في الطواف، أو السعي، حيث يذكر أدعية متعددة مما قد يخطر على بال الإنسان مما يناسب ذلك المقام.

وهذا القول الذي ذكره المؤلف هو الأقرب، فليس هناك دعاء يجب علَى الإنسان أن يلتزم به، ولكن لا شك أن الإنسان يأخذ بمثل هذه الأدعية التي وردت، وله أن يضيف عليها، ولقد أضاف العلماء كثيرًا مِن الأدعية، وهناك أحاديث كثيرة جاءت في الأدعية وخصص علماء الحديث أبوابًا نقلوا فيها تلك الأحاديث، فكل ما فيه خير للإنسان وسعادة له في أمر دينه ودنياه فإنه يذكره في مثل هذا المقام.

ولا شك أن القنوت -كما أسلفنا- إنَّما هو لجوء إلَى اللَّه سبحانه وتعالى فالمسلمون إنما يلجؤون إليه للحاجة؛ فلذلك شُرع، وأقل أحواله أن يكون إذا نزلت بالمسلمين نازلة، وليس معنى هذا أنه لو قام إنسان وقنت في الصبح فيقال أخطأ وخرج عن المشروع؛ لأنه قد وردَتْ أدلةٌ كما مرَّ معنا، وكيف أن العلماء جمعوا بينها.

= معروف ولا وقوف موّقت. . وهو قول الكوفيين". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 295).

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 214) عن طلحة بن عبيد اللَّه بن كريز مرسلًا. وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(1102). وأخرجه الترمذي (3585) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(2598).

ص: 1566