المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(الفَصْلُ الثَّانِي: فِي الأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَرْكَانٌ) انتقل المؤلف من الأقوال - بغية المقتصد شرح بداية المجتهد - جـ ٤

[محمد بن حمود الوائلي]

فهرس الكتاب

(الفَصْلُ الثَّانِي: فِي الأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَرْكَانٌ)

انتقل المؤلف من الأقوال إلى الأفعال، أي: الأمور التي يفعلها الإنسان في الصلاة، مثل: الركوع والرفع منه، ورفع اليدين، وضعهما على الركبتين، والسجود، وسائر أفعال المصلي في صلاته، لكن المؤلف هنا لا يعرض لكل مسائل الأفعال، وإنما هو يذكر قواعد في الأبواب.

* قوله: (وَفي هَذَا الفَصْلِ مِنْ قَوَاعِدِ المَسَائِلِ ثَمَانِ مَسَائِلَ).

هو اختار مسائل سماها "قواعد"؛ فهي الأسس التي تُرد إليها بقية المسائل الفرعية، لأن هناك مسائل كبرى، ومسائل صغرى، فإذا ربطت هذه المسألة بالأصول؛ حينئذ لا ضير بالتمسك بفروعها، فإن استُطِيعَ التمسك بالأصول؛ خَفَّ وسَهُل الإلمام بالفروع وردها.

ولذلك شبهوا ذلك بالسُّبحة أو العقد، فكل ما له أصل يوجد تحته فروع تجمع وتُرد للأصل، كما يقال "جمع شتات المذاهب"؛ فتُلَم متفرقاتها في الحكم الواحد؛ ولهذا فكثيرًا ما بيَّنَّا أن بعض العلماء يطلق على هذا الكتاب "القواعد"، وكثيرًا ما يقول الإمام العيني:"وذكر ابن رشد الحفيد في كتابه القواعد"

(1)

، وأحيانًا يسمي، ويقول:"المسألة الأولى. . . "، وربما كان هو السبب في كون هذا الكتاب جاوَز أكثر من ثلاثين سنة ولا يزال يدرَّس في الجامعة؛ لأننا لن نجد كتابًا يلتقي عليه مذاهب متعددة مثله.

(1)

من ذلك نقْله عنه ما رواه ابن مسعود في عدد تكبيرات صلاة العيد، فقال:"وقال ابن رشد في "القواعد": معلوم أن فعل الصحابة في ذلك توقيف، إذ لا يدخل القياس في ذلك". انظر: شرح أبي داود، للعيني (4/ 500).

ص: 1567

* قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ).

*‌

‌ فائدة:

اهتم العلماء بوضع القواعد؛ لأنها لم تكن مُدوَّنة إلا في أواخر القرن الثالث، وبزغَت في القرن الرابع، حتى بلغَتْ مجدها في القرن الثامن؛ فظهرت كتب القواعد، واتضحت معالمها، وعرفت حدودها، ثم بعد ذلك فرَّع العلماء عليها ودقَّقوا، ولكنهم لمَّا رأوا ضعف الهمم، وانصراف طالب العلم عن الحفظ والعناية بالمسائل؛ دفعهم ذلك إلى العناية بوضع القواعد الفقهية، لتربط الفقيه بأصول المسائل، وتُطلعه على المذاهب.

ولذلك، فكتب القواعد مهمة جدًّا لدارس الفقه، ولا يستغنى عنها؛ لأنها في نفس الوقت كالأصول، لأن الدارس عندما يدرس المقارنة بين المسائل في مذاهب كبرى يستطيع أن يعرف أي الآراء المذهبية يسلك.

أما مسألة رفع اليدين في الصلاة، فمن المسائل المهمة التي قد يظن البعض أن غاية ما قاله العلماء فيها إنها سُنة؛ فلماذا ينشغل الناس بهذا كثيرًا؟

نعم، إنها سنة، ولكننا في هذه الحياة لا نسعى لتحصيل الفضل فحسب، بل لنتعب، لعلَّ اللَّه سبحانه وتعالى يهبنا ثوابًا جزيلًا.

ورفع المصلي يديه يتكرر في الصلاة بتكرُّر الصلوات؛ الفرض منها والنفل، وهناك مواضع مُتَّفَق عليها، كرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام

(1)

، وهناك مواضع مختلَف فيها، كالرفع من الركوع

(2)

.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 127) حيث قال: "وأجمعوا أن من السنة أن يرفع المرء يديه عند افتتاح الصلاة".

(2)

ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وهو رواية عن مالك إلى أن رفع اليدين =

ص: 1568

والناس يتفاوتون في الحياة، فمنهم مَن تشغله بعض أمور دنياه؛ فتصرفه عن آخرته، ومنهم مَن يُقبِل على اللَّه سبحانه وتعالى بقلبه؛ فمن إقباله على اللَّه أن يتقرب إليه سبحانه وتعالى بالنوافل، "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها. . . "

(1)

.

= عند تكبيرة الركوع وعند الرفع منه سنة ثابتة فيرفع يديه إلى حذو منكبيه كفعله عند تكبيرة الإحرام، وقال الحنفية والثوري وإبراهيم النخعي وهو المشهور عن مالك: إن المصلي لا يرفع يديه إلا لتكبيرة الإحرام.

مذهب الشافعي، يُنظر:"المجموع شرح المهذب"(3993) حيث قال: (وأما) رفعهما في تكبيرة الركوع وفي الرفع منه فمذهبنا أنه سنة فيهما وبه قال أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 358) حيث قال: " (ويرفع يديه كرفعه الأول) يعني يرفعهما إلى حذو منكبيه، أو إلى فروع أذنيه، كفعله عند تكبيرة الإحرام، ويكون ابتداء رفعه عند ابتداء تكبيره، وانتهاؤه عند انتهائه".

رواية في مذهب مالك، يُنظر:(المدونة) حيث قال: "قال ابن القاسم: وكان رفع اليدين عند مالك ضعيفًا إلا في تكبيرة الإحرام". وانظر: "حاشية العدوي"(2/ 400).

مذهب الحنفية، ينظر:"بدائع الصنائع"(1/ 207) حيث قال: "وأما رفع اليدين عند التكبير فليس بسنة في الفرائض عندنا إلا في تكبيرة الافتتاح. . (ولنا) ما روى أبو حنيفة بإسناده عن عبد اللَّه بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الافتتاح ثم لا يعود بعد ذلك".

المشهور من مذهب مالك، يُنظر:"المدونة"(1/ 165) حيث قال: "وقال مالك: لا أعرف رفع اليدين في شيء من تكبير الصلاة لا في خفض ولا في رفع إلا في افتتاح الصلاة يرفع يديه شيئًا خفيفًا والمرأة في ذلك بمنزلة الرجل".

مذهب الثوري والنخعي، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 358) حيث قال: "وقال الثوري: لا يرفع يديه إلا في الافتتاح. وهو قول إبراهيم النخعي".

(1)

أخرجه البخاري (6502) عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته".

ص: 1569

ومما يدل على أهميه مسألة رفع اليدين في الصلاة: أن الإمام البخاري رحمه الله قَلَّ أنْ يجمع أحاديث في مسألة، ومع ذلك فقد عني برفع اليدين، وكتب فيها ليثبت ذلك، وكتابته إنما جاءت إثباتًا عن طريق الأدلة الصحيحة

(1)

. واعتنى غيره من العلماء بها كذلك فدل ذلك على أهميتها.

وتُرفع اليدان حذو المنكبين أو إلى الأذنين كِلَا القولين صحيح، ولكن معظم العلماء

(2)

يذهبون إلى القول الأول، أي: رفعهما إلى المنكبين؛ لأن حديث "الصحيحين"

(3)

ورد بذلك.

(1)

وهو كتاب صنفه البخاري وسماه: "رفع اليدين في الصلاة". انظر: "طبقات المفسرين" للداوودي (2/ 107).

(2)

وهم الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة).

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 260) حيث قال: " (و) إذا أحرمت فإنك (ترفع يديك) وظهورهما إلى السماء وبطونهما إلى الأرض على المذهب وانتهاء رفعهما على المشهور (حذو) أي إزاء (منكبيك) تثنية منكب وهو مجموع عظم العضد والكتف وقيل انتهاؤه إلى الصدر. وإليه أشار بقوله (أو دون ذلك) أي دون المنكب. والرجل والمرأة في حد الرفع سواء. وانظر: "الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي" (1/ 247).

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 346) حيث قال: "ويرفعهما (حذو) بذال معجمة؛ أي مقابل (منكبيه) لحديث ابن عمر -رضي اللَّه تعالى عنهما- "أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة" متفق عليه. . . (والأصح) في زمن الرفع (رفعه مع ابتدائه) أي التكبير. . سواء انتهى التكبير مع الحط أم لا؛ كما ذكره الرافعي ورجحه المصنف في الروضة وشرح مسلم وصحح في التحقيق والمجموع،. . . قال في المهمات: فهو المُفتى به".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 186) حيث قال: "ويكون الرفع (إلى حذو) بالذال المعجمة أي مقابل (مَنْكِبيه) بفتح الميم وكسر الكاف، مجمع عظم العضد والكتف (إن لم يكن) للمصلي (عذر) يمنعه عن ذلك، فإن كان عذر، رفع أقل أو أكثر بحسب الحاجة (وينهيه) أي الرفع (معه) أي التكبير، لحديث وائل بن حجر أنه، (رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير". . . قال أحمد: أهل العربية قالوا هذا الضم، وضم أصابعه، وهذا النشر، ومد أصابعه".

(3)

أخرجه البخاري (735) ومسلم (390) عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه =

ص: 1570

وخالف الحنفية

(1)

في هذا، فيذهبون إلى رفعهما إلى الأذنين؛ اعتمادًا على الحديث في "صحيح مسلم"

(2)

وغيره، فلا يجوز حينئذٍ الإنكار على المخالف؛ فلكلٍّ دليله مِن سُنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

واختلفوا كذلك في مواضع رفع اليدين في الصلاة على ثلاثة مواضع:

1 -

عند افتتاح الصلاة.

2 -

وعند الركوع.

3 -

وعند الوقوف.

* قوله: (فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا: فِي حُكْمِهِ).

أيْ: حُكم الرفع، وهذا مما يدل على أن مسائل هذا الكتاب من المسائل الكبرى، إذْ ذكر فيه الفروض، وضم إليها هذه المسألة.

والمواضع:

أولًا: حكم رفع اليدين في الصلاة.

ثانيًا: المواضع التي ترفع الأيدي في الصلاة.

= حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، رفعهما كذلك أيضًا، وقال:"سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود".

(1)

يُنظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(1/ 482) حيث قال: " (ورفع يديه) قبل التكبير، وقيل معه (ماسًّا بإبهاميه شحمتي أذنيه) هو المراد بالمحاذاة لأنها لا تتيقن إلا بذلك، ويستقبل بكفيه القبلة، وقيل خديه (والمرأة) ولو أمة كما في البحر لكن في النهر عن السراج أنها هنا كالرجل وفي غيره كالحرة (ترفع) بحيث يكون رؤوس أصابعها (حذاء منكبيها) وقيل كالرجل".

(2)

أخرجه مسلم (391) عن مالك بن الحويرث: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع".

ص: 1571

ثالثًا: الحد الذي يرفع إليه المصلي يديه.

فهذه ثلاث مسائل، ولكنها مسائل صُغرى تحت مسألة كبرى.

* قوله: (وَالثَّانِي: فِي المَوَاضِعِ الَّتِي تُرْفَعُ فِيهَا مِنَ الصَّلاةِ. وَالثَّالِثُ: إِلَى أَيْنَ يَنْتَهِي بِرَفْعِهَا).

*‌

‌ فائدة:

كما قلنا إن الكتاب عليه بعض المآخذ، فعلينا ذِكر بعض المميزات، فمن مزاياه أنه لم يُسبق إلى حُسن هذا الترتيب، وكما قلتُ من قبل إنَّ كثيرًا مِمَّن كتبوا في الدراسات الحديثة استفادوا كثيرًا من هذا الكتاب؛ لأنه يؤسس، ثم بعد ذلك يفصِّل، ثم بعد ذلك يبدأ في دراسة المسألة.

وبعض المسائل يعطيها حقها، كما في "قراءة القرآن في الركوع"

(1)

، فهو في كل مسألة يدرسها دراسة محرَّرَة ينتهي فيها إلى الترجيح؛ نجد أنه

(1)

أتفق الأئمة الأربعة على كرأهة قراءة القرآن في الركوع.

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 218) حيث قال: "ويكره أن يقرأ في غير حال القيام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن القراءة في الركوع والسجود وقال: "أما الركوع فعظّموا فيه الرب وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فإنه قَمَنٌ أن يستجاب لكم"".

مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (1/ 291) حيث قال: "وكذا تكره القراءة في الركوع أو التشهد أو السجود لخبر "نهيت أن أقرأ الفرآن راكعًا أو ساجدًا فأما الركوع فعظموا فيه الرب"" وانظر: "التاج والإكليل" للمواق (2/ 258).

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 366) حيث قال: "قال في المجموع: وتكره القراءة في الركوع وغيره من بقية الأركان غير القيام اهـ. والحكمة في وجوب القراءة في القيام والتشهد في الجلوس وعدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود أنه في القيام والقعود ملتبس بالعادة فوجب فيها ليتميزا عنها بخلاف الركوع والسجود".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 362) حيث قال: "ويكره أن يقرأ في الركوع والسجود، لما روي عن علي رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود".

ص: 1572

يستوفي القول فيها، وهذا الغالب عليه، ولا شك أنه معذور في هذا؛ لأن وضْع كتابه يقتضي الإجمال.

* قوله: (فَأَمَّا الحُكْمُ؛ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ)

(1)

.

يذكر هنا الفرع الأول من المسألة، وهو حكم رفع اليدين في الصلاة، وذهب إلى أنه سُنة، لكن العلماء يختلفون في المواضع التي يتم فيها الرفع؛ إذًا لا يقولون بالوجوب.

وهناك مَن يقول بالوجوب كما سيذكُر، وذلك عند تكبيرة الإحرام، وقد نُقِل ذلك عن الحُمَيْدِي شيخ البخاري

(2)

، وأحمد بن السري

(3)

، ولو قلنا بهذا؛ فالمخالف عليه وِزر.

* قوله: (وَذَهَبَ دَاوُدُ

(4)

وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ).

(1)

اتفق الفقهاء على أنه يسن للمصلي عند تكبيرة الإحرام أن يرفع يديه. وأنه ليس بواجب، ولا تبطل الصلاة بتركه، ولكن تاركه فوّت خيرًا عظيمًا بتركه سنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقد نقل ذلك ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 300) فقال:"أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإن من السنة أن يرفع المرء يديه إذا افتتح الصلاة".

(2)

سيأتي قريبًا.

(3)

لم أقف على قوله.

(4)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 409) حيث قال: "وقال داود بن علي الرفع عند تكبيرة الإحرام واجب؛ ركن من أركان الصلاة، واختلف أصحابه فقال بعضهم: الرفع عند الإحرام وعند الركوع والرفع منه واجب، وقال بعضهم: لا يجب الرفع عند الإحرام ولا غيره فرضًا لأنه فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به، وقال بعضهم: لا يجب الرفع إلا عند الإحرام، وقال بعضهم: هو واجب كله لقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي"".

وهو مذهب الظاهرية، انظر:"المحلى بالآثار"، لابن حزم (2/ 264)، وفيه قال:"ورفع اليدين للتكبير مع الإحرام في أول الصلاة فرض، لا تجزئ الصلاة إلا به".

ص: 1573

لكن داود يُعمِّم، لكنه -كما ذكر ابن عبد البر- قال: لم يقل لأحد هؤلاء الذين يقولون بالوجوب؛ فالمسلم عنده لو لم يرفع يديه بَطلت صلاته

(1)

.

فهم لا يقولون ببطلان الصلاة، لكن يؤكدون عليها؛ فالمسلم -بحمد اللَّه- لا تلحقه مشقة، كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، فنحن مطالبون بأنْ نستجيب لأوامر اللَّه وأوامر رسوله، ومُطالَبون أيضًا بأن نقتدي بمنهج رسول اللَّه -عليه أفضل الصلاة والسلام- القائل:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(2)

، فكما رفع يديه في مواضع؛ فما أحسَن أن نرفع أيدينا فيها.

أمَّا دعوة أن ذلك لم يرد في حديث المسيء

(3)

، فكثير من أحكام الصلاة لم ترد فيه كذلك، فلو وقفنا عند هذا الحديث؛ لعطَّلنا كثيرًا مِن أحكام الصلاة، وقد سبق أن أقمنا حُجَّةً على الحنفية في قولهم بعدم وجوب التشهد؛ لأنهم يرون وجوب الجلوس بقدر التشهد، وهذا مِمَّا لم يَرِد في حديث المسيء، كما أقمنا الحُجة أيضًا علَى المالكية؛ لأنهم قالوا بوجوب التسليم، والتسليم ليس موجودًا في حديث المسيء، وليس معنى هذا أن يُنسَب لإمام رأيٌ، ويكون رأيه مرجوحًا ويخالفه غيره، فهذا الإمام يكون قد تغيَّر، فهو له وجهة نظر، وقد يكون له دليل، وقد يكون دليل غيره أقوى منه، فهذه مسائل طويلة جدًّا، وهناك من كتب فيها.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 411) قال أبو عمر: "كل من رأى الرفع وعمل به من العلماء لا يبطل صلاة من لم يرفع إلا الحميدي وبعض أصحاب داود".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل، فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد وقال:"ارجع فصل، فإنك لم تصل"، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ارجع فصل، فإنك لم تصل" ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني، فقال:"إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها".

ص: 1574

* قوله: (وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا أَقْسَامًا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ فَقَطْ).

وهنا لم يعارضهم المؤلف؛ لأن كتابه مُجمَل ومُقنَّن، لا يتطرق إلى كل الجزئيات، ولا حرج من وراء هذا الغرض الذي وضعه المؤلف.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِفْتَاحِ

(1)

، وَعِنْدَ الرُّكُوعِ

(2)

، أَعْنِي: عِنْدَ الِانْحِطَاطِ فِيهِ، وَعِنْدَ الِارْتِفَاعِ مِنْهُ).

(1)

مذهب أهل الظاهر، يُنظر:"المحلى"(2/ 264) حيث قال: "ورفع اليدين للتكبير مع الإحرام في أول الصلاة فرض، لا تجزئ الصلاة إلا به".

(2)

اختلف الفقهاء في مشروعية رفع اليدين عند الركوع والرفع منه فذهب الحنفية والمالكية إلى عدم مشروعية رفع اليدين إلا عند تكبيرة الإحرام، فلا يشرع رفعهما عند الركوع أو الرفع منه، واتفق الشافعية والحنابلة على مشروعية رفع اليدين عند الركوع والرفع منه.

مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 119 - 120) حيث قال: " (ولا يرفع يديه إلا في فقعس صمعج) أي إلا في سبع مواطن: وهي عند الافتتاح. . . " وقال الشافعي: "يرفع في الركوع، والرفع منه. .. ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن البراء أنه قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين افتتح الصلاة، ثم لم يرفعهما حتى انصرف".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 247) حيث قال: "ثم شرع في مندوبات الصلاة مشبهًا لها بالمندوب المتقدم فقال (كرفع يديه) أي المصلي مطلقًا حذو منكبيه ظهورهما للسماء وبطونهما للأرض (مع إحرامه) فقط لا مع ركوعه ولا رفعه ولا مع قيام من اثنتين".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (1/ 251) حيث قال: "ويستحب رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والركوع والرفع منه لكل مصل؛ قائم وقاعد ومضطجع". وانظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 155).

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 391) حيث قال: " (سنن أفعال وهيئات سميت) أي سماها صاحب المستوعب وغيره (هيئة لأنها صفة في غيرها) كسكون الأصابع مضمومة ممدودة حال (رفع اليدين مبسوطة) أي ممدودة الأصابع (مضمومة الأصابع مستقبل القبلة) ببطونها إلى حذو منكبيه (عند الإحرام، و) عند (الركوع، و) عند (الرفع منه) أي من الركوع".

ص: 1575

والاستفتاح، أي: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، أي: عند الهوي إلى الركوع فيرفع يديه، وأيضًا عندما يرفع رأسه منه، وهناك تفصيلات؛ مِمَّا يدُلُّ أنَّ المؤلِّف لا يتتبَّع جزئيات العلماء، حيث تكلموا أيضًا فيما لو رفع يديه ممدودتا الأصابع أو غير ذلك؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث أن الرسول كان يمدهم مدًّا.

وجاء عند الشافعية ممدودة الأصابع، وعند الحنابلة بضم الأصابع.

وهكذا أيضًا في المسائل الأخرى هناك جزئيات كبيرة لا يتعرض لها المؤلف، لكنها ليست في الأهمية كأهمية رفع اليدين نفسها، كونك مثلًا تمد يديك مستقيمة أو تفردهما أو تضم الأصابع، فهذه الجزئيات الخلاف فيها أخف من الخلاف في الأصل.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي هَذَيْنِ المَوْضِعَيْنِ، وَعِنْدَ السُّجُودِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي المَوَاضِعِ الَّتِي يُرْفَعُ فِيهَا).

مِن المواضع المعروفة كما بينَّا سابقًا، والتي وردت فيها أدلة صحيحة ثابتة:

- عند تكبيرة الإحرام، وقد ورد في ذلك حديث عبد اللَّه بن عمر

(1)

.

- وعند الركوع، والرفع منه، وورد في ذلك حديث صحيح "أن الرسول عليه الصلاة والسلام رفعَهُما عندما قام من التشهد الأول من السجدتين"

(2)

.

إذًا، فهذه أربعة مواضع ينبغي أن نحافظ عليها، ونرفع اليدين فيها؛ اقتداءً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنَّنا نسعى إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.

(1)

تقدَّم.

(2)

أخرجه البخاري (739) عن نافع، أن ابن عمر، "كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه"، ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ص: 1576

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِيهِ تَعْلِيمُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ لِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَكَبِّرْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِرَفْعِ يَدَيْهِ).

هذا ردٌّ عليه أن ذلك الحديث مقْتصر على الفرائض، والصحيح أنه مقتصر على بعض الفرائض لا كل الفرائض؛ فكيف نجعله حجة في عدم ثبوت رفع اليدين، مع أن القول في ذلك أنه سُنة؟

يقال لهم: احتجوا مع الذين يقولون بالوجوب، أمَّا أن تحتجوا به على الذين يقولون بسُنيته، فهذا احتجاج في غير محله، وقد وردت أحاديث كثيرة جدًّا في "الصحيحين" كلها تُثبت الرفع.

* قوله: (وَثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: "أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ"

(1)

، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي المَوَاضِعِ الَّتِي تُرْفَعُ فِيهَا، فَذَهَبَ أَهْلُ الكُوفَةِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَسَائِرُ فُقَهَائِهِمْ

(2)

إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ المُصَلِّي يَدَيْهِ إِلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ فَقَطْ).

هؤلاء الذين كانوا يسمونهم بـ "مدرسة العراق"، حيث كان هناك مدرستان:"مدرسة الحجاز"، ويمثلها الإمام مالك، و"مدرسة العراق"، ويقال لها:"مدرسة أهل الرأي".

وسفيان الثوري من رواة الأحاديث، ومن الأئمة الذين لا يقل

(1)

أخرجه البخاري (735) ومسلم (390) أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضًا.

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 408) حيث قال: "وقال إن كان ففي الإحرام وهو قول الكوفيين: أبي حنيفة وسفيان الثوري والحسن بن حي وسائر فقهاء الكوفة قديمًا وحديثًا".

ص: 1577

درجتهم عن الإمام أبي حنيفة، ومن تلاميذ أبو حنيفة: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن.

* قوله: (وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ

(1)

، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ

(2)

، وَأَحْمَدُ

(3)

، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ

(4)

وَجُمْهُورُ أَهْلِ الحَدِيثِ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ

(5)

إِلَى الرَّفْعِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ وَعِنْدَ الرُّكُوعِ، وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ).

أبو ثور ينسبه البعض إلى الشافعي، ولكنه أيضًا من العلماء المجتهدين الذين لهم رأي، فلا إشكال أنَّ أتباع الأئمة لهم آراء، كأبي يوسف -مثلًا- لم يوافق أبا حنيفة في كل شيء، بل له آراء انفرد بها، وكذلك محمد بن الحسن الذي يُعدُّ صاحب الفضل الأكبر في هذا المذهب، حيث دَوَّن مسائله وعني به؛ ولذلك فكتُبهُ تأتي في المقدمة، ومع ذلك فقد خالف إمامَهُ في بعض المسائل، لأن هذا الخلاف الذي كان يقصده ينتهي إلى وفاق لا إلى اختلاف، ولم يكن خلافًا من أجل الشهرة، ولكن لأنه ظهر له الحق، وقد يكون الحق مع الإمام، إذًا، فكلهم يريدون الحق.

(1)

يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 405) حيث قال: " (ورفع اليدين) قائمتين حذو الأذنين أو دون ذلك عند تكبيرة الإحرام فقط دون ما عداها من التكبيرات (سنة) على أحد أقوال ثلاثة مشهورها أن ذلك مستحب".

(2)

تقدَّم قوله.

(3)

تقدَّم قوله.

(4)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 409) حيث قال: "وقال الأوزاعي. . وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق ومحمد بن جرير الطبري وجماعة أهل الحديث بالرفع على حديث ابن عمر إلا أن من أهل الحديث من يرفع عند السجود والرفع منه".

(5)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 3) حيث قال: "ورأت طائفة: رفع اليدين عند الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع. وهو قول: الشافعي وأحمد وأبي سليمان، وأصحابهم".

ص: 1578

* قوله: (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ بَعْضِ أُولَئِكَ فَرْضٌ، وَعِنْدَ مَالِكٍ سُنَّةٌ)

(1)

.

فهو سُنة عند مالك وحده، أما غيره فلم يقل أحد مِن الأئمة الثلاثة بالفرضية، حتى وإنْ اقتصر أبو حنيفة

(2)

على تكبيرة الإحرام إلا أنه لم يقل أحد بأنها ركن أو واجب.

* قوله: (وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الحَدِيثِ إِلَى رَفْعِهَا عِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ كُلِّهِ اخْتِلَافُ الآثَارِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمُخَالَفَةُ العَمَلِ بِالمَدِينَةِ لِبَعْضِهَا).

عمَلُ أهل المدينة

(3)

كان معروفًا وقتئذٍ أنه هو الحُجة عند المالكية؛ لأنها كانت دار الهجرة، ومقر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد تجمَّع الصحابة فيها، ومنها خرجوا وإليها عادوا؛ إذًا، فهذه الأمور التي نراها في الكيل أو الوزن أو في بعض المسائل أخذوها عن الجيل الذي قبلهم من أهل المدينة رضي الله عنهم.

لأن الذين يخالفون يرون أن العلم ليس مقصورًا فقط على أهل المدينة، فالصحابة تفرَّقُوا، منهم مَن ذهب إلى البصرة، ومنهم من ذهب إلى الكوفة، ومنهم من ذهب إلى مكة، وكذلك إلى الطائف، وكل منهم

(1)

تقدَّم قوله.

(2)

تقدَّم قوله.

(3)

يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (1/ 243) حيث قال: "اتفق الأكثرون على أن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافًا لمالك، فإنه قال: يكون حجة، ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم، ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى، ولا تمتنع مخالفته. ومنهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. والمختار مذهب الأكثرين، وذلك أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة والخارج عن أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين، فلا يكون إجماعهم حجة".

ص: 1579

يحمل عِلمًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قد نجد هنا آراء فقهية متعددة، حتى إنَّ الإمام الشافعي رحمه الله دوَّن مذهبَيْهِ الجديد والقديم في العراق، ووقف على أدلةٍ لم يُقَف عليها، وليس معنى هذا أن كلَّ ما دوَّنه كان خطأً، بل توجد مسائل في القديم أقوى أدلةً من الجديد، وينص عليها بعض محققي الشافعية، لكن الإمام الشافعي وجَدَ مدرسةً أيضًا في مصر تستند إلى كثيرٍ من الأدلة، وأخذ عنها وروَى.

كذلك مِن الصحابة مَن سافر إلى الشام ليأخذ حديثًا واحدًا بلَغهُ أنَّ أحَدَ الصَّحابة حفظه عن رسول اللَّه، وهذا ثابت في "صحيح البخاري"

(1)

.

كذلك فعل كل الأئمة، فالشافعيُّ -مثالًا- كم مرة دخل العراق، وذهب إلى مكة، وكان يلقي دروسه فيها، وكان الإمام أحمد يأخذ بيد إسحاق ليستمع إلى هذا، وكان كثيرًا يدعو للشافعي

(2)

وسافر الإمام أحمدُ

(1)

أخرجه البخاري تعليقًا (مع الفتح)(1/ 174) قال: "ورحل جابر بن عبد اللَّه مسيرة شهر إلى عبد اللَّه بن أنيس في حديث واحد".

وعلقه أيضًا في موضع آخر (13/ 457) قال: ويُذكر عن جابر، عن عبد اللَّه بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر اللَّه العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كلما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان". ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق"(5/ 355).

وأخرجه أحمد في "المسند"(16042) عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه، يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام فإذا عبد اللَّه بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد اللَّه؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني، واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه،. . . " الحديث. وحسن إسناده الأرناؤوط.

(2)

ينظر: "سير أعلام النبلاء"(10/ 45) حيث قال: "وقال محمد بن هارون الزنجاني: حدثنا عبد اللَّه بن أحمد، قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال: يا بني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف، أو منهما عوض".

ص: 1580

نفسه إلى اليمن

(1)

، وتنقل هنا وهناك؛ كل ذلك دليل رواية الحديث، وجمع المسائل، والأخذ عن العلماء؛ لأن العلم لا يكفي فيه الأخذ عن كتاب واحد.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ، أَحَدُهَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثُ البَرَاءِ بْنِ عَازِبِ "أَنَّهُ كانَ عليه الصلاة والسلام يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الإِحْرَامِ مَرَّةً وَاحِدَةً لا يَزِيدُ عَلَيْهَا")

(2)

.

جاء في أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وما عاد إلى رفعهم، ولكن بعض العلماء كالإمام النووي في "المجموع" لخص فيه ما جاء في كتاب البخاري، والإمام النوويُّ -كما هو معلوم- من العلماء المحققين الذين أعطاهم اللَّه قُدرةً على التأليف والتحقيق، وممن علموا بفقه الحديث، فهو مِمَّن صحَّح الحديث، واهتم بهذه المسائل، وكذلك الإمام ابن قدامة في كتابه "المغني".

* قوله: (وَالحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا أَيْضًا كَذَلِكَ).

المؤلف عادة يأتي بالحديث كاملًا.

* قوله: (وَقَالَ: "سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"، وكانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ

(3)

، وَهُوَ حَدِيث مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).

نعم، اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن عمر، وقد

(1)

إلى عبد الرزاق الصنعاني وإبراهيم بن عقيل. يُنظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص 88) وذكر بسنده إلى عبد الرزاق يقول: "ما قَدم علينا مثل أَحمد بن حنبل". وانظر: "مناقب الإمام أحمد"(ص 34).

(2)

أخرجه أبو داود (749) عن البراء أن رسول اللِّه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة؛ رفع يديه إلى قريب من أذنيه، ثم لا يعود. وضعَّفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(125).

(3)

أخرجه البخاري (735)، ومسلم (390).

ص: 1581

أثبت ذلك في مواضع ثلاثة، والحديث:"إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع رفعهما، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما، وقال: "سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"

(1)

.

* قوله: (وَزَعَمُوا أَنَّهُ رَوَى ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ)

(2)

.

كلمة "زعموا" لا يقصد بها أحيانًا الزَّعم الذي لا يُبنى على دليل، لكن المعنى أن العدد قد يكون أكثر من خمسين.

ومن الذين روى عنهم: العشرة المبشرين بالجنة، وهذا أمر اشتهر وعُرف بين الصحابة.

* قوله: (وَالحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَفيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ "أَنَّهُ كانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ السُّجُودِ"

(3)

).

حديث وائل بن حجر تكلَّم عنه العلماء من حيث السند؛ لأنه من رواية عبد الجبار بن وائل بن حجر، وهو لم يسمع عن والده فيكون الحديث منقطعًا

(4)

.

(1)

تقدَّم.

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 410) حيث قال: "وروى مثل ما روى ابن عمر من ذلك عن النبي عليه السلام نحو ثلاثة عشر رجلًا من الصحابة ذكر ذلك جماعة من أهل العلم بالحديث والمصنفين فيه؛ منهم: أبو داود وأحمد بن شعيب والبخاري ومسلم".

(3)

أخرجه أبو داود (723) عن عبد الجبار بن وأئل بن حجر، قال: كنت غلامًا لا أعقل صلاة أبي، قال: فحدثني وائل بن علقمة، عن أبي وائل بن حجر، قال:"صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان إذا كبر رفع يديه، قال: ثم التحف، ثم أخذ شماله بيمينه وأدخل يديه في ثوبه قال: فإذا أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع رفع يديه ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه، وإذا رفع رأسه من السجود أيضًا رفع يديه حتى فرغ من صلاته" وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(714).

(4)

قد صححه الألباني كما تقدم.

ص: 1582

* قوله: (فَمَنْ حَمَلَ الرَّفْعَ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ أَوْ فَرِيضَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الإِحْرَامِ فَقَطْ تَرْجِيحًا لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ لِمُوَافَقَةِ العَمَلِ بِهِ).

رفع اليدين إنما هو واجب، وهذا قول ضعيف يُعتبر.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ).

لا شك أن الأخذ بحديث عبد اللَّه بن عمر هو الأولَى؛ لأنه في "الصحيحين"، وقد جاءت أيضًا أحاديث أُخرى مؤيِّدة له، وجاءت أخبار كثير من الصحابة على رفع ذلك.

* قوله: (فَرَأَى الرَّفْعَ فِي المَوْضِعَيْنِ (أَعْنِي: فِي الرُّكُوعِ وَفِي الِافْتِتَاحِ لِشُهْرَتِهِ)، وَاتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلَيْهِ).

يقصد عند الركوع والرفع منه.

* قوله: (وَمَنْ كانَ رَأْيُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الرَّفْعَ فَرِيضَةٌ، حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الفَرِيضَةِ، وَمَنْ كانَ رَأْيُهُ أَنَّهُ نَدْبٌ، حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ، وَقَالَ: إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُجْمَعَ هَذِهِ الزِّيَادَاتُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، فَإِذًا العُلَمَاءُ ذَهَبُوا فِي هَذِهِ الآثَارِ مَذْهَبَيْنِ: إِمَّا مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، وَإِمَّا مَذْهَبَ الجَمْعِ).

هذه مذاهب يسلكها المحذثون، فيتطلب معرفة السابق من اللاحق، أو المتقدم والمتأخر، فهناك مذهب الترجيح، وهناك مذهب الجمع، ولا شك أن مذهب الجمع هو أشهر هذه المسالك؛ لأنه يُمكِّن من الأخذ بجميع الأدلة.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي حَمْلِ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ: هَلْ عَلَى النَّدْب أَو الفَرْضِ؟ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي قُلْنَاهُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَرَى الأَصْلَ فِي أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الوُجُوبِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ).

ص: 1583

فمحل الخلاف عن الأصوليين هو أن أفعال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تُحمل على الوجوب أم لَا

(1)

؟

* قوله: (وَمِنْهمْ مَنْ يَرَى أَنَّ الأصْلَ أَنْ لَا يُزَادَ فِيمَا صَحَّ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنْ قَوْلٍ ثَابِتٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَنَّهُ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مِنْ قَوْلِنَا، وَلَا مَعْنَى لِتَكْرِيرِ الشَّيْءِ الوَاحِدِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ).

(1)

يُنظر: "قواطع الأدلة" للسمعاني (1/ 303 - 304) حيث قال: "أفعاله على ثلاثة أضرب: أحدها: حركاته التي تدور عليها هواجس النفوس كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فلا يتعلَّق بذلك أمر باتباع ولا نهي عن مخالفة. والضرب الثاني: أفعاله التي لا تتعلق بالعبادات كأحواله في مأكله ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته فيدل فعل ذلك على الإباحة دون الوجوب. وأما الضرب الثالث: ما اختص بالديانات وهو على ثلاثة أضرب؛ أحدها: ما يكون بيانًا. والثاني: ما يكون تنفيذًا وامتثالًا. والثالث: ما يكون ابتداء شرع؛ فأما البيان فحكمه مأخوذ من المبين فإن كان المبين واجبًا كان البيان واجبًا وإن كان ندبًا كان البيان ندبًا ويُعرف أنه بيان بأن يصرح بأنه بيان كذلك ولعلم في القرآن أنها مجملة تفتقر إلى البيان ولم يظهر بيانها بالقول فنعلم أن هذا الفعل بيان لها، والثاني أن يفعل امتثالًا وتنفيذًا له، فيعتبر أيضًا بالأمر وإن كان الأمر على الوجوب علمنا أنه فعل واجبًا وإن كان الفعل على الندب علمنا أنه فعل ندبًا.

والثالث: أن يعمل ابتداء من غير سبب ولم يوجد منه في ذلك أمر باتباع ولا نهي عنه فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة مذاهب وكذلك سائر الفقهاء والمتكلمين وهذا الاختلاف فيما يرجع إلى حقوق الأمة:

المذهب الأول: أن اتباعه في هذه الأفعال واجب على الأمة إلا ما خصه ذلك وهذا مذهب مالك والحسن وبه قال من أصحاب الشافعي أبو العباس بن سريج والإصطخري وأبو علي بن أبي هريرة وأبو علي بن خيران وهذا هو الأشبه بمذهب الشافعي رحمة اللَّه عليه وبهذا قال من أصحاب أبي حنيقة أبو الحسن الكرخي وهو قول طائفة من المتكلمين.

والمذهب الثاني: المستحب للأمة اتباعه في هذه الأفعال ويندب إلى ذلك ولا يجب وهو قول الأكثر من أصحاب أبي حنيفة وهو قول أكثر أهل المعتزلة وبه قال من أصحاب الشافعي أبو بكر الصيرفي وأبو بكر القفال.

والمذهب الثالث: أن الأمر في ذلك على الوقف حتى يقوم دليل على ما أريد منا في ذلك وإلى هذا ذهب أكثر الأشاعرة واختاره من أصحاب الشافعي أبو بكر الدقاق وأبو القاسم بن كج.

ص: 1584

أفعاله عليه الصلاة والسلام هل تُحمَل على الوجوب أم لا

(1)

؟

نحن نعرف أن الأصل في الأمر عندما يُطلق؛ فيُحْمَل على الوجوب ما لم تأتِ قرينةٌ تدلُّ على صَرْفِه عن الوجوب، وهذا بالنسبة إلى الأوامر.

فأفعاله عليه الصلاة والسلام في الصلاة يسندها حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي"

(2)

، ولعلنا نفصل القول في كون الحديث على إطلاقه أم لا، وكون الأمر هنا واجب أم لا، وكل ذلك يحتاج لأدلة أُخرى.

* قوله: (وَأَمَّا الحَدُّ الَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ اليَدَانِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلى أَنَّهُ المَنْكِبَانِ، وِبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلى رَفْعِهَا إِلَى الأُذُنيْن، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَذهَب بَعْضُهُمْ إِلَى رَفْعِها إِلى الصَّدْرِ، وَكلُّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا أنَّ أَثْبَتَ مَا فِي ذَلِكَ أنَّهُ كانَ يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَعَلَيْهِ الجُمْهُورُ).

هناك قولان مشهوران في ذلك:

الأول: رفع اليدين إلى المنكبين

(3)

.

وقد قال به جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، واستدلوا بحديث عبد اللَّه بن عمر المتفق عليه.

والثاني: إلى فروع الأذنين، والدليل حديث مالكٍ في "صحيح مسلم".

فالقولان صحيحان، لكن الذين يأخذون برفع اليدين حذو المنكبين يقولون بأن دليله أقوى، وإن كان الكل صحيحًا كما قلنا.

* قوله: (وَالرَّفْعُ إِلَى الأُذُنَيْنِ أَثْبَتُ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الصَّدْرِ وَأَشْهَرُ).

فالرفع إلى المنكبين أو الأذنين.

(1)

يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (1/ 186) حيث قال: "معظم الأئمة من الفقهاء والمتكلمين متفقون على أننا متعبدون بالتأسي به في فعله واجبًا كان أو مندوبًا أو مباحًا، ومنهم من منع من ذلك مطلقًا". وانظر: "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية" لمحمد الأشقر (1/ 185).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

المَنكِبُ: مجتمع رأسِ العضُدِ فِي الكتفِ. انظر: "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء" لأبي هلال العسكري (ص 58).

ص: 1585

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الِاعْتِدَالَ مِنَ الرُّكُوعِ وَفي الرُّكُوعِ غَيْرُ وَاجِبٍ

(1)

، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:"هُوَ وَاجِبٌ"

(2)

).

*‌

‌ فائدة:

هنا قضية مهمة؛ معلومٌ أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، بل هي الركن الثاني مِن أركان الإسلام، وقد أمر اللَّه سبحانه وتعالى بالمحافظة عليها، فقال:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238].

وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} [الحج: 77]، إلى أن قال:{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج: 78].

أيضًا هناك أدلة كثيرة في السنة بيَّنَتْ مكانة الصلاة وأهميتها، والمبالغة في العناية بها في كل حالٍ مِن أحوالها.

وعلى ما تقدَّم يتبين أهمية الخشوع فيها، وهذا لا يحصل إلا بالاطمئنان، الذي يدل على خشوع قلب المؤمن، وعلى سكون فؤاده، وعلى تأثره بهذه الصلاة؛ ولذلك لا ينبغي للإنسان في صلاته أن يسرقها، لأن مَن يُسارع في ركوعه وسجوده إنما هذا هو أبلغ أنواع السرقة، كما جاء في الحديث، وكذلك أيضًا جاء في حديث المسيء أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:"ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا"

(3)

.

(1)

يُنظر: "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(1/ 464) حيث قال: "والحاصل أن الأصح رواية ودراية وجوب تعديل الأركان، وأما القومة والجلسة وتعديلهما فالمشهور في المذهب السنية، وروي وجوبها".

(2)

تقدَّم قوله.

(3)

أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) عن أبي هريرة وفيه ". . ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا. . . . " الحديث.

ص: 1586

وقد اختلف العلماء

(1)

في هذه المسألة، مع أن الأولَى ألَّا يحصل فيها خلاف؛ لأن الذين يقولون بالاطمئنان يرون أنه ركن من أركان الصلاة، ومعنى كونه ركنًا أنَّ الصلاة إنْ فُقِدَ الاطمئنان في ركوعها وسجودها، فسدت، ومَن يرى أنهما ليسا بركنين؛ فإنه يرى صحة الصلاة، بل إن من هؤلاء من قال:"لو حط من الركوع إلى السجود لصحت صلاته"، واستدلوا بأن اللَّه تعالى قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، فاللَّه سبحانه وتعالى أمر بالركوع والسجود، ولم يأمر بالاطمئنان فيهما؛ فعدوا هذا دليلًا على أن الواجب هو الركوع والسجود، فمن قام وركع ورفع وسجد ورفع كل هذا مسرعًا؛ يكون قد أدى الواجب؛ لأنه أدى أقل ما يسمونه واجب!

لكن جمهور العلماء ردوا عليهم بأنها دعوى غير مسلَّمة؛ لأنه ورد نصٌّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم صريح في ذلك، في حديث المسيء عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل الذي صلى ثلاثًا، فبِمَا يحسن صلاته: "إذا قمت

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 524) حيث قال: " (واعتدال على الأصح والأكثر على نفيه) ما عليه الأكثر هو الظاهر من مذهب المدونة، ومن كلام ابن بشير وغيره قال فيها في باب الصلاة في السفينة من كتاب الصلاة الثاني: وصلاتهم على ظهرها أفذاذًا أحب إلي من صلاتهم في جماعة منحنية رؤوسهم تحت سقفها، انتهى ابن بشير وهذا محمول على أن الانحناء كثير وأما لو كان يسيرًا لكان الجمع أولى؛ انتهى من كتاب الصلاة الثاني في آخر باب أحكام القصر من كتاب التنبيه له، وقال الشيخ أبو الحسن: وكذا أنحناء مثل السفينة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 158) حيث قال: " (ولو عجز الراكع عن الاعتدال سجد من ركوعه) وسقط الاعتدال لتعذره (فلو زال العذر قبل وضع جبهته) على مسجده (رجع إليه) أي إلى الاعتدال (أو) زال (بعده فلا) يرجع إليه بل يسقط عنه (فإن عاد) إليه (جاهلًا) بالتحريم ولو عامدًا (لم تبطل) صلاته وإلا بطلت".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 365) حيث قال: "فصل: وهذا الرفع والاعتدال عنه واجب، وبه قال الشافعي،. . . ولنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به المسيء في صلاته، وداوم على فعله، فيدخل في عموم قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"".

ص: 1587

إلى الصلاة فاستقبل القبلة ثم كبر"

(1)

، وفي روايةٍ أُخرى:"إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر مما معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا"

(2)

، والاعتدال هو الاطمئنان، أيْ: يعود كل عضو إلى حالته السابقة، "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تعتدل جالسًا"

(3)

.

إذًا، هذا نصٌّ صريح في هذه المسألة.

وثبت في الحديث الذي أخرجه أبو داود

(4)

، والنسائي

(5)

، والترمذي

(6)

من حديث أبي مسعود البدري، أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود"، وإقامة الظَّهر في الركوع والسجود إنما هي علامة الاطمئنان؛ لأن الإنسان لو سارع لا يمكن أن يطمئن أن يقيم ظهره لا في ركوع ولا في سجود؛ لأنه يركع ويرفع ويسجد ويرفع؛ فهذا لا يقيم ظهره.

وعليه فكلاهما دليلان على أن الاطمئنان مُتعيِّن، أما بالنسبة للآية وهي قوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، فالواقع أنها حُجة للجمهور، وليس حجة للحنفية ومَن معهم؛

(1)

أخرجه أبن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 257) وغيره، عن رفاعة بن رافع وكان بدريًّا، قال: كنا جلوسًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدخل رجل فصلى صلاة خفيفة لا يتم ركوعًا ولا سجودًا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرمقه ونحن لا نشعر، قال: فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أعد فإنك لم تصل"، قال: ففعل ذلك ثلاثًا، كل ذلك يقول له:"أعد فإنك لم تصل"، فلما كان في الرابعة قال: يا رسول اللَّه، علمني فقد واللَّه اجتهدت، فقال:"إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة، ثم كبر. . . ". وصححه الألباني في "صحيح النسائي"(3/ 197).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

حديث (855).

(5)

حديث (1027).

ص: 1588

لأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى أمر بالركوع والسجود، وبيَّن سبحانه في آيةٍ أُخرى قوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

وقال أيضًا في آية أُخرى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، والبيان يكون في سُنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فهِيَ تُبَيِّن مَا أَجمَلَه القرآن، وهي أيضًا تُقيِّد ما أطلقه، وتخصص عمومه، وتوضح ما ورد فيه من إجمال، تأتي السنة أحيانًا موافِقةً لنص القرآن؛ فتلتقي معه في الحُكْم، وقد تزيد على ذلك بيانًا، وربما تأتي بأحكامٍ لم ترِدْ أيضًا في القرآن، وقد ذكرنا ذلك في مناسبات عدةٍ تقدمت، كالجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها

(1)

، فهذه لم ترد في القرآن، ولكنها جاءت في السنة.

إذًا، المسلمون مُطالَبون بأن يعمَلُوا بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو القائل:"ألَا إني أُوتِيتُ القرآن ومثله معه"

(2)

.

إذًا، سُنة الرسول بيَّنَت المراد بالركوع والسجود؛ فنحن عندما نأتي لتطبيق صفة صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي رواها جمعٌ غفير من الصحابة، نجد أن جميع الذين حكَوْها بيَّنُوا أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطمئن في ركوعه، وفي سجوده، بل في كل أحوال صلاته، ويقول:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(3)

، وبيَّن أيضًا في حديثٍ آخَر "أنَّ من لم يطمئن في ركوعه وسجوده فإن هذه أبشع السرقات"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها".

(2)

أخرجه أحمد في المسند (17174)، وصحح إسناده الأرناؤوط. وفي رواية:"ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه" أخرجها أبو داود (4/ 200)، عن المقدام بن معدي كرب. وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(163).

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

معنى حديث أخرجه أحمد في المسند (11532) عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن أسوأ الناس سرقة، الذي يسرق صلاته"، قالوا: يا رسول اللَّه وكيف يسرقها؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها" وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(885).

ص: 1589

إذًا، الاطمئنان في الصَّلاة رُكْن، وينبغي للمسلم ألا يتساهل فيه، لكن أن يطرأ للمؤمن عُذر فهذا أمر آخر.

فقد لا يستطيع المصلي أن يقوم؛ فيسقط عنه القيام لعذرٍ لا لأن الاطمئنان غير واجب، إنما لأنه عجز عن ذلك؛ فتُعَدُّ صلاته صحيحة، لكن الحديث عن إنسانٍ قادر أن يطمئن في ركوعه وسجوده ولا يفعل ذلك.

* قوله: (وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: هَلْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سُنَّةً أَوْ وَاجِبًا؛ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ

(1)

).

هنا الإمام مالك نفسه لم يقل شيئًا في ذلك، ولم يُنقل عنه، ومعلوم أن أشهر الكتب عند المالكية "الموطأ"، يليه مباشرة "المدونة"، وهذه رواية ابن القاسم عن الإمام مالك، حيث كان يسأل الإمام مالكًا عن مسألة فيجيبه، وأحيانًا يتوقف، وأحيانًا لا يسأل؛ فيجيب ابن القاسم

(2)

.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الوَاجِبُ الأَخْذُ بِبَعْضِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، أَمْ بِكُلِّ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ).

وهذا كلام يكرره المؤلف، فاللَّه تعالى يقول:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77].

(1)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (1/ 353) حيث قال: "وسئل مالك عن الرجل يركع فيرفع رأسه فلا يعتدل قائمًا حتى يهوي إلى السجود، أترى أن يعيد تلك الركعة؟ قال: لا، ولكن لا يعود. قال ابن القاسم: وهو رأيي. قال المؤلف: مثل هذا في رسم "التفسير" من سماع عيسى، فالاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة على هذا من سنن الصلاة لا من فرائضها، ومن أصحابنا المتأخرين من ذهب إلى أن ذلك من فرائضها، وإن لم يعتدل قائمًا في رفعه من الركوع ولا جالسًا في رفعه من السجود أعاد الصلاة. . . ".

(2)

لكن المدونة هي أصل مذهب المالكية ويقدمونها على الموطأ. قال القاضي عياض: "فهذه هي كتب سحنون المدونة والمختلطة. وهي أصل المذهب المرجح روايتها على غيرها، عند المغاربة، وإياها اختصر مختصروهم وشرح شارحوههم، وبها مناظرتهم ومذاكرتهم". انظر: "ترتيب المدارك وتقريب المسالك"، للقاضي عياض (3/ 299).

ص: 1590

هل الواجب أن نأخذ بأول الأسماء؟

إن قلنا: نعم؛ نقول: مجرد الركوع والرفع منه، والسجود والرفع منه دون اطمئنان كافٍ.

وإن قلنا: لا؛ يجب الأخذ بأول الاسم وآخره.

فإذا أخذنا بأن الركوع تتمته الاطمئنان، والسجود تتمته الاعتدال وهو الاطمئنان؛ فهذا هو مراد المؤلف، وكثيرًا ما يكرر مثل ذلك.

* قوله: (فَمَنْ كَانَ الوَاجِبُ عِنْدَهُ الأَخْذَ بِبَعْضِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَمْ يَشْتَرِطْ الِاعْتِدَالَ فِي الرُّكُوعِ، وَمَنْ كَانَ الوَاجِبُ عِنْدَهُ الأَخْذَ بِالكُلِّ اشْتَرَطَ الِاعْتِدَالَ).

هنا المؤلف جاء بها بأسلوبه الخاص، فعرض المسألة، وإلا المراد بها عند الحنفية ومَن معهم هو كما ذكرنا، يقولون: الآية اقتصرت على الركوع والسجود، وفي آية أُخرى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]؛ إذًا دل ذلك على أن الواجب هو الركوع والسجود والقيام، أمَّا الاطمئنان فليس بواجب.

* قوله: (وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ لِلرَّجُلِ الَّذِي عَلَّمَهُ فُرُوضَ الصَّلَاةِ: "ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، وَارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَافِعًا"

(1)

؛ فَالوَاجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ فَرْضًا).

إذًا، المؤلف يذهب مذهب القول بوجوب الاطمئنان وفرضيته، وهذا ظاهر.

* قوله: (وَعَلَى هَذَا الحَدِيثِ عَوَّلَ كُلُّ مَنْ رَأَى أَنَّ الأَصْلَ لَا تُحْمَل أَفْعَالُهُ عليه الصلاة والسلام فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهَا فِي هَذَا الحَدِيثِ عَلَى الوُجُوبِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ).

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1591

اشتهر حديث المسيء أنه اقتصر على الواجبات، وبعضهم يقول على الأركان، واقتصاره هذا دليل على أنَّ ما ذُكر فيه واجب؛ فكأنه يرد على الحنفية ومَن معهم؛ لأنهم كثيرًا ما استدلوا به على عدم الوجوب، لأنه لم يُذكر فيه؛ فها نحن في هذه المسألة وجدنا أمرًا قد ذُكر في حديث المسيء، ألا وهو الاطمئنان الذي جاء نصًّا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فكأنهم بذلك ناقضوا الأصل الذي أسسوه ووضعوا عليه قاعدتهم

(1)

.

فعدم أخذهم بوجوب أو بفرضية الاطمئنان في الصلاة دليل على التَّناقض، وهذا هو ما يُشير إليه المؤلف.

فالمؤلف يعني بأن كثيرًا من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة هل هي واجبة أو ليست بواجبة، وكما هو معلوم أن الفقهاء أحيانًا يطلقون الواجب ويعممونه، وقد يعنون به الركن، كما جاء هنا؛ لأن الاطمئنان في الركوع والسجود ركن عند الشافعية

(2)

والحنابلة

(3)

، ومعلوم أنَّ

(1)

وذهب الحنفية -عدا أبي يوسف- إلى أن الطمأنينة واجبة وليست بفرض ويسمونها "تعديل الأركان" وهي سنة في تخريج الجرجاني، والصحيح الوجوب، وهو تخريج الكرخي. يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي وحاشية أبن عابدين (رد المحتار)(1/ 464) حيث قال: "فافهم (قوله وتعديل الأركان) هو سنة عندهما في تخريج الجرجاني، وفي تخريج الكرخي، واجب حتى تجب سجدتا السهو بتركه كذا في الهداية وجزم بالثاني في الكنز والوقاية والملتقى، وهو مقتضى الأدلة. . . (قوله وكذا في الرفع منهما) أي يجب التعديل أيضًا في القومة من الركوع والجلسة بين السجدتين، وتضمن كلامه وجوب نفس القومة والجلسة أيضًا لأنه يلزم من وجوب التعديل فيهما. . . والحاصل أن الأصح رواية ودراية وجوب تعديل الأركان، وأما القومة والجلسة وتعديلهما فالمشهور في المذهب السنية، وروي وجوبها وهو الموافق للأدلة وعليه الكمال ومن بعده من المتأخرين".

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 365) حيث قال: "ويشترط في صحة الركوع أن يكون (بطمأنينة) لحديث المسيء صلاته المتقدم، وأقلها أن تستقر أعضاؤه راكعًا (بحيث ينفصل رفعه) من ركوعه". وانظر "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 408 - 409).

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 387) حيث قال: " (و) التاسع (الطمأنينة في هذه الأفعال) أي في الركوع والاعتدال عنه والسجود والجلوس بين السجدتين لما سبق =

ص: 1592

الركن

(1)

يختلف عن الواجب

(2)

، بمعنى أنه لو لم يطمئن في ركوعه ولا سجوده؛ لَمَا صحَّت صلاته، أما الواجب فَيُجبَر بسجود السهو؛ كالتشهد الأول عند مَن يوجبه، وكالحنابلة في روايةٍ

(3)

، ومَن معهم.

* قوله: (وَمِنْ قِبَلِ هَذَا لَمْ يَرَوْا رَفْعَ اليَدَيْنِ فَرْضًا).

فهم لم يروا رفع اليدين فرضًا؛ لأنه لم يُذكر في حديث المسيء كما علَّلُوا، وقد سبق الرد على تناقضهم.

* قوله: (وَلَا مَا عَدَا تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ وَالقِرَاءَةَ مِنَ الأَقَاوِيلِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا).

في قوله: (ولا ما عدا تكبيرة الإحرام والقراءة)، معلومة بالنسبة للأقوال من الأركان، فتكبيرة الإحرام ركن، وكذلك قراءة الفاتحة، إلَّا في حَقِّ مَن عجَز عنها، أو كما ذكرنا سابقًا: مَن دخل وقد وجد الإمام راكعًا؛ فإنها تسقط عنه، فهل تسقط عنه لعذره لأنه لم يدركها، أو أنَّ الإمام يحملها عنه؟ هذه أيضًا مسائل يختلف فيها العلماء.

* قوله: (فَإِنَّهُ أَصْلٌ مُنَاقِضٌ لِلْأَصْلِ الأَوَّلِ وَهُوَ سَبَبُ الخِلَافِ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ المَسَائِلِ).

= ولحديث حذيفة "أنه رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال له: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر اللَّه عليها محمدًا صلى الله عليه وسلم"".

(1)

فالركن: ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءًا من حقيقته، كالركوع والسجود. يُنظر:"روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 496).

(2)

والواجب: ما ذم شرعًا تاركه قصدًا مطلقًا. يُنظر: "غاية السول إلى علم الأصول"، لابن المبرد (ص 49).

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 390) حيث قال: " (و) السابع (تشهد أول) لأنه صلى الله عليه وسلم فعله وداوم على فعله وأمر به وسجد للسهو حين نسيه وهذا هو الأصل المعتمد عليه في سائر الواجبات لسقوطها بالسهو وانجبارها بالسجود كواجبات الحج (على غير مأموم قام إمامه عنه سهوًا) فيتابعه (ويأتي في سجود السهو وتقدم المجزئ منه قريبًا) في الأركان".

ص: 1593

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ فِي هَيْئَةِ الجُلُوسِ).

يقصد المؤلف بهيئة الجلوس، أيْ: الجلوس بالنسبة للتشهدين، فهو لا يقصد فيما يبدو ويظهر الجلوس بين السجدتين، وإنما يقصد هنا الجلوس في التشهد الأول، والتشهد الأخير، فما هي كيفية جلوس المصلي في التشهد الأول؟ وحكمه، وحكم الجلوس الثاني؟ ثم بعد ذلك ستأتي مسألةٌ أُخرى يتحدَّث فيها عن الصفة التي يجلس فيها المصلي في التشهد، وهل تختلف الحال بين التشهدين أو لا؟ هناك من يسوي بينهما، وهناك مَن يُفرِّق، وأقوال العلماء ستأتي -إن شاء اللَّه- مُفصَّلة، مع دليل كل منهم.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: "يُفْضِي بِأَلْيَتَيْهِ إِلَى الأَرْضِ، وَيَنْصُبُ رِجْلَهُ اليُمْنَى وَيَثْنِي اليُسْرَى"

(1)

، وَجُلُوسُ المَرْأَةِ عِنْدَهُ كَجُلُوسِ الرَّجُلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ:"يَنْصُبُ رجْلَه اليُمْنَى وَيَقْعُدُ عَلَى اليُسْرَى").

هنا بيان كيفية الجلوس:

قال المالكية بالتَّوَرُّك، وهو أن يجلس المصلِّي علَى وِرْكِه، فينصب رجله اليُمنى ويُقدِّم رِجْلَه اليُسرى، فيضعها بين فخذه وساقه، ثم يجلس على وركه

(2)

.

وقال الحنفية بالافتراش

(3)

، وهو أن ينصب اليُمنى، ويفرش اليُسرى ويجلس عليها.

(1)

يُنظر: "الفواكه الدواني" للنفراوي (1/ 186) حيث قال: "والجلوس كله سواء يفضي بأليته إلى الأرض وينصب رجله اليمنى وظاهر إبهامها مما يلى الأرض ويثنى رجله اليسرى".

(2)

التورك أَن يلصق أليتيه بعقبيه فِي السُّجُود. وأن يقعد على وركه الأيسر ويخرج رجليه إلى يمينه. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 110) و"طلبة الطلبة" للنسفي (ص 5).

(3)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (2/ 262) حيث قال: " (وإذا رفع رأسه من =

ص: 1594

أما الشافعية

(1)

والحنابلة

(2)

فقد فصَّلوا، ولم يختلفوا إلا في صورة واحدةٍ، وهي في الصلاة التي ليس فيها إلَّا تشهد واحد

(3)

.

فالشافعية يقولون فيها بالتورك؛ لأنهم يعتبرونه تشهدًا أخيرًا.

أما الحنابلة فيقولون بالافتراش؛ لأنهم يرون أنه التشهد الأول.

أما أدلة أقوالهم، فكما يلي:

استدل أصحاب المذهب الحنفي على قولهم بالافتراش بحديث عائشة وهي تصف صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف كان يجلس؛ "كان ينصب رجله اليمنى، ويجلس على اليسرى

(4)

"، لكنه مُطلَق، ولم تُخصِّص فيه أن هذا

= السجدة الثانية في الركعة الثانية افترش رجله اليسرى) وفي "المبسوط" يجعلها بين أليتيه (وجلس عليها ونصب اليمنى) أي رجله اليمنى (نصبًا ووجه أصابعه نحو القبلة) وباطنها على الأرض في القعدتين.

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 377) حيث قال: "ولكن (يسن في) قعود التشهد (الأول الافتراش فيجلس على كعب يسراه) بعد أن يضجعها بحيث يلي ظهرها الأرض كما صرح به في "المحرر" (وينصب يمناه) أي قدمها (ويضع أطراف أصابعه) منها على الأرض متوجهة (للقبلة، و) يسن (في) التشهد (الآخر) وما معه (التورك وهو كالافتراش، لكن يخرج يسراه من جهة يمينه ويلصق وركه بالأرض) للاتباع".

(2)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 392) حيث قال: "والافتراش (في التشهد الأول، والتورك في) التشهد (الثاني ووضع اليدين على الفخذين مبسوطتين مضمومتي الأصابع مستقبلًا بها القبلة بين السجدتين، وكذا في التشهد) الأول والثاني (لكن يقبض من اليمين) ".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 363) حيث قال: " (ثم يجلس في التشهد الثاني من ثلاثية فأكثر متوركًا) لحديث أبي حميد فإنه وصف جلوسه في التشهد الأول مفترشًا. وفي الثاني متوركًا، وهذا بيان الفرق بينهما، وزيادة يجب الأخذ بها، والمصير إليها، وحينئذ لا يسن التورك إلا في صلاة فيها تشهدان أصليان في الأخير منهما، وصفته كما رواه الأثرم عنه (يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه ويجعل أليتيه على الأرض) لقول أبي حميد: فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدمه من ناحية واحدة".

(4)

أخرجه مسلم (498) عن عائشة، قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "يستفتح الصلاة بالتكبير. . . وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان. . . " الحديث.

ص: 1595

كان في التشهد الأول أو الأخير، وكذلك استدلوا بحديث وائل بن حجر؛ "أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينصب رجله اليمنى".

أما المالكية فاستدلوا بما ورد في حديث عبد اللَّه بن الزبير، "أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا جلَسَ للتشهد؛ أطلق قدَم رجله اليسرى ووضعها بين فخذه وساقه"

(1)

، وهذا أيضًا أطلق ولم يخصص في التشهد الأول أو الثاني.

لكن سيأتي حديث أبي حميد

(2)

، يحدِّث أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يفرِّق في جِلْسَته بين التشهُّدين، فهو يفترش في الأول ويتورَّك في الثاني.

لكن وقع الخلاف -كما قلنا- بين الشافعية والحنابلة في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد؛ كصلاة الفجر، وصلاة الجمعة، وصلاة التطوع، فهي صلوات ليس فيها إلَّا تشهد واحد، فهل نلحق هذا التشهد بالتشهد الأخير؛ لأنه يتلوه السلام ويعقبه، أو نعتبره كالتشهد الأول، لأنه لم يسبقه تشهد؟ هذا هو سر الخلاف بين المذهبين، وقبل ذلك وبعده لو جلس المصلي على أي هيئة من هيئات الصلاة متوركًا على مذهب الشافعية، أو مفترشًا على مذهب الحنفية؛ فصلاته صحيحة، وكذلك الحال بالنسبة للحنابلة.

(1)

أخرجه مسلم (579) عن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة، جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه".

(2)

أخرجه البخاري (828) عن محمد بن عمرو بن عطاء، أنه كان جالسًا مع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى وقعد على مقعدته".

ص: 1596

إذًا، اختلف العلماء هنا فيما هو الأفضل، ولا سيما أن هؤلاء الفقهاء مِن علماء السنة، وكل منهم يسعى أن يكون فعله وقوله وفْق السنة؛ إذًا هذا هو الخلاف.

* قوله: (وَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الجَلْسَةِ الوُسْطَى وَالأَخِيرَةِ، فَقَالَ فِي الوُسْطَى بِمِثْلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الأَخِيرَةِ بِمِثْلِ قَوْلِ مَالِكٍ).

وقد سماها (الوسطى) لأنها تقدمها ركعتان ويعقبها أيضًا ركعتان؛ فجاءت في وسط الصلاة، ونحن نعرِّفها بجلسة التشهد الأول، والثانية بالتشهد الثاني، أو الأخير، لأنه ليس بعده شيء.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ تَعَارُضُ الآثَارِ).

فكل فريق يتمسك بأدلته، لكن أدلة المالكية والحنفية جاءت مُطْلقَة، حيث لم تنص على أن هذه الجلسة كانت في التشهد الأول أو الأخير، وإنما بيّنت أن الرسول فعلها، ومع هذا جاءت أحاديث أُخرى فحددت لنا الكيفية التي كان يجلس عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن له حالتين فى الجلوس: حالة في التشهد الأول، وحالة في التشهد الأخير.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ آثَارٍ؛ أَحَدُهَا: وَهُوَ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقٍ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ الوَارِدِ فِي وَصْفِ صَلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام).

يقول العلماء: إن ما جاء في حديث أبي حميد وافقَهُ عليه عشرةٌ من الصحابة؛ إذًا هذا سندٌ آخَر لهذا الحديث، مع قوة هذا الحديث وكونه فصَّل المقام، لكن جاء فِعل عشرة من الصحابة أيضًا ملتقيًا مع ما في حديث أبي حميد.

* قوله: (وَفِيهِ "وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى وَنَصَبَ اليُمْنَى).

ص: 1597

أيْ: إذا جلس بعد الركعتين، فبعد أن انتهى من الركعة الأولى والثانية يجلس الجلسة الوسطى التي قال المؤلف:(أي للتشهد الأول).

* قوله: (وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اليُسْرَى وَنَصَبَ اليُمْنَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ")

(1)

.

وهذا ما يُعرَف بالتورُّك

(2)

، أما الافتراش

(3)

بأن تفرش رجلك اليسرى وتجلس عليها. وقد سبق تعريف ذلك.

* قوله: (وَالثَّانِي: حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَفِيهِ: "أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ نَصَبَ اليُمْنَى وَقَعَدَ عَلَى اليُسْرَى")

(4)

.

هذا الحديث حُجة للحنفية الذين يقولون بالافتراش مطلقًا، حيث أخذوا به على عمومه، ومثله حديث عائشة الصحيح، ولم يورده المؤلف، وفيه:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس نصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى"

(5)

.

* قوله: (وَالثَّالِثُ: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلَاةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ اليُمْنَى، وَتَثْنِيَ اليُسْرَى")

(6)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تعريفه.

(3)

الافتراش: أن يفترش رجله اليسرى، أي: يجعلها فراشًا له. انظر: "النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب" لابن بطال (1/ 88).

(4)

أخرجه النسائي (1263) عن وائل بن حجر، قال:"رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا جلس أضجع اليسرى، ونصب اليمنى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويده اليمنى على فخذه اليمنى، وعقد ثنتين: الوسطى والإبهام وأشار" وقال الألباني في أصل صفة الصلاة (3/ 829): وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال مسلم.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 89)(15) وعنه البخاري (827).

ص: 1598

يدل هذا الحديث على أنهم كانوا يفعلون ذلك؛ ولذلك اعتبره العلماء بمنزلة المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (وَهُوَ مُدْخَلٌ فِي المُسْنَدِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَتِهِ عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَرَاهُمُ الجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ، فَنَصَبَ رِجْلَهُ اليُمْنَى، وَثَنَى اليُسْرَى، وَجَلَسَ عَلَى وِرْكِهِ الأَيْسَرِ وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَانِي هَذَا عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ، وَحَدَّثَنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ

(1)

، فَذَهَبَ مَالِكٌ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ لِهَذَا الحَدِيثِ

(2)

، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ لِحَدِيثِ وَائِلٍ

(3)

. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَ الجَمْعِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ

(4)

).

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 90)(52) عن يحيى بن سعيد، أن القاسم بن محمد "أراهم الجلوس في التشهد، فنصب رجله اليمنى، وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه". ثم قال: أراني هذا عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك.

(2)

أي أخذ الإمام مالك بحديث عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر من القول بالتورك في التشهدين. يُنظر: "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهاني (2/ 177) حيث قال: "وأما مذهبنا؛ فالمستحب في صفة الجلوس كله: الأول، والآخر، وبين السجدتين أن يكون توركًا، وهو أن يُفضي بوركه اليسرى إلى الأرض، ويخرج رجليه جميعًا من جانبه الأيمن، وينصب قدمه اليمنى وباطن الإبهام إلى الأرض، ويثني اليسرى".

(3)

أي رجح الأحناف حديث وائل، والذي فيه أنه كان إذا قعد في الصلاة نصب اليمنى وقعد على اليسرى. فقالوا بالافتراش في التشهدين. يُنظر:"شرح مختصر الطحاوي، للجصاص"(1/ 628، 629)، وفيه قال:"قال أبو جعفر: (ويستقبل بأصبع رجله اليمنى القبلة، كما يفعل في السجود، ثم يبسط كفيه على ركبتيه، وينشر أصابعه، ولا يُشير بشيء منها). وذلك لما في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس افترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويده اليمنى على فخذه اليمنى".

(4)

أي أن الشافعي قال بالافترش في التشهد الأول، والتورك في التشهد الثاني، وهاتان الصفتان جاء بهما حديث أبي حميد، فأخذ الشافعي به جمعًا بين حديث الافتراش الذي أخذه الأحناف دليلًا على عموم الافتراش، وحديث التورك الذي استدل به =

ص: 1599

ذهب الشافعيُّ إلى الترجيح؛ لأن حديث أبي حميد جاء مُفصَّلًا ومُبيِّنًا هيئة الجلسة في التشهد، أما الحنابلة يلتقون معهم إلَّا في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد، فعند الحنابلة يجلس مفترشًا، وعند الشافعية متورِّكًا؛ لأنه الشافعية نظرتهم أنه تشهد أخير، وأولئك يقولون هو مثل التشهد الأول؛ لأنه أول تشهد.

* قوله: (وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ مَذْهَبَ التَّخْيِيرِ

(1)

).

مذهب التخيير قد رُوِي عن كثيرٍ مِن العلماء لا الطبري فقط، ويَعْنُونَ به الجواز، لكن الأفضل والأوْلَى القول الأوَّل، وهو المفصَّل؛ عملًا برأي الشافعية والحنابلة.

* قوله: (وَقَالَ: هَذِهِ الهَيْئَاتُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ وَحَسَنٌ فِعْلُهَا لِثُبُوتِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ الأَفْعَالَ المُخْتَلِفَةَ أَوْلَى أَنْ تُحْمَلَ عَلَى التَّخْيِيرِ مِنْهَا عَلَى التَّعَارُضِ).

لذلك، نحن نقول: إن الأحاديث عندما يكون ظاهرها التعارض، ويوجد أحاديث يمكن أن تلتقي معها، فنرد تلك، بل أنا لا أرى تعارضًا في الأحاديث؛ كحديث عائشة، وحديث وائل بن حجر، وبين حديث عبد اللَّه بن الزبير الذي لم يذكره المؤلف؛ لا تعارض بينهم، بل الأخير

= المالكية على القول بعموم التورك. يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 132، 133)، وفيه قال:"مذهب الشافعي: أن يجلس في التشهد الأول مفترشًا، وفي الثاني متوركًا. وصورة الافتراش في الأولى: أن ينصب رجله اليمنى ويضجع اليسرى ويجلس عليها مفترشًا لها وهكذا يكون في الجلسة بين السجدتين. وصورة التورك في الثاني: أن ينصب رجله اليمنى ويضجع اليسرى ويخرجها عن وركه اليمنى ويفضي بمقعده إلى الأرض. . . فأما أخبارهم فمستعملة على ما ذكرنا من حمل الافتراش على الأول والتورك على الثاني".

(1)

وقد نقله القاضي عياض عنه. يُنظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(2/ 411). حيث قال: "وذهب الطبرى وطائفة من أهل العلم إلى تخيير المصلي في هيئات الجلسات المذكورة في الصلاة".

ص: 1600

حجة المالكية، فلا تتعارض مع حديث أبي حميد الذي أورده المؤلف؛ لأنه يجمع تلك الأحاديث كلها، تلك جاءت مجملة، وهذا جاء مبيّنًا لها.

* قوله: (وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ التَّعَارُضُ أَكْثَرَ فِي الفِعْلِ مَعَ القَوْلِ أَوْ فِي القَوْلِ مَعَ القَوْلِ).

هذه مسألة أُخرى، فقد يتعارض قولٌ مع قول، أو قول مع فعل، وهذه مسائل أصولية معروفة.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الجَلْسَةِ الوُسْطَى وَالأَخِيرَةِ).

هنا عاد مرةً أُخرى إلى ما كُنا أشرنا إليه في الجلسة الوُسطى والأخيرة، وحُكم الجلوس للتشهدين الأول والأخير.

وهذه المسألة مرَّتْ بنا، لكن لا مانع من التعرض لها، لا سيما وقد ذكرتها خشية أن لا يذكرها المؤلف، لأن الكتاب -كما كررتُ مرارًا- مجمل، ويأخذ بالمسائل الكبرى.

إذًا، ذكرنا أنَّ العلماء اختلفوا في كيفية الجلسة الوسطى وحكمها، وقلنا إنه لا شك أن أكثر العلماء وفيهم الأئمة (أبو حنيفة

(1)

، ومالك

(2)

، والشافعي

(3)

،

(1)

في قول عندهم، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (1/ 53) حيث قال: "وقراءة التشهد فيها سنة، وقيل: واجب وهو الأصح؛ لأن محمدًا أوجب سجود السهو بتركه، ولا يجب الواجب إلا بترك الواجب". "الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(1/ 465).

(2)

يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 243) حيث قال: " (قوله: يعني ما عدا جلوس السلام) أي إن كل جلوس من الجلوسات غير الأخير سنة فمراد المصنف بالجلوس الاْول ما عدا الأخير".

(3)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 520) حيث قال: " (وإلا) أي وإن لم يعقبهما سلام (فسنّتان) للأخبار الصحيحة في ذلك، والصارف عن وجوبهما خبر الصحيحين "أنه عليه الصلاة والسلام قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس، فلما قضى صلاته كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل السلام ثم سلم. فدل عدم تداركهما على عدم وجوبهما".

ص: 1601

ورواية للإمام أحمد)

(1)

يرون أن الجلوس لهذا التشهد ليس بواجب، بل سُنة.

لكن ذهب فريق آخر من العلماء، كاللَّيث، وإسحاق بن راهويه

(2)

، ورواية أُخرى للإمام أحمد

(3)

، -وأظن- داود الظاهري

(4)

، ذهبوا جميعًا إلى وجوب الجلوس للتشهد الأول.

وأدلتهم:

فالذين قالوا بعدم الوجوب، علّلوا بأنه لم يُذكر في حديث المسيء؛ لأنه ذكر الواجبات، فلو كان الجلوس للتشهد الأول واجبًا لذُكر، وكذلك هذا أيضًا بالنسبة للتشهد الأخير.

كما استدلوا بما هو أقوى عندهم، فقالوا بسقوط السهو، كما جاء في حديث عبد اللَّه بن بحينة

(5)

.

(1)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 115) حيث قال: "قوله (والتشهد الأول، والجلوس له) هذا المذهب، وعليه الأصحاب، وعنه ركن، وعنه سنة".

(2)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 450) حيث قال: "وقال الليث. . . وإسحاق وداود: هو واجب".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 390) حيث قال: " (و) السابع (تشهد أول) لأنه صلى الله عليه وسلم فعله وداوم على فعله وأمر به وسجد للسهو حين نسيه وهذا هو الأصل المعتمد عليه في سائر الواجبات لسقوطها بالسهو وانجبارها بالسجود كواجبات الحج".

(4)

يُنظر: "المحلى بالآثار"(2/ 300) حيث قال: "النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتشهد في القعود في الصلاة، فصار التشهد فرضًا، وصار القعود الذي لا يكون التشهد إلا فيه فرضًا، إذ لا يجوز أن يكون غير فرض ما لا يتم الفرض إلا فيه أو به روينا عن شعبة عن مسلم أبي النضر سمعت حملة بن عبد الرحمن سمعت عمر بن الخطاب يقول: لا صلاة إلا بتشهد. وعن نافع مولى ابن عمر: من لم يتكلم بالتشهد فلا صلاة له؛ وهو قول الشافعي، وأبي سليمان".

(5)

سيأتي.

ص: 1602

*‌

‌ فائدة:

بحينة صحابية، وابنها صحابي

(1)

.

وحديث عبد اللَّه بن بحينة متفق عليه، "أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بالاثنتين ولم يجلس، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم"

(2)

؛ وبناءً عليه يقولون: لو كان التشهد الأول واجبًا لمَا تركه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما جبره بسجود السهو؛ لأنه سُنة، وهذا أقوى دليل لهم؛ لأن الذين قالوا بوجوبه يفرقون أيضًا بين أن يتركه الإنسان متعمدًا، أو ساهيًا؛ فيقولون: لو تركه الإنسان ساهيًا يجبره بسجود السهو، ولا يؤثر في صحة صلاته؛ لأن هذا حصل من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنْ أنْ يتعَمَّد الإنسان القيام تاركًا التشهد الأول؛ فهؤلاء أو بعضهم يقولوا بأن صلاته لا تصح، ويلزمه أن يعيد.

أما حُجة مَن قالوا بوجوبه، فاستدلوا بحديث عبد اللَّه بن عباس:"التحيات للَّه. . . "

(3)

، فقالوا بأن الأمر في الحديث يقتضي الوجوب، وقول "التحيات للَّه"

(4)

إنما يقال في التشهدين الأول والأخير؛ فيلزم منه الجلوس.

أيضًا قالوا بأنه لم يُنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ترك السجود إلا بمثل هذه الحال التي في حديث عبد اللَّه بن بحينة، وقد جبره بسجود السهو؛

(1)

انظر: "الاستيعاب في معرفة الأصحاب"، لابن عبد البر (3/ 982).

(2)

أخرجه البخاري (1225) ومسلم (570) عن عبد اللَّه بن بحينة رضي الله عنه، أنه قال:"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين، ثم سلم بعد ذلك".

(3)

أخرجه مسلم (403) عن ابن عباس، أنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: "التحيات المباركات، الصلوات الطيبات للَّه، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه".

(4)

"التحيات للَّه": قال الفراء: التحية: المُلك وجمعها التحيات؛ كأنه قال: الملك للَّه، وقيل التحية: البقاء الدائم؛ كأنه قال: البقاء للَّه عز وجل. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص 64).

ص: 1603

فقياسًا على التشهد الأخير نقول بأنه واجب، إذْ لا فرق بين هذا التشهد وبين التشهد الأول.

يُعترض على هؤلاء بأن يقال: كون الرسول صلى الله عليه وسلم قام منه ولم يعد، فلو كان واجبًا لما تركه، ولكنه جبر ذلك بسجود السهو، فاعتُبر بدلًا، ونحن نجد في محظورات الإحرام في الحج يترك الإنسان محظورات الحج، وبعض المحظورات يجبرها بدم؛ لأنه ليس عامدًا.

ولا شك أن هذه من المسائل التي لا ينبغي للمسلم أن يتركها، وقد رأينا أنَّ هناك مَن يوجب هذه الجلسة ويرى أن الصلاة لا تصح مِن المتعمد تركها.

*‌

‌ فائدة:

النسيان

(1)

أحد الأسباب التي اعتبرتها الشريعة الإسلامية في التخفيف، فقد ذكَر العُلمَاء أسباب التخفيف، والتي منها: السفر، والمرض، والاستكراه، والقصور، والنسيان، قال اللَّه تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

وفي الحديث: "إن اللَّه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه"

(2)

.

كما أن النسيان طبيعة البشر، بل قد حصل النسيان للرسول صلى الله عليه وسلم، في حديث ذي اليدين، حيث سلَّم من اثنتين، ولما سُئل: أقصرت الصلاة؟ قال: "ما قصرت وما نسيت"

(3)

، ثمِ سأل الصحابة، فأخبروه، فعاد وأتم الصلاة، فبما أنه قد نَسِي فمَن دونه أَوْلَى.

(1)

النسيان بكسر النون: خلاف الذكر والحفظ. انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2508).

(2)

أخرجه ابن ماجه (2045) وغيره، عن ابن عباس وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1836).

(3)

أخرجه البخاري (1229)، ومسلم (573) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -قال محمد: وأكثر ظني العصر- ركعتين، ثم سلم، ثم قام =

ص: 1604

فالنسيان معتدٌّ به شرعًا، إذًا هذا أمر قد يسقط بالنسيان على أن تجبره بسجود السهو، فلو لم تسجد للسهو؛ ففيه خلاف بين العلماء، سنبحثه إن شاء اللَّه تفصيلًا عندما نأتي لأبواب سجود السهو.

* قوله: (فَذَهَبَ الأَكْثَرُ فِي الوُسْطَى إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَشَذَّ قَوْمٌ وَقَالُوا: إِنَّهَا فَرْضٌ).

وهذا خطأ من المؤلف في الحقيقة، فهذا القول لا يعتبر شذوذًا، فقد قال به الليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وهو رواية للإمام أحمد

(1)

، وقال به داود، وغيرهم

(2)

.

* قوله: (وَكَذَلِكَ ذَهَبَ الجُمْهُورُ فِي الجلْسَةِ الأُخْرَى إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ)

(3)

.

= إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذو اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال: "لم أنس ولم تقصر"، قال: بلى قد نسيت، "فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه، فكبر، ثم وضع رأسه، فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر". واللفظ الذي ذكره الشارح؛ أخرجه ابن ماجه (1213)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(932).

(1)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 115) حيث قال: "قوله (وواجباتها تسعة):

(والتشهد الأول، والجلوس له) هذا المذهب، وعليه الأصحاب، وعنه ركن، وعنه سنة".

فائدة: الصحيح من المذهب: أن الواجب المجزئ من التشهد الأول "التحيات للَّه سلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه، سلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه" جزم به في الوجيز، وقدمه ابن تميم، قال الزركشي:"اختاره القاضي والشيخان".

(2)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 450) حيث قال: "وقال الليث. . وإسحاق وداود: هو واجب".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (1/ 54) =

ص: 1605

يقصد بالأخرى الأخيرة، أما الجلسة الأخيرة فيلتقي فيها الأئمة كلهم، وهي رواية للإمام مالك كما بينَّا فيما مضى أنها ليست واجبة لكنهم يوجبون التسليم، أما الحنفية فيوجبون الجلسة لا التشهد، وقد عرفنا رأيه فيما مضى.

* قوله: (وَشَذَّ قَوْمٌ).

هذا في الأخرى.

* قوله: (فَقَالُوا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ).

= حيث قال: "والقعدة الأخيرة فرض والتشهد فيها واجب لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي: "إذا رفعت رأسك من آخر سجدة وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك" علق التمام بالقعدة دون التشهد، ومقدار الفرض في القعود مقدار التشهد".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 243) حيث قال: " (قوله: يعني ما عدا جلوس السلام) أي إن كل جلوس من الجلوسات غير الأخير سنة فمراد المصنف بالجلوس الأول ما عدا الأخير". وانظر أيضًا: "حاشية الدسوقي"(1/ 251).

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 519 - 520) حيث قال: " (فالتشهد وقعوده إن عقبهما سلام) فهما (ركنان) فشمل نحو الصبح. والأصل في وجوب التشهد ما صح عن ابن مسعود "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. . . " إلى آخره فالتعبير بالفرض والأمر ظاهران في الوجوب". وانظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 261).

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 388) حيث قال: " (التشهد الأخير) هو قول عمر وابنه وأبي مسعود البدري لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قعد أحدكم في صلاته فليقل التحيات" الخبر متفق عليه. . . وقال عمر: لا تجزئ صلاة إلا بتشهد. . . (والركن منه) أي من التشهد الأخير (ما يجزئ في التشهد الأول. . .) لاتفاق جميع الروايات على ذلك بخلاف ما عداه فإنه أُثْبت في بعضها، وتُرِك في بعضها (قال الشارح، قلت وفي هذا القول نظر) لأن الذي ترك في بعض الروايات لم يترك إلى غير بدل بل أثبت بدله وذلك لا يدل على عدم وجوبه بالمرة، بل على وجوبه أو وجوب بدله (وهو كما قال) أي الشارح لقوة ما عُلِّل به".

ص: 1606

وهذا نقل عن الزهري

(1)

، والنخعي

(2)

، وابن سيرين

(3)

، وأظن نقل أيضًا عن علِيٍّ رضي الله عنه

(4)

، لكن هذا يحتاج إلى تبين.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ تَعَارُضُ مَفْهُومِ الأَحَادِيثِ، وَقِيَاسُ إِحْدَى الجلْسَتَيْنِ عَلَى الأخرى، وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَقَدِّمِ:"اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا"

(5)

، فَوَجَبَ الجُلُوسُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا).

لكن هذا الجلوس لم نأمر به، وليس في التشهد كما هو معلوم؛ لأنه أرشده في ركعةٍ واحدة، ثم قال:"ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"

(6)

، لكن الدليل القطعي لذلك هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"قولوا: التحيات للَّه"

(7)

، وهذا لا يتم إلا عن طريق الجلوس، وفعَلَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم، ودَاوَمَ عليه، ولم يُنقل عنه أنه تركه، بل قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(8)

، فلم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ترك، ولا عن أحد من الصحابة.

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (2/ 45) حيث قال: "وقال الزهري وقتادة وحماد: فيمن نسي التشهد في آخر صلاته حتى انصرف، تمت صلاته".

(2)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (2/ 45) حيث قال: "وقال النخعي: إذا أحدث حين فرغ من السجود في الركعة الرابعة قبل التشهد مضت صلاته".

(3)

لم أقف على قوله.

(4)

"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 486 - 487) حيث قال: "وروي عن جماعة من السلف المتقدمين منهم علي وطائفة من التابعين مَن رفع رأسه من آخر سجدة في الركعة الرابعة فقد تمت صلاته".

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

تقدَّم تخريجه.

(7)

أخرجه البخاري (835) عن عبد اللَّه، قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، قلنا: السلام على اللَّه من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تقولوا السلام على اللَّه، فإن اللَّه هو السلام، ولكن قولوا: التحيات للَّه والصلوات والطيبات. . . " الحديث.

(8)

تقدَّم تخريجه عن مالك بن الحويرث.

ص: 1607

* قوله: (فَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا قَالَ: إِنَّ الجُلُوسَ كلَّهُ فَرْضٌ، وَلِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الثَّابِتِ).

يقصد به المتفق عليه، ويقولون إن أم ابن بحينة اسمها عبدة، وبحينة لقبها

(1)

.

* قوله: ("أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَسْقَطَ الجلْسَةَ الوُسْطَى، وَلَمْ يَجْبُرْهَا، وَسَجَدَ لَهَا"، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَسْقَطَ رَكْعَتَيْنِ فَجَبَرَهُمَا، وَكَذَلِكَ رَكْعَةٌ؛ فَهِمَ الفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الفَرْقَ بَيْنَ حُكْمِ الجَلْسَةِ الوُسْطَى وَحُكْمِ الرَّكْعَةِ، وَكَانَتْ الرَّكْعَةُ عِنْدَهُمُ فَرْضًا بِإِجْمَاعٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الجَلْسَةُ الوُسْطَى فَرْضًا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ فَرَّقَ الفُقَهَاءُ بَيْنَ الجَلْسَتَيْنِ).

يعني يريد المؤلف أن يقول: إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم في الجلسة الأولى أو الوسطى قام من اثنتين، ثم لما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته سجد سجدتين للسهو ثم سلم، فكونه لم يعد إليها دلَّ علَى عدم وجوبه، ولم يحصل ذلك في الجلسة الأخيرة؛ فدلّ ذلك علَى التفريق بينهما، هذه لازمة، وهذه غير لازمة، بل واجبة وغير واجبة.

* قوله: (وَرَأَوْا أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلسُّنَنِ دُونَ الفُرُوضِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا فَرْضٌ قَالَ: السُّجُودُ لِلجلْسَةِ الوُسْطَى شَيْءٌ يَخُصُّهَا دُونَ سَائِرِ الفَرَائِضِ).

كونه من السنن، فهذا غير مسلَّم؛ لأن الإنسان إن لم يرفع يده، لا يسجد للسهو، كذلك أيضا ترك سُنة من سنن الصلاة؛ فلا يسجد للسهو في مثل هذه الحالة.

(1)

يُنظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 228) حيث قال: "بحينة واسمها عبدة بنت الحارث وهو الأرت بن المطلب بن عبد مناف بن قصي". وانظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 46).

ص: 1608

* قوله: (وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ).

إذًا، كلام المؤلف بأنه ليس هناك دليل على أنها ليست بفرض.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا كلَيْهِمَا سُنَّةٌ فَقَاسَ الجلْسَةَ الأَخِيرَةَ عَلَى الوُسْطَى بَعْدَ أَنِ اعْتَقَدَ فِي الوُسْطَى بِالدَّلِيلِ الَّذِي اعْتَقَدَ بِهِ الجُمْهُورُ أَنَّهَا سُنَّةٌ).

يعني عكس، لما أثبت بالدليل أن الوسطى ليست بواجبة؛ ألحق بها الجلسة الأخيرة، فقال: كما أن هذه هي جلسة لا تجب، كذلك أيضًا لا تجب بوجود جامع بينهم، ألا وهو الجلسة في كلٍّ، إذْ هذا جلوس وهذا جلوس.

وهناك قضية يسيرة، بالنسبة لما مر بنا في الافتراش وغيره، أننا عرَضنا أن بعض العلماء قالوا بالافتراش، وبعضهم بالتورك، وبعضهم فصَّل، فنجد أن العلماء كثيرًا ما يعنون في الفقه بالبحث عن النكت، وعن الحكم، مثل أن يطرح بعضهم لماذا يجلس الإنسان في التشهد الأول مفترشًا وفي الثاني متوركًا، فيبحثون في الحكم وسبب التفريق.

وذلك يعود أن بعضهم يتعلل بأن هذا يُعتبر معرفة للداخل اللاحق بالصلاة أن هذا الذي يصلي هل هو في الجلسة الوسطى أو الأخيرة؛ فيعرف في أي الركعات هو، فيكون في هذا زيادة فائدة.

كذلك يعللون بأن الجلسة الأولى لا يطول التشهد فيها، والنهوض إلى القيام أخف على المصلي، بخلاف ما إذا جلس متوركًا فإنه قد يتعب، وخاصة إذا تقدمت به السن؛ وهذه أيضًا زيادة فائدة.

فمثل هذه النكت نجد أن العلماء يذكرونها للتفريق بين هذا وذاك.

* قوله: (فَإِذًا السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هُوَ فِي الحَقِيقَةِ آيِلٌ إِلَى مُعَارَضَةِ الِاسْتِدْلَالِ لِظَاهِرِ القَوْلِ أَوْ ظَاهِرِ الفِعْلِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ أَيْضًا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الجلْسَتَيْنِ كِلَيْهِمَا فَرْضٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَفْعَالَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

ص: 1609

وَالسَّلَامُ- عِنْدَهُ الأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ فِي الصَّلَاةِ مَحْمُولَةً عَلَى الوُجُوبِ).

هم يقولون هذه أفعال الرسول، وقد قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(1)

، وهو أيضًا عندما ترك الجلسة الأولى أو الوسطى إنما تركها ناسيًا، ولذلك سجد للسهو، ولم يُعلم عنه أنه تركها في غير النسيان.

* قوله: (حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِذًا الأَصْلَانِ جَمِيعًا يَقْضِيَانِ هَاهُنَا أَنَّ الجُلُوسَ الأَخِيرَ فَرْضٌ).

يقصد بالأصلين: القول والفعل.

* قوله: (وَلِذَلِكَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُعَارِضٌ إِلَّا القِيَاسُ وَأَعْنِي: بِالأَصْلَيْنِ القَوْلَ وَالعَمَلَ).

يقصد بالعملِ الفعلَ، يعني أقوال الرسول وأفعاله، ولا يقصد به عمل أهل المدينة.

* قوله: (وَلِذَلِكَ أَضْعَفُ الأَقَاوِيلِ: مَنْ رَأَى أَنَّ الجَلْسَتَيْنِ سُنَّةٌ وَاللَّه أَعْلَمُ).

هذا كلَام صحيح، فالقول بأنَّ كلا الجلستين سنة ضعيفٌ جدًّا ولا مستند له، لكن نأتي بعد ذلك إلى أن الجلسة الأخيرة جماهير العلماء يرون وجوبها، وأنها ركن، والجلسة الأولى الأحوط للمسلم ألا يدعها، فإن نسِيَها؛ فالحمد للَّه هذه الشريعة كما نعلم بنيت على اليُسر.

ولذلك، نجد أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذًا وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن، كانت أولى وصاياه، قال: "بشرا ولا تنفرا،

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1610

ويسرا ولا تعسرا"

(1)

؛ فالمؤمن دائمًا يبشر بالخير، ولا ينفر الناس من طاعة اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يأتي بالأسباب التي قد تنفر الناس، بل يدلهم على طريق اليسر؛ لأنه ربما لو دعَا الناس إلى ما فيه العسر لتثاقل العباد، وصعبت عليهم الأمور؛ فأدى ذلك إلى تقصيرهم فيها.

ووسطية الإسلام نعني بها أن الإسلام جاء وسطًا، لا غلُوَّ فيه ولا إفراط، ولا تفريط، كما أن الإسلام يقصد بالتيسير في هذه الشريعة، أي: أنها بُنِيَت علَى اليسر في الأصل، فلم تأتِ لتشق على الناس، وإنما تُكَلِّف الناس بما في وسعهم، ولذلك عندما يلحق المؤمن ضرر في أمر من الأمور، فإن هذه الشريعة تخفف عنه وتتجاوز.

ولا يدخل في هذا ما يتتبعه بعض الناس من البحث عن الرُّخَص في المذاهب، كأنْ تجد البعض يبحثون عن الفتاوى والأقوال الضعيفة والشاذة، ما دامت هذه الأقوال فيها تخفيف.

وعلى كل حال، المسألة هذه فيها كلام طويل، ولعلها تأتي مناسبة -إن شاء اللَّه- لنفصل القول فيها.

* قوله: (وَثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: "أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ كَفَّهُ اليُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ اليُمْنَى وَكَفَّهُ اليُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ اليُسْرَى، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ").

يشير المؤلف إلى حديث عبد اللَّه بن عمر، ولم يأتِ بلفظه، وإنما أورد معناه، وقد ورد في وضع اليدين على الركبتين، أو الفخذين عدة أحاديث، منها:

ما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس أو قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته

(1)

أخرجه البخاري (3038)، ومسلم (1733) عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن قال:"يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوعَا ولا تختلفَا".

ص: 1611

اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وأشار بالسبابة"

(1)

.

ومثله حديث عبد اللَّه بن الزبير، وهو أيضًا قريب من لفظه، ولكنه أطول منه تفصيلًا، وقد جاء فيه:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة -يعني للتشهد في الصلاة- وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى"

(2)

.

ومثله أيضًا حديث وائل بن حجر، ففيه إشارة إلى مثل ذلك، لكنه زاد على ما في هذين الحديثين حديث عبد اللَّه بن عمر، وحديث ابن الزبير، وكلاهما في "صحيح مسلم".

وحديث وائل بن حجر فيه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا قعد في الصلاة -أي: للتشهد- وضع مرفقه الأيمن على فخده الأيمن، وعقد الخنصر والتي تليه، -أي: البنصر- وحلَّق بالإبهام والوسطى، وأشار بالسبابة"

(3)

.

وفي بعض الروايات: "كان يُشير بالسبابة"

(4)

.

ففي الحديث الأول يُشير بالسبابة، وفي حديث عبد اللَّه بن الزبير يُشير

(1)

أخرجه مسلم (580) عن ابن عمر: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة".

(2)

أخرجه مسلم (579) عن عبد اللَّه بن الزبير، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة، جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه".

(3)

أخرجه أبو داود (957) عن وائل بن حجر، قال: قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف يصلي، "فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة، فكبر فرفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك"، قال:"ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين، وحلق حلقة، ورأيته يقول هكذا"، وحلق بِشْرٌ الإبهام والوسطى، وأشار بالسبابة. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(884).

(4)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 37). وانظر: "السلسلة الصحيحة" للألباني (7/ 551).

ص: 1612

بإصبعه، وكذلك في حديث وائل بن حجر؛ فتبيَّن لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا يُشير بالسبابة.

لكن هل يقف بها هكذا دون تحريك فتكون علامة على الإشارة، أو لا بد من تحريكها؟

كل ذلك ورد، ومِن العلماء مَن يرجح هذا، ومنهم من يرجح ذاك، وكل هذا سُنة

(1)

.

*‌

‌ فائدة:

نجد أن مِن العلماء مَن يسمي الإصبع التي تلي الإبهام بين الوسطى

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 508 - 509) حيث قال: "المفتى به هو الإشارة بالمسبحة مع عقد الأصابع على الكيفية المذكورة لا مع بسطها فإنه لا إشارة مع البسط عندنا، ولذا قال في منية المصلي: فإن أشار يعقد الخنصر والبنصر ولحلق الوسطى بالإبهام ويقيم السبابة".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 250) حيث قال: " (قوله: وندب عقده) أي ندب للمصلي عقد يمناه فالضميران للمصلي (قوله: وأشمل) أي لأن تشهده مفرد مضاف يعم الواحد والاثنين وما زاد عليهما (قوله: الثلاث من أصابعها) بدل من يمناه بدل بعض من كل (قوله: وأطرافها على اللحمة) جملة حالية (قوله: على الوسطى) أي حالة كون الإبهام موضوعًا على الوسطى (قوله: على صورة العشرين) ".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 521) حيث قال: " (ويقبض من يمناه) بعد وضعها على فخذه اليمنى (الخنصر والبنصر) بكسر أولهما وثالثهما (وكذا الوسطى في الأظهر) للاتباع، والثاني يحلق بين الوسطى والإبهام (ويرسل المسبحة) بكسر الباء وهي التي تلي الإبهام سميت بذلك لأنه يشار بها إلى التوحيد والتنزيه وتسمى أيضًا السبابة لكونه يثار بها عند المخاصمة والسبّ (ويرفعها) أي مع إمالتها قليلًا كما قاله المحاملي وغيره (عند قوله: إلا اللَّه) ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 356) حيث قال: " (ثم يجلس) للتشهد إجماعًا. . . (باسطًا أصابع يسراه مضمومة) على فخذه اليسرى، لا يخرج بها عنها بل يجعل أطراف أصابعه مسامتة لركبته. . . (مستقبلًا بها القبلة، قابضًا من يمناه الخنصر والبنصر، محلقًا إبهامه مع وسطاه). . . (ثم يتشهد) ".

ص: 1613

والإبهام بالسبابة، وبعضهم يسميها بالسباحة، وقد وردت تسميتها بالسبابة في الأحاديث.

وسبب تسميتها بالسبابة: أن الإنسان يُشير بها عند المخاصمة والاختلاف، أو عند اشتداد النقاش

(1)

.

وقيل: سميت بالسباحة؛ لأن الإنسان يسبح بها، ويرفعها عند نطقه لكلمة التوحيد

(2)

.

وهذا يؤكد لنا أنَّ العلماء يبحثون دائمًا، ويحاولون البحث عن علل الأحكام وحِكَمِها.

ورأينا من بحوثهم كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضع يديه على ركبتيه، وبينوا الحِكمة من ذلك، وهناك اختلافات وتفصيلات كثيرة للعلماء في هذه المسألة؛ فمما قالوه أنه كان في أول الأمر يضع المصلي كفه على كفه بين فخديه، وهذا رأي منسوخ، بالأحاديث.

كذلك من بحوثهم هل يضع المصلي كفه الأيمن على فخده الأيمن فقط أم يضع جزءًا من كفه على الركبة؟ وهل يجعل الأصابع مستقيمة إلى جهة القبلة، أم يثنيها على الركبة. . . كل هذه أقوال، وتفصيلات، وفروع لا يعرض لها المؤلف؛ لأنها لا تأثير لها في أمر الصلاة، لكنها من الأمور التي يستحب للمصلي أن يفعلها.

* قوله: (وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الهَيْئَةَ مِنْ هَيْئَات الجُلُوسِ المُسْتَحْسَنَةُ فِي الصَّلَاةِ)

(3)

.

(1)

يُنظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص 69) حيث قال: "ويقال لها السبابة لأنهم كانوا يشيرون بها إلى السب في المخاصمة ونحوها".

(2)

يُنظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص 69) حيث قال: "المسبحة بكسر الباء وهي الإصبع التي تلي الإبهام سميت بذلك لأنه يشار بها إلى التوحيد فهي مسبحة منزهة". وانظر: "المطلع على ألفاظ المقنع" للبعلي (ص 100).

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 135) حيث قال: "ووصف ابن عمر أن يضع =

ص: 1614

الأمر كما ذكر المؤلف رحمه الله، ليست تلكم مِن واجبات الصلاة، ولا مِن أركانها، وإنما هي من الهيئات التي يستحب أن يفعلها المصلي؛ لأن الذين نقلوا لنا الهيئة التي صلى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينوا أنه كان يفعل ذلك، لكن كما رأينا ألفاظ الأحاديث تختلف، وقد تتعدد، لكنها كلها تلتقي حول هذا الأمر: أن المصلي يضع كفه الأيمن على فخذه الأيمن، أو على ركبته، وكذلك لأنه في بعض الأحاديث، ورد أنه يضع مرفقه على فخذه الأيمن، ثم بعد ذلك يعقد الخنصر

(1)

والبنصر

(2)

ويحلق بالإبهام

(3)

والوسطى ويشير بالسبابة، كذلك ورد ذلك بالنسبة لليسار في وضعها، أما الإشارة فهي في اليمين، أما اليد اليسرى أو الكف اليسرى فإنه لا يحركها، واختلفوا في أن يضعها مقبوضة الأصابع أو مبسوطة، فمنهم من يرى أن له أن يفرج الأصابع، لكن ليس تفريجًا فاحشًا، وبعضهم يقول: لا يفرج الأصابع إنما يتركها مقبوضة.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيكِ الأَصَابعِ لِاخْتِلَافِ الأَثَرِ فِي ذَلِكَ، وَالثَّابِتُ أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ فَقَطْ)

(4)

.

= كفه اليمنى على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع إلا السبابة منها، فإنه يُشير بها، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفروجة الأصابع، كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مجمع عليها لا خلاف عليه من العلماء".

(1)

الخِنْصِرُ: الإصبع الصغرى القصوى من الكف. انظر: "العين" للخليل (4/ 338).

(2)

البِنْصِر: الإصبع بينَ الوُسْطَى والخِنْصِر. انظر: "العين" للخليل (7/ 180).

(3)

الإِبهام: الإِصْبَع الكُبْرَى التي تلي المُسَبِّحة، والجمع: الأباهيم. انظر: "العين" للخليل (4/ 62).

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 509) حيث قال: "ليس لنا سوى قولين؛ الأول: وهو المشهور في المذهب بسط الأصابع بدون إشارة. الثاني: بسط الأصابع إلى حين الشهادة، فيعقد عندها ويرفع السبابة عند النفي ويضعها عند الإثبات".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 251) حيث قال: " (قوله: يمينًا وشمالًا) أي لا لأعلى ولا لأسفل أي لفوق وتحت كما قال بعضهم (قوله: في جميع التشهد) أي من أوله وهو التحيات للَّه لآخره وهو عبده ورسوله، وظاهره أنه =

ص: 1615

قد ثبت -كما مرَّ- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد اللَّه بن عمر، وحديث عبد اللَّه بن الزبير، وحديث وائل بن حجر:"أنه صلى الله عليه وسلم كان يُشير بالسبابة"، واختلفوا أن تستمر الإشارة، أو تكون فقط عندما يمر بذكر التشهد ثم يُرجعها

(1)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي وَضْعِ اليَدَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فِي الصَّلَاةِ).

يقصد هنا العادة، أن هذه تقدم على تلك؛ لأن هذه في حالة القيام، وتلك في حالة القعود؛ فالمقصود مسألة قبض وإرسال اليدين حال الوقوف.

= لا يحركها بعد التشهد في حالة الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الموافق لما ذكروه في علة تحريكها وهو أنه يذكره أحوال الصلاة فلا يوقعه الشيطان في سهو أنه يحركها دائمًا للسلام وإنما كان تحريكها يذكره أحوال الصلاة؛ لأن عروقها متصلة بنياط القلب فإذا تحركت انزعج القلب فيتنبه بذلك".

مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 165) حيث قال: " (ويقبض أصابع اليمنى) ويضعها على طرف ركبته اليمنى (إلا المسبحة) بكسر الموحدة، وهي التي تلي الإبهام فيرسلها (ويقبض الإبهام بجنبها) بأن يضع الإبهام تحتها على حرف راحته (كالعاقد ثلاثة وخمسين) للاتباع؛ رواه مسلم واعترض في المجموع ذلك بأن شرطه عند أهل الحساب أن يضع الخنصر على البنصر، وليس مرادًا هنا بل مرادهم أن يضعها على الراحة كالبنصر والوسطى وهي التي يسمونها تسعة وخمسين ولم ينطقوا بها تبعًا للخبر".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع عن متن الإقناع"(1/ 356 - 357) حيث قال: "و (لا) يُشير (بغيرها)، أي: غير سبابة اليمنى (ولو عدمت) سبابة اليمنى" قال في الفروع: "ويتوجه احتمال لأن علته التنبيه على التوحيد (في تشهده) متعلق بقوله؛ ويشير (مرارًا، كل مرة عند ذكر لفظ اللَّه، تنبيهًا على التوحيد ولا يحركها) لفعله". قال في "الغنية": "ويديم نظره إليها، لخبر ابن الزبير، رواه أحمد (و) يُشير أيضًا بسبابة اليمنى (عند دعائه في صلاة وغيرها) لقول عبد اللَّه بن الزبير كان النبي صلى الله عليه وسلم يُشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها".

(1)

تقدَّم ذكر كلام الفقهاء بالتفصيل.

ص: 1616

والكلام هنا عن الهيئة التي يكون عليها المصلي حال القيام بين إرسال يديه أو قبضهما، وهي مسألة مستحبة وليست واجبة، فإن قلنا بالقبض، بقي معنا وضع اليدين، أيضعهما تحت السُّرة أو فوقها، أم فوق الصدر، وهذا أيضًا سيأتي.

فالذي يهمنا في هذا المقام الأوْلَى في القبض أو الإرسال، وهي مسألة اختلف فيها العلماء، فالجماهير من الصحابة والتابعين والفقهاء يقولون بأن القبض هو المشروع، وهو السنة، وأما الإرسال فهو على خلاف ذلك، لكن لا يرون أن ذلك يؤثر على الصلاة بطلانًا وصحة، بل تكون صحيحة، وقد نُقل ذلك عن بعض السلف، كعبد اللَّه بن الزبير من الصحابة

(1)

، والحسن البصري

(2)

والنخعي

(3)

وابن سيرين

(4)

من أئمة التابعين، وهي الرواية أيضًا المشهورة المعروفة عن الإمام مالك

(5)

بأن المصلي يسجد في صلاته، أي يرسل يديه، ويُعرف بالسدل

(6)

، أو يُعرف كذلك بترك اليدين ممدودتين.

وجرى على القبض أيضًا كثير من الأئمة، منهم: أبو حنيفة

(7)

،

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 241) حيث قال: "فممن روينا عنه أنه كان يرسل يديه: عبد اللَّه بن الزبير، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين".

(2)

انظر ما قبله.

(3)

انظر ما قبله.

(4)

انظر ما قبله.

(5)

يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 250) حيث قال: " (قوله: أي إرسال يديه لجنبيه) أي من حين يكبر تكبيرة الإحرام (قوله: وكره القبض) أي على كوع اليمنى واليسرى وكذا عكسه ووضعهما فوق السرة".

(6)

السدل في الصلاة: هو إرخاء الثوب من المنكبين إلى الأرض ولا يضم جوانبه وهو جائز عند مالك وأصحابه إذا كان عليه مئزر. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 211).

(7)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار على الدر المختار)(1/ 487) حيث قال: " (قوله بخنصره وإبهامه) أي يحلق الخنصر والإبهام على الرسغ ويبسط الأصابع الثلاث كما في شرح المنية. . . وغيرها". وقال في "البدائع": "ويحلق إبهامه =

ص: 1617

والشافعي

(1)

، وأحمد

(2)

، وهي رواية ابن الحكم عن مالك

(3)

، لكن المشهور في مذهب مالك هو الإرسال.

إذًا، قول مالك في الإرسال نقلٌ عن عبد اللَّه بن الزبير، وعمَّن سمعنا عن التابعين، فلماذا قال هؤلاء بهذا وهؤلاء بهذا؟

الجواب: نعلم أن الفقهاء عندما يقول أحدهم قولًا فهو يعتمد علَى دليل، أو أدلة، ولا شك أن الجمهور لهم أدلة، وأدلتهم أصرح في ذلك وأقوى، وهي نصٌّ في المسألة، وأما الفريق الآخر فإنهم يتمسَّكون بأحاديث أطلقت ذلك.

= وخنصره وبنصره ويضع الوسطى والمسبحة على معصمه،. . (قوله هو المختار) كذا في "الفتح والتبيين"، وهذا استحسنه كثير من المشايخ ليكون جامعًا بين الأخذ والوضع المرويين في الأحاديث وعملًا بالمذهب احتياطًا كما في "المجتبى" وغيره". قال سيدي عبد الغني في "شرح هدية ابن العماد":"وفي هذا نظر لأن القائل بالوضع يريد وضع الجميع، والقائل بالأخذ يريد أخذ الجميع، فأخذ البعض ووضع البعض ليس أخذًا ولا وضعًا، بل المختار عندي واحد منهما موافقة للسنة".

(1)

يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 145) حيث قال: " (ويقبض بكفه اليمنى كوع اليسرى وبعض الساعد)، والرسغ المعلوم من قوله (باسطًا أصابعها في عرض المفصل) بفتح الميم وكسر الصاد (أو ناشرًا لها صوب الساعد)؛ لأن القبض بها على اليسرى حاصل بهما (ويضعهما) أي اليدين (بين السرة، والصدر). . والحكمة في جعلهما تحت الصدر أن يكونا فوق أشرف الأعضاء وهو القلب فإنه تحت الصدر وقيل الحكمة فيه أن القلب محل النية". وانظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 391).

(2)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 333 - 334) حيث قال:"ثم وضع كفه اليمنى على كفه اليسرى، والرسغ والساعد (ويجعلهما تحت سرته). . . لقول علي "من السنة وضع اليمنى على الشمال تحت السرة". . . وذكر في التحقيق: أنه لا يصح قيل للقاضي: هو عورة فلا يضعها عليه كالعانة والفخذ؟ وأجاب: بأن العورة أولى وأبلغ بالوضع عليه لحفظه (ومعناه) أي معنى وضع كفه الأيمن على كوعه الأيسر وجعلها تحت سرته: أن فاعل ذلك ذو (ذل بين يدي ذي عز). . . (ويكره) جعل يديه (على صدره) نصَّ عليه، مع أنه رواه".

(3)

يُنظر: "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد (1/ 182) حيث قال: "رَوَى أشهب عن مالك، أنه لا بأس أن يضع يده اليمنى على كوع اليسرى في الفريضة والنافلة". قال ابن حبيب: "روى مطرف، وابن الماجشون، عن مالك، أنه استحسنه".

ص: 1618

مثال: الذين يقولون بعدم القبض، أي: بالسدل، يستدلون بحديث المسيء

(1)

، ويقولون إن هذا الحديث لم يرد فيه ذكر القبض.

والجواب عن ذلك كما ذكرنا وناقشنا، وكما ناقش المؤلف، أن هذه المسألة بيَّن العلماء فيها أن ما جاء في حديث المسيء خاص بالواجبات، بل لم يستقص كل الواجبات، ولم يعرض للسنن، وهذه من السنن.

أما جمهور العلماء فقد استدلوا بعدة أدلة، منها حديث أبي حازم:"أن الناس كانوا يؤمرون إذا صلى أحدهم أن يضع يمينه على شماله"

(2)

.

وهو ينقل عن الراوي قال: "ولا أظنه ينمي

(3)

ذلك إلا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وبهذا يعطي حكم المرفوع.

ومنها أيضًا حديث وائل بن حجر، وفيه:"فإذا قام وضع كفه أليمنى على كفه اليسرى"

(4)

، أيْ أنه يقبض في الصَّلاة، وهذا في "صحيح مسلم".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (740) عن سهل بن سعد، قال:"كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة". قال أبو حازم: "لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إسماعيل: يُنْمى ذلك ولم يقل يَنْمي".

(3)

إذا قيل عن الصحابي يرفعه أو راويه أو ينميه أو يبلغ به فهو كناية عن رفعه، وحكمه حكم المرفوع صريحًا. انظر:"المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي"، لابن جماعة (ص 41).

(4)

أخرجه النسائي (889) وغيره عن عاصم بن كليب قال: حدثني أبي، أن وائل بن حجر أخبره قال:"قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف يصلي، فنظرت إليه فقام فكبر، ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد، فلما أراد أن يركع رفع يديه مثلها قال: ووضع يديه على ركبتيه، ثم لما رفع رأسه رفع يديه مثلها، ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه، ثم قعد وافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض اثنتين من أصابعه وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها". وقال الألباني في أصل صفة الصلاة (1/ 209): وهذا إسناد متصل صحيح على شرط مسلم.

ص: 1619

وجاء أيضًا في حديثٍ آخر عن وائل بن حجر، وفيه:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضع كفه الأيمن على ظاهر كفه الأيسر والرسغ وأيضًا الساعد"

(1)

، أيْ أنه يوسطها، فجزء من الكف يذهب إلى الساعد، ووسطها على الرسغ، وطرفها الأيمن على الكف، فهكذا تكون صفة أُخرى.

ووَردَ في قصة صلاة عبد اللَّه بن مسعود -وهذا دليل رابع- في هذه المسألة: "أنه كان يصلي، فمر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو واضع شماله على يمينه، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيمينه فوضعها على شماله"

(2)

.

وأما ما نقل عن السلف من الصحابة فهي آثار كثيرة في هذه المسألة.

إذًا، هذه المسائل جاءت نصًّا في وصف صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبض في الصلاة، وأنه كان يضع كفه الأيمن على كفه الأيسر، وقد رأينا أن بعض الأحاديث أَطلق، وبعضها قيَّد ذلك، أما الآخرون -فكما قلنا- يذهبون إلى الاستدلال بحديث المسيء، وقد أشرت سابقًا إلى أن العلماء أيضًا أشاروا إلى حكمة في أمر القبض، عندما يقبض الإنسان في صلاته؛ فيكون أسلم له من أن يعبث بيديه، لأنه ربما لو ترك يديه فإنه يرفعها هنا وهناك، ويُكثر من حركتها، لكن عندما يضعهما هكذا يكون أسلم له من العبث؛ هذا أمر، والأمر الثاني، أن هذا أقرب إلى الخشوع، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]، ومعلوم أنه كل ما زاد حقيقة خشوع المرء؛ زاد ثوابه في صلاته، كما أن خشوع المرء في صلاته إنما هو دليل على سكون قلبه، واطمئنان فؤاده، بمعنى أن القلب لم يشتغل بأمور الدنيا، وإنما انصرف

(1)

أخرجه النسائي (889) وقال الألباني فى أصل صفة الصلاة (1/ 209): وهذا إسناد متصل صحيح على شرط مسلم.

(2)

أخرجه أبو داود (755) عن ابن مسعود، أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم "فوضع يده اليمنى على اليسرى" وحسن إسناده الألباني في "صحيح أبي داود"(736).

ص: 1620

إلى أمور الآخرة؛ فاتجه إلى اللَّه سبحانه وتعالى، لذلك تجد أن الإنسان خاشع في صلاته.

كذلك قالوا إن هذا القبض على هذه الهيئة من هيئات الصلاة فيها زيادة من التذلل والخضوع، وزيادة في الانقياد والطاعة للَّه سبحانه وتعالى.

ولذلك عندما ترى المصلي مرخيًا يديه، وترى آخر قابضًا يديه؛ تشعر القابض يظهر عليه الخشوع والخشية أكثر من ذلك.

إذًا، هذه الهيئة علَّل العلماء وبينوا الحكمة منها، فلا شك أن القبض كما بينَّا فيه فوائد عدة، والتي منها ما أشرنا إليه.

* قوله: (فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي الفَرْضِ، وَأَجَازَهُ فِي النَّفْلِ)

(1)

.

تعلمون أن بعض العلماء يعلل أن الإمام مالكًا إنما ترك ذلك لأَلَمِ كان في يديه

(2)

، ويذكرون عادة عللًا في ذلك، فالإمام مالك رحمه الله مَا ترك ذلك -كما يذكر بعضهم عنه- اختيارًا، وإنما لسببٍ، والإنسان كما

(1)

يُنظر: "المدونة" لمالك (1/ 169) حيث قال: "وقال مالك -في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة- قال: لا أعرف ذلك في الفريضة -وكان يكرهه- ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به نفسه".

(2)

يُنظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (6/ 316) حيث قال: "ضرب جعفرُ بن سليمان مالكَ بن أنس في طلاق المكره، وحكى لي بعض أصحاب ابن وهب، عن ابن وهب أن مالكًا لما ضُرب حلق وحمل على بعير فقيل له: ناد على نفسك، قال: فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء قال: فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك، فقال: أدركوه أنزلوه".

ولا أعلم أن المالكية استندوا على هذه القصة في قولهم بإسدال اليدين في الصلاة، وإنما استندوا على قول ابن القاسم في "المدونة" (1/ 169) قال:"وقال مالك -في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة-؛ قال: لا أعرف ذلك في الفريضة وكان يكرهه ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به نفسه". ولا يمكن -في نظرنا- أن يستندوا على إسدال اليدين بقصة الضرب لو ثبتت لأن إسداله ليديه حينئذ يكون لضرورة المرض وعدم القدرة، وهذه الضرورة لا تلغى بها السنة.

ص: 1621

نعلم عندما يترك أمرًا لسببٍ لا يمكن أن يحمل هذا، وأن يلزم بمثل ذلك الأمر؛ ولذلك سيأتي في الإقعاء أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما كان يجلس؛ لأن الإقعاء له جلستان: الجلسة المعروفة عند الفقهاء، والجلسة المعروفة عند أهل اللغة

(1)

؛ ولذلك سنرى أنَّ المؤلف ربما يُنبه على أنَّ العبادلة كانوا يفعلون ذلك، وإذا أطلقنا العبادلة؛ فَيُراد بهم الخمسة.

وقال ابن عمر: "لا تقتدوا بي فإني كبرت"

(2)

.

إذًا، عبد اللَّه بن عمر كان يجلس جلسة الإقعاء، لكنه قال:"لا تقتدوا بي لأني كبرت"؛ فكان مضطرًّا؛ ولهذا عندما يكبر الإنسان يتغير حاله.

وسبق وبيَّنا أن العلل التي ذكرها العلماء في التفريق بين الجلسة الأولى في التشهد الأول والجلسة الثانية في التشهد الآخر، سبب افتراشه عليه الصلاة والسلام، وسبب التورك في الثاني، حيث قالوا: لأنه في الأول التشهد قليل لا يطول، ولأن جلسة المفترش تكون أقرب إلى القيام وأهيأ له، فلا تلحق الإنسان مشقة عندما يقوم، وخاصة إذا كان في سن متقدمة، أما الجلوس متوركًا فالتشهد الأخير يطول، وفيه راحة أكثر؛ فالإنسان أيضًا يأخذ الدعاء بكل راحة.

* قوله: (وَرَأَى قَوْمٌ أَنَّ هَذَا الفِعْلَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَهُمُ الجُمْهُورُ)

(3)

.

هذا قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمَن بعدهم.

(1)

الإقعاء: أقعى الكلب، إذا جلس على إسته مفترشًا رجليه وناصبًا يديه، والمنهي عنه في الصلاة هو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين. وهذا تفسير الفقهاء، فأما أهل اللغة فالإقعاء عندهم أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويتساند إلى ظهره. انظر:"الصحاح" للجوهري (6/ 2465).

(2)

أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(3/ 360) عن ابن عمر؛ أنه كان يقعي في الصلاة وقال لبنيه: "لا تقتدوا بي في الإقعاء؛ فإني إنما فعلت هذا حين كبرت".

(3)

تقدَّم قولهم.

ص: 1622

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ آثَارٌ ثَابِتَةٌ نُقِلَتْ فِيهَا صِفَةُ صَلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ يُنْقَلْ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى).

وهل نُقِل فيها أنه لم يكن يضع؟ فنرد عليهم بهذا، وهل ورد في حديث واحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق يده؟ وهذه الأحاديث التي ذكرنا: حديث أبي حازم

(1)

، وحديث وائل بن حجر

(2)

الذي في "صحيح مسلم"، والحديث الآخر عند أبي داود في "سننه"

(3)

، وغيره، وقصة عبد اللَّه بن مسعود

(4)

عندما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيده اليمني فوضعها فوق اليسرى، وفي آثار كثيرة عن الصحابة.

* قوله: (وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُؤْمَرُونَ بِذَلِكَ

(5)

. وَوَرَدَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ صِفَةِ صَلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام).

واللَّه سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22]

(6)

إذًا هذا مشار إليه في القرآن الكريم وإن لم يكن ذكره في هيئة الصلاة، لكن ذلك أيضًا مطلوب؛ ولذلك يذكر العلماء وخاصة الذين يتكلمون فيما يتعلَّق بالخطابة وغيرها، فنحن نعرف أنَّ الطُّلاب في أول حياتهم عندما يقوم الإنسان ليتكلَّم في جمعٍ مِن النَّاس تعلوه الخشية

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

قال الطبري في "تفسيره"(8/ 296): "يقول تعالى ذكره {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} أي: واضمم يا موسى يدك، فضعها تحت عضدك، والجناحان هما اليدان، كذلك رُوي الخبر عن أبي هُريرة وكعب الأحبار، وأما أهل العربية، فإنهم يقولون: هما الجنبان".

ص: 1623

والرَّهبة والخَوف، وقد يضطرب، بل وقد ترتعد فرائصه في هذا الموقف، وهذا مجرب ومعروف، لكنه حينئذ عندما يمسك بيديه، ويلم بنفسه؛ فإنه يحس بالاطمئنان أكثر، هذا فيما يتعلَّق بالأمور العادية، أما بالنسبة للصلاة فلا شك أن القبض -كما هو ظاهر- فيه زيادة خشوع، وأيضًا العلل التي أشرنا إلى بعضها مرارًا، وقد ذكر العلماء غير ذلك، لكن لا نريد أن يطول بنا المقام.

* قوله: (فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فَرَأَى قَوْمٌ

(1)

أَنَّ الآثَارَ الَّتِي أَثْبَتَتْ ذَلِكَ

(2)

اقْتَضَتْ زِيَادَةً عَلَى الآثَارِ الَّتِي لَمْ تُنْقَلْ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ

(3)

، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهَا

(4)

).

وإذا جاءت الزيادة عن ثقاتٍ ولا معارضة لها، فنحن نأخذ بها، وهذه الزيادات نحن ذكرنا أكثر مما ذكر المؤلف، لكنه أيضًا قد سبق ببعض الأدلة.

* قوله: (وَرَأَى قَوْمٌ أَنَّ الأَوْجَبَ المَصِيرُ إِلَى الآثَارِ الَّتِي لَيْسَت فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ)

(5)

.

هذه ليست أكثر، وغير مسلمة، فكون جملة من الأحاديث سكتت عن الأمر لا يدل على ذلك؛ لأن هذه هيئةٌ رأى الصحابة رضي الله عنهم الرسول

(1)

وهم جمهور الفقهاء، وكثير من التابعين، كما سبق.

(2)

كحديث ابن مسعود السابق من أنه كان يصلي، فمر به رسول اللَّه وهو واضع شماله على يمينه، فأخذ الرسول بيمينه فوضعها على شماله. فهذا فيه زيادة علم يجب المصير إليها.

(3)

كحديث المسيء صلاته، وهو أصل في بابه لم يذكر فيه القبض.

(4)

يضاف إلى ذلك ما ذكره النووي، فقال:"قال أصحابنا: ولأن وضع اليد على اليد أسلم له من العبث وأحسن في التواضع والتضرع والتذلل، وأما الجواب عن حديث المسيء صلاته فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه إلا الواجبات فقط". انظر: "المجموع شرح المهذب"(3/ 313).

(5)

وهم المالكية، ومن وافقهم من التابعين كما سبق.

ص: 1624

الكريم صلى الله عليه وسلم يفعلها، ونقلوها عنه، ولذلك أخذوها وساروا عليها ونفذوها؛ ولذلك لم يُنقل عن أحد منهم إلا عبد اللَّه بن الزبير أنه قال بذلك، فأين القول عن بقية الصحابة أنهم سدلوا في الصلاة؟ لم نره نُقِل عن أحد منهم.

إذًا، هناك أحاديث سكتت، وأحاديث بيَّنت ذلك، ولم يرد حديث واحد فيه إرخاء اليدين وسدلها، وإنما جاء في حديث المسيء الإطلاق، وحديث المسيء إنما تحدث عن بعض الأركان لا عن جميعها

(1)

.

* قوله: (وَلِكَوْنِ هَذِهِ لَيْسَتْ مُنَاسِبَةً لِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَانَةِ).

كما ذكرنا في الآية: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22]، فالمؤلف يريد أن يُشير إلى أن هذه ربما ينظر إليها على أن الإنسان يستعين بها، ربما الإنسان إذا سدل يديه قد يتعب، لكن عندما يضم يديه يضم بعضه إلى بعض؛ فتكون في هذه إعانة في الصلاة.

والواقع أن من ينظر إلى من يقبض يرى أن هيئته هيئة خشوع، يختلف عن غيره؛ لنطبق ذلك عمليًّا عندما نجد الإنسان واقفًا هكذا مرخيًا يديه، لا نحس بالراحة، لكن عندما ننظر إلى رجل ملتزم بالسنة فإننا نحس فيه الخشوع أكثر والطمأنينة.

* قوله: (وَلِذَلِكَ أَجَازَهَا مَالِكٌ فِي النَّفْلِ وَلَمْ يُجِزْهَا فِي الفَرْضِ

(2)

، وَقَدْ يَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهَا أَنَّهَا هَيْئَةٌ تَقْتَضِي الخُضُوعَ، وَهُوَ الأَوْلَى بِهَا).

قد رجع هنا إلى ما كان تكلم عنه قبلُ، إذًا فيها خضوع لا شك؛

(1)

سبق.

(2)

تقدَّم الكلام على هذه المسألة.

ص: 1625

لأن أولًا المؤمن مطالَب بأن يخضع للَّه سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، فالخلق كلهم يجب أن يخضعوا للَّه، وإذا كان المؤمن ينبغي أن يخضع للَّه في كل حال مِن أحواله؛ فأوْلَى أحواله أن يكون ذلك في الصلاة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"والصلاة نور"

(1)

، وقال:"من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومَن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً يوم القيامة"

(2)

.

إذًا، لا شك أن الصلاة هي موضع خضوع، وفيها ذلٌّ، بل فيها انقياد وانطراحٌ بين يدي اللَّه سبحانه وتعالى، فهل هناك أكثر من أن الإنسان يضع جبهته في الأرض، ويمرِّغ أشرف ما في الإنسان، هو "وجهه"؛ ولذلك يضعه في الأرض، ويلصقه فيها؟!

وسنأتي -إن شاء اللَّه- إلى مسألة يتكلم فيها العلماء حول الأعضاء التي يجب السجود عليها، وأنه يسجد على جبهته قولًا واحدًا، إلا الحنفية؛ فإنهم يرون أنه لو اقتصر على الأنف جاز.

إذًا سجوده على الوجه أليس هذا غاية الذل، والخضوع والانقياد، والتسليم للَّه سبحانه وتعالى، فهو قد سلَّم أمره للَّه سبحانه وتعالى، وعندما سلم أمره للَّه؛ فإنه يرجو الثواب من اللَّه سبحانه وتعالى وهو في حالة السجود، حيث أقرب ما يكون من ربه؛ فإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن يكون ذليلًا خاضعًا،

(1)

جُزء من حديث أخرجه مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان والحمد للَّه تملأ الميزان، وسبحان اللَّه والحمد للَّه تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها".

(2)

أخرجه أحمد في المسند (6576) وغيره، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ذكر الصلاة يومًا فقال: "مَن حافظ عليها كانت له نورًا، وبرهانًا، ونجاة يوم القيامة، ومَن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا برهان، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون، وهامان، وأبي بن خلف" وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(578).

ص: 1626

والذل للَّه مطلوب، والخضوع للَّه مطلوب؛ وإنما الذل للبشر والخضوع هو المنهي عنه، أمَّا أن تكرم البشر وترق لصغيرهم وتحترم كبيرهم؛ فهذا مطلوب، لكن دون أن تخضع لهم، ولا أن تذل لهم، ولا تصرف لهم نوعًا من أنواع العبادة، فذلك ما لا يجوز إلا للَّه سبحانه وتعالى مهما كان لهذا البشر من مكانة، ومهما علَتْ مكانة هذا الإنسان، وسمت منزلته بين الناس، وحتى وإن كان من الصالحين؛ فلا ينبغي أن يخضع له، وإنما تحترم هؤلاء، وتنزلهم المنزلة اللائقة بهم، "أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم"

(1)

، لكن أن تصرف للمخلوق ما لا يجوز صرفه إلا للَّه؛ فذاك هو المنهي الممنوع.

* قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ).

هذه تعرف بجلسة الاستراحة، فما هي جلسة الاستراحة؟

أقول: عندما يقوم الإنسان أثناء صلاته من السجدة الثانية إلى الركعة التالية، فالبعض هنا يقومون مباشرة، والبعض يجلسون قليلًا ثم ينهضون، بمعنى أنهم يقعدون كما يقعدون في حالة التشهد الأول حتى يعود كل عظم إلى موضعه، ثم ينهضون.

والحقيقة أنه قد ورد هذا وورد هذا، وهي تُعرف فقهيًّا بـ "جلسة الاستراحة".

بهذا قد عرفنا جلسة الاستراحة، والسؤال هنا: هل جلسة الاستراحة يفعلها الإنسان المحتاج إليها الذي قد تلحقه مشقة في صلاته، أو عليه أن يجلس جلسة الاستراحة بشكل عام؛ لأنها هي سُنة قد ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟

(1)

أخرجه أبو داود (4842) عن ميمون بن أبي شبيب، أن عائشة، مر بها سائل فأعطته كسرة ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل فقيل لها في ذلك فقالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنزلوا الناس منازلهم" وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(1894).

ص: 1627

نحن نجد أن أكثر الفقهاء لا يأخذون بجلسة الاستراحة، وأن قليلًا منهم يأخذ بها، وأن الذين يأخذون بذلك هم الشافعية

(1)

، وهي رواية للإمام أحمد

(2)

، وأن أكثر الفقهاء لا يرون جلسة الاستراحة أصلًا، لكن الحقيقة أنه قد ورد من الأدلة ما يدل عليها، وجاءت أحاديث أُخرى تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهض من السجود إلى القيام ولم يجلس، فبأي تلك الأدلة نأخذ؟

* قوله: (اخْتَارَ قَوْمٌ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي وَتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ لَا يَنْهَضَ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا).

هذا هو المعروف والمشهور من مذهب الشافعية

(3)

، وهي رواية للإمام أحمد

(4)

، وبها قال جمع من العلماء

(5)

.

* قوله: (وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنْ يَنْهَضَ مِنْ سُجُودِهِ نَفْسِهِ).

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (1/ 518) حيث قال: " (والمشهور سن جلسة خفيفة) للاستراحة (بعد السجدة الثانية في كل ركعة يقوم عنها) بعد سجود لغير تلاوة وقبل قيام بقدر الجلوس بين السجدتين للاتباع، رواه البخاري والترمذي عن أبي حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، وأما خبر "كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجود استوى قائمًا" فغريب أو محمول على بيان الجواز". وانظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 376).

(2)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 72) حيث قال: "وقيل: يجلس جلسة الاستراحة من كان ضعيفًا، واختاره القاضي والمصنف وغيرهما".

(3)

تقدَّم.

(4)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 72) حيث قال: "وقيل: يجلس جلسة الاستراحة من كان ضعيفًا، واختاره القاضي والمصنف وغيرهما". ولم أقف على رواية بإطلاق لا تختص بالضعيف.

(5)

وهو ما يُعرف بجلسة الاستراحة، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 443) حيث قال: " (فرع) في مذاهب العلماء في استحباب جلسة الاستراحة: مذهبنا الصحيح المشهور أنها مستحبة. . . وبه قال مالك بن الحويرث وأبو حميد وأبو قتادة وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وأبو قلابة وغيره من التابعين. قال الترمذي: وبه قال أصحابنا".

ص: 1628

وهذا هو قول جمهور العلماء، ومنهم: الحنفية

(1)

، والمالكية

(2)

وهي الرواية المشهورة عند الحنابلة

(3)

.

* قوله: (وَبِالأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ).

الجماعة أبو حنيفة وأحمد في المشهور، وغير هؤلاء كثير.

هنا مسألة، وهي: عندما نأتي إلى قضيةٍ ما، فليس معنى ذلك أنه يلزم أن نجد كل جمهور العلماء قالوا بها، وكذلك عندما نأتي إلى الأئمة الأربعة فنجد أن أحدهم في جانب، وثلاثة في جانب؛ فلا يلزم من هذا أن يكون هذا الذي انفرد قوله ضعيفًا والثلاثة قولهم هو القوي، كما لا يلزم أيضًا أن يكون قول الجمهور هو الصحيح، وقول الآخر هو الضعيف، بل قد يكون هذا الذي انفرد عن الأئمة بقولٍ؛ فقد يكون أحدهم قوله هو القوي؛ لأنه يتمسك بحديثٍ صحيح.

(1)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (2/ 250) حيث قال: "وفي جمل النوازل جلسة الاستراحة مكروهة عندنا لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامه". انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 211).

(2)

يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 249) حيث قال: "مسألة: إذا أراد القيام من السجود نهض قائمًا ولم يجلس، خلافًا للشافعي في قوله يجلس جلسة الاستراحة. لما روي أنه عليه السلام (كان إذا رفع رأسه من السجود رفع يديه قبل ركبتيه ونهض قائمًا ولا يجلس). وفي حديث أبي حميد أنه عليه السلام (سجد ثم كبر فقام ولم يتورك)؛ ولأنه نهوض إلى القيام فلم يكن من سنته أن يفصل بينهما بفعل غيره. . . ولأنه انتقال من ركن إلى ركن يخالفه فلم يسن فيه جلسة يفصل بينهما كالانتقال من القيام إلى السجود".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 355) حيث قال: " (ولا تستحب جلسة الاستراحة، وهي جلسة يسيرة صفتها كالجلوس بين السجدتين) بعد السجدة الثانية من كل ركعة بعدها قيام، والاستراحة طلب الراحة كأنه حصل له إعياء فيجلس ليزول عنه، والقول بعدم استحبابها مطلقًا هو المذهب المنصور عند الأصحاب، لما روى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهض على صدور قدميه" رواه الترمذي بإسناد فيه ضعف". وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 71).

ص: 1629

إذًا، ليس معنى هذا أن صحة الأقوال وترجيحها تُبنَى على الكثرة، هذا في الغالب، فنعم غالبًا ما نجد أن قول الجمهور هو الراجح، لكن هناك مسائل كثيرة في أي مذهب من المذاهب، نجد أن كثيرًا من الآراء أو عددًا من الآراء نجد أن الإمام أبا حنيفة انفرد بها، وأنها الراجحة، وأُخرى انفرد بها الإمام مالك وهي أرجح، وثالثة أيضًا وقف عندها الإمام الشافعي وهي أرجح، ورابعة أخذ بها الإمام أحمد وقوله فيها وإن انفرد به فهو أرجح من غيره؛ فعلى هذا، كل ما نريد أن نصل إليه ألَّا نجعل ترجيح الأقوال مبنيًّا على كثرة القائلين به، فلا يلزم من صحة القول كثرته، إنما متى يكون القول راجحًا بصحة دليله، فالقول الراجح هو الذي تدعمه أدلة الكتاب وتعضده أدلة السنة الصحيحة الصريحة.

ولذلك نرى أن الشافعي يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"

(1)

.

ومَن يعرف هذا المذهب يجد أن الشافعية أحيانًا ينسبون للإمام الشافعي ما لم يقل؛ لأنهم قالوا إنه وضع قاعدة في ذلك "إذا صح الحديث فهو مذهبي"؛ أي: إنه يقول به.

إذًا، ينبغي أن يكون هذا هو قول الإمام الشافعي، وهو حقيقة رأي جميع الأئمة؛ فكلهم -رحمهم اللَّه تعالى- وغيرهم يبغي الوصول إلى الحق، ولا يريد غيره أبدًا، ولا نظن أن بعض الأئمة يُقدِّم الرأي على الحديث؛ فهذا أمر لم يصح، ولذلك نجد أن أبا حنيفة لما سُئل فيما جاء عن اللَّه؟ قال: "إذا جاء الأمر عن اللَّه؛ فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن رسوله؛ فعلى العين والرأس، وإذا اتفق الصحابة على قول؛ أخذناه، وإذا اختلفوا؛ اخترنا من أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن

(1)

يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (10/ 35) حيث قال: "ويروى أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث، فاضربوا بقولي الحائط". وللإمام تقي الدين السبكي رسالة تناول فيها كلمة الشافعي هذه بالشرح والبيان، وما يجب أن تحمل عليه وتقيد به سماها "معنى قول المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي".

ص: 1630

رجال"

(1)

، ويعني بذلك أن نجتهد كما اجتهدوا، وهذا يُقبل من أبي حنيفة، لأنه كما هو معلوم يُعد من التابعين

(2)

، وهناك خلاف على هذا، لكن هذا هو الأشهر، ويُذكر في ذلك أنه روى حديثًا عن أنس رضي الله عنه أحاديث منها، قال:"رأيت أنس بن مالك غائبًا يصلي في مسجد البصرة. . . "

(3)

، لا شك أن أنسًا توفي وأبو حنيفة كان شابًّا يافعًا، لكن هل التقى به

(4)

، هذا أمر يحتاج إلى تحقيق، فلو قلنا إنه رآه فهو تابعي، بل يذكر الحنفية أنه روى عنه هذا الحديث:"من قال لا إله إلا اللَّه خالصًا من قلبه دخل الجنة"

(5)

، وهذا حديث رواه غيره، وهو حديث صحيح

(6)

.

ومع هذا يقول أبو حنيفة -لما قيل له فيما رآه: هذا الذي انتهيت

(1)

يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 401) حيث قال: "وروى نوح الجامع، عن أبي حنيفة، أنه قال: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة، اخترنا، وما كان من غير ذلك، فهم رجال ونحن رجال".

(2)

ممن ذكره من التابعين الذهبي، إذ قال في "مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه" (ص 13):"ولد في سنة ثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان بالكوفة وذلك في حياة جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وكان من التابعين لهم إن شاء اللَّه بإحسان، فإنه صح أنه رأى أنس بن مالك إذ قدمها أنس رضي الله عنه". ونفى الدارقطني كونه تابعيًّا، ورد هذا في "سؤالات السلمي" للدارقطني (ص 317) حيث قال:"وسألته: هل يصح سماع أبي حنيفة عن أنس؟ فقال: لا يصح سماعه عن أنس، ولا عن أحد من الصحابة، ولا تصح له رؤية أنس ولا رؤية أحد من الصحابة".

(3)

يُنظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 126) حيث قال: "رأى أنس بن مالك غير مرة لما قدم عليهم الكوفة". وانظر: "الوافي بالوفيات" للصفدي (27/ 89).

(4)

يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 391) حيث قال: "ولد -أبو حنيفة- سنة ثمانين، في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم".

(5)

لم أقف على هذه الرواية من طريق أبي حنيفة.

(6)

أخرجه البخاري (99) عن أبي هريرة أنه قال: قيل: يا رسول اللَّه من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث؛ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا اللَّه، خالصًا من قلبه، أو نفسه".

ص: 1631

إليه هو الحق الذي لا شك فيه؟ -؛ قال: لا أدري، لعله الباطل الذي لا شك فيه.

كذلك الحال بالنسبة للإمام مالك، كان يقول:"ما مِنَّا إلَّا رادٌّ ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر؛ يُشير إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

إذًا، هؤلاء بشَر يُؤخَذ من أقوالهم ويُرَد، وقد يصيب الإنسان ويخطئ، ومالك

(2)

إمام دار الهجرة الذي تُضرب إليه أكباد الإبِل

(3)

مِن مشارق الأرض ومغاربها، يُسأل عن عددٍ من المسائل، فيقول: لا أدري!

(4)

واليوم قد يستحي طالب العلم إذا سُئل عن مسألة أن يقول: لا أدري! وهو. . مَن هو بالنسبة للإمام مالك؟!

والشافعي كما مر معنا، يقول:"إذا صح الحديث فهو مذهبي".

وأحمد يقول: "لا تقلدني، ولا مالكًا، ولا الثوريَّ، ولا الأوزاعي، وخُذ مِن حيث أخذوا"

(5)

.

إذًا، كل ما أريد أن أصل إليه هو أنَّ رُجحَان القول يعتمد على قوة

(1)

نسبةُ هذا الكلام إلى مالك هو المشهور عند المتأخرين، وقد أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 925)، وابن حزم في "أصول الأحكام"(6/ 179) من قول الحكم بن عُتَيبة ومجاهد، وأورده تقي الدين السبكي في "الفتاوى"(1/ 138) من قول ابن عباس -متعجبًا من حسنه-، ثم قال:"وأخذ هذه الكلمة من ابن عباسٍ مجاهدٌ، وأخذها منهما مالك رضي الله عنه، واشتهرت عنه".

(2)

فلان تضرب إليه أكباد الإبل؛ أي يرحل إليه في طلب العلم وغيره. انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 530).

(3)

أخرجه الترمذي (2680) عن أبي هريرة، رواية:"يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة". وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"(4833).

(4)

يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (8/ 77) حيث قال: "قال الهيثم بن جميل: سمعت مالكًا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ: لا أدري".

(5)

ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين"(2/ 139) عن الإمام أحمد.

ص: 1632

دليلِه وصِحَّته، وقد تكون الأدلة في كل الأقوال صحيحة، لكن توجد قرائن ومُرَجِّحَات أُخرى تميل بهذا القول، وتجعله مقدَّمًا علَى غيره، وقد تكون الأقوال متعادلة -كما نرى في كثيرٍ من المسائل- والترجيح يكون عند استحالة الجَمْع، فأيضًا أحيانًا يُؤخذ بالأحوط للمسلم، وأحيانًا يؤخذ بما فيه تيسير على الناس؛ لأننا نعلم أن هُناك عزائمُ، وهناك رُخَص، وبعض الناس يتشدد ويقف عند العزيمة، وهذا خطأ في الحقيقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إن اللَّه يحب أن تُؤتَى رُخَصه كلما يكره أن تؤتى معاصيه"

(1)

، فاللَّه -سبحانه وبحمده- عندما رخَّص لك ويسَّر لك في هذا الأمر؛ فلماذا نطرح هذه الرخصة وندَعها؟

إذًا، عندما نعمل بالرخصة قد نكون قد استجبنا لربنا، وعملنا بما جاء في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: أَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ الثَّابِتُ: أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي "فَإِذَا كَانَ فِي وَتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا"

(2)

).

إذًا، هذا الحديث نصٌّ في جلسة الاستراحة إذا كان المصلي في وتر من صلاته.

ونقصد بالوتر هنا الركعات المُفردة، أي: الركعة الأولى أو الثالثة، أما الثانية فكما نعلم فيها إما الجلسة الأولى في الصلاة الرباعية أو الثلاثية، أو الجلسة الأخيرة بالنسبة للصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد.

إذًا هذا الحديث نصٌّ، وهو عند البخاري في "صحيحه": "أن

(1)

أخرجه أحمد في "المسند"(5866) عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته" وصححه الأرناؤوط.

(2)

أخرجه البخاري (823) عن مالك بن الحويرث الليثي، "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا".

ص: 1633

الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض وإنما يجلس"

(1)

.

* قوله: (وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صِلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام).

حديث أبي حميد ليس في "الصحيحين" لكنه أيضًا حديث صحيح.

* قوله: ("أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الرَّكْعَةِ الأُوْلَى قَامَ وَلَمْ يَتَوَرَّكْ")

(2)

.

ولكن جاء في هذا الحديث في روايةٍ عند أبي داود في "السُّنن" وغيره، وهي صحيحة حديث أبي حميد، وفيه أيضًا:"أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نهض من السجدة الثانية في الركعة الأولى قعد حتى رجع، أو عاد كل عظم إلى موضعه ثم نهض"

(3)

.

إذًا، هناك رواية في هذا الحديث فيها إثبات جلسة الاستراحة، لكن جلسة الاستراحة سُنة يُعمَل بها أحيانًا وقد تُترك أحيانًا.

(1)

انظر ما قبله.

(2)

أخرجه أبو داود (733) عن عياش بن سهل الساعدي أنه كان في مجلس فيه أبوه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي المجلس أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو أسيد بهذا الخبر يزيد أو ينقص قال فيه:"ثم رفع رأسه يعني من الركوع فقال: سمع اللَّه لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ورفع يديه، ثم قال: اللَّه أكبر فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه وصدور قدميه وهو ساجد، ثم كبر فجلس فتورك ونصب قدمه الأخرى، ثم كبر فسجد، ثم كبر فقام ولم يتورك،. . . " الحديث، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(171).

(3)

أخرجه أبو داود (730) قال أبو حميد: "أنا أعلمكم بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالوا: فلم؟ فواللَّه ما كنت بأكثرنا له تبعًا ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه،. . . ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك،. . . الحديث". وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(3/ 319).

ص: 1634

إذًا، نحن نقول الأحاديث فيها السكوت عن جلسة الاستراحة، وفي بعضها إثبات جلسة الاستراحة، فمعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها أحيانًا وتركها أحيانًا أُخَر؛ فنحن كذلك نفعل ما دامت قد صحت بأحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم منها أن يفعلها الإنسان، ولا يُعاب من تركها كما لا يُعاب من فعلها.

فهذا من باب التوثيق، وهذه هيئات ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لا شك أن كلها هيئات مشروعة، ولا نقول فقط بأنَّ القصد هو أن يستريح المصلي، لا، هذا ليس فيه تعيين وإنما فيه أنه صلى الله عليه وسلم كما رأينا لم ينهض في الحديث الأول، وفي رواية للحديث الذي جاء به حُجةٌ للجمهور.

إذًا، هنا نجد أن الجمهور لا يرون جلسة الاستراحة، ولكن الشافعي يرى ذلك؛ فمعنى هذا أن نقول بأن جلسة الاستراحة قد ثبتت، وينبغي أن نعمل بها.

* قوله: (فَأَخَذَ بِالحَدِيثِ الأَوَّلِ الشَّافِعِيُّ،

(1)

وَأَخَذَ بِالثَّانِي مَالِكٌ

(2)

).

وأخذ بالثاني الجمهور وليس مالكًا وحده، ومعه أبو حنيفة وأحمد وغير هؤلاء.

* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا سَجَدَ، هَلْ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ، أَوْ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ؟)

(3)

.

(1)

تقدَّم قوله.

(2)

تقدَّم قوله.

(3)

ذهب جمهور الفقهاء -الحنفية والشافعية والحنابلة- إلى أنه يسن عند الهوي إلى السجود أن يضع المصلي ركبتيه أولًا، ثم يديه، وذهب المالكية ورواية عن أحمد إلى أنه يقدم يديه قبل ركبتيه.

مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 116) حيث قال: " (ووضع =

ص: 1635

هذه قضية أيضًا مهمة، والكلام فيها كثير، ويحصل فيها الخلاف إذا سجد الإنسان؛ فأول ما يصل الأرض ويلامسها هي ركبتاه أو يداه، بمعنى هل يُقدِّم اليدين أو يُقدم الركبتين؟

وللجواب نقول: إنه قد ورد في هذا أحاديث، وفي ذاك أحاديث، كُل ذلك ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك فمِن أحسن مَن رأيته كتب في هذا الإمام النووي رحمه الله في كتابه "المجموع"، عندما أراد أن يدرس المسألة، قدم لها، وقال:"صح في هذه أحاديث، وفي هذه أحاديث، لكننا نعرض الأحاديث، من باب بيان المسائل"

(1)

، وتكلم عن هذه المسألة، وتكلم عنها غيره أيضًا.

= ركبتيه، ثم يديه) لما روي عن وائل أنه قال "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" رواه أبو داود قال رحمه الله:(ثم وجهه بين كفيه) ".

مذهب الشافعية، يُنظر:"النجم الوهاج" للدميري (2/ 148 - 149) حيث قال: " (ويضع ركبتيه ثم يديه)؛ لقول وائل بن حجر: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد. . وضع ركبتيه قبل يديه، فإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" رواه الأربعة، وصححه ابن خزيمة. . . لكن يعارضه. . عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه"، وهو جيد الإسناد، وبه أخذ مالك؛ لأنه قول وأمر، وهو أقوى من الفعل".

مذهب الحنابلة في المشهور عنهم، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 350) حيث قال: " (فيضع ركبتيه ثم يديه) لما روى وائل بن حجر قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" رواه النسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب،. . والعمل عليه عند أكثرهم،. . ولأنه أرفق بالمصلي، وأحسن في الشكل، ورأي العين".

وفي رواية أُخرى أنه يضع يديه قبل ركبتيه، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 370) حيث قال: "وعن أحمد رواية أُخرى أنه يضع يديه قبل ركبتيه. وإليه ذهب مالك".

(1)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 421) حيث قال: "واحتج لمن قال بتقديم اليدين بأحاديث ولمن قال بعكسه بأحاديث ولا يظهر ترجيح أحد المذهبين من حيث السنة ولكني أذكر الأحاديث الواردة من الجانبين".

ص: 1636

لكن قد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدَّم يديه، وثبت أيضًا أنه قدَّم رُكبتيه، وجاء في هذه أحاديث وفي هذه أحاديث.

فمن الأحاديث التي جاءت في تقديم الرُّكبتين: حديث وائل بن حجر

(1)

، ومِن الأحاديث التي جاءت في تقديم اليدين: حديث أبي هريرة

(2)

.

ووردت أيضًا آثار عن الصحابة رضي الله عنهم في هذه، وهذه.

وبعض العلماء من المحققين حاولوا أن يدرسوا هذه المسألة، وأن يجمعوا ما فيها، وأن يدققوا البحث فيها، وأذكر منهم ابن القيم

(3)

رحمه الله ومعلوم أن ابن القيم عندما يدرس مسألة من المسائل فإنه يعني بتحقيقها وتدقيقها، وهو بذلك يأخذ برأي القائلين بتقديم الركبتين

(4)

، ويرى أيضًا أن الحديث الذي جاء فيه تقديم اليدين حصل فيه قلب، أيْ: انقلب على الرواة

(5)

.

(1)

سيأتي بعد قليل.

(2)

سيأتي بعد قليل.

(3)

يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 215) وما بعدها.

(4)

يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 223) حيث ذكر ابن القيم أدلة على النزول بالركبتين، فقال:"وحديث وائل ابن حجر أولى من وجوه: أحدها: أنه أثبت من حديث أبي هريرة، قاله الخطابي وغيره. الثاني: أن حديث أبي هريرة مضطرب المتن كما تقدم، فمنهم من يقول فيه: وليضع يديه قبل ركبتيه، ومنهم من يقول بالعكس، ومنهم من يقول: وليضع يديه على ركبتيه، ومنهم من يحذف هذه الجملة رأسًا. الثالث: أنه على تقدير ثبوته قد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخ، قال ابن المنذر: وقد زعم بعض أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ، وقد تقدم ذلك. . . ".

(5)

المقلوب: هو ما رواه الشيخ بإسناد لم يكن كذلك، فينقلب عليه ويَنُطّ من إسناد حديث إلى متن آخر بعده. أو: أن ينقلب عليه اسم راو، مثل مرة بن كعب بـ كعب بن مرة،. . فمن فعل ذلك خطأ فقريب. ومن تعمد ذلك وركب متنًا على إسناد ليس له، فهو سارق الحديث، وهو الذي يقال في حقه:"فلان يسرق الحديث" انظر: "الموقظة"، للذهبي (ص 60).

ص: 1637

ونقول: إنْ فعل هذا؛ فهو صحيح، وإن فعل هذا؛ فهو صحيح، لكن أيهما الأفضل والأوْلَى؟

* قوله: (وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ اليَدَيْنِ)

(1)

.

ثم تجدهم يختلفون في بروك الجَمَل

(2)

، هل يقدم يديه أو يقدم رجليه؟ فبعضهم يقول هذا، وبعضهم يقول ذاك؛ لأن النهي عن التقديم جاء فيه:"ولا يبرك بروك الجمل"، وهذا ورد بتقديم الركبتين، ولكنهم يرون أن هذا انقلب، والمؤلف سيذكر هذا الحديث.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ حُجْرٍ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ")

(3)

.

إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه أولًا، ثم بعد ذلك يتبعها باليدين.

* قوله: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ البَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ")

(4)

.

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 250) حيث قال: " (قوله: وندب تقديم يديه إلخ) لما في أبي داود والنسائي من قوله عليه الصلاة والسلام "لا يبركن أحدكم كما يبرك البعير ولكن يضع يديه ثم ركبتيه" ومعناه أن المصلي لا يقدم ركبتيه عند انحطاطه للسجود كما يقدمهما البعير عند بروكه ولا يؤخرهما في القيام كما يؤخرهما البعير في قيامه والمراد ركبتا البعير اللتان في يديه لأنه يقدمهما في بروكه ويؤخرهما عند القيام عكس المصلي".

(2)

بروك الجمل: أي يبدأ بأعاليه إذا انحط إلى الأرض. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 11).

(3)

أخرجه أبو داود (838) عن وائل بن حجر، قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". وضعفه الألباني في أصل صفة الصلاة (2/ 715).

(4)

أخرجه أبو داود (840) عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(789).

ص: 1638

بروك البعير؛ هل هو يقدم رجليه أو يديه؟

هم يقولون

(1)

: "وليضع ركبتيه قبل يديه"، حصل فيه قلب هكذا يقولون، لكن جاءت آثار عن الصحابة تؤيد هذا وتؤيد هذا، وأحيانًا أيضًا الإنسان قد يحتاج أن يقدم يديه، فقد تلحقه مشقة بالنسبة للركبتين، وتجد مثلًا بعضهم يقول: إن تقديم اليدين فيه تجنب لِأَنْ يكفت الإنسان ثوبه؛ لأنَّ بعضهم إذا جاء على ركبتيه ربما يكف ثوبه ويرفعه، بينما إذا أقبل بيديه لا يحصل ذلك، لكن لا شك أن الأشهر هو تقديم الركبتين.

* قوله: (وَكانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ)

(2)

.

ورد عن السلف هذا

(3)

، وورد عنهم هذا.

* قوله: (وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الحَدِيثِ).

يقصد المؤلف أن بعض أهل الحديث، إنما هو الإمام الخطابي، وتكلم رحمه الله عن هذا في شرحه على "سنن أبي داود"، فالمقصود هنا هو الإمام الخطابي وهو من علماء الحديث، بل من العلماء المحققين أصحاب الشأن.

(1)

القائل ابن القيم، يُنظر:"زاد المعاد" لابن القيم (1/ 218) حيث قال: "وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة كما ذكرنا مما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله، ولعله "وليضع ركبتيه قبل يديه" كما انقلب على بعضهم حديث ابن عمر "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" فقال: "ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال"".

(2)

أخرجه البخاري معلقًا (1/ 159) قال: "وقال نافع: "كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه" وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 318) عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. وقال محققه: "قال الألباني: إسناده صحيح وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ورجحه الحافظ على حديث وائل وعلقه البخاري"".

(3)

روي عن عمر أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه. يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 326) حيث قال: "قد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فممن رأى أن يضع ركبتيه قبل يديه عمر بن الخطاب".

ص: 1639

* قوله: (حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ)

(1)

.

يعني يقدمه من حيث السند؛ إذًا قال: بأنَّ حديث أبي هريرة حصل فيه قلب.

* قوله: (المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ يَكُونُ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ: الوَجْهِ، وَاليَدَيْنِ، وَالرُّكبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ"

(2)

).

هنا ندخل فى مسألة جوهرية ومهمة، وسنرى أن الخلاف فيها أن بعض العلماء يرى أن لو كان الإنسان سجَدَ على جبهته فقط هل يكفيه، لأنه قد يصعب عليه، بمعنى أنه لو كان رافع الركبتين أو رافع القدمين فصلاته صحيحة، وبعضهم يرى عدم صحة ذلك.

فنجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "أمرت أن أسجد على سبعة. . . "، ففي الحديث قال:"اليدين، والركبتين، والقدمين، والجبهة"

(3)

.

وفي بعض الأحاديث "الجبهة. . . "

(4)

، ثم عدد الباقي، ومعنى ذلك

(1)

يُنظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 208) حيث قال: "حديث وائل بن حجر أثبت من هذا وزعم بعض العلماء أن هذا منسوخ وروى فيه خبرًا عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين".

(2)

أخرجه البخاري (809) عن ابن عباس، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعرًا ولا ثوبًا: الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين.

(3)

أخرجه مسلم (490) عن ابن عباس، قال:"أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة، ونهي أن يكف شعره، وثيابه" هذا حديث يحيى وقال أبو الربيع: "على سبعة أعظم، ونهي أن يكف شعره وثيابه، الكفين والركبتين والقدمين والجبهة".

(4)

أخرجه البخاري (809)، واللفظ له، ومسلم (490) عن أبن عباس أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعرًا ولا ثوبًا: الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين.

ص: 1640

أن الأحاديث يختلف بعضها عن بعض، فليس ذِكْر اليدين أولًا أنها قبل الوجه، إنما القصد أنها وردت في الحديث.

وفى بعض الروايات جاء ذكر الأنف مع الجبهة

(1)

.

وفي بعضها سكت، وفي بعضها أن الرسول عليه الصلاة والسلام "سجد على جبهته"

(2)

، في معنى الحديث، أي: على شعره، ومعنى هذا أنه سجد على بعض جبهته؛ ولذلك يختلف العلماء في بعض المسائل:

فلو سجد المصلي على جبهته دون أنفه، هل تصح صلاته أم لا؟

ولو سجد على أنفه دون جبهته، هل تصح صلاته أم لا؟

ولو سجد على بعض جبهته، هل تصح صلاته أم لا؟

ولو سجد رافعًا قدميه، هل تصح صلاته أم لا؟

وكذلك الحال بالنسبة إلى الركبتين، فهذه قضية مهمة، ونحن نعلم أنَّ السجود ركنٌ مِن أركان الصلاة، وكذلك الاطمئنان ركن من أركان الصلاة كالحال في الركوع؛ لأن الركوع أيضًا ركن من أركان الصلاة، وكذلك الرفع من الركوع، وأيضًا الاطمئنان في الركوع والسجود هما ركن، وكذلك السجود. . .

إذًا، هذه مسألة فيها خلاف كبير بين العلماء، وهي مِن الأمور التي يتجنب فيها الإنسان الخلاف.

فالبعض على سبعة أعضاء، والبعض على سبعة أعظُم، والقصد هنا أن يسجد الإنسان على جبهته وأنفه، وكذلك يسجد على كفيه وعلى ركبتيه وعلى أطراف القدمين؛ هذا الذي ورد، لكن هل السجود بهذه الهيئة

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 234) عن وائل بن حجر قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته وأنفه".

(2)

أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1/ 137) عن جابر بن عبد اللَّه قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته على قصاص الشعر".

ص: 1641

واجب متعين، أو يكفي فيه بعضه، هذا الذي سيتحدث عنه المؤلف.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ سَجَدَ عَلَى وَجْهِهِ وَنَقَصَهُ السُّجُودُ عَلَى عُضْوٍ مِنْ تِلْكَ الأَعْضَاءِ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟)

(1)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 105) حيث قال: "وقال زفر والشافعي: السجود فرض على الأعضاء السبعة: .. ، واحتجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم". . . (ولنا) أن الأمر تعلق بالسجود مطلقًا من غير تعيين عضو، ثم انعقد الإجماع على تعيين بعض الوجه فلا يجوز تعيين غيره، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد؛ فنحمله على بيان السنة عملًا بالدليلين. ثم اختلف أصحابنا الثلاثة في ذلك البعض، قال أبو حنيفة: هو الجبهة أو الأنف غير عين، حتى لو وضع أحدهما في حالة الاختيار يجزيه، غير أنه لو وضع الجبهة وحدها جاز من غير كراهة، ولو وضع الأنف وحده يجوز مع الكراهة وعند أبي يوسف ومحمد: هو الجبهة على التعيين، حتى لو ترك السجود عليها حال الاختيار لا يجزيه".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 239 - 240) حيث قال: " (قوله: وسجود إلخ) عرفه بعضهم بأنه مس الأرض أو ما أتصل بها من ثابت بالجبهة. . . وظاهر قوله أو ما اتصل بها ولو كان أعلى من سطح ركبتي المصلي وذلك كالمفتاح أو السبحة ولو اتصلت به والمحفظة وهو كذلك نعم الأكمل خلافه هذا هو الأظهر. . (قوله: مستدير ما بين الحاجبين) أي فلو سجد على ما فوق الحاجب لم يكف (قوله: إلى الناصية) هو شعر مقدم الرأس (قوله: أي على أيسر) أي على أقل جزء منها فلا يشترط في السجود إلصاق في الجبهة بتمامها بالأرض بل يكفي فيه إلصاق أقل جزء منها (قوله: على أبلغ ما يمكنه) أي بحيث تستقر منبسطة. والحاصل أنه يكفي إلصاق جزء منها بالأرض ولو كان صغيرًا وأما إلصاقها على أبلغ ما يمكنه بحيث يلصقها كلها فهو مندوب (قوله: لا ارتفاع العجزة) عطف على استقرارها أي لا يشترط ارتفاع العجزة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين" للنووي (1/ 255) حيث قال: "السجود هو ركن وله أقل وأكمل. أما أقله ففيه مسائل، إحداها: يجب أن يضع على الأرض من الجبهة ما يقع عليه الاسم، وفي وجه: لا يكفي بعض الجبهة، وهو شاذ منكر. ولا يجزئ عن الجبهة الجبينان، وهما جانبا الجبهة، والصحيح أنه لا يكفي في وضع الجبهة الإمساس، بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه، حتى تستقر جبهته". وانظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 371 - 372).

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 370) حيث قال: "والسجود على =

ص: 1642

فالإنسان إذا سجد على وجهه سواء، قلنا على الجبهة والأنف ورَفَع القدمين أو رفع قدمًا أو رفع يدًا، هل يعتبر سجوده صحيحًا أم لا؟

اختلفوا في حكم هذه المسألة، وسبب الخلاف فيها الحديث، كما ظاهر وصريح دلاته على المدعي، "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء"، ما هي الأعظُم؟

بيَّنهَا الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا: الجبهة، واليدين، والرُّكبتَيْن، والقدَمين، ثم يأتي الفقهاء فيفصلونها ويقولون: الجبهة، والأنف، وبعد ذلك: الكفين على الركبتين وأطراف القدمين.

إذًا، هذه أمور سبعة:"الوجه، ثم اليدان، ثم الركبتان، والقدمان"، إذًا الأمر أن يسجد على سبعة أعضاء بعضهم يقول: السجود يجب أن يكون على الوجه وحده، وعللوا بأن أصل السجود لا يكون إلا في الوجه، ولذلك نجد في الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:"سجد وجهي للَّه الذي خلقه وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره"

(1)

.

فالشاهد في هذا الحديث: "سجد وجهي للَّه"، قالوا إنَّ مَن يضع رجله أو يده أو قدمه لا يُسمَّى ساجدًا؛ وعلى هذا فالسجود يختص بالوجه؛ والمتعين هنا والفرض إنما هو السجود على الوجه، ثم يختلف

= جميع هذه الأعضاء واجب، إلا الأنف،. . .، وبهذا قال طاوس، والشافعي في أحد قوليه وإسحاق. وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي في القول الآخر: لا يجب السجود على غير الجبهة؛. . . ولأن الساجد على الوجه يُسمَّى ساجدًا، ووضع غيره على الأرض لا يُسمَّى به ساجدًا. . . . ظاهر كلام أحمد. . . ولنا ما روى ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أمرت بالسجود على سبعة أعظم: اليدين، والركبتين، والقدمين، والجبهة"".

(1)

أخرجه مسلم (771) عن علي بن أبي طالب، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا قام إلى الصلاة،. . . . واذا سجد، قال:"اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك اللَّه أحسن الخالقين".

ص: 1643

هؤلاء هل الواجب هنا السجود على الوجه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة. . . "

(1)

، وأشار إلى الأنف، فيكون معنى هذا أن الأنف والجبهة شيء واحد، فهل يقتصر على هذا؟ هذا هو مدار الكلام.

وبعض العلماء

(2)

-وهم قلة- يقولون: إن الأكمل في السجود أن يسجد على جميع الأعضاء، لكن لو ترك شيئًا منها غير الوجه، كأنْ يقتصر على الأنف وحدها هل تصح صلاته؟

الجواب: الذين قالوا بعدم وجوب السجود إلا على الوجه حُجتهم الحديث "سجد وجهي للَّه"، وقالوا إن السجود يكون على الوجه دون غيره، فلو أن إنسانًا وضع يده لا يقال سجد، لكن لا ننسى أن السجود لا يمكن أن يكون على الوجه إلا بانضمام الأعضاء إليه، وإلا فهل يمكن أن يسجد الإنسان دون أن يستعين ببقية أعضائه؟ بالطبع لا يمكن، بل إن الإنسان عندما يسجد في الصلاة بغير أن يضع كفيه على الأرض مع ركبتيه ويديه، فلا بد وأنه يحتاج إلى بعض هذه الأشياء، وكذلك الإنسان أيضًا عندما يسجد سجدة الشكر والتلاوة وغيرهما فإنه يحتاج إلى هذه الأعضاء.

إذًا، إن قلنا إن السجود في الأصل يطلق على الوجه؛ فهذا هو الأصل، لكن السجود لا يتم إلا بانضمام هذه الأعضاء إلى الوجه، هذا هو القول الصحيح.

(1)

أخرجه مسلم (490/ 230) عن ابن عباس.

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 370) حيث قال: "وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي في القول الآخر: لا يجب، السجود على غير الجبهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سجد وجهي" وهذا يدل على أن السجود على الوجه، ولأن الساجد على الوجه يُسمَّى ساجدًا، ووضع غيره على الأرض لا يُسمَّى به ساجدًا، فالأمر بالسجود ينصرف إلى ما يُسمَّى به ساجدًا دون غيره ولأنه لو وجب السجود على هذه الأعضاء لوجب كشفها كالجبهة".

ص: 1644

* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ اسْمَ السُّجُودِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الوَجْهَ فَقَطْ).

قالوا أيضًا: لا يُسمَّى الإنسان ساجدًا إلا عندما يسجد على وجهه.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: تَبْطُلُ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ عَلَى السَّبْعَةِ الأَعْضَاءِ لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ).

هذا مشهور، وهو مذهب الإمام أحمد

(1)

رحمه الله وكذلك مذهب غيره.

* قوله: (وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ مَنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ فَقَدْ سَجَدَ عَلَى وَجْهِهِ)

(2)

.

هذا أمرٌ مسلَّم أنَّ مَن سجد على وجهه: على جبهته وأنفه، فهو ساجد، لكن مَن سجد على الجبهة وحدها أو على الأنف وحده، هل يُسمَّى ساجدًا؟

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ سَجَدَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ جَازَ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ لَمْ يَجُزْ).

هذا قول مالك

(3)

، وهو أيضًا عند الشافعي

(4)

، ورواية عند الإمام

(1)

تقدَّم.

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 408) حيث قال: "واجتمع العلماء على أنه إذا سجد على جبهته وأنفه فقد أدى فرض سجوده".

(3)

"التهذيب في اختصار المدونة" للبراذعي (1/ 239) حيث قال: "ومن سجد على جبهته دون الأنف فصلاته مجزئة عنده ولا يعيد ولو كان بجبهته قروح تمنعه السجود عليها أومأ ولم يسجد على الأنف".

(4)

يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 136) حيث قال: "وإن سجد على جبهته دون أنفه كرهت ذلك له وأجزأه، لأن الجبهة موضع السجود".

ص: 1645

أحمد

(1)

، ويعني هذا أن لو سجد إنسان على جبهته، فنحن لا نتكلم عن بقية الأعضاء، فهو لم يسجد على الأنف، وهنا تصح صلاته عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة أيضًا في رواية عنهم، وللحنابلة رواية أُخرى

(2)

أن صلاته لا تصح إلا بالسجود عليهما معًا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالسجود على الجبهة والأنف، وفي رواية: على الجبهة، وأشار إلى الأنف.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "بَلْ يَجُوزُ ذَلِك"

(3)

، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:"لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا"

(4)

).

وهذا في رواية، لكن في رواية أُخرى عند مالك، كالحال بالنسبة إلى مذهب الحنابلة.

(1)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 371) حيث قال: "وفي الأنف روايتان:

والرواية الثانية، لا يجب السجود عليه. وهو قول عطاء، وطاوس، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، والشافعي، وأبي ثور، وصاحبي أبي حنيفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أسجد على سبعة أعظم". ولم يذكر الأنف فيها وروي أن جابرًا قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر"".

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 371) حيث قال: "وفي الأنف روايتان؛ إحداهما: يجب السجود عليه. وهذا قول سعيد بن جبير، وإسحاق، وأبي خيثمة، وابن أبي شيبة؛ لما روي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم؛ الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين، وأطراف القدمين" متفق عليه، وإشارته إلى أنفه تدل على أنه أراده".

(3)

يُنظر: "الأصل المعروف بالمبسوط" للشيباني (1/ 13) حيث قال: "وترى إذا سجد أن يضع جبهته وأنفه على الأرض؟ قال: نعم. قلت: أرأيت إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته؟ قال: قد أساء وصلاته تامة في قول أبي حنيفة".

(4)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 428) حيث قال: "قال الشافعي وفي قولان: (أحدهما) أن عليه أن يسجد على جميع أعضائه التي أمرته بالسجود عليها. . . وهكذا في الركبتين والقدمين قال الشافعي: وهذا مذهب يوافق الحديث (والقول الثاني) أنه إذا سجد على جبهته أو على شيء منها دون ما سواها أجزأه هذا".

ص: 1646

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الوَاجِبُ هُوَ امْتِثَالُ بَعْضِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَمْ كُلِّهِ).

الحديث: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم"، ولم تأتِ مُطْلَقة، بل جاء الرسول عليه الصلاة والسلام وفصَّلهَا، وبيَّنهَا بيانًا شافيًا "الجبهة. . . "، وفي بعض الروايات:"والأنف، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين"، فبيَّن هذه الأعضاء.

وقال: "أُمِرت"، والأمر يقتضي الوجوب، ثُم بيَّن المأمور به وحدده في هذه الأعضاء.

هل مِن المُمكن أن نطرح حديثًا صحيحًا ثُم نأخذ بأدلَّةٍ عامَّة؟ هذا هو محل النقاش والسؤال، ولا شك أنَّ الأولَى والأرجح في هذه المسألة أن يسجد الإنسان على هذه الأعضاء، أما أن يُعذَر الإنسان بأنه لا يستطيع أن يسجد علَى عضو مِن هذه الأعضاء، فـ "الضرورات تبيح المحظورات".

كذلك يسقط عن الإنسان أن القراءة ركن في الصلاة، ومع ذلك تسقط عن الإنسان الذي لا يتكلم، وهنا يختلف العلماء. . .

الإنسان الأخرس الذي لا يتكلم، هل يلزمه أن يحرك لسانه؟ هذه أيضًا مسألة يختلفون فيها.

فعندما يعجز الإنسان عن القراءة، هل يلزمه أن يحرك لسانه؛ لأن اللسان هو الوسيلة إلى القراءة؟

كذلك إنسان أصلع، لا شعر في رأسه، هل يلزمه في الحج عندما يؤدي نسُك الحج والعمرة أن يمر الموسى عليه

(1)

؟

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 358) حيث قال: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الأصلع يمر على رأسه الموسى وقت الحلق -وليس ذلك واجبًا-، روينا ذلك عن علي، وابن عمر، وبه قال مسروق، وسعيد بن جبير، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي".

ص: 1647

كل هذه قضايا محل خلاف، والصحيح أنَّ ذلك لا يلزم؛ لأنه عجز عن ذلك.

أيضًا لو أن إنسانًا أراد أن يسجد، ولو سجد على جبهته أو وضع أنفه على الأرض سال منه الدم؟

فكلها قضايا تكلم عنها العلماء؛ إذًا، كل مقامٍ يلحق الإنسان فيه ضرر؛ فإن الشريعة الإسلامية لاحظَتْ ذلك الأمر، ويَسَّرَت، وخفَّفَتْ على النَّاس، لكن بغير أن يلحق الإنسان الضرر؛ فينبغي للمسلم أن يقف عند حدود هذه الشريعة ولا يتجاوزها.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام الثَّابِتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ

(1)

"، فَذَكرَ مِنْهَا الوَجْهَ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ الوَاجِبَ هُوَ بَعْضُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، قَالَ: إِنْ سَجَدَ عَلَى الجَبْهَةِ أَوِ الأَنف أَجْزَأَهُ).

إذًا، الفقهاء يختلفون هذا الاختلاف الواسع مع وجود دليل النص، فالاختلاف أتى من أنهم اختلفوا في فهم الحديث، ولم يجئ في الحديث هل مفهومه الوجوب أو لا، لكنهم أخذوا بأن السجود عندما يُطلق فيدل على الوجه، وأيدوا ذلك بالحديث:"سجد وجهي للَّه الذي خلقه وصوره"؛ فهذا دليل أيضًا كما ذكر المؤلف.

وعندما يأمر بأمر، هل تأدية بعض ذلك الشيء يكفى أو لا؟ كما رأينا في مسح الرأس أن اللَّه سبحانه وتعالى، يقول:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، فاللَّه عز وجل أمر بمسح الرأس، وجاءت السُّنة لتبيِّن أن الرسول بدأ بمقدمة رأسه حتى مؤخرتها وعاد، ومع ذلك اختلف العلماء.

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1648

* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ اسْمَ السُّجُودِ يَتَنَاوَلُ مَنْ سَجَدَ عَلَى الجَبْهَةِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ سَجَدَ عَلَى الأَنْفِ أَجَازَ السُّجُودَ عَلَى الجَبْهَةِ دُونَ الأَنْفِ، وَهَذَا كَأَنَّهُ تَحْدِيدُ البَعْضِ الَّذِي هُوَ امْتِثَالُهُ هُوَ الوَاجِبُ مِمَّا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ).

البعض يرى في عبارات هذا الكتاب صعوبة، لكن المؤلف له مناهج متعددة، فتجد أنه يوجز في مواضع يتطلب المقام فيها التفصيل، وأحيانًا يفصل في مواضع قد لا يحتاج فيها الأمر إلى كل التفصيل، فهذه مسألة مما فصل فيه، ولو أضاف لها شيئًا من الأدلة؛ لكان أَوْلَى.

* قوله: (وَكَانَ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَبْعَاضِ الشَّيْءِ، فَرَأَى أَنَّ بَعْضَهَا يَقُومُ فِي امْتثَالِهِ مَقَامَ الوُجُوبِ، وَبَعْضَهَا لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَتَأَمَّل هَذَا، فَإِنَّهُ أَصْلٌ فِي هَذَا البَابِ، وَإِلَّا جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ إِنْ مَسَّ مِنْ أَنْفِهِ الأَرْضَ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ تَمَّ سُجُودُهُ).

يحكي قول مَن يقول إنَّ مجرد أنْ يمسَّ جزءٌ ولو يسيرًا من الأنف أو الجبهة فيعتبر ساجدًا؛ وذلك لأن العلماء يتكلمون عن أمور وربما تركوا بعضها، لأننا قلنا إن هذا الكتاب ليس كتابًا مستوعبًا، وإنما هو كتاب أصول ومسائل، لا كتاب فروع، لأنه لو كان كتاب تفريع؛ لاحتاجت كل مسألة إلى أضعاف مضاعفة؛ لذلك فإن المؤلف أخذ أهم المسائل أو البارز منها، والتي تحدَّثَت عنها النصوص نصًّا أو ظاهرًا، كما قال ما نطق به النص أو ما هو قريب من النص.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ الوَاجِبَ هُوَ امْتِثَالُ كلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَالوَاجِبُ عِنْدَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الجَبْهَةِ وَالأنف. وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ

(1)

: "إِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي مِنْ قِبَلِ اللَّفْظِ قَدْ أَزَالَهُ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام وَبَيَّنَهُ").

(1)

تقدَّم الكلام عن مذهب الشافعي.

ص: 1649

يتكلم عن روايةٍ عند الشافعي، والشافعيَّة لديهم روايتان، واحدة يوجبون فيها السجود على الجبهة والأنف، ورواية يقتصرون على الجبهة، لكن لا يكفي عندهم الأنف كالمالكية والحنابلة.

* قوله: (فَإِنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى الأنف وَالجَبْهَةِ لِمَا جَاءَ مِنْ أَنَّهُ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الطِّينِ وَالمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُفَسِّرًا لِلْحَدِيثِ المُجْمَلِ).

وقال المؤلف أيضًا إن هذا دليل إضافي، على أن الرسول عليه الصلاة والسلام سجد في موضع فيه ماء وطين؛ فبقي أثر ذلك على جبهته وأنفه، فدل هذا الفعل على أنه كان يسجد عليهما لا على أحدهما أو بعض أحدهما.

* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: "وَقَدْ ذَكرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الحُفَّاظِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكرُوا فِيهِ الأنف، وَالجَبْهَةَ")

(1)

.

يريد هنا أنه جاء في بعض الروايات إثبات الأنف إلى جانب الجبهة.

* قوله: (قَالَ القَاضِي أَبُو الوَلِيدِ: "وَذَكرَ بَعْضُهُمُ الجَبْهَةَ فَقَطْ").

القاضي أبو الوليد هو المؤلف نفسه، فهل هذا هو قوله عن نفسه؟ لأن من العلماء من يتكلم عن نفسه فيقول هكذا، أو قد يكون من تلاميذه، أو من روى "بداية المجتهد" عنه.

* قوله: (وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَذَلِكَ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ).

الحُجة في أن يقول مالكٌ إن في بعض الروايات ذكر الجبهة فقط، وفي بعضها ذكرهما معًا الجبهة والأنف، لكن نحن في مثل هذا المقام الذي حصل فيه خلاف يبقى لدينا حديث أزال الإشكال، وهو: "أمرت أن

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 408) حيث قال: "وهذا ليس بشيء لأن حديث ابن عباس قد ذكر فيه جماعة من الحفاظ الأنف والجبهة".

ص: 1650

أسجد على سبعة أعظُم. . . "

(1)

، فبيَّنها الرسول عليه الصلاة والسلام غاية البيان، وحدَّدها أبلغ تحديد.

ثم المنقول من صفة صلاته عليه الصلاة والسلام أنه كان يسجد على هذه الأعضاء، ولم يُنقل أنه كان يرفع يدًا أو قدمًا في الصلاة، وإنما المعروف من صلاته عليه الصلاة والسلام أنه كان يسجد على جميع هذه الأعضاء، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(2)

، فكل الأدلة في جانب الذين قالوا بوجوب السجود على جميع الأعضاء، وإن كان هؤلاء قلة، لكن ليس معني هذا أن ينفرد جماعةٌ وإنْ دلَّلوا بقول فيكون دليل المخالفين أكثر.

ستأتي معنا مسألة مهمة، وهي مسألة صلاة الجماعة، وهي من المسائل المهمة التي ينبغي أن يعتني بها المسلمون، وسنرى أن أكثر الفقهاء يذهبون إلى أنها سنة

(3)

، فهل نقول بأنها سنة كذلك؟

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ مِنْ شَرْطِ السُّجُودِ أَنْ تَكُونَ يَدُ السَّاجِدِ بَارِزَةً وَمَوْضُوعَةً عَلَى الَّذِي يُوضَعُ عَلَيْهِ الوَجْهُ).

لو أن الإنسان التف بثوبٍ ويداه داخلة، هل يجوز له أن يسجد ويداه في داخل الثوب، أو لا؟

مذهب جمهور العلماء جواز ذلك، أما المالكية فيرَوْن خلاف ذلك، بل ويرَوْن أن ذلك لا يؤثر في الصلاة.

ذكَر الحسن البصري، وهو من أفاضل التابعين، وأكبرهم، وعاصر كمًّا كبيرًا من الصحابةِ وروى عنهم، فروى أنَّ الصحابة كانوا يصلون وأيديهم غير بارزة

(4)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

سيأتي الكلام عليها بالتفصيل.

(4)

لم أقف عليه.

ص: 1651

* قوله: (أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شرطه؟ فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: "ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ السُّجُودِ أَحْسَبُهُ شَرْطَ تَمَامِهِ").

ليس شرطًا أنه يبطل الصلاة، لكن المالكية ترى ذلك.

* قوله: (وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ السُّجُودِ).

هم جمهور العلماء؛ بقية الفقهاء

(2)

.

* قوله: (وَمِنْ هَذَا البَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي السُّجُودِ عَلَى طَاقَاتِ العِمَامَةِ)

(3)

.

(1)

يُنظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 269) حيث قال: " (قوله: وتباشر) أي من غير حائل كالوجه، وإنما استحب المباشرة بالوجه واليدين لأن ذلك من التواضع ولأجل ذلك كره السجود على ما فيه ترفه وتنعم من صوف وقطن واغتفر الحصير لأنه كالأرض والأحسن تركه فالسجود عليها خلاف الأولى (قوله: يديك) لا يخفى أنه إظهار في موضع الإضمار لأن المراد باليدين الكفان".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (2/ 242) حيث قال: "لو سجد على الجبهة بحائل يتصل به يتحرك بحركته في القيام أو القعود لا يجوز، واتفقوا على سقوط مباشرة الأرض في بقية الأعضاء غير الجبهة لحديث ابن مسعود".

مذهب الشافعية، يُنظر "منهاج الطالبين" للنووي (ص 27) حيث قال:"السجود وأقله مباشرة بعض جبهته مصلاه فإن سجد على متصل به جاز إن لم يتحرك بحركته، ولا يجب وضع يديه وركبتيه وقدميه في الأظهر".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (1/ 451) حيث قال: "و (لا) تجب (مباشرتها له)، أي: للمصلي، (بشيء منها)، أي: من أعضاء السجود".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"التجريد" للقدوري (2/ 538) حيث قال: "قال أصحابنا: إذا سجد على كور عمامته جاز. وقال الشافعي: لا يجوز. لنا قوله تعالى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ومن سجد على كور عمامته تناوله الاسم كما يتناوله إذا كانت على الأرض فسجد عليها. ومن ادعى الفصل بينهما باللغة فقد ادعى ما لا دليل عليه".

مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 170) حيث قال: "قال: وقال مالك فيمن سجد على كور العمامة قال: أحب إلي أن يرفع عن بعض جبهته حتى يمس بعض جبهته الأرض. قلت له: فإن سجد على كور العمامة؟ قال: أكرهه فإن فعل فلا إعادة عليه". وانظر: "الشرح الكبير" الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 253). =

ص: 1652

هذا الباب فيه تغطية بعض أعضاء السجود على طاقات العمامة التي تُعْرَف فقهًا بكور العمامة، والمقصود بكور العمامة: هو الإطار، أيْ: دائرة العمامة، فإذا سجد الإنسان عليها، هل يصح سجوده أو لا؟

كذلك لو كان ثوبه واسعًا فطرحه وسجد عليه أو مثل أن يأخذ الطرف الشمال ويضعه ويسجد عليه، وغير ذلك من الأمور، هل يصح ذلك أم لا؟

* قوله: (وَلِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: قَوْلٌ بِالمَنْعِ، وَقَوْلٌ بِالجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى طَاقَاتٍ يَسِيرَةٍ مِنَ العِمَامَةِ أَوْ كَثِيرَةٍ، وَقَوْلٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَمَسَّ مِنْ جَبْهَتِهِ الأَرْضَ شَيْءٌ أَوْ لَا يَمَسَّ مِنْهَا شَيْءٌ).

المنع قال به مذهب الشافعية، لكن لا ينبغي أن نأخذه على إطلاقه، بمعنى أن هناك من يفهم مذهب الشافعية خطأ.

مثال: إن هناك إنسان لو سجد على كور العمامة أو على طرف ثوبه، فصلاته لم تصح.

فالشافعية يفصِّلون، بحيث أنه لو سجد على شيء من ذلك وبَدَا جزء من عضوه فسجد عليه حينئذ صلاته صحيحة، أما لو غطَّى الكل، فهذا لا يصح.

ويخالف الشافعيةَ جمهورُ العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة حيث أنهم

= مذهب الشافعية، يُنظر:"بحر المذهب" للروياني (2/ 50) حيث قال: "كشف الجبهة واجب. وعليه أن يسجد على الأرض، أو على حائل منفصل منه كالبساط والحصير، فإن سجد على ما هو حامله من طرف الرداء أو كور العمامة لا يجوز. وبه قال علي وابن عمر وعبادة بن الصامت رضي الله عنه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (1/ 371 - 372) حيث قال: "إذا سجد على كور العمامة أو كمه أو ذيله، فالصلاة صحيحة رواية واحدة. وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة".

ص: 1653

ذهبوا إلى أن السجود جائز للإنسان أن يتقي الحر فيه بطرف شماغه أو ثوبه أو يده.

وسبب الخلاف هنا: أنه ورد في ذلك عدة أحاديث.

فالذين يذهبون إلى عدم الجواز، وهم الشافعية، ذهبوا إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يسجد على طرف العمامة، أو على كُمه، أو على طرف ثوبه.

دليلهم: فإنهم يستدلون بحديث خبَّاب بن الأرت، قال: "شكونا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شدة الحر فلم يشكنا

(1)

"

(2)

، أي: لم يقبل شكوانا ولم يأخذ بها، لكن هذا مطلق، لأنه قد جاء حديث أنس المتفق عليه، وأصله في "صحيح مسلم"

(3)

حيث ذكر فيه أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فكان يضع أحدهم طرف ثوبه ويسجد عليه.

إذًا، هذا نصٌّ في هذه المسألة، قال:"كنا نصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتقون الحرارة بأنهم يبسطون أطراف ثيابهم فيسجد عليها"

(4)

؛ فلا شك أن مذهب الجمهور في هذا هو الأظهر، وإن كان الأصل أن الإنسان لا ينبغي أن يسجد على شيء، لكن لو احتاج إليه فليفعل ولا حرج، لكن لو سجد على طرف ثوبٍ أو عمامة أو غير ذلك، فهذا لا يبطل صلاته، إن لم تكن هناك حاجة، وهذا هو الصحيح.

* قوله: (وَهَذَا الِاخْتِلَافُ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي المَذْهَبِ).

مذهب مالك وغير مالك، وهنا يريد المؤلف أن يقول إن هذه

(1)

فلم يشكنا: أي لم يجبهم إلى ذلك، ولم يُزِل شكواهم. يقال: أشكيت الرجل إذا أزلت شكواه، وإذا حملته على الشكوى. انظر:"النهاية" لابن الأثير (2/ 497).

(2)

أخرجه مسلم (619) عن خباب، قال:"شكونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرمضاء، فلم يشكنا".

(3)

انظر التخريج الذي بعده.

(4)

أخرجه البخاري (385) ومسلم (620) من حديث أنس بن مالك، قال:"كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود".

ص: 1654

الجزئيات المنتشرة موجودة في مذهب مالك، لكنه لا يريد أن يعرض لها، فكأنه يقول إنها فروع ولذلك يطول بنا الوقت، لذلك فقد التزم بأمهات المسائل، ولا يخرج عنها، وعندما نرتبط بأمهات المسائل يُسهى علينا أن نعرِّف الجزئيات المتفرعة؛ لأن كل ما أشكل علينا في مسألة لا نردها إلى أصلها، وهذا هو المنهج، فكيف استطاع المتأخرون من تلاميذ الأئمة أن يتلمسوا، وأن يعرفوا العلل التي بنَى الأئمة مذاهبهم عليها؟

تتبعوا تلك الفروع، وأخذوا يبحثون عن علل الأحكام حتى وصلوا إليها، فلما وقفوا عندها أخذوا يخرجون عن أقوال أئمتهم، وهذا هو الفقه.

* قوله: (وَعِنْدَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ).

يقول: إن هذا موجود في المذهب، لكنه ليس خاصًّا به، لكنه موجود عند فقهاء الأمصار، وفقهاء الأمصار إذا أُطلِقُوا فالمقصود بهم الأربعة، لكن حقيقة الأمر ليس قاصرًا عليهم، بل هناك من الأئمة لا يقِلُّ مرتبة عنهم، كالأوزاعي في الشام، والثوري، وغيرهم.

* قوله: (وَفي البُخَارِيِّ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى القَلَانِسِ وَالعَمَائِمِ

(1)

. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ إِبْرَازَ اليَدَيْنِ فِي السُّجُودِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلَا نَكْفِتَ ثَوْبًا، وَلَا شَعْرًا"

(2)

).

نكفت ثوبًا ولا شعرًا، أي لا نرفعه ونتركه مرخيًّا على حاله.

(1)

أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 86) وقال الحسن: "كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويداه في كمه".

قال ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 493): "وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن الحسن أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم ويسجد الرجل منهم على قلنسوته وعمامته وهكذا رواه ابن أبي شيبة من طريق هشام".

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1655

* قوله: (وَقِيَاسًا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ).

يقرر المؤلف هنا أنك إذا أردت أن تسجد على الركبتين، هل ترفع ثوبك، فأنت منهيٌّ أن تكفت ثوبك؛ إذًا الركبتان مغطاتان، لكن يجاب عن هذا أن الأصل في الركبتين أنهما تُغطا، أما الوجه فالأصل فيه ألَّا يُغطى.

* قوله: (وَعَلَى الصَّلَاةِ فِي الخُفَّيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهذَا العُمُومِ فِي السُّجُودِ عَلَى العِمَامَةِ).

كذلك لو صلى الإنسان في الخفين أو في النعلين؛ فالصلاة في ذلك جائزة، ولكن ليس معنى هذا أن نصلي في الخفين، ونبرر هذا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى، وأن هذه سُنة يجب علينا أن نعملها، ثم ندخل بهما في كل مكان! فلا ينبغي هذا؛ لأنه من باب التشدد.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اتُّفِقَ عَلَى كَرَاهِيَةِ الإِقْعَاءِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ مِنَ النَّهْي أَنْ يُقْعِيَ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ كَمَا يُقْعِى الكَلْبُ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَبَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّ الإِقْعَاءَ المَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ جُلُوسُ الرَّجُلِ عَلَى أَلْيَتَيْهِ فِي الصَّلَاةِ نَاصِبًا فَخِذَيْهِ مِثْلَ إِقْعَاءِ الكَلْبِ، وَالسَّبُعِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الهَيْئَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ).

هذه المسألة اختلف فيها العلماء، واختلافهم يدور حول أمرين، دون أن ندخل في التفصيلات الكثيرة.

الإقعاء عند الفقهاء نوعان:

أحدهما: أن ينصب المصلي قدميه، بمعنى أنه يفرشهما أو يقيمهما، ثم يجلس على عقبيه، ثم بعد ذلك يَدَع ركبتيه على الأرض، فيكون ناصبًا قدميه، جالسًا على أطراف أصابعه، ثم بعد ذلك يضع إليتيه على عقبيه.

ص: 1656

النوع الآخر: أن يجلس المصلي على إليته ناصبًا ساقيه، وبعضهم يقول: فخذيه، ويضع يديه على الأرض، وبعضهم يسكت عن ذلك

(1)

.

والجلسة التي يتكلم عنها الفقهاء، هي: نصب القدمين والجلوس على العقبين.

السؤال: متى يجلسها المصلي؟

الجواب: جلوسه بهذه الطريقة يكون بين السجدتين في الركعة الأولى أو الثانية.

وهناك جلسة أُخرى يدخل فيها الإقعاء في اللغة، وهي: أن يجلس على إليتيه ناصبًا ساقيه، ثم بعد ذلك يضع يديه على الأرض

(2)

.

والحقيقة أن هناك عدة أحاديث وردت في النهي عن الإقعاء، ولكنني أقدِّم بمقدمة، وهي: أن مِن أحسن مَن تناول هذه المسألة هو الإمام البيهقي، بل من أوائل من تكلموا عن هذه المسألة تفصيلًا؛ لأنه عرض الأحاديث التي وردت في الإقعاء، وناقشها وبيَّنَ ضعفها، وانتهى إلى أنَّ الإقعاء المنهِيَّ عنه هو النوع الثاني، وتابعَهُ في ذلك أيضًا الإمام العلَّامة ابنُ الصَّلاح المعروف كلامه في هذه المسألة أيضًا، ثُم جاء أيضًا الإمام النووِيُّ وتكلم عن هذه المسألة، ولخص قول الإمامين، وتكلم عن قول الخطَّابي المحدث المعروف

(3)

، الذي عارض

(1)

الإقعاء: أقعى الكلب، إذا جلس على إسته مفترشًا رجليه وناصبًا يديه، والمنهي عنه في الصلاة هو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين. وهذا تفسير الفقهاء، فأما أهل اللغة فالإقعاء عندهم أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويتساند إلى ظهره. انظر:"الصحاح" للجوهري (6/ 2465).

(2)

الإقعاء: أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه بالأرض. انظر: "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (2/ 108).

(3)

يُنظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 208) حيث قال: "أكثر الأحاديث على النهي عن الإقعاء في الصلاة، وروي أنه عقبة الشيطان وقد ثبت من حديث وائل بن حجر وحديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد بين السجدتين مفترشًا قدمه اليسرى. ورويت =

ص: 1657

في ذلك وخالفهما

(1)

.

ثم أثنى الإمام النووي على ما انتهى إليه الإمام البيهقي في هذه المسألة، وبيَّن أنه قد أتقن هذه المسألة وحرَّرَها، وأنه أتقنها غاية الإتقان، وأبدع فيها غاية الإبداع؛ هكذا ذكر الإمام النووي.

أما عن الأحاديث التي وردت في ذلك، فمنها أحاديث نهت عن الإقعاء، بعضها موقوف، كالموقوف علَى علِيٍّ، وبعضها مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل ما ورد: "نهَى أن يقعي الرجل إقعاء الكلب

(2)

"، لكن ما نوع هذا الإقعاء الذي جاء في حديثه أبي حميد؟

بدايةً إن الحديث صحيح، وقد سبق أنْ مرَّ بنا، وقد بين فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلسة الاستراحة فإنه يفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى، كالحال بالنسبة للتشهد الأول عند الشافعية والحنابلة الذي سبق أن تكلمنا عنه، ووافق أبا حميد عشر من الصحابة أيدوه في هذا، ووافقه أيضًا وائل بن حجر في روايته.

إذًا، هذه رواية مشهورة والتي عُرفت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فبعض العلماء وهو الذي انتهى إليه هؤلاء الثلاثة، إلا أن الأصل أن الصفة التي وردت في حديث أبي حميد وعائشة ووائل بن حجر هي الصفة التي بيَّنا.

وهذه الصفة الأخرى لا يرون أنها مكروهة، بل بعضهم يقول

= الكراهة في الإقعاء عن جماعة من الصحابة وكرهه النخعي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو قول أصحاب الرأي وعامة أهل العلم. وتفسير الإقعاء أن يضع أليتيه على عقبيه ويقعد مستوفزًا غير مطمئن إلى الأرض وكذلك إقعاء الكلاب والسباع إنما هو أن تقعد على مآخيرها وتنصب أفخاذها. قال أحمد بن حنبل: وأهل مكة يستعملون الإقعاء،. . . ويشبه أن يكون حديث ابن عباس منسوخًا والعمل على الأحاديث الثابتة في صفة صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(1)

سيأتي الكلام عليها.

(2)

أخرجه ابن ماجه (895) عن علي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تقع إقعاء الكلب" وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(7954).

ص: 1658

بجوازها، وبعضهم يقول إنها سنة، أما الممنوع فهي الجلسة الثانية التي يجلس فيها على إليتيه ناصبًا ساقيه واضعًا يديه على الأرض، وبعضهم لا يذكرون اليدين ويقولون إن هذا هو الإقعاء المعروف في لغة العرب.

نُقل أيضًا عن بعض الصحابة العبادلة: "عبد اللَّه بن عمر، عبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن الزبير"

(1)

أنهم فعلوا ذلك، وقد نقل ذلك عنهم طاوس وكان يفعله، وذكر أنه تلقى هذا عن هؤلاء الصحابة، ولكن نُقل عن عبد اللَّه بن عمر أنه فعل ذلك، وقال:"لا تقلدوني فإني فعلت ذلك عندما كبرت"

(2)

، لكن عبد اللَّه بن عباس عندما سُئل عن هذا النوع من الإقعاء قال:"هذه هي السُّنة"

(3)

، ثم لما قيل له: إنا نرى ذلك جفاءً في الرجل، فقال:"سُنة نبيك".

وفي بعض الروايات: "سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم"

(4)

.

إذًا، هذا باختصار ما يتعلَّق بالإقعاء، لكن لا شك أن الأولى، والخروج من الخلاف هو ما جاء في جلسة الاستراحة، كالحال بالنسبة للتشهد الأول لما ورد في وصف ذلك عند الشافعية والحنابلة.

لكن مع ذلك، نجد أن الإقعاء لمَّا نقرأ ما نُقل عن الأئمة بالنسبة للإقعاء الأول الذي قلنا أن البيهقي حققه، وتابعه ابن الصلاح والنووي

(5)

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 358) حيث قال: "قال طاوس: رأيت العبادلة يفعلونه: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (536) عن أبي الزبير، أنه سمع طاوسًا يقول: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين، فقال:"هي السنة"، فقلنا له: إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس: "بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم".

(4)

أخرجه الترمذي (283)، وقال: حديث حسن. وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1/ 283).

(5)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"(3/ 438 - 439) حيث قال: " (فرع في الإقعاء). . . . . قال البيهقي فهذا الإقعاء المرضي فيه والمسنون على ما روينا عن ابن عباس وابن عمر هو أن يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض ويضع أليتيه =

ص: 1659

حيث يرون كراهة ذلك، ولمَّا سُئل الإمام أحمد عن ذلك مرَّةً، قال:"أكرهه"

(1)

، ومرة قال:"لا أفعله ولا أعيب مَن يفعله"

(2)

، وقال:"إن أهل الحجاز كانوا يفعلون ذلك"

(3)

.

إذًا، المسألة كما ترون فيها تردد لبعض العلماء، لكن ذلك ليس من الأمور المنكرة التي تفعل في الصَّلاة، ومِن العلماء مَن يرى أن ذلك سنة وأنه ينبغي الأخذ بها.

* قوله: (وَقَوْمٌ رَأَوْا أَنَّ مَعْنَى الإِقْعَاءِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ).

فينصب قدميه -كما ذكرنا- ثم يضع إليتيه على قدميه، يعني على العقبين، وهو آخر الساقين، ويضع إليتيه على ذلك.

* قوله: (وَأَنْ يَجْلِسَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ).

= على عقبيه ويضع ركبتيه على الأرض ثم روى الأحاديث الواردة في النهي عن الإقعاء بأسانيدها عن الصحابة الذين ذكرناهم ثم ضعفها كلها وبين ضعفها وقال: حديث ابن عباس وابن عمر صحيح ثم روى عن أبي عبيد أنه حكى عن شيخه أبي عبيدة أنه قال: الإقعاء أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه بالأرض، قال وقال في موضع آخر: الإقعاء جلوس الإنسان على أليتيه ناصبًا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع، قال البيهقي: وهذا النوع من الإقعاء غير ما رويناه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم فهذا منهي عنه وما رويناه عن ابن عباس وابن عمر مسنون. . . ".

(1)

وقد ذكر ذلك عنه ابن قدامة، فقال: ويكره الإقعاء وهو أن يفترش قدميه، ويجلس على عقبيه، بهذا فسره أحمد، لحديث أبي حميد وعائشة. انظر:"الكافي في فقه الإمام أحمد"(1/ 254).

(2)

يُنظر: "مسائل أحمد رواية مهنا"(1/ 180، 181) حيث قال: "سألت أحمد عن الإقعاء في الصلاة: قلت: ما تقول أنت فيه؟ قال: لا أفعله، ولا أعيب من فعله؛ أليس يُروى عن العبادلة أنهم كانوا يفعلون ذلك؟! " وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 376).

(3)

يقصد بهم العبادلة. وقد ذكره الشارح بالمعنى.

ص: 1660

هذا مذهب مالك وغيره، وهذا هو الإقعاء عند الفقهاء وعند الأئمة الأربعة

(1)

.

* قوله: (لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 643) حيث قال: " (قوله وإقعاؤه إلخ) قال في "النهر": لنهيه صلى الله عليه وسلم عن إقعاء الكلب وفسره الطحاوي: بأن يقعد على أليتيه وينصب فخذيه ويضم ركبتيه إلى صدره واضعًا يديه على الأرض. . والحاصل أن الإقعاء مكروه لشيئين: للنهي عنه ولأن فيه ترك الجلسة المسنونة، فإن فسر بما قاله الطحاوي وهو الأصح كان مكروهًا تحريمًا لوجود النهي عنه بخصوصه؛ وكان بالمعنى الذي قاله الكرخي مكروهًا تنزيهًا لترك الجلسة المسنونة لا تحريمًا لعدم النهي عنه بخصوصه".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 254) حيث قال: " (قوله: في جلوسه كله) أي الشامل لجلوس التشهد والجلوس بين السجدتين والجلوس للصلاة لمن صلى جالسًا (قوله: بأن يرجع على صدور قدميه) أي بأن يرجع من السجود للجلوس على صدور قدميه. . والمراد بصدورهما أطرافهما من جهة الأصابع أي بأن يجعل أصابعه على الأرض ناصبًا لقدميه ويجعل أليتيه على عقبيه وينبغي أن يكون مثل الجلوس على صدور القدمين في كونه إقعاء مكروهًا جلوسه على القدمين وظهورهما للأرض وكذلك جلوسه بينهما وأليتاه على الأرض وظهورهما للأرض أيضًا وكذلك جلوسه بينهما وأليتاه على الأرض ورجلاه قائمتان على أصابعهما فللإقعاء المكروه أربع حالات (قوله: فممنوع) أي حرام والظاهر أنه لا تبطل به الصلاة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 147) حيث قال: " (والإقعاء) في قعوده هذا وسائر قعدات الصلاة وهو كما في الأصل: أن يجلس على وركيه وينصب فخذيه وزاد أبو عبيدة ويضع يديه على الأرض (مكروه) للنهي عنه في الصلاة. . قال في "الروضة": وتفسير الإقعاء المكروه بأن يفرش رجليه يعني أصابعهما ويضع أليتيه على عقبيه غلط. ففي مسلم "الإقعاء سنة نبينا صلى الله عليه وسلم" وفسره العلماء بهذا قالوا فالإقعاء مكروه وهو الأول ومستحب وهو الثاني ونص عليه الشافعي في البويطي والإملاء في الجلوس بين السجدتين".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 371) حيث قال: " (و) يكره (إقعاؤه) لخبر الحارث عن علي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقعِ بين السجدتين". . (وهو) أي الإقعاء (أن يفرش قدمه، ويجلس على عقيبه) كذا فسره الإمام أحمد واقتصر عليه في "المغني والمقنع والفروع" قال أبو عبيد: هذا قول أهل الحديث فأما عن العرب فهو جلوس الرجل على أليتيه، ناصبًا فخذيه مثل إقعاء الكلب".

ص: 1661

لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَكِي قَدَمَيْهِ. وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يَقُولُ: "الإِقْعَاءُ عَلَى القَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ"، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ)

(1)

.

هذا نقله عنه طاوس -كما قلت آنفًا- بل هو أيضًا يفعل ذلك، وقيل لابن عباس:"نراه جفاءً بالرجل"، يعني أن يأتي الرجل فيجلس على أطراف القدمين، أيْ: علَى العقبين، فقال:"هذه سنة نبيك" أو "سنة نبيكم"

(2)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ تَرَدُّدُ اسْمِ الإِقْعَاءِ المَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى المَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى شَرْعِيٍّ: (أَعْنِي: عَلَى هَيْئَةٍ خَصَّهَا الشَّرْعُ بِهَذَا الِاسْمِ)، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى المَعْنَى اللُّغَوِيِّ قَالَ: هُوَ إِقْعَاءُ الكَلْبِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى شَرْعِيٍّ قَالَ: إِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ إِحْدَى هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ المَنْهِيِّ عَنْهَا).

المؤلف يُشير إلى ما ورد في الأحاديث: "لا تقع كما يقعي الكلب"

(3)

، وأثر علِيٍّ أيضًا، والأحاديث التي وردت في ذلك، لكن هذا الإقعاء الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه كأنه إقعاء الكلب هو هذا الذي يذكره الفقهاء، أو هو الصنف الآخر.

* قوله: (وَلِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ قُعُودَ الرَّجُلِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ)

(4)

.

هذا ما رواه مالك في "الموطأ".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه ابن ماجه (896) عن أنس بن مالك، يقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رفعت رأسك من السجود، فلا تقع كما يقعي الكلب، ضع أليتيك بين قدميك، وألزق ظاهر قدميك بالأرض". وقال الألباني: موضوع. انظر: "السلسلة الضعيفة"(2615).

(4)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 59)(50) عن المغيرة بن حكيم أنه رأى عبد اللَّه بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة، على صدور قدميه، فلما انصرف ذكر له ذلك. فقال:"إنها ليست سنة الصلاة. وإنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي".

ص: 1662

إن الذي نقل عن طاوس -وطاوس تابعي، وهو أعلم بأحوال التابعين- هو الذي نقل أيضًا عن العبادلة أنهم كانوا يفعلون، ومنهم: عبد اللَّه بن عمر، وما قيد طاوس ذلك بعبد اللَّه بن عمر، وإنما أطلق وقال:"كانوا يفعلونه"

(1)

.

* قوله: (سَبَقَ إِلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذِهِ الهَيْئَةَ هِيَ الَّتِي أُرِيدَتْ بِالإِقْعَاءِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الأَسْمَاءَ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ لَهَا مَعَانٍ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى المَعْنَى اللُّغَوِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ لَهَا مَعْنًى شَرْعِيٌّ، بِخِلَافِ الأَمْرِ فِي الأَسْمَاءِ الَّتِي تَثْبُتُ لَهَا مَعَانٍ شَرْعِيَّة: (أَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى المَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى المَعْنَى اللُّغَوِيِّ)).

هنا يريد المؤلف أن يقول: الصلاة في اللغة إنما هي الدعاء، لكنها انتقلت بعد ذلك إلى التعريف الاصطلاحي الشرعي:"أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم"، إذًا هذه هي الصلاة.

فالصلاة -كما سبق بيانه- لها معنًى لغوي، ولها مصطلح شرعي، وهو هذا الذي أشرنا إليه.

إذا ترددت الأسماء بين أمرين كما نرى في الإقعاء، فالمراد هنا هل هو الإقعاء الذي اصطلح عند الفقهاء؛ النوع الأول، أم المراد به الإقعاء المنهي عنه؛ وهو الثاني وهو الذي يشبه فعلًا إقعاء الكلب؟

* قوله: (مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ).

هنا يريد أن يقول إن أثر ابن عمر -لا نقول حديث، بل هو الآن يسمي الحديث أثرًا والأثر حديثًا-، يدل على أن ابن عمر نفسه جلس هذه

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1663

الجلسة ونقله عنه طاوس، لكن نقلت عنه روايات أنه لما كبر أو كان يحس ألمًا في قدميه فعل ذلك، وهذا دليل على جوازه.

إذًا، ابن عمر أيضًا نقل عنه خلاف ذلك، لكن جاء عن ابن عباس ما يعارضه، وما نقل عن ابن عباس صريح؛ لأنه قال:"هذه سنة نبيكم"

(1)

، إذًا رفع ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(البَابُ الثَّانِي مِنَ الجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ)

إذًا المؤلف هنا لا يريد أن يبحث في أحكام صلاة الجماعة والإمامة وكل ما ورد فيها، لكنه فقط سيقتصر على أصول وقواعد المسائل.

* قوله: (وَهَذَا البَابُ الكَلَامُ المُحِيطُ بِقَوَاعِدِهِ فِيهِ فُصُولٌ سَبْعَةٌ، أَحَدُهَا: فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ).

•‌

‌ المسألة الأولى في حكم صلاة الجماعة.

* قوله: (وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الإِمَامَةِ، وَمَنْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَأَحْكَامِ الإِمَامِ الخَاصَّةِ بِهِ).

الباب الثاني في معرفة شروط الإمامة، لأن هناك أحكام يختص بها الإمام، وهناك أحكام يختص بها المأموم، وهناك أحكام تجمع بينهما، ولا شك أن المأموم مطالب بأن يقتدي بإمامه، والإمام قد يحمل عن

(1)

تقدَّم.

ص: 1664

المأموم بعض الأشياء؛ كالقراءة، وسترة المصلي

(1)

.

ومن مسائل وأحكام الإمامة: هل يُشترط فيمن يؤم الناس أن يكون أقرأهم أو أفقههم. . إلخ، والكلام في ذلك؟ كذلك منها إمامة الفاسق

(2)

،

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (1/ 636 - 637) حيث قال: "(قوله ندبًا) لحديث: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، ولا يدع أحدًا يمر بين يديه" رواه الحاكم وأحمد وغيرهما، وصرح في المنية بكراهة تركها، وهي تنزيهية. والصارف للأمر عن حقيقته ما رواه أبو داود عن الفضل والعباس "رأينا النبي صلى الله عليه وسلم في بادية لنا يصلي في صحراء ليس بين يديه سترة" وما رواه أحمد؛ أن ابن عباس صلى في فضاء ليس بين يديه شيء كما في الشرنبلالي".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(1/ 334) حيث قال: "قوله: (وندب سترة): أي نصبها أمامه خوف المرور بين يديه سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلًا".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 419، 420) حيث قال: " (ويسن للمصلي) أن يتوجه (إلى) سترة نحو (جدار أو سارية)، أي: عمود كخشبة مبنية (أو) إلى نحو (عصا مغروزة) كمتاع عند عجزه عن المرتبة الأولى للاتباع في ذلك؛ رواه الشيخان، ولخبر "استتروا في صلاتكم ولو بسهم". . (أو بسط مصلى) عند عجزه عن المرتبة الثانية كسجادة بفتح السين (أو خط قبالته) عند عجزه عن المرتبة الثالثة خطًّا طولأ كما في الروضة،. . وقيس بالخط المصلى، وقدم على الخط لأنه أظهر في المراد،. . . هاذا صلى إلى شيء منها على هذا الترتيب سن له".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 382) حيث قال: " (وتسن صلاة غير مأموم) إمامًا كان أو منفردًا (إلى سترة) مع القدرة عليها بغير خلاف نعلمه؛ قاله في "المبدع" (ولو لم يخش) المصلي (مارًّا) حضرًا كان أو سفرًا، لحديث أبي سعيد يرفعه "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها". . وليس ذلك بواجب، لحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء". . والسترة ما يستتر به (من جدار أو شيء شاخص كحربة أو آدمي غير كافر) لأنه يكره استقباله كما تقدم (أو بهيم) يعرضه، ويصلي إليه (أو غير ذلك، مثل آخرة الرحل تقارب طول ذراع فأكثر) ".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 560) حيث قال: " (قوله وفاسق) من الفسق: وهو الخروج عن الاستقامة، ولعل المراد به من يرتكب الكبائر كشارب الخمر، والزاني وآكل الربا ونحو ذلك، كذا في البرجندي إسماعيل. وفي المعراج قال أصحابنا: لا ينبغي أن يقتدي بالفاسق إلا في الجمعة لأنه في غيرها يجد إمامًا غيره. اهـ. قال في "الفتح": وعليه فيكره في الجمعة إذا تعددت إقامتها في المصر على قول محمد المفتى به لأنه بسبيل إلى التحول". =

ص: 1665

وإمامة الأعمى

(1)

،. . . . .

= مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 326) حيث قال: " (أو) بأن (فاسقًا بجارحة) كزان وشارب خمر وعاق لوالديه ونحو ذلك لأن شرطه العدالة والمعتمد أنه لا تشترط عدالته فتصبح إمامة الفاسق بالجارحة ما لم يتعلَّق فسقه بالصلاة كأن يقصد بتقدمه الكبر".

مذهب الشافعية، يُنظر:"حاشيتا قليوبي"(1/ 255) قوله: " (كالمعتزلي) والقدري والرافضي والمجسم وكل بدعة لا يكفر بها، ومثله الفاسق والمتهم به، والمخالف كالمالكي والحنفي، إذا لم يأت بمبطل، ولا يضر اعتقادهم سنية بعض الواجبات كالاقتداء بالمتنفل، وتحصل الفضيلة خلف هؤلاء مطلقًا ولا كراهة إن تعذرت الجماعة بغيرهم، قال شيخنا الرملي: لأن الكراهة في ذلك لخارج فلا ينافي بقاء الكراهة فيه وفيه نظر، وينظر ما معنى الخارج هنا". وانظر: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 142).

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 474) حيث قال: " (ولا تصح إمامة فاسق بفعل) كزان وسارق وشارب خمر ونمام ونحوه (أو اعتقاد) كخارجي ورافضي (ولو كان مستورًا) لقوله تعالى {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)}. . . لأن الفاسق لا يقبل خبره لمعنى في دينه فأشبه الكافر ولأنه لا يؤمن على شرائط الصلاة (ولو بمثله) فلا يصح أن يؤم فاسق فاسقًا؛ لأنه يمكنه رفع ما عليه من النقص بالتوبة (علم فسقه ابتداء أو لا، فيعيد) المأموم (إذا علم) فسق إمامه".

(1)

اتفق الفقهاء على جواز إمامة الأعمى، وخالف الأحناف، فقالوا بالكراهة، لأنه لا يتجنب النجاسات.

مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار"، لابن مودود (1/ 58)، حيث قال:"ويكره إمامة العبد والأعرابي والأعمى؛ لأن إمامتهم تقلل الجماعات، لسقوط منزلة العبد عند الناس، ولأن الغالب على الأعرابي الجهل. والفاسق لفسقه، والأعمى لا يجتنب النجاسات". وذهب متأخرو الأحناف إلى أن الأعمى قد يقدم إذا كان هو أعلمهم. يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 369)، حيث قال:"أطلق الكراهة في هؤلاء وقيد كراهة إمامة الأعمى في المحيط وغيره بأن لا يكون أفضل القوم، فإن كان أفضلهم فهو أولى وعلى هذا يحمل تقديم ابن أم مكتوم؛ لأنه لم يبق من الرجال الصالحين للإمامة في المدينة أحد أفضل منه حينئذ ولعل عتبان بن مالك كان أفضل من كان يؤمه".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 333) حيث قال: " (قوله أفضل) أي لأنه أشد تحفظًا من النجاسات وهذا هو المعتمد وقيل إن إمامة الأعمى المساوي =

ص: 1666

وإمامة المرأة

(1)

أيضًا، وإمامة العبد

(2)

، هذه كلها مسائل يتكلم عنها

= الفضل للبصير أفضل لأنه أخشع لبعده عن الاشتغال وقيل إنهما سيان".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 483) حيث قال: " (والأعمى والبصير) في الإمامة (سواء على النص) في "الأم" لتعارض فضيلتهما؛ لأن الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع، والبصير ينظر الخبث فهو أحفظ لتجنبه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (474/ 1) حيث قال: " (ولو كان الأعمى أصم صحت إمامته)؛ لأن العمى والصمم فقْد حاستين لا يخلان بشيء من أفعال الصلاة ولا بشروطها، فصحت مع ذلك الإمامة كما لو كان أعمى فاقد الشم (وكرهت) إمامته خروجًا من الخلاف".

(1)

إمامة المرأة للنساء جائزة عند جمهور الفقهاء (وهم الحنفية والشافعية والحنابلة) أما المالكية فلا تجوز إمامة المرأة عندهم مطلقًا ولو لمثلها في فرض أو نفل.

مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (1/ 58) حيث قال: " (ويكره للنساء حضور الجماعات) لقوله عليه الصلاة والسلام: "بيوتهن خير لهن" ولما فيه من خوف الفتنة وهذا في الشواب بالإجماع. أما العجائز فيخرجن في الفجر والمغرب والعشاء. وقال: يخرجن في الصلوات كلها لوقوع الأمن من الفتنة في حقهن. وله لأن الفساق ينتشرون في الظهر والعصر وفي المغرب يشتغلون بالعشاء، وفي الفجر والعشاء يكونون نيامًا، ولكل ساقطة لاقطة، والمختار في زماننا أن لا يجوز شيء من ذلك لفساد الزمان والتظاهر بالفواحش".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 326) حيث قال: " (أو) بأن (امرأة) ولو لمثلها في فرض أو نفل (أو) بأن (خنثى مشكلًا) ولو لمثله كذلك لأن شرط تحقق الذكورة. وصلاتهما صحيحة ولو نوى كل الإمامة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 173) حيث قال: "أما اقتداء المرأة بالمرأة وبالخنثى أو بالرجل واقتداء الخنثى والرجل بالرجل فصحيح لعدم المحذور".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 479) حيث قال: " (وتصح) إمامة المرأة بنساء، لما رواه الدارقطني عن "أم ورقة أنه صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها" وتصح أيضًا إمامة الخنثى (بنساء) لأن غايته أن يكون أمرأة وإمامتها بهن صحيحة".

(2)

مذهب الحنفية يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 559) حيث قال: " (قوله ويكره تنزيهًا إلخ) لقوله في الأصل: إمامة غيرهم أحب إلي بحر عن المجتبى والمعراج، ثم قال: فيكره لهم التقدم؛ ويكره الاقتداء بهم تنزيهًا؛ فإن أمكن الصلاة خلف غيرهم فهو أفضل وإلا فالاقتداء أولى من الانفراد (قوله ولو معتقًا) يلزمه =

ص: 1667

العلماء في أحكام الإمامة، واقتداء المُفترِض بالمُتنَفِّل

(1)

، كل هذه من

= استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ فإن المعتق عبد باعتبار ما كان؛ اللهم إلا أن يكون من قبيل عموم المجاز بأن يراد بالعبد من اتصف بالرق وقتًا ما، سواء كان في الحال أو فيما مضى".

مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 177 - 178) حيث قال: "وقال مالك: لا يكون العبد إمامًا في مسجد الجماعة ولا مساجد العشائر ولا الأعياد، قال: ولا يصلي العبد بالقوم الجمعة، قال ابن القاسم: فإن فعل أعاد وأعادوا لأن العبيد لا جمعة عليهم ولا بأس أن يؤم العبد في السفر إذا كان أقرأهم أن يؤم قومًا من غير أن يتخذ إمامًا راتبًا".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 174) حيث قال: " (والعبد)، وإن كان صبيًّا؛ لأن صلاته معتد بها، ولأن ذكوان مولى عائشة كان يؤمها، رواه البخاري. نعم الحر أولى منه، وإن قل ما فيه من الرق، إلا إن تميز بنحو فقه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 142 - 143) حيث قال: " (وإمامة العبد والأعمى جائزة) هذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن عائشة رضي الله عنها أن غلامًا لها كان يؤمها. . . ولأن الرق حق ثبت عليه، فلم يمنع صحة إمامته كالدين، ولأنه من أهل الأذان للرجال يأتي بالصلاة على الكمال فكان له أن يؤمهم كالحر". وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 236).

(1)

جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية، وهو المختار عند الحنابلة) على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفل وقال الشافعية، وهو الرواية الثانية عند الحنابلة:"يصح اقتداء المفترض بالمتنفل بشرط توافق نظم صلاتيهما".

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (1/ 371) حيث قال: " (ولا يصلي المفترض خلف المتنفل) لأن الاقتداء بناء، ووصف الفرضية ومعدوم في حق الإمام فلا يتحقق البناء على المعدوم. قال: (ولا من يصلي فرضًا خلف من يصلي فرضًا آخر) لأن الاقتداء شركة وموافقة فلا بد من الاتحاد".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 329) حيث قال: " (قوله أو صبي إلخ) اعلم أن الصبي إذا صلى فإنه لا ينوي فرضًا ولا نفلًا وله أن ينوي النفل فإن نوى الفرض فهل تبطل صلاته لأنه متلاعب إذ لا فرض عليه أو لا تبطل؛ في ذلك روايتان والظاهر منهما الثاني كما قرر شيخنا هذا في صلاته نفسه وأما إن اقتدى به واحد فصلاة ذلك المقتدي به باطلة على الإطلاق إذا أم في فرض فإن أم في النفل صحت الصلاة وإن لم تجز ابتداء على المشهور وقيل بجواز إمامته في النافلة وكل هذا إذا كان المؤتم به بالغًا وأما إمامته لمثله فجائزة ولو في فرض". =

ص: 1668

المسائل التي يتكلم عنها العلماء، وقصة معاذ أيضًا في أمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم له بالتخفيف

(1)

.

إذًا، هناك مسائل كثيرة سنأخذها -إن شاء اللَّه-، وفي كل مسألة نضيف أشياء إلى الكتاب.

* قوله: (الثَّالِثُ: فِي مَقَامِ المَأْمُومِ مِنَ الإِمَامِ).

يقف المأموم معه عن يمين الإمام إذا كان المأموم وحده، وإذا كانوا

= مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 213) حيث قال: " (و) من شروط صحة القدوة توافق نظم صلاتيهما في الأفعال الظاهرة فحينئذ (تصح قدوة المؤدي بالقاضي والمفترض بالمتنفل وفي الظهر بالعصر وبالعكوس) أي القاضي بالمؤدي والمتنفل بالمفترض وفي العصر بالظهر نظرًا لاتفاق الفعل في الصلاة وإن تخالفت النية. واحتج الشافعي رضي الله عنه على اقتداء المفترض بالمتنفل بخبر الصحيحين "أن معاذًا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة" وفي رواية للشافعي "هي له تطوع ولهم مكتوبة" (وكذا الظهر) ونحوه كالعصر (بالصبح والمغرب وهو) أي المقتدي حينئذ (كالمسبوق) فيتم صلاته بعد سلام إمامه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 166) حيث قال: "وفي صلاة المفترض خلف المتنفل روايتان؛ إحداهما: لا تصح. نص عليه أحمد، في رواية أبي الحارث، وحنبل. وأختارها أكثر أصحابنا. . .؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" متفق عليه. ولأن صلاة المأموم لا تتأدى بنية الإمام، أشبه صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر. والثانية: يجوز. . . ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال، فجاز ائتمام المصلي في إحداهما بالمصلي في الأخرى، كالمتنفل خلف المفترض".

(1)

أخرجه البخاري (6106)، ومسلم (465) عن جابر بن عبد اللَّه: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه، كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذًا صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معاذ، أفتان أنت -ثلاثًا- اقرأ: والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى ونحوها".

ص: 1669

اثنين فلا يقف أحدهما عن يمين الإمام والآخر عن يساره، إنما الصحيح أنهما يقفان خلفه، كما جاء في حديث جابر وجبار بن صخر عندما جاء جابر فوقف عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جاء جبار فوقف عن يساره، فأخذ بأيديهما معًا فدفعهما إلى الخلف

(1)

.

* قوله: (وَالأَحْكَامِ الخَاصَّةِ بِالمَأْمُومِينَ).

وهناك أحكام تخص المأمومين، من تلكم الأحكام ألَّا يسبق المأموم إمامَه، فلا يركع قبل الإمام، وأيضًا يرفع بعده لا قبله، ولا ينبغي أن يشركه في هذا إلا فى مثل قوله "آمين"

(2)

؛ فإنه يؤمِّن معه، وهذه أيضًا فيها خلاف سيأتي.

* قوله: (الرَّابِعُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا يَتْبَعُ فِيهِ المَأْمُومُ الإِمَامَ مِمَّا لَيْسَ يَتْبَعُهُ. الخَامِسُ: فِي صِفَةِ الِاتِّبَاعِ. السَّادِسُ: فِيمَا يَحْمِلُهُ الإِمَامُ عَنِ المَأْمُومِينَ).

إذًا، هذه مقدمة لطيفة طيبة مختصرة، وهي بمثابة إطلال ومدخل إلى (كتاب الصلاة) الذي سيتكلم عنه المؤلف بالنسبة للجماعة، فقد وضع لنا أُسُسًا وقواعد يريد من خلالها أن يبين أنه سيتكلم عنها، فبهذا يكون قد قدَّم للكتاب، ولذلك لو أن أحدنا درس هذه المسائل ولو دراسة يسيرة، فعندما

(1)

أخرجه مسلم (3010) وفيه ". . . . ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدينا جميعًا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر، ثم فطنت به، فقال هكذا، بيده -يعني شد وسطك- فلما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "يا جابر" قلت: لبيك، يا رسول اللّه قال: "إذا كان واسعًا فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقًا فاشدده على حقوك"".

(2)

للحديث الذي أخرجه البخاري (780)، ومسلم (410) عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمن الإمام، فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" وقال ابن شهاب: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "آمين".

ص: 1670

يقرأ هذه المقدمات لهذه القواعد يجدها أنها تقرِّب المسائل، فعندما نحفظ قواعد المذهب، أو جملة من المواعد، فنأتي لنقف عليها؛ فتعطينا تصورًا عن المذهب؛ ولذلك فإن أحسن مقارنة للمذاهب إنما تكون بين الأصول.

فعندما نقارن بين المذاهب الأربعة فقهًا عن طريق القواعد، يسهل علينا ذلك؛ لأن هناك أصولًا نبني عليها، ونتمسك بها، لكن إذا أردنا أن نقارن بين المذاهب لنتتبع الفرعيات؛ فيكون حينئذٍ صعبًا علينا ذلك الأمر، وينقضي العمر ولن نستطيع الوصول إلى ذلك في الحقيقة.

* قوله: (السَّابعُ: فِي الأَشْيَاءِ الَّتِي إِذَا فَسَدَتْ لَهَا صَلَاةُ الإِمَامِ يَتَعَدَّى الفَسَادُ إِلَى المَأْمُومِينَ).

هذا إنْ صَلَّى الإمام محدِثًا، لكن علينا أنْ نفرق بين أن يصلي الإمام محدثًا جاهلًا الحكم ولا يعلمه، والمأموم كذلك لا يعلم؛ فحينئذٍ في هذه الحال تفسد صلاة الإمام، وتجب عليه أن يعيد الصلاة، ولا تلزم الإعادة على المأموم؛ لأنه اقتدى بإمام يظن أنه على طهارة.

أما لو صلَّى إنسان خلف إمامٍ يعلم أنه قد صلَّى محدِثًا؛ فلا يجوز ذلك له، ولو فعل ذلك؛ فإنه تجب عليه أن يعيد الصلاة.

فهذه من ضمن المسائل المهمة، وكما هو معلوم فإن بعض هذه الأمور حصلت من بعض الصحابة، وسنُبَيِّن ذلك مع بعض الخلفاء أنه صلى محدثًا، ثم ذهب فاغتسل وأعاد الصلاة، ولم يأمر المأمومين بإعادتها

(1)

.

وبعضهم أصابه رعاف

(2)

فقطع صلاته واستمر المأمومون في صلاتهم

(3)

.

(1)

وهو عمر: أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 350) عن أبي أمامة قال: "صلى عمر بالناس وهو جنب، فأعاد ولم يعد الناس".

(2)

الرعاف: الدم يخرج من الأنف. "الصحاح"، للجوهري (4/ 1365).

(3)

وهو ابن عمر: أخرجه القاسم بن سلام في "الطهور" عن نافع، عن ابن عمر، أنه =

ص: 1671

وهناك أيضًا قصة عمر رضي الله عنه لمَّا طُعِن في صلاة الصبح وجُرْحُه ينزف دمًا قدَّمَ عبد الرحمن بن عوف ليصلي بالناس، واستمر الناس في صلاتهم

(1)

.

وللعلماء كلام في هذه المسألة:

إذا أحدث الإمام، أو أصابه أمر من الأمور؛ فانصرف، هل يُقَدِّم أحدًا ليصلي بالناس، أو يدع الناس فيتقدم أحدهم، أو يصلون فُرادَى

(2)

؟

هذا كله سيأتي معنا -إن شاء اللَّه-، وهذه مسائل جزئية قد يبحثها المؤلف أو لا يبحثها، واللَّه أعلم.

= "كان إذا وجد أخذة الرعاف وهو في الصلاة انصرف فغسل نخمة دمه ولم يكلم أحدًا ثم رجع فأتم ما بقي من صلاته".

(1)

أخرجه البخاري (3700) عن عمرو بن ميمون، وفيه ". . . وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان اللَّه سبحان اللَّه، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة،. . . " الحديث.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 600 - 601) حيث قال: " (سبق الإمام حدث) سماوي، لا اختيار للعبد فيه ولا في سببه كسفرجلة من شجرة، وكحدثه من نحو عطاس على الصحيح (غير مانع للبناء) كما قدمناه (ولو بعد التشهد) ليأتي بالسلام (استخلف) أي جاز له ذلك ولو في جنازة بإشارة أو جر لمحراب، ولو لمسبوق، ويشير بأصبع لبقاء ركعة، وبأصبعين لركعتين ويضع يده على ركبته لترك ركوع، وعلى جبهته لسجود، وعلى فمه لقراءة، وعلى جبهته ولسانه لسجود تلاوة أو صدره لسهو".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 465) حيث قال: "فصل: في الاستخلاف وهو استنابة الإمام غيره من المأمومين لتكميل الصلاة بهم لعذر قام به. وحكمه الندب في غير الجمعة والوجوب فيها".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 347) حيث قال: "القسم الثاني وهو حكم الاستخلاف وشروطه فقال (فإذا خرج الإمام من الجمعة، أو غيرها) من الصلوات (بحدث) سهوًا، أو عمدًا (أو غيره) كتعاطي مبطل أو رعاف (جاز) له وللمأمومين قبل إتيانهم بركن (الاستخلاف في الأظهر)؛ لأن الصلاة بإمامين بالتعاقب جائزة كما أن أبا بكر كان إمامًا فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فاقتدى به أبو بكر والناس،. . وإذا جاز هذا فيمن لم تبطل صلاته ففي من بطلت بالأولى لضرورته إلى الخروج منها واحتياجهم إلى إمام". =

ص: 1672

(الفَصْل الأَوَّل فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ)

هذه هي أول مسألة، وهي أدق مسألة في هذا الباب، إذ فيها بيان حكم صلاة الجماعة، والأقوال في هذه المسألة أربعة، مرتبةٌ ترتيبًا من الأخف إلى أعلى من ذلك، وهناك من يقول بأن صلاة الجماعة سُنة، وهناك من يقول بأنها فرض كفاية، وهناك من يقول بأنها فرض عين، وهناك من يقول بأنها فرض عين وشرط في صحة الصلاة.

والقصد بالجماعة هنا يكون بالنسبة للجماعة في الصلوات الخمس.

أما صلاة الجمعة فلا تدخل معنا هنا؛ لأنه لا خلاف بين العلماء في أنَّ الجماعة عليها فرض عين، أي: واجبة.

إذًا القصد بالصلوات في صلاة الجماعة هنا، أيْ: الصلوات الخمس في أوقاتها؛ لأن هناك صلوات جماعة لا تجب، مثل:

- لو أن إنسانًا نذَرَ أن يصلي؛ فلا يلزمه أن يصلي جماعة.

- السُّنن والنوافل لا يلزم أن تصلَّى جماعة، فبعضها تصلى فرادى،

= مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 75) حيث قال: "إذا سبق الإمام الحدث فله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة، روي ذلك عن عمر وعلي،. . . وحكي عن أحمد رواية أُخرى، أن صلاة المأمومين تبطل؛ لأن أحمد قال: كنت أذهب إلى جواز الاستخلاف، وجبنت عنه. وقال أبو بكر: تبطل صلاتهم، رواية واحدة؛ لأنه فقد شرط صحة الصلاة في حق الإمام، فبطلت صلاة المأموم، كما لو تعمد الحدث".

ص: 1673

كما نرى في السنن الرواتب، وبعضها يُصلَّى جماعة كصلاة التراويح. . وفيها كلام للعلماء.

- الصلوات المقضية من الفرائض الفائتة، وفيها خلاف بين العلماء، فهناك من يرى أنها تصلى جماعة، وهناك من يرى أنها تصلى فُرادَى.

فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نام مع بعض أصحابه عن صلاة الصبح، وقال:"قوموا بنا عن هذا الوادي" أمَر بلالًا فأذَّن، ثُم صلى بالناس، فهنا قضَوا الصلاة جماعة

(1)

.

وأيضًا أيام الخندق عندما انشغلوا عن عددٍ من الصلوات: العصر، والمغرب، والعشاء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّاها بأصحابه جماعة، إذًا بناءً على هذه الأدلة فإن المقضية تُصلَّى جماعة

(2)

.

وهناك من يخالف أيضًا في هذه المسألة، وأظن أنَّ هذه المسائل بعضها مر بنا فيما مضى.

إذًا، القصد هنا حكم صلاة الجماعة، والكلام عن الجماعة

(1)

أخرجه مسلم (680) عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، سار ليله حتى إذا أدركه الكرى عرس، وقال لبلال:"اكلأ لنا الليل"، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالًا عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا بلال، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظًا، ففزع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"أي بلال" فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ -بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه- بنفسك، قال:"اقتادوا"، فاقتادوا رواحلهم شيئًا، ثم توضأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالًا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال:"من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها"، فإن اللَّه قال:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} .

(2)

أخرجه البخاري (596)، ومسلم (631) عن جابر بن عبد اللَّه، أن عمر بن الخطاب، جاء يوم الخندق، بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، قال: يا رسول اللَّه ما كدت أصلي العصر، حتى كادت الشمس تغرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"واللَّه ما صليتها" فقمنا إلى بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.

ص: 1674

للصلوات الخمس المعروفة التي نعرفها، والتي لها أوقات محددة، والتي صلَّى بها جبريل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين

(1)

، وبيَّن له الأوقات التي هي: صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، فكل هذه هي التي نريد أن نتكلم عن حكمها، وهي التي تجب لها الجماعة، والعلماء قد اختلفوا -كما ذكرنا- في هذه المسألة، ولا شك أن كل رأي له دليله، لكننا -كما قدَّمنا- لا ننجذب وراء كثرة الأقوال، ولا يأخذنا أن يكون هؤلاء فريق أكثر، فيكون قوله هو الحق، فقد يكون الحق مع الأكثر، وقد يكون مع الأقل، وقد يكون مع الوسط؛ إذًا هناك من العلماء من يرى أن صلاة الجماعة سُنة.

وهنا قضية من القضايا المهمة جدًّا، وهي أنه قد يقول قائل: لماذا قال الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك -رحمهما اللَّه- وهما إمامان مشهوران، وكذلك في رواية للإمام الشافعي، كيف يقول هؤلاء بأن صلاة الجماعة سنة

(2)

؟

(1)

أخرجه أبو داود (393) عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي يعني المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر" ثم التفت إلي فقال: "يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين" وصححه الألباني في "المشكاة"(583).

(2)

ذهب الحنفية -في الأصح- وأكثر المالكية، وهو قول للشافعية إلى أن صلاة الجماعة في الفرائض سنة مؤكدة، وذهب الشافعية -في الأصح عندهم-، إلى أنها فرض كفاية، وذهب الحنابلة، وهو قول للحنفية والشافعية إلى أنها واجبة وجوب عين وليست شرطًا لصحة الصلاة. خلافًا لابن عقيل من الحنابلة، الذي ذهب إلى أنها شرط في صحتها قياسًا على سائر واجبات الصلاة وإليك تفصيل كلامهم:

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(1/ 457) حيث قال: "صلاة الجماعة واجبة على الراجح في المذهب أو سنة مؤكدة في حكم =

ص: 1675

فنقول: هؤلاء لا شك لهم أدلة، لكن أيضًا قد تكون الأدلة تعارضها أدلة أُخرى وهو الواقع، فهؤلاء فهموا من أدلتهم أن صلاة الجماعة ليست بواجبة، والآخرون فهموا أن صلاة الجماعة فرض كفاية؛ وهذا هو مشهور مذهب الشافعية، ويستدلون بأدلةٍ هي جزء من الأدلة التي يستدل بها الذين يرون أن صلاة الجماعة فرض عين.

وهناك من يرى أن صلاة الجماعة شرط، ويستدلون أيضًا بأدلة،

= الواجب كما في "البحر" وصرحوا بفسق تاركها وتعزيره، وأنه يأثم، ومقتضى هذا أنه لو صلى مفردًا يؤمر بإعادتها بالجماعة. وانظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 155).

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 319 - 320) حيث قال: " (قوله سنة مؤكدة) وقال الإمام أحمد وأبو ثور وداود الظاهري وجماعة من المجتهدين بوجوبها فتحرم صلاة الشخص منفردًا عندهم بل قال بعض الظاهرية بالبطلان فليحافظ عليها وظاهره أنها سنة في البلد وفي كل مسجد وفي حق كل مصل وهذه طريقة الأكثر، وقتال أهل البلد على تركها على هذا القول لتهاونهم بالسنة، وقال ابن رشد وابن بشير: إنها فرض كفاية بالبلد يقاتل أهلها عليها إذا تركوها وسنة في كل مسجد ومندوبة للرجل في خاصة نفسه، قال الأبي: وهذا أقرب للتحقيق، وحمْل المصنف على كلتا الطريقتين صحيح فمعناه على طريقة الأكثر سنة لكل مصل وفي كل مسجد وفي البلد وعلى طريقة ابن رشد إقامتها بكل مسجد سنة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 465) حيث قال: " (هي) أي الجماعة (في الفرائض) أي المكتوبات (غير الجمعة سنة مؤكدة) ولو للنساء للأحاديث السالفة. وأما الجمعة فالجماعة فيها فرض عين كما سيأتي في بابها إن شاء اللَّه تعالى، وقول غير بالنصب بمعنى إلا أعربت إعراب المستثنى وأضيفت إليه كما هو مذكور في علم النحو (وقيل) هي (فرض كفاية للرجال) لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان"، أي: غلب". وانظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 176).

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 454) حِيث قال: " (وهي) أي الجماعة (واجبة وجوب عين) لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}. . . فأمر بالجماعة حال الخوف، ففي غيره أولى؛ يؤكده قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. . . . ويعضد وجوب الجماعة أن الشارع شرعها حال الخوف على صفة لا تجوز إلا في الأمن، كما ستقف عليه وأباح الجمع لأجل المطر وليس ذلك إلا محافظة على الجماعة، ولو كانت سنة لما جاز ذلك". وانظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 130 - 131).

ص: 1676

وهناك من المذهب الحنبلي مَن يأخذ بهذا الرأي ويُعَضِّده ويُؤيِّده من المتقدمين والمتأخرين.

إذًا، المسألة فيها خلاف، والكلام فيها فيه تفصيل، لكننا نحاول أن نُلِمَّ به، إذْ لا نريد دائمًا أن ندخل في الخلافات والتفريعات الطويلة في مثل هذا الشرح والتعليقات، لكن أيضًا لا نريد أن يفوتنا شيء من الأمور المهمة؛ لأنه كما هو معلوم أن المساجد بُنِيَت لهذه الصلاة، واللَّه سبحانه وتعالى قد بيَّنَ أهمية المساجد، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّنَ صلاة الجماعة وفضلها.

* قوله: (فِي هَذَا الفَصْلِ مَسْأَلَتَان، إِحْدَاهُمَا: هَلْ صَلَاةُ الجَمَاعَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ أَمْ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ المَسْجِدَ وَقَدْ صَلَّى، هَلْ يجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُصَلِّيَ مَعَ الجَمَاعَةِ الصَّلَاةَ الَّتِي قَدْ صَلَّاهَا أَمْ لَا؟)

(1)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 473) حيث قال: "وقوله: (ويدخل مع القوم) الدخول ليس بحتم؛ لأن الذي يصلي معهم نافلة ولا إلزام فيها، والأفضل الدخول؛ لأنه في وقت مشروع ويندفع عنه تهمة أنه ممن لا يرى الجماعة. وإن قيل: يلزم أداء النفل مع الجماعة خارج رمضان وهو مكروه. أجيب بأن الكراهة إذا كان الإمام والقوم متنفلين، وأما إذا كان الإمام مفترضًا فلا كراهة".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 320 - 321) حيث قال: "واعلم أن من وجد الإمام في التشهد فدخل معه فظهر بسلامه أنه في التشهد الأخير فمن الواجب عليه إتمام فرضه الذي أحرم به ثم إن أدرك جماعة أعاد معهم إن شاء وكانت الصلاة مما تعاد هذا هو المنصوص في المسألة في العتبية وغيرها ولم يذكروا في هذه أمره لا بقطع ولا بانتقال إلى نفل وهو حكم ظاهر لأنه شرع في فرض فلا نبطله لصلاة الجماعة وهي سنة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 212) حيث قال: "من صلى مكتوبة مؤداة ولو في جماعة، ثم أدرك جماعة، أو وجد منفردًا استحب أن يعيدها معهم، أو معه في الوقت ولو كان وقت كراهة، أو كان إمام الثانية مفضولًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "صلى الصبح فرأى رجلين لم يصليا معه فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ " قالا: صلينا في رحالنا. فقال: "إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصلياها معهم فإنها لكما نافلة". . . وخرج بالمكتوبة أي على الأعيان المنذورة". =

ص: 1677

وهذا إذا سمع النداء فإنه يؤخذ هذا من الحديث، وليس معنى هذا أنه لو كان إنسانًا أصمَّ، أو لا يسمع، أو في مكانٍ مُغلَق عليه بالنوافذ -على سبيل المثال-، فقد يكون بينك وبين المسجد أمتارًا ولا تسمع النداء، كمن يعمل مكيِّفًا للهواء ويغلق النوافذ، فليس هذا هو المراد، إنما المراد أنه إذا وجد مؤذنًا سواء سمع أو لم يسمع، وهذا أيضًا فيه خلاف للعلماء.

* قوله: (أَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولَى؛ فَإِنَّ العُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا).

أي: اختلفوا في حكم صلاة الجماعة للصلوات الخمسة المفروضة.

* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ)

(1)

.

نعم، هو كما ذكر جمهور الفقهاء، حيث ذهبوا إلى أنها سُنة، ونحن عندما نقول الجمهور؛ فإننا نعني بهم الفقهاء، ولا شك أنَّ الإمامين أبا حنيفة ومالكًا، ورواية للشافعي، وهي رواية في مذهب أحمد -وإن لم تكن قوية-؛ هؤلاء جميعًا يذهبون إلى أنها سُنة، ويستدلون على هذا بعدة أدلة:

أولًا: حديث "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة"

(2)

.

= مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 452) حيث قال: " (و) تجوز (إعادة جماعة إذا أقيمت وهو في المسجد ولو مع غير إمام الحي وسواء كان صلى جماعة أو وحده، في كل وقت منها) أي من أوقات النهي لما روى يزيد بن الأسود قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا: يا رسول اللَّه قد صلينا في رحالنا. فقال: "لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكم نافلة" وهذا نص في الفجر، وبقية الأوقات مثله، ولأنه متى لم يعد لحقته تهمة في حق الإمام وظاهره: إذا دخل وهم يصلون لا يعيد خلافًا لجماعة".

(1)

تقدَّم قولهم بالتفصيل.

(2)

أخرجه البخاري (646)، ومسلم (649) بلفظ عن أبي سعيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفذ".

ص: 1678

وفي رواية: "تفضُل صلاة الجماعة عن صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجة"

(1)

.

ثانيًا: قصة الرجلين اللذَيْن جاءا في مسجد الخيف، وجلسَا في مؤخِّرة المسجد ولم يصليا مع القوم، فاستدعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالَا: صلينا في رحلنا، فأرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"إذا صليتما في رحالكما وأتيتما مسجد جماعة فصليا، فإنها تكون لكما نافلة"

(2)

.

ثالثًا: حديث أبي ذر رضي الله عنه، كيف أنت إذا كان عليك أُمَراء يؤخِّرون الصلاة عن وقتها؟ قال: فما تأمرني؟ قال: "صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ فإنها تكون لك نافلة أخيرة"

(3)

.

وجه الدلالة من هذه الأدلة، لأننا ينبغي في هذا المقام أن نبين ذلك؛ لأن هذه مسألة مهمة وجوهريَّة، لا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام.

فهؤلاء يقولون إن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، وكلمة "أفضل" اسم تفضيل -كما هو معلوم-، واسم التفضيل دائمًا يأتي للموازنة بين شيئين أحدهما متقدِّم والآخَر متأخِّر

(4)

، يكون المتقدم أفضل من

(1)

أخرجه البخاري (645)، ومسلم (650) عن ابن عمر.

(2)

أخرجه النسائي (858) عن يزيد بن الأسود العامري، قال: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه قال:"عليَّ بهما". فأتي بهما ترعد فرائصهما فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ " قالا: يا رسول اللَّه إنا قد صلينا في رحالنا. قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" وصححه الألباني في "المشكاة"(1152).

(3)

أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر، قال: قال لي رسول اللَّه: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ -أو- يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة" ولم يذكر خَلَفٌ: عن وقتها.

(4)

يقصد أن اسم التفضيل يفضل المتقدم على المتأخر؛ فاسم التفضيل هو الوصف =

ص: 1679

المتأخر، فتقول:"زيد أفضل من بكر"، فأنت في هذه الحال لم تنفِ الفضل عن بكر، ولكنك أعطيت زيدًا فضلًا أكثر؛ وعلى هذا فَهُم يقولون في هذه الحالة إلن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، فيكون هذا الحديث أثبَتَ الفضل للطرفَيْنِ سواء مَن صلَّى منفردًا أو مَن صلَّى في جماعة، لكنه ميَّزَ بينهما، فأعطَى مَن صلَّى في جماعةٍ فضلًا أكبر، وحدَّدَهُ في روايةٍ:"بخمس وعشرين درجة"

(1)

، وفي أُخرى:"بعشرين درجة"

(2)

، وفي ثالثة:"بسبع وعشرين درجة"

(3)

.

وعلى هذا، فالفضل ثبت للاثنين معًا، لمن يصلي في جماعة، ولمن يصلي منفردًا؛ قالوا: لو كانت صلاة جماعة واجبة لما ثبت الفضل لِمَن صلَّى منفردًا؛ لأنكم تقولون صلاة الجماعة شرط، والشرط لا يصح المشروط إلا بوجوده، أو تكون فرض عين، وإذا كانت فرض عين، فمعنى ذلك أنَّ مَن تركها آثِم.

وكيف يُقال عن إنسانٍ آثم في ارتكاب أمرٍ يحصل له الفضل بسببه؟! إذًا، هذا خلافُ مَا أخبَر به الرسول صلى الله عليه وسلم.

هكذا قالوا، ونحن ننقل رأيهم وتعليلهم، وليس معنى ذلك أننا معهم، لا يلزم.

فهؤلاء أخذوا من هذه المفاضلة أنَّ الفضل ثبت للطرفين، لمن يصلي الصلاة المفروضة منفردًا، ولمن يصليها في جماعة.

وهذا في غير حق المعذور؛ لأن المعذور أمره يختلف إن كان لديه عذر من خوف أو مرض، وغير ذلك من أعذار سيأتي الكلام عنها، لكننا نتكلم عن إنسانٍ قادر لم يحل به عذر، ويستطيع أن يصلي

= المبني على (أفعل) لزيادة صاحبه على غيره في أصل الفِعل. يُنظر: "شرح التصريح على التوضيح" لخالد الأزهري (2/ 92).

(1)

تقدَّم تخريجها.

(2)

لم نقف عليها.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1680

في المسجد، ولا يلحقه ضرر بذلك؛ حينئذ هذا هو الذي نتكلم عنه.

ووجه استدلالهم بقصة الرجلين: "ما منعكما أن تصليا مع الجماعة" قالَا: "صلَّينا في رحلنا"

(1)

. أنهم قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهما أنهما صلَّيَا في رحلهما، ولم يسألهما، لِمَ صلَّى كل منكما وحده؟ لكنه أنكر عليهما صنيعيهما؛ لأنهما اعتزلَا الناس.

أما قصة الرجل الآخر الذي اعتزل المصلين

(2)

؛ لأن هذا أمر منكر، فالآن لو أُقِيمَت الصلاة ووُجِدَ إنسان في زاوية، وكل الناس ينظرون إليه، كيف لهذا أن يتخلى عن صلاة الجماعة؟

إذًا، فقد أوقعَا نفسَيْهمَا في رِيبةٍ وشكٍّ؛ ولذلك سيأتي الكلام لاحقًا عمَّن دخَل المسجد ووجد النَّاس يُصلُّون، فهل يصلي معهم أو لا؟

ثم يختلفون فِيمَن صلَّى الصلاة في جماعةٍ ومَن صلَّاها سابقًا منفردًا.

وأيضًا بعضهم يرَى أن الإنسان لو مرَّ بمسجدٍ وقد صلَّى؛ لا ينبغي أن يدخل، لكنه لو دخل فينبغي أن يصلي، أقل ما يكون في الأمر أن يبعد عن نفسه الشبهة؛ حتى لا يُرمَى بالنفاق.

إذًا، هنا قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهما صلاتهما في رحلهما، ولم يقل بأن صلاة الجماعة واجبة، بالرغم من أن هذا موطن يتطلب البيان، لكن مع ذلك فقد أرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الأمر؛ فقالوا: لو كانت صلاة الجماعة واجبة، لبيَّنَ لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا أهم ما يستدل به أصحاب هذا القول.

والمصنف كان يقصد بالجمهور: الحنفية، والمالكية، وهي أيضًا

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

كأنه يعني حديث معاذ الذي تقدم، قد أخرجه البخاري (6106)، ومسلم (465) عن جابر بن عبد اللَّه؛ أن معاذ بن جبل رضي الله عنه، كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة. . . الحديث.

ص: 1681

رواية للشافعية، وإن كان المتأخرون مِن الشافعية يُصَحِّحُونَ الرواية الأخرى، وهي أنها فرض كفاية، بحيث لو قام بها جماعة سقط عن البقية.

أما في حال وجوبها، لو تركها أهل قرية، أو كذلك مدينة، أو بدو مجتمِعُون -أيْ غير رحل، وغير مسافرين- فإنهم يُقاتَلُون عليها.

* قوله: (أَوْ فَرْضٌ عَلَى الكِفَايَةِ).

أما مَن يرَوْا أنها فرض كفاية فيختلفون، وأكثرهم يروا أن يُقاتَلوا عليها، وبعضهم لا يرى هذا

(1)

.

ومَن يرون أنها سُنة وشعيرة ينبغي إظهارها، يقولون لو أصَرَّ النَّاسُ علَى تركها؛ لَقُوتِلُوا عليها؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزُوَا قومًا انتظر، فإن سمِعَ الأذان توقف، وإن لم يسمع غار عليهم

(2)

؛ فمن هنا نأخذ دليلًا.

وهذا يبيِّن لنا أهمية صلاة الجماعة، وأن اللَّه سبحانه وتعالى لم يُسْقِطهَا حتى في حالة الخوف، حيث قال:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102].

فهذا الموقف هو موقف التخفيف، ولو كان هناك موضع تخفَّف فيه صلاة الجماعة؛ لما كان هناك موقف أحوج إلى التخفيف من هذا الموقف! فها هم كانوا يرون العدو أمامهم، ويرونه رأي العين يتربص بهم الدوائر، ومع ذلك نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلوا الصلاة جماعةً، ومع ذلك حصل إخلال في أركانها وشروطها وواجباتها، لكن لم تسقط الجماعة. . بل تجاوز عما حصل من إخلال فيها، فذلك أمر يدل على عظم

(1)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (2/ 326) حيث قال: "وذكر محمد رحمه الله أن أهل بلد لو اجتمعوا على ترك الجماعة نضربهم ونقاتلهم".

(2)

أخرجه البخاري (2943) عن أنس رضي الله عنه، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا غزا قومًا لم يُغر حتى يصبح، فإن سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار بعدما يصبح، فنزلنا خيبر ليلا".

ص: 1682

صلاة الجماعة، وعلى تأكيدها؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى لم يخفف عن المؤمنين أكثر مما حصل في صلاة الخوف، ولذلك لو حصلت منهم غفلة طرفة عين لربما انقضَّ عليهم الأعداء، لكنهم في هذه الحالة يصلون إلى غير القبلة، ولو كان إلى غير القبلة؛ إذًا لن يمكن حتى لا يتمكن العدو.

فتأمل! وسوف نصل -إن شاء اللَّه- إلى (باب صلاة الخوف)، لنتعرف على صفاتها السبع من بين أنك تصلي جزءًا مع الإمام ثُم تنصرف، وتحرص على بعض صفاتها، ثم تعود مرة أُخرى وتصلي لتتم معه وغير ذلك.

إذًا، الذين يقولون بأنَّ صلاة الجماعة فرض عين أدلتهم كثيرة جدًّا، لا نستطيع أن نستقصيها، لأنها كثيرة، وهي صريحة، ووجه الدلالة منها بَيِّنٌ وواضح، وكذلك الذين يقولون أيضًا بأنها شرط يفهمون من أدلة الذين يقولون بأنها فرض عين أنها تدل علَى شرطيتها، فلنتابع الكتاب، ونعلق تعليقاتنا اليسيرة لنتأمل.

* قوله: (وَذَهَبَتِ الظَّاهِرِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الجَمَاعَةِ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ)

(1)

.

أيْ إنهم يقولون بأنها فرض عين، وشرط في صحة الصلاة، وفرقٌ بَيْنَ مَن يقول بأنها فرض عين وليست بشرط، وبين من يقول بأنها شرط.

فإنَّ مَن يرى أنها فرض عين لو صلَّاها الإنسان منفردًا غير معذور

(1)

ينظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (3/ 104) حيث قال: "ولا تجزئ صلاة فرض أحدًا من الرجال إذا كان بحيث يسمع الأذان أن يصليها إلا في المسجد مع الإمام، فإن تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته، فإن كان بحيث لا يسمع الأذان ففرض عليه أن يصلي في جماعة مع واحد إليه فصاعدًا ولا بد، فإن لم يفعل فلا صلاة له إلا أن لا يجد أحدًا يصليها معه فيجزئه حينئذ، إلا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة".

ص: 1683

فصلاته صحيحة لكنه يأثم، أما مَن يرى أنها شرط فهنا تكون صلاته غير صحيحة، ويلزمه أن يعيدها. . وهذه مسألة خطيرة.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ مَفْهُومَاتِ الآثَارِ فِي ذَلِكَ).

أنبه هنا على قضية مهمة، وهي أنَّ حتى الذين يقولون بأنها فرض عين، فبعضهم يرى أنها لا تصح أن يصلي الإنسان منفردًا.

لكن لو صلَّاها، هل تعتبر صحيحة أو لا؟ أيضًا في ذلك خلاف بينهم، فبعضهم يصححها، وبعضهم قال: نحْذَر ذلك.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً أَوْ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"

(1)

).

بعضهم يقول الخمس والعشرون هي السبع والعشرون، لكن إذا حذف منها صلاة المنفرد وصلاة الجماعة؛ بقي ما بينها، وهي التي أشار إليها الحديث الآخر.

* قوله: (يَعْنِي: أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الجَمَاعَاتِ مِنْ جِنْسِ المَنْدُوبِ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهَا كَمَالٌ زَائِد عَلَى الصَّلَاةِ الوَاجِبَةِ).

أيضًا من الأدلة ذكرنا مِن قبل وعلَّقنا عليها تعليقًا قليلًا: الحديث الصحيح في السبعة الذين يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفي أوله:"إمام عادل، شاب نشأ في طاعة اللَّه، ورجل قلبه معلق بالمساجد"

(2)

، ولم يقل: قلبه معلق بالمشاهد أو بالبيوت أو بغيرها، بل قلبه معلق بالمساجد؛ لأن الذي تعلق قلبه بالمساجد فبالضرورة قلبه معلَّق

(1)

تقدَّم تخريجه وهما حديثان منفصلان وليس حديثًا واحدًا كما ذكر المصنف.

(2)

أخرجه البخاري (660) ومسلم (1031).

ص: 1684

بربه؛ لأن في هذه المساجد يزداد الخشوع؛ فيزداد الثواب في هذه المساجد، وكذلك كلما تقدم الناس إلى الصفوف الأولى كلما كانوا لربهم أقرب، وفي صلاتهم أخشع، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا

(1)

عليها لاستهموا عليها"

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد اللَّه له نزلًا من الجنة كلما غدا أو راح"

(3)

، فبعد هذه الفضائل، هل يريد الإنسان أن يتركها، ويزهد فيها؟!

* قوله: (فَكَأَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: صَلَاةُ الجَمَاعَةِ أَكْمَلُ مِنْ صَلَاةِ المُنْفَرِدِ).

المؤلف هنا يريد أن يفسر الحديث على رأي هؤلاء.

* قوله: (وَالكَمَالُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الإِجْزَاءِ)

(4)

.

هذه القضية في الحقيقة نسمعها كثيرًا خصوصًا نحن طلاب العلم الذين ندرس الفقه، وخاصة الذين يدرسون الفقه المقارَن، ويُقصد به المقارن بين المذاهب لا المقارن بين الشريعة وغيرها، فهؤلاء كثيرًا ما تجد يساور عند بعضهم اختلاف الأئمة، فأقول: هذا الإمام ما دام قال هذا القول؛ فيُعتد به، لأنه أعلم، بل هذا الإمام له دليل، وقد اجتهد في هذا القول بناءً على أدلة من الكتاب والسنة، لكنه في نفس الوقت لم يُحِط علمًا بكل شيء من الأدلة والسُّنن.

(1)

لاستهموا: أي يقترعوا بالسهام. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 229).

(2)

أخرجه البخاري (615) ومسلم (437).

(3)

أخرجه مسلم (669).

(4)

أخرجه مسلم (653) عن أبي هريرة، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول اللَّه، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى، دعاه، فقال:"هل تسمع النداء بالصلاة؟ " قال: نعم، قال:"فأجب".

ص: 1685

وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في المسائل ويرجعون، وإذا كان أكبر أفاضل الصحابة، أي أفضل هذه الأمة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الذي لو وُزِنَ إيمانه بإيمان الأمة لرجح، وهو أبو بكر رضي الله عنه الذي قال فيه الرسول: "سدوا عليَّ هذا الخوخات إلا خوخة

(1)

أبي بكر"

(2)

.

وقال أيضًا فيه: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا"

(3)

.

والذي قال اللَّه عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

إذا كان أبو بكر الصحابي الجليل، الذي لازَمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام وبعده، ورافقه في رحلته الميمونة من مكة إلى طَيْبَة الطَّيِّبة

(4)

.

(1)

الخوخة: واحدة الخوخ. والخوخة أيضًا: كوة في الجدار تؤدي الضوء. انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 420).

(2)

أخرجه البخاري (467) عن ابن عباس، قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، عاصب رأسه بخرقة، فقعد على المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال:"إنه ليس من الناس أحد أمنّ علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد، غير خوخة أبي بكر".

(3)

أخرجه البخاري (3904)، ومسلم (2382) واللفظ له؛ عن أبي سعيد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، جلس على المنبر فقال:"عبد خيره اللَّه بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده" فبكى أبو بكر وبكى، فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أمَنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام. . . " الحديث.

(4)

كأنه يُشير إلى الحديث الذي أخرجه الحاكم في "المستدرك"(653)، وغيره، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس فمن كان آمنوا به وصدقوه، وسمعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؛ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أوَتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. . . " الحديث. وصححه الألباني لشواهده في "السلسلة الصحيحة"(306).

ص: 1686

إذا كان وهو أقرب الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويستشير الصحابة أحيانًا، ويسألهم في بعض الأمور، فتأتيه امرأة الجدة تسأله: ألها ميراث؟ فيقول: نظرت في كتاب اللَّه فلم أجد، ونظرت في سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم أجد، مع أنه يحفظ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يقف عند هذا الحد، بل ذهب ليستشير الصحابة، فيأتي أحد الصحابة ممن ليس من كبارهم، فيذكر له أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورَّثَ الجدة الثُّلُث؛ فيعمل بقوله

(1)

.

وكذلك عمر رضي الله عنه لمَّا وَجد حديثَيْن في قصة الحديث الذي تكلم عن الطاعون؛ "فإذا كان بأرض فلا تدخلوها، وإذا كان بها وأنتم بها فلا تخرجوا منها

(2)

"؛ حينئذ أشكل ذلك علَى عمر رضي الله عنه.

وكان أيضًا حدَثَ أنه جاء حديثان ظاهرهما التعارض، حديث:"فر من المجذوم فرارك من الأسد"

(3)

، وحديث:"لا عدوى ولا طيرة"

(4)

،

(1)

أخرجه أبو داود (2894) وغيره، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق، تسأله ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب اللَّه تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة:"حضرت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس"، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر. . . ." الحديث.

والحديث مشهور وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق ولا يمكن شهوده للقصة. انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 186)، و"الأحكام الوسطى" للإشبيلي (3/ 328)، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(1680).

(2)

أخرجه أحمد في "المسند"(1491) عن يحيى بن سعد، عن أبيه، قال: ذكر الطاعون عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "رجز أصيب به من كان قبلكم، فإذا كان بأرض فلا تدخلوها، وإذا كان بها وأنتم بها فلا تخرجوا منها" وصححه الأرناؤوط.

(3)

أخرجه البخاري معلقًا (5707)؛ قال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد". وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(10/ 158): "وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي داود الطيالسي وأبي قتيبة سلم بن قتيبة، كلاهما عن سليم بن حيان شيخ عفان".

(4)

أخرجه البخاري (5753) ومسلم (2225) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث: في المرأة، والدار، والدابة".

ص: 1687

ونزل الطاعون في مكانٍ ما، فذهب عمر إلى بلاد الشام يستشير الصحابة، فأول ما بدأ بكبار المهاجرين، ثم الأنصار، إلى أن ورَدَ إليه الحديث، فلما قال له الصحابة:"كيف أنت تفر من القدر؟ "، قال:"نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه"

(1)

.

فتأمل في فَهْم الصحابة، حيث كان لهم فهم وتأمُّل وفقه، ومع ذلك استشاروا غيرهم، وأخذ بعضهم ما عند بعض.

وكان من الصحابة الذين يستشيرهم عمر رضي الله عنه علي ومعاذ رضي الله عنهما؛ فلما أراد أن يرسل معاذًا إلى الشام، أشار إلى أنه كان بحاجة إليه، وأنه بحاجة أن يبقى عنده في المدينة، لكنه آثر حاجة تلك البلاد البعيدة، وهكذا كان أيضًا شأن الصحابة الذبن كانوا يرسلهم وتفرقوا في الأمصار

(2)

.

إذًا، الصحابة رضي الله عنهم إذا كانوا يختلفون في بعض المسائل، وفاتتهم

(1)

أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219) عن عبد اللَّه بن عباس "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلى الشأم، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد؛ أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لى المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا،. . .، ثم قال: ادعوا لي الأنصار. . . فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لى من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر اللَّه؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه،. . ." الحديث.

(2)

أخرجه أبن سعد في "الطبقات"(2/ 356) عن محمد بن كعب القرظي، قال:"جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو أيوب وأبو الدرداء، فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فدعا عمر أولئك الخمسة فقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني رحمكم اللَّه بثلاثة منكم، إن أجبتم فاستهموا،. . ." الحديث.

ص: 1688

بعض القضايا، إلا أن غيرهم ممن هم دونهم أولى وأقرب؛ فالصحابة حضروا نزول القرآن، وتلَقَّوا سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لا ننسى أنَّ منهم مَن يضرب في الأسواق ويشتغل بالتجارة، ومنهم من يسافر، ومنهم مَن يكون له عذر، ومنهم أصحاب المزارع، والمصالح، فلا يدركون ويسمعون كل شيء.

لهذا، كان أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثًا، لأنه كان من أصحاب الصُّفة

(1)

الذين يجلسون في غرفةٍ صغيرة، يجتمعون فيها، كلٌّ متفرغون للعبادة، وهم دائمًا يتتبعون آثار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لذلك كثر حديثه، وكان أكثر الصحابة رواية في ذلك.

* قوله: (وَحَدِيثُ الأَعْمَى المَشْهُورُ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَائِدَ لَهُ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام:"أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً" هُوَ كَالنَّصِّ فِي وُجُوبِهَا مَعَ عَدَمِ العُذْرِ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

).

المؤلف هنا خلط بين حديثين ومزج بينهما، فالحديث الذي يُشير إليه هو حديث الأعمى الذي جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أجد قائدًا يقودني إلى المسجد، وسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فرخص له فولَّى الرجل، فلمَّا أدبر دعاه فقال له:"أتسمع النداء؟ " قال: نعم. قال: "فأجب"، هذا الذي يُشير إليه.

أما الآخَر فهو دمج بينه وبين حديث ابن أم مكتوم، وبعد صفحة

(1)

أخرجه البخاري (118) عن أبي هريرة، قال:"إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب اللَّه ما حدثت حديثًا، ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] إلى قوله: {الرَّحِيمُ} [لبقرة: 160] إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون".

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1689

ربما يأتي بالحديث صحيحًا؛ ولذلك سيقول: "وهذا هو نص الحديث"؛ فانتبه؛ لهذا أحيانًا يروي المؤلف الحديث ربما مِن حفظه.

* قوله: (وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْن

(1)

حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ العِشَاءَ")

(2)

.

معنى هذا أنهم يتنافسون في أمور الدنيا، ويتسابقون إليها، وإن قلَّت، لكن أمور الآخرة وبخاصة الأمور التي يعظم فيها الأجر ويكثر، كصلاة الجماعة؛ فهم لا يعنون بها، بل يتخلفون عنها.

* قوله: (وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ فِيهِ:"إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا سُنَنَ الهُدَى، وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الهُدَى الصَّلَاةَ فِي المَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ"

(3)

، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ:"وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ")

(4)

.

المؤلف اقتطع منه شيئًا، وذكرناه فيما مضى بنصه، وهو طويل.

* قوله: (فَسَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ مَسْلَكَ الجَمْعِ بِتَأْوِبلِ حَدِيثِ مُخَالِفِهِ، وَصَرْفِهِ إِلَى ظَاهِرِ الحَدِيثِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ. فَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ المُفَاضَلَةَ لَا يَمْنعُ أَنْ تَقَعَ فِي الوَاجِبَاتِ

(1)

يقال: إن المرماة ما بين ظلفي الشاة، قال أبو عبيد:"وهذا حرف لا أدري ما وجهه إلا أنه هكذا يفسر واللَّه أعلم". انظر: "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (3/ 202).

(2)

أخرجه البخاري (644) ومسلم (651).

(3)

أخرجه مسلم (654/ 256) عن عبد اللَّه قال: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه".

(4)

أخرجه مسلم (654/ 257).

ص: 1690

أَنْفُسِهَا، أَيْ: أَنَّ صَلَاةَ الجَمَاعَةِ فِي حَقِّ مَنْ فَرْضُهُ صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ المُنْفَرِدِ فِي حَقِّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ لِمَكَانِ العُذْرِ بِتِلْكَ الدَّرَجَاتِ المَذْكُورَةِ)

(1)

.

أي: أنَّ أهل الظاهر

(2)

أيدوا ذلك، ورتبوا ذلك على أن المفاضلة بين منفرد صلَّى بعذر، وبين صلاة الجماعة، وليس ذلك على إطلاقه، بل هذا من التأويلات التي ذكرها العلماء أيضًا.

* قوله: (قَالُوا: وَعَلَى هَذَا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "صَلَاةُ القَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ القَائِمِ")

(3)

.

بقية الحديث: "وصلاة النائم على النصف من صلاة القائم".

* قوله: (وَأَمَّا أُولَئِكَ فَزَعَمُوا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ الأَعْمَى عَلَى نِدَاءِ يَوْمِ الجُمُعَةِ).

قد سبق أنْ بيَّنا هذا ورددناه، وبيَّنا أن في الأحاديث ما يرد هذا التوجيه.

* قوله: (إِذْ ذَلِكَ هُوَ النِّدَاءُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ الإِتْيَانُ إِلَيْهِ بِاتِّفَاقٍ وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَاللَّه أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الحَدِيثِ هُوَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: "أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى المَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّه أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ، فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ،

(1)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 107) حيث قال: "فصح أن هذا التفاضل إنما هو على صلاة المعذور التي تجوز، وهي دون صلاة الجماعة في الفضل كما أخبر عليه السلام".

(2)

تقدَّم قولهم.

(3)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(2/ 296) عن عمران بن حصين.

ص: 1691

فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ. فقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَجِبْ"

(1)

).

عاد المؤلف هنا فجاء بنص الحديث، وكان فيما مضى لم يأتِ بنصِّه.

* قوله: (وَظَاهِرُ هَذَا يَبْعُدُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ نِدَاءُ الجُمُعَةِ، مَعَ أَنَّ الإِتْيَانَ إِلَى صَلَاةِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ فِي المِصْرِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ، وَلَا أَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَعَارَضَ هَذَا الحَدِيثَ أَيْضًا حَدِيثُ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ المَذْكُورُ فِي المُوَطَّإِ).

في "الصحيحين" أيضًا. وحديث عتبان أيضًا بيَّنا فيه، لكنه ذكر أسبابًا، وهي عذر له؛ لأنه ذكر أنه في طريقه تكون الظلمة، وأنه طريق مُخِيف؛ ولذلك رخَّص له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

إذًا، رجُل أعمى وطريقه مظلمٌ مخيف، فاعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك عذرًا له، ولذلك ذهب معه إلى بيته، وقال:"أين تحب أن أصلي لك؟ " فأشار إلى المكان؛ فصلَّى.

* قوله: (وَفِيهِ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كانَ يَؤُمُّ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّهُ تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالمَطَرُ، وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ البَصَرِ فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ؟ " فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(2)

. وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّ الَّذِي دَخَلَ المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّى).

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه النسائي (788) وغيره، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(1610).

ص: 1692

هنا المؤلف سينتقل إلى مسألة أُخرى، وقبل أن ندخل في هذه المسألة هناك أيضًا خلاف بين العلماء في إقامة جماعة أُخرى في المسجد الذي تقام فيه الجماعة

(1)

، وللعلماء تفصيلات في ذلك، وبما أن المؤلف لم يعرض لها، فسوف نمر بها إيماءة يسيرة.

مثال: لو صلى جماعة في مسجد وهناك جماعة من الناس، فهل يقيموا الجماعة مع أنها قد سبقت أو لا؟

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 395) حيث قال: "قوله: (وتكرار الجماعة) لما روى عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج من بيته ليصلح بين الأنصار فرجع وقد صلى في المسجد بجماعة، فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في منزل بعض أهله فجمع أهله فصلى بهم جماعة" ولو لم يكره تكرار الجماعة في المسجد لصلى فيه. وروي عن أنس "أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة في المسجد صلوا في المسجد فرادى" ولأن التكرار يؤدي إلى تقليل الجماعة؛ لأن الناس إذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة يتعجلون فتكثر وإلا تأخروا. اهـ. . . وانظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 153).

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 308) حيث قال: " (ويكره) كراهة تنزيه (في كل مسجد له إمام راتب أن تجمع فيه الصلاة مرتين) قبل الإمام الراتب أو معه أو بعده لأن ذلك يؤدي إلى التباغض والتشاجر بين الأئمة وإذايتهم. وعلى هذأ التعليل ينبغي التحريم فظاهر كلامه أن الكراهة باقية ولو أذن الإمام وهو ظاهر المذهب لأن من أذن لرجل أن يؤذيه لا يجوز له ذلك". وانظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 332)، وما بعدها.

مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب"(4/ 221 - 222) حيث قال: "وإن حضر وقد فرغ الإمام من الصلاة فإن كان المسجد له إمام راتب كره أن يستأنف فيه جماعة؛ لأنه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد. . .، أما حكم المسألة فقال أصحابنا. إن كان للمسجد إمام راتب وليس هو مطروقًا كره لغيره إقامة الجماعة فيه ابتداء قبل فوات مجيء إمامه ولو صلى الإمام كره أيضًا إقامة جماعة أُخرى فيه بغير إذنه؛ هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 133) حيث قال: "ولا يكره إعادة الجماعة في المسجد، ومعناه أنه إذا صلى إمام الحي، وحضر جماعة أُخرى، استحب لهم أن يصلوا جماعة. . . ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة". . . ولأنه قادر على الجماعة، فاستحب له فعلها، كما لو كان المسجد في ممر الناس".

ص: 1693

الجواب: للعلماء تفصيل، فبعضهم يفرق بين مسجد يكون على ممر الطريق، أو يكون في الأسواق

(1)

التي يكثر فيها اجتماع الناس، وترَدُّدهم ومرُورهم عليها، وبين مسجدٍ في حيٍّ يكون له إمام راتب.

فرق أيضًا بين مسجد فيه إمام راتب، ومسجد يتقدَّم فيه أحد المصلين فيصلى بالناس؛ لا شك أن هذه المسألة فيها خلاف، وقد دلت الأدلة على أن الجماعة قاموا في المسجد.

وهناك من يستثني من تلك المسائل الثلاث بيت اللَّه الحرام، فيقصد به المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، فيرون أن الجماعة لا تعد فيها

(2)

.

(1)

المسجد الذي في سوق، أو في الطرق وممر الناس، يجوز تكرار الجماعة فيه، ولا تكره؛ لأن الناس فيه سواء.

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 153) حيث قال: "بخلاف المساجد التي على قوارع الطرق؛ لأنها ليست لها أهل معروفون، فأداء الجماعة فيها مرة بعد أُخرى لا يؤدي إلى تقليل الجماعات".

مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 181) حيث قال: "وقال مالك في مسجد على طريق من طرق المسلمين ليس له إمام راتب، أتى قوم فجمعوا فيه الصلاة مسافرين أو غيرهم ثم أتى قوم من بعدهم: فلا بأس أن يجمعوا فيه أيضًا وإن أتى كذلك عدد ممن يجمع فلا بأس بذلك".

مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (4/ 221) وما بعدها. حيث قال: "وإن كان المسجد في سوق أو ممر الناس لم يكره أن يستأنف الجماعة لأنه لا يحتمل الأمر فيه على الكياد وإن حضر ولم يجد إلا من صلى استحب لبعض من حضر أن يصلي معه لتحصل له الجماعة".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 133) حيث قال: "ولا يكره إعادة الجماعة في المسجد، ومعناه أنه إذا صلى إمام الحي، وحضر جماعة أُخرى، استحب لهم أن يصلوا جماعة، وهو قول ابن مسعود، وعطاء، والحسن، والنخعي، وقتادة، وإسحاق. . .".

(2)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 332) حيث قال: "ولا يصلون فيه أفذاذًا لفوات فضل الجماعة (إلا بالمساجد الثلاثة) فلا يخرجون إلا إذا وجدوا إمامها قد صلى وإذا لم يخرجوا (فيصلون بها أفذاذًا) ". =

ص: 1694

ومِن عُمدة الذين قالوا بالإعادة: حديث الرجل الذي دخل وقد صلى الناس، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من يتصدق على هذا؟ "

(1)

.

وفي رواية: "ألَا رجل يتصدق على هذا؟ " فقام رجل من القوم فصلى معه

(2)

.

لماذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام "ألا رجل يتصدق على هذا؟ "؛ لأنه لو صلى وحده لأدرك فضيلة الانفراد، وبلا شك معذور؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينبهْهُ، ولم يأخذ عليه تخلفه، وقد جاء وفاتته الجماعة، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا الرجل أن يدرك فضل الجماعة، فطلب من أحد الحاضرين أن يصلي معه.

وورد في إحدى الروايات أن من قام وصلى معه هو أبو بكر رضي الله عنه

(3)

، لكن في هذا الحديث كما نرى:"ألا رجل يتصدق"، والرسول صلى الله عليه وسلم جعل عمَل مَن قام وصلى مع أخيه المسلم صدقةً؛ ولذلك

= ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 133) حيث قال: "فأما إعادة الجماعة في المسجد الحرام ومسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، فقد روي عن أحمد كراهة إعادة الجماعة فيها. وذكره أصحابنا؛ لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الإمام الراتب فيها إذا أمكنتهم الصلاة في الجماعة مع غيره. وظاهر خبر أبي سعيد وأبي أمامة، أن ذلك لا يكره؛ لأن الظاهر أن هذا كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى يقتضيه أيضًا، فإن فضيلة الجماعة تحصل فيها، كحصولها في غيره".

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده"(11408) عن أبي سعيد الخدري "أن رجلًا دخل المسجد وقد صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " فقام رجل من القوم فصلى معه". وصححه الأرناؤوط.

(2)

أخرجه أحمد (11613) عن أبي سعيد، أن رجلًا جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه". وصحح إسناده الأرناؤوط.

(3)

أخرجه أبو داود في "المراسيل"(ص 84) قال: حدثنا محمد بن العلاء، أخبرنا هشيم، حدثنا الخصيب بن زيد، عن الحسن، في هذا الخبر فقام أبو بكر فصلى معه وقد كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 1695

ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه: "كل معروف صدقة"

(1)

، فأي معروف يقدمه مسلم لأخيه المسلم كي يساعده في حمل شيء أو وضعه أو في إرشاده إلى طريق، أو رفع عنه ما يتأذى به، وأمثال ذلك كثيرة جدًّا، فإن ذلك يعتبر من المعروف، وكل معروف صدقة.

* قوله: (لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ).

إما أن يكون صلى منفردًا، وإما أن يكون صلى في جماعة.

والمراد من المؤلف هنا أن من دخل المسجد لا يخلو من أمرين:

إما أن يكون صلى منفردًا خارج المسجد الذي دخله.

وإما أن يكون صلى في جماعة خارج هذا المسجد.

والذي صلى في جماعة كما يكون صلى في ساحة في صحراء، أو في سوق مع مجموعة من الناس في مكان مُعَد للصلاة، أو حتى في مسجد آخر؛ فأدرك ذلك.

وهل هناك فرق بين مَن يصلي هذه الصلاة منفردًا، ثم يدخل مسجدًا من المساجد فيجد الناس يصلون، فيصلي معهم، وبين مَن يصلي في جماعة على أن هذا أدرك فضيلة الجماعة، فلماذا يكرر الصلاة، وذاك صلى منفردًا فيصلي مع الجماعة ليدرك فضيلة الجماعة.

وهناك خلاف أيضًا بين العلماء في أيِّ الصلاتين، فمن فعل ذلك فريضة أهي الأولى وتكون الثانية هي النافلة أو العكس أو أكملهما. . .، هذه أيضًا تكلم العلماء عنها

(2)

، وإن كنا نرجح أنَّ

(1)

أخرجه البخاري (6021) عن جابر، ومسلم (1005) عن أبي مالك الأشجعي.

(2)

الصلاة المعادة تكون نافلة، وهذا قول الحنفية والحنابلة، وهو قول الشافعي في الجديد؛ لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد، وقال المالكية: يفوض في الثانية أمره إلى اللَّه تعالى في قبول أي من الصلاتين لفرضه، وهو قول الشافعي في القديم.

مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية مع فتح القدير" للكمال ابن الهمام (1/ 473) حيث =

ص: 1696

الأولى هي الفريضة، وأن الثانية هي النافلة، كما جاء في عدة أحاديث، ومنها:

حديث أبي ذر رضي الله عنه: "إذا دخل الرجل، ووجد الناس يصلون"

(1)

.

هذا كما قال المؤلف هذا لا يخلو من حالتين:

إما أن يكون قد أدى تلك الصلاة منفردًا، أي: وحده.

وإما أن يكون أداها في جماعة.

= قال: "يدخل مع القوم والذي يصلي معهم نافلة؛ لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 84) حيث قال: "إذا أعاد الصلاة فالأولى فرضه. روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال الثوري. . . والشافعي في الجديد. . . ولنا قوله في الحديث الصحيح: "تكن لكما نافلة"".

مذهب الشافعية، يُنظر:"المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 180) حمث قال: "وإذا صلى وأعاد مع الجماعة فالفرض هو الأول في قوله الجديد للخبر ولأنه أسقط الفرض بالأولى فوجب أن تكون الثانية نفلًا". وقال في القديم: "يحتسب اللَّه له بأيتهما شاء وليس بشيء".

مذهب المالكية: "حاشية الدسوقي"(1/ 320) حيث قال: "ثم إن أدرك جماعة أعاد معهم إن شاء وكانت الصلاة مما تعاد، هذا هو المنصوص في المسألة في العتبية وغيرها ولم يذكروا في هذه أمره لا بقطع ولا بانتقال إلى نفل وهو حكم ظاهر لأنه شرع في فرض فلا نبطله لصلاة الجماعة وهي سنة ألا ترى أن من استقل قائمًا ناسيًا للجلسة الوسطى لا يرجع إلى الجلوس لأن قيامه فرض والجلوس سنة وإنما يخير بين القطع والانتقال إلى نفل من دخل مع الإمام في صلاة معادة إذا كان صلاها وحده ثم وجد الإمام جالسًا فدخل معه معيدًا لفضل الجماعة فظهر بسلام الإمام أنه في التشهد الأخير وإنما التبست المسألتان على من لا يعرف فأجرى التخيير في غير محله".

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، والشارح يذكره بالمعنى، وحديث أبي ذر أخرجه مسلم (648/ 238)، قال: قال لى رسول اللَّه: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ -أو- يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة" ففيه أن الفريضة أولًا ثم النافلة.

ص: 1697

فهل تختلف الحال بين الأمرين، وهل هناك فرق في إعادة الصلاة بين مَن صلاها منفردًا وبين مَن صلَّاها في جماعة؟

هذه مسائل يختلف فيها العلماء.

ثم هل هناك فرق أيضًا بين إعادة الصلاة، وبين إعادة صلاة أُخرى؟ لأن هذه الصلاة المعادة -كما قلنا- على الرأي الصحيح تكون نافلة، ومعلوم أن مِن الصلوات ما نُهِيَ عن الصلاة بعده، وهو التنفل بعده، كصلاة الفجر، وصلاة العصر، حيث لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تشرق الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس

(1)

، لكن هناك خلاف بين العلماء حول صلاة النافلة بعد العصر؛ لحديث عائشة، فكما نرى هناك صلوات يمنع التنفل بعدها.

كذلك صلاة المغرب كما هو معلوم تؤدى وترًا، فهل للإنسان إذا دخل فوجد الناس يصلون، فيعيدها معهم لأنه إذا أعادها كأنه صلى وترين في ليلة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"لا وتران في ليلة"

(2)

، أو أنه يشفعها برابعة كما هو رأي لبعض العلماء، بمعنى إذا جلس الإمام وسلم، ثم يقوم فيأتي برابعة، أو إذا جلس الإمام في التشهد الأول فيبقى حتى ينتهي الإمام ثم يسلم، أيضًا يقتصر على اثنتين؛ هذا كله محل كلَام للعلماء.

وأيضًا من دخل المسجد ووجد الناس يصلون، وقد صلَّاها منفردًا أو في جماعة، لا شك أن العلماء الذين اختلفت أقوالهم في هذه المسألة ليست من المسائل الكبرى، لكن فيها عدة آراء وأقوال متنوعة أشار المؤلف إليها.

(1)

أخرجه البخاري (581) ومسلم (826) عن ابن عباس، قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر، "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب".

(2)

أخرجه أبو داود (1439) وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7567).

ص: 1698

* قوله: (إمَّا أَنْ يَكُونَ صَلَّى مُنْفَرِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ).

هناك قسمان:

القسم الأول: رجل صلى الصلاة منفردًا، ثم دخل فوجد الناس يصلون.

القسم الثاني: مَن صلى في جماعة ودخل.

هل هناك فرق بين أن يكون الذي صلى أيضًا في جماعة أو منفردًا يقول هذه الصلاة التي أدركها في المسجد من الصلوات التي نهي عن الصلوات التي بعدها أو لا؟

أيضًا هذه المسألة مهمة، وربما المؤلف لم يعرض لها؛ ولذلك هناك أثر عن عبد اللَّه بن عمر:"أنه جاء كما ذَكَر عنه مجاهد، فنظر في المسجد فوجد الناس يصلون، فوقف حتى انتهوا"

(1)

.

وفي بعض الروايات: "إنه جلس على البلاط حتى فرغ الناس من الصلاة، ولما قيل له في ذلك. قال: إني قد صليت هذه الصلاة بعضها في البيت"

(2)

، ثم ذكر حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي أورده المؤلف في الكتاب، "لا تصلي صلاةً في يومٍ مرَّتين".

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 78) عن مجاهد، قال:"خرجت مع ابن عمر من دار عبد اللَّه بن خالد حتى إذا نظرنا إلى باب المسجد إذا الناس في صلاة العصر، فلم يزل واقفًا حتى صلى الناس، وقال: إني صليت في البيت".

(2)

أخرجه أبو داود (579) وغيره، عن سليمان بن يسار يعني مولى ميمونة، قال: أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي معهم، قال: قد صليت، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" وقال الألباني في "صحيح أبي داود الأم"(592): إسناده حسن صحيح.

ص: 1699

* قوله: (فَإِنْ كَانَ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَقَالَ قَوْمٌ: يُعِيدُ مَعَهُمْ كُلَّ الصَّلَوَاتِ إِلَّا المَغْرِبَ فَقَطْ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ مَالِكٌ وَأَصحَابُهُ).

هذا قول مالك

(1)

، ومعه جماعة غيره

(2)

.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "يُعِيدُ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا إِلَّا المَغْرِبَ وَالعَصْرَ").

أما الذي أعرف عن الحنفية

(3)

: أنه لا يعيد إلا الظهر والعشاء، أما البقية فلا، المغرب لحديث:"لا وتران في ليلة"، هذه رواية مذهب أبي حنيفة.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 321) حيث قال: " (غير مغرب) وأما المغرب فيحرم إعادتها لأنها تصير مع الأخرى شفعًا ولما يلزم من النفل بثلاث ولا نظير له في الشرع (كعشاء بعد وتر) فلا يعاد أي يمنع لأنه إن أعاد الوتر لزم مخالفة قوله عليه السلام: "لا وتران في ليلة"".

(2)

وهو مذهب الحنفية والحنابلة أيضًا.

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 287) حيث قال: "وأما في المغرب فإن صلى ركعة قطعها؛ لأنه لو ضم إليها أخرى لأدى الأكثر فلا يمكنه القطع. ولو قطع كان به متنفلًا بركعتين قبل المغرب، وهو منهي عنه وإن قيد الثالثة بالسجدة مضى فيها لما قلنا، ولا يدخل مع الإمام؛ لأنه لا يخلو إما أن يقتصر على الثلاث كما يفعله الإمام، والتنفل بالثلاث غير مشروع، وإما أن يصلي أربعًا فيصير مخالفًا لإمامه". وانظر: "الدر المختار" للحصكفي و"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 55).

ويُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 458) حيث قال: " (وإن صلى) فرضه (ثم أقيمت الصلاة وهو في المسجد) استحب. . . (إلا المغرب) فلا تسن إعادتها؛ لأن المعادة تطوع وهو لا يكون بوتر ولو كان صلى وحده؛ ذكر القاضي وغيره".

ويُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 157) حيث قال: "وقال مالك وأصحابه: يعيد الصلوات كلها من صلاها وحده إلا المغرب وحدها، وهو قول أبي موسى الأشعري والنعمان بن مقرن وأبي مجلز وطائفة".

(3)

يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (1/ 473) حيث قال: "وبعد الإتمام لا يشرع في صلاة الإمام لكراهة التنفل بعد الفجر، وكذا بعد العصر لما قلنا، وكذا بعد المغرب في ظاهر الرواية لأن التنفل بالثلاث مكروه، وفي جعلها أربعًا مخالفة لإمامه". وانظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (1/ 297).

ص: 1700

* قوله: (وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: "إِلَّا المَغْرِبَ وَالصُّبْحَ"

(1)

، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ:"إِلَّا العَصْرَ وَالفَجْرَ")

(2)

.

المعروف أنَّ هذا قول نافع؛ لأن الأوزاعي أعلى رتبة من الإمام مالك، وأظنُّ أن ذلك وَهم من المؤلف، وأن هذا ليس قول الأوزاعي، وإنما قول نافع مِن التابعين، أما لو كان قول الأوزاعي لكان موافقًا للإمام مالك تمامًا؛ لأنه يعيد جميع الصلوات إلا المغرب.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُعِيدُ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا")

(3)

.

قال الشافعيُّ وأحمدُ

(4)

: يعيد جميع الصلوات، لكن المذهب الحنبلي فيه روايةٌ على أن يشفعها برابعة، ولكنَّ المذهبين يلتقيان؛ لأنه يعيد جميع الصلوات، وهذا خلاف في جزئية، وأيضًا في مذهب الشافعي: أنه يشفعها برابعة.

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 104) حيث قال: "وحكى الوليد بن يزيد عن الأوزاعي أنه قال: تعاد كل صلاة إلا الصبح والمغرب". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 156 - 157).

(2)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 104) حيث قال: "قال أبو ثور: تعاد الصلوات كلها ولا تعاد الفجر والعصر إلا أن يكون في المسجد وتقام الصلاة فلا يخرج حتى يصليها".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 471) حيث قال: " (ويسن للمصلي) صلاة مكتوبة مؤداة (وحده، وكذا جماعة في الأصح إعادتها) مرة فقط (مع جماعة يدركها) في الوقت، ولو كان الوقت وقت كراهة أو كان إمام الثانية مفضولًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "صلى الصبح فرأى رجلين لم يصليا معه، فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ " قالا: صلينا في رحالنا. فقال: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلياها معهم فإنها لكما نافلة" وقال: وقد جاء بعد صلاته العصر رجل إلى المسجد فقال: "من يتصدق على هذا فيصلي معه فصلى معه رجل"".

(4)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 458) حيث قال: " (وإن صلى) فرضه (ثم أقيمت الصلاة وهو في المسجد) استحب إعادتها ولو كان صلى أولًا في جماعة أو كان وقت نهي، لما تقدم في الباب قبله (أو جاء) أي المسجد (غير وقت نهي ولم يقصد) بمجيئه المسجد (الإعادة وأقيمت) الصلاة (استحب إعادتها) مع إمام الحي وغيره لما تقدم ولئلا يتوهم رغبته عنه".

ص: 1701

إذًا، رأينا من العلماء أنه يرى إعادة الصلوات كلها، وهذا الرأي هو الأكثر، ومنهم الشافعية والحنابلة، بعموم الأدلة التي ستأتي.

ومنهم مَن يرى أن جميع الصلوات تُعاد إلا المغرب.

ومنهم أيضًا مَن يضم إلى جانب المغرب العصر والفجر.

ومنهم من يقول: لا يعاد إلا الفجر، لأنهم يقولون: ثبت نصًّا أنه لا صلاة بعد صلاة الصبح، أما العصر ففيه خلاف كما في الحديث، عندما أرسل عبد اللَّه بن عباس وعبد الرحمن بن أزهر مولاه كريبًا ليسأل عائشة عن الركعتين بعد العصر، أن الرسول نهى عن ذلك، وأنها ذكرت أنه كان يصلي في حديثها المعروف "ركعتان ما تركهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي قَط"

(1)

، فذكرت الركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر.

* قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى إِيجَابِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالجُمْلَةِ لِحَدِيثِ بِشْرِ بْنِ مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ)

(2)

.

اتفقوا بالجملة على إعادة الصلاة عليه، وليس تفصيلًا، لأنهم من حيث الجملة اتفقوا على إعادة الصلاة، لكن عند التفصيل بعضهم يقول يعيد الكل، وبعضهم يقول يعيد البعض؛ على اختلافٍ بينهم في البعض الذي يُعاد.

لحديث بسر بن محجن، فهذا حدث مع أبي بسر الذي هو محجن، فقد كان جالسًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأُذِّن للصلاة، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فصلَّى بأصحابه، ومحجن جالس في مكانه، فلما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لاحظ أن محجن لم يتغير موضعه، فأنكر عليه ذلك، وقال:"ما منعك أن تصلي معنا، ألست برجل مسلم"

(3)

، وهذه مسألة مهمة، فالرسول -عليه

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

تقدَّم تفصيل مذاهب العلماء في هذه المسألة.

(3)

أخرجه النسائي (857) وغيره، عن رجل من بني الديل يقال له بسر بن محجن، عن محجن، أنه كان في مجلس مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، =

ص: 1702

الصلاة والسلام- أنكر عليه ذلك الصَّنيع بقوله: "ألست برجل مسلم".

ولهذا، نجد مِن العُلماء الذين منَعُوا إعادة الصلاة في المسجد، أو تكررها، بمعنى أنها إذا أُقِيمَت جماعة ثُم جماعة أُخرى، فالذين يقولون لا تُكرر الجماعة يعللون بأن ذلك قد يؤدي إلى الخلاف، فإذا كان هذا المسجد له إمام راتب، ثم جاء آخر فصلَّى بآخرين؛ فهذا قد يؤدي إلى الاختلاف والعداوة، وتشتيت الكلمة، وإنما صلاة الجماعة قصد بها توحيد الكلمة، وأيضًا يضاف إلى ذلك أن يتساهل الناس في الصلاة مع الإمام، لأنه يقول: إذا فاتت سأجد جماعة أخرى أصلي معهم.

لماذا قال بالجملة من ناحية أُخرى؛ لأن هذا الحديث هو قضيَّة لفردٍ واحدٍ، فمِحْجَن جلس في مكانه ولم يُصَل، ثم أنكر عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرد قائلًا في الحديث:"صليت لأهلي"، فقال رسول اللَّه:"إذا جِئْتَ فصلِّ مع الناس"، فهذه قضية لشخص، والمؤلف يقول: وإن كانت واقعة لشخص، لكن تعم غيره.

* قوله: ("أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَ دَخَلَ المَسْجِدَ وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهُ: "مَا لَكَ لَمْ تُصَلِّ مَعَ النَّاسِ، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ " فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ"

(1)

).

من هذا الحديث تتَّضِح الدلالة بأن مَن صلى فدخل مسجدًا فوجد الناس يصلون فإنه يصلي معهم، هل العبرة هنا بعموم اللفظ أم بخصوص

= ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تصلي؟ ألست برجل مسلم؟ " قال: بلى. ولكني كنت قد صليت في أهلي. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(467).

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1703

السبب

(1)

؟ وسيأتي حديث آخر يتعلَّق بمن صلى في جماعة.

* قوله: (فَاخْتَلَفَ النَّاسُ لِاحْتِمَالِ تَخْصِيصِ هَذَا العُمُومِ بِالقِيَاسِ أَوْ بِالدَّلِيلِ).

لنتأمل، المؤلف هنا يريد أن يقول في هذا الحديث إنه وقع في قضية رجل، ولكنه عامٌّ، فإذا جئت فصلِّ ولا تقل إني صليت.

إذًا، هذا صلى خارج المسجد، فطلب منه أن يعيد الصلاة، فالحاصل أنه يريد القول في هذا العموم، فهل نعارضه بالقياس أو لا؟ هذا الذي يريد أن يوضحه، رحمه اللَّه تعالى.

* قوله: (فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ أَوْجَبَ إِعَادَةَ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ)

(2)

.

هل المؤلف يوجب عليه إعادة الصلوات؟ ينبغي أن نستبدلها؛ يحب إعادة الصلاة، وهذا القول في مذهب الحنابلة، لكنه ليس قولًا قويًّا بالنسبة إلى المذهب، لكن قول العلماء الصحيح المعروف أنه يستحب له إعادة، ولا يقال تجب عليه الإعادة، ومن يقول تجب عليهم الإعادة؛ فإنَّ وجهتهم أنَّ الثانية هي الفرض، والأولى هي النافلة، والأدلة تدل على عكس ذلك.

* قوله: (وَأَمَّا مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صَلَاةَ المَغْرِبِ فَقَطْ؛ فَإِنَّهُ خَصَّصَ العُمُومَ

(3)

بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَهُوَ مَالِكٌ رحمه الله.

(1)

يُنظر: "نهاية السول" للإسنوي (ص 218 - 219) حيث قال: "فهل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ وهذه هي مسألة الكتاب أصحهما عن ابن برهان، والآمدي والإمام وأتباعهما كالمصنف وابن الحاجب أن العبرة بعموم اللفظ؛ ولهذا قال: خصوص السبب لا يخصصه أي: لا يخصص العام الوارد على ذلك السبب بل يكون باقيًا على مدلوله من. . .، وذهب مالك وأبو ثور والمزني إلى أن العبرة بخصوص السبب، ونقله بعض الشارحين للمحصول عن القفال والدقاق أيضًا".

(2)

تقدَّم مذهبهم.

(3)

أكثر المالكية على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما حكى ذلك =

ص: 1704

قياس الشبه

(1)

هو قياس ضعيف، ولا ينبغي أن يخصص به العموم، لكن المؤلف اعتبر أن هذا قياس شبه، وقد يكون وجد هذا في مذهب المالكية، لكن مذهب المالكية يحتجون بحديث:"لا وتران في ليلة"

(2)

.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ صَلَاةَ المَغْرِبِ هِيَ وَتْرٌ، فَلَوْ أُعِيدَتْ لَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الشَّفْعِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوَتْرٍ).

صلاة المغرب وتر، فلو أُعِيدَت أشبهت صلاة الشفع، لكن هذا يبطله حقيقة وجوب سلام، كما ذكر الحنفية، وهذا توجيهٌ سليمٌ للحنَفِيَّة، حيث يصلي المصلي المغرب ثم يسلم، ثم يقوم فيصلي، إنما السلام فصل بينهما؛ فهذا يبعد ما يقوله المالكية.

* قوله: (لِأَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ سِتَّ رَكَعَاتٍ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ تَنْتَقِلُ مِنْ جِنْسِهَا إِلَى جِنْسِ صَلَاةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لَهَا).

حُولت من الوتر إلى الشفع، بعد أن كانت وترًا أصبحت شفعًا؛ فهذا هو قياس الشبه، وهو قياس ضعيف؛ لأن حجته ضعيفة.

= القرافي في "شرح تنقيح الفصول"(ص 216) حيث قال: "وليس من مخصصات العموم سببه، بل يحمل عندنا على عمومه إذا كان مستقلًّا لعدم المنافاة خلافًا للشافعي والمزني، هان كان السبب يندرج في العموم أولى من غيره، وعلى ذلك أكثر أصحابنا، وعن مالك فيه روايتان".

(1)

قياس الشبه ويسمى: الخفي هو: أن يتردد فرع بين أصلين له شبه بكل واحد منهما، وشبه بأحدهما أكثر فيرد إلى أكثرهما شبهًا به. انظر:"رسالة في أصول الفقه" للعكبري (ص 71).

وهذا النوع مختلف فيه؛ يُنظر: "الإحكام" لابن حزم (7/ 200) قال: "ثم اختلفوا في هذا النوع من القياس فقالوا: هو على الصفات الموجودة في العلة وذلك مثل أن يكون في الشيء خمسة أوصاف من التحليل وأربعة من التحريم فيغلب الذي فيه خمسة أوصاف على الذي فيه أربعة أوصاف. وقال آخرون منهم: وهو على الصور كالعبد يشبه البهائم في أنه سلعة متملكة ويشبه الأحرار في الصور الآدمية وأنه مأمور منهي بالشريعة". وانظر: "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى (4/ 1325)، و"اللمع في أصول الفقه" للشيرازي (ص 100).

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1705

* قوله: (وَهَذَا القِيَاسُ فِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ الأَوْتَارِ، وَالتَّمَسُّكَ بِالعُمُومِ أَولى مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ القِيَاسِ، وَأَقْوَى مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الكُوفِيُّونَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا أَعَادَهَا يَكُونُ قَدْ أَوْتَرَ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: "لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ").

إن العلماء الآخرين الذين قاموا بإعادتها، قالوا:"لا وتران في ليلة"، هذا في حق من يعيد الفرض مكرَّرًا.

* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

فَإِنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ تَكُونُ نَفْلًا"، فَإِنْ أَعَادَ العَصْرَ يَكُونُ قَدْ تَنَفَّلَ بَعْدَ العَصْرِ، وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَخَصَّصَ العَصْرَ بِهَذَا القِيَاسِ، وَالمَغْرِبَ بِأَنَّهَا وَتْرٌ، وَالوَتْرُ لَا يُعَادُ).

قد ورد حديث "ثلاث ساعات نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حتى تطلع الشمس بازغة -أي: حتى ترتفع-، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تميل للغروب؛ أي: حتى تغرب"

(2)

، هذا في أوقات النهي عمومًا.

واستثنى العلماء من ذلك: قضاء الفرائض، وصلاة الجنازة على خلاف فيها.

لكن هناك وقتان من الأوقات الخمسة: من بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ومن بعد صلاة العصر حتى الغروب.

إذًا، هذان الوقتان ورد فيهما عدة أحاديث في "الصحيحين" وغيرهما، ومنها:

(1)

تقدَّم.

(2)

أخرجه مسلم (831) عن عقبة بن عامر الجهني، قال:"ثلاث ساعات كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: "حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب".

ص: 1706

أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس"

(1)

.

إذًا، هذا نهي؛ ومَن يعيد الصلاة فإنها تكون نافلة، وكأنه تنفَّل بعد ذلك، وهذه مسألة فيها خلاف، فهل هذا مستثنى لورود نصوص فيها، ومن يقول بجواز ذلك؟

* قوله: (وَهَذَا قِيَاسٌ جَيِّدٌ إِنْ سَلَّمَ لَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ الأَخِيرَةَ لَهُمْ نَفْلٌ).

يسلِّم الشافعي بهذا؛ لأن مذهب الشافعي الجديد يرى هذا، لكن الشافعية يعارضون من جانب آخر، ومثلهم الحنابلة، وسلموهم بأن الثانية هي النفل، والأولى هي الفريضة، لكنهم يعارضون من جانب آخر، ويقولون بعموم الأدلة لا تفرق بين المغرب، "لا وتران في ليلة"، في هذه الحالة.

تلك قضايا مُستثناة "من دخل المسجد"، وردت أحاديث خاصة تخصص هذا الحديث.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ العَصْرِ وَالصُّبْحِ فِي ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ لَمْ تَخْتَلِفِ الآثَارُ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَاخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ العَصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ)

(2)

.

تفريق بين صلاة النافلة والتطوع بعد صلاة الصبح، فالاختلاف الذي أشرنا إليه في حديث عائشة "ركعتان ما تركهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي

(1)

أخرجه البخاري (586) واللفظ له، ومسلم (827) عن أبي سعيد قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس".

(2)

تقدَّم.

ص: 1707

قَط. . ."

(1)

، فذكرت الركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر، لكن هذا أشكل على عبد اللَّه بن عباس، وعلى نسوة بني مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر، فانتدبوا إلى هذه المهمة كريبًا مولى ابن عباس وأرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها يُقرئها السلام ويسألها، فذكر لها عن هؤلاء الصحابة وأنهم سألوا عن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة بعد العصر، وهي أيضًا تقول بها، فعائشة لم تجب ذاك السائل، وإنما أحالته إلى أم سلمة رضي الله عنها، فذكرت له القصة المعروفة، أنها "رأت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بعد العصر، فاستغربت لأنه ينهى عن ذلك، فقال: أتاني وفد من بني عبد القيس لإسلام قومه، فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر""

(2)

.

فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يصلي تطوعًا بعد العصر، ولكنه انشغل بأمر مهم، وهو مجيء الوفد عليه ليعلنوا إسلام قومهم، فشُغل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واهتم بأمرهم، فلم يصل الركعتين بعد الظهر، فقضاهما بعد العصر.

وهذه مسألة فيها خلاف كثير، وربما يعود إليها المؤلف؛ لأن مِن العلماء مَن يرى أن الصلاة بعد العصر خاصة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في ذلك حديث.

(1)

أخرجه النسائي (577) عن عائشة قالت: "صلاتان ما تركهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي سرًّا ولا علانية: ركعتان قبل الفجر، وركعتان بعد العصر" وصححه الألباني في "الإرواء"(2/ 188 - 189).

(2)

أخرجه البخاري (1233) ومسلم (834) أن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم، أرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنا أخبرنا عنك أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها،. . .، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنجه فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول اللَّه، سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده، فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال:"يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان".

ص: 1708

* قوله: (وَأَمَّا إِذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ فَهَلْ يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى؟ فَأَكثَرُ الفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ، مِنْهُمْ مَالِكٌ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ)

(2)

.

هذه مسألة مختلفة؛ لأنهم يفرقون، فإن مَن صلَّى منفردًا وفاتته صلاة الجماعة فكأنه إذا عادها مدركٌ فضل الجماعة، وإن كانت الأخيرة نافلة بالنسبة له، لكنه بالنسبة لمن صلَّاها في جماعة؛ فهذا فيه تكرار لما هو بالنسبة إلى الإمامين الشافعي وأحمد، فقولهم في هذه المسألة متَّفِق، والشافعية والحنابلة لا يفرقون بين مَن صلى منفردًا أو في جماعة ودخل المسجد، فلا يرون فرقًا في ذلك.

* قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يُعِيدُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ: أَحْمَدُ

(3)

،

(1)

يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 268)، وفيه قال:"إذا صلى ؤي جماعة لم يعدها في جماعة أُخرى خلافًا للشافعي؛ لأن إحدى الجماعتين لا فضيلة لها على الأخرى. ولأنه لو استحب إعادتها لم يكن لذلك حد يقف عنده". وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (2/ 84).

(2)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 66)، حيث قال:"قوله (ولا يصلي بعد صلاة مثلها) هذا لفظ الحديث كما في كتب الفقه وجعله في "فتح القدير وغاية البيان" أثرًا عن عمر رضي الله عنه، وقال عبد اللَّه بن مسعود: لا يصلي على أثر صلاة مثلها. . . قال قاضي خان في "شرح الجامع الصغير": ولو حمل على النهي عن تكرار الجماعة في المسجد أو على النهي عن قضاء الفرائض مخافة الخلل في المؤدى كان حسنًا فإن ذلك مكروه، انتهى. واستدل في "فتح القدير" للأول بما في أبي داود عن سليمان بن يسار قال: أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون قلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت؛ إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين"".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 452) حيث قال: " (و) تجوز (إعادة جماعة إذا أقيمت وهو في المسجد ولو مع غير إمام الحي وسواء كان صلى جماعة أو وحده، في كل وقت منها) أي من أوقات النهي لما روى يزيد بن الأسود قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا: يا رسول اللَّه قد صلينا في رحالنا فقال: "لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكم نافلة" وهذا نص في الفجر، وبقية الأوقات مثله، ولأنه متى لم يعد لحقته تهمة في حق الإمام".

ص: 1709

وَدَاوُدُ

(1)

، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ)

(2)

.

وكذلك الإمام الشافعي

(3)

، وهذا هو الصحيح في مذهبهم.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ مَفْهُومِ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:"لَا تُصَلِّ صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ"

(4)

).

هذا هو حديث عبد اللَّه بن عمر، وذكرنا قصةً عن عبد اللَّه بن عُمَر أنه أقيمت عنده الصلاة فنظر في المسجد ووجدهم يصلون، وهذه قضية نقلها عنه مجاهد

(5)

.

إذًا، هذا أمر موقوف على عبد اللَّه بن عمر، ثم لما رأى أنه لم يُصلِّ مع الناس، قال: إني قد صليت، وسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تصل صلاة في يوم مرتين".

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 156) حيث قال: "وقال. . وداود بن علي: جائز لمن صلى في جماعة ووجد جماعة أُخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء لأنها نافلة وسنة".

(2)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 24) حيث قال: "وأما إعادة من صلى إذا وجد جماعة تصلي تلك الصلاة، فإن ذلك مستحب -مكروه تركه- في كل صلاة، سواء كان صلى منفردًا؛ لعذر أو في جماعة، وليصلها ولو مرات كلما وجد جماعة تصليها".

(3)

في الأصح عندهم: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 471) حيث قال: " (ويسن للمصلي) صلاة مكتوبة مؤداة (وحده، وكذا جماعة في الأصح إعادتها) مرة فقط (مع جماعة يدركها) في الوقت، ولو كان الوقت وقت كراهة أو كان إمام الثانية مفضولًا".

(4)

أخرج أبو داود (579) عن سليمان بن يسار يعني مولى ميمونة، قال: أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي معهم، قال: قد صليت، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" وحسنه الألباني في "المشكاة"(1157).

(5)

سبق ذكره.

ص: 1710

وهل معنى هذا أن الإنسان لا يعيدها مع الجماعة، وأن القصد أنه لا ينبغي للإنسان أن يصلي الفرض ثم يكرره؟ في هذا أيضًا أقاويل لبعض العلماء.

* قوله: (وَرُوِيَ عَنْهُ "أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِينَ صَلَّوْا فِى جَمَاعَةٍ أَنْ يُعِيدُوا مَعَ الجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ").

هذه القصة حصلت مع الرجُلين اللذَيْن كانا في مسجد الخيف، وهذا كان في صلاة الصبح، وفي هذه القصة حُجة للشافعية والحنابلة الذين يقولون: لا فرق بين صلاة وصلاة؛ لأن هذا حدث في صلاة الصبح، وإذا كان في صلاة الصبح فالعصر أولى؛ لأن العصر فيه خلاف، أما التطوع والفجر فليس فيهم خلاف في منع ذلك.

بمعنى أن العلماء متفقون على المنع بعد التطوع، وبعد صلاة الصبح، وقولهم ضعيف في هذه المسألة، أما العصر ففيه خلاف مشهور معروف، وأظن أن المؤلف سيأتي إليه، لأنه من المسائل المشهورة.

إذن في قصة الرجلين اللذَيْنِ جاءا إلى مسجد الخيف في مِنًى وجلسا في مؤخرة المسجد، فلما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن معه، نظر فوجدهم في مؤخرة المسجد، فقال:"عليَّ بهما" فجاؤوا بهما ترتعد مفاصلهما، يظنون أنهما ارتكبا خطأ، فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ "، قالوا: صلينا في رحالنا، فأرشدهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يفعلانه، فقال:"إذا صليتم في رحالكم وإذا أتيتم مسجدًا فيه جماعة فصلوا مع الجماعة، فإنها تكون لكم نافلة"

(1)

، فهذا دليل واضح، لأنه أنكر عليهم هذا الصنيع، وأخبرهم بأن يُعيدا الصلاة مع الجماعة، وكان ذلك في صلاة الصبح؛ فتبين من ذلك أن صلاة الصبح تُعاد، وإذا أعيدت صلاة الصبح؛ فإن العصر أيضًا يُعاد من باب أولى.

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1711

أما صلاة المغرب فقد نُقِل عن حذيفة رضي الله عنه أنه أعاد صلاة الظهر، والعصر، والمغرب

(1)

، وورد ذلك أيضًا عن غيره من الصحابة

(2)

.

* قوله: (وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ بُسْرٍ يُوجِبُ الإِعَادَةَ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ إِذَا جَاءَ المَسْجِدَ).

حديث بسر عام، ولا يفرق بين مَن صلَّى منفردًا أو في جماعة؛ فالتخصيص يحتاج إلى دليل، نعَمْ الرجل كان صلى وحده، لما وجده في مؤخرة المسجد، وقال:"صليت في أهلي"

(3)

، ويحتمل أيضًا أن يكون صلى منفردًا، لكن لو سلمنا بذلك، على قول المؤلف إنه عام؛ إذًا هذا إذا كان يخص منفردًا دون الجماعة لبينه؛ لأن هذا رجل أخطأ الحكم، والرسول عليه الصلاة والسلام يتكلم عن ذلك في حضور ومشهد من الصحابة؛ فيُعَد هذا بيانًا، واللَّه سبحانه وتعالى يقول له:" {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ".

والقاعدة الأصولية المعروفة: "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"

(4)

.

إذًا، هذا بيان لا يجوز تأخيره، ولو كان هناك فرق بين مَن صلَّى

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 76)(6657) عن صلة، عن حذيفة، "أنه صلى الظهر مرتين، والعصر مرتين، والمغرب مرتين، وشفع في المغرب بركعة".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 76)(6659) عن علي، قال:"يشفع بركعة" يعني إذا أعاد المغرب.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 451) حيث قال: "و (لا يؤخر) أي لا يجوز تأخير البيان (عن وقت الحاجة) وصورته: أن يقول: صلوا غدًا، ثم لا يبين لهم في غد كيف يصلون ونحو ذلك. لأنه تكليف بما لا يطاق. وجوَّزه من أجاز تكليف المحال. وهذا هو الراجح عند العلماء، خلافًا للمعتزلة، لأن العلة في عدم وقوع التأخير عن وقت العمل؛ أن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع، فالتكليف بذلك تكليف بما لا يطاق، فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة". وانظر "شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص 282)، "العدة في أصول الفقه" لابن الفراء (3/ 724).

ص: 1712

منفردًا ومَن صلَّى في جماعة وأدرك الجماعة؛ لبيَّنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غاية البيان؛ لأن الناس بحاجة إليه، كما بيَّن للأعرابي عندما أخطأ في صلاته حين لم يطمئن

(1)

، وبيَّن للرجل الذي صلَّى خلف الصف، وقال:"استقبل صلاتك لا صلاة لمن خلف الصف"

(2)

، بل بقي الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظره حتى فرغ من صلاته، وقال له:"استقبل صلاتك، لا صلاة لمن خلف الصف"؛ لأن ذلك حكم، فانتظره حتى انتهى.

فالرسول عليه الصلاة والسلام في كل موضع يرى البيان فيه متعين، فيبينه، لأن اللَّه سبحانه وتعالى أرسله ليبين للناس ما أنزل إليهم ليبيِّن الأحكام، ويوضح ما يحتاجون إليه في أمور آخرتهم ودنياهم، ولذلك كان يوضح لهم حتى الأمور اليسيرة.

* قوله: (فَإِنَّ قُوَّتَهُ قُوَّةُ العُمُومِ، وَالأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ العَامُّ عَلَى سَبَبٍ خَاصِّ لَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ).

القاعدة الأصولية المعروفة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"

(3)

، وهي قاعدة أصولية، وتصلح أيضًا أن تكون قاعدةً فقهية

(4)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه ابن ماجه (1003) عن علي بن شيبان وكان من الوفد، قال: خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، وصلينا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاة أُخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلًا فردًا يصلي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم حين انصرف قال: "استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف" وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(2199).

(3)

تقدَّم الكلام عليها.

(4)

يُنظر: "الفروق" للقرافي (1/ 2) حيث قال: "فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد اللَّه منارها شرفًا وعلوًّا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان: أحدهما المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو: الأمر للوحوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين. والقسم الثاني: قواعد كلية =

ص: 1713

* قوله: (وَصَلَاةُ مُعَاذٍ مَعَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

صلاة معاذ من أوضح الأدلة على ذلك، وَيبني الفقهاء عليها مسألةً مشهورة، وهي "اقتداء المفترض بالمتنفل"

(1)

، فإن معاذًا رضي الله عنه كان يصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مسجده، ثم يعوفى إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة، وهي صلاة العشاء

(2)

، وكان يدرك بها فضيلة الصلاة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأيضًا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم يعود فيصلي بقومه تلك الصلاة، فينوي النفل وهم ينوون الفرض؛ لأنه لا يمكن أن ينوي الفرض لأنه لا يجوز للإنسان أن يصلي الفريضة مرتين.

* قوله: (ثُمَّ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ؛ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي الجَمَاعَةِ، فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الآثَارِ مَذْهَبَ الجَمْعِ وَمَذْهَبَ التَّرْجِيحِ).

تتعدد المسالك التي يسلكها الفقهاء عندما تتعارض الأدلة، فهناك:

مسلك النسخ، والنسخ يحتاج معرفة المتقدم مِن المتأخر

(3)

.

= فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحِكَمِه، لكل قاعدة عن الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع". وانظر:"الوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية"(ص 20 - 21).

(1)

تقدَّم الكلام على هذه المسألة.

(2)

أخرجه البخاري (701)، ومسلم (465) عن جابر بن عبد اللَّه، قال: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع، فيؤم قومه، فصلى العشاء، فقرأ بالبقرة، فانصرف الرجل، فكأن معاذًا تناول منه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"فتان، فتان، فتان" ثلاث مرار -أو قال: "فاتنًا، فاتنًا، فاتنًا"- وأمره بسورتين من أوسط المفصل.

(3)

قال ابن حزم في "الإحكام"(2/ 21): "إذا تعارض الحديثان، أو الآيتان، أو الآية والحديث، فيما يَظنُّ من لا يَعْلَم، ففرضٌ على كلِّ مسلمٍ استعمالُ كلِّ ذلك، لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض، ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله، ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أُخرى مثلها، وكلٌّ من عند اللَّه عز وجل، وكلٌّ =

ص: 1714

وهناك مسلك الترجيح، والترجيح ينبغي أن يُبنى على صحة الدليل، وأيضًا عدم تطرُّق الاحتمال إليه.

وهناك مذهب الجمع، والجمع بلا شك هو أولى هذه المرتبات؛ لأننا عندما نجمع بين الأدلة لا بد من الأخذ بمجموعها، وعندما نرجح بعضها على بعض فلا ينبغي أن نرجح إلا أن يكون سبب الرجحان ظاهرًا، ويكون هذا الرأي دليله قويًّا، وأن يكون صحيحًا وأن لا يكون المخالف أقوى دلالةً منه.

* قوله: (أَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ؛ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا تُصَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ"

(1)

).

هذا الحديث مطلق وعام، فهل المراد به ألا يصلي الإنسان الفريضة ثم يكررها مرة أُخرى، أو المراد أن يصلي الفريضة ثم يعيدها مع جماعة، وينوي الفريضة مرة أُخرى؟

كل ذلك محتمل؛ إذًا هذا الذي يتدارك إليه هذا الحديث، وليس

= سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق". اهـ. وانظر: "فتح الباري" لابن رجب (5/ 84).

وبصار إلى النسخ بأمارات عدة:

منها: أن يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم مصرحًا به نحو قوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها". أو يكون لفظ الصحابي ناطقًا به، نحو حديث. . .: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس.

ومنها: أن يكون التاريخ معلومًا نحو ما رواه أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه إذا جامع أحدنا فأكسل؟ فقال النبي: "يغسل ما مس المرأة منه، وليتوضأ ثم ليصل".

ومنها: أن تجتمع الأمة في حكمه على أنه منسوخ. وإن لم يمكن التمييز بينهما بأن أبهم التاريخ، وليس في اللفظ ما يدل عليه، وتعذر الجمع بينهما، فحينئذ يتعين المصير إلى الترجيح. انظر:"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" للحازمي (ص 8 - 9).

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1715

المراد ألَّا تصلي صلاة واحدة في يوم مرتين إلا تُعيد الفريضة، وتنوي بالثانية نفلًا مع جماعة؛ لأن الأدلة الأخرى دلت على هذا، ونرجو أن يكون قد وضح المراد.

* قوله: (وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا صَلَاةَ المُنْفَرِدِ فَقَطْ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الجَمْعِ فَقَالُوا إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا تُصَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ"

(1)

إِنَّمَا ذَلِكَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الرَّجُلُ الصَّلَاةَ الوَاحِدةَ بِعَيْنِهَا مَرَّتَيْنِ، يَعْتَقِدُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا فَرْضٌ، بَلْ يَعْتَقِدُ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الفَرْضِ، وَلَكِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا).

هل الأولى الفرض أو الثانية؟

هذه مسألة فيها كلام للعلماء

(2)

، ولا شك أن القول الصحيح كما في حديث أبي ذر وغيره أن الأولى فرض والثانية نفل، حتى وإن كان صلَّى الأولى منفردًا فيؤخرون الصلاة عن وقتها، قال:"فما تأمرني؟ قال: صلِّ الصلاة في وقتها، وإن أدركتها معهم فصلِّ، فتكون لك نافلة"

(3)

.

وفي بعض الروايات كذلك، لكن الأولى فرض، والثانية تكون تطوعًا.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم الكلام عليها.

(3)

أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر، قال: قال لى رسول اللَّه: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ -أو- يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة" ولم يذكر خَلَفٌ: عن وقتها.

ص: 1716

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُنْفَرِدِ، أَعْنِي: أَلَّا يُصَلِّيَ الرَّجُلُ المُنْفَرِدُ صَلَاةً وَاحِدةً بعَيْنِهَا مَرَّتَيْنِ).

انتهينا من هذه المسألة، إذًا الإنسان دخل إلى المسجد، أو أقيمت الصلاة وهو في المسجد، وإن كان قد صلى؛ فينبغي عليه أن ينضم إلى الجماعة في أي صلاة من الصلوات، ولا ينبغي أن يتخلف عنهم؛ لِمَا رأينا من الأدلة التي وردت في هذه المسألة أيضًا؛ لعدم إيقاع المسلم نفسه في مواضع الشبهة.

وقد رأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على محجن، وكذلك أنكر على الرجلين في مسجد الخيف.

إذًا، فالمسلم دائمًا يحاول أن يكون مع الجماعة، وهذه أيضًا من محاسن صلاة الجماعة ومزاياها، فلها فوائد كثيرة، ومحاسن عظيمة، ومن محاسنها وفوائدها أن يجتمع المسلمون، ويتعاونوا على البر والتقوى، وهذا إظهار للمنافقين، وكبت لأعداء الإسلام.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

‌الفَصْلُ الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الإِمَامَةِ، وَمَنْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَأَحْكَامِ الإِمَامِ الخَاصَّةِ بِهِ

وَفِي هَذَا الفَصْلِ مَسَائِلُ أَرْبَعٌ، المَسْأَلَةُ الأَولَى: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَوْلَى بِالإِمَامَةِ).

لا شكَّ أنَّ أحكام الصَّلاة لَقِيت عناية كبيرة من الفقهاء، فالصلاة هي الركن الثاني بعد الشهادتين، ولذلك جاءت أقوالُ العلماء فيها مُفَصَّلة، وإن

ص: 1717

كان هذا الكتاب أَجْمَلَ فيها، لكنَّه أيضًا ذكر حظًّا أو جُمَلًا مهمة في مباحث الصلاة.

وأول هذه المسائل: مَنْ يَؤَمُّ الناسَ؟

العلماء متفقون من حيث الجملة على أنَّ الأَوْلَى أن يتقدم الناسَ مَنْ هو أكثر فقهًا، أو قراءةً، فهذان لا خلاف في تقديم أحدهما

(1)

.

لكن هل الأولى أن يُقَدَّم الأفقه أو الأقرأ؟

العلماء عندما يقولون بتقديم الأقرأ؛ يقصدون بذلك أن يكون على معرفة بالفقه والأحكام المتعلقة بالصلاة، فلا يكفي أن يكون قارئًا ويجهل أحكام الصلاة.

كذلك الذين يقولون بتقديم الأفقه؛ يَنُصُّون على أنَّه ينبغي أن يكون قارئًا.

لكن الخلاف: إذا وُجد فقيه وقارئ، وكان أحدهما أفقه والآخر أقرأ، فأيهما يُقدم؟ هذا هو محل الخلاف بين العلماء.

فمنهم من يُقدم الأقرأ، أخذًا بنصِّ هذا الحديث وغيره، ومنهم من يُقَدِّم الأفقه فيقولون: إنَّ الإمامَ يحتاج إلى الفقه أكثر من حاجته إلى القراءة، فَيَكْفِيه القراءة المطلوبة في الصلاة، لكنَّه قد تنتابه

(2)

أمورٌ في الصلاة لا يستطيع أن يَتصرف فيها إلَّا مَن كان على علم ودراية بالفقه، فإن لم يكن كذلك فربما أخَلَّ بشرطٍ من شروط الصلاة، أو ركن من أركانها، وقد يُؤدي ذلك الخَلل إلى فسادِها، فقد يعود من ركنٍ إلى واجبٍ أو سُنَّة، وذلك يُخل بالصَّلاة.

(1)

قال ابن القطان في ذِكر أحق الناس بالإمامة: "واتفقوا أن أقرأَ القوم إذًا (حَسَنُ الدِّين والمعتقد)، سالم الأعضاء كلها، صحيح الجسم، فصيح اللسان، صحيح النسب، حرًّا، لا يأخذ على الصلاة أجرًا، فقيهًا، ولم يكن أعرابيًّا يؤم مهاجرين، ولا (أعجميَّا) يؤم عَرَبًا، ولا متيممًا يؤم متوضئين: أن الصلاة وراءه جائزة". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 143).

(2)

انتابه، أي: أصابه. انظر: "الصحاح"، للجوهري (1/ 229).

ص: 1718

إذًا يرى من يقول بتقديم الأفقه: أنَّ الفقه أهم في الصلاة منه بالنسبة للقراءة.

والأئمة الأربعة انقسموا إلى قسمين: فريق منهم يرى تقديم الأقرأ؛ وهم الحنفية

(1)

والحنابلة

(2)

.

والفريق الآخر يرى تقديمَ الأفقه؛ وهم المالكية

(3)

، والشافعية

(4)

.

(1)

هو قول لبعضهم، لكن مشهور مذهبهم على أن الأولى بالإمامة هو الأفقه. يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 56، 57)، وفيه قال:"وأولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسُّنَّة، وعن أبي يوسف رحمه الله: أقرؤهم؛ لأن القراءة لا بد منها، والحاجة إلى العلم إذا نئبت نائبة. ونحن نقول: القراءة مفتقر إليها لركن واحد، والعلم لسائر الأركان، فإن تساووا فأقرؤهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسُّنَّة"، وأقرؤهم كان أعلمهم؛ لأنهم كانوا يتلقونه بأحكامه، فقدم في الحديث، ولا كذلك في زماننا، فقَدَّمنا الأعلم". وانظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (1/ 367).

(2)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 269، 270)، وفيه قال:" (الأولى بالإمامة: الأجود قراءة الأفقه)؛ لجمعه بين المرتبتين في القراءة والفقه، (ثم) يليه (الأجود قراءة الفقيه)؛ لحديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه تعالى"، (ثم) يليه (الأقرأ) جودة -وإن لم يكن فقيهًا- إن كان يعرف فقه صلاته، حافظًا للفاتحة؛ للحديث المذكور". وانظر: "كشاف القناع"، له (1/ 471).

(3)

يُنظر: "جواهر الإكليل شرح مختصر خليل"، للأبي (1/ 83)، وفيه قال:"و (استخلفت) ندبًا صالحًا للإمامة، والأولى استخلافها الأفضل، (ثم) إن لم يكن رب منزل قُدِّم (زائد فقه)، أي: علم بأحكام الصلاة على مَن هو دونه فيه، (ثم) إن لم يكن زائد فقه قُدِّم زائد (حديث) بكثرة رواية أو حفظ، وهو أفضل مِن زائد الفقه، وإنما قدم زائد الفقه عليه؛ لأن زائد الفقه أدرى بأحكام وأحوال الصلاة، (ثم) ندب تقديم زائد (قراءة) بكثرة حفظ أو تَمَكُّن من إخراج الحروف من مخارجها".

(4)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 180)، حيث قال:" (والأصح أن) (الأفقه) في باب الصلاة، وإن لم يحفظ من القرآن إلا الفاتحة (أَوْلَى مِن الأقرأ)، وإن حَفِظ جميع القرآن؛ إذ الحاجة إلى الفقه أهم؛ لعدم انحصار ما يطرأ في الصلاة من الحوادث، ولأنه عليه الصلاة والسلام قَدَّم أبا بكر على مَن هو أقرأ منه". وانظر: "اللباب في الفقه الشافعي"، للمحاملي (ص: 116).

ص: 1719

ومدار الخلاف يدور حول الحديث الذي ذكره المؤلف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"يَؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب اللَّه"

(1)

.

إذًا هذه رتبة أولى يَعقبها ثانية: "فإن كانوا في القِراءة سواء: فأعلمهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سَوَاء؛ فأقدمهم هجرة"، وفي رواية:"فأقدمهم سِلْمًا"

(2)

؛ أي: إسلامًا.

إذًا "يَؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب اللَّه"، ومعنى يؤم: يتقدم؛ مِن أَمَّ يَؤُمُّ

(3)

.

أمَّا المأموم فهو مِن ائتم يَأتم، أي: اقتدى

(4)

. إذًا هناك إمامٌ ومُأْتَمٌّ.

فالإمامُ: هو الذي يَتقدم الناسَ، ويُصَلِّي بهم.

ومن الأدلة التي تدل على تقديم الأقرأ على الأفقه: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتمع ثلاثةٌ فليَؤمهم أحدُهم، وأحقُّهم بالإمامة أقرأُهم"، والحديث في "صحيح مسلم"

(5)

.

وروي عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه أنَّه لمَّا قدم المهاجرون الأولون، فنزلوا موضعًا في قباء تَقدمهم سالم مولى أبي حذيفة، قال:"وكان أكثرُهم قرآنًا"

(6)

، وكان من بينهم عمر بن الخطاب.

(1)

أخرجه مسلم (673/ 290)، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السُّنَّة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سِلْمًا، ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تَكرمته إلا بإذنه".

(2)

نفس الرواية السابقة.

(3)

أمَّ يؤمُّ أمًّا، إِذا قصد للشَّيْء. انظر:"جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 59).

(4)

ائتَمَّ به: أي اقتدى. انظر: "شمس العلوم"، لنشوان الحميري (1/ 145).

(5)

أخرجه مسلم (672/ 289) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(6)

أخرجه البخاري (692)، ولفظه: عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال:"لما قدم المهاجرون الأولون العصبة -موضع بقباء- قَبل مَقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يَؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرُهم قرآنًا".

ص: 1720

إذًا قُدِّمَ سالم مولى أبي حذيفة؛ لأنَّه كان أعلمهم بالقراءة في وقته، فهذا دليل آخر.

وكذلك أوصى الرسولُ صلى الله عليه وسلم قومَ عمرو بن سَلِمَة، فقال في آخر الحديث:"ولْيَؤُمكم أكثرُكم قرآنًا"

(1)

.

فهذه أدلة تدل دلالة واضحة صريحة على أنَّ الأقرأ يتقدم.

وذهب الآخرون

(2)

إلى أنَّ الذي يُقَدَّم الأفقه، وقالوا: إنَّ المراد بالأقرأ هنا هو الأفقه، وعَلَّلُوا ذلك بتعليلِ: أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم كان الأقرأُ منهم هو الأفقه، ولكنَّ الآخرين ردُّوا ذلَك، وقالوا: إنَّ العبرةَ بعمومِ اللفظ، لا بخصوصه، فالخطاب عندما وُجِّه من الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقصد به الصحابة رضي الله عنهم وحدهم، ولكنَّه يضع تشريعًا عامًّا لهذه الأُمَّة منذ بعثته صلى الله عليه وسلم إلى أن يرثَ اللَّهُ الأرضَ ومن عليها، ويقول:"يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتابِ اللَّه". فهذا لا يختص به الصحابة، هذا جواب.

والجواب الآخر أنَّهم قالوا: قوله بعد ذلك: "فإن كانوا في القِراءة سَوَاء؛ فأعلمهم بالسُّنَّة".

ذلك دليل على أنَّه ليس المراد هو الأقرأ، لأنَّه لو كان الأقرأ هو الأفقه لما نقلهم إلى المرحلة الثانية، وقال:"فإن كانوا في القِرَاءة سَوَاء؛ فأعلمهم بالسُّنَّة"، لأنَّ الأفقهَ عالم بالسُنَّةِ

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (4302) عن عمرو بن سَلَمَة رضي الله عنه.

(2)

(الجمهور): الحنفية والمالكية والشافعية.

(3)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 134)، وفيه قال:"فإن قيل: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم القارئ؛ لأن أصحابه كان أقرؤهم أفقَههم، فإنهم كانوا إذا تَعَلَّمُوا القرآنَ تَعَلَّمُوا معه أحكامه. قال ابن مسعود: "كنا لا نُجاوز عشرَ آيات حتى نعرف أمرَها ونهيَها وأحكامَها". قلنا: اللفظ عام، فيجب الأخذ بسومه دون خصوص السَّبب، ولا يخص ما لم يَقم دليل على تخصيصه، على أن في الحديث ما يُبطل هذا التأويل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن استووا فأعلمهم بالسنة". فَفَاضَلَ بينهم في العِلم بالسُّنَّة مع تَساويهم في القراءة".

ص: 1721

وجواب ثالث: أنَّه ثَبَتَ عن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أنَّه فَاضَلَ بين الصحابة في العلم، فالصحابة رضي الله عنهم لهم من المكانةِ ما ليس لغيرهم، فلهم من المزايا ومن المحاسن ما يَختصون به عن غيرهم، ولو لم يكن لهم في ذلك إلَّا أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى رضي عنهم في كتابه، وزكَّاهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم، وبَيَّنَ أنَّه لو أنفق أحدُنا مِثْلَ أُحُدٍ ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصيفَه

(1)

، وأنَّهم جاهدوا في اللَّه حَقَّ جهاده، وأنَّهم أدركوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأخذوا العلم عنه صافيًا نقيًّا لم تَشُوبه أي شائبة، ولم يخالطه أي إشكالٍ أو شبهة، فأخذوا ذلك من مِشكاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهم الذين جالسوه، وتربوا في مدرسته، وجاهدوا معه وبعده، لكنَّهم مع ذلك كغيرهم يختلفون في درجات العِلم، فليسوا على درجة واحدة، لذلك نجد أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قال:"أَقْرَأُكم أُبَيٌّ، وأَقْضَاكم عَلِيٌّ، وأَعْلَمُكم بالحلال والحرام مُعاذٌ، وأفرضُكم زيدُ بن ثابت"

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (3673)، واللفظ له، ومسلم (2541/ 222) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فلو أنَّ أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم، ولا نَصِيفه".

قال أبو عبيد: "قوله: (مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه) يقول: لو أنفق أحدكم ما في الأرض ما بلغ مثل مُدِّ يتصدق به أحدهم، أو ينفقه، ولا مثل نصفه". انظر: "غريب الحديث"، للقاسم بن سلام (2/ 164).

(2)

أخرجه الترمذي (3791)، وغيره، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أرحم أُمَّتي بأمتي أبو بكر، وأَشَدُّهم في أمر اللَّه عمر، وأصدُقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب اللَّه أُبَي بن كعب، وأفرضُهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام مُعاذ بن جبل، ألا وإن لكل أُمَّة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". وقال: "حسن صحيح"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1224).

أما ذِكر علي رضي الله عنه، فقد أخرجه ابن ماجه (154)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين اللَّه عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب اللَّه أُبَي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"، قال الأرناؤوط:"إسناده صحيح".

ص: 1722

إذًا بيَّنَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أنَّ أقرأ الصحابة كان أُبَيًّا، ولذلك لمَّا تَردَّدَ في آيةٍ وهو في الصلاةِ قال:"أين أبَيٌّ؟ أَلَمْ يكن في القوم؟ ". يريد أن يَفتح عليه

(1)

.

فقد سأل عن أُبَيٍّ، ولم يسأل عن غيره، فتبيَّنَّا من هذا أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قد رَتَّبهم، وليس معنى هذا أنَّ الصحابةَ لا يُدركون القرآن، ولكنَّهم على مراحل.

قوله: "أقرأُكم" وهم قُرَّاء، إذًا بهذا نتبين أنَّ الأولى هو تقديم الأقرأ، ولكن لا نأتي بإنسانٍ يَحفظ القرآن ويُجوِّده، ولا يَعرف شيئًا من أحكام الصلاة فلا نُقدمه، إنَّما نقدمه إذا كان يعرف أحكام الصلاة، وهو أقرأ من غيره ممن هو أكثر فقهًا منه، فهذا يُقدَّم، وهذا من شروطِ الكمالِ، فلو قُدِّم الأقرأ مع وجود الأفقه فالصلاة صحيحة، لكن الكلام هنا فيما هو الأفضل.

والعلماء رحمهم الله كما ذكرنا عندما يختلفون في أمرٍ من الأمور، وربما يَظن البعضُ أنَّهم لماذا يختلفون في بعض الأحاديث التي نرى وضوحها وبيانها، وهذا يقوله مَن لم يُدرك غور

(2)

الأئمة رحمهم الله، فالأئمة أقوالهم لها غور؛ يعني: فيها عُمق، تحتاج إلى مَن يدركها، فمن يدرك أقوال الأئمة، ويَسبر غورها، يعرف لماذا يختلف الأئمة، والأئمة بَشر، وليسوا مُحيطين بالعلم، وإذا كان أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا قد فات بعضُهم أشياء، فَمِن باب أولى أن يَفوت مَن بعدهم.

إذًا العلمُ ليس محصورًا في فردٍ، ولا شكَّ أنَّ الأئمةَ من العلماءِ الأفذاذِ الذين شُهِد لهم بذلك، والذين تركوا لنا تَركة عظيمة، تزخر بها

(1)

أخرجه أبو داود (907) عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاةً فقرأ فيها فَلُبسَ عليه، فلمَّا انصرف قال لأُبي:"أَصَلَّيْتَ معنا؟ ". قال: نعم، قال:"فما منعَك؟ "، وزاد ابنُ حبان (6/ 14):"فما منعك أن تفتحها عليَّ"، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(2239).

(2)

غور كل شيء: قَعره. انظر: "الصحاح"، للجوهري (2/ 773).

ص: 1723

مكتباتنا الإسلامية، وقد يبلغ أحدُهم ما لم يبلغ الآخر، وقد يصحُّ الحديث عند هذا، ولم يصح عند الآخر.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: يَؤُمُّ القَوْمَ أَفْقَهُهُمْ لَا أَقْرَؤُهُمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ).

قد ذكر مالكٌ والشافعيُّ الحكمَ بتقديم الأفقه متصلًا بعلته، لماذا تقدمون الأفقه؟

قالوا: لأنَّ المصلي بشرٌ، فقد يَنسى، وقد يَضطرب في أمرٍ من أمورِ الصلاة، أو يُحْدِث حَدَثًا من الأحداث، أو يَنوبه شيءٌ في صلاته، فمن الذي يتخلص من ذلك؟ هو الفقيهُ المُدْرِكُ

(1)

.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

، وَالثَّوْرِيُّ

(3)

، وَأَحْمَدُ:"يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ").

هناك مَن يثير قضية؛ وربما سُئل عنها أحد الأئمة، وأظنُّه الإمام أحمد حول هذا الحديث وما يتعلَّق به، وهو حديث أبي مسعود عن تقديم رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ في مرضهِ، يعني: قَدَّم أبا بكر ولم يكن أقرأَ الصحابة، فأشار إلى أنَّ تقديمَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إنَّما كان لأمرٍ آخر؛ وهو الخلافةُ، يعني: أنَّه استخلفه في هذا الأمر، ولا يشترط في الخلافة أن يكون أفقه الناس، أو أقرؤهم

(4)

.

(1)

سبق ذكر هذا.

(2)

سبق ذكر أن مشهور مذهب الأحناف على أن الأولى بالإمامة هو الأفقه.

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 352)، وفيه قال:"وقال الثوري: يؤمهم أقرؤهم، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن استووا فأسنهم".

(4)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 134)، وفيه قال:"قيل لأبي عبد اللَّه: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أبا بكر يُصَلِّي بالناس"، أهو خلاف حديث أبي مسعود؟ قال: لا، إنما قوله لأبي بكر -عندي-: "يصلي بالناس" للخلافة، يعني: أن الخليفة أحق بالإمامة، وإن كان غيره أقرأ منه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالصلاة يدل على أنه أراد استخلافه".

ص: 1724

لذلك نجد في كلام عمر رضي الله عنه أيام السَّقيفة

(1)

، عندما اجتمع المهاجرون والأنصار، وطلب عمر من أبي بكر أن يَمُدَّ يدَه ليبايعه، قال له:"لقد ارتضاكَ اللَّهُ لأمر دينه، وارتضاك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا؛ أَفَلَا نَرتضيك لأمر دنيانا"

(2)

.

فهذا فيه إرهاصٌ

(3)

إلى خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فهناك مَن يرى أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قد أشار إشارات لطيفة تدل على أنَّه هو الخليفة بعده، ومن ذلك أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قال:"مُرُوا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالناسِ"

(4)

، وكَرَّر ذلك

(1)

السقيفة: كل بناء سُقِّفت به صُفَّة أو شبهها مما يكون بارزًا. والسقيفة: الصُّفَّة، ومنه سقيفة بني ساعدة، وهي صُفَّة لها سَقف. انظر:"لسان العرب"، لابن منظور (9/ 155).

(2)

الذي ثبت من كلام عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه يوم سقيفة بني ساعدة هو ما أخرجه البخاري (7219)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أنه سمع خُطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم تُوفِّي النبي صلى الله عليه وسلم، فَتَشَّهد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يَعيش رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، يريد بذلك: أن يكون آخرهم، فإن يك محمد صلى الله عليه وسلم قد مات فإن اللَّه تعالى قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به، هدى اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وإن أبا بكر صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثاني اثنين، فإنَّه أولى المسلمين بأموركم؛ فَقُوموا فبايعوه. . ."، الحديث.

أما ما ذكره الشارح، فهو من كلام علي، وهو ما أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(7430) عن النزال بن سبرة الهلالي، وفيه قالوا:"حَدِّثنا عن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: سلوني. قلنا: حدثنا عن أبي بكر الصديق. قال: "ذاك امرؤ سَمَّاه اللَّه صِدِّيقًا على لسان جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، كان خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رَضِيَه لديننا فَرَضِيناه لِدُنيانا".

(3)

الإرهاص: ما ظَهر من الخوارق عن النبيِّ قبل ظهوره. وقيل: تأسيس النبوة بالخوارق قبل البعثة. انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف"، للمناوي (ص: 46).

(4)

أخرجه البخاري (682)، ومسلم (418/ 94)، واللفظ له، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"لما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيتي قال: "مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس". قالت: فقلت يا رسول اللَّه، إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يَملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر. قالت: واللَّه، ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول مَن يقوم في مَقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قالت: فراجعتُه مرتين أو ثلاثًا، فقال: "لِيُصَلِّ بالناس أبو بكر؛ فإنَّكن صواحب يوسف"".

ص: 1725

مرارًا واستخلفه، فهذا دليل على تقديمه، إلى جانب ما ورد من الأحاديث العظيمة التي تُبين فضل أبي بكر، وأنَّه لو وُزِن إيمانُه بإيمان الأُمَّة لرجح

(1)

.

إذًا بهذا نتبين أنَّه لا يشترط فيمن يُصَلِّي بالناس أن يكون أعلمَهم، حتى لو كان هناك مَن هو أقرأ منه، فلا مانع أن يتقدم، لكن الحديث هنا في شرط الكمال، الأكمل في الإمام أن يكون أقرأ.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً؛ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ إِسْلَامًا، وَلَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ"، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ)

(2)

.

هذه مسألة لم يتكلم عنها المؤلف، ولكنها ستأتي، وهي تتعلق فيما لو زُرت أخًا لك في بيته، وكنت أعلم منه، وأُقيمت الصلاة، فمَن الذي يتقدم؟ صاحب البيت هو الذي يتقدم إلَّا أن يأذن لك، وهذه قضية حصلت مع الصحابة، فأحد الصحابة أظنُّه أبا ذر؛ أراد أن يتقدم فجذبه أحد الصحابة، وقال: يتقدم فلان

(3)

.

(1)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(5/ 335)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو وُزِن إيمانُ أبي بكر بإيمان أهلِ الأرض لرجح". وكذا أخرجه الديلمي في "الفردوس"(3/ 377).

وأخرجه البيهقيُّ موقوفًا في "شُعب الإيمان"(1/ 143) عن هزيل بن شرحبيل، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم". قال الألباني: "منكر". انظر: "السلسلة الضعيفة"(6343).

(2)

تقدَّم تخريجُه.

(3)

أخرج عبد الرزاق في "مُصنفه"(2/ 392) عن معمر، عن قتادة: "أنَّ أبا سعيد صنع =

ص: 1726

إذًا الأَوْلَى أن يتقدم صاحبُ البيت، إلَّا أن يكون الذي حضر في البيت السلطان، فإنَّه يتقدم؛ لأنَّ السلطان له ولاية على كل أحد، أمَّا إذا كان من عامَّة الناس فالأولى أن يتقدم صاحب البيت

(1)

. ولا يجلس على

= طعامًا، ثم دعا أبا ذر، وحذيفة، وابن مسعود، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر لِيُصلي بهم، فقال له حذيفة: وراءك، رَبُّ البيت أحقُّ بالإمامة". فقال له أبو ذر: كذلك يا بن مسعود؟ قال: نعم. قال: فتأخر أبو ذر".

(1)

يُنظر في مذهب الأحناف: "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح"، للشرنبلالي (ص: 114)، وفيه قال:"وإذا اجتمعوا يُقَدَّم السلطان فالأمير فالقاضي فصاحب المنزل ولو مُستأجرًا يقدم على المالك، ويُقدم القاضي على إمام المسجد؛ لما ورد في الحديث: "ولا يُؤم الرجل في سلطانه ولا يُقعد في بيته على تَكْرِمته إلا بإذنه"، ثم الأقرأ".

ويُنظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 342)، وفيه قال:"إذا اجتمع جماعة كل منهم صالح لها فقال درس: (وندب تقديم سلطان) أو نائبه ولو كان غيره أفقه وأفضل منه، (ثم) إن لم يكن سلطان ولا نائبه نُدِب تقديم (رَبِّ منزل) وإن كان غيره أفقه وأفضل منه، لأنه أحق بداره من غيره".

وينُظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 184)، وفيه قال:" (أولى) بالإمامة فيما سكنه بحق من غيره، وإن تميز بسائر ما مَرَّ، فيؤمهم إن كان أهلًا، (فإن لم يكن) المستحق للمنفعة حقيقة، وهو ما سوى المستعير، لعدم جواز الإنابة إلا لمن له الإعارة، والمستعير من المالك لا يعير، وكذا القِن المذكور؛ سواء أكان السيد والمعير حاضرًا أم غائبًا (أهلًا) للإمامة، كما مَرَّ؛ كامرأة لرجال، أو للصلاة ككافر، وإن تميز سائر ما مر (فله) استحبابًا حيث كان غير محجور عليه (التقديم) لأهل يؤمهم لخبر مُسلم: "لا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سُلطانه"، وفي رواية لأبي داود: "في بيته ولا في سلطانه"".

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 473) وفيه قال: " (وصاحب البيت وإمام المسجد ولو عبدًا، ولا تكره إمامته)، أي: العبد إذا كان إمام مسجد أو صاحب بيت (بالأحرار). جزم به غير واحد؛ لأن ابن مسعود وحذيفة وأبا ذر صلوا خلف أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد. رواه صالح في "مسائله"، (أحق بإمامة مسجد وبيته من الكل) ممن تقدم (إذا كان) إمام المسجد أو صاحب البيت (ممن تصح إمامته، وإن كان غيرهما أفضل منهما). قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه. . .، (فيحرم تقديم غيرهما عليهما بدون إذن)؛ لأنه افتيات عليهما، (ولهما تقديم غيرهما ولا يكره) لهما أن يقدما غيرهما؛ لأن الحق لهما، (بل يستحب) تقديمهما لغيرهما (إن كان أفضل منهما)؛ مراعاة لحق الفضل".

ص: 1727

تَكرمته؛ يعني: على مائدته إلَّا بإذنه

(1)

.

* قوله: (لَكِنِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي مَفْهُومِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ)

(2)

.

وكذلك الإمام أحمد في هذه المسألة

(3)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ مِنَ الأَقْرَإ هَاهُنَا: الأَفْقَهَ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الحَاجَةَ إِلَى الفِقْهِ فِي الإِمَامَةِ أَمَسُّ مِنَ الحَاجَةِ إِلَى القِرَاءَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الأقْرَأَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ هُوَ الأَفْقَهَ ضَرُورَةً، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ اليَوْمَ)

(4)

.

ما زلنا في الحديث: أنَّ المقصود هو الأقرأ وليس الأفقه؛ لأنَّه لو كان الأقرأ هو الأفقه لما انتقل إلى المرحلة الثانية: "فإن كانوا في القراءة سواء؛ فاعلمهم بالسُّنَّة"، إذا كان الأقرأ هو الأفقه فلا حاجة إلى الانتقال إليها، ولكن الانتقال إليها يدل على أنَّها مرحلة ثانية

(5)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِمَامَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الحُلُمَ إِذَا كَانَ قَارِئًا).

هذه المسائل لا تنطبق عليها المسائل الكبرى التي سلكها المؤلف،

(1)

قال أبو العباس القرطبي: "التَّكرمة هنا: الفِرَاش الذي يقعد عليه. ووجه هذا المنع: أنه مبني على منع التصرف في ملك الغير إلا بإذنه، غير أنه خصَّ التكرمة بالذكر للتساهل في القعود عليها، وإذا منع القعود فمنع التصرف بنقلها مثلًا، أو ببيعها أُوْلَى". انظر: "المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(6/ 85)، وانظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (4/ 168).

(2)

سبق ذكر هذا، وأن مشهور المذهب على تقديم الأفقه.

(3)

سبق ذكره.

(4)

سبق ذكر هذا، وأنَّ من قال بهذا هم أكثر الأحناف، وهو قول المالكية والشافعية.

(5)

وهذا مذهب الحنابلة وبعض الأحناف، كما سبق.

ص: 1728

لكنَّها مسائل جوهرية وأساسية، لذلك ذكرها المؤلف؛ لأنَّها متعلقة بالإمامة، لكنَّه سكت عن إمامة الأعمى

(1)

، والأصم

(2)

ومقطوع أحد اليَدَين أو اليدين معًا أو الرِّجْلَين، أو غير ذلك

(3)

. ومسائل كثيرة جدًّا ما تَعَرَّض لها.

(1)

سبقت هذه المسألة من أن الفقهاء اتفقوا على جواز إمامة الأعمى، وخالف الأحناف، فقالوا بالكراهة؛ لأنه لا يتجنب النجاسات. إلا أن متأخري الأحناف قالوا: يُقَدَّم الأعمى إذا كان هو الأعلم.

(2)

إمامة الأصم جائزة عند الشافعية والحنابلة، ولا ينبغي ذلك عند المالكية بالنسبة للإمام الراتب؛ لأنه قد يسهو فيُسبح له فلا يسمع.

يُنظر في مذهب المالكية: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 113)، وفيه قال:"فإن الأصم لا ينبغي أن يُتَّخَذ إمامًا راتبًا؛ لأنه قد يسهو فيُسَبَّح له فلا يسمع، فيكون ذلك سببًا لإفساد الصلاة".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 174)، وفيه قال:" (والأعمى والبصير) في الإمامة (سواء) (على النص)؛ لتعارض فضيلتهما؛ لأن الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع، والبصير ينظر الخبث فهو أحفظ لتجنبه. ومعلوم أن في الكلام حالة استوائهما في سائر الصفات، وإلا فالمقدم من ترجح بصفة من الصفات الآتية، ويؤيد ذلك قول الماوردي: الحر الأعمى أولى من العبد البصير. ومثله فيما ذكر السَّميع مع الأصم". وانظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 483).

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 272، 273)، وفيه قال:" (وتصح) صلاة فرض ونفل (خلف أعمى أصم)؛ لأن فقده تلك الحاسَّتين لا يُخل بشيء من أركان الصلاة ولا شروطها".

(3)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 27)، وفيه قال:" (ص) وكره أقطع وأشل. (ش) يعني: أنه يكره للأقطع أو الأشل أن يكون إمامًا. والمراد بالأقطع: غير الأعور بدليل قوله الآتي: "وجاز أعمى"، فالأعور من باب أولى، ومحل ذلك مع وجود غيره، وإلا فلا كراهة، والشيخ مشى على قول ابن وهب، والمذهب لا يكره الاقتداء بالأقطع ولا بالأشل، كما قاله الشارح عن ابن الحاجب وابن شاس

وغيرهما، ثم إنه على قول ابن وهب لا بد من تقييد كراهة الأشل بما إذا كان لا يضع يده على الأرض، كما في نقل المواق والشارح، ويجري مثله في أقطع اليد، كما يفيده كلام تت".

وفي مذهب الحنابلة روايتان. انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 144)، وفيه قال: "فأما أقطع اليدين، فقال أحمد رحمه الله: لم أسمع فيه شيئًا. وذكر الآمدي فيه =

ص: 1729

* قوله: (اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِمَامَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الحُلُمَ إِذَا كَانَ قَارِئًا).

معلوم أنَّ هناك طفلًا ثم صبيًّا

(1)

ثم يافعًا

(2)

ثم شابًّا

(3)

، والمراد بذلك هو الصغير الذي لم يَبلغ، والصغار يختلفون مثل الكبار، فكم مِن صغير يهبه اللَّه سبحانه وتعالى ذكاءً وفطنة، تجده متوقد الذكاء، تجده واسع الأفق، تجده مدركًا واعيًا، وهذا تلحظه في الطلاب الذين في المراحل الابتدائية، ولذا يتكلم العلماء عن هذه المسألة، ويذكرون قصة الصحابي الذي ذكر مَجَّةً مَجَّها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من دلو في بئر، أخذ دلوًا فأخذ ماءً صلى الله عليه وسلم في فِيه،

= روايتين؛ إحداهما: تصح إمامته. اختارها القاضي؛ لأنه عجز لا يُخل بركن في الصلاة. فلم يمنع صحة إمامته؛ كأقطع أحد الرجلين والأنف. والثانية: لا تصح. اختارها أبو بكر؛ لأنه يخل بالسجود على بعض أعضاء السجود، أشبه العاجز عن السجود على جبهته. وحكم أقطع اليد الواحدة كالحكم في قطعهما جميعًا، وأما أقطع الرجلين فلا يصح الائتمام به؛ لأنه مأيوس من قيامه، فلم تصح إمامته كالزمن. وإن كان مقطوع إحدى الرجلين، ويمكنه القيام، صحت إمامته. ويتخرج على قول أبي بكر أن لا تصح إمامته؛ لإخلاله بالسجود على عضو. والأول أصح؛ لأنه يسجد على الباقي من رِجْلِه أو حائلها".

وانظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 562) حيث قال: " (قوله: ومفلوج، وأبرص شاع برصه)، وكذلك أعرج يقوم ببعض قدمه، فالاقتداء بغيره أولى تتارخانية، وكذا أجذم برجندي، ومجبوب، وحاقن، ومَن له يد واحدة فتاوى الصوفية عن التحفة. والظاهر: أن العلة النفرة، ولذا قيد الأبرص بالشيوع؛ ليكون ظاهرًا ولعدم إمكان إكمال الطهارة أيضًا في المفلوج والأقطع والمجبوب".

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 322)، وفيه قال:"وفقد الأعضاء لا تمنع من الإمامة كالأقطع".

(1)

الصبي يدعى طفلًا حين يسقط من أمه إلى أن يحتلم. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (13/ 235).

(2)

يقال: غُلام يافعٌ، إذا قارَب الإدراك، وجمعه: أيْفَاعٌ وَيفَعَةٌ. انظر: "المنجد في اللغة"، لكراع النمل (ص: 360).

(3)

الشَّبابُ جمع شابٍّ وكذا الشُّبَّانُ. والشَّبابُ أيضًا الحداثةُ، وكذا الشَّبيبةُ، وهو خلاف الشَّيب. انظر:"مختار الصحاح"، للزبيدي (ص: 160).

ص: 1730

فَمَجَّه

(1)

في وجهه، وهو في سِنِّ الرابعة

(2)

.

إذًا هؤلاء الصغار يختلفون، وقد يوجد من الكبار مَن ليس عنده فطنة

(3)

، ولا وعي، ولا إدراك، ولذلك كما تعلمون شُرع الحَجْر

(4)

على السفيه، فكم من كبير يتصرف تصرفًا لا يحصل من الصغار، لكن هناك قاعدة عامة.

إذًا لماذا تردد بعضُ العلماء في كون الصغير يَؤُمُّ؟

لأنَّ الصلاة منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو باطن، فالقارئ يقرأ ولو أخطأ لرُد عليه، والتكبير يسمعه الناس، لكنَّ هناك أمورًا لا يدري عنها؛ منها الحدث، ومنها الخلل في بعض الأشياء، فالذين يمنعون ذلك، بعضهم يعلل بأنَّ الصغير قد تَفوته أمور، إذًا هذا الصغير الذي لم يبلغ الحلم، هل له أن يَؤُمَّ الناس أم لا؟

هنالك قضية معروفة: فإنَّ قوم عمرو بن سَلِمَة جاؤوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأرشدهم -ومما أرشدهم إليه- قوله: "وليؤمكم أكثرُكم قرآنًا"، فهذا صغير في سن السابعة - ونحن الآن نجد أنَّ الذي في سِن السابعة قد لا يُدرك شيئًا، إمَّا في السنة الأولى الابتدائية أو الثانية، لكنَّه حريص؛ يعني: كان أحرص قومه، كان يقف في طريق المسافرين، يرقب القادمين من المدينة، فيسألهم عمَّا أخذوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو عِلم، فكان يتلقى عنهم، فاجتمع عنده من القرآن ما لم يجتمع عند غيره،

(1)

مَجَّ المَاء يمجُّه مجًّا، إِذا مجه من فِيهِ بِمرَّة واحدة، أي: أخرجه. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 92).

(2)

أخرجه البخاري (77)، واللفظ له، ومسلم (33/ 265)، عن محمود بن الربيع، قال:"عقلتُ من النبي صلى الله عليه وسلم مَجَّة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو".

(3)

الفطنة كالفهم. وتدل على ذكاء وعلم بالشيء. انظر: "الصحاح"، للجوهري (6/ 2177)، و"مقاييس اللغة"، لابن فارس (4/ 510).

(4)

الحَجْر: المنع مِن حَدِّ دخل. والحِجر بكسر الحاء: الحرام؛ لأنه منعٌ عنه، والحِجر: العقل؛ لأنه مانع عن القبائح. وحجر السفيه: منعه عن التصرفات. انظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (ص: 162).

ص: 1731

فلمَّا توفر فيه هذا الشرط، وفاق الكبار، وامتاز عليهم - رأوا أن يقدموه في الصلاة؛ لأنهم وجدوا أنَّ قول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:"وليؤمكم أكثرُكم قرَآنًا"، إنَّما ينطبق على هذا الصبي الصغير، فقَدَّموه في الصلاة، وكان ثوبه قصيرًا، فيذكر في القصة أن اجتمعوا فتبرعوا له، فاشتروا له ما يَستر به عورته؛ لأنَّ النساء كنا يشتكين، ويقلن:"أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ "، لأنَّه كان صغيرًا، فاشتروا له ذلك، قال:"فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذلِكَ القَمِيص"

(1)

.

*‌

‌ فائدة:

سُرَّ به؛ لأنَّه صغير وجاءه ثوب، ولا نقيس ما مضى على حالنا الآن، فالمسلمون فيما مضى كانوا في حالة قلة، ما كانت تشغلهم دنياهم عن أخراهم، إنَّما كان ديدنهم الأول هو الاشتغال بأمور نافعة، وإن كانوا لم ينسوا نصيبهم من الدنيا، كما قال تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، لكن أمور الدنيا كانت تأتي متأخرة، فليس عندهم من الرفاهية ومن المال ومن الكماليات التي نراها الآن، ونشهدها في كل مكان، ولا القليل مما نراه، بل هذه النعم التي نرفل فيها الآن، والتي بعضنا لا يُدرك قيمتها ولا عظمها، ربما الذي عاش منا في حدود الخمسين رأى أحوال الناس فيما مضى، وأحوالهم في وقتنا الحاضر، وكيف نقلهم اللَّه تعالى من العسر إلى اليسر، ومن الضيق إلى السعة، إذًا هذه نعم من نعم اللَّه سبحانه وتعالى علينا تستحق منا الشكر والاعتراف بالفضل والإحسان له سبحانه وتعالى، فهو الذي يهب النعم ويسلبها، والذي يعطي ويمنع،

(1)

أخرجه البخاري (4302)، عن عمرو بن سلمة، قال:". . . فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم -واللَّه- من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، فقال: "صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليُؤذن أحدكم، وليَؤُمكم أكثركم قرآنًا". فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقَدَّمونى بين أيديهم، وأنا ابن سِتِّ أو سبع سنين، وكانت عليَّ بُردة، كنتُ إذا سجدت تَقَلَّصت عني، فقالت امرأة من الحي: أَلَا تُغطوا عنا استَ قارئكم؟ فاشتروا، فقطعوا لى قميصًا، فما فرحتُ بشيء فرحي بذلك القميص".

ص: 1732

وكلما شكر العبد ربه فاللَّه سبحانه وتعالى يزيده نعيمًا إلى نعيمه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

إذًا، نعود إلى هذا الصغير الذي كان يُعنى بأمور دينه ويهتم بها، ويحرص على تلقي العلم؛ فقَدَّمه قومه، وفي المشهور أنه لم يلقَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع عنه، لكنَّه كان يؤم قومَه.

فاختلف العلماءُ في إمامة الصبي:

1 -

فجمهور العلماء على أنَّ الصبي لا يؤم في الفرض.

2 -

والشافعية يرون أنَّه يؤم في الفرض والنفل.

وأكثر العلماء على أنَّه يؤم في النفل، وأمَّا الفرض فلا

(1)

.

(1)

في مذهب الأحناف: لا يجوز إمامة الطفل في الفرائض، واختلفوا في النوافل، والأكثرون على أنه لا يجوز.

يُنظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 344، 345)، وفيه قال:" (وفي التراويح والسُّنن المُطلقة). ش: السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدها، (جَوَّزه). ش: أي: الاقتداء بالصبي (مشايخ بلخ، ولم يجوزه مشايخنا). ش: أي: ولم يجوز الاقتداء بالصبي علماء أهل بخارى وسمرقند. (ومنهم) ش: أي: ومن مشايخ بخارى وسمرقند (من حقق الخلاف في النفل المطلق بين أبي يوسف ومحمد). ش: فقال عند أبي يوسف: لا يجوز الاقتداء، وعند محمد: يجوز. (والمختار) ش: أي: للفتوى (أنه) ش: أي أن الاقتداء بالصبي (لا يجوز في الصلوات كلها، لأن نفل الصبي دون نفل البالغ). ش: لأن نفل البالغ مضمون حيث يجب القضاء إذا أفسده، ونفل الصبي غير مضمون". وانظر: "تحفة الفقهاء"، لأبي بكر السمرقندي (1/ 229).

وفي مذهب المالكية: لا تجوز صلاته في الفرض، وفي النافلة على روايتين.

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 25)، وفيه قال: " (ص) أو صبي في فرض وبغيره تصح وإن لم تجز. (ش)، أي: وكذلك تبطل صلاة مَن اقتدى في فرض بصبي لفقد شرط البلوغ؛ لأنه متنفل، وأمَّا مَن صلى خلفه في النفل فصلاته صحيحة، وإن لم تجز ابتداء على المشهور، وسيصرح بجوازها لمثله ابن رشد إنما لم تجز إمامة الصبي للبالغين؛ لأنه لا يُؤْمَن أن يصلي بغير طهارة إذ لا حرج عليه في ذلك ألا ترى أن شهادته إنما رُدَّت من أجل أنه لا يُؤْمَن أن يشهد بالزور إذ لا حرج عليه في ذلك، ولا يتعرض الصبي في صلاته لفرض ولا نفل، وإنما ينوي فعل =

ص: 1733

فالذين قالوا: لا يؤم في الفرض استدلوا بأدلة: منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق، وعن الصغير حتى يبلغ"

(1)

.

ومعنى "رفع القلم" يعني: رفع التكليف، أي: أنَّ الصغير غير مكلف، فيقول هؤلاء: إنَّ الصغير غير مكلف، فالشريعة رفعت عنه القلم، وأنتم لو جعلتموه إمامًا لكلفتموه بأمر جلل، فكأنَّكم بذلك وضعتم القلم عليه، وهذا الحديث قد أشار إلى رفع القلم عنه

(2)

.

= الصلاة المعينة. قاله سند". وانظر: "شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة" (1/ 172).

وفي مذهب الشافعية: يجوز ذلك في الفرض والنفل. وفي الجمعة قولان.

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 483): "وفيه قال: (و) تصح القدوة (للكامل)، وهو البالغ الحر (بالصبي) المميز للاعتداد بصلاته، "ولأن عمرو بن سَلِمة بكسر اللام كان يؤم قومه على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست أو سبع". رواه البخاري، ولكن البالغ أولى من الصبي وإن كان الصبي أقرأ أو أفقه للإجماع على صحة الاقتداء به بخلاف الصبي، وقد نص في البويطي على كراهة الاقتداء بالصبي. وانظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 249).

وفي مذهب الحنابلة لا تصح في الفرائض وفي النوافل قولان، أظهرهما: أنه يصح.

يُنظر: "الإنصاف"، للمرداوي (2/ 266)، وفيه قال:" (ولا إمامة الصبي لبالغ إلا في النفل، على إحدى الروايتين)، وأطلقهما في الشرح، والنَّظم، وابن تميم، والفائق، والمحرر، اعلم أن إمامة الصبي تارةً تكون في الفرض وتارةً تكون في النفل، فإن كانت في الفروض، فالصحيح من المذهب: أنها لا تصح، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وعنه تصح. اختارها الآجري، وحكاها في "الفائق" تخريجًا، واختاره، وأطلقهما ابن تميم، وقال ابن عقيل: يخرج في صحة إمامة ابن عشر وجه، بناءً على القول بوجوب الصلاة عليه، وإن كان في النفل فالصحيح من المذهب: أنها تصح". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 167، 168).

(1)

أخرجه أبو داود (4401)، وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"رُفِع القلمُ عن ثلاثة: عن المَجنون المغلوب على عقله حتى يُفيق، وعن النائم حتى يَستيقظ، وعن الصبي حتى يَحتلم"، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(3287).

(2)

قال تقي الدين السبكي: "قوله: "رُفِع القلم"، هل هو حقيقة أو مجاز؟ فيه =

ص: 1734

واستدلوا أيضًا بما نقل عن عبد اللَّه بن عباس، أنَّه قال:"لا يَؤُمُّ غلامٌ حتى يَحتلم"

(1)

، أي: حتى يبلغ الحُلُم؛ وهو سن البلوغ

(2)

.

والذين قالوا بجواز إمامة الصبي استدلوا بأدلة: منها أولًا: حديث عمرو بن سَلِمَة، وهو أنَّه كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين، وهذه قضية يقولون: قد اشتهرت، وانتشر أمرها، ولا يبعد أن تكون وصلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد عرفها الصحابة، ولم يُنكر ذلك الصنيع، فلم يُنقل أن أحدًا منهم أنكر ذلك العمل، فدل على أنها قضية قد انتشرت ووقعت وعرفت، وكان يؤم قومه والرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم:"وليؤمكم أكثرُكم قرآنًا"

(3)

.

= احتمالات: أحدهما -وهو المنقول المشهور-: أنه مجاز، لم يُرد فيه حقيقة القلم ولا الرفع، وإنما هو كناية عن عدم التكليف.

الاحتمال الثاني: أن يُراد حقيقة القلم الذي ورد فيه الحديث: "أَوَّلُ ما خلق اللَّهُ القلمَ؛ فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"، فأفعال العباد كلها حسنها وسيئها يجري به ذلك القلم ويكتبه حقيقة، وثواب الطاعات وعقاب السيئات يكتبه حقيقة، وفعل الصبي والمجنون والنائم لا إثم فيه، فلا يَكتب القلم إثمه، ولا التكليف به". انظر:"إبراز الحكم من حديث رفع القلم"(ص: 52، 53).

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 319) وغيره، موقوفًا، وفيه: قال ابن عباس: "لا يؤم الغلام حتى يحتلم". قال الألباني: "يُخالفه حديث عمرو بن سلمة الذي أمَّ قومَه إذ كان صبيًّا. وهذا فيه إشارة إلى تضعيفه، وعلى كل حال فالأخذ بحديث عمرو أولى للقطع بصحته، ولأنه عن جماعة من الصحابة". انظر: "إرواء الغليل"(531).

(2)

سبق أن أكثر الأحناف قالوا بعدم جواز إمامة الصبي، وما ذكره الشارح من أدلة ذكروها.

قال الزيلعي في ترجيح عدم إمامة الصبي: "ولنا: قول ابن مسعود رضي الله عنه: لا يَؤم الغلام الذي لا تجب عليه الحدود، وعن ابن عباس: لا يَؤم الغلام حتى يحتلم؛ ولأنه متنفل فلا يجوز أن يقتدي به المفترض، على ما يأتي بيانه، وأما إمامة عمرو فليس بمسموع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قدموه باجتهاد منهم؛ لكونه أحفظ منهم لما كان يتلقى من الركبان حين كانت تمر بهم، فكيف يُستدل بفعل الصغير على الجواز، وقد قال هو بنفسه: وكانت عليَّ بُردة وكنت إذا سجدتُ تَقَلَّصت عني؛ فقالت امرأة من الحي: أَلَا تُغطوا عنا استَ قارئكم". انظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"(1/ 140).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 1735

قالوا: فهذا نصٌّ صريحٌ في الدلالة على جواز إمامة الصغير، ثم عادوا وقالوا: وأمَّا ما نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: "لا يؤم غلامٌ حتى يَحتلم"، قالوا: فقد عارضه ما نُقل عن عائشة رضي الله عنها أنها ترى إمامة الصبيان

(1)

.

فهذا قول صحابي عارضه قول صحابية، فلا يمكن أن يقدم أحدهما على الآخر، فنرجع إلى الأصل

(2)

.

وقالوا: وأمَّا حديث "رُفع القلم عن ثلاثة" فليس فيه ما يمنع إمامة الصغير، وإنما لم يوضع عليه التكليف؛ أي: أنَّه غير مكلف، وليس في الحديث أنَّ صلاته لا تصح، إذًا صلاته تصح إذا صلاها، فكذلك الحال إذا صلى بغيره.

وقالوا: ومما يدل على صحة صلاته حديث أنس المتفق عليه: "فصففتُ أنا واليتيم خلفه، والعجوز مِن وراءنا"

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 140)، قال:"وكانت عائشة يؤمها عبدُها ذكوانُ من المصحف"، ووصله ابن أبي داود في كتاب "المصاحف"(ص 457) عن أبي بكر بن أبي مليكة، عن عائشة "أنها أعتقت غلامًا لها عن دبر، فكان يؤمها في شهر رمضان في المصحف"، وحكى نحوه الماوردي، فقال:"وروت عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نأخذ الصبيان من الكتاب؛ ليُصلوا بنا في شهر رمضان، ونعمل لهم القبلية والحسكات". انظر: "الحاوي الكبير"(2/ 328).

(2)

قال الطوفي في "اختلاف أقوال الصحابة": "إذا اختلف الصحابة على قولين فأكثر لم يجز للمجتهد من غيرهم الأخذ بأحد الأقوال من غير دليل، وأجاز ذلك بعض الحنفية، وبعض المتكلمين؛ بشرط أن لا ينكر ذلك القول المأخوذ به على قائله.

لنا: على المنع من ذلك وجهان:

أحدهما: القياس على تعارض دليلي الكتاب والسُّنَّة وأَوْلَى، أي: إن قول الصحابي لا يزيد في القوة على الكتاب والسنة، ولو تعارض دليلان منهما، لم يجز الأخذ بأحدهما إلا بترجيح ونظر، فكذلك أقوال الصحابة أولى.

الوجه الثاني: أن أحد القولين خطأ قطعًا؛ لاستحالة كون الصواب في نفس الأمر في جهات متعددة، وإذا كان أحد قولي الصحابة خطأ، فالطريق إلى تمييز الخطأ من الصواب ليس إلا الدليل". انظر:"شرح مختصر الروضة"(3/ 188).

(3)

أخرجه البخاري (380)، ومسلم (658/ 266)، عن أنس بن مالك، "أن جَدَّته مليكة =

ص: 1736

والشاهد أنَّه اعتدَّ بهذا الصبي؛ لأنَّه لو لم يعتد به لوقف أنس إلى جنب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن يمينه ولم يعتد بهذا اليتيم، والمقصود باليتيم الذي مات والده ولم يَبلغ

(1)

. إذًا هو صغير ومع ذلك قال: "فصففتُ أنا واليتيمُ خلفَه"، فدل ذلك على أنَّه مُعتبر، فاعتبر في إقامة الجماعة، واعتبر في الصف، قالوا: فهذا يدل على صحة صلاته، ومن صحت صلاته صحت إمامته

(2)

.

* قوله: (فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ

(3)

؛ لِعُمُومِ هذا الأثر)

(4)

.

إذا كنا نقول: تصح إمامة الصغير، فليس معنى هذا أننا نُفضله على غيره، فإذا وجدنا القارئ فنقدم الأكبر؛ لأنَّ فيه الكمال، وهو مدرك، وقد نضج فكره، نعم قد نجد من بعض الصغار -كما عرفنا- من وهبهم اللَّه سبحانه وتعالى فكرًا نيرًا ومعرفة وحصافة وبُعدَ نَظر وإدراكًا وعقلًا، لكن المعروف في الغالب أنَّ الكبير يدرك ما لا يُدركه الصغير، لذلك رُفع عنه القلم.

= دعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال:"قوموا فلأصل لكم". قال أنس: فقمت إلى حصير لنا، قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصففتُ واليتيم وراءه، والعجوز مِن ورائنا، فصلى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم انصرف".

(1)

اليتيم: الذي مات أبوه فهو يتيم حتى يبلغ، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتيم. انظر:"تهذيب اللغة"، للأزهري (14/ 241).

(2)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 250)، وفيه قال:"واحتج أصحابنا بحديث عمرو بن سَلِمة، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب اللَّه"، ولأن مَن جازت إمامته في النفل جازت في الفرض كالبالغ.

والجواب عن حديث: "رفع القلم": أنَّ المراد رفع التكليف والإيجاب، لا نفي صحة الصلاة، والدليل عليه: حديث ابن عباس في "الصحيحين": أنَّه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم. . . "، وحديث أنس في "الصحيحين": "أنَّه صلى هو واليتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم"، وحديث عمرو بن سَلِمة المذكور هنا، وغيرها من الأحاديث الصحيحة، وأما المروي عن ابن عباس فإن صَحَّ فمُعارض بالمروي عن عائشة من صحة إمامة الصبيان. وإذا اختلفت الصحابة لم يحتج ببعضهم".

(3)

أي: بإطلاق في نفل وفرض، وهم الشافعية، كما سبق.

(4)

سبق ذكر هذا.

ص: 1737

يبقى بعد ذلك الكلام عن الذي نرجحه في هذه المسألة، هو كسابقتها أرى أنَّ مذهب الشافعية هو الأقرب

(1)

، وأنَّه إذا وُجد صغير، وهو أقرأ من غيره، وكان هذا الصغير ممن يدرك أمور الصلاة، ولا يُخل بها، ويعرف ذلك، فلا مانع من تقديمه في أمر الصلاة، بدل أن يقدم عامي يلحن في القراءة أو يخلط فيها، فالأولى أن يقدم الصغير، ونرى في عصرنا هذا مَن يحفظ القرآن، وهو في سن السابعة أو الثامنة، وعندهم من حسن الأصوات ومن الإتقان ما لا يوجد عند كثير ممن تخرجوا في الكليات، هذا أمر نشهده ونسمعه، وربما يمر بنا في كل يوم، إذًا هذا فضل من اللَّه سبحانه، وهذه نعمة عظيمة منحها هؤلاء الصغار، ولكن نريد أن يُضاف إلى ذلك أن يعرفوا ما يتعلَّق بأحكام الصلاة، فلا نقدم صغيرًا يقرأ ولا يعرف ماذا يحصل في الصلاة، ولا يعرف شيئًا من أحكامها.

* قوله: (ولحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ كانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ صَبِيٌّ)

(2)

.

الأثر

(3)

: يُقصد به الحديث الذي مَرَّ في المسألة الأولى، وأنا نبهت

(1)

وهو جواز إمامته في الفَرْضِ والنَّفل، كما سبق.

(2)

سبق ذكر ذلك.

(3)

يقصد حديثه صلى الله عليه وسلم: "وليَؤُمكم أكثرُكم قرآنًا". وقد سبق.

وهنا أطلق المؤلف على الحديث لفظ الأثر، ومعلوم أن الأثر يُطلق على أقوال الصحابة ومَن بعدهم.

قال الحافظ ابن حجر: "ثم الإسناد إما أن ينتهي إلى النبي تصريحًا أو حكمًا، من قوله، أو فعله، أو تقريره. أو إلى الصحابي كذلك، وهو: مَن لقي النبيَّ مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة في الأصح. أو إلى التابعي: وهو مَن لقي الصحابي كذلك. فالأول: المرفوع، والثاني: الموقوف، والثالث: المقطوع، ومن دون التابعي فيه مثله. ويقال للأخيرين: الأثر". انظر: "نخبة الفكر"(4/ 724).

لكن النووي أفاد أن أهل الحديث يُطلقون الأثر على المرفوع والموقوف والمقطوع. =

ص: 1738

عليه؛ لأنَّ في بعض النسخ ما فهم المحقق قصدَ المؤلف، فقد علق عليه وقال:"ما بين القوسين زائد في النسخة المصرية".

وهذه الزيادة في الواقع صحيحة، والمؤلف ربما اعتبر المسألة الثانية متممة للأولى، فقوله:"لهذا الأثر": أي: الدليل الذي يستدل به القائلون بجواز إمامة الصبي، وهو حديث:"يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب اللَّه"، قالوا: فهذا عام يشمل الصغير وغيره.

* قوله: (وَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مُطْلَقًا)

(1)

.

ورد في بعض الروايات: "وهو ابن سبع سنين"

(2)

.

* قوله: (وَأَجَازَ قَوْمٌ فِي النَّفْلِ، وَلَمْ يُجِيزُوهُ فِي الفَرِيضةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ)

(3)

.

الذين أجازوه في النفل: المالكية والحنابلة، وعند الحنفية كذلك، ولكنَّهم يكرهون ذلك

(4)

.

= انظر: "التقريب والتيسير"، للنووي (ص: 33)، وفيه قال:"الموقوف: وهو المروي عن الصحابة قولًا لهم أو فعلًا أو نحوه متصلًا كان أو منقطعًا، ويستعمل في غيرهم مقيدًا، فيقال: وقفه فلانٌ على الزهري ونحوه، وعند فقهاء خراسان تسمية الموقوف بالأثر، والمرفوع بالخبر، وعند المحدثين كله يُسمَّى أثرًا".

(1)

أي: سواء في نفل أو فرض. وهم أكثر الأحناف، كما سبق.

(2)

لعله يقصد أنه جاء في رواية بالجزم بأنه ابن سبع سنين. وقد سبقت رواية "الصحيح": "وأنا ابن ست أو سبع سنين". فإن كان هذا هو مراد الشارح، فقد تبع فيه الرافعي مِن روايته بالجزم، إذ قال:"لنا: ما روي "أن عمرو بن سَلِمة كان يؤم قومه على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين". انظر: "العزيز شرح الوجيز" (2/ 165). قال ابن الملقن بعد أن ذكر رواية البخاري: "ورواه النسائي، بلفظ:"وكنت أؤمهم وأنا ابن ثمان سنين"، وأبو داود، وقال:"ابن سبع سنين أو ثمان سنين"، والطبراني، وقال:"وأنا ابن ست سنين"، فرواية الرافعي أنه ابن سبع سنين على الجزم غريب إذًا". انظر:"البدر المنير"(4/ 444، 445).

(3)

وكذا الحنابلة. كما سبق.

(4)

سبق أن الجمهور لم يُجز إمامة الصبي في الفريضة، وخالف الشافعية فقالوا =

ص: 1739

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ: هَلْ يَؤُمُّ أَحَدٌ قِي صَلَاةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ؟ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ نِيَّةِ الإِمَامِ وَالمَأْمُومِ؟)

(1)

.

من الأدلة التي يستدل بها في هذه المسألة

(2)

: قصة معاذ رضي الله عنه: أنَّه كان يصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة عشاء الآخرة، أي: يصلي الفرض، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة، فهي له تطوع، ولهم مكتوبة؛ أي: العشاء

(3)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي إِمَامَةِ الفَاسِقِ).

هذه مسألة مِن أدق المسائل وأهمها، والفُسَّاق

(4)

أنواع؛ فهناك فاسق

= بالجواز، إلا في صلاة الجمعة فاختلفوا في جواز إمامته فيها على قولين. أما النافلة فإنهم جميعًا أجازوا إمامته، وأكثر الأحناف على أنه لا يجوز.

(1)

كأن المؤلف يريد أن يقول: إن أصل الخلاف بين الذين أجازوا إمامة الصبي والذين منعوها هو: هل يجوز أن يؤم المتنفل المفترض أم لا؟ فالذين أجازوا إمامة الصبي بنوه على جواز أن يؤم المتنفل المفترض، والذين منعوا إمامة الصبي لا يجوز عندهم أن يؤم المتنفل المفترض.

قال الماوردي في جواز إمامة الصبي: "وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "يَؤُمكم أقرؤكم لكتاب اللَّه عز وجل". قالت بنو سلمة: هذا أقرؤنا يا رسول اللَّه، يعنون عمرو بن سَلِمة، وكان صغيرًا لم يَبلغ. فقال صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمكم معاذ؛ إنَّ صلاةَ غير البالغ نافلةٌ له"؛ فقد جوز للمفترضين أن يُصلوا خلفه".

وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في بيان سبب منع إمامة الصبي في الفريضة: "لا يصح الائتمام بالصبي في الفرض خلافًا للشافعي؛ لأنه متنفل بصلاته، وقد بينا أن صلاة المفترض خلف المتنفل لا تصح". انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(1/ 295).

(2)

أي: الذين يجيزون إمامة المتنفل للمفترض، كما سبق.

(3)

أخرجه البخاري (711)، ومسلم (465/ 180)، واللفظ له، عن جابر بن عبد اللَّه:"أن معاذ بن جبل كان يُصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة".

(4)

الفاسق هو: الخارج عن طاعة رَبِّه، ومنه يقال: فسقت الرُّطبَة، إِذا خرجت من قشرها. انظر:"غريب الحديث"، لابن قتيبة (1/ 249).

ص: 1740

مبتدع يدعو، وهناك مِن أهل الفسق مَن يُعرفون بأهل البدع وأهل الأهواء، والذين يرتكبون بعض المحرمات

(1)

.

وقد يكون الفسق -أيضًا- يتعلَّق بأمر من أمور العقيدة، ومنهم من ينتسب إلى الإسلام، وقد ألحدوا في أسماء اللَّه وصفاته

(2)

، وهناك مَن

(1)

وجه تفريق العلماء بين الذي يدعو إلى بدعته ممن لا يدعو إليها: هو أن الذي يدعو إليها يكون قد أُشربها في قلبه؛ فيظهر بسببها الموالاة والمعاداة، بخلاف مَن لم يدعُ إليها.

قال الشاطبي: "والفرق بينهما -واللَّه أعلم- أحد أمرين: إما أن يقال: إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته فيظهر بسببها الموالاة والمعاداة، والذي لم يُشربها لا يدعو إليها أو لا ينتصب للدعاء إليها، ووجه ذلك: أن الأول لم يدع إليها إلا وهي قد بلغت من قلبه مبلغًا عظيمًا بحيث يطرح ما سواها في جنبها، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها، وقد أعمت بصره، وأصمت سمعه، واستولت على كليته، وهي غاية المحبة.

أما مَن لم يبلغ ذلك المبلغ فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها، ونكتة اهتدى إليها، فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على مَن وأفق أو خالف. وإما أن يقال: إنَّ مَن أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسَّواد الأعظم، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر مَن كان على رأيهم". انظر:"الاعتصام"(3/ 226، 227).

(2)

الملحد معناه في كلام العرب: الجائر عن الحق، ومنه قول اللَّه عز وجل:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، أي: يجورون في أسمائه. انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس"، لابن الأنباري (1/ 143).

وقد ذكر ابنُ القَيِّم صور الإلحاد، فقال: "والإلحاد في أسمائه تعالى أنواع، أحدها: أن يُسمَّى الأصنام بها؛ كتسميتهم اللات من الإلهية، والعزى من العزيز، وهذا إلحاد حفيقة.

الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أبًا.

وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه، ويتقدس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود: إنه فقير. . .

ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها؛ كقول مَن يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيُطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، ويقولون: لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلًا وشرعًا ولغة وفطرة. . . ". انظر:"بداع الفوائد"(1/ 169).

ص: 1741

عَطَّل بعضَ أحكام الشريعة الإسلامية

(1)

.

وقبل أن ندخل في هذا الموضوع نحب أن نُذكِّر بقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة". قلنا: مَن هي يا رسول اللَّه؟ قال: "الجماعة"

(2)

. وفي رواية أُخرى: "مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"

(3)

.

وقد توسع العلماء بما يتعلَّق بإمامة الفاسق، والفسق ليس نوعًا واحدًا؛ فهناك مبتدع يدعو إلى بدعته، وهناك مبتدع يُصِرُّ على بدعته ولا يَهجرها، وشتان بين الاثنين

(4)

.

(1)

مَن الذين عطلوا أحكام اللَّه عز وجل وشرائعه ما يعرفون بالجبرية الذين ينفون أن يكون للعبد قدرة، ويجعلونه كالريشة في مهب الريح.

قال الشيخ حافظ الحكمي: "الجبرية: هم طائفة يعتقدون أن العبد مجبور على أفعاله قسرًا ولا فعل له أصلًا، بل إثبات الفعل للعبد هو عين الشرك عندهم، فهو لا يعمل باختياره طاعة ولا معصية، ولم يكلفه اللَّه وسعه، بل حَمَّله ما لا طاقة له به، ولم يخلق فيه اختيارًا لأفعاله ولا قدرة له عليها، بل الطاعة والعصيان من الأقوال والأعمال هي عندهم عين فعل اللَّه عز وجل، فرفعوا اللوم عن كل كافر وفاسق وعاص، وأنه يُعذبهم على نفس فعله، لا على أعمالهم القبيحة، وفي ذلك رَدٌّ منهم على اللَّه تعالى؛ أمره ونهيه ووعده ووعيده وفرضه على عباده جهاد الكفار وإقامة الحدود". انظر: "معارج القبول"(1/ 372).

(2)

أقرب رواية للفظ الشَّارح هي ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 70)، عن عوف بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، والذي نفسي بيده لتفترقن أُمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار". قيل: يا رسول اللَّه، ومَن هي؟ قال:"الجماعة". وبنحوه أخرحه ابن ماجه (3992)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1492).

(3)

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(8/ 22) عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تَفْترق هذه الأمةُ ثلاثة وسبعين فرقة؛ كلها في النَّار إلا واحدة". قالوا: وما تلك الفرقة؟ قال: "مَن كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، وقد أشار الألبانيُّ إلى صحته في أثناء كلامه، وأنه مَحفوظ من حديث أنس. انظر:"السلسلة الضعيفة"(1035).

(4)

سبق بيان ذلك.

ص: 1742

واعلموا أنَّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب هذه الأمة، وأنَّه من فروض الكفاية، وقد اختص اللَّه سبحانه وتعال به هذه الأمة، وأنَّ عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال عز وجل:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقال سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 104، 105].

ويقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: "لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السَّفيه"

(1)

.

فالأمر بالمعروف واجب

(2)

.

وهناك من العلماء مَن لا يرى الصلاة خلف الفاسق

(3)

، لماذا؟

(1)

أخرجه أبو داود (4336)، وغيره، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أولَ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل: كان الرجل يَلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتَّقِ اللَّه ودع ما تَصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب اللَّه قلوب بعضهم ببعض"، ثم قال:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله {فَاسِقُونَ} ، ثم قال:"كلا واللَّه؛ لَتَأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتَقصرنه على الحق قصرًا"، وضعفه الألباني في "تحقيق رياض الصالحين"(201).

(2)

يُنظر: "أحكام القرآن"، لابن العربي (1/ 383)، حيث قال:"في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال، أو عرف ذلك منه. وفي مطلق قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يقوم به المسلم، وإن لم يكن عدلًا، خلافًا للمبتدعة الذين يشترطون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العدالة".

(3)

قال شيخُ الإسلام في عدم جواز الصلاة خلف الفاسق، وتقديم صلاة التقي عليه: "فإذا كان الرجلان من أهل الدِّيانة فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وَجَب تقديمه =

ص: 1743

لأنَّك إن صليت خلف الفاسق قد يستمر في فسقه، وقد يتأثر به غيره من المسلمين، ولكن عندما يُهجر الفاسق ويُترك قد يحس أنَّ المجتمع قد أعرض عنه، وأنَّ الناس قد نبذوه

(1)

، وأنَّه لا مكانةَ له في المجتمع إلَّا أن يَعود إلى رُشده، فيصلح من أموره، وبذلك ربما تستقيم أحوالَه.

ويقولون: إنَّ الذي تصلي وراءه ينبغي أن تأمره بالمعروف، فإن لم يرتاع فلا تُصَلِّ خلفَه، فكيف تصلي وراء إنسان مبتدع

(2)

؟!

وكان عبد اللَّه بن عمر يصلي وراء الخشبية -وهم بعض الخوارج- وقد اختلف العلماء في تعريف الخشبية، مَن هم

(3)

؟

= على الآخر مُتعينًا، فإن كان أحدهما فاجرًا مثل أن يكون معروفًا بالكذب والخيانة ونحو ذلك من أسباب الفسوق، والآخر مؤمنًا من أهل التقوى، فهذا الثاني أولى بالإمامة، إذا كان مِن أهلها، وإن كان الأول أقرأ وأعلم، فإن الصلاة خلف الفاسق منهيٌّ عنها نهيَ تحريم عند بعض العلماء، ونهي تنزيه عند بعضهم. وقد جاء في الحديث:"لا يَؤُمَّنَّ فاجرٌ مؤمنًا، إلا أن يَقهره بسوط أو عصا". انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 306).

(1)

يقال: نبذتُ الشيءَ أنبذه نبذًا: إِذا أَلقيته من يدك. وبه سُمِّي النَّبيذ؛ لأن التمر كان يلقى في الجَرِّ وفي غيره. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 306).

(2)

يُنظر: "الفتاوى الكبرى"، لابن تيمية (2/ 308)، حيث ذكر علة نهي العلماء عن عدم تقديم الفاسق، فقال:"والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كَرِه مَن كَرِه الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ومن ذلك أنَّ مَن أظهر بدعة أو فجورًا لا يُرَتَّب إمامًا للمسلمين، فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسنًا، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثَّر ذلك حتى يتوب، أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه. فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في مصلحة، ولم يَفُتْ المأمومَ جمعةٌ ولا جماعة".

(3)

الخشبية: ضرب من الرافضة. وقيل: الذين يرون الخروج على مَن خالفهم بالخشب. وقيل: الذين حفظوا خشبة زيد بن علي حين صُلِب. وسمعت أبا نصر يقول: الخشبية أصحاب المختار بن أبي عبيد. انظر: "غريب الحديث"، لإبراهيم الحربي (2/ 545)، و"منهاج السنة النجوية"، لابن تيمية (1/ 35، 36).

ص: 1744

فقال بعضهم: هم قومٌ أنكروا صفات اللَّه سبحانه وتعالى، وقالوا: بأنَّ اللَّهَ لا يتكلم، وقالوا بخلق القرآن.

وقال آخرون: هم صنف من الشيعة، أو غير ذلك، فالعلماء لهم أقوال، لكنَّ الخشبية فرقة مُنحرفة

(1)

.

فسُئل عبد اللَّه بن عمر عن ذلك -وهذا من حيث العموم- فقال: "مَن قال: حيَّ على الصلاه أجبناه، ومن قال: حي على الفلاح أجبناه، ومَن قال: حي على قَتل المسلم. قلنا: لا"

(2)

.

وهو مذهبنا بالنسبة للصلاة في العموم؛ فقد نُقل عن الإمام أحمد أنَّه كان يصلي وراء المعتزلة

(3)

.

وهذا في الصلوات العامة؛ كصلوات الجمع، وكذلك العيدين،

(1)

الذين أنكروا صفات اللَّه وقالوا بخلق القرآن: هم الجهمية والمعتزلة. لكن الخشيبية -كما سبق- هم فرقة من الروافض، ومعلوم أن الروافض لا يَرون أن الكتاب الذي بين يدي المسلمين هو القرآن الذي هو كلام اللَّه عز وجل إنَّما يزعمون أنه بُذَل وحُرِّف، ولذلك لا يعترفون به.

قال ابنُ حزم في ذكر أصلهم: "الروافض ليسوا من المسلمين إنما هي فِرق حَدَث أولها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، وكان مبدؤها إجابة من خذله اللَّه تعالى لدعوة من كاد الإسلام، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر، وهي طوائف أشدهم غلوًّا يقولون بإلهية علي بن أبي طالب، وأقلهم غلوّا يقولون: إِن الشمس رُدَّت على علي بن أبي طالب مرتين". انظر: "الفصل في الملل والأهواء والنحل"(2/ 65)، و"إيثار الحق على الخلق"، لابن الوزير (ص: 119، 120).

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 174)، عن نافع قال:"كان ابن عمر يسلم على الخشبية والخوارج وهم يقتتلون، فقال: مَن قال: حيَّ على الصلاة أجبتُه، ومن قال: حي على الفلاح أجبتُه، ومن قال: حيَّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله. قلت: لا".

(3)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 139، 140)، وفيه قال:"فأمَّا الجمع والأعياد فإنَّها تُصلى خلف كل بر وفاجر، وقد كان أحمد يَشهدها مع المعتزلة، وكذلك العلماء الذين في عصره".

ص: 1745

أمَّا بقية الصلوات: فإن وجدت مَن تصلي وراءه غير هؤلاء -أقصد أهل الفسق- فصلِّ، ولا تصلِّ وراء أهل الفسق؛ لأن ذهابك إلى التقي وتركك للفاسق ربما يُحيي ضميره، ويعود إلى طريق الرشد

(1)

، لكن الفاسق الذي لا يدعو إلى بدعته ولا يُجاهر بها فيُصَلَّى وراءه

(2)

.

والعلماء مختلفون في هذا: فمنهم من يجيز ذلك مطلقًا؛ وهم الشافعية، شريطة ألَّا يَكفر ببدعته، فإن حكم العلماء بكفر هذا الإنسان فلا تجوز الصلاة خلفه؛ لأنَّه بمنزلة الكافر

(3)

.

* قوله: (فَرَدَّهَا قَوْمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَأَجَازَهَا قَوْمٌ بِإِطْلَاقٍ).

1 -

مَن أجازها بإطلاق: مذهب الشافعية

(4)

والحنفية

(5)

، وهي رواية

(1)

سبق ذكر هذا.

(2)

فمذهب أهل السنة: جواز الصلاة خلفهم، إذا كان ذلك في الصلوات العامة.

يُنظر: "شرح الطحاوية"، لابن أبي العز الحنفي (2/ 532)، وفيه قال:"ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الرَّاتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه؛ كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحَجِّ بعرفة، ونحو ذلك - فإن المأموم يصلي خلفه، عند عامة السلف والخلف".

(3)

سيأتي تفصيلُ ذلك.

(4)

مذهبُ الشافعية على كراهة إمامة الفاسق، وأن إمامة غيره ممن هو عدل أولى منه.

يُنظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 294، 295)، وفيه قال:" (والعدل) ولو قنًّا مفضولًا (أولى) بالإمامة (من الفاسق) ولو حرًّا فاضلًا؛ إذ لا وثوق به في المحافظة على الشروط، ولخبر الحاكم وغيره: "إن سَرَّكُم أن تُقبل صلاتُكم فليَؤُمكم خيارُكم؛ فإنهم وفدُكم فيما بينكم وبين ربكم". وفي مرسل: "صلوا خلف كل بَرٍّ وفاجر"، ويعضده ما صح أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج وكفى به فاسقًا، وتُكره خلفه، وهي خلف مبتدع لم يَكفر ببدعته أشد؛ لأن اعتقاده لا يفارقه". والفاسق الذي تكره الصلاة خلفه ليس كل فاسق، وإنما المقصود به مَن لا يخرج ببدعته وفسقه إلى حد الكفر. انظر:"الحاوي الكبير"(2/ 328، 329).

(5)

وكذا إمامة الفاسق مكروهة عند الأحناف.

يُنظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 333)، حيث قال في كراهة تقديم الفاسق والائتمام به:" (والفاسق؛ لأنه لا يهتم لأمر دينه). ش: فيرد فيه الناس، وفيه تقليل الجماعة، وقلنا نحن والشافعي بجواز إمامته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "صلوا =

ص: 1746

ضعيفة للإمام أحمد

(1)

، لكن الإمام أحمد من أكثر العلماء تفصيلًا في هذه المسألة؛ لأنه سُئل عن المعتزلة؟ فقال:"يُصَلَّى وراءهم"

(2)

. وسُئل عن بعض الفرق؟ قال: "لا يُصَلَّى وراءهم"

(3)

.

2 -

والذين رَدُّوها هم الجمهور

(4)

.

= خلف كلِّ بَرٍّ وفاجر"، ولأن ابن عمر وأنسًا وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين صلوا خلف الحجاج الجمعة وغيرها، مع أنه كان أفسق أهل زمانه. وأما وجه الكراهية فلما قلنا، ولهذا قال أصحابنا: لا ينبغي أن يقتدى بالفاسق إلا في الجمعة؛ لأن في سائر الصلوات يجد إمامًا غيره بخلاف الجمعة". وانظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 560).

(1)

ذكر أبو يعلى بن الفراء في إمامة الفاسق روايتين، الأولى بعدم الجواز؛ قال:"وهي الأصح". والثانية بالجواز. يُنظر: "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى (1/ 172). حيث قال في الرواية الثانية: "ونقل أبو الحارث -وقد سئل- هل يُصَلَّى خلف مَن يغتاب الناس؟ فقال: لو كان كل مَن عصى اللَّه تعالى لا يُصَلَّى خلفه، مَن يؤم الناس على هذا؟! ". وقال في رواية حرب: "يُصلَّى خلف كل برٍّ وفاجر"؛ فلا يكفر أحدٌ بذنب. ظاهر هذا صحة الإمامة؛ لأنه لما صحت صلاته صحت إمامته كالعدل، والأول أصح".

(2)

سبق ذكر أنه كان يصلي وراءهم في الصلوات العامة.

(3)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"، للكوسج (2/ 774، 775)، وفيه قال:"قلت: يصلي الرجل خلف مَن بشرب السُّكر؟ قال: لا. قال إسحاق: إذا كان مُعلنًا بشربه ويدعو الناس إليه فلا يُصَلَّين خلفه".

وفي "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود السجستاني (ص: 360): "سألت أحمد بن عبد اللَّه بن يونس. فقال لي: "لا يُصَلَّى خلف من يقول: القرآن مخلوق، هؤلاء كفار".

ونقل ابن قدامة روايات أُخرى عن الإمام أحمد في هذا الباب. انظر: "المغني"(2/ 138، 139).

(4)

أولًا مذهب المالكية: ذكر القاضي عبد الوهاب أنه لا يجوز إمامة الفاسق قولًا واحدًا في المذهب.

يُنظر: "الإشراف على نُكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 280)، فقال:"وإمامة الفاسق لا تجزئ عندنا، وتجزئ عند أبي حنيفة والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب اللَّه وأقومهم قراءة، فإن كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا سواء فأكبرهم سنًّا". فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن المقصدَ المطلوبَ في الإمامة كمالُ =

ص: 1747

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حال الإمام في الفضل، وأمر بتقديم كل مَن زادت حيازته لها، وذلك ينفي الائتمام بالفاسق الموصوف بضد هذه الصفة".

وفصَّل الرجراجي فذكر في المذهب أربعة أقوال، فقال: "واختلفت المذهب في إمامته على أربعة أقوال: أحدها: أن إمامته جائزة، وتُستحب الإعادة في الوقت.

والثاني: أنها لا تُجزئ، ويُعيد مَن ائتم به أبدًا.

والثالث: التفصيل بين أن يكون فسقه بتأويل أو بإجماع؛ فإن كان فسقه بتأويل أعاد في الوقت، وإن كان بإجماع؛ كمن ترك الطهارة عامدًا، أو شرب الخمر، أو زنا أعاد أبدًا.

وهذا القول حكاه الشيخ أبو بكر الأبهري عن القاضي أبي الحسن بن القصار رضي الله عنهما.

والرابع: التفصيل بين أن يكون مما له تعلق بالصلاة، أو يكون مما لا تعلق له بالصلاة؛ فإن كان مما له تَعَلُّق بالصلاة؛ كترك الطهارة، أو تعمد الإخلال بأمر من فرائض الصلاة فلا يُجزئهم ويُعيدون، فإن كان مما لا تعلق له بالصلاة؛ كالزنا، وغَصْب الأموال، وقتل النفس - فصلاتهم جائزة. وهو اختيار أبي الحسن اللخمي". انظر:"مناهج التحصيل"(1/ 288، 289).

وهو المعتمد عند المتأخرين.

يُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 326، 327)، وفيه قال:"والمعتمد: أنه لا تشترط عدالته، فتصبح إمامة الفاسق بالجارحة ما لم يتعلَّق فسقه بالصلاة، كأن يقصد بتقدمه الكِبر، أو يُخل بركن أو شرط أو سنة، على أحد القولين في بطلان صلاة تاركها عمدًا، على أن عدم الإخلال بما ذكر شرط في صحة الصلاة مطلقًا".

ثانيًا: مذهب الحنابلة: سبق ذكر إمامة الفاسق في مذهب الحنابلة، وقلنا: إنها على روايتين؛ إحداهما: الجواز، وقد سبقت، والأخرى: المنع، وهي الرواية الصحيحة. يُنظر:"الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى بن الفراء (1/ 172)، وفيه قال:"واختلفت في إمامة الفاسق هل تصح أم لا؟ فنقل أبو الحارث عنه: لا يُصَلَّى خلف الفاجر، ولا خلف مبتدع ولا فاسق، إلا أن يخافهم فيُصلي ويُعيد. وكذلك نقل أحمد بن أبي عبدة: لا يُصلى خلف إمام يكذب إذا كثر كذبه. وكذلك نقل أبو الصقر: لا يُصلى خلف مَن يأكل الربا؛ لما روي عن النبي أنه قال: "لا يَؤُمَّن فاجرٌ برًّا"، ولأنها إحدى الإمامتين فيصح أن ينافيها الفسق في الدِّين، دليله: الإمامة الكبرى".

ومعتمد المذهب على عدم جواز الصلاة خلف الفاسق مطلقًا إلا في الجمع والأعياد إذا لم يوجد غيره من أهل الفضل.

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 652)، وفيه قال: " (ولا تصح إمامة فاسق مطلقًا)، أي: سواء كان فسقه بالاعتقاد أو الأفعال المحرمة، ولو كان =

ص: 1748

* قوله: (وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ مَقْطُوعًا بِهِ، أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ).

مقطوعًا به: أي معروفًا به، فهذا معتزلي، أو من الخوارج، أو هذا إنسان يشرب الخمر.

* قوله: (فَقَالُوا: إِنْ كَانَ فِسْقُهُ مَقْطُوعًا بِهِ، أَعَادَ الصَّلَاةَ المُصَلِّي وَرَاءَهُ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا اسْتُحِبَّتْ لَهُ الإِعَادَةُ فِي الوَقْتِ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الأَبْهَرِيُّ تَأَوُّلًا عَلَى المَذْهَبِ)

(1)

.

هذا عند المالكية

(2)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ بِتَأْوِيلٍ، أَوْ يَكُونَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، مِثْلَ الَّذِي يَشْرَبُ النَّبِيذَ)

(3)

.

= مستورًا؛ لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)} ، ولما روى ابن ماجه عن جابر مرفوعًا:"لا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلًا، ولا أعرابي مهاجرًا، ولا فاجر مؤمنًا إلا أن يَقهره بسلطان يخاف سوطه وسيفه". (وإن) صلى (بـ) فاسق (مثله)؛ لأنه يمكنه رفع ما عليه من النقص بالتوبة، (أو) صلى الفاسق إمامًا (في نفل)، فلا تصح إمامته على المذهب، (إلا في جمعة وعيد تَعَذَّرَا خلف غيره)، أي: الفاسق، بأن تعذر أُخرى خلف عدل للضرورة". وانظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 474).

(1)

نقله عنه الرجراجي كما سبق. وانظر: "البيان والتحصيل"، لأبي الوليد بن رشد (2/ 154).

(2)

سبق ذكر هذا.

(3)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 138)، حيث قال:"وأما قول الخرقي: "أو يسكر"، فإنه يعني مَن يشرب ما يسكره من أيِّ شراب كان، فإنه لا يصلى خلفه لفسقه. وإنما خصه بالذكر فيما يرى من سائر الفساق؛ لنص أحمد عليه. قال أبو داود: سألت أحمد -وقيل له: إذا كان الإمام يسكر؟ - قال: لا تُصَلِّ خلفه البتة. فأما مَن يشرب من النبيذ المختلف فيه ما لا يسكره، معتقدًا حِلَّه، فلا بأس بالصلاة خلفه. نص عليه أحمد. فقال: يصلى خلف مَن يشرب المسكر على التأويل، نحن نروي عنهم الحديث، ولا نصلي خلف مَن يسكر".

ص: 1749

هذا عند الحنابلة، يعني: يُفَرِّقون بين مَن يشرب الخمر وبين إنسان يشرب من النَّبيذ ما لا يُسكره، لأنَّ من شرب المسكر فالأدلة القطعية على تحريمه، لا خلاف بين العلماء في ذلك؛ لأنَّ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام يقول:"كُلُّ مُسكر خمر، وكل خمر حرام"

(1)

، ويقول عليه الصلاة والسلام:"ما أسكر كثيره فقليله حرام"

(2)

.

ومن قال بالصلاة وراء هؤلاء

(3)

: استدلوا بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صلوا خلف مَن قال: لا إله إلَّا اللَّهُ، وعلى مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ"

(4)

، وهو حديث ضعيفٌ

(5)

.

لكن أُثر عن بعض الصحابة أنَّهم صلوا خلف الفُسَّاق

(6)

، لكن شريطة ألَّا تصل البدعة أو الفسق إلى حد الكفر

(7)

.

* قوله: (وَيَتَأَوَّلُ أَقْوَالَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَجَازُوا الصَّلَاةَ وَرَاءَ المُتَأَوِّلِ، وَلَمْ يُجِيزوهَا وَرَاءَ غَيْرِ المُتَأَوِّلِ

(8)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا: أَنَّهُ شَيْءٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، وَالقِيَاسُ فِيهِ مُتَعَارِضٌ).

(1)

أخرجه مسلم (2003/ 75).

(2)

أخرجه أبو داود (3681)، وغيره. وصححه الألباني في:"صحيح الجامع"(2/ 970).

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 330)، وفيه قال:"والدلالة على ما ذهبنا إليه: رواية العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الجهاد واجب عليكم مع أمير بَرٍّ أو فاجر، والصلاة واجبة عليكم خلف كل بَرٍّ أو فاجر"، وروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صَلُّوا خلف مَن قال: لا إله إلا اللَّه"، وروي أن ابن عمر وأنسًا صلوا خلف الحجاج، وكفى به فاسقًا، ولأن كل مَن صح أن يكون مأمومًا صح أن يكون إمامًا كالعدل".

(4)

أخرجه الدارقطني (2/ 402) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وضعفه الألباني في:"إرواء الغليل"(527).

(5)

قال ابن الملقن: "هذا الحديث رواه الدارقطني في "سننه" من رواية ابن عمر من طرق ثلاثة عنه، وقال: ليس فيها شيء يَثبت". انظر: "البدر المنير"(4/ 463).

(6)

كابن عمر لما صلَّى خلف الحجاج، وقد سبق هذا.

(7)

سبق بيان ذلك.

(8)

سبق نقلُه عن الحنابلة.

ص: 1750

لا خلاف بين العلماء أنَّه يجب أن يُختار للإمامة أصلح الناس لذلك، أي: التقي الورع الصالح، فلا ينبغي أن يُختار فاجر مع وجود مؤمن تقي.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الفِسْقَ لَمَّا كَانَ لَا يُبْطِلُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ المَأْمُومُ مِنْ إِمَامِهِ إِلَّا صِحَّةَ صَلَاتِهِ فَقَطْ -عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ الإِمَامَ يَحْمِلُ عَنِ المَأْمُومِ- أَجَازَ إِمَامَةَ الفَاسِقِ)

(1)

.

لو وجد إمام فاسق لكن فسقه في بعض الأمور؛ كارتكاب الصغائر، ولكن ترك هذا الإمام يترتب عليه ضرر أكبر، نوازن بين المصلحتين؛ لذلك لا ينبغي لإنسان أن يُشدِّد في أمر من الأمور، فالإنسان يُراعي المصلحة؛ لأنَّ الشريعة الإسلامية قامت على مراعاة المصالح

(2)

.

* قوله: (وَمَنْ قَاسَ الإِمَامَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَاتَّهَمَ الفَاسِقَ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي صَلَاةً فَاسِدَةً، كَمَا يُتَّهَمُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَكْذِبَ لَمْ يُجِزْ إِمَامَتَهُ

(3)

.

(1)

ذكر البغوي علة جواز الصلاة خلف الفاسق بخلاف المبتدع الذي يدعو إلى بدعته، فقال:"والصلاة خلف المبتدع أشد كراهية منها خلف الفاسق؛ لأن فسق الفاسق يفارقه في الصلاة، واعتقاد المبتدع لا يفارقه". انظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"(2/ 269).

وكذلك الذين منعوا الصلاة خلف الفاسق قالوا بأن إمامته تحمل ركنًا عن المصلي، فلذلك لا يجوز الصلاة خلفه.

قال القاضي عبد الوهاب: "ولأن الإمامة تتضمن حمل ركن من أركان الصلاة عن المأموم، وهو القراءة، والفاسق لا يؤمن منه تركها، وليست هناك إمارة ولا غالب ظَنٍّ يُؤَمِّننا من ذلك فيه، فيكون المؤتم به مغررًا بصلاته خلفه، ويصير كمَن صلى وحده وشكَّ: هل قرأ أم لا؟ فنقول له: أَعِد صلاتك؛ لأنك على غير يقين من سقوط فرض القراءة عنك، كذلك الائتمام بالفاسق". انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(1/ 280).

(2)

سبق ذكر هذا.

(3)

ولذلك قدموا العدل عليه، وذهبوا إلى أن العدل هو عدل الشهادة. وهذا يفهم منه أن الفاسق يمنع من الصلاة خلفه، قياسًا على منعه من الشهادة. =

ص: 1751

وَلِذَلِكَ فَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَإِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا يَرْجِعُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ).

مقطوعًا به، أي: يجاهر ببدعته، ويدعو إليها. أمَّا غير مقطوع به: فإنَّه لا يُظهرها، ففوق بين أن يرتكب الإنسان ذنبًا ويدافع عنه ويدعو إليه، وبين من يعتقد فيه ذلك، وبين إنسان أخطأ في أمر ويخفي نفسه

(1)

.

* قوله: (لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَقدُورٍ فِي تَأْوِيلِهِ، وَقَدْ رَامَ. . .).

رام: أي: قَصَدَ.

* قوله: (. . . أَهْلُ الظَّاهِرِ أَنْ يُجِيزُوا إِمَامَةَ الفَاسِقِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ"

(2)

. قَالُوا: فَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ فَاسِقًا مِنْ غَيْرِ فَاسِقٍ

(3)

، وَالِاحْتِجَاجُ بِالعُمُومِ فِي غَيْرِ المَقْصُودِ ضَعِيفٌ).

= يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للشيخ الدردير"(1/ 345)، وفيه قال:" (قوله وقدم العدل إلخ)، أي: ما لم يكن مقابله أزيد فقهًا، وكذا يقال في الأورع والحر، واعترض قوله: (والعدل) بما حاصله: أن الذي يقابل العدل هو الفاسق فينحل المعنى، وقدم العدل على الفاسق، فيقتضي أن الفاسق له حق في الإمامة، وليس كذلك، وأجاب تت بأن المراد قدم العدل على مجهول الحال، وفيه نظر، لأن الشيء إنما يقابل بنقيضه، ومجهول الحال ليس نقيضًا للعدل، ولا مساويا لنقيضه، بل أخص من نقيضه، فالأولى أن يراد بالعدل عدل الشهادة ولا يلزم أن يكون مقابله فاسقًا، لأنهم قابلوه في باب الشهادة بالمغفل، وهو ليس بفاسق، لأن المراد به مَن يفعل الفعل بحضرته ولا يتنبه له".

(1)

سبق ذكر هذا.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يُنظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (3/ 127)، وفيه قال:"وتجوز إمامة الفاسق كذلك ونكرهه إلا أن يكون هو الأقرأ والأفقه، فهو أَوْلَى حِينَئذٍ من الأفضل، إذا كان أنقص منه في القراءة أو الفقه، ولا أحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا وله ذنوبٌ".

ص: 1752

يَسْتدلون بحديث: "صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"

(1)

، وهذا الحديث فيه كلام.

وأكثر ما يعتمد عليه الذين قالوا بصحة الإمامة خلف الفاسق: الآثار التي ثبتت عن الصحابة أنَّهم صلَّوا خلف الفُسَّاق.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْقَ أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، أَوْ فِي أُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنِ الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الإِمَامَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ وُقُوعُ صَلَاتِهِ صَحِيحَةً).

مَأْخَذُ هذا القَوْل: أنَّ الفسق إذا كان في شروط الصلاة، فقد أخلَّ في الصلاة؛ كالإمام إذا أحدَث، وأما إذا كانت صلاتُهُ في نفسه صحيحةً، فيَنْبغي أن تكون صلاة غيره خلفَه صحيحة.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي إِمَامَةِ المَرْأَةِ، فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الرِّجَالَ).

هذه قضية قد تجرنا إلى شيء من التفصيل، فلو عدنا وأخذنا نقلب صفحات التاريخ، ونعرض ما يتعلَّق بالمرأة في سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لاحتاج ذلك منَّا إلى كثير من الوقت، لكننا نومئ

(2)

إماءة يسيرة، ونلم إلمامة قصيرة في كل ما يتعلَّق بالمرأة، هنا الأمر يتعلَّق بالإمامة، والإمامة فيها اقتداء، وإنما جعل الإمام ليُؤتم به

(3)

، فهناك إمام يتقدم الناسَ، وهناك

(1)

أخرجه الدارقطني (1761)، وقال ابن الملقن في:"البدر المنير"(4/ 465): "هذا الحديث من جميع طرقه لا يثبت".

(2)

أومأت إيماء، إذا أشرت. انظر:"مقاييس اللغة"، لابن فارس (6/ 145).

(3)

أخرج البخاري (378)، ومسلم (411/ 77)، واللفظ له، عن أنس بن مالك، قال: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس؛ فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعدًا، فصلينا وراءه قعودًا، فلما قضى الصلاة، قال: "إنَّما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا =

ص: 1753

مأمومون يتبعونه في صلاته؛ إذا كبَّر كبَّرُوا، وإذا ركع ركعوا، وإذا رفع رفعوا، وإذا سجد سجدوا، إذًا هم يقتدون به في أفعاله وأقواله، والمرأة في هذا المقام لا تَؤم الرجال، وإن كان فيها خلاف، وليس معنى هذا أنَّ ذلك لنقص في المرأة، أو لأنَّ المرأة لا قيمة لها، فنحن عندما نُجري موازنة يسيرة بين حال المرأة في الجاهلية قبل مبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبين حالتها بعد أدن جاء هذا الإسلام، لوجدنا فرقًا كبيرًا بين أحوال النساء قبل وبعد بعثة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكانت المرأة في الجاهلية حقيرة، لا قيمة لها، فكان ينزل بها كل أنواع الذل والمهانة والاحتقار، فإذا ما توفي عنها زوجها أُلْقي عليها ثوب، فيحجزها قريبُ الزوج

(1)

، وكانوا يَئِدودنَ البنات

(2)

، وكانت المرأة تعتد حولًا كاملًا

(3)

، فجاء الإسلام فنقلها من حالٍ إلى حال، وكما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، وبنو آدم هم الذكر والأنثى، وكلامنا يتعلَّق بالأنثى، والنساء شقيقات الرجال

(4)

، والإسلام قد كرم المرأة، وليس معنى أنَّ المرأة لا ترث إلَّا

= قال: سمع اللَّه لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدا، فصلوا قعودًا أجمعون".

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 902) عن أبي مالك قال: "كانتِ المرأة في الجاهلية إِذا مات زوجُها جاء وليُّه، فألقَى عليها ثوبًا، فإن كان له ابن صغير أو أخٌ -حبَسها حتى تشيبَ أو تموتَ، فيرثُها، فإن هي انفَلتتْ فأتَتْ أهلَها ولم يُلْقِ عليها ثوبًا نَجَتْ؛ فأنزل اللَّهُ عز وجل:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} .

(2)

وَأَدَ ابنته يَئِدُها وَأْدًا، فهي مَوْؤودَةٌ، أي: دفنها في القبر وهي حية. انظر: "الصحاح"، للجوهري (2/ 546).

(3)

أخرج البخاري (5337)، واللفظ له، ومسلم (1489)، وفيه:"قال حميد: فقلت لزينب، وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا، ولبست شَرَّ ثيابها، ولم تمس طيبًا حتى تمر بها سنة، ثم تُؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طائر، فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتُعطى بعرة، فترمي، ثم تراجع بعد ما شاءت مِن طيب أو غيره". سئل مالك ما تفتض به؟ قال: تمسح به جلدها".

(4)

معنى حديث أخرجه أبو داود (236)، وغيره، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "سئل =

ص: 1754

نصف الرجل، أو أنَّها في بعض أنواع الشهادات شهادتها على النصف من الرجل، أو أنَّها لا تتولى الإمارة، أو أنَّها لا تتقدم الناس في صلاة الجماعة - أنها ليست مكرمة.

فهذه الأمور وإن كانت تدل على نقص المرأة؛ فإنما هو نقص يتعلَّق بمطالبتها ببعض الأحكام، لكنها في ذاتها مكرمة معززة، ويكفي في ذلك أن النساء إنَّما هن أمهات الرِّجال، ولما سُئل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: مَن أَحَقُّ الناس بحسن صحابتي؟ ذكر أمه مرارًا، وفي الأخيرة قال:"ثم أبوك"

(1)

.

ذلكم دليل على مكانة المرأة، وأنَّ الجنة تحت أقدام الأمهات

(2)

، وأنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أراد أن يجاهد وعنده أبواه:"ففيهما فجاهد"

(3)

.

= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يَذكر احتلامًا. قال: "يغتسل"، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل. قال:"لا غسل عليه". فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال: "نعم؛ إنَّما النساء شقائق الرجال""، وضعفه الألباني في "مشكاة المصابيح" (441).

(1)

معنى حديث أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548/ 1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، مَن أَحَقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك". قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك". قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك"".

(2)

أخرج القضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 102)، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الجنة تحت أقدام الأمهات"، وضعفه الألباني في "الجامع الصغير"(2666).

وجاء بلفظ آخر صحيح أخرجه النسائي (3104) في "سننه" وغيره، عن معاوية بن جاهمة السلمي "أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟ ". قال: نعم، قال: "فالزمها؛ فإنَّ الجَنَّة تحت رجليها""، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(4939).

(3)

أخرجه البخاري (3004) ومسلم (2549/ 5) عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، يقول:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أَحِيٌّ والداك؟ "، قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد"".

ص: 1755

وكلنا يرى أنَّ سعادته وفوزه واطمئنان نفسه في هذه الحياة ببره بوالديه إن وفقه اللَّه سبحانه وتعالى فأدركهما أو أدرك أحدهما، فهذه سعادة لا تدانيها سعادة، وطمأنينة لا تساويها طمأنينة، ومن يفعل ذلك يحصل على ثواب جزيل، وعطاء كبير من اللَّه سبحانه وتعالى، فاللَّه تعالى سيرفعه ببره درجات، وسيجد ذلك ظاهرًا جليًّا في بر أبنائه به، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يُضيع أعمالهم، واللَّه تعالى قد قرن طاعة الوالدين بطاعته فقال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وفي الآية الأخرى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وأحد الأبوين إنَّما هي امرأة؛ والمرأة لها رسالة: ورسالتها أن تبقى في بيتها لتتولى تربية أبنائها، وتنشئهم التنشئة الصالحة، ونحن نعلم أنَّ البذرة الصالحة لا تنمو إلا بسقي ورعاية، وفي أرض طيبة صالحة، فإذا كانت الأم طيبة، وعنيت بأبنائها ذكورًا وإناثًا، وربتهم تربية صالحة، فإنها تقدم بذلك خدمة جليلة للمجتمع الإسلامي، إذًا هي جوهرة مصونة، والإسلام عندما أمرها أن تقيم في بيتها، وأن تحفظ نفسها من السهام المسمومة إنَّما أراد لها العزة والكرامة، ولم يُرد لها الذل والمهانة، كما كان الحال في الجاهلية: قال جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 33]، ونهاها سبحانه وتعالى عن إبداء الزينة فقال:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، وهذا النهي لتحفظ المرأة كرامتها، فالإسلام إذًا يحفظها، أمَّا ما يشوش به أعداء الإسلام من غير المسلمين، أو ممن -للأسف- ينتسبون إلى جلدتنا، ويتسمَّون باسم الإسلام، ويقدحون فيه، وأنَّه ليس فيه عدالة، وأنَّه مَيَّز الرجل عن المرأة، لم يدركوا دور هذا الدين، ولا سُمُوَّه، ولم يدركوا جلالته وعظمته؛ لأنَّ هذا الدين إنَّما هو دين جامع عند اللَّه سبحانه وتعالى، فهو الذي أنزله على محمد بن عبد اللَّه، وهو سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح هذا البشر:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13]، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].

إذًا كون المرأة لا ترث إلَّا نصف الرجل؛ لأنَّ المرأة لا تتحمل

ص: 1756

مسؤولية الرجل، وكون المرأة شهادتها في بعض الأمور على النصف من شهادة الرجل:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، فاللَّه سبحانه وتعالى بَيَّنَ الحكمة في ذلك؛ كونها قد تضل في هذا المقام، والإسلام لم يُقدم المرأة في الولاية؛ لأنَّ الولاية تحتاج إلى قوة وعزيمة، وهذه تتوفر في الرجال ولا تتوفر في النساء، فالمرأة عندها عاطفة ورقة فلا تستطيع أن تنهض بما ينهض به الرجال، لذلك لما طلب أبو ذر رضي الله عنه الإمارة -وهو من خِيرة الصحابة، وممن أثنى عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له:"يا أبا ذر، إنَّك رجل ضعيف، وإنَّها أمانة"

(1)

.

فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أمرٍ مهم، أنَّ الإمارة تحتاج إلى قوة، وأنَّ من ينهض بها يحتاج أن يكون من أهلها، فالصلاح وحده لا يكفي، قد يوجد الصلاح في المرء لكنَّه لا يستطيع أن يسوس الناس، وأن يقودهم إلى ما فيه الخير، فإذا وجد في الإنسان ضعف فإنَّ ذلك يؤثر على سياسته، ويوجد في الإسلام ما يُعرف بالسياسة الشرعية

(2)

، فالإمامة إنَّما هي تقدم على الناس، هنا فيما يتعلَّق بالإمامة في الصلاة، وهي نوع من أنواع الإمامة؛ لأنَّ هذا رجل يتقدم في الناس فيقتدون به، فينبغي أن تتوفر فيه شروط، منها: أن يكون من أهل الصلاح، وأن يكون أمينًا

(3)

، لذلك بيَّنَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أنَّ الإمام ضامن

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (1825/ 16)، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على مَنكبي، ثم قال:"يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا مَن أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها".

(2)

السياسة: هي القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأموال. انظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (5/ 76).

وقال ابن عابدين: بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد. انظر: "حاشية ابن عابدين"(4/ 15). وانظر: "السياسة الشرعية"، لعبد الوهاب خلاف (ص: 7).

(3)

سبق ذكر هذا.

(4)

أخرجه أبو داود (517)، وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:=

ص: 1757

لذلك دائمًا يختار فيمن يصلي بالناس أن يكون من أهل الخير والصلاح والتقى، ولذلك تبين في مسألة إمامة الصغير أنَّ من العلماء من قال: لا تصح إمامة الصغير؛ لأنَّ في الصلاة أمورًا ربما أخل هذا الصغير ببعضها؛ فيترتب على ذلك فساد الصلاة

(1)

.

إذًا جماهير العلماء؛ ومنهم الأئمة الأربعة يقولون: لا يجوز للرجال أن يُقدموا امرأة لتؤمهم؛ لا في فرض، ولا في نفل

(2)

.

وهناك مَن قال بجواز إمامتها، وقد ذكر المؤلف منهم: ابن جرير الطبري

(3)

،

= "الإمام ضامن والموذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للموذنين"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(217).

(1)

سبق هذا.

(2)

يُنظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 342)، وفيه قال:"ولا يجوز للرجال أن يقتدوا بامرأة ولا صبي، أما المرأة فلقوله عليه السلام: "أخروهن من حيث أخرهن اللَّه"، فلا يجوز تقديمها". وانظر: "الدر المختار" للحصكفي، وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(1/ 565).

ويُنظر في مذهب المالكية: "التاج والإكليل"، لمواق (2/ 412)، وفيه قال:"أو امرأة) المازري: لا تصح إمامة المرأة عندنا، وليُعد صلاته مَن صلى وراءها وإن خرج الوقت. قاله ابن حبيب". وانظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي (1/ 326).

ويُنظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 173)، وفيه قال:(ولا تصح قدوة رجل)، أي: ذكر، وإن كان صبيًّا، (ولا خنثى) مشكل (بامرأة)، أي: أنثى، وإن كانت صبية، (ولا خنثى) مشكل بالإجماع في الرجل بالمرأة إلا مَن شَذَّ كالمزني؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لن يفلح قوم وَلَّوْا أمرَهم امرأة"، ولأن المرأة ناقصة عن الرجل، وقد يكون في إمامتها افتتان بها". وانظر:"البيان"، للعمراني (2/ 398).

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 667)، وفيه قال:" (ولا) تصح (إمامة امرأة) برجال؛ لما روى ابن ماجه عن جابر مرفوعًا: "لا تَؤُمَّن امرأةٌ رجلًا"، ولأنها لا تُؤذن للرجال، فلم يجز أن تؤمهم كالمجنون".

(3)

انظر: "المنتقى شرح الموطإ"، للباجي (1/ 235)، وفيه قال:"فأما الأنوثة فإن المرأة لا تؤم رجالًا ولا نساء في فريضة ولا نافلة، وبهذا قال أبو حنيفة وجمهور الفقهاء، وروى ابن أيمن عن مالك تؤمُّ النِّساء. وقال الطبري وداود: تؤم الرجال والنساء".

ص: 1758

وأبو ثور

(1)

، والمزني من الشافعية

(2)

، لكن ليس معنى هذا أننا إذا وجدنا قولًا لبعض العلماء نأخذ به، فهؤلاء من أئمة الأعلام، وعندما قالوا بجواز إمامة المرأة؛ ما قالوا ذلك تشهيًّا، فينبغي أن ننتبه، فلهم وجهة نظر، ولهم تعليل، لكن لا يلزم أن يكون دليل الإنسان أو تعليله مُسَلَّمًا، فقد يستدل لهم بحديث أم ورقة الذي جاء في "سنن أبي داود" وغيره، أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم جعل لها مُؤذنًا، وأمرها أن تؤم أهلَ دارها

(3)

، فما وجه الدلالة من هذا الحديث لهؤلاء؟ وجه الدلالة أنَّهم قالوا: أمرها أن تؤم أهل دارها، فقد أطلق، قالوا: وأهل دارها فيهم الذكر والأنثى، ففي ذلك دليل على أنَّ المرأة تؤم الكل

(4)

.

(1)

انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 296)، وفيه قال:"لا يصح الائتمام بالمرأة للرجال والنساء. وأجازه أبو ثور وغيره للرجال والنساء".

(2)

الذي وقفت عليه ما نقله المزني عن الشافعي مِن آثار تدل على جواز إمامتها للنساء، وهو مذهب الشافعية.

يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 117)، وفيه قال:"باب إمامة المرأة (قال الشافعي): أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة: "أنها صلت بنسوة العصر؛ فقامت وسطهن"، وروي عن أم سلمة: "أنها أَمَّتْهُنَّ فقامت وسطهن"، وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه كان يأمر جارية له تقوم بأهله في رمضان، وعن صفوان بن سليم قال: من السنة: أن تصلي المرأة بنساء تقوم وسطهن".

وقال المازري: "لا تصح إمامة المرأة عندنا وعند أبي حنيفة لا رجالًا ولا نساء. وحكى بعض أصحابنا عن الطبري وداود وأبي ثور جواز إمامتها رجالًا ونساء، ورأيت في نقل غيرهم عن أبي ثور والمزني والطبري: أنهم أجازوا أن تؤم الرجال في التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها، وتقف خلف الرجال". انظر: "شرح التلقين"(1/ 670).

(3)

أخرجه أبو داود (592)، عن أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث بهذا الحديث، قال:"وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنًا يُؤذن لها، وأمرها أن تَؤم أهلَ دارها، قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخًا كبيرًا"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(606).

(4)

ذكر الرجراجي حجة من قال بهذا القول، ثم رد عليه.

يُنظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (1/ 301)، حيث قال: "فالأثر: ما خرَّجه =

ص: 1759

وقالوا: ولأنَّ المرأة معتبرة في الصلاة؛ لأنَّها تصلي مع الجماعة وتقف وراءهم، إذًا فهي معتبرة في الإمامة، ولأنَّه إذا وجد امرأة قارئة، ولم يوجد من الرجال مَن هو قارئ، والقراءة ركن في الصلاة، فينبغي أن تصلي بهم المرأة؛ لذلك وُجِد في مذهب الحنابلة أنَّه إذا لم يوجد من الرجال قارئ أنَّ للمرأة أن تؤم، هذا قولٌ للحنابلة

(1)

، وليس هذا القول هو المعروف أو المصحح في المذهب، لكن تؤم في صلاة التراويح وليس في الفرائض، وبشترطون أن تتأخر عن الرجال

(2)

.

= أبو داود من حديث أم ورقة: "أن الرسول عليه السلام كان يزورها في بيتها، فجعل لها مؤذنًا يُؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها"، إلا أن ظاهر هذا الحديث يدل على أن إمامتها للرجال والنساء جائزة، إلا أن هذا الظاهر مخصوص بما قدمناه".

وذكر ابن الرفعة وجهًا آخر في الرد على الحديث، فقال:"ووجه الدلالة منه: أنه عام في التراويح وغيرها، وفي الرجال والنساء. وجوابه: أن الدارقطني قال: إنما أَذِن لها أن تؤم نساء أهل دارها، ويجب الحمل على ذلك؛ فإنها كانت تؤم في الفرائض؛ ولذلك جعل لها مؤذنًا، والأذان إنَّما يشرع في الفرائض". انظر: "كفاية النبيه في شرح التنبيه"(4/ 29).

(1)

اتفق المذهب على عدم جواز إمامة المرأة للرجال في الفرائض والنوافل، وذهب بعضهم إلى جواز ذلك في صلاة التراويح فقط.

يُنظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 95، 96)، وفيه قال:" (وأما المرأة) فلا يجوز أن تؤم رجلًا، ولا خنثى مشكلًا؛ لما روى جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَؤُمَّن امرأة رجلًا. . . "، وكلامه يشمل الفرض والنفل، ولا نزاع في الفرض، أما في النفل فظاهر كلام الخرقي -أيضًا- المنع، وهو رواية حكاها ابن أبي موسى، وهو اختيار أبي الخطاب وأبي محمد؛ عملًا بإطلاق الحديث. ومنصوص أحمد -في رواية المروذي، وهو اختيار عامة الأصحاب- أنها يجوز أن تؤمهم في صلاة التراويح، وتكون وراءهم. . . (وشرط هذه المسألة): أن تكون قارئة وهم أميون، أو يحسنون الفاتحة أو شيئًا يسيرًا معها".

(2)

ردَّ ذلك ابن قدامة، فقال:"وقال بعض أصحابنا: يجوز أن تؤم الرجال في التراويح، وتكون وراءهم؛ لما روي عن أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جعل لها مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها آن تؤم أهل دارها"، وهذا عام في الرجال والنساء.

ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَؤمَّنَّ امرأة رجلًا"، ولأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز أن تؤمهم؛ كالمجنون. وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها، كذلك =

ص: 1760

وهنا يقع الخلاف في موقف المأموم من الإمام، هل يجوز أن يتقدم المأموم على الإمام أو لا؟

في هذه المسألة خلاف، وأظن أنَّ المؤلف سيعرض لها، لكن نشير إشارة يسيرة إلى أنَّ جماهير العلماء من الأحناف، والشافعية والحنابلة يقولون: لو تقدم المأموم على الإمام فسدت صلاته

(1)

. والمالكية يجيزون ذلك، ويقولون: لو تقدم مأموم أو مأمومون على إمام لجاز ذلك

(2)

.

= رواه الدارقطني. وهذه زيادة يجب قبولها، ولأن تخصيص ذلك بالتراويح واشتراط تأخرها تَحَكُّم يُخالف الأصول بغير دليل، فلا يجوز المصير إليه، ولو قُدِّر ثبوت ذلك لأم ورقة؛ لكان خاصًّا بها، بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة، فتختص بالإمامة لاختصاصها بالأذان والإقامة". انظر:"المغني"(2/ 146، 147).

(1)

مذهب الأحناف، يُنظر:"منحة الخالق"، لابن عابدين (1/ 365)، وفيه قال:"وأعلم أن شرائط القدوة مفصلة: الأولى: أن لا يتقدم المأموم على إمامه مع اتحاد الجهة، فإن تقدم مع اختلافها كالتحلق حول الكعبة صَحَّ".

ومذهب الشافعية قولان. يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 341، 342)، وفيه قال:"فأما إذا تقدم المأموم على إمامه في الموقف، فوقف قُدَّام إمامه فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون بمكة. والضرب الثاني: بغيرها. فإن كان بغير مكة ففي بطلان صلاة المأموم المتقدم على إمامه قولان: أحدهما: قاله في (القديم): صلاته جائزة؛ لأنه ليس في التقدم على الإمام أكثر من مخالفة الموقف المسنون، ومخالفة الموقف المسنون لا يمنع من صحة الصلاة. والقول الثاني: قاله في (الجديد) وهو الصحيح: صلاته باطلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما جعل الإمام ليؤتم به"، والائتمام: الاتباع، والمتقدم على إمامه لا يكون تابعًا، بل يكون متبوعًا، ولأن على المأموم اتِّباع إمامه في موقفه وأفعاله، فلما لم يَجز له التقدم عليه في إحرأمه وأفعاله صلاته لم يجز له التقدم عليه في موقف صلاته". وانظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 510).

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 683)، وفيه قال:"أما إذا تقدم المأموم عليه فيها فلا تصح صلاته؛ لتحقق التقدم، بخلاف تقدمه في الجهة المقابلة لما بإزاء الإمام، فهذا لا فرق بينه وبين يمنة الإمام ويسرته، فتصح صلاته في الجهات الثلاث، ولو كان إلى الكعبة أقرب من الإمام؛ لأنه لم يتحقق تقدمه عليه".

(2)

يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 300)، وفيه =

ص: 1761

ومن العلماء من جوز ذلك للحاجة، وهو رأي في مذهب الحنابلة

(1)

، كما نرى في ازدحام الناس أيام الحج، أو في حالة ضيق المكان، وغير ذلك إذا وجدت علة

(2)

.

= قال: "المأموم إذا وقف قدام إمامه كره له ذلك وأجزأه. خلافًا للشافعي؛ لأن اختلاف المقام لا تأثير له في فساد الصلاة من جهة المأموم، أصله: إذا وقف عن يساره أو قامت امرأة إلى جنبه، ولأنه مساويه في النية متبع له في أفعاله، مساويه في بسيط الأرض؛ فلم يضر اختلاف المقام فيما سواه، أصله إذا كان وراءه".

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 465، 466)، وفيه قال:" (ويحرم سبقه)، أي: سبق المأموم الإمام (بشيء من أفعالها، فإن ركع، أو سجد، ونحوه) كأن رفع من ركوع أو سجود (قبل إمامه عمدًا حرم). . .، (ولم تبطل) صلاته (إن رفع ليأتي به)، أي: بما سبق به إمامه (معه، ويدركه فيه)، أي: فيما سبق به. . . (فإن لم يفعل)، أي: يرجع ليأتي به مع إمامه (عالمًا عمدًا بطلت صلاته). . . (وإن فعله)، أي: ركع أو سجد، ونحوه قبل إمامه (جهلًا أو سهوًا، ثم ذكره لم تبطل) صلاته لما تقدم من أنه سبق يسير، ولحديث: "عُفي لأُمَّتي عن الخطأ والنسيان". . .، (وإن تخلف) المأموم (عنه بركعة فأكثر، لعذر من نوم أو غفلة ونحوه)؛ كزحام (تابعه) فيما بقي من صلاته، (وقضى) المأموم ما تخلف به (بعد سلام إمامه، جمعة) كانت (أو غيرها، كمسبوق) ".

(2)

من ذلك -أيضًا- أن يتقدم المأموم على إمامه في الحرم.

اتفقوا على جواز تقدم المأموم الإمام إذا كان ذلك في الكعبة بأن يتحلقوا حولها، أما إذا كان يصلي أَمامَهم وهم مِن خلفه، فلا يجوز لهم التقدم عليه.

يُنظر في مذهب الأحناف: "منحة الخالق"، لابن عابدين (1/ 365)، وفيه قال:"واعلم أن شرائط القدوة مفصلة: الأولى: أن لا يتقدم المأموم على إمامه مع اتحاد الجهة، فإن تقدم مع اختلافها كالتحلق حول الكعبة صَحَّ".

ويُنظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 491)، وفيه قال:" (و) الجماعة (يستديرون في المسجد الحرام حول الكعبة) ندبًا لاستقبال الجميع ضاق المسجد أم لا، خلافًا للزركشي، لكن الصفوف أفضل من الاستدارة، ويندب أن يقف الإمام خلف المقام، ولو وقف صف طويل في آخر المسجد بلا استدارة حول الكعبة جاز، على ما جزم به الشيخان، وإن كانوا بحيث يخرج بعضهم عن سمتها لو قربوا خلافًا للزركشي، (ولا يضر كونه)، أي: المأموم (أقرب إلى الكعبة في غير جهة الإمام) منه إليها في جهته (في الأصح)؛ لأن رعاية القرب والبعد في غير جهة الإمام مما يشق بخلاف جهته، ولا يظهر به مخالفة منكرة".

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 279)، وفيه قال: =

ص: 1762

أمَّا القول الصحيح في ذلك: فإنَّه لا ينبغي أن يتقدم المأموم على الإمام

(1)

.

وجماهير العلماء يقولون: إنَّ المرأة لا يجوز لها أن تؤم الرجال، وإن صلى رجال وراء امرأة فصلاتهم غير صحيحة

(2)

، بل من العلماء مَن يرى أنَّ المرأة لو صَفَّت مع الرجل في صف واحد لبطلت الصلاة كما عند الحنفية

(3)

.

وإن كان الجمهور لا يرون بطلان الصلاة، لكن الحنفية في مذهبهم أنَّ صلاة الرجل تبطل لو صفت المرأة معه، أمَّا جمهور العلماء فلا يرون بطلان ذلك

(4)

، فما بالكم إذا تقدمت.

= " (وفيما إذا تقابلا)، أي: الإمام والمأموم داخل الكعبة (أو تدابرا داخل الكعبة) فيصح الاقتداء؛ لأنه لا يتحقق تقدمه عليه، و (لا) تصح صلاة مأموم (إن جعل ظهره إلى وجه إمامه) داخل الكعبة كخارجها؛ لتحقق التقدم، (وفيما إذا استدار الصف حولها)، أي: الكعبة، (والإمام عنها)، أي: الكعبة (أبعد ممن)، أي: المأموم الذي (هو في غير جهته) بأن كانوا في الجهة التي عن يمينه، أو شماله، أو مقابلته، وأما الذين في جهته التي يصلي إليها، فمتى تقدموا عليه لم تصح لهم؛ لتحقق التقدم".

(1)

سبق ذكر هذا.

(2)

وهو مذهب الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة، كما سبق.

(3)

يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 58)، وفيه قال:"ويَصُفُّ الرجال ثم الصبيان ثم النساء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لِيَلِيَنِي منكم أُولو الأحلام والنُّهى"، ولأن المحاذاة مفسدة فيؤخرن، وإن حاذته امرأة -وهما مشتركان في صلاة واحدة- فسدت صلاته إن نوى الإمام إمامتها، والقياس: أن لا تفسد، وهو قول الشافعي رحمه الله اعتبارًا بصلاتها حيث لا تفسد".

(4)

يُنظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 211)، وفيه قال:" (ومَن صلى بزوجته) المراد بامرأة ولو أجنبية (قامت خلفه)، ولا تقف عن يمينه، فلو وقفت بجنبه كالرجل كره لها ذلك، وينبغي أن يُشير لها بالتأخير، ولا تبطل صلاة واحد منهما بالمحاذاة إلا أن يحصل ما يبطل الطهارة، كما هو معلوم".

ويُنظر في مذهب الشافعية: "فتح العزيز بشرح الوجيز"، للرافعي (4/ 340، 341)، وفيه قال: "وإن كان معه رجل وامرأة وخنثى وقف الرجل عن يمينه والخنثى خلفهما لاحتمال أنه امرأة، والمرأة خلف الخنثى؛ لاحتمال أنه رجل، وإن حضر رجال =

ص: 1763

إذًا هناك من يمنع أن تؤم المرأة الرجال مطلقًا، سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلًا" وهذا هو رأي جماهير العلماء

(1)

.

وهناك من يجيز ذلك، وهذا قوله لمن يجيز ذلك مطلقًا؛ وهو قوله أبي ثور، والمزني، وابن جرير الطبري المفسر المشهور، وهناك من يجيز إمامة المرأة في الفرائض عند الحاجة؛ والحاجة أن تكون قارئة وهم لا يقرؤون، وأن تكون وراء الرجال

(2)

.

ثم نعود إلى حديث أم ورقة؛ وفيه: "أن تؤم أهل دارها"، فقالوا: أهل دارها يشمل الرجال والنساء، لكن جاء في رواية عند الدارقطني:"أن تؤم نساء دارها"

(3)

. قالوا: وهذه زيادة، والأخذ بها متعين، قالوا: لو لم يرد ذلك لكان المفهوم أنَّ القصد بذلك هو أن تؤم المرأة نساء مثلها

(4)

.

= وصبيان وقف الرجال خلف الإمام في صف أو صفوف والصبيان خلفهم، وعن بعض الأصحاب: أنه يوقف بين كل رجلين صبيًّا؛ ليتعلموا منهم أفعال الصلاة، ولو حضر معهم نساء أُخر صَفَّ النساء عن صف الصبيان، وأما النساء الخلص إذا اقمن الجماعة فقد ذكرنا أنهن كيف يقفن، وكل هذا استحباب ومخالفته لا تؤثر في بطلان الصلاة بحال".

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 171)، وفيه قال:"وإن أَمَّ رجل أو خنثى امرأة وقفت خلفه، فإن وقفت عن يمينه أو عن يساره فكرجل في ظاهر كلامهم، ويكره لها الوقوف في صف الرجال فإن فعلت لم تبطل صلاة مَن يليها، ولا مَن خلفها، ولا إمامها، ولا صلاتها".

(1)

هو مذهب الفقهاء الأربعة، كما سبق.

(2)

وهو قول لبعض الحنابلة، كما سبق، ولكن قالوا بجواز ذلك في التراويح فقط، لا في جميع النوافل، ولا في الفرائض.

(3)

أخرج الدارقطني في "سننه"(2/ 21)، عن أم ورقة:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَذِن لها أن يُؤذن لها ويقام، وتَؤم نساءها". والحديث فيه الوليد بن جميع وهو ضعيفٌ، وأمُّه مجهولةٌ. قال ابن حبان:"لا يحتجُّ بالوليد بن جميع". انظر: "تنقيح التحقيق"، لابن عبد الهادي (2/ 82).

(4)

سبق ذكر هذا من كلام ابن قدامة وغيره.

ص: 1764

والمرأة إذا أَمَّت النساء فإنها تتوسطهنَّ

(1)

.

واستدلوا بحديث: "لا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلًا"

(2)

، وهذا الحديث فيه كلام، فلو صحَّ لزال كل خلاف، وإن كنا نرى أنَّ إمامة المرأة للرجال لا تصح مُطلقًا، وهذا هو الرأي الصحيح، وهو قول الأئمة الأربعة، وهذا

(1)

وهذا مذهب الجمهور، وخالف المالكية؛ لأنهم يرون عدم جواز صلاة المرأة بالنساء، ولو جاز ذلك فتكون مثل إمامة الرجل للرجال.

انظر في مذهب الأحناف: "النتف في الفتاوى"، للسغدي (1/ 72)، وفيه قال:"إذا أمَّ الرجلُ الرجالَ ينبغي أن يقوم قُدَّام القوم والقوم خلفه، وإذا أمَّت المرأةُ النساء ينبغي لها أن تقوم وسط القوم". وانظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 565، 566).

وانظر في مذهب الشافعية: "حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج"(2/ 194)، وفيه قال:" (قوله: وتقف إمامتهن وسطهن) المراد: أن لا تتقدم عليهن، وليس المراد استواء مَن على يمينها ويسارها في العدد خلافًا لما توهمه بعض ضعفة الطلبة فليُحرر. (قوله: وسطهن) قرر م ر أنَّها تتقدم يسيرًا بحيث تمتاز عنهن، وهذا لا ينافي أنها وسطهن اهـ. سم على منهج. فإن لم يحضر إلا امرأة فقط وقفت عن يمينها أخذًا مما تقدم في الذكور". وأنظر: "الغرر البهجة"، لزكريا الأنصاري (1/ 447).

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 278، 279)، وفيه قال:" (و) إلا (امرأة أَمَّت نساء، فـ) تقف (وسطًا) بينهن (ندبًا)؛ روي عن عائشة رضي الله عنها، ورواه سعيد عن أم سلمة، ولأنه أستر لها".

أما مذهب المالكية -كما سبق- فلا يرون جواز إمامتها أصلًا.

يُنظر: "شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة"(1/ 172)، وفيه قال:" (ولا تؤم المرأة في فريضة ولا نافلة لا رجالًا ولا نساء): ما ذكره هو المشهور وأحد الأقوال الثلاثة، وروى ابن أيمن أنها تؤم النساء وإلا كره، قال عياض في "الإكمال": واختاره بعض شيوخنا. وقال اللخمي: إن عدم الرجال أَمَّت النساء، وإلا كره وصَحَّت، وعلى المشهور فَمَن أَمَّته أعاد أبدًا، لو كانت أمرأة على ظاهر قول ابن حبيب: مَن صلى خلفها أعاد أبدًا، وبه الفتوى. . . قلت: وكان بعض مَن لقيناه يذهب إلى أنها تقف آخرهن وحدها وهُنَّ أمامها؛ لقوله عليه السلام: "أَخِّروهن حيث أَخَّرهن اللَّه"، وكنت أُجيبه بأن معنى الحديث: إنما هو حيث تكون مأمومة، وأمَّا إذا أمت النساء على القول به، فتصير كرجل مع رجال، واللَّه أعلم".

(2)

جُزء من حديث أخرجه ابن ماجه (1081) عن جابر رضي الله عنه، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(524).

ص: 1765

أمر قد اشتهر، ولم يُعلم أنَّ امرأة أَمَّت رجالًا، ولو ثبت ذلك لنُقل إلينا، ولو كان ذلك جائزًا لبيَّنه الرَّسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه حكم شرعي، والحكم الشرعي يجب بيانه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والرسول مُبَلِّغ مُبين عن اللَّه تعالى، وهو لا يؤخر البيان عن وقته

(1)

.

وقد ورد عن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: "لا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلًا"

(2)

، وجاء في أثر عبد اللَّه بن مسعود:"أخروهنَّ من حيث أخرهنَّ اللَّه"

(3)

.

فالمرأة تؤخر عن الرجال، لا لنقص فيها كما قلنا، ولكن هذه هي منزلتها، ولذلك في الحديث الصحيح:"خبرُ صفوف الرجال أولها، وآخرها شرُّها، وخبر صفوف النساء آخرها، وشرها أولها"

(4)

.

ولا ننسى أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَذِن أن يُتخذ لأم ورقة مُؤذنًا يُؤذن لها، لذلك يقول الجمهور: لا يجوز لها أن تؤذن لنفسها

(5)

، كذلك لا يجوز لها

(1)

سبق بيان هذه القاعدة.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 149) موقوفًا عن ابن مسعود، قال:"كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يُصلون جميعًا، فكانت المرأة لها الخليل تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فألقي عليهن الحيض، فكان ابن مسعود يقول: "أَخِّروهن حيث أخرهن اللَّه"، قال الألباني: "لا أصل له مرفوعًا، والصحيح: أنه موقوف على ابن مسعود كما في "كشف الخفاء". قلت: والموقوف صحيح الإسناد، ولكن لا يحتج به لوقفه، والظاهر أن القصة من الإسرائيليات". انظر:"سلسلة الأحاديث الضعيفة"(918).

(4)

أخرجه مسلم (440/ 132).

(5)

يُنظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 150)، وفيه قال:" (وأما) الذي يرجع إلى صفات المؤذن فأنواع أيضًا: (منها:) أن يكون رجلًا، فيُكره أذان المرأة باتفاق الروايات؛ لأنها إن رفعت صوتها فقد ارتكبت معصية، وإن خفضت فقد تركت سنة الجهر؛ ولأن أذان النساء لم يكن في السلف، فكان من المحدثات".

ويُنظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 174)، وفيه قال:"والذكورة: فلا يصح أذان المرأة ولو لنساء، فأذانها بحضرة الرجال حرام، وقيل: مكروه". =

ص: 1766

أن تؤم الرجال، يعني: من باب أولى

(1)

، وقاسوا ذلك -أيضًا- على الرجال.

وهناك مسألة تتفرع عن هذه، ولكن لم يذكرها المؤلف؛ وهي: للرجل أن يؤم النِّساء اللاتي هو مَحرم لهنَّ، وكذلك النساء اللاتي معهنَّ رجال؛ لأنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كان يؤم الرجال ويوجد النساء، وكذلك الصحابة

(2)

.

= ويُنظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 320)، وفيه قال:" (ويندب لجماعة النساء الإقامة) بأن تأتي بها إحداهن (لا الأذان على المشهور) فيهما؛ لأن الأذان يخاف من رفع المرأة الصوت به - الفتنة، والإقامة لاستنهاض الحاضرين ليس فيها رفع صوت كالأذان. والثاني: يندبان بأن تأتي بهما واحدة منهن، لكن لا ترفع صوتها فوق ما تسمع صواحبها. والثالث: لا يندبان: الأذان لما تقدم، والإقامة تبع له ويجري الخلاف في المنفردة بناءً على ندب الأذان للمنفرد".

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (1/ 300)، وفيه قال:"ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل ذكر، فأما الكافر والمجنون فلا يصح منهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات. ولا يعتد بأذان المرأة؛ لأنها ليست ممن يشرع له الأذان، فأشبهت المجنون". وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 132).

(1)

سبق بيان هذا.

(2)

اتفق الفقهاء على كراهة إمامة الرجل لنساء لا محرم معهن، وأن ذلك يجوز إذا كُنَّ محارم له.

يُنظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 86)، وفيه قال:"وكذلك يكره إذا أَمَّهن رجل في بيت وليس معهن محرم له أو زوجة، لا في المسجد مطلقًا كما في (البحر) ".

يُنظر في مذهب المالكية: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 129)، وفيه قال:"أن يكون معه امرأة أو نساء فيقفن وراءه، إلا أنه يكره له إن كان أجنبيًّا من النسوة أن يَؤمهن للخلوة بهن، وهو مع الواحدة أشد كراهة، وقال ابن نافع عن مالك: لا بأس أن يؤم الرجل النساء لا رجال معهن إذا كان صالحًا. انتهى".

يُنظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (2/ 413)، وفيه قال:"وإن أَمَّ رجل نساء من ذوي محارمه جاز، ولم يكره له الخلو بهن؛ لأنه يجوز له الخلو بهن، وإن كن مِن غير ذوات محارمه، فإن كن امرأة أو امرأتين كره له الخلو بهن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة، فإنَّ ثالثهما الشيطان"، فإن كن نساء كثيرًا، فهل يجوز للرجل الأجنبي الخلو بهن؛ فيه وجهان، حكاهما القاضي". =

ص: 1767

ولذلك عائشة رضي الله عنها بيَّنت أنَّ النساء كن يخرجن متلفعات لا يُعرفن من شدة الغلس

(1)

، وقالت:"لو رأى رسولُ اللَّه ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد"

(2)

.

إذًا يصلين، لكن القصد ألَّا يخلو رجل أجنبي بنساء وحده، وأمَّا في المساجد فغير ممنوع.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي إِمَامَتِهَا النِّسَاءَ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَمَنَعَ ذَلِكَ مَالِكٌ)

(3)

.

فأمَّا إمامتها النساء فأجاز ذلك الشافعي

(4)

، وأحمد

(5)

، ومعلوم أنَّ أم

= ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 483)، وفيه قال:" (و) يكره (أن يؤم رجل) أنثى (أجنبية فأكثر، لا رجل معهن)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلو الرجل بالأجنبية، ولما فيه من مخالطة الوسواس. (ولا بأس) أن يؤم (بذوات محارمه) أو أجنبيات معهن رجل فأكثر؛ لأن النساء كن يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة".

(1)

أخرجه البخاري (578)، واللفظ له، ومسلم (645/ 232)، عن عائشة، قالت:"كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغَلس".

والغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (3/ 377).

(2)

أخرجه البخاري (869)، ومسلم (445/ 144)، واللفظ له، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول:"لو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد، كما مُنعت نساء بني إسرائيل. قال: فقلت لعمرة: أنساء بني إسرائيل مُنعن المسجد؟ قالت: نعم".

(3)

سبق ذكر مذهب المالكية.

(4)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 356)، وفيه قال:"مذهب الشافعي أنه يستحب لها أن تؤم النساء فرضًا ونفلًا". وانظر: "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، للشربيني (1/ 166).

(5)

يُنظر: "كشاف القناع عن متن الإقناع"، للبهوتي (1/ 479)، وفيه قال:" (وتصح) إمامة المرأة بنساء، لما رواه الدارقطني عن أم ورقة "أنه صلى الله عليه وسلم أَذِن لها أن تَؤُم نساء أهل دارها"".

ص: 1768

ورقة كانت تؤم

(1)

. وقيل: عن عائشة أنها أَمَّت

(2)

، وكذلك حفصة

(3)

، ونُقل عن أبي حنيفة أنَّ إمامتها للنساء تجوز مع الكراهة

(4)

.

* قوله: (وَشَذَّ أَبُو ثَوْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ).

وكذلك المزني.

* قوله: (فَأَجَازَا إِمَامَتَهَا عَلَى الإِطْلَاقِ).

وكما قال المؤلف يُعتبر قولهم قولًا شاذًّا

(5)

.

* قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِهَا أَنْ تَؤُمَّ الرِّجَالَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الصَّدْرِ الأَوَّلِ؛ وَلأَنَّهُ أَيْضًا لَمَّا كَانَتْ سُنَّتُهُنَّ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 141)، وغيره، عن ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، أن عائشة "كانت تؤم النساء في التطوع، تقوم معهن في الصف".

وثبت ذلك أيضًا عن أم سلمة؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 430)، عن أم الحسن: أنها رأت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تؤم النساء، تقوم معهن في صفهن".

وصحح الألباني هذه الآثار بمجموع طرقها، فقال:"وبالجملة فهذه الآثار صالحة للعمل بها، ولا سيما وهي مؤيدة بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما النساء شقائق الرجال"". انظر: "تمام المنة في التعليق على فقه السنة"(ص: 154، 155).

(3)

لم أقف عليه، ولعل الصواب أنها أم سلمة، كما سبق.

(4)

يُنظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (2/ 861، 862)، وفيه قال:"قال أصحابنا: يكره للنساء أن يصلين جماعة؛ لأن الجماعة لو كانت تُستحب للنساء كما تستحب للرجال لبيَّن ذلك عليه السلام وحَثَّ عليه، ولو فعل لنقل من طريق الاستفاضة، ولأنه لا يسن لهم الأذان، وكل صلاة راتبة لا أذان لها لا يستحب فعلها في جماعة؛ كالنوافل. وما احتجوا به عن أم ورقة بنت نوفل أن النبيَّ كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنًا يُؤذن لها، وأمرها أن تؤم بأهل دارها. فهذا كان في ابتداء الإسلام، وقد كن النساء يحضرن الجماعات. أما ما روي عن عائشة أنها صلت بنسوة العصر، فقامت وسطهن. فجوابه أن هذا يدل على الجواز، والخلاف في الكراهة. ويجوز أن يَكُنَّ فَعلن ذلك على طريق التعليم".

(5)

سبق ذكر هذا كله.

ص: 1769

فِي الصَّلَاةِ التَّأْخِيرَ عَنِ الرِّجَالِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ يَجُوزُ لَهُنَّ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"أَخِّرُوهُنَّ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ")

(1)

.

هذا الحديث موقوف على عبد اللَّه بن مسعود، وليس بمرفوع، أخرجه عبد الرزاق

(2)

.

* قوله: (وَلذَلِكَ أَجَازَ بَعْضُهُمْ إِمَامَتَهَا النِّسَاءَ إِذْ كُنَّ مُتَسَاوِيَاتٍ فِي المَرْتبَةِ فِي الصَّلَاةِ)

(3)

.

إنَّما يقصد أنَّه كالحال بالنسبة للرجال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه"

(4)

، فكذلك الحال بالنسبة للنساء.

* قوله: (مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّدْرِ الأَوَّلِ

(5)

. وَمَنْ أَجَازَ إِمَامَتَهَا، فَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ وَرَقَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُهَا فِي بَيْتِهَا، وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا"

(6)

. وَفِي هَذَا البَابِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ؛ أَعْنِي: اخْتِلَافَهُمْ فِي الصِّفَاتِ المُشْتَرَطَةِ فِي الإِمَامِ؛ تَرَكْنَا ذِكرَهَا لِكَوْنِهَا مَسْكُوتًا عَنْهَا فِي الشَّرْعِ).

(1)

يُنظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 296)، وفيه قال:"فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "أَخِّروهن حيث أَخَّرهن اللَّه"، وفي الائتمام بهن خلاف ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها". وهذا ينفي تقديمهن. ولأن الأنوثية نقص لازم مؤثر في سقوط وجوب الصلاة، فكان مؤثرًا في منع الإمامة، كالرق والصغر، ولأن كل مَن لم يصح أن يكون إمامًا للرجال لم يصح أن يكون إمامًا للنساء؛ كالمجنون والصبي".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

سبق ذكر مذاهب العلماء في إمامة المرأة للنساء.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

ثبت هذا عن عائشة وأم سلمة وأم ورقة بنت نوفل. كما سبق.

(6)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1770

فالمؤلف هنا لم يذكر إلَّا قليلًا من كثيرٍ، فلم يُعرج على جميع جزئيات مسائل هذا الباب المتعلق بالإمامة، وإنَّما ذكر أصول هذا الباب، لذلك سيذكر (السموع)؛ أي: ما نطق به النَّص، كما يذكر ذلك أحيانًا:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسُّنَّة"

(1)

.

إذًا أخذ ما يتعلَّق بالقراءة، لكنَّه لم يتطرق للجزئيات الأخرى المتعلقة بذلك، ومنها التي تتعلق بالورع والصلاح، وغير ذلك.

* قوله: (قَالَ القَاضِي: وَقَصْدُنَا فِي هَذَا الكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ المَسَائِلِ المَسْمُوعَةِ، أَوْ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ قَرِيبٌ بِالمَسْمُوعِ).

يريد ما نطق به النَّصُّ: "يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب اللَّه"، "لا صلاةَ لفرد خلف الصف"

(2)

. هذه نطق بها الرَّسُول، أو ما هو قريب من ذلك مما هو قريب من النص؛ يعني يقصد به ما نص عليه، أو ما يوافق ذلك المنصوص عليه، وهو ما نعرفه من مفهوم الموافقة، أمَّا المسائل التي تتفرع عن ذلك فلم يَعرض لها، ولذلك ذكرنا من قبل أنَّه ذكر في كتاب القذف؛ فقال:"إن أنسأ اللَّه في عمري -يعني: إن أمد اللَّه في عمري- فسأكتب كتابًا في فروع مذهب مالك"، فلم يكتب في الفروع، وإنَّما كتب في الأصول

(3)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان في "صحيحه"(5/ 579، 580)، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان، عن أبيه، وكان أحد الوفد، قال:"قدمنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاته إذا رجل فرد، فوقف عليه نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى قضى الرجل صلاته، ثم قال له نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم: "استقبل صلاتك فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف""، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(2199)، وبنحوه أخرجه ابن ماجه (1003)، وصححه الأرناؤوط.

(3)

قال أبو المعالي الجويني في تعريف الفروع: "وأصح ما يقال فيها أن نقُول: كل حكم في أفعال المكَلَّفين لم يقم عليه دلالة عقل، ولا ورد في حكمه المختلف فيه دلالة سمعية قاطعة، فهو من الفروع". انظر: "الاجتهاد"(ص: 27). =

ص: 1771

وذكرنا أنَّ العلماء السابقين يعتبرون هذا الكتاب كتاب قواعد وليس كتاب فقه

(1)

.

وأنا أقصد بالقواعد هنا: القواعد الفقهية، لذلك يقسم العلماء المجموعة الفقهية إلى ثلاثة أقسام: أصول فقه -قواعد فقهية- فروع فقهية، فالأصول هو فقه، لكن اصطلح العلماء على أن يُسموه أصولًا، واصطلحوا على تسمية الفروع: فروع فقه

(2)

، واصطلحوا على تسمية القواعد: قواعد فقهية

(3)

، وإلَّا فكلها تلتقي في شيء واحد، ولذلك تمثل مجموعة واحدة أصول، ثم يأتي بعده قواعد، ثم المسائل الفرعية الكثيرة التي تُمسك بها هذه القواعد، والتي تعتبر قواعد أصولية، وموازين

= والأصول في اللغة: هي الأدلة، والمراد با لأدلة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال. انظر:"البحر المحيط في أصول الفقه"، للزركشي (1/ 41).

وقال الشاطبي في تبيين الفرق بينهما: "الناظر في المسائل الشرعية إمَّا ناظر في قواعدها الأصلية أو في جزئياتها الفرعية، وعلى كلا الوجهين؛ فهو إمَّا مجتهد أو مناظر، فأما المجتهد الناظر لنفسه؛ فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه؛ إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات؛ ضرورية كانت أو نظرية؛ عقلية أو سمعية، وأما الفروع؛ فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه، فما أوصله إليه الدليل؛ فهو الحكم في حقه أيضًا". انظر: "الموافقات"(5/ 406).

(1)

ممن قال عنه كتاب "قواعد العيني"، كما سبق.

(2)

سبق تعريف الأصول والفروع وذكر الفرق بينهما.

(3)

يُنظر: "الفروق" للقرافي (1/ 2) حيث قال: "فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد اللَّه منارها شرفًا وعلوًّا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:

أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم، ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة، وخبر الواحد، وصفات المجتهدين.

والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحِكَمِه، لكل قاعدة عن الفروع في الشريعة ما لا يُحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه، وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع. وانظر:"الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية"(ص: 20، 21).

ص: 1772

يستخدمها الفقيه المجتهد حتى لا يزل عن معرفة الحق.

[أَحْكَامُ الإِمَامِ الخَاصَّةُ بِهِ]

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (وَأَمَّا أَحْكَامُ الإِمَامِ الخَاصَّةُ بِهِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَ مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِالسَّمْعِ؛ إِحْدَاهَا: هَلْ يُؤَمِّنُ الإِمَامُ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ القُرْآنِ؟ أَمِ المَأْمُومُ هُوَ الَّذِي يُؤَمِّنُ فَقَطْ. وَالثَّانِيَةُ: مَتَى يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ؟ وَالثَّالِثَةُ: إِذَا ارْتُجَّ

(1)

عَلَيْهِ؛ هَلْ يُفْتَحُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالرَّابِعَةُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ أَرْفَعَ مِنْ مَوْضِعِ المَأْمُومِينَ. فَأَمَّا هَلْ يُؤَمِّنُ الإِمَامُ إِذَا فَرَغ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ الكِتَابِ

(2)

، فَإِنَّ مَالِكًا ذَهَبَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ عَنْهُ، وَالمِصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُؤَمِّنُ

(3)

. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ

(1)

ارْتِجَ على فلان: إذا أراد قولًا، فلم يَصل إلى تمامه، وهو مأخوذ من الرِّتاج، وهو الباب المغلق، وقالوا: في كلامه رَتَجٌ، أي: تَتَعْتُعٌ وعِيٌّ. انظر: "الدلائل في غريب الحديث"، للسرقسطي (2/ 523).

(2)

أم الكتاب: هي الفاتحة، سُمِّيت بذلك؛ لأنها أوَّل القرآن والكتب المنزلة، فجميع ما أودعها من العلوم مجموع في هذه السورة فهي أصل لها.

وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لأنها أفضل سور القرآن، كما أن مكة سميت أم القرى؛ لأنها أشرف البلدان.

وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لأنها مقدَّمة على سور القرآن، فهي أصل وإمام لما يتلوها من السور.

وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لأنها مجمع العلوم والخيرات، كما أن الدماغ يُسمَّى أمَّ الرأس؛ لأنها مجمع الحواس والمنافع". انظر:"الكشف والبيان"، للثعلبي (1/ 126، 127).

(3)

قال ابن عبد البر: "ومعلوم أن قول المأموم هو (آمين)، فكذلك يجب أن يكون قول الإمام. وهذا موضع اختلف فيه العلماء: فروى ابن القاسم عن مالك: أن الإمام لا يقول: (آمين)، وإنما يقول ذلك مَن خلفه دونه، وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك". انظر: "الاستذكار"(1/ 474)، وانظر:"المدونة"، لابن القاسم (1/ 167).

ص: 1773

إِلَى أَنَّهُ يُؤَمِّنُ كَالمَأْمُومِ سَوَاءً

(1)

. وَهِيَ رِوَايَةُ المَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ

(2)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَي الظَّاهِرِ، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي "الصَّحِيحِ"، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا"

(3)

. وَالحَدِيثُ الثَّانِي: مَا أخرجَهُ

(1)

يُنظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"، للزيلعي (1/ 113)، وفيه قال:"قال رحمه الله: (وأمن الإمام والمأموم سرًّا)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أَمَّن الإمام فَأَمِّنوا؛ فإنه مَن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِر له ما تَقَدَّم مِن ذنبه"، رواه مسلم والبخاري ومالك في الموطأ، وقالت المالكية في رواية: لا يأتي الإمام بالتأمين. وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين"، قسم بينهما، وهي تنافي الشركة؛ ولأن سنة الدعاء تأمين السامع لا الداعي، وآخر الفاتحة دعاء؛ فلا يُؤمن الإمام؛ لأنه داع. والحجة عليهم: ما رويناه".

ويُنظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (2/ 190، 191)، وفيه قال:"فإذا فرغ من الفاتحة أمَّنَ، وهو سنةٌ لكل مَن قرأ الفاتحة في الصلاة وغيرها، وهو أن يقول: (آمين)؛ لما روي عن وائل بن حجر: أنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَلَا الضَّالِّينَ} ، فقال:(آمين)، ومَدَّ بها صوته". وأما الجهر به: فإن كان في صلاة يُسر بها أَسَرَّ به المنفرد والإمام والمأموم؛ لأنه تابع للقراءة، وإن كان في صلاة يُجهر بها، فإن كان منفردًا أو إمامًا جهر به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أَمَّن الإمام فَأَمِّنوا". وانظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 48).

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 339)، وفيه قال:" (فإذا فرغ) من قراءة الفاتحة (قال: آمين، بعد سكتة لطيفة، ليعلم أنها ليست من القرآن)، وإنما هي طابع الدعاء، ومعناه: اللهم استجب، وقيل: اسم من أسمائه تعالى، (يجهر به إمام ومأموم معًا في صلاة جهر)؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا أَمَّن الإمام فأمنوا؛ فإنه مَن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِر له".

(2)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (1/ 474، 475)، وفيه قال:"وقال جمهور أهل العلم يقول الإمام: (آمين)، كما يقولها المنفرد والمأموم. وهو قول مالك في رواية المدنيين عنه؛ منهم ابن الماجشون، ومطرف، وأبو مصعب، وابن نافع، وهو قولهم".

(3)

أخرجه البخاري (780)، ومسلم (410/ 72)، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أَمَّن الإمام فَأَمِّنوا؛ فإنَّه مَن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه"، وقال ابن شهاب: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (آمين).

ص: 1774

مَالِكٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}؛ فَقُولُوا: آمِينَ"

(1)

. فَأَمَّا الحَدِيثُ الأَوَّلُ: فَهُوَ نَصٌّ فِي تَأْمِينِ الإِمَامِ. وَأَمَّا الحَدِيثُ الثَّانِي: فَيُسْتَدَلُّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ لَا يُؤَمِّنُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُؤَمِّنُ لَمَا أُمِرَ المَأْمُومُ بِالتَّأْمِينِ عِنْدَ الكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يُؤَمِّنَ الإِمَامُ؛ لِأَنَّ الإِمَامَ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ"

(2)

. إِلَّا أَنْ يُخَصَّ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الإِمَامِ: (أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُؤَمِّنَ مَعَهُ أَوْ قَبْلَهُ)، فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ الإِمَامِ فِي التَّأْمِينِ، وَيَكُونُ إِنَّمَا تَضَمَّنَ حُكْمَ المَأْمُومِ فَقَطْ

(3)

. ولَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَالِكًا ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 87) عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فقولوا: آمين؛ فإنه مَن وافق قولُه قولَ الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه". وأخرجه البخاري عن مالك (782)، وأخرجه مسلم (410/ 76) من طريق آخر.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

قصد المؤلف من هذا الكلام: أن المأموم أُمِر بالتأمين بمجرد فراغ الإمام من الفاتحة، كما في الحديث، وهذا التامين من المأموم قد يكون قبل الإمام أو معه، هذا لو سلم بأن الإمام يؤمن، فإذا كان ذلك كذلك، فإن المأموم المأمور بمتابعة إمامه سوف يتقدمه في التأمين، وهذا لا يجوز، فدل ذلك على أن الإمام غير مأمور بالتأمين وإنما المأمور به المأموم فقط.

قال القاضي عبد الوهاب في ذكر الروايتين وتوجيههما: "وفي الإمام روايتان: إحداهما لا يُؤَمِّن، وهي الظاهر، والأخرى: أنه يُؤمن، فوجه الأولى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا: آمين"، فلو كان التأمين من سنُتَّه، لقال: إذا قال: آمين فقولوا، ولأن الإمام داع والمأموم مستمع؛ لأن هذا هو سبيل الدعاء أن يكون المؤمن غير الداعي. ووجه الثانية قوله: "إذا أَمَّنَ الإمام فأَمِّنُوا"، ولأنه ذِكرٌ سُنَّ للمأموم، فكان مسنونًا للإمام كسائر الأذكار المسنونة، ولأنه فصلٌ، فاستحب له التأمين كالمنفرد والمأموم". انظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة"(ص: 219).

ص: 1775

لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ يكون السَّامِعِ هُوَ المُؤَمِّنَ لَا الدَّاعِيَ

(1)

. وَذَهَبَ الجُمْهُورُ لِتَرْجِيحِ الحَدِيثِ الأوَّلِ لِكَوْنِهِ نَصًّا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الإِمَامِ، وَإِنَّمَا الخِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الحَدِيثِ الآخَرِ فِي مَوْضِعِ تَأْمِينِ المَأْمُومِ فَقَطْ لَا فِي هَلْ يُؤَمِّنُ الإِمَامُ أَوْ لَا يُؤَمِّنُ؛ فَتَأَمَّلْ هَذَا

(2)

. وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يُتَأَوَّلَ الحَدِيثُ الأَوَّلُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "فَإِذَا أَمَّنَ فَأَمِّنُوا"، أَيْ: فإِذَا بَلَغَ مَوْضِعَ التَّأْمِينِ

(3)

. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ التَّأْمِينَ هُوَ الدُّعَاءُ. وَهَذَا عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ لِشَيْءٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ مِنَ الحَدِيثِ إِلَّا بِقِيَاسٍ، أَعْنِي: أَنْ يُفْهَمَ مِنْ قَوْلِهِ: "فَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ

(1)

يقصد ترجيحه عدم تأمين الإمام، وهي الرواية الأظهر عنه، كما سبق.

(2)

أي: أن الجمهور الذين قالوا بتأمين الإمام لحديث: "إذا أمن الإمام فأمنوا"، ذهبوا فِي تأويل حديث المخالف من قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين"، بأن المقصود منه: تحديد موضع تأمين الإمام، متى يُؤمن، وليس المقصود به منع الإمام من التأمين.

قال ابن قدامة في توجيه دليل المالكية: وحديثهم: لا حجة لهم فيه، وإنما قصد به تعريفهم موضع تأمينهم، وهو عقيب قول الإمام:{وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ لأنه موضع تأمين الإمام؛ ليكون تأمين الإمام والمأمومين في وقت واحد موافقًا لتأمين الملائكة، وقد جاء هذا مصرحًا به، كما قلنا، وهو ما روي عن الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} . فقولوا: آمين؛ فإن الملائكة تقول: آمين. والإمام يقول: آمين. فمَن وافق تأمينُه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ الآخر: "إذا أَمَّن الإمام"، يعني: إذا شرع في التأمين".

(3)

وهذا التأويل هو ما ذهب إليه المالكية في الرد على الجمهور بتأويل حديث: "فإذا أَمَّن الإمام فأمنوا".

يُنظر: "القبس في شرح الموطأ"، لابن العربي (ص: 236)، وفيه قال:"قوله: "إذا أمَّنَ الإمامُ"، الحديث. قيل: معنى قوله: "إذا أَمَّن": إذا بلغ موضع التأمين؛ كقولهم: أحرم: إذا بلغ موضع الحرم. وأنجد: إذا بلغ موضع العلو، وذلك كقوله: "إِذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فقولوا: آمين"؛ ليجتمع الحديثان".

ص: 1776

وَلَا الضَّالِّينَ} فَأَمِّنُوا"، فَإِنَّهُ لَا يُؤَمِّنُ الإِمَامُ

(1)

. وَأَمَّا مَتَى يُكَبِّرُ الإِمَامُ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا يُكَبِّرُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الإِقَامَةِ وَاسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ، وَهُوَ مَذهَبُ مَالِكٍ

(2)

، وَالشَّافِعِيِّ

(3)

وَجَمَاعَةٍ

(4)

. وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّ مَوْضِعَ التَّكْبِيرِ هُوَ

(1)

كأن المؤلف يريد أن يقول: إن الذين قالوا بعدم تأمين الإمام بنوا قولهم على أفتراض، وهو أن حديث:"فقولوا: آمين"، هو خطاب للمأمومين لا يدخل فيه الإمام، ثم ذهبوا بهذا الذي قالوه إلى أن الأمر الموجه للمأمومين بقول: آمين، هو تأمين منهم على دعاء الإمام، فلا يدخل فيه.

قال الزيلعي: "وقولهم: سنة الدعاء تأمين السامع لا الداعي غلط؛ لأن التأمين ليس فيه إلا زيادة الدعاء، والداعي أولى به، ولا حجة لهم فيما رووه، فإنه قال في آخره: فإن الإمام يقولها". انظر: "تبيين الحقائق"(1/ 113).

وذكر الماوردي جوابًا آخر، فقال:"وأما استشهادهم بأن التأمين على الدعاء يكون من غير الداعي فهذا مستمر في غير الصلاة، وأما الدعاء في الصلاة فمخالف له". انظر: "الحاوي الكبير"(2/ 112).

(2)

يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 231)، وفيه قال:"وينتظر الإمام بعد الإقامة قليلًا بقدر تسوية الصفوف، ثم إذا كبر قرأ ولا يَتربص، وليس في سرعة القيام للصلاة بعد الإقامة وقت، وذلك على قدر طاقة الناس". وانظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير"(1/ 200).

(3)

يُنظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 81)، وفيه قال:"ولا يُكبر الإمام حتى يأمر بتسوية الصفوف؛ فيقول: استووا، ويستحب للقوم أن يُسووا الصفوف، ويَسُدُّوا الفُرَج". وانظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 228).

وهو مذهب الحنابلة.

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 414)، وفيه قال:" (وسُنَّ قيام إمام، فـ) قيام (مأموم) غير مقيم، (لصلاة إذا قال مقيم: قد قامت الصلاة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يفعل ذلك، رواه ابن أبي أوفى: ولأنه دعي إلى الصلاة، فاستحب المبادرة إليها عنده. (إن رأى) المأموم (الإمام، وإلا) بأن لم ير المأموم الإمام عند قول المقيم: قد قامت الصلاة، (فـ) إنه يقوم (عند رؤيته) لإمامه، فلا يقوم حتى يرى الإمام، على الصحيح من المذهب، وعليه جمهور الأصحاب، وصححه المجد وغيره. . .، والمقيم يأتي بالإقامة كلها قائمًا، ولا يُحرم الإمام حتى تفرغ الإقامة. نص عليه، وهو قول جل أئمة الأمصار".

(4)

نصَّ ابنُ قدامة على بعضهم، فقال:"ولا يستحب عندنا أن يكبر إلا بعد فراغه من الإقامة، وهو قول الحسن، ويحيى بن وثاب، وإسحاق، وأبي يوسف، والشافعي، وعليه جل الأئمة في الأمصار". انظر: "المغني"(1/ 332).

ص: 1777

قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الإِقَامَةَ، وَاسْتَحْسَنُوا تَكْبِيرَهُ عِنْدَ قَوْلِ المُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ

(1)

، وَالثَّوْرِيِّ

(2)

، وَزُفَرَ

(3)

. وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ تَعَارُضُ ظَاهِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ وبِلَالٍ. أَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَالَ: "أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي"

(4)

. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الكَلَامَ مِنْهُ كَانَ بَعْدَ الفَرَاغِ مِنَ الإِقَامَةِ، مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ

(1)

وافقه محمد وزفر، وخالفه أبو يوسف. انظر في خلاف أبي يوسف لصاحبيه:"مختلف الرواية"، للسمرقندي (1/ 148)، وفيه قال:"قال أبو يوسف: لا يُكبر الإمام حتى يفرغ المؤذن من الإقامة. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة - كبَّر الإمام والقوم معه. له: أن في التأخير إدراك الإمام والقوم فضيلة القول بمثل ما قاله المؤذن، وإدراك المؤذن فضيلة تكبيرة الافتتاح، وفي التعجيل تفويت ذلك، فكان ما قلناه أولى. لهما: أن المؤذن أمين الشرع، وقد أخبر بقيام الصلاة، فيجب تصديقه بالفعل، ولأن فيه مسارعة إلى العبادة، فكان أولى. وأما القول بمثل المؤذن، قلنا: الأخبار وردت بذلك في الأذان دون الإقامة، وأما فضيلة تكبيرة الافتتاح، تكلموا في وقت إدراكها، والصحيح: أن من أدرك الركعة الأولى فقد أدرك فضيلة تكبيرة الافتتاح".

وانظر في خلاف زفر لأبي يوسف: "مختلف الرواية"، للسمرقندي (1/ 276)، وفيه قال:"قال زفر: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، قام الإمام والقوم، وإذا قال ثانيًا، كبَّروا. له: أن المؤذن أمين الشرع، فيجب تصديقه، وذلك فيما قلناه. ولنا: ما مَرَّ في باب أبي يوسف".

والمذهب على ما قاله أبو حنيفة ومحمد وزفر.

يُنظر: "مجمع الأنهر"، لشيخي زاده (1/ 91)، وفيه قال:" (والشروع عند قد قامت الصلاة)، أي: شروع الإمام عندما قال المؤذن: قد قامت الصلاة الأول عند الطرفين؛ لئلا يَكذب المؤذن، وفيه مسارعة للمناجاة، وقد تابع المؤذن في الأكثر فيقوم مقام الكل".

(2)

يُنظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (9/ 188)، وفيه قال:"وقال أبو حنيفة والثوري وزفر: لا يُكبر الإمام قبل فراغ المؤذن من الإقامة، ويستحسنون أن يكون تكبير الإمام في الإحرام إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة".

(3)

سبق ذكر قول زفر.

(4)

أخرجه البخاري (719).

ص: 1778

كَانَ إِذَا تَمَّتِ الإِقَامَةُ، وَاسْتَوَتِ الصُّفُوفُ حِينَئِذٍ يُكَبِّرُ

(1)

. وَأَمَّا حَدِيثُ بِلَالٍ فَإِنَّهُ رُوِيَ "أَنَّهُ كَانَ يُقِيمُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فكَانَ يَقُولُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ". أَخرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ

(2)

. قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ وَالإِقَامَةُ لَمْ تَتِمَّ

(3)

. وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الفَتْحِ عَلَى الإِمَامِ إِذَا ارْتِجَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَالِكًا

(4)

، وَالشَّافِعِيَّ

(5)

، وَأَكْثَرَ العُلَمَاءِ أَجَازُوا

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 47)، عن ابن جريج قال: أخبرني نافع، مولى ابن عمر قال:"كان عمر يبعث رجلًا يقوم الصفوف، ثم لا يكبر حتى يأتيه، فيخبره أن الصفوف قد اعتدلت".

وثبت ذلك أيضًا عن عثمان، أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 104) وغيره، عن مالك بن أبي عامر:"أن عثمان بن عفان كان يقول في خطبته، قَلَّ ما يَدَعُ ذلك إذا خطب: إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحَظِّ مثل ما للمنصت السامع، فإذا قامت الصلاة فاعدلوا الصفوف، وحاذوا بالمناكب؛ فإن اعتدال الصفوف من تمام الصلاة"، ثم لا يكبر، حتى يأتيه رجال قد وَكَّلهم بتسوية الصفوف، فيخبرونه أن قد استوت، فيُكبر".

(2)

أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(14/ 292)، بإسناده عن أبي عثمان:"أن بلالًا قال: اشترطت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يسبقني بآمين"، وأخرجه أبو داود (937). قال الألباني:"إسناده ضعيف؛ لانقطاعه بين أبي عثمان وبلال، وبذلك أعله الدارقطني والبيهقي". انظر: "ضعيف أبي داود - الأم"(167).

(3)

قال الطحاوي بعد أن ذكر حديث بلال محتجًّا به لمذهب الأحناف: "فكان ما في هذا الحديث ما قد دل أنه كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاته بعد دخوله فيها طائفة من فاتحة الكتاب قبل فراغ بلال من إقامته، وهذا يدل على ما كان أبو حنيفة يذهب إليه في الإمام: أنه يكبر للصلاة إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، قبل فراغه من إقامته. وقد روي هذا المذهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه". انظر: "شرح مشكل الآثار"(14/ 292).

(4)

انظر: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (2/ 667)، وفيه قال:"قال مالك: وإذا وقف الإمام في قراءته فليفتح عليه مَن كان خلفه، وإن كان هذا في صلاة وهذا في صلاة أُخرى فلا يفتح أحدهما على صاحبه، ولا ينبغي لأحد أن يفتح على مَن ليس معه في صلاة". وانظر: "المختصر الفقهي"، لابن عرفة (1/ 248).

(5)

انظر: "البيان"، للعمراني (2/ 579، 580)، وفيه قال: "وإن ارتج على الإمام. . . فقد قال الشافعي في موضع: (ولا يُلقن)، وقال في موضع؛ (يلقن). قال أصحابنا: =

ص: 1779

الفَتْحَ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الكُوفِيُّونَ

(1)

. وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُ الآثَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَدَّدَ فِي آيَةٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَيْنَ أُبَيٌّ؟ أَلَمْ يَكُنْ فِي القَوْمِ؟ "، أَيْ: يُرِيدُ الفَتْحَ عَلَيْهِ

(2)

. وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُفْتَحُ عَلَى الإِمَامِ"

(3)

.

= ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فالموضع الذي قال: (لا يلقن) أراد: إذا رَجا أن يفتح عليه، مثل: أن كان يردد الكلام في نفسه، والذي قال:(يلقن) أراد: إذا لم يَرج انفتاحه". وانظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 152).

ومذهب الحنابلة أنه يلقن وجوبًا في إذا كان ذلك الفاتحة، وفي غيرها جوازًا.

انظر: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"، للمرداوي (2/ 100)، وفيه قال:" (وله أن يفتح على الإمام إذا ارتج عليه) هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وعنه: يفتح عليه إن طال وإلا فلا، وعنه: يفتح عليه في النفل فقط، وقال ابن عقيل: إن كان في النفل جاز، وإن كان في الفرض جاز في الفاتحة، ولم يجز في غيرها قال في "الفروع": وظاهر المسألة: لا تبطل، ولو فتح بعد أخذه في قراءة غيرها. وعموم قوله: (وله أن يفتح على الإمام) يشمل الفاتحة وغيرها، وأنه لا يجب، أما في غير الفاتحة: فلا يجب بلا خلاف أعلمه، وأما في الفاتحة: فالصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب: وجوب الفتح عليه، وقيل: لا يجب، وهو ظاهر كلام المصنف هنا". وانظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 379).

(1)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (1/ 439)، وفيه قال:"وكره الكوفيون الفتح على الإمام".

وفي مذهب الأحناف لا يجوز، وتفسد به الصلاة قياسًا.

يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (23611)، وفيه قال:"إن كان الفاتح هو المقتدي به فالقياس هو فساد الصلاة إلا أنا استحسنا الجواز؛ لما روي: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة (المؤمنون) فترك حرفًا، فلما فرغ قال: "ألم يكن فيكم أُبَي؟ ". قال: نعم يا رسول اللَّه، قال: "هَلَّا فَتحت عليَّ". فقال: ظننتُ أنها نسخت فقال صلى الله عليه وسلم: "لو نُسِخت لأنبأتُكم"، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه. . . "، ولأن المقتدي مضطر إلى ذلك لصيانة صلاته عن الفساد عند ترك الإمام المجاوزة إلى آية أُخرى، أو الانتقال إلى الركوع". وانظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 156).

(2)

هو مِن حديث أبي داود وابن حبان، وقد سبق تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود، وهو ضعيف. وقد سبق تخريجه.

ص: 1780

وَالخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ، وَالمَنْعُ مَشْهُورٌ عَنْ عَلِيٍّ

(1)

، وَالجَوَازُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَشْهُورٌ

(2)

. وَأَمَّا مَوْضِعُ الإِمَامِ فَإِنَّ قَوْمًا أَجَازُوا أَنْ يَكُونَ أَرْفَعَ مِنْ مَوْضِعِ المَأْمُومِينَ، وَقَوْمٌ مَنَعُوا ذَلِكَ، وَقَوْمٌ اسْتَحَبُّوا مِنْ ذَلِكَ اليَسِيرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ

(3)

. وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ؛ أَحَدُهُمَا:

(1)

الذي جاء عن علي رضي الله عنه هو القول بالجواز. فقد أخرجه الدارقطني في "سننه"(2/ 255) وغيره، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي أراه، عن علي، قال:"إذا استطعمكم الإمام فأطعموه"، وصححه الألباني في أثناء كلامه، وقال له طرق يقوي بعضها بعضا. أنظر:"ضعيف أبي داود - الأم"(161).

قال الماوردي في معنى الحديث: "معناه: إذا ارتج على الإمام فَلَقِّنوه". انظر: "الحاوي الكبير"(2/ 444).

أما المنع: فجاء عن عليٍّ رضي الله عنه مرفوعًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود (908)، بإسناده، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا عليُّ، لا تفتح على الإمام في الصلاة". قال أبو داود: "أبو إسحاق لم يسمع من الحارث، إلا أربعة أحاديث، ليس هذا منها".

قال الألباني: "هذا إسناد ضعيف؛ للانقطاع الذي ذكره المصنف. والحارث: هو ابن عبد اللَّه الأعور، لا يُحتج به، كما قال البيهقي، والحديث منكر؛ لمخالفته أثرًا عن عليٍّ، وبعض الأحاديث المرفوعة". انظر: "ضعيف أبي داود - الأم"(161).

(2)

أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 143)، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع قال: "كنت ألقن ابن عمر في الصلاة فلا يقول شيئًا".

(3)

مذهب المالكية المنع مطلقًا سواء كان في تعليم أو غيره إلا ما كان من الارتفاع اليسير فيجوز. ووافقهم الأحناف والحنابلة. أما الشافعية فمذهبهم -أيضًا- المنع، لكن خالفوا الجمهور في أنهم استثنوا من المنع الحاجة؛ كتعليم الإمام للمأمومين ونحوه فقالوا بالاستحباب في هذه الحالة.

انظر في مذهب المالكية: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 248، 249)، وفيه قال:"ولا يصلي الإمام على شيء أرفع مما يُصَلِّي عليه أصحابه، فإن فعل أعادوا أبدًا؛ لأنهم يعبثون، إلا الارتفاع اليسير مثل ما كان بمصر فتجزئهم الصلاة". وانظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 118).

وفي مذهب الأحناف. انظر: "البنااية شرح الهداية"، للعيني (2/ 452)، وفيه قال: " (ويكره أن يكون الإمام وحده على الدكان)، ش: وقد ذكرنا أن المراد من الدكان الموضع، والموضع مبتنى يجلس عليه مثل الدكة. . . ولم يذكر المصنف مقدار ارتفاع الدكان الذي يكره عليه، فقيل: قدر ارتفاع قامة الرجل الذي هو متوسط =

ص: 1781

الحَدِيثُ الثَّابِتُ "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَّ النَّاسَ عَلَى المِنْبَرِ؛ لِيُعَلِّمَهُمُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ نَزَلَ مِنْ عَلَى المِنْبَرِ"

(1)

. وَالثَّانِي: مَا

= القامة فلا بأس بما دونها. . . وقيل: إنه مقدر بقدر ما يقع الامتياز. وقيل: مقدر بقدر ذراع اعتبارًا بالسترة. قال قاضي خان: وعليه الاعتماد. (لما ذكرنا)، ش: وهو قوله: لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان. (وكذا على القلب)، ش: وكذا يكره على قلب الحكم المذكور، أي: عكسه، وهو أن يكون الإمام أسفل الدكان والقوم عليه. (في ظاهر الرواية) ".

وفي مذهب الحنابلة. انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 492، 493)، وفيه قال:" (ويكره أن يكون الإمام أعلى من المأموم)، لما روى أبو داود عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أَمَّ الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مكانهم". وظاهره: لا فرق بين أن يقصد تعليمهم أم لا، ومحله إذا كان (كثيرًا، وهو ذراع فأكثر) من ذراع. (ولا بأس بـ) علو (يسير؛ كدرجة منبر ونحوها) مما دون ذراع، جمعًا بين ما تقدم وبين حديث سهل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر، ثم نزل القهقرى فسجد وسجد معه الناس ثم عاد حتى فرغ، ثم قال "إنما فعلتُ هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي". والظاهر أنه كان على الدرجة السفلي؛ لئلا يحتاج إلى عمل كثير في الصعود والنزول فيكون ارتفاعًا يسيرًا". وانظر:"المغني"، لابن قدامة (2/ 154).

وفي مذهب الشافعية. انظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 499، 500)، وفيه قال:" (قلت: يكره ارتفاع المأموم عن إمامه وعكسه)، أما الثاني فللنهي عنه كما أخرجه أبو داود والحاكم، وأما الأول فقياسًا على الثاني، هذا إذا أمكن وقوفهما على مستو وإلا فلا كراهة، ولا فرق في ذلك بين أن يكونا في مسجد أو لا، (إلا لحاجة) تتعلق بالصلاة؛ كتعليم الإمام المأمومين صفة الصلاة كما ثبت في "الصحيحين"، وكتبليغ المأموم تكبير الإمام؛ (فيستحب) ارتفاعهما لذلك". وانظر: "حاشيتا قليوبي وعميرة"(1/ 280).

(1)

أخرج البخاري (917) ومسلم (544/ 44) عن سهل بن سعد الساعدي: "أن رجالًا أتوه، وقد امتروا في المنبر مِمَّ عُودُه؟ فسألوه عن ذلك، فقال: واللَّه إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وُضع، وأول يوم جلس عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى فلانة -امرأة من الأنصار قد سَمَّاها سهل-: "مُرِي غلامَك النَّجَّار أن يعمل لي أعوادًا، أجلس عليهن إذا كلمت الناس"، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأمر بها فوضعت هاهنا، ثم رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى عليها وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى، فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: "أيُّها الناس، إنما صنعتُ هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي"".

ص: 1782

رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ، فَجَذَبَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ

(1)

؟! وَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ عَلَى الإِمَامِ أَنْ يَنْوِيَ الإِمَامَةَ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ

(2)

: أَنَّهُ قَامَ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ

(3)

. وَرَأَى قَوْمٌ أَنَّ هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَحْمِلُ بَعْضَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ عَنِ المَأْمُومِينَ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الإِمَامَ يَحْمِلُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا عَنِ المَأْمُومِينَ

(4)

).

(1)

أخرجه أبو داود (597)، وصححه الألباني في:"صحيح أبي داود - الأم"(610).

(2)

هذا الحديث من أدلة الجمهور الذين قالوا بعدم اشتراط نية الإمامة في الصلاة، كما سيأتي.

انظر: "بحر المذهب"، للروياني (2/ 255)، وفيه قال:"لو افتتح الصلاة بنية الانفراد، ثم جاء آخر فصلى خلفه صحَّ ائتمامه به وإن لم ينو الإمام إمامته، وبه قال جماعة العلماء. وقال الثوري وأحمد وإسحاق: لا يُصَلِّي خلفه إلا أن ينوي الإمام إمامته، فإن لم ينو فسد صلاتهم، واحتجوا بما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأطلق قال: "الأئمة ضمناء"، ولا تضمن إلا بعلم العلم، وهذا غلط؛ لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "بِتُّ في بيت خالتي ميمونة فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأطلق القربة فتوضأ، ثم أوكأ القِربة، ثم قام إلى الصلاة فقمت وتوضأت كما توضأ، ثم جئت فوقفت عن يساره، فأخذني بيمني"، وروي: "فأخذني برأسي، وحولني إلى يمينه"، ولم يكن نوى الإمامة فيها"".

(3)

أخرجه البخاري (183)، ومسلم (763/ 182)"عن كريب، مولى ابن عباس أن عبد اللَّه بن عباس أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته، فاضطجعتُ في عرض الوسادة، واضطجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتوضأ ثم قام يصلي. قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يَفتلها، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح".

(4)

الجمهور على عدم اشتراط نية الإمامة، وخالف الحنابلة فقالوا باشتراطها. =

ص: 1783

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فمذهب الأحناف على أن نية الإمامة ليست شرطًا إلا إذا أمَّ نساء فليزمه نية الإمامة.

انظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 128)، وفيه قال: "وهل يحتاج إلى نية الإمامة؟

أما نية إمامة الرجال فلا يحتاج إليها، ويصح اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم.

وأما نية إمامة النساء فشرط لصحة اقتدائهن به عتد أصحابنا الثلاثة، وعند زفر ليس بشرط، حتى لو لم ينو لم يصح اقتداؤهن به عندنا، خلافًا لزفر، قاس إمامة النساء بإمامة الرجال، وهناك النية ليست بشرط كذا هذا، وهذا القياس غير سديد، لأن المعنى يُوجب الفرق بينهما، وهو أنه لو صح اقتداء المرأة بالرجل فربما تُحاذيه فتفسد صلاته، فيلحقه الضرر من غير اختياره، فشرط نية اقتدائها به حتى لا يلزمه الضرر من غير التزامه ورضاه، وهذا المعنى منعدم في جانب الرجال".

ومذهب المالكية: أنه لا يشترط نية الإمامة إلا في الجمعة ونحوها. انظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 38)، وفيه قال: "لا يشترط نية الإمامة إلا في أربعة مواضع:

أحدها: إذا كان إمامًا في الجمعة؛ لأن الجماعة شرط في صحتها فيلزمه أن ينوي الإمامة وإلا بطلت عليه؛ لانفراده، وعليهم لبطلانها عليه.

ثانيها: الجمع ليلة المطر خاصة؛ لأنه لا بد فيه من الجماعة. . .

ثالثها: الصلاة في الخوف الذي أُدِّيت فيه على هيئتها بطائفتين؛ إذ لا تصح كذلك إلا بجماعة، فإن لم ينو الإمامة بطلت على الطائفتين وعلى الإمام.

رابعها: الإمام المستخلف يلزمه أن ينوي الإمامة؛ ليميز بين نية الإمامية والمأمومية، إذ شرط الاستخلاف أن يكون خلف الإمام جماعة فلو لم يكن خلفه إلا واحد لم يصح له الاستخلاف".

ومذهب الشافعية: أن نية الإمامة لا تجب إلا في الجمعة، أما ما عداها فمندوب، ومن تركها حرم فضيلة الجماعة.

انظر: "روضة الطالبين"، للنووي (1/ 367)، وفيه قال:"لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة، سواء اقتدى به الرجال أو النساء. وحكى أبو الحسن العبادي عن أبي حفص البابشامي والقفال: أنه تجب نية الإمامة على الإمام. وأشعر كلامه بأنهما يشترطانها في صحة الاقتداء، وهذا شاذ منكر، والصحيح المعروف الذي قطع به الجماهير: أنها لا تجب. لكن هل تكون صلاته صلاة جماعة ينال بها فضيلة الجماعة إذا لم ينوها؟ وجهان. أصحهما: لا ينالها؛ لأنه لم ينوها". وانظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 226، 227).

ومذهب الحنابلة على أنه يشترط نية الإمامة للإمام ونية الائتمام للمأموم.

انظر: "الروض المربع"، للبهوتي (ص: 85)، وفيه قال: " (ويجب) للجماعة (نية) =

ص: 1784

(الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مَقَامِ المَأْمُومِ مِنَ الإِمَامِ، وَالأَحْكَامِ الخَاصَّةِ بِالمَأْمُومِينَ)

* قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: اتَّفَقَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الوَاحِدِ المُنْفَرِدِ أَنْ يَقُومَ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ)

(1)

.

أي: أنَّ موقف المأموم من الإمام إذا كانا اثنين فقط؛ إمام ومأموم، أن يقف المأموم عن يمين الإمام.

= الإمام (الإمامة و) نية المأموم (الائتمام)؛ لأن الجماعة يتعلَّق بها أحكام، وإنما يتميزان بالنية فكانت شرطًا؛ رجلًا كان المأموم أو امرأة، وإن اعتقد كل منهما أنه إمام الآخر أو مأمومه فسدت صلاتهما، كما لو نوى إمامه من لا يصلح أن يؤمه، أو شك في كونه إمامًا، أو مأمومًا، ولا يشترط تعيين الإمام، ولا المأموم، ولا يضر جهل المأموم ما قرأ به إمامه".

وذكر المرداوي روايات أُخرى في المذهب. انظر: "الإنصاف"(2/ 27، 28).

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 87)، وفيه قال:" (ويقف الواحد عن يمينه)، أي: يمين الإمام؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى بابن عباس رضي الله عنهما فأقامه عن يمينه"، ولا يتأخر عن الإمام في ظاهر الرواية".

انظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 210)، وفيه قال:"والرجل الواحد مع الإمام يقوم عن يمينه".

انظر في مذهب الشافعية: "الإقناع في حَلِّ ألفاظ أبي شجاع"، للشربيني (1/ 166)، وفيه قال:"ويُسن أن يقف الذكر ولو صبيًّا عن يمين الإمام، وأن يتأخر عنه قليلًا للاتِّباع، واستعمالًا للآداب".

انظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 280)، وفيه قال:" (ولا يصح) أن يقف الواحد (خلفه)؛ لأنه يكون فذًّا، (ولا) يصح أن يقف مأموم فأكثر (مع خلو يمينه)، أي: الإمام (عن يساره) إن صلى ركعة فأكثر؛ لأنه خالف موقفه لإدارته صلى الله عليه وسلم ابن عباس وجابرًا لمَّا وَقَفَا عن يساره".

ص: 1785

فما الحكم لو وقف عن يساره

(1)

؟

علمنا أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم نقل عبدَ اللَّه بن عباس مِن يساره إلى يمينه

(2)

، وكذلك أخذ بيد جابر بن عبد اللَّه فأداره حتى أقامه عن يمينه

(3)

، فعرفنا بذلك نصًّا أنَّ موقف الواحد يكون عن يمين الإمام.

وهذه المسألة لم يذكرها المؤلف؛ وهي لو جاء رجل ووقف عن يسار الإمام وأتم الصلاة؛ فهل تصح صلاته أم لا؟

اختلف العلماء في هذا؛ فجماهير العلماء يرون صحة الصلاة مع الكراهة، وهناك مَن منع ذلك، والذين أجازوا ذلك قالوا: إنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وإن نقل ابن عباس وجابر فإنَّه أقرهما؛ لأنَّهما لم يستأنفا الصلاة، فلم تفسد صلاتهم، مع أنَّهما دخلا عن يسار الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فهذه مسألة فرعية

(4)

.

(1)

قال ابن المنذر بعد أن ذكر اتفاقهم على وقوف المأموم عن يمين الإمام: "وفي المسألة قولان آخران: أحدهما: عن سعيد بن المسيب أنه قال: يُقيمه عن يساره. والقول الثاني. عن النخعي، وهو إذا كان الإمام خلفه رجل واحد فليقم من خلفه ما بين وبين أن يركع، فإن جاء أحد وإلا قام عن يمينه، فإذا كان اثنان قام أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره". انظر: "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف"(4/ 171).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (3010) عن جابر رضي الله عنه، وفيه قال:"ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يَسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه سلم- بيدينا جميعًا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه".

(4)

ذهب الجمهور إلى أن المأموم إذا وقف عن يسار الإمام فإن هذا مكروه، لكن صلاته صحيحة، وخالف في ذلك الحنابلة، فقالوا ببطلان صلاته.

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 159)، وفيه قال:"ولو وقف عن يساره جاز؛ لأن الجواز متعلق بالأركان، ألا ترى أن ابن عباس وحذيفة رضي الله عنهما وَقَفَا في الابتداء عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم جوز اقتداءهما به؟ ولكنه يكره؛ لأنه ترك المقام المختار له، ولهذا حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ابن عباس وحذيفة".

ص: 1786

والمسألة التي معنا موقف الواحد يكون عن يمين الإمام، فإذا جاء اثنان فإنَّهما يقفان خلف الإمام

(1)

.

= وانظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 298)، وفيه قال:"إذا كان مع الإمام رجل واحد فالمستحب أن يقوم عن يمينه، وإن قام عن يساره كره، وجوزه قوم فقالوا: يقف؛ لحديث ابن عباس قال: "بِتُّ عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي فتوضأت، وقمتُ عن يساره فأدارني عن يمينه"". وانظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 385).

وانظر في مذهب الشافعية: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (1/ 448)، وفيه قال:"فإن ساواه أو وقف عن يساره أو خلفه، كُره كما في المَجموع".

وفي صحة صلاته قال العمراني: "إذا خالف ووقف على يساره صَحَّت صلاته". انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"(2/ 423).

أما مذهب الحنابلة فذهبوا إلى أنَّ صلاة المأموم باطلة كمثل مَن صلى منفردًا خلف الصفوف.

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 486) وفيه قال:" (فإن وقف) المأموم الرجل أو الخنثى (خلفه)، أي: الإمام (أو) وقف المأموم مطلقًا (عن يساره)، أي: مع خلو يمينه، (وصلى ركعة كاملة بطلت) صلاته، نص عليه لما تقدم من إدارة النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس وجابرًا. وعنه تصح اختاره أبو محمد التميمي والموفق. قال في "الفروع": وهي أظهر، وفي الشرح: هي القياس، كما لو كان عن يمينه، وكون النبي صلى الله عليه وسلم رد جابرًا وابن عباس لا يدل على عدم الصحة، بدليل رد جابر وجبار إلى ورائه، مع صحة صلاتهما عن جانبيه".

(1)

اتفق الفقهاء على أنهما إذا كانا اثنين فإنهما يقفان خلف الإمام، إِلا من وجه عند الحنابلة من أنه يجوز للإمام أن يتوسطهما في الصف.

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين"(1/ 568)، وفيه قال:"إذا اقتدى بإمام فجاء آخر يتقدم الإمام موضع سجوده، كذا في "مختارات النوازل". وفي "القهستاني" عن الجلابي أن المقتدي يتأخر عن اليمين إلى خلف إذا جاء آخر. اهـ. وفي "الفتح": ولو اقتدى واحد بآخر، فجاء ثالث يجذب المقتدي بعد التكبير، ولو جذبه قبل التكبير لا يضره، وقيل: يتقدم الإمام. اهـ. ومقتضاه: أن الثالث يقتدي متأخرًا، ومقتضى القول بتقدم الإمام أنه يقوم بجنب المقتدي الأول. والذي يظهر أنه ينبغي للمقتدي التأخر إذا جاء ثالث فإن تأخر، وإلا جذبه الثالث إن لم يخش إفساد صلاته".

وانظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 210، 211)، وفيه قال: " (و) مفهوم الواحد أنه يستحب أن (يقوم)، أي: يصلي (الرجلان فأكثر خلفه) =

ص: 1787

ونُقل عن عبد اللَّه بن مسعود الصحابي الجليل: أنَّ الإمام يتوسطهما، فإنَّه قد صلى بصاحبيه الأسود وعلقمة فتوسطهما

(1)

.

ولكن المعروف - والذي تدل عليه الأدلة الصحيحة الصريحة؛ كحديث عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، وحديث جابر بن عبد اللَّه، وجَبَّار بن

= لما في مسلم عن جابر بن عبد اللَّه: "قمت عن يسار ر سول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فقام عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدينا جميعًا فدفعنا حتى أقامنا خلفه"، ويؤخذ من هذا أنه لو كان واحد عن يمين الإمام أولًا، ثم جاء آخر أنهما يتأخران خلف الإمام ولا يؤمر الإمام بالتقدم أمامهما، بل يستمر واقفًا، وهما المأموران بالتأخر خلف الإمام".

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 339)، وفيه قال:"فأمَّا إن أَمَّ رجلين فالسنة أن يقفا صفًّا خلفه؛ لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَّهُ ويتيمًا فَوَقَفَا خلفه، ووقفت جَدَّة أنس خلفهما، وروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه أَمَّ جابر بن عبد اللَّه وخَبَّاب بن الأرت، فأقامهما خلفه صفًّا". وانظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي"، للعمراني (2/ 425).

وفي مذهب الحنابلة: السُّنَّة أن يقف المأمومين خلف الإمام، وكذلك لو توسطهم صَحَّ.

قال البهوتي: " (السُّنَّة: وقوف إمام جماعة) اثنين فأكثر (متقدمًا) عليهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "كان إذا قام إلى الصلاة تَقَدَّم وقام أصحابه خلفه"، ولمسلم وأبي داود: "أنَّ جابرًا وجبارًا وقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فأخذ بأيديهما حتى أقامهما خلفه"، والسنة أيضًا: توسطه الصف وقربه منه". انظر: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 278).

وقال أيضًا: " (ويصح) وقوفهم (معه)، أي: مع الإمام (عن يمينه، أو عن جانبيه)؛ لأن ابن مسعود صَلَّى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعل، رواه أحمد، وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعه، والصحيح: أنَّه من قول ابن مسعود". انظر: "الروض المربع"(ص: 134).

(1)

أخرجه مسلم (534/ 26)، عن الأسود، وعلقمة، قالا:"أتينا عبد اللَّه بن مسعود في داره، فقال: أصلى هؤلاء خلفكم؟ فقلنا: لا، قال: فقوموا فصلوا، فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة، قال: وذهبنا لنقوم خلفه، فأخذ بأيدينا، فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، قال: فلما ركع وضعنا أيدينا على ركبنا، قال: فضرب أيدينا وطَبَّق بين كفيه، ثم أدخلهما بين فخذيه".

ص: 1788

صَخْر، وهو حديث صحيح

(1)

- أنَّ موقف الاثنين يكون وراء الإمام.

وهناك قضية أُنَبِّه عليها: الذين يرون أنَّ صلاة الواحد لا تصح عن يسار الإمام

(2)

، هؤلاء يُفَرِّقون بين أن يكون وراء الإمام أحد أو لا؟ فإن كان وراء الإمام أحد تصح الصلاة

(3)

، ويستدلون بقصة صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في مرضه، فقد جاء الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فجلس عن يسار أبي بكر، وكان صلى الله عليه وسلم مريضًا في ذاك الوقت وأبو بكر كان يصلي

(4)

؛ فاختلف العلماء مَن الإمام في تلك الصلاة؟

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

وهم الحنابلة، كما سبق.

(3)

هو وجه عند الحنابلة.

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 156، 157)، وفيه قال:"فإن وقف عن يسار إمامه وخلف الإمام صف، أحتمل أن تصح صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس عن يَسَار أبي بكر، وقد روي أن أبا بكر كان الإمام، ولأن مع الإمام من تنعقد صلاته به، فصح الوقوف عن يساره، كما لو كان معه عن يمينه آخر، واحتمل أن لا تصح؛ لأنه ليس بموقف إذا لم يكن صف، فلم يكن موقفًا مع الصف كأمام الإمام". وانظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 112).

وكذلك قالوا بأن مَن صلى عن يسار الإمام لا تفسد صلاته إذا وقف أحد عن يمين الإمام.

قال ابن قدامة: "وأما إذا وقف عن يسار الإمام، فإن كان عن يمين الإمام أحد صَحَّت صلاته؛ لأن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، فلما فرغوا قال: هكذا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل. رواه أبو داود، ولأن وسط الصف موقف للإمام في حَقِّ النساء والعراة، وإن لم يكن عن يمينه أحد، فصلاة من وقف عن يساره فاسدة، سواء كان واحدًا أو جماعة". انظر: "المغني"(2/ 155، 156). وانظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 685).

(4)

أخرجه البخاري (713)، ومسلم (418/ 95)، عن عائشة، قالت:"لما ثَقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: "مُروا أبا بكر أن يصلي بالناس. . . "، فلما دخل في الصلاة وجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في نفسه خِفَّة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه يخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حِسَّه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائمًا، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدًا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه".

ص: 1789

والظاهر: أنَّ الإمام هو أبو بكر، لكن مِن العلماء مَن رأى أنَّ الإمام هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنَّ أبا بكر كان مُبَلِّغًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ أبا بكر أراد أن يتأخر، فأمره الرَّسُول أن يمكث في مكانه

(1)

.

(1)

اختلف الفقهاء في أيِّهما كان إمامًا في هذه الصلاة. فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الإمام كان الرسول صلى الله عليه وسلم. وذهب الأحناف والمالكية إلى أن الإمام كان أبا بكر رضي الله عنه.

انظر في مذهب الشافعية: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 265)، حيث ذكر رواية صلاة النبي خلف أبي بكر، فقال:"فجاء فجلس عن يسار أبي بكر فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسًا وأبو بكر قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر"، رواه البخاري ومسلم، هذا لفظ إحدى روايات مسلم، وهي صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الإمام، لأنه جلس عن يسار أبي بكر، ولقوله:"يُصلي بالناس"، ولقوله:"يقتدي به أبو بكر".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"، للمرداوي (2/ 38)، وفيه قال:"قال المجد في "شرحه"، وابن تميم، وصاحب، "مجمع البحرين": لا تختلف الروايات عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مرضه بعد دخول أبي بكر في الصلاة: أنه كان إمامًا لأبي بكر، وأبو بكر كان إمامًا للناس".

وانظر في مذهب الأحناف: "المعتصر من المختصر"، لأبي المحاسن الملطي (1/ 73، 74)، وفيه قال:"وقد روى عنها قالت: "صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا". وروى عنها: "أن أبا بكر صلى بالناس ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالصف". ففي هذين الحديثين أنه صلى الله عليه وسلم كان مصليًّا بصلاة أبي بكر مأمومًا فيها، ثم نظرنا في قول ابن عباس وعائشة فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدنا محتملًا أن المراد كان يصلي بقدر طاقته صلى الله عليه وسلم عليها للمرض الذي كان فيه؛ إذ طاقة المريض ليس كطاقة الصحيح، وقد كانت السُّنَّة التي أُمر الأئمة بها أن يُصلوا بصلاة أضعفهم".

وانظر في مذهب المالكية: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 173)، وفيه قال:"واحتج ابن القاسم في ذلك بأن قال: حَدَّثَنِي مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض، وأبو بكر يصلي بالناس، فجلس إلى جنب أبي بكر؛ فكان أبو بكر هو الإمام، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر، وقال: "ما ماتَ نبيٌّ حتى يَؤُمَّه رجلٌ مِن أُمَّته". قال ابن القاسم: قال مالك: والعمل عندنا على حديث ربيعة هذا، وهو أحبُّ إليَّ". وانظر: "البيان والتحصيل"، لأبي الوليد بن رشد (1/ 333).

ص: 1790

وسوف يأتي الكلام فيه مفصلًا -إن شاء اللَّه- في مسألة صلاة القائم خلف القاعد؛ يعني: إذا عجز الإمام الرَّاتب عن القيام وصلى قاعدًا، هل يصلي المأمومون وراءه قعودًا أم لا؟ فهذه مسألة فيها خلاف كبير، وهي من المسائل الكبرى التي تعرض لها العلماء.

* قوله: (اتَّفَقَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الوَاحِدِ المُنْفَرِدِ أَنْ يَقُومَ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ

(1)

؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ

(2)

، وَأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً سِوَى الإِمَامِ قَامُوا وَرَاءَهُ

(3)

. وَاخْتَلَفُوا إِذَا كانَا اثْنَيْنِ سِوَى الإِمَامِ)

(4)

.

1 -

إن كان واحدًا وقف عن يمين الإمام

(5)

.

2 -

وإن كانوا أكثر من اثنين سوى الإمام وقفوا وراء الإمام دون خلاف

(6)

.

3 -

إنَّما الخلاف فيما لو كانوا ثلاثة وفيهم الإمام: فالصحيح المعروف أن يكونا وراء الإمام

(7)

.

وقد علمنا أنَّ ابن مسعود صلى بصحابيه فتوسطهما، فهذا دليل لمن يجيز توسط الإمام بين المأمومين

(8)

.

وهناك فروع كثيرة فيمن صلى عن يسار الإمام، وسيأتي الكلام

(1)

سبق ذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 147)، وفيه قال:"وكذلك أجمعوا إن كانوا ثلاثة سوى الإمام أن يقوموا خلفه".

(4)

سبقت هذه المسألة، وأنَّ مذهب الجميع على أنهما يقفا خلف الإمام، إِلَّا من وجه عند الحنابلة من أنه يجوز للإمام أن يتوسطهما في الصف.

(5)

سبقت.

(6)

سبقت.

(7)

سبقت.

(8)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1791

-أيضًا- في صلاة الفذ؛ أي: الفرد خلف الصف

(1)

، وهذه من المسائل الجوهرية التي يقع فيها المسلمون كثيرًا، وهي ليست من المسائل السهلة؛ لأنَّ الكلام فيها: هل تصح الصلاة أم لا؟

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا كانَا اثْنَيْنِ سِوَى الإِمَامِ؛ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُمَا يَقُومَان خَلْفَ الإِمَامِ

(2)

.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(3)

، وَالكُوفِيُّونَ

(4)

: بَلْ يَقُومُ الإِمَامُ بَيْنَهُما. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ).

أمَّا حديث ابن مسعود فهذا مختلف فيه؛ رفعًا ووقفًا

(5)

.

(1)

الفذ: "الفاء والذال كلمة واحدة تدل على انفراد وتفرق. من ذلك الفذ، وهو الفرد". انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/ 438).

(2)

سبق ذكر هذا. وهو مذهب الحنابلة، كما سبق.

(3)

الثابت عن الأحناف كما سبق أنهما إذا كانا اثنين فإن الإمام يتقدهما، وخالف أبو يوسف فقال بتوسط الإمام لهما.

قال القدوري: "ومن صلى مع واحد أقامه عن يمينه، فإن كان اثنين تقدم عليهما". انظر: "مختصر القدوري"(ص: 29).

وذكر المرغيناني خلاف أبي يوسف، فقال:"وإن أَمَّ اثنين تَقَدَّم عليهما"، وعن أبي يوسف رحمه الله يتوسطهما، ونقل ذلك عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه. ولنا: أنه عليه الصلاة والسلام تقدم على أنس واليتيم حين صلى بهما، فهذا للأفضلية، والأثر دليل الإباحة". انظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي".

(4)

انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"، للقاضي عياض (2/ 636)، وفيه قال:"وقوله: "فصففتُ أنا واليتيمُ وراءه، والعجوزُ مِن ورائنا": حجة لكافة أهل العلم في أن هذا حكم الاثنين خلف الإمام، خلافًا لأبي حنيفة والكوفيين في قولهم: يكونان عن يمينه ويساره، وقد تقدم هذا".

وهو قول عند الحنابلة كما سبق.

(5)

قال ابن عبد البر: "وهذا الحديث لا يصحُّ رفعه، والصحيح عندهم فيه التوقيف على ابن مسعود أنه كذلك صلى بعلقمة والأسود، وحديث أنس أثبت عند أهل العلم بالنقل، واللَّه أعلم". انظر: "التمهيد"(1/ 267).

وذكر الجويني عن الشافعي وجهًا آخر في الرد على حديث ابن مسعود، فقال: =

ص: 1792

وأمَّا الآخر، لا

(1)

.

* قوله: (أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا حَتَّى قُمْنَا خَلْفَهُ")

(2)

.

وهذه من الأمور التي يَستدل بها العلماء على أنَّ الحركة لمصلحة الصلاة لا تُؤثر

(3)

.

فانظروا جاء ابن عباس فوقف عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والرَّسُول صلى الله عليه وسلم أخذ بذؤابته

(4)

، ورَدَّه إلى الوراء قليلًا، ثم جاء به فأقامه عن يمينه، وأنَّه فعل ذلك مع جابر؛ حيث نقله من اليسار إلى اليمين، ثم جاء جابر فوقف عن يساره، فدفعهما بعد ذلك إلى الوراء

(5)

، فهذه حركات

= "والشافعي رأى هذا منسوخًا، واعتمد في الباب ما روى أنس أنه قال: "وقفتُ أنا ويتيم كان في البيت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأم سليم خلفنا، فصلَّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، فرأى الشافعي هذا ناسخًا لحديث ابن مسعود، وثبت عنده تأخر هذا الفعل، واللَّه أعلم. وفي بعض كلامه تقديم رواية أنس بأنه كان بحجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، فرأى روايته أَثْبَتَ، وما رُئي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي باثنين، وهذا أسلم من دعوى النَّسخ". انظر: "نهاية المطلب في دراية المذهب"(2/ 398، 399).

(1)

وهو حديث جابر الذي سيذكره المؤلف.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

قال ابن عبد البر: "وفيه أن العمل القليل في الصلاة لا يضرُّها؛ مثل: المشي إلى الفُرج، والتقدم اليسير، والتأخر، إذا كان ذلك مما ينبغي عمله في الصلاة؛ لأن السنة في الجماعة خلف الإمام في أن الواحد يقوم عن يمينه إِلَّا أن الاثنين مختلف فيهما والثلاثة فما زاد". انظر: "الاستذكار"(2/ 273).

(4)

الذؤابة: الضفيرة، وكل خصلة من خصل الشعر تضفر قواها فهي ضفيرة، وجمعها: ضفائر. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (12/ 10).

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1793

متعددة حصلت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأمر فيه مصلحة للصلاة؛ أَلَا وهو تعليم مَن يحتاج إلى التعليم في حالة الصلاة، إذًا للإمام أن يُعلِّم في الحالات التي لا تُؤثر على بطلان الصلاة.

وسيأتي الكلام -إن شاء اللَّه- عن الحركة في الصلاة، لكن الحركة التي تكون أحيانًا لغير مصلحة لا تنبغي؛ لأنَّ كثرة الحركة في الصلاة ترجع إلى خشوع الإنسان أو عدم خشوعه، فكلما كان قلب المؤمن خاشعًا مستكينًا منقادًا تجد أنَّ الخشوع يعلوه، وأنَّ الطمأنينة تستقر في قلبه، فتراه ساكنًا مُستقرًّا؛ كأنَّه شيء منصوب لا يتحرك؛ لماذا؟ لأنَّه ربط صلته باللَّه سبحانه وتعالى في هذا المقام العظيم، لكننا نجد من المأمومين من يتحرك؛ يرفع غترته ويضعها، أو يدخل يده في جيبه، ويحرك ساعته، أو ينظر ويأخذ قلمًا، ويرفع ثوبه، هذه من الحركات التي لا تنبغي في الصلاة؛ لأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يقول:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]، ثم يقول بعد ذلك:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 10، 11]. ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلًا يُكثر الحركة

(1)

، قال:"لو خَشَع قلبُ هذا لخشعت جوارحُه"

(2)

.

فكلما كان قلب المرء مشغولًا بأمور الدنيا منصرفًا عمَّا هو فيه تجد أنَّه يتحرك حركات؛ كأن لم يكن في الصلاة، وكلما كان الإنسان مرتبطًا

(1)

لم أقف عليه من قول عمر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" مرفوعًا (3/ 210)، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال:"لو خشع قلبه لخشعت جوارحه"، وقال الألباني:"موضوع". انظر: "إرواء الغليل"(373).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 482)، قال:"رأى سعيد بن المسيب رجلًا وهو يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"، وضعفه الألباني حيث قال:"والمعروف أنه من قول سعيد، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وفيه رجل لم يُسم. وقال ولده: فيه سليمان بن عمرو مُجمع على ضعفه". انظر: "إرواء الغليل"(2/ 93).

ص: 1794

بالصلاة مستقر القلب مستكينًا، فإنَّك لا ترى تلك الحركات عليه، وثواب الصلاة لا شَكَّ يزيد بزيادة خشوعها، ويقل -أيضًا- بنقصانه، وليس معنى هذا أنَّ الإنسان يتحرك كما يحلو له، وأنَّ ذلك لا يؤثر.

* قوله: (وَالحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ فَقَامَ وَسَطَهُمَا، وَأَسْنَدَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

هذا روي مرفوعًا

(1)

وموقوفًا، والمشهور إنَّما هو الموقوف

(2)

.

* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ).

يقصد بأبي عمر: ابن عبد البر؛ الإمام المشهور، أحد العلماء الذين اعتمد عليهم المؤلف كثيرًا في نقل آراء العلماء والاستدلال عليها.

* قوله: (قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاخْتَلَفَ رُوَاةُ الحَدِيثِ؛ فَبَعْضُهُمْ أَوْقَفَهُ، وَبَعْضُهُمْ أَسْنَدَهُ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ

(3)

.

وَأَمَّا أَنَّ سُنَّةَ المَرْأَةِ أَنْ تَقِفَ خَلْفَ الرَّجُلِ أَوِ الرِّجَالِ إِنْ كَانَ

(1)

أخرجه مسلم (534/ 28) بإسناده، عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود، أنهما دخلا على عبد اللَّه، فقال:"أصلى من خلفكم؟ قال: نعم، فقام بينهما، وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا، فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى، قال: هكذا فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". قال الزيلعي: "وقال النووي في "الخلاصة": الثابت في "صحيح مسلم" أن ابن مسعود فعل ذلك، ولم يقل: هكذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعله". انظر: "نصب الراية"، للزيلعي (2/ 33).

وأخرجه أبو داود (613)، عن هارون بن عنترة، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، قال:"استأذن علقمة، والأسود، على عبد اللَّه، وقد كنا أطلنا القعود على بابه، فخرجت الجارلة، فاستأذنت لهما فأذن لهما، ثم قام فصلى بيني وبينه، ثم قال: هكذا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل". وصححه الألباني في: "إرواء الغليل"(538).

(2)

سبق ذكره.

(3)

سبق ذكره.

ص: 1795

هُنَالِكَ رَجُلٌ سِوَى الإِمَامِ، أَوْ خَلْفَ الإِمَامِ إِنْ كَانَتْ وَحْدَهَا، فَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا)

(1)

.

نعم، هذه المسألة لا خلاف فيها، وسنجدها أحد أدلة الجمهور الذين يُجيزون صلاة الفَذِّ خلف الصَّفِّ

(2)

.

* قوله: (لِثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ، قَالَ: فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ المَرْأَةَ خَلْفَنَا")

(3)

.

فإذا كان مع الإمام واحد؛ سواء كان رجلًا -يعني: بالغًا- أو صبيًّا، فإنَّما موقفه يكون عن يمين الإمام، ثم بعد ذلك تكون المرأة خلفهما

(4)

.

(1)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 148)، وفيه قال:"وأجمعوا أن المرأة تصلي خلف الصف وحدها، وخلف المنفرد وحدها، وتلك سُنَّتها. وأجمعوا أنه مَن صلى بامرأة قامت خلفه، لا عن يمينه".

(2)

الجمهور: هم الأحناف والمالكية والشافعية، خلافًا للحنابلة. والشارح يَقصد أن الجمهور الذين قالوا بصحة صلاة المنفرد خلف الصف، قاسوا ذلك على المرأة مِن أنها لا تصلي إِلَّا خلف الصفوف. قال القاضي عبد الوهاب:"مَن صلى منفردًا خلف الصف أجزأته صلاته، خلافًا لأحمد بن حنبل؛ لأن كل مَن صحَّت صلاته خلف الصف إذا كان مع غيره صَحَّت إذا كان منفردًا، أصله المرأة، وإن لم يسلموا الأصل. دللنا عليه بحديث أنس الذي ذكرناه، ولأنه صف خلف الإمام، فجاز أن يقف المأموم وحده، أصله: إذا أَمَّ الرجل بامرأة وحدها فإنها تقف خلفه منفردة، ولأن اختلاف موقف المأموم لا يمنع صحة الصلاة، أصله: إذا وقف على يسار الإمام".

(3)

هذا الحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه مسلم (660/ 269) بإسناده عن عبد اللَّه بن المختار: أنه سمع موسى بن أنس يُحدث عن أنس بن مالك: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صَلَّى به وبأمه، أو خالته"، قال:"فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا".

وأخرج البخاري (727)، عن أنس بن مالك، قال:"صَلَّيت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأمي أُمُّ سُليم خلفنا".

(4)

سبق ذكر هذا.

ص: 1796

فلو دخل آخر فإنَّ الذي بجوار الإمام يرجع إليه، أم هل يتقدم الإمام؟

هذه مسألة: فأكثر العلماء أنَّه لا يتقدم إلَّا إذا كان المكان إلى الخلف ضيقًا، ويعود الذي عن يمين الإمام فينضم إلى صاحبه

(1)

.

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 159)، وفيه قال:"ولو كان معه رجلان وامرأة أو خنثى أقام الرجلين خلفه، والمرأة والخنثى خلفهما، ولو اجتمع الرجال والنساء والصبيان والخناثى والصبيات المراهقات، فأرادوا أن يصطفوا للجماعة - يقوم الرجال صفًّا مما يلي الإمام، ثم الصبيان بعدهم، ثم الخناثى، ثم الإناث، ثم الصبيات المراهقات".

وانظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 210، 211)، وفيه قال:" (و) مفهوم الواحد أنه يستحب أن (يقوم)، أي: يصلي (الرجلان فأكثر خلفه)؛ لما في مسلم عن جابر بن عبد اللَّه: "قمت عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فقام عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدينا جميعًا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه"، ويؤخذ من هذا أنه لو كان واحد عن يمين الإمام أولًا، ثم جاء آخر أنهما يتأخران خلف الإمام، ولا يؤمر الإمام بالتقدم أمامهما، بل يستمر واقفًا، وهما المأموران بالتأخر خلف الإمام، وبتأويلنا "يقوم فيصلي" يشمل كلام المصنف المصلي جالسًا".

وانظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (2/ 424)، وفيه قال:"فإن جاء مأموم آخر أحرم عن يسار الإمام، فإن كان قدام الإمام واسعًا ووراءهما ضيقًا تَقَدَّم الإمام، وإن كان وراءهما واسعًا، تأخر المأمومان، سواء كان قدام الإمام واسعًا أو ضيقًا؛ لما روى جابر، قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، فقام عن يساره، فدفعنا جميعًا، حتى أقامنا من خلفه"، ولأنهما تابعان للإمام، فكانا أولى بالتأخير، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس، ولم يدر هو".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 685)، وفيه قال:" (وإن وقف) أحد (عن يساره)، أي: الإمام (أحرم) بالصلاة (أولًا أداره) الإمام (ندبًا مِن ورائه إلى يمينه، مع بقاء تحريمته)؛ لحديث ابن عباس وجابر. (و) محل إدارته مِن ورائه حيث (لا عمل) كثير. (فإن جاء) مأموم (آخر) فوقف مع الذي قبله خلف الإمام أصابا السنة، (و) إن (لم يقفا خلفه أدارهما) الإمام (خلفه)؛ لحديث جابر قال: "قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي، فجئت فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني فأقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، فقام عن يسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فأخذ بأيدينا جميعًا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه".

ص: 1797

لكن لو قدر أنَّه خلف الإمام اثنان فأصاب أحدهما عذرًا، بمعنى طرأ له حدث، فانصرف، فإنَّه يتقدم الذي خلف الإمام، ويقف عن يمينه.

* قوله: (وَالَّذِي خَرَّجَهُ عَنْهُ -أَيْضًا- مَالِكٌ، أَنَّهُ قَالَ: "فَصَفَفْتُ أَنَا وَاليَتِيمُ وَرَاءَهُ عليه الصلاة والسلام وَالعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا")

(1)

.

كثيرًا ما يقول المؤلف: خرَّجَه مالكٌ. فهي أحاديث متفق عليها، أو في غير "الصحيحين"، وسبب ذلك قلة اطِّلاع المؤلف على ما يتعلَّق بالحديث، فإنَّه يُركز كثيرًا على ما في "الموطأ".

* قوله: (وَسُنَّةُ الوَاحِدِ عِنْدَ الجُمْهُورِ: أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ

(2)

؛ لِحَدِيتِ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ

(3)

.

وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ عَنْ يَسَارِهِ)

(4)

.

نُقل هذا عن سعيد بن المسيب، وهو رأي ضعيف في الحقيقة؛ لأنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لم يُقرَّ عبدَ اللَّه بن عباس على البقاء عن يساره، بل نقله وأداره وأخذ بذؤابته حتى وضعه عن يمينه

(5)

، وكذلك لما جاء جابر بن عبد اللَّه

(1)

هو حديث متفق عليه، وقد تقدم تخريجه. أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 153).

(2)

سبق تفصيل هذه المسألة.

(3)

أخرجه البخاري (6316)، ومسلم (763/ 181)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"بِتُّ عند ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأتى حاجته، فغسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام، فأَتى القربة فأطلق شناقها، ثم توضأ وضوءًا بين وضوءين لم يُكثر وقد أبلغ، فصلى، فقمت فتمطيت، كراهية أن يرى أني كنت أَتَّقِيه، فتوضأت، فقام يصلي، فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فآذنه بلال بالصلاة، فصلى ولم يتوضأ".

(4)

سبق ذكر هذا من قول ابن المسيب.

(5)

أخرج هذه اللفظة -بذؤابتي- البخاري (5919)، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: "بتُّ ليلة عند ميمونة بنت الحارث خالتي، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، قال: فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت عن يساره، قال: فأخذ بذؤابتي فجعلني =

ص: 1798

أخذ بيده -أيضًا- ووضعه عن يمينه، ولما جاء جَبَّار بن صَخْر أخذ بأيديهما معًا ودفعهما إلى الخلف، فعمل صفًّا خلف الإمام

(1)

؛ لأنَّ موقف الإمام دائمًا في المقدمة، وتليه بعد ذلك الصفوف، وسنجد -أيضًا- أنَّ موقف الإمام وحده منفردًا في المقدمة أحد الأدلة التي يستدل بها الذين قالوا بجواز صلاة الفرد خلف الصف

(2)

.

* قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ المَرْأَةَ الوَاحِدَةَ تُصَلِّي خَلْفَ الإِمَامِ)

(3)

فالمرأة تصلي وراء الإمام إذا كان مَحْرَمًا، وأمَّا إن كان أجنبيًّا فلا يُصلي بالنساء وحده إلَّا إذا وُجد رجالٌ؛ كالصلوات التي تُقام في المساجد

(4)

.

* قوله: (وَأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَعَ الرَّجُلِ صَلَّى الرَّجُلُ إِلَى جَانِبِ الإِمَامِ، وَالمَرْأَةُ خَلْفَهُ)

(5)

.

إذًا، فقد بيَّنَ المؤلف جملة لا تفصيلًا موقف المأموم من الإمام: وأنَّ المأمومَ له أحوال، مرة يكون عن يمين الإمام إذا كان وحده، وإن كان معه واحد فأكثر فإنَّهم يقفون وراءه، وأنَّ موقف المرأة دائمًا يكون وراء صفوف الرجال، وخير صفوف الرجال أولها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرُّها أولها

(6)

.

= عن يمينه"، حَدَّثَنَا عمرو بن محمد، حَدَّثَنَا هشيم، أخبرنا أبو بشر بهذا، وقال: "بذؤابتي، أو برأسي".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

ستأتي هذه المسألة.

(3)

سبق نقلُ الإجماع.

(4)

سبق ذكر هذه المسائل.

(5)

سبقت.

(6)

هو حديث أخرجه مسلم، وقد تقدم.

ص: 1799

والسبب في ذلك: هو أنَّ المرأة الأَوْلَى بها أن تبتعد عن الرجال، أمَّا الرجال فينبغي أن يتقدموا، وهو ما سيشير إليه المؤلف في هذه المسألة.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّفَّ الأَوَّلَ مُرَغَّبٌ فِيهِ)

(1)

.

الصف الأول مُرغَّبٌ فيه؛ فقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة صحيحة، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"لو يَعلم الناسُ ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلَّا أن يستهموا عليه لاستهموا"

(2)

، حتى يصل بهم الأمر إلى أن يقوموا بالمساهمة

(3)

على الصف الأول، فذلك دليل على فضله وأهميته، لذلك كان الرَّسُول عليه الصلاة والسلام يقول:"لِيَليني منكم أُولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم"

(4)

. ولذلك تكلم العلماء عن هذه المسألة، وبينوا أنَّ الأولى تَقَدُّم الكبار، ثم الصغار، وهكذا

(5)

، وكان

(1)

وهذا الإجماع معلوم من الأحاديث التي جاءت في الترغيب في الصف الأول، وأنها خير الصفوف.

(2)

أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437/ 129) عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لو يَعلم الناس ما في النداء والصَّف الأول، ثم لم يجدوا إِلَّا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التَّهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لَأَتَوْهُما ولو حَبْوًا".

(3)

يقال: استهم الرجلان، أي: اقترعا. والسَّهْمُ: النصيب. انظر: "العين"، للخليل (4/ 11).

(4)

أخرجه مسلم (432/ 122)، عن أبي مسعود، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: "استووا، ولا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم، لِيَلِنِي منكم أُولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال أبو مسعود:"فأنتم اليوم أشد اختلافًا"".

"أولو الأحلام والنهى": أي: ذوو الألباب: العقول، واحدها: حِلم بالكسر، وكأنه من الحِلم: الأناة والتثبت في الأمور، وذلك من شعار العقلاء. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (1/ 434).

(5)

قال ابن العربي: "فما يلي الإمام ينبغي أن يكون لمن كانت هذه صفته، فإن نزلها =

ص: 1800

يأتي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كبار المهاجرين والأنصار

(1)

.

إذًا، الصفوف الأولى مرغب فيها

(2)

، ولذلك من إتمام الصفوف أن يسد الإنسان الخلل، وألَّا يترك فرجة

(3)

.

ولذلك كان السلف رضي الله عنهم يتسابقون ويسارعون إلى الصفوف الأولى، ولا شكَّ أنَّ ميمنة الصف الأول أفضل من يساره

(4)

.

ولكن ليس معنى هذا أن ينتقل الإنسان إلى الصف الذي يلي الصف الأول؛ فيفضل الذي بعده

(5)

، فقد كان الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يُوصي بإتمام الصف

= غيره أخر له وتقدم هو إلى هذا الموضع؛ لأنه حقُّه بأمر صاحب الشريعة؛ كالمحراب هو موضع الإمام، تَقَدَّم أو تأخر". انظر:"أحكام القرآن"(3/ 103).

(1)

أخرج ابن ماجه (977)، عن أنس، قال كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يُحب أن يَلِيَه المهاجرون والأنصار لِيَأخذوا عنه"، وصححه الألباني في "تمام المنة" (ص: 284). وروي عنه في ذلك أيضًا: ما أخرجه مسلم (438/ 130)، عن أبي سعيد الخدري:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: "تَقَدَّموا فَأْتُمُّوا بي، وليأتم بكم مَن بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يُؤخرهم اللَّه"".

(2)

أخرج أبو داود (664)، عن البراء بن عازب، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول: "لا تَختلفوا فتختلف قلوبكم"، وكان يقول: "إن اللَّه وملائكته يُصلون على الصفوف الأول"، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (513).

(3)

أخرج أبو داود (666)، وغيره، عن ابن عمر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أَقِيموا الصُّفوفَ، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخَلل، ولِينُوا بأيدي إخوانِكم، ولا تَذروا فُرُجاتِ للشَّيطان، ومَن وصل صفًّا وصلَه اللَّهُ، ومَن قطعَ صفًّا قطعَه اللَّه"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(672).

(4)

أخرج أبو داود (676)، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه وملائكته يُصلون على مَيامن الصُّفوف"، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1096).

(5)

اتفق الفقهاء على فضل يمين الصف على شماله، واتَّفقوا على أنه لا ينتقل إلى صَفٍّ إِلَّا بعد إتمام الصف الذي قبله.

انظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 90)، وفيه قال: "وينبغي أن يكمل ما يلي الإمام من الصفوف حتى إن وجد في الصف الأول فرجة دون الثاني له أن يخرق الثاني؛ إذ لا حرمة لهم؛ لتقصيرهم حيث لم يَسدوا الصف =

ص: 1801

الأول فالذي يليه، فإن كان نقص فليكن في المُؤَخَّر

(1)

، وهكذا الحال في تتابع الصفوف؛ كل صف يعتبر بالنسبة للذي قبله هو الأول بالنسبة له.

* قوله: (وَكَذَلِكَ تَرَاصُّ الصُّفُوفِ).

فكان الرَّسُول عليه الصلاة والسلام يوصي أصحابه بتراص

= الأول، ثم يكملوا ما يليه، وهلم جرًّا، وإن وجد في الصف فُرجة سَدَّها؛ قال صلى الله عليه وسلم:"أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسُدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم؛ لا تَذروا فرجات للشيطان؛ مَن وصل صفًّا وصله اللَّه، ومَن قطع صفًّا قطعه اللَّه"، والقيام في الصف الأول أفضل من الثاني، ثم وثم؛ لما روي في الأخبار:"أن اللَّه تعالى إذا أنزل الرحمة على الجماعة يُنزلها أولًا على الإمام، ثم تتجاوز عنه إلى مَن يحاذيه في الصف الأول، ثم إلى الميامن، ثم إلى المياسر، ثم إلى الصف الثاني"". وانظر في مذهب المالكية: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 702، 703)، وفيه قال: "ويبتدئ الصف من خلف الإِمام، ثم عن يمينه وعن شماله حتى يكمل. . .، وهل يجوز أن يبتدأ صف قبل إكمال ما قبله؟ ظاهر المذهب على قولين: والمختار: أن لا يُبْتَدَأَ صفٌّ حتى يكمل ما قبله، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أَتِمُّوا الصَّفَّ الأول، ثم الذي يليه، فإن كان نقص فليكن في الآخر"، وخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أَلَا تَصُفُّون كما تَصُفُّ الملائكة عند ربها؟! ثم قال: يُتمون الصف الأول ويَتراصون".

وانظر في مذهب الشافعية: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 281)، وفيه قال:"والسُّنة للقوم: أن يَصِلوا الصفوف، ويتموا الصف الأول، ويقفوا بقرب الإمام، ويختاروا يمين الإمام؛ لما روي عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تصفُّون كما تصُف الملائكة عند ربِّها؟! ". قلنا: يا رسول اللَّه، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمُّون الصفوف الأولى ويتراصّون في الصَّفِّ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 328، 329)، وفيه قال:" (و) يسن (تراص المأمومين، وسد خلل الصفوف)؛ لِتُشبه صفوف المجاهدين، (فلو ترك القادر) الصف (الأول فالأول كره) له ذلك، قال في "الإنصاف": على الصحيح من المذهب، وهو المشهور أيضًا، (والصف الأول) للرجال أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لتكونوا في الذي يليني"، (ويمنة كل صف للرجال أفضل) من يَسرته، أي: صلاة المأمومين من جهة يمين الإمام أفضل من صلاتهم جهة يساره، إذا كانوا رجالًا".

(1)

أخرجه أبو داود (671)، وغيره، عن أنس بن مالك: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أَتِمُّوا الصَّفَّ المُقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المُؤخر"، وصححه الألباني في:"مشكاة المصابيح"(1094).

ص: 1802

الصفوف

(1)

، وكذلك إلصاق الأقدام بعضها ببعض، وكذلك المناكب

(2)

، لذلك كان الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يقول:"لَتُسَوُّن صفوفكم، أو لَيُخالفن اللَّهُ بين وجوهكم"

(3)

.

وكذلك: "أَلَا تَصُفُّون كما تَصُفُّ الملائكة، يُتِمُّون الصَّفَّ الأول فالأول"

(4)

.

وهناك أحاديث عِدَّة تحضُّ على تسوية الصفوف والعناية بها؛ لأنَّ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام قال: "سَوُّوا صفوفَكم؛ فإنَّ تسوية الصف من تمام الصلاة"

(5)

.

إذًا، هذا أمر:"سَوُّوا صفوفكم"، ثم ذكر العلة فقال:"فإنَّ تسوية الصَّفِّ مِن تمام الصلاة"؛ أي: من كمالها، وهذه رواية متفق عليها

(6)

،

(1)

من ذلك ما أخرجه البخاري (719)، عن أنس بن مالك، قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال:"أقيموا صفوفكم وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري".

(2)

أخرج البخاري (725)، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أقيموا صفوفكم؛ فإني أراكم من وراء ظهري، ووإن أحدُنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه".

(3)

أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436/ 127).

وفي رواية: "بين قلوبكم". أخرجه أبو داود (662) عن النعمان بن بشير، قال:"أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه، فقال: "أقيموا صفوفكم" ثلاثًا، "واللَّهِ لتُقيمن صفوفكم، أو ليُخالفن اللَّه بين قلوبكم". قال: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه". وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1191).

(4)

أخرجه مسلم (430/ 119)، عن جابر بن سمرة، وفيه قال:"أَلَا تَصُفُّون كما تَصف الملائكة عند ربها؟ ". فقلنا: يا رسول اللَّه، وكيف تصف الملائكة عند ربِّها؟ قال:"يُتِمُّون الصُّفوف الأول، وبتراصون في الصف".

(5)

أخرجه مسلم (433/ 124)، عن أنس بن مالك. وأخرجه البخاري (723)، بلفظ:"فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة".

(6)

هذه الرواية أخرجها مسلم فقط كما سبق. ولفظ البخاري: "من إقامة الصلاة".

ص: 1803

وفي رواية عند البخاري: "فإنَّ تسوية الصف من إقامة الصلاة"

(1)

، وفي ذلك إشارة إلى قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، [النساء: 77]، [يونس: 87]، [النور: 56]، [الروم: 31]، [المزمل: 20].

إذًا، فإنَّ تسوية الصف من إقامة الصلاة هو إشارة إلى ما في الآية:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5]، أي: أُمروا ليعبدوا اللَّه، وأُمروا ليقيموا الصلاة.

إذًا هذا حضٌّ من الرَّسُول عليه الصلاة والسلام على تسوية الصفوف؛ لذلك كان يُسَوِّيها عليه الصلاة والسلام، فكان يتفقد الصفوف

(2)

.

ومن هنا ذكر العلماء تعاون المأمومين من باب الأمر بالمعروف، ومن باب التعاون على التقوى، وهذا لا يقتصر على الإمام وحده، وإنَّما ينبغي في حقِّ كل مأموم إن رأى مُتقدمًا أو متأخرًا ينبغي أن يُنبهه إلى ذلك

(3)

.

وتسوية الصفوف لا تقتصر فقط على إقامتها، وإنَّما -أيضًا- إتمام الصف الأول فالأول؛ لأنَّ الرَّسُول قد أرشد إلى ذلك

(4)

.

وكذلك تسوية الصفوف عن خَلل، أي: فراغات بين الصفوف، لذلك كان الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يقول: "رصُّوا صُفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيدِه، إني لأرى الشيطان يَدخل من خلل الصف، كأنَّها

(1)

سبقت.

(2)

أخرج مسلم (436/ 128)، عن النعمان بن بشير، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا، حتى كأنَّما يُسَوِّي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا فقام، حتى كاد يكبر فرأى رجلًا باديًا صدره من الصف، فقال: "عِباد اللَّه، لَتُسَوُّنَّ صفوفكم، أو ليخالفن اللَّه بين وجوهكم"".

(3)

وقد جاء عن السلف كما سبق أنَّهم كانوا يبعثون رجالًا يكلفونهم بتسوية الصفوف، فكان عمر يبعث رجلًا يُقَوِّم الصفوف، ثم لا يكبر حتى يأتيه، فيخبره أن الصفوف قد اعتدلت. وثبت هذا -أيضًا- عن عثمان.

(4)

سبق هذا.

ص: 1804

الحَذَف

(1)

"

(2)

. أي: كالغنم الصغير يتخلل صفوف الناس، والشيطان لا شكَّ يُدرك أنَّ أهم عبادة بعد الشهادتين إنَّما هي الصلاة، ولذلك يحاول قدر وسعه أن يُشوش على المؤمن، ويشغله عن صلاته، وأن يصرفه عنها، فعلى المؤمن ألَّا يُعطي فرصة لعدوه.

ولا شكَّ -أيضًا- أنَّه ورد: "وَسِّطوا الإمامَ، وسدوا الخلل"

(3)

.

إذًا الإمام يأتي في وسط الصف، بمعنى في موازاة وسط الصف، وينبغي كذلك أن يسد الخلل؛ لثبوت الأمر بذلك.

• مسألة: واختلفوا إذا صلى إنسان خلف الصف وحده.

فهذه من المسائل المهمة لأبواب الصلاة، وقد نقرأها فنراها مسألة صغيرة، لكن الأمر فيها أكبر مما قد يدور في خَلَد البعض؛ لأنَّ الخلاف فيها يترتب عليه صحة الصلاة من عدمه؛ فمِن العلماء مَن يرى أنَّه إذا صلى إنسان خلف الصف في غير اضطرار فإنَّ صلاتَه باطلة

(4)

، وهناك مَن يرى صحة الصلاة

(5)

.

وقد ورد في ذلك حديثان حَسَنَان استدل بهما العلماء، وهما نصَّان صريحان على عدم صحة صلاة الرجل المنفرد خلف الصف، وقد حَذَّر من ذلك الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وأمر بإعادة صلاة الرجل

(6)

.

وفي الحديث الآخر: وقف ينتظر رجلًا يُصلي خلف الصف، فلمَّا

(1)

الحَذفَ: ضَرْبٌ من الغَنَم السُّود الصِّغار، واحدها: حَذَفة. انظر: "العين"، للخليل (3/ 202).

(2)

أخرجه أبو داود (667)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(673).

(3)

أخرجه أبو داود (681)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(106).

(4)

وهم الحنابلة، كما سيأتي.

(5)

وهم الأحناف والمالكية والشافعية.

(6)

وهو الحديث الذي أخرجه أبو داود (682)، وغيره، عن وابصة:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يُعيد. قال سليمان بن حرب: الصلاة"، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1105).

ص: 1805

فرغ قال له عليه الصلاة والسلام: "استقبل صلاتَك، لا صلاة للذي خلف الصَّفِّ"

(1)

.

فهذا صريحٌ جدًّا؛ لذلك اختلف العلماء في النفي هنا: فانقسموا في هذه المسألة إلى قسمين:

فجمهورٌ يذهب إلى صحة صلاة الواحد خلف الصف، وقد قلنا كثيرًا: لا يعتبر القول صحيحًا لكثرة القائلين به، فقد نجد قولًا يقول به جمع من العلماء، ويكون الرأي المخالف مع قلة أصحابه، وهو الرأي الصحيح؛ لأنَّ القول متى يُقدم؟

يُقدم ما كان وفق الأدلة من الكتاب أو السنَّة.

وقد صحَّ في ذلك أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أنكر على من صلى خلف الصف، وأمره أن يُعيد الصلاة

(2)

.

فأكثر العلماء يرون أنَّ صلاة الواحد خلف الصف تجوز؛ ومنهم الأئمة الثلاثة (أبي حنيفة، ومالك، والشافعي)

(3)

.

وفريق آخر يرى أنَّ صلاة الفرد خلف الصف لا تجوز، هذا من حيث الجملة، لكن الذين قالوا: لا تجوز

(4)

؛ فَصَّلوا في ذلك، فقالوا: لو ركع خلف الصف، ثم أدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركعة، فهذا لا يدخل في ذلك، وتُعتبر صلاته صحيحة، وقد أدرك الركعة، أو لو أحرم خلف الصف، فجاء آخر وانضم إليه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع

(5)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه (1003) عن علي بن شيبان، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" أثناء كلامه في حديث رقم (541).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

ستأتي.

(4)

وهم الحنابلة.

(5)

انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 686)، وفيه قال: " (وإن ركع فذا لعذر؛ كخوف فوت ركعة، ثم دخل الصف) قبل سجود الإمام؛ صَحَت، (أو) ركع فذا =

ص: 1806

لكن الخلاف فيمَنْ صلى ركعة أو أكثر خلف الصف، هذا هو الذي يتكلم فيه العلماء

(1)

. أو من ركع دون الصف، ثم دَبَّ

(2)

إلى الصف بعد أن رفع الإمام رأسه، هذه أيضًا فيها خلاف

(3)

.

فالذين قالوا بعدم صحة صلاة المنفرد خلف الصف جماعة؛ منهم الإمام أحمد، وجماعة من التابعين، وبعض الفقهاء؛ كإسحاق

(4)

، وابن المنذر

(5)

،

= لعذر، ثم (وقف معه آخر قبل سجود الإمام؛ صحت) صلاته؛ "لأن أبا بكرة -واسمه نفي ع - ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "زادك اللَّه حرصًا، ولا تَعُدْ"، رواه البخاري، وفَعَلَه زيدُ بن ثابت وابنُ مسعود. وكما لو أدرك معه الركوع (و) إن ركع فذا (لغير عذر) بأن كان لا يخاف فوت الركعة، فإن دخل الصف أو وقف معه آخر قبل رفعه وقبل سجود الإمام؛ صحت. وإلا (فلا)؛ لأن الرخصة وردت في المعذور، فلا يلحق به غيره". وانظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 118).

(1)

فعند الحنابلة تبطل الصلاة، وعند الجمهور لا تبطل، كما سيأتي.

(2)

يقال: دَبَّ القومُ يَدِبُّون دَبيبًا إلى العَدُوِّ، أي: مَشَوا على هَيْنَتِهم ولم يُسرعوا. انظر: "العين"، للخليل (8/ 12).

(3)

انظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 119 - 123)، وفيه قال: "وإن لم يدخل مع الإمام في الصف حتى رفع من الركوع، ففيه ثلاث روايات:

(إحداها): يصح مطلقًا؛ لأنه زمن يسير، فعفي عن الفذوذية فيه، كما قبل الركوع؛ لما روي عن زيد بن ثابت أنه كان يركع قبل أن يدخل في الصف، ثم يمشي راكعًا، ويَعتد بها؛ وصل إلى الصف أو لم يصل.

(والثانية): إن علم بالنهي عن ذلك لم يصح؛ لحديث أبي بكرة أن قال له صلى الله عليه وسلم: "زادك اللَّه حرصًا ولا تعد"، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة.

(والرواية الثالثة): لا يصح مطلقًا، نص عليه أحمد، مُفرقًا بينه وبين ما إذا أدرك الركوع في الصف، وإن لم يدخل مع الإمام في الصف حتى سجد لم تَصِح تلك الركعة بلا نزاع".

(4)

انظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"، للكوسج (2/ 614، 615)، وفيه قال:"قلت: إذا صلى خلف الصف وحده يعيد؟ قال: يُعيد. قال إسحاق: كما قال".

(5)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (2/ 139)، حيث قال: "واختلفوا في الصلاة خلف الصف وحده، فقالت طائفة: لا يُجزيه، هذا قول النخعي، والحكم، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق. وأجاز ذلك، الحسن =

ص: 1807

وغيرهم

(1)

.

وأمَّا الذين قالوا بأنَّها جائزة وصحيحة؛ فاستدلوا بعدة أدلة

(2)

:

أولها: صلاة المرأة خلف الصف في حديث أنس المتفق عليه: "فصففتُ أنا واليتيم خلفه، والعجوز من ورائنا"

(3)

.

قالوا: كون المرأة تُصلي وحدها دليل على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، وفي هذا المقام الصلاة واجبة في حقها لا تختلف عن الرجل،

= البصري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: لا يجزئ صلاة الفرد خلف الصف وحده".

(1)

ذهب الجمهور إلى صحة صلاة المنفرد خلف الصف، وخالف الحنابلة وطائفة، فقالوا ببطلانها.

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 342)، وفيه قال:"ولو وقف منفردًا بغير عذر تصح صلاته عندنا، وعند الشافعي ومالك. وقال أحمد وأصحاب الحديث: لا تصح صلاته، واحتجوا بقوله عليه السلام: "إلا صلاة للمنفرد خلف الصف". ولنا: حديث أنس واليتيم والعجوز، وقد جوزوا اقتداءها وهي منفردة خلف الصف، وما رواه من الحديث المذكور أُريد به نفي الكمال".

انظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير للشيخ الدردير"(1/ 334)، وفيه قال:" (و) جاز (صلاة منفرد خلف صف) إن تعسر عليه الدخول فيه وإلا كره، ويحصل له فضل الجماعة مطلقًا".

انظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 223)، وفيه قال:" (فصل: يكره للمأموم الانفراد) عن الصف؛ لخبر البخاري عن أبي بكر: "أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فركع قبل أن يَصِل إلى الصف، فذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال:"زادك اللَّه حرصًا ولا تَعد". ويؤخذ منه عدم لزوم الإعادة؛ لعدم أمره بها".

انظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 686)، وفيه قال:" (ولو كان وراءه)، أي: الإمام (صف، أو) صلى (فذًّا، ولو) كان الفذ (امرأة خلف امرأة ركعة كاملة؛ لم تصح صلاته) عالمًا كان أو جاهلًا، ناسيًا أو عامدًا؛ لحديث وابصة بن معبد "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي خلف الصف، فأمره أن يُعيد الصلاة". وعن علي بن شيبان مرفوعًا:"لا صلاة لفرد خلف الصف"؛ ولأنه خالف موقفه".

(2)

سبق ذكر هذه الأدلة عند الجمهور.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1808

إذًا صحة صلاة المرأة دليل على جواز صلاة المنفرد خلف الصف

(1)

.

ويستدلون -أيضًا- بصلاة الإمام؛ فيقولون: الإمام يَقدم النَّاسَ فيصلي وحده، والناسُ خلفه، إذًا هو منفرد وحده، ليس عن يمينه ولا شماله أحد، ففيه دليل على أنَّ مَن صلى وحده صحت صلاته

(2)

.

ويستدلون بحديت أبي بكرة؛ الذي أخرجه البخاري وغيره: أنَّه جاء ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد ركع، فركع دون الصف، ثم أخذ يَدُبُّ حتى دخل في الصف، فلمَّا انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال:"مَنِ السَّاعي؟ " قال أبو بكرة: أنا يا رسول اللَّه. فقال له: "زادك اللَّهُ حِرْصًا ولا تَعُدْ"

(3)

. أي: لا تَعُد إلى مثل ذلك، فيقولون: إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم لم يُبطل صلاته

(4)

.

فلو نظرنا إلى صلاة الجماعة نظرة عامة؛ لماذا سُمِّيت بهذا الاسم؟

لأنَّ المصلين يفعلونها مكانًا وزمانًا؛ أي: يفعلونها في وقت واحد، وفي مكان واحد، هذا أمر معروف، فكل جماعة إذا جاءت لتؤدي الصلاة فإنَّها تؤديها في المسجد في وقت واحد، فلو أنَّهم صلوا أمام الإمام، أو تقدم الإمامَ بعضُهم، فعامة العلماء ينكرون ذلك، وأكثرهم يرون بطلان الصلاة، عدا المالكية

(5)

.

(1)

سبق ذكر هذا من كلام القاضي عبد الوهاب.

(2)

لم أقف على مَن قاس هذا على الإمام.

(3)

هذه الرواية أخرجها ابن السكن كما سيأتي، وأخرج أحمد نحوها في "مسنده" (20435):"أن أبا بكرة، جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت نَعل أبى بكرة وهو يحضر، يريد أن يدرك الركعة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن الساعي؟ ". قال أبو بكرة: أنا، قال: "زادك اللَّه حرصًا، ولا تَعُدْ""، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(230).

أما رواية البخاري (783)، ففيها:"أنَّ أبا بكرة انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "زادك اللَّهُ حرصًا ولا تَعُدْ"".

(4)

سبق ذكر هذا في أدلة الجمهور.

(5)

سبقت هذه المسألة.

ص: 1809

ولو أنَّهم صلوا خلفه بعيدًا عنه، فيقع الخلاف -أيضًا- في صحة صلاتهم

(1)

.

(1)

اختلف الفقهاء في صحة صلاة المأمومين إذا تَباعدوا بالصفوف عن الإمام.

مذهب الأحناف: أنَّه متى اتصلت الصفوف صَحَّت الصلاة، فإذا ما حدث انقطاع بطلت الصلاة.

انظر: "البحر الرائق"، لابن نُجيم (1/ 384)، وفيه قال:"وذكر في "الكافي" للحاكم أنه إذا كان بين المصلي والإمام طريق يَمر فيه الناس أو نهر عظيم لم تَجُز صلاته إِلَّا أن تكون الصفوف متصلة على الطريق فيجوز حينئذ".

ومذهب المالكية أنه متى ما تمكنوا من سماع الإمام ورؤيته صَحَّت الصلاة وإن لم تتصل الصفوف.

انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 301)، وفيه قال:"إذا صلوا بصلاة الإمام وبينهم نَهر أو طريق قريب لا يَمنعهم رؤية الصفوف وسماع التكبير جاز، ولم يمنع ذلك الائتمام به. ودليلنا على أبي حنيفة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه". فعلى أي وجه أمكن ذلك يجب أن يجوز، ولأن مسجد النبي كان قد ضاق على الناس حتى كانوا يصلون بالقرب منه، وحيث يمكنهم معرفة أفعال الإمام، ولا ينكر ذلك أحد. فأما تقدير الشافعي فإنَّه دعوى لا فصل بينه وبين من عكسها فزاد فيها أو نقص منها".

ومذهب الشافعية: أنه إذا كان بينهم وبين الإمام أو الصفوف ثلاثمائة ذراع جاز، وإن كان أكثر لم يجز. انظر:"المهذب"، للشيرازي (1/ 190)، وفيه قال:"فإن تباعدت الصفوف أو تباعد الصف الأول عن الإمام نظرت، فإن كان لا حائل بينهما وكانت الصلاة في المسجد وهو عالم بصلاة الإمام صَحَّت الصلاة؛ لأن كُلَّ مَوضع من المسجد موضع الجماعة، وإن كان في غير المسجد فإن كان بينه وبين الإمام أو بينه وبين آخر صف مع الإمام مسافة بعيدة لم تصح صلاته، فإن كانت مسافة قريبة صحت صلاته، وقدَّر الشافعي رحمه الله القريب بثلاثمائة ذراع، والبعيد ما زاد على ذلك؛ لأن ذلك قريب في العادة وما زاد بعيد".

ومذهب الحنابلة؛ كالمالكية من أنه متى أمكنه رؤية الإمام صَحَّت. "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 492)، وفيه قال: " (وإن كان بينهما نهر تجري فيه السفن) لم تصح، (أو) كان بينهما (طريق ولم تتصل فيه الصفوف عرفًا إن صحت) الصلاة (فيه)، أي: الطريق؛ كصلاة الجمعة والعيد والاستسقاء والكسوف والجنازة لضرورة لم تصح، فإن اتصلت إذًا صَحَّت، (أو اتصلت) الصفوف (فيه)، أي: الطريق. (وقلنا: لا تصح) الصلاة (فيه)، أي: الطريق؛ كالصلوات الخمس، (أو انقطعت) الصفوف (فيه)، أي: الطريق (مطلقًا) سواء كانت تلك الصلاة مما تصح في الطريق أو لا، =

ص: 1810

والمسألة فيها تفصيل وكلام للعلماء، ولو أنَّهم صلوا واحدًا خلف واحدٍ، خالفوا تسوية الصفوف وإتمامها التي أرشد إليها رسول صلى الله عليه وسلم، بل لم ينقل عن السلف الصالح أنَّهم صلوا على هذا الشكل ولو مرة واحدة، وإنَّما يأتون يُتمُّون الصف الأول، ثم الذي يليه، وبهذا ننتهي إلى أنَّ صلاة الجماعة مطلوب فيها أن تُسوى الصفوف، وأن تتم، وألَّا ينتقل إلى الصف الثاني إلَّا عندما يتم ويمتلئ الصف الأول

(1)

. فإذا ما جاء فرد فصلى خلف الصف مع وجود مكان، فكيف تصحُّ صلاته مع وجود النَّهي عن ذلك؟

هناك ظروف قد تحدث لكل إنسان، قد يأتي فيجد الصف الأول قد انتهى، والصف الثاني لا يوجد غيره، فيلتفت يمينًا ويسارًا لا يجد داخلًا، فإذا دخل معه أحدٌ زال الإشكال، فهل يجذب من في الصف؟

هذه مسألة يختلف فيها العلماء: بعض العلماء يرى الجذب، وإن كان فيه ردٌّ للمتقدم، وتأخير له، لكنَّهم يقولون: فيه إعانة على الخير، فإنَّ صاحبه المصلي سيستفيد من ذلك، ولا يعتبر تأخره قصدًا، والتعليل الآخر أنَّهم قالوا: هذا ردٌّ للإنسان بغير أخذ إذن، فهذا لا ينبغي، فهذه نظرة عامة

(2)

.

= وبعضه داخل فيما تقدم (لم تصح) صلاة المأموم؛ لأن الطريق ليست محلًّا للصلاة أشبه ما يمنع الاتصال".

(1)

سبق بيان كل هذا.

(2)

اختلف الفقهاء في مشروعية جذب المنفرد أحدًا مِن الصف يقف معه.

فذهب الجمهور إلى كراهة ذلك، وأنه يمنع إذا كان فيه إيذاء أو تسبب في فتنة، واستحب ذلك الشافعية إذا اضطر إليه.

انظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 109)، حيث قال:" (قوله: والقيام خلف صف فيه فرجة). أقول: فإن لم يجد فرجة اختلف العلماء؛ قيل: يقوم وحده ويُعذر. وقيل: يَجذب واحدًا من الصف إلى نفسه فيقف إلى جنبه. والأصح: ما روى هشام عن محمد أنه ينتظر إلى الركوع فإن جاء رجل، وإلا جذب إليه رجلًا، أو دخل في الصف. قال مولانا البديع: والقيام وحده أولى في زماننا؛ لغلبة الجهل على العوام، فإذا جرَّه تَفسد صلاته. وفي "شرح الإسبيجابي": أنه الأصح وأولى في زماننا، ذكره في "شرح المنظومة" لابن الشحنة، ثم قال: وبحث =

ص: 1811

لذلك نقول: إن لم يجد الإنسان من يصف معه فهذه حالة ضرورة، والقيام ركن، ويسقط مع العجز عنه، والقراءة ركن، وتسقط إذا عجز إنسان عنها، والركوع والسجود كذلك ركنان، ويسقطان مع العذر، إذًا إذا تعذر على الإنسان أن يَدخل صفًّا لكونه قد امتلأ، ولم يجد من يقف معه،

= المصنف التفويض إلى رأي المبتلى، فإن رأى مَن لا يتأذى لِدِين أو صَدَاقة زَاحَمَه، أو عالمًا جذبه".

وانظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 299، 300)، وفيه قال:"فإذا لم يجد مدخلًا في الصف وقف خلفه، ولم يجذب إليه رجلًا في الصف، فإن فعل كره له ذلك؛ لأن الخلل في الصف ممنوع؛ لقوله عليه السلام: "سووا صفوفكم". وقوله: "تراصوا خلفي". وإذا جذب إليه رجلًا وقع الخلل في الصف وهو مكروه، ولأن الصف الأول أفضل من الثاني، فليس له أن يُنحي رجلًا من موضع هو أفضل إلى موضع هو أدون". وانظر: "التاج والإكليل"، لمواق (2/ 446).

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 494)، حيث قال:" (وإلا)، أي: وإن لم يجد سعة (فليجر) ندبًا في القيام (شخصًا) واحدًا من الصف إليه (بعد الإحرام) خروجًا من خلاف مَن قال من العلماء: لا تصح صلاته منفردًا خلف الصف. قال الزركشي وغيره: وينبغي أن يكون محله إذا جَوَّز أن يوافقه، وإلا فلا جَر، بل يمتنع؛ لخوف الفتنة، (وليساعده المجرور) ندبًا لموافقته؛ لينال فضل المعاونة على البر والتقوى، ولا يجر أحدًا من الصف إذا كان اثنين؛ لأنه يصير أحدهما منفردًا، ولهذا كان الجر فيما ذكر بعد الإحرام، فإن أمكنه الخرق ليصطف مع الإمام، أو كان مكانه يسع أكثر من اثنين، فينبغي كما قال شيخنا: أن يخرق في الأول ويجرهما معًا في الثانية".

وهناك قول عند الشافعية بأنه يقف منفردًا ولا يَجذب أحدًا، نص عليه في البويطي. انظر:"روضة الطالبين"، للنووي (1/ 360).

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 490)، وفيه قال:" (ومَن جاء فوجد فرجة)، (أو وجده)، أي: الصف (غير مرصوص دخل فيه)، (فإن لم يجد) موضعًا في الصف يقف فيه (وقف عن يمين الإمام إن أمكنه) ذلك؛ لأنه موقف الواحد (فإن لم يمكنه) الوقوف عن يمين الإمام (فله أن يُنبه بكلام أو بنحنحة أو إشارة مَن يقوم معه)؛ لما في ذلك من اجتناب الأذية، (ويتبعه) مَن ينبهه، وظاهره وجوبًا؛ لأنه من باب ما لا يتم الواجب إِلَّا به. (ويكره) تنبيهه (بجذبه نصًا) لما فيه من التصرف فيه بغير إذنه. (ولو كان عبده أو ابنه)؛ لأنه لا يملك التصرف فيه، حال العبادة: كالأجنبي".

ص: 1812

فهذه حالة استثنائية؛ فيرى بعض العلماء صحة الصلاة

(1)

.

وخلاصة استدلال الذين قالوا بصحة صلاة الفرد خلف الصف:

أولًا: وقوف المرأة وحدها.

ثانيًا: وقوف الإمام.

ثالثًا: حديث أبي بكرة.

فما جوابهم عن الحديثين اللذين أشار المؤلف إلى أحدهما: الأول حديث وابصة بن معبد: "أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُصَلِّي خلف الصف، فأمره أن يُعيد الصلاة". وهو حديث حَسَن

(2)

.

إذًا فهو حجة، وقد احتج الذين خالفوا في تلك المسألة بأحاديث أقل درجة منه.

إذًا هذا نصٌّ صريحٌ فيه إعادة الصلاة لمن صَلَّى خلف الصف.

والدليل الثاني: حديث علي بن شيبان: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما انصرف من صلاته رأى رجلًا يُصلي خلف الصف، فوقف نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظره، فلمَّا فرغ الرجل من صلاته، قال له:"استقبل صلاتَك؛ لا صلاةَ للذي خلف الصف"

(3)

.

إذًا فالرسول صلى الله عليه وسلم انتظره إلى أن انتهى، ثم أمره أن يُعيد الصلاة.

(1)

هذا في مذهب الحنابلة؛ لأنهم هم الذين يقولون ببطلان صلاة مَن صلى منفردًا.

قال ابن قدامة: "فإن وقف اثنان خلف الصف، فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف، أو وقف عن يمين الإمام، أو نَبَّه مَن يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه نوى مفارقته، وأتم منفردا؛ لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث". انظر: "الكافي"(1/ 301).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1813

ما جوابهم عن الحديثين:

الجواب الأول: قالوا: نحن نُقر بصحة هذه الأحاديث، ونُسَلِّم بها، لكننا نقول: إنَّها محمولة على الاستحباب.

وما توجيه ذلك؟

قالوا: إنَّ النَّفي في "استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف" متوجه إلى الكمال، لا إلى إلزام الصحة، أي: أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لفرد خلف الصف"، أي: لا صلاة كاملة

(1)

.

وهذا التعليل يظهر عندما نتكلم عن وجوب القراءة في الصلاة عند الكلام على حديث عبادة: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"

(2)

، فقد وجدنا أنَّ الحنفية علَّلوا بهذا التعليل

(3)

، وعرفنا الرد عليهم؛ ووجود بعض الأدلة التي تنفي ذلك.

إذًا قالوا: النفي هنا إنَّما هو لنفي الكمال، وقالوا: ومما يدل على ذلك أنَّ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام قال: "لا صلاة بحضرة الطعام"

(4)

.

والعلماء متفقون على أنَّ الإنسان لو كانت نفسه تتوق إلى الطعام

(1)

قال النووي: "واحتج أصحابنا بحديث أبي بكرة وبحديث ابن عباس، وحملوا الحديثين الواردين بالإعادة على الاستحباب جمعًا بين الأدلة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة للذي خلف الصف"، أي: لا صلاة كاملة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بحضرة الطعام"، ويدل على صحة التأويل أنه صلى الله عليه وسلم انتظره حتى فرغ، ولو كانت باطلة لما أقره على الاستمرار فيها". انظر: "المجموع شرح المهذب"(4/ 298).

(2)

أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394/ 34)، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(3)

انظر: "التجريد"، للقدوري (1/ 488، 489)، وفيه قال:"احتجوا: بما رواه سفيان بن عيينة عن الزُّهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". والجواب: أن لفظة (لا) مشتركة: يحتمل نفي الجواز، ونفي الكمال؛ كقوله: "لا صلاة لجار المسجد إِلَّا في المسجد". وإذا احتملت الأمرين حُملت على نفي الكمال؛ لأنه متيقن".

(4)

أخرجه مسلم (560/ 67) عن عائشة رضي الله عنها، وفيه قالت: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاةَ بحضرة الطعام، ولا وهو يُدافعه الأخبثان".

ص: 1814

وصَلَّى فصلاته صحيحة، لكن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ خشية أن ينشغل فؤاد المرء، وتكون نفسه قد تعلقت بالطعام؛ فيصرفه ذلك عن خشوعه، لذلك عندما يحضر العِشاء والعَشاء؛ فإنَّه يُقَدَّم العَشاء

(1)

.

وهذا كلام فيه تفصيل

(2)

، لكن القصد ألَّا يدخل الإنسان في صلاته

(1)

أخرج البخاري (5463)، ومسلم (557/ 64)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وضع العَشاء وأُقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعَشاء".

(2)

اتفق الفقهاء على تقديم الطعام إذا حضر على الصَّلاة بشرط أن تشتاق إليه نفسه بحيث لو صَلَّى شُغل عن الصلاة.

انظر في مذهب الأحناف: "مراقي الفلاح"، للشرنبلالي (ص: 131)، وفيه قال:"وتكره بحضرة طعام يميل طبعه إليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ بحضرة طعام، ولا هو يُدافعه الأخبثان"، رواه مسلم. وما في أبي داود: "لا تؤخر الصلاةَ لطعام ولا لغيره" محمول على تأخيرها عن وقتها؛ لصريح قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وُضِع عَشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة؛ فابدءوا بالعشاء، ولا يَعجل حتى يفرغ منه"، رواه الشيخان. وإنما أمر بتقديمه؛ لئلا يذهب الخشوع باشتغال فِكره به". وانظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 378).

وانظر في مذهب المالكية: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 725)، وفيه قال:"إذا حضر العِشاء والعَشاء فقال ابن حبيب: إنما يُؤمر بتقدمة الطعام إن كان جائعًا قد اشتهاه حتى يَشغله ذلك عن الصلاة، فإن كانت تتوق إليه أَكَل منه ما يُسكن نفسه". وانظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 400).

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 157) وفيه قال: " (وجوع وعطش ظاهران)، أي: شديدان، والمأكول والمشروب حاضرًا، وقرب حضوره. . .، وما قاله جمع متأخرون من أن شدة أحدهما كافية، وإن لم يحضر ذلك ولا قرب حضوره رد بأنه مخالف للأخبار كخبر: "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة؛ فابدؤوا بالعشاء"، وخبر "لا صلاة بحضرة طعام"، ويمكن حمل كلام هؤلاء على ما إذا اختل أصل خشوعه؛ لشدة جوعه أو عطشه، لأنه حينئذ شبيه بمدافعة الحدث، بل أولى من المطر ونحوه مما مر، إذ مشقة هذا أكثر، ولأنها ملازمة في الصلاة بخلاف ذلك. وحمل كلام الأصحاب على عدم اختلال خشوعه إِلَّا بحضرة ذلك أو قرب حضوره، فيبدأ حينئذ بما يَكسر شهوته من أكل لُقم في الجوع، وتصويب المُصَنِّف الشبع -وإن كان ظاهرًا- من حيث المعنى إِلَّا أن الأصحاب على خلافه".

وانظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (1/ 450)، وفيه قال: " (وإذا =

ص: 1815

وهو حاقن، أو بحضرة طعام يشتهيه، فهذه الأمور تشغله في صلاته، وتصرف ذهنه عنها، وتقلل خشوعه، ينبغي أن يتجرد منها قبل أن يدخل في الصلاة، إذًا هذه أدلة الذين قالوا بصحة الصلاة خلف الصف.

أمَّا الذين قالوا بعدم صحتها: فدليلهم ما ذكرناه من الحديثين.

فما الجواب عن أدلة الجمهور الذين استدلوا بهذه الأدلة:

أولًا: نأخذ دليلهم الأول؛ وهو صلاة المرأة خلف الصف، فهم يقولون: المرأة تصلي خلف الصف، وصلاتها صحيحة، فما المانع أن يكون الرجل كذلك.

والجواب عن ذلك:

إنَّ هذا قياس، والقياس عادة إنَّما يكون فيما يلحق مسكوتًا عنه، بمنطوق في حكم؛ لعلة تجمع بينهما

(1)

.

ولا يُعرف في القياس أن يُقاس منطوق على منطوق يخالفه في الحكم.

فبالنسبة إلى المرأة ورد النص بأنَّ هذا هو موقفها؛ أن تكون وراء الصفوف، وورد -أيضًا- أنَّ من صلى خلف الصف خلافها فصلاته غير صحيحة.

إذًا هذا نص، وهذا نص، فكيف نلحق نصًّا نطق به الرَّسُول صلى الله عليه وسلم

= حضرت الصلاة والعشاء بدأ بالعشاء)، وجملة ذلك: أنه إذا حضر العشاء في وقت الصلاة فالمستحب أن يبدأ بالعشاء قبل الصلاة؛ ليكون أفرغ لقلبه، وأحضر لباله، ولا يستحب أن يَعجل عن عشائه أو غَدائه".

(1)

قال ابن النجار: "القياس شرعًا، أي: في عرف الشرع هو: تسوية فرع بأصل في حكم، من باب تخصيص الشيء ببعض مسمياته"، فهو حقيقة عرفية، مجاز لغوي. قاله الطوفي في "شرحه" وغيره. والقياس اصطلاحًا، أي: في اصطلاح الأصوليين علماء الشريعة: "رد فرع إلى أصل بعلة جامعة". انظر: "مختصر التحرير شرح الكوكب المنير"(4/ 6).

ص: 1816

بنصٍّ آخر مع اختلافهما في الحكم، المعروف قياسًا أن يلحق مسكوتًا عنه بمنطوق به في حكم يجمع بينهما، والقياس: هو إلحاق أصل بفرع في حكم؛ لعلة تجمع بينهما، هذا اختلاف بين العلماء في تعريف القياس.

لكن أن تلحق ما نُص عليه على ما نص عليه مع اختلاف الحكم أيضًا، فهذا أمر مردود وغير صحيح.

فهذا كمن يقيس الربا على البيع؛ فاللَّه سبحانه قد نص على ذلك في كتابه فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]؛ نص اللَّه على تحريمه، وجاءت سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لتُبين حقيقة الربا، وتبين الممنوع، أنواع الربا، وتحذر من ذلك

(1)

. فلا يقاس بعد ذلك الربا على البيع، لأنَّ هذا معاملة، وهذا معاملة.

وجه الرد: أنَّ صلاة المرأة جاء النَّص عليها في حديث أنس: "فصففتُ أنا واليتيم خلفه، والعجوز مِن ورائنا"

(2)

.

إذًا هذا حضر في صلاة أَمَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فيها، وجعل موقفها خلف النَّاسِ منفردًا، ولو جاء إليها غيرها من النساء ينضمون إليها؛ أي: يلحقن بها، وأمَّا إذا انفردت فتصلي، وصلاتها صحيحة؛ لورود النص في ذلك.

والجواب الثاني عن الإمام: أنَّهم قاسوا من يُصلي خلف الصف بمن يُصلي أمام الصف، وقصدوا الإمام بذلك.

والجواب: أنَّ الإمام ورد فيه النَّص، فهذا هو الموقف الذي حدده الرَّسُول صلى الله عليه وسلم للإمام الذي وقف فيه، وأنَّه أمام الصفوف، إذًا هذا منطوق به، فلا ينبغي أن نُلحق ممنوعًا ورد النص بمنعه، فموقف الإمام أمام

(1)

من ذلك ما أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7/ 158)، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الرِّبا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثل إتيان الرجل أُمَّه، وأربى الربا: استطالة الرجل في عِرض أخيه"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1871).

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1817

الناس هو السنة، وموقف المرأة خلف الرجال هي السنة، فكيف نقيس أمرًا منهيًّا عنه بأمرٍ وردت الأدلة بإثبات سُنِّيَّته، هذه من الأدلة التي قال بها هؤلاء.

وأمَّا الاستدلال بحديث أبي بَكرة: فالحقيقة أنَّ حديث أبي بكرة لا حجة فيه؛ لأنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قال: "زادك اللَّهُ حرصًا ولا تَعُدْ"، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُبين في هذا المقام أنَّه لو بقي الإنسان خارج الصف فإنَّ صلاته صحيحة

(1)

.

إذًا بهذا نتبين أنَّ الأمر ليس من الأمور السَّهلة.

وأمَّا دعوة أنَّ النفي نفي كمال؛ فهذا غير صحيح؛ لأنَّ الأمر ليس نفي الكمال.

ومن العلل التي يستدلون بها، يقولون: مما يدل على صحة الصلاة، أنَّه لو كانت صلاة الواحد خلف الصف غير جائزة لما وقف رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظر الرجل، وإنَّما أعلمه من أول الأمر بقول:"انصرف من صلاتك"

(2)

.

والجواب: أنَّه ما عُرف عن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم التَّسرع في هذه الأمور، إذًا كون الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وقف عنده، فهذا دليل على بطلان الصلاة، لا على صحتها؛ لأنَّه لو كانت صلاته صحيحة لنبه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إلى الأَوْلَى، لكنَّه

(1)

قال ابن قدامة في الجواب على حديث بكرة، وقياسهم موقف المنفرد على موقف المرأة:"فأما حديث أبي بكرة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاه فقال: "لا تَعُدْ"، والنهي يقتضي الفساد، وعذره فيما فعله لجهله بتحريمه، وللجهل تأثير في العفو، ولا يلزم من كونه موقفًا للمرأة كونه موقفًا للرجل، بدليل اختلافهما في كراهية الوقوف واستحبابه". انظر: "المغني"(2/ 155).

وقال -أيضًا- في حديث أبي بكرة: "فإن قيل: إنما نهاه عن التهاون والتخلف عن الصلاة. قلنا: إنما يعود النهي إلى المذكور، والمذكور الركوع دون الصف، ولم يَنسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى التهاون، وإنما نسبه إلى الحرص، ودعا له بالزيادة فيه، فكيف ينهاه عن التهاون، وهو منسوب إلى ضده؟! ". انظر: "المغني"(2/ 173).

(2)

سبق ذكر هذا من كلام النووي رحمه الله.

ص: 1818

في الحديث الأول أمره أن يُعيد الصلاة، فلا يمكن أن يأمر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم رجلًا أن يُعيد الصلاة وقد صلَّاها صحيحة، إلَّا في حالات.

إذًا بهذا نتبين أنَّه لا ينبغي أن يصلي الإنسان خلف الصف إلَّا أن تكون هناك حاجة لضرورة، فيُعتبر عندها داخل في حكم أهل الأعذار، ونرى أنَّ كثيرًا من الأحكام تَسقط في حالة العذر.

باختصار القياس هنا غير وارد، لأنَّ الأصل في القياس أن يُلحق مسكوت عنه بمنطوق به، أمَّا أن يُلحق منطوق به منهي عنه بمنطوق به أمر به، أو هو سنة، فهذا قياس -حقيقة- مع الفرق، وهو غير صحيح.

* قوله: (وَتَسْوِيَتُهَا لِثُبُوتِ الأمر بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاخْتَلَفُوا إِذَا صَلَّى إِنْسَانٌ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ تُجْزِي.

وَقَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ

(1)

، وَجَمَاعَةٌ: صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ

(2)

.

وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِ وَابِصَةَ، وَمُخَالَفَةُ العَمَلِ لَهُ

(3)

.

(1)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 270)، وفيه قال:"وكان أحمد بن حنبل والحميدي وأبو ثور يذهبون إلى الفرق بين الرجل والمرأة في المصلي خلف الصف؛ فكانوا يرون الإعادة على من صلى خلف الصف وحده من الرجال؛ لحديث وابصة بن معبد عن النبي عليه السلام بذلك".

(2)

سبق ذكر هذا.

(3)

قال ابن عبد البر: "والذي أقول: إنه ليس في هذا الباب حجة على مَن أنكر صلاة الرجل وحده خلف الصف؛ لأنَّ السنة المجتمع عليها أن تقوم المرأة خلف الرجال، ولكني أقول: إن الحديث في إبطال صلاة الرجل خلف الصف وحده مُضطرب الإسناد لا يقوم به حجة، وقد اتفق فقهاء الحجاز والعراق على ترك القول به؛ منهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم ومَن سلك سبيلهم، كلهم يرى أن صلاة الرجل خلف الصف جائزة". انظر: "الاستذكار"(2/ 271).

ص: 1819

وَحَدِيثُ وَابِصَةَ هُوَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "لَا صَلَاةَ لِقَائِمٍ خَلْفَ الصَّفِّ")

(1)

.

المؤلف خلط بين الحديثين: فهذا الذي أشار إليه هو حديث عَلِيِّ بن شيبان.

1 -

فأمَّا حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه فهو: "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُصلي خلف الصف، فأمره أن يُعيد الصَّلاة"

(2)

).

2 -

وأمَّا حديث علي بن شيبان رضي الله عنه فهو: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما انصرف من صلاته رأى رجلًا يُصلي خلف الصف، فوقف نبي اللَّه عز وجل ينتظره، فلمَّا فرغ الرجل من صلاته. قال له:"استقبل صلاتَك، لا صلاة للذي خلف الصف"

(3)

.

* قوله: (وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ هَذَا يُعَارِضُهُ قِيَامُ العَجُوزِ وَحْدَهَا خَلْفَ الصَّفِّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ

(4)

.

وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ، لِأَنَّ سُنَّةَ النِّسَاءِ هِيَ القِيَامُ خَلْفَ الرِّجَالِ، وَكَانَ أَحْمَدُ -كَمَا قُلْنَا- يُصَحِّحُ حَدِيثَ وَابِصَةَ)

(5)

.

فالشافعيُّ يرى أنَّ قيام المرأة خلف الصف دليل على صحة الصلاة؛ لأنَّ الصلاة مطلوبة من الكل، فلماذا يُفَرَّق بين الرجل والمرأة؟

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

وهو الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ أنسًا وعجوزًا منفردة خلفه في الصلاة. فذهب الشافعية بهذا الحديث إلى صحة صلاة المنفرد، وعارضوا به حديث وابصة، كما سبق.

(5)

انظر: "مسائل الإمام أحمد رواية أبنه عبد اللَّه"(ص: 115)، وفيه قال:"حَدَّثَنَا قال: سألت أبي عن رجل صلَّى خلف الصف وحده. قال: يُعيد الصلاة، أذهبُ فيه إلى حديث وابصة بن معبد أن النبي أَمَرَه أن يُعيد الصلاة".

قال ابن قدامة: "قال أحمد: حديث وابصة حَسَنٌ". انظر: "المغني"(2/ 155).

ص: 1820

والجواب: أنَّ مكان المرأة إنَّما هو التأخر، فالرَّسولُ عليه الصلاة والسلام أَقَرَّ هذه المرأة، فجعلها خلف أنس واليتيم.

وهناك أمر بإعادة الصلاة، فالرسول هو الذي وضعها، وهناك هو الذي نهى الرجل أن يصلي وحده.

*‌

‌ فائدة:

" قضية الصَّلاة بين السَّواري"

(1)

:

أحيانًا يُترك الصف ويُصَلَّى بين السواري؛ وهي الأعمدة، وهذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، والخلاف فيها بالنسبة إلى المأموم

(2)

. أمَّا الإمام فلا بأس أن يقف بين السواري، لماذا؟

(1)

السَّارية: أُسْطُوانة من حِجارةٍ أو آجُر. انظر: "العين"، للخليل (7/ 292).

(2)

اختلف الفقهاء في حكم صلاة المأمومين بين السَّواري.

فذهب المالكية والحنابلة إلى الكراهة، وأجاز ذلك الأحناف والشافعية.

انظر في مذهب الأحناف: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 35)، وفيه قال:"ومَن صلى الجمعة في الطاقات أو في السدة أو في دار الصيارفة أجزأه إذا كانت الصفوف متصلة؛ لأن اتصال الصفوف يجعل هذا الموضع في حكم المسجد في صحة الاقتداء بالإمام، بدليل سائر الصلوات والاصطفاف بين الأسطوانتين غير مكروه؛ لأنه صف في حق كل فريق وإن لم يكن طويلًا وتخلل الأسطوانة بين الصف كتخلل متاع موضوع أو كفرجة بين رجلين، وذلك لا يمنع صحة الاقتداء، ولا يُوجب الكراهة". وانظر: "الأصل"، للشيباني (1/ 312).

وانظر في مذهب المالكية: "المدونة"، لابن القاسم (1/ 195)، وفيه قال:"قال: وقال مالك: لا بأس بالصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد". قال خليل توضيحًا لكلام المدونة: "وظاهره: أن ذلك يكره إذا لم يضق، وكذلك فهمه الأشياخ. والأساطين: السَّواري. وأجاز ذلك في "المبسوط" مع الاختيار، وذكر أن العمل عليه. واختلف في تعليل الكراهة، فقيل: لتقطيع الصفوف. وقيل: لأنه محل للنجاسة غالبًا والأقذار. وقيل: لأنه محل الشياطين". انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"(1/ 490). وانظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 441).

وانظر في مذهب الشافعية: "شرح مسند الشافعي"، للرافعي (4/ 266)، حيث قال: "واحتج البخاري به على أنه لا بأس بالصلاة بين الساريتين وإن لم يكن في جماعة، وأشار به إلى أن الأولى للمفرد أن يصلي إلى السارية؛ فعن عمر رضي الله عنه أن رجلًا كان يصلي بين أسطوانتين فأدناه إلى سارية، فقال: صلِّ إليها. ومع هذِه الأولوية فلا =

ص: 1821

لأنَّ الإمام لا يوجد انقطاع في صَفِّه، وقد نُهي عن الصلاة بين السواري لوجود ما يقطع الصفوف، ويؤثر عليها

(1)

.

ومع ذلك فإنَّ كثيرًا من العلماء يُجيز ذلك، ولكن ورد ذلك في حديث تنازع فيه العلماء: أنَّهم كانوا يُنهون عن الصلاة بين السواري

(2)

؛ فمنهم مَن يرى أنَّه لا ينبغي أن يحصل، لكنَّه لا يبطل الصلاة، وإنَّما هو مكروه، والبعض لا يرى به بأسًا.

= كراهية في الوقوف بينهما، وأما في الجماعة فالوقوف بين الساريتين كالصَّلاة إلى السارية". وانظر:"المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 301).

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 494)، وفيه قال:" (ويكره للمأمومين الوقوف بين السَّواري إذا قطعت صفوفهم عرفًا)، وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: "كنا نُنهى أن نَصُفَّ بين السواري على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونُطرد عنها طردًا"، رواه ابن ماجه، وفيه لِين، وقال أنس: "كنا نَتَّقي هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم"، رواه أحمد وأبو داود، وإسناده ثقات. قال أحمد: لأنه يقطع الصف".

(1)

سبق أن الذين قالوا بالكراهة هم المالكية والحنابلة.

أما هذه المسألة -وهي صلاة الإمام بين السَّواري- فمذهب الحنابلة: الجواز، ومذهب الأحناف والمالكية: الكراهة، وذكروا عللًا يشترك فيها الإمام والمأموم.

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 342)، وفيه قال:"والأصح ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: أَكره أن يقوم الإمام بين السَّاريتين، وفي رواية: أو ناحية المسجد، أو إلى سارية؛ لأنه خلاف لعمل الأُمَّة".

وانظر في مذهب المالكية: "منح الجليل شرح مختصر خليل"، لعليش (1/ 365)، وفيه قال:" (و) كره (صلاة بين الأساطين) جمع: أسطوانة، أي: العواميد بأن تكون عن اليمين وعن الشمال؛ لأنه مُعد لوضع النعال، فلا يخلو عن النجاسة الساقطة منها، ولأنه مَحل الشياطين". وانظر: "الشرح الصغير" للدردير (1/ 441).

وانظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (2/ 161)، وفيه قال:"ولا يكره للإمام أن يقف بين الواري، ويكره للمأمومين؛ لأنها تقطع صفوفهم". وانظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 494).

(2)

أخرج أبو داود (673)، وغيره، عن عبد الحميد بن محمود، قال:"صليت مع أنس بن مالك، يوم الجمعة فدفعنا إلى السواري، فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس: كنا نتقي هذا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(677).

وأخرج البزار في "مسنده"(8/ 249)، عن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله عنه قال:"كنا نُنهى عن الصلاة بين الأساطين، ونُطرد عنها طردًا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

ص: 1822

والقصد هنا التفريق بين الإمام وغيره، فهناك أحكام يختلف فيها الإمام عن المأموم.

* قوله: (وَكَانَ أَحْمَدُ -كَمَا قُلْنَا- يُصَحِّحُ حَدِيثَ وَابِصَةَ

(1)

. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ من مُضْطَرِب الإِسْنَادِ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ)

(2)

.

هذا كلام غير صحيح، وإنَّما حديث وابصة هو حديث حَسَن

(3)

.

* قوله: (وَاحْتَجَّ الجُمْهُورُ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ فَلَمْ يَأْمُرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالإِعَادَةِ، وَقَالَ لَهُ: "زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ")

(4)

.

فهذه مسألة فرعية يختلف فيها العلماء:

لو أن إنسانًا دخل المسجد فوجد الإمام راكعًا وبينه وبين الصف مسافة، هل له أن يَركع، ثم يدبُّ وهو راكع حتى يدخل في الصف، أم لا؟

فأكثر العلماء على أنَّ له أن يفعل ذلك، مع تفصيل بينهم، فبعضهم يُفرق بين قُربه من الصف وبُعده، وبعضهم يفرق بين أن يكون الداخل فردًا

(1)

سبق ذكره.

(2)

قال الإشبيلي: "في إسناد حديث وابصة اضطراب، وأثبته جماعة، ذكر ذلك أبو عمر في "التمهيد"، كذا قال أبو عمر؛ لأن شعبة رواه كما تقدم، ورواه حصين بن عبد الرحمن، عن هلال بن يساف، قال: أخذ زياد بن أبي الجعد بيدي، ونحن بالرقة معًا على شيخ يُعرف بوابصة بن معبد من بني أسد، فقال زياد: حَدَّثَنِي هذا الشيخ أن رجلًا صلى خلف الصف وحده، والشيخ يسمع، فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُعيد الصلاة، ذكر هذا الإسناد أبو عيسى الترمذي. وقال غير أبي عمر: الحديث صحيح إن حُصَينًا ثقة، وهلالًا ثقة، وزيادًا ثقة، وقد أسندوا الحديث، والاختلاف الذي فيه لا يضره، وعمرو بن راشد المذكور في حديث شعبة وَثَّقَه أحمد بن حنبل". انظر: "الأحكام الوسطى"(1/ 355، 356).

(3)

سبق.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1823

أو جماعة، فبعضهم يقول: إذا كان الداخل قريبًا من الصف فلا مانع أن يركع ثم يدب ماشيًا، فيلحق ويدخل في الصف، والبعض يقول: لا، فإن كان أكثر من واحد، بمعنى جماعة، فيفعل؛ لأنَّ الجماعة تتحقق

(1)

؛ خروجًا من حديث: "لا صلاةَ لِمَن خَلف الصف"، وهذا في مذهب الحنفية

(2)

.

إذًا هناك من ينظر إلى المسافة

(3)

.

(1)

لعله يقصد بالجماعة هاهنا هو: أن مَن دخل ووجد الإمام راكعًا فله أن يركع مكانه، ثم يلحق بالصف بشرط أن يكونوا جماعة كبيرة، أما إذا كانت عددًا قليلًا، فإنه يذهب إلى الصف ويكمله.

قال خليل: "وفي "العتبية" فيمن جاء والإمام راكع، وعند باب المسجد قوم يصلون: فليركع معهم ليدرك الركعة، إِلَّا أن يكونوا قليلًا فليتقدم إلى الفُرَج أحب إليَّ. فرأى أن اللحاق بالصف أولى من الصلاة مع النفر اليسير، وإذا كان كذلك فأحرى ألا يصلي وحده". انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"(1/ 478).

(2)

يقصد الشارح: أن مَن أتى وركع خلف الصف، فإنهم اختلفوا هل له أن يلحق به بعد دخوله في الصلاة أم لا؟

اختلفوا، فمنهم من أجاز، ومنهم مَن منع، ومنهم مَن فصَّل؛ فقال: إن كان ركع وبينه وبين الصف مسافة قريبة، فَعَلَ.

والذين قالوا: الأولى به أن يلحق بالصف، قالوا ذلك خروجًا من الخلاف؛ لأنهم اختلفوا في حديث:"لا صلاة لمنفرد خلف الصف"؛ فمنهم مَن ضعفه، ومنهم من صححه، ومنهم من صرف النفي فيه على معنى نفي الكمال لا الصحة وهم الأحناف، فخروج من هذا الخلاف يلحق بالصف.

(3)

اختلف الفقهاء فيمن وجد الإمام راكعًا فجلس دون الصف لإدراك الركعة، هل له ذلك أم لا؟

فذهب الأحناف إلى كراهة ذلك للمنفرد لا للجماعة.

وفصَّل المالكية، فقالوا: إن كانت المسافة بينه وبين الصف قريبة بحيث يتمكن من اللحاق بالصف قبل أن يرفع الإمام رأسه فله ذلك، وإن لا فلا يجوز.

وقال الشافعية بالكراهة، وتقديم إدراكه للصف على التأخر والركوع خلف الصف، وهذا في غير الركعة الأخيرة.

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 218)، وفيه قال: "ويُكره لمن أتى الإمام وهو راكع أن يركع دون الصف وإن خاف الفوت؛ لما روي عن =

ص: 1824

وقد نُقل عن عبد اللَّه بن الزُّبَير أنَّه قال: "إذا دخل أحدكم ووجد الإمام راكعًا فليركع دون الصف، ثم يدب حتى يدخل في الصف، إنَّ ذلك من السُّنَّة"

(1)

. فهذا حجة للعلماء عمومًا على أنَّ للإنسان فِعْلَ ذلك، وإن

= أبي بكرة أنه دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في الركوع فكبر كما دخل المسجد ودَبَّ راكعًا حتى التحق بالصفوف، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"زادك اللَّه حرصًا ولا تَعُد"؛ لأنه لا يخلو عن إحدى الكراهتين؛ إما أن يتصل بالصفوف فيحتاج إلى المشي في الصلاة، وإنه فِعل مناف للصلاة في الأصل، وإما أن يتم الصلاة في الموضع الذي ركع فيه فيكون مصليًّا خلف الصفوف وحده، وإنه مكروه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا صلاة لمنتبذ خلف الصفوف"".

وانظر في مذهب المالكية: "التاج والإكليل"، للمواق (2/ 472)، وفيه قال:" (وركع مَن خشي فوات ركعة دون الصف إن ظن إدراكه قبل الرفع يدب كالصفين لآخر فرجة قائمًا، أو راكعًا لا ساجدًا، أو جالسًا). روى ابن القاسم: الركوع والدبيب جائز فيما كان على قدر الصفين أو الثلاث إذا أمكنه أن يصل إلى الصف، والإمام راكع وهو مذهبه في "المدونة". فإن كان إذا ركع دون الصف لا يمكن أن يصل إلى الصف راكعًا حتى يرفع الإمام رأسه، فلا يجوز له عند مالك".

وانظر في مذهب الشافعية: "إعانة الطالبين"، للدمياطي (2/ 30)، وفيه قال:" (قوله: وإدراك الصف الأول أولى من إدراك ركوع غير الركعة الأخيرة)، يعني: لو تعارض عليه إدراك الصف الأول وإدراك ركوع غير الركعة الأخيرة، فإن ذهب للصف الأول يفوته ركوع ذلك، وإن وقف في غير الصف الأول أدركه، فالأولى له: الذهاب إلى الصف الأول ليحوز فضله. (قوله: فإن فوتها قصد الصف الأول فإدراكها أولى من الصف الأول)، أي: فوت الركعة الأخيرة قصد الصف الأول، بأن كان لو ذهب إلى الصف الأول رفع الإمام رأسه من الركوع، ولو لم يذهب إليه - أدرك ركوع الإمام في الركعة الأخيرة. (قوله: فإدراكها)، أي: الركعة الأخيرة. (وقوله: أولى من الصف الأول) تقدم عن الرملي الكبير أن إدراك الصف أولى. (قوله: وكره لمأموم انفراد عن الصف الذي من جنسه إن وجد فيه سعة، بل يدخله)، أي: ابتداء ودوامًا".

(1)

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7/ 115)، عن عطاء:"أنه سمع ابن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع، فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعًا حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السُّنَّة. قال عطاء: وقد رأيته يصنع ذلك، قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك. لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إِلَّا ابن وهب، تفرد به حرملة، ولا يروى عن ابن الزُّبَير إِلَّا بهذا الإسناد"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(229).

ص: 1825

كان الأولى ألَّا يفعل، ولكن لو فعل؛ فجائز؟ نعم، بعضهم يُقيد، والشافعي ما منع، ولكنَّه قَيَّد ذلك بقرب المسافة

(1)

.

* قوله: (وَلَوْ حُمِلَ هَذَا عَلَى النَّدْبِ لَمْ يَكُنْ تَعَارُضٌ: (أَعْنِي: بَيْنَ حَدِيثِ وَابِصَةَ، وَحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ)

(2)

).

وقال الجمهور -أيضًا- بأنَّ الأمر محمول على الاستحباب، أي: يستحب أن لا يُصلى الإنسان منفردًا

(3)

.

ولكننا نقول: إنَّ الأمرَ أكبر من ذلك، فالأمر واضح جدًّا، ولا ينبغي لإنسان أن يُصلي خلف الصف، فالحقيقة أنَّ الإنسان لا تطمئن نفسه أن يُصلي خلف الصف وهو معذور، فما بالك إذا كان بغير عذر؟!

* قوله: (المَسْأَلةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الأَوَّلُ فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَيَسْمَعُ الإِقَامَةَ، هَلْ يُسْرِعُ المَشْيَ إلى المَسْجِدِ أَمْ لَا؛ مَخَافَةَ أَنْ يَفُوتَهُ جُزْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ؟

فَرُوِيَ عَنْ عَمْرٍو

(4)

، وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُسْرِعُونَ المَشْيَ إِذَا سَمِعُوا الإِقَامَةَ

(5)

.

(1)

سبقت.

(2)

أي: لو حمل حديث وابصة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يُعيد الصلاة، لو حمل هذا على الاستحباب؛ لتماشى هذا مع حديث بكرة من عدم إبطال النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، وامتنع عندئذ التعارض.

(3)

لا أفهم مراد الشارح من هذا، لكن يقال: إن الجمهور صرفوا الحديث الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه الرجل بالإعادة إلى الاستحباب، وحديث نفي الصلاة إلى معنى نفي الكمال، وقد سبق.

(4)

لم أقف عليه لعمرو، ولعل الصواب: عمر بن الخطاب فصحف. كما نص عليه ابنُ عبد البر، إذ قال:"وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان يُهرول إلى الصلاة. ثم قال: وفي إسناده لِين وضعف". انظر: "الاستذكار"(1/ 385، 381).

وروي هذا عن ابن عمر أيضًا، فقد أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 72)، عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر "سمع الإقامة وهو بالبقيع، فأسرع المشي إلى المسجد".

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 132)، عن عمارة بن عمير، قال: قال =

ص: 1826

وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ

(1)

، وَأَبِي ذَرٍّ

(2)

، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابة: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ السَّعْيَ، بَلْ أَنْ تُؤْتَى الصَّلَاةُ بِوَقَارٍ

(3)

وَسَكِينَةٍ

(4)

.

وَبِهَذَا القَوْلِ قَالَ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ

(5)

؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ:

= عبد اللَّه: "أحق ما سعينا إليه الصلاة". وروي عنه الطَّبراني في "المعجم الكبير"(9/ 307) أنه قال: " {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، قال عبد اللَّه: لو قرأتُها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي، وكان يقرؤها فامضوا". وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 381).

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 134)، عن أنس بن مالك، قال:"خرجت مع زيد بن ثابت إلى المسجد، فأسرعت المشي فحبسني".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 133)، عن أبي ذر، قال:"إذا أقيمت الصلاة فامش إليها كما كنت تمشي، فَصَلِّ ما أدركت، واقض ما سبقك".

(3)

الوقار: الحلم والرزانة. انظر: "الصحاح"، للجوهري (2/ 849).

والسكينة: الطمأنينة والوقار. انظر: "معاني القرآن"، للفراء (3/ 67).

وقد فرق بينهما العسكري، فقال:"الفرق بين الوقار والسكينة: أن السكينة مفارقة الاضطراب عند الغضب والخوف، وأكثر ما جاء في الخوف، ألا ترى قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}، وقال: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. ويضاف إلى القلب، كما قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، فيكون هيبة وغير هيبة، والوقار لا يكون إِلَّا هيبة". انظر: "الفروق اللغوية"(ص: 202).

(4)

وثبت هذا عن أنس أيضًا. أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 289) عن ثابت البناني، قال:"أقيمت الصَّلاة وأنس بن مالك واضع يده عليَّ، قال: فجعلت أَهابه أن أرفع يده عني، وجعل يقارب بين الخُطى، فانتهينا إلى المسجد، وقد سُبقْنَا بركعة، وقد صلينا مع الإمام وقضينا ما كان فاتنا، فقال لي أنس بن مالك: "يا ثابت، اعمل بالذي صنعت بك". قلت: نعم، قال:"صنعه بي أخي زيد بن ثابت".

(5)

انظر في مذهب الأحناف: "المحيط البرهاني في الفقه النعماني"، لابن مازة (1/ 423)، وفيه قال:"وينبغي أن يجيء إلى الصلاة بالسكينة والوقار، كذا إذا أدرك الإمام في الركوع؛ لقوله عليه السلام: "إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، ولا تأتوها وأنتم تَسعون؛ عليكم بالسَّكينة والوقار، ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا".

وانظر في مذهب المالكية: "البيان والتحصيل"، لأبي الوليد ابن رشد (1/ 220)، =

ص: 1827

"إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ؛ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ"

(1)

).

هذه مسألة مهمة، وتقع كثيرًا في زمننا هذا؛ يعني: عندما يسمع الإنسان الإقامة ما هو الأَوْلى في حَقِّه؟ يَخُبُّ

(2)

مُسرعًا - يجري أو

= وفيه قال: "قال ابن القاسم: وسمعت مالكًا، وسئل عن الإسراع في المشي إلى الصلاة إذا أُقيمت، قال: لا أرى بذلك بأسًا، ما لم يسعَ أو يخب. قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ثُوِّب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السَّكينة"، الحديث. فإذا خاف الرجل أن تفوته الصلاة أو شيء منها، فلا بأس أن يزيد في مَشيه، ويُسرع فيه ما لم يخرج بذلك عن حَدِّ السكينة والوقار المأمور به في ذهابه إلى الصلاة".

وانظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (2/ 372)، وفيه قال:"والمستحب لمن قصد الجماعة: أن يمشي إليها على سَجية مَشيه. وقال أبو إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى أسرع؛ لما روي: أن ابن مسعود استدعى إلى الصلاة، وقال: (بادروا حَدَّ الصلاة)، يعني: التكبيرة الأولى. والصحيح هو الأول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة"". وانظر:"المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 206).

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 182)، وفيه قال:" (سن خروج إليها)، أي: الصلاة (بسكينة)، أي: طمأنينة (ووقار)، أي: رزانة؛ كغض الطرف، وخفض الصوت، وعدم الالتفات؛ لحديث أبي هريرة: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة؛ فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"، ولمسلم: "فإن أحدكم إذا كان يَعمد إلى الصلاة فهو في صلاة"، ويقارب في خطاه؛ لتكثر حسناته، ويكون متطهرًا، غير مشبك بين أصابعه، قائلًا ما ورد. قال أحمد: فإن طمع أن يدرك التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع شيئًا، ما لم تكن عجلة تَقبح. وفي "شرح العمدة" للشيخ تقي الدين ما معناه: إن خشي فوت الجماعة أو الجمعة بالكلية، فلا يَنبغي أن يكره له الإسراع؛ لأن ذلك لا ينجبر إذا فات".

(1)

هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 68) أن أبا هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا ثُوِّب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة؛ فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا، فإن أحدكم في صلاة ما كان يَعمد إلى الصلاة". وبنحوه أخرجه مسلم (602/ 154).

(2)

خَبَّ يَخُبُّ خَبَبًا، إِذَا عَدَا. انظر:"لسان العرب"، لابن منظور (1/ 342).

ص: 1828

يهرول

(1)

- أو أنَّه يمشي؟ فهناك ثواب كُلما قارب الخطَى، سيكسب في كل خطوة يخطوها حسنة، يرفع ويضع

(2)

، وهناك سيدرك الصلاة، أو يتمهل ويقضي ما فاته من الصلاة، فأيهما الأولى؟

نحن عندما نَعرض أحاديثَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نجد أنَّها صريحة الدلالة بعدم الإسراع؛ لأنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السَّكينة والوقار، فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا"

(3)

، وفي رواية عند النسائي:"وما فاتكم فاقضوا"

(4)

، وفي حديث أبي قتادة المتفق عليه أيضًا، قال: بينما كُنَّا نصلي مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة

(5)

أصوات، فلمَّا انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال:"ما شأنكم؟ " قالوا: استعجلنا الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة؛ فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتمُّوا"

(6)

.

فهذان حديثان متفقٌ على صحتهما، كل واحد منهما نص صريح

(1)

الهَرْولةُ: بين المَشي والعَدْوِ. يقال: هَروَلَ الرجلُ هَرْولةً. انظر: "العين"، للخليل (4/ 43).

(2)

أخرج مسلم (257/ 654)، عن عبد اللَّه، قال:"وما مِن رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إِلَّا كتب اللَّهُ له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويَحط عنه بها سيئة".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه النسائي في "سننه"(861)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة؛ فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا"، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"(2142).

(5)

الجلبة: هي الصوت. وجمعها: الجلب. انظر: "غريب الحديث"، لابن قتيبة (2/ 157).

(6)

أخرجه البخاري (635)، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، قال:"بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: "ما شأنُكم؟ ". قالوا: استعجلنا إلى الصلاة؟ قال: "فلا تفعلوا؛ إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا". وأخرج مسلم بلفظ:"وما سبقكم فأتموا"".

ص: 1829

في عدم السعي والإسراع حين سماع الإقامة، وإنَّما يمشي الإنسان بآداب مَن يمشي إلى الصلاة بسكينة، يعني: بهدوء، وأن يَظهر عليه الوقار، وهذا هو شأن مَن يسعى إلى الصلاة، مَن يذهب إلى عبادة من أَجَلِّ العبادات، إذًا يمشي بسكينة ووقار، ولا يُسرع كأنَّه منطلق من أمر من أمور الدنيا، هذا هو رأي الأئمة الأربعة، وغيرهم، هذا رأيُ جماهير العلماء

(1)

.

ولكن نُقل عن بعض السلف؛ كابن مسعود وغيره، كما ذكر المؤلف

(2)

، نُقل عنهم أنَّهم قالوا بالإسراع إلى الصلاة.

وهذا كلام يحتمل -أيضًا- التفصيل في الإسراع إلى الصلاة، وألَّا يتباطأ، لكن هل نُقل عنهم أنَّ الإنسان يمشي إليها مُسرعًا؟

عندما ننظر في عموم أدلة الشريعة نجد أنَّها تَحُضُّ على الإسراع في فعل الخيرات والمسابقة؛ فاللَّه تعالى يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} إلخ [آل عمران: 133، 134] إذًا هذا أمر بالمسارعة في فعل الخيرات، ولكن هذا مطلق، واللّه تعالى يقول:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148، المائدة: 48]، فيه مسابقة إلى الخيرات، ويقول:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)} [الواقعة: 10] فهذه أدلة عامة، والأحاديث التي معنا خاصة بالصلاة، وهي صريحة في أنَّ الإنسان لا يأتي إليها مُسرعًا، وإنَّما يأتي إليها ماشيًا بسكينة، وطمأنينة، ووقار.

* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الحَدِيثُ، أَوْ رَأَوْا أَنَّ الكِتَابَ يُعَارِضُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فَاسْتَبِقُوا

(1)

سبق.

(2)

زاد ابن عبد البر على ما ذكر المؤلف، فقال:"وعن الأسود بن يزيد وعبد الرحمن بن يزيد وسعيد بن جبير أنهم كانوا يُهرولون إلى الصلاة". انظر: "الاستذكار"(1/ 381).

ص: 1830

الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وَقَوْلِهِ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)} [الواقعة: 10]، {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 11]، وَقَوْلِهِ:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133])

(1)

.

هذا كله احتمال، فلا يستغرب أن يكون هناك حديث لم يبلغ الصحابة، ولم يبلغ بعض التابعين والأئمة، فهذا حاصل، ومَن يتتبع تاريخ التشريع، ويدرسه بدقة يرى ذلك، فهناك أحاديث غابت عن أبي بكر رضي الله عنه

(2)

، لكن لا يُفهم من هذا أنَّ غير أبي بكر أعلم منه في كل شيء، وغابت أحاديث عن عمر رضي الله عنه، وقد يأتي صحابي صغير فيحفظ الحديث؛ لأنَّه سَمِعَه

(3)

.

(1)

يقصد المؤلف من هذا: أن الذين قالوا بالإسراع في المشي إلى الصلاة؛ كابن مسعود وابن عمر، إمَّا أن يكونوا قالوا هذا لأن الأحاديث التي فيها الأمر بالسكينة والطمأنينة حال المشي إلى الصلاة لم تبلغهم، أو لأنهم رأوا أن آيات الحث على الإسراع في العبادة أولى بالعمل.

ووجه آخر ذُكر للجمع، وهو أنهم قالوا بالإسراع في المشي للصلاة في حالة مخصوصة، وهي إذا خاف أن تفوته التكبيرة الأولى.

قال الشيرازي: "ويُستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها، وعليه السكينة والوقار، وقال أبو إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى أسرع؛ لما روي أن عبد اللَّه بن مسعود اشتد إلى الصلاة، وقال: بادروا حَدَّ الصلاة، يعنى: التكبيرة الأولى". انظر: "المهذب في فقه الإمام الشافعي"(1/ 178).

(2)

من ذلك ما أخرجه أبو داود (2894)، وغيره، عن قَبيصةَ بن ذُؤيبٍ، أنه قال:"جاءتِ الجَدَّةُ إلى أبي بكر الصديق تسأُله ميراثَها، فقال: ما لَكِ فى كتاب اللَّه تعالى شيءٌ، وما علمتُ لك في سنةِ نبيِّ اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أَسألَ الناسَ، فسألَ الناسَ، فقال المغيرةُ بن شعبةَ: حضرتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أعطاها السُّدسَ، فقال أبو بكرٍ: هل معك غيرُك؟ فقام محمدُ بن مَسْلمةَ، فقال مثل ما قال المغيرةُ بن شعبة، فأنفَذَه لها أبو بكرٍ"، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود - الأم"(497).

(3)

أخرج البخاري (6245)، واللفظ له، ومسلم (2153/ 34)، عن أبي سعيد الخدري، قال: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن لي فرجعتُ، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت =

ص: 1831

* قوله: (وَبِالجُمْلةِ: فَأُصُولُ الشَّرْعِ تَشْهَدُ بِالمُبَادَرَةِ إلى الخَيْرِ، ولَكِنْ إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ وَجَبَ أَنْ تُسْتَثْنَى الصَّلَاةُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَعْمَالِ القُرَبِ).

جملة (إذا صحَّ الحديثُ) من المَشاكل التي يقع فيها المؤلف؛ فهو حديث في "الصَّحيحين"، ومثله حديث أبي قتادة

(1)

.

* قوله: (المَسْأَلةُ الرَّابِعَةُ: مَتَّى يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَامَ إلى الصَّلَاةِ).

متى يُقام إلى الصلاة؟

الإمام لا يخلو من حالين: إمَّا أن يكون داخل المسجد أو خارجه، فإن كان خارج المسجد فيَنبغي ألَّا تقام الصلاة حتى يأتي، هذا هو الأصل

(2)

.

= ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع"، فقال: واللَّه لَتُقِيمَنَّ عليه ببينة! أَمِنْكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبَي بن كعب: واللَّه لا يقوم معك إِلَّا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمتُ معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

اتفق الفقهاء على أنه لا تقام الصلاة إِلَّا إذا حضر الإمام، فلا يتقدم غيره للصلاة إِلَّا إذا تيقنوا أنه لن يحضر.

انظر في مذهب المالكية: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 52)، وفيه قال:"قال التونسي: مذهب ابن القاسم في الإمام إذا هرب عنه الناس أو تأخر الإمام: أن الإمام والناس ينتظرون، إِلَّا أن يخافوا دخول وقت العصر، فإن خافوا دخول وقت العصر صلوا ظهرًا أربعًا، ثم لا جمعة عليهم بعد ذلك. انتهى. وفي "كتاب ابن سحنون" في تخلف الإمام أنهم ينتظرونه ما لم تصفر. وأنكره سحنون، وقال: بل ينتظرونه، وإن لم يدركوا من العصر قبل الغروب إِلَّا بعضها. قال: وربما تبين لي أنهم يبقون أربع ركعات للعصر. أبو محمد: يريد سحنون إذا رجوا إتيانه، فأما إن أيقنوا بعدم إتيانه فلا يؤخروا الظهر". =

ص: 1832

ولكن قد تقام الصلاة فيطرأ للإمام أمرٌ من الأمورِ، كما حصل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"انتظروا"، ثم ذهب، وعاد مرة أُخرى فصلى بهم

(1)

.

ووقع الخلاف المعروف، وسيأتي إن شاء اللَّه.

* قوله: (فَبَعْضٌ اسْتَحْسَنَ البَدْءَ فِي أَوَّلِ الإِقَامَةِ عَلَى الأَصْلِ فِي التَّرْغِيبِ فِي المُسَارَعَةِ).

نُقل هذا عن عمر بن عبد العزيز

(2)

، وهو الخليفة الرَّاشد الأموي،

= وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج في شرح المنهاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 253)، وفيه قال:"تكره إقامة جماعة بمسجد غير مطروق له إمام راتب بغير إذنه قبله أو معه أو بعده، ولو غاب الراتب انتظر ندبًا، ثم إن أرادوا فضل أول الوقت أم غيره، وإن لم يريدوا ذلك لم يؤم غيره إِلَّا إن خافوا فوت الوقت كله، ومحل ذلك حيث لا فتنة، وإلا صلوا فرادى مطلقًا".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"(2/ 216، 217)، للمرداوي، وفيه قال:"الصحيح من المذهب: أن غير الإمام لا يَؤم، إِلَّا أن يتأخر الإمام ويضيق الوقت. قال في "الفروع": هذا الأشهر، وجزم به ابن تميم، والفائق، وقال في "الكافي": يجوز أن يؤم غير الإمام، مع غيبته، كفعل أبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، (فإن لم يعلم عذره انتظر، وروسل، ما لم يخش خروج الوقت) إذا تأخر الإمام عن وقته المعتاد، روسل إن كان قريبًا ولم يكن مشقة، وإن كان بعيدًا، ولم يغلب على الظن حضوره صلوا، وكذا لو ظن حضوره ولكن لا ينكر ذلك ولا يكرهه، قاله صاحب "الفروع" وابن تميم".

(1)

أخرج البخاري (275) واللفظ له، ومسلم (605/ 157)، عن أبي هريرة، قال: (أُقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قيامًا، فخرج إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه، ذكر أنه جنب، فقال لنا:"مكانكم". ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه".

(2)

انظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (9/ 191)، وفيه قال:"وذكر الأثرم قال: حَدَّثَنَا الحسن بن عرفة، قال: حَدَّثَنَا إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجر، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن كعب القرظي، وسألم بن عبد اللَّه، وأبا قلابة، وعراك بن مالك الغفاري، ومحمد بن مسلم الزُّهري، وسليمان بن حبيب يقومون إلى الصلاة في أول بدء من الإقامة".

ص: 1833

ألحقه العلماء بالخلفاء الراشدين

(1)

، ومكانته معروفة في العدل، والحفاظ على الدولة، وما تركه من جهود عظيمة في خدمة الدولة الإسلامية مع قله مدة حكمه

(2)

، وهو من التابعين، وقد تَربى عند عبد اللَّه بن عمر للصلة بينهما، وأخذ عن بعض الصحابة

(3)

.

* قوله: (وَبَعْضٌ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ).

هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة

(4)

.

و (قد): أداة تحقيق.

"قد قامت الصلاة": يعني: قد تحقق القيام إليها، فينبغي النهوض

(5)

.

ومنهم من يقول: إنَّما يقام إليها عند "حي على الصلاة"؛ لأنَّ "حيَّ

(1)

قال ابن رجب: "ونَصَّ كثير من الأئمَّة على أنَّ عمر بنَ عبد العزيز خليفةٌ راشد أيضًا، ويدلُّ عليه ما خرَّجه الإمام أحمد من حديث حُذيفة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "تكونُ فيكم النبوَّةُ ما شاء اللَّه أنْ تكون، ثم يرفعها اللَّه إذا شاء أنْ يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوَّة، فتكونُ ما شاءَ اللَّه أنْ تكونَ، ثم يرفعُها اللَّهُ إذا شاء أنْ يرفعها. . . "، ثُمَّ سكت. فلما ولي عمر بن عبد العزيز، دخل عليه رجلٌ، فحدَّثه بهذا الحديث، فسُرَّ به وأعجبه". انظر: "جامع العلوم والحكم"(2/ 122).

(2)

أخرج ابن سعد في "الطبقات"(5/ 407)، عن عمرو بن عثمان، قال:"مات عمر بن عبد العزيز لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، ومات بدير سمعان".

(3)

انظر ترجمته في: "تاريخ الإسلام"، للذهبي (3/ 115).

(4)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 182)، وفيه قال:" (وسن قيام إمام) إلى الصلاة فقيام مأموم (غير مقيم) للصلاة (إليها إذا قال المقيم) لها: (قد قامت الصلاة)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي أوفى، ولأنه دعاء إلى الصلاة فاستحبت المبادرة إليها عنده (إذا رأى) المأموم (الإمام وإلا) بأن لم ير المأموم الإمام عند قول المقيم: قد قامت الصلاة، (فـ) إنه يقوم (عند رؤيته) لإمامه؛ لحديث أبي قتادة مرفوعًا: "إذا أُقِيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تَرَوْني قد خرجتُ"".

(5)

انظر: "المفصل في صنعة الإعراب"، للزمخشري (ص: 433)، وفيه قال:"قد: تُقَرِّب الماضي من الحال إذا قلت قد فعل، ومنه قول المؤذن: "قد قامت الصلاة" لا بد فيه من معنى التوقع".

ص: 1834

على الصلاة" دعاء، وهذا عند الحنفية، وفي مذهبهم آراء

(1)

.

* قوله: (وَبَعْضُهُمْ عِنْدَ "حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ"

(2)

. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: حَتَّى يَرَوُا الإمام).

حتى يروا الإمام إذا كان خارج المسجد.

* قوله: (وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا كَمَالِكٍ رضي الله عنه)

(3)

.

وخلاصة الأقوال هنا:

1 -

عند أول الإقامة: وهو مذهب بعض التابعين؛ كعمر بن عبد العزيز، والزهري

(4)

، وعطاء

(5)

.

(1)

انظر: "الدر المختار"، للحصكفي (1/ 479)، وفيه قال:" (والقيام) لإمام ومؤتم (حين قيل: حي على الفلاح) خلافًا لزفر؛ فعنده عند حيَّ على الصلاة. ابن كمال: (إن كان الإمام بقرب المحراب وإلا فيقوم كل صف ينتهي إليه الإمام على الأظهر، (وإن) دخل من قدام حين يقع بصرهم عليه إِلَّا إذا أقام الإمام بنفسه في مسجد فلا يقفوا حتى يتم إقامته ظهيرية، وإن خارجه قام كل صف ينتهي إليه. بحر، (وشروع الإمام) في الصلاة (مذ قيل: قد قامت الصلاة)، ولو أخر حتى أتمها لا بأس به إجماعًا، وهو قول الثاني والثلاثة؛ وهو أعدل المذاهب، كما في "شرح المجمع" لمصنفه. وفي "القهستاني" معزيًا للخلاصة: أنه الأصح".

(2)

وهم الأحناف، كما سبق.

أما في مذهب الشافعية فلا يُقام للصلاة إِلَّا بعد انتهاء الإقامة.

انظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 321)، وفيه قال:" (ولا يقوم) مريد القدوة، ولو شيخًا، أي: لا يسن له قيام إن كان جالسًا، وجلوس إن كان مضطجعًا، وتَوَجُّه إن أراد أن يصلي على الحالة التي هو عليها (حتى يفرغ المؤذن)، يعني: المقيم ولو الإمام، فإيثاره للغالب فحسب (من الإقامة) جميعها؛ لأنه وقت الدخول في الصلاة وهو قبله مشغول بالإجابة".

(3)

انظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (1/ 161)، وفيه قال:"قال عليٌّ: قيل لمالك: إذا أُقيمت الصلاة متى يقوم الناس؟ قال: ما سمعتُ فيه حَدًّا، وليقوموا بقَدْرِ ما إذا اسْتَوَتِ الصُّفوفُ فَرَغَتِ الإقامة". وانظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (1/ 469).

(4)

سبق من كلام ابن عبد البر رحمه الله.

(5)

لم أقف عليه.

ص: 1835

2 -

عند قوله: "قد قامت الصلاة". وهو مذهب الحنابلة

(1)

.

3 -

عند قوله: "حي على الصلاة". وهو مذهب الحنفية

(2)

.

4 -

بعد الفراغ من الإقامة. وهو مذهب الشافعية

(3)

.

5 -

وهناك مَن لم يَحُد في ذلك حدًّا. وهو مذهب المالكية، وهذا هو الظاهر

(4)

.

* قوله: (وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا كمَالِكٍ رضي الله عنه؛ فَإِنَّهُ وَكَلَ ذَلِكَ إلى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ)

(5)

.

إننا إذا نظرنا إلى المسارعة فإنَّه ينبغي على الإنسان أن يقوم عندما يَشرع المؤذن في الإقامة.

* قوله: (وَلَيْسَ فِي هَذَا شَرْعٌ مَسْمُوعٌ إِلَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي")

(6)

.

هذا حديث متفقٌ عليه، وهذا في حالة ما إذا كان الإمام غير موجود.

* قوله: (فَإِنْ صَحَّ هَذَا وَجَبَ العَمَلُ بِهِ).

فهذا لا يحتج به على رأي العلماء هنا، لأنَّ هذا "لا تقوموا حتى تروني"، ونحن أمامنا الإمام، فمتى نقوم إلى الصلاة؟

(1)

سبق ذكره.

(2)

سبق ذكره.

(3)

سبق ذكره.

(4)

سبق ذكره.

(5)

سبق ذكره.

(6)

أخرجه البخاري (637)، ومسلم (604/ 156).

ص: 1836

وسبق فيما مضى قول في مذهب الحنفية أنَّه يشرع في الصلاة عندما يقول المؤذن: "قد قامت الصلاة"، ويستدلون بقول بلال:"يا رسول اللَّه، لا تسبقني بآمين"، وقد أجبنا عن ذلك، وقلنا: إنَّ بلالًا كان يقيم في موضع أذانه؛ فالمسافة التي يقطعها هي التي تفوت عليه آمين، وإلَّا لو لم يكن هذا الفرق لما فوت عليه آمين

(1)

.

* قوله: (وَإِلَّا فَالمَسْأَلةُ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا المَعْفُوِّ عَنْهُ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَرْعٌ)، وَأَنَّهُ مَتَى قَامَ كُلٌّ حَسَنٌ).

هذا من الأمور التي يسَّرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى فيها للأمة، يعني: إنسادْ يقوم في أول الإقامة، أو في وسطها، أو في آخرها، هذا كله أمر ليس فيه حرج، ولا نقول: هذا مكروه، وهذا غير مكروه، فذلك كله جائز، فهذا يرجع إلى الإنسان، فإن رأى أن يُسابق فليقم من أولها، وإن رأى أن يَتقيد بتحقيق ذلك:"قد قامت الصلاة"، أو عند الدعاء إليها:"حيَّ على الصلاة"، هذا كله لا غُبار عليه، ولا يُنكو على أحد مَن يفعل هذا، ومَن يفعل هذا.

* قوله: (المَسْأَلةُ الخَامِسَةُ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَكَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ إلى أَنَّ الدَّاخِلَ وَرَاءَ الإمام إِذَا خَافَ فَوَاتَ الرَّكعَةِ بِأَنْ يَرْفَعَ الإمام رَأْسَهُ مِنْهَا إِنْ تَمَادَى حَتَّى يَصِلَ إلى الصَّفِّ الأول - أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ دُونَ الصَّفِّ الأول، ثُمَّ يَدُبُّ رَاكعًا)

(2)

.

قد اعتمدوا فيه على حديث أبي بكرة الذي مر بنا في مسأله صلاة المنفرد خلف الصف

(3)

.

(1)

سبقت هذه المسألة.

(2)

سبق ذِكر ذلك عن المالكية، وأنهم فَرَّقوا بين ما إذا كان ركوعه قريبًا من الصف أم بعيد، فأجازوه للقريب الذي يَغلب على ظنه أنه سيلحق بالصف قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، ولم يُجيزوه للبعيد.

(3)

سبق.

ص: 1837

* قوله: (وَكَرِهَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ

(1)

.

وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الجَمَاعَةِ وَالوَاحِدِ، فَكَرِهَهُ لِلْوَاحِدِ، وَأَجَازَهُ لِلْجَمَاعَةِ)

(2)

.

فالشافعية كرهوا ذلك إذا كانت هناك مسافة يَبعُد فيها المأموم عن الإمام، أمَّا إن كانت المسافة قريبة فلم يكره الشافعي ذلك

(3)

.

وعند الحنفية تفصيل: أنَّه إذا كانوا جماعة خروجًا من الحديث الذي ورد فيه النَّهي عن صلاة الفرد خلف الصف، لكن إذا كانوا جماعة؛ يعني اثنان فأكثر، قالوا: فذلك لم يرد، فلا مانع في هذه الصورة

(4)

.

(1)

انظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 223)، حيث قال:" (فصل: يُكره للمأموم الانفراد) عن الصف؛ لخبر البخاري عن أبي بكرة أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال: "زادك اللَّه حرصًا، ولا تَعُدْ"".

(2)

سبق أن ذكرنا أنَّ مذهب الأحناف هو كراهة ذلك للمنفرد لا للجماعة. ولم نذكر ما يدل على أنهم أجازوا ذلك للجماعة.

انظر: "المعتصر من المختصر" للملطي (1/ 46) وفيه قال: "لا يقال: قد صح عن زيد بن ثابت أنه دخل المسجد والناس ركوع، فكبر وركع، ثم دب وهو راكع حتى وصل الصف، لأنا نقول: المكروه فِعل ذلك للواحد لا للجماعة؛ لأن الواحد بذلك كالمصلي وحده في صف، وهو فاسد عند بعض، وجائز مكروه على الصحيح، ويؤيد ما روي عن ابن مسعود ركوعه دون الصف مع غيره، قال طارق: "كنا مع ابن مسعود جلوسًا، فبلغه خبر الإقامة، فقام وقمنا، فدخلنا المسجد والناس في الركوع، فكبر وركع ومشى، وفعلنا مثل ما فعل"، فيحتمل أن زيدًا فعل ما فعل وقد كان معه غيره، فكان بذلك جماعة".

(3)

ما ذكره الشارح من التفريق بين ما إذا كانت المسافة قريبة أو بعيدة، هذا التفريق عند المالكية لا عند الشافعية، كما سبق. أما التفريق بين القرب والبعد عند الشافعية فهي في مسألة اتصال الصفوف بالإمام كما سبق، حيث قالوا: إن كانت المسافة بين الصفوف وبين الإمام أو بينها وبين آخر صَفٍّ مع الإمام بعيدة لم تَصح صلاتهم، وإن كانت مسافة قريبة صَحَّت صلاتهم، وقدروا المسافة القريبة بثلاثمائة ذراع، والبعيدة ما زاد على ذلك.

(4)

سبق.

ص: 1838

* قوله: (وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ: مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ

(1)

، وَابْنِ مَسْعُودٍ

(2)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ)

(3)

.

حديث أبي بكرة في البخاري، ولكن الرواية التي جاء بها؛ -التي أوردها ابن السكن في "صحيحه"، وهي صحيحة- فلعله يُشير إلى اللفظ الذي أورده

(4)

.

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 129)، وغيره، عن ابن شهاب، قال:"أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه رأى زيد بن ثابت دخل المسجد، والإمام راكع فمشى حتى أمكنه أن يصل الصف وهو راكع كَبَّر فركع، ثم دَبَّ وهو راكع حتى وصل الصف"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1/ 453).

(2)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(9/ 271)، عن ابن مسعود، قال:"إذا ركع أحدكم فمشى إلى الصف قبل أن يرفعوا رُؤوسهم فإنَّه يعتد بها، وإن رفعوا رؤوسهم قبل أن يصل إلى الصف فلا يعتد بها".

وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 130)، وغيره، عن زيد بن وهب قال:"خرجت مع عبد اللَّه، يعني: ابن مسعود من داره إلى المسجد، فلما توسطنا المسجد ركع الإمام، فكبر عبد اللَّه وركع وركعت معه، ثم مشينا راكعين حتى انتهينا إلى الصف حين رفع القوم رؤوسهم، فلما قضى الإمام الصلاة قمتُ وأنا أرى أني لم أدرك، فأخذ عبد اللَّه بيدي وأجلسني، ثم قال: إنك قد أدركت"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1/ 453).

(3)

ما ذكره المؤلف يَحتاج لمزيد تأمل.

فالأحناف والمالكية والشافعية اتفقوا على صحة حديث أبي بكرة ما كان في الصحيح وغيره، فهم في العموم يقولون بكراهة ركوع المنفرد خلف الصف، لكن اختلافهم في صور الاستثناء من الكراهة.

فعند الأحناف يجوز ذلك إذا كانوا جماعة بأن ركع أكثر من واحد خلف الصف.

وعند المالكية يجوز إذا خاف فوت الركعة، وغلب على ظنه إدراك الصف قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع.

وعند الشافعية يجوز إذا كان ركوع الركعة الأخيرة فيقدَّم على لحاقه بالصف الأول. وقد سبق تفصيل هذا.

(4)

وهي الرواية التي فيها أنه سعى لإدراك الركعة، كما سيأتي.

قال ابن الملقن في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تَعُدْ": "ثالثها: لا تعد إلى إتيان الصلاة =

ص: 1839

* قوله: (وَهُوَ "أَنَّهُ دَخَلَ المَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَهُمْ رُكُوعٌ، فَرَكَعَ، ثُمَّ سَعَى إلى الصَّفِّ، فَلَمَّا انصرف رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ السَّاعِي؟ " قَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَنَا، قَالَ: "زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ""

(1)

).

هذا الحديث وردت فيه ثلاث روايات: "ولا تَعُدْ"، "ولا تَعْدُ"، "ولا تُعِدْ".

فلا تُعِدْ: يعني: لا تُعِد الصلاة، لأنَّها صحيحة، وهذا هو الواقع.

ولا تَعْدُ: أي: لا تُسرع

(2)

.

ولا تَعُدْ: يعني: لا تَعُد لمثل ذلك

(3)

. وهذه أشهر الروايات، وهي

= مسرعًا. (ويؤيده): رواية ابن السكن في (صحاحه المأثورة) عن أبي بكرة، قال: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال:"من السَّاعي آنفًا؟ ". قال أبو بكرة: أنا. فقال: "زادك اللَّه حرصًا ولا تَعُدْ"". انظر: "البدر المنير" (14/ 192، 193).

(1)

هذه الرواية أخرجها ابن السكن، كما سبق من نقل ابن الملقن ذلك عنه، وأخرج أحمد نحوها، كما سبق.

وقد ذكر الشيخ الألباني هاتين الروايتين، وحكم بصحتهما، فقال:"وقد تبين لنا بعد التتبع أنها تتضمن. . . إسراعه في المشي، كما في رواية لأحمد من طريق أُخرى عن أبي بكرة: أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتَ نَعل أبي بكرة، وهو يحضر (أي: يعدو) يريد أن يدرك الركعة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مَن الساعي؟ ". قال أبو بكرة: أناء قال: فذكره. وإسناده حسن في المتابعات، وقد رواه ابن السكن في "صحيحه" بنحوه، وفيه قوله: "انطلقت أسعى. . . "، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن السَّاعي؟ "". انظر: "السلسلة الصحيحة" للألباني (230).

(2)

العَدْوُ: السرعة. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي (ص: 306).

(3)

وقد ذكر العمراني لهذه اللفظة ثلاثة تأويلات، فقال:"وأما قوله: "ولا تَعُدْ":

فيحتمل ثلاثة تأويلات:

أحدها: لا تَعُدْ إلى العَدْو الشديد؛ لأنه جاء يلهث، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة".

والثاني: أنه أراد: لا تَعُد أن تتأخر عن الصلاة، حتى تفوتك الركعة. =

ص: 1840

التي أخذ بها العلماء؛ لأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة شيء من الصلاة، فدل على جوازه، ومن هنا وقع الخلافُ في المسألة التي مرت، وحصَّلنا القول فيها، وبيَّنا أنَّه لا ينبغي لمسلم أن يُصلي منفردًا خلف الصف، إلَّا أن يكون مضطرًا إلى ذلك، بمعنى: أن لا يجد موضعًا في الصَّفِّ الذي أمامه، فإنَّه في هذه الحالة يُصلي، ويكون داخلًا في أهل الأعذار، وقد مر بنا، وسيأتي -إن شاء اللَّهُ- الكثير من المسائل التي تسقط فيها بعض الأحكام بسبب العذر، وقد رأينا سقوط القراءة عن العاجز عنها، وكذلك الركوع والقيام والسجود؛ كل ذلك يسقط بسبب الأعذار؛ لأنَّ هذه الشريعة كما ذكرنا مرارًا بُنيت على أُسسٍ، يَأتي في مقدمتها رفع الحرج واليسر.

(الفَصْلُ الرَّابعُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ عَلَى المَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ فِيهِ الإِمَامَ)

هناك أُمُورٌ يجب على المأموم أن يتبع فيها الإمامَ؛ لقَوْله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به"، وأمور أُخرى لا يجب عليه ذلك، وسوف يذكر المؤلف رحمه الله تفصيل ذلك.

* قوله: (وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجبُ عَلَى المَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ الإِمَامَ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ)

(1)

.

= والثالث: لا تَعُد إلى الإحرام خلف الصَّفِّ". انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" (2/ 431).

(1)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 148)، وفيه قال:"وأجمع العلماء على أنه يجب على المأموم أن يَأتم بإمامه، ولا يُخالفه لغير عذرٍ".

ص: 1841

فلا يجوز للمأموم أن يُخَالف إمامَه مُطلقًا، اللهم إلا لعُذْرٍ سبَّب تلكم المُخَالَفة، إذا كانت هذه المخالفة لَيْست مما يُبْطل الصلاة.

* قوله: (إِلَّا فِي قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَفِي جُلُوسِهِ إِذَا صَلَّى جَالِسًا لِمَرَضٍ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ إِمَامَةَ الجَالِسِ

(1)

).

فَفي هَاتَين المَسْألتين خلافٌ بين الفُقَهاء من جهة الاقتداء بالمأموم فيها، فالمسألة الأولى: قول: "سمع اللَّه لمَنْ حمده"؛ مشروع في حق الإمام والمأموم عند أكثر أهل العلم، منهم الشافعي وأحمد.

والمسألة الثانية: صلاة الإمام جالسًا.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ فَإِنَّ طَائِفَةً ذَهَبَتْ إلى أَنَّ الإِمامَ يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقَطْ، وَيَقُولُ المَأْمُومُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، فَقَطْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ؛ مَالِكٌ

(2)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(3)

،

(1)

قال ابن القطان: "والإمام إذا لم يمكنه القيام، قام من خلفه، وصلى بهم قاعدًا، وعليه جميع فقهاء الأمصار إلا الأوزاعي، فإنه قال: يصلون جلوسًا كجلوسه، وإن كانوا قادرين على القيام". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 148، 149).

(2)

انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 240)، وفيه قال:"ويقول الفذ إذا رفع رأسه من الركوع: سمع اللَّه لمن حمده، ويقول المأموم: اللهم ربنا ولك الحمد، وإن كان إمامًا فليقل: سمع اللَّه لمن حمده، ولا يقول: ربنا ولك الحمد، ولا يقول مَن خلفه: سَمِع اللَّه لمن حمده، ويقول: اللهم ربنا ولك الحمد. قال مالكٌ، وقال مَرَّةً: لك الحمد". وانظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 180).

(3)

قول أبي حنيفة هو الذي عليه المذهب، وخالف أبو يوسف ومحمد، فقالا:"يجمع الإمام بين الذِّكْرَيْن، وكذلك المأموم"، وهو قول الشافعية كما سيأتي.

انظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 227)، وفيه قال:(ثم يرفع رأسه ويقول: سَمع اللَّه لمن حمده). ش: أي: ثم يرفع المصلي رأسه من الركوع، ويقول: سمع اللَّه لمن حمده. (ويقول المؤتم: ربنا لك الحمد). ش: أي: المقتدي يقول: ربنا لك الحمد؛ ليوافق مبدأ الركعة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ويختمها بـ "ربنا لك =

ص: 1842

وَغَيْرُهُمَا

(1)

، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إلى أَنَّ الإِمَامَ وَالمَأْمُومَ يَقُولَانِ جَمِيعًا: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَأَنَّ المَأْمُومَ يَتْبَعُ فِيهِمَا مَعًا الإِمَامَ، كَسَائِرِ التَّكْبِيرِ سَوَاءً).

يشرع قول: "ربنا ولك الحمد" في حقِّ كل مُصَلٍّ، هذا مذهب الشافعي

(2)

، ومَذْهبُ الحنابلة أن المأموم فقط يقول:"ربنا ولك الحمد"، أمَّا الإمام والمنفرد فيقولان:"سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، يَجمعان بينهما، الأولى مع الرفع، والثانية بعد القيام

(3)

.

= الحمد"، (ولا يقولها الإمام عند أبي حنيفة). ش: أي: لا يقول الإمام: ربنا لك الحمد، عند أبي حنيفة، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي. (وقالا: يقولها في نفسه). ش: أي: قال أبو يوسف ومحمد: يقول الإمام: ربنا لك الحمد، سرًّا، وهو معنى قوله في نفسه، وبه قال الثوري والأوزاعي، ويقتصر المأموم على: ربنا لك الحمد.

(1)

قال ابن المنذر: "وقالت طائفة: إذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده، فليقل مَنْ خلفه: اللهم ربَّنا لك الحمد، هذا قول عبد اللَّه بن مسعود وابن عمر وأبي هريرة، وبه قال الشعبى. قال ابن المنذر: وبهذا نقول". انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(2/ 30).

(2)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 419)، وفيه قال:"مذهبنا: أنه يقول في حال ارتفاعه: سمع اللَّه لمن حمده، فإذا استوى قائمًا، قال: ربنا لك الحمد. . . إلى آخره، وأنه يستحب الجمع بين هذين الذِّكْرَيْن للإمام والمأموم والمنفرد، وبهذا قال عطاء وأبو بردة ومحمد بن سيرين وإسحاق وداود". وانظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 158).

(3)

انظر: "الروض المربع"، للبهوتي (ص 91)، وفيه قال:" (ثم يرفع رأسه ولديه)، (قائلًا إمام ومنفرد: سمع اللَّه لمن حمده) مرتبًا وجوبًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، قاله في "المبدع"، ومعنى "سمع": استجاب، (و) يقولان (بعد قيامهما) واعتدالهما: (ربنا ولك الحمد، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت مِن شيء بعد)، (و) يقول (مأموم في رفعه: ربنا ولك الحمد فقط)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قَالَ الإمام: سَمِعَ اللَّه لمَنْ حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد"، متفق عليه من حديث أبي هريرة، وإذا رفع المصلي من الركوع، فإن شاء وضع يمينه على شماله، أو أرسلهما".

وهناك روايةٌ عن أحمد بأن المنفرد لا يقول: ربنا ولك الحمد. =

ص: 1843

* قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ المُنْفَرِدَ وَالإِمَامَ يَقُولَانِهِمَا جَمِيعًا).

أي: أن الإمام يجمع بين الذِّكْرين.

* قوله: (وَلَا خِلَافَ فِي المُنْفَرِدِ، أَعْنِي: أَنَّهُ يَقُولهُمَا جَمِيعًا).

يَعْني: أنَّ العُلَماءَ لم يَخْتلفوا في أنَّ المنفرد عليه أن يجمع بين الذِّكرين، فيقوله:"ربنا ولك الحمد"، بعد قوله:"سمع اللَّه لمَنْ حمده"

(1)

.

= قَالَ ابن قدامة: "وعن أحمد روايةٌ أُخرى: لا يقوله المنفرد، فإنه قال في رواية إسحاق في الرجل يُصلِّي وحده، فإذا قال: (سمع اللَّه لمن حمده)، قال: (ربنا ولك الحمد)؟ فقال: إنَّما هذا للإمام جمعهما، وليس هذا لأحدٍ سوى الإمام. ووجهه: أن الخبَر لم يَرد به في حقه، فلم يشرع له كقول: (سمع اللَّه لمَنْ حمده) في حق المأموم، والصحيح: أنَّ المنفردَ يَقُول كما يقول الإمام؛ "لأن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه قال لبُرَيدة: "يا بريدةُ، إذا رفعتَ رأسك في الركوع، فقل: سمع اللَّه لمَنْ حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيءٍ بَعْدُ"، رواه الدارقطني، وهذا عام في جميع أحواله". انظر:"المغني"، لابن قدامة (1/ 365، 366).

(1)

قال ابن القطان: "ولم يختلف أن المنفرد يجمع بين قول: "ربنا ولك الحمد"، و"سمع اللَّه لمن حمده". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 134).

وهذا اتفاق بينهم من حيث الجملة، لكن عند التفصيل نجد أن في المسألة خلافًا، وتوضيحه كالآتي:

أولًا: مذهب الأحناف: ذهب أبو حنيفة كما في رواية الحسن عنه، وصاحباه أبو يوسف ومحمد، وهو ما صححه صاحب "الهداية": أن المنفرد يجمع بين الذِّكْرين، لكن معتمد المذهب على أنه يكتفي بالتحميد، وهو ما رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة. انظر:"درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 71)، وفيه قال:" (والمنفرد قيل: كالمقتدي)، يعني: يكتفي بالتحميد. قال الزيلعي: عليه أكثر المشايخ. وفي "المبسوط": هو الأصح؛ لأن التسميع حَثٌّ لمَنْ معَه على التَّحْميد، وليس معه غيره ليحثه عليه. (وقيل): المنفرد (يجمعهما)، أيْ: التسميع والتحميد، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة. قال صاحب "الهداية": هو الأصح.

قال الشرنبلالي في "الحاشية": " (قوله: والمنفرد. . . إلخ). أقول: حكى كلًّا من التَّصحيحين للقولين في "البحر"، ثم قال: وحيث اختلف التصحيح كما رأيت، فلا =

ص: 1844

* قوله: (وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ. "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"

(1)

، وَالحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أيضًا، وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"

(2)

، فَمَنْ رَجَّحَ مَفْهُومَ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: لَا يَقُولُ المَأْمُومُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَلَا الإِمَامُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ

= بد من الترجيح، فالمرجح من جهة المذهب: ما في المتن، يعني "متن الكنز": واكتفى المنفرد بالتحميد؛ لأنه ظاهر الرواية، كما صرَّح به قاضي خان في "شرحه". والمرجح من جهة الدليل: ما صححه في "الهداية". اهـ.

والقول الثالث في المنفرد: أنه يأتي بالتسميع لا غير، وهو رواية المعلى عن أبي حنيفة. قال صاحب "البحر": وينبغي ألَّا يعول عليها، ولم أرَ مَنْ صَحَّحها". اهـ".

ثانيًا: مذهب المالكية على أن المنفرد يجمع بينهما، قال ابن شاس في "الجواهر الثمينة" (1/ 104):"ويقول في حال الرفع: سَمِعَ اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد، إنْ كان منفردًا، ويقتصر على قوله: سمع اللَّه لمن حمده، إنْ كان إمامًا. وقيل: بل يجمع بينهما، وإن كان مأمومًا اقتصر على قوله: ربنا ولك الحمد". وانظر: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 588).

ثالثًا: مذهب الشافعية على الجمع بينهما للمنفرد، انظر:"نهاية المطلب"، للجويني (2/ 160، 161)، وفيه قال:"ثم يقول الرافع من الركوع: سَمِعَ اللَّه لمَنْ حمده، ربنا لك الحمد، ولا فرق بين أن يكون إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا".

رابعًا: مذهب الحنابلة: أن المنفرد يجمع بينهما، وهو المذهب. وهناك رواية عن أحمد بأنه لا تحميدَ على المنفرد، وقَدْ سبق هذا من كلام ابن قدامة.

(1)

وهو حديثٌ متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.

(2)

أخرَجه بهذا اللفظ مَالكٌ في "الموطإ"(1/ 75)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "التعليقات الحسان"(1858)، وأخرجه البخاري (735)، ومسلم (390/ 21) من غير لفظ:"ربنا ولك الحمد".

ص: 1845

دَلِيلِ الخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ المَسْكُوتِ عَنْهُ خِلَاف حُكْمِ المَنْطُوقِ بِهِ)

(1)

.

وَجْه استدلَالهم: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَأْمر بقول: "سَمع اللَّه لمَنْ حَمدَه"، في الوقت الذي قصد فيه صلى الله عليه وسلم أن يوضِّح لنا كيفيَّة الائتمام، ولا سيما أنه أراد بيان ما يتفق فيه المأموم مع الإمام، وما يختلفان فيه.

قَوْله: (وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَقُولُ الإِمَامُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَيَجِبُ عَلَى المَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ الإِمَامَ فِي قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ:"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ"

(2)

.

هؤلاء قالوا بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على: "ربنا لك الحمد"، لأنه كان يَجهر بـ "سمع اللَّه لمن حمده"، ويُسرُّ بـ:"ربنا لك الحمد"، فلا يسمعونه غالبًا، فنبَّههم عليه، فيجهر الإمام والمبلغ بكلمة التسميع إن احتيج إليه.

(1)

قال القاضي عبد الوهاب: "ودليلنا على أن المأموم لا يقول: "سمع اللَّه لمن حمده": قوله عليه السلام: "إنَّما جُعِلَ الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا. . . "، إلى قوله: "وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد"، ففيه دليلان، أحدهما: أنه لم يقل: فقولوا: سمع اللَّه لمن حمده. والآخر: أنه قصد بيان وجه الائتمام به، وكيفيته، ومَيَّز ما يفعل فيه مثل فعلِهِ، وبما يفعل فيه بخلاف فعله، ولأنه أضاف إلى كلِّ واحدٍ لفظًا غير ما أضَافه إلى صاحبه، فالظاهر أنهما لا يَشْتركان فيه". انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(1/ 245). وانظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (2/ 528، 529).

(2)

انظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 501)، وفيه قال:" (ويُسَن رفع يديه)، (قائلًا) في رفعه إلى الاعتدال: (سمع اللَّه لمن حمده)، ولا فرق في ذلك بين الإمام والمأموم والمنفرد، وخبر: "إذا قال الإمام: سَمِعَ اللَّهُ لمَنْ حَمده، فقولوا: ربنا لك الحمد"، أَوْ "ربنا ولك الحمد"، أي: مع ما علمتموه مِنْ (سمع اللَّه لمَنْ حمده)، وإنما اقتصر على (ربنا لك الحمد)؛ لأنه كان يجهر بـ (سمع اللَّه لمن حمده)، فتتبعه الناس، وكان يُسِرُّ بـ (ربنا لك الحمد)، فلا يسمعونه غالبًا، فنَبَّههم عليه، فيجهر الإمام والمبلغ بكلمة التسميع إن احتيج إليه". وانظر: "العزيز شرح الوجيز"، للرافعي (1/ 513).

ص: 1846

* قوله: (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الإِمَامِ وَالمَأْمُومِ).

يَقْصد المؤلف أن حديث أنسٍ: "إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكَبِّروا، وإذا سَجَد فَاسْجُدُوا، وإذا رفَع فَارْفَعوا، وإذا قال: سَمع اللَّه لمَنْ حمدَه، فقولوا: ربنا ولك الحمد"، فيه: أن الإمام يقول: "سمع اللَّه لمن حمده" فقط، والمأموم يقول:"ربنا ولك الحمد" فقط.

وَحَديث ابن عمر: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة، رَفَع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رَفَعهما كذلك أيضًا، وقال:"سمع اللَّه لمَنْ حمده، ربنا ولك الحمد".

وفيه أن الإمام يقول: "سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، فَمِنْ مَجْموع الحديثين، فإن الإمام يجمع بين الذِّكْرين، فيقول:"سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، والمأموم يقول:"ربنا ولك الحمد" فقط، وهذا هو مذهب الحنابلة كما سبق، وهذا هو مراد المؤلف من قوله:"مَن جَمَع بين الحديثين فَرَّق بين الإمام والمأموم"، وبيانه كما سبق: أن الإمام يجمع بين الذِّكْرَيْن، والمأموم يكتفي بقول:"ربنا ولك الحمد".

* قَوْله: (وَالحَقُّ فِي ذَلِكَ: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ يَقْتَضِي بِدَلِيلِ الخِطَابِ أَنَّ الإمامَ لَا يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَأَنَّ المَأْمُومَ لَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ يَقْتَضِي نَصًّا أَنَّ الإِمَامَ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ النَّصُّ بِدَلِيلِ الخِطَابِ، فَإِنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الخِطَابِ)

(1)

.

(1)

انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (1/ 358)، وفيه قال:"والمشهور: أن الإمام يقول: (سمع اللَّه لمن حمده) فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الصَّحيح: "وإذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". (وقيل: مثله)، أي: مثل المنفرد في الجمع، وهو قول عيسى بن دينار وابن نافع، وقاله مالك أيضًا، واختاره عياض وغيره؛ لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله".

ص: 1847

مَعْنى كلَام المؤلف بالنسبة للإمام: أن مفهومَ الخطَاب في حديث أنسٍ: أنَّ الإمام لا يقول: "ربنا ولك الحمد"، لكن منطوق حديث ابن عمر أن الإمام يقول:"ربنا ولك الحمد"، فيقدم حديث ابن عمر؛ لأنه نصٌّ، فيَجمع الإمام بين الذكرين. . وهي رواية في المذهب، لكنها ليست المشهورة.

* قوله: (وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ أَنَّ المَأْمُومَ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، بِعُمُومِ قَوْلِهِ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ"، وَبِدَلِيلِ خِطَابِهِ أَلَّا يَقُولَهَا)

(1)

.

ومعنى كلام المؤلف بالنسبة للمأموم: أن منطوق حديث أنسٍ أن المأموم يقول: "ربنا ولك الحمد"، وذلك من قوله:"فقولوا: ربنا ولك الحمد"، ودليل العموم في حديث أنسٍ من قوله:"إنَّمَا جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به"، فيه: أن المأموم يقول: سمع اللَّه لِمَنْ حمده.

* قوله: (فَوَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ بَيْنَ العُمُومِ

(2)

وَدَلِيلِ الخِطَابِ

(3)

. وَلَا خِلَافَ أَنَّ العُمُومَ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الخِطَابِ، لَكِنَّ العُمُومَ يَخْتَلِفُ

(1)

انظر: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 587)، وفيه قال:"يقتصر المأموم في المشهور من المذهب عندنا على القول: اللهم ربنا ولك الحمد. وقال ابن نافع وعيسى: بل يجمع بين ذلك وبين القول: سمع اللَّه لمَنْ حمده".

(2)

"العام": هو اللفظ الواحد الدال على مُسَمَّيين فصاعدًا مطلقًا معًا. انظر: "الإحكام في أصول الأحكام"، للآمدي (2/ 196).

(3)

مفهوم "الخطاب" هو: "التنبيه بالمنطوق به على حكم المسكوت عنه، مثل: حذف المضاف؛ كقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، ومعناه: أفعال الحج في أشهر. وقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}، فتقديره: في إحرام الحج، وكقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، فنَبَّه بذلك على تحريم الضرب والشتم؛ لأنه إنَّما منع من التأفيف لما فيه من الأذى، وذلك في الضرب أعظم، وَجَبَ أن يكون بالمنع أوْلَى، ويُسمَّى هذا القسم فحوى الخطاب". انظر: "العدة في أصول الفقه"، للقاضي أبي يعلى بن الفراء (1/ 152، 153).

ص: 1848

أيضًا فِي القُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَلِذَلِكَ لَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَدِلَّةِ الخِطَابِ أَقْوَى مِنْ بَعْضِ أَدِلَّةِ العُمُومِ)

(1)

.

وَجْه قوة العموم على دليل الخطاب: أن العمومَ منطوقٌ به، ودليل الخطاب مفهوم، والمنطوق أقوى من المفهوم. وقيل: دليل الخطاب أخص من العموم، وأقوى في الدلالة منه، ولذلك يصلح لتخصيص العام.

* قوله: (فَالمَسْأَلةُ -لَعَمْرِي- اجْتِهَادِيَّةٌ: أَعْنِي: فِي المَأْمُومِ).

هي اجتهاديَّةٌ؛ لأنَّ الأدلَّة فيها ظَنيَّةٌ، وليست قطعيَّةً.

* قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ صَلَاةُ القَائِمِ خَلْفَ القَاعِدِ؛ فَإِنَّ حَاصِلَ القَوْلِ فِيهَا أَنَّ العُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّحِيحِ أَنْ يُصَلِّيَ فَرْضًا قَاعِدًا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إِمَامًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]

(2)

).

أَجْمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردًا كان أو إمامًا.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ المَأْمُومُ صَحِيحًا، فَصَلَّى خَلْفَ إِمَامٍ

(1)

قال الآمدي: "لا نعرف خلافًا بين القائلين بالعموم والمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم، وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة، أو من قبيل مفهوم المخالفة، فلو وَرَد نصٌّ عامٌّ يدل على وجوب الزكاة في الأنعام كلها، ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة"، فإنه يكون مخصصًا للعموم بإخراج معلوفة الغنم عن وجوب الزكاة بمفهومه، وإنما كان كذلك؛ لأن كل واحدٍ من المفهومين دليل شرعي، وهو خاصٌّ في مورده، فَوَجب أن يكون مخصصًا للعموم؛ لترجح دلَالة الخاص على دلالة العام، كما سبق تقريره". انظر: "الإحكام في أصول الأحكام"(2/ 328).

(2)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 148)، وفيه قال:"وجمهور العلماء يقولون: لا يجوز لأحدٍ أن يُصلِّي قاعدًا وهو قادر على القيام وحده، ولا خلف إمام".

ص: 1849

مَرِيضٍ يُصَلِّي قَاعِدًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ المَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَهُ قَاعِدًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ أَحْمَدُ

(1)

، وَإِسْحَاقُ

(2)

. وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ قِيَامًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ

(3)

: وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ، الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ

(4)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(5)

، وَأَهْلُ

(1)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 274)، وفيه قال:" (إلا الراتب بمسجد) إذا عجز عن القيام لعلة (المرجو زوال علته، ويجلسون)، أي: المأمومون، ولو مع قدرتهم على القيام (خلفه)؛ لحديث عائشة: "صَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شَاكٍ، فصلى جالسًا، وصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم: أن اجلسوا، فلما انصرف قال:"إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به"، إلى أن قال:"وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون"، متفق عليه".

(2)

انظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"، للكوسج (2/ 722، 723)، وفيه قال:" (قال: قلتُ لسفيان: رجل صلى بقوم جالسًا وهم جلوس وهو مريض؟ قال: تُجْزئه ولا تُجْزئهم. قال أحمد: بلى؛ إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى قاعدًا، فصلوا قعودًا". قال إسحاق: السُّنَّة إذا صلى قاعدًا أن يصلُّوا قعودًا".

(3)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 172، 173)، وفيه قال:"وقال جمهور العلماء: لا يَجُوز لأحدٍ أن يصلي شيئًا من الصَّلوات المكتوبات جالسًا وهو صحيحٌ قادرٌ على القيام؛ لا إمامًا، ولا منفردًا، ولا خلف إِمَامٍ، ثمَّ اختلفوا؛ فمنهم مَنْ أجَاز صلاة القائم خلف القاعد، كُلًّا يُؤدي فرضَه على قدر طاقته؛ للحديث الذي فيه صلاة أبي بكر، وهو قائم خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو قاعد في مرضه الذي مات فيه، والناس قيام خلفه مع أبي بكرٍ، وممن قال بهذا: الشافعي وأبو ثور وأبو حنيفة وأبو يوسف وداود بن علي".

(4)

انظر: "نهاية المطلب"، للجويني (2/ 371)، وفيه قال:"إذا عجز الرجل عن القيام في الصلاة، صلى قاعدًا، والأَوْلى به أن يستخلف في الإمامة، فإن صلى بالناس قاعدًا، صَحَّ، وهم يصلون خلفه قيامًا إذا كانوا قادرين. أمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صَلَّى الإمامُ قَاعدًا، فَصَلُّوا قعودًا خَلْفه أَجْمَعين"، فإن الشافعيَّ رأى ذلك منسوخًا بما جرَي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في آخِرِ أمره، إذ تقدم وقعد، وكان يُصلي قاعدًا، وأبو بكرٍ يصلِّي قائمًا خلفه، مقتديًا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والناس قيام، فرَأى الأخذ بتقرير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ والناسَ على قيامهم مع قعود إمامهم". وانظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 483).

(5)

خالف محمدٌ، فقال بفساد صلاة القائم خلف القاعد.

انظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (1/ 386)، وفيه قال: " (قوله: وقائم بقاعد =

ص: 1850

الظَّاهِرِ

(1)

، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَغَيْرُهُمْ

(2)

. وَزَادَ هَؤُلَاءِ فَقَالُوا: يُصَلُّونَ وَرَاءَهُ قِيَامًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْوَى عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، بَلْ يُومِئُ إِيمَاءً

(3)

.

= وبأحدب)، أي: لا يفسد اقتداء قائم بقاعد وبأحدب، أما الأول فهو قولهما، وحَكَمَ مُحمَّدٌ بالفساد؛ نظرًا إلى أنه بناء القوي على الضعيف. ولهما: اقتداء الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته وهو قاعدٌ وهم قيامٌ، وهو آخر أحواله، فتَعيَّن العمل به بناءً على أنه عليه الصلاة والسلام كان إمامًا، وأبو بكر مُبَلِّغًا للناس تكبيره".

(1)

ذكر ابن حزم أن مذهب أهل الظاهر أنَّ مَنْ صلى بالناس قعودًا، قَعَد من خلفه، وَحَكَاه عن داود.

فقال: "وأما صلاة الفرض، فلا يَحلُّ لأحدٍ أن يُصلِّيها إلا واقفًا إلا لعذرٍ من مرضٍ، أو خوفٍ من عدوٍّ ظالم، أو من حيوانٍ، أو نحو ذلك؛ أو ضعف عن القيام؛ كمَنْ كان في سفينة، أو مَنْ صلى مؤتمًّا بإمام مريض، أو معذور، فصلى قاعدًا، فإن هؤلاء يصلون قعودًا؛ فإن لم يقدر الإمام على القعود ولا القيام صَلَّى مضطجعًا، وصلوا كلهم خلفه مضطجعين ولا بد. قال أبو سُلَيمان وأَصْحَابنا: يؤم المريض قاعدًا: الأصحاءَ، ولا يُصلُّون وراءه إلا قُعُودًا كلهم، ولا بد؟ قال عليٌّ: وبهذا نأخذ إلا فيمَنْ يصلي إلى جَنْب الإمام يُذكِّر الناس، ويُعلِّمهم تكبير الإمام؛ فإنه مُخيَّرٌ بين أن يصلي قاعدًا، وبين أن يصلي قائمًا". انظر: "المحلى بالآثار"(2/ 103).

(2)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (2/ 144)، حيث قال:"وقالت طائفةٌ: يُصَلُّون قيامًا؛ يُصَلِّي كل واحد فرضه، هذا قول الشافعي، وأبي ثور. وقال سفيان الثوري: إذا كانوا جلوسًا يجزيه، ولا يجزيهم".

(3)

يقصد أن هذا الفريق قالوا: إنَّ المأموم يصلي قائمًا خلف إمامه القاعد، وكذا الَّذي لا يقوى على الركوع والسجود، بَل والذي لا يستطيع أن يصلِّي إلا إيماءً. وهذ الكلام لا يَتنزَّل على الظاهرية؛ فقد سَبَق أن مذهبهم: أن المأمومين يتبعون إمامهم في هيئته، فإن صلى قاعدًا صلوا قعودًا، بل لو صلَّى مضطجعًا، فإن مَنْ خلفه يُصلون مضطجعين مثله، وكذا لا يتنزَّل على الأحناف؛ لأنَّ القياس عندهم أن حال المأموم لا بد أن تساوي حال الإمام، واستثنوا إمامة القاعد للقائمين بالنص، وعَلَيه فتجوز عندهم إمامة المضطجع للمضطجع، ومن يومئ لمن كان حاله مثله، أما إذا أمَّ مَنْ صلى إيماءً قاعدين أو قائمين، أجزأته صلاته، ولم تجزئ صلاة الآخرين.

انظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 58، 59)، وفيه قال: "ويُصلِّي القائم خلف القاعد، وقال محمد رحمه اللَّه تعالى: لا يجوز، وهو القياس؛ لقوة حال القائم، ونحن تركناه بالنص، وهو ما روي أن النَّبيَّ عليه الصلاة والسلام صلى آخر صلاته قاعدًا والقوم خلفه قيام، ويصلي المومئ خلف مثله، لاستوائهما في الحال إلا أن يومئ المؤتم قاعدًا والإمام مضطجعًا؛ لأن القعود معتبر، فتثبت به =

ص: 1851

وَرَوَى ابْنُ القَاسِمِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إمَامَةُ القَاعِدِ، وَأَنَّهُ إِنْ صَلَّوْا خَلْفَهُ قِيَامًا أَوْ قُعُودًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ

(1)

، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُمْ يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ فِي الوَقْتِ

(2)

، وَهَذَا إِنَّمَا عَلَى الكَرَاهَةِ لَا عَلَى المَنْعِ، وَالأَوَّلُ هُوَ المَشْهُورُ عَنْهُ)

(3)

.

اختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدًا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام: فأجازت ذلك طائفةٌ من أهل العلم، بل جمهورهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام:"وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون".

وأجاز طائفةٌ من العلماء صلاة القائم خلف الإمام المريض؛ لأن كلًّا يؤدي فرضه على قدر طاقته تأسِّيًا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدًا، وأبو بكر إلى جنبه قائمًا يُصلِّي بصلاته، والناس قيام خلفه، ولم يُشِرْ إلى أبي بكرٍ، ولا إليهم بالجلوس، وأكمل صلاته بهم

= القوة، ولا يُصلِّي الذي يركع ويسجد خلف المومئ؛ لأن حال المقتدي أقوى، وفيه خلاف زفر رحمه اللَّه تعالى". وانظر:"الأصل"، للشيباني (1/ 189).

(1)

قال ابن عبد البر: "وقال ابن القاسم: لا يأتم القائم بالجالس في فريضةٍ ولا نافلةٍ، ولا بأس أن يأتم الجالس بالقائم. قال: ولا ينبغي لأحد أن يؤم أحدًا في فريضةٍ ولا نافلةٍ قاعدًا، فإن عرض له ما يمنعه من القيام استخلف. واحتح ابن القاسم في ذلك بأن قال: حدثني مالك، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض، وأبو بكر يصلي بالناس؛ فجلس إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر هو الإمام، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر". قال ابن القاسم: قال مالك: والعمل عندنا على حديث ربيعة هذا، وهو أحبُّ إليَّ. قال سحنون: بهذا الحديث يأخذ ابنُ القاسم". انظر: "الاستذكار" (2/ 173).

(2)

انظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص 135)، وفيه قال:"قال مالكٌ: القادر على القيام لا يأتم بمَنْ لا يقدر على القيام قاعدًا، فإن صلَّى خلفه أعاد في الوقت. وقال مطرف وابن الماجشون: يعيد أبدًا".

(3)

انظر: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 676)، وفيه قال:"وإذا ائتم القائم بالجالس، أعاد المؤتم وإن ذهب الوقت. وعند أبن الجلاب: يعيد في الوقت؛ لأنه يَرَى إمامة الجالس مكروهةً، والكراهة لا تقتضي الإعادة بعد الوقت".

ص: 1852

جالسًا وهم قيام، ومعلوم أن ذلك كان منه في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، فعُلِمَ أن الآخر من فعلِهِ ناسخ للأول، وممن ذهب إلى هذا الشافعي رحمه الله.

والمشهور عن مالك أنه لا يؤم القيام أحدٌ جالسًا، فإن أَمَّهم قاعدًا بطلت صلاتُهُ وصلاتهم؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يؤمنَّ أحَدٌ بعدي قاعدًا". قال: فإن كان الإمام عليلًا، تمَّت صلاة الإمام، وفسدَت صلاةُ مَنْ خَلْفه. قال: ومَنْ صلَّى قاعدًا من غير عِلَّةٍ، أعادَ الصَّلاة.

* قوله: (وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: تَعَارُضُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَمُعَارَضَةُ العَمَلِ لِلْآثَارِ، أَعْنِي: عَمَلَ أَهْلِ المَدِينَةِ عِنْدَ مَالِكٍ).

عمل أهل المدينة: هو عدم جواز إمامة القاعد

(1)

.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَنَسٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوا قُعُودًا"

(2)

، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَن اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا"

(3)

. وَالحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فيه، فَأَتَى المَسْجِدَ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

قال القاضي عياض: "قيل: نُسِخَتْ إمامةُ القاعد جملةً بقوله: "لا يَؤُمَّنَّ أحَدٌ بعدي قاعدًا"، وبفعل الخلفاء بعده، وأنه لم يؤمَّ أحدٌ منهم قاعدًا، وإنْ كَانَ النسخ لا يمكن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فمُثَابرتُهُمْ على ذلك يشهد بصحة نَهْيه عن إمامة القاعد بعده، وتُقَوِّي لِينَ ذلك الحديث". انظر: "إكمال المُعْلم بفوائد مسلم"(2/ 312).

(2)

وهو في "الصَّحيحَين"، وقد تقدم تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري (688)، ومسلم (412/ 82).

ص: 1853

إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ"

(1)

، فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ مَذْهَبَيْنِ، مَذْهَبَ النَّسْخِ).

النسخ هو: خطاب يدلُّ على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب متقدم على وجهٍ لَوْلاه لكان ثابتًا مع تَرَاخيه عنه

(2)

.

* قوله: (وَمَذْهَبَ التَّرْجِيحِ

(3)

، فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ النَّسْخِ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَهُوَ "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مُسْمِعًا"؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِمَامَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قِيَامًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ جَالِسًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام، إِذْ كَانَ آخِرُ فِعْلِهِ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ المُتَقَدِّمِ

(4)

. وَأَمَّا

(1)

أخرجه البخاري (683)، ومسلم (418/ 97).

(2)

قال الآمدي: "النسخ في اللغة: قد يُطْلق بمَعْنى الإزالة، ومنه يُقَال: نسخت الشمسُ الظِّلَّ، أي: أزالته، ونسخت الريح أثر المشي، أي: أزالته، ونسخ الشَّيب الشباب إذا أزاله، ومنه: تناسخ القرون والأزمنة، وقد يُطْلق بمعنى: نقل الشيء وتحويله من حالةٍ إلى حالةٍ مع بقائِهِ في نفسه.

أما اصطلاحًا فهو: الخطاب الدَّال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجهٍ لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه". انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" (3/ 102 - 105).

(3)

انظر: "شرح التلقين"(1/ 675).

(4)

معنى هذا الكلام: أن بعض المالكية الذين قالوا بجَوَاز إمامة القاعد رَدُّوا على حديث أنسٍ وحديث عائشة الَّتي فيها الاقتداء بالإمام في هيئته قيامًا وجلوسًا، فقالوا: نُسِخَ هذا بفعله صلى الله عليه وسلم مِنْ إمامتِهِ للناس حال قُعُوده، كَمَا في حديث عائشة، وهَذَا كان في مرضه الأخير.

قال القاضي عياض: "وعندنا قَوْلان في صحة إمامة الجالس لعذرٍ بالقيام:

أحدهما: إجَازة ذلك؛ تعلقًا بإمامة النبي صلى الله عليه وسلم الناس في مرضه الَّذي مات فيه على أحد التأويلين أنه الإمام دون الصّدِّيق. =

ص: 1854

مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ؛ فَإِنَّهُمْ رَجَّحُوا حَدِيثَ أَنَسٍ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الحَدِيثَ قَدِ اضْطَرَبَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ عَائِشَةَ فِيهِ فِيمَنْ كَانَ الإِمَامَ؛ هَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَبُو بَكْرٍ؟

(1)

، وَأَمَّا مَالِكٌ: فَلَيْسَ لَهُ مُسْتَنَدٌ مِنَ السَّمَاعِ

(2)

؛ لِأَنَّ كِلَا الحَدِيثَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ القَاعِدِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي قِيَامِ المَأْمُومِ أَوْ قُعُودِهِ

(3)

، حَتَّى إِنَّهُ لَقَدْ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّاسَ صَلَّوْا لَا قِيَامًا وَلَا قُعُودًا،

= والثاني: منع ذلك؛ تعلقًا بقوله عليه السلام: "لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا"، وظاهر هذا الحديث (وهو حديث إمامة النبي الناس جالسًا): أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا كان في الفريضة، ويدل عليه قوله:"فحضرت الصلاة"، وهذا يفهم منه المعهودة، وهي الفريضة. قيل: نُسخت صلاةُ الإمام قاعدًا بالناس قعودًا بصلاته قاعدًا وهم قيامٌ، في حديث إمامة أبي بكرٍ". انظر:"إكمال المعلم بفوائد مسلم"(2/ 311، 312).

(1)

قال المازري: "وصلاتُهُ صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي تُوفَي فيه اضطرب الرواة فيه؛ هل بقي أبو بكرٍ على الإمامة، أو خَرَج عنها وائتمَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم هو وسائر الناس؟ وقد رُجحت رواية مَنْ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإِمام بكونه عن يسار أبي بكر، وهذا يَقْتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإِمام.

وأُجِيبَ عن هذا: بأن الرُّتبة هاهنا خرجت عن المألوف، لأن أبا بكرٍ لم يَرْجع إلى صفِّ الناس ويكون معهم، كما تَقْتضيه المرتبة المألوفة.

وقد تأوَّل بعض الناس من أصحابنا ما خرَّجه مسلم عن عائشة: "أنَّ أبا بكر صلى قائمًا يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على أن المراد به: أنه ينتظر تمكُنه من الركوع والسجود، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي الإِمام بصلاة أضعف القوم"". انظر: "شرح التلقين" (1/ 674، 675)، و"إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2/ 312، 313).

(2)

أي: على عدم جواز إمامة القاعد.

(3)

يقصد أن حديث أنس وحديث عائشة اتفقا على جواز إمامة القاعد إلا أنهما اختلفا في جواز إمامة القاعد للقائم، فقَوْل مالك:"لا تجوز صلاة القاعد" ليس عليه دليلٌ من السماع إلا موافقته لعمل أهل المدينة.

قال الفاكهاني: "والظاهر: أنه لَيْسَ لأصحابنا في ذلك حُجَّة إلا ما قاله ابن القاسم من أن عمل أهل المدينة على ذلك، أَعْني: عدم الائتمام بالقاعد". انظر: "رياض الأفهام"(2/ 121، 122).

ص: 1855

وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ المَنْصُوصُ عَلَيْهِ

(1)

لِشَيْءٍ لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ

(2)

. قَالَ أَبُو عُمَرَ

(3)

: وَقَدْ ذَكرَ أَبُو المُصْعَبِ فِي "مُخْتَصَرِهِ" عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يَؤُمُّ النَّاسَ أَحَدٌ قَاعِدًا، فَإِن أَمَّهُمْ قَاعِدًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ وَصَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَؤُمَّنَّ أَحَد بَعْدِي قَاعِدًا"

(4)

. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِالحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ جَابِرٌ الجُعْفِيُّ مُرْسَلًا، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا أَسْنَدَ، فَكَيْفَ فِيمَا أَرْسَلَ؟

(5)

. وَقَدْ رَوَى ابْنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِمَا رَوَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ الإِمَامَ، وَكَانَ

(1)

يُقْصَد بالمنصوص عليه: الأحاديث التي فيها متابعة المأموم للإمام في قيامه وقعوده، فلا يَنْبغي أن يترك هذا المنصوص لشيءٍ لم ينص عليه من صلاة الناس قيامًا بقعود الإمام، كما فهم من حديث صلاة النبي بالناس قعودًا.

(2)

انظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (2/ 109، 110)، وفيه قال:"فنظرنا في هذا الخبر -يقصد حديث عائشة- فلم نجد فيه لا نصًّا، ولا دليلًا على ما ادعوه من نسخ الأمر بأن يصلي الأصحَّاء قعودًا خلف الإمام المصلي قاعدًا لحذرٍ، إِذْ ليسَ فيه بيان ولا إشارةٌ بأن الناس صلَّوا خلفه عليه السلام قيامًا، حاشا أبا بَكْرٍ المسمع الناس تكبيره فقط؛ فلم تجز مخالفة يقين أمره عليه السلام بالنقل المتواتر بأن يصلي الناس جلوسًا لِظَنٍّ كاذب لا يصح أبدًا، بل لا يَحل البتة أن يظن بالصحابة رضي الله عنهم مخالفة أمره عليه السلام، كيف وفي نص لفظ الحديث دليل على أنهم لم يصلوا إلا قعودًا، وذلك لأن فيه: "أن الناس كانوا يقتدون بصلاة أبي بكر".

(3)

سبق نقله عن ابن عبد البر.

(4)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(2/ 252)، عن جابر، عن الشعبي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا". لم يروه غير جابر الجعفي، عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة.

(5)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 174)، وفيه قال:"وقد احتج محمد بن الحسن لقوله ومذهبه في هذا الباب بالحديث الذي ذكر أبو المصعب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَوُمُّ أحدٌ بعدي قاعدًا"، وهو حديثٌ لا يصحُّ عند أهل العلم بالحديث، إنما يرويه جابر الجعفي، عن الشعبي مرسلًا، وجابر الجعفي لا يُحْتج بما يَرْويه مسندًا؛ فكيف بما يَرْويه مرسلًا؟! ".

ص: 1856

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ:"مَا مَاتَ نَبِيٌّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ"

(1)

، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ إِلَّا أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ ائْتَمَّ بِأَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الإِمَامِ القَاعِدِ

(2)

، وَهَذَا ظَنٌّ لَا يَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ لَهُ النَّصُّ مَعَ ضَعْفِ الحَدِيثِ)

(3)

.

الخلاصة: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا"، فمَنْ منع الإمامة أصلًا (أي: إمامة القاعد) يتعلَّق بهذا الحديث إن ثبت عنده، ومن أجاز ذلك، وأمر الناس بالجلوس يتعلَّق بحديث أنس: صلى قاعدًا، وصلينا وراءه قعودًا.

(1)

ذَكَره ابن عبد البر، وقَدْ سبق.

وأخرَجه ابن سعد في "الطبقات"(2/ 222)، وفيه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو مريض لأبي بكر: "صَلِّ بالنَّاس"، فوجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خِفَةً، فخرج وأبو بكر يصلي بالناس، فلم يشعر حتى وضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده بين كتفيه، فنكص أبو بكر، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه؛ فصلى أبو بكر، وصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصلاته. فلما انصرف، قال:"لم يُقْبض نبيٌّ قطُّ حتى يَؤُمَّه رجل من أُمَّته"، وضعفه الأَلْبَانيُّ في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(2654).

(2)

قال أبو الوليد بن رشد: "ومنهم مَنْ ذهب إلى أن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم في صلاتين؛ فكان في الصلاة الأولى هو الإمام، وائتمَّ في الثانية بأبي بكر، فكان فعلُهُ في الصلاة الثانية ناسخًا لفعله في الصلاة الأولى، وإلى هذا ينحو آخر قول مالك في هذه الرواية على ما قلناه، فعلى هذا التأويل تخلص الآثار من التعارض، فهو أولاها بالصواب، واللَّه أعلم". انظر: "البيان والتحصيل"(1/ 299).

(3)

قال ابن عبد البر: "وأمَّا حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فمنقطعٌ لا حُجَّة فيه، وقد تَكلَّمنا على معناه في تقديم أبي بكرٍ وقول ربيعة فيه: "ما مات نبيٌّ حتى يَؤُمَّه رجلٌ من أُمَّته"، فليس فيه ما يدلُّ على أن أبا بكر المقدم؛ لأنه قد صَلَّى صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف في السفر، وقول ربيعة لا يتصل، ولا يحتج به أحدٌ له أدنى فَهْم بالحديث اليوم، وكذلك ليس في قول مَنْ قال: لعله نسخ؛ لأنه لم يفعله أبو بكرٍ، ولا مَنْ بعده ما يشتغل به". انظر: "التمهيد"(22/ 322).

وقال أيضًا: "أكثَر الآثار الصِّحاح المُسْندة في هذا الباب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان المقدم، وأن أبا بكرٍ كان يصلي بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائمًا، والناس يصلُّون بصلاة أبي بكر، وهو الَّذي أقره مالك رحمه الله في "الموطإ"، وقرئ عليه إلى أن مات". انظر: "التمهيد"(6/ 145).

ص: 1857

ومَنْ أجاز ذلك وأمَر الناس بالقيام، تعلق بصلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، وأخذ برواية مَنْ روى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان هو الإِمام، ويرى هذا لتأخُّره أولى أن يتعلَّق به؛ لأن حديث أنسٍ كان قبله، وهو كالمنسوخ بهذا.

[الفصل الخامس في صفة اتباع المأموم للإمام]

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

* قوله: (الفَصْلُ الخَامِسُ: فِي صِفَةِ الاتِّبَاعِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: فِي وَقْتِ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ لِلْمَأْمُومِ. وَالثَّانِيَةُ: فِي حُكْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ).

سيذكر المؤلف التفصيل في هاتين المسألتين، متى يُكبِّر المأموم تكبيرةَ الإحرام، والمسألة الثانية: ماذا لو رفع المأموم رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام.

* قوله: (أَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ تَكْبِيرةِ المَأْمُومِ؛ فَإِنَّ مَالِكًا اسْتَحْسَنَ أَنْ يُكَبِّرَ بَعْدَ فَرَاغِ الإِمَامِ مِنْ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، قَالَ: وَإِنْ كبَّرَ مَعَهُ أَجْزَأَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَبَّرَ قَبْلَهُ فَلَا يُجْزِئُهُ

(1)

.

(1)

انظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 213)، وفيه قال:" (و) يجب على مريد الاقتداء أن (يفتتحِ)، أَيْ: يكبر للإحرام (بعده)، أي: بعد فرَاغ الإمام، وهذا خبر بمعنى النهي، أيْ: لا يجوز للمأموم أن يُحْرم قبل الإمام، فإن افتتح المأموم الإحرام قبل إمامه، بطلت صلاته، وإن ختمه بعده، وَكَذا إن صاحبه في افتتاحه، تبطل صلاته وإن تأخر ختمه، وأما إن افتتح الإمام الإحرام قبل المأموم ولو بحرفٍ، فَلَا تبطل صلاته إن تأخر عنه في ختمه، وكذا إن صاحبه على المعتمد، وتبطل إن ختمه قبله، فالصور تِسعٌ، تبطل صلاة المأموم في سبعٍ، وتَصحُّ في صورتين، ولا فرق في صورة البطلان من وقوع ذلك عمدًا أو جهلًا أو سهوًا".

ص: 1858

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ: "يُكَبِّرُ مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِمَامِ"، فَإِنْ فَرَغَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ

(1)

، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَهُوَ الأَشْهَرُ

(2)

. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ المَأْمُومَ إِنْ كَبَّرَ قَبْلَ الإِمَامِ أَجْزَأَهُ)

(3)

.

(1)

انظر: "المبسوط"، للسرخسي (1/ 38)، وفيه قال:"ثم الأفضل عند أبي حنيفة أن يَكبِّر المقتدي مع الإمام؛ لأنه شريكه في الصلاة، وحقيقة المشاركة في المقارنة. وعندهما: الأفضل أن يُكبِّر بعد تكبيرة الإمام؛ لأنه تَبعٌ للإمام، وَظاهرُ قوله عليه الصلاة والسلام: "إذَا كَبَّر الإِمامُ فكَبِّروا"، يشهد لهذا وكذلك سائر الأفعال". وانظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 142).

(2)

انظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 222)، وفيه قال:" (إلا) في (تكبيرة الإحرام)، فتضر المقارنة فيها أو في بعضها، حتى إنه لو شك في ذلك في أثنائها أو بعدها، ولم يتذكَّر عن قرب أو ظن التأخر، فبان خلافه، لم تنعقد صلاته. ومحل ذلك: إذا نوى الاقتداء مع التكبير، كما دلَّت عليه الأخبار؛ لأنه نوَى الاقتداء بغير مُصَلٍّ، فيشترط تأخر جميع تكبيرته عن جميع تكبيرة الإمام، ويفارق ذلك بقية الأركان حيث لم تضر المقارنة فيها لبقاء نظم القدوة فيها؛ لكون الإمام في الصلاة، فلو أحرم منفردًا، ثم اقتدى في خلال صلاته، صَحَّت قدوتُهُ، كما سيأتي، وإن كانت تكبيرةُ المأموم متقدمةً على تكبيرة الإمام". وانظر: "نهاية المطلب"، للجويني (2/ 130).

(3)

صورة هذه المسألة عندهم: أن يُصلي رجل صلاة فريضة منفردًا، ثم يجد إمامًا بدأ صلاة بالناس بهذه الفريضة، فيدخل في صلاة الجماعة مع هذا الإمام، فهو قد سبق الإمام بتكبيرة الإحرام في صلاته التي ابتدأها منفردًا، ففي قولٍ للشافعي تجزئه هذه الصلاة.

قال الماورديُّ: "إذا أحرم الرجل منفردًا بفرض وقته من ظُهْرٍ أو عَصْرٍ في مسجدٍ أو غيره، ثم دخل الإمام، فأنشأ الإحرام بتلك الصلاة جماعة، فيختار لهذا المنفرد أن يتم صلاته ركعتين ويُسَلِّم، يكونان له نافلة، ويبتدئ الإحرام بتلك الصلاة خلف الإمام؛ ليؤدي فرضه في جماعةٍ، وإن قطع صلاته وابتدأ الإحرام خلف الإمام جاز، وقد بطل حكم ما ابتدأه منفردًا، وإن بنى على صلاته منفردًا، ولم يتبع الإمام جاز، وإن تبع الإمام بإحرامه المتقدم، وعلق صلاته بصلاته فقد أساء، وفي بطلان صلاته قولان:

أحدهما: قاله في (القديم) و (الإملاء): صلاته باطلة.

والقول الثاني: هو الذي نقله المزني، ويَقْتضيه مذهبه في (الجديد) لما علل به في (القديم): أنَّ صلاته جائزة". انظر: "الحاوي الكبير" (2/ 337). =

ص: 1859

ذَكَروا لهذه المسألة صورًا:

1 -

أن يُحْرم المأموم قبل الإمام، فلا يجوز.

2 -

أن يفتتح المأموم الإحرام قبل إمامه، بطلت صلاته.

3 -

أن يختم بعده: بطلت صلاته.

4 -

إنْ صَاحَبَه في افتتاحه: تبطل صلاته.

5 -

إن تأخَّر ختمُهُ.

6 -

وأمَّا إن افتتح الإمام الإحرام قبل المأموم ولو بحَرْفٍ، فلا تبطل صلاته.

7 -

إنْ تأخَّر عنه في ختمه: لا تبطل.

8 -

إن صاحبه: لا تبطل.

9 -

إن ختم قبله: تبطل.

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: أَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا"

(1)

. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ "أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَبَّرَ فِي صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَن امْكُثُوا، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ المَاءِ"

(2)

. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ تَكْبِيرَهُ وَقَعَ بَعْدَ تَكْبِيرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَكْبِيرٌ أَوَّلًا

= ومذهب الحنابلة كمذهب المالكية والشافعية.

انظر: "المغني"، لابن قدامة (1/ 335، 336)، وفيه قال:"ولا يكبر المأموم حتى يَفرغ إمامه من التكبير، لقول النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما جُعِل الإمام لِيُؤتمَّ به، فإذا كَبَّر فكبِّروا"، متفق عليه، والركوع مثل ذلك، فإنه إنَّما يركع بعده إلا أنه لا تفسد صلاته بالركوع معه؛ لأنه قَدْ دَخَل في الصلاة، وهاهنا بخلافه، فإن كَبَّر قبل إمامه لم ينعقد تكبيره، وعليه استئناف التكبير بعد تكبير الإمام".

(1)

تقدَّم تخريجه من حديث أنس.

(2)

وهو حديث أبي هريرة في "الصَّحيحَيْن"، وقد سبق.

ص: 1860

لِمَكَانِ عَدَمِ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ أيضًا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ في أَنَّ صَلَاةَ المَأْمُومِ غَيْرُ مُرْتَبِطَةٍ بِصَلَاةِ الإِمَامِ).

وَجْهُه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرَم بأصحابه، ثمَّ ذكر أنه جُنُبٌ، فقال لهم:"كُونُوا كَمَا أنتم"، ودخل واغتسل وخرج، ورأسه يَقطر ماءً، واستأنف الإحرام، وبَنى القوم على إحرَامهم، فلمَّا سبقوه بالإحرام، ولم يَأْمرهم باستئنافه، وقد خرجوا بالجنابة من إمامته، دلَّ على صحة صلاة المأموم إذا سبق الإمام ببعض صلاته، ولأنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكرٍ رضي الله عنه على الصلاة، فأحرمَ بهم، ثم وجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خِفَةً؛ فتقدم وتأخر أبو بكرٍ رضي الله عنه، وصلى الناس خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبقوه بالإحرام.

* قوله: (وَالحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْر: هَلِ اسْتَأْنَفُوا التَّكْبِيرَ أَوْ لَمْ يَسْتَأْنِفُوهُ؟ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَالأَصْلُ: هُوَ الاتِّبَاعُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الإِمَامُ؛ إِمَّا بِالتَّكْبِيرِ، وَإِمَّا بِافْتِتَاحِهِ، وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ، فَإِنَّ الجُمْهُورَ يَرَوْنَ أَنَّهُ أَسَاءَ، وَلَكِنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَتْبَعَ الإِمَامَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إلى أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ؛ لِلْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"أَمَا يَخَافُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ"؟

(1)

).

اختلَف الفُقَهاء في صلاة مَنْ سبق إمامه في الصلاة:

فَذَهبَ الأحناف إلى أن: المأموم إذا سبق إمامه بأَنْ ركع قبله أو رفع، وشاركه الإمام فيه، صَحَّت صلاتُهُ وإلا كانت باطلةً

(2)

.

(1)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم (427/ 114) عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري (691)، بلفظ:"أَمَا يَحشى أحدُكُم -أو: لا يخشى أحدكم- إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل اللَّهُ رأسه رأس حمار، أو يجعل اللَّه صورته صورة حمار".

(2)

انظر: "منحة السلوك"، للعيني (ص 157، 158)، وفيه قال: " (ويُكْره سبقه الإمام)، =

ص: 1861

ومَذْهب المالكية: أنه مَنْ رفع قبل إمامه وقد أخذ فرضه معه لا تَبطل صلاته، أما إن رفع قبل أن يأخذ فرضه معه، فإنَّ صلاتَه باطلةٌ

(1)

.

وَمَذْهَب الشافعيَّة: أنَّ مَنْ رفع رأسه قبل الإمام، فإنَّ صلاته لا تبطل؛ لأنه لا يُعَدُّ مخالفًا إمامه في ركن كامل، لكن لا يعود، فإن عاد عمدًا، بطلت صلاته

(2)

.

= أيْ: سبق المقتدي الإمام (في الأفعال) بأن يركع قبل أن يركعَ الإمام، أو يرفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمَام، لأنه مُخَالفةٌ، وهو مأمورٌ بالمُوَافقة، لقوله عليه السلام:"لا تُبَادرُونِي بالرُّكوع والسُّجود"، روَاه أبو داود، وَرَوى أبو داود أيضًا عن أبي هريرة قَالَ: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَمَا يَخْشى -أو: ألا يخشى- أحدُكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد أن يُحَوِّل اللَّهُ رأسَه رأس حمار، أو صورته صورة حمار"، وهذا فيما إذا وجدت المشاركة مع الإمام، وأما إذا لم توجد أصلًا، تَفسد صلاته". وانظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 83).

(1)

قال الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" للشَّيخ الدردير (1/ 342): "مَن رفع من الركوع أو السجود قبل الإمام؛ فتارة يكون رفعه منهما قبل أخذه فرضه منهما مع الإمام، وتارةً يكون بعده، فإن كان رفعه بعد أن أخذ فرضه، فإن صلاته صحيحة، وكذلك الركعة مطلقًا كأن انحنى في ذلك الركوع أو السجود قبل الإمام عمدًا أو جهلًا أو سهوًا أو بعد الإمام، كما هو المطلوب، وأمَّا إنْ كان رفعه قبل أن يأخذ فرضه، فالصَّلاة باطلة في ثمانية، وهي ما إذا انحنى قبل الإمام في ذلك الركوع أو السجود عمدًا أو جهلًا أو سهوًا، أو انحنى بعده ورفع في هذه الأحوال الأربعة قبله عمدًا أو جهلًا، وذلك لأنه متعمدٌ تَرْك ركن إن اعتدَّ بما فعله ولم يُعده، فإن لم يَعتد بما فعله وأعاد، فقد تَعَمَّد زيادة ركن. . . ".

(2)

قَالَ البغويُّ: "فلو أنَّ المأمومَ خالف الإمام، لا يخلو إمَّا أن خالفه بالتقدم عليه أو بالتأخر عنه، فإن خالفه بالتقدم عليه نُظِرَ، إن لم يسبقه برُكْنٍ كاملٍ لا تبطل صلاته، مثل أن كان الإمام في القيام، فركع قبله، ولم يرفع حتى ركع الإمام، أو كان الإمام في الاعتدال عن الركوع، فسجد المأموم قبله، ولم يرفع حتى سجد الإمام لا تبطل صلاته؛ لأنها مخالفة يسيرة، ثم إن ركع أو رفع قبل الإمام عمدًا، لا يجوز أن يعود، فإن عاد بطلت صلاته؛ لأنه زاد ركنًا، أما إذا سبق الإمام بركنٍ كاملٍ مقصود عمدًا، مثل أن ركع قبل الإمام، فرفع رأسه، والإمام بَعْدُ في القَيام بطلت صلاته، وكذلك لو كان الإمام في الاعتدال عن الركوع، فسجد المأموم قبله ورفع، بطلت صلاته"، انظر "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" للبغوي (2/ 271).

ص: 1862

ومذهب الحنابلة: أنها لا تبطل؛ لأنه لم يخالفه في ركن كامل، وعليه أن يعود، فإن لم يرجع بَطلت

(1)

.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

‌(الفَصْلُ السَّادِسُ فِيمَا حَمَلَهُ الإِمَامُ عَنِ المَأْمُومِينَ

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الإِمَامُ عَنِ المَأْمُومِ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ).

وَعَليه، فيكون ضمان الإمام لَه في السنن فَقَط مِنَ السَّهو وغيره؛ كالقراءة من حيث الجملة على تفصيل سيأتي، وهذا مذهب الأحناف

(2)

والمالكية

(3)

(1)

انظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 163)، وفيه قال:"ويَحرم سبقه بشيءٍ من أفعالها، فإن ركع أو سجد ونحوه قبل إمامه عمدًا حرم، ولم تبطل إن رفع ليأتي به معه ويدركه فيه، فإن لم يفعل عمدًا عالمًا بطلت صلاته، وإن فعله جهلًا أو سهوًا ثم ذكره، لم تبطل، وعليه أن يرفع ليأتي به معه، فإن لم يفعل عمدًا حتى أدركه إمامه فيه بطلت، وإن سبقه بركن فعلي بأن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالمًا عامدًا، بطلت نصًّا، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا، بطلت تلك الركعة إذا لم يأتِ بما فَاتَه مع إمامه، وإن سَبَقه بركنين بأن ركع ورفع قبل ركوعه، وَهَوَى إلى السجود قبل رفعه عَالِمًا عَامدًا، بطلت صلاته، وصَحَّت صلاة جاهلٍ وناسٍ، وبطلت الركعة".

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "العناية شرح الهداية"، للبابرتي (1/ 375)، وفيه قال:"يتحمل السهو والقراءة عن المقتدي، وتَفسد صلاة المقتدي بفساد صلاة الإمام".

(3)

وانظر في مذهب المالكية: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (2/ 813)، وفيه قال:"قال مالكٌ: وكلما سها المأموم، فالإمَام يَحمله عنه إلا اعتقاد نية الفريضة، أو تكبيرة الإحرام، أو ركعة، أو سجدة، أو السَّلام، ومَنْ سَها عن ذلك، لم يجزئه سجود السهو، ويجزئه في غير ذلك من النقصان؛ إن ذكر ذلك مكانه أو بالقرب".

ص: 1863

والشافعية

(1)

والحنابلة

(2)

.

* قوله: (مَا عَدَا القِرَاءَةَ؛ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ المَأْمُومَ يَقْرَأُ مَعَ الإِمَامِ فِيمَا أَسَرَّ فِيهِ، وَلَا يَقْرَأُ مَعَهُ فِيمَا جَهَرَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ مَعَهُ أَصْلًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيمَا أَسَرَّ أُمَّ الكِتَابِ وَغَيْرَهَا، وَفِيمَا جَهَرَ أُمَّ الكِتَابِ فَقَطْ. وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ فِي الجَهْرِ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَ قِرَاءَةَ الإِمَامِ أَوْ لَا يَسْمَعَ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ، وَنَهَاهُ عَنْهَا إِذَا سَمِعَ، وَبِالأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ لَهُ القِرَاءَةَ فِيمَا أَسَرَّ فِيهِ الإِمامُ

(3)

).

(1)

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 228)، وفيه قال:"قال الشافعي رضي الله عنه: "ومَنْ سها خلف إمامه فلا سجود عليه". قال الماوردي: وهذا صحيح، وإنما سقط حكم سهوه خلف إمامه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة ضمناء"، يريد -واللَّه أعلم- ضمناء السهو؛ ولما روي أن معاوية بن الحكم شَمَّت عاطسًا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته نهاه عن ذلك، ولم يأمره بسجود السهو، لأنه ضامنٌ لسهوه، ولأن سجود السهو مسنون، والإمام قد يتحمل عن المأموم المسنون".

(2)

وانظر في مذهب الحنابلة: "نيل المآرب بشرح دليل الطالب"، للشيباني (1/ 172، 173)، وفيه قال:" (ويتحمل الإِمام عن المأموم) ثمانية أشياء، الأول: (القراءة) للفاتحة. (و) الثاني: (سجود السهو) إذا كان دَخل معه في الركعة الأولى. (و) الثالث: (سجود التلاوة) إذا أتى بها المأموم في الصلاة خلفه. (و) الرابع: (السُّتْرَة) قُدَّامَه؛ لأنَّ سترةَ الإِمام سترةٌ لمن خَلْفَه. (و) الخامس: (دعاء القنوت)، فإنَّ المأمومَ لا يُسَنَّ له عند قنوتِ إمامِهِ غيرُ التأمين. (و) السادس: (التشهد الأوَّل إذا سُبِقَ) المأموم (بركعة في) صلاةٍ (رُبَاعِيَّة) فقط. والسابع: سجود التلاوة في الصلاة السِّريَّة إذا قرأ الإِمام سرًّا ويسجد؛ لأنَّ المأموم يُخَير بين السجود وعدمه. والثامن: قول: "سمع اللَّه لمَنْ حَمدَه"، وقول: "ملء السماء. . . "، إلى آخره".

(3)

انظر: "التاج والإكليل"، للمواق (2/ 238)، وفيه قال:" (وإنصات مقتد) لو قال: وإنصات مقتد فيما جهر فيه الإمام ولو لم يسمع قراءة الإمام؛ لكان أبين. عياض: من وظائف المأموم ألا يقرأ وراء الإمام فيما جهر فيه، ويقرأ سرًّا فيما أَسَرَّ فيه، وقد تقدم قول ابن عرفة: ولو لم يسمع قراءة الإمام".

ص: 1864

فمَذْهب مَالِكٍ أن المأمومَ يقرأ مع الإمام في السِّريَّة، ولا يقرأ في الجهريَّة.

* قَوْله: (وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ)

(1)

.

أنَّ المأموم لا قراءة عليه مع الإمام مُطلقًا.

* قوله: (وَبِالثَّالِثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

).

(1)

انظر: "الاختيار لتعليل المختار"، لابن مودود الموصلي (1/ 50)، وفيه قال:" (وإن كان مأمومًا لا يقرأ)؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، قال ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما وجماعة من المُفسِّرين: "نزلت في الصلاة خاصةً حين كانوا يَقْرؤون خلفه عليه الصلاة والسلام، وعن أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به؛ فإذا قرأ فأَنْصتوا"، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كان مأمومًا، فقراءة الإمام له قراءةٌ"، وَرَوى الشعبيُّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لا قراءة خَلْف الإمام".

(2)

أي: قالوا بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة؛ سريةً كانت أو جهريةً، ولا تُقْرأ سورة في الجهرية.

انظر في وجوب قراءة الفاتحة: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (3/ 364)، حيث قال:"قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمنفرد في كل ركعة، وعلى المسبوق فيما يُدْركه مع الإمام بلا خلاف: وأما المأموم فالمذهب الصحيح وجوبها عليه في كل ركعةٍ في الصلاة السرية والجهرية. وقال الشَّافعيُّ في (القديم): "لا تجب عليه في الجهر"، ونقله الشيخ أبو حامد في تعليقه عن (القديم) و (الإملاء)، ومعلوم أن (الإملاء) من (الجديد)، ونقله البندنيجي عن (القديم) و (الإملاء)، وباب صلاة الجمعة من (الجديد)، وإذا قلنا: لا تجب عليه في الجهرية، فالمُرَاد بالتي يُشرع فيها الجهر، فأما ثالثة المغرب والعشاء ورابعة العشاء، فتجب عليه القراءة فيها بلا خلاف".

أما عدم قراءة السورة في الجهرية، فقال زكريا الأنصاري:" (ثم) بعد التأمين سن أن (يقرأ غيره)، أي: غير المأموم من إمام ومنفرد (سورة) غير الفاتحة (في) ركعتين (أُولَيين)؛ جهريةً كانت الصلاة أو سرية؛ للاتباع، رَوَاه الشيخان في الظهر والعصر، وَقِيسَ بهما غيرهما، (لا هو)، أي: المأموم، فلا تُسَن له سورة إن سَمع؛ للنهي عن قراءةٍ لها، رواه أبو داود وغيره، (بل يستمع) قراءة إمامه؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} ". انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب"(1/ 48).

ص: 1865

فيقرأ المأموم في السِّريَّة بالفاتحة وغيرها من القرآن، ويقرأ في الجهريَّة بالفاتحة فقط.

* قَوْلُه: (وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَ أَوْ لَا يَسْمَعَ هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ)

(1)

.

مَذْهَب الحَنابلة: أنه يسنُّ للمأموم أن يقرأ الفاتحة في السريَّة، وكَذَا في الجهرية في سكَتات الإمام، وكَذلك إذا كان لا يَسمع الإمام لِبُعْدِهِ.

* قَوْلُه: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الأَحَادِيثِ فِي هَذَا البَابِ، وَبِنَاءُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ؛ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ"

(2)

، وَمَا وَرَدَ مِنَ الَأحَادِيثِ فِي هَذَا المَعْنَى، مِمَّا قد ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ (وُجُوبِ القِرَاءَةِ). وَالثَّانِي: مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالقِرَاءَةِ، فَقَالَ:"هَلْ قَرَأَ مَعِي مِنْكُمْ أَحَدٌ آنِفًا؟ "، فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:"إِنِّي أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ القُرْآنَ! "، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ القِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 463، 464)، وفيه قال:" (وتُسَن قراءته)، أي: المأموم (الفاتحة في سكتات الإمام، ولو) كان سكوته (لتنفس)، نقله ابن هانئ، (ولا يضر تفريقها)، أي: الفاتحة. (و) تُسَن قراءته (فيما لا يجهر) الإمام (فيه). (أو لا يسمعه)، أي: يُسَن للمأموم أن يقرأ إذا كان لا يسمع الإمام؛ (لبُعْده)؛ لأنه غير سامع لقراءته أشبه حال سكتاته والصلاة السرية، (فَإِنْ لم يكن للإمام سكتات يتمكن) المأموم (فيها من القراءة، كره له أن يقرأ نصًّا)؛ لما تقدم. (و) يقرأ المأموم ندبًا (مع الفاتحة سورة في أُولَتَيْ ظهر وعصر)، (فإن سمع) المأموم (قراءة الإمام كرهت له القراءة) للفاتحة والسورة، (فلو سمع) المأموم (هَمهمته، ولم يفهم ما يقول) الإمام (لم يقرأ)؛ لأنه سامع لقراءة إمامه".

(2)

أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394/ 34)، عن عُبَادة بْن الصَّامت أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا صَلاةَ لمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب".

(3)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 86)، وكذا أخرجه أبو داود (826)، وغيره، وصححه الأَلْبَانيُّ في "مشكاة المصابيح"(855).

ص: 1866

وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الغَدَاةِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ القِرَاءَةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ:"إِنِّي لَأَرَاكُمْ تَقْرَؤونَ وَرَاءَ الإِمَامِ". قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: "فَلَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِأُمِّ القُرْآنِ"

(1)

. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ، وَغَيْرِهِ مُتَّصِلُ السَّنَدِ صَحِيحٌ

(2)

. وَالحَدِيثُ الرَّابعُ: حَدِيثُ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"مَنْ كانَ لَهُ إِمَامٌ، فَقِرَاءَتُهُ لَهُ قِرَاءَةٌ"

(3)

. وَفِي هَذَا أيضًا حَدِيثٌ خَامِسٌ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"إِذَا قَرَأَ الإِمَامُ فَأَنْصِتُوا"

(4)

، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَجْهِ جَمْعِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَثْنَى مِنَ النَّهْيِ

(1)

أقرب لفظٍ لما ذكره المؤلف: هو ما أخرَجه أحمد في "مسنده"(22694)، عن عُبَادة بن الصامت، قال:"صلى في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إنِّي لأراكم تقرؤون وراء إمامكم". قلنا: نعم، واللَّه يا رسول اللَّه، إنا لنفعل هذا. قال: "فلا تفعلوا إلا بأُمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة لمَنْ لم يقرأ بها""، وحسنه الأرناؤوط.

وبنحوه أخرجه أبو داود (824)، وغيره، وضعفه الأَلْبَانيُّ في:"ضعيف أبي داود - الأم"(147).

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 468)، وفيه قال:"حديث عبادة من رواية مكحول وغيره متصلٌ مُسْندٌ من رواية الثقات".

(3)

أخرجه ابن ماجه (850) وغيره، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(500).

(4)

أخرجه أحمد في "مسنده"(19723)، عن أبي موسى قال:"عَلَّمنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قمتم إلى الصَّلاة فليؤمكم أحدكم، وإذا قرأ الإمام فأنصتوا"، وصححه الأرناؤوط. وأخرج مسلم (404/ 63)، واقتصر فيه على لفظة: "وإذا قرأ فأنصتوا". ونقل تصحيح أحمدَ ابنُ عبد البر، فقال: "قال أبو بكرٍ الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: مَنْ يقول عن النبي عليه السلام من وجه صحيح: "إذا قرأ فأنصتوا"، فقال: حديث ابن عجلان الذي يَرْويه أبو خالد الأحمر، والحديث الذي رَوَاه جرير عن التيمي، وقد زعموا أن المعتمر رواه. قلت: نعم، قد رواه المعتمر. قال: فأي شيء تريده؟! فقد صحح أحمدُ هذين الحديثين". انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 466).

ص: 1867

عَنِ القِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الإِمَامُ قِرَاءَةَ أُمِّ القُرْآنِ فَقَطْ عَلَى حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ

(1)

، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" المَأْمُومَ فَقَطْ فِي صَلَاةِ الجَهْرِ؛ لِمَكَانِ النَّهْيِ الوَارِدِ عَنِ القِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الإِمَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]، قَالُوا: وَهَذَا إِنَّمَا وَرَدَ فِي الصَّلَاةِ

(2)

، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى القِرَاءَةَ الوَاجِبةَ عَلَى المُصَلِّي للْمَأْمُومِ فَقَطْ؛ سِرًّا كَانَتِ الصَّلَاةُ أَوْ جَهْرًا، وَجَعَلَ الوُجُوبَ الوَارِدَ فِي القِرَاءَةِ فِي حَقِّ الإِمَامِ وَالمُنْفَرِدِ فَقَطْ مَصِيرًا إلى حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَصَارَ عِنْدَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"وَاقْرَأْ مَا تيَسَّرَ مَعَكَ فَقَطْ").

وهُوَ حديثُ المسيء صلاته، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلى، فَسَلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرَدَّ، وقال:"ارجع فَصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ"، فرجع يُصلِّي كما صلَّى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ارْجعْ فَصَلِّ؛ فإنَّك لم تصلِّ"، ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق، ما أُحْسن غيره، فعَلِّمني، فقال:"إذا قمتَ إلى الصَّلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها"

(3)

.

(1)

وهو مذهب الحنابلة بأن يقرأها بين سَكتات الإمام، وكذا هو الصَّحيح من مذهب الشافعية، كما سبق.

(2)

وهم المالكية، كما سبق.

(3)

أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397/ 45).

ص: 1868

* قَوْلُه: (لِأَنَّهُ لَا يَرَى وُجُوبَ قِرَاءَةِ أُمِّ القُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَرَى وُجُوبَ القِرَاءَةِ مُطْلَقًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ

(1)

).

مَذْهب أبي حَنيفَة: أنَّ المأمومَ لا قرَاءة عليه مع الإمام مُطلقًا، كَمَا سبق.

* قَوْله: (وَحَدِيثُ جَابِرٍ لَمْ يَرْوِهِ مَرْفُوعًا إِلَّا جَابِرٌ الجُعْفِيُّ، وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: "وَهُوَ حَدِيثٌ لَا يَصحُّ إِلَّا مَرْفُوعًا

(2)

عَنْ جَابِرٍ").

قَالُوا: لَا يَصحُّ؛ لأنَّ فيه جَابرًا الجعفي، وقد ضُعِّفَ لسُوءِ مَذْهبه

(3)

.

(1)

انظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 111)، وفيه قال:"وأمَّا الحديث فعندنا: "لا صلَاة بدون قراءة" أصلًا، وصلاة المقتدي ليست بِصَلَاةٍ بدون قراءة أصلًا، بَلْ هي صلاةٌ بقراءة، وهي قراءة الإمام، على أن قراءة الإمام قراءة للمقتدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كان له إمَامٌ، فقراءة الإمام له قراءة"، ثم المفروض هو أصل القراءة عندنا من غير تَعْيين، فأما قرأءة الفاتحة والسورة عينًا في الأُولَيين فليست بفريضة، ولكنها واجبة على ما يذكر في بيان واجبات الصلاة".

(2)

لعل هذا تصحيف، والصوأب أن يقول: موقوفًا على جابر.

(3)

انظر: "الاستذكار"(1/ 469)، وفيه قال:"قوله: "مَنْ كان له إمام، فقراءتُهُ له قراءة"، هذا الحديث رواه جابر الجعفي، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام، وجابر الجعفي لا حجة فيما ينفرد به عند جَمَاعة أهل العلم لسوء مَذهبه، وكان الثوري وشعبة يُثْنيان عليه بالحفظ، وأما ابن عُيَينة، فكان يَحمل عليه. وروى يحيى بن سلام، عن مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر، عن النبي عليه السلام أنه قال: "كلُّ رَكْعةٍ لا يُقْرأ فيها بأُمِّ القرآن، فلم تُصلِّ إلا وراء إمام"، وهو حَديثٌ لا يصحُّ إلا موقوفًا على جابر".

ص: 1869

(الفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الأَشْيَاءِ الَّتِي إِذَا فَسَدَتْ لَهَا صَلَاةُ الإِمَامِ، يَتَعَدَّى الفَسَادُ إلى المَأْمُومِينَ)

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطَعَ: أَنَّ صَلَاةَ المَأْمُومِينَ لَيْسَتْ تَفْسُدُ).

لا تفسد صلاة المأمومين بحَدَث الإمام لو قطع الصلاة عند الأحناف

(1)

والمالكية

(2)

والشافعية

(3)

، وللحنابلة روَايتَان

(4)

.

* قَوْله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا صَلَّى بِهِمْ وَهُوَ جُنُبٌ، وَعَلِمُوا بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: صَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ، وَفَرَّقَ

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 122)، وفيه قَالَ:"ولو أحدَث الإمام بَعْدما دخل في الصلاة، فتقدم رجلٌ وأتمَّ الصلاة بالقوم، أجزأهم بمنزلة ما لو قَدَّمه الإمام".

(2)

وانظر في مذهب المالكية: "الجواهر الثمينة"، لابن شاس (1/ 145)، وفيه قال:"ولو أحدثَ الإمام من غير تَعمُّدٍ لم تَبطل صلاة المأموم إلا أن يتمادى على الإمامة بعد الحدث".

(3)

وانظر في مذهب الشافعية: "التعليقة"، للقاضي حسين (2/ 831)، وفيه قال:"وإذا أحدث الإمام لم يبطل صلاة مَنْ خلفه عندنا". وانظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 49).

(4)

وفي مذهب الحنابلة روايتان، الأشهر: أن صلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة إمامه. انظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 109)، وفيه قال:"وتبطل صلاة مأموم ببطلان صلاة إمامه لا عكسه، سواء كان لعذرٍ" كأن سَبَقه الحدث، أو لغير عذرٍ كأن تعمد الحدث أو غيره من المُبْطلات، فلا استخلاف للمأموم، ولا يَبْني على صلاة إمامه. وعنه: لا تبطل صلاة مأمومٍ، ويتمونها جماعةً بغيره أو فُرَادى، اختاره جماعة". وانظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 181).

ص: 1870

قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الإِمَامُ عَالِمًا بِجَنَابَتِهِ، أَوْ نَاسِيًا لَهَا، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ عَالِمًا، فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمْ، وَبِالأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

، وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

، وَبِالثَّالِثِ قَالَ مَالِكٌ

(3)

).

قَالَ بَعْضهم: الصَّلاةُ صحيحةٌ على كُلِّ حالٍ؛ لأنه لا علاقة ولا ارتباط بين صلاة الإمام والمأموم في هذا الشأن.

وقال آخرون: بل هناك علاقة، والصلاة فاسدة.

(1)

انظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 238)، وفيه قال:"قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: وإذا صلى الجنب بقوم، أعاد ولم يعيدوا، واحتج في ذلك بعمر بن الخطاب والعباس. قال المزني: "يقول: كما لا يجزئ عني فعل إمامي، فكذلك لا يَفسد عليَّ فساد إمامي". قال الماوردي وصورتها: في إمامٍ صلى بقومٍ، ثم علم بعد فراغه من الصلاة أنه جنبٌ، فَعَليه الإعادة وحده، فأما المأمومون فلا إعادة عليهم إذا لم يعلموا بحاله قبل صلاتهم".

(2)

انظر: "التجريد"، للقدوري (2/ 721، 723)، وفيه قال:"قال أصحابنا: إذا صلَّى خلف جنب وهو لا يَعْلم، لم تصحَّ صلاته. لنا: أن كل ما لا يصح الاقتداء به مع العلم، لا يصح مع الجهل؛ كالكافر والمرأة، ولأن كل طهارة كانت شرطًا في صحة الصلاة، أستوى العلم والجهل بها؛ كطهارة نفسه، ولأن عدم طهارة الإمام أجريت مجرى عدم طهارة المأموم بدلالة أنه إن عَلِمَ بذلك، لم تَجز صلاته، فإذا استوى في طهارة نفسه العلم والجهل، كذلك طهارة إمامه".

وهذه المسألة مبينة على أن صلاة المؤتم متعلقة بصلاة الإمام، والدليل على ذلك: قوله عليه السلام: "إنَّما جُعِلَ الإمام ليؤتمَّ به، فإذا كَبَّر فكَبِّروا"، والأمر بالائتمام يقتضي تعلُّق إحدى الصلاتين بالأخرى، ولا يجوز أن يكون المراد به الاقتداء في الأفعال؛ لأن هذا قد بَيَّنه بقوله:"فإذا ركع فاركعوا"، فلم يجز حَمْل اللفظ على التكرار".

(3)

انظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 199، 200)، وفيه قال:"وإذا ذكر الإمام بعد فراغه من الصلاة أنه جنبٌ، أعاد الصلاة وحده، وصورة مَنْ خلفه تامة، وإن ذكر ذلك قبل تمام صلاته استخلف، فإن تمادى بعد ذكره جاهلًا أو مستحييًا، أو دخل عليه ما يفسد صلاته، ثم تمادى، أو ابتدأ بهم الصلاة ذاكرًا لجنابته، فقد أفسد على نفسه وعليهم، وتلزم مَنْ خلفه الإعادة متى علموا، ومن علم بجنابته ممن خلفه والإمام ناسٍ لجنابته، فتمادى معه، فصلاته فاسدة، ويعيدها أبدًا".

ص: 1871

وفرَّق مالكٌ بين العلم بالجنابة والجهل بها؛ فلو علم تبطل الصلاة، ولو جهل لا تبطل.

وَهنا قَدْ علَّق مَالكٌ رحمه الله الحكمَ في المسألة على أمرٍ خارج عن المسألة التي معنا.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ صِحَّةُ انْعِقَادِ صَلَاةِ المَأْمُومِ مُرْتَبِطَةٌ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الإِمَامِ أَمْ لَيْسَتْ مُرْتَبِطَةً؟ فَمَنْ لَمْ يَرَهَا مُرْتَبِطَةً قَالَ: صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ

(1)

. وَمَنْ رَآهَا مُرْتَبِطَةً، قَالَ: صَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ

(2)

، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّهْوِ وَالعَمْدِ قَصَدَ إلى ظَاهِرِ الأَثَرِ المُتَقَدِّمِ، وَهُوَ:"أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَبَّرَ فِي صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ امْكُثُوا، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ وَعَلَى جِسْمِهِ أَثَرُ المَاءِ"

(3)

، فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا أَنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ

(4)

. وَالشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مُرْتَبِطَةً،

(1)

قال الماوردي: "ودليلنا: ما رواه أبو هريرة: "أنَّ رسول اللَّه كَبَّر في صلاةٍ من الصلوات، وذكر أنه جنبٌ، فقال للقوم: امكثوا، ثم رجع واغتسل، وجاء رأسه يقطر ماءً"، فوجه الاستدلال فيهما من وجهين:

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أُقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني".

والثاني: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أشار إليهم بالوقوف، ولو كان ذلك قبل إحرامهم لأمرهم بالقعود؛ فدل أمره صلى الله عليه وسلم بالوقوف على تقديم إحرامهم.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإمام: "إن أتمَّ فله ولكم، وإن أساء فعليه دونكم"، فكان على عمومه في كل حال. وروى كثير بن الصلت، عن عمر:"أنَّه صلى الصبح جنبًا، فأعاد الصلاة وحده، ولم يعيدوا، بل هَمَّ بعضهم بالإعادة فمنعه"، وروي نحوه عن عثمان، وليس لهما في الصحابة مخالف؛ فدل على أنه إجماع". انظر:"الحاوي الكبير"(2/ 238، 239).

(2)

انظر: سبق نقل تعليل قول الأحناف في كلام القدوري.

(3)

وهو حديث أبي هريرة في "الصَّحيحَين"، وقد تقدم تخريجه.

(4)

انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 279، 280)، وفيه قال:"فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطأ والنِّسيان"، وروي أن =

ص: 1872

لَلَزِمَ أَنْ يَبْدَأ بِالصَّلَاةِ مَرَّةً ثَانِيَةً

(1)

).

قَدْ تتعجَّب وتقول: لماذا يختلف الفقهاء في مثل هذا، أليست الطهارة من الجنابة شرطًا من شروط صحة الصلاة؟

والجواب: أنَّ الخلافَ قائمٌ على أصل مسألتنا: هل صحة صلاة المأموم مرتبطة في كُلِّ الصور بصلاة الإمام؟ أم هناك صورٌ لا يَرْتبط فيها المأموم بالإمام.

= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كبَّر في صلاةٍ من الصلوات، ثمَّ أشار بيده أن امكثوا، ثم رجع وعلى جلده أثر الماء. وفي حَدِيثٍ آخَر:"إنَّما أنا بَشرٌ، وإنِّي كنت جنبًا وأُنْسيت"، ولأن بطلان طهارة الإمام على غير وجه العمد لا تُوجب بطلان صلاة المأموم إذا لم يتابعه مع العلم، ولا ينسب إلى تفريط، أصله مَنْ سبقه الحدث، ولا يلزم عليه إذا تعمد بهم؛ لأنَّ بطلانَ صلاتهم هناك لفسقه، ولأنه فسادٌ اتصل بحكم الصلاة من جهة الإمام في طهارته عن غير قصدٍ منه، فلم يتعد إلى صلاة المأموم".

(1)

قال العمراني في حديث أبي بكرة السابق: "فلم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وإنما أومَأَ إليهم؛ لأن الكلام إلى المُصلِّي يكره". انظر: "البيان"(2/ 401).

وذكر السمعاني في الرد على الأحناف ما يدل على عدم تعلق صلاة المأموم بالإمام، فقال:"وأمَّا الدليل على عدم التعلُّق: أن الوارد في الشرع هو فعل الجماعة، وفِعْلُ الجَماعة يوجب الاجتماع على أداء الصلاة، واقتداء المؤتم يوجب متابعة الإمام في الأفعال الظاهرة، فإذا اجتمع القوم على فِعْلِ الصلاة، ووجدت المتابعة من المؤتم في الأفعال الظاهرة، فقد تمت الجماعة، ثم الاقتداء والاتباع فعل كل واحد من القوم فيما وراء هذا، كمنفرد بالصلاة، فيؤدي على حسب ما يختاره وما ينوبه، وهو مثل الإمام، فإنه مَتْبوعٌ في الأفعال الظاهرة، فإذا تَمَّت المتبوعية بوجود صورة الأفعال منه على ما تَبعَه فيها المقتدي به، كان فيما وراء ذلك بمنزلة منفرد بالصلاة يؤدي صلاةً على حسب اختياره ونيَّته، كَذَلك هاهنا". انظر: "الاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة"(1/ 285).

ص: 1873

(البَابُ الثَّالِثُ: مِنَ الجُمْلة الثَّالِثَةِ)

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (وَالكَلَامُ المُحِيطُ بِقَوَاعِدِ هَذَا البَابِ مُنْحَصِرٌ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ).

هذا الباب هو صلاة الجمعة؛ والجمعة شأنها عظيم، فاللَّه سبحانه وتعالى قد ذكر يوم الجمعة في كتابه الكريم، وهناك سورة في القرآن تعرف بسورة الجمعة، واللَّه تعالى يقول فيها:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وكذلك نجد أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ فضلَ هذا اليوم وما فيه من المزايا والخصائص الشيء الكثير؛ كقوله في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه":"خيرُ يَوم طلعت عليه الشمسُ يوم الجمعة: فيه خُلِق آدمُ، وفيه أُدخل الجَنَّة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلَّا يوم الجُمعة"

(1)

. وثبت -أيضًا- في الحديث الصحيح؛ أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قال: "فيه ساعة لا يُوافقها عبد مُسلم، وهو قائمٌ يُصَلِّي، إلَّا أعطاه اللَّهُ تعالى مسألتَه"

(2)

. أي: حقق له سُؤله.

وقد اختلف العلماءُ في تحقيق وقتها على أحد عشر قولًا

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (854/ 18)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرج البخاري (935)، ومسلم (13/ 852)، عن أبي هريرة:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: "فيه ساعة، لا يُوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي، يسأل اللَّه تعالى شيئًا، إلا أعطاه إيَّاه"، وأشار بيده يُقللها".

(3)

ذكر هذا ابن القيم، فقال:"والذين قالوا بتعيينها اختلفوا على أحد عشر قولًا". انظر: "زاد المعاد"(1/ 376).

وذكر ابن بطال بعض هذه الأقوال، فقال: "اختلف السلف في هذه الساعة، فروي عن أبي هريرة قال: هي مِن بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. وقال الحسن وأبو العالية: هي عند زوال الشمس، وقال =

ص: 1874

وحثَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم على الرَّواح في يوم الجمعة، وأنَّ من بكَّر إليها فله مَزيد فَضل

(1)

.

إذًا يوم الجمعة يوم عظيم؛ لذلك جاء في الأثر أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ هذا يومًا جعله اللَّهُ عيدًا"

(2)

. وجاء في حديث آخر أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قال: "في يومِكم هذا عيدان: يوم الجمعة، والعيد الذي صادف ذلك"

(3)

، من هذا نتبين أنَّ يومَ الجمعة يومٌ عظيم.

والجمعة -كما هو معلوم- وقع فيها خلاف بين العلماء: هل هي أصل بذاتها، أم هي بدل من الظهر؟ أو الظهر بدل عنها؟ ما حكم الجمعة؟

(4)

.

= أبو ذر: هي ما بين أن تزيغ الشمس بشبر إلى ذراع، وقالت عائشة: هي إذا أذن المؤذن بالصلاة، وقال ابن عمر: هي الساعة التي اختار اللَّه فيها الصلاة. . . ". انظر: "شرح صحيح البخاري" (2/ 520، 521). وانظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 38 - 40).

وقال الحافظ ابن حَجَرت "واستوعبتُ الخلاف الوارد في الساعة المذكورة، فزاد على الأربعين قولًا". انظر: "فتح الباري"(11/ 199).

(1)

من ذلك ما أخرجه البخاري (881)، ومسلم (10/ 850)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مَن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قَرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يَستمعون الذِّكْرَ".

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 345)، وغيره، عن ابن السباق:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في جُمعة من الجمع: "يا مَعشر المسلمين، إنَّ هذا يوم جعله اللَّه عيدًا للمسلمين، فاغتسلوا، ومن كان عنده طِيب، فلا يضره أن يَمس منه، وعليكم بالسواك". وقال:"هذا هو الصَّحيح مرسل، وقد روي موصولًا، ولا يصح وصلُه"، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1398).

(3)

أخرج أبو داود (1073)، وغيره، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"قد اجتمع في يومكم هذا عِيدان؛ فمَن شاء أجزأه من الجمعة، وإنَّا مُجمعون"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(984).

(4)

في مذهب المالكية، والجديد من مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة: أن صلاة =

ص: 1875

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الجمعة أصل مستقل، وليست بدلًا عن الظهر، بل الظهر بدل منها. وذهب الأحناف إلى أن الظُّهر هو الأصل والجمعة بدل عنه.

انظر في مذهب الأحناف: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 143، 144)، وفيه قال: "قال: (ومَن صَلَّى في بيته يوم الجمعة الظهر أجزأه، ما لم يخرج بعد ذلك يريد الجمعة)، وذلك لأن فرض الوقت عند أبي حنيفة وأبي يوسف هو الظُّهر، والجمعة بدل منها.

والدليل على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأول وقت الظهر حتى نزول الشمس"، ولم يفرق بين الجمعة وغيره.

وأيضًا: قد اتفقوا على أنه لو لم يُصل الإمام الجمعة حتى خرج الوقت - صلى الظهر فائتة؛ فدل على أنها لزمت في الوقت قبل فوات الجمعة، إلا أن فرض الوقت -وإن كان هو الظهر- فإن عليه إسقاطه بفعل الجمعة.

وقال محمد: فرض الوقت هو الجمعة؛ لأن عليه إتيانها، وترك الظهر لها، ولو كان فرض الوقت هو الظهر، ما كان عاصيًا بفعلها وتخلفه عن الجمعة". وانظر:"البحر الرائق"، لابن نجيم (1/ 167).

وانظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 257)، وفيه قال:"وصلاة الجمعة -كما قال ابن عرفة-: ركعتان يمنعان وجوب الظهر على رأي، ويسقطانها على آخر، فقوله: يمنعان وجوب الظهر، أي: على أنها فرض يومها، والظهر بدل منها، وهذا هو المعتمد. وقوله: ويسقطانها على آخر، أي: بناءً على أنها بدل من الظهر، وهو شاذ، إذ لو كانت بدلًا ما صح فعلها مع إمكانه، ولذلك قال القرافي: والمذهب أنها واجب مستقل. وجمع الفاكهاني بين القولين؛ ليزول الإشكال الحاصل من فعلها مع التمكن من الظهر على القول بالبدلية، فقال: والحق أنها بدل المشروعية، والظهر بدل منها في الفعل، ومعنى كونها بدلًا في المشروعية: أن الظهر شرعت في ابتداء، ثم شرعت الجمعة بدلًا منها، ومعنى كونها بدلًا في الفعل: أنها إذا تعذر فعلها أجزأت عنها الظهر".

وانظر في مذهب الشافعية: "المهذب"، للشيرازي (1/ 207)، وفيه قال: "وأما من تجب عليه الجمعة فلا يجوز أن يصلي الظهر قبل فوات الجمعة، فإنه مخاطب بالسعي إلى الجمعة، فإن صلى الظهر قبل صلاة الإمام؛ ففيه قولان: قال في (القديم): يجزئه؛ لأن الفرض هو الظهر؛ لأنه لو كان الفرض هو الجمعة لوجب قضاؤها كسائر الصلوات. وقال في (الجديد): لا يجزئه، ويلزمه إعادتها، وهو الصحيح؛ لأن الفرض هو الجمعة؛ لأنه لو كان الفرض هو الظهر والجمعة بدل عنه =

ص: 1876

نحن نجد أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى أشار إليها في الكتاب، ونجد أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم حَثَّ عليها، وحذر من التخلف عنها، فقال عليه الصلاة والسلام: "لينتهين أقوامٌ عن وَدْعِهم الجمعات -يعني: عن تركهم الجمعات

(1)

- أو ليختمن اللَّه على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"

(2)

، ويا شقاوة مَن طبع اللَّه سبحانه وتعالى على قلبه.

إذًا جماهير العلماء؛ وفيهم الأئمة الأربعة يَذهبون إلى أنَّ صلاة الجمعة فرض عين

(3)

.

= لما أَثِم بترك الجمعة إلى الظهر، كما لا يأثم بترك الصوم إلى العتق في الكفارة". وانظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 297).

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 308، 309)، وفيه قال:"وهي (أفضل من الظهر) بلا نزاع، قاله في "الإنصاف"، (و) هي (مستقلة) ليست بدلًا عن الظهر؛ لجوازها قبل الزوال، ولعدم جواز زيادتها على ركعتين (فلا تنعقد) الجمعة (بنية الظهر ممن لا تجب عليه؛ كعبدٍ ومسافر)؛ لحديث: "وإنَّما لكل امرئ ما نوى"، (ولا لمن قلدها)، أي: قلده الإمام إمامة الجمعة (أن يؤم في) الصلوات (الخمس)، وكذا من قلد الخمس، ليس له أن يؤم فيها". وانظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 203).

(1)

قال ابن الأثير: "أي: عن تركهم إياها، والتخلف عنها. يقال: وح الشيء يدعه ودعًا، إذا تركه". انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"(5/ 166).

(2)

أخرجه مسلم (865/ 40) عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما.

(3)

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 89)، وفيه قال:"الصلاة في الأصل أربعة أنواع: فرض، وواجب، وسُنَّة، ونافلة، والفرض نوعان: فرض عين، وفرض كفاية، وفرض العين نوعان: أحدهما: الصلوات المعهودة في كل يوم وليلة، والثاني: صلاة الجمعة".

وانظر في مذهب المالكية: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 46)، وفيه قال:"لا خلاف في المذهب: أنها فرض عين، ولم يصح غيره". وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 73).

وانظر في مذهب الشافعية: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 245)، وفيه قال:"الجماعة في صلاة الجمعة فرض عين، وفي سائر الصلوات ليست بفرض عين". وانظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 247).

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 189، 190)، وفيه قال: "وهي =

ص: 1877

وما نقل عن بعض العلماء أنَّها فرض كفاية لم يصح ذلك عنه، ولم يفهم قوله مما أشار إليه عندما وازن بينها وبين صلاة العيدين، ومن هنا نجد أنَّ عددًا من العلماء الذين يُعتد بأقوالهم في حكاية الإجماع ونقله، قد حكوا إجماع العلماء على أنَّ صلاة الجمعة فرض عين، وممن حكى الإجماع وهو معروف في نقله وحكايته الإمام ابن المنذر من الشافعية

(1)

، وابن العربي من المالكية

(2)

، وكذلك ابن قدامة هؤلاء الثلاثة حكوا إجماع العلماء

(3)

.

إذًا ما الدليل على وجوب الجمعة؟

الدليل على وجوبها: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

والكتاب دليله: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} .

وأمَّا من السنة: فعِدَّةُ أحاديث في مقدمتها قوله عليه الصلاة والسلام: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن اللَّه على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"

(4)

، وفي حديث آخر:"مَن ترك ثلاث جمع تهاونًا طَبع اللَّه على قلبه"

(5)

.

= فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل ذَكر حُر مستوطن ببناء، يشمله اسم واحد ولو تفرق يسيرًا، فإن كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة لزمته، ولو كان بينه وبين موضعها فراسخ، ولو لم يسمع النداء".

(1)

انظر: "الإجماع"، لابن المنذر (ص: 40)، وفيه قال:"وأجمعوا على أن الجمعة واجبة على الأحرار البالغين المقيمين الذي لا عُذر لهم".

(2)

قال ابن العربي: "الجمعة فرض، لا خلاف في ذلك؛ لأنها قرآنية سنية، وهي ظهر اليوم، أو بدل منه على ما بيَّناه في كتب الفقه، ولا يلتفت إلى ما يحكى في ذلك، لا سيما ما يؤثر عن سحنون أنه قال: إن بعض الناس قال: يجوز أن يتخلف العروس عنها؛ فإن العروس عندنا لا يجوز له أن يتخلف من صلاة الجماعة لأجل العرس، فكيف عن صلاة الجمعة". انظر: "أحكام القرآن"(4/ 246). وانظر: "القبس في شرح الموطأ" له (ص: 262، 263).

(3)

قال ابن قدامة: "وأجمع المسلمون على وجوب الجمعة". انظر: "المغني"(2/ 218).

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه أبو داود (1052)، وغيره، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1371).

ص: 1878

وأمَّا الإجماع: فقد ذكرنا قبل قليل الأئمة الذين حكوا إجماع العلماء على وجوب صلاة الجمعة.

* قوله: (الفَصْلُ الأول: فِي وُجُوبِ الجمعة، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ).

لا شكَّ أنَّ الجمعة تجب على كُلِّ مسلم، بالغ، عاقل، وأنَّ الكافر لا تجب عليه الجمعة

(1)

.

* قوله: (الثَّانِي: فِي شُرُوطِ الجمعة، الثَّالِثُ: فِي أَرْكَانِ الجمعة، الرَّابِعُ: فِي أَحْكَامِ الجمعة).

(الفَصْلُ الأول: فِي وُجُوبِ الجمعة، وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ)

* قوله: (أَمَّا وُجُوبُ صَلَاةِ الجمعة عَلَى الأَعْيَانِ).

والأعيان، أي: على كل إنسان بعينه، فهي فرض عين يلزم الإنسان أن يؤديه بنفسه، أمَّا فرض الكفاية؛ فهو الذي إذا قام به البعضُ سقط عن الباقين

(2)

.

* قوله: (فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ؛ لِكَوْنِهَا بَدَلًا مِنْ وَاجِبٍ، وَهُوَ

(1)

ستأتي هذه المسائل.

(2)

انظر: "تهذيب الفروق"، لمحمد بن علي (1/ 127)، وفيه قال:"فرض العين مهم متحتم مقصود حصوله منظور بالذات إلى فاعله حيث قصد حصوله من عين مخصوصة، كالمفروض على النبي -صلى اللَّه تعالى عليه وسلم- دون أمته أو من كل عين عين، أي واحد واحد من المكلفين، وفرض الكفاية مهم متحتم مقصود حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله، أي: يقصد حصوله في الجملة، فلا ينظر إلى فاعله إلا بالتبع للفعل ضرورة أن الفعل لا يحصل بدون فاعل، سواء كان دينيًّا؛ كصلاة الجنازة، أو دنيويًّا؛ كالصنائع المحتاج إليها".

ص: 1879

الظُّهْرُ، وَلظَاهِرِ قَوْله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].

وَالأمر عَلَى الوُجُوب، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ")

(1)

.

وتتمة الحديث: "ثُمَّ لَيَكُونُّن من الغافلين"

(2)

؛ وهو تحذير وتخويف فيه شدة وتهويل.

* قوله: (وَذَهَبَ قَوْمٌ إلى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَة).

حقيقة هو قول ضعيف، وقد رَدَّ علماء الشافعية نسبته إلى الإمام الشافعي عندما جمع بين صلاة الجمعة وصلاة العيدين، لكن المحققين من الشافعية بينوا أنَّ الذي ذَكر ذلك لم يفهم قول الإمام الشافعي رحمه الله، إذًا هذا قول لم يصح عن الإمام الشافعي

(3)

.

* قوله: (وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ: أَنَّهَا سُتةٌ

(4)

.

(1)

سبق تفصيل هذا.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 483)، وفيه قال:"أما حكم المسألة: فالجمعة فرض عين على كل مكلف غير أصحاب الأعذار والنقص المذكورين. هذا هو المذهب، وهو المنصوص للشافعي في كتبه، وقطع به الأصحاب في جميع الطرق، إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب "الشامل" وغيرهما عن بعض الأصحاب: أنه غلط، فقال: هي فرض كفاية، قالوا: وسبب غلطه: أن الشافعي قال: مَن وجبت عليه الجمعة وجبت عليه صلاة العيدين. قالوا: وغلط من فهمه؛ لأن مراد الشافعي مَن خوطب بالجمعة وجوبًا خوطب بالعيدين متأكدًا، واتفق القاضي أبو الطيب وسائر مَن حكى هذا الوجه على غلط قائله، قال القاضى أبو إسحاق المروزي: لا يحل أن يُحكى هذا عن الشافعي".

(4)

انظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (1/ 523)، وفيه قال:"وقد اختلف العلماء في وجوبها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها واجبة على الأعيان، وهو مذهب الجمهور. والثاني: أنها من فروض الكفاية. والثالث: أنها سنة، وهي رواية شاذة رُويت عن مالك".

ص: 1880

وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: تَشْبِيهُهَا بِصَلَاةِ العِيدِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا")

(1)

.

إنَّها عيد؛ لأنَّ فيها من الفضائل والمحاسن والمزايا ما تنفرد به عن غيرها، ولا ننسى فضل غُسل يوم الجمعة

(2)

؛ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، فإذا كان ذلك عند كل مسجد، فما بالك إذا كان هذا يوم جمعة؟!

* قوله: (وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ: فَعَلَى مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ المُتَقَدِّمَةُ).

وهي: البلوغ، والوقت، واستقبال القبلة، والطهارة، وغير ذلك من الشروط

(3)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

من ذلك ما أخرجه أبو داود (345)، عن أوس بن أوس الثقفي، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن غَسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بَكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ - كان له بكل خطوة عَمل سنة؛ أجر صيامها وقيامها"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(373).

(3)

انظر في مذهب الأحناف: "العناية شرح الهداية"، للبابرتي (2/ 50)، وفيه قال:"ولها شروط زائدة على شروط سائر الصلوات؛ فمنها ما هو في المصلي؟ كالحرية، والذكورة، والإقامة، والصحة، وسلامة الرِّجْلَيْن والبصر، عند أبي حنيفة، ومنها ما هو في غيره؛ كالمِصر الجامع، والسُّلطان، والجماعة، والخُطبة، والوقت، والإظهار".

وانظر في مذهب المالكية: "التلقين"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 51، 52)، وفيه قال:"وهي فرض على الأعيان، وشروط وجوبها ستة: البلوغ، والعقل، والذُّكورية، والحرية، والإقامة، وموضع يستوطن فيه، ويكون محلًّا للإقامة به يُمكن الثواء فيه؛ بلدًا كان أو قرية".

وانظر في مذهب الشافعية: "التهذيب"، للبغوي (2/ 321)، وفيه قال:"صلاة الجمعة فريضة، ولوجوبها خمس شرائط: العقل، والبلوغ، والحُرية، والذُكورة، والاستيطان، فلا يجب على الصبي، ولا المجنون، كما لا تجب سائر الصلوات، ولا على المرأة، ولا على العبد". =

ص: 1881

* قوله: (وَوُجِدَ فِيهَا زَائِدًا عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: اثْنَانِ بِاتِّفَاقٍ، وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا؛ أَمَّا المُتَّفَقُ عَلَيْهِمَا: فَالذُّكُورَةُ، وَالصِّحَّةُ).

الذكورة؛ لأنَّ الجمعة لا تجب على المرأة.

* قوله: (فَلَا تَجِبُ عَلَى امْرَأَةٍ

(1)

، وَلَا عَلَى مَرِيضٍ بِاتِّفَاقٍ

(2)

، وَلَكِنْ إِنْ حَضَرُوا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الجمعة).

وكذلك المريض من أصحاب الأعذار، لكن لو حضر لوجبت عليه.

* قوله: (وَأَمَّا المُخْتَلَفُ فِيهِمَا: المُسَافِرُ، وَالعَبْدُ).

فأمَّا المسافر فقد خفَّفَ اللَّه سبحانه وتعالى عنه، وأمَّا العبد فلأنَّ إذنه بيد سيده، فهو لا يملك الحرية في نفسه، وهذا ليس قصورًا في العبد كما يَدَّعِي أعداء الإسلام؛ لأنَّ الإسلام حَثَّ على الإعتاق ورغب فيه، كما أنَّ عتق الرقاب يأتي في مقدمة الكفارات.

= وانظر في مذهب الحنابلة: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 321)، وفيه قال:"ولا تجب إلا على مَن اجتمعت فيه شرائط ثمانية: الإسلام، والبلوغ، والعقل؛ لأنها من شرائط التكاليف بالفروع، والذكورية، والحرية، والاستيطان، وانتفاء الأعذار المسقطة للجماعة، وأن يكون مقيمًا بمكان الجمعة، أو قريبًا منه، وتجب الجمعة على أهل المِصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم".

(1)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 159)، وفيه قال:"وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن لا جمعة على النساء. وأجمعوا على أنه إن حضرن الإمام يصلين معه: أن ذلك يجزئ عنهن".

(2)

لأن المريض من أهل الأعذار.

قال ابن القطان: "وأجمعوا أن الجمعة واجبة على الأحرار والبالغين المقيمين الذين لا عُذر لهم إلا المسافر، فإن أكثر أهل العلم لا يُوجبون عليهم حضورها". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 158، 159).

ص: 1882

* قوله: (فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تجِبُ عَلَيْهِمَا الجمعة، وَدَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِمَا الجمعة)

(1)

.

(1)

انظر في مذهب الأحناف في عدم وجوب الجمعة على العبد:

"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 121)، وفيه قال:". . . وهذا بخلاف العبد إذا شهد الجمعة، وصلى أنه يقع فرضًا، وإن كان لا تجب عليه الجمعة في الابتداء؛ لأن منافع العبد مملوكة للمولى، والعبد محجور عن التصرف في ملك مولاه نظرًا للمولى إلا قدر ما استثني عن ملكه من الصلوات الخمس، فإنه مبقى فيها على أصل الحرية لحكمة اللَّه تعالى في ذلك، وليس في ذلك كبير ضرر بالمولى؛ لأنها تتأدى بمنافع البدن في ساعات قليلة، فيكون فيه نفع العبد من غير ضَرر بالمولى، فإذا حضر الجمعة وفاتت المنافع بسبب السعي فيُعِد ذلك الظهر والجمعة سواء".

وانظر في عدم وجوبها على المسافر:

"البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 69، 70)، وفيه قال:" (ولا تجب الجمعة على مسافر. . .؛ لما روى البيهقي من حديث جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا على امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض". وفي إسناده ضعف، ولكن له شواهد ذكرها البيهقي وغيره. وروى الحافظ في "سننه" عن تميم الداري رحمه الله قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "الجمعة واجبة إلا على خمسة: امرأة، أو صبي، أو مريض، أو مسافر، أو عبد"".

وانظر في مذهب المالكية: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 376)، وفيه قال:"قوله: (ولا تجب على مسافر): المراد به: مَن أتى من محل خارج عن بلد الجمعة بأكثر من كفرسخ ولو أقل من مسافة القصر. وقولنا: (من أتى. . .) إلخ للاحتراز عن مسافرٍ مِن بلده وأدركه النداء قبل مجاوزة ثلاثة أميال، فهذا لا تَسقط عنه الجمعة، ويجب عليه أن يرجع لها بحيث يعتقد إدراكها، ولو بركعة، ومثل إدراك النداء تحققه الزوال قبل مجاوزة الفرسخ الذي هو ثلاثة أميال، إلا أن يكون يعلم أنه يصليها إمامه. قوله: (على المشهور) إلخ، ومقابله: أنها واجبة على العبد إذا أسقط السيد حَقَّه".

وانظر في مذهب الشافعية: "المهذب"، للشيرازي (1/ 205)، وفيه قال:"ولا تجب على المسافر للخبر، ولأنه مشغول بالسفر وأسبابه، فلو أوجبنا عليه انقطع عنه، ولا تجب على العبد للخبر، ولأنه ينقطع عن خدمة مولاه".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النُّهى"، للرحيباني (1/ 758، 759)، وفيه قال: " (ولا تجب على مسافر أُبيح له القصر)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يُصَلِّ أحد منهم الجمعة فيه، مع اجتماع الخلق الكثير، (ولا) تجب -أيضًا- على (من هو خارج البلد وبينه وبينها وقت فعلها فوق فرسخ)؛ لما =

ص: 1883

نُقل عن الزهري أنَّه فصَّلَ القول فقال: إِنْ سَمِع المسافر النداء وجبت عليه

(1)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِم: اخْتِلَافُهُمْ فِي صِحَّةِ الأَثَرِ الوَارِدِ فِي ذَلِكَ).

هو حديث طارق بن شهاب.

* قوله: (وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الجمعة حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ"

(2)

. وَفِي أُخْرَى: "إِلَّا خَمْسَةٌ"، وَفِيهِ:"أَوْ مُسَافِرٌ"

(3)

. وَالحَدِيثُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ)

(4)

.

= تقدم. (ولا) تجب (على عبد)، سواء كان مكاتبًا، أو مدبرًا أو معلقًا عتقه بصفة قبل وجودها، (و) لا على (مبعض مطلقًا)، أي: سواء كان بينه وبين سَيِّده مهايأة والجمعة في نوبته أو لا".

وخالف الظاهرية فقالوا بوجوبها على المسافر والعبد.

انظر: "المُحلى بالآثار"، لابن حزم (3/ 252)، وفيه قال:"وسواء فيما ذكرنا -من وجوب الجمعة- المسافر في سفره، والعبد، والحُر، والمقيم، وكل مَن ذكرنا يكون إمامًا فيها؛ راتبًا وغير راتب، ويصليها المسجونون والمختفون ركعتين في جماعة بخطبة كسائر الناس، وتصلى في كل قرية صغرت أم كبرت، كان هنالك سلطان أو لم يكن، وإن صليت الجمعة في مسجدين في القرية فصاعدًا جاز ذلك؟ ورأى أبو حنيفة ومالك والشافعي: أن لا جمعة على عبد ولا مسافر".

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 174)، عن الزهري قال:"سألتُه عن المسافر يَمر بقرية؛ فينزل فيها يوم الجمعة؟ قال: "إذا سَمِع الأذان فليشهد الجمعة".

(2)

أخرجه أبو داود (1067) وغيره، عن طارق بن شهاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(978).

(3)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(2/ 51)، وغيره، عن تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الجمعةُ واجبة، إلا على امرأة، أو صبي، أو مَريض، أو عبد، أو مسافر". قال الشيخ الألباني في أثناء حديثه: "إسناده واهٍ جدًّا". انظر: "إرواء الغليل"(592).

(4)

حديث الطبراني عن تميم لم يصح، لكن حديث طارق بن شهاب الأكثرون على تصحيحه.

ص: 1884

هذا غير صحيح؛ لأنَّه مرسل صحابي

(1)

، والصحابة قد زكاهم اللَّه سبحانه وتعالى ورضي عنهم، وأشاد بعظيم فضلهم، وكبر مقامهم، وزكاهم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهم في سنته عليه الصلاة والسلام، فلا ينبغي أن يقع الإنسان فيهم بينَ إفراط وتفريط

(2)

.

(الفَصْلُ الثَّانِي: فِي شُرُوطِ الجمعة)

* قوله: (وَأَمَّا شُرُوطُ الجمعة: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا شُرُوطُ الصَّلَاةِ المَفْرُوضَةِ بِعَيْنِهَا).

(1)

ذكر العراقي قاعده، فقال:"والقاعدة: أن الراوي إذا روى حديثًا في قصة أو واقعة، فإن كان أدرك ما رواه بأن حكى قصة وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض الصحابة، والراوي لذلك صحابي أدرك تلك الواقعة، فهي محكوم لها بالاتصال، وإن لم يعلم أنه شاهدها، وإن لم يدرك تلك الوأقعة، فهو مرسل صحابي، وإن كان الراوي تابعيًّا فهو منقطع، وإن روى التابعي عن الصحابي قصة أدرك وقوعها فمتصل، وكذا إن لم يدرك وقوعها، ولكن أسندها له وإلا فمنقطعة". انظر: "شرح التبصرة والتذكرة" للعراقي (1/ 224).

(2)

الذين ضعفوا حديث طارق بن شهاب لم يتعرضوا للقدح في صحبته، وإنما حملوه على الإرسال من أنه رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، والأكثرون على قبول روايته.

قال الحافظ ابنُ حَجَر: "رأى طارق بن شهاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو رجل. ويقال: إنه لم يسمع منه شيئًا. قال البغويُّ: ونزل الكوفة. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليست له صحبة. والحديث الذي رواه مرسل. قلت: قد أدخلته في الوحدان، قال: لقوله: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم. قلت: إذا ثبت أنه لقي النَّبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابيٌّ على الرَّاجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابيّ، وهو مقبول على الرَّاجح. وقد أخرج له النَّسائيّ عدَّة أحاديث، وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته. وأخرج له أبو داود حديثًا واحدًا، وقال: طارق رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئًا". انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة"(3/ 413، 414).

ص: 1885

يُشترط في الصلاة: الوقت، واستقبال القبلة، وسَتر العورة، والطهارة، ومن هذه الشروط ما هي شروط صحة ووجوب؛ فيجتمعان معًا، وبعضها ينفرد فيه الوجوب، وبعضها يختص بذلك الصحة؛ لأنَّه يخص الصحة

(1)

.

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 41)، وفيه قال:"لا تصح الجمعة إلا في مِصر جامع). ش: شرائط لزوم الجمعة اثنا عشر؛ ستة في نفس المُصَلِّي، وهي: الحرية، والذكورة، والإقامة، والصحة، وسَلَامة الرِّجْلَين، والبصر، وقال: يجب على الأعمى إذا وجد قائدًا، وستة في غير نفس المصلي، وهي: المِصر الجامع، والسُّلطان، والجماعة، والخُطبة، والوقت، والإظهار، حتى إن الوالي لو أتى على باب المصر، وجمع فيه بحشمه، ولم يأذن للناس فيه بالدخول لم يجز".

وانظر في مذهب المالكية: "المدخل"، لابن الحاج (1/ 57)، حيث قال في شروط الصلاة عمومًا والجمعة خصوصًا:"فالشروط خمسة: وهي الإسلام، والعقل، والبلوغ، وانقطاع دم الحيض والنفاس، ودخول وقت الصلاة. وتختص الجمعة بثمانية شروط: أربع للوجوب، وأربع للأداء؛ فأما الأربع التي للوجوب فهي: الذكورية، والحرية، والإقامة، وموضع الاستيطان. أما التي للأداء فهي إمام، وجماعة، ومسجد، وخُطبة. والفرائض ثمانية عشر؛ فالفرائض المتفق عليها عند الجميع عشرة: وهي النية، والطهارة، ومعرفة الوقت، والتوجه إلى القبلة، والركوع، والسجود، ورفع الرأس من السجود، والقيام، والجلوس الأخير، وترتيب أفعال الصلاة. . . ".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح القريب المجيب"، لابن قاسم الغزي (ص: 98، 99)، وفيه قال:" (وشرائط وجوب الجمعة سبعة أشياء: الإسلام، والبلوغ، والعقل)؛ وهذه شروط -أيضًا- لغير الجمعة من الصلوات، (والحرية، والذُّكورية، والصحة، والاستيطان)؛ فلا تجب الجمعة على كافر أصلي، وصبي، ومجنون، ورقيق، وأنثى، ومريض ونحوه، ومسا فر. (وشرائط) صحة (فعلها ثلاثة): الأول: دار الإقامة التي يستوطنها العدد المجمعون، سواء في ذلك المُدُن والقُرى التي تتخذ وطنًا. وعبر المصنف عن ذلك بقوله: (أن تكون البلد مصرًا) كانت البلد (أو قرية). (و) الثاني: (أن يكون العدد) في جماعة الجمعة (أربعين) رجلًا (من أهل الجمعة). (و) الثالث: (أن يكون الوقت باقيًا) وهو وقت الظهر؛ فيشترط أن تقع الجمعة كلها في الوقت".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 26 - 31)، وفيه قال: " (فصل يشترط لصحتها)، أي: الجمعة (أربعة شروط)(أحدها: الوقت)؛ لأنها مفروضة، فاشترط لها كبقية المفروضات، (فلا تصح قبله)، أي: قبل الوقت، =

ص: 1886

* قوله: (فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا شُرُوطُ الصَّلَاةِ المَفْرُوضَةِ بِعَيْنِهَا؛ (أَعْنِي: الثَّمَانِيَةَ المُتَقَدِّمَةَ)، مَا عَدَا الوَقْتَ وَالأَذَانَ).

والمراد هنا: أنَّ الوقت محل خلاف بين العلماء، فكمَا أنَّ العلماء متفقون على أنَّ للصلاة وقتًا، وأنَّ لها أولًا وآخرًا، وأنَّ لها أول وقت وآخر وقت، ما عدا المغرب، وأنَّ الجمعة إنَّما تحل في الوقت الذي تكون فيه صلاة الظهر، فالخلاف هنا ليس في الوقت، فالوقت مجمع عليه، وإنَّما الخلاف هنا في بداية الوقت.

* قوله: (مَا عَدَا الوَقْتَ وَالأَذَانَ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا).

ما يتعلَّق بالأذان: لا خلاف أنَّ للجمعة أذانين، لكن هل يقتصر على أذان واحد، كما كان الأمر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر، ولكن لمَّا جاء زمنُ عثمان رضي الله عنه، وكثُرَ المسلمون، واتسعت المدينة، وامتدت أطرافها أَمَر بوضع نداء أول؛ ليتهيأ الناسُ للصلاة، فإذا ما جاء النداء الثاني سارع الناس بالذهاب للصلاة

(1)

.

فالخلاف هنا ليس في الأذان، وإنَّما هل هو أذان واحد أو أكثر من ذلك؟

= (ولا بعده) إجماعًا، (وأوله)، أي: أول وقت الجمعة (أول وقت صلاة العيد نصًّا)، (وتفعل فيه)، أي: فيما قبل الزوال (جوازًا أو رخصة، وتجب بالزوال). (الثاني: أن يكونوا بقرية مجتمعة البناء بما جرت العادة بالبناء به؛ مِن حَجَر، أو لَبن، أو طين، أو قصب، أو شجر)، (الثالث: حضور أربعين فأكثر من أهل القرية بالإمام)؛ لما تقدم من حديث كعب. (الرابع:) من شروط الجمعة: (أن يتقدمها خطبتان)؛ لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، والذِّكر: هو الخُطبة، فأمر بالسعي إليها فيكون واجبًا إذ لا يجب السعي لغير واجب".

(1)

أخرج البخاري (912)، عن السائب بن يزيد، قال:"كان النِّداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكَثُر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء". قال أبو عبد اللَّه: "الزوراء: موضع بالسوق بالمدينة".

ص: 1887

* قوله: (وَكذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهَا المُخْتَصَّةِ بِهَا).

هناك شُروط تخص الجمعة؛ منها: خطبة الجمعة، ولها صفات معينة؛ الصعود على المنبر، وهذا سُنَّة، كذلك الجلوس عليه أولًا، ثم إلقاء السلام على المأمومين، ثم كيف يخطب الإمام هل يخطب قائمًا؟ هل يجوز أن يخطب قاعدًا؟ هل لا بُدَّ من خُطبتين أو خطبة واحدة؟

(1)

.

* قوله: (أَمَّا الوَقْتُ؛ فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ الظُّهْرِ بِعَيْنِهِ؛ (أَعْنِي: وَقْتَ الزَّوَالِ)

(2)

).

لا شكَّ أنَّ الأحاديث قد جاءت للحث على الإسراع في أداء صلاة الجمعة، والخلاف هنا هل يجوز أن تُقدم على الزَّوال فتصلى قبله أم لا؟

جماهير العلماء؛ منهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يرون أنَّه لا يجوز أن تُصلى الجمعة قبل الزوال

(3)

. ولأحمد رواية يجيز

(1)

ستأتي.

(2)

الزوال: هو انحطاط الشمس عن كبد السماء إلى جانب المغرب. وكبد السَّماء: وَسطهَا الذي تقوم فيه الشمسُ عند الزَّوال، فيقال عند انحطاطها: زالت ومالت. انظر: "غريب الحديث"، لابن قتيبة (1/ 177).

(3)

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 268، 269)، وفيه قال:"وأما الوقت فمن شرائط الجمعة، وهو وقت الظهر حتى لا يَجوز تقديمها على زوال الشمس؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث مصعب بن عمير إلى المدينة قال له: "إذا مالت الشمس فَصَلِّ بالناس الجمعة"، وروي أنه كتب إلى أسعد بن زرارة إذا زالت الشمس من اليوم الذي تتجهز فيه اليهود لسبتها، فازدلف إلى اللَّه تعالى بركعتين".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 372)، وفيه قال:" (شرط) صحة صلاة (الجمعة) بضم الميم وحكي إسكانها وفتحها وكسرها (وقوع كلها)، أي: جميعها (بالخُطبة)، أي: مع جنسها الصادق بالخطبتين (وقت الظهر) فلو أوقع شيئًا من ذلك قبل الزوال لم يصح".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 87)، وفيه قال: " (ولصحتها)، أي: الجمعة (مع شرط غيرها شروط) ستة أحدها: (أن تقع وقت =

ص: 1888

فيها أن تُصلى قبل الزوال

(1)

، وحُكي عن عبد اللَّه بن مسعود ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنَّهما صَلَّيَا بالناس قبل الزوال، وقالا: إنَّما عجلنا خشية الحر عليكم

(2)

.

ولكن من العلماء مَن رَدَّ ذلك وضعفه

(3)

.

= ظهر) للاتباع، رواه الشيخان مع خبر:"صَلُّوا كما رأيتموني أُصلي"، فلو ضاق (الوقت عنها وعن خطبتيها) كما سيأتي، (أو شَكَّ في ذلك) وهو من زيادتي (وجب ظُهر) ".

(1)

انظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"، للكوسج (2/ 883)، وفيه قال:"قلت: الجمعة قبل الزوال أم بعد الزوال؟ قال: إن فعل ذلك -يعني: قبل الزوال- فلا أَعِيبه، وأما بعده فليس فيه شك. قال إسحاق: كما قال". وانظر: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 324).

وهو المذهب على جواز الصلاة قبل الزوال، إلا أن الأفضل أن تُصَلَّى بعد الزوال.

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 26)، وفيه قال:" (وأوله)، أي: أول وقت الجمعة (أول وقت صلاة العيد نصًّا)؛ لقول عبد اللَّه بن سيدان السلمي قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره"، رواه الدارقطني وأحمد، واحتج به. (وتفعل فيه)، أي: فيما قبل الزوال (جوازًا أو رخصة، وتجب بالزوال)، ذكر القاضي وغيره المذهب. (وفعلها بعده)، أي: الزوال (أفضل)؛ لما روى سلمة بن الأكوع قال: "كنا نُصلي الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس"، متفق عليه، وللخروج من الخلاف".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 62)، عن عبد اللَّه بن سلمة، قال:"صلى بنا عبد اللَّه الجمعة ضحى، وقال: خشيت عليكم الحَرَّ". وأخرج أيضًا عن سعيد بن سويد، قال:"صَلَّى بنا معاوية الجمعة ضحى"، وصححهما الألبانى فى "إرواء الغليل"(596).

(3)

انظر: "أحكام القرآن"، لابن العربي (4/ 251، 252)، حيث قال:"والنداء لا يكون إلا بعد دخول الوقت. وقد روي عن أبي بكر الصديق وأحمد بن حنبل أنها تُصلى قبل الزوال؛ وتعلق في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف، وليس للحيطان ظل"، وبحديث ابن عمر: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة"، وحديث سلمة محمول على التبكير بالجمعة، وحديث ابن عمر دليل =

ص: 1889

ومن يجيز تقديم صلاة الجمعة على الزوال استدل بعدة أحاديث؛ منها:

حديث: "ما كنا نتغدى ولا نُقيل على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَّا بعد الجمعة"

(1)

.

والمعروف عن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنَّهم كانوا يؤدون القيلولة

(2)

ويتغدون قبل الجمعة، وهذا فهموا منه أنَّ الجمعة تقدم

(3)

.

وكذلك حديث: "كنا نصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنُريحها حين تزول الشمس"

(4)

.

= على أنهم كانوا يُبكرون إلى الجمعة تبكيرًا كثيرًا عند الغداة وقبلها، فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة". وضعف ابن عبد البر في:"التمهيد"(8/ 72، 73) الآثارَ التي استدلوا بها على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال.

(1)

أخرجه البخاري (938)، ومسلم (859/ 30)، عن سهل بن سَعد رضي الله عنه، قال:"ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة". قال مسلم: "زاد ابن حجر في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

قال ابن قدامة في تبيين ما ذهبوا إليه: "قال ابن قتيبة: لا يُسَمَّى غداء ولا قائلة بعد الزوال". انظر: "المغني"(2/ 264).

(2)

المقيل والقيلولة: الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم. يقال: قال يقيل قيلولة، فهو قائل. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (4/ 133).

(3)

يقصد الشارح: أنهم كانوا يقيلون قبل الظهر، أما يوم الجمعة فكانوا لا يقيلون قبلها؛ لئلا يتأخر وقتها، بل كانوا يعجلون الصلاة قبل الزوال، ويقيلون بعد الجمعة. قال ابن مفلح:"وحقيقة الغداء والقيلولة قبل الزوال". انظر: "الفروع وتصحيح الفروع"(11/ 36).

ونفى الصنعاني أنهم كانوا يقيلون قبل الظهر، فقال:"وليس فيما ذكروا دليل على الصلاة قبل الزوال؛ لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الظهر، كما قال تعالى {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور: 58]، نعم كان صلى الله عليه وسلم يسارع بصلاة الجمعة في أول وقت الزوال، بخلاف الظهر فقد كان يؤخره بعده حتى يجتمع الناس". انظر: "سبل السلام"(1/ 399).

(4)

أخرجه مسلم (858/ 29).

ص: 1890

لا شكَّ أنَّ الجمعة فيها خطبة أو خطبتان، ثم بعد ذلك الصلاة، وهذا يأخذ وقت.

وأمَّا جماهير العلماء فلهم عدة أدلة:

منها حديث سَلَمَة بن الأكوع في الرواية التي عند مسلم: "كنا نجمع مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء

(1)

"

(2)

. وكذلك حديث أنس المتفق عليه: "كنا نُصَلِّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين تميل الشمس"

(3)

.

ثم أجابوا عن الأدلة الأخرى: وأنَّها محمولة على المبالغة في التشديد، للإسراع في أداء الجمعة في أول وقتها

(4)

.

ولا شكَّ أنَّ رأي جمهور العلماء في نظري هو الحق والصواب، وينبغي الوقوف عنده، وهو الذي يحسم كل خلاف، ومن هنا نرى أنَّ وقت الجمعة كوقت الظهر، يبدأ مع زوال الشمس.

* قوله: (وَذَهَبَ قَوْمٌ إلى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُصَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ).

الإمام أحمد، ومعه عدد من التابعين

(5)

.

(1)

الفيءُ: الظّلُّ، والجميع: الأفياء. انظر: "العين"، للخليل (8/ 406).

(2)

أخرجه مسلم (860/ 31)، وأخرجه البخاري (4168)، بلفظ:"كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه".

(3)

هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري، فقد أخرجه عن أنس (904) رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي الجمعة حين تميل الشمس".

(4)

انظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 247)، وفيه قال:"وما روى الشيخان عن سلمة بن الأكوع من قوله: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به" - محمول على شدة التعجيل بعد الزوال جمعًا بين الأخبار، على أن هذا الخبر إنما ينفي ظلًّا يُستظل به لا أصل الظل".

(5)

سبق ذكر هذا.

ص: 1891

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: الِاخْتِلَافُ فِي مَفْهُومِ الآثَارِ الوَارِدَةِ فِي تَعْجِيلِ الجُمُعة، مِثْلَ مَا خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ).

الآثار هنا يقصد بها المؤلف: الأحاديث

(1)

.

* قوله: (مِثْلَ مَا خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ:"مَا كنَّا نَتَغَدَّى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نُقِيلُ إِلَّا بَعْدَ الجمعة"

(2)

. وَمِثْلَ مَا رُوِيَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَنْصَرِفُونَ، وَمَا لِلْجُدْرَانِ أَظْلَالُ)

(3)

.

ليس للحيطان ظل نستظل بها، فلا يوجد ظل يستظل به الماشي؛ ليتقي شدة الحرارة.

* قوله: (فَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الآثَارِ الصَّلَاةَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَجَازَ ذَلِكَ

(4)

، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهَا إِلَّا التَّبْكِيرَ فَقَطْ لَمْ يجِزْ ذَلِكَ

(5)

؛ لِئَلَّا تَتَعَارَضَ الأُصُولُ فِي هَذَا البَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يُصَلِّي الجُمُعَة حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ")

(6)

.

"حِين تميلُ الشَّمس": تَميل عن كبد السَّماء؛ لأنَّ الشمس قبل الزَّوال تتوسط في السماء، فإذا بدأت في المَيل بدأ وقت الزوال، وهو وقت صلاة الظهر.

(1)

سبق نقل كلام النووي من أنهم يطلقون لفظ الآثار فيقصدون بها المرفوع والموقوف والمقطوع.

(2)

هو حديث متفق عليه. وقد سبق.

(3)

يقصد حديث سلمة بن الأكوع عند البخاري: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه". وقد سبق.

(4)

وهم الحنابلة.

(5)

وهم الجمهور.

(6)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1892

* قوله: (وَأيضًا فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بَدَلًا مِنَ الظُّهْرِ وَجَبَ أَن يَكُونَ وَقْتُهَا وَقْتَ الظُّهْرِ).

هذا فيه خلاف؛ فهناك مَن يرى أنَّها أصل مستقل بذاته، وليست بدلًا عن الظهر

(1)

.

* قوله: (فَوَجَبَ مِنْ طَرِيقِ الجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الآثَارِ أَنْ تُحْمَلَ تِلْكَ عَلَى التَّبْكِيرِ، إِذْ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ)

(2)

.

ينبغي أن يكون وقتُ الجمعة هو الوقت الذي تبدأ فيه صلاة الظهر.

* قوله: (وَأَمَّا الأذانُ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ هُوَ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ

(3)

.

وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيِ الإِمَامِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ؟).

يعني أن يتكرر ذلك في وقت واحد، أو أنَّه أذان يسبق أذان، وأيضًا فيما يتعلَّق بوجود أكثر من مؤذن، فإنَّ هذا قد حصل في أيام الدَّولة الأموية

(4)

، لكن الكلام هنا هل يُكتفى بأذان واحد، أو أكثر من أذان، أم هو ثلاثة؟

(1)

سبق ذكر هذا الخلاف؛ فالجمهور على أن الجمعة أصل والظهر بدل، والأحناف قالوا بالعكس.

(2)

سبق ذكر هذا الترجيح من حمل أدلة المخالف على الحَثِّ على التبكير للصلاة.

(3)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 161)، وفيه قال:"وكان يُؤذن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة، وبين يدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداءَ على الزوراء، وهو نص في الأذان بين يدي الإمام، وعليه العمل عند جميع العلماء في أمصار الإسلام بالحجاز والعراق وغيرهما من الآفاق".

(4)

انظر: "شرح صحيح البخاري"(2/ 503)، لابن بطال، وفيه قال: "قال مالك في =

ص: 1893

الصَّوابُ: أنَّ النداء الثالث هو الإقامة، وإنَّما هما أذانان؛ الأذان المعروف إذا جلس الإمام على المنبر، والأذان الذي يسبقه الذي اجتهده عثمان رضي الله عنه

(1)

.

* قوله: (فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلى أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيِ الإِمام مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ البَيْعُ وَالشِّرَاءُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْ يُؤَذِّنُ اثْنَانِ فَقَطْ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ إِنَّمَا يُؤَذِّنُ ثَلَاثَةٌ).

"يَحرم به البيعُ والشِّراء"، يُقصد به ما أشارت إليه الآية:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ؛ قال العلماءُ: فيه دليل على وجوب السَّعي في هذا الوقت

(2)

، وفيه دليل على تحريم البيع في هذا الوقت، والمقصود بذلك: كل ما يشغل عن الصلاة؛ فلا ينبغي الانشغال به، واللَّه تعالى يقول:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، و"ذِكر اللَّه" هنا: هو الخُطبة، وبذلك فسَّرَها جماهير العلماء

(3)

،

= "المجموعة": إن هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه، وإنما الأذان على المنار واحدًا بعد واحد إذا جلس الإمام على المنبر".

(1)

قال ابن بطال في بيان ذلك: "فإن قال قائل: فإن كان مؤذنًا واحدًا على ما روى الزهري عن السائب، فما معنى قوله في آخر الحديث: "فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزَّوراء"، وهذا يدل أن ثَمَّ أذانًا ثانيًا، وآخر الحديث مخالف لأوله. قيل: لا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما كان يؤذن المؤذن، ثم يقيم، والإقامة تسمى أذانًا، وقد بين ذلك ابن أبي شيبة في "مصنفه"، عن السائب: "أن النداء كان أوله على عهد النبي عليه السلام وأبى بكر وعمر إذا خرج الإمام، وإذا قامت الصلاة، حتى إذا كان زمن عثمان وكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزَّوراء، فثبت حتى الساعة"، فبان بهذا الحديث أن الأذان الثاني المتوهم في حديث السائب إنما يعنى به: الإقامة". انظر: "شرح صحيح البخاري"(2/ 504).

(2)

انظر: "الأوسط"، لابن المنذر (4/ 114)، وفيه قال:"فظاهر هذه الآية توجب السعي إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة في كل وقت وزمان، ليس لأحد أن يستثني وقتًا دون وقت، ولا إمامًا دون إمام إلا بحجة".

(3)

قال ابن القطان: "وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، أجمعوا أن الذكر هاهنا: الصلاة والخُطبة". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 161).

ص: 1894

واستدلوا بها على وجوب الخطبة، وأنَّها شرط

(1)

.

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "العناية شرح الهداية"، للبابرتي (2/ 50)، وفيه قال:"أما الكتاب فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، أمر بالسعي إلى ذكر اللَّه، وهي الخطبة التي هي شرط جواز الجمعة والأمر للوجوب، وإذا كان السعي واجبًا إليها فإلى ما هو المقصود وهو الجمعة أولى، وأكد ذلك بتحريم المباح، ولا يكون إلا لأمر واجب مقتضي الحكمة".

وانظر في مذهب المالكية: "التبصرة"، للخمي (2/ 582، 583)، وفيه قال: "والقول بوجوبها دون الطهارة لها أحسن؛ لقول اللَّه عز وجل {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] الآيتان، ودليل وجوبها من وجوه:

أحدها: تحريم البيع حين النداء، فلو كانت غير واجبة لم يحرم البيع إلا عند الدخول في الصلاة.

والثاني: قوله سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، وأول الذكر في الجمعة الخُطبة، فكان محموله على أول ذِكر يكون بعد النداء، وهي الخطبة، إلا أن يقوم دليل أن المراد الذكر الثاني، وهو ما يكون في الصلاة.

والثالث: أن الأحاديث الصحاح وردت أن السبب في نزول الآية كان في الذين فَرُّوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب لِعِير قَدِمت من الشام، فنزل ذَمُّهم بذلك، والذم يكون لترك واجب".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 92)، وفيه قال:" (وحرم على من تلزمه) الجمعة (اشتغال بنحو بيع) من عقود وصنائع وغيرها مما فيه تشاغل عن السعي إلى الجمعة (بعد شروع في أذان خطبة)؛ قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}، أي: اتركوه، والأمر للوجوب، فيحرم الفعل، وقيس بالبيع غيره مما ذكر، وتقييد الأذان بما ذكر؛ لأنه الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم، فانصرف النداء في الاية إليه، وحرمة ما ذكر في حق من جلس له في غير المسجد".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 180)، وفيه قال:" (ولا يصح البيع ولا الشراء؛ قليله وكثيره)، قال في "المبدع": حتى شرب الماء إلا لحاجة كمضطر (ممن تلزمه الجمعة، ولو كان) الذي تلزمه الجمعة (أحد العاقدين) والآخر لا تلزمه، (وكره) البيع والشراء (للآخر) الذي لا تلزمه؛ لما فيه من الإعانة على الإثم، (أو) كان (وجد أحد شقي البيع) من إيجاب أو قبول ممن تلزمه (بعد الشروع في ندائها)، أي: آذان الجمعة (الثاني الذي عند الخطبة)؛ لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فنهى =

ص: 1895

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى البُخَارِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ قَالَ:"كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الجمعة إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ، وَكثُرَ النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ"

(1)

)

(2)

.

لماذا زاد عثمان النداء؟

لأنَّ الناسَ قد كثروا، فاحتاجوا لأن يستعدوا للجمعة بوقتٍ كاف.

* قوله: (وَرُوِيَ -أيضًا- عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ قَالَ:"لَمْ يَكُنْ يَوْمَ الجُمُعَة لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مُؤَذِّن وَاحِدٌ"

(3)

، وَرُوِيَ -أيضًا- عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ:"كَانَ الأذانُ يَوْمَ الجمعةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أذانًا وَاحِدًا حِينَ يَخْرُجُ الإمام، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ وَكَثُرَ النَّاسُ فَزَادَ الأَذَانَ الأَوَّلَ؛ لِيَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلْجُمُعَة"

(4)

. وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ: "أَنَّ المُؤَذِّنِينَ كَانُوا يَوْمَ الجُمُعَة عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةً"

(5)

.

= عن البيع بعد النداء، وهو ظاهر في التحريم؛ لأنه يشغل عن الصلاة، ويكون ذريعة إلى فواتها أو فوات بعضها فلم ينعقد".

(1)

الزوراء -ممدود وبعد الواو راء- هو: موضع بالمدينة عند السوق قرب المسجد. وذكر الداودي أنه مرتفع كالمَنارء انظر: "مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (1/ 315).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود (1089) وغيره، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(999).

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 206)، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب.

(5)

ذُكرت هذه الرواية في: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (1/ 467)، حيث قال: =

ص: 1896

فَذَهَبَ قَوْمٌ إلى ظَاهِرِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَقَالُوا: يُؤَذِّنُ يَوْمَ الجُمُعَةِ مُؤَذِّنَان

(1)

. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلى أَنَّ المُؤَذِّنَ وَاحِدٌ. فَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:

= "قال ابن حبيب: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد رقي المنبر فجلس، ثم أذَّنَ المؤذِّنون، وكانوا ثلاثة، يؤذِّنون على المنار، واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر، ثم أمر عثمان لما كثر الناس أن يُؤذن بالزوراء عند الزوال، وهو موضع السوق، ليرتفع منه الناس، فإذا خرج وجلس على المنبر أذَّن المؤذنون على المنار". وهي رواية ضعيفة، كما سيأتي.

(1)

وهو مذهب الأحناف، والحنابلة، ومشهور مذهب المالكية.

انظر في مذهب الأحناف: "الاختيار لتعليل المختار"، لابن مودود (1/ 85)، وفيه قال:" (وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يديه الأذان الثاني)، وهو الذي كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. فلما كان زمن عثمان، وكثر الناس، وتباعدت المنازل زاد مؤذنًا آخر يؤذن قبل جلوسه على المنبر، فإذا جلس أَذَّن الأذان الثاني، فإذا نزل أقام، فالثاني هو المعتبر في وجوب السعي وترك البيع؟ وقيل: الأصح الأول". وانظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 223).

وانظر في مذهب المالكية: "المعونة على مذهب عالم المدينة"، للقاضي عبد الوهاب (ص 307)، وفيه قال:"للجمعة أذانان" إحداهما عند الزوال، والآخر عند جلوس الإمام على المنبر، وهذا الثاني آكد من الأول؛ لأنه الذي كان يُفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذي يؤتى به عند الزوال، ففي أيام عثمان رضي الله عنه؛ لأن الناس كثروا، واحتاج إلى زيادة في إعلامهم، ويؤذن لها على المنار؛ لأنه كذلك كان يفعل في عهده عليه الصلاة والسلام، فأما أذانهم جميعًا بين يدي الإمام وهو على المنبر فإنه محدث أُنشأ في زمان بعض بني أمية". وانظر:"الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 258).

وانظر في مذهب الحنابلة: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 330)، وفيه قال:"أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن اللَّه تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}، يعني: الأذان، قال السائب: "كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث". وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلَّق به وجوب السعي، وتحريم البيع؛ لأنه الذي كان مشروعًا حين نزول الآية، فتعلقت الأحكام به. ويُسن الأذان الأول في أول الوقت؛ لأن عثمان سَنَّه، وعملت به الأمة بعده، وهو مشروع للإعلام بالوقت، والثاني للإعلام بالخطبة، والإقامة للإعلام بقيام الصلاة".

ص: 1897

فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ: أَنَّ النِّدَاءَ الثَّانِيَ هُوَ الإِقَامَةُ

(1)

. وَأَخَذَ آخَرُونَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ

(2)

، وَأَحَادِيثُ ابْنِ حَبِيبٍ عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ ضَعِيفَةٌ، وَلَا سِيَّمَا فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ)

(3)

.

(1)

ذكره ابن عبد البر عن مالك، انظر:"الاستذكار"(2/ 27). قال: "واختلف الفقهاء هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد أو مؤذنون؟ فذكر ابن عبد الحكم عن مالك قال: إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادي مُنع الناس من البيع تلك الساعة. وهذا يدل على أن النداء عنده واحد بين يدي الإمام، ويشهد لهذا حديث ابن شهاب عن السائب بن يزيد: أنه لم يكن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد، وهذا يحتمل أن يكون أراد بلالًا المواظب على الأذان دون ابن أم مكتوم وغيره".

وهو مذهب الشافعية. انظر: "البيان"، للعمراني (2/ 88)، وفيه قال:"قال المحاملي: قال الشافعي: (وأُحب أن يؤذن للجمعة أذانًا واحدًا عند المنبر؛ لما روى السائب بن يزيد، قال: "كان الأذان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر -إذا جلس الإمام على المنبر- أذانًا واحدًا، فلما كان في زمن عثمان، وكثر الناس أمر بالأذان الثاني، فأذن به، فكان يؤذن به على الزوراء لأهل السوق والناس". قال الشافعي:(وأحب ما كان يفعل على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر). ويستحب أن يكون المؤذن واحدًا؛ لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بلال". وانظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 325).

(2)

هو أبو مروان؛ عبد الملك بن حبيب، صاحب الواضحة، سمع من ابن الماجشون ومطرف. انظر ترجمته في "ترتيب المدارك وتقريب المسالك"، للقاضي عياض (4/ 122، 123).

وهو قول لمالك. انظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (1/ 532، 533)، حيث قال:"وذهب آخرون إلى أن الأذان إنما يكون على المنار؛ يُؤذن واحد بعد واحد، وهو مذهب مالك رحمه الله، وهو الذي روى ابن حبيب أنَّ المؤذنين كانوا يوم الجمعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة".

(3)

قال الحافظ ابن حَجَر: "عبد الملك بن حبيب القرطبي، أحد الأئمة، ومصنف "الواضحة": كثير الوهم، صحفي. وكان ابن حزم يقول: ليس بثقة، وقال الحافظ أبو بكر بن سيد الناس: في "تاريخ أحمد بن سعيد الصدفي" توهية عبد الملك بن حبيب، وأنه صحفي لا يدري الحديث. وقال أبو بكر: وضعفه غير واحد، ثم قال: وبعضهم اتهمه بالكذب. قال ابن حزم: روايته ساقطة مُطَّرَحة". انظر: "لسان الميزان"(4/ 59).

ص: 1898

ويقصد هنا بقوله: "حِينَ يَخْرُجُ الإمام"، يعني: حين يدخل الإمامُ المَسجدَ، وليس يخرج منه.

* قوله: (وَأَمَّا شُرُوطُ الوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ المُخْتَصَّةُ بِيَوْمِ الجُمُعَة، فَاتَّفَقَ الكُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهَا الجَمَاعَةَ).

صلاة الجمعة لا بُدَّ فيها من الجماعة، إذًا لماذا سُمِّيت جمعة؟ لأنَّ الناس يجتمعون فيها، وكذلك صلاة الجماعة.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الجَمَاعَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَاحِدٌ مَعَ الإمام، وَهُوَ الطَّبَرِيُّ).

الإمام الطبري والحَسَن بن صالح

(1)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اثْنَان سِوَى الإمام)

(2)

.

وهي رواية للإمام أحمد

(3)

والأوزاعي

(4)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ دُونَ الإمام

(5)

، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي

(1)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 58)، وفيه قال:"وقال الحسن بن صالح والطبري: إن لم يحضر مع الإمام إلا رجل واحد يخطب عليه وصلى الجمعة أجزتهما".

(2)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 58)، وفيه قال:"وقال أبو يوسف: اثنان سوى الإمام، وبه قال الثوري وداود".

(3)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 243، 244)، حيث قال:"وعن أحمد أنها تنعقد بثلاثة، وهو قول الأوزاعي، وأبي ثور؛ لأنه يتناوله اسم الجمع، فانعقدت به الجماعة كالأربعين، ولأن اللَّه تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، وهذه صيغة الجمع، فيدخل فيه الثلاثة".

(4)

انظر: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 962)، وفيه قال:"وقال الليث والأوزاعي وأبو ثور وأبو يوسف بثلاثة".

(5)

قال ابن عبد البر: "وقال أبو حنيفة والليث: ثلاثة سوى الإمام". انظر: "الاستذكار"(2/ 58).

ص: 1899

حَنِيفَةَ

(1)

. وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ أَرْبَعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ)

(2)

.

والإمام أحمد له عدة روايات

(3)

.

(1)

انظر: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 24)، وفيه قال:"ويختلفون في مقدار العدد، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه ثلاثة نفر سوى الإمام، وقال أبو يوسف رضي الله عنه: اثنان سوى الإمام؛ لأن المثنى في حكم الجماعة حتى يتقدم الإمام عليهما، وفي الجماعة معنى الاجتماع، وذلك يتحقق بالمثنى. وجه فولهما: الاستدلال بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، وهذا يقتضي مناديًا وذاكرًا وهو المؤذن، والإمام، والاثنان يسعون؛ لأن قوله: {فَاسْعَوْا} لا يتناول إلا المثنى، ثم ما دون الثلاث ليس بجمع متفق عليه".

(2)

انظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 545، 546)، وفيه قال:" (وأن تقام بأربعين) منهم الإمام؛ لما روى البيهقي عن ابن مسعود "أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلًا". قال في "المجموع": قال أصحابنا: وجه الدلالة: أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، والأصل الظهر، فلا تجب الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف. وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي"، ولم تثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه ولا بأربعين وفيهم أمي قصر في التعلم؛ لارتباط صحة صلاة بعضهم ببعض، فصار كاقتداء القارئ بالأمي"، كما نقله الأذرعي عن "فتاوى البغوي".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 313)، حيث قال:" (الثالث حضورهم)، أي: الأربعين من أهل وجوبها (الخطبة) والصلاة، (ولو كان فيهم خرس)، والخطيب ناطق، (أو) كان فيهم (صم)؛ لوجود الشروط (لا كلهم). (فإن نقصوا)، أي: الأربعون (قبل إتمامها)، أي: الجمعة (استأنفوا ظهرًا) نصًّا؛ لأن العدد شرط فاعتبر في جميعها؛ كالطهارة والمسبوق إنما صَحَّت منه تبعًا لصحتها ممن لم يحضر الخطبة (إن لم تَمَكَّن إعادتها) جمعة بشروطها، فإن أمكنت وجبت؛ لأنها فرض الوقت، (وإن بقي العدد)، أي: الأربعون بعد انفضاض بعضهم. (ولو) كان الباقون (ممن لم يسمع الخطبة، ولحقوا بهم)، أي: بمن كان مع الإمام (قبل نقصهم أتموا جمعة)؛ لوجود الشرط كبقائه من السامعين، وإن لحقوا بعد النقص فإن أمكن استئناف الجمعة، وإلا صلوا ظهرًا".

(3)

انظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى بن الفراء (1/ 182، 183)، حيث قال: "واختلفت في العدد الذي تنعقد به الجمعة، فنقل الأثرم وإبراهيم بن الحارث: أربعون؛ لما روي أن أول جمعة جمعت في الإسلام كان العدد أربعين. ونقل محمد بن الحكم إذا كان القوم في موضع واحد خمسين جمعوا الجمعة، ويحتمل أن يكون هذا القول منه لا على طريق التحديد، لكن على معنى أن الجمعة قد تلزم =

ص: 1900

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ ثَلَاثِينَ

(1)

. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَدَدًا، وَلَكِنْ رَأى أَنَّهُ يَجُوزُ بِمَا دُونَ الأَرْبَعِينَ، وَلَا يَجُوزُ بِالثَّلَاثَةِ وَالأَرْبَعَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَحَدَّهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَقَرَّى بِهِمْ قَرْيَةٌ)

(2)

.

هي مسألة في كل الأقوال اجتهادية، فلم يَرد نصٌّ صريح فيها يُحدد عدد المصلين.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَمْعِ؛ هَلْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، أَوْ أَرْبَعَةٌ، أَوِ اثْنَانِ).

وهي مسألة لغوية

(3)

.

= عددًا مبلغه هذا القدر، وقد روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"على الخمسين جمعة"، وليس فيما دون ذلك".

وذكر المرداوي روايات أُخرى. انظر: "الإنصاف"(2/ 378).

(1)

انظر: "النوادر والزيادات"، لابن أبي زيد (1/ 452)، وفيه قال:"ومن كتاب ابن حبيب، قال مطرف، وابن الماجشون، عن مالك: إن ثلاثين بيتًا وما قاربهم جماعة. قال ابن حبيب: هاذا كانوا أقلَّ من ثلاثين من قرية واحدة، فلا يُجَمِّعوا، وإذا كانت قرية ليست من قرى التجميع وحولها قرى صغار، فاجتمع من حولها إليها، فلا يجمِّعوا حتى تكون القرية ضخمة، فيها نحو من الثلاثين بيتًا، وإلَّا فلا".

(2)

انظر: "البيان والتحصيل"، لأبي الوليد بن رشد (1/ 349)، وفيه قال:"وسئل مالك عن القرية والثغر يكون فيه قوم يرابطون ستة أشهر أو أكثر، أيجمعون الجمعة؟ قال: إن كانت قرية فيها بيوت متصلة وسوق، فإني أرى لهم جمعة، وإن لم يكونوا كذلك فلا أرى لهم جمعة. قال ابن رشد: يريد إن كان للقرية التي يقيم فيها المرابطون بيوت متصلة لها عدد وسوق دون القوم المرابطين بها - وجبت عليهم الجمعة، وأما إن لم يبلغوا العدد المشترط في وجوب الجمعة إلا بمن فيها من المرابطين فلا تجمع فيها الجمعة". وانظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 322).

قال القاضي عياض: "هذا الذي ذكره مالك رحمه الله هو شرط في وجوبها لا في إجزائها، والذي يقتضي كلام أصحابه إجزاؤها مع اثني عشر رجلًا. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3/ 260). وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 77).

(3)

قال المازري في تبيين أصل الخلاف: "فمن رأى أن أقل الجمع ثلاثة، والإِمام =

ص: 1901

* قوله: (وَهَلِ الإِمام دَاخِلٌ فِيهِمْ، أَمْ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهِمْ؟ وَهَلِ الجَمْعُ المُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَمْعِ فِي غَالِبِ الأَحْوَالِ، وَذَلِكَ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَالأَرْبَعَةِ؛ فَمَنْ ذَهَبَ إلى أَنَّ الشَّرْطَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَمْعِ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الجَمْعِ اثْنَانِ، فَإِنْ كَان مِمَّنْ يَعُدُّ الإِمامَ فِي الجَمْعِ المُشْتَرَطِ فِي ذَلِكَ قَالَ: تَقُومُ الجُمُعَة بِاثْنَيْنِ؛ الإِمَامِ وَوَاحِدٍ ثَانٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرَى أَنْ يُعَدَّ الإِمَامُ فِي الجَمْعِ قَالَ: تَقُومُ بِاثْنَيْنِ سِوَى الإِمام، وَمَنْ كَانَ -أَيْضًا- عِنْدَهُ أَنَّ أَقَلَّ الجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعُدُّ الإِمَامَ فِي جُمْلَتِهِمْ قَالَ: بِثَلَاثَةٍ سِوَى الإِمَامِ).

المسألة هنا اجتهادية، وكلٌّ منهم يَتمسك بشيء؛ فبعضهم يتمسك بأمور لُغوية، وبعضهم يتمسك بوقائع حَصلت أُديت فيها صلاة الجمعة بعدد معين.

* قوله: (وَمَنْ كَانَ -أيضًا- عِنْدَهُ أَنَّ أَقَلَّ الجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعُدُّ الإِمام فِي جُمْلَتِهِمْ قَالَ: بِثَلَاثَةٍ سِوَى الإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعُدُّ الإِمَامَ فِي جُمْلَتِهِمْ وَافَقَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ الجَمْعِ اثْنَانِ، وَلَمْ يَعُدَّ الإِمَامَ فِي جُمْلَتِهِمْ.

وَأَمَّا مَنْ رَاعَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فِي الأَكْثَرِ وَالعُرْفِ المُسْتَعْمَلِ اسْمُ الجَمْعِ، قَالَ: لَا تَنْعَقِدُ بِالِاثْنَيْنِ، وَلَا بِالأَرْبَعَةِ، وَلَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا.

= منفصل عن أقل الجمع قال ما قال أبو حنيفة. ومن قال: أقل الجمع ثلاثة والإِمام معدود فيهم جاء منه موافقة من قال بالثلاثة. ومن قال: أقل الجمع اثنان والإِمام منفصل عنهما وافق هؤلاء في الثلاثة، وإن اختلفت الطرق. ومن قال: أقل الجمع اثنان والإمام معدود فيهما وافق من قال الإِمام وآخر معه". انظر: "المعلم بفوائد مسلم" (1/ 4761).

ص: 1902

وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الجُمُعَة: الِاسْتِيطَانُ عِنْدَهُ، حَدَّ هَذَا الجَمْعَ بِالقَدْرِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا عَلَى حِدَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ مَالِكٌ رحمه الله)

(1)

.

والجمهور كلهم يَشترطون في الجمعة: الاستيطان

(2)

، فلا تجب على المسافر، وقد اشترط ذلك داود الظَّاهري، ونُقل عن الإمام الزُّهري -أحد التابعين- أنَّه قيد ذلك فيما إذا سمع المسافر النداء، وأمَّا جماهير العلماء؛ منهم الأئمة الأربعة: لا يُجِيبون الجُمُعَة على مسافر

(3)

.

* قوله: (وَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ الأَرْبَعِينَ

(4)

، فَمَصِيرًا إلى مَا رُوِيَ: أَنَّ هَذَا العَدَدَ كَانَ فِي أَوَّلِ جُمُعَة صُلِّيَتْ بِالنَّاسِ)

(5)

.

(1)

ستأتي.

(2)

مسألة اشتراط الاستيطان سيأتي ذكرها في كلام المؤلف، والقول به هو مذهب الأكثرين. قال ابن قدامة:"فأما الاستيطان، فهو شرط في قول أكثر أهل العلم. وهو الإقامة في قرية، على الأوصاف المذكورة، لا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاء، ولا تجب على مسافر ولا على مقيم في قرية يظعن أهلها عنها في الشتاء دون الصيف، أو في بعض السنة فإن خربت القرية أو بعضها، وأهلها مقيمون بها، عازمون على إصلاحها، فحكمها باق في إقامة الجمعة بها، وإن عزموا على النقلة عنها، لم تجب عليهم؛ لعدم الاستيطان". انظر: "المغني"(2/ 244، 245).

(3)

سبق تفصيل هذا.

(4)

وهم الشافعية والحنابلة، كما سبق.

(5)

فهو من أدلتهم على ترجيح الأربعين.

انظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 409)، وفيه قال:"والدلالة على جماعتهم: ما روى محمد بن إسحاق عن كعب بن مالك: "أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة قال: رحم اللَّه أبا أمامة أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتِ إنك تترحم على أبي أمامة أسعد بن زرارة إذا سمعت النداء! فقال: نعم، إنه أول مَن صلى بنا الجمعة في حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات، فقلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: كنا أربعين رجلًا".

وموضع الدلالة من هذا: هو أن مصعب بن عمير قد كان ورد المدينة قبل ذلك بمدة طويلة، وكان في المسلمين قلة، فلما استكملوا أربعين أَمَرَ أسعد بن زرارة، فصلى =

ص: 1903

وهذه الجمعة صَلَّاها أسعد بن زرارة، فكانت أول جمعة بالمدينة

(1)

، ولكن ورد أنَّ العدد فيها كان خمسين في دليل آخر، وأخذ به أحمد في رواية له

(2)

.

وقصد المؤلف هنا: أنَّ الجماعة شرط، فإذا ما تم العدد وجبت الجمعة، والعدد مختلف فيه.

* قوله: (فَهَذَا هُوَ أَحَدُ شُرُوطِ صَلَاةِ الجمعة؛ أَعْنِي: شُرُوطَ الوُجُوبِ وَشُرُوطَ الصِّحَّةِ

(3)

، فَإِنَّ مِنَ الشُّرُوطِ مَا هِيَ شُرُوطُ وُجُوبٍ

= بهم الجمعة على ما بَيَّن له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فعلم أن تأخيرها إنما كان انتظارًا لاستكمال هذا العدد، وأنه شرط في انعقادها؛ لأن فرضها قد كان نزل بمكة".

وانظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (2/ 244)، وفيه قال:"ولنا: ما روى كعب بن مالك، قال: "أول من جمع بنا أسعد بن زرارة في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون". رواه أبو داود والأثرم. وروى خصيف، عن عطاء، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: "مَضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة". رواه الدارقطني، وضعفه ابن الجوزي، وقول الصحابي: مَضت السنة - يَنصرف إلى سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(1)

أخرج أبو داود (1069)، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي أُمامة بن سهل، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصرُه، عن أبيه كعب بن مالك:"أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحَّم لأسعد بن زُرارة، فقلتُ له: إذا سمعتَ النداء ترحَّمْتَ لأسعد بن زُرارة؛ قال: لأنه أوَّلُ مَن جمع بنا في هَزمِ النبيتِ مِن حرَّة بني بياضَة في نقيع يقال له: نقيعُ الخَضِمات، قُلتُ: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون". وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(600).

(2)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 243)، وفيه قال:"وروي عن أحمد: أنها لا تنعقد إلا بخمسين؛ لما روى أبو بكر النجاد، عن عبد الملك الرقاشي، حدثنا رجاء بن سلمة، حدثنا عباد بن عباد المهلبي، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تجب الجمعة على خمسين رجلًا، ولا تجب على ما دون ذلك"، وبإسناده عن الزهري، عن أبي سلمة، قال: قلت لأبي هريرة: على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خمسين جمع بهم رسول اللَّه".

(3)

يقصد شرط الجماعة، فهو شرط وجوب في صلاة الجمعة، وكذا شرط صحة لا =

ص: 1904

فَقَطْ، وَمِنْهَا مَا يَجْمَعُ الأَمريْنِ جَمِيعًا؛ (أَعْنِي: أَنَّهَا شُرُوطُ وُجُوبٍ وَشُرُوطُ صِحَّةٍ

(1)

).

* قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ الاسْتِيطَانُ

(2)

).

فيما يتعلَّق بالاستيطان، معلوم أنَّ النَّاسَ يختلفون في سُكناهم، فهناك من يسكن المدن، وتختلف اتِّساعًا، وأقل من ذلك الاتساع زيادة سُكان وما ينقص عن ذلك، وأيضًا من ذلك القرى، إذًا هناك مدن يسكنها الناس، وهي التي تعرف بالأمصار، كذلك هناك من يَقطن

(3)

في القرى، وهناك العرب الرُّحَّل الذين يسكنون في خيام يتتبعون القَطْر، فإنَّهم يتنقلون من مكان إلى مكان، فتراهم إمَّا صيفًا أو شتاءً، يُقيمون خيامهم المعروفة؛ سواء كانت من الشعر أو غيره، فمتى ما وجدوا مواضع القطر العُشب نزلوا عندها؛ لترعى من ذلك أنعامهم، فإذا ما قل ذلك تتبعوا مواقع المطر، وحَلَّوا هناك.

= تكون الجمعة إلا به، أما اعتباره شرط وجوب فيظهر في اختلافهم في حَدِّ الواجب فيها ما بين ثلاثين وأربعين وخمسين، ومنهم من لم يحد عددًا، بل يصدق على كل قرية بيوتها متصلة وأهلها مستوطنون بها. أما اعتبار الجماعة شرط صحة فيظهر في اختلافهم في أقل الجمع الذي به تجزئ الصلاة ما بين اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وسبعة. وكل هذا قد سبق.

(1)

ذكر الرجراجي الفرق بينهما، فقال:"والفرق بين شرائط الوجوب، وشرائط الصحة: أن شرط الوجوب لا يجب على المكلَّف السعي في حصوله؛ ليتعين عليه الوجوب، ولا يكون مأثومًا بترك ذلك. . فكذلك لا يجب على أهل محلة أن يتآلفوا؛ ليحصل فيهم عدد تقام به الجمعة. وأما شرائط الصحة فإنها تتعين بعد حصول شرائط الوجوب؛ فإذا حصل الإمام والجماعة والاستيطان وجب على أهل المحلة أن يَبنوا المسجد على القول بأنه من شرائط الصحة، فإن تركوا بناءه صاروا مأثومين بترك الواجب". انظر: "مناهج التحصيل"(1/ 531، 532).

(2)

استوطن الموضعَ: أي: اتخذه وطنًا. انظر: "شمس العلوم"، للحميري (11/ 7211).

(3)

قطن فلان بالمكان: إذا أوطنه وأقام به. يقطن قطنًا فهو قاطن وقطن. انظر: "غريب الحديث"، لابن قتيبة (2/ 269).

ص: 1905

فالنوع الثاني، وأقصد بهم الذين يسكنون البوادي، ويتنقلون من مكان إلى مكان، فهؤلاء لا تجب الجمعة عليهم باتفاق العلماء

(1)

.

لكن الذين تجب عليهم الجمعة هم ما عدا هؤلاء، فهل يشترط فيهم أن يكونوا من سكان المِصر؛ أي: المدن، أم من سكان القرى؟

جماهير العلماء على أنَّه لا فرق بين المدن والقرى في وجوب الجمعة على سُكَّانها، متى ما توفرت الشروط، ووجد العدد المطلوب لإقامة الجمعة، فإن نقص العدد فإنَّه لا تجب الجمعة

(2)

. وقد مر بنا

(1)

وذلك لأنهم أهل سفر وترحال، وقد سبق ذِكر الإجماع على عدم وجوب الجمعة على المسافرين.

(2)

ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى عدم اشتراط المِصر، وأنه تصح الجمعة في القرى طالما بلغوا العدد الذي تنعقد به الجماعة، وخالف الأحناف فاشترطوا أن تكون بالمدن والأمصار، وهو قول النخعي والحسن وابن سيرين.

انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (2/ 919، 920)، وفيه قال:"قال أصحابنا: لا يجوز إفامة الجمعة في القرى؛ لما روى سعيد بن المسيب، عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا جُمعة ولا تشريق ولا فِطر ولا أَضحى إلا في مِصر جامع"، وروى سراقة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. ولا يقال: إنه موقوف على عليٍّ؛ لأنه روي مرفوعًا وموقوفًا، ذكره محمد في "الجامع". وذكره أبو يوسف في الأصل مسندًا مرفوعًا. وقد روي ذلك عن عليٍّ وعن حذيفة أنه قال: ليس على أهل القرى جمعة، وإنما الجمعة على أهل الأمصار من المدائن. وتخصيص العبادات بمكان دون مكان لا يُعلم إلا من طريق التوقيف".

وانظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 317، 318)، حيث قال:"تجب الجمعة على أهل القرى والسواد خلافًا لأبي حنيفة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة على كل مسلم". وقال ابن عباس: "إن أول جمعة جُمعت في الإسلام بعد جمعة مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لجمعة جُمعت بجواثاء؛ قرية من قرى البحرين"، ولأن كل عبادة لزمت أهل المِصر لزمت أهل القرى والسواد، كسائر العبادات واعتبارًا بالمِصر بعلة أتصال البنيان، وأنه يستوطنه عدد معقود بهم الجمعة". وانظر: "التاج والإكليل"، لمواق (2/ 519).

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 407)، وفيه قال: "فأما المكان: فمذهبنا أنها تنعقد في الأمصار، والقرى إذا كانت القرية مجتمعة البناء، وكان لها عدد تنعقد به الجمعة، وهم أربعون لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفًا إلا =

ص: 1906

الخلاف في ذلك

(1)

.

وبهذا نتبين أنَّ العلماء مختلفون فيما يتعلَّق بوجوب الجمعة على أهل القرية، هم متفقون على وجوبها على أهل المدن، ومتفقون على أنَّها لا تجب على الرُّحَّل، لكنَّهم يختلفون في وجوبها على أهل القرى.

والصحيح من مذاهب العلماء؛ وهو مذهب الجمهور: أنَّها تجب على أهل القرى؛ لأنَّ أول جمعة جمع بها بعد جمعة المدينة إنَّما كانت بالبحرين، في قرية معروفة، فقد نُصَّ على أنَّها في قرية

(2)

.

ويختلف العلماء بعد ذلك في المباني التي تقام فيها، أو تقام عليها القرى، هل يشترط أن تكون -مَثَلًا- من اللَّبِن، أو كما في وقتنا الحاضر من المسلح من الطوب، أو أنَّه يكفي بأن تكون من الجريد، أو من الخشب، أو من القصب، أو مما يشبه ذلك.

وباختصار فهذه القضية اختلف فيها العلماء: فمنهم من يشترط أن تكون من نوع المباني المعروفة التي تعارف الناس عليها.

= ظعن حاجة، وبه قال مِن الصحابة عمر، وابن عمر، وابن عباس". وانظر:"الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"، للشربيني (1/ 179).

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 312)، وفيه قال:" (بقرية) مبنية بما جرت العادة به من حَجَر أو آجر، أو لَبِن، أو خشب، أو غيرها، مُقيمين بها صيفًا وشتاءً. وعلم منه: أنه ليس من شروطها المِصر، وأنها لا تصح من أهل الخرك ونحوها".

واشتراط المصر هو قول لبعض التابعين.

انظر: "الأوسط"، لابن المنذر (4/ 27)، وفيه قال:"عن عليٍّ قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مِصر جامع"، وبه قال النخعي، وكان الحسن البصري ومحمد بن سيرين يقولان: لا جمعة إلا في مِصر، أو قال: في الأمصار. وقال الحسن: إن عمر مِصر سبعة أمصار. أو قال: مِصر الأمصار سبعة: المدينة، والبحرين، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، والشام، ومصر".

(1)

أي: الخلاف في العدد الذي به تنعقد الجمعة.

(2)

أخرج البخاري (892)، عن ابن عباس: أنه قال: "إنَّ أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين".

ص: 1907

فنقول: لو تعارف الناس في قُراهم على بناء نوع معين؛ كأن يكونوا تعارفوا في بعض مبانيهم أن يقيموها من القصب، أو الخشب، أو الجريد، أو جذوع النخل

(1)

، أو غير ذلك، فإنَّ هذا في الحقيقة يعتبر بناءً قد اصطلحوا وتعارفوا عليه، وتجب على هذا النوع الجمعة

(2)

. وكلنا يذكر

(1)

جذع النخلة، وهو غصنها. انظر:"العين"، للخليل (1/ 221).

(2)

ذهب الجمهور إلى جواز أداء الجمعة في أيِّ نوع من الأبنية مِن لَبِن أو آجر أو خشب، فكل ما كان في مقابل الخيمة من بناء جازت فيه الصلاة، أمَّا الخيم التي هي من ثياب أو صوف أو وبر أو شعر، فلا يجوز فيها الصلاة؛ لأنها من بناء أهل الترحال الذين يذهبون وراء القطر والعشب، ولا يستوطون.

انظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 73)، وفيه قال:"ولا فرق بين أن يستوطنوا بلدًا، أو أخصاصًا، والأخصاص: بيوت من قصب؛ لأنه يمكن الثوى فيها والاستغناء عن غيرهم بخلاف الخيم؛ لأنه لا يمكن فيها ما ذكر غالبًا، ولشبهها بالسفن لانتقالها بخلاف الأخصاص، وبعبارة أُخرى: المراد بالخص هنا: العرفي، أي: ما يُسمَّى في عرف الناس خُصًّا كان من قصب، أو خشب، أو بناء صغير، أو غير ذلك لا خصوص الخص اللغوي، فإنه ليس شرطًا، فالمراد بالأخصاص: ما قابل الخِيم، والمراد بالخيم: هنا الخيم العرفية، أي: ما يُسمَّى في عرف الناس خيمة كانت من ثياب، أو صوف، أو وَبر، أو شعر، أو غير ذلك لا خصوص الخيم اللغوية؛ لأنها ليست شرطًا".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 87)، وفيه قال:" (و) ثانيها أن تقع (بأبنية مجتمعة)، ولو بفضاء؛ لأنها لم تقم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين إلا في موضع الإقامة، كما هو معلوم، وسواء أكانت الأبنية من حجر أو طين أو خشب أو غيرها، فلو انهدمت فأقام أهلها على العمارة لزمتهم الجمعة فيها؛ لأنها وطنهم، (فلا تصح من أهل خيام) بمحلهم؛ لأنهم على هيئة المستوفزين".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 763، 764)، وفيه قال:" (بقرية) مبنية بما جرت العادة به من حَجر أو آجر أو لَبِن أو خشب أو غيرها، مقيمين بها صيفًا وشتاءً، وعلم منه أنه ليس من شروطها المصر، وأنها لا تصح من أهل الخرس ونحوها استقلالًا، وأما تبعًا فتَصح، بل تجب كما تقدم".

أما في مذهب الأحناف فلا يجوز عندهم هذه الأبنية كلها؛ لأن هذه الأبنية تكون في القرى، وقد سبق أنهم اشترطوا لصحة الجمعة أن تكون في الأمصار والمدائن.

ص: 1908

أنَّ مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنَّما كان سقفه من الجريد

(1)

.

إذًا أحوال الناس فيما مضى ليس كحالتهم اليوم، فليسوا كلهم فيما مضى لديهم القدرة على أن يُقيموا مساكنهم من المباني، وإنَّما كانوا يقيمونها من أنواع أُخرى، ولكن مما يشترط في المباني ألَّا تكون متباعدة بُعدًا فاحشًا، أمَّا إذا كان البُعد معقولًا؛ أي: مما لا يراه الإنسان بُعدًا مفرقًا، فإنَّه بذلك تتكون من هؤلاء المجموعة، فتجب عليهم الجمعة

(2)

.

إذًا الاستيطان هل هو واجب؟

(1)

من ذلك ما أخرجه البخاري (446)، عن نافع:"أن عبد اللَّه بن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعُمُدُه خشبُ النخلِ، فلم يَزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باللَّبِن والجريد وأعاد عُمُدَه خشبًا، ثم غيَّرَه عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة، وجعل عُمُدَه من حجارة منقوشة وسَقْفَه بالسَّاج".

(2)

فلذلك اشترطوا اتِّصال البنيان وعدم تباعدها، فلا يجيزونها في نحو مفازة أو فضاء.

انظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 2171)، وفيه قال:" (شرط أدائها: المِصر)، أي: شرط جواز أداء الجمعة المِصر حتى لا يجوز أداؤها في المفازة".

وانظر في مذهب المالكية: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 314)، وفيه قال:"ويصلي الجمعة أهل القرية المتصلة البنيان؛ كالروحاء وشبهها، وكذلك أهل الخصوص إن كان عليهم والٍ أو لم يَكن، وقال مرة: القرية المتصلة البنيان التي فيها الأسواق يجمع أهلها، ومرة لم يذكر الأسواق".

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 409)، وفيه قال:". . . فلا جمعة عليهم؛ لأن هذه المنازل ليست أوطانًا ثابتة، وكذلك إن كانوا أهل منازل متفرقة وبنيان متباعدة غير مجتمعة، ولا متصلة، لأن هؤلاء في حكم المقيمين، لا المستوطنين؛ لأن الأوطان ما اجتمعت، والجمعة لا تنعقد بالمقيم حتى يكون مستوطنًا".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 27)، وفيه قال:" (الثاني: أن يكونوا بقرية مجتمعة البناء بما جرت العادة بالبناء به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "كتب إلى قرى عرينة أن يُصلوا الجمعة"، وقوله: (مجتمعة البناء) قال في "المبدع": اعتبر أحمد في رواية ابن القاسم اجتماع المنازل في القرية. قاله القاضي، وقال أيضًا: معناه: متقاربة الاجتماع، والصحيح: أن التفريق إذا لم تَجر به العادة لم تَصِح فيها الجمعة".

ص: 1909

نعم، نقول: هو أحد الشروط التي أضافها العلماء إلى الجمعة

(1)

. ولكننا نقول: لا فرق بين أن يكون في مدينة أو قرية

(2)

، فالمدن ليست محل خلاف، والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقاموا الجمعة في هذه المدينة وفي غيرها، وأيضًا نجد أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى أطلق على بعض المُدن قُرى؛ كمكة، قال تعالى:{لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7]، وقد تكرر ذلك في آيات عديدة من كتاب اللَّه عز وجل، إذًا الاستيطان شرط، لكن لا فرق بين أن يكون في مدينة أو قرية.

* قوله: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ الاسْتِيطَانُ، فَإِنَّ فُقَهَاءَ الأَمْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الجمعة لَا تَجِبُ عَلَى المُسَافِرٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ)

(3)

.

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 22)، وفيه قال:"أما الشرائط في المصلي لوجوب الجمعة فالإقامة. . . ".

انظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 73)، وفيه قال:"باستيطان بلد، أو أخصاص لا خِيَم. (ش) الباء للمعية، أي: شرط صحة الجمعة وقوع كلها بخطبتها في وقت الظهر إلى الغروب مع الاستيطان، وهو العزم على الإقامة على نية التأبيد، ولا تكفي نية الإقامة ولو طالت".

وانظر في مذهب الشافعية: "المُهذب"، للشيرازي (1/ 207)، وفيه قال:"ولا تصح الجمعة إلا في أبنية مجتمعة يستوطنها مَن تنعقد بهم الجمعة في بلد أو قرية؛ لأنه لم تقم الجمعة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا في أيام الخلفاء إلا في بلد أو قرية، ولم ينقل أنها أقيمت في بدو".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 763، 764)، وفيه قال:" (الثاني: استيطان أربعين) رجلًا (ولو بالإمام من أهل وجوبها)، أي: الجمعة؛ لما روى أبو داود عن كعب بن مالك قال: "أول مَن صلى بنا الجمعة في نقيع الخضمات أسعدُ بن زرارة، وكنا أربعين"، ولم ينقل عمن يقتدى به أنها صُلِّيت بدون ذلك. . . (استيطان إقامة لا يظعنون)، أي: يرحلون (عنها صيفًا و) لا (شتاء)؛ لأن ذلك هو الاستيطان، (فلا) تجب. ولا تصح (جمعة ببلدة يسكنها أهلها بعض السنة دون بعض)؛ لعدم الإقامة".

(2)

هذا مذهب الجمهور خلافًا لأبي حنيفة كما سبق.

(3)

سبق بيان هذا.

ص: 1910

أمَّا المسافر ففيه خلاف، ومن العلماء مَن يرى وجوب الصلاة على المسافر إذا حضرها؛ مثل: الزُّهري، وهو أحد التابعين

(1)

، ورأينا مَن يوجبها عليه إذا توفر العدد، وهو داود الظَّاهري، ولا ننسى أنَّ داود الظاهري يرى أنَّ الجمعة تنعقد إذا اجتمع اثنان؛ أحدهما يكون إمامًا، والآخر مأمومًا

(2)

.

* قوله: (وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ؛ لِإِيجَابِهِمُ الجمعة عَلَى المُسَافِرِ

(3)

، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ المِصْرَ

(4)

وَالسُّلْطَانَ مَعَ هَذَا).

لماذا اشترط أبو حنيفة المِصر والسلطان؟

لأنَّه ورد في ذلك حديث: "لا جُمُعة ولا تشريق إلَّا في مِصر جامع". رُفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

، ووُقِف على علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(6)

.

(1)

سبق.

(2)

سبق هذا كله.

(3)

سبق ذكره.

(4)

سبق ذكر هذا، وأنه خالف الجمهور الذين أجازوا انعقاد الجمعة في القرى.

(5)

ذكره مرفوعًا أبو عبيد، فقال:"في حديثه عليه السلام: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مِصر جامع"". انظر: "غريب الحديث"(3/ 452).

وذكر أبو يوسف أن أبا حنيفة ذكره مرفوعًا، فقال:"وزعم أبو حنيفة أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مِصر جامع"". انظر: "الآثار"، لأبي يوسف (ص 60).

قال الألباني: "لا أصل له مرفوعًا فيما علمت، إلا قول أبي يوسف في كتاب "الآثار" له، وزعم أبو حنيفة أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"، فذكره مرفوعًا، وهذا وَهم، وإليه أشار أبو يوسف بقوله: "وزعم أبو حنيفة"، مع أنه إمام، على أنه معضل، وقد أشار إلى ما ذكرنا الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" بقوله: "غريب مرفوعًا، وإنما وجدناه موقوفًا على علي". انظر:"سلسلة الأحاديث الضعيفة"(917).

(6)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 167)، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليٍّ قال:"لا جمعة ولا تشريق إلا في مِصر جامع". قال البيهقي: "إنَّما يروى هذا عن عليٍّ رضي الله عنه، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يُروى عنه في ذلك شيء"، وصححه الألباني موقوفًا. انظر: المصدر السابق.

ص: 1911

إذًا: "لا جمعة"، و"لا": نافية للجنس، و"جمعة" هنا: نفي قيام الجمعة، "لا جمعة، ولا تشريق"، أي: صلاة التشريق، لا جمعة ولا تشريق إلَّا في مِصر، والمِصر قالوا: يخرج القرية إلَّا في مِصر جامع، أي: يجمع الناس، لكن هذا حديث ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به، وقد رأينا ما يعارضه، أنَّ ثاني جمعة أُقيمت في الإسلام كانت في قرية بالبَحرين؛ وتعرف (بجواثى)

(1)

.

* قوله: (وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ المِصْرَ وَالسُّلْطَانَ مَعَ هَذَا

(2)

، وَلَمْ يَشْتَرِطِ العَدَدَ.

وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا البَابِ: هُوَ الِاحْتِمَالُ المُتَطَرِّقُ إلى الأَحْوَالِ الرَّاتِبة الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ عِنْدَ فِعْلِهِ إيَّاهَا صلى الله عليه وسلم).

يُشير المؤلف إلى أنَّ القضية هنا قضية استقراء، يعني: الحنفية يقولون: صلاة الجمعة إنَّما أقامها الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم في المدينة، يعني: لم يقمها في قرية، وأقامها في مِصر جامع يجمع الناس ولم يُقمها في مكان آخر، إذًا باستقراء أحوال النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنَّ جمعه صلى الله عليه وسلم في مدينةٍ في مِصْرٍ يجمع الناس، وكذلك خلفاؤه

(3)

.

(1)

سبق ذكر هذا.

(2)

سبق ذكر اشتراط المصر، أمَّا اشتراط السلطان، فقال القدوري في "مختصره" (ص: 39) "ولا تجوز إقامتها إلا بالسلطان أو من أمره السلطان". قال الجصاص: "وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي"، وكان فعله لها بإمام، فهو سلطان. وقد روى نحو قولنا عن الزهري وسليمان بن يَسَار، ورواه الحسن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: لما لم يجز لكل واحد من الناس فعلها منفردًا دون الاجتماع، أشبهت الحدود التي لما لزم الكافة إقامتها، لم يجز لكل واحد إقامتها ممفردًا قيام الإمام بها". انظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 125، 126).

(3)

سبق ذكر ذلك عن الأحناف، ولذلك لما احتج عليهم الجمهور بما رواه ابن عباس:"أن أول جمعة جُمعت في الإسلام بعد جمعة جمعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدنية جمعت جمعة بجواثى؛ قرية من قرى البحرين". =

ص: 1912

وسيعرض المؤلف لمسألة مهمة، وهي مسألة: هل يجوز أن تتعدد الجمعة في بلد واحد؟

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا البَابِ: هُوَ الِاحْتِمَالُ المُتَطَرِّقُ إلى الأَحْوَالِ الرَّاتِبة الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ عِنْدَ فِعْلِهِ إِيَّاهَا صلى الله عليه وسلم هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، أَوْ وُجُوبِهَا، أَمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُصلِّهَا صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ وَمِصْرٍ وَمَسْجِدٍ جَامِعٍ).

هذا حصل، ولكن لا يدل على أنَّه شرط، وإنَّما هذا كان متحققًا في زمن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، لذلك مثلًا نجد أنَّه في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان فيما قبله كانت صلاة العيد تُقام في الصَّحراء، ومع ذلك لما شكا إليه بعض الناس أنَّه يوجد من بين الناس الضعفاء أَذِن لهم، أو ترك لهم أبا مسعود البدري يُصلي بهم في المسجد، وخرج بالنَّاس إلى الصحراء

(1)

.

وقد رأينا أنَّ عثمان رضي الله عنه زاد النداء الثاني -الذي هو الأول على الزَّوراء- عندما اتسعت المدينة، واقتضت الحاجة تلكم الزيادة

(2)

.

= قالوا: والجواب: أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقر عليه، فلا يثبت بفعل من فعلها حجة، ولأنها بلدة كبيرة معروفة بالبحرين، وتسميتها قرية لا يمنع أن تكون بلدًا، كتسمية مكة قرية؛ قال اللَّه تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} . وأحتج عليهم الجمهور -أيضًا- بما روي عن كعب بن مالك أنه قال: "أول من جمع بنا أسعدُ بن زرارة في هزم النَّبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. أجابوا، فقالوا: والجواب: أن الحرة من توابع المِصر، وتوابع المِصر تُقام فيها الجمعة عندنا". ذكر هذا القدوري في "التجريد"(2/ 920 - 922).

(1)

أخرجه النسائي (1561)، عن ثعلبة بن زهدم:"أن عليًّا استخلف أبا مسعود على الناس، فخرج يوم عيد، فقال: "يا أيُّها الناس، إنه ليس من السُّنَّة أن يُصَلَّى قبل الإمام"، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي" (1561).

(2)

سبق ذكره.

ص: 1913

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ اقْتِرَانَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ بِصَلَاتِهِ مِمَّا يُوجِبُ كَوْنَهَا شَرْطًا فِي صَلَاةِ الجمعة اشْتَرَطَهَا، وَمَنْ رَأى بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ اشْتَرَطَ ذَلِكَ البَعْضَ دُونَ غَيْرِهِ).

هذه قضايا يختلف فيها العلماء، ويتضح ذلك عندما ننتقل إلى الخُطبة، أي: إلى الخطبتين في الجمعة، واتفاق العلماء عدا الحسن

(1)

على أنَّها شرط في الجمعة

(2)

.

(1)

انظر: "المفهم"، لأبي العباس القرطبي (7/ 130)، وفيه قال:"واختُلف في الخُطبة: هل هي شرط في صحة الجمعة أم لا؟ فكافة العلماء على أنها شرط، وشذَّ الحسنُ فرأي أن الصلاة تجزئ دونها، وتابعه أهل الظاهر في هذا، وحكاه ابن الماجشون عن مالك".

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 262)، وفيه قال:"فالدليل على كونها شرطًا: قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، والخُطبة: ذكر اللَّه، فتدخل في الأمر بالسعي لها من حيث هي ذكر اللَّه، أو المراد من الذِّكر: الخطبة، وقد أمر بالسعي إلى الخطبة، فدل على وجوبها، وكونها شرطًا لانعقاد الجمعة، وعن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا: "إنَّما قصرت الصلاة لأجل الخطبة"، أخبَرَا أن شطر الصلاة سقط لأجل الخطبة، وشطر الصلاة كان فرضًا فلا يسقط إلا لتحصيل ما هو فرض".

وانظر في مذهب المالكية: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد بن رشد (1/ 223)، وفيه قال:"وأما الخطبة فإنما هي شرط في صحة الجمعة، وذهب ابن الماجشون إلى أنها سُنَّة. والدليل على وجوبها: قول اللَّه عز وجل: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، ومن شرطها: أن تكون قبل الصلاة".

وانظر في مذهب الشافعية: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (2/ 17)، وفيه قال:" (وما شرطنا) من الشروط الخمسة السابقة (فمعه) شرط سادس، وهو (تقديم خُطبتين، أي: مِن قبل ما صلى) الجمعة للاتِّباع، وقال صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، وهذا بخلاف العيد، فإن الخطبتين فيه مؤخرتان للاتِّباع؛ ولأن خطبة الجمعة شرط، والشرط مقدم على مشروطه".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 31)، حيث قال:" (الرابع) من شروط الجمعة: (أن يتقدمها خطبتان)؛ لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، والذِّكر: هو الخطبة، فأمر بالسعي إليها، فيكون واجبًا، إذ لا يجب السعي لغير واجب، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما؛ لقول ابن عمر: "كان صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين =

ص: 1914

فالعلماء متفقون على ذلك، لكنَّهم يختلفون في تفصيلها، ثم يختلفون بعد ذلك فيما يُقال في الخطبة، هل هناك أمور ثابتة، شروط متعينة لا بُدَّ أن يَلتزم بها كلُّ خَطيب يَخطب الناس في الجمعة، أو أنَّ له أن يختار ما يرى أنَّه مناسب، وهل له أن يختار مع تعين أمور لا بُدَّ من توفرها؟ نترك ذلك إلى محله إن شاء اللَّه.

* قوله: (وَمَنْ رَأى بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ اشْتَرَطَ ذَلِكَ البَعْضَ دُونَ غَيْرِهِ؛ كَاشْتِرَاطِ مَالِكٍ المَسْجِدَ

(1)

، وَتَرْكهِ اشْتِرَاطَ المِصْرِ

(2)

، وَالسُّلْطَانِ

(3)

، وَمِنْ هَذَا الوَضْعِ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ

= وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس"، وقال: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي"، وعن عمر وعائشة: "قصرت الصلاة من أجل الخطبة"، فهما بدل ركعتين، فالإخلال بإحداهما إخلال بإحدى الركعتين".

(1)

انظر: "المقدمات الممهدات"، لأبي الوليد بن رشد (1/ 222)، وفيه قال:"وأما المسجد فقيل فيه: إنه من شرائط الوجوب والصحة جميعًا؛ كالإمام والجماعة، وهذا على قول مَن يرى أنه لا يكون مسجدًا إلا ما كان بيتًا وله سقف؛ بدليل قول اللَّه عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن بَنى مسجدًا ولو مفحص قطاة"، الحديث، إذ قد يعدم مسجد يكون على هذه الصفة وقد يوجد، فإذا عدم كان من شرائط الوجوب، وإذا وجد كان من شرائط الصحة. وقيل فيه -أعني المسجد-: إنه من شرائط الصحة دون الوجوب، وهذا على قول مَن يقول: إن المكان من الفضاء يكون مسجدًا، ويُسمَّى مسجدًا بتعيينه وتحبيسه للصلاة فيه".

(2)

سبق أن اشتراط المِصر هو قول الأحناف فقط.

(3)

اشتراط السلطان هو مذهب الأحناف كما سبق، وخالفه الجمهور.

انظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نُكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 320 - 322)، وفيه قال:"لا تفتقر إقامة الجمعة إلى سُلطان خلافًا لأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، ولم يشترط إذن السلطان، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة واجبة على كل مسلم"، ولأن ذلك إجماع الصحابة؛ لأنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى بالناس الجمعة وعثمان رضي الله عنه محصور، وكان الإمام عثمان. ولم يذكر أنه استأذنه، وقد كان قادرًا على ذلك. وقد كان سعيد بن العاص أمير المدينة فأخرجوه منها، وجاء أبو موسى =

ص: 1915

هَذَا البَابِ، مِثْلَ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ تُقَامُ جُمُعَتَانِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ، أَوْ لَا تُقَامُ؟).

هذه مسألة في نظري من المسائل الكبرى، وما كان ينبغي للمؤلف أن يذكرها عَرَضًا؛ لأنَّه التزم بأنَّه سيذكر أمهات المسائل وقواعدها، وهذه قضية مهمة جدًّا، هل يجوز تعدد الجمعة، أم لا؟ لأنَّ مَن لا يرى تعددها لا يرى صحة الجمعة في غير المسجد الجامع الذي يقيمه الإمام أو من يُنيبه، ومَن يرى ذلك يرى جوازه، ومعلوم أنَّ الأحوال قد تغيرت، وأنَّ الأمور قد تبدلت، ففرق بين الزمن الذي كان فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبين زماننا هذا وما قبله، فإنَّ المسلمين -بحمد اللَّه- قد كثروا، وبلاد المسلمين قد اتسعت، ومدنهم -أيضًا- قد تمددت، وكثر فيها عدد السكان، فهل نبقي الحال على ما كان في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو ما كان في زمن الخلفاء الرَّاشدين، أو بعدهم، وحتى في زمن الأئمة، بل لو دققنا النظر في هذه المسألة لوجدنا أنَّ آخر الأئمة وهو الإِمَامِ أحمد يختلف عن بقية الأئمة، فهو قد وَسَّع في تعدد الجمعة، وإن كان وَضعَ قيدًا، ومن العلماء من رأى التعدد، إذًا هذه قضية مهمة جدًّا، والعلماء قد اختلفوا فيها:

= الأشعري فصلى بالناس الجمعة، ولأنه صلاة فلم يكن من شرط إقامتها الإمام كسائر الصلوات، ولأنها عبادة على البدل كالحج".

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 446)، وفيه قال:"قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "والجمعة خلف كل إمام صلاها من أمير ومأمور ومُتغلب على بلد وغير أمير جائزة، وخلف عبد ومسافر كما تجزئ الصلاة في غيرها". قال الماوردي: وهذا كما قال. صلاة الجمعة لا تفتقر إلى حضور السلطان، ومَن أداها من المسلمين بشرائطها انعقدت به".

وفي مذهب الحنابلة روايتان المشهور؛ منها: أنه لا يُشترط إذنه.

انظر: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 330)، وفيه قال:"ولا يشترط للجمعة إذنُ الإمام؛ لأن عليًّا رضي الله عنه صَلّى بالناس، وعثمان رضي الله عنه محصور، ولأنها من فرائض الأعيان، فلم يعتبر لها إذن الإمام؛ كالظهر. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل، وعنه: أنه شرط؛ لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة". وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 311).

ص: 1916

1 -

فمنهم من ذهب -وهم أكثرهم الحنفية من حيث الجملة لا التفصيل- إلى التعدد

(1)

؛ كمحمد بن الحسن، فيرى أن تُقام جمعتان، وأبو يوسف يرى أنَّها -مثلًا- تقام جمعتان في بغداد، وهذا حديث عما مضى:"إذا وُجدت مدينة يفصل بينها فاصل، فإنَّها تقام جمعتان"

(2)

.

2 -

ولكن الأئمة من حيث الجملة: أبو حنيفة

(3)

، ومالك

(4)

،

(1)

والقول بالتَّعدد هو صحيح المذهب. انظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 154)، وفيه قال:"يصح أداء الجمعة في مِصر واحد بمواضع كثيرة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وهو الأصح؛ لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حرجًا بيِّنًا، وهو مدفوع، كذا ذكر الشارح، وذكر الإمام السرخسي أنَّ الصحيح من مذهب أبي حنيفة جواز إقامتها في مِصر واحد في مسجدين وأكثر، وبه نأخذ، لإطلاق: "لا جمعة إلا في مِصر" شرط المصر فقط".

(2)

انظر: "مجمع الأنهر"، لشيخي زاده (1/ 167)، وفيه قال:" (وعن الإمام) لا تجوز إلا (في موضع فقط)؛ لأنها من أعلام الدين، فلا يجوز تقليل جماعتها. وفي جوازها في مكانين تقليلها، فإن أديت في موضعين أو أكثر، فالجمعة للأول تحريمة، فإن وقعتا معًا بَطلتا لعدم المرجح. وقيل: فراغًا. وقيل: فيهما جميعًا. وقيل: تجوز في موضعين، ولا تجوز في أكثر، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمد ورواية عن الإمام، ولكن في "الخانية" لم يذكر قول الإمام، وإنما ذكر ما بين أبي يوسف ومحمد. (وعند أبي يوسف: تجوز في موضعين إن حال بينهما نَهر) كبير؛ كبغداد، أو كان المِصر كبيرًا، كما في "الشمني"، وروي عنه: أنه لا تجوز إذا كان عليه جسر. . . ".

(3)

وهي رواية عنه كما سبق.

(4)

انظر: "الإشراف على نُكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 335)، وفيه قال:"لا تَنعقد الجمعة في المِصر الواحد إلا في موضع واحد، خلافًا لأبي حنيفة ومحمد؛ لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}، فكان هذا مجملًا، فبينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فأقام الجمعة في موضع واحد، مُفتتحًا لها مبتدئًا أُقيمت في خمس مواضع وأكثر، ولأن السعي إلى الأولى قد وجب بالنداء إليها، والثانية يقع منهيًا عنها؛ لأن على مَن يقيمها أن يسعى إلى الأولى، وشرك ما هو فيه، ولأنها لو جازت في موضعين لكان مَن سمع النداء فيهما لا يخلو مِن أن يُجيبهما، ولا يمكن ذلك، أو أن يكون مخيرًا وليس في ذلك تخيير فلم يَبق إلا المنع".

والقول بالمنع هو مشهور المذهب. =

ص: 1917

والشافعي

(1)

، وهي رواية -أيضًا- للإمام أحمد

(2)

يرون أنَّه لا يجوز أنَّ

= انطر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 57)، وفيه قال:"المشهور: المنع؛ رعاية لفعل الأولين، وطلبًا لجمع الكلمة. والجواز ليحيى بن عمر، والتفصيل لابن القصار، قال: إذا كانت المدينة ذات جانبين؛ كبغداد، فيُشبه على المذهب أن يجمعوا. ورأى أنها تَصير بذلك كالبلدين. خليل: ولا أظنهم يختلفون في الجواز في مِثل مِصر وبغداد".

(1)

انظر: "المهذب"، للشيرازي (1/ 220، 221)، وفيه قال:"قال الشافعي رحمه الله: ولا يجمع في مِصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد، والدليل عليه: أنه لم يُقمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء من بعده في أكثر مِن موضع".

والمذهب على جواز التَّعدد في المِصر الواحد إذا كان ذلك للضرورة.

انظر: "المجموع شرح المهذب"(4/ 585)، وفيه قال:"قال أصحابنا: وقد دخل الشافعيُّ بغداد، وهم يقيمون الجمعة في موضعين، وقيل: في ثلاثة، فلم ينكر ذلك، واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك وفي حكم بغداد في الجمعة على أربعة أوجه، ذكر المصنف الثلاثة الأولى منها هنا، وكلامه في "التنبيه" يقتضي الجزم بالرابع. أحدها: أن الزيادة على جمعة في بغداد جائزة، وإنما جازت؛ لأنه بلد كبير يشق اجتماعهم في موضع منه. قال أصحابنا: فعلى هذا تجوز الزيادة على جمعة في جميع البلاد التي تكثر الناس فيها، ويعسر اجتماعهم في موضع. وهذا الوجه هو الصحيح، وبه قال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي، قال الرافعي: واختاره أكثر أصحابنا تصريحًا وتعريضًا. . . ".

(2)

انظر: "الأحكام السلطانية"، لأبي يعلى الفراء (ص: 103)، وفيه قال:"وقد أومأ إليه أحمد في رواية الأثرم، وقد سئل: هل علمت أن أحدًا جمع جمعتين في مِصر واحد؟ قال: لا أعلم أحدًا فعَلَه -أي: من الماضين- وجمعة بعد جمعة لا أعرف".

والمذهب على الجواز عند الحاجة:

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 39)، وفيه قال:" (وتجوز إقامتها)، أي: الجمعة (في أكثر من موضع من البلد؛ لحاجة إليه كضيق) مسجد البلد عن أهله (وخوف فتنة) بأن يكون بين أهل البلد عداوة، فيخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجد واحد، (وبُعد) للجامع عن طائفة من البلد. (ونحوه)؛ كسعة البلد وتباعد أقطاره، (فتصح) الجمعة (السابقة واللاحقة)؛ لأنها تُفعل في الأمصار العظيمة في مواضع من غير نَكير، فكان إجماعًا. وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يُقمها هو ولا أحد من الصحابة في أكثر من موضع فلعدم الحاجة إليه، ولأن الصحابة كانوا يُؤثرون سماع خطبته، وشهود جمعته وإن بَعدت منازلهم؛ لأنه المبلغ عن اللَّه تعالى، (وكذا العِيد) تجوز إقامتها في أكثر من موضع من البلد للحاجة، لما سبق". =

ص: 1918

تتعدد الجمعة في بلد، أي: لا يجوز أن تُقام أكثر من جمعة في بلد واحد.

3 -

ومِن العلماء من قال بجواز تعدد الجمعة؛ أي: مطلقًا، وهو قوله عطاء من التابعين

(1)

، وقوله داود الظاهري

(2)

.

4 -

ومن العلماء -وهي الراوية الأخرى عند الإمام أحمد

(3)

- مَن أجاز التعدد عند الحاجة

(4)

.

والذين منعوا تعدد الجمع استدلوا بما يأتي:

قالوا: ما عُرف في زمن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أنَّها أقيمت أكثر من جمعة في

= أما تعددها من غير حاجة فلا يَجوز. انظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 196)، وفيه قال:"لا خلاف في المذهب: أنه لا يجوز إقامة جمعتين في بلد من غير حاجة؛ لأنه خلاف فِعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده".

(1)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (2/ 119)، وفيه قال:"وقد روينا عن عطاء أنه قيل له: أهل البصرة لا يَسعهم المسجد الأكبر؟ قال: لكل قوم مَسجد يجتمعون فيه، ويجزئ ذلك عنهم من التَّجميع في المسجد الأكبر".

(2)

وهو مذهب الظاهريَّة. انظر: "المُحلى بالآثار"، لابن حزم (3/ 257، 258)، حيث قال:"الجمعة جائزة في مسجدين فصاعدًا في القرية. . . لنا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، فلم يقل عز وجل: في موضع ولا موضعين ولا أقل، ولا أكثر {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}، ومن البرهان القاطع على صحة قولنا: أن اللَّه تعالى إنما افترض في القرآن السعي إلى صلاة الجمعة إذا نودي لها، لا قَبْل ذلك، وبالضرورة أن مَن كان على نحو نصف ميل، أو ثلثي ميل لا يدرك الصلاة أصلًا إذا راح إليها في الوقت الذي أمره اللَّه تعالى بالرَّواح إليها. فصح ضرورة أنه لا بد لكل طائفة من مسجد يجمعون فيه إذا راحوا إليه في الوقت الذي أمروا بالرواح إليه فيه أدركوا الخطبة والصلاة، ومَن قال غير هذا، فقد أوجب الرواح حين ليس بواجب، وهذا تناقض وإيجاب ما ليس عندهم واجبًا".

(3)

انظر: "الأحكام السلطانية"، لأبي يعلى الفراء (ص: 103)، وفيه قال:"تجوز إقامة الجمعة في موضعين منه للضرورة؛ لكثرة أهله. وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي. وقد سئل عن الصلاة يوم الجمعة في موضع يكون فيه مسجدان. فقال: صَلِّ. أذهب إلى قول عليٍّ في العِيد أنَّه أمر رجلًا يصلي بضعفة الناس".

(4)

وهو الصَّحيح من مذهب الشافعية ومشهور مذهب الحنابلة، كما سبق.

ص: 1919

مدينة واحدة، فها هي المدينة التي عاش فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والمؤمنون مِن بعدهم في القرون الأولى، ما عُرف أنَّه أُقيم فيها أكثر من جمعة، إذًا لو كانت الجمعة جائزة، أو كان تعدد الجمعة جائزًا لحصل ذلك من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، ولبينه للناس، لكن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لم يُعَدِّد الجمع، ولم يأذن بذلك، ولم يُفعل في زمنه فَيُقره، فذلك دليل على أنَّها لا تتعدد. قالوا: ولم يحصل ذلك في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وحتى في زمن عليٍّ بالنسبة للجمعة، رضي الله عنهم جميعًا، إذًا الجمع لم تتعدد هنا

(1)

.

ولكن يجاب عن ذلك: بأنَّ عدم تتعدد الجمع في المدينة إنَّما هو لعدة أسباب: يأتي في مقدمتها عدم الحاجة إلى ذلك، فهل المجتمع المدني في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي زمن خلفائه الرَّاشدين هو بهذا الحجم، وبهذا العدد؟

(1)

وهذا القول هو مشهور مذهب المالكية، وقول لبعض الشافعية.

انظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 335)، وفيه قال:"لا تنعقد الجمعة في المِصر الواحد إلا في موضع واحد، خلافًا لأبي حنيفة ومحمد؛ لقول اللَّه تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}، فكان هذا مجملًا، فبينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فأقام الجمعة في موضع واحد، مفتتحًا لها مبتدئًا أقيمت في خمس مواضع وأكثر، ولأن السعي إلى الأُولى قد وجب بالنداء إليها، والئانية يقع منهيًّا عنها؛ لأن على مَن يقيمها أن يسعى إلى الأولى ويترك ما هو فيه". وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 52).

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 448)، وفيه قال:"والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه: أنَّ الجمعة وشرائطها مُرتبط بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومحدود فيه، فلا يتجاوز حكمها عن شرطه وفعله، فكان مما وصف به الجمعة وجعله شرطًا لها أن عطل لها الجماعات، وأقامها في مسجد واحد في أول الأمر، وعند انتشار المسلمين وكثرتهم، ثم جرى عليه الخلفاء رضي الله عنهم بعده، ولو جازت في موضعين لأبان ذلك ولو مرة واحدة إمَّا بقوله أو بفعله، ولأنها لا تخلو من أحد أمرين: إمَّا أن يصح انعقادها في كل مسجد إلحاقًا بصلاة الجماعة، أو لَا يصحُّ انعقادها إلا في مسجد واحد اختصاصًا لها بتعطيل الجماعة، إذ ليس أصل ثابت ترد إليه، فلما لم يصح انعقادها في كل مسجد ثبت أنه لا يصحُّ انعقادها إلا في مسجد واحد".

ص: 1920

أبدًا؛ لا يقرب من ذلك، إذًا نسبته إلى هذا العدد قليلة جدًّا، إذًا لم تكن هناك حاجة لإقامة أكثر من جمعة.

الأمر الآخر: أنَّ الصلاة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تختلف عن غيره، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الذي يَنزل عليه الوحي، وهو المُبَلِّغ عن اللَّه سبحانه وتعالى رسالته، وهو الذي تنزل عليه الأحكام فيُلقيها على الناس، والناس يحرصون على أن يأتوا فيحضروا صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ليأخذوا من علمه وأحكامه.

وأيضًا لما في الصلاة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الفضل، إذًا لم تكن هناك حاجة

(1)

.

وقد يقال: تكرر ذلك في زمن الخلفاء الرَّاشدين.

ويُجاب أيضًا: بأنَّهم كانوا يحرصون على أن يأخذوا عن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكننا نقول: قد صح ذلك وثبت عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه أَذِنَ للضعفاء من المسلمين أن تُصلى بهم صلاة العيد في المسجد، وخرج بالآخرين، وهذه صلاة عيد، وهذه صلاة عيد الجمعة فلا فرق

(2)

.

نعود مرة أُخرى لنقرر المسألة: اللَّه سبحانه وتعالى قد أنزل علينا هذه الشريعة وخصها بخصائص لم تكن في الشرائع السابقة، ولقد استقرأ العلماء رحمهم الله هذه الشريعة، وبينوا أنَّها تقوم على أُسس عظيمة، يأتي في

(1)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 248)، وفيه قال:"ولنا: أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع، كصلاة العيد. وقد ثبت أن عليًّا رضي الله عنه كان يَخرج يوم العيد إلى المصلى، ويَستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود البدري، فيصلي بهم. فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة جُمعتين، فلغناهم عن إحداهما، ولأن أصحابه كانوا يَرون سماع خطبته، وشهود جمعته، وإن بعدت منازلهم؛ لأنه المبلغ عن اللَّه تعالى، وشارع الأحكام، ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صُلِّيت في أماكن، ولم يُنكر، فصار إجماعًا. وقول ابن عمر يعني: أنها لا تقام في المساجد الصِّغار ويترك الكبير، وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود، فلا وجه له".

(2)

سبق ذكر هذا.

ص: 1921

مقدمة هذه الأسس والأصول: التيسير ورفع الحرج؛ يقول سبحانه وتعالى في كتابه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال أيضًا:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"بَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا، ويَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا"

(1)

.

إذًا هذه الشريعة جاءت لترفع عن هذه الأمة الأغلال

(2)

التي كانت على الأمم السابقة، فهذه الشريعة وضع فيها العلماء القاعدة المعروفة:(المشقة تجلب التيسير)، آخذين ذلك من نصوص كتاب اللَّه عز وجل، ومن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(3)

، فلو أنَّه أخذ بقول الأكثرين: لا يجوز أن تتعدد الجمعة في بلد واحد، فهل من الممكن أن يجتمع الناس كلهم في هذه المدينة التي تعتبر من أواسط المدن سكانًا، هل يمكن أن يجتمع الناس دون أن يلحقهم ضرر وعناء ومشقة؟ وعلمنا أنَّ الضرورات أباحت المحظورات

(4)

،

(1)

أخرج البخاري (3038)، ومسلم (1733/ 7)، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جَدِّه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، قال: "يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، وبشِّرَا ولا تُنفِّرَا، وتَطَاوَعَا ولا تَختلفَا"".

(2)

الأغلالُ: جمع غُلٍّ، وهو: الذي يُغَلُّ به الإنسانُ، أي: يُشَدُّ به إلى عنقه. انظر: "شمس العلوم"، للحميري (8/ 4870).

(3)

انظر: "التحبير شرح التحرير"، للمرداوي (8/ 3847 - 3850)، وفيه قال:"ومن القواعد: أن المشقة تجلب التيسير. ودليله: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، إشارة إلى ما خُفِّف عن هذه الأمة من التشديد على غيرهم؛ من الإصر ونحوه، وما لهم من تخفيفات أُخَر؛ دفعًا للمشقة، كما قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، وكذلك تخفيف الخمسين صلاة في الإسراء إلى خمس صلوات، وغير ذلك مما لا ينحصر. ولدخل تحت هذه القاعدة: أنواع من الفقه، منها في العبادات: التيمم عند مشقة استعمال الماء على حسب تفاصيل في الفقه، والقعود في الصلاة عند مشقة القيام وفي النافلة مطلقًا، وقصر الصلاة في السفر، والجمع بين الصلاتين، ورُخص السفر وغيرها".

(4)

قاعدة الضرورات تُبيح المحظورات، معناها: أن وجود الضَّرر يُبيح ارتكاب المحظور، أي: المحرم، بشرط كون ارتكاب المحظور أخف من وجود الضرر، ومِن ثَمَّ جاز -بل وجب- أكل الميتة عند المخمصة، وكذلك إساغة اللقمة بالخمر =

ص: 1922

وهنا لا يتعلَّق الأمر بأمر محظور يصل إلى حَدِّ تحريم الميتة، ونحوها، والعلماء قالوا: الحاجة تُنَزَّل منزلة الضرورة؛ عامَّة كانت أو خاصَّة

(1)

، والحاجة هنا قائمة، فما بالكم في مُدن يَصل عدد سكانها إلى عشرة ملايين، أو يتجاوز ذلك، أو أقل، هذا أمر متعذر، ويترتب عليه عناء ومشقة وضرر يلحق بالمسلمين.

إذًا الواقع أنَّ تعدد الجمعة نظرًا للحاجة إليه: جائزٌ.

لكن لا ينبغي أن يتوسع في ذلك من غير حاجة، فيقال: كل مسجد تقام في الجماعة تقام فيه الجمعة، لا، ينبغي أن تلاحظ حالات الناس وظروفهم، وليس كل الناس لديها الاستطاعة أن ينتقل من مكان بعيد إلى مكان قريب.

إذًا أقرب الأقوال في ذلك هو الذي يلتقي مع روح هذه الشريعة، ومع سموها وشرها وتخفيفها؛ هو أنَّه يجوز أن تتعدد الجمعة عند الحاجة إليها، فإذا احتاج المسلمون في مدينة من المدن إلى أن تقام صلاة الجمعة

= وبالبول، وقتل المحرم الصيد دفعًا عن نفسه إذا صال عليه فإنه لا يَضمن. ومنها: العفو عن أثر الاستجمار، وغير ذلك مما لا حصر له. انظر:"مختصر التحرير شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (4/ 444).

(1)

يقصد أن الحاجة التي تتعلق بها مصالح الناس تُباح لهم، وإن كان فيها شيء من المحظور حفاظًا على مصالحهم.

انظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 88)، وفيه قال:"الحاجة تُنزل منزلة الضرورة؛ عامة كانت أو خاصة. من الأولى: مشروعية الإجارة، والجعالة، والحوالة، ونحوها، جوزت على خلاف القياس؛ لما في الأولى مِن ورود العقد على منافع معدومة، وفي الثانية من الجهالة، وفي الثالثة مِن بَيع الدَّيْن بالدَّيْن؛ لعموم الحاجة إلى ذلك، والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة. ومنها: مسألة الصلح وإباحة النظر للمعاملة، ونحوها، وغير ذلك. ومن الثانية: تضبيب الإناء بالفضة يجوز للحاجة، ولا يعتبر العجز عن غير الفضة؛ لأنه يُبيح أصل الإناء من النقدين قطعًا، بل المراد الأغراض المتعلقة بالتضبيب سِوى التزيين؛ كإصلاح موضع الكسر والشَّد والتوثق. ومنها: الأكل من الغَنيمة في دار الحرب جائز للحاجة، ولا يشترط للآكل أن لا يكون معه غيره".

ص: 1923

في أماكن متعددة، فذلك جائز، وذلك لا يخرج عن نطاق الشريعة الإسلامية، بل يلتقي مع لُبِّها، ومع روحها؛ لأنَّ في ذلك تيسيرًا على الناس، وتخفيفًا عليهم، ورفعًا للمشقة عنهم، وذلكم هو ما جاءت به هذه الشريعة.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الأَحْوَالِ وَالأَفْعَالِ المُقْتَرِنَةِ بِهَا، هُوَ كَوْنُ بَعْضِ تِلْكَ الأَحْوَالِ أَشَدَّ مُنَاسَبة لِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنْ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الجَمَاعَةِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الأَحْوَالِ المَوْجُودَةِ فِي الصَّلَاةِ

(1)

. وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ المِصْرَ وَلَا السُّلْطَانَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِأَحْوَالِ الصَّلَاةِ)

(2)

.

الشافعي وأحمد مع الإمام مالك في ذلك، يعني: لا يرى المصر شرطًا، لأنَّه يرى أن تقام الجمعة في القرية، وهو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد

(3)

، ولا يرى أنَّ الصلاة لا بُدَّ أن تقام وراء السلطان.

نعم، الأَوْلَى أن تقام وراء السُّلطان، لكن السلطان له أن يُنيب غيره؛ له أن ينيب القاضي، أو ينيب إمامًا، وغير ذلك، فيصلي بالناس، وهذا

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "مختصر القدوري"(ص: 39)، وفيه قال:"ومن شرائطها: الجماعة".

وانظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 38)، وفيه قال:"الجماعة شرط في صحتها".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 304)، وفيه قال:" (الرابع) من الشروط: (الجماعة) إجماعًا ممن يعتد به، فلا تَصح فرادى؛ إذ لم ينقل فعلها كذلك، والجماعة شرط في الركعة الأولى فقط. أما العدد فشرط في جميعها".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 146)، وفيه قال:"وإنَّما اعتبرت الركعة في الجمعة للمسبوق؛ لأن الجماعة شرط لصحتها. فاعتبر إدراك الركعة في الجماعة؛ لئلا يفوته الشرط في أكثرها".

(2)

سبق بيان مذأهب العلماء في اشتراط المِصر والسلطان في الجمعة.

(3)

سبق بيان هذا.

ص: 1924

معروف في أوائل الإسلام

(1)

.

* قوله: (وَرَأى المَسْحِدَ شَرْطًا؛ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مُنَاسَبة

(2)

، حَتَّى لَقَدِ اخْتَلَفَ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، هَلْ مِنْ شَرْطِ المَسْجِدِ السَّقْفُ أَمْ لَا؟

(3)

).

هذا من باب التشديد، وهو لا يلتقي مع روح الشريعة الإسلامية التي جاءت بالتيسير على هذه الأمة، وسيورد المؤلف جملة من الآيات والأدلة، وهذا يدل على أنَّه رحمه الله لم يَكن مُتعصبًا لمذهبه؛ لأنَّه ينتسب إلى مذهب مالك، لكن الحقَّ دائمًا ضالة المؤمن، وهكذا شأن كل إنسان يريد

(1)

سبق.

(2)

قال الحطاب في "مواهب الجليل"(2/ 160): "قال سند: أمَّا المسجد فهو شرط متفق عليه لا يُؤْثَر فيه خلاف عن أحد إلا أبا ثور وشيء تأوله بعض الناس عن مالك، وهل يَتعين؟ فعند مالك والشافعي: لا يكون المسجد إلا داخل المِصر، ولا تصلى في مسجد العِيد، وقال أبو حنيفة: تجوز خارج المِصر قريبًا نحو المواضع التي جعلت مُصلى لصلاة العيد، ووجه المذهب: العمل المتصل؛ ولأن هذا الموضع يجوز لأهل المصر قَصر الصلاة فيه، أعني: إذا سافروا عن المصر، فلم يجز لهم إقامة الجمعة فيه، كالمواضع البعيدة عنه".

(3)

الذين اشترطوا أن يكون المسجد به سقف قالوا ذلك؛ لأن المسجد عندهم شرط وجوب وصحة لا تنعقد الجمعة إلا به. انظر: "منح الجليل"، لعليش (1/ 426، 427)، وفيه قال:"وأما المسجد فقيل: شرط وجوب وصحة معًا؛ كالإمام والجماعة، وهذا على أنه لا يكون مسجدًا، إلا إذا بُني وسُقِّف، إذ قد يعدم على هذه الصفة فلا تجب، فصح كونه شرط وجوب إذ لزم من عدمه عدمه، وإذا وجد فلا تصح إلا فيه، فصح كونه شرط صحة أيضًا، فلذا أفتى الباجي أهل قرية انهدم مسجدهم وحضرت الجمعة قبل بنائه بأنه لا تصح لهم الجمعة فيه".

والراجح: عدم اشتراطه. انظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 160)، وفيه قال:"ص: (وفي اشتراط سقفه). ش: الظاهر: عدم اشتراط سقفه، كما قاله ابن رشد وشيخه ابن زرقون وابن الحاج، كما نقله عنهم ابن ناجي في "شرح المدونة"، ولاتفاق العلماء على أن المسجد الحرام كان فضاء حول الكعبة في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي خلافة الصديق وخلافة الفاروق رضي الله عنهما، وكانت الجمعة تُقام فيه، ولم يُذكر أن أحدًا من الصحابة أنكر إقامة الجمعة به، وهو دليل على عدم اشتراط السقف، واللَّه أعلم".

ص: 1925

الوصول إلى الحقِّ، لا ينبغي أن يتتبع الرجال على أسمائهم؛ فيقول: هذا قول فلان لا بُدَّ أن آخذ به، فإن كانت القضية قضية قول فلان؛ فالأولى دائمًا أن تقف عند أقوال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، هذا الذي ينبغي، لكن العلماء يختلفون، وأنت خذ ما ترى أنَّ الدليل يُعضده، ويقف بجانبه.

* قوله: (حَتَّى لَقَدِ اخْتَلَفَ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ: هَلْ مِنْ شَرْطِ المَسْجِدِ السَّقْفُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ تَكُونَ الجُمُعَةُ رَاتِبةً فِيهِ أَمْ لَا؟

(1)

، وَهَذَا كُلُّهُ تَعَمُّقٌ فِي هَذَا البَابِ).

وأنا مع المؤلف في ذلك، لا حاجة أن يكون هناك سقف، ثم نوع السقف، ثم أن يكون دائمًا تُقام فيه الجمعة، هذه أمور فيها تشديد، وليس هناك أدلة تدل عليها.

* قوله: (وَهَذَا كلُّهُ تَعَمُّقٌ فِي هَذَا البَابِ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ).

(1)

أي: هل من شرط المسجد: أن تقام الجمعة فيه دائمًا، بحيث لو حدث لهم عذر منعهم من الصلاة فيه - يصلون في غيره أم لا؟ خلاف. والراجح الصحة، وعدم اشتراط التأبيد.

انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 54)، وفيه قال:"وهل يشترط في الجامع العزم على إيقاعها على التأبيد فيه؟ فذهب الباجي إلى الاشتراط، وأنهم لو أصابهم ما يمنعهم من الجامع لعذر لم تصح لهم الجمعة في غيره، إلا أن يحكم له بحكم الجامع، وينقل الجمعة إليه. ووافقه ابن رشد في مسائله المجموعة عليه، وخالفه في مقدماته، قال: وقد أقيمت الجمعة بقرطبة في مسجد أبي عثمان دون أن تنقل الجمعة إليه على التأبيد، والعلماء متوافرون، ولو نقل الإمام الجمعة في جمعة من الجمع من المسجد الجامع إلى مسجد من المساجد من غير عذر لكانت الصلاة مُجزئة. انتهى".

وهو الراجح عند المتأخرين. انظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 502)، وفيه قال:" (ولا قصد تأبيدها)، أي: إقامة الجمعة (به)، أي: فيه، فتصح في مسجد قصدوا بعد مدة الانتقال لغيره ولو لغير عذر، (أو إقامة) الصلوات (الخمس) فيه لا يشترط، فتصح في جامع لم يُصل فيه إلا الجمعة".

ص: 1926

يعني: يريد المؤلف أن يقول: يُخشى أن يصل ذلك إلى درجة الغلو، وكم من أقدام زَلَّت

(1)

بسبب الغلو، واللَّه سبحانه وتعالى حَذَّرنا أن نقع فيما وقع فيه من سبقونا؛ قال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]، وقوله:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"هَلَكَ المُتَنَطِّعُون"

(2)

، وقال:"إيَّاكم والغُلُوَّ في الدِّين"

(3)

، فكم من أُناس زَلَّت أقدامهم، وانحرفوا عن الطريق السوي، وركبوا طريق الغواية

(4)

، بسب غلوهم في دين اللَّه، وخير مثال على ذلك: ما حصل من الخوارج، وأيضًا يقابل ذلك الذين يُفرطون في دين اللَّه، ويتساهلون فيه، فيخرجون من ربقة الإسلام.

إذًا دينُ اللَّه وسط، ولن يُشاد الدين أحد إلَّا غلبه، لذلك الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يقول:"سددوا وقاربوا"

(5)

.

(1)

زَلَّ الشيءُ عن الشيء، إِذا دحض عنه يَزِلُّ زَلًّا وزَلِيلًا. وزَلَّ الرجل زلَّة قبيحة، إذا وقع في أمر مكروه أو أخطأَ خطأً فاحشًا. ومنه قولهم: نعوذ باللَّه من زلَّة العالم. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (1/ 130).

(2)

أخرجه مسلم (2670/ 7)، عن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هَلَك المُتنطعون"، قالها ثلاثًا.

(3)

أخرجه النسائي (3057)، عن ابن عباس، قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غَداة العقبة وهو على راحلته: "هات، القط لي". فلقطت له حَصَيات هن حَصى الخَذف، فلما وضعتهن في يده، قال:"بأمثال هؤلاء، وإيَّاكم والغُلُوَّ في الدين؛ فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1283).

(4)

غوى الرجل يغوي غيًّا: انهمك في الباطل. والغواية: الضلال. انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص: 687).

(5)

أخرجه البخاري (39)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الدين يُسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".

ص: 1927

إذًا لا ينبغي أن يذهب المؤمن إلى الغلو

(1)

، ولا إلى أن يُفرط في دينه، وإنَّما ينبغي عليه أن يسير في نطاق كتاب اللَّه عز وجل وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونعلم قصة أولئك النفر الذين قال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال الثاني: لا أنام الليل. وقال الثالث: لا أفطر؛ يعني: أصوم دائمًا. فأنكر عليهم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وبين أنَّ ذلك ليس من روح الإسلام، ومع أنَّه صلى الله عليه وسلم أتقى للَّه سبحانه وتعالى، وأفضل خلق اللَّه على الإطلاق بما في ذلك الأنبياء إلَّا أنَّه قال:"أمَّا أنا فأصوم وأُفطر، وأُصَلِّي وأرقد، وأتزوج النِّساء، فمَن رغب عن سنتي فليس مني"

(2)

.

إذًا التَّشدد في دين اللَّه غير مطلوب، وفرقٌ بين التَّشدد والغلو وبين التزام الطريق السوي الذي أمر اللَّه به سبحانه وتعالى وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهو الطريق المستقيم الذي أشار اللَّه عز وجل إليه بقوله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، ولا شكَّ أنَّ اتباع طريق اللَّه سبحانه وتعالى، والتزام صراطه هو الذي فسَّره الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عن طريق ضرب المثل، عن طريق الخطوط

(3)

، هذا هو الطريق السوي، أمَّا الغلو في

(1)

الغلو: الارتفاع في الشيء، ومجاوزة الحد فيه. انظر:"جمهرة اللغة"، لابن دريد (2/ 961).

(2)

أخرجه البخاري (5063)، واللفظ له، ومسلم (1401/ 5)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:"جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء؛ فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني"".

(3)

أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(11110)، عن عبد اللَّه، قال:"خَطَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خَطًّا، وخَطَّ عن يمين الخَطِّ وعن شماله خُطَطًا، ثم قال: "هذا صراط اللَّه مستقيمًا، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ: "{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} ، وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح"(166).

ص: 1928

دين اللَّه، فهو خروج عن دين اللَّه، وكم مِن أمم وأناس وقعوا بسب غلوهم في دين اللَّه سبحانه وتعالى.

* قوله: (وَلقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ شُرُوطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لَمَا جَازَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهَا عليه الصلاة والسلام.

نعم؛ لأنَّ هذا بيان، والبيان واجب، واللَّه سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ويقول صلى الله عليه وسلم:"أَلا إِنِّي أُوتِيتُ القُراَنَ ومِثلَهُ مَعَه"

(1)

، وكانت وظيفته صلى الله عليه وسلم أن يُبَلِّغ هذه الرسالة، وأن يُبيِّنَ للنَّاسِ ما أُشكل عليهم، وكانت الأحكام تَنزل عليه صلى الله عليه وسلم تترى

(2)

؛ إمَّا أنَّها تنزل هكذا، وإما عن طريق سؤال، أو استفتاء، وكل ذلك قد أشار اللَّه إليه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز

(3)

.

* قوله: (لَمَا جَازَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهَا عليه الصلاة والسلام، وَلَا أَنْ يَتْرُكَ بَيَانَهَا؛ لِقَوْلِهِ تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وَلقَوْلِهِ تعالى: {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]، وَاللَّهُ المُرْشِدُ لِلصَّوَابِ).

(1)

أخرجه قريب من هذا اللفظ أحمد في "مسنده"(17174)، عن المقدام بن معدي كرب الكندي، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل يَنثني شبعانًا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فَأَحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحَرِّموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد إلا أن يَستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يُقروهم، فإن لم يقروهم فلهم أن يُعقبوهم بمثل قراهم". وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(163).

(2)

يقال: جاء القومُ تَتْرَى وتْتَرًى: أي: واحدًا خلفَ واحد يتبع بعضهم بعضًا، وأصلُه: وَتْرَى من الوَتْر وهو: الفَرْد. انظر: "المخصص"، لابن سيده (4/ 478).

(3)

كقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، وقوله:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4]، وغيرها من آيات السؤال.

ص: 1929

وهذا حقيقة كلام جيد، ينبغي أن يأخذ به كلُّ طالب علم، وكل من يريد الحق، فالحق ينبغي أن يَرجع إليه المؤمن، حتى وإن أخذ برأي من الآراء، أو توقف، فإنَّه ينبغي أن يرجع إلى الحق، لذلك عندما كتب عمر رضي الله عنه كتابه المشهور في القضاء إلى أبي موسي الأشعري، بيَّنَ له، فقال:"الحق، الحق، اعرف الأشباه والأمثال، وقِس الأمور برأيك، ولا يمنعنك أن تقضي قضاء اليوم فيظهر لك في غَدِه أنَّ الحق فيه أن ترجع إليه"

(1)

. هذا هو شأن المؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، هذا هو شأن المؤمنين.

(الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الأَرْكَانِ)

* قوله: (اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا خُطبة، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الخطبة)

(2)

.

وهذه مسألة مهمة؛ وهي الخطبتان في الجمعة، وصلاة الجمعة إنَّما

(1)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(5/ 368)، عن أبي المليح الهذلي، قال:"كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد، فإن القضاء فريضة مُحكمة وسُنَّة مُتبعة؛ فافهم إذا أُدلي إليك بحجة، وأنفذ الحق إذا وضح، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهُديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(2619).

(2)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 162، 163)، وفيه قال:"ولا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم خَطب وصَلَّاها ركعتين. وأجمعوا أن خطبتي الجمعة قبل الصلاة".

ص: 1930

هي ركعتان، كما جاء في حديث عمر:"والجمعة ركعتان غير قصر"

(1)

، يعني: غير مقصورة، وجاء عن عمرو رضي الله عنه

(2)

، أنَّه قال:"إنَّما قصرت الصلاة -يعني الجمعة- لأجل الخطبة"

(3)

.

ومعلوم أنَّ الجمعة تقوم بركعتين؛ فمن أدرك الصلاة؛ أي: الجمعة، فإنَّه يُصليها مع الإمام ركعتين، وإن فاتته أُولاهما وأدرك الثانية منهما وكان الإمام راكعًا، فإنَّه في هذه الحالة يأتي بركعة ثانية، ويُصليها جمعة، لكن لو جاء وقد فاته الركوع في الركعة الثانية، فإنَّه حينئذٍ يُتِمُّها ظهرًا، على خلاف في المسألة؛ فعند أبي حنيفة: يرى أنَّه ما دام قد أدرك جزءًا من الجمعة، قياسًا على الصلاة، فإنَّه يتمها جمعة

(4)

، وأظن أنَّ المؤلفَ

(1)

أخرجه النسائي في "سننه"(1566)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام ليس بقصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(638).

(2)

الذي وقفتُ عليه: أنَّ هذه الآثار وردت عن عمر، وليس عن عمرو. انظر:"البدر المنير"، لابن الملقن (4/ 688).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 237)، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، قال: سمعته يقول: قال عمر بن الخطاب: "الخطبة مَوضع الركعتين؛ مَن فاتته الخطبة صَلَّى أربعًا".

وذكره الجصاص في "أحكام القرآن"(5/ 338)، عن عمر، فقال:"وقال عمر: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفجر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، وإنَّما قصرت الجمعة لأجل الخطبة".

(4)

انظر: "البحر الرائق"، لابن نُجيم (2/ 166)، وفيه قال:" (قوله: ومن أدركها في التشهد أو في سجود السهو أَتَمَّ جمعة)، يعني: عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: إن أدرك معه أكثر الركعة الثانية بنى عليها الجمعة، وان أدرك أقلها بنى عليها الظهر؛ لأنه جمعة من وجه ظهر من وجه؛ لفوات بعض الشرائط في حقِّه؛ فيُصلي أربعًا اعتبارًا للظهر، ويقعد لا محالة على رأس الركعتين اعتبارًا للجمعة، ويقرأ في الأُخريين لاحتمال النفلية، ولهما أنه مُدرك للجمعة في هذه الحالة حتى تشترط نِية الجمعة، وهي ركعتان، ولا وجه لما ذكر؛ لأنهما مختلفان لا يَنبني أحدهما على تحريمة الآخر، ووجود الشرائط في حق الإمام يجعل موجودًا في حقِّ المَسبوق". =

ص: 1931

سيعرض لهذه المسألة، لكن هذه المسألة -كما ترون- الجمعة فيها خطبة، فالمؤلف قال: إنَّما هي خطبة، ولم يقل: إنَّما هما خطبتان؛ لأنَّ قضية الاكتفاء بخطبة أو خطبتين محل خلاف

(1)

؛ لأنَّ العلماء متفقون على وجود

= ومذهب الجمهور: أنه لو فاته ركوع الركعة الثانية صلاها ظهرًا.

انظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نُكت مسائل الخلاف"(1/ 319)، وفيه قال:"إذا جاء بعد رفع الإمام رأسه من الركوع من الثانية فقد فاتته الجمعة. خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه يكون مدركًا لها بإدراك ما دون الركعة من السجود والتشهد؛ لقوله عليه السلام: "مَن أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها"، فعلق الإدراك بقدر ركعة فانتفى عما دونها. وروي: "مَن أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أُخرى"".

وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 437)، وفيه قال:"إذا أدرك مع الإمام ركعة من صلاة الجمعة فقد أدرك بها الجمعة، فيأتي بركعة أُخرى وقد تَمَّت صلاته، وإن أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركًا للجمعة، وأتمها ظهرًا أربعًا، هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: ابنُ مسعود وابنُ عمر وأنسُ بن مالك، ومن الفقهاء: الزهريُّ والثوريُّ". وانظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 480).

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 186)، وفيه قال:"إذا أدرك مع الإمام أقل من ركعة بسجدتيها، فله صورتان (إحداهما:) أن يدرك معه ما لا يعتد له به، كما إذا أدركهم في التشهد، أو بعد الركوع في الثانية، والمذهب المعروف هنا: أن الجمعة لا تَحصل له؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أُخرى، ومَن أدركهم جلوسًا صَلَّى الظهر أربعًا. . . "".

(1)

ذهب الجمهور إلى اشتراط خطبتين للجمعة، وخالف الأحناف فقالوا بجواز جعلها خطبة واحدة، وهو قول لمالك ذكره عنه ابن حبيب.

انظر في مذهب الأحناف: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 220)، وفيه قال:" (وتُسن خطبتان بجلسة بينهما، وبطهارة قائمًا) بها ورد النقل المستفيض عنه عليه الصلاة والسلام ولو خطب خطبة واحدة، أو لم يجلس بينهما، أو بغير طهارة أو غير قائم جازت لحصول المقصود، وهو الذكر والوعظ إلا أنه يكره لمخالفة التوارث، ويستحب إعادتها إذا كان جنبًا كأذانه".

وانظر في مذهب المالكية: "التبصرة"، للخمي (2/ 583، 584)، وفيه قال: "الفرض أن يأتي بخطبتين، فإن خطب واحدة لم تُجزئهم، وأعادوا الجمعة، وكذلك إذا خطب خطبتين ولم يخطب من الثانية ما له من الكلام قدرٌ وبالٌ لم تجزئهم، وهو قول ابن القاسم. وقال مالك في كتاب ابن حبيب: من السُّنَّة: أن يخطب الإِمام =

ص: 1932

الخطبة، لا خلاف بين العلماء في أنَّ من شروط الجمعة، وجود خطبة، لا بُدَّ من الخطبة فيها

(1)

، لكن خالف في ذلك الحَسَنُ فقط من التابعين، وقال:"لو صلوا الجمعة ولم تكن خطبة أجزأتهم"

(2)

، وهذا خلاف ما عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، منهم الأئمة الأربعة، فإنَّهم يرون أنَّ الخطبة شرط

(3)

؛ لأنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم خطب، وخطب خلفاؤه، واستمر المسلمون على ذلك، ولم ينقل أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ترك خطبة الجمعة، وهو القائل:"صلوا كما رأيتموني أُصلي"

(4)

، وقد فسر العلماء

= خطبتين، فإن نسي الثانية أو أُحصر عنها، فتركها فالأُولى تَكفيهم، ولو لم يكن -أيضًا- أَتَمَّها، إلا أنه أثنى على اللَّه عز وجل وتشهد، أو أمر أو نهى أو وعظ وقال خيرًا، وإن كان خفيفًا جدًّا، فذلك يُجزئ عنه".

وقول ابن القاسم هو مَشهور المذهب. انظر: "كفاية الطالب الرباني"، لأبي الحسن الشاذلي (1/ 373)، وفيه قال:"ومنها: أن تكون اثنتين على المشهور. فإن خطب واحدة وصَلَّى أءعاد الجمعة، وكذلك إن خطب خطبتين ولم يخطب من الثانية ما له قدر وبال لم تُجزهم".

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 88)، وفيه قال:"وسادسها: أن يتقدمها خطبتان؛ للاتِّباع في خبر: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، بخلاف العِيد، فإن خطبتيه مُؤخرتان للاتباع، ولأن خطبة الجمعة شرط، والشرط مقدم على مشروطه".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 315)، وفيه قال:" (الرابع: تقدم خطبتين)، أي: خطبتان متقدمتان؛ لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية. والذكر: هو الخُطبة، والأمر بالسعي إليه دليل وجوبه، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ قال ابن عمر: "كان صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يَفصل بينهما بجلوس"، (بدل ركعتين)؛ لقول عمر وعائشة: "قصرت الصلاة من أجل الخطبة"". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 225).

(1)

سبق نقل الإجماع.

(2)

سبق نقل هذا عنه.

(3)

سبق.

(4)

أخرجه البخاري (631)، عن أبي قلابة، قال: حدثنا مالك: "أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد أشتهينا أهلنا -أو قد اشتقنا- سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال: "ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعَلِّموهم ومُروهم -وذكر أشياء =

ص: 1933

قول اللَّه سبحانه وتعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، فاسعوا إلى ذكر اللَّه، قالوا: إن المراد بذكر اللَّه هنا: إنَّما هي الخطبة

(1)

، وهناك أدلة عدة تدل على الخطبة، وسنعرض لها -إن شاء اللَّه- تفصيلًا فيما يتعلَّق بذلك.

وهذه الجمعة لها مواصفات وشروط: منها ما هو واجب، ومنها ما ليس بواجب، وأعني به: ما هو سنة، لكن ينبغي في مثل ذلك أن يَلتزم الخطيب بما كان يفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كان إذا خرج على الناس صلى الله عليه وسلم صلى

(2)

،

= أحفظها أو لا أحفظها- وصَلُّوا كما رأيتموني أُصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"".

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "العناية شرح الهداية"، للبابرتي (2/ 50)، وفيه قال:"فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}، أمر بالسعي إلى ذكر اللَّه، وهي الخطبة التي هي شرط جواز الجمعة، والأمر للوجوب، وإذا كان السعي واجبًا إليها فإلى ما هو المقصود -وهو الجمعة- أَوْلَى".

وانظر في مذهب المالكية: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 979)، وفيه قال:"ودليلنا على وجوبها: أن اللَّه سبحانه أمر بفعل الجمعة وبَيَّن صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بفعله، فكان يخطب، ولم يترك الخطبة في حال من الأحوال. فدلَّ على وجوبها. وأيضًا قد قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. وأول الذكر في الجمعة: الخطبة. فيجب حملُ هذا الظاهر عليه، ولا يعدل به إلى الذكر المفعول في الصلاة إلا بدليل".

وانظر في مذهب الشافعية: "كفاية النبيه"، لابن الرفعة (4/ 324)، وفيه قال:"أن من شرطها: الخطبتان، ودليله: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، فأمر بالسعي إلى ذكر اللَّه، وذلك يتضمن الخطبة والصلاة؛ فاقتضى أن يكون الأمر بهما واجبًا".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 315)، وفيه قال:" (الرابع: تقَدُّم خُطبتين)، أي: خطبتان متقدمتان؛ لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية. والذكر: هو الخطبة، والأمر بالسعي إليه دليل وجوبه، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، قال ابن عمر: "كان صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يَفصل بينهما بجلوس".

(2)

لم أقف عليه. وقد أشار النوويُّ رحمه الله إلى أن المستحب أن يصعد الخطيب المنبر ولا يصلي؛ لأنه لم يَرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فِعل ذلك.

قال النووي: "قال المتولي: يستحب للخطيب أن لا يحضر للجمعة إلا بعد دخول الوقت بحيث يَشرع فيها أول وصوله المنبر؛ لأن هذا هو المنقول عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإذا وصل المنبر صعده، ولا يُصلي تحية المسجد، وتسقط هنا =

ص: 1934

وإذا صعد المنبر سَلَّم على الناس

(1)

، ثم قام بلال فأذن

(2)

، ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فخطب الناس خطبة جامعة

(3)

؛ يحمد اللَّه سبحانه وتعالى فيها، ويثني عليه، ويوصي الناس بتقوي اللَّه عز وجل، وكثيرًا ما يُبين صلى الله عليه وسلم في خطبته:"إنَّ خيرَ الكلام كتابُ اللَّه تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"، فقد وردت عدة أمور نُقلت عن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم في خطبته

(4)

، ثم يجلس قليلًا، ثم بعد ذلك يقوم ويخطب، وكان الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يُصوِّب

(5)

نظره إلى الناس، يعني: يُوجه وجهه إليهم

(6)

، لا يلتفت

= التحية بسبب الاشتغال بالخطبة، كما تسقط في حق الحاج إذا دخل المسجد الحرام بسبب الطواف. وقال جماعة من أصحابنا: تستحب له تحية المسجد ركعتان عند المنبر. والمذهب: أنه لا يصليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنقل أنه صلاها". انظر: "المجموع شرح المهذب" (4/ 529).

(1)

أخرجه ابن ماجه (1109)، عن جابر بن عبد اللَّه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صَعِدَ المنبرَ سَلَّمَ"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2076).

(2)

سبق ذكر حديث بلال رضي الله عنه من أنه كان يؤذن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الجمعة.

(3)

أخرجه أبو داود (1092)، عن ابن عمر، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صَعِد المنبر حتى يفرغ -أراه قال: المؤذن- ثم يقوم، فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(1002).

(4)

فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم من تعليمه خطبة الحاجة لأصحابه،

أخرج ذلك أبو داود (2118)، عن عبد اللَّه بن مسعود في خطبة الحاجة في النكاح وغيره، قال:"عَلَّمنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: إن الحمد للَّه نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا، مَن يهد اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ. . . تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} "، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1843).

(5)

يصوب: أي: يخفضه، ومنه الحديث:"وصوب يده"، أي: خفضها. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (573).

(6)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 290)، عن ابن عمر، قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة سَلَّم على مَن عنده من الجلوس، فإذا =

ص: 1935

يمينًا ولا شمالًا

(1)

، يقصر

(2)

. وإن كان عند الحنفية

(3)

، لكن الذي نقل من عدة طرق أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كان يصوب وجهه

(4)

، وكذلك كان خلفاؤه، وأصحابه من بعده

(5)

، والسبب في تصويب وجهه للناس؛ ليسمعه الناس

= صعد المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سَلَّم"، وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (4194).

(1)

قال الحافظ ابن حجر: "والقول بأنه كان لا يَلتفت لم أره في حديث إلا إن كان يؤخذ من مطلق الاستقبال". انظر: "التلخيص الحبير"(2/ 158).

(2)

أخرج مسلم (866/ 41)، عن جابر بن سمرة، قال:"كنت أصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا".

(3)

العبارة تحتاج إلى توضيح، والسياق يدل على أنه يريد أن يقول: إن الإمام عليه أن يستقبل الناس بوجهه في خطبته ولا يَلتفت، وعند الأحناف: يجوز. لكن الذي وقفتُ عليه أنهم لم يقولوا بهذا، بل رأوا استحباب استقبال الخطيب الناس.

قال العيني: "وأمَّا الخطيب فمن السُّنَّة فيه: طهارته، واستقباله بوجهه إلى القوم". انظر: "البناية شرح الهداية"(3/ 62).

(4)

انظر في مذهب الأحناف: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 30)، وفيه قال:"وينبغي للرجل أن يستقبل الخطيب بوجهه إذا أخذ في الخطبة، وهكذا نقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يفعله؛ لأن الخطيب يعظهم، ولهذا استقبلهم بوجهه، وترك استقبال القبلة؛ فينبغي لهم أن يستقبلوه بوجوههم؛ ليظهر فائدة الوعظ، وتعظيم الذكر، كما في غير هذا من مجالس الوعظ، ولكن الرسم الآن أن القوم يستقبلون القبلة، ولم يؤمروا بترك هذا لما يلحقهم من الحرج في تسوية الصفوف بعد فراغه لكثرة الزحام إذا استقبلوه بوجوههم في حالة الخطبة".

وانظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 281)، وفيه قال:" (ثم) إذا سَلَّم الإمام (يَستقبل الناس) ندبًا (بوجهه. . .) ".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 326)، وفيه قال:(ولا يلتفت يمينًا و) لا (شمالًا) ولا خلفا (في شيء منها)؛ لأنها بدعة، بل يستمر على ما مَرَّ من الإقبال عليهم إلى فراغها".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 36)، وفيه قال:" (ويقصد) الخطيب (تلقاء وجهه، فلا يلتفت يمينًا ولا شمالًا)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولأن في التفاته عن أحد جانبيه إعراضًا عنه، قال في "المبدع": وظاهره أنه إذا التفت أو استدبر الناس أنه يُجزئ مع الكراهة، صرحوا به في الاستدبار؛ لحصول المقصود".

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 449)، عن الشعبي، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس بوجهه فقال: "السلام عليكم"، =

ص: 1936

جميعًا، فلا ينصرف يمينًا فيذهب صوته عن أهل اليسار، ولا ينصرف يسارًا فيذهب صوته عن أهل اليمين، وحتى يكون عادلًا، ويراه الناس، والناس هم الذين يشدون أبصارهم إليه وهو يخطب، وكان الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يخطب على قوس، أو عصا، أو سيف

(1)

.

إذًا هذا يستحب ويسن، لكن لا يشترط ذلك، فلو ترك ذلك لجاز.

ومن ذلك قال العلماء: ولو لم يتوكأ على شيء فإنَّه إمَّا أن يقبض يديه مثلًا، وإمَّا أن يُرخيهم

(2)

، ولكن من أهم الأمور هو هذه الخطبة، فقد

= ويحمد اللَّه، ويُثني عليه، ويقرأ سورة، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، ثم ينزل، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه"، وضعفه الذهبي، فقال: "مجالدٌ لينٌ، وهو مرسلٌ".

(1)

أخرجه أبو داود (1096)، عن شعيب بن رزيق الطائفي، قال:"جلست إلى رجل له صحبة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقال له: الحكم بن حزن الكلفي، فأنشأ يُحدثنا، قال: وفدت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سابع سبعة -أو تاسع تسعة- فدخلنا عليه، فقلنا: يا رسول اللَّه، زرناك؛ فادع اللَّه لنا بخير، فأمر بنا، أو أمر لنا بشيء من التمر، والشأن إذ ذاك دون، فأقمنا بها أيامًا شهدنا فيها الجمعة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقام متوكئًا على عصا، أو قوس، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: "أيها الناس، إنكم لن تُطيقوا -أو لن تَفعلوا- كُلَّ ما أُمرتم به، ولكن سَدِّدوا، وأبشروا""، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل"(616).

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 63)، وفيه قال:"ويستحب أن يتوكأ الخطيب في خطبته على نحو قوس وغيره. وروى أبو داود عن رجل له صحبة في حديث طويل أنه قال: "شهدنا الخطبة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقام يتوكا على عصا أو قوس"".

وانظر في مذهب المالكية: "الذخيرة"، للقرافي (2/ 342)، وفيه قال:"يُستحب لإمام المنبر الاتكاء على العصا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوكأ على العصا وأبو بكر وعمر وعثمان. قال سند: وحكمتها: مَنع اليد من العبث ومسك اللحية وغير ذلك، والقوس عند مالك مثل العصا، وروي عنه: لا يتوكأ على قوس إلا في السفر؛ لأن العصا السُّنَّة، وليس له سنة فيما يصنع بيديه يُرسلهما أو يقبض اليسرى باليمنى". وانظر: "حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي"(2/ 83).

وانظر في مذهب الشافعية: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 342)، وفيه قال: "ويُستحب للخطيب أن يأخذ بيده اليسرى عصًا أو سيفًا أو قوسًا، يعتمد عليه، فإنه روي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا خَطب يعتمد على عتيرة اعتمادًا، فإن =

ص: 1937

جاء في الحديث تسمية هذا اليوم عيدًا

(1)

، إذًا هو عيد، يجتمع فيه المسلمون، فالمسلمون يجتمعون في الصلوات الخمس بعدد أقل، ثم يتسع هذا الجمع الأكبر في يوم الجمعة، فالناس يأتون من أطراف متعددة، ومن جوانب متفرقة في هذه المدينة، والناس أحوج ما يكونون إلى مَن يذكِّرهم بأيَّام اللَّه سبحانه وتعالى، يُبيِّن لهم ما يجب، وما يحرم، ويرسم لهم الطريق السوي الذي ينبغي أن يسيروا عليه.

وينبغي على الخطيب أن يكون مؤثرًا في خطبته، وأن يختار موضوعًا قيمًا له علاقة بالناس.

إذًا إلى جانب كونه يذكرهم بأيَّام اللَّه، يذكرهم بما يجب عليهم أن يفعلوه، وما يحرم، يذكرهم بالقيامة، وما فيه من الحساب، يبين لهم ما في كتاب اللَّه عز وجل من الوعد والوعيد، لذلك نجد أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم كان يُكثر من قراءة سورة (ق) على المنبر؛ كما جاء في حديث أمِّ هشام، أنَّها قالت:"ما حفظتُ سورةَ ق، إلَّا من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(2)

، وفي بعض الروايات:"من لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان يقرأها على المنبر"

(3)

؛ لأنَّ هذه

= لم يأخذ شيئًا يُسكن جسده ويديه، إما بأن يجعل اليمنى على اليسرى، أو يُقِرَّهما في موضعهما؛ ليكون أقرب إلى الخشوع". وانظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 326).

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 194، 195)، وفيه قال:"ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا بإحدى يديه وبالأخرى على حرف المنبر أو يرسلها، وإن لم يعتمد على شيء أمسك شماله بيمينه أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم (873/ 51)، عن بنت لحارثة بن النعمان، قالت:"ما حفظت (ق) إلا من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ يَخطب بها كل جمعة، قالت: وكان تَنُّورُنَا وتَنُّورُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم واحدًا".

(3)

أخرجه مسلم أيضًا (873/ 52)، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت:"لقد كان تَنُّورُنَا وتَنُّورُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واحدًا، سَنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} إلا عن لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ يَقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خَطب الناس".

ص: 1938

السورة افتتحت ببيان مكانة القرآن العظيم، قطب هذه الشريعة، هذا الكتاب الذي نستمد منه الأحكام، والذي يتجدد بتجدد الزمن، والذي لا تنقضي عجائبه، ولا يقل عطاؤه.

إذًا نجد أنَّ اللَّهَ افتتح به، وذكر ما يتعلَّق بموقف المشركين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تعجبهم، فقال:{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق: 2]، عجبوا أن يكون من بينهم، وهم يعرفون أمانته وصدقه، كذلك تكلم اللَّه سبحانه وتعالى عن البعث؛ لأنَّهم كانوا ينكرونه، وأقام الشواهد والأدلة على أنَّ من خلق هذا الكون، ومن أوجد هؤلاء -ومن بينهم أولئك الذين أوجدهم سبحانه وتعالى هو قادر على أن يعيدهم مرة أُخرى:{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)} [ق: 42، 43]، ثم ختم اللَّه سبحانه وتعالى هذه السورة بخاتمة طيبة.

إذًا الإمام دائمًا ينبغي أن يختار موضوعًا قيمًا، فيه توجيهٌ للناس، فيه نصحٌ لهم وتنبيه إلى ما يقع بينهم من بعض الأمور التي تخالف شرع اللَّه سبحانه وتعالى، والتي قد تكون سببًا في غضب اللَّه سبحانه وتعالى، ويُقرِّب إليهم الأمور التي تجتمع حولها كلمتهم، وألَّا يتفرقوا، وأن يكونوا أُمَّة واحدة.

وينبغي أن يكون الخطيب بليغًا في كلامه، فصيح اللسان؛ لأنَّ الخطيب هنا إنَّما هو داع، هو مبلغ دعوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لأنَّ من يَقف على المنبر إنَّما يوجِّه الناسَ إلى الخير، يدعوهم إلى الطريق السوي، طريق الرشاد والهداية، ويحذرهم من طريق الغواية والضلال، ويدل الناس على ما فيه سعادتهم.

وعليه أن يتجنب الألفاظ التي فيها غموض، والتي لا قيمة لها، وإنَّما يختار الألفاظ الجزلة؛ التي ليس فيها غرابة على الناس، ولا تخفى على العامَّة، سهلة واضحة.

إذًا هذه الخطبة لها أهمية كبيرة؛ لأنَّ النَّاس يتجمعون، وهم

ص: 1939

مأمورون بالسكوت والإنصات

(1)

، ولا شكَّ أنَّ المواعظ لها أثر عظيم في إحياء القلوب، وتوجيهها، وإصلاحها.

وأيضًا ليس من شروط الخطبة أن تكون طويلة، بل العلماء يذهبون إلى أن الأولى في الخطبة أن تكون قصيرة

(2)

، لكنَّه مع قصرها ينبغي أن تحمل المعاني العظيمة؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم يقول: "قِصَرُ خُطبة الرجل مِئِنَّة

(3)

فقهه"

(4)

: علامة فقهه، لكنَّه ربط قصر الخطبة بالفقه، وكل ما كان الإنسان عالمًا فقيهًا متمكنًا استطاع أن يَنفُذ إلى قلوبِ الناسِ، وأن يَستولي على

(1)

وفي ذلك حديثه صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري (934)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت".

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 60)، وفيه قال:"فتكون خطبة وجيزة قصيرة، وقصر الخطبة مندوب إليه، وروي: "طول الصلاة وقِصَر الخطبة مَئِنَّة من فقه الرجل"".

انظر في مذهب المالكية: "منح الجليل"، لعليش (1/ 438)، وفيه قال:" (و) ندب (تقصيرهما)، أي: الخطبتين، (والثانية أقصر) من الأولى ندبًا".

انظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 89)، وفيه قال:"أن تكون الخطبة (متوسطة)، لأن الطويلة تمل، وفي خبر مسلم، عن جابر بن سمرة، قال: "كانت صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قصدًا، وخطبته قصدًا"، أي: متوسطة، والمراد: أن تكون الخطبة قصيرة بالنسبة للصلاة، لخبر مسلم: "أطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة"".

انظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 317)، وفيه قال:" (و) سُن (قصرهما)، أي: الخطبتين، (و) كون (الثانية أقصر) من الأولى لحديث: "إنَّ طول صلاة الرجل وقِصر خطبته مِئِنَّة مِن فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة"".

(3)

مئنة: علامة لذاك خليق لذاك. يعني: أن هذا مما يُعرف به فِقه الرجل ويستدل به عليه، وكذلك كل شيء دَلَك على شيء فهو مِئنة له. انظر:"غريب الحديث" للقاسم بن سلام (4/ 61).

(4)

أخرج مسلم (869/ 47)، عن واصل بن حيان، قال: قال أبو وائل: "خطبنا عَمَّارٌ، فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفسَّت، فقال: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنَّ طولَ صلاة الرجل وقِصَرَ خُطبته - مَئِنَّة من فِقهه؛ فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا"".

ص: 1940

مجامع نفوسهم؛ فيؤثر فيهم أعظم تأثير؛ لأنَّه إذا كان فقيهًا مُؤثرًا أَثَّر في الناس.

ولكن قد يحتاج الخطيب إلى أن يُسهب في خطبته؛ لأنَّ المقام يَستدعي ذلك، وليس عيبًا، فقد يُطيل الخطيب، فقد تَنزل بالمسلمين نازلة، أو يرى أنَّه قد تفشى

(1)

في صفوف بعض المسلمين نوع من أنواع الفساد، فهذا المقام يتطلب زيادة بسطٍ وبيانٍ وتوضيحٍ، وفي هذا خير كثير؛ لذلك الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ما كان يُطيل الموعظة، إنَّما هي كلمات يسيرة

(2)

، ولكننا لا ننسى أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليس كغيره، فهو صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، فهو قد أُعطى خمسًا لم يُعطهن أحد من الأنبياء قبله

(3)

، ومن بينها: جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ يقول الألفاظ اليسيرة، فتحمل المعاني العظيمة الكبيرة

(4)

.

(1)

تفشى: توسَّع وكثر وظهر. انظر: "العين"، للخليل (6/ 289).

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(17856) بسنده، عن شعيب بن زريق الطائفي، قال:"كنت جالسًا عند رجل يقال له: الحكم بن حزن الكلفي، وله صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأنشأ يحدثنا، قال: قَدِمت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة،. . . قال: فلبثنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيامًا، شهدنا فيها الجمعة، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوكئًا على قوس -أو قال: على عصا- فحمد اللَّه، وأثنى عليه كلمات خفيفات، طيبات، مباركات. . . "، الحديث، وقَوَّى إسنادَه الأرناؤوطُ.

(3)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(7/ 154)، عن السائب بن يزيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلت على الأنبياء بخمس: بُعثت إلى الناس كافة، وادَّخرت شفاعتي لأمتي، ونُصرت بالرعب شهرًا أمامي، وشهرًا خلفي، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي"، وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(5953).

وأخرجه مسلم (523/ 5)، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"فُضلت على الأنبياء بِسِتٍّ: أعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون".

(4)

أخرج البخاري (7013)، واللفظ له، ومسلم (523/ 6)، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"بُعثت بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي". قال أبو عبد اللَّه: "وبلغني أن جوامع الكلم: أن اللَّه يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين، أو نحو ذلك".

ص: 1941

إذًا هذه أمور ينبغي أن نعتني بها، ونعلق -إن شاء اللَّه- على كل جزئية منها.

* قوله: (اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا خُطْبَةٌ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الخُطْبَةِ

(1)

، وَاخْتَلَفُوا من ذَلِكَ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ؛ هِيَ قَوَاعِدُ هَذَا البَابِ).

إذًا هي قواعد هذا الباب، فلا تنتظروا من المؤلف أن يَجمع لكم كل مسألة وردت في صلاة الجمعة، فكثير مما ذكرت أثناء حديثي لم يتعرض له؛ لأنَّه يراها جزئية، ولكنَّه يأخذ بأصول المسائل، وبمجامعها، فيقف عند قواعدها التي يرى أنَّ بقية الفروع والجزئيات تُرَدُّ إليها.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي الخُطْبَةِ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا أَمْ لَا؟).

الخطبة شرط من شروط الجمعة فلا بد من وجودها فيها

(2)

، والخلاف في تفصيلها، هل يقتصر على واحدة أم لا بد من اثنتين؟

(3)

هل الجلوس بين الخطبتين واجب أم لا؟

(4)

هل القيام واجب؟

(5)

هل الطهارة فيها واجبة؟

(6)

هذه كلها مسائل محلّ خلاف بين العلماء، لكنهم مجمعون على الأصل، أن الخطبة شرط

(7)

، ولم يخالف إلا الحسن البصري، وقوله ضعيف في هذه المسألة

(8)

.

(1)

سبق نقل الإجماع.

(2)

سبق.

(3)

سبق.

(4)

سيأتي.

(5)

قال ابن القطان: "وأجمعوا أنه لا يخطب إلا قائمًا لمن قدر على ذلك، وإن أُعيي وجلس مستريحًا لم يتكلم حتى يعود قائمًا". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 163).

(6)

ستأتي.

(7)

سبق.

(8)

وهو قول أهل الظاهر وقول عند المالكية، وقد سبق.

ص: 1942

* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ وَرُكْنٌ

(1)

، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ).

ليسوا قومًا، فهو الحسن البصري، فربَّما يفهم من قوم أنهم جمع كبير، والواقع على خلاف ذلك، فالذي خالف في ذلك الحسن

(2)

.

* قوله: (وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ إِلَّا ابْنَ المَاجِشُونِ

(3)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ الأَصْلُ المُتَقَدِّمُ مِنِ احْتِمَالِ كُلِّ مَا اقْتَرَنَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ شُرُوطِهَا أَوْ لَا يَكُونَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الخُطْبَةَ حَالٌ مِنَ الأَحْوَالِ المُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ).

المؤلف يبحثها بحثًا عقليًّا، لكننا نقول: إن العلماء الذين أوجبوا أو ذهبوا إلى أنها شرط استدلُّوا بالكتاب والسنة، وباتفاق العلماء على ذلك، إلا من خالف وخلافه يُعدُّ يسيرًا

(4)

.

أما الكتاب فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].

= قال الفاكهاني: "اختلف العلماء في الخطبة يوم الجمعة: هل هي فرض، أم لا؟ وفي المذهب في ذلك قولان، والمشهور: الفرضية. وروى ابن الماجشون عن مالك: أنه تجزئ الجمعة دون خطبة، وهو قول الحسن، وأهل الظاهر. وقد روي عن مالك: أن الخطبة فيها سنة". انظر: "رياض الأفهام"(2/ 612).

(1)

سبق.

(2)

بل هو قول لمالك ذكره ابن الماجشون كما سبق، وقول أهل الظاهر.

قال ابن حزم: "ويبتدئ الإمام بعد الأذان وتمامه بالخطبة فيخطب واقفًا خطبتين يجلس بينهما جلسة؟ وليست الخطبة فرضًا، فلو صلاها إمام دون خطبة صلاها ركعتين جهرًا ولا بد". انظر: "المحلى بالآثار"(3/ 262).

(3)

سبق.

(4)

وهذا لا يمنع أن يكون ما ذكره المؤلف من أدلتهم أيضًا، وهذا واضح من كلامهم كما سيأتي.

ص: 1943

قالوا: والمراد بالذكر هنا إنما هو الخطبة

(1)

، واللَّه أمر {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. وكلمة {فَاسْعَوْا}: صيغة أمر، والأمر يقتضي الوجوب، والسعي إنما هو موجه إلى ذكر اللَّه، وذكر اللَّه هو الخطبة، إذن فالخطبة واجبة

(2)

.

واستدلُّوا أيضًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركها قطُّ في حياته؛ فكان يخطب الناس يوم الجمعة وكذلك خلفاؤه

(3)

، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

(4)

. ومن صلاته ملازمته للخطبة، وقوله صلى الله عليه وسلم أمر، والأمر يقتضي الوجوب، إذن يجب أن نلتزم هذه الخطبة ولا نتركها.

ثالثًا: ما أُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنما قصرت الصلاة لأجل الخطبة

(5)

.

* قوله: (وَبِخَاصَّةٍ إِذَا تَوَهَّمَ أَنَّهَا عِوَضٌ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نَقَصَتَا مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ).

هناك ما نقل عن بعض السلف أنه قال: كانت الجمعة أربعًا، فأقيمت الخطبة مقام الركعتين ومنهم التابعي الجليل سعيد بن جبير

(6)

.

* قوله: (قَالَ: إِنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا

(7)

، وَمَنْ رَأَى أَنَّ المَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ المَوْعِظَةُ المَقْصُودَةُ مِنْ سَائِرِ

(1)

سبق.

(2)

سبق ذكر هذا في أدلتهم.

(3)

سبق.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

(6)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 278)، عن سعيد بن جبير، قال:"كانت الجمعة أربعًا فجعلت الخطبة مكان الركعتين".

(7)

انظر في مذهب الأحناف: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 24)، وفيه قال:"والخطبة من شرائط الجمعة لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنها إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة ولظاهر قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، يعني: الخطبة، والأمر بالسعي دليل على وجوبها، ولأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما صلى الجمعة في عمره بغير خطبة فلو جاز لفعله تعليما للجواز".=

ص: 1944

الخُطَبِ رَأَى أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ)

(1)

.

الموعظة مطلوبة في الحقيقة، لكنها ليست كل الخطبة، والموعظة أيضا مؤثرة، ولا شكَّ أن الموعظة لها أثرها في مثل ذلك اليوم.

* قوله: (وَإِنَّمَا رُفِعَ الخِلَافُ فِي هَذِهِ الخُطْبَةِ هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَمْ لَا؟ لِكَوْنِهَا رَاتِبَةً مِنْ سَائِرِ الخُطَبِ).

= وانظر في مذهب المالكية: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 979)، وفيه قال:"ومما يدل على وجوبها أنها أقيمت مقام ركعتين، ألا ترى قول عمر رضي الله عنه: قصرت الصلاة لأجل الخطبة، وإذا كانت أقيمت مقام ركعتين وجب أن تكون فرضًا؛ ولهذا قال أصحابنا في الإِمام يخطب قبل الزوال ويصلي بعده: أنه يعيد الخطبة والصلاة، لما رأوها مقام الركعتين. فراعوا الوقت فيها كما يراعى في الركعتين".

وانظر في مذهب الشافعية: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 513)، وفيه قال:" (ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". ولم يصلِّ الجمعة إلا بخطبتين. وروى ابن عمر، قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما". ولأن السلف قالوا إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة فإذا لم يخطب رجع إلى الأصل".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 315)، وفيه قال:" (الرابع تقدم خطبتين)، أي: خطبتان متقدمتان لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. والذكر هو الخطبة، والأمر بالسعي إليه دليل وجوبه ولمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك قال ابن عمر: "كان صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس" (بدل ركعتين). متفق عليه لقول عمر وعائشة: "قصرت الصلاة من أجل الخطبة" (لا) أن الخطبتين بدل ركعتين (من الظهر)؛ لأن الجمعة ليست بدلًا عن الظهر، بل مستقلة كما تقدم".

(1)

لم أجد مَن ذكر هذا في أدلة مَن نفى شرطية الخطبة، ولعله أخذه بالقياس على كلامهم في نفي وجوب خطبة العيد.

قال المازري: "والخطبة في صلاة العيد ليست ببدل من ركعتين، وإنما القصد بها الوعظ والتعليم. فلما لم تكن الخطبة في معنى الخطبة لم تكن الصلاة كحكم الصلاة. واختصاص الجمعة بالآذان والإقامة يشعر بالمخالفة". انظر: "شرح التلقين"(1/ 1057، 1058).

والذين نفوا شرطية الخطبة في الصلاة -وهم الظاهرية وبعض المالكية- ضعفوا أدلة المخالف وردُّوا عليها. انظر: "المحلى"، لابن حزم (3/ 265).

وذكر الماوردي حجة أُخرى لهم. انظرها في: "الحاوي الكبير"(2/ 432).

ص: 1945

مراد المؤلف: أن هذه الخطبة إنما هي خطبة من الخطب، كما يخطب في يوم العيدين، وفي غيرهما، إذن لماذا تختص هذه الخطبة فتكون شرطًا، هذا هو مراده.

* قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ قَوْمٌ

(1)

لِوُجُوبِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وَقَالُوا: هُوَ الخُطْبَةُ).

هي كما ذكرنا الآية وبيَّنَّا وجه الدلالة منها، وكذلك أيضًا ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الخطبة واستمراره عليها مع قوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقول عمر:"إنما قصرت الصلاة لأجل الخطبة"

(2)

.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا فِي القَدْرِ المُجْزِئِ مِنْهَا).

حينما نتتبع خطب الرسول صلى الله عليه وسلم التي نقلت إلينا جوانب منها، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحمد اللَّه ويثني عليه، ويقرأ قوله تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، ومن يضلل فلا هادي له، وكان صلى الله عليه وسلم أيضًا يذكر في خطبته:"إنَّ خير الكلام كتاب اللَّه تعالى، وإن خير الهدي هدي محمد-صلى الله عليه وسلم"، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ آية أو يقرأ آيات من القرآن، وقد قرأ سورة (ق) عدة مرات كما في حديث أم هشام

(3)

، وذكر أيضًا مرَّةً سورة "براءة"

(4)

. وسيأتي الكلام عن ذلك إذا انتقلنا إلى

(1)

وهم الفقهاء جميعًا إلا من قول الظاهرية وقول عند المالكية، وقول الحسن، وقد سبق.

(2)

سبق هذا كله.

ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم ذكرها في خطبته.

(3)

أخرج مسلم (873/ 52)، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت:"لقد كان تنورنا وتنور رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واحدًا، سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس".

(4)

كل هذا سبق تفصيله.

ص: 1946

الإنصات يوم الجمعة. وقصة أبي الدرداء عندما دخل يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فوجده يقرأ سورة "براءة" فالتفت إلى أُبيّ بن كعب يسأله: متى نزلت؟ وكان أول مرة يسمعها، فلم يرد عليه أُبيٌّ، فلما انصرف من صلاته استغرب ذلك؛ لأنه أنكر على أُبيّ بن كعب رضي الله عنهما، فردَّ عليه أُبيّ بقوله: ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت، ثم ذهب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكر له ما ذكر له أُبيّ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"صدق أُبيٌّ"

(1)

. فنرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر آيات من القرآن ويستشهد بها، إذن ينبغي للخطيب أن يحمد اللَّه سبحانه وتعالى، وقد ثبت في الحديث الصحيح:"كلُّ كلام لا يبدأ فيه بحمد اللَّه فهو أبتر"

(2)

. وجاء في روايات -وإن لم تكن مشهورة-: "كل كلام لا يبدأ فيه ببسم اللَّه فهو أقطع"

(3)

. إذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بحمد اللَّه، ونحن نجد أن أول سورة في كتاب اللَّه

(1)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 367)، عن أبي الدرداء من غير تعيين السورة، وفيه قال:"جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في يوم جمعة على المنبر يخطب الناس، فتلا آية، وإلى جنبي أبيّ بن كعب، فقلت له: يا أبيّ، متى نزلت هذه الآية؟ فأبَى أن يكلمني حتى إذا نزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المنبر، قال: ما لك من جمعتك إلا ما لغوت. ثم انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجئته فأخبرته، فقلت: يا رسول اللَّه، إنك تلوت آية وإلى جنبي أبيّ بن كعب، فسألته: متى نزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني، حتى إذا نزلت زعم أنه ليس لي من جمعتي إلا ما لغوت، قال: "صدق، إذا سمعت إمامك يتكلم، فأنصت حتى ينصرف"".

وأخرجه أحمد في "مسنده"(21287)، وفيه أن المتكلم أبو الدرداء وأبو ذر. والسورة التي قُرئت هي سورة براءة. وصححه الأرناؤوط.

(2)

أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(10258) وغيره، عن الزهري، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل كلام لا يُبدأ في أوَّله بذكر اللَّه، فهو أبتر". وضعفه الألباني في: "إرواء الغليل"(1).

(3)

أخرجه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي"(2/ 69)، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم أقطع".

قال الزيلعي: "وهذا الحديث أُعِلَّ من وجهين: أنه قد روي مرسلًا. . . والثاني في إسناده قرة بن عبد الرحمن المعافري وفيه مقال. . انتهى". انظر: "تخريج أحاديث الكشاف"(1/ 24).

ص: 1947

هي سورة الفاتحة، وأنها افتتحت بقول اللَّه سبحانه وتعالى بعد بسم اللَّه الرحمن الرحيم:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} .

* قوله: (وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا فِي القَدْرِ المُجْزِئِ مِنْهَا).

الضمير في قوله (وجوبها) يعود إلى الخطبة، وقد رأينا في مطلع هذه المسألة أن المؤلف قد أشار إلى أن العلماء بعد اتفاقهم -ويعني: بهم الجمهور- على اشتراط الخطبة في الجمعة اختلفوا في القدر الواجب؛ لأن الخطبة تطلق في لغة العرب ويقصد بها معنى

(1)

، وتطلق أيضًا في عرف الشريعة ويقصد بها ما جاء في خطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما تلاها من خطب خلفائه والصحابة، فأيّ المعنيين المراد؟

هل المراد ما جاء في لغة العرب؟ فإن قيل بذلك فيكفي أقل ما يسمَّى خطبة في كلام العرب، فلو أن إنسانًا وقف فحمد اللَّه أو سبح اللَّه أو كبر وهلل فإنه يُسمَّى خطيبًا، لكن في عرف الشرع هناك ضوابط وأسس كما أشرنا قبل قليل، أمور راتبة مستقرة ثابتة ترد في الخطب، ولذلك -كما أشرنا من قبل- نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في خطبه يحمد اللَّه سبحانه وتعالى، ويقول:"مَن يهد اللَّه فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له"

(2)

. وكان أيضًا صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ خير الحديث كتاب اللَّه عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"

(3)

وكان يبشر الناس ويحذرهم من الفتن ومن

(1)

"الخُطبة" بضم الخاء: هو الكلام المؤلف المتضمن وعظًا وإبلاغًا. وقيل: الخطبة عند العرب: الكلام المنثور المسجع، ونحوه. وهي مثل الرسالة، التي لها أول وآخر. انظر:"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 84، 85)، و"لسان العرب"، لابن منظور (1/ 361).

(2)

أخرجه أبو داود (2118)، وغيره، وصححه الألباني في:"إرواء الغليل"(608).

(3)

أخرجه مسلم (867/ 43)، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول:"صبحكم ومساكم"، ويقول:"بعثت أنا والساعة كهاتين"، ويقرن بين إصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول:"أما بعد، فإن خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".

ص: 1948

غيرها

(1)

. إذن خطب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تشتمل على قضايا ثابتة، وأمور تتجدد، ومما كان يرد في خطبه صلى الله عليه وسلم أنه كان يوصي الناس بتقوى اللَّه سبحانه وتعالى، وأنه كان يتلو آيات أو سورًا في خطب يوم الجمعة

(2)

.

* قوله: (فَقَالَ ابْنُ القَاسِمِ: "هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ خُطْبَةٍ فِي كَلَامِ العَرَبِ مِنَ الكَلَامِ المُؤَلَّفِ المَبْدُوءِ بِحَمْدِ اللَّهِ")

(3)

.

(1)

مثال ما جاء دي التحذير: ما أخرجه البخاري (1465)، ومسلم (1052/ 123)، عن أبي سعيد الخدري، قال: جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال:"إن مما أخاف عليكم بعدي، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر؟ يا رسول اللَّه، قال: فسكت عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك؟ تكلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرحضاء، وقال:"إن هذا السائل" -وكأنه حمده- فقال: "إنه لا يأتي الخير بالشر". . .

ومثال ما جاء من البشارة: ما أخرجه أحمد في "مسنده"(8683)، عن أبي الدرداء، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقص على المنبر:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} ، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ يا رسول اللَّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الثانية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]، فقلت في الثانية: وإن زنى، وإن سرق؟ يا رسول اللَّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الثالثة:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46] فقلت الثالثة: وإن زنى، وإن سرق؟ يا رسول اللَّه، قال:"نعم، وإن رغم أنف أبي الدرداء".

(2)

سبق.

(3)

انظر: "شرح ابن ناجي على متن الرسالة"(1/ 229)، وفيه قال:"واختلف في أقل الخطبة على قولين: فقال ابن القاسم أقل ذلك ما يُسمَّى خطبة عند العرب. وقيل أقله: حمد اللَّه والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم وتحذير وتبشير وقرآن، قاله ابن العربي. واختلف إذا اقتصر على تسبيحة أو تهليلة، وقال ابن القاسم لا تجزئه، وقال ابن عبد الحكم: تجزئه ولو أسر بخطبته حتى إنه لم يسمعه أحد وأنصت لها فإنها تجزئه". وقول ابن القاسم هو مشهور المذهب. انظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 373).

وفي مذهب الأحناف: انظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 146 - 148)، وفيه قال: "قال: (ومن خطب يوم الجمعة بتسبيحة واحدة: أجزأه في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه حتى يكون كلامًا يُسمَّى خطبة). لأبي حنيفة: ظاهر قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، فالذكر الذي يلي الأذان =

ص: 1949

لو أردنا أن نتعرف على الحكمة من وضع هذه الخطبة، لرأينا أن هذه الحكمة هي أن الناس يجتمعون في هذا اليوم العظيم الذي اشتمل على كثير من الفضائل والمحاسن، فيأتون من كل فجٍّ

(1)

، ويجتمعون وينضوون

(2)

تحت سقف واحد في مسجد واحد، يتسابقون إلى استماع هذه الخطبة، فينبغي إذن أن تشتمل هذه الخطبة على فوائد وثمار ونتائج يخرج الناس وقد استفادوا منها، ومنها وجدنا -كما أشرنا- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُكثِر من قراءة سورة (ق)

(3)

.

لأن سورة (ق) افتتحها اللَّه سبحانه وتعالى بقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق: 1، 2]. إذن سورة (ق) تحدثت عن أمر عظيم خطير، ألا وهو ما يتعلَّق بالبعث، فإن المشركين كانوا ينكرونه، واللَّه سبحانه وتعالى قد ضرب الأمثلة وأقام الأدلة في هذه السورة، وبعد أن عرض كثيرًا من المواعظ والذكر في هذه السورة، قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37].

إذن نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبحث عمَّا يؤثر في نفوس الناس، عما كان يأخذ بأيديهم ويقودهم إلى طريق الخير والرشاد، كان الرسول صلى الله عليه وسلم

= هو الخطبة، فدل على جوازها بكل ذكر. وقال أبو يوسف ومحمد: الكلمة الواحدة لا تسمى خطبة، والجمعة إنما فعلت بخطبة، فلا يجزي إلا أن يأتي بما يُسمَّى خطبة على الإطلاق". وانظر:"العناية شرح الهداية"، للبابرتي (2/ 59).

وفي مذهب الحنابلة: القدر الواجب أن تشتمل على الذكر والثناء والوعظ وشيء من القرآن.

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 316)، وفيه قال:" (للقدر الواجب) من الخطبتين، وهو أركان كل منهما وهو الحمد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقراءة آية، والوصية بتقوى اللَّه". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 226)، ففيه مزيد بيان.

(1)

"الفَجُّ": الطريق الواسع فىِ قُبُل جبلِ ونحوه، ويُجمع فِجاجًا. انظر:"العين"، للخليل (6/ 24).

(2)

ينضوون، أي: يميلون وينضمون، يقال: ضويت إلى فلان، أي: ملت، وضوى إلينا أوى إلينا. انظر:"لسان العرب"، لابن منظور (14/ 490).

(3)

سبق.

ص: 1950

يسعى إلى ذلك في خطبه، وكان يقول:"إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"

(1)

. ويقول صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين"

(2)

.

إذن هذا تحذير وتنبيه للمؤمنين إلى قرب الساعة، ولذلك سيأتي عندما نتكلم عن الإنصات يوم الجمعة في قصة الرجل الذي دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فسأله عن الساعة، فلم يردَّ عليه صلى الله عليه وسلم، والناس يشيرون إليه: أن اسكت، فلما قالها ثلاثًا رد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم:"ويحك ما أعددت لها؟ "؛ فالساعة علمها عند اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكن ما يهمُّ المؤمن في هذه الحياة أن يعدَّ العدة لهذه الساعة

(3)

.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ خُطْبَتَانِ اثْنَتَانِ يَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَائِمًا يَفْصِلُ إِحْدَاهُمَا مِنَ الأُخْرَى بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ").

يرى الشافعي أنه لا بدَّ من خطبتين، وأن يكون الخطيب قائمًا، وأن

(1)

أخرجه البخاري (4770)، واللفظ له، ومسلم (208/ 355)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي:"يا بني فهر، يا بني عدي" -لبطون قريش- حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال:"أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال:"فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، الهذا جمعتنا؟ فنزلت:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} .

(2)

أخرجه البخاري (6504)، ومسلم (295/ 1331)، عن أنس.

(3)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 313)، عن شريك أنه سمع أنس بن مالك يقول: دخل رجل المسجد ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة، فقال: يا رسول اللَّه، متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن اسكت، فسأله ثلاث مرات، كل ذلك يشيرون إليه أن اسكت، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند الثالثة:"ويحك، ماذا أعددت لها"، وذكر الحديث. قال ابن الملقن:"إسناده صحيح". انظر: "تحفة المحتاج"(1/ 503).

ص: 1951

يفصل بين الخطبتين أيضًا بجلسة، ويتفق معه الإمام أحمد في رواية في جميع ما ذكر

(1)

.

* قوله: (يَحْمَدُ اللَّهَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِهَا، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ، وَيَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ فِي الأُولَى، وَيَدْعُو فِي الآخِرَةِ

(2)

. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ هَلْ يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ

(1)

اشتراط خطبتين والجلوس بينهما والقيام فيها من الشروط التي لا تنعقد الخطبة إلا بها عند الشافعية كما سيأتي. وعن أحمد روايتان. والمشهور عنه، وهو ما عليه المذهب اشتراط خطبتين، وعدم اشتراط الجلوس بينهما ولا اشتراط القيام فيها.

انظر في كونها خطبتين: "المبدع في شرح المقنع"، لابن مفلح (2/ 159، 160)، حيث قال في شروط صحة خطبة الجمعة:" (الرابع: أن يتقدمها خطبتان) لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. والذكر: هو الخطبة، فأمر بالسعي إليه، فيكون واجبًا. . . ويشترط اثنتان؛ لأنهما أقيما مقام الركعتين، فالإخلال بإحداهما إخلال بإحدى الركعتين". وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 315).

وانظر في القيام فيها: "المغني"، لابن قدامة (2/ 224)، وفيه قال:"وقوله: "خطبهم قائمًا". يحتمل أنه أراد أشتراط القيام في الخطبة، وأنه متى خطب قاعدًا لغير عذر، لم تصح".

وانظر في الجلوس بين الخطبتين وأنه ليس بشرط: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 317)، حيث قال:" (و) سن جلوسه أيضًا (بينهما)، أي: الخطبتين (قليلًا). قال في التلخيص: بقدر سورة الإخلاص (فإن أبى) أن يجلس بينهما فصل بسكتة (أو خطب جالسًا فصل) بين الخطبتين (بسكتة) ليحصل التمييز، وعلم منه: أن الجلوس بينهما غير واجب؛ لأن جماعة من الصحابة، منهم عليّ: سرد الخطبتين من غير جلوس".

(2)

انظر في مذهب الشافعية: "كفاية الأخيار"، للحصني (ص: 144)، حيث قال: " (وفرائضها ثلاثة أشياء خطبتان يقوم فيهما ويجلس بينهما وأن تصلى ركعتين في جماعة). من شروط صحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان. وللخطبة خمسة أركان: أحدها: حمد للَّه تعالى ويتعين لفظ الحمد. والثاني: الصلاة على رسول اللَّه. ويتعين لفظ الصلاة. الثالث: الوصية بتقوى اللَّه تعالى. الرابع: الدعاء للمؤمنين وهو ركن على الصحيح ولا تصح الخطبة بدونه وهو مخصوص بالثانية. الخامس: قراءة شيء من القرآن وأقله آية واحدة نص عليه الشافعي سواء كانت وعدًا أو وعيدًا أو حكمًا =

ص: 1952

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أو قصة ويشترط كون الآية مفهمة، فلا يكفي {ثُمَّ نَظَرَ (21)} وإن كانت آية".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الكافي"، لابن قدامة (1/ 328)، وفيه قال:"وفروض الخطبة أربعة أشياء: حمد اللَّه تعالى. والثاني: الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. الثالث: الموعظة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ. الرابع: قراءة آية. وعن أحمد ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر. ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ. وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين، لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض".

ومذهب الأحناف والمالكية فيما سبق كالتالي:

أولًا: في شرط كونها خطبتين.

مذهب الأحناف: اعتبار الخطبتين ليس شرطًا فى المذهب، بل تجزئ الخطبة الواحدة.

انظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 55)، وفيه قال:"ثم الخطبة الواحدة تجوز عندنا، وهو مذهب عطاء ومالك والأوزاعى وإسحاق وأبى ثور". وانظر: "العناية شرح الهداية"، للبابرتي (2/ 58).

مذهب المالكية: في المذهب خلاف. انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 58)، وفيه قال:"وفي وجوب الثانية قولان. القول بوجوبها عزاه اللخمي لابن القاسم. ابن الفاكهاني في شرح العمدة: وهو المشهور. والثاني لمالك في الواضحة، وقال: من السنة أن يخطب خطبتين، فإن نسي الثانية أو تركها أجزأتهم".

والمشهور على أنهما يشترطان لصحة الصلاة.

قال العدوي في "حاشيتة على كفاية الطالب"(1/ 373): "قوله: اثنتين على المشهور مقابله قول مالك في الواضحة، قال: من السنة أن يخطب خطبتين، فإن نسى الثانية أو تركها أجزأهم قاله الشيخ بهرام".

ثانيًا: في القيام فيها.

مذهب الأحناف: عدم اشتراط القيام بل ذهبوا إلى سنيته.

انظر: "التجريد"، للقدوري (2/ 955)، وفيه قال:"قال أصحابنا: السنة في الخطبة أن يخطب قائمًا، فإن خطب جالسًا مع القدرة جاز. لنا: قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، ولم يفصل. ولأنه ذكر يتقدم التحريمة، فلم يكن من شرطه القيام، كا لأذان. وانظر: "منحة السلوك"، للعيني (ص: 173).

مذهب المالكية: اختلف المذهب في حكمه، والأكثرون على شرطيته.

انظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 79)، وفيه قال:(ص) وفي وجوب قيامه =

ص: 1953

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لهما تردد (ش)، أي: وفي وجوب قيامه للخطبتين على جهة الشرطية كما عند المازري وسنيته تردد للأكثر. وقال عبد الوهاب: السنة القيام فإن خطب جالسًا أساء وصحت. وانظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 166).

ثالثًا: الجلوس بين الخطبتين.

مذهب الأحناف: عدم اشتراط الجلوس.

انظر: "التجريد"، للقدوري (2/ 977)، وفيه قال:"قال أصحابنا: القعدة بين الخطبتين ليست بواجبة. وقال الشافعي: واجبة. لنا: قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، ولم يفصل. ولأنه ذكر يفعل في حال القيام، فلا يجب فيه الفصل. ولأنهما ذكران يتقدمان الصلاة فلا يجب الفصل بينهما بقعدة، كالأذان والإقامة". مذهب المالكية: مشهور المذهب على عدم اشتراطه سواء أكان الجلوس في أولها أو بين الخطبتين.

انظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 261)، وفيه قال:" (و) يسن أن (يجلس) الخطيب (في أولها)، أي: الخطبة للاستراحة حتى يفرغ الأذان (و) يسن أيضًا أن يجلس (في وسطها) ويقوم للخطبة الثانية، والجلوس بين الخطبتين قدر الجلوس بين السجدتين كما قال ابن القاسم". وانظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 374).

رابعًا: اشتمال الخطبة على الذكر والثناء والأمر بالتقوى وقراءة شيء من القرآن.

مذهب الأحناف: المذهب على أن هذه الأشياء مسنونة وليست شرطًا.

انظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 263)، وفيه قال:"وأما سنن الخطبة فمنها أن يخطب خطبتين على ما روي عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: ينبغي أن يخطب خطبة خفيفة يفتتح فيها بحمد اللَّه تعالى ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم،. . ثم القعدة بين الخطبتين سنة عندنا وكذا القراءة في الخطبة، وعند الشافعي شرط والصحيح مذهبنا؛ لأن اللَّه تعالى أمر بالذكر مطلقًا عن قيد القعدة والقراءة فلا تجعل شرطًا بخبر الواحد؛ لأنه يصير ناسخًا لحكم الكتاب وأنه لا يصلح ناسخًا له ولكن يصلح مكملًا له". وانظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 159).

مذهب المالكية: المذهب على عدم اشتراط ذلك، وهو معتمد المذهب.

انظر: "الشرح الكبير" الشيخ الدردير (1/ 378) وفيه قال: "وندب ثناء على اللَّه وصلاة على نبيه وأمر بتقوى ودعاء بمغفرة وقراءة شيء من القرآن". وانظر: "المعونة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 306).

ص: 1954

أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ أَوْ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ المُجْزِئَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الأَقْوَالِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، وَمَنْ رَأَى أَنَّ المُجْزِئَ مِنْ ذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ اشْتَرَطَ فِيهَا أُصُولَ الأَقْوَالِ الَّتِي نُقِلَتْ مِنْ خُطَبِهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْنِي: الأَقْوَالَ الرَّاتِبَةَ غَيْرَ المُتَبَدِّلَةِ)

(1)

.

يقصد بالأقوال الراتبة: المستقرة الثابتة.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: أَنَّ الخُطْبَةَ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ، فِيهَا أَقْوَالٌ رَاتِبَةٌ وَغَيْرُ رَاتِبَةٍ، فَمَنِ اعْتَبَرَ الأَقْوَالَ الغَيْرَ رَاتِبَةٍ، وَغَلَّبَ حُكْمَهَا، قَالَ: يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ: (أَعْنِي: اسْمَ خُطْبَةٍ عِنْدَ العَرَبِ)).

هذا عند الحنفية، حيث يرون الاقتصار على أقل ما يسمَّى خطبة

(2)

. لكن لا يُفهَم من ذلك أن الحنفية يفضلون ذلك، لا، بل العلماء كلهم متفقون على تفضيل ما اشتملت عليه الخطبة

(3)

.

* قوله: (وَمَنِ اعْتَبَرَ الأَقْوَالَ الرَّاتِبَةَ، وَغَلَّبَ حُكْمَهَا قَالَ: لَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الخُطْبَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الخُطْبَةِ عِنْدَ مَالِكٍ الجُلُوسُ)

(4)

.

(1)

انظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (1/ 542)، وفيه قال:"وسبب الخلاف: هل يجزئهم من ذلك أقل ما يقع عليه الاسم اللغوي، أو الاسم الشرعي؟ فمن رأى أن المجزئ من ذلك أقل ما يقع عليه الاسم اللغوي لم يشترط فيها شيئًا من الأقوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم فيها: ومن رأى أن المجزئ من ذلك أقل ما يقع عليه الاسم الشرعي: اشترط فيها حصول الأقوال التي نقلت من خطبته عليه السلام".

(2)

سبق ذكره.

(3)

سبق.

(4)

سبق ذكره.

ص: 1955

هذا هو رأي الإمام مالك، ويوافقه أيضًا أبو حنيفة

(1)

، وهي رواية للإمام أحمد

(2)

، لكن الشافعي كما عرفنا يرى أنه يُجلس بين الخطبتين؛ لأنَّ ذلك ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم

(3)

، والآخرون يقولون: ثبت عن عليٍّ رضي الله عنه أنه سرد الخطبة فلم يجلس

(4)

، وأُثر ذلك عن أُبيِّ بن كعب

(5)

، وعن المغيرة بن شعبة

(6)

، لكن الأولى في ذلك أن تلتزم السنة، وأن يجلس كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجلس.

* قوله: (وَهُوَ شَرْطٌ كَمَا قُلْنَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنِ اعْتَبَرَ المَعْنَى المَعْقُولَ مِنْهُ مِنْ كَوْنِهِ اسْتِرَاحَةً لِلْخَطِيبِ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عِبَادَةً جَعَلَهُ شَرْطًا)

(7)

.

فمَن قال من أهل العلم بأن الاستراحة ليست بواجبة قصد بها الاستراحة، بدليل: أنها لا تشتمل على ذكر؛ لأنها لو كانت أمرًا تعبديًّا أو مما يجب لشُرع فيها ذكر، لكنها لا تشتمل على ذكر، فدلَّ ذلك على أن القصد هو أن يستريح الخطيب؛ ليتقوى مرة أُخرى

(8)

.

(1)

سبق.

(2)

وهو مشهور المذهب كما سبق.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 74)، عن إسحاق، قال: رأيت عليًّا يخطب على المنبر، فلم يجلس حتى فرغ. قال ابن التركماني:"وهذا سند صحيح على شرط الجماعة". انظر: "الجوهر النقي"(3/ 198).

(5)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 227)، وفيه قال:"وقد سرد الخطبة جماعة، منهم المغيرة بن شعبة، وأبي بن كعب".

(6)

ذكره ابن بطال من غير إسناد، فقال:"وروى عن المغيرة بن شعبة أنه كان لا يجلس في خطبته". انظر: "شرح صحيح البخاري"(2/ 512).

(7)

ذكر ذلك ابن بطال، فقال:"ومن قال: إنها فريضة فلا حجة له؛ لأن القعدة فصل بن الذكرين، واستراحة للخطيب، وليست من الخطبة في شيء". انظر: "شرح صحيح البخاري"(2/ 512).

(8)

انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 775)، وفيه قال:"ولا يجب الجلوس؛ لأن جماعة من الصحابة -منهم عليّ- سردوا الخطبتين من غير جلوس؛ ولأنه ليس في الجلسة ذكر مشروع".

ص: 1956

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الإِنْصَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ).

يقصد المؤلف بالإنصات يوم الجمعة الإمساك عن الكلام

(1)

. والكلام -كما نرى- عامٌّ، فهناك كلام عام لا يترتب عليه ثمرة، ومن الكلام أيضًا رد السلام وتشميت العاطس ونحو ذلك.

لكن هناك من الكلام ما أجمع العلماء أنه يجب فعله، حتى الذين يقولون بوجوب الاستماع وتحريم الكلام يرون جواز ذلك، ومن ذلك مَن اتَّجهت إليه عقرب فينبَّه لذلك أو يرى حريقًا أو نحو ذلك، فإنه في هذه الحالة يتكلم، فهذه لا تدخل في المنع

(2)

. لكن يختلف العلماء بعد ذلك في الكلام، هل هذا عام في كلِّ كلام؟ أو أنه يستثنى منه مثلًا إذا سلم عليه إنسان فردَّ عليه السلام أم لا؟ كذلك إذا عطس إنسان هل يشمته

(3)

أو لا؟ وهذا كلُّه سوف يذكره المؤلف.

(1)

"الإنصاتُ": السكوت للاستماع. انظر: "مجمل اللغة"، لابن فارس (ص: 870).

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين"(2/ 159)، وفيه قال:" (قوله من خيف هلاكه) الأولى ضرره قال في البحر أو رأى رجلًا عند بئر فخاف وقوعه فيها أو رأى عقربًا يدب إلى إنسان فإنه يجوز له أن يحذره وقت الخطبة. قلت: وهذا حيث تعين الكلام؛ إذ لو أمكن بغمز أو لكن لم يجز الكلام تأمل".

وانظر في مذهب المالكية: "الذخيرة"، للقرافي (2/ 51)، وفيه قال:"فرع قال صاحب الطراز فإن عرض له مهم كأعمى يخشى عليه من الوقوع في حفير ففي الواضحة يتكلم ويبتدئ وهو قول الشافعي قياسًا على الخطبة فإن الكلام فيها ممنوع إلا لضرورة".

وانظر في مذهب الشافعية: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 341)، وفيه قال:"ولو رأى رجلًا يقع في بئر أو عقربًا يذب عنه لم يحرم كلامه قولًا واحدًا؛ لأن الإنذار يجب لحقّ الآدمي، والإنصات لحقِّ اللَّه تعالى، ومبناه على المُساهلة".

وانظر في مذهب الحنابلة: "المغني"، لابن قدامة (2/ 245)، وفيه قال:"فأما الكلام الواجب، كتحذير الضرير من البئر، أو من يخاف عليه نارًا، أو حية أو حريقًا، ونحو ذلك، فله فعله؛ لأن هذا يجوز في نفس الصلاة مع إفسادها، فهاهنا أولى".

(3)

"التشميت": هو الدعاء، وكل داع لأحد بخير فهو مشمت له. انظر:"غريب الحديث"، للقاسم بن سلام (2/ 183).

ص: 1957

* قوله: (اخْتَلَفُوا فِي الإِنْصَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الإِنْصَاتَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ لَازِمٌ مِنْ أَحْكَامِ الخُطْبَةِ).

هذا قول جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة؛ أبو حنيفة

(1)

ومالك

(2)

والشافعي

(3)

وأحمد

(4)

، وهؤلاء يرون وجوب الإنصات، وقد ورد في ذلك عدَّة أحاديث، منها قوله عليه الصلاة والسلام:"إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت، فقد لغوت"

(5)

.

كذلك أيضًا قصة أبي الدرداء عندما دخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب في الناس يوم الجمعة، وتلا شيئًا من سورة، وأقبل على أبيِّ بن كعب يسأله: متى نزلت هذه السورة فلم يكلِّمه أبيٌّ، فلما فرغ من صلاته تعجب من ذلك وقال لأبيٍّ: سألتك ولم تجبني فقال له أبيٌّ رضي الله عنهما: ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت، فذهب أبو الدرداء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكر له ما دار بينه وبين أبيٍّ وأنه بيَّن أنه قال له: ليس لك

(1)

انظر: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 28)، وفيه قال:"ولا ينبغي للقوم أن يتكلموا والإمام يخطب لقوله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. ولأنه في الخطبة يخاطبهم بالوعظ فإذا اشتغلوا بالكلام لم يفد وعظه إياهم شيئًا".

(2)

انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 330)، وفيه قال:"الإنصات للخطبة واجب، خلافًا لأحد قولي الشافعي؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قيل ذلك في الخطبة. وقوله عليه السلام: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"، مفهومه الإتيان بالأمر المنهي عنه وهو التشاغل عن الإنصات". وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 88).

(3)

سيأتي.

(4)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 322)، وفيه قال:" (و) حرم أيضًا (كلام والإمام يخطب وهو)، أي: المتكلم (منه)، أي: الإمام (بحيث يسمعه)، أي: الإمام؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في الخطبة، وسميت قرآنا: لاشتمالها عليه".

(5)

أخرجه البخاري (934)، ومسلم (851/ 11) عن أبي هريرة.

ص: 1958

من صلاتك إلا ما لغوت. فلم يزد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: "صدق أبيٌّ"

(1)

. إذن أقرَّ أبيًّا على قوله، فدلَّ ذلك على أنه لا ينبغي الكلام؛ لأنه كما جاء في الحديث:"مَن توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم دنا واستمع غُفِرَ له ما بين الجمعة وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام"

(2)

.

إذن القصد من ذلك هو الإنصات، ويضاف الاستماع، فلا يكفي أن ينصت الإنسان، بل لا بد وأن يستمع إلى خطبة الخطيب؛ ليخرج منها بفوائد، لأن هذا من أغراض الخطبة

(3)

.

* قوله: (وَهُمُ الجُمْهُورُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمِيعُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ).

أما بالنسبة إلى الشافعي فهي رواية، لكنه في مذهبه الجديد يرى أن الإنصات ليس بواجب، وإنما هو مستحب

(4)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم (857/ 27)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا".

(3)

ظاهر هذا الكلام أن الإنصات هو السكوت فقط من غير استماع. لكن الذي عليه اللغويون أن الإنصات هو السكوت مع الاستماع.

انظر: "الصحاح"، للجوهري (1/ 268)، وفيه قال:"الإنصات: السكوت والاستماع للحديث، تقول: أنْصِتوهُ وأنْصِتوا له".

(4)

انظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 553)، وفيه قال:" (والجديد أنه لا يحرم عليهم الكلام) فيها للأخبار الدالة على جوازه كخبر "الصحيحين" عن أنس "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام أعرابي فقال يا رسول اللَّه: هلك المال وجاع العيال فادع اللَّه لنا، فرفع يديه ودعا" وجه الدلالة: أنه لم ينكر عليه الكلام ولم يبين له وجوب السكوت. . . (ويسن) للقوم السامعين وغيرهم أن يقبلوا عليهم بوجوههم لأنه الأدب،. . . و (الإنصات) له قال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ذكر كثير من المفسرين أنه ورد في الخطبة، وسميت قرآنا لاشتمالها عليه، ويكره للحاضرين الكلام فيها. . . والقديم يحرم الكلام فيها ويجب الإنصات". وانظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 430، 431).

ص: 1959

* قوله: (وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، فَبَعْضُهُمْ أَجَازَ التَّشْمِيتَ وَرَدَّ السَّلَامِ فِي وَقْتِ الخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ

(1)

، وَغَيْرُهُمْ)

(2)

.

إذن من العلماء مَن أجاز ردَّ السلام وتشميت العاطس، وعدوا النهي عن الكلام عامًّا وأن ردَّ السلام وتشميت العاطس مستثنًى من ذلك، ولا شكَّ أنه قد وردت أحاديث في ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بسبع ونهى عن سبع، ومما أمر به ردّ السلام وتشميت العاطس

(3)

. وبيَّن أن ذلك من حقِّ المسلم على أخيه المسلم

(4)

. إذن جاءت أحاديث تحضُّ على رد السلام وتشميت العاطس. فهنا نهي وأمر، فهل النهي عن الكلام وقت الخطبة عام في كلِّ الكلام خاصة وقت الخطبة؟ أو أنه يستثنى من هذا شيء من الكلام ألا وهو ردُّ السلام، وتشميت العاطس.

(1)

ذكره ابن عبد البر، فقال:"وقال الثوري والأوزاعي وغيرهما لا بأس برد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب" انظر: "الاستذكار"(2/ 23).

وحكى ابن المنذر عن الأوزاعي خلاف ما حكاه ابن عبد البر، فقال:"وكان مالك، والأوزاعي: لا يريان تشميت العاطس ولا رد السلام والإمام يخطب". انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"(2/ 105).

(2)

انظر: "الأوسط"، لابن المنذر (4/ 72)، وفيه قال:"اختلف أهل العلم في تشميت العاطس ورد السلام والإمام يخطب، وممن رخص في ذلك الحسن البصري، والنخعي، والشعبي، والحكم، وحماد، وسفيان الثوري، وروي ذلك عن القاسم بن محمد".

(3)

أخرجه البخاري (6235)، واللفظ له، ومسلم (2066/ 3)، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال:"أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم. ونهى عن الشرب في الفضة، ونهانا عن تختم الذهب، وعن ركوب المياثر، وعن لبس الحرير، والديباج، والقسي، والإستبرق".

(4)

أخرجه البخاري (1240)، واللفظ له، ومسلم (2162/ 4)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس".

وفي رواية أخرجها مسلم (2162/ 5)، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"حق المسلم على المسلم ست. . . ". الحديث.

ص: 1960

* قوله: (وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُجِزْ رَدَّ السَّلَامِ وَلَا التَّشْمِيتَ).

هذا قال به الحنفية على تفصيل

(1)

والحنابلة أيضًا في رواية

(2)

، والمالكية

(3)

.

(1)

انظر: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 28، 29)، وفيه قال:"وأما التشميت ورد السلام فلا يأتي بهما عندنا خلافًا للشافعي، وهو رواية عن أبي يوسف؛ لأن رد السلام فرض والاستماع سنة. ولكنا نقول: رد السلام إنما يكون فريضة إذا كان السلام تحية وفي حالة الخطبة المسلم ممنوع من السلام فلا يكون جوابه فرضًا كما في الصلاة".

أما الصلاة على النبي وقت الخطبة فالأولى له أن يستمع وينصت للخطبة. انظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 322)، وفيه قال:"وكذلك يستمع وينصت إن صلى الخطيب على النبي صلى الله عليه وسلم خطبة م: (لفريضة الاستماع) ش: في الخطبة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس بفرض إلا في الحمر مرة واستماع الخطبة فرض لا يجوز ترك الفرض لإقامة ما ليس بفرض. وعن أبي يوسف: يصلي في نفسه، واختاره الطحاوي".

(2)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 240)، وفيه قال:"فأما تشميت العاطس، ورد السلام ففيه روايتان، قال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه سئل: يرد الرجل السلام يوم الجمعة؟ فقال: نعم. ويشمت العاطس؟ فقال: نعم، والإمام يخطب. وقال أبو عبد اللَّه: قد فعله غير واحد قال ذلك غير مرة. والرواية الثانية: إن كان لا يسمع الخطبة رد السلام وشمت العاطس، وإن كان يسمع لم يفعل. قال أبو طالب، قال أحمد: إذا سمعت الخطبة فاستمع وأنصت، ولا تقرأ، ولا تشمت، وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ وشمت ورد السلام". وانظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 184).

ومشهور المذهب على الجواز. انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 48)، وفيه قال:" (ويجوز تأمينه)، أي: مستمعِ الخطبة على الدعاء (وحمده خفية إذا عطس نصًا وتشميت عاطس ورد سلام نطقًا)؛ لأنه مأمور به لحق آدمي، أشبه الضرير فدل على أنه يجب قاله في المبدع".

(3)

انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 63)، وفيه قال:"ولا يسلم ولا يرد ولا يشمت أي: الداخل والإمام يخطب لا يسلم، وإن سلم لم يرد عليه. قاله مالك في المدونة. ومن عطس والإمام يخطب حمد اللَّه تعالى سرًّا في نفسه، ولا يشمته غيره". وانظر: "منح الجليل"، لعليش (1/ 448).

ص: 1961

* قوله: (وَبَعْضهم فَرَّقَ بَيْنَ السَّلَامِ وَالتَّشْمِيتِ، فَقَالُوا: يَرُدُّ السَّلَامَ، وَلَا يُشَمِّتُ).

هذا عند الشافعية، أو قول في مذهب الشافعية

(1)

.

* قوله: (وَالقَوْلُ الثَّانِي مُقَابِلُ القَوْلِ الأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ الكَلَامَ فِي حَالِ الخُطْبَةِ جَائِزٌ إِلَّا فِي حِينِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ فِيهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ)

(2)

.

من المعلوم أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]. وكثير من العلماء قالوا: إن ذلك في الخطبة

(3)

. فإذا كانت هذه الآية في الخطبة ففيها أمر بالإنصات، والإنصات

(1)

وصورة رد السلام أن تكون بالإشارة. هذا على القول بتحريم الكلام، وهو أحد الوجهين عند الشافعية.

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 523، 524)، وفيه قال:"قال الشافعي في مختصر المزني والأصحاب يكره للداخل في حال الخطبة أن يسلم على الحاضرين سواء قلنا الإنصات واجب أم لا، فإن خالف وسلم قال أصحابنا: إن قلنا بتحريم الكلام حرمت إجابته باللفظ ولستحب بالإشارة كما لو سلم في الصلاة وفي تشميت العاطس ثلاثة أوجه: (الصحيح) المنصوص تحريمه كرد السلام. (والثاني) استحبابه؛ لأنه غير مفرط بخلاف المسلم. (والثالث) يجوز ولا يستحب، وحكى الرافعي وجهًا أنه يرد السلام؛ لأنه واجب ولا يشمت العاطس، لأنه سنة فلا يترك لها الإنصات الواجب. وإذا قلنا لا يحرم الكلام، جاز رد السلام والتشميت بلا خلاف".

(2)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 21)، وفيه قال:"وروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وأبي بردة أنهم كانوا يتكلمون والإمام يخطب إلا في حين قراءة القرآن في الخطبة خاصة".

(3)

انظر في مذهب الأحناف: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 26)، وفيه قال:"وينبغي للإمام أن يقرأ سورة في خطبته لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}. قيل: الآية في الخطبة سمَّاها قرآنًا لما فيها من قراءة القرآن".

وانظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 330)، وفيه قال:"الإنصات للخطبة واجب؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. قيل ذلك في الخطبة". =

ص: 1962

يقتضي الاستماع، والاستماع يدلُّ على أنه ليس للإنسان إذا ما أنصتَ واستمع أن يتكلم، لأن الكلام سيشغله عن الاستماع إلى الخطبة وعن الاستفادة منها، لكن لو جاء أمرٌ طارئ من الأمور التي ذكرناها، وهي التي قد يقع المسلم بسببها في حرج، فإنه في هذه الحالة يتكلم

(1)

.

وهنا قضية ينبغي أن ننبه عليها، رأينا أن أكثر العلماء يوجبون الاستماع ويحرِّمون الكلام أثناء الخطبة، لكنَّهم كلهم متَّفقُون على أن لو تكلم إنسان لا تفسد صلاته، إذن فالكلام لا يفسد الصلاة، وإن قالوا بوجوب الإنصات

(2)

.

* قوله: (وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: الفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَ الخُطْبَةَ أَوْ لَا يَسْمَعَهَا).

بعض العلماء يقول: إن القصد من الإنصات، فهو لأجل الاستماع، فإذا لم يتحقق فيختلف الحال هنا؛ لأن الإنسان لو تكلَّم وهو يسمع الخطيب فمعنى ذلك أنه انصرف عنه ولم يستفد من الخطبة، لكن لو كانت الحالة في غير الاستماع فلا يتحقق سبب النهي، وهو عدم الاستفادة.

= وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 429)، وفيه قال:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} . فإنها نزلت في الخطبة، فسمى الخطبة قرآنًا، لما يتضمنها من القرآن".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 322)، وفيه قال:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} . قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في الخطبة".

(1)

سبق.

(2)

أي: لا تفسد جمعته. وعليه فقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لغا فلا جمعة له": معناه لا جمعة له في تمام الأجر. قال ابن القطان: "ومن قال: (صه) والإمام يخطب فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، يريد لا جمعة له في تمام من شاهدها صامتًا؛ لأن فقهاء الأمصار يقولون: جمعته مجزئة، ولا يصلي أربعًا". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 316).

ص: 1963

* قوله: (فَإِنْ سَمِعَهَا أَنْصَتَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، جَازَ لَهُ أَنْ يُسَبِّحَ أَوْ يَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ العِلْمِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ

(1)

، وَعَطَاءٌ

(2)

، وَجَمَاعَةٌ

(3)

. وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَكَلَّمَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ

(4)

، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ

(1)

انظر: "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني"(ص: 85)، وفيه قال:"قلت لأحمد "يرد السلام والإمام يخطب؟ قال: إذا كان ليس يسمع الخطبة فيرد، قلت: ويشمت العاطس؟ قال: إذا كان ليس يسمع الخطبة، لقول اللَّه:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} . فإذا كان يسمع فلا". قيل لأحمد، وأنا أسمع: "الرجل يسمع نغمة الإمام بالخطبة، ولا يدري ما يقول، أيرد السلام؟ قال: لا، إذا سمع شيئًا، قيل لأحمد: فيقرأ؟ قال: إذا كان لا يسمع الخطبة، فيقرأ".

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 227)، عن عطاء قال:"إذا عطس إنسان يوم الجمعة، والإمام يخطب فحمد اللَّه، وأنت تسمعه، وتسمع الخطبة، فشمته في نفسك، فإن كنت لا تسمع الخطبة فشمته، وأسمعه".

(3)

هو وجه عند الأحناف. والشافعية قالوا هو مخير بين الذكر أو الصمت.

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 264)، وفيه قال:"فأما البعيد منه إذا لم يسمع الخطبة كيف يصنع اختلف المشايخ فيه، فال محمد بن سلمة البلخي: الإنصات له أولى من قراءة القرآن، وهكذا روى المعلى عن أبي يوسف، وهو اختيار الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري، ووجهه ما روي عن عمر وعثمان أنهما قالا: إن أجر المنصت الذي لا يسمع مثل أجر المنصت السامع. وعن نصير بن يحيى أنه أجاز له قراءة القرآن سرًّا".

والأصح السكوت. قال الموصلي: "ومن كان بعيدًا لا يسمع النداء قيل يقرأ في نفسه، والأصح أنه يسكت للأمر". انظر: "الاختيار لتعليل المختار"(1/ 84).

وانظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (2/ 599)، وفيه قال:"البعيد بالخيار: إن شاء أنصت، وإن شاء ذكر اللَّه تعالى؛ لما روي عن عثمان: أنه قال: "إذا خطب الإمام. فأنصتوا، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل ما للسامع". هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال في "الإبانة": هل يقرأ البعيد القرآن؛ فيه وجهان. هذا فيما لا فائدة فيه من الكلام". وانظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 89).

أما المالكية فقالوا بوجوب الاستماع سمع الخطبة أم لم يسمع. انظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 63)، وفيه قال:"ويجب الإنصات للخطبة وإن لم تسمع". تصور كلامه ظاهر، ولا أعلم فيه خلافًا".

(4)

انظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (2/ 322)، وفيه قال: " (وكذلك في الخطبة) ش: أي كذلك يسمع وينصت عند الخطبة؛ لما روى أبو =

ص: 1964

قَالَ: مَنْ لَغَا، فَصَلَاتُهُ ظُهْرٌ أَرْبَعٌ

(1)

، وَإِنَّمَا صَارَ الجُمْهُورُ لِوُجُوبِ الإِنْصَاتِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ).

ذكر المؤلِّف أدلة الجمهور، وأدلة الجمهور الذين قالوا بوجوب الإنصات والامتناع عن الكلام، منها قول اللَّه تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]. وكذلك أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"

(2)

. وقصة أُبَيٍّ مع أبي الدرداء

(3)

، فهذه هي أدلة الجمهور.

يبقى بعد ذلك أدلة الفريق الآخر، الذين قالوا بأن الكلام ليس ممنوعًا، وإنما يستحب الإنصات فقط، فهم أيضًا يستدلون بعدة أدلة، ومن هذه الأدلة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لذاك الرجل الذي دخل المسجد وأخذ

= هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" رواه البخاري ومسلم، وآخرون، وبمعنى لغوت. قلت: اللغو وهو الكلام الساقط الباطل المردود وقيل معناه: قلة الصواب، وقيل: تكلمت بما لا ينبغي".

وانظر في مذهب المالكية: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(2/ 116)، وفيه قال:" (ونهى لاغ) بالنطق (وحصبه) رميه بالحصباء زجرًا له عن لغوه لخبره من حرك الحصباء فقط لغا، أي: ومن لغا لا جمعة له كما في خبر آخر، أي: كاملة". وانظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 22).

وانظر في مذهب الشافعية: "البيان"، للعمراني (2/ 599)، وفيه قال:"إذا تكلم. . لم تبطل جمعته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن مسعود -لما كلَّم أبيًّا حال الخطبة- بإعادة الجمعة".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 47)، وفيه قال:" (ويحرم الكلام في الخطبتين والإمام يخطب ولو كان) الإمام (غير عدل) لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: صه فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له". ومعنى قوله:"لا جمعة له"، أي: كاملة".

(1)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 22)، وفيه قال:"قال ابن وهب من لغا كانت صلاته ظهرًا، يعني: في الفضل".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدمت.

ص: 1965

يتخطَّى رقاب الناس: "اجلس، فقد آذيت"

(1)

. إذن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكلَّم، وأيضًا في قصة الرجل الذي دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: يا رسول اللَّه، هلك المال وجاع العيال، فادع اللَّه لنا، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه وذكر حديث الاستسقاء وقد نزل المطر

(2)

. إذن هذا رجل دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة.

إذن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكلم، والرجل تكلم قالوا: فهذا دليل على جواز الكلام أثناء الخطبة، لأنه إذا لم يكن جائزًا لأنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك الأعرابي كلامه، لكنه لم يُنكِر عليه، فدلَّ على جوازه

(3)

.

وفي قصة الرجل الآخر الذي جاء والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب فقام فقال: يا رسول اللَّه، متى الساعة؟ فسكت عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فردد ذلك ثلاث

(1)

أخرجه أبو داود (1118)، عن أبي الزاهرية، قال: كنا مع عبد اللَّه بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، فقال عبد اللَّه بن بسر: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اجلِسْ فقد آذيت". وصححه الألباني في: "صحيح أبي داود - الأم"(1024).

(2)

أخرجه البخاري (933)، واللفظ له، ومسلم (8/ 897)، عن أنس بن مالك، قال: أصابت الناس سَنَةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي، فقال يا رسول اللَّه: هلك المال وجاع العيال، فادع اللَّه لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قَزَعَةً، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال. . . الحديث".

(3)

وهو قول الشافعية في الجديد ووجه عند الحنابلة. أما الأحناف والمالكية فقالوا بوجوب الإنصات. انظر في مذهب الشافعية: "فتح العزيز بشرح الوجيز"، للرافعي (4/ 587)، وفيه قال:"وقال في الجديد: الإنصات سنة والكلام ليس بحرام؛ لما روي "أن رجلًا دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال: متى الساعة فأومأ الناس إليه بالسكوت فلم يقبل وأعاد الكلام". والاستدلال أنه لم ينكر عليه ولم يبين له وجوب السكوت. . . ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 789)، وفيه قال:" (و) حل كلام أيضًا (لمن كلمه) الخطيب (لمصلحة)؛ لحديث أنس. "وكلم صلى الله عليه وسلم سليكًا وكلمه هو". ولأنه حال كلامه الإمام، وكلام الإمام إياه لا يشغل عن سماع الخطبة".

ص: 1966

مرات والناس يشيرون إليه أن يسكت، فلما فرغَ من الثالثة صرفه الرسول عليه الصلاة والسلام عمَّا سأل عنه إلى أمر أهمّ، إلى أمر يهمه ويحتاج إليه كل مؤمن في هذه الحياة، قال:"ويحك، ما أعددت لها؟ " فقال: أعددت لها حبَّ اللَّه وحب رسوله

(1)

. وهذا يكفي إذا كان المؤمن صادقًا فيما يقول؛ لأن حبَّ اللَّه سبحانه وتعالى يقتضي أن تعمل بما أمرك اللَّه به، وأن تجتنب ما نهاك عنه، وأن تتقي اللَّه سبحانه وتعالى؛ ليجعل لك من أمرك مخرجًا، ويجعل لك من عسرك يُسرًا. وكذلك أيضًا فيما يتعلَّق بمحبَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لذلك ردَّ عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم:"أنت مع من أحببت". لكنها محبة صدق وإخلاص، لا محبَّة دعوى وافتراء. كم من أناس يدَّعون أنهم يحبُّون اللَّه، وأنهم يحبُّون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لكنك تجد أعمالهم وأقوالهم تخالِفُ ما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما أرشدَ ونبَّه ودعا إليه عليه الصلاة والسلام، أيضا نجد في جوامع الكلم في الرجل الآخر الذي قال: أوصني، قال:"لا تغضب"

(2)

في كلمة واحدة، ربما نجد أنها كلمة يسيرة، لكن انظر ما يترتب على الغضب؛ لذلك جاء نهي القاضي أن يقضي وهو غاضب

(3)

، والإنسان إذا غضب ربما يقع في كثير من المهالك، ولسانك حصانك إذا صنته صانك وإن أهنته أهانك

(4)

. فالإنسان في حالة الغضب قد لا يستطيع أن يمسك بزمام نفسه وأن يضع لها لِجامًا تقف عنده، ولذلك تزل قدمه فيقع في الخطأ ويندم، ولذلك فالإنسان إذا بدأ يساوره الغضب

(5)

، فعليه أن يطرحه وأن يتجه إلى اللَّه سبحانه وتعالى بالذكر والطاعة، وبما جاء في علاج الغضب، إذن بهذا نتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرج البخاري (6116)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال:"لا تغضب" فردد مرارًا، قال:"لا تغضب".

(3)

أخرجه البخاري (7158)، واللفظ له، ومسلم (1717/ 16)، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: كتب أبو بكرة إلى ابنه، وكان بسجستان، بأن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان".

(4)

وهذه حكمة معناها أن اللسان كالفرس يشرد ويضيع إن لم يحكم صاحبه عنانه.

(5)

سَوْرَةُ الغضبِ: وُثُوبُه. انظر: "مختار الصحاح"، للزبيدي (ص: 157).

ص: 1967

خطبه كلها كانت مواعظ، ودروسًا يستفيد منها المسلمون أو استفاد منها المسلمون في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ من الصحابة والذين جاؤوا بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي -مع قصرها- تجمع جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

أما الذين قالوا: إن الإنصات ليس بواجب، فللحديث وقصة الرجلين وقصة الرجل الذي دخل المسجد، والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب الناس، فقال له:"أصليت؟ " قال: لا، فقال له:"فقم وصل ركعتين"

(1)

. وفي رواية أُخرى: "إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما"

(2)

.

والشاهد هنا: "أصليت؟ " قال: لا، قال:"قم فاركع ركعتين" فالرسول صلى الله عليه وسلم قد تكلم والرجل أجاب، وأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي، فقالوا: هذه أدلة تدلُّ على أن الإنصات ليس بواجب، وإنما هو مستحب، أما الآية فهي محمولة على الاستحباب، هذا على تسليم أنها خاصة بخطبة الجمعة في الآية. وثمة كلام للعلماء أنها ليست في الخطبة، وإنما عند قراءة القرآن

(3)

، وحديث:"إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"، المراد بالكلام هنا: الكلام الذي لا قيمة له،

(1)

أخرجه البخاري (931)، ومسلم (875/ 55)، عن جابر، قال: دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال:"أصليت؟ " قال: لا، قال:"قم فصل ركعتين".

(2)

أخرجه مسلم (875/ 59)، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له:"يا سليك قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما". ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما".

(3)

أخرجه الطبري في "جامع البيان"(10/ 664)، عن ابن عباس، أنه كان يقول في هذه:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] هذا في المكتوبة. وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك، فإنما هي نافلة. إن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة مكتوبة، وقرأ وراءه أصحابه، فخلطوا عليه، قال: فنزل القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204] فهذا في المكتوبة".

ص: 1968

ولا ثمرة له، ومنه لغو اليمين، وكذلك أيضًا الحديث الآخر:"ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت"

(1)

.

لكننا نقول: حرص الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيده ذلك الأمر يدلُّ على وجوب الإنصات

(2)

، وأما هذا الذي ذكره هؤلاء العلماء فجوابه أن نقول: إن الكلام لا ينبغي أثناء الخطبة، لكن يجوز للإمام أن يتكلم، ومن كلَّمَه الإمام فهذا مستثنًى؛ لأن النصوص نضَت على ذلك، إذن فالنصوص التي نهت عامة، ونستثني منها جواز الكلام بين الإمام ومن يكلمه، وقد رأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ ذلك ولم ينكره

(3)

.

والخلاصة: لا يجوز لمن حضر الخطبة أن يتكلم، بل يلزمه الإنصات، لكن للإمام أن يتكلم إن رأى خطأً وقع في الصلاة أثناء الخطبة، فأراد أن ينبِّه الناس، كأن يرى أُناسًا يتكلمون فينبههم ويأمرهم بالسكوت، أو رأى أن رجلًا دخل وتخطى رقاب الناس، فله أن ينبه، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى رجلًا دخل وجلس دون أن يصلي، فله أيضًا أن يرشده ليصلي، كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

.

إذن يجوز للإمام أو من يكلِّمه الإمام أن يتكلَّما، وهذا مستثنًى وإلا فلا. ولو أخذ الناس يتكلمون وانشغلوا بالكلام حقيقة في هذه الحالة لضاعت الفوائد وذهبت فائدة الخطبة، لأن الإنسان جاء ليستمع إلى الخطبة، ليخرج بفوائد وعبر وحكم وأحكام، لأن الخطبة بالإضافة إلى جانب الوعظ فيها نجد فيها جانب الأحكام والفوائد؛ فقد يعرض الخطيب

(1)

تقدم؛ وهو من حديث أبي الدرداء وأبي بن كعب رضي الله عنهما. وانظر المسألة في: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 525).

(2)

سبق.

(3)

وهذا ما قالت به الحنابلة، وقد سبق.

(4)

سبق.

قال السمرقندي: " {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي: على يقين وحقيقة. ويقال: على بيان أنا ومَن اتَّبعني، يعني: من اتبعني على ديني، فهو أيضًا على بصيرة". انظر: "بحر العلوم"(2/ 213).

ص: 1969

إلى شيء من أسرار الشريعة الإسلامية، وقد يعرض إلى مشكلة كثير من الحاضرين في أشد الحاجة إلى معرفتها، فقد يكون الإنسان وقع في خطأ عن جهل وعدم علم، فيجد علاج ذلك في كلام الخطيب، إذن لا تخلو الخطبة من فوائد عظيمة ومتنوعة للعامي وطالب العلم على السواء؛ لأن الذكرى تنفع المؤمنين، فطالب العلم قد يغفل عن مسألة فيتذكرها ويستمع إليها في الخطبة، لأن عادة الخطيب أن يُعِدَّ الخطبة ويهيئ نفسه أنه سيخاطب جمهورًا من المسلمين، فلا ينبغي أن يأتي مرتجلًا دون أن يعد العدة، ولذلك من المعلوم أن مواضيع الإنشاء لا بد وأن نضع عناصرًا لها.

إذن على الخطيب أن يكون على معرفة بما يدعو الناسَ إليه، وأن يكون متحققًا من الوقائع والأحداث التي يعرضها للناس، لا مجرد أن يسمع شخصًا يقول: وقعت واقعة كذا فيأخذها مسلمة ثم يطرحها في جمع كهذا الجمع، وقد لا تكون صوابًا، إذن التحري أيضًا مطلوب، فاللَّه سبحانه وتعالى يقول في حقِّ نبيِّه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]. إذن الخطيب داعية، والداعي لا بد أن يدعو على علم ومعرفة، وأن يكون حكيمًا في خطبته، فكم من كلمات اللَّه البينات، كم من كلمات تطرق قلوب الناس فتترك فيها أثرًا طيبًا، تنغرس فيها فلا تخرج!

وكم من كلمات فيها حماس لا تترك أثرًا في نفوس الناس، ولا شكَّ أيضًا أن الخطيب عندما يكون قدوة، بأن تكون أفعاله وفق أقواله، فإنه يترك أثرًا أكبر في الناس، وبذلك كان الصحابة رضي الله عنهم قدوة بأفعالهم قبل أن يكونوا قدوة بأقوالهم، فكم من أناس دخلوا في دين اللَّه لما كانوا يرون من صفات أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ من قول الصدق والتواضع والعدل بين الناس والرحمة والكرم، إلى غير ذلك من الصفات العظيمة التي كانوا يقتدون بها، ولذلك فتحوا قلوب الناس بالقرآن، وفتحوا البلاد بالقرآن قبل أن يفتحوها بالسيف والسلاح.

فلا شكَّ أن اختيار الموضوع وترتيبه والعناية به، واختيار ألفاظه، وصياغته في قوالب قوية حاملة للمعاني الجامعة المقتبسة مما كان عليه

ص: 1970

السلف الصالح، لا شكَّ أنها تترك أثرًا طيِّبًا، وهذا من حِكَم خطبة يوم الجمعة.

* قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ"

(1)

، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ فَلَا أَعْلَمُ لَهُمْ شُبْهَةً إِلَّا أَنْ يَكُونُوا يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ قَدْ عَارَضَهُ دَلِيلُ الخِطَابِ

(2)

).

نقول: إن المؤلف لم يدرك حقيقة مذهبهم، وقوله:"ليس لهم شبهة" غير مُسلَّم؛ فهم يستدلُّون بالأدلة التي ذكرنا، وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لما تكلم وكلمه الأعرابيان وكلم الذي دخل ولم يُصَلِّ

(3)

على عدم وجوب الإنصات، لكننا نقلناها وبيَّنَّا أنها خاصة بالإمام، وهذا الفريق يقول: لا، هي عامة، لماذا تخصصون الإمام، وهذا نص حديث ينبغي أن يكون دليلًا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

(4)

.

* قوله: (فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]، أَيْ: أَنَّ مَا عَدَا القُرْآنَ فَلَيْسَ يَجِبُ لَهُ الإِنْصَاتُ، وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

دليل الخطاب هو: "أن يعلق الحكم على إحدى صفتي الشيء، فيدل على أن ما عداها بخلافه؟ كقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}، فيه دلالة على أن العدل إن جاء بنبإ لم يتبين". انظر: "الفقيه والمتفقه"، للخطيب البغدادي (1/ 234).

(3)

سبق هذا.

(4)

سبق بيان هذا كله.

والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، معناه: عند الفقهاء والأصوليين الاستدلال بظاهر العموم وإن كان في غير مورد سببه. انظر: "تهذيب الفروق"، لمحمد بن علي (1/ 114).

ص: 1971

وفي مذهبهم الشافعية: أن في حالة قراءة القرآن يجب الإنصات، لكن هذا قول أو وجهٌ في المذهب

(1)

، والأدلة هي التي أشارت إليه، وليس الأمر كما ذكر المؤلف من أنهم ليس لهم أدلة، بل لهم أدلة، وليس شرطًا أن يكون المستدل بالأدلة على صواب دائمًا، وليس شرطًا أن يكون قوله هو الحق دائمًا، فالفريق الآخر معه أدلة، وهي نص في المسألة فينبغي أن تقدم فيها.

* قوله: (وَالأَشْبَهُ أَن يَكُونَ هَذَا الحَدِيثُ لَمْ يَصِلْهُمْ).

ذلك نقل عن عبد اللَّه بن مسعود، أنه قال:"إذا رأيت الرجل يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة فاقرع رأسه بالعصا"

(2)

، أي: اضربه بالعصا، وهذا صحابي جليل لا يقول هذا الأمر إلا عن علم ومعرفة.

لا ننسى أن الرجل أيضًا لما جاء وسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "متى الساعة؟ " أخذ الصحابة يشيرون إليه أن يسكت؛ لأنهم استغربوا ذلك منه" لمخالفته الأصل، لكن لما كان كلامه مع الإمام، مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أقرَّ الرسول ذلك ولم ينكره

(3)

.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُم فِي رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، فَالسَّبَبُ فِيهِ تَعَارُضُ عُمُومِ الأَمْرِ بِذلِكَ لِعُمُومِ الأَمْرِ بِالإِنْصَاتِ).

هذه قضية من القضايا التي قد تعمق فيها المؤلِّف، وخروجه إلى

(1)

الذين قالوا بعدم وجوب الإنصات، قالوا: إن ألاية خارج محل النزاع، وإن الأمر فيها محمول على الاستحباب.

قال النووي: "وأجابوا عن الآية أنها محمولة على الاستحباب جمعًا بين الأدلة هذا إن سلمنا أن المراد الخطبة وأنها داخلة في المراد".

(2)

أخرجه مسدد كما في "المطالب العالية"(3/ 532) عن عبد اللَّه قال: "إذا رأيتم الشيخ ينشد الشعر في المسجد يوم الجمعة ويذكر أيام الجاهلية فاقرعوا رأسه بالعصا". قال الحافظ: "صحيح موقوف".

(3)

سبق كل هذا.

ص: 1972

أسلوب المنطق، وربما لا يدرك الإنسان إلا بإمعانٍ

(1)

، فلننتبه إلى ذلك، يريد أن يجعل خصوصًا وعمومًا؛ خصوصًا في الكلام من جانب، وعمومًا في كلام آخر، ويريد أن يربط هذه المسائل بعضها ببعض ويخصص بعضها ببعض، فلننتبه إلى ذلك.

وهناك أدلة قد جاءت بردِّ السلام وتشميت العاطس، وهناك أدلة أُخرى كالتي معنا تنهى عن الكلام وقت الخطبة، وهو وقت محدد، إذن الوقت هنا خاص والكلام الذي نهي عنه "قد لغوت" عامٌّ، إذن هنا خصوص في الوقت وعموم في الكلام، فالوقت خاص بوقت الخطبة؛ والعموم بالنسبة للكلام مطلقًا وعندما تنكر ذلك بالنسبة إلى ردِّ السلام وتشميت العاطس، تنعكس الصورة؛ فالوقت هناك عام والكلام خاص، فأيُّ العمومين نقدِّم؟ وأيُّ الخصوصين كذلك؟

(2)

.

* قوله: (وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَثْنًى مِنْ صَاحِبِهِ، فَمَنِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الأَمْرِ بِالصَّمْتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ الأَمْرَ بِالسَّلَامِ وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ أَجَازَهُمَا).

نهي الإنسان أن يتكلم أثناء الخطبة في وقت معين، فهل نستثني من ذلك رد السلام فنكون قد استثنينا عمومًا من خصوص الوقت؟ أم لا؟

* قوله: (وَمَنِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الأَمْرِ بِرَدِّ السَّلَامِ وَالتَّشْمِيتِ الأَمْرَ بِالصَّمْتِ فِي حِينِ الخُطْبَةِ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ).

الإنسان مأمور في كل الحالات أن يردَّ السلام، وأن يشمِّتَ العاطس، إلا في حالاتٍ خاصَّة جدًّا، لكن الغالب أن الإنسان إذا سُلِّمَ

(1)

أمعن في الطلب، إذا بالغ في الاستقصاء. انظر:"المصباح المنير"، للفيومي (2/ 576).

(2)

ولذلك اختلفوا، فمن رأى أن الأمر برد السلام وتشميت العاطس عام استثناهما من النهي عن الكلام، ومن رأى أن الأمر بالإنصات عام أدخلهما فيه، كما سيُذكر.

ص: 1973

عليه يردُّ، كذلك من حقوق المسلم على أخيه المسلم إذا عطس أن يشمِّتَه، إذن هذا عامٌّ في كلِّ الأوقات، ووقت الجمعة خاص، فهل نخص هذا العموم عموم هذا الكلام من خصوص ذلك الوقت؟ أو لا؟

لأنه يقول: إن ذلك ورد فيه النهي عن الكلام، لكن عندنا أدلة أُخرى أجازت رد السلام وتشميت العاطس، ولم تقيدهما بوقت معين، فينبغي أن نخصّ به هذا.

يقول: إن رد السلام وتشميت العاطس عامٌّ في كلِّ الأوقات، لكن الكلام أثناء الخطبة خاصّ في وقتها، فينبغي أن نخصّ عموم ما ورد في ردِّ السلام وتشميت العاطس بهذا الوقت

(1)

.

* قوله: (وَمَنْ فَرَّقَ، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى رَدَّ السَّلَامِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّكَلُّمِ فِي الخُطْبَةِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الأَمْرِ التَّشْمِيتَ وَقْتَ الخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ وَاحِدٌ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ هَذِه المُسْتَثْنَيَاتِ لِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ قُوَّةِ العُمُومِ فِي أَحَدِهَا، وَضَعْفِهِ فِي الآخَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الأَمْرَ بِالصَّمْتِ هُوَ عَامٌّ فِي الكَلَامِ، خَاصٌّ فِي الوَقْتِ، وَالأَمْرَ بِرَدِّ السَّلَامِ وَالتَّشْمِيتِ هُوَ عَامٌّ فِي الوَقْتِ، خَاصٌّ فِي الكَلَامِ، فَمَنِ اسْتَثْنَى الزَّمَنَ الخَاصَّ مِنَ الكَلَامِ لَمْ يُجِزْ رَدَّ السَّلَامِ، وَلَا التَّشْمِيتَ فِي وَقْتِ الخُطْبَةِ).

الكلام العامُّ الذي هو رد السلام وتشميت العاطس.

* قوله: (وَمَنِ اسْتَثْنَى الكَلَامَ الخَاصَّ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الكَلَامِ العَامِّ، أَجَازَ ذَلِكَ. وَالصَّوَابُ أَلَّا يُصَارَ لِاسْتِثْنَاءِ أَحَدِ العُمُومَيْنِ بِأَحَدِ الخُصُوصَيْنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ

(2)

، فَإِنْ عَسُرَ ذَلِكَ، فَبِالنَّظَرِ فِي تَرْجِيحِ العُمُومَاتِ،

(1)

وهذا على قول من أوجب الإنصات.

(2)

فإذا ما رجح بغير دليل كان ذلك تحكمًا. قال أبو المعالي الجويني: "ولو لم يقم عليه دليل لكان ذلك الممسك متضمنًا تعطيل الظاهرين وإخراجهما من حكم العموم من غيره دليل، وليس أحد الظاهرين أولى بالتسليط على الثاني من الآخر وكل عموم =

ص: 1974

وَالخُصُوصَاتِ، وَتَرْجِيحِ تَأْكيدِ الأَوَامِرِ بِهَا، وَالقَوْلُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ يَطُولُ، وَلَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ بِإِيجَازٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الأَوَامِرُ قُوَّتُهَا وَاحِدَةٌ، وَالعُمُومَاتُ وَالخُصُوصَاتُ قُوَّتُهَا وَاحِدَةٌ).

لأن من الأوامر ما يأتي قطعيًّا، ومنها ما يأتي محتملًا، فهي تختلف من حيث القوة كما ذكر المؤلف، وكذلك الحال بالنسبة إلى النواهي.

* قوله: (وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى أَيِّ يُسْتَثْنَى مِنْ أَيِّ وَقَعَ التَّمَانُعُ ضَرُورَةً

(1)

، وَهَذَا يَقِلُّ وُجُودُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي العُمُومَاتِ وَالخُصُوصَاتِ الوَاقِعَةِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ المَوَاضِعِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ النِّسَبِ الوَاقِعَةِ بَيْنَ الخُصُوصَيْنِ وَالعُمُومَيْنِ، وَهِيَ أَرْبَعٌ: عُمُومَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ القُوَّةِ، وَخُصُوصَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ القُوَّةِ، فَهَذَا لَا يُصَارُ لِاسْتِثْنَاءِ أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ. الثَّانِي: مُقَابِلُ هَذَا، وَهُوَ خُصُوصٌ فِي نِهَايَةِ القُوَّةِ، وَعُمُومٌ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ وَلَا بُدَّ أَعْنِي: أَنْ يُسْتَثْنَى مِنَ العُمُومِ الخُصُوصُ. الثَّالِثُ: خُصُوصَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَحَدُ العُمُومَيْنِ أَضْعَفُ مِنَ الثَّانِي، فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّصَ فِيهِ العُمُومُ الضَّعِيفُ. الرَّابِعُ: عُمُومَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَحَدُ الخُصُوصَيْنِ

= خص فلا بد من عضد تخصيصه بدليل". انظر: "البرهان في أصول الفقه" (2/ 200، 201).

(1)

التمانع لغة هو التعارض. (وفي الاصطلاح اقتضاء كل من دليلين عدم مقتضى الآخر)(ومتى تعارضا)، أي: الدليلان (فيرجح) أحدهما: إذا وجد المرجح له (أو يجمع) بينهما بأن يحمل كل منهما على محمل بطريقة يتحقق (معناه)، أي: التعارض (ظاهرًا)، أي: يكون التعارض المذكور ظاهر اقتضاء الدليلين، (وإلا) إذا لم يوجد دون المتعارضين دليل آخر يعمل به أو وجد التعارض في الجميع (قررت الأصول)، أي: يجب العمل بالأصل في جميع ما يتعلَّق بالمتعارضين. انظر: "التقرير والتحبير"، لابن أمير حاج (3/ 2 - 4).

ص: 1975

أَقْوَى مِنَ الثَّانِي، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الحُكْمُ فِيهِ لِلْخُصُوصِ القَوِيِّ، وَهَذَا كلُّهُ إِذَا تَسَاوَتِ الأَوَامِرُ فِيهَا فِي مَفْهُومِ التَّأْكِيدِ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ حَدَثَتْ مِنْ ذَلِكَ تَرَاكِيبُ مُخْتَلِفَةٌ، وَوَجَبَتِ المُقَايَسَةُ أَيْضًا بَيْنَ قُوَّةِ الأَلْفَاظِ وَقُوَّةِ الأَوَامِرِ، وَلِعُسْرِ انْضِبَاطِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ قِيلَ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوْ أَقَلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَأْثُومٍ).

قضية أنَّ كُلَّ مجتهد مصيبٌ محلُّ خلاف بين العلماء

(1)

، ونذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة"

(2)

. وقد اختلف الصحابة الذين قاموا بتلك المهمة؛ فمنهم من فَهِم من ذلك الإسراع، ومنهم من وقف عند النص فلم يصَلِّ إلا في بني قريظة، ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد من المجتهدين، وهي مسألة أصولية خلافية معروفة.

والأمر عندنا واضحٌ في هذه المسألة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت"

(3)

. وفي حديث

(1)

وهو مذهب الأحناف، وقالت به المعتزلة وبعض الأشاعرة.

انظر: "العدة في أصول الفقه"، لأبي يعلى الفراء (5/ 1548، 1549)، وفيه قال:"وقال أبو الحسن الكرخي -فيما حكاه أبو سفيان السرخسي عنه-: مذهب أصحابنا جميعًا: أن كل مجتهد مصيب لما كلف من حكم اللَّه تعالى، والحق في واحد من أقاويل المجتهدين. قال: ومعنى ذلك أن الأشبه واحد عند اللَّه تعالى إلا أن المجتهد لم يكلف إصابته. وذهبت المعتزلة: إلى أن كل مجتهد مصيب. واختلفت الأشعرية".

وقيل: هو ظاهر مذهب المالكية أيضًا وقول عند الشافعية ذكر ذلك الخطيب البغدادي، وذكر أدلة الفريقين. انظر:"الفقيه والمتفقه"(2/ 114 - 127).

(2)

أخرجه البخاري (946)، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدًا منهم.

وأخرجه مسلم (1770/ 69) ولكن بدل "العصر""الظهر".

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1976

أُبيٍّ: "ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت"

(1)

. وأيَّد الرسول صلى الله عليه وسلم أبيًّا في ذلك، فتبين في هذا أن الكلام ممنوع، لكن يستثنى من ذلك من كلم الإمام، أو مَن كلَّمه الإمام، أو من تكلَّم لمصلحة لها علاقة بالصلاة، أو أن يرى مسلمًا كاد يقع في خطر فنبَّهه

(2)

.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ جَاءَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ: هَلْ يَرْكَعُ أَمْ لَا؟).

معلوم أن المسجد له تحيَّة، وعامة المساجد إنما تحيَّتها ركعتان، وقد أرشد إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، وإن بيت اللَّه الحرام إنما تحيته الطواف"

(3)

.

إذن تحية كلّ مسجد إذا دخل الإنسان أن يؤدي ركعتين، تكريمًا وتعظيمًا وإجلالًا له وقد مرَّ بنا اختلاف العلماء في أداء الصلوات غير المفروضة المقضية، أي: غير المفروضات في أوقات النهي، وأن العلماء قد اختلفوا في ذلك، وقد انتهجنا إلى ترجيح مذهب الشافعية، وهو التفريق بين ذوات الأسباب وغيرها، وأن ما كان من ذوات الأسباب يؤدى في أيِّ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم.

(3)

الشق الأول من الحديث، أخرجه البخاري (2/ 57)، عن قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين".

ومسلم (714/ 69)، عن أبي قتادة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس".

أما بقية الحديث وهو تحية البيت الحرام الطواف، فقد قال العجلوني في "كشف الخفاء" (1/ 343):"قال في المقاصد: لم أره بهذا اللفظ، ولكن في الصحيح عن عائشة قالت: أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف. . . الحديث، وفيه أيضًا قول عروة الراوي عنها أنه حجَّ مع ابن الزبير، فأول شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه، وترجم عليه البخاري: "باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ثم صلى ركعتين".

ص: 1977

وقت كان سواء كان وقت نهي أو غير وقت نهي، وأن من ذوات الأسباب تحية المسجد، هذا من حيث العموم

(1)

.

لكننا الآن نتكلم عن الصلاة والإمام يخطب يوم الجمعة، وهذه قد وردت فيها نصوص خاصة، ومع ورد الأحاديث فيها عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نجد أن العلماء قد اختلفوا فيها أيضًا والعلماء عندما يختلفون مسألة من المسائل لا يكون خلافهم مبنيًّا على الهوى، ونقصد بذلك الأئمة الذين سلكوا طريق الرشاد والهداية، ومن بين هؤلاء الأئمة الأربعة، أما مَن يخالف تعصبًا لرأيٍ أو ينصر مذهبًا من المذاهب أو فكرًا يحمله، فهذا لا ينظر إليه، لأنه يريد بذلك العدول عن الحق، لكننا نتكلم عن الذين يريدون الحقَّ ولا يريدون غيره.

الحاصلُ: أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة مع أنه دخل رجل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فجلس فقال له: "أصليت؟ " قال: لا، قال:"قم فاركع ركعتين" هذا حديث متفق عليه

(2)

.

وفي حديث آخر أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فلا يجلس حتى يركع ركعتين"

(3)

. وفي بعض رواياته: "مَن جاء والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما"

(4)

.

هذه الأدلة مع حديث: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" تدلُّ على أن الإنسان متى ما دخل والإمام يخطب فإنه يصلي، هذا في حق من يدخل والإمام يخطب، لكن الذين يبقون أو الموجودون في المسجد لا يشملهم ذلك، ولذلك يوجد من بعض المصلين مَن إذا أذَّن المؤذن قام فصلَّى والإمام يخطب، وهذا خطأ في الحقيقة؛

(1)

تقدَّم.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 1978

لأن الكلام هنا عمَّن دخل والإمام يخطب، وإلا العلماء نصُّوا على أن مَن كان داخل المسجد فإن التطوع ينتهي بجلوس الإمام على المنبر، فإن كان هناك تطوع فليؤده قبل ذلك

(1)

. لكن الخلاف فيمن دخل والإمام يخطب، والعلماء قد انقسموا إلى فريقين:

الفريق الأول: يرى أنه يستحب ألا يجلس حتى يصلي ركعتين، عملًا بتوجيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبأمره الرجل أن يصلي ركعتين، وهم أيضًا متَّفِقون على أنه يصليهما إيجازًا، يعني: يتجوز فيهما كما جاء في الحديث

(2)

، وهذا هو مذهب الشافعي

(3)

، وأحمد

(4)

، وهو رأي لكثير من

(1)

انظر في مذهب الأحناف: "مختصر القدوري"(ص: 40)، وفيه قال:"وإذا خرج الإمام على المنبر يوم الجمعة ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته".

انظر في مذهب المالكية: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 513)، وفيه قال:" (وابتداء صلاة) نفلًا (بخروجه)، أي: الخطيب للخطبة لجالس".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 259)، وفيه قال:" (ولا تباح) لغير الخطيب من الحاضرين (نافلة بعد صعوده) المنبر (وجلوسه) وإن لم يسمع الخطبة لإعراضه عنه بالكلية ونقل فيه الماوردي وغيره الإجماع وعن الزهري خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 321)، وفيه قال:" (و) سن أيضًا (اشتغال بذكر وصلاة) وقرآن (إلى خروج الإمام) للخطبة، لينال أجره وكذا بعد خروجه لمن لا يسمعه، غير الصلاة، ويسجد لتلاوة حيث يسن فإذا خرج الإمام (ف) إنه (يحرم ابتداء صلاة غير تحية مسجد) للخبر". وانظر: "المغني"(2/ 237)، لابن قدامة.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

انظر: "الإقناع"، للشربيني (1/ 185)، وفيه قال:" (ومن دخل) لصلاة الجمعة (والإمام) يقرأ (في الخطبة) الأولى أو الثانية أو هو جالس بينهما (يصلي ركعتين خفيفتين ثم يجلس) لحديث سليك عند مسلم. هذا إن صلى سنة الجمعة وإلا صلاها مخففة وحصلت التحية ولا يزيد على ركعتين بكل حال فإن لم تحصل تحية المسجد كأن كان في غير المسجد لم يُصَلِّ شيئًا".

(4)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 321)، وفيه قال:" (ف) إنه (يحرم ابتداء صلاة غير تحية مسجد) للخبر (ويخفف ما ابتدأه) من صلاة قبل خروجه (ولو) كان (نوى أربعًا وصلى اثنتين) سواء كان بالمسجد، أو غيره؛ لأن استماع الخطبة أهم".

ص: 1979

العلماء يصعب استقصاؤهم

(1)

.

الفريق الثاني: هم المالكية

(2)

، والحنفية

(3)

. قالوا: مَن دخل والإمام يخطب فلا يصلِّي، بل يجلس وليستمع إلى الخطبة؛ لأنه مطالب بالاستماع إلى الإمام، واللَّه تعالى يقول:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وهذا ذكر، وأيضًا جاء في حديث:"مَن دخل والإمام يخطب يوم الجمعة فلا صلاة ولا كلام". لكن هذا الحديث ضعيف

(4)

.

إذن مناط الخلاف بين العلماء، أو علته، هو أن من العلماء مَن يتمسَّك بأن المصلي مطالب بأن يستمع إلى الخطبة، وأن يشتغل بها ولا يشتغل بغيرها، ومن اشتغل بتطوع بنافلة فإنما انصرف عن الخطبة، فتفوته هذه الموعظة التي لا تتكرر، وكما أشرنا من قبل، كم كان المسلمون يقطعون من المسافات؟!

فربما يتحمَّلون المشاق في سبيل الوصول لهذه الموعظة التي تكون

(1)

ذكر ابن عبد البر بعضهم، فقال:"وذهب الشافعي، وابن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري إلى أن كل من دخل المسجد والإمام يخطب أن يركع".

(2)

انظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 89)، وفيه قال:" (ص) وابتداء صلاة بخروجه وإن لداخل (ش) يعني: أن الخطيب إذا خرج على الناس من دار الخطابة، أو من باب المسجد للخطبة فإنه يحرم ابتداء صلاة نفل حينئذ ولو لم يجلس على المنبر ولو لداخل المسجد حين خرج الإمام وهذا حكم النفل".

(3)

انظر: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 29)، وفيه قال:"الإمام إذا خرج فخروجه يقطع الصلاة حتى يكره افتتاحها بعد خروج الإمام وينبغي لمن كان فيها أن يفرغ منها يعني يسلم على رأس الركعتين لحديث ابن مسعود وابن عباس -رضي اللَّه تعالى عنهم- موقوفًا عليهما ومرفوعًا: "إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام".

(4)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(جـ 13، 14)(ص: 75)، عن ابن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دخل أحدكم المسجد والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام، حتى يفرغ الإمام". وضعفه الألباني في: "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(87).

ص: 1980

كل أسبوع؛ لأن يوم الجمعة إنما هو عيد الأسبوع

(1)

، فهذا الخطيب يخطب الناس ويذكرهم بأيَّام الآخرة، وما في الجنة من نعيمٍ مقيمٍ، ويحذِّرهم أيضًا من النار وما يوصّل إلى طريقها، ويبين لهم طريق الغواية

(2)

ويحذرهم من سلوكه، وكذلك أيضًا يبيِّن لهم نتيجة مَن وقع في المعاصي وما في ذلك من المخاطر، كذلك أيضًا يبيِّن سعادة وفوز من اتبع رضوان اللَّه سبحانه وتعالى.

إذن هؤلاء العلماء يقولون: إنه اشتغال عن الخطبة، ولكننا نقول: ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بعدم الجلوس حتى يؤدي الإنسان ركعتين، فينبغي له أن يؤدي ذلك، وكما أن هذا ذكر وموعظة، فالإنسان أيضًا في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأنه يؤدي عبادة وإن لم تكن مفروضة، لكن فيها فضل عظيم، واللَّه سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي:"وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه. . . إلخ"

(3)

.

إذن هنا عمل صالح، وهنا استماع إلى ذكر وموعظة ودروس، أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وهنا أيضًا عمل بتوجيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيجاز في هذه الصلاة؛ ليجمع المرء بين الحسنيين، والأَولى بالمسلمِ ألَّا ينتظر حتى يأتي الإمام -كما سيأتي في مسائل الرواح إلى الجمعة- بل ينبغي للمسلم أن يبادر في هذا اليوم العظيم، وألا ينتظر حتى يدخل الإمام، ويؤذن المؤذن، ثم يأتي؛ فاللَّه سبحانه وتعالى يقول:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148، المائدة: 48]، ويقول سبحانه وتعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]. ولا شكَّ أن المبادرة إلى الجمعة والإنصات إلى الإمام والعمل بما جاء عن

(1)

ورد حديث بهذا المعنى، وقد سبق.

(2)

"الغواية": الضلال. انظر: "مجمل اللغة"، لابن فارس (ص: 687).

(3)

جُزء من حديث أخرجه البخاري (6502)، عن أبي هريرة.

ص: 1981

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما هو استباق للخيرات، ومسارعة إلى ما أمر اللَّه سبحانه وتعالى بالإسراع إليه.

* قوله: (فَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْكَعُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ).

هذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة

(1)

.

* قوله: (وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَرْكَعُ).

ومن قال من أهل العلم بالركوع، هم الشافعية والحنابلة

(2)

، بل أكثر العلماء

(3)

.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ القِيَاسِ لِعُمُومِ الأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ"

(4)

، يُوجِبُ أَنْ يَرْكَعَ الدَّاخِلُ فِي المَسْجِدِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَإِنْ كَانَ الإِمَامُ يَخْطُبُ).

هو حقيقة لا يوجب كما ذكر المؤلف؛ فهذه الصلاة ليست واجبة، وإنما الواجب إنما هو المفروضة

(5)

، لكنَّ المؤلف يطلق أحيانًا على السنن واجبات، وهذا يتكرر منه كثيرًا، فلننتبه. فالصلوات المفروضة هي الخمس صلوات كتبهن اللَّه على العباد في اليوم والليلة

(6)

. وسيأتي الخلاف في

(1)

سبق.

(2)

سبق.

(3)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 236)، وفيه قال:"قال (ومن دخل والإمام يخطب، لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما) وبهذا قال الحسن، وابن عيينة، ومكحول، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر".

(4)

أخرجه البخاري (444)، ومسلم (714/ 69)، عن أبي قتادة السلمي: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس".

(5)

قد يقال إن معنى قوله يوجب يقتضي، وليس الوجوب الذي هو بمعنى الفرض.

(6)

أخرجه بهذا اللفظ الحميدي في "مسنده"(1/ 375)، عن عبادة بن الصامت، قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن اللَّه على العباد في اليوم والليلة فمن أتى بهن لم ينتقص من حقهن شيئًا للقادرين كان حقًّا على اللَّه عز وجل أن يدخله =

ص: 1982

الوتر، وأن الحنفية وحدهم يوجبونه، ومع إيجابهم له يرون أنه بمنزلة دون الفرض

(1)

.

= الجنة، ومن لم يأتِ بهن فليس له عند اللَّه عهد إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه".

وأخرجه أبو داود (1420)، وغيره، عن عبادة، قال:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن اللَّه على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عند اللَّه عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند اللَّه عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة"". وصححه الألباني في:"مشكاة المصابيح"(570).

(1)

انظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (1/ 709، 710)، وفيه قال:"المشهور من مذهب أبي حنيفة وجوب الوتر، فقد حكي أن أبا حنيفة سئل عن الصلوات المكتوبات كم هي؟ فقال: خمس، فقال السائل: فما تقول في الوتر؟ قال: واجب. قال السائل: هذا غلط في الحساب. فجهل السائل، ولم يفرق بين المكتوبة والواجب، وظن أنه إذا قال: هو واجب، فقد قال: إنه من المكتوبة، وطريق إثبات وجوب الوتر: أخبار الآحاد، فلم يكن كالمكتوبة". وانظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 373).

ومذهب الجمهور على أنه سنة. انظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 288)، وفيه قال:"الوتر سنة مؤكدة وليس بواجب. خلافًا لأبي حنيفة. لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} فلو كانت الوتر واجبة لكانت الصلوات ستًّا ولا وسطى لست، وحديث الأعرابي لما سأل عن الإسلام فقال عليه السلام: "خمس صلوات في اليوم والليلة" قال هل علَيَّ غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوّع" ففيه أدلة: منها: أنه لما بين له الواجبات ذكر الخمس ولم يذكر الوتر". وانظر: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني" (1/ 258).

وانظر في مذهب الشافعية: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 66)، وفيه قال:"وأفضلها أي: الرواتب "الوتر"؛ لخبر: "إن اللَّه أمدكم بصلاة خير لكم من حمر النعم وهي الوتر"، وذكر أفضليته وجعله قسمًا منها".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 237)، وفيه قال:" (فوتر)؛ لأنه تشرع له الجماعة بعد التراويح، وهو سنة مؤكدة. وروي عن أحمد: من ترك الوتر عمدًا، فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل له شهادة (وليس) الوتر (بواجب). قال في رواية حنبل: الوتر ليس بمنزلة الفرض، فإن شاء قضى الوتر، وإن شاء لم يقضه، وأما حديث "الوتر حق" ونحوه: فمحمول على تأكيد استحبابه، جمعًا بين الأخبار (إلا على النبي صلى الله عليه وسلم) فكان الوتر واجبًا عليه للخبر".

ص: 1983

* قوله: (وَالأَمْرُ بِالإِنْصَاتِ إِلَى الخَطِيب يُوجِبُ دَلِيلُهُ أَلَّا يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشْغَلُ عَنِ الإِنْصَاتِ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً

(1)

، وَيُؤَيِّدُ عُمُومَ هَذَا الأَثَرِ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ"، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

.)

هو يريد أن يُشير إلى أن ثمَّة رواية له في "الصحيحين"، ورواية عند مسلم.

* قوله: (وفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، وَأَكْثَرُ رِوَايَاتِهِ "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام: أَمَرَ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ أَنْ يَرْكعَ، وَلَمْ يَقُلْ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ" الحَدِيثَ

(3)

. فَيَتَطَرَّقُ إِلَى هَذَا الخِلَافُ فِي هَلْ تُقْبَلُ زِيَادَةُ الرَّاوِي الوَاحِدِ إِذَا خَالَفَهُ أَصْحَابُهُ عَنِ الشَّيْخِ الأَوَّلِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَمْ لَا؟)

(4)

.

(1)

قال الفاكهاني: "وذهب مالك، وأبو حنيفة: إلى أنه لا يركعهما؛ لوجوب الاشتغال بالاستماع، واستدلَّا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب: أنصت، فقد لغوت"، وإذا منع من هذه الكلمة، مع كونها أمرًا بمعروف، ونهيًا عن منكر في زمن يسير، فلأن تمنع الركعتان مع كونهما مسنونتين في زمن طويل من باب أولى". انظر: "رياض الأفهام"(2/ 642).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يقصد أنهم جعلوها واقعة عين خاصة بهذا الرجل. قال الفاكهاني: "وقد اعتذر أصحابنا عن حديث سليك: أنه مخصوص به، وإنما خصَّ بذلك؛ لأنه كان فقيرًا، فأريد قيامه ليستشرفه الحاضرون، فيتصدق عليه، وربما يتأيد هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالقيام للركعتين بعد جلوسه، وقد قالوا: إن ركعتي التحية تفوت بالجلوس. وقد عرف أن التخصيص على خلاف الأصل، ثم يبعد الحمل عليه مع صيغة العموم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب. . . " الحديث، فهذا تعميم يزيل توهم التخصيص بهذا الرجل". انظر: "رياض الأفهام"(2/ 642، 643). وانظر: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 1010).

(4)

لم أقف على مَن ردَّ أدلة القائلين بالصلاة بعد دخول المسجد في حال الخطبة بمثل ما ذكره المؤلف، ومن المعلوم أن الذين خالفوا هم الأحناف والمالكية كما سبق. =

ص: 1984

ليس هناك خلاف في حقيقة الأمر بين رواية "الصحيحين" وهذه الرواية؛ لأن الرواية الأولى: "إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما"

(1)

. وليس هناك مانع أن تتكرر القضية، والأخرى أنه جاء رجل والرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له:"أصليت؟ " لما جلس، قال: لا، قال:"قُم فصَلِّ ركعتين"

(2)

.

ومن الأدلة التي يستدلُّ بها الفريق الآخر أنهم قالوا: دخل رجل فأخذ يتخطى رقاب الناس، فقال له صلى الله عليه وسلم:"اجلس؟ فقد آذيت" قالوا: ولم يأمره بالصلاة

(3)

. لكن أجيب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد كفَّ أذاه؛ لأنه شغل الناس بتخطي رقابهم، فأراد أن يكفَّ أذاه وإن ترك سنة من السنن

(4)

.

إذن ذاك منع؛ لأن في مروره وتخطيه رقاب الناس أذًى لهم، ولذلك يتكلم العلماء فيمن يرى فرجة في مقدمة الصفوف فيذهب إليها، فهذه

= وقد سبق ذكر رد المالكية من كلام الفاكهاني. أما الأحناف فلهم جوابان. قال العيني: "وأصحابنا أجابوا بجوابين، الأول: أن النبي عليه السلام أنصت له حتى فرغ من صلاته، والدليل عليه ما رواه الدارقطني في "سننه" من حديث عبيد بن محمد العبدي، ثنا معتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس قال: دخل رجل المسجد ورسول اللَّه عليه السلام يخطب، فقال له النبي عليه السلام: "قم فاركع ركعتين"، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته. والثاني: أن ذلك كان قبل شروعه عليه السلام في الخطبة، وقد بوب النسائي في "سننه الكبرى" على حديث سليك قال: "باب الصلاة قبل الخطبة". . . ".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 237)، وفيه قال:"وحديثهم قضية في عين، يحتمل أن يكون الموضع يضيق عن الصلاة، أو يكون في آخر الخطبة، بحيث لو تشاغل بالصلاة فاتته تكبيرة الإحرام، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالجلوس، ليكف أذاه عن الناس، لتخطيه إياهم، فإن كان دخوله في آخر الخطبة، بحيث إذا تشاغل بالركوع فاته أول الصلاة، لم يستحب له التشاغل بالركوع".

ص: 1985

مسألة يختلفون فيها

(1)

، فما بالك بمَن يأتي ويتخطَّى رقاب الناس ويؤذيهم؟! ولذلك قال الرسول:"اجلس؛ فقد آذيت" فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلوس؛ لئلا يشغلهم، ففيه ما فيه من شغل الناس عن الاستماع إلى الخطيب.

* قوله: (فَإِنْ صَحَّتِ الزِّيَادَةُ، وَجَبَ العَمَلُ بِهَا)

(2)

.

(1)

اتفق الفقهاء على أن مَن دخل المسجد فوجد فرجة في الصفوف الأولى فإنه يشرع له أن يتخطى الصفوف ويسدها.

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 636)، وفيه قال:" (قوله ولو كان فرجة إلخ). قال في القنية: قام في آخر الصف في المسجد بينه وبين الصفوف مواضع خالية فللداخل أن يير بين يديه ليصل الصفوف؛ لأنه أسقط حرمة نفسه فلا يأثم المار بين يديه، دل عليه ما ذكر في الفردوس برواية ابن عباس -رضي اللَّه تعالى عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نظر إلى فرجة في صف فليسدها بنفسه، فإن لم يفعل فمر مار فليتخط. على رقبته فإنه لا حرمة له"، أي: فليتخط المار على رقبة من لم يسد الفرجة. اهـ".

وانظر في مذهب المالكية: "التاج والإكليل"، للمواق (2/ 306)، وفيه قال:" (أو سترة سقطت أو كمشي صفين لسترة). ابن يونس: الشأن في الصلاة سد الفرج فإذا رأى وهو يصلي فرجة أمامه أو عن يمينه، أو عن يساره حيث يجد السبيل إلى سدها فليتقدم إليها ليسدها، ولا بأس أن يخرق إليها صفوفًا رفقًا". وانظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 281).

وانظر في مذهب الشافعية: "النجم الوهاج"، للدميري (2/ 236)، وفيه قال:"لكن يستثنى من تحريم المرور إذا كان في الصف المتقدم فرجة. . فله أن يمر بين يدي من خلفه ليسدها". وانظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 61).

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 281)، وفيه قال:" (ومن) أراد الصلاة وقد أقيمت الصفوف فإن (وجد فرجة)، أي: خللًا في صف، ولو بعيدة وقف فيها ويكره مشيه إليها عرضًا (أو) وجد (الصف غير مرصوص وقف فيه) نصًّا، لحديث: "إن اللَّه وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف"".

(2)

قال ابن كثير: "إذا تفرد الراوي بزيادة في الحديث عن بقية الرواة عن شيخ لهم، وهذا الذي يعبر عنه بزيادة الثقة، فهل هي مقبولة أم لا؟ فيه خلافٌ مشهور: فحكى الخطيب عن أكثر الفقهاء قبولها، وردها أكثر المحدثين. ومن الناس من قال: إن اتحد مجلس السماع لم تقبل، وإن تعدد قُبلت. ومنهم من قال: تُقبل الزيادة إذا كانت من غير الراوي، بخلاف ما إذا نشط فرواها تارةً وأسقطها أُخرى. ومنهم من =

ص: 1986

فإن صحت الزيادة في "صحيح مسلم" وغيره.

* قوله: (فَإِنَّهَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الخِلَافِ، وَالنَّصُّ لَا يَجِبُ أَنْ يُعَارَضَ بِالقِيَاسِ

(1)

).

لم يقل العلماء الآخرون بالقياس كما ذكر المؤلف

(2)

، وإنما هم -

= قال: إن كانت مخالفة في الحكم لما رواه الباقون لم تُقبل، وإلا قبلت، كما لو تفرد بالحديث كله، فإنه يقبل تفرده به إذا كان ثقة ضابطًا أو حافظًا. وقد حكى الخطيب على ذلك الإجماع". انظر:"اختصار علوم الحديث"(ص: 61).

(1)

يقصد المؤلف أن الذين قالوا بمنع صلاة النافلة لمن دخل المسجد في حال الخطبة قاسوا ذلك على حديثه صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لأخيك: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت". وذلك لأنه يشغله عن الاستماع للخطبة، فقالوا وكذلك من دخل وصلى ركعتين فإنه ينشغل بهما عن الاستماع. فيقول المؤلف إذا ما صحت الزيادة من قوله:"إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين"، وجب المصير إليها ورد القياس.

(2)

نفى الشارح كلامَ المؤلف من أن الأحناف والمالكية منعوا التنفل حال الخطبة بالقياس، وقال إنما منعوه بأدلة أُخرى، كأمره لمن تخطى الرقاب بالجلوس من غير أن يصلي وغيرها من الأدلة التي ذكرت، هكذا قال الشارح. لكن بالنظر نجد أن العلماء استدلوا بما قاله المؤلف من منع التنفل بالقياس.

انظر في مذهب الأحناف: "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب"، لزكريا بن مسعود المنبجي (1/ 303)، وفيه قال:"قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، قيل نزلت في استماع الخطبة، فلو اشتغل بكلام أو صلاة ربما استمر فخطب وهو في صلاته أو حديثه فيفوته الإنصات أو الاستماع، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت فقد لغوت". فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المفروضان يحرمان في الخطبة، فصلاة النفل أولى، ولأنه لو دخل والإمام يصلي لا يركع، والخطبة شبيهة بالصلاة". وانظر في مذهب المالكية: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 266)، وفيه قال:"وخبر: "إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" نهي عن النهي عن المنكر مع وجوبه، فالمندوب أولى، وأما خبر سليك الغطفاني وأمره صلى الله عليه وسلم له بالركوع لما دخل المسجد وهو يخطب فيحتمل نسخه بنهيه صلى الله عليه وسلم على الصلاة حينئذ كما في الخبر السابق، وعلى تقدير معارضته وعدم نسخه فحديثنا أولى كما قال ابن العربي لاتصاله بعمل أهل المدينة ولجريه على القياس من وجوب الاشتغال بالاستماع الواجب وترك التحية المندوبة".

ص: 1987

كما قلنا- استدلُّوا بحديث: "اجلس فقد آذيت"

(1)

. ولم يأمره، وكذلك أيضًا:"مَن دخل والإمام يخطب يوم الجمعة، فلا صلاة ولا كلام"

(2)

. ولكننا قلنا: هذا ضعيف

(3)

، وقالوا أيضًا: الحكمة في الخطبة هي الاستماع إليها، والذي يشتغل بغير الخطبة إنما هو منصرف عنها، حتى وإن كان انشغاله بطاعة من الطاعات، فإنه ينبغي أن يتفرغ لهذه الخطبة؛ لأنها تفوت، أما النوافل فله أن يصليها في أيِّ وقت

(4)

.

* قوله: (لَكِنْ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي رَاعَاهُ مَالِكٌ فِي هَذَا هُوَ العَمَلَ)

(5)

.

يقصد بالعمل هنا عمل أهل المدينة. والأدلة المذكورة

(6)

منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو محتمل، ونحن لا ندعُ نصًّا جاء في المسألة، قال الرسول للرجل:"أصليت؟ " قال: لا، قال:"قم فاركع ركعتين"، وقال في الحديث الآخر:"إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما"، والتجوز فيه إشارة إلى عدم الإطالة؛ ليجمع المصلي بين فضيلة الصلاة، صلاة التطوع، وبين فضيلة الخطبة؛ حتى لا تفوته الموعظة.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

سبق.

(4)

سبق ذكر هذا في أدلة الأحناف والمالكية.

(5)

قال أبو العباس القرطبي: "وقد تأول أصحابنا حديث جابر -وهو أنه صلى الله عليه وسلم أمر سليكًا أن يقوم فيصلي ركعتين- تأويلات في بعضها بُعْدٌ. وأولى معتمدِ المالكية في ترك العمل به أنه خبرٌ واحد عارضه عمل أهل المدينة خَلَفًا عن سَلَف من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى زمان مالك رحمه الله، فيكون العمل بهذا العمل أولى، وهذا أصل مالك رحمه اللَّه تعالى، وأما أبو حنيفة فترك العمل به على أصله أيضًا في ردّ أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى، واللَّه أعلم". انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(7/ 143).

(6)

يقصد أدلة الأحناف والمالكية. فالشارح يميل إلى مذهب الشافعية والحنابلة من جواز التنفل لمن دخل والإمام يخطب.

ص: 1988

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: أَكْثَرُ الفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ القِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الجُمُعَةِ قِرَاءَةَ سُورَةِ الجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى

(1)

).

الكتاب العزيز هو كلام اللَّه سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، منه بدأ وإليه يعود، واللَّه سبحانه وتعالى قد تكلَّم به بصوت

(2)

، وهو المحفوظ بين دفتي المصحف

(3)

. وقد ميَّز اللَّه سبحانه وتعالى بعض آياته، كآية

(1)

انظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 83)، وفيه قال:"ومنها قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى ولو لمسبوق؛ لأنه يقتضي القول وصفته وفي الثانية بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} على ظاهر المذهب وأجاز مالك أن يقرأ فيها أيضًا بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} أو المنافقون".

وانظر في مذهب الشافعية: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (2/ 32)، وفيه قال:" (و) يندب له بعد الفاتحة (سورة الجمعة)، أي: قراءتها (في) الركعة (الأولى) وسورة المنافقين في الثانية كما يعلم مما يأتي للاتباع رواه مسلم".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 318)، وفيه قال:" (يسن أن يقرأ جهرًا) فيهما لحديث "صلاة النهار عجماء إلا الجمعة والعيدين في الركعة الأولى بسورة الجمعة وفي الركعة الثانية بسورة المنافقين بعد الفاتحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة".

(2)

انظر: "الاقتصاد في الاعتقاد"، لعبد الغني المقدسي (ص: 149، 150)، وفيه قال:"كلام اللَّه بحرف وصوت، وروى عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تكلم اللَّه بالوحي سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة على الصفوان، فيخرون سجدًا". وقول القائل: بأن الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج. . باطل ومحال. قال اللَّه عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} . وكذلك قال عز وجل إخبارًا عن السماء والأرض أنهما {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات". وانظر: "شرح الطحاوية"، لابن أبي العز الحنفي (1/ 174).

(3)

قال ابن قدامة: "القرآن كلام اللَّه ومن كلام اللَّه سبحانه القرآن العظيم، وهو كتاب اللَّه المبين وحبله المتين وصراطه المستقيم وتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات وآيات بينات وحروف وكلمات". انظر: "لمعة الاعتقاد"(ص: 18).

ص: 1989

الكرسي

(1)

، وميَّز بعض سوره مع فضله جميعًا، كسورة الفاتحة

(2)

، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ورد فيها من الفضل

(3)

، وكذلك سورة الإخلاص

(4)

، وكذلك البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تظلان صاحبهما يوم القيامة

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (810/ 258)، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب اللَّه معك أعظم؟ " قال: قلت: اللَّه ورسوله أعلم. قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب اللَّه معك أعظم؟ " قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . قال: فضرب في صدري، وقال:"واللَّه ليهنك العلم أبا المنذر".

(2)

أخرجه البخاري (5006)، عن أبي سعيد بن المعلى، قال: كنت أصلي، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، قلت: يا رسول اللَّه إني كنت أصلي، قال:"ألم يقل اللَّه: استجيبوا للَّه وللرسول إذا دعاكم؟ "، ثم قال:"ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد"، فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج، قلت: يا رسول اللَّه، إنك قلت:"لأعلمنك أعظم سورة من القرآن" قال: "الحمد للَّه رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته".

(3)

من ذلك ما أخرجه البخاري (5736)، واللفظ له، ومسلم (2201/ 65)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك، إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجعلوا لهم قطيعًا من الشاء، فجعل يقرأ بأُمِّ القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه فضحك وقال:"وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم".

(4)

أخرجه البخاري (6643)، عن أبي سعيد: أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن". وأخرج مسلم (811/ 259)، عن أبي الدرداء نحوه.

(5)

أخرج مسلم (804/ 252)، عن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة".

ص: 1990

كذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن مِن السور ما يُقرأُ في مواضع، ومن ذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن ما يقرأ فيه من طوال المفصل، وما يقرأ فيه من أواسط المفصل، وما يقرأ فيه من قصار السور

(1)

، كذلك أيضًا بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في صلاة فجر الجمعة يقرأ في الركعة الأولى بسورة السجدة، وفي الركعة الثانية بسورة الإنسان

(2)

، وفي صلاة الجمعة يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الركعة الثانية بسورة المنافقين

(3)

. وورد أنه يقرأ في العيدين وفي الجمعة بالأعلى والغاشية

(4)

.

والإمام مالك رحمه الله قال: أدركت الناس يقرؤون بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} . يعني: في الجمعة، قال: الذي جاء في الحديث القراءة بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} بعد سورة الجمعة

(5)

، والذي أدركت عليه الناس القراءة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} ، ثم يقرأ الغاشية

(6)

. وهذا

(1)

أخرج النسائي (982)، عن أبي هريرة، قال:"ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من فلان -قال سليمان- كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطول المفصل". وحسنه الألباني في: "مشكاة المصابيح"(853).

(2)

أخرجه البخاري (891)، ومسلم (880/ 65)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ".

(3)

أخرجه مسلم (879/ 64)، عن ابن عباس، "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر، يوم الجمعة: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْر}، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والمنافقين".

(4)

أخرجه مسلم (878/ 62)، عن النعمان بن بشير، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين، وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} "، قال:"وإذا اجتمع العيد والجمعة، في يوم واحد، يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين".

(5)

أخرجه مسلم (878/ 63)، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، قال: كتب الضحاك بن قيس إلى النعمان بن بشير يسأله: أي شيء قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، سوى سورة الجمعة؟ فقال:"كان يقرأ {هَلْ أَتَاكَ} ".

(6)

انظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (6/ 322، 323)، وفيه قال: "واختلف الفقهاء فيما =

ص: 1991

ليس واجبًا ولا متعيِّنًا، وليس للإنسان أن يلزمها مطلقًا؛ حتى لا يظنُّ بعضُ الناس أن ذلك واجب، لكن للإنسان أن يقرأ بهذه، وله أن يدعها، ولو لم يقرأ بها لم يرتكب محرَّمًا ولا محظورًا، فالقصد من ذلك أنه ورد في صلاة الجمعة قراءة هذه السور.

* قوله: (لِمَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقْرَأ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى بِالجُمُعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} "

(1)

. وَرَوَى مَالِكٌ "أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى أَثَرِ سُورَةِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: كَانَ يَقْرَأُ بِـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} "

(2)

. وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ العَمَلَ عَلَى هَذَا

= يقرأ به في صلاة الجمعة، فقال مالك أحب إليّ أن يقرأ الإمام في الجمعة:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} مع سورة الجمعة، وقال مرة أُخرى: أما الذي جاء به الحديث فـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} مع سورة الجمعة والذي أدركت عليه الناس {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} . وتحصيل مذهب مالك: أن كلتا السورتين قراءتهما حسنة مستحبة -مع سورة الجمعة- في الركعة الثانية، وأما الأولى فسورة الجمعة، ولا ينبغي للإمام عنده أن يترك سورة الجمعة، ولا سورة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} في الثانية، فإن فعل وقرأ بغيرهما فقد أساء وبئس ما صنع ولا تفسد بذلك عليه صلاته إذا قرأ بأمِّ القرآن وسورة معها في كل ركعة منها".

(1)

أخرجه مسلم (877/ 61)، عن ابن أبي رافع، قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة، في الركعة الآخرة:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ، قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان عليّ بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة:"إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقرأ بهما يوم الجمعة".

(2)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 111)، وغيره، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود أن الضحاك بن قيس، سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، على إثر سورة الجمعة؟ قال: كان يقرأ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} . وصححه الألباني في: "صحيح أبي داود - الأم"(1028).

ص: 1992

الحَدِيثِ وَإِنْ قَرَأَ عِنْدَهُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} كَانَ حَسَنًا)

(1)

.

ورد عن مالك أنه قال: "أدركت الناس على ذلك". والمؤلف لم يعرض لهذا

(2)

.

* قوله: (لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ

(3)

، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَقِفْ فِيهَا شَيْئًا).

يعني: لم يُنقَل عنه في ذلك شيء

(4)

، والخلاف في ذلك هو خلاف استحباب، وما ورد في ذلك إنما هو استحباب قراءة هذه السورة فقط.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ حَالِ الفِعْلِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ القِيَاسَ يُوجِبُ أَلَّا يَكُونَ لَهَا سُورَةٌ رَاتِبَةٌ كَالحَالِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَدَلِيلُ الفِعْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهَا سُورَةٌ رَاتِبَةٌ. وَقَالَ القَاضِي:

(1)

سبق.

(2)

سبق.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 138)، عن محمد بن عجلان، قال: صليت خلف عمر بن عبد العزيز، وأبي بكر بن عمرو الجمعة، فقرآ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الركعة الثانية بـ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} . وانظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 52).

(4)

الذي يظهر أن معنى كلام المؤلف ليس كما ذهب إليه الشارح، وإنما معناه أن أبا حنيفة لم يحدد شيئًا معينًا يُقرَأ به، فلا يقصد قراءة سورة بعينها.

انظر: "شرح مختصر الطحاوي"، للجصاص (2/ 117، 118)، حيث قال:"قال: (ويقرأ في الأولى منهما بفاتحة الكتاب وسورة الجمعة، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وسورة المنافقين، وإن قرأ غيرهما أجزأه). قال الجصاص: كره أصحابنا أن يقصد سورة بعينها، يقرأها لا يقرأ غيرها، لأنه لا ينبغي أن يتخذ شيئًا من القرآن مهجورًا. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "قرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ". وروي:"أنه قرأ فيها بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، و: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} ". وروي: "أنه قرأ فيها سورة الجمعة، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} ". وهذا يدلُّ على أنه لم يكن يدوم على قراءة شيء واحد، لا يقرأ بغيره". وانظر:"المبسوط"، للسرخسي (2/ 36).

ص: 1993

"خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي العِيدَيْنِ وَفِي الجُمُعَة بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}

(1)

. قَالَ: فَإِذَا اجْتَمَعَ العِيدُ وَالجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاتَيْنِ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سُورَةٌ رَاتِبَةٌ، وَأَنَّ الجُمُعَةَ لَيْسَ كَانَ يَقْرَأُ بِهَا دَائِمًا)

(2)

.

وكما ذكر المؤلِّف، لا شكَّ أنه ورد استحباب القراءة بهذه السور، لا المداومة عليها فللإمام أن يقرأ بما شاء.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(الفَصْلُ الرَّابِعُ فِي أَحْكَامِ الجُمُعَةِ)

(وَفِي هَذَا البَابِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ).

هذا البابُ فَيه مسائلُ مهمة، وسيبدأ أوَّلًا فيما يتعلَّق بمسألة غسل يوم الجمعة.

* قوله: (الأُولَى: فِي حُكْمِ طُهْرِ الجُمُعَةِ).

المقصود بـ "طهر الجمعة" هو غسل الجمعة، وليس المراد بغسل

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

انظر: "التنبيه على مبادئ التوجيه"، لابن بشير (2/ 632)، وفيه قال:"واستحب أن يقرأ فيها في الركعة الأولى (سورة الجمعة) بعد (فاتحة الكتاب) لما فيها من أحكام الجمعة، فإن لم يفعل فلا شيء عليه. وأما الركعة الثانية فاستحب مالك رحمه الله مرة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}، ومرة (سورة الأعلى). وحكي أن قومًا يقرأون: (سورة المنافقين). وقد روي ذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وبالجملة لا تحديد في ذلك".

ص: 1994

الجمعة الغسل الذي قد يجب على الإنسان من جنابة، ويجب على المرأة من حيض، وإنما المقصود هنا: الغسل الذي هو خاص بيوم الجمعة، وهناك مسألة تسبق هذه المسألة، لكن المؤلف لا يعرض لبعض الجزئيات في كثير من المواضع، ومن ذلك ما يتعلَّق بوقت غسل الجمعة.

هناك خلاف بين العلماء، فهم في مسألة غسل الجمعة على فريقين:

الفريق الأول: يرى أن غسل الجمعة واجب، وأنه متعين، فيجب على الإنسان أن يغتسل للجمعة

(1)

.

الفريق الآخر: يرى أنه مستحبٌّ؛ للأحاديث التي وردت في ذلك

(2)

.

وهنا سؤال نعرض له أولًا، وهو: متى يبدأ يوم الجمعة؟ نقدم بذلك ثم ندخل بعد في شرح مسألة الغسل وبيانها.

وقد اختلف العلماء في بداية يوم الجمعة، هل يبدأ بطلوع الفجر؟

الجواب: من المعلوم أن طلوع الفجر يترتب عليه أحكام كثيرة، ومن ذلك صلاة الفجر، ونقصد بالفجر هنا الفجر الصادق

(3)

الذي سبق أن تكلمنا عنه وبيَّناه، فمن العلماء من يقول: يبدأ يوم الجمعة بطلوع الشمس

(4)

،

(1)

وهم الظاهرية.

(2)

وهم بقية الفقهاء، كما سيأتي.

(3)

"الفجر الصادق": هو الضياء المعترض في الأفق، ويقال له: الفجر المستطير بالراء، أي: المنتشر الشائع. انظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (1/ 399).

(4)

هو مذهب الحنابلة، وان كان الأفضل أن تكون في وقت الزوال.

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 26)، وفيه قال:" (وأوله)، أي: أول وقت الجمعة (أول وقت صلاة العيد نصًّا)؛ لقول عبد اللَّه بن سيدان السلمي، قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد زال النهار فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره. . . ولأنها صلاة عيد، أشبهت العيدين. (وتفعل فيه)، أي: فيما قبل =

ص: 1995

ومنهم من يقول: إنه يبدأ بزوال الشمس

(1)

. والكلام هنا كله يدور حول الساعات التي أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرواح فيها

(2)

، ندخل في تفصيل هذه المسألة، فنقول: العلماء مختلفون في غسل يوم الجمعة

(3)

، مع ذهاب جمهورهم إلى أنه لو كان على الإنسان غسل واجب، كأن كان عليه غسل جنابة، فإنه يكفيه أيضًا عن غسل الجمعة إذا نوى ذلك، هذا هو الرأي المشهور، وإن كان هناك من يخالف فيه

(4)

. وهذا مما تتداخل فيه

= الزوال (جوازًا أو رخصة وتجب بالزوال) ذكر القاضي وغيره المذهب. (وفعلها بعده)، أي: الزوال (أفضل) لما روى سلمة بن الأكوع قال "كنا نصلي الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس" متفق عليه".

(1)

وهو مذهب الجمهور. انظر في مذهب الأحناف: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 24)، وفيه قال:"أما الوقت فمن شرائط الجمعة، يعني به وقت الظهر؛ لما روي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما بعث مصعب بن عمير -رضي اللَّه تعالى عنه- إلى المدينة قبل هجرته، قال له: "إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة". وانظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"، للزيلعي (1/ 219).

وانظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 73)، وفيه قال:"من شرط صحتها أن تقع هي وخطبتها في وقت الظهر فلو خطب قبل وقتها ثم صلى في وقتها، أو أوقع الخطبة في الوقت والصلاة خارجه لم تصح".

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 541)، وفيه قال:" (ولصحتها)، أي: الجمعة (مع شرط غيرها) من سائر الصلوات (شروط) خمسة (أحدها: وقت الظهر) بأن تقع كلها فيه للاتباع".

(2)

يقصد الحديث المتفق عليه الذي أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850/ 10)، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".

(3)

ستأتي.

(4)

في مذهب الأحناف ينوب غسل الواجب عن المستحب.

انظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 169)، وفيه قال:"ويكفي غسل واحد لعيد وجمعة اجتمعا مع جنابة كما لفرضي جنابة وحيض". وانظر: "تحفة الفقهاء"، للسمرقندي (1/ 28). =

ص: 1996

العبادات. ومن ذلك وضع العلماء القاعدة المعروفة: إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما، دخل أحدهما في الآخر غالبًا

(1)

.

= وفي مذهب المالكية والشافعية أنه إذا نوى بالغسل الواجب المستحب أجزأه غسلٌ واحد، لا العكس.

انظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 133)، وفيه قال:" (أو) (نوى) المغتسل (الجنابة والجمعة) أو العيد أي أشركهما في نية واحدة (أو) نوى الجنابة (نيابة)، أي وقصد بها النيابة (عن الجمعة) مثلًا (حصلَا)، أي: حصل الغسل وترتب الثواب لكل منهما، وهذا ليس بضروري الذكر مع قوله كالوضوء فهو إيضاح، (وإن) نوى الجمعة و (نسي الجنابة) انتفيا لعدم نية الجنابة، ولأن غير الواجب لا ثبوت له مع عدم الواجب، (أو) نوى الجمعة ولم ينسَ الجنابة، ولكن (قصد) بغسله الجمعة (نيابة عنها) أي عن الجنابة (انتفيا)، أي: لم يحصل ما نواه".

وانظر في مذهب الشافعية: "النجم الوهاج"، للدميري (1/ 398، 399)، وفيه قال:" قال: (ومن اغتسل لجنابة وجمعة. . حصلا)، أي: على الصحيح. وفي وجه غريب اختاره أبو سهل الصعلوكي: أنه لا يجزئ لواحد منهما، كمن نوى بصلاته الظهر والنفل. وقياس الصحيح: أنه لو جمع بين مندوبات وواجب في النية. . أجزأه غسل واحد. قال: (أو لأحدهما. . حصل فقط)؛ اعتبارًا بما نواه. أما إذا نوى الجمعة. . فلا ترتفع الجنابة؛ لأن نيته لم تتضمنها، والجنابة أخص، والأخص لا يستلزمه الأعم، هذا هو الصحيح. وقيل: يحصلان. وقيل: لا يحصلان. وأما إذا نوى الجنابة. . فلا يحصل غسل الجمعة في الأظهر؛ لأنه قربة مقصودة، فلم تندرج كسنة الظهر مع فرضه، وهذا هو الأصح عند المصنف". وانظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 223).

وفي مذهب الحنابلة إذا نوي بالغسل الواجب المستحب، كمن نوى بغسل الجنابة غسل الجمعة أجزأه، وكذا العكس.

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 89)، وفيه قال:" (وإن نوى غسلًا مسنونًا) كغسل الجمعة والعيد (أجزأ عن) الغسل (الواجب) لجنابة أو غيرها، إن كان ناسيًا للحدث الذي أوجبه، أو نوى التجديد ناسيًا حدثه، (وكذا عكسه). فإن نوى غسلًا واجبًا أجزأ عن المسنون بطريق الأولى (وإن نواهما)، أي: الواجب والمسنون (حصلَا)، أي: حصل له ثوابهما، وعلم منه أن اللتين قبلهما ليس فيهما إلا ثواب ما نواه، وإن أجزأ عن الآخر لحديث: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، وليس معنى الإجزاء هنا سقوط الطلب: بدليل سقوطه. (والمستحب أن يغتسل للواجب غسلًا ثم للمسنون غسلًا آخر)؛ لأنه أكمل".

(1)

انظر: "الأشباه والنظائر"، لابن نجيم (ص: 112)، وفيه قال: "إذا اجتمع أمران من =

ص: 1997

قد تجتمع عبادتان من جنس واحد لكن يختلف مقصودهما، كأن تأتي إلى صلاة الظهر الواجبة في وقتها، وتكون قد فاتتك صلاة ظهر أُخرى، فلا تدخل هذه على هذه؛ لأن هذه واجبة، وهذه واجبة، وهذه مؤداة، وهذه مقضية، لكِنْ لَو دخلت فوجدت الصلاة قد أقيمت، فتكفي صلاة الجماعة عن تحية المسجد. وكذلك الحال بالنسبة لركعتي الطواف عند بعض العلماء، ودخول الوضوء تحت الغسل وغير ذلك من مسائل كثيرة جدًّا تندرج تحت هذه القاعدة

(1)

. فالعلماء إذن مختلفون، فجمهور العلماء بما فيهم الأئمة الأربعة المعروفون؛ أبو حنيفة

(2)

ومالك

(3)

= جنس واحد، ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالبًا. فمن فروعها: إذا اجتمع حدث وجنابة، أو جنابة وحيض كفى الغسل الواحد. ومنها لو قص المحرم أظفار يديه، ورجليه في مجلس واحد فإنه يجب عليه دم واحد اتفاقًا".

(1)

انظر: "الأشباه والنظائر"، للسيوطي (ص: 126، 127)، وفيه قال:"ولو دخل المسجد وصلى الفرض دخلت فيه التحية، ولو دخل الحرم محرمًا، بحج فرض أو عمرة. دخل فيه الإحرام لدخول مكة. ولو طاف القادم عن فرض أو نذر، دخل فيه طواف القدوم. بخلاف ما لو طاف للإفاضة لا يدخل فيه طواف الوداع، لأن كلا منهما مقصود في نفسه، ومقصودهما مختلف، وبخلاف ما لو دخل المسجد الحرام، فوجدهم يصلون جماعة فصلاها، فإنه لا يحصل له تحية البيت، وهو الطواف؛ لأنه ليس من جنس الصلاة. . . ولو كان أحد الفعلين عمدًا والآخر خطأً، فلا تداخل؛ للاختلاف، فإن دية العمد مثلثة حالة على الجاني، ودية الخطأ مخمسة مؤجلة على العاقلة".

(2)

انظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (1/ 66)، وفيه قال:" (قوله وسن للجمعة والعيدين والإحرام وعرفة)، أي: وسن الغسل لأجل هذه الأشياء، أما الجمعة؛ فلما روى الترمذي وأبو داود والنسائي وأحمد في مسنده والبيهقي في "سننه"، وابن أبي شيبة في "مصنفه"، وابن عبد البر في "الاستذكار" عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: "قال رسول اللَّه: صلى الله عليه وسلم: "مَن توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومَن اغتسل فالغسل أفضل"، قال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، أي: فبالسنة أخذ ونعمت هذه الخصلة، وقيل: فبالرخصة أخذ ونعمت الخصلة هذه".

(3)

انظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 85)، وفيه قال:"والمعنى أن غسل الجمعة سنة مؤكدة على المشهور على كل من حضرها ولو لم تلزمه من مسافر وعبد وامرأة وصبي، كان ذا رائحة كالقصاب والحوات، أي: اللحام والسماك أو لا، وقيد اللخمي سنية الغسل بمن لا رائحة له وإلا وجب كالقصاب ونحوه". وانظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 185).

ص: 1998

والشافعي

(1)

وأحمد

(2)

، يرون أن غسل الجمعة مستحب، وأنه ليس بواجب، بل إن ابن عبد البر حكى إجماع العلماء على ذلك

(3)

. لكن خالف في ذلك بعض أهل الظاهر

(4)

، ونسب أيضًا إلى بعض السلف؛ كأبي هريرة رضي الله عنه

(5)

، والحسن

(6)

. وقيل إنه رواية عن مالك

(7)

. وقيل أيضًا: إنه

(1)

انظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 464، 465)، وفيه قال:" (يسن الغسل لحاضرها)، أي: مريد حضورها، وإن لم تلزمه؛ للأخبار الصحيحة فيه، وصرفها عن الوجوب الخبر الصحيح: "مَن توضَّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومَن اغتسل فالغسل أفضل"، أي: فبالسنة، أي: بما جوزته من الاقتصار على الوضوء أخذ ونعمت الخصلة هي ولكن الغسل معها أفضل".

(2)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 83)، وفيه قال:"والأغسال المستحبة ستة عشر غسلًا، (آكدها) الغسل (لصلاة جمعة)؛ لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن جاء منكم الجمعة فليغتسل" متفق عليهما. وقوله: واجب، أي: متأكد الاستحباب. ويدل لعدم وجوبه ما روى الحسن عن سمرة بن جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". رواه أحمد وأبو داود والترمذي".

(3)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 11)، وفيه قال:"ولا أعلم أحدًا أوجب غسل الجمعة فرضًا إلا أهل الظاهر فإنهم أوجبوه وجعلوا تاركه عامدًا عاصيًا للَّه وهم مع ذلك يجيزون صلاة الجمعة دون غسل لها".

(4)

انظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (1/ 255)، وفيه قال:"وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال والنساء وكذلك الطيب والسواك".

(5)

أخرجه البخاري (896)، ومسلم (849/ 9)، واللفظ له، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"حق للَّه على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده".

(6)

انظر: "معالم السنن"، للخطابي (1/ 106)، وفيه قال:"وقد اختلف الناس في وجوب الغسل يوم الجمعة فكان الحسن يراه واجبًا". وانظر: "الأوسط"، لابن المنذر (4/ 45).

قال ابن حزم: "وممن قال بوجوب فرض الغسل يوم الجمعة عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة رضي الله عنهم لم يخالفه فيه أحد منهم، وأبو هريرة وابن عباس وأبو سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص وعبد اللَّه بن مسعود وعمرو بن سليم وعطاء وكعب والمسيب بن رافع". انظر: "المحلى بالآثار"(1/ 256).

(7)

انظر: "المدخل"، لابن الحاج (2/ 238)، وفيه قال: "قال مالك في موطئه إن غسل =

ص: 1999

رواية عن الإمام أحمد

(1)

. لكن جماهير العلماء يذهبون إلى أن غسل الجمعة مستحب، وأنه سُنَّة مؤكّدة

(2)

.

لماذا اختلف العلماء في ذلك؟

الجواب: عندما نعرض الأدلة نجد أن من الأدلة ما يدلُّ ظاهره على الوجوب؛ كالحديث المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وسلم: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"

(3)

. فهذا الحديث نطق بلفظ الوجوب: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم". "غسل الجمعة": مبتدأ، خبره:"واجب على كل محتلم". قال بعض أهل العلم: هذا دليل صريح يدلُّ على وجوب الغسل

(4)

. وفي بعض الروايات تشبيه غسل الجمعة بغسل الجنابة

(5)

.

= الجمعة واجب وهو ظاهر الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم"". وانظر: "إكمال المعلم"، للقاضي عياض (3/ 232).

(1)

انظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد"، لابن قدامة (1/ 334)، وفيه قال:"وعنه: أن الغسل واجب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك وأن يمس طيبًا" رواه مسلم. والأول المذهب؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل الغسل أفضل" قال الترمذي: هذا حديث حسن، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين".

(2)

سبق.

(3)

أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده"(11578)، عن أبي سعيد الخدري. قال الأرناؤوط:"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

وأخرجه البخاري (858)، ومسلم (846/ 5)، ولفظه:"الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم".

(4)

انظر: "رياض الأفهام"، للفاكهاني (2/ 631)، وفيه قال:"وحديث أبي سعيد الخدري أيضًا: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"، فمقتضاهما وجوب الغسل يوم الجمعة".

(5)

أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850/ 10)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومَن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرَّب بقرة، ومَن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرَّب دجاجة، ومَن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".

ص: 2000

ومن الأدلة التي استدلَّ بها هؤلاء العلماء أيضًا: الحديث الآخر المتفق عليه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم الجمعة فليغتسل أحدكم"

(1)

، "مَن جاء إلى الجمعة فليغتسل"

(2)

. قالوا: "فليغتسل" هذا أمر؛ لأنه مضارع اقترن بلام الأمر، والأمر يقتضي الوجوب، قالوا: فهذا أيضًا دليل على الوجوب، الأول: جاء بلفظ الوجوب "واجب"، والثاني: جاء بصيغة الأمر؛ لأن من صيغ الأمر المضارع المقترن بلام الأمر "فليغتسل"

(3)

.

وكذلك أيضًا قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أنه قال: "حق على كلِّ مسلم في كلِّ سبعةِ أيام أن يغتسل يومًا، يغسل جسده ورأسه"

(4)

. قالوا: فكلمة: "حق" بمعنى: ثابت، والثابت هو الواجب، هكذا قالوا

(5)

.

أما جمهور العلماء فقالوا: إن هذه الأدلة مصروفة عن الوجوب بأدلة أُخرى، ومنها ما يلي:

(1)

أقرب لفظ هو ما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 258)، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم الجمعة فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة، ثم غدا إلى أول ساعة فله من الأجر مثل الجزور. . .

(2)

أخرجه البخاري (894)، ومسلم (844/ 2)، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"من جاء منكم الجمعة فليغتسل".

(3)

انظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (1/ 268)، وفيه قال:"أما قوله عليه السلام: "مَن جاء منكم الجمعة فليغتسل" فهو نصّ قولنا، وإنما فيه أمر لمن جاء الجمعة بالغسل، وليس فيه أي وقت يغتسل، لا بنص ولا بدليل، وإنما فيه بعض ما في الأحاديث الأخرى؛ لأن في هذا إيجاب الغسل على كل مَن جاء إلى الجمعة، فليس فيه إسقاط الغسل عمَّن لا يأتي الجمعة، وفي الأحاديث الأخر. . إيجاب الغسل على كل مسلم وعلى كل محتلم، فهي زائدة حكمًا على ما في حديث ابن عمر، فالأخذ بها واجب".

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

قال الشوكاني: "واستدل الأولون على وجوبه بالأحاديث التي أوردها المصنف -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب، وفي بعضها التصريح بلفظ الوجوب، وفي بعضها الأمر به، وفي بعضها أنه حق على كل مسلم". وانظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين"، لابن الجوزي (3/ 442).

ص: 2001

الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"

(1)

. ومعنى هذا الحديث: "مَن توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت" أن مَن توضأ يوم الجمعة فبالرخصة أخذ، أو فبالسنة أخذ، أو بالفعل أخذ، إذن من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، أي: فبالرخصة أخذ ونعمت الرخصة التي هي الوضوء، "ومن اغتسل فالغسل أفضل"

(2)

. فبيَّن هذا الحديث أن الوضوء مطلوب، وأن الغسل مطلوب، وأن مَن أدَّى الوضوء يوم الجمعة أدى ما عليه، وأن الغسل فيه زيادة فضل، لا أنه واجب؛ لأن المفاضلة لا تكون إلا بين شيئين اجتمع الفضل فيهما، وامتاز أحدهما على الآخر

(3)

.

الدليل الثاني: حديث في "الصحيحين"

(4)

، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن توضَّأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا وأنصت واستمع غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام"

(5)

، فهذا اقتصر على وضوء فأحسنه، وجاء إلى الجمعة، فجلس والخطيب يخطب، فدنا من الإمام وهذا دليل أيضًا على فضل الخطبة وأهميتها، "ثم دنا وأنصت واستمع غفر له ما بينه وبين

(1)

أخرجه أبو داود (354)، وغيره. وحسنه الألباني في "تحقيق رياض الصالحين"(1160).

(2)

انظر: "التهذيب"، للبغوي (1/ 329)، وفيه قال:"والدليل على أنه غير واجب: ما روي عن سمرة بن جندب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن توضأ يوم الجمعة؛ فبها ونعمت، ومن اغتسل؛ فالغسل أفضل". قوله:"فبها ونعمت"، أي: بالسنة أخذ، ونعمت الخصلة". وانظر:"حاشية الشلبي على تبيين الحقائق، للزيلعي"(1/ 17).

(3)

قال النووي: "واحتجَّ اصحابنا على عدم الوجوب (أحدهما) قوله صلى الله عليه وسلم: "فبها" وعلى كل قول مما سبق في تفسيره تحصل الدلالة. (والثاني): قوله صلى الله عليه وسلم: "فالغسل أفضل"، والأصل في أفعل التفضيل أن يدخل على مشتركين في الفضل يرجح أحدهما فيه". انظر: "المجموع شرح المهذب"(4/ 535)، وانظر:"التنبيه على مبادئ التوجيه"، لابن بشير (2/ 624).

(4)

هو في مسلم فقط.

(5)

أخرج مسلم (857/ 27)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومَن مسَّ الحصى فقد لغَا".

ص: 2002

الجمعة وزيادة ثلاثة أيام"، فكيف يغفر لإنسان مدة أسبوع ويزاد على ذلك مدة ثلاثة أيام وهو قد ترك واجبًا؟ إذن فهذا الحديث نصٌّ في ذلك

(1)

.

الدليل الثالث: حديث أبي هريرة: "بينما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطبُ النَّاس يوم الجمعة، فجاء عثمان رضي الله عنه، فقال عمر: أيُّ ساعة هذه، -وفي بعض الروايات- ما بال أُناس يأتون بعد النداء"

(2)

. وقد أدرك عثمان رضي الله عنه وهو الصحابي الجليل- أنه المقصود بذلك؛ لأنه لبيب، وقال: إني شُغِلت فلم أنقلب إلى أهلي إلا وقد سمعت النداء، فلم أزد على أن توضَّأت، فقال له عمر رضي الله عنه:"والوضوء أيضًا؟ "

(3)

.

لكن عمر لم يطلب منه أن يذهب فيغتسل، وذلك بمشهد ومحضر ومسمع من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر ذلك أحد على عثمانَ رضي الله عنه، ولم يعارض فيه معارض، فقال أهل العلم: فكان ذلك موضع اتِّفاق؛ لأن هذه واقعة وقعت بين الصحابة، أكابرهم موجودون، وخليفة المسلمين يخطبهم يوم الجمعة، واستغرب من تأخُّر عثمان؛ لأن عثمان ليس من عادته أن

(1)

انظر: "الشرح الكبير على متن المقنع"، لأبي الفرج المقدسي (2/ 199، 200)، وفيه قال:"وعن أبي هريرة قال، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا". وحديثهم محمول على تأكيد الندب، وكذلك ذكر في سياقه: "وسواك وأن يمس طيبًا" كذلك رواه مسلم، والسواك ومس الطيب لا يجب".

(2)

أخرجه مسلم (845/ 4)، عن أبي هريرة، قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة، إذ دخل عثمان بن عفان، فعرض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت، ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوء أيضًا، ألم تسمعوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل".

(3)

أخرجه البخاري (878)، ومسلم (845/ 3)، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب، بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضًا، وقد علمت "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل".

ص: 2003

يتأخَّر، لكنه ذكر أنه انشغل في أمر جلل، وأنه لم ينتبه إلا وقد سمع النداء، فأراد أن يدرك الخطبة أو جزءًا منها، فلم يزد على أن انفتل إلى بيته

(1)

، أي: انقلب إليه فتوضأ وضوءه للصلاة، ثم جاء ليسمع الخطبة ويؤدِّي الصلاة، فقال له عمر: والوضوء أيضًا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدكم الجمعة فلْيغتسِلْ" فدلَّ ذلك على أنه ليس بواجب

(2)

.

فما الجوابُ إذن من حدِيثِ: "غُسلُ يومِ الجُمعةِ واجبٌ على كُلِّ محتلمٍ؟ ".

قال العلماءُ: الواجبُ واجبانِ؛ واجبٌ اختياريّ، وواجب إلزامي، فهناك أمر أو شيء يوجبه الإنسان على نفسه، وهناك أمر لازم يجب على الإنسان أن يؤدِّيَه، فالصلوات واجبة على كل إنسان بعينها، وصلاة الجماعة واجبة على من وجبت عليه

(3)

، ويخصُّ ذلك من استثنى منها كالنِّساء والصغار الذين لم يبلغوا. وعلى خلاف أيضًا في العبيد

(4)

.

(1)

يقال: انفتل فلان عن صلاته، أي: انصرف. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (14/ 206).

(2)

قال ابن قدامة في ذكر أدلة الاستحباب: "وأيضًا فإنه إجماع، حيث قال عمر لعثمان: أية ساعة هذه؟ فقال: إني شغلت اليوم فلَمْ أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء، فلم أزد على الوضوء، فقال له عمر: والوضوء أيضًا وقد علمت "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل؟ "، ولو كان واجبًا لرده، ولم يَخْفَ على عثمان وعلى من حضر من الصحابة، وحديثهم محمول على تأكيد الندب، ولذلك ذكر في سياقه: "وسواك، وأن يمس طيبًا" كذلك رواه مسلم. والسواك، ومس الطيب، لا يجب، ولما ذكرنا من الأخبار". وانظر: "المبسوط"، للسرخسي (1/ 89).

(3)

تقدَّم الكلام على عند قول المصنف معرفة حكم صلاة الجماعة.

(4)

اتفق الفقهاء على أن النساء والعبيد والصغار لا تجب عليهم الجماعة.

انظر في مذهب الأحناف: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 155)، وفيه قال:"وأما بيان من تجب عليه الجماعة: فالجماعة إنما تجب على الرجال، العاقلين، الأحرار، القادرين عليها من غير حرج فلا تجب على النساء، والصبيان، والمجانين، والعبيد. . . أما النساء فلأن خروجهن إلى الجماعات فتنة. وأما الصبيان والمجانين فلعدم أهلية وجوب الصلاة في حقهم. وأما العبيد فلرفع الضرر عن مواليهم بتعطيل منافعهم المستحقة". =

ص: 2004

وثمَّة واجب اختياريّ، فقد تُقابِل صديقًا لك أو زميلًا، فيخاطِبُك في أمرٍ ما، أو يناقِشُك في قضيَّةٍ، أو يقول: يا أخي، حصل منك كذا، فتقول: لك عليَّ حق واجب؛ فلا واجب عليك حقيقة، لكنَّ هذا تقديرٌ لزميلك، إذن قد ألزمتَ نفسك بهذا الحق، والتزمت به، وهناك واجبٌ إلزامي، وهو الذي أوجبه عليك الشرعُ.

ويؤول هذا الحديث؛ لوجود الأدلة الأخرى التي تصرفه عن الوجوب، وقد بينت أن القصد من قوله صلى الله عليه وسلم:"غسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم" تأكيد الغسل

(1)

. ومما يدلُّ على فضله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهوره ويدهن من دهنه ويمسُّ من طيب بيته ثم يخرج لا يفرق بين اثنين"، القصد ألا يشوش على الناس، فيقطع رقابهم أثناء مروره عليهم، "ثم يصلي ما كتب له أن يصلي"، فيصلي تطوعًا قبل أن يدخل الإمام، "ثم ينصت"، يعني: للخطبة، "غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"

(2)

.

= وانظر في مذهب المالكية: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(2/ 109)، حيث قال في جماعة الجمعة:"وصنف لا تجب عليهم ولا تنعقد بهم وهم الصبيان لا تجب عليهم واختلف هل تنعقد بهم أم لا وهم النساء والعبيد والمسافرون".

وانظر في مذهب الشافعية: "حاشية الجمل على شرح المنهج"(1/ 502)، وفيه قال:" (قوله وهي لغيرهم سنة) من المعلوم أن الغير هنا هو النساء والخناثى والأرقاء والمسافرون والعراة بشرطه فهي سنة في حق هؤلاء الأصناف لكن سنيتها في حق غير النساء والخناثى ممن ذكر آكد من سنيتها لهما، وينبني على هذا أن غيرهما يكره له تركها بخلافهما فلا يكره لهما تركها اهـ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 259)، وفيه قال:" (على الرجال) لا النساء والخناثى (الأحرار) دون العبيد والمبعضين (القادرين) عليها دون ذوي الأعذار (ولو سفرًا في شدة خوف) لعموم الآية السابقة".

(1)

قال البهوتي: "قوله "واجب"، أي: متأكد الاستحباب. ويدل لعدم وجوبه، ما روى الحسن عن سمرة بن جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَن توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومَن اغتسل فالغسل أفضل". انظر:"شرح منتهى الإرادات"(1/ 83).

(2)

أخرجه البخاري (883).

ص: 2005

إذن يظل هذا المصلِّي دائمًا في حالة مغفرة، وما أسعد من يغفر اللَّه سبحانه وتعالى ذنوبه ويتجاوز عن سيئاته ويرفع عنه خطاياه! وهذه هي السعادة، وهذا هو الفوز الذي يسعى إليه كلُّ مسلم، فيوم الجمعة كلُّه فضل، وسنتكلم عن مزيد من ذلك عندما نأتي إلى اختلاف العلماء في المراد بساعات يوم الجمعة.

ننتهي من هذا إلى تأكيد غسل الجمعة، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتركه، لا لأنه واجب، ولكن لما فيه من فضل عظيم، ونحن في هذه الحياة نسعى ونشغل أنفسنا، وربما نَصِلُ كَلالَ الليل بكَلالِ النهار

(1)

، بحثًا عن متاع الدنيا وزخارفها، وفي أمور الآخرة لم يكلفنا اللَّه سبحانه وتعالى ما يشقّ علينا، بل ما أوجبه علينا إنما هو أمر يسير جدًّا بالنسبة إلى ما وهبَنا من النعيم العظيم والنِّعم التي نتقلب فيها ليلَ نهارَ، وهذه النِّعمُ تقتضي منا أن نشكره سبحانه وتعالى! وكم وهبنا من عطايا؛ من صحة وعافية، وسيأتي في الأحاديث التي سنتكلم عنها أنه ينبغي للمرء يوم الجمعة أن يخرج متنظفًا، كحديث رسول صلى الله عليه وسلم الذي يبين أن الإنسان لا يقتصر على ثياب مهنته، فيقول صلى الله عليه وسلم:"ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم جمعته سوى ثوبي مهنته"

(2)

. فكم لدينا اليوم من الثياب! وكم لدينا من النعم! وكم لدينا من الفضائل التي أنعم اللَّه سبحانه وتعالى بها علينا، مما لم ينله ممن سبقوا ممن جاهدوا في سبيل اللَّه وتحملوا المشاق والنصب والتعب، فنعم اللَّه سبحانه وتعالى علينا كثيرة، وهذه النعم تستوجب أن نشكره سبحانه وتعالى.

ونحن في شكرنا لنعم اللَّه سبحانه وتعالى وفي أدائنا لما يجب علينا، وفي أدائنا

(1)

"كللت"، أي: أعييت. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1811).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه (1095)، عن عبد اللَّه بن سلام. وصححه الألباني في:"مشكاة المصابيح"(1389).

وأخرجه أبو داود (1078)، عن محمد بن يحيى بن حبان، قال، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما على أحدكم إن وجد -أو ما على أحدكم إن وجدتم- أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مهنته". وصححه الألباني في: "صحيح أبي داود - الأم"(989).

ص: 2006

لما حضَّنا

(1)

اللَّه سبحانه وتعالى على فعله مما لم يفرض علينا برجع ثوابه وجزاؤه في النهاية إلينا، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يُصيع أجر من أحسن عملًا، وهو سبحانه وتعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، إذن كل ما نعمله من أعمال الخير؛ سواء كانت واجبة أو مستحبة، وكل ما نتقرَّب به إلى اللَّه سبحانه وتعالى، حتى في أمور معاملاتنا فاللَّه سبحانه وتعالى سيجزبنا عليه الجزاء الأوفى، فما تنفق من نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أُجِرت عليها، حتى اللقمة في فيِّ جائع

(2)

، ورُبَّ قتيل بين صفين اللَّه أعلم بنيَّته

(3)

، فمتى أخلص المرء نيته للَّه سبحانه وتعالى، وقصد بعمله وجه اللَّه تعالى والدار الآخرة، فبلا شك أنه سيظفر بالنعيم المقيم، وهذا هو الذي يسعى إليه المؤمن في هذه الحياة، وفي يوم الجمعة فليتنافس المتنافسون، لما فيه من الفضائل العظيمة، والثواب العظيم، وفيه ساعة لا يدركها عبد مسلم يسأل اللَّه سبحانه وتعالى إلا آتاه سُؤلَه

(4)

.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (الثَّانِيَةُ: عَلَى مَنْ تَجِبُ مِمَّنْ خَارِجَ المِصْرِ. الثَّالِثَةُ: فِي وَقْتِ الرَّوَاحِ المُرَغَّبِ فِيهِ إِلَى الجُمُعَةِ.

(1)

حضَّ يَحُض حَضًا، وهو الحَث على الخير. انظر:"تهذيب اللغة"، للأزهري (3/ 256).

(2)

أخرج البخاري (3936)، ومسلم (1628/ 5)، عن عامر بن سعد بن مالك، عن أبيه، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع من مرض أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول اللَّه، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لا"، قال: فأتصدق بشطره؟ قال: "الثلث يا سعد، والثلث كثير، إنك أن تذر ذريتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست بنافق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه، إلا آجرك اللَّه بها حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك".

(3)

أخرجه أحمد في "مسنده"(3772)، عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، أن أبا محمد، أخبره -وكان من أصحاب ابن مسعود- حدثه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر عنده الشهداء، فقال:"إن أكثر شهداء أُمَّتي أصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين، اللَّه أعلم بنيته". قال الأرناؤوط: إسناده ضعيف.

(4)

أخرجه البخاري (935)، ومسلم (852/ 13)، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال:"فيه ساعة، لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل اللَّه تعالى شيئًا، إلا أعطاه إياه" وأشار بيده يقللها.

ص: 2007

الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ البَيْعِ يَوْمِ الجُمُعَةِ بَعْدَ النِّدَاءِ. المَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي طُهْرِ الجُمُعَة؛ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ)

(1)

.

تقدَّم أنه لم يرد من الأدلَّة إلا قصة عثمان مع عمر لمَّا قال: "ما بال أقوام. . .؟ "، وكون ذلك بمشهد ومحضر من الصحابة ولم ينكر ذلك منكر، فذلك وحده كاف، لكن خرجنا من ذلك بأن الغسل أفضل، ولذلك أنكر عمر على عثمان أنه اكتفى بالوضوء، وقد بيَّن عثمان أن الوقت ما أسعفه ليغتسل، ومن المعلوم أن الواجب لا يسقط، فلو كان واجبًا ما سقط.

* قوله: (وَلَا خِلَافَ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ).

مراد المؤلف: أنه لو لم يغتسل الإنسان ما بطلت صلاته، وصلاته صحيحة، وهذا كلام صحيح.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الآثَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا البَابِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"طُهْرُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ كَطُهْرِ الجَنَابَةِ"

(2)

، وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، فَيَرُوحُونَ إِلَى الجُمُعَةِ بِهَيْئَتِهِمْ)

(3)

.

(1)

سبق ذكره.

(2)

أخرجه ابن حبان في صحيحه (4/ 30)، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، كغسل الجنابة". وضعف الألباني هذه الزيادة، وهي قوله:"كغسل الجنابة" في: "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(3958).

(3)

أخرجه قريب من هذا اللفظ الحميدي في "مسنده"(1/ 247)، عن عائشة قالت:"كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون بهيئتهم يوم الجمعة فقيل لهم: لو اغتسلتم". =

ص: 2008

هذه من الأدلة التي استدلَّ بها جمهور العلماء على أن هذه الأحاديث المنصرمة إنما هي لتأكيد الغسل

(1)

؛ لأن الناس كانوا عُمَّال أنفسهم؛ (أي: كانوا يؤدون المهن بأنفسهم) فمنهم مَن يعلو النخل ثم ينزل فيلتصق به التراب والطين، ومنهم مَن يشتغل بالجزارة والحدادة، وغير ذلك.

فالذي يشتغل بأعمال الطين والبناء يلصق به التراب والطين، وكذلك الذي يشتغل في المزارع كم يعلق به من الرائحة السيئة! وكذلك الجزار، وغير هؤلاء؛ لذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أكل ثومًا أو بصلًا -فليعتزلنا- أو ليعتزل مصلانا"

(2)

؛ لأن الناس يتأذون من الروائح الكريهة، وكذلك الملائكة تتأذى منها

(3)

؛ لأنه إذا دخل الإمام طُوِيت الصحف، وجلس الملائكة يستمعون الذكر

(4)

، إذًا في هذه الروائح تأذٍّ للمصلين

= وأخرجه البخاري (903)، عن يحيى بن سعيد: أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة، فقالت: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة، راحوا في هيئتهم فقيل لهم: لو اغتسلتم".

وأخرجه مسلم (847)، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، أنها قالت: كان الناس أهل عمل، ولم يكن لهم كفاة، فكانوا يكون لهم تفل، فقيل لهم:"لو اغتسلتم يوم الجمعة".

(1)

انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 185)، وفيه قال:"غسل الجمعة سنة مؤكدة. خلافًا لمن ذهب إلى وجوبه. لقوله عليه السلام: "مَن جاء إلى الجمعة فتوضأ فبها ونعمت، ومَن اغتسل فالغسل أفضل"، ولأنه غسل لأمر مستقبل كالإحرام، ولأنه غسل ليوم عيد فأشبه غسل العيد، ولأنه مقصود به التنظيف وإزالة الرائحة فأشبه التطيب".

(2)

أخرج البخاري (7359)، ومسلم (564/ 73)، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته".

(3)

أخرجه مسلم (564/ 74)، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أكل من هذه البقلة، الثوم، وقال مرة: من أكلَ البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".

(4)

أخرجه البخاري (3211)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة، كان على كلِّ باب من أبواب المسجد الملائكة، يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاؤوا يستمعون الذكر".

ص: 2009

وللملائكة، وأعظم من هؤلاء: الذين يشربون الدخان ويأتون برائحتهم المساجد فيؤذون الناس بذلك.

ولذلك جاء في حديث عائشة تبيين الحكمة والسر: "كان الناس عمال أنفسهم"، أي: يقومون بأعمالهم ويؤدُّونها بأنفسهم، "فيأتون إلى الصلاة على هيئتهم"، أي: يأتون على الهيئة التي فرغوا فيها من أعمالهم، دون أن يذهبوا إلى بيوتهم، فيغيِّروا ملابسهم، ويتنظفوا، فقيل لهم:"لو اغتسلتم"؛ لأن الإنسان مطالب يومَ الجمعة، وغير يوم الجمعة أن يقلِّمَ أظفاره، ويزيل شعره، وسنن الفطرة معلومة؛ وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وقص الشارب والأظافر، وغير ذلك من الأمور التي أرشد إليها الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقد أمر اللَّه سبحانه وتعالى بأخذ الزينة عند مساجده، فيقول سبحانه وتعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، فينبغي أن يوضع في مقدمة ذلك يومُ الجمعة، وقال صلى الله عليه وسلم:"غسلُ يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلمٍ وسواك وأن يمسَّ طيبًا"

(2)

. فأمر صلى الله عليه وسلم بالغسل، وحضَّ على السواك، وأرشد إلى التطيب، وقد مر قوله صلى الله عليه وسلم قبل قليل:"وأن يدهن من دهنه، وأن يمسَّ من طيب بيته"

(3)

. وكذلك يلبس الملابس النظيفة، ولذلك وصى الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما على أحدكم أيّ مشقة وأيّ حرج يلحق الإنسان لو خصَّ ثوبين من ثيابه ليوم الجمعة، وترك أثوابًا أُخرى لمهنته"

(4)

. وقد هذا أصبح هذا بحمد اللَّه ميسورًا.

(1)

أخرجه البخاري (5889)، ومسلم (257/ 49)، عن أبي هريرة، رواية:"الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب".

(2)

أخرجه البخاري (880)، ومسلم (846/ 7)، واللفظ له، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، وبمس من الطيب ما قدر عليه".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2010

واللَّه تبارك وتعالى يحبُّ أن يرى أثر نعمه على عبده

(1)

. ولا يعارض هذا بحديث: "البذاذة من الإيمان"

(2)

، أي: رثاثة الثياب

(3)

، فليس معنى ذلك أن يأتي وثيابه وسخة، أو بها رائحة كريهة إنما يأتي متواضعًا، وهذا لا يمنع أن يأتي بملابس متواضعة نظيفة متطيبًا، وليس شرطًا أن يأتي بثياب جديدة، وإن كان يحسُنُ أن يأتي بمثل ذلك إذا لم يكن يشق عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالاستعداد لهذه الفريضة، الركن الثاني بعد الشهادتين

(4)

، ففي هذا المكان سيناجي ربَّ الخلائق، فينبغي أن يكون على أحسن حال.

ولو أن إنسانًا أراد أن يقابل مسؤولًا كبيرًا، ألا يختار أحسن ملابسه ويتنظف ويتفقد نفسه، فما بالك وهو يقف بين يدي العزيز الجبار! بين يدي مَن لا تخفى عليه خافية! بين يدي من يعلم السِّرَّ وأخفى! بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور!

فالأولى في حقِّ المسلم إذا كان يهتم بالناس، أن يهتم بربِّه من باب أولى، بأن يكون على أحسن حال وهو واقف بين يدي اللَّه سبحانه وتعالى، وأن يكون مظهره حسنًا وملبسه حسنًا، ورائحته طيبةً كريمةً، فهذا هو الموقف الذي ينبغي أن يقفه، فالنظافة مطلوبة، وقد أمر اللَّه بها {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يُعْنَى بذلك.

(1)

أخرجه الترمذي (2819)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". وحسنه الألباني في: "مشكاة المصابيح"(4350).

(2)

أخرجه ابن ماجه (4118)، عن عبد اللَّه بن أبي أمامة الحارثي، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "البذاذة من الإيمان"، قال: البذاذة: القشافة، يعنى: التقشف. وصححه الألباني في: "صحيح الجامع"(2879).

(3)

"البذاذة": رثاثة الهيئة. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (1/ 110).

(4)

أخرجه البخاري (8)، واللفظ له، ومسلم (16/ 22)، عن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان".

ص: 2011

يقول الرسول: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم جمعته سوى ثوبي مهنته"

(1)

، ونحن الآن -والحمد للَّه- لدينا الثياب الكثيرة المتعددة، فقد يسَّر اللَّه تعالى علينا هذه الأمور، وفتح لنا أبواب الرزق، وكما مرَّ سابقًا لم يبق إلا أن نؤدي حقَّ هذه النعم؛ حتى يزيدنا اللَّه سبحانه وتعالى شكرًا وأمنًا إلى ما نحن فيه من أمن قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وقال:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

فيحسن بالمرء إذن في هذا المقام أن يأتي المسجد وقد حسن صورته؛ لأنه سيقف بين يدي اللَّه تبارك وتعالى، وحتى لا يأثم لو جاء برائحة غير طيبة؛ لأنه يؤذي المؤمنين بهذه الرائحة، وهو منهي عن إيذاء المؤمنين في كتاب اللَّه عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (فَقِيلَ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ"؟ وَالأَوَّلُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ

(2)

. وَالثَّانِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَمُسْلِمٌ

(3)

، وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ الغُسْلِ

(4)

، وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِمَوْضِعِ النَّظَافَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً، وَقَدْ رُوِيَ: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتُ، وَمَنِ اغْتَسَلَ

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

يقصد قوله: "طهر يوم الجمعة واجب على كل محتلم كطهر الجنابة". أخرجها ابن حبان كما تقدم. أما الحديث المتفق عليه، فلفظه:"الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". وهذه الزيادة -وهي قوله: كطهر الجنابة- ليست في "الصحيحين"، بل هي ضعيفة كما سبق.

(3)

تقدَّم تخريجه عند مسلم وبنحوه أخرجه البخاري كما تقدم. وأما حديث أبي داود (352)، فأخرجه عن عائشة، قالت: كان الناس مهان أنفسهم، فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم. وصححه الألباني في: "صحيح أبي داود - الأم"(379).

(4)

لتشبيهه بغسل الجنابة.

ص: 2012

فَالغُسْلُ أَفْضَلُ"

(1)

، وَهُوَ نَصٌّ فِي سُقُوطِ فَرْضِيَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ)

(2)

.

ليس حديثًا ضعيفًا كما ذكر؛ فمن العلماء من حسَّنه، وممن حسَّنه أحد رواته الترمذي

(3)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، ثم دنا وأنصت واستمع، غفر له ما بينه وبين الجمعة"

(4)

، وهذا نصٌّ في الوضوء، وأيضًا قصة عثمان مع عمر، واستماع الصحابة إلى ذلك، وغير ذلك من الأدلة، وبذلك ننتهي إلى أن للمسلم أن يُعْنَى بأمر الغسل، وألا يدعه.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا وُجُوبُ الجُمُعَةِ عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجَ المِصْرِ).

فهذه مسألة أُخرى، وكل مسألة لا يأتي فيها نصٌّ شرعي صريح نجد أن العلماء يختلفون فيها، ففيما يتعلَّق بهذه المسألة (من كان خارج المِصر) هل تجب عليه الجمعة؟ إن قلنا: نعم، فما هو الوصف الدقيق، والحد والضابط الذي نضعه لمن هو خارج المصر؛ فلم يرد شيء في كتاب اللَّه ينص على ذلك، والذي ورد في كتاب هو قوله جل وعلا:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].

والآية مطلقة، وقد جاء في هذه المسألة عدة أحاديث، لكن الأحاديث التي جاءت في هذه المسألة لا تخلو من مقال

(5)

، ولذلك

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

علته أن الحسن لم يسمع من سمرة. قال الإشبيلي: "الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة". انظر: "الأحكام الوسطى"(2/ 98). وفيه علل أُخرى. انظر: "نصب الراية"، للزيلعي (1/ 88 - 93).

(3)

انظر: "سنن الترمذي"(1/ 626)، وفيه قال:"حديث سمرة حديث حسن".

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

ستأتي.

ص: 2013

تشعَّبَت آراء العلماء وتعددت، وكل مسألة لا يردُ فيها نصٌّ صحيح صريح نجد أن الخلاف يتعدد فيها، والأقوال تتفرع، ولذلك تعددت الأقوال، على ما يأتي:

القول الأول: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، هذا فيمن هو خارج المصر، أما من هو داخل المصر فتجب عليه، فمن جاء إلى الجمعة فأمكنه أن يعود إلى أهله فيبيت فيهم، ويدركه الليل عند أهله، فهي واجبة عليه

(1)

.

القول الثاني: تجب على من سَمِع النداء، وهم يدققون في أن سماع النداء إنما يكون في وقت هادئ تكون فيه الرياح ساكنة، وهو قول الشافعية

(2)

والحنابلة

(3)

.

القول الثالث: تجب على مَن كان على مسافة ثلاثة أميال، وهو قول الإمام مالك

(4)

.

(1)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 267)، وفيه قال:"وروي عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، والحسن، ونافع، وعكرمة، والحكم وعطاء، والأوزاعي، أنهم قالوا: الجمعة على من آواه الليل إلى أهله؛ لما روى أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة على من آواه الليل إلى أهله".

(2)

انظر: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (2/ 21)، وفيه قال:". . . (حيث تقام) الجمعة من بلد، أو قرية، وإن لم يتوطن بها، فلا تلزم المسافر، ولا المقيم حيث لا تقام، إلا أن يبلغه النداء بوجه مخصوص كما قال: (أو) حيث لا تقام لكن (ندا) الجمعة (يبلغه من صيت)، أي: عالي الصوت يؤذن على عادته. (إذا هدا)، أي: سكن (ريح وصوت لو فرضناه وقف من بلد الجمعة الصوت، واعتبر سكون الريح، والصوت لئلا يمنعا بلوغ النداء، أو يعين عليه الريح واعتبر أقرب طرف إليه؛ لأن البلد قد تكبر بحيث لا يبلغ أطرافه النداء بوسطه، فاحتيط للعبادة".

(3)

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 22)، وفيه قال:" (فإن كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة لزمته)، أي: الجمعة (ولو كان بينه وبين موضعها)، أي: موضع إقامة الجمعة (فرسخ، ولو لم يسمع النداء)؛ لأنه بلد واحد، فلا فرق فيه بين البعيد والقريب، ولأن المصر لا يكاد يكون أكثر من (فرسخ) فهو في مظنة القرب فاعتبر ذلك".

(4)

انظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 80)، وفيه قال: " (ص) وإن بقرية نائية =

ص: 2014

القول الرابع: تجب على مَن كان على مسافة أربعة أميال

(1)

.

القول الخامس: تجب على مَن كان على مسافة ستة أميال

(2)

.

القول السادس: تجب على مَن كان على مسافة عشرة أميال

(3)

.

والخلاف هنا يدور على أن أهل العوالي

(4)

كانوا يصلون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلاختلاف هذه المسافة اختلف العلماء، وقد جاء في ذلك أحاديث، منها حديث:"الجمعة على مَن سمع النداء"

(5)

. لكنه حديث لم يسلم من مقال، وفيه ضعف

(6)

. وحديث: "الجمعة على من آواه الليل إلى أهله"

(7)

. وهو أيضًا حديث متكلَّم فيه.

= بكفرسخ (ش)، أي: تجب على المستوطن وإن كان توطنه بقرية بعيدة عن قرية الجمعة بثلاثة أميال وما قاربها من ربع ميل أو ثلثه وابتداء الفرسخ (من المنار)". وانظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 317).

(1)

انظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (2/ 387)، وفيه قال:"وقال ربيعة ومحمد بن المنكدر وإنما تجب الجمعة على من كان على أربعة أميال".

(2)

وهو قول الزهري. انظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 405)، وفيه قال:"قال الزهري: إن كانوا على ستة أميال لزمتهم الجمعة، وإن كانوا على أكثر لم تلزمهم".

(3)

هو قول عطاء. أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 162)، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء: "من أين تؤتى الجمعة؟ قال: فقال: عشرة أميال إلى بريد".

(4)

"أهل العوالي": جمع عالية وهي ما فوق نجد إلى أرض تهامة أي في القرى التي هي في أعالي المدينة. انظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (ص: 14).

(5)

أخرجه أبو داود (1056)، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الجمعة على كل من سمع النداء". وحسنه الألباني في: "صحيح الجامع"(3112).

(6)

انظر: "تحفة المحتاج"، لابن الملقن (1/ 490)، وفيه قال:"رواه أبو داود، وقال رواه جماعة موقوفًا وإنما رفعه قبيصة. قلت: وقبيصة المذكور ثقة إلا في الثوري، وهذا الحديث من روايته عنه، وفيه معه مجهولان وذكر له البيهقي شاهدًا بإسناد جيد".

(7)

أخرجه الترمذي (1/ 632)، فقال: وقد روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الجمعة على من آواه الليل إلى أهله". وهذا حديث إسناده ضعيف، إنما يروى من حديث معارك بن عباد، عن عبد اللَّه بن سعيد المقبري، وضعف يحيى بن سعيد القطان عبد اللَّه بن سعيد المقبري، في الحديث. قال الألباني: ضعيف جدًّا. انظر: "مشكاة المصابيح"(1376).

ص: 2015

الحنفية تقول: لا تجب الجمعة على مَن هو خارج المصر

(1)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع"

(2)

.

وسبق أن تكلمنا عن هذا الحديث، وبيَّنا ضعفه، إذن كل هذه الأقوال مبنية على الاجتهاد، ومن هنا كثُرت آراء العلماء فيها، فهم يقولون: هؤلاء صلَّوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكم مسافة هؤلاء؟ بعض أهل العلم يقدِّر العوالي بثلاثة أميال، كالإمام مالك، وبعضهم يقول: أربعة أميال، وبعضهم يقول: جاء أناس من مسافة أبعد هل هي عشرة أميال أو ستة؟ وبعضهم يقف عند حديث: "الجمعة على من سمع النداء" كالشافعية والحنابلة، وبعضهم يقف عند حديث:"الجمعة على مَن آواه الليل إلى أهله"، لكننا نقول: لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم نصٌّ قطعيٌّ محدد نقف عنده، ولذلك نقول: الأَولى في حقِّ المسلم إذا سمع نداء الجمعة وهو خارج المصر أن يأتي إليها، هذا كان فيما مضى، كم كان يحتاج الإنسان ليقطع عشرة كيلومترات من المسافة.

أما الآن فقد تيسَّرت وسائل النقل ووسائل الراحة، ولنقف عند السيارة، فالمسافة التي كنتَ تقطعها في يوم تقطعها الآن في دقائق، والتي كنت تقطعها في ساعة ربما تقطعها في دقيقة أو دقيقتين، فبحمد اللَّه يُسِّرت لنا من وسائل النقل ما قرَّب المسافات وخفَّف عنا المشقة، وهي أيضًا إذا استُغلَّتْ في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى، فهي عون على طاعة اللَّه عز وجل.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ خَارِجَ المِصْرِ

(3)

، وَقَوْمٌ قَالُوا: بَلْ تَجِبُ

(4)

، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَمِنْهُمْ مَنْ

(1)

انظر: "الهداية"، للمرغيناني (1/ 82)، وفيه قال:"لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر ولا تجوز في القرى" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع"، والمصر الجامع: كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ولقيم الحدود وهذا عند أبي يوسف رحمه الله. . . ".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

وهم الأحناف كما سبق.

(4)

وهم الجمهور على اختلاف بينهم في تحديد المسافة، كما سبق.

ص: 2016

قَالَ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ مَسِيرَةُ يَوْمٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الإِتْيَانُ إِلَيْهَا، وَهُوَ شَاذٌّ).

كان بينه وبين الجمعة مسافة يوم، هذه مسافة بعيدة

(1)

، ولذلك قال المؤلف: هو شاذٌّ.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الإِتْيَانُ إِلَيْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ).

وهذا قول مالك، ومعه بعض العلماء، وكل مذهب من المذاهب فيه عدة آراء

(2)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الإِتْيَانُ مِنْ حَيْثُ يَسْمَعُ النِّدَاءَ فِي الأَغْلَبِ).

هذا هو المشهور عند الشافعية والحنابلة

(3)

.

* قوله: (وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَوْضِعِ النِّدَاءِ، وَهَذَانِ القَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ).

عند الشافعية والحنابلة ليس هناك قيد بثلاثة أميال، فهذا القيد موجود عند المالكية

(4)

.

* قوله: (وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ ثَبَتَتْ فِي شُرُوطِ الوُجُوبِ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا البَابِ اخْتِلَافُ الآثَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ "أَنَّ النَّاسَ كَانُوا

(1)

لم أقف على من قال بهذا القول.

(2)

سبق.

(3)

سبق.

(4)

سبق.

ص: 2017

يَأْتُونَ الجُمُعَةَ مِنَ العَوَالِي فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ مِنَ المَدِينَةِ"، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ"

(2)

. وَرُوِيَ: "الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى أَهْلِهِ"

(3)

. وَهُوَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ).

هذه الأحاديث كلُّها -كما ذكرنا- فيها مقال، والحنفية لا يرون وجوب الجمعة أصلًا إلا في مصر جامع، ويستدلون بالحديث، وهو ضعيف أيضًا، وقد سبق أن ناقشنا هذه المسألة

(4)

.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّاعَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي فَضْلِ الرَّوَاحِ).

شرع المؤلف الآن في مسألة أُخرى مهمة جدًّا، ويقصد بها الرواح للجمعة، ومعلوم أن الغالب والمشهور في لغة العرب أن الرواح يُطلَق على ما بعد الزوال

(5)

، ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لو أنكم توكَّلون على اللَّه حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"

(6)

. تغدو خماصًا، أي: تذهب في وقت الغدو، وهو الصباح، وتروح بعد الزوال في المساء

(7)

.

(1)

أخرج البخاري (902)، ومسلم (847/ 6)، عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

سبق.

(5)

"الرواح": نقيض الصَباح، وهو اسمٌ للوقت من زوال الشمس إلى الليل. انظر:"الصحاح"، للجوهري (1/ 368).

(6)

أخرجه الترمذي (2344). وصححه الألباني في: "السلسلة الصحيحة"(310).

(7)

"معنى الحديث"، أي: تغدو بكرة وهي جياع، وتروح عشاء وهي ممتلئة الأجواف. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (2/ 80).

ص: 2018

من هنا وقع اختلاف بين العلماء؛ فانفرد المالكية بقول خالفوا فيه جماهير العلماء في هذه المسألة، فقد جاء حديث أو أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تبين فضل الرواح، فضل المبادرة إلى الجمعة، فضل سعي المسلم إليها مبكرًا، ومن ذلك الحديث المتفق عليه الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا اغتسل أحدكم يوم الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرةً، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة"

(1)

. فهاهنا عمل، وكلما تأخر العمل قل الأجر المترتب عليه، وسنعود للتعليق على هذه المسألة إن شاء اللَّه، لكن ورد في رواية عند النسائي أيضًا -وهي صحيحة- أن الساعات ست؛ من راح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة، وفي الثانية -كما ورد هنا- بقرة، وفي الثالثة: كبشًا، وفي الرابعة: بطةً، وفي الخامسة: دجاجةً، وفي السادسة: بيضةً

(2)

.

وجاء أيضًا في رواية أُخرى عنده في الساعة الرابعة كما كان في الحديث المتفق عليه "دجاجة"، وفي الساعة الخامسة: عصفورة، وفي الساعة السادسة: بيضة، ثم بعد ذلك ينتهي، فإذا ما دخل الإمام طُوِيَت الصحف، وأخذ الملائكة يستمعون الذكر

(3)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرج النسائي (1385)، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد، فكتبوا من جاء إلى الجمعة، فإذا خرج الإمام طوت الملائكة الصحف"، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم كالمهدي بقرة، ثم كالمهدي شاة، ثم كالمهدي بطة، ثم كالمهدي دجاجة، ثم كالمهدي بيضة"". وصححه الألباني في: "صحيح سنن النسائي" ط: المعارف (1384).

(3)

أقرب رواية للفظ الشارح التي أخرجها أحمد في "المسند"(11769)، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد فيكتبون الناس من جاء من الناس على منازلهم، فرجل قدم جزورا، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم شاة، ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم عصفورا، ورجل =

ص: 2019

إذن مَن اغتسل يوم الجمعة -وهذا حديث متفق عليه- ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة

(1)

.

وهذه الساعات اختلف فيها العلماء، على النحو التالي:

الفريق الأول: قال هي الساعات المعهودة المعروفة التي نعرفها اليوم، على أن النهار يتكون من اثنتي عشرة ساعة، وهذا هو قول جماهير العلماء

(2)

.

= قدم بيضة"، قال: "فإذا أذن المؤذن، وجلس الإمام على المنبر، طويت الصحف، ودخلوا المسجد يستمعون الذكر". قال الأرناؤوط:"إسناده حسن".

أما رواية النسائي، فقد أخرجها في "المجتبى"(1387)، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"تقعد الملائكة يوم الجمعة على أبواب المسجد يكتبون الناس على منازلهم، فالناس فيه كرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم شاة، وكرجل قدم دجاجة، وكرجل قدم عصفورًا، وكرجل قدم بيضة". قال الألباني: "حسن صحيح"، لكن قوله:"عصفورًا" منكر، والمحفوظ:"دجاجة"، كما في الطرق المتقدمة. "صحيح سنن النسائي"، ط: المعارف (1386).

(1)

رواية "الصحيحين" تقدمت.

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح"(ص: 517)، وفيه قال:"والتبكير سرعة الانتباه أول الوقت أو قبله لأداء العبادة بنشاط والابتكار هو المسارعة إلى المصلى لينال فضيلته والصف الأول. قال مالك وأكثر أصحابه وإمام الحرمين والقاضي حسين أنها لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الإمام على المنبر. وقال الجمهور والمراد ساعات اليوم والليلة المنقسمة إلى أربعة وعشرين جزءا فاستحبوا التبكير إليها". وانظر: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 169).

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 470)، وفيه قال:" (ويسن) لغير معذور (التبكير إليها) من طلوع الفجر لغير الخطيب؛ لما في الخبر الصحيح أن للجائي بعد اغتساله غسل الجنابة، أي: كغسلها، وقيل: حقيقة بأن يكون جامع؛ لأنه يسن ليلة الجمعة أو يومها في الساعة الأولى بدنة، والثانية بقرة، والثالثة كبشًا أقرن، والرابعة دجاجة، والخامسة عصفورًا، والسادسة بيضة، والمراد: أن ما بين الفجر وخروج الخطيب ينقسم ستة أجزاء متساوية سواء أطال أليوم أم قصر".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 320)، وفيه قال: =

ص: 2020

الفريق الثاني: قال: هي ساعات قُبيل وبعد الزوال

(1)

.

الفريق الثالث: سمَّاها ساعات لطيفة، كأنها لحظات، وهذا هو قول المالكية

(2)

، وهو أيضًا قول في مذهب الشافعية

(3)

.

‌سبب الخلاف:

وسبب الخلاف في ذلك -أعني: خلاف المالكية مع الجمهور- هو كلمة الرواح من قوله: "مَن راح في الساعة الأولى" فيقولون: إن الرواح يُطلَق على ما بعد الزوال في لغة العرب، وأما ما قبل الزوال فهو غدو

(4)

.

= " (و) سن أيضًا (تبكير إليها)، أي: الجمعة، ولو مشتغلًا بالصلاة في منزله (ماشيًا) بسكينة، لحديث: "ومشى ولم يركب" (بعد فجر)، لحديث: "من جاء في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة إلى آخره".

(1)

هذا هو قول مالك كما سيأتي. لكن هناك فريق قال بأنها ساعة واحدة تكون قبل الزوال فقط، وهو الذي كان ينبغي أن يذكر هنا، واستحسنه المؤلف، كما سيأتي.

(2)

انظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 81)، وفيه قال:"ويكره التبكير؛ لأنه لم يفعله عليه الصلاة والسلام ولا الخلفاء بعده وخيفة الرياء والسمعة والمراد بالهاجرة الإتيان في الساعة السادسة. فالمراد بالساعات المذكورة في قوله عليه الصلاة والسلام: "مَن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومَن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومَن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" أجزاء الساعة السادسة، كما ذهب إليه الباجي وغيره وشهره الرجراجي".

(3)

انظر: "التهذيب"، للبغوي (2/ 350)، وفيه قال:"واختلفوا في هذه الساعات، قيل: هي ساعاتٌ لطيفة بعد الزوال؛ لأن الرواح اسم للخروج بعد الزوال. وقيل: أراد ساعات النهار من وقت طلوع الفجر، وذلك بلفظ الرَّواح؛ لأنه خروج لأمر يكون بعد الزوال، وهذا القائل يقول: ساعات الليل والنهار لا تنتقص عددًا صيفًا ولا شتاءً عن اثني عشر، لكنها تطول وتقصر. وقيل: تنتقص، فيعود في الشتاء ساعات النهار إلى تسعٍ، وليس المراد من الحديث حقيقة الساعات، بل المراد منه بيان فضل السابق على من جاء بعده".

(4)

قال ابن العربي: "اعتضد مالك رحمه الله بقوله: "راحَ" والرَّواحُ عند العرب لا يكون إلَّا بالعَشِيِّ، وذلك من زوال الشّمس إلى آخر النّهار. وذلك عند المتأخّرين محمولٌ =

ص: 2021

وأما جماهير العلماء فيقولون: إن الرواح -وإن أُطلِق في الأصل على ما بعد الزوال- لكنه أيضًا يُطلق ويراد به الذهاب فقط

(1)

، وهو المراد في هذا الحديث "مَن راح في الساعة الأولى"، أي: ذهب في الساعة الأولى. ثم بعد ذلك أيضًا يقولون في قوله: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى" فيقولون: غسل الجمعة يبدأ بطلوع الفجر؛ لأن اليوم يبدأ بطلوع الفجر الصادق، وقد أشرنا قبل إلى الاختلاف فيه، وهناك من يرى أنه بعد طلوع الشمس، وحتى هذا القول الثاني لا ينطبق على رأي المالكية

(2)

.

= على المجاز، كما قالوا:"القافلة"، وهي لا تكون في ابتداء سيرها قافلة حتّى ترجع، فأطلقوا عليها في الابتداء اسم الانتهاء". انظر:"المسالك في شرح موطأ مالك"، (2/ 437، 438).

(1)

انظر: "حاشية الشربيني على الغرر البهية"(2/ 25)، وفيه قال:" (قوله: ثم راح)، أي: قاصدًا حضوره للصلاة، وإن لم يعرف معنى التكبير ق ل (قوله: اسم للخروج) المشهور أنه اسم للرجوع بعد الزوال فالفقهاء استعملوه في الذهاب، وفيما قبل الزوال بمجازين رشيدي (قوله: لأنه إلخ.) فهو مجاز مرسل علاقته السببية من باب إطلاق اسم المجاور للمسبب في الزمان الذي هو الذهاب بعد الزوال على السبب الذي هو الذهاب قبل الزوال". وانظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 170).

(2)

الذين قالوا بالغسل بعد الفجر -وهم الجمهور خلافًا للمالكية- هم مَن قالوا بجوازه بعد طلوع الشمس فكلٌّ عندهم جائز، إلا أنهم اختلفوا في الأفضل، فعند الأحناف الأفضل أن يكون قبل طلوع الشمس، وعند الشافعية والحنابلة الأفضل أن يكون عند الرواح قبل الزوال.

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(1/ 169)، وفيه قال:"والغسل في الساعة الأولى أفضل وهي إلى طلوع الشمس، فربما يعسر مع ذلك بقاء الوضوء إلى وقت الصلاة ولا سيما في أطول الأيام، وإعادة الغسل أعسر - {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وربما أداه ذلك إلى أن يصلي حاقنًا وهو حرام، ويؤيده أيضًا ما في المعراج: لو اغتسل يوم الخميس أو ليلة الجمعة استن بالسنة لحصول المقصود وهو قطع الرائحة اهـ".

وانظر في مذهب الشافعية: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (2/ 25)، وفيه قال: "ووقته من الفجر كما علم من عطف استحبابه على تحريم السفر المقيد ببعد الفجر، فإن الأخبار علقته باليوم ويفارق غسل العيد حيث يجزئ قبل الفجر ببقاء أثره إلى =

ص: 2022

ففي قوله: "من اغتسل يوم الجمعة" في بعض الروايات: "غسل الجنابة"

(1)

. أي: غسلًا كغسل الجنابة، وليس المراد الغسل من الجنابة هنا - قالوا:"ثم" تفيد الترتيب، أي: أنها تدلُّ على التراخي، إذن اغتسل ثم ذهب

(2)

.

وقد جاء حديث صحيح عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه أنه قال: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، لا يوجد مسلم يسأل اللَّه سبحانه وتعالى شيئًا إلا أعطاه اللَّه سؤله، فالتمسوها بعد العصر

(3)

. وفي بعض الروايات: آخر ساعة بعد العصر

(4)

.

= صلاة العيد لقرب الزمن وبأنه لو لم يجز قبل الفجر لضاق الوقت وتأخر عن التكبير إلى الصلاة (لكنه)، أي: غسل الجمعة (عند الرواح) إليها (أولى) من تقديمه وكلما قرب منه كان أولى؛ لأنه أفضى إلى الغرض من التنظيف". وانظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (2/ 427).

وانظر في مذهب الحنابلة: "الهداية"، للكلوذاني (ص: 111)، وفيه قال:"يستحب لمَن أراد الجمعة أن يغتسل لها، وقيل: الغسل واجب، ووقته بعد طلوع الفجر، والأفضل أن يفعله عند الرواح". وانظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 176). أما مذهب المالكية: فيشترط أن يتعقبه الرواح، والرواح عندهم كما سبق هي الساعة المتصلة بزوال الشمس. فلا يجزئه إلا عند الذهاب إلى الجمعة.

انظر: "التاج والإكليل"، للمواق (2/ 543)، وفيه قال:" (وسن غسل متصل بالرواح ولو لم تلزمه) ابن عرفة: الغسل لها مطلوب وصفته وماؤه كالجنابة والمعروف أنه سنة لآتيها ولو لم تلزمه، والمشهور شرط وصله برواحها ويسير الفصل عفو". وانظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"، لابن عبد البر (1/ 249).

(1)

تقدَّم تخريجه، وهي في "الصحيحين".

(2)

قال النووي: "ودليل مالك على اشتراط الذهاب عقب الغسل (قوله) صلى الله عليه وسلم: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح" إلى آخر الحديث ولفظة: (ثُمَّ) للتراخي". انظر: "المجموع شرح المهذب"(4/ 536).

(3)

قال الحافظ ابن حجر: "روى ابن جرير من طريق صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي سعيد مرفوعًا، بلفظ: "فالتمسوها بعد العصر"". انظر: "فتح الباري"(2/ 419).

(4)

أخرجه أبو داود (1048)، عن جابر بن عبد اللَّه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يوم الجمعة ثنتا عشرة -يريد- ساعة، لا يوجد مسلم يسأل اللَّه عز وجل شيئًا، إلا أتاه اللَّه عز وجل، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر". وصححه الألباني في: "صحيح أبي داود - الأم"(963).

ص: 2023

إذن "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة" ينطبق على مذهب جمهور العلماء، إذن جمهور العلماء يقولون: هي الساعات المعهودة، ونحن نجد أن الأجر في ذلك يتفاوت، فانظر إلى فضيلة من يذهب إلى الجمعة مبكِّرًا، ونحن نتكاسل في هذا الأمر، فالذي يبادر منَّا ربما يأتي مع الإمام إذا دخل، أو يسبقه بقليل، وكثير من الناس يأتون وقد قطع الخطيب شوطًا في خطبته.

فينبغي أن ننظر إلى الفضل "من راح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة"، ومعنى "قرَّب بدنة"، أي: كأنه تصدَّق ببدنة

(1)

، وهذه البدنة التي هي نوع من النَّعم

(2)

فإذا ما تصدق الإنسان بها فسيستفيد منها الفقراء والمحتاجون والمعوزون، وسينال صاحبها من الأجر العظيم!

فهذا الذي ذهب في الساعة الأولى كأنه تصدَّق بهذه الصدقة العظيمة، ثم بين أن مَن جاء في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، وهذا أيضًا فيه دليل على تفضيل الإبل على البقر وهو خلاف ما ذهب إليه المالكية في أبواب الحجِّ

(3)

، وهذا عمومًا سبق أن تكلمنا عنه عندما كنا

(1)

"البدنَة": هي النَّاقة؛ سُمِّيت بَدَنَة بالعِظَم، إِمَّا لسمنها أَو لسنِّها؛ لأنه لا يجوز أن يساق منها الصغار، إنما يساق منها الثُّنْيان فما فوق وكل ما أسن منها وعظم فهو أفضل. انظر:"غريب الحديث"، لابن قتيبة (1/ 219).

(2)

هذا على قول من قال: إن النَّعم بمعنى الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم. قال ابن الأنباري: "النَّعَم: الإِبل. وفي قول بعضهم، لا يقع إلا على الإِبل، و"الأنعام" تقع على الإِبل والبقر والغنم. فإذا انفردت الإِبل قيل لها: نعمٌ، وأنعام. وإذا انفردت البقر والغنم لم يقل لها: نعم، ولا أنعام. وقال آخرون: "النَّعَم"، و"الأنعام" بمعنى واحد". انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس"، (2/ 280، 281).

(3)

مذهب الجمهور على أن الإبل أفضل من البقر والبقر أفضل من الغنم، وخالف المالكية، فقالوا: أفضلها الغنم، ثم البقر، ثم الإبل.

انظر في مذهب الأحناف: "المبسوط"، للسرخسي (4/ 29)، وفيه قال:"والبقرة أفضل من الشاة، والجزور أفضل من البقرة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ}، فما كان أقرب في التعظيم فذلك أفضل". وانظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 387). =

ص: 2024

ندرس كتاب الحج، وسنعود إليه إن شاء اللَّه في وقته، ثم هكذا نجد أنه كلَّما تأخَّر الإنسان قل أجره، وفي هذا أيضًا دليل على أن العمل كلَّما كان أكثر كان الفضل والأجر أكثر، لكن ليس هذا على الإطلاق، فينبغي أن يصحب العملَ الإخلاصُ للَّه سبحانه وتعالى فإذا ما تساوى اثنان في الإخلاص في العمل، لكن عمل أحدهما أكثر من الآخر، فإنه ينال -بلا شكٍّ- فضلًا أعظم، لكن قد يعمل الإنسان العمل الكثير فيدخله الرياء أو السمعة وحينئذ لا ينال فيه ثوابًا، وقد يدخلها نوع من التقصير، فيقل ثواب المرء. ولنضرب مثلًا في ذلك بشخصين جاءا إلى الصلاة، التزم أحدهما قول اللَّه سبحانه وتعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2] فخشع قلبه، وخشعت جوارحه، وآخَر لم يؤدِّ ما في هذه الآية بكلِّ معناها، ولا شكَّ أن الأجر هنا يتفاوت، فهذا قد خشع وذلَّ وانقاد لطاعة اللَّه سبحانه وتعالى، وانصرف قلبه عن كل ما يشغله عن طاعة ربه، وذاك خالطه شيء من التفكير والانشغال بأموال الدنيا وببنيه وبغير ذلك، فلا شك أن الصور تختلف

(1)

.

= وانظر في مذهب المالكية: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 378)، وفيه قال:" (ص) وندب إبل فبقر. (ش) قد علمت أن الهدي على الترتيب، فإذا وجب فالأفضل فيه أن يكون من الإبل؛ لأن "النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر هداياه الإبل وضحى بكبشين"، ثم البقر ثم الغنم؛ لأن الأفضل في باب الهدايا كثرة اللحم عكس باب الضحايا".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 536)، وفيه قال:" (وأفضلها البدنة، ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز)، ثم شرك من بدنة، ثم من بقرة اعتبارًا بكثرة اللحم غالبًا ولانفراده بإراقة دم فيما قبل الشرك وفي "الصحيحين" في الرواح إلى الجمعة تقديم البدنة، ثم البقرة، ثم الكبش".

وانظر في مذهب الحنابلة: "الهداية"، للكلوذاني (ص: 201)، وفيه قال:"أفضل الهدايا الإبل، ثم البقر، ثم الغنم". وانظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 462).

(1)

وفي هذا المعنى الحديث الذي أخرجه أبو داود (796)، وغيره، عن عمار بن ياسر، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها". وحسنه الألباني في: "صحيح أبي داود - الأم"(761).

ص: 2025

فالعمل إذا كثُر وكان صوابًا كان أجرُه وثوابه عظيمًا، وإذا كان على غير الصواب فربما يرجع صاحبه بوزر، وإن قلَّ إخلاص الإنسان في هذا العمل فأجره أيضًا يقلُّ

(1)

. وهذه أيضًا فضيلة أُخرى نضيفها إلى الفضائل العظيمة التي مرت بنا في يوم الجمعة، فكم مرَّ بنا مما تفضل اللَّه به سبحانه وتعالى على عباده!

واللَّه سبحانه وتعالى يدعونا إلى فعل الخيرات، وإلى المسارعة فيها؛ لنحصل على الثواب الجزيل، والعطاء الكبير منه سبحانه وتعالى.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً"

(2)

).

كلَّما تأخَّر الإنسان قلَّ ما يناله من الأجر؛ لأنه يأخذ من الأجر على قدر تقدُّمه، فإن كان من السابقين الأوائل نال الجائزة الأولى، ثم الثانية، وهكذا، وهذا فيه طلب المسارعة والاستباق إلى التبكير يوم الجمعة.

* قوله: (وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً).

أكثر الذين يأتون بعد انتهاء هذه الساعات؛ سواء كانت الخمس على الرواية المتفق عليها، أو على أنها ست ساعات، على الروايتين اللتين أشرنا إليهما، فكثير من الناس يتأخرون، ولا نقول كل الناس؛ فمن المؤمنين بحمد اللَّه مَن يسابقون ويسارعون إلى فعل الخيرات، وليس فقط في الإسراع إلى الصلاة، وإنما لهم أعمال عظيمة يتسابقون فيها، وقد

(1)

انظر: "جامع العلوم والحكم"، لابن رجب (1/ 72)، وفيه قال:"قال الفضيل: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل حتى يكون خالصًا وصوابًا، قال: والخالص إذا كان للَّه عز وجل، والصواب إذا كان على السُّنة. وقد دلَّ على هذا قول اللَّه عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ".

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2026

يكون لديهم من الأعمال مما هو خافٍ أكثر ما هو معلن وظاهر، وبذلك أيضًا يزداد الثواب.

ومعلوم أن من السبعة الذين يظلهم اللَّه في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"

(1)

. يعني: يده التي هي جزء من جسده من كثرة ما يخفي هذه الصدقة، إنما يخفيها طلبًا لمرضاة اللَّه سبحانه وتعالى؛ ليحصل على ثواب ليجنب نفسه ويحصنها من الرياء، لا يريد أن يتظاهر بهذا العمل؛ لأنه عمل ذلك لوجه اللَّه سبحانه وتعالى، وابتغاء مرضاته

(2)

؛ لأنه يسعى إلى جنة عرضها السموات والأرض؛ وإلى أن يكون من المتقين، قال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54، 55]، وقال:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} [النبأ: 31، 32].

إذن هذا هو الذي يسعى إلى الفضل، ولذلك نجد أنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال في مثل هذا الميدان، ميدان العمل الصالح:"مَن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرَّج اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره اللَّه في الدنيا والآخرة"

(3)

.

من وقف على عيب أخيه المسلم، ثم ستره؛ لئلا يفضحه، فاللَّه سبحانه وتعالى

(1)

أخرجه البخاري (1423) عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (1031/ 91)، ولفظه:"ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله".

(2)

قال ابن الجوزي: "وفي حديث: "سبعة يظلهم اللَّه في ظله" ذكر فيهم: "رجلًا قد تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". فذكر الناس في هذا أقوالًا: فقال بعضهم: لا يعلم جليسه عن شماله. وقال قوم: لا يرائي بنفقته فلا يكتبها صاحب الشمال. والصواب: أنه للمبالغة، وأنه بالغ في الكتم، فلو تصور أن لا تعلم شماله ما علمت. انظر: "كشف المشكل" (3/ 398).

(3)

أخرجه مسلم (2699/ 38)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نَفَّسَ اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على معسر، يسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره اللَّه في الدنيا والآخرة، واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. . . " الحديث.

ص: 2027

سيستره في يوم هو أحوج ما يكون فيه إلى الستر، ومن ستَر مسلمًا ستره اللَّه في الدنيا والآخرة، واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وفي بعض الروايات:"واللَّه في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه"

(1)

. ولا نريد أن نقف عند هذا الحديث كثيرًا، أو نعلق عليه؛ لضيق المقام لكن هذا حديث من الأحاديث التي اختارها العلماء الأفذاذ، فوضعوها ضمن أحاديث الأربعين النووية أو الخمسين، وتكلموا عنها، وأكثر من تكلَّم عن هذا الحديث بيانًا وتفصيلًا الحافظ ابن رجب في كتابه:"جامع العلوم والحكم"

(2)

.

* قوله: (فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَجَمَاعَةً مِنَ العُلَمَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ السَّاعَاتِ هِيَ سَاعَاتُ النَّهَارِ).

هؤلاء هم جمهور العلماء

(3)

.

* قوله: (فَنَدَبُوا إِلَى الرَّوَاحِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ).

الندب معلوم معناه

(4)

:

لا يسألون أخاهم حين يندُبُهم

(5)

(1)

أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(7247)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من فرَّج عن أخيه كربة فرج اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على أخيه المسلم ستَر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، واللَّه في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه".

وأخرج البخاري (2442)، ومسلم (2580/ 58)، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج اللَّه عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة".

(2)

انظر: "جامع العلوم والحكم"، لابن رجب (2/ 285).

(3)

سبق.

(4)

نَدَبَ القومَ إِلى الأمر يَنْدُبُهم نَدْبًا: دعاهم وحَثَّهم. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم"، لابن سيده (9/ 354).

(5)

صدر بيت من البسيط "لقريط بن أنيف العَنْبَري"، كما في:"خزانة الأدب"، للبغدادي (7/ 441) وتمامه:"في النائباتِ على ما قال بُرْهَانَا".

ص: 2028

يعني: ندبوا الناس، حضُّوهم إلى

(1)

الإسراع إليها؛ لأن الندب إنما هو دعوة فيها حضٌّ وتحفيز، فأنت قد تدعو الإنسان دعوة تحضه فيها وتدفعه إلى العمل، ولا شك أن أكثر ما ينبغي أن يندفع إليه الإنسان، إنما هو العمل الصالح.

* قوله: (وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا أَجْزَاءُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ

(2)

. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ أَجْزَاءُ سَاعَةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ

(3)

، وَهُوَ الأَظْهَرُ لِوُجُوبِ السَّعْيِ بَعْدَ الزَّوَالِ)

(4)

(5)

.

(1)

لعلَّ الصواب أن يقال: حضوهم على. فيتعدى بعلى لا بإلى. وقال ابن سيده: "الحَضُّ: ضَربٌ من الحَثّ في السيْرِ والسَّوْقِ، وكلِّ شيءٍ. والحَضُّ أيضًا: أنْ تَحُثَّه على شيءٍ لا سَيْرَ فيه ولا سَوْقَ". انظر: "المحكم والمحيط الأعظم"(2/ 490).

(2)

قال المازري: "قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن راح إلى الجمعة" الحديث. فحمله مالك رحمه الله على أن المراد به بعد الزوال تعلقًا بأن الرواح في اللغة لا يكون في أول النهار، وإنما يكون بعد الزوال. وخالفه بعض أصحابه ورأى أن المراد به أول النهار تعلقًا بذكر الساعات فيه الأولى والثانية والثالثة، وذلك لا يكون إلا من أول النهار. فمالك تمسك بحقيقة الرواح وتجوز في تسمية الساعة. والتهجير لا يكون أول النهار، وتمسك بعض أصحابه بحقيقة لفظ الساعة وتجوز بلفظ الرواح". انظر: "المعلم بفوائد مسلم"(1/ 471).

(3)

وهو قول ابن حبيب. انظر: "التنبيه على مبادئ التوجيه"، لابن بشير (2/ 626)، وفيه قال:"واختلف المذهب هل أراد الساعة السادسة فيكون الرواح من أول النهار؟ أو هي ساعة قدرها الشرع عقيب الزوال؟ وهذا هو المشهور من المذهب. والأول قول ابن حبيب. ولفظ: "الرواح" يقتضي القول المشهور لأن المشي قبل الزوال لا يُسمَّى رواحًا. وقوله: "الساعة الأولى" يقتضي قول ابن حبيب. ولا بد من التجويز في أحد اللفظين".

(4)

انظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 264)، وفيه قال:"وهي الساعة السادسة التي قبل الزوال، بدليل قوله في الحديث: "فإذا خرج الإمام؛ إلخ؛ لأن الإمام يطلب خروجه في أول السابعة وهو عقب الزوال وعقب الجزء الخامس من السادسة المقسمة للخمسة أجزاء، وبخروجه تحضر الملائكة يستمعون الذكر، فالساعة الكائنة في الحديث اعتبارية لا فلكية".

(5)

كأنه يقصد أن الحث والترغيب محله قبل الزوال. أما بعد الزوال لا يكون إلا الأمر بالسعي إلى الصلاة، وهذا ما يرجح أن هذه الساعات تقع قبل الزوال.

ص: 2029

هذا هو الأظهر في رأي المؤلف، لكننا نقول: كلما بادر الإنسان في هذا اليوم العظيم فلا شكَّ أن فضله سيزداد.

* قوله: (إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الوَاجِبَ يَدْخُلُهُ الفَضِيلَةُ).

مراده هنا على أساس أن الأمر فيه وجوب، والواجب فيه فضل، "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه"

(1)

، لكن قصده هنا أن الواجب تدخله الفضيلة بمعنى: أنه يعامل معاملة غير الواجب.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقْتَ النِّدَاءِ).

أشار المؤلف إلى هذه المسألة إشارة لطيفة خفيفة؛ لأن هذا ليس محلها، وهذه مسألة مهمة جدًّا، لكن محلها هو كتاب البيع، ولكن مع ذلك أشار إليها المؤلف، وإشارته في محلها؛ لأنها مناسبة، لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ومعلوم أن البيع حلال، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقد جاء في الحديث الصحيح:"إن أطيب ما أكل الإنسان من كسبه"

(2)

. يعني: من كسب يده، فالبيع والشراء والاشتغال بالتجارة مما اشتغل به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(3)

، واشتغل

(1)

أخرجه البخاري (6502)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. . . " الحديث.

(2)

أخرجه أبو داود (3528)، عن عمارة بن عمير، عن عمته، أنها سألت عائشة رضي الله عنها في حجري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه". وصححه الألباني في: "صحيح الجامع"(2208).

(3)

ذكر ابن سيد الناس في "عيون الأثر"(1/ 61، 62)"أنه لما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة. . قال له أبو طالب: يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالًا من قومك في عيرانها، فيتجرون لها في ما لها،. . . ".

ص: 2030

به كذلك خلفاؤه؛ فأبو بكر كان يشتغل بها وهو خليفة

(1)

، وكذلك عثمان رضي الله عنهم

(2)

.

والتجارة إذا صاحبَها الصِّدْقُ والإخلاص، فكما جاء في الحديث:"البيِّعَان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن بيَّنا ما في بيعهما من عيب أو غيره وصدقَا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا في البيع وكتما العيب مُحِقت بركة بيعهما"

(3)

.

وكم قد أعتق الصحابة من المملوكين

(4)

، وجهز عثمان جيش العسرة

(5)

، وقصة عبد الرحمن بن عوف عندما جاء إلى المدينة المنورة، وأراد أخوه من الهاجرين

(6)

أن يقاسمه، قال: لا، دُلني على السوق؛

(1)

قال الصالحي: "كان أبو بكر منشؤه بمكَّة لا يخرج منها إلا لتجارة، وكان ذا مال جزيل في قومه، وثروة تامة وإحسان وتفضَّل فيهم، وكان من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشاورتهم، ومحببًا فيهم وأعلم لمعالمهم، فلما جاء الإسلام آثره على ما سواه، ودخل فيه أكمل دخول، وكان من أعفِّ الناس فى الجاهليِّة". انظر: "سبل الهدى والرشاد"، (11/ 251).

(2)

أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 44)، وفيه: كان عثمان رجلًا تاجرًا في الجاهلية والإسلام وكان يدفع ماله قراضًا.

(3)

أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532/ 47)، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، -أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".

(4)

من ذلك ما أخرجه البخاري (3754)، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، قال: كان عمر يقول: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني بلالًا".

(5)

أخرجه البخاري (2778)، عن أبي عبد الرحمن، أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم اللَّه، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من حفر رومة فله الجنة"؟ فحفرتها، ألستم تعلمون أنه قال:"من جهز جيش العسرة فله الجنة"؟ فجهزتهم، قال: فصدقوه بما قال. . . الحديث".

(6)

الهاجري أيضًا: "من لزم الحضر، وهذا على حقيقته، فإن الهجرة عندهم هي الانتقال من البدو إلى القرى". انظر: "تاج العروس" للزبيدي (14/ 408).

أو النسبة إلى هجر باعتبار أنها من المدينة. قاله ابن منظور في: "لسان العرب"(5/ 257).

ص: 2031

ليماكس فيه

(1)

، فاشتغل بعد ذلك في التجارة، وكان من أكابر التجار إن لم يكن أكبرهم

(2)

. فالسعي في طلب الرزق مطلوب، لكن لا ينبغي أن يُشغِل هذا الأمر عن طاعة اللَّه، ولذلك قال اللَّه عز وجل في ذكر المساجد:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36، 37]؛ وذلك لأنهم يدركون أن مردَّهم إلى اللَّه، كما في قصة مؤمن آل فرعون، قال تعالى:{وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43].

إذن لا شكَّ أن إشارة المؤلف إلى هذه المسألة في محلها، لكنه أشار إليها، وينبغي أن نقف عندها؛ لأن هذا حكم، وينبغي أن نبيِّنَه، ولا شك أن العلماء قد اختلفوا في هذه المسألة وليست هذه المسألة وحدها، وهنا جاء الأمر بالسعي إلى الجمعة، وجاء النهي عن البيع، والنهي لا لذات البيع؛ لأن البيع مباح، ولا يتعلَّق بالعقد، ولكنه يتعلَّق بأمر مرتبط بالبيع، وهو أن الاشتغال بالبيع وسيلة إلى الانشغال عن الصلاة، فلما كان الاشتغال بالبيع في هذا الوقت الذي نودي فيه إلى صلاة الجمعة -في النداء الثاني- سيشغل عن ذكر اللَّه سبحانه وتعالى، ويعوق المسلم عن الذهاب إلى الخطبة، نُهِي عنه في هذا المقام.

فالنهي لا ينصبُّ على البيع، لكنه ينصبُّ على ما هو وسيلة، فما هي الوسيلة؟ إن هذا البيع لو اشتُغِل فيه لانشغل عن الخطبة، فنهي عنه لأمر آخر مرتبط به، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء، فالعلماء يقولون:

(1)

"المكس": الجباية. والمكس الانتقاص وَمِنْه المماكسة؛ لِأَنَّهُ يستنقص صَاحبه بمماكسته ومراجعته. انظر: "تفسير غريب ما في الصحيحين"، للحميدي (ص: 95). ولعله الشارح يقصد به هنا التجارة، وهو معنى بعيد.

(2)

أخرجه البخاري (3937)، عن أنس رضي الله عنه، قال:"قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال: عبد الرحمن بارك اللَّه لك في أهلك ومالك دلني على السوق،. . . الحديث".

ص: 2032

المُسلِم مطالب بأن يسعى إلى الجمعة، وهو هنا قد اشتغل بالبيع، فعندما اشتغل بالبيع اشتغل في أمر أصله مباح، لكن هذا الأمر صرفه، ومن أمثلة ذلك: إنسان اغتصب أرضًا، ومن المعلوم أن اللَّه سبحانه وتعالى حرم الظلم، وحرم الاعتداء، فهو يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، ويقول:{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 19، المائدة: 87] ونهى عن أكل أموال اليتامى ظلمًا، أما الذي يأكل أموال اليتامى وهو قيِّمٌ عليهم

(1)

، فهذا ليس منهيًّا عنه، وقد تكلم عنه العلماء

(2)

. قال تعالى:

(1)

أي: قائم على أمورهم. قال الحميري: "قيم القوم: سيدهم الذي يسوس أمرهم. وقيِّم البيت: الذي يقوم بأهله". انظر: "شمس العلوم"(8/ 5695).

(2)

ذهب الجمهور إلى أن الوصي يجوز له أخذ شيئًا من مال اليتيم إذا كان الوصي فقيرًا ومحتاجًا. وقال به بعض الصحابة، أما الأحناف فخالفوا، وقال: ليس له أن يأخذ شيئًا من ماله.

انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (6/ 2938)، وفيه قال:"قال أصحابنا-: لا يجوز للوصي أن يأكل من مال اليتيم على طريق الأجر ولا القرض. لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}، ولأن من يجوز له أخذ الأجرة على مال الصبي مع الغناء لم يجز مع الفقر". وانظر: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) "(6/ 712).

وانظر في مذهب المالكية: "مواهب الجليل"، للحطاب (6/ 399)، وفيه قال:"قال ابن رشد في رسم أخذ يشرب خمرًا من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع: أجمع أهل العلم أن أكل مال اليتيم ظلمًا من الكبائر لا يحل ولا يجوز، وذهب مالك وأصحابه إلى أنه يجوز للفقير المحتاج أن يأكل من مال اليتيم بقدر اشتغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه وإلا فلا يسوغ له أن يأكل منه إلا ما لا ثمن له ولا قدر لقيمته مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه ومثل الفاكهة من حائطه". وانظر: "المعونة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 1178).

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (3/ 156)، وفيه قال:"فإن كان فقيرًا وشغل بسببه عن الاكتساب أخذ الأقل من الأجبرة والنفقة بالمعروف. قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وكالأكل غيره من بقية المؤن، وإنما خصَّ بالذكر؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، وله أن يستقل بالأخذ من غير مراجعة الحاكم ولو نقص أجر الأب أو الجد أو الأم إذا كانت وصية عن نفقته وكان كل منهم فقيرًا تممها من مال محجوره؛ لأنها إذا وجبت بلا عمل فمعه أولى".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 179)، وفيه قال: =

ص: 2033

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، وقد جاء في الحديث الصحيح:"من اقتطع شبرًا من الأرض طوَّقه اللَّه به سبع أرضين يوم القيامة"

(1)

.

أي: مَن اعتدى على أرض أخيه المسلم، حتى وإن كانت قليلة، وإن كانت تافهة في نظره، فهذه هي العاقبة، والعقوبة التي رتبت على ذلك:"طوقه اللَّه بها سبع أرضين يوم القيامة".

كذلك أيضًا نُهِي الرجل المسلم أن يلبس ثوب الحرير

(2)

، لكن رُخِّص فيه في حالات، منها إذا أصابته الحكَّة

(3)

، أو كان في مواضع قد استثنيت

(4)

. ونهي أيضًا أن يلبس المسلم الذكر شيئًا من الذهب

(5)

، واستثني من ذلك مواضع محددة، كأن يضح سنًّا أو ضرسًا وغير ذلك

(6)

؛

= " (فصل: ولولي) صغير ومجنون (وسفيه) (غير حاكم وأمينه) أي الحاكم (الأكل لحاجة من مال موليه)؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى فقير وليس لي شيء ولي يتيم، فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف"".

(1)

أخرجه البخاري (3198)، ومسلم (1610/ 137)، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوَّقه اللَّه إياه يوم القيامة من سبع أرضين".

(2)

أخرج البخاري (5828)، ومسلم (2069/ 14)، عن أبي عثمان النهدي، قال: أتانا كتاب عمر، ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام، قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام".

(3)

أخرج البخاري (2919)، ومسلم (2076/ 24)، عن قتادة، أن أنسًا حدثهم:"أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير في قميص من حرير، من حكة كانت بهما".

(4)

من ذلك ما أخرجه البخاري (2920)، ومسلم (2076/ 26)، عن قتادة، أن أنسًا، أخبره، أن عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام شكوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القمل، "فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما".

(5)

أخرج البخاري (5864)، ومسلم (2089/ 51)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن خاتم الذهب".

(6)

انظر في مذهب الأحناف: "منحة السلوك"، للعيني (ص: 408)، وفيه قال: "قوله: =

ص: 2034

لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الذهب والحرير: "حرام على ذكور أُمَّتي حِلٌّ لإناثهم"

(1)

.

إذن لو أن إنسانًا صلَّى بثوب حرير، أو اغتصب أرضًا وصلى فيها، أو اغتصب ثوبًا وصلى فيه، أو كما في مسألتنا هذه باع والإمام يخطب الناس يوم الجمعة، فالعلماء مختلفون، فمنهم من يقول: الجهة منفكة، من اغتصب أرضًا فهو آثم في اغتصاب الأرض؛ لأنه أكل حقَّ غيره باطلًا

(2)

،

= (ولو قطع أنفه أو سقط سنه: عوض بفضة) لاندفاع الحاجة بها (فإن أنتن: عوضه بالذهب)". وانظر التفصيل في: "حاشية ابن عابدين (رد المحتار) " (6/ 362).

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 63)، وفيه قال:" (و) إلا (الأنف) فيجوز اتخاذه من أحد النقدين (و) إلا (ربط سن) تخلخل أو سقط بشريط (مطلقًا) بذهب أو فضة".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 379)، وفيه قال:" (وله تعويض سن) من الذهب".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 433، 434)، وفيه قال:" (و) يباح له من ذهب (ما دعت إليه ضرورة كأنف)، (و) كـ (شد سن) رواه الأثرم عن أبي رافع وثابت البناني وغيرهما، ولأنها ضرورة فأبيح كالأنف".

(1)

أخرجه ابن ماجه (3595)، عن علي بن أبي طالب قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حريرًا بشماله، وذهبا بيمينه، ثم رفع بهما يديه، فقال:"إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم". وحسنه الألباني في: "الرد المفحم"(ص: 126).

(2)

انظر في مذهب الأحناف: "الجوهرة النيرة على مختصر القدوري"، للحدادي (1/ 46)، وفيه قال:"ويكره الصلاة في الثوب الحرير وعليه؛ لأنه يحرم عليه لبسه في غير الصلاة ففيها أولى فإن صلى فيه صحت صلاته؛ لأن النهي لا يختص بالصلاة، وإن صلى في ثوب مغصوب أو توضأ بماء مغصوب أو صلى في أرض مغصوبة فصلاته في ذلك كله صحيحة".

واختلف المالكية في صلاة من صلى بثوب حرير. انظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (1/ 358، 359)، وفيه قال:"واختلفوا فيمن صلى فيه مختارًا على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن صلاته جائزة ولا يعيد، وهو قول ابن عبد الحكم. والثاني: أنه يعيد أبدًا، وهو قول ابن حبيب. والثالث: أنه يعيد في الوقت، وهو قول أشهب. . ". وانظر: "الشامل"، للدميري (1/ 98).

وانظر في مذهب الشافعية: "المهذب"، للشيرازي (1/ 127)، وفيه قال: "فصل: ولا يجوز للرجل أن يصلي في ثوب حرير ولا على ثوب حرير؛ لأنه يحرم عليه استعماله =

ص: 2035

حتى إن بعض العلماء يقول: لو أن إنسانًا اغتصب شيئًا فتركه وهو خارج في محلِّ الغصب يعتبر غاصبًا، وإن كان الصحيح على خلاف ذلك؛ لأنه قد تاب وأقلع عن ذنبه ورجع إلى اللَّه سبحانه وتعالى

(1)

.

وفي حالتنا هذه اختلف العلماء، فجمهور العلماء على أن البيع صحيح، وأحمد وداود يريان أن البيع غير صحيح، وهذه مسألة أصولية معروفة عند الأصوليين

(2)

.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا بِفَسْخِ البَيْع إِذَا وَقَعَ النِّدَاءُ).

الذين سمَّاهم قومًا هم أحمد وداود

(3)

.

= في غير الصلاة فلأن يحرم في الصلاة أولى فإن صلى فيه أو صلى عليه صحت صلاته؛ لأن التحريم لا يختص بالصلاة ولا النهي يعود إليها فلم يمنع صحتها وتجوز للمرأة أن تصلي فيه وعليه؛ لأنه لا يحرم عليها استعماله". وانظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (4/ 33).

وفي مذهب الحنابلة: اختلفت الرواية في الصلاة بثوب حرير وفي الثوب المغصوب. ومشهور المذهب على بطلان الصلاة. انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 269)، وفيه قال:" (ومن صلى ولو نفلًا في ثوب حرير) أو منسوج بذهب أو فضة (أو) صلى في ثوب (أكثره) حرير وهو (ممن يحرم عليه) ذلك: لم تصحَّ صلاته إن كان عالمًا ذاكرًا. (أو) صلى في ثوب (مغصوب) كله (أو بعضه) لم تصحَّ صلاته، إن كان عالمًا ذاكرًا، أو ظاهره، مشاعًا كان أو معينًا". وانظر: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 158).

(1)

لم أقف على هذه المسألة.

(2)

وهي هل النهي يقتضي الفساد والبطلان أم لا. وقد سبقت هذه المسألة في أبواب أُخرى. انظر: "التبصرة في أصول الفقه"، للشيرازي (ص: 100) وما بعده.

(3)

القول بفسخ البيع حال النداء للجمعة هو مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية.

انظر في مذهب المالكية: "منح الجليل"، لعليش (1/ 449)، وفيه قال:(وفسخ) بضم فكسر ونائب فاعله (بيع) حرام، وقع ممن لزمته الجمعة ولو مع من لم تلزمه فيها، فإن تبايع اثنان تلزمهما أو أحدهما فسخ البيع، وإن كانا ممن لم تجب الجمعة على أحدهما فلا يفسخ. اهـ. وانظر:"الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 335).

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 22)، وفيه قال: " (ولا يصح بيع) ولو قل المبيع ممن تلزمه جمعة (ولا) يصح (شراء ممن تلزمه =

ص: 2036

* قوله: (وَقَوْم قَالُوا: لَا يُفْسَخُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي أَصْلُهُ مُبَاحٌ إِذَا تَقَيَّدَ النَّهْيُ بِصِفَةٍ يَعُودُ بِفَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْهُ أَمْ لَا؟

(1)

.

وهم جمهور العلماء

(2)

، قال اللَّه تعالى:{وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] أصل البيع مباح {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فاللَّه نهى عن شيء أصله مباح، هو البيع هنا، فلو انشغل إنسان بالبيع في وقت نهي عنه، هل يحرم البيع أو لا؟

= جمعة) ولو بغيره (بعد ندائها)، أي: أذان الجمعة، أي: الشروع فيه، ولو لأحد جامعين بالبلد قبل أن يؤذن في الآخر، صححه في الفصول (الذي عند المنبر) عقب جلوس الإمام عليه، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، والنهي يقتضي الفساد، وخص بالنداء الثاني؛ لأنه المعهود في زمنه صلى الله عليه وسلم فتعلق الحكم به".

وانظر في مذهب الظاهرية: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (7/ 517)، وفيه قال:"ولا يحل البيع مذ تزول الشمس من يوم الجمعة إلى مقدار تمام الخطبتين والصلاة، لا لمؤمن، ولا لكافر، ولا لامرأة، ولا لمريض، وأما من شهد الجمعة فإلى أن تتم صلاتهم للجمعة، وكل بيع وقع في الوقت المذكور فهو مفسوخ".

(1)

سبق.

(2)

ليس الجمهور، وإنما هو مذهب الأحناف والشافعية.

انظر في مذهب الأحناف: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 140)، وفيه قال:" (بالأذان الأول) وجب السعي وكره البيع؛ لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}، وقيل بالأذان الثاني؛ لأن الأول لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح؛ لأنه لو توجه عند الأذان الثاني لم يتمكن من السنة قبلها ومن استماع الخطبة بل يخشى عليه فوات الجمعة لم يقل وحرم البيع، وإن قال في الهداية بوجوب السعي وحرمة البيع؛ لأن البيع وقت الأذان جائز، ولكنه مكروه كما تقرر في كتب الفروع والأصول، ولهذا أورد بعض الشراح لفظ الكراهة بدل الحرمة".

وانظر في مذهب الشافعية: "نهاية المحتاج"، للرملي (2/ 344)، وفيه قال:" (فإن باع) مثلًا من حرم عليه البيع (صح) بيعه لأن الحرمة لمعنى خارج فلا تبطل العقد كالصلاة في المغصوب وبيع العنب لمن يعلم اتخاذه خيرًا وغير البيع ملحق به ذلك".

ص: 2037

عرفنا أن أكثر العلماء يرون حرمته، لكن النتيجة المترتبة عليه: هل يصحُّ البيع أو لا؟ ثم فرع العلماء على هذه المسألة مسألة أُخرى: فلو كان أحد طرفي العقد ممن لا تجب عليه الجمعة؛ كالمرأة أو المملوك أو المسافر، فهل يعتبر البيع صحيحًا أو لا؟

(1)

.

هذه أيضًا فيها خلاف، ولو كان العقد ما بين اثنين وقت الخطبة ليسا من أهل الجمعة هل يلحقهما إثم في ذلك؟ هذه كلها مسائل اختلف فيها العلماء

(2)

.

(1)

الذين قالوا بفساد البيع حال النداء للجمعة إذا تم بين اثنين ممن تلزمهم الجمعة هم الذين قالوا بفساده في هذه الحالة، وهي إذا كان أحد العاقدين لا تلزمه الجمعة.

انظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 388)، وفيه قال:" (وفسخ بيع) حرام، وهو ما حصل ممن تلزمه ولو مع من لا تلزمه (وإجارة) هي بيع المنافع (وتولية) بأن يولي غيره ما اشتراه بما اشتراه (وشركة) بأن يبيعه بعض ما اشتراه (وإقالة) وهي قبول رد السلعة لربها (وشفعة)، أي: أخذ بها لا تركها إن وقع شيء مما يذكر (بأذان ثان) ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 22)، وفيه قال:" (ولا يصح بيع) ولو قل المبيع ممن تلزمه جمعة (ولا) يصح (شراء ممن تلزمه جمعة) ولو بغيره (بعد ندائها)، أي: أذان الجمعة، أي: الشروع فيه، (إلا من حاجة كمضطر إلى طعام أو شراب يباع) فله شراؤه لحاجته. (و) كـ (عريان وجد سترة) فله شراؤها، وعلم مما سبق: صحة العقد ممن لا تلزمه، كالعبد والمرأة والمسافر وإباحته له، لكن إن كان أحدهما تلزمه، ووجد منه الإيجاب أو القبول بعد النداء حرم ولم ينعقد، لما تقدم".

وانظر في مذهب الظاهرية: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (3/ 290)، وفيه قال:"ويفسخ البيع حينئذ أبدًا إن وقع ولا يصححه خروج الوقت، سواء كان التبايع من مسلمين، أو من مسلم وكافر، أو من كافرين".

(2)

مذهب الظاهرية لا يصح البيع مطلقًا كما سبق، سواء أكان الطرفان يلزمهما الجمعة أو كان أحدهما ممن تلزمه أو كان الطرفان ليسا من أهلها. انظر المصدر السابق.

ومذهب المالكية عدم فساد البيع في هذه الحالة. انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للشيخ الدردير"(1/ 388)، وفيه قال: " (قوله وفسخ بيع إلخ)، أي: على المشهور، وقيل: لا فسخ والبيع ماض ويستغفر اللَّه (قوله وهو ما حصل ممن =

ص: 2038

* قوله: (وَآدَابُ الجُمُعَةِ ثَلَاثٌ: الطِّيبُ، وَالسِّوَاكُ، وَاللِّبَاسُ الحَسَنُ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ لِوُرُودِ الآثَارِ بِذَلِكَ).

معلوم أن هذه وردت فيها أحاديث عدة، ومن الأحاديث التي وردت في ذلك أحاديث سبق ذكرها، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:"غُسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، وأن يمس طيبًا"

(1)

، وكذلك أيضًا:"لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهور، وبدهن من دهن، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج لا يفرق بين اثنين"، بمعنى: أنه لا يشغل الناس في صلاتهم، ولا يتخطى رقابهم، جاء في آخر الحديث:"غُفر له ما بينه وبين الجمعة"

(2)

. والأحاديث في ذلك كثيرة.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الجمعة تطهَّر، وقد مر بنا أيضًا من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:"ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم جمعة سوى ثوبي مهنته"

(3)

. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتطهر، ويستاك، ويتطيب، وهذه من الأمور التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن في وقت يقابل اللَّه سبحانه وتعالى فيه، ولا سيما يوم الجمعة.

فمن الآداب أن يلبس الإنسان لباسًا حسنًا

(4)

، لا يريد بذلك الخيلاء

= تلزمه ولو مع من لا تلزمه) نص المدونة، فإن تبايع اثنان تلزمهما أو أحدهما فسخ البيع وإن كان ممن لا تجب الجمعة على واحد منهما لم يفسخ. اهـ".

ومذهب الحنابلة صحة البيع، وهو مشهور المذهب. وفي رواية لا يصح.

انظر: "الإنصاف"، للمرداوي (4/ 325)، وفيه قال:"مفهوم قوله "من تلزمه الجمعة" أنها إذا لم تلزمه يصح بيعه. وهو صحيح. وهو المذهب. وعليه الأصحاب. وعنه: لا يصح".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

انظر في مذهب الأحناف: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 169)، وفيه قال:"ويستحب لمن حضر الجمعة أن يدهن ويمس طيبًا إن وجده ويلبس أحسن ثيابه".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 381)، وفيه قال: =

ص: 2039

ولا الكبر، ولا التفاخر، ولا أن يقهر المساكين

(1)

، ولا شك أنه إظهار لنعم اللَّه سبحانه وتعالى، لكن ينبغي أن يكون لبسه في حدود المشروع، فلا يلبس الحرير، ولا يلبس ثيابًا لا تجوز للرجال مما تختص بالنساء، فيظهر الإنسان بمظهر حسن، وهذا أمر مطلوب، وهو من بيان نعمة اللَّه سبحانه وتعالى، بل هو من شكر العبد لنعم اللَّه سبحانه وتعالى.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(البَابُ الرَّابِعُ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ)

هذا باب جديد، سنقف على كثير من أحكامه، وعلى مواطن كثيرة من أسراره، واللَّه سبحانه وتعالى أنزل هذه الشريعة ليحكم بها بين عباده، ولم يدع سبحانه وتعالى حكم الناس إلى نفوسهم؛ لأن الناس مهما سمَت عقولُهم إلى المعرفة، ومهما بلغوا الدرجات العالية من الذكاء والفطنة

= " (وندب) لمريد حضورها (تحسين هيئة) كقص شارب وظفر ونتف إبط واستحداد إن احتاج لذلك وسواك؛ وقد يجب إن أكل كثوم (وجميل ثياب) وهو هنا الأبيض ولو عتيقًا بخلاف العيد فيندب الجديد ولو أسود".

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 563)، وفيه قال:" (و) يسن (أن يتزين) حاضر الجمعة الذكر (بأحسن ثيابه وطيب) لحديث "من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه. . . الحديث. وأفضل ثيابه البيض، لخبر:"البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم"".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 320)، وفيه قال:" (و) سن أيضًا (لبس أحسن ثيابه) لوروده في بعض ألفاظ الحديث (وهو) أي أحسن الثياب (البياض) قال في الرعاية: وأفضلها البياض".

(1)

ومما جاء في ذم هذا ما أخرجه مسلم (2088/ 50)، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه قد أعجبته نفسه، فخسف اللَّه به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة".

ص: 2040

وحصافة العقل

(1)

، وبلوغ الغاية في إدراك كثير من الأمور، فلن يستطيعوا أن يهتدوا إلى ما أرادهم اللَّه سبحانه وتعالى عليه، في إصلاح الناس، وعمارة هذه الأرض، ومن هنا نجد فرقًا كبيرًا، بل لا موازنة بين العقل البشري وشريعة اللَّه سبحانه وتعالى التي أنزلها وهو علام الغيوب، وهو الذي يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير، ويعلم ما يُصلِحُ الناسَ، ما تستقيم به أمورهم، وما يسعدهم في أخراهم، وما يحل لهم مشكلاتهم، فاللَّه سبحانه وتعالى أنزل لنا هذه الشريعة التي تسير مع الحياة في كل زمان ومكان، تعالج أسقامها علاجًا سليمًا لا عِوَج فيه ولا انحراف، تسير مع المسلم في حاضرته وفي باديته، يجدها في حضره وفي سفره، في كل أمر من أموره، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

وجاءت سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لتبين هذا الكتاب، وترفع ما أُجْمل فيه، وقد أنزله اللَّه سبحانه وتعالى هداية للناس، يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

نشرع الآن في باب عظيم، وهو باب صلاة المسافر، واللَّه سبحانه وتعالى قد خفَّف عن المسافر كثيرًا من الأحكام؛ لأن المسافر هنا قد غادر وطنه، وترك أهله في الغالب وراءه ظِهريًّا

(2)

، وهو في هذه الحالة إما أن يكون فيها منفردًا، وقد نهي أن يسافر وحده إلا في حالة ألا يجد رفيقًا

(3)

؛ فالسفر قطعة من العذاب

(4)

، فليس المسافر كالحاضر ولا ينبغي أن نأخذ

(1)

"الحصافة": ثخانة العقل. ورجل حصيف العقل: إذا كان جيد الرأي محكم العقل. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 540)، و"لسان العرب" لابن منظور (9/ 48).

(2)

أي: وراء ظهره. ويستخدم هذا اللفظ في الاستهانة وترك العمل.

"الظِّهْرِيُّ": الذي تجعله بظَهْرٍ، أي: تنساه". انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 731).

(3)

أخرجه أحمد في "مسنده"(5650)، عن ابن عمر، "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة، أن يبيت الرجل وحده أو يسافر وحده". قال الأرناؤوط: "صحيح دون النهي عن أن يبيت الرجل وحده، وهي زيادة شاذة، فقد تفرد بها أبو عبيدة الحداد".

(4)

أخرجه البخاري (5429)، ومسلم (1927/ 179)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه، فإذا قضى نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله".

ص: 2041

ذلك من حيث الجزئيات، لأننا لو أردنا أن نوازن بين الحاضر والمسافر لربما وجدنا عدة أمثلة نرى فيها أن المشقة تلحق الحاضر أكثر من المسافر، لكن هذا قليل جدًّا، ومهما لحقت الإنسان مشقة، ومهما أصابه من وصب

(1)

، ومهما حلَّ به من تعب، فهو بين أهله وذويه وجماعته، أما ذاك فهو يركب السهل والوعر

(2)

، مهما تنوعت الوسائل ففكره مشغول، وباله فيه اضطراب.

ولذلك نجد من الحاضرين -وبخاصة في وقتنا الحاضر- من تلحقهم أنواع من المشقة أكثر من بعض المسافرين، كمن يقف في شدَّة الحرِّ وقت القيلولة

(3)

، ومن يقف بعد صلاة الفجر على فرن يشتعل نارًا؛ ليخبز كي يمدَّ الناس بالطعام ويتصبب العَرق

(4)

منه يمينًا وشمالًا، بينما ذاك مسافر في طائرة أو في سيارة فارهة

(5)

، أو في سفينة، أو غير ذلك، فلا تلحقه مشقة في بدنه، لكن فكره مشغول، ولذلك قال العلماء: السفر مظنة المشقة، يعني: المشقة في السفر ليست مقطوعة، بل تكون في كل حال، ومعلوم أن هناك يقينًا، وهذا أمر مقطوع به، وهناك ظن وهو أقرب إلى اليقين، ثم تأتي المراتب الأخرى، فالمشقة في السفر مظنونة

(6)

.

(1)

"الوَصَبُ": المرض، وتكسيرُه، والجميعُ الأوصاب. انظر:"تهذيب اللغة"، للأزهري (12/ 178).

(2)

يقال: أسهلَ القومُ، إِذا ركبُوا السَّهْل، وهو ضدُّ الحَزْن. انظر:"جمهرة اللغة"، لابن دريد (2/ 860).

و"الوَعْرُ": المكانُ الحَزْنُ ذُو الوُعورة، ضدُّ السَّهْل. انظر:"لسان العرب"، لابن منظور (5/ 285).

(3)

"القيلولة": الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم. انظر:"النهاية" لابن الأثير (4/ 133).

(4)

"صَبَبْتُ الماءَ صبًّا فانْصَبَّ، أي: سكَبته فانسكب. والماء يتصبَّبُ من الجبل، أي: يتحدَّرُ". انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 160).

(5)

"دابة فارهة"، أي: نشيطة حادة قوية. انظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 441)، وانظر:"لسان العرب"، لابن منظور (3/ 521).

(6)

ولما كانت مظنونة يصعب ضبطها ربطوا الأحكام بما يطلق عليه مسمى السفر.

انظر: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (2/ 190)، وفيه قال: "رخص السفر حكمتها =

ص: 2042

خفف اللَّه سبحانه وتعالى على المسافر كثيرًا من الأحكام، ومنها ما سندرسه إن شاء اللَّه فيما يتعلَّق بصلاة المسافر، فالمسافر يقصر الصلاة الرباعية التي هي صلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة العشاء، أما صلاتا الفجر والمغرب فلا يقصران، وثمة صلوات تقصر، وللمسلم أن يجمع بين الصلاتين، واللَّه سبحانه وتعالى رخَّص له أن يُفطر أيضًا في نهار رمضان، قال اللَّه تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ويقول سبحانه وتعالى في أحكام الوضوء التي درسناها:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، فالمسافر أيضًا يمسح ثلاثة أيام بلياليهن

(1)

، ومن هنا تكلم العلماء عن هذه المسائل، ودققوا البحث فيها عند إحدى القواعد الخمس المشهورة، وهي:"المشقة تجلب التيسير"

(2)

.

فخفف اللَّه تعالى في السفر عن الإنسان، ولم يكن السفر وحده هو وسيلة التخفيف، فقد استقصى العلماء ذلك وتتبعوه وانتهوا إلى أن للتخفيف أسبابًا سبعةً

(3)

، ويعد أول تلك الأسباب السفر، ثم ذكروا

= المشقة وهي مضطربة تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فنيطت بالسفر وضبطت به إما بطويلة وقصيرة على الخلاف فيه".

(1)

أخرج مسلم (276/ 85)، عن شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فسله فإنه كان يسافر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال:"جعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم".

(2)

سيأتي.

(3)

انظر: "غمز عيون البصائر" للحموي (1/ 245 - 248) حيث قال: "القاعدة الرابعة المشقة تجلب التيسير)، والأصل فيها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. . وحديث: "أحب الدين إلى اللَّه تعالى الحنيفية السمحة" قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته. واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة: الأول السفر. . . الثاني: المرض؛ ورخصه كثيرة: التيمم عند الخوف على نفسه. . .، الثالث: الإكراه الرابع: النسيان. . . الخامس: الجهل. . . السادس: العسر وعموم البلوى؛ كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها". وانظرها في: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (1/ 49).

ص: 2043

المرض، والنسيان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها، فإنه لا كفارة لها إلا ذلك"

(1)

، وليس عليه إثم، كذلك أيضًا المُكَره، {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، كذلك يخفف أيضًا عن الجاهل، وقد مر ذلك في حديث الرجل الذي تكلم أثناء الصلاة

(2)

، كذلك أيضًا النقص، والنقص ليس أمرًا يختاره الإنسان لنفسه، فقد خففت الشريعة عن الصغير، وعن المجنون

(3)

. وخففت الأحكام أيضًا عن المرأة، فلا تجب عليها جمعة

(4)

ولا جماعة

(5)

ولا جهاد

(6)

. وكذلك ما يتعلَّق بالرقاب ونحوها، كذلك أيضًا خُفف عن المملوك، إلى غير ذلك من الأحكام

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684/ 314)، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك".

(2)

وهو حديث المسيء صلاته، وقد سبق.

(3)

من ذلك ما أخرجه أبو داود (4403)، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل". وصححه الألباني فى: "إرواء الغليل"(297).

(4)

انظر: "الإجماع"، لابن المنذر (ص: 40)، وفيه قال:"وأجمعوا على أن لا جمعة على النساء".

(5)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 145)، وفيه قال:"ولم يختلف العلماء أن ليس على المرأة شهود جماعة كما هي على الرجل، كما أن لوليها أن يمنعها اختيارًا لا فرضًا، وما علمت في أن ليس على الرجل الإذن لامرأته إلى جمعة ولا إلى جماعة".

(6)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 335) وفيه قال: "واتفقوا أنه لا جهاد فرض على امرأة، ولا على من لم يبلغ، ولا على مريض لا يستطيع ولا على فقير لا يقدر على زاد".

(7)

من ذلك سقوط فريضة الجهاد عنه. انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 335) وفيه قال: "والجميع أجمعوا على أن النساء والأصاغر والعبيد غير داخلين في خطاب اللَّه تعالى وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ".

وأكثر أهل العلم على سقوط الجمع عنه كما سبق. انظر في ذلك: "الإشراف"، لابن المنذر (2/ 84).

ومن ذلك سقوط الجزية عنه. قال ابن القطان: "وأجمع المسلمون أن الجزية =

ص: 2044

وهناك أيضًا العسر وعموم البلوى

(1)

، وكذلك الأمور التي يبتلى بها الإنسان؛ كمن يبتلى بسلس البول من الرجال

(2)

، ومن تبتلى بالاستحاضة

(3)

من النساء، وكذلك خففت الشريعة في الأمور التي تلحق بالإنسان المشقة، أو يصعب عليه أن يتحرز منها

(4)

، والأحكام في ذلك كثيرة، وقصة أم سلمة عندما قالت: إني امرأة أطيل ذيلي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما يطهره ما بعده"

(5)

.

إذن الشريعة الإسلامية عندما تتبعها وإنعام النظر فيها

(6)

، نجد أنها

= لا تجب على النساء ولا على الصبيان ولا على العبيد". انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 355).

(1)

انظر: "البحر المحيط"، للزركشي (6/ 258) وفيه قال: قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: ومعنى قولنا: تعم به البلوى: أن كل أحد يحتاج إلى معرفته.

(2)

"سلس البول" هو استرساله وعدم استمساكه لحدوث مرض بصاحبه. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 285).

(3)

"الاستحاضة": هو أن يسيل منها الدم في غير أوقاته المعتادة. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"، للأزهري (ص: 46).

(4)

فعذر الشرع المستحاضة فيما يخرج منها من دم في غير أوقاته المعتادة، وأمرها بالوضوء لكل صلاة.

كما أخرج أبو داود (297)، وغيره، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم في "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة". وصححه الألباني في: "إرواء الغليل"(207).

وكذا عذر من به سلسل بول ومن كان على شاكلته. انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 247)، وفيه قال:" (والمبتلى بسلس البول، وكثرة المذي، فلا ينقطع، كالمستحاضة، يتوضأ لكل صلاة، بعد أن يغسل فرجه) وجملته أن المستحاضة، ومن به سلس البول أو المذي، أو الجريح الذي لا يرقأ دمه، وأشباههم ممن يستمر منه الحدث ولا يمكنه حفظ طهارته، عليه الوضوء لكل صلاة بعد غسل محل الحدث، وشده والتحرز من خروج الحدث بما يمكنه".

(5)

أخرج أبو داود (383)، عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر فقالت: أم سلمة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يطهره ما بعده". وصححه الألباني في: "صحيح أبي داود - الأم"(409).

(6)

أنعم النظر في الشيء، إذا أطال التفكر فيه. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (5/ 83).

ص: 2045

بحق قد قامت -كما قال العلماء- على أسس ثابتة مستقرة، روعي فيها أحوال الناس وحاجاتهم، فقامت على اليسر ورفع الحرج، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يذكر اللَّه تعالى ذلك أحيانًا بعد آية الوضوء

(1)

، وأحيانا بعد الصيام

(2)

، إلى غير ذلك

(3)

.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "يسروا ولا تعسروا"

(4)

، وقال للصحابيين الجليلين أبي موسى ومعاذ عندما ذهبا إلى اليمن:"يسرا ولا تعسرا، وبَشِّرَا ولا تنفرا"

(5)

.

وما خُيِّر الرسول صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا

(6)

، إذن هذه هي الشريعة، فيها يسر، ورفع للحرج، وعدم تضييق على الناس، وعدم وضع المشقة عليهم، كذلك هذه الشريعة قد قامت على العدل؛ لأن العدل ينافي الظلم، واللَّه سبحانه وتعالى قد حرَّم الظلم على نفسه،

(1)

من ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].

(2)

يقصد قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

(3)

كقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66].

(4)

أخرج البخاري (6125)، ومسلم (1734/ 8)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا".

(5)

أخرج البخاري (3038)، ومسلمٍ (1733)، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن قال:"يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا".

(6)

أخرج البخاري (3560)، ومسلم (2327/ 77)، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:"ما خُيِّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة اللَّه، فينتقم للَّه بها".

ص: 2046

وحرمه على عباده، قال تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وفي الحديث القدسي:"يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"

(1)

. واللَّه سبحانه وتعالى يأمر بالعدل، فيقول:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90].

إذن قامت هذه الشريعة على العدل "المقسطون على منابر من نور يوم القيامة"

(2)

. إذن هي شريعة قامت على التيسير والعدل.

ولا شك أن هذه الشريعة العظيمة، معك -أيها المؤمن- في كل مكان تصحبك في سفرك، فلم تخص بحكمها الحاضر وتنسى المسافر، لكنها عنيت بالمسافر حق العناية، فراعت ظروفه، وأدركت ما هو فيه من وحشة وغربة، فخففت عنه، ولا نقول بأن هذا لا يقع لكل الناس، وبحمد اللَّه قد تكلم العلماء السابقون عن ذلك، وتكلموا عمن ركب سفينة، فقطع فيها مسافة القصر في دقائق أو لحظات أو ساعات، فقالوا: يقصر الصلاة، ومثلها الآن الطائرة، وكذلك السيارة، وكانوا يضربون مثلًا لذلك بالسفن، وبمن ركب حصانًا جوادًا سريعًا، لو قطع المسافة في دقائق معدودة قصر الصلاة؛ لأن هذه نعمة ومنحة من اللَّه تعالى.

وقد أُشكِل على بعض الصحابة أن اللَّه تعالى قد رخَّص للمسافر أن يقصر الصلاة أربع ركعات، فترد إلى ركعتين، فأشكل عليهم ذلك؛ لأن أصل القصر إنما شرع؛ لأجل الخوف؛ لأن المؤمنين كانوا في أول حياتهم في حالة خوف، وهلع؛ لأن أعداءهم يطبقون عليهم من كل مكان

(3)

.

(1)

جُزء من حديث أخرجه مسلم (2577/ 55).

(2)

أخرج مسلم (1827/ 18)، عن عبد اللَّه بن عمرو قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن المقسطين عند اللَّه على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".

(3)

وكانت عائشة ترى ذلك، وأن اللَّه أذن به للمسافر في حال خوفه من عدو يخشى أن يفتنه في صلاته، فقد أخرج الطبري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تقول في السفر:"أتموا صلاتكم. فقالوا: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر ركعتين؟ فقالت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان في حرب وكان يخاف، هل تخافون أنتم؟ " لا.

ص: 2047

ومن المعلوم ما جاء في غزوة الأحزاب، قال تعالى:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} [الأحزاب: 10]، فكان أعداء المسلمين في كل مكان يتربصون بهم، ويتآمرون عليهم من داخلهم ومن خارجهم، حتى عندما جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. . .

إذن كان المؤمنون في خوف، فخفف اللَّه عنهم، فلما زال ذلك الخوف بقي الحُكم مستقرًّا

(1)

، أليس قد أمن الناس؟. عمر قبل يعلى بن أبي أمية، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"صدقة تصدق اللَّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته"

(2)

. ولا شك أنها صدقة، وهبة منه سبحانه وتعالى وعطف على عباده، فاللَّه سبحانه وتعالى أشد رحمة بعباده من الأُمِّ بولدها.

يخفف اللَّه تعالى على عباده، فعندما شرع لنا العبادات لم يشرعها ليكلفنا؛ فهو ليس بحاجة إلينا، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]، لكنه تعالى شرع هذا ليبتلينا، قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ليعلم الصادق من غيره

(3)

؛ ليعلم المخلص من غير المخلص؛ ليعلم مَن يشكر نعم اللَّه تعالى، ومَن يكفرها؛ ليعلم من يتقي اللَّه سبحانه وتعالى؛ فيجعل له من أمره مخرجًا، إذن السفر سبب من أسباب التخفيف، بل وضعه العلماء في قائمة الأسباب فقدموا به.

(1)

مما يدل على ذلك ما أخرجه البخاري (1083)، واللفظ له، ومسلم (696/ 20)، عن حارثة بن وهب، قال:"صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين". قال الحافظ ابن حجر: "وفيه رد على من زعم أن القصر مختص بالخوف". انظر: "فتح الباري"(2/ 564).

(2)

أخرج مسلم (686/ 4)، عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب {الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"صدقة تصدق اللَّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته".

(3)

قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].

ص: 2048

قال المصنف رحمه الله: (وَهَذَا البَابُ فِيهِ فَصْلَانِ، الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي القَصْرِ. الفَصْلُ الثَّانِي: فِي الجَمْعِ).

يقول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، والقصد بالضرب هنا إنما هو السفر

(1)

، والضرب في الأرض يختلف، فمن الناس من يسافر في طاعة للَّه سبحانه وتعالى، إما حاجًّا أو معتمرًا أو مجاهدًا أو مسافرًا لطلب العلم، والاشتغال به، ومنهم مَن يضرب في الأرض؛ لطلب أمر مباح، كأن يشتغل بالتجارة، وأيضًا من الضرب في طاعة اللَّه الاشتغال في الدعوة، والتنقل في بلاد المسلمين، لدعوة الناس للخير، وغير ذلك.

ومن الناس مَن يسافر أيضًا في أسفار مباحة، كأن يذهب للصيد، أو للنزهة وغيرها، ومن السفر ما يكون لمعصية اللَّه، وسيأتي اختلاف العلماء فيمَن سافر في معصية اللَّه، كمن سافر ليسرق، أو يقطع الطريق، أو ليزني، أو ليؤذي المؤمنين، فهل هذا يقصر صلاته أو يجمع بين الصلاتين؟

سيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه، وهو مما تناوله المؤلف، وسنقف عنده إن شاء اللَّه في موضعه.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(1)

قال الماوردي: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: سرتم؛ لأنه يضرب الأرض برجله في سيره كضربه بيده، ولذلك سُمِّيَ السفر في الأرض ضَرْبًا. انظر:"النكت والعيون"(1/ 522، 523).

ص: 2049

‌(الفَصلُ الأولُ: فِي القَصْرِ

وَالسَّفَرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي القَصْرِ بِاتِّفَاقٍ، وَفِي الجَمْعِ بِاخْتِلَافٍ. أَمَّا القَصْرُ، فَإِنَّهُ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ

(1)

إِلَّا قَوْلًا شَاذًّا، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ: وَهُوَ أَنَّ القَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْخَائِفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا قَصَرَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَائِفًا

(2)

، وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا: فِي حُكْمِ القَصْرِ. وَالثَّانِي: فِي المَسَافَةِ الَّتِي يجِبُ فِيهَا القَصْرُ. وَالثَّالِثُ: فِي السَّفَرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ القَصْرُ. وَالرَّابِعُ: فِي المَوْضِعِ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ المُسَافِرُ بِالتَّقْصِيرِ. وَالخَامِسُ: فِي مِقْدَارِ الزَّمَانِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ فِيهِ إِذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ. فَأَمَّا حُكْمُ القَصْرِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ القَصْرَ هُوَ فَرْضُ المُسَافِرِ المُتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ القَصْرَ وَالإِتْمَامَ كِلَاهُمَا فَرْضٌ مُخَيَّرٌ لَهُ كَالخِيَارِ فِي وَاجِبِ الكَفَّارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ القَصْرَ سُنَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَأَنَّ الإِتْمَامَ أَفْضَلُ، وَبِالقَوْلِ الأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ،

(1)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 165)، وفيه قال:"وقصر النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته وفي مغازيه من غير خوف. واتفق الجميع أن القصر في ذلك جائز. وجمهور العلماء على أن القصر أفضل من الإتمام، وهو المشهور من فعله صلى الله عليه وسلم".

(2)

سبق ذكر هذا.

ص: 2050

وَأَصْحَابُهُ، وَالكُوفِيُّونَ بِأَسْرِهِمْ، أَعْنِي: أَنَّهُ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ

(1)

، وَبِالثَّانِي قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ

(2)

، وَبِالثَّالِثِ، أَعْنِي: أَنَّهُ سُنَّةٌ. قَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ

(3)

. وَبِالرَّابعِ أَعْنِي: أَنَّهُ رُخْصَة. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَهُوَ المَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ

(4)

. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ المَعْقُولِ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ المَنْقُولِ، وَمُعَارَضَةُ دَلِيلِ الفِعْلِ أَيْضًا لِلْمَعْنَى المَعْقُولِ، وَلِصِيغَةِ اللَّفْظِ المَنْقُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ المَفْهُومَ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ إِنَّمَا هُوَ الرُّخْصَةُ لِمَوْضِعِ المَشَقَّةِ، كَمَا رُخِّصَ لَهُ فِي الفِطْرِ، وَفي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ)

(5)

.

* قوله: (الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي القَصْرِ، وَالسَّفَرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي القَصْرِ بِاتِّفَاقٍ).

أولًا: أجمع العلماء على أن القصر مشروع، ولا خلاف بين العلماء في مشروعيته

(6)

، لكنهم يختلفون في حكمه، ففرق بين اختلافهم في مشروعيته، وبين اختلافهم في حكمه، أهو واجب أو سنة؟ القصر أفضل أم الإتمام مع كونه مشروعًا؟

كلُّ العلماء مجمعون على أن القصر مشروع؛ إذ الدليل على قصر الصلاة من الكتاب والسنة والإجماع؛ أما الكتاب فدليله الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101].

(1)

سيأتي.

(2)

سيأتي.

(3)

سيأتي.

(4)

سيأتي.

(5)

سيأتي.

(6)

سبق نقل الإجماع.

ص: 2051

وأما السنة فأحاديث كثيرة جدًّا، لا نريد أن نستقصيها، لأنها -إن شاء اللَّه- ستمر بنا في كل باب من أبواب صلاة المسافر، لكن من تلك الأحاديث حديث عائشة المتفق عليه قالت:"فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر"

(1)

.

وما ورد من أحاديث كثيرة، كحديث أنس

(2)

، وقصة عبد اللَّه بن عمر

(3)

، وكذلك عمران بن حصين وغيره

(4)

، عندما صاحبوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أسفاره، فكان يقصر الصلاة، وحديث:"إن اللَّه وضع للمسافر الصوم وشطر الصلاة"

(5)

، أي: خفف عنه الصوم، بمعنى: أنه يصوم بعد ذلك، ووضع عنه كذلك شطر الصلاة، والأدلة في ذلك كثيرة، لكننا نعود إلى الآية، فعندما نزلت أخذ المسلمون يقصرون الصلاة، ثم بعد ذلك حصل إشكال بينهم، وممن أشار إليهم المؤلف عائشة

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (350)، ومسلم (685/ 1).

(2)

أخرج البخاري (1081)، ومسلم (693/ 15)، عن أنس بن مالك، قال:"خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع"، قلت: كم أقام بمكة؟ قال: "عشرًا".

(3)

أخرج البخاري (1102)، واللفظ له، ومسلم (689/ 8)، عن عيسى بن حفص بن عاصم، قال: حدثني أبي: أنه سمع ابن عمر، يقول:"صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك رضي الله عنهم".

(4)

أخرج أبي داود (1229)، عن عمران بن حصين، قال:"غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة، لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: "يا أهل البلد، صلوا أربعًا فإنا قوم سفر"، وضعفه الألباني في: "ضعيف أبي داود - الأم" (225).

(5)

أخرج أبو داود (2408)، عن أنس بن مالك، رجل من بني عبد اللَّه بن كعب إخوة بني قشير، قال: أغارت علينا خيل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فانتهيت، أو قال: فانطلقت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يأكل، فقال:"اجلس فأصب من طعامنا هذا"، فقلت: إني صائم، قال:"اجلس أحدثك عن الصلاة، وعن الصيام، إن اللَّه تعالى وضع شطر الصلاة، أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر، وعن المرضع، أو الحبلى". وصححه الألباني في: "مشكاة المصابيح"(2025).

(6)

سبق.

ص: 2052

* قوله: (وَالسَّفَرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي القَصْرِ بِاتِّفَاقٍ، وَفِي الجَمْعِ بِاخْتِلَافٍ).

قوله: له تأثير في القصر باتفاق، لأنه لا خلاف بين العلماء؛ لأن دليل ذلك الكتاب والسنة، وأجمع العلماء على مشروعية القصر أيضًا (1)، لكن الجمع محل خلاف، فمن المعلوم أنَّ من العلماء مَن لا يرى الجمع، ومنهم من يرى أن الجمع رخصة، وأنه مطلوب، ومنهم مَن يرى أنه جمع صوري كما سنعرف ذلك في مذهب الحنفية: تؤخر الأولى؛ كالظهر، إلى العصر، وتقدم العصر في أول وقته، ثم تصلي هذه في آخر وقتها وتلك في أول وقتها (2).

فلم يقع بين العلماء خلاف في ذلك (3)، إلا الرأي الشاذ الذي يذكره المؤلف، ونسب إلى عائشة رضي الله عنها، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل في عجالة، وقد اقتصرنا على مقدمة فقط بيَّنَّا فيها أهمية السفر والعناية به، وتخفيف الشريعة الإسلامية، وعنايتها بالمسلم والتخفيف عنه، إلى آخر ذلك، وهذا سنتناوله -إن شاء اللَّه- في مواقف كثيرة، عندما نأتي إلى الحديث قصر الصلاة، وهل هي خاصة بمن يسافر متقربًا إلى اللَّه سبحانه وتعالى، أو في طاعة اللَّه؟ وهل يختلف الحال عمن يسافر سفر طاعة أو سفر معصية؟

* قوله: (أَمَّا القَصْرُ فَإِنَّهُ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ إِلَّا قَوْلًا شَاذًّا، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ).

وهنا نقل عن عائشة أنها ترى الإتمام، وهذا -كما ذكر المؤلف- قول شاذ نسب إليها وعائشة لها وجهة نظر؛ حيث إنها فهمت أن القصر إنما شرع لسبب، والقصر -بلا شك- إنما شرع بسب الخوف، حيث كان المسلمون في أول أمرهم يسافرون خائفين، وسيأتي -إن شاء اللَّه-

ص: 2053

الحديث عن صلاة الخوف، وأشكل إذا زال العذر على بعض الصحابة؛ فمنهم مَن سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كعمر، ثم أشكل على يعلى بن أمية، فسأل عمر عن الآية:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت عن ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"صدقة تصدق اللَّه بها عليكم، فاقبلوا الصدقة"

(1)

.

إذن هي فضل وإحسان وإنعام من اللَّه سبحانه وتعالى، وتخفيف على عباده، وعليهم أن يقبلوا هذه المنحة، وهذه الصدقة وهذه العطية من اللَّه سبحانه وتعالى، فهو في كل أمر متفضل على عباده، وكل ما يأتي العباد من اللَّه سبحانه وتعالى إنما هو فضل منه وإحسان وإكرام لهم.

وقد حقَّق ابن القيم رحمه الله هذه المسألة، وبيَّن أن عائشة ظنَّت، أو ما يقال عن عائشة أنها ظنت أن السبب قد زال، وهو الخوف، فيزول حينئذ القصر، فيبقى الحكم على أصله، وهو الإتمام

(2)

، وقلنا أن هذا قول شاذ كما ذكر المؤلف، ولا ننسى أن عائشة نفسها مما روت أحاديث القصر، ومنها الحديث المتفق عليه:"فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، وأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر"

(3)

، وكذلك أيضًا الأحاديث الأخرى التي ستأتي عنها، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقصر وكانت هي تتم، وكان صلى الله عليه وسلم يفطر، وكانت تصوم

(4)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 448) وفيه قال: "قيل إن عائشة ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنًا وكان يقصر الصلاة".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه الدارقطني في "السنن"(3/ 162)، عن عائشة، قالت: خرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان، فأفطر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت، فقال:"أحسنت يا عائشة". =

ص: 2054

* قوله: (أَمَّا القَصْرُ فَإِنَّهُ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَصرِ الصلَاةِ لِلْمُسَافِرِ، إِلَّا قَوْلًا شَاذًّا، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ: وَهُوَ أَنَّ القَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْخَائِفِ).

من المعلوم أن هذا رأي عائشة، ومثله قول عمر، لكنه سأل، وكذلك أيضًا يعلى بن أمية، وكون عائشة رأت هذا الرأي ليس أمرًا مستغربًا، لأن الصحابة يختلفون، وكلهم يريد الوصول إلى الحقِّ، وعائشة كانت تُتِمُّ كما سيأتي.

* قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا قَصَرَ، لِأَنَّهُ كانَ خَائِفًا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ).

هذا القول الذي روي عن عائشة ذكره ابن جرير في تفسيره

(1)

، وقد نقل هذا عن عائشة، واشتهر عنها، وعائشة قد فهمت من الآية أن القصر إنما كان لأجل الخوف، فلما زال الخوف وحلَّ الأمن، زال سبب القصر، فزال القصر، هذا الذي فهمته عائشة، والكلام هنا كثير جدًّا.

وممَّن تكلم عن هذه المسألة، وحقق القول فيها ودقَّقه، العالم الإمام ابن القيم رحمه الله كما سبق، ومعلوم عنه أنه عندما يحقق في مسألة، فإنه لا ينتهي منها حتى يستقصي كُلَّ ما فيها فقد تكلم عن هذه المسألة، وبيَّن أن عائشة رضي الله عنها إنما فهمت أن ذلك لأجل الخوف، وأنه لمَّا زال الخوف زال سببه، مع أن الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سافر حاجًّا، وسافر معتمرًا، وسافر غازيًا، وفي كل أسفاره صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة

(2)

.

= قال ابن الملقن: "وقال الخلال في "علله" عن أحمد: حديث منكر". انظر: "التوضيح"(13/ 314).

(1)

تقدَّم.

(2)

سبق.

ص: 2055

وفي حديث عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما قد بيَّن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سافر إلى مكة، ولم يخرج خائفًا وكان يصلي ركعتين

(1)

، وفي الحديث الآخر أنه خرج آمنًا

(2)

، وخير دليل على ذلك قصة يعلى بن أمية لما جاء إلى عمر رضي الله عنه، فقال: أليس اللَّه سبحانه تعالى يقول: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وقد أذن الناس، فقال عمر رضي الله عنه ردًّا عليه: عجبت مما عجبت منه، يعني: هذا الذي وقع في ذهن يعلى وقع أيضًا قبل ذلك في ذهن عمر رضي الله عنه، لكنه سارع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ليسأله، فيعرف الحكم فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"صدقة تصدَّق اللَّه بها عليكم، فاقبلوا الصدقة"

(3)

. فالناس إذا تصدقوا لا ينبغي أن يرجعوا، وقد جاء في الحديث:"العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه"

(4)

.

واللَّه سبحانه وتعالى إذا أعطى عطاءً فهو يعطي سبحانه وتعالى ولا تفنى خزائنه، ولا تقل خزائنه، فإذا أعطى فهذا العطاء صدقة وفضل، وقد جاء في الحديث الآخر:"أن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى عزائمه"

(5)

، كما أن اللَّه تعالى يحبّ من المؤمن أيضًا أن يأخذ بالأمور التي تصدق عليه بها، والأمور التي أحسن إليه بها، وكذلك الرخص التي رخَّص اللَّه بها، ومنها ما جاء في السفر، فلا يريد من المؤمن أن يخرج عن طاعة اللَّه، ولا يريد من المؤمن أن يتجاوز حدود اللَّه، ولا يريد منه أيضًا أن يتعدَّى حدود اللَّه؛ لأن مَن تعدَّى حدود اللَّه سبحانه وتعالى، فقد ظلم نفسه، ونهاه أن يعتدي، قال صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم، فلا تسألوا عنها"

(6)

.

(1)

تقدَّم من حديث الترمذي.

(2)

تقدَّم من حديث حارثة بن وهب كما في الصحيحين.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري (2589)، ومسلم (1622/ 8)، عن ابن عباس.

(5)

أخرج أحمد في "مسنده"(5866)، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته". وصححه الأرناؤوط.

(6)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(5/ 325)، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال =

ص: 2056

إذن فاللَّه سبحانه وتعالى سكت عن كثير من الأشياء؛ رحمةً بنا، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن أشياء سكت عنها خشية أن تفرض على المؤمنين

(1)

، ولذلك تحيَّر الصحابة رضي الله عنهم أحيانًا في بعض المسائل، يريدون أن يعرفوا حكمها، فيحرجون أن يسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن النهي عن ذلك، فيفرحون ويسعدون إذا جاء أحد الناس من البادية؛ ليسأل عن ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

. فانظر إلى آداب الصحابة رضي الله عنهم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك غريبًا عليهم؛ لأنهم أبناء المدرسة المحمدية التي تربوا فيها، فنهلوا منها وتغذوا غذاءً كاملًا، فنقلوه للأجيال بعدهم.

وبهذا نتبين أن هذه الشريعة -كما مرَّ- قد قامت على اليسر، والسماحة، وقد استوعبت كل ما يحتاج إليه الناس، ففيها خصوبة، وفيها استغراق لكل ما يجِدُّ من حوادث، وما يقع من نوازل، وما يتجدد من وقائع.

هناك أحكام عدَّة نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى قد رخَّص فيها لعباده لسبب من الأسباب، فزالت تلك الأسباب، ولكن يبقى الحكم مستقرًّا، ومن تتبع أحكام الشريعة يجد أمثلة عدة لذلك.

ويمكن أن نجمع بين قولي عائشة؛ بأن من أعلم الناس بأُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ابن أختها عروة ابن الزبير، فإنَّه لما رآها روت حديث القصر،

= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها". وضعفه الألباني في: "مشكاة المصابيح"(197).

(1)

من ذلك ما أخرجه مسلم (1337/ 412)، عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيها الناس قد فرض اللَّه عليكم الحج، فحجوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا. . . الحديث".

(2)

أخرج مسلم (15112)، عن أنس بن مالك، قال: نهينا أن نسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع.

ص: 2057

وكانت تتم، سألها عن ذلك فقالت:"إنني لا أجد مشقة"

(1)

. ومعلوم أن التخفيف في السفر في الشريعة إنما هو للمشقة أو مظنة المشقة، وليس تحقُّقِها.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي حُكْمِ القَصْرِ).

تكلمنا عن حكم القصر فيما مضى، وألمحنا إليه آنفًا، وسنزيده بيانًا.

* قوله: (وَالثَّانِي: فِي المَسَافَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا القَصْرُ).

هل هناك مسافة محددة ينبغي أن يقصر فيها الإنسان الصلاة، أي: إذا أراد الإنسان أن يسافر سفرًا هل يشترط في السفر أن يكون طويلًا؟ أم أن أيّ سفر تقصر فيه الصلاة؛ لأن النصوص الشرعية جاءت مطلقةً في ذلك؟

* قوله: (وَالثَّالِثُ: فِي السَّفَرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ القَصْرُ).

ما هو السفر الذي تقصر فيه الصلاة؟ هل كلُّ سفر من الأسفار؟ فهناك مَن يسافر قربةً للَّه سبحانه وتعالى، وقد يكون أداء المسافر لهذه القُربة واجبًا؛ كمن يسافر لأداء ركن الحج، أي: الذي لم يحج قبل ذلك، وكذلك أيضًا مَن يؤدي العمرة في حالة وجوبها، يعني: قبل أن يؤدي الواجب الذي عليه، وقد يكون السفر مندوبًا؛ كالجهاد، وكالسفر في طلب العلم، والدعوة إلى اللَّه سبحانه وتعالى، هذه كلها من الأمور التي يتقرَّب بها المسلم إلى اللَّه سبحانه وتعالى، ولا شكَّ أن من أجلِّ القربات أن يسافر الإنسان في طلب

(1)

أخرج البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 204)، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها "أنها كانت تصلي في السفر أربعًا، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أختي، إنه لا يشق علي".

ص: 2058

العلم الذي يبتغى به وجه اللَّه سبحانه وتعالى، ومعلومٌ ما ورد في فضل العلم وطلبه

(1)

.

وقد يكون السفر مباحًا؛ كمَن يسافر للتجارة، وهذا ممَّا أباحته الشريعة، وقد سافر الرسول صلى الله عليه وسلم في التجارة -كما هو معلوم- إلى الشام في تجارة خديجة، التي أصبحت بعد ذلك إحدى أمهات المؤمنين، كذلك كان الصحابة يسافرون، وكانوا يتاجرون، كذلك من الأسفار المباحة السفر للصيد، فإن الإنسان قد يسافر للصيد، وقد يسافر أيضًا للنزهة وهذا أيضًا من السفر الجائز، وهناك من يسافر في معصية اللَّه سبحانه وتعالى وهذا هو المحظور الذي لا ينبغي أن يقع فيه المؤمن؛ لأن ذلك من نكران النعمة، والمسلم مطالب بأن يشكر اللَّه سبحانه وتعالى، وألا يخرج على حدوده، فهناك مَن يسافر في معصية اللَّه، وكل هذه الأمور سيأتي الكلام عنها إن شاء اللَّه.

* قوله: (وَالرَّابعُ: فِي المَوْضِعِ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ المُسَافِرُ بِالتَّقْصِيرِ).

من أين يبدأ السفر؟ وإن كنا سنفصِّل هذه المسألة، لكن سنقدم لها: هل يبدأ السفر بمعنى القصر من حين أن ينوي الإنسان أو عندما يفارق البيوت؟

لا، إنما يُبدأ بالقصر عندما يخرج من بيوت البلد، ولا يلزم أن يتجاوز حيطانها وبساتينها ومزارعها ومصانعها، وإنما القصد أن يغادر ما هو مقيم فيه، أي: البلدة التي أُعِدَّت للإقامة

(2)

، وأما ما نُقِل عن بعض

(1)

من ذلك ما أخرجه أبو داود (3641)، عن أبي الدرداء قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك اللَّه به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لنضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء. . . الحديث". وحسنه الألباني في: "مشكاة المصابيح"(212).

(2)

انظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 204) وفيه قال: "أجمع أهل العلم من كل من نحفظ عنه على أن الذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي منها يخرج". .

ص: 2059

التابعين من أنه إذا أراد السفر فله أن يقصر في داره، فهذا لا دليل عليه، وهو ضعيف

(1)

.

* قوله: (وَالخَامِسُ: فِي مِقْدَارِ الزَّمَانِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ فِيهِ إِذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ).

قد يسافر إنسان إلى بلد، كأن يذهب من المدينة إلى مكة، فيقيم فيها، وهذه الإقامة تختلف باختلاف الأحوال، قد يذهب إلى هناك ليؤدي نسكًا، فيبقى ليقضي حاجة من حاجاته وهو لا يدري في أي يوم ستنتهي، إذن هو لا يعرف الوقت الذي سيسافر فيه، فهذا له حال.

وإنسان آخر قد يسافر إلى بلد يعرف أنه سيمكث فيه مدةً معينةً، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء في هذه الحالة: هل هناك زمن محدد لا يجوز للإنسان أن يقصر فيه الصلاة إذا تجاوز أو لا؟ ثلاثة أيام؟ أربعة أيام؟ يضاف إليها عشرة أيام، خمسة عشر يومًا، ثمانية عشر يومًا، تسعة عشر يومًا، هذه كلها أيضًا محلُّ خلاف، أو كلها فيها اختلاف بين العلماء والأقوال فيها متعددة

(2)

.

(1)

انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (4/ 349). وفيه قال: "وحكى ابن المنذر عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلى بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال وروينا معناه عن عطاء وسليمان بن موسى. . . ومذهب عطاء وموافقيه منابذ لاسم السفر".

(2)

اختلف الفقهاء في المدة التي يُقطع بها السفر ويأخذ المسافر فيها حكم المقيم. فذهب الأحناف إلى أنه إذا جاوز خمسة عشر يومًا صار مقيمًا ولا يمكنه القصر، وذهب المالكية والحنابلة والشافعية في قول إلى أنه لو أقام أربعة أيام انقطع حكم السفر والقول الآخر للشافعية وافقوا فيه الأحناف.

انظر في مذهب الأحناف: "العناية شرح الهداية"، للبابرتي (2/ 34)، وفيه قال:" (ولا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يومًا) وقوله (أو أكثر) زائد (وإن نوى أقل من ذلك قصر) عندنا".

وانظر: "المحيط البرهاني"، لابن مازه (2/ 26).

وانظر في مذهب المالكية: "حاشية الصاوي"(1/ 481)، وفيه قال: " (و) قطعه (نية =

ص: 2060

* قوله: (فَأَمَّا حُكْمُ القَصْرِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ).

إذن هناك خلاف في القصر؛ فهناك مَن يرى أن القصر واجب، بمعنى: أن فرض كل مسافر أن يقصر الصلاة، ولا يجوز له أن يصلي الصلاة أربعًا، هذا قول.

القول الثاني: القصر والإتمام كلاهما مشروع، لكن القصر أفضل.

القول الثالث: كلاهما مشروع، لكن الإتمام أفضل؛ لأنه الأصل.

وهناك أيضًا مَن يرى أن الإتمام مكروه، وهناك أقوال أُخرى ذكرت في هذا المقام

(1)

.

* قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ القَصْرَ هُوَ فَرْضُ المُسَافِرِ المُتَعَيَّنُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ القَصْرَ وَالإِتْمَامَ كِلَاهُمَا فَرْضٌ).

يعني -باختصار- مَن قال من أهل العلم أن القصر واجب قد استدلُّوا بدليلين:

= إقامة أربعة أيام صحاح): تستلزم عشرين صلاة وإلا فلا (أو العلم بها)، أي: بإقامة الأربعة الأيام في محل (عادة) بأن كانت عادة القافلة أن تقيم في ذلك المحل أربعة أيام فإنه يتم (لا الإقامة) المجردة عن كونها أربعة أيام، كالمقيم لحاجة متى قضيت سافر فإنها لا تقطع القصر (ولو طالت) ". وانظر:"الإشراف على مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 309).

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (2/ 376)، وفيه قال:" (ولو نوى) المسافر وهو مستقل (إقامة) مدة مطلقة أو (أربعة أيام) بلياليها (بموضع) عينه قبل وصوله (انقطع سفره بوصوله)، وإن لم يصلح للإقامة أو نواها عند وصوله أو بعده وهو ماكث انقطع سفره بالنية أو ما دون الأربعة لم يؤثر، أو أقامها بلا نية انقطع سفره بتمامها أو نوى إقامة وهو سائر لم يؤثر". وانظر القول الآخر في: "البيان"، للعمراني (2/ 473).

وانظر في مذهب الحنابلة: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 182)، وفيه قال:""وإن أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة تقطع حكم السفر ولا يعلم قضاء الحاجة قبل المدة ولو ظنًّا أو حبس ظلمًا أو حبسه مطر أو مرض ونحوه - قصر أبدًا فإن علم أنها لا تقضي في أربعة أيام لزمه الإتمام".

(1)

ستأتي هذه الأقوال.

ص: 2061

الدليل الأول: هو حديث عائشة المتفق عليه: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر"

(1)

.

إذن الأصل في فرضية الصلاة أنها "ركعتين ركعتين" بقيت صلاة السفر على حالها، وزيد في صلاة الحضر، فصارت أربعًا، قال هؤلاء العلماء: هذا دليل على وجوبها، إذن أول دليل من أدلة الذين يقولون بوجوب القصر هو هذا.

الدليل الثاني: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء العلماء قالوا: لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم دليل صحيح أنه أتم الصلاة، بل كان في جميع أسفاره يقصرها صلى الله عليه وسلم

(2)

. وما نقل عن عائشة أنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفطر وأصوم ويقصر وأتمُّ

(3)

. قالوا: ذلك حديث ضعيف

(4)

.

وسيأتي الكلام والتنبيه عليه إن شاء اللَّه، فهذا هو دليل الذين يقولون بوجوب القصر.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ القَصْرَ وَالإِتْمَامَ كِلَاهُمَا فَرْضٌ مُخَيَّرٌ لَهُ، كَالخِيَارِ فِي وَاجِبِ الكَفَّارَةِ).

ليست القضية قضية واجب، ومراد المؤلف أنَّ من يقصر الصلاة فقد أصبح فرضه بمعنى: أنه يلزمه أن يؤدي الركعتين، ومن يصليها أربعًا يعني:

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

انظر: "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب"، لجمال الدينا لأنصاري (1/ 295)، وفيه قال في وجوب القصر:"فلو جاز الإتمام لفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرة بيانًا للجواز، ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته". أمرٌ، والأمر للوجوب. ويؤيد هذا ما روى مسلم: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "فرض اللَّه الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة".

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

انظر: "التحقيق في مسائل الخلاف" لابن الجوزي (1/ 494) وفيه قال: "وقد اعترض على هذا الحديث بعض الفقهاء فقال يرويه مغيرة بن زياد وقد ضعفه أحمد وقال أبو زرعة لا يحتج بحديثه".

ص: 2062

إتمامًا فإنه قد أدَّى الواجب، فإن هو أدى هذا أو أدى ذاك، اعتُبر بذلك مؤدٍّ للواجب.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ القَصْرَ سُنَّةٌ).

لماذا كان القصر سنة؟ ما أدلة هؤلاء؟

إذا نظرنا إلى عموم الأدلة فدليل هذا القول الكتاب والسنة.

أولًا الكتاب: الدليل من الكتاب قول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101].

إذن هذه الآية فيها دلالة على جواز قصر الصلاة، ثم جاءت الأحاديث فبينت سنة ذلك، إذن دلَّت هذه الآية على أن الأصل في الصلاة أن تتم، لكن اللَّه سبحانه وتعالى خفف على المؤمنين فجعل الأربع اثنتين، ومعلوم أن صلاة الفجر لا تقصر، وكذلك المغرب.

إذن الصلوات التي تقصر هي الظهر والعصر والعشاء، وما عداها فلا

(1)

.

قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ، أي: لا إثم عليكم في أن تقصروا الصلاة الرباعية، فتصلوها ركعتين، وتكونون بذلك قد أدَّيتم ما وجب عليكم، وما فرض اللَّه سبحانه وتعالى عليكم في هذا المقام.

واللَّه تعالى في هذه الآية قد خفَّف عن عباده، وهو عندما خفَّف عنهم كانوا أحوج ما يكونون إلى التخفيف؛ لأنهم كانوا في حالة خوف، وسبق أن تكلمنا عن ذلك، وبينا الحالة التي كان عليها المسلمون في أول

(1)

انظر: "الإجماع"، لابن المنذر (ص: 41)، وفيه قال:"وأجمعوا على أن لمن سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة مثل: حج أو جهاد أو عمرة أن يقصر الظهور والحصر العشاء، يصلي كل واحدة منها ركعتين ركعتين. وأجمعوا على أن لا يقصر في المغرب، ولا وفي الصلاة الصبح".

ص: 2063

الأمر، فقد كانوا مستضعفين بمكة، والجميع يعلم كيف كان يعاني المسلمون من الأذى، ومن العذاب الذي ينزل بهم بجميع أنواعه من المشركين، لكنهم صبروا، فما وهنوا وما ضعفوا، فبقوا على عقيدتهم، وتحملوا الأذى في سبيل اللَّه، وهاجر مَن هاجر منهم إلى الحبشة، ثم بعد ذلك هاجروا إلى المدينة، إلى هذه البلدة الطيبة، ثم بعد ذلك نصر اللَّه المؤمنين، فبدأت تقوى شوكتهم، وقد أعزَّهم اللَّه سبحانه وتعالى وأخذ نفوذ الدولة الإسلامية تمتدّ يمينًا وشمالًا، وأخذ الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجًا، فعمَّ الجزيرة العربية، ثم بعد ذلك امتدَّ شرقًا وغربًا، حتى شمل كثيرًا من أقطار الدنيا، وأصبح أيضًا نور الإسلام ينتشر في كل مكان.

ففي هذه الآية دليل على أن اللَّه سبحانه وتعالى خفَّف عن عباده، وإذا كان اللَّه تعالى خفف عن عباده إذا سافروا، وضربوا في هذه الأرض، فذلك دليل على أن القصر ليس واجبًا؛ لأن التخفيف من الأربع إلى الاثنتين دليل على أن ذلك تيسير، وأن الاثنتين ليستا بواجبتين

(1)

.

وقصة يعلى بن أمية أيضًا عندما أُشكِل عليه ما تتضمنه هذه الآية؛ لأنَّه يدرك تمامًا أن هذه الآية نزلت لسبب، وأن هذا السبب إنما هو الخوف، فهو الذي أدَّى إلى قصر الصلاة من أربع إلى اثنتين، ففهم أنه قد زال الخوف، ففهم أنه إذا زالت العلة زال الحكم فعاد إلى أصله، وهناك قاعدة معروفة: الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا

(2)

. ثم اتَّجه إلى

(1)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 339، 340)، وفيه قال على عدم وجوب القصر:"واحتج أصحابنا بقول اللَّه تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}، قال الشافعي ولا يستعمل لا جناح إلا في المباح؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، واحتجوا بحديث عبد الرحمن بن يزيد في إتمام عثمان ولو كان القصر واجبًا لما وافقوه على تركه".

(2)

انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 80) وفيه قال في تبيين هذه القاعدة: "إذا علق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالهما؛ كالخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خلًّا زال الحكم، وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها، والشريعة مبنية على هذه القاعدة".

ص: 2064

عمر رضي الله عنه؛ ليسأله، فبيَّن له عمر رضي الله عنه وهو المعروف بحصافة عقله ورجحانه-، وهو الذي نزل القرآن مؤيدًا له في خمسة مواضع، وسبق أن تكلمنا عن تلك المواضع، وقد تأتي مناسبة ونتكلم عنها، ومنها ما جاء في أسرى بدر، وكذلك في أمر الحجاب، وفي الصلاة عند المقام، إلى غير ذلك مما ورد في هذه عن عمر رضي الله عنه

(1)

.

فلما جاء يعلى بن أمية إلى عمر يسأله قال له عمر: عجبت مما عجبت منه، فيعلى عجب وكذلك عمر، ولكن عمر رضي الله عنه سارع، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الحكم فقال:"صدقة تصدق اللَّه بها عليكم"

(2)

. فكونها

(1)

أخرجه مسلم (2399/ 24)، عن ابن عمر، قال: قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث، في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر".

والموافقة الرابعة في شأن نساءه لما اجتمعن عليه، كما أخرجه البخاري (402)، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، "وافقت ربي في ثلاث:

واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن:(عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن)، فنزلت هذه الآية".

والموافقة الخامسة في الصلاة على المنافقين: أخرج البخاري (4672)، ومسلم (2400/ 25)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: لما توفي عبد اللَّه بن أبي، جاء ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه، وأمره أن يكفنه فيه، ثم قام يصلي عليه فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه، فقال: تصلي عليه وهو منافق، وقد نهاك اللَّه أن تستغفر لهم؟ قال: إنما خيرني اللَّه -أو أخبرني اللَّه- فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال: سأزيده على سبعين قال: فصلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصلينا معه، ثم أنزل اللَّه عليه:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} .

والموافقة السادسة: في الأمر بتحريم الخمر، أخرج أبو داود (3670)، عن عمر بن الخطاب، قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء، فنزلت الآية التي في البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} . .، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء، فنزلت هذه الآية {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(ص: 2).

(2)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2065

صدقة دليل على أنها تتضمن التيسير والتخفيف ورفع العناء، وهذا تيسير من اللَّه سبحانه وتعالى، فهذا يدلُّ على أن القصر غير واجب، ثم ثبت عن عدد من الصحابة، فقد نقل عن عائشة أنها كانت تتم

(1)

، وعن عثمان رضي الله عنه

(2)

، وعن سعد بن أبي وقاص

(3)

، وعن عبد اللَّه بن عمر

(4)

، وعن غير هؤلاء من الصحابة ومن التابعين، أنهم كانوا يتمون الصلاة.

وبهذا يتبين أن القصر ليس واجبًا، لكننا نقول: إن القصر أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم داوم عليه وفعله في كل أسفاره

(5)

، وهو لا يداوم صلى الله عليه وسلم إلا على ما كان فيه فضل، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عبدًا شكورًا، ومعلوم أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ولما قيل له في ذلك: أليس اللَّه قد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ، فقال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ "

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (1090)، ومسلم (685/ 3)، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:"أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر" قال الزهري: فقلت لعروة: "ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت كما تأول عثمان".

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(443)، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن أبيه: أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات، فأنكره الناس عليه، فقال: يا أيها الناس، إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم". قال الأرناؤوط: "إسناده ضعيف".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 560)، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لا أعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يوفي الصلاة في السفر إلا سعد بن أبي وقاص قال: "وكانت عائشة توفي الصلاة في السفر وتصوم" قال: وسافر سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأوفى سعد الصلاة وصام، وقصر القوم وأفطروا فقالوا لسعد: كيف يفطرون ويقصرون وأنت تتمها وتصوم؟ قال: "دونكم أمركم؛ فإني أعلم بشأني" قال: فلم يحرمه عليهم سعد ولم ينههم عنه.

(4)

ذكره عنه ابن قدامة، فقال:"وممن روي عنه الإتمام في السفر: عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم". انظر: "المغني"(2/ 197).

(5)

لحديث ابن عمر أن قال: "صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك رضي الله عنهم: وقد تقدم.

(6)

أخرج البخاري (4837)، ومسلم واللفظ له (2820/ 81)، عن عائشة، قالت: كان =

ص: 2066

وهكذا حال كلِّ مؤمن إذا أنعم اللَّه سبحانه وتعالى عليه بنعمة، أو وهبه موهبة؛ من مال أو بنين أو صحة، فعليه أن يقابل هذه النعم التي تتكرر صباح مساء، في كل لحظة من حياته، فهذا النَّفسُ الذي يتكرر في الجسم شهيقًا وزفيرًا

(1)

، هو نعمة من نعم اللَّه سبحانه وتعالى، وهذه الأرجل التي يمشي عليها، والأيدي التي ينقش بها، والعينان اللتان يبصر بهما واللسان الذي يتكلم به، والشفتان اللتان يحركهما، إلى غير ذلك من الأشياء الكثيرة التي لا تُعدُّ ولا تحصى في جسم الإنسان، وما هو داخله أعظم مما هو خارجه، واللَّه سبحانه وتعالى هو الذي حفظ له هذه الصحة، وأدام عليه هذه النعمة، فكلُّ ذلك يقتضي من العبد أن يشكر اللَّه سبحانه وتعالى.

إذن هي صدقة وفضل من اللَّه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم دائمًا يسارعُ فيأخذ بالتيسير، ولذلك ما خُيِّر بين أمرين صلى الله عليه وسلم إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا

(2)

؛ لأن هذه الشريعة ما جاءت لتكلف الناس شططًا

(3)

، وما جاءت لتشق عليهم، إنما جاءت بأمور أوجبت عليهم الالتزام بها، وبأمور حضتهم على عملها، وفي مقدمة الأمور التي يجب على المؤمنين أن يفعلوها تحقيق الغاية التي خُلقوا من أجلها، ألا وهي عبادة اللَّه سبحانه وتعالى، وإخلاص العبادة للَّه وحده.

* قَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ وَأَنَّ الإِتْمَامَ أَفْضَلُ).

القول بأن الإتمام أفضل رواية للشافعي؛ لأن الشافعية في مذهبهم ثلاثة أقوال:

= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول اللَّه أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال:"يا عائشة أفلا أكون عبدًا شكورًا".

(1)

الشهيق ضد الزفير، فالشهيق رد النفس، والزفير إخراجه. انظر:"العين"، للخليل (3/ 361).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

"الشطط": مجاوزة القدر في كل شيء. انظر: "العين"، للخليل (6/ 212).

ص: 2067

الأول: أنهما سيان.

الثاني: أن القصر أفضل، وهذا أقوى الأقوال في مذهب الشافعي.

الثالث: أن الإتمام أفضل؛ لأنه هو الأصل، فالأصل هو أن تُصلَّى الصلاة رباعيةً، لكن اللَّه سبحانه وتعالى قد يخفف العبادات، ويجعل في المخفف من الفضل أكثر من غيره؛ لأنك في أداء عملك المخفف مستجيبٌ للَّه، ولذلك جاء في الحديث الصحيح:"إن اللَّه يحب أن تُؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه"

(1)

(2)

.

فاللَّه تعالى إذا رخَّص لك في أمر، فلا تغلق هذا الباب، وائت بهذه الرخص، وعندما تفعلها مُيسَّرة وتعتقد بقلبك جازمًا أنك ما فعلتها إلا لأن اللَّه سبحانه وتعالى شرع لك ذلك، وخفَّف عنك، وأنك بذلك قد استجبت لما أمرك اللَّه سبحانه وتعالى به، ولما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنت بذلك مُثاب، وقد مرَّ ذِكر النية، وما يترتب عليها من الأعمال العظيمة، وأن الإنسان قد يخلص في عمل من الأعمال التي لا علاقة لها بالعبادة، لكن فيها نفع للمجتمع الإسلامي فيثاب عليها، كالذي يتزوج قاصدًا إكثار المسلمين يقصد بذلك أن يخرج اللَّه سبحانه تعالى من صلبه رجلًا عالمًا أو تقيًّا أو صالحًا، إلى غير ذلك، فاللَّه يثيبه على ذلك.

ومن يتكسَّبْ بقصد الإنفاق على أولاده وإعفافهم، وألا يمدوا أيديهم

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

قال الماوردي: "فإذا ثبت أن إتمام الصلاة في السفر جائز فقد اختلف أصحابنا في الأفضل والأولى على مذهبين، أحدهما: القصر أفضل اقتداء بأكثر أفعال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأكثر أفعاله القصر، وليكون من الخلاف خارجًا وهذا هو ظاهر قول الشافعي وعليه جمهور أصحابه. والثاني: وهو قول كثير منهم. إن الإتمام أفضل؛ لأن الإتمام عزيمة والقصر رخصة والأخذ بالعزيمة أولى، ألا ترى أن الصوم في السفر أفضل من الفطر وغسل الرجلين أفضل من المسح على الخفين. انظر: "الحاوي الكبير" (2/ 366). وحكى النووي القول الثالث. انظر: "المجموع شرح المهذب" (4/ 336).

ص: 2068

إلى الناس، فإنه سيثاب على ذلك، ومن يحسن إلى الجيران ويعاملهم معاملةً حسنةً، فاللَّه سبحانه وتعالى يثيبه على ذلك.

* قال: (وَبِالقَوْلِ الأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ).

يعني: القول بأن القصر واجب

(1)

.

* قوله: (وَالكُوفِيُّونَ بِأَسْرِهِمْ (أَعْنِي: أَنَّهُ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ)

(2)

).

نُقِل عن الإمام البغوي -ومعلوم أنه من المحدثين، ومن محققي مذهب الشافعي- أنه قال: "أكثر العلماء قالوا بأن القصر سنة

(3)

"، ولكن هذا غير صحيح، وقد ردَّ عليه الإمامُ النوويُّ، وربَّما أنَّه قد رأى كثيرًا من العلماء وبخاصة علماء العراق قالوا بهذا القول، فقال: إنه الأكثر

(4)

.

* قوله: (وَبِالثَّانِي قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ

(5)

، وَبِالثَّالِثِ (أَعْنِي أَنَّهُ سُنَّة) قَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ)

(6)

.

(1)

انظر: "الدر المختار"، للحصكفي (2/ 128)، وفيه قال:" (فلو أتم مسافر إن قعد في) القعدة (الأولى تم فرضه و) لكنه (أساء) لو عامدًا لتأخير السلام وترك واجب القصر".

(2)

انظر: "الاستذكار"(2/ 222)، لابن عبد البر، وفيه قال:"وأما اختلاف الفقهاء وأئمة الأمصار في إيجاب القصر في هذه المسألة فذهب الكوفيون سفيان الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن القصر واجب في السفر فرضًا".

(3)

الذي قاله البغوي أن القصر وأجب وليس سنة كما ذكر الشارح.

انظر: "التهذيب في فقه الإمام الشافعي"، للبغوي (2/ 297)، وفيه قال:"وقال أكثر أهل العلم: القصر واجب في السفر لا يجوز الإتمام، وهو قول عمر، وعليّ، وابن عمر، وابن عباس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة - أن فرض المسافر ركعتان، حتى لو صلَّى أربعًا لا تصح صلاته".

(4)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 337)، وفيه قال:"وقال أبو حنيفة والثوري وآخرون: القصر واجب، قال البغوي: وهذا قول أكثر العلماء وليس كما قال".

(5)

أي: أنهما سيان، وهذا قول عند الشافعية وقد تقدم.

(6)

انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (1/ 305)، وفيه =

ص: 2069

وأيضًا أحمد في أشهر الروايات، يعني: أحمد مرة قال: إن القصر أفضل، ومرة قال: إنهما سيان، ومرة توقف في هذه المسألة

(1)

، ومعلوم أن الإمام أحمد كان فيه زهد وورع، فربما سئل في المسألة، فتوقف فيها وقال: أسأل اللَّه العافية.

لكن المعروف في مذهبه أن القصر أفضل، وفي رواية أُخرى أنهما سواء.

* قال: (وَبِالرَّابِعِ (أَعْنِي: أَنَّهُ رُخْصَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ

(2)

، وَهُوَ المَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ المَعْقُولِ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ).

عندما يقول المؤلف كابن رشد عن مذهب غير مذهبه إن هذا هو الرخصة، وإنه المنصور والمشهور، فهذا قد يكون لأنه لم يقف إلا على هذا، لكن الذي يصححه الشافعي أن أصح الأقوال عندهم هو أن القصر سنة، وهذا هو الذي يلتقي حقيقةً مع عموم الأدلة

(3)

.

= قال: "المذهب أن القصر سنة وليس بفريضة وأن فرض المسافر التخيير بين القصر والإتمام. ومن أصحابنا من يقول: إنه فرض على المسافر، وهو قول أبي حنيفة". وانظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 151).

(1)

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 509، 510)، وفيه قال:" (وهو)، أي: القصر (أفضل من الإتمام نصًّا)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه وكذا الخلفاء الراشدون من بعده، وروى أحمد عن عمر أن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. (وإن أتم) من يباح له القصر الرباعية (جاز ولم يكره) له الإتمام لحديث يعلى قال قالت عائشة "أتم النبي صلى الله عليه وسلم وقصر" قاله الشافعي ورواه الدارقطني وصححه".

أما التوقف، فهو في إجزاء صلاة من أتم في السفر. انظر:"الفتاوى الكبرى"، لابن تيمية (5/ 349)، وفيه قال:"ونقل عن أحمد إذا صلى أربعًا أنه توقف في الإجزاء، وتوقفه عن القول بالإجزاء يقتضي أنه يخرج على قولين في مذهبه".

(2)

أي: القصر رخصة والإتمام عزيمة، وقد تقدم في قول الماوردي.

(3)

أخرجه أبو داود (162)، وصححه الألباني في:"إرواء الغليل"(103).

ص: 2070

* قال: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ المَعْقُولِ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ المَنْقُولِ).

من المعلوم أن هناك معنى معقولًا، ونصوصًا، فقد نجد أن الأصل في الصلاة المقصورة أنها أربع، فعندما تقصرها إلى اثنتين، فمن جهة المعنى المعقول أيهما يكون أفضل، هل أن تأتي بالأصل الذي هو أربع؟ أو بالاثنتين؟

ومن المعلوم أن الدين ليس بالرأي، وبذلك قال عليٌّ رضي الله عنه:"لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"

(1)

؛ لأن أسفل الخف هو الذي يتلوث، وهو الذي يطأ الأرض، والذي ربما يقع على النجاسات وغيرها، أولى بأن يمسح، لكن هذا هو شرع اللَّه، فشريعة اللَّه تقدَّم، ولذلك إذا قالوا: المنقول، فالمقصود به ما جاء في كتاب اللَّه عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقصدون بالمعقول القياس في مقدمة هذه الأمور المعقولة، أي: التي تقوم على فهم الإنسان وإدراكه، فهناك أمور معقولة.

والأصل أنك عندما تصلي أربعًا فقد جئت بالصلاة المعروفة، ولذلك فإن عبد اللَّه بن مسعود بيَّن هذه العلة فقال:"صلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في السفر، ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين، فتفرقت بكم الطرق، ووددت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين"

(2)

.

إذن ليست المسألة بكثرة العمل، فقد نجد من الناس مَن يكون عمله قليلًا، لكنه يتقن هذا العمل، ويصحبه الإخلاص والنية الصادقة، فيكون ثوابه عظيمًا، وكم من أناس يُكثرون الأعمال على غير إخلاص، ومن

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرج البخاري (1657)، واللفظ له، ومسلم (695/ 19)، عن عبد اللَّه رضي الله عنه قال:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومع أبي بكر رضي الله عنه ركعتين، ومع عمر رضي الله عنه ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، فيا ليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان".

ص: 2071

الناس من تجد من أعمالهم ما يخالف أقوالهم، ومن أقوالهم ما يخالف أعمالهم، فهذه تنقص من حسناتهم، وبعض الناس تجد أنه يحافظ على الفرائض وربما على السنن الرواتب، لكنك تراه في صلاته خاشعًا ذليلًا منقادًا للَّه سبحانه وتعالى لأنه يعلم أنه يناجي ربَّ البرية، وتجد بعض الناس في صلاتهم مشغولًا ذهنه، يذهب هنا أو هنا مرةً يسبح في الفضاء، ومرة في الأرض، ومرة في البحر، يتتبع تجارته وأمواله، وينشغل بأولاده وغير ذلك من الأمور، وقد يفكر في أمور تافهة.

إذن ما كان من العمل صوابًا، فهذا الذي يكون أجره أعظم، ولذلك يقول اللَّه تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] إلى أن قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ما قال: أكثر عملًا.

وما يقصده المؤلف بصيغة اللفظ المنقول: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر"

(1)

، فهذا هو اللفظ المنقول، وأيضًا الآية:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، وغير ذلك من الأدلة التي جاءت في القصر والتي رويت من أفعال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة.

فهذه ثبتت، إذن هناك أمر معقول يديره الإنسان في عقله، أليس هاتان الاثنتان أصلهما أربعًا، إذن العقل يقتضي أن الأربع أفضل، وإنما هذا تخفيف.

* قوله: (وَمُعَارَضَةُ دَلِيلِ الفِعْلِ أَيْضًا لِلْمَعْنَى المَعْقُولِ).

هناك أقوال، لكن الفعل قد عارض العقل؛ لأن الفعل فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة والعقل يقتضي أو يميل أو يرجح أن الأربع أفضل.

(1)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2072

* قوله: (وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، يُرِيدُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ عُمَرُ: "عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَقَالَ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ"، فَمَفْهُومُ هَذَا الرُّخْصَةُ)

(1)

.

المؤلف -باختصار- يريد أن يقول: هناك في الظاهر معارضة، ومعلوم أن المؤلف ممن درس المنطق، وهذا هو الذي يجعل الكتاب في بعض المواضع يصعب فهمه على بعض الطلاب.

إذن يريد أن يقول: هناك عقل، وهناك نقل، والعقل عندما ينظر في هذه المسألة يميل إلى جانب الإتمام؛ لأن هذا هو الأصل، لماذا يدعم ذلك أو يقويه؟

لأن المسافر خُفِّف عنه، والتخفيف؛ لأن السفر مظنة المشقة، ففي ذلك إذن تيسير، والتيسير إنما هو نزول من الأعلى إلى الأدنى، إذن الرجوع إلى الأعلى إنما هو أفضل من جهة العقل، فالعقل يتصور أو يذهب إلى أن الإتمام أفضل، لكن -كما هو معلوم- لا عقل مع النقل.

* قوله: (وَحَدِيثُ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ"، وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ)

(2)

.

هذا الحديث يصحِّحه كثير من العلماء، لكن قد ورد فيه اضطراب في بعض الروايات

(3)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

الحديث الأول أخرجه مسلم، وحديث:"إن اللَّه وضع عن المسافر" في (السنن وليس في (الصحيح) كما ذكر المؤلف، وقد تقدم تخريج الحديثين.

(3)

سبق.

ص: 2073

* قوله: (وَهَذَا كلُّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالرُّخْصَةِ وَرَفْعِ الحَرَجِ، لَا أَنَّ القَصْرَ هُوَ الوَاجِبُ، وَلَا أَنَّهُ سُنَّةٌ).

يعني: المؤلف في النهاية سيعود إلى ما دلَّت عليه النصوص.

إذن لا شكَّ أن ما في الآية وما في الأحاديث تخفيف، هذا أمر لا يُختلَف فيه، واللَّه تعالى قد خفَّف عن عباده، وكثير من آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تدلُّ على ذلك فاللَّه سبحانه وتعالى عندما يشرع حكمًا من الأحكام، يذكر بعده علته إذا خفف على الناس، قال تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وكذلك لما ذكر اللَّه سبحانه وتعالى الوضوء والتيمم، قال:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].

فنجد أن اللَّهَ سبحانه وتعالى عندما يخفف على المؤمنين يمتن عليهم، ويبين لهم أيضًا أنه عندما يسَّر لهم هذا الحكم إنما أراد أن يخفِّف عنهم، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، وقال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6].

* قوله: (وَأَمَّا الأَثَرُ الَّذِي يُعَارِضُ بصِيغَتِهِ المَعْنَى المَعْقُولَ، وَمَفْهُومَ هَذِهِ الآثَارِ، فَحَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ بِاتِّفَاقٍ قَالَتْ: "فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ)

(1)

.

وهذا أيضًا يرد مفهوم العقل؛ لأن فيها أن الصلاة فُرِضت "ركعتين ركعتين".

(1)

أي: أن هذا الأثر وهو أن القصر أصل الصلاة يرد المعقول من أن الإتمام هو الأصل؛ لأنه الأكمل.

ص: 2074

* قوله: (فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الحَضَرِ"

(1)

، وَأَمَّا دَلِيلُ الفِعْلِ الَّذِي يُعَارِضُ المَعْنَى المَعْقُولَ وَمَفْهُومَ الأَثَرِ المَنْقُولِ، فَإِنَّهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ أَسْفَارِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ قَطُّ).

هذا هو الصحيح، لم يرد في حديث صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتم صلاته

(2)

.

* قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ، فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَتَمَّ الصَّلَاةَ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ

(3)

، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الوَجْهَيْنِ، (أَعْنِي: إِمَّا وَاجِبًا مُخَيَّرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً)).

انتهى المؤلف بعد هذا النقاش إلى واحد من أمرين، إما أن يكون واجبًا، وهو واجب مخير، يعني: إما أن يصلي الإنسان أربعًا، أو يصلي اثنتين، وإما أن يكون سنةً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله، وداوم على فعله، ولم ينقل عنه أنه أتم الصلاة، وإن كان إتمام الصلاة جائزًا.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

وهو حديث ابن عمر من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد في السفر على ركعتين. وهو في "الصحيحين" وقد تقدم.

(3)

سبق ذكر هذا في أدلة الأحناف على وجوب القصر.

وهو من أدلة القائلين بأن القصر أفضل. قال ابن قدامة: "أما القصر فهو أفضل من الإتمام في قول جمهور العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم على القصر، وقال ابن عمر: "صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه تعالى"". انظر:"المغني"(2/ 199، 200).

ص: 2075

* قوله: (وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا مُعَيَّنًا، لَكِنَّ كَوْنَهُ فَرْضًا مُعَيَّنًا يُعَارِضُهُ المَعْنَى المَعْقُولُ).

عاد مرَّة أُخرى وقال: "كونه فرضًا معين يعارضه المعنى المعقول"، ونقول أيضًا: الأدلة التي وردت في ذلك تعارضه، وما ثبت أيضًا عن عدد من أكابر الصحابة أنهم أتموا الصلاة - يعارضه

(1)

.

* قوله: (وَكَوْنَهُ رُخْصَةً يُعَارِضُهُ اللَّفْظُ المَنْقُولُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا أَوْ سُنَّةً، وَكَانَ هَذَا نَوْعًا مِنْ طَرِيقِ الجَمْعِ).

هذا منهج المؤلف وطريقته في الجمع، ولكننا نأخذ الأمر بأبسط من ذلك، ومما يؤخذ على هذا الكتاب أنه لا يستقصي النصوص، ولذلك يقع منه أحيانًا بحث بعض المسائل بحثًا عقليًّا.

* قوله: (وَقَدِ اعْتَلُّوا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ بِالمَشْهُورِ عَنْهَا مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تُتِمُّ).

أي: أنهم ردوا على حديث عائشة واعترضوا عليه وهو حديث: "فُرضَت الصلاة ركعتين ركعتين" بأن عائشة كانت تتم

(2)

، إذن فقد جاء فعلها مخالفًا لقولها، ومعلوم أنه إذا جاء قول عن الصحابي، وجاء عنه فعل يتعارض فيقدم قوله

(3)

، وهذا جاء فيما نقل عن ابن عمر أنه كان

(1)

سبق نقل ذلك عنهم.

(2)

تقدَّم.

(3)

قال الغزالي: "من قال بأن مذهب الراوي إذا خالف روايته يقدم مذهبه على روايته، هذا فاسد، بل الحجة في الحديث، ومخالفته، وتأويله، وتخصيصه يجوز أن تكون عن اجتهاد، ونظر لا نرتضيه، فلا نترك الحجة بما ليس بحجة، بل لو كان اللفظ محتملًا، وأخذ الراوي بأحد محتملاته واحتمل أن يكون ذلك عن توقيف فلا تجب متابعته ما لم يقل: إني عرفته من التوقيف بدليل أنه لو رواه راويان، وأخذ كل وأحد باحتمال آخر فلا يمكننا أن نتبعهما أصلًا". انظر: "المستصفى"(ص: 248).

ص: 2076

يأخذ من عارضيه، لكنه أحد الرواة الذين نقلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر بتوفير اللحى

(1)

.

* قوله: (وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَيَقْصُرُ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ وَيُؤَخِّرُ الظُّهْرَ، وَيُعَجِّلُ العَصْرَ وَيُؤَخِّرُ المَغْرِبَ وَيُعَجِّلُ العِشَاءَ

(2)

).

أما ذاك الأول الذي ذكره فهو ضعيف، أعني: الذي قبل هذا

(3)

، وهذا أيضًا جاء من طريقين في "الصحيحين"، وليس فيه ذكر للقصر والإتمام، فهذا صحيح في الفطر والصيام، وأما ما جاء في رواية الإتمام والقصر، فهذا فيه كلام معروف للعلماء

(4)

.

* قوله: (وَمِمَّا يُعَارِضُهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَنَسٍ، وَأَبِي نَجِيحٍ المَكِّيِّ

(1)

أخرج البخاري (5892)، واللفظ له، ومسلم (259/ 52)، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خالفوا المشركين؛ ووفروا اللحى، وأحفوا الشوارب"، وكان ابن عمر:"إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل أخذه".

(2)

أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 376). وضعفه الألباني في: "إرواء الغليل"(563).

(3)

يقصد حديث عطاء.

(4)

حديث أنس الذي ذكره المؤلف، أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 207)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"إنا معاشر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر".

والحديث ضعيف. قال الذهبي: فيه زيد العمي واه، وإنما المحفوظ:"فمنا الصائم، ومنا المفطرُ". انظر: "تنقيح التحقيق"(1/ 270).

أما رواية "الصحيحين" فلم يأتِ فيها ذكر القصر والإتيام كما ذكر الشارح. فأخرجه البخاري (1947)، عن أنس بن مالك، قال:"كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".

وأخرجه مسلم (1118/ 98)، عن أنس رضي الله عنه، أنه سئل عن صوم رمضان في السفر؟ فقال:"سافرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".

ص: 2077

قَالَ: اصْطَحَبْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُتِمُّ، وَبَعْضُهُمْ يَقْصُرُ، وَبَعْضُهُمْ يَصُومُ، وَبَعْضُهُمْ يُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي المَوْضِعِ الأَوَّلِ).

ونقل أيضًا عن سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم جميعًا

(1)

.

* قوله: (أَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي المَوْضِعِ الثَّانِي، وَهِيَ المَسَافَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا القَصْرُ).

هذه أيضًا مسألة مهمة، والبحث فيها طويل، وقد تناولها عدد من العلماء بالبسط والإيضاح، وعندما نلقي نظرة سريعة في الآيات التي وردت في كتاب اللَّه عز وجل، والتي أشارت إلى السفر، لم نجد أنها حددت قدرًا معينًا يلتزم به المسافر في قصر الصلاة، فمثلًا يقول اللَّه سبحانه وتعالى في الآية التي مرت بنا في موضوع القصر:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، والضرب في الأرض إنما هو السفر، فلم نجد تحديدًا للسفر بقدر معين، ولم تذكر الآية سفرًا طويلًا ولا قصيرًا.

وقال اللَّه سبحانه وتعالى أيضًا في آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ} [المائدة: 6]، والشاهد فيه:{أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، ولم يذكر اللَّه تعالى قدرًا محدَّدًا لهذا السفر، وإنما أطلقه.

وقال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أحكام الصيام: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].

(1)

سبق.

ص: 2078

فهذه الآيات -كما هو ظاهر- ذكرت السفر، لكنها أطلقته، فلم تقيده بقدر معين كذلك نجد أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مليئة بالأحاديث التي ورد فيها ذكر السفر، ولم يرد فيها حديث واحد يقيده، ومن ذلك حديث يعلى، وحديث عائشة، وحديث ابن عمر أنه قال:"صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان يصلي في سفره ركعتين، وأنه صحب أبا بكر وعمر فكان كل يصلي ركعتين"

(1)

. وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، وكلها جاء ذكر السفر فيها مطلقًا، فمن هنا ذكر المؤلف في هذا الموضع أهل الظاهر، وهذا هو المشهور في الحقيقة

(2)

، لكننا نجد أن من علماء المذاهب مَن انتصر لهذا القول، وقوى دليله، واستدلَّ عليه، ودافع عنه، وبين أن أدلة الشرع تشهد له، حتى ربما تجد من العلماء الذين يخالفون مذهبهم في بعض الآراء من خالف في هذه المسألة

(3)

.

والعلماء مختلفون في هذه المسألة على مذاهب

(4)

:

الأول: قول جمهور الأئمة؛ مالك والشافعي وأحمد، وهو أن المسافة التي تقصر فيها الصلاة هي أربعة برد

(5)

. والبرد جمع بريد، والبريد أربعة فراسخ، فالمسافة على هذا تبلغ ستة عشر فرسخًا، والفرسخ يساوي ثلاثة أميال، فتصبح مسافة القصر على هذا المذهب ثمانية وأربعين ميلًا، وهي ما يقرب من ثمانين كيلو

(6)

. ولذلك جاء عن عبد اللَّه بن عباس أنه قال

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

من أن القصر يكون في كل سفر. كما سيأتي.

(3)

أي: ليس هذا القول هو مذهب الظاهرية فقط وإنما انتصر له بعض المحققين في المذاهب الأخرى من أن القصر يكون فيما يطلق عليه اسم السفر من غير تحديد مسافة بعينها.

(4)

ستأتي.

(5)

"البريد": اثنا عشر ميلًا بأميال الطريق، وهي أربعة فراسخ، وأربعة برد ثمانية وأربعون ميلًا.

انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 78).

(6)

أخرج البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 196)، عن عطاء، عن ابن عباس أنه سئل: =

ص: 2079

بالقصر من مكَّة إلى جدة، ومن مكة إلى الطائف، وهذه كلها مسافات متقاربة

(1)

.

ومدة القصر هي سفر يومين، وذلك على الراحلة، على السفر المعتاد

(2)

.

الثاني: مذهب الحنفية ومعهم جمع من العلماء، وهو أنه لا يقصر في سفر يقل عن ثلاثة مراحل، أي: ثلاثة أيام

(3)

.

ولكلِّ مذهب دليل يستدلّ به، لكن -باختصار- لم يرد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديث صحيح يحدد المسافة، بل جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سافر يقصر في ذي الحُليفة

(4)

، أي: كل سفر تقصر فيه الصلاة، أخذوا ذلك على إطلاقه.

والذين قالوا من أهل العلم بأربعة برد أو ثلاثة أيام قالوا: إذا أراد سفرًا طويلًا وخرج يقصر في هذا المكان

(5)

، ونقل عن عمر أنه صلى ركعتين بذي الحليفة

(6)

، ونقل أيضًا عن عبد اللَّه ابن عمر

(7)

، وهو مع ابن

= "أتقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، ولكن إلى عسفان، وإلى جدة، وإلى الطائف". وضعفه ابن الملقن في: "البدر المنير"(4/ 543).

(1)

سيأتي.

(2)

سيأتي.

(3)

أخرج البخاري (2951)، ومسلم (690/ 10)، عن أنس:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين".

(4)

سيأتي ذكر هذا.

(5)

أخرج مسلم (692/ 13)، عن جبير بن نفير، قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر، أو ثمانية عشر ميلًا، فصلى ركعتين، فقلت له: فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له: فقال: "إنما أفعل كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل".

(6)

أخرج البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(4/ 267)، عن نافع، أن ابن عمر كان "إذا خرج حاجًّا أو معتمرًا قصر الصلاة بذي الحليفة".

(7)

تقدم تخريج أثر ابن عباس. أما أثر ابن عمر، فأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" =

ص: 2080

عباس من القائلين بأربعة برد

(1)

، أي: ما يقرب من ثمانين كيلو مترًا، ونقل عن عبد اللَّه بن عمر من طريق صحيح أنه كان يخرج إلى أرض له كان يخرج إليها، تبعد ثلاثين ميلًا فقط فيقصر

(2)

، وربما لو كانت أقل لقصر أيضًا

(3)

.

وعن أنس أنه قصر في خمسة عشر ميلًا

(4)

، وعن عمر أنه قصر بذي الحليفة

(5)

، وذو الحليفة -كما هو معلوم- لا تزيد عن عشرة إلى اثني عشر كيلو مترًا، وقد أصبحت الآن داخلة في المدينة

(6)

، فهي ديار على المعروفة الآن

(7)

.

= (3/ 195)، عن نافع، عن سالم بن عبد اللَّه، "أن أباه عبد اللَّه بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك". قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد.

(1)

أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 525)، عن سالم، أن ابن عمر سافر إلى ريم فقصر الصلاة، وهي مسيرة ثلاثين ميلًا.

(2)

بل ثبت عنه أنه لم يقصر، فقد أخرج مالك في "الموطإ"(1/ 148)، عن نافع، أنه كان "يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة". والبريد اثنا عشر ميلًا.

(3)

أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 430)، عن ابن سيرين، قال: خرجت مع أنس إلى بني سيرين في سفينة عظيمة. قال: فأمنا، فصلى بنا فيها جلوسًا ركعتين، ثم صلى بنا ركعتين أخراوين. وفي "المحلى" لابن حزم (2/ 44)، وهي خمسة فراسخ.

(4)

تقدَّم. وهو مروي أيضًا عن أنس، أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 353)، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، سمعا أنسًا يقول: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعًا وبذي الحليفة العصر ركعتين.

(5)

"ذو الحُليفة": بضم الحاء وفتح اللام والفاء أحد المواقيت وهي من المدينة على ستة أميال، وقيل: سبعة وهو ماء من مياه بني جشم بينهم وبين خفاجة العقلين. انظر: "مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (1/ 221).

(6)

انظر: "النفحة المسكية"، لأبي البركات السويدي (ص: 314)، وفيه:"ذو الحليفة: تسميها الناس بآبار علي، ويزعمون أنه قاتل الجن فيها".

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 352)، عن النزال؛ أن عليًّا خرج إلى النخيلة فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه فقال: أردت أن أعلمكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 530)، عن عبد الرحمن بن زيد الفايشي قال:"خرجنا مع علي إلى صفين فصلى ركعتين بين القنطرة والجسر".

ص: 2081

كذلك نقل عن عليِّ بن أبي طالب أنه خرج من بيته بالكوفة إلى مكان يعرف بالنخيلة وهي قريبة من الكوفة، وقصر فيها، وقال: إنما أردْتُ أن أبيِّن لكم الحكم

(1)

.

وكذلك نُقِل أيضًا عن غير هؤلاء الصحابة، فنحن هنا نجد أن الأقوال عن الصحابة مختلفة ومتعارضة، يعني أقوال الصحابة متعددة، فقد تجد للصحابي قولين، وتصبح متعارضةً.

إذن لم يرد نصٌّ من كتاب ولا سنة يحدد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، ولم يرد قول متفق عليه بين الصحابة، وإنما اختلفوا في ذلك، ومعلوم أن الحالة تختلف، فمتى ما أجمع الصحابة على قول، فإن واجب المؤمن أن يسلم، وأن يأخذ به، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، هذه إشارة إلى الإجماع

(2)

، أما إذا اختلف الصحابة، فحينئذ يختار من أقوالهم، فما بالك إذا اختلف غيرهم!

هذه مقدمة قدمت بها، وإن شاء اللَّه نأخذ كل قول ودليله على حدة.

* قوله: (فَإِنَّ العُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا اخْتِلَافًا كَثِيرًا).

هذه مسألة تُشكَل على بعض طلاب العلم، أحيانًا يذكر أحمد، وأحيانًا لا يذكره، وقد نبَّهنا كثيرًا أنه معتمد في نقل المذاهب على ابن عبد البر في كتابه الاستذكار

(3)

، فإن ذكر ذكر وإن لم يذكر سكت، فهو هنا -كما هو ظاهر- نصَّ على أحمد.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ 353)، عن إبراهيم؛ أن حذيفة كان يصلي ركعتين فيما بين الكوفة والمدائن.

(2)

وإشارة إلى كونه حجة. انظر: "اللمع في أصول الفقه"، للشيرازي (ص: 87)، وفيه قال:"والدليل على أنه حجة قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}، فتوعد على اتباع غير سبيلهم فدل على أن اتباع سبيلهم واجب ومخالفتهم حرام".

(3)

قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(6/ 86): "اختلف الفقهاء -أئمة الفتوى- =

ص: 2082

* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

، وَأَحْمَدُ

(3)

، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرةٌ

(4)

إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْصَرُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ

(5)

).

والبُرد جمع بريد، وهو مسافة محددة تساوي أربعة فراسخ، أربعة في أربعة -كما قلنا- تصل ستة عشر فرسخًا، ثم يضرب الفرسخ الذي يساوي ثلاثة أميال، في ثلاثة، فيكون الناتج ثمانية وأربعين

(6)

، وأيضًا الميل يقرب

= بالأمصار في مقدار ما يقصر إليه الصلاة من المسافة: فذهب مالك، والشافعي، وأصحابهما، والأوزاعي، والليث بن سعد: إلى أن الصلاة لا يقصرها المسافر إلا في سيره اليوم التام بالبغل الحسن السير. وهو قول أحمد، وإسحاق، والطبري". ومسيرة أليوم التام تساوي أربعة برد كما سيأتي قريبًا جدًّا من كلام ابن رشد.

(1)

انظر: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 361)، وفيه قال:"ثم بين نهاية القصر بقوله (إلى محل البدء)، أي: جنسه فيصدق بعوده لما قصر منه وبدخوله لبلد أُخرى (لا أقل) من أربعة برد، فلا يقصر أي يحرم وتبطل في خمسة وثلاثين ميلًا وصحت في أربعين إلى ثمانية وأربعين ولا إعادة قطعًا وإن حرم وتصح فيما بينهما على المعتمد ولا إعادة".

(2)

انظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 379)، وفيه قال:"وذلك لما صح أن ابني عمر وعباس رضي الله عنهم كانا يقصران ويفطران في أربعة برد ولا يعرف لهما مخالف ومثله لا يكون إلا عن توقيف بل جاء ذلك في حديث مرفوع صححه ابن خزيمة، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف خطوة والخطوة ثلاثة أقدام فهو ستة آلاف ذراع".

(3)

انظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 292)، وفيه قال:"السفر (ستة عشر فرسخًا تقريبًا) لا تحديدًا (برًّا، أو بحرًا) للعمومات (وهي)، أي: الستة عشر فرسخًا (يومان قاصدان)، أي: مسيرة يومين معتدلين بسير الأثقال ودبيب الأقدام (أربعة برد) جمع بريد. لحديث ابن عباس مرفوعًا: "يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان". رواه الدارقطني، وروي موقوفًا عليه".

(4)

من هؤلاء الجماعة عبد اللَّه بن عباس وعبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهم، فقد ذكره البخاري تعليقًا في "صحيحه"(2/ 43) عنهما، بلفظ:"وكان ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، يقصران، ويفطران في أربعة برد".

(5)

سبق ذكرهم.

(6)

سبق.

ص: 2083

من كيلوين إلا ربعًا أو إلا ثلثًا أو بينهما

(1)

، فالمسافة ما بين خمسة وسبعين إلى ثمانين كيلو مترًا.

* قوله: (وَذَلِكَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ بِالسَّيْرِ الوَسَطِ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالكُوفِيُّونَ: أَقَلُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ

(3)

).

العلماء والجمهور ينصُّون على أنها مسيرة يومين

(4)

، والحنفية يقولون مسيرة ثلاثة أيام

(5)

، والحنفية ومن معهم لا يستدلون بأدلة قطعية، يعني: ليست واضحة الدلالة على المدعي، وإنما يستدلون بعموم أدلة:"لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم"

(6)

، يعني: لا يحلّ لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيَّام إلا ومعها محرم، فقالوا: هذا

(1)

في "المدخل إلى علم الجغرافيا والبيئة"، لمحمد محمود محمدين، وطه عثمان الفراء (ص: 493). "الميل = 1.609 كيلو متر".

(2)

تقدَّم هذا القول قريبًا في "الاستذكار".

(3)

تقدَّم نقل هذا القول قريبًا.

(4)

انظر في مذهب المالكية: "حاشية الصاوي"(1/ 474، 475)، وفيه قال:"والبريد أربعة فراسخ وثلاثة أميال، فمسافة القصر ستة عشر فرسخًا وثمانية وأربعون ميلًا، والميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة على الصحيح، وقيل: ألفَا ذراع، وهي باعتبار الزمن مرحلتان، أي: سير يومين معتدلين أو يوم وليلة بسير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة".

وانظر في مذهب الشافعية: "الإقناع"، للشربيني (1/ 171)، وفيه قال:" (و) الشرط الثاني (أن تكون مسافته)، أي: السفر المباح ثمانية وأربعين ميلًا هاشمية ذهابًا وهي مرحلتان وهما سير يومين معتدلين بسير الأثقال وهي (ستة عشر فرسخًا) ".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 292)، وفيه قال:" (وهي)، أي: الستة عشر فرسخًا (يومان قاصدان)، أي: مسيرة يومين معتدلين بسير الأثقال ودبيب الأقدام (أربعة برد) ".

(5)

انظر: "رد المحتار على الدر المختار"، لابن عابدين (2/ 124)، وفيه قال:"إنما يدوم على القصر إلى الدخول إن سار ثلاثة أيام".

(6)

أخرجه مسلم في "صحيحه"(1338)، بلفظ:"لا يحل لامرأة، تؤمن باللَّه واليوم الآخر، تسافر مسيرة ثلاث ليال، إلا ومعها ذو محرم".

ص: 2084

دليل على أن السفر هو مسيرة ثلاثة أيام

(1)

.

والحديث الآخر: "يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن والمقيم يومًا وليلة"

(2)

لكن أيضًا وردت أحاديث: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة"

(3)

وورد: "مسيرة يوم"

(4)

وورد: "ليلة"

(5)

إذن هذا كله سمَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم سفرًا، فمرة سمى هذا، ومرة سمى هذا وهذا كلُّه يدلُّ أنه لا يجوز للمرأة أن تخلو بغيرها، يعني أن تسافر مع أجانب، ما لم يكن فيهم محرم لها.

* قوله: (أَقَلُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ

(6)

).

مما يدعم الحنفية إلى جانب الأدلة العامة -حتى ننصفهم- أنهم يقولون هنا: لم يرد دليل توقيفي. يعني: لم يرد نص في كتاب ولا في سنة يحدد المسافة التي تُقصر فيها الصلاة، فلا توقيف في هذه المسألة، ولا دليل عليها، ففي هذه الحالة نرجع إلى الأمر المتفق عليه، والكلُّ متفقون على أن مَن قصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أيام لا يخالفه أحدٌ في ذلك إذن هذا أمر مجمع عليه، فهم يقولون: ندع محل

(1)

قال القدوري في "التجريد"(2/ 869): "ويدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا مع محرم أو زوج". ولو كان ما دون الثلاث سفرًا لم يكن لتخصيص الثلاثة معنى".

(2)

أخرجه مسلم (276)، بلفظ:"عن شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فسله فإنه كان يسافر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال: جعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم".

(3)

أخرج البخاري (1088) ومسلم (1339) بلفظ: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة".

(4)

أخرجه مسلم (1339) بلفظ: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم".

(5)

أخرجه مسلم (1339) بلفظ: "لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها".

(6)

تقدَّم نقل هذا القول قريبًا.

ص: 2085

الخلاف، ونأخذ بالموضع المتفق عليه، ويريدون بهذا أن يُلْزِموا غيرهم، ولذلك مَن يقرأ نصوص الإمام الشافعي رحمه الله يجد أنه نصَّ في بعض كتبه على أنه مع الأئمة، مع مالك وأحمد، لكنه يفضل القصر في ثلاثة أيام؛ خروجًا من خلاف الحنفية، يعني هذا من باب الاحتياط

(1)

.

وثمَّة فرق -حال إقرارك حكمًا من الأحكام- بين أن تأخذ بالأرجح دليلًا، وبين أن تأخذ بالأحوط، فعندما تأخذ بالأرجح فمعنى هذا أنك تبحث عن أدلة هذه الأقوال ثم تقف عندها وتعرف وجه الدلالة منها، وتنعم النظر في المناقشات الدائرة بين أصحاب الأقوال، ثم تنتهي إلى ترجيح ما ترى أن النصوص أقرب إليه، وقد تأخذ بالأحوط، فلا شك أن أحوط الأقوال هو مذهب الحنفية، هذا هو الأحوط، لكن مذهب الذين يقولون: لا تحديد، في نظري هو أقواها من حيث الدليل.

* قوله: (وَإِنَّ القَصْرَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ سَارَ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ).

يعني: أن الحنفية أجروا شبه استقراء للشريعة، فوجدوا أن الأيام الثلاثة معتبرة، تمسح ثلاثة أيام بلياليهن

(2)

، لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم

(3)

، والرسول صلى الله عليه وسلم قد رخص للمهاجر بعد أداء نسكه أن يبقى ثلاثة أيام

(4)

، إذن هذه الأيام الثلاثة معتبره في كثير من الأحكام في الشريعة.

(1)

هذا الرأي في كتاب "الأم" للشافعي (1/ 182)، وفيه قال:"فللمرء عندي أن يقصر فيما كان مسيرة ليلتين قاصدتين وذلك ستة وأربعون ميلًا بالهاشمي ولا يقصر فيما دونها، وأما أنا فأحب أن لا أقصر في أقل من ثلاث احتياطًا".

(2)

تقدَّم تخريج هذا الحديث.

(3)

تقدَّم تخريج هذا الحديث.

(4)

أخرجه مسلم (1352) بلفظ: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا".

ص: 2086

* قوله: (وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: القَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا)

(1)

.

هذا القول -وإن نصَّ المؤلف على أنه لأهل الظاهر- لكن هذا القول نصره كثير من العلماء المحققين في المذاهب

(2)

، واستدلُّوا عليه، وتتبعوا أدلته، وعمدة أدلتهم إنما هو إطلاق النصوص، فليس في كتاب اللَّه عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دليل واحد يحدد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، وما جاء في الحديث المرفوع من أنه أربعة برد فإنما هو ضعيف لم يصحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم

(3)

، وإنما صحَّ موقوفًا عن عبد اللَّه بن عباس

(4)

، وجاء أيضًا عن عبد اللَّه بن عباس رواية أُخرى تخالفه، أنه قال:

(1)

انظر: "المحلى"، لابن حزم (5/ 9)، وفيه قال:"وعن القاسم بن محمد وسالم: أنهما أمرَا رجلًا مكيًّا بالقصر من مكة إلى منًى، ولم يخصَّا حجًّا من غيره، ولا مكيًّا من غيره، وصح عن كلثوم بن هانئ وعبد اللَّه بن محيريز وقبيصة بن ذؤيب القصر في بضعة عشر ميلًا وبكل هذا نقول، وبه يقال أصحابنا في السفر إذا كان على ميل فصاعدًا في حج أو عمرة أو جهاد، وفي الفطر في كل سفر".

(2)

قال الرافعي: "ونقل الحناطي وصاحب "البيان" قولًا أن القصر يجوز؛ في السفر القصير بشرط الخوف؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية". انظر: "العزيز شرح الوجيز"(2/ 220).

والقول بالقصر في عموم السفر هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"(24/ 12)، وفيه قال:"وقد تنازع العلماء: هل يختص بسفر دون سفر؟ أم يجوز في كل سفر؟ وأظهر القولين أنه يجوز في كل سفر قصيرًا كان أو طويلًا كما قصر أهل مكة خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومنى وبين مكة وعرفة نحو بريد أربع فراسخ. وأيضًا فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر لا بقصر ولا بفطر ولا تيمم".

(3)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(2/ 232)، وغيره، عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان"، وضعفه البيهقي بقوله: وهذا حديث ضعيف، وضعفه الألباني في:"سلسلة الأحاديث الضعيفة"(439).

(4)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 137)، وغيره، عن عطاء بن أبي رباح: "أن =

ص: 2087

يقصر في يوم كامل

(1)

. وأربعة برد مسافة أكثر من يوم.

وابن عمر أيضًا مع عبد اللَّه بن عباس في هذه المسألة: أن القصر أربعة برد

(2)

، وقد صحَّ عنه أنه قصر في ثلاثين ميلًا

(3)

.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ المَعْنَى المَعْقُولِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ المَعْقُولَ مِنْ تَأْثِيرِ السَّفَرِ فِي القَصْرِ أَنَّهُ لِمَكَانِ المَشَقَّةِ المَوْجُودَةِ فِيهِ مِثْلُ تَأْثِيرِهِ فِي الصَّوْمِ)

(4)

.

= عبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عباس كانا يصليان ركعتين، ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك"، وصححه موقوفًا الألباني في: "إرواء الغليل" (568).

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 353)، وغيره، "عن ابن عباس، قال: تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة".

(2)

مرَّ تخريج هذا الأثر عن ابن عباس وابن عمر قريبًا.

(3)

تقدَّم.

(4)

وسبب المشقة من علل القصر في المذاهب الأربعة.

المذهب الحنفي، انظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 123): " (قوله فوصل)، أي: إلى مكان مسافته ثلاثة أيام بالسير المعتاد بحر. وظاهره أنه كذلك لو وصل إليه في زمن يسير بكرامة لكن استبعده في الفتح بانتفاء مظنة المشقة وهي العلة في القصر".

المذهب المالكي، انظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 368): " (ورخص له)، أي: للمسافر رجلًا أو امرأة جوازًا بمعنى خلاف الأولى (جمع الظهرين) لمشقة فعل كل منهما في وقته ومشقة السفر (ببر)، أي: فيه لا في بحر قصرًا للرخصة على موردها إذا طال سفره بل (وإن قصر) عن مسافة القصر إن جد سيره".

المذهب الشافعي، انظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 238): "فلو قصد مكانًا على مرحلة بنية أن لا يقيم فيه فلا قصر له ذهابًا ولا إيابًا وإن نالته مشقة مرحلتين متواليتين، لما روى الشافعي بسند صحيح عن ابن عباس أنه سئل أنقصر الصلاة إلى عرفة فقال: لا، ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف فقدره بالذهاب وحده؛ ولأن ذلك لا يُسمَّى سفرًا طويلًا".

المذهب الحنبلي، انظر:"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 44): "باب شروط من تقبل شهادته إلا في سفر فيخير بين فعلها، أي: الرواتب وبين تركها؛ لأن السفر مظنة المشقة؛ ولذلك جاز فيه القصر إلا سنة فجر وإلا سنة وتر فيفعلان فيه أي: السفر".

ص: 2088

من المعلوم أن العلماء، وبخاصة الفقهاء والأصوليين، يعنون بتعليل الأحكام، أي: يحاولون أن يوجدوا عللًا

(1)

للحكم، فيذكرون الأدلة والنصوص، وأحيانًا يذكرون تعليلاتٍ للأخذ بهذا الحكم، فمن العلل التي يذكرونها هنا أنهم يقولون: لأن مسيرة اليومين التي هي أربعة برد، هي التي فيها ترحال وشد

(2)

، يعني: تقوم فتشد على الإبل، وتحمل أثاثك وبضاعتك عليها وتمشي ثم تنزل ثم تمشي، وهكذا، وأما السفر القصير فليس فيه شد وترحال، لكن نحن نقول الآن يوجد أيضًا في كلام الفقهاء أنهم نصوا بالنسبة للسفن قديمًا فيما لو ركب إنسان سفينة فقطعت به مسافة القصر في لحظات، في وقت قصير، قالوا: يقصر الصلاة

(3)

.

(1)

العلة عند الأصوليين هي: "اسم لكل صفة توجب أمرًا ما إيجابًا ضروريًّا، والعلة لا تفارق المعلول البتة؛ ككون النار علة الإحراق والثلج علة التبريد الذي لا يوجد أحدهما دون الثاني أصلًا" انظر: "الإحكام"، لابن حزم (8/ 563).

(2)

الذين قالوا بهذه العلة مع هذه المسافة هم المالكية والشافعية والحنابلة.

مذهب المالكية، انظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 475)، وفيه قال:"وهي باعتبار الزمن مرحلتان، أي: سير يومين معتدلين أو يوم وليلة بسير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة".

ومذهب الشافعية، انظر:"كفاية النبيه"، لابن الرفعة (4/ 117 - 118)، وفيه قال:"والمعنى في جواز القصر في هذه المسألة: أنه يلحق المسافر فيها مشقة الشد والترحال والحط؛ كما يلحقه فيما جاوزها، ولا يلحقه ذلك فيما دونها". وانظر: "فتح الوهاب"، لزكريا الأنصاري (1/ 82).

ومذهب الحنابلة، انظر:"المغني"، لابن قدامة (2/ 91)، وفيه قال:"قال ابن عباس: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة. قال الخطابي: وهو أصح الروايتين عن ابن عمر، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشد فجاز القصر فيها". وانظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 179).

(3)

القائلون بهذا هم المالكية والشافعية والحنابلة ووجه عند الحنفية.

مذهب المالكية، انظر:"الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 253)، وفيه قال:" (ومن سافر)، أي: شرع في سفر (مسافة أربعة برد) ذهابًا مقصودًا قطعها دفعة واحدة، ولو قطعها في أقل من يوم وليلة بنحو طيران؛ لأن النظر في الشرع للمسافة". وانظر: "أسهل المدارك"، للكشناوي (1/ 313).

ومذهب الشافعية انظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 380)، وفيه قال: =

ص: 2089

إذن ليست القضية قضية شدّ ورحل، وإلا اعترض على ما نحن فيه، يعني: أن المسافة التي كانت تُقضى في اليوم، صارت الآن تُقضَى في دقيقة في الطائرة، وفي السيارة ما كان يقضى في ساعات كبيرة صار يُقضَى في السيارة في ساعة واحدة، فهل نقول هنا: إن الأحكام تتغير بتغير عللها؟

(1)

.

= " (والبحر كالبر) في اشتراط المسافة المذكورة. (فلو قطع الأميال فيه في ساعة) لشدة الهواء (قصر واللَّه أعلم) كما لو قطعها في البر في بعض يوم على مركوب جواد".

ومذهب الحنابلة انظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 179)، وفيه قال:"فله قصر الرباعية خاصة إلى ركعتين إجماعًا، وكذا الفطر ولو قطعها في ساعة واحدة". وانظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 109).

وفي مذهب الأحناف اختلفوا، فأجازه بعضهم ومنعه آخرون لانتفاء معنى المشقة فيه.

قال ابن عابدين في "حاشيته منحة الخالق على البحر الرائق": " (قوله: وفي السراج إذا كانت المسافة إلخ) قال في الفتح: وهذا أيضًا مما يقوي الإشكال الذي قلناه، ولا مخلص إلا أن يمنع قصر مسافر يوم واحد، وإن قطع فيه مسيرة أيام وإلا لزم القصر لو قطعها في ساعة صغيرة كقدر درجة كما لو ظن صاحب كرامة الطي؛ لأنه يصدق عليه أنه قطع مسافة ثلاثة بسير الإبل. وهو بعيد لانتفاء مظنة المشقة وهي العلة". وانظر: "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 210).

(1)

ليس هذا على إطلاقه، فمن الأحكام ما تتغير بتغير عللها؛ كمنع النساء من المساجد لما يترتب على خروجها من مفاسد، بعد نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن، ومنها ما لا تتغير مع تغير عللها كمسألة الاضطباع والرمل في الحج فإنهما شرعَا لإغاظة المشركين وإظهار الجلد لهم وقد زال هذا المعنى ومع هذا فالحكم باقٍ.

انظر: "البحر المحيط في أصول الفقه"، للزركشي (1/ 219)، وفيه قال:"ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال: يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم، وقد يتأيد هذا بما في البخاري عن عائشة أنها قالت: لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثته النساء بعده لمنعهن من المساجد، وقول عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور أي يجددون أسبابًا يقضي الشرع فيها أمورًا لم تكن قبل ذلك؛ لأجل عدمه منها قبل ذلك، لا لأنها شرع مجدد. فلا نقول: إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الصورة الحادثة". وانظر: "المعونة في الجدل"، لإبي إسحاق الشيرازي (ص: 65).

ص: 2090

هذه أحكام فيها تخفيف، ولذلك رأينا أن اللَّه سبحانه وتعالى خفف عن المؤمنين، وأذِنَ لهم في قصر الصلاة في حالة الخوف

(1)

.

* قوله: (وَإِذَا كانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ القَصْرُ حَيْثُ المَشَقَّةُ. وَأَمَّا مَنْ لَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ إِلَّا اللَّفْظَ فَقَطْ، فَقَال: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ"

(2)

، فَكُلُّ مَنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مُسَافِرٍ، جَازَ لَهُ القَصْرُ وَالفِطْرُ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كانَ يَقْصُرُ فِي نَحْوِ السَبْعَةَ عَشَرَ مِيلًا")

(3)

.

روى المؤلف هذا بالمعنى، وإلا فهو شرحبيل بن السِّمط، فإنه خرج إلى قرية تبعد سبعة عشر كيلومترًا، فقصر فيها الصلاة، فلمَّا سُئل قال: وجدْتُ عمر فعل ذلك، ونسب ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ أنه قد ثبت فيما عرفنا في الأدلة السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسافرًا يقصر في ذي الحليفة

(4)

.

* قوله: (وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى خَامِسٍ كَمَا قُلْنَا، وَهُوَ أَنَّ القَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْخَائِفِ

(5)

، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}

(1)

وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} [النساء: 101].

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (692) بلفظ: "عن جبير بن نفير، قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر، أو ثمانية عشر ميلًا، فصلى ركعتين، فقلت له: فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له: فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل".

(4)

تقدَّم.

(5)

قال الماوردي: "وقيل: هذا مشروط بالخوف من أربع إلى ركعتين، فإن كان آمنًا مقيمًا لم يقصر، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وداود بن علي". انظر: "النكت والعيون"(1/ 523).

ص: 2091

[النساء: 101]، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَذْهَبُ عَائِشَةَ

(1)

وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَصَرَ؛ لأنَّهُ كانَ خَائِفًا

(2)

).

وقد رددنا أيضًا هذا القول، وبيَّنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد اللَّه بن عباس - خرج من المدينة إلى مكَّة لا يخاف، وأنه كان يقصر الصلاة

(3)

، وبقي الأمر على ذلك في عهد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (أَمَّا اخْتِلَافُ أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا المَشَقَّةَ، فَسَبَبُهُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ الأَرْبَعَةِ بُرُدٍ رُوِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ

(4)

، وَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانَ، وَغَيْرِهِمَا

(5)

(6)

).

ذكرنا أنه رُوِي أو ثبت عن كل من الصحابيين الجليلين؛ عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه ابن عباس أنهما قالا بالقصر في مسافة أربعة برد

(7)

،

(1)

أخرج الطبري في "تهذيب الآثار"(1/ 262) عن عائشة أنها كانت تقول في السفر أتموا صلاتكم. فقالوا: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر ركعتين. فقالت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان في حرب، وكان يخاف، هل تخافون أنتم؟

(2)

وهو قوله وتعليل السيدة عائشة كما في الأثر السابق.

(3)

وهو حديث ابن عباس. وقد سبق.

(4)

أخرجه مالك في "الموطأ"(495) بلفظ: "مالك؛ أنه بلغه أن عبد اللَّه بن عباس، كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف. وفي مثل ما بين مكة وعسفان. وفي مثل ما بين مكة وجدة، قال يحيى، قال مالك: وذلك أربعة برد". قال الحافظ ابن حجر: "إسناده صحيح". انظر: "التلخيص الحبير"(2/ 117).

(5)

نقل هذا القول عن ابن مسعود وعثمان القرطبي في "تفسيره"(5/ 355) وفيه قال: "وقال الكوفيون: لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة".

(6)

منهم سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، كما أخرج عبد الرزاق في "المصنف" (2/ 526): عن حماد قال: سألت إبراهيم، وسعيد بن جبير: في كم تقصر الصلاة؟ فقالا: "في مسيرة ثلاثة".

(7)

تقدمت الآثار عنهما قريبًا.

ص: 2092

بل جاء عن عبد اللَّه بن عباس أنه حدد القصر بقوله: من مكة إلى جدة، ومن مكة إلى عسفان، ومن مكة إلى الطائف

(1)

، لكننا قلنا: إنه ثبت عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يذهب إلى أرض له تبعد ثلاثين ميلًا فيقصر الصلاة

(2)

، وهذه أقل من أربعة برد.

وجاء أيضًا عن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما أن القصر في يوم

(3)

، ورأينا أن من الصحابة من قصر دون ذلك، فقد قصر عمر في ذي الحليفة

(4)

، وإن كان الآخرون من أهل العلم يجيبون بأنه إنما قصر في ذي الحليفة؛ لأنه كان ناويًا سفرًا

(5)

.

كذلك جاء أيضًا عن بعض الصحابة أنه قصر في أقل من ذلك

(6)

، لكن الذين قالوا بالقصر في أربعة برد وقفوا عند قول عبد اللَّه بن عباس، وعند قول عبد اللَّه بن عمر في أربعة برد

(7)

، وأن هذا هو الذي اشتهر عنهما، لكننا بيَّنا قبل أنه وقع اختلاف بين الصحابة، وأنهم قد تعارضت أقوالهم في ذلك، وفي حالة المعارضة لا تكون المسألة مجمعًا عليها، وبينا أيضًا أن الآيات التي تناولت السفر في كتاب اللَّه عز وجل، وكذلك أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكرت السفر مطلقًا، وأما غير الأحاديث الصحيحة، فلا يعتمد عليه في المقام.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 359) بلفظ: "عن ابن السمط قال: شهدت عمر بذي الحليفة كأنه يريد مكة صلى ركعتين فقلت له لم تفعل هذا؟ قال: إنما أصنع كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصنع".

(5)

وتعرف نية عمر من قول الراوي عنه: "كأنه يريد مكة" كما جاء في الحديث في الحاشية السابقة.

(6)

ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 358): "عن اللجلاج، قال: كنا نسافر مع عمر بن الخطاب فيسير ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة ويفطر".

(7)

تقدَّم.

ص: 2093

إذن كلُّ ما جاء في كتاب اللَّه عز وجل، وفيما صحَّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السفر إنما جاء مطلقًا وليس بمقيد، وهذه هي وجهة الذين قالوا من أهل العلم بأن كل سفر تقصر فيه الصلاة

(1)

، ووجدنا أن من العلماء من قال: لا قصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام، وهم الحنفية ومن معهم وكثير من علماء الكوفه

(2)

، ووجدنا أنهم يستدلون بعمومات أدلة لم تتعرض للقصر، وإنما جاءت في تحريم السفر على المرأة ثلاثة أيام دون أن يصحبها محرم

(3)

، أو في أن مسح المسافر على خفيه يكون ثلاثة أيام بلياليهن

(4)

، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن للمهاجرين أن يبقوا بعد أداء نسكهم ثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم:"يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا"

(5)

وكان صلى الله عليه وسلم قد حرم عليهم البقاء، لكنه بعد ذلك أجاز لهم أن يمكثوا ثلاثًا.

وحصل مثل ذلك مع عمر رضي الله عنه، فإنه لما أجلى اليهود من الجزيرة -كما هو معلوم- أذن بعد ذلك لمن يأتي منهم متاجرًا أن يبقى ثلاثة أيام

(6)

، فهم قد أخذوا بهذه العمومات وهي في الحقيقة ليست نصًّا في القصر، وبذلك يبقى قول مَن قال من العلماء بأربعة برد

(7)

، ومن لم يحددوا، وإنما كل ما يطلق عليه سفر يدخل في ذلك

(8)

، ولكننا مع ذلك نرى أن الأخذ بالأحوط هو الأولى في هذا المقام، وإن كنا نجد أن أدلة

(1)

تقدَّم قريبًا.

(2)

تقدَّم قريبًا مذهب الحنفية وأهل الكوفة في ذلك.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه مسلم (1352) بلفظ: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا".

(6)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 51) بلفظ: "عن ابن عمر قال: كانت اليهود، والنصارى ومن سواهم من الكفار من جاء المدينة منهم سفرًا لا يقرون فوق ثلاثة أيام على عهد عمر، فلا أدري أكان يفعل ذلك بهم قبل ذلك أم لا؟ ".

(7)

تقدَّم قولهم قريبًا.

(8)

تقدَّم قريبًا.

ص: 2094

الذين قالوا: كل سفر تقصر فيه الصلاة هي أدلة قوية، لكن الأحوط للمسلم في هذا المقام أن يأخذ بما جاء عن الأئمة الثلاثة

(1)

، بأن القصر في أربعة برد، وهذه المسافة ذكرناها فيما مضى، وذكرنا أنها تقرب من ثمانين كيلو مترًا.

* قوله: (وَأَمَّا المَوْضِعُ الثَّالِثُ، وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي نَوْعِ السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّفَرِ المُتَقَرَّبِ بِهِ كَالحَجِّ وَالعُمْرَةِ وَالجِهَادِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ أَحْمَدُ)

(2)

.

الموضع الثالث: ما نوع السفر التي تقصر فيه الصلاة؟

يقول اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] عرفنا أن

(1)

أي: مالك والشافعي وأحمد، وتقدم قولهم قريبًا.

(2)

أي: قال بأنه لا يقصر إلا إذا كان في سفر طاعة، أما إذا كان في سفر نزهة فلا يقصر، وهذا القول هو إحدى الروايتين عنه. انظر:"الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 176، 177)، وفيه قال:"واختلف في القصر في سفر النزهة. فنقل مهنا خرج إلى بلد يريد النزهة بها: لا يقصر الصلاة. وظاهر هذا المنع محمول على طريق الاختيار. قال أحمد: تقصر الصلاة في كل سفر. وظاهر هذا الجواز على الإطلاق".

ومشهور المذهب على جوازه. انظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 713، 714)، وفيه قال:"ويجوز القصر (لمن نوى سفرًا)، أي: شرع فيه، واجبًا كان أو مستحبًا؛ كسفر الحج والجهاد. .، فالسفر للواجب من ذلك واجب، وللمندوب منه مندوب، وكالسفر لزيارة الإخوان. .، أو ابتدأ سفرًا (مباحًا)، أي: ليس حرامًا ولا مكروهًا، (ولو عصى فيه)، أي: السفر المباح، (أو) كان (نزهة أو فرجة). (أو) كان المسافر (تاجرًا مكاثرا) في الدنيا. (أو) كان السفر (المباح أكثر قصده)، كتاجر قصد التجارة، وقصد معها أن يشرب من خمر تلك البلدة؛ فإن تساوى القصدان، أو غلب الحظر، أو سافر ليقصر فقط؛ لم يجز له القصر".

ص: 2095

سبب القصر إنما جاء في هذه الآية، وهو الخوف، وأن اللَّه سبحانه وتعالى بعد أن زال الخوف أبقى هذا الحكم مستقرًّا، ورخَّص للمؤمنين، وهذا من التيسير الذي جاءت به الشريعة، وتكلمنا عنه كثيرًا فيما مضى

(1)

.

إذن عرفنا أن هذا بالنسبة للمسافر عمومًا، ولم يكن ما جاء من تخفيف في هذه الشريعة قاصرًا على المسافر فقط، وحتى المسافر لم يكن التخفيف عليه في قصر الصلاة فحسب، وإنما له أن يفطر في نهار رمضان، والفطر أفضل

(2)

. وقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلًا ظُلِّل عليه وسأل عن ذلك فتبين أنه صائم قال: "ليس من البر الصيام في السفر"

(3)

.

إذن هذا فيه حضٌّ على الأخذ بالرُّخصِ، كذلك نجد أنه صحَّ في الحديث أنه يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن، والمقيم يومًا وليلةً

(4)

.

(1)

تقدَّم قريبًا في قصر الصلاة في الخوف.

(2)

اختلف العلماء هل الفطر في رمضان أفضل للمسافر أم الصوم. فالجمهور على أن الصوم أفضل، وخالف الحنابلة، فقالوا الفطر أفضل.

انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدروي (3/ 1513)، وفيه قال:"قال أصحابنا: الصوم في السفر إذا لم يستضر به أفضل من الفطر".

وانظر في مذهب المالكية: "حاشية الدسوقي"(1/ 515)، وفيه قال:" (قوله وصوم بسفر)، أي: يندب للمسافر أن يصوم في سفره المبيح للفطر وسيأتي شروطه؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ويكره الفطر".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 423) وفيه قال:" (والصوم للمسافر أفضل) من فطره {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ولبراءة الذمة وفضيلة الوقت".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (5/ 226) وفيه قال:"والمسافر سفر قصر يسن له الفطر إذا فارق بيوِت قريته العامرة. . لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ويكره صومه ولو لم يجد مشقة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصوم في السفر"".

(3)

أخرجه البخاري (1946) بلفظ: "ليس من البر الصوم في السفر"، ومسلم (1115) بلفظ:"ليس البر أن تصوموا في السفر".

(4)

تقدَّم تخريج هذا الحديث.

ص: 2096

والآن سنشرع في موضوع جديد، فالسفر أنواع؛ فالمسافر إما أن يسافر قربة إلى اللَّه عز وجل، وهو ما يعرف بسفر الطاعة؛ لأن المسافر قد يسافر حاجًّا، والحاج إما أن يكون الحجُّ في حقِّه واجبًا، وذلك لمن لم يؤدِّ حجته التي هي ركن من أركان الإسلام، أي: حجته المفروضة، وقد يكون تطوعًا في حقِّ من أدَّى الحج الواجب، وأصبح يتطوع، وكذلك الحال بالنسبة للعمرة، وقد يكون السفر مندوبًا؛ كالسفر للجهاد أو الاشتغال بطلب العلم والدعوة في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى، وقد قال الرسول:"مَن سلكَ طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّلَ اللَّهُ له فيه طريقًا إلى الجنة"

(1)

، ولقد سافر أحد الصحابة -كما جاء في "صحيح البخاري"- يطلب حديثًا من بلاد الشام، بلغه أن أحد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحفظ حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم

(2)

، فشد على راحلته، وامتطى دابته، وقطع المفاوز

(3)

والقِفار

(4)

؛ ليصل إلى ذلك حتى ذهب إليه وسلم عليه، وأخذ عنه حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وظلَّ هذا الأمر منتشرًا حتى عصر الأئمة، وبعد عصر الأئمة، حتى إلى القرون المتأخرة، إلى ما يقرب من القرن العاشر، وما زال بحمد اللَّه طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد، وينتشرون في كلِّ مكان.

وقد يكون السفر مباحًا، كالسفر للتجارة، وهذه كلها متفق عليها بين

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري معلقًا (مع الفتح)(1/ 174) قال: ورحل جابر بن عبد اللَّه مسيرة شهر إلى عبد اللَّه بن أنيس في حديث واحد. وعلَّقه أيضًا في موضع آخر (13/ 457) قال: ولذكر عن جابر، عن عبد اللَّه بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر اللَّه العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان". ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق"(5/ 355).

(3)

المفاوِز واحدتها المَفازَةُ. وهي الفلاة. سمِّيت بذلك؛ لأنها مَهْلَكة، من فَوَّزَ أي: هلك. وقيل: سمِّيت بذلك تفاؤلًا بالسلامة والفوز". انظر: "الصحاح"، للجوهري (3/ 890). وانظر: "العين"، للخليل (8/ 333).

(4)

"القِفار": جمع قَفر، وهو الخالي من الأمكنة. انظر:"العين"، للخليل (5/ 151).

ص: 2097

العلماء، لكن هناك خلاف يسير فيما يتعلَّق بمَن يخرج مسافرًا للنزهة أو للصيد ونحو ذلك فهل يقصر؟

الجواب: الصحيح أنه يقصر، وهذا هو مذهب جمهور العلماء

(1)

.

يبقى بعد ذلك مَن يسافر في معصية، اللَّه سبحانه وتعالى يقول:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، يقول في آية المائدة بالنسبة لأكل لحم الميتة {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3].

ونجد عبد اللَّه ابن عباس لما فسَّر هذه الآية قال: غير باغ، أي: على المسلمين، لا يبغي عليهم، ولا عادٍ بمعنى: أنه غير خارج على المسلمين

(2)

، فلو أن إنسانًا ذهب ليقطع الطريق على المسلمين، أو ليسفك

(1)

وهم المالكية في قول لهم والشافعية والحنابلة. وكذا الأحناف حتى قالوا بجوازه في سفر المعصية.

انظر في مذهب المالكية: "حاشية الدسوقي"(1/ 358) وفيه قال: "وفي قصر اللاهي قولين بالكراهة والجواز".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 238) وفيه قال:" (ويقصر إن كان له) في سلوكه (غرض) آخر ولو مع قصد إباحته لقصر كأمن وسهولة وزيارة وعبادة (ولو) كان الغرض (تنزهًا) ".

وفي مذهب الحنابلة: سبق النقل عن الرحيباني.

وانظر في مذهب الأحناف: "البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 35)، وفيه قال:"اعلم: أن السفر خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام. فالواجب: سفر الحج. ومندوب: مثل حج النفل، وطلب العلم، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، والصلاة في المسجد الأقصى، وزيارة الوالدين. والمباح: سفر التجارة، والتنزه، والمكروه: السفر من بلد إلى بلد، لا لغرض صحيح. والحرام: السفر لقطع الطريق، أو الإباق، ونحوهما. فعندنا يقصر في كل سفر".

(2)

أخرج البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(4/ 282)، عن ابن عباس في هذه الآية معنى ما رويناه، عن مجاهد وقال: إنما أحله اللَّه لمن كان في طاعته إذا اضطر إليه، فمن عدا على المسلمين بسيفه يخيف سبيلهم ويقطع طريقهم، فلا يحل له شيء مما حرم اللَّه عليهم إذا اضطروا إليه قليلًا ولا كثيرًا ولا رخصة لهم فيها؛ لأنهم في معصية اللَّه، وإن كان غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه يعني: فلا حرج عليه أن يأكل منه شعبة.

ص: 2098

دماءهم أو ليتاجر في أمور محرمة، أو ليسرق، أو ليرتكب ذنبًا من الذنوب، فهذا سفره سفر معصية، لأنه لم يسافر في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى، ولم يسافر أيضًا للضرب والسعي في الأرض يبتغي الرزق فيها مما أباحه اللَّه سبحانه وتعالى، لكن هذا سعى وسافر، ليفسد في الأرض.

ففرق بين مَن يسعى في الأرض؛ ليصلح، وبين من يسعى فيها؛ ليفسد، وشتان بينهما، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء؛ فمن العلماء من قال: كل مسافر سفر معصية لا يباح له أن يقصر الصلاة

(1)

؛ لأن اللَّه تعالى قال: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] فأباح للمضطر أن يأكل الميتة لكن لو كان هذا المضطر عاصيًا فإن العلماء تكلموا في هذه المسألة، وهي مرتبطة بمسألة وثيقة الصلة بها؛ لأن الذي يسافر في معصية اللَّه قد لا يجد طعامًا، ويجد ميتة، واللَّه سبحانه وتعالى أباح للمضطر أن يأكل منها، بل قال جماهير العلماء: يجب على المضطر أن يأكل من الميتة؛ ليحفظ مهجته؛ ليحفظ حياته

(2)

، ولو لم يكن فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، واللَّه سبحانه وتعالى نهاه عن

(1)

وممن قال بهذا القول المالكية والشافعية والحنابلة، كما سبق.

انظر في مذهب المالكية: "حاشية الصاوي"(1/ 199)، وفيه قال:" (وأخذ من قوله: سفر قصر) إلخ، أي: فيؤخذ منه قيدان أن يكون أربعة برد لا أقل: وأن لا يكون سفر معصية".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 92) وفيه قال:" (لا) في (سفر معصية) كعبد آبق وامرأة ناشزة فإنه يجب به القضاء؛ لأن عدم القضاء رخصة فلا يناط بسفر المعصية".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 297) وفيه قال:" (وإن نوى مسافر القصر حيث لم يبح) له القصر لنحو نية إقامة مما تقدم، وكونه سفر معصية أو لا يبلغ المسافة (عالمًا) عدم إباحته له (لم تنعقد) صلاته".

(2)

وممن قال بهذا القول: الحنفية المالكية والشافعية والحنابلة.

انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (2/ 902) وفيه قال:"ولأن الميتة في حق المضطر كالطعام المباح في حق القادر، ومعلوم أن العاصي لا يجوز له ترك المباح، فكذلك لا يجوز له ترك الميتة عند العجز".

وانظر في مذهب المالكية: "حاشية الصاوي"(2/ 119) وفيه قال: " (تعين لغصة)، أي: حيث خشي منها الهلاك ويصدق المأمون ويعمل بالقرائن. قوله (على الأصح):=

ص: 2099

ذلك، وعن قتل نفسه:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

يتكلَّم العلماء بعدَ ذلك عن العاصي، إذا لم يأكل من هذه الميتة أيضًا فسيموت، قال العلماء: يتوب إلى اللَّه إنسان في حالة أَوْشَك -يعني قارب- على الموت

(1)

.

= ونص "الموطأ": ومن أحسن ما سمعت في الرجل يضطر إلى الميتة أنه يأكل منه حتى يشبع ويتزود منها فإن وجد عنها غنى طرحها".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 571) وفيه قال:"وإلا فيتعين شربها كما يتعين على المضطر أكل الميتة".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (4/ 298) وفيه قال:"ومن اضطر إلى محرم مما ذكرنا حضرًا أو سفرًا. . . وجب عليه أن يأكل منه أيِّ المحرم ما يسد رمقه بفتح الميم والقاف، أي: بقية روحه ويأمن معه الموت لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ".

(1)

وممن قال بذلك الشافعية والحنابلة، وهو المشهور من مذهب المالكية.

انظر في مذهب المالكية: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 932)، وفيه قال:"وأما سفر المعصية، فالمشهور من مذهب مالك منع القصر فيه. وبه قال الشافعي حتى منعه الشافعي من رخّص السفر كلها كأكل الميتة عند الضرورة وصلاة النافلة على الراحلة والمسح على الخفين ثلاثة أيام. وروي عن مالك جواز القصر، وبه قال أبو حنيفة. وأما مذهبنا في أكل الميتة فإن ابن حبيب قال: إنما يقصر في سفر جائز، فأما من خرج باغيًا أو عاديًا أو طالبًا لإثم فلا يجوز له القصر كما لا يجوز له الأكل من الميتة عند الضرورة". وانظر: "منح الجليل"، لعليش (2/ 455، 456).

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 139 - 240) وفيه قال: " (فإن سافر) أحد (بلا غرض صحيح) كمجرد رؤية البلاد (أو) سافر (ليسرق) أو يزني. . . (لم يترخص بقصر و) لا (جمع و) (إفطار و) لا راحلة و) لا (مسح ثلاث) على خف (و) لا (سقوط جمعة و) لا (أكل ميتة) للاضطرار، لأنه تخفيف، وهو متمكن من دفع الهلاك بالتوبة، فإن لم يتب ومات كان عاصيًا بتركه التوبة وبقتله نفسه".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 265) وفيه قال:"ولا يترخص في سفر معصية بقصر ولا فطر ولا أكل ميتة نصًّا؛ لأنها رخص والرخص لا تناط بالمعاصي فإن خاف المسافر سفر معصية على نفسه إن لم يأكل الميتة قيل له تب وكل لتمكنه من التوبة كل وقت".

ص: 2100

فإذا أوشك على الموت وهو بعد لم يعد إلى اللَّه سبحانه وتعالى، فهل مثل هذا يحتاج إلى شفقة؟ كثير من العلماء

(1)

قالوا: لا يأكل، وإنما أمامه طريق سهل ميسور، هو أن يعود إلى اللَّه ويتوب، ويصبح الأمر أمامه مباحًا ويزول الحظر، ومن العلماء من قال: يأكل، وهم فريق من أهل العلم لا يفرِّقون بين أيِّ نوع من أنواع السفر

(2)

.

وجمهور العلماء؛ مالك والشافعي وأحمد

(3)

يقولون: مَن سافر سفر معصية ليس له أن يقصر الصلاة؛ لأن في قصره للصلاة إعانة له تقربه مما يريد الوصول إليه، فهذا سافر ليعصي اللَّه، فعندما يقصر الصلاة يسر له الأمر وهيئ وخفف عنه، فكان في ذلك إعانة له ولا ينبغي أن يعان إنسان في مثل هذا المقام، وفريق آخر من العلماء

(4)

قالوا: إن عموم أدلة الكتاب والسنة التي جاءت في القصر لم تفرق بين مسافر ومسافر، فينبغي كذلك ألا نفرق بينهما.

ورأينا في هذا أن الأولى في هذه المسألة هو مذهب جمهور العلماء، وهو أن المسافر سفر معصية لا يقصر الصلاة، وأما مَن سافر سفرًا مباحًا أو للنزهة؛ كأن يذهب ليصطاد، أو أن يذهب ليغير الجو، كما يفعله كثير من الناس، فهذا أمر أباحه اللَّه سبحانه وتعالى للإنسان وله أن يقصر، لكن ينبغي أن يلاحظ أن كثيرًا من الإخوة أو بعضًا من الإخوة -هداهم اللَّه- يتخذون ذلك يوم الجمعة، فيخرجون ويدعون الصلاة، وهذا لا ينبغي

(5)

.

(1)

وهم الجمهور.

(2)

وهم الحنفية. يُنظر: "التجريد"، للقدوري (2/ 900) وفيه قال:"قال أصحابنا: إذا سافر الرجل لقصد المعصية -كمن خرج لقطع الطريق أو البغي على الإمام أو العبد يابق من مولاه- جاز لهم الترخص برخص السفر".

(3)

كما مرَّ النقل عنهم قريبًا.

(4)

وهم الحنفية كما مر النقل عنهم قريبًا.

(5)

ولذلك اتَّفق الفقهاء على منع السفر يوم الجمعة بعد الزوال، فالأحناف على الكراهة والجمهور على التحريم. =

ص: 2101

وما نسب للإمام أحمد من ذلك فهو رواية عنه

(1)

، والأخرى هي التي ذكرها المصنف هنا، وهي أن الأمر مقصور على السفر الذي يكون قربة إلى اللَّه كالحجِّ والجهاد وغيرهما

(2)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي السَّفَرِ المُبَاحِ دُونَ سَفَرِ المَعْصِيَةِ، وَبِهَذَا القَوْلِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ).

وأحمد أيضًا

(3)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قُرْبَةً كَانَ أَوْ مُبَاحًا أَوْ

= انظر في مذهب الأحناف: "مراقي الفلاح"، للشرنبلالي (ص: 198)، وفيه قال:" (وكره) لمن تجب عليه الجمعة (الخروج من المصر) يوم الجمعة (بعد النداء)، أي: الأذان الأول وقبل الثاني (ما لم يصل) الجمعة؛ لأنه شمله الأمر بالسعي قبل تحققه بالسفر وإذا خرج قبل الزوال فلا بأس به بلا خلاف عندنا". وانظر: "الدر المختار"، للحصفكي (2/ 162).

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 387)، وفيه قال:" (و) كره لمن تلزمه (سفر بعد الفجر) يومها (وجاز قبله وحرم بالزوال) إلا أن يعلم إدراكها ببلد في طريقه أو يخشى بذهاب رفقته دونه على نفسه أو ماله إن سافر وحده".

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 415)، وفيه قال:" (ويحرم على من لزمته) الجمعة، وإن لم تنعقد به كمقيم لا يجوز له القصر (السفر بعد الزوال) لدخول وقتها (إلا أن تمكنه الجمعة)، أي: يتمكن منها بأن يغلب على ظنه ذلك".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 311)، وفيه قال:" (وحرم سفر من تلزمه الجمعة) بنفسه أو غيره (في يومها بعد الزوال حتى يصلي) الجمعة لاستقرارها في ذمته بدخول أول الوقت، فلم يجز له تفويتها بالسفر، بخلاف غيرها من الصلوات لإمكان فعلها حال السفر (إن لم يخف فوت رفقته) بسفر مباح، فإن خافه سقط عنه وجوبها وجاز له السفر (وكره) السفر (قبله)، أي: قبل الزوال لمن هو من أهل وجوبها".

(1)

أي: جواز القصر في سفر النزهة. وقد سبق.

(2)

سبق نقل الروايتين. والقول بالجواز هو مشهور المذهب كما سبق.

(3)

تقدَّم النقل قريبًا.

ص: 2102

مَعْصِيَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ

(1)

، وَالثَّوْرِيُّ

(2)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(3)

).

أخذًا بعموم الأدلَّةِ، قالوا: الأدلة لم تفرق بين مسافر ومسافر، فأطلقت، فنقول: الآية أيضًا يفهم منها معاملة العاصي خلاف غيره، ثم في استقراء أدلة الشريعة وأحكامها نجدْ أن اللَّه سبحانه وتعالى قد أمر بالتعاون على البر والتقوى، وأن الإنسان لا يُعان على الإثم، فمن يرتكب إثمًا لا يعان عليه، وإن لم تكن الإعانة مباشرة، لكن هذه وسيلة وتخفيف عليه، وفي التخفيف عليه نوع من الإعانة.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ المَعْنَى المَعْقُولِ أَوْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِدَلِيلِ الفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اعْتَبَرَ المَشَقَّةَ أَوْ ظَاهِرَ لَفْظِ السَّفَرِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ)

(4)

.

يعني: مَن اعتبر ظاهر السفر -كما ذكرنا إطلاق النصوص- قال: لا نرى فرقًا، أو أن العلة المشقة؛ لأن السفر مظنة المشقة، إذن هذه المظنة لا يختلف فيها المطيع والعاصي، فلماذا فرقتم؟

هذا هو المعنى المعقول الذي يريد أن يتكلم عنه، إذن هو يريد أن يقول: النصوص عامة.

والعلة التي نقول جميعًا بأنَّه خفف عن المسافر لأجلها هي مظنة

(1)

تقدَّم النقل قريبًا.

(2)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (11/ 181) وفيه قال: "وقال بعضهم للعاصي أن يقصر وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي يقصر المسافر عاصيا كان أو مطيعًا".

(3)

لم أقف على قوله.

(4)

انظر: "المحيط البرهاني"، لابن مازه (2/ 24)، وفيه قال:"ولنا قوله عليه السلام: "فرض المسافر ركعتان من غير قصر"، ولأن السفر له صار مرخصًا باعتبار مشقة تلحقه المشي بالأقدام، والغيبة عن الوطن ولا خطر في هذا، ولنا الخطر في مقصوده لا في عين السفر، فيبقى بعين السفر مرخصًا مبيحًا".

ص: 2103

المشقة، والمشقة ليست مقطوعة

(1)

؛ لأنه ليس كل مسافر تلحقه مشقة، إذن هذه متوفرة في العاصي، لكننا نقول: نمنعه من جانب آخر، وهذا الجانب هو أنه باغٍ معتدٍ

(2)

، ولذلك لا يُباح له أن يقصر الصلاة.

* قوله: (وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ دَلِيلَ الفِعْلِ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي السَّفَرِ المُتَقَرَّبِ بِهِ).

المقصود أنه إذا نظرنا إلى ظاهر النصوص، وإلى علة السفر، فهذا يكون حجة لمن قال من أهل العلم بجواز القصر مطلقًا، وإذا نظرنا إلى الفعل فنجد أنه لا يدل على ذلك، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحاشاه- لم يسافر في معصية، وإنما كانت أسفاره كلها في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى

(3)

، فقد سافر غازيًا، وحاجًّا، ومعتمرًا، إذن هو يجاهد في سبيل اللَّه، ويغزو المشركين وكذلك كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيقول: الفعل الذي وقع كان في سفر الطاعة، وكان الصحابة يسافرون سفرًا مباحًا، للاشتغال بالتجارة، والضرب في الأرض

(4)

، هذا هو الذي وقع، وأما سفر المعصية فلم يحصل، إذن فمن طريق الفعل نرد القول بجواز القصر مطلقًا، لكننا أيضًا نقول: نرده بمفهوم الآية

(5)

؛ لأن هذا معتد، وهو أيضًا باغ؛ لأن الباغي

(1)

تقدَّم الكلام عن علة المشقة في السفر.

(2)

تقدَّم الكلام عن الباغي والعادي وحكم الضرورة لهما.

(3)

أخرج عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 522)"عن ابن جريج قال قلت لعطاء: قولهم لا تقصروا الصلاة إلا في سبيل اللَّه قال: إني لأحسب أن ذلك كذلك قلت: لم؟ قال: من أجل أن إمام المتقين لم يقصر الصلاة إلا في سبيل اللَّه".

(4)

الضرب في الأرض وهو السير فيها. انظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (ص: 148).

(5)

يقصد قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} . فمفهوم الآية يدل على أنه يشمل كل سفر إلا ما استثني من سفر المعصية.

قال القاضي عبد الوهاب: "القصر جائز في السفر الواجب والمباح، خلافًا لمن حكي عنه أنه لا يجوز إلا في واجب كالحج والعمرة والجهاد، لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}، فعمَّ، ولأنه سفر في غير معصية كالواجب". انظر: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(1/ 303).

ص: 2104

كما قال عبد اللَّه بن عباس باغٍ على المسلمين

(1)

، أي: اعتدى على المسلمين، يبغي عليهم، كذلك أيضًا مَن يخرج على المسلمين، فيقطع الطريق، ويخيف الآمنين، وربما يقتل، أو يذهب ليرتكب فاحشة من الفواحش.

* قوله: ("لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَقْصُرْ قَطُّ إِلَّا فِي سَفَرٍ مُتَقَرَّبٍ بِهِ"

(2)

. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ المُبَاحِ وَالمَعْصِيَةِ، فَعَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ).

الذين فرقوا من أهل العلم بين المباح وغيره، ونقل عن عبد اللَّه بن مسعود أنه لا بد أن يكون السفر قربة

(3)

، وهذا هو الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

* قوله: (وَالأَصْلُ فِيهِ: هَلْ تَجُوزُ الرُّخْصَةُ لِلْعُصَاةِ أَمْ لَا؟)

(5)

.

من هنا وضع العلماء القاعدة المعروفة: الرخص لا تناط بالمعاصي

(6)

؛ فالرخصة لا تتعلق بالمعصية، فالعاصي إذن لا يخفف عنه، وهذا استنباط العلماء من هذه المسألة ومن أمثالها، فالعاصي لا يخفف عنه، وإنما يشدد عليه، ويؤخذ على يديه، ويؤطر على الحق أطرًا

(7)

.

(1)

تقدَّم النقل عن ابن عباس قريبًا.

(2)

كما مر من نقل عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قريبًا. وهو رواية عن أحمد كما سبق.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 521) عن ابن مسعود موقوفًا، بلفظ:"لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد".

(4)

كما مر من نقل عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قريبًا.

(5)

تقدَّم نقل الخلاف بين العلماء في هذا المسألة.

(6)

يُنظر: "المنثور في القواعد الفقهية" للزركشي (2/ 167) وفيه قال: "الثالث: الرخص لا تناط بالمعاصي. ومن ثَمَّ العاصي بسفره لا يترخص بالفطر والقصر والجمع، ولا يأكل الميتة".

(7)

"الأَطْرُ": عَطفُ الشيءِ تَقبِضُ على أحد طرفيه فتعوِّجُه. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم"، لابن سيده (9/ 203).

ص: 2105

* قوله: (وَهَذِهِ مَسْأَلَة عَارَضَ فِيهَا اللَّفْظُ المَعْنَى، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا لِذَلِكَ).

عارض اللفظ فيها المعنى؛ اللفظ عموم الأدلة التي أجازت، والمعنى هو أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو سفر القربة، أو السفر المباح

(1)

.

* قوله: (وَأَمَّا المَوْضِعُ الرَّابعُ: وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي المَوْضِعِ الَّذِي مِنْهُ يَبْدَأُ المُسَافِرُ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ مَالكًا قَالَ فِي "المُوَطَّإِ": لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ القَرْيَةِ)

(2)

.

هذا ليس قول مالك وحده، بل هو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، هذا هو قول جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة

(3)

.

(1)

تقدَّم التفصيل في ذلك قريبًا.

(2)

قال مالك في "الموطأ"(1/ 148): "لا يقصر الذي يريد السفر الصلاة، حتى يخرج من بيوت القرية، ولا يتم حتى يدخل أول بيوت القرية أو يقارب ذلك".

(3)

انظر في مذهب الأحناف: "حاشية ابن عابدين"(2/ 125)، وفيه قال:"ويظهر لي في الجواب أن العلة في الحقيقة هي المشقة وأقيم السفر مقامها ولكن لا تثبت عليتها إلا بشرط ابتداء وشرط بقاء فالأول مفارقة البيوت قاصدًا مسيرة ثلاثة أيام والثاني استكمال السفر ثلاثة أيام".

وانظر في مذهب المالكية: "حاشية الدسوقي"(1/ 360)، وفيه قال:"فإذا دخل البلدي بلدًا ونوى أن يقيم فيها أربعة أيام صحاح ثم أراد الارتحال فلا يقصر حتى يجاوز البساتين إذا سافر من ناحيتها".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 234 - 235)، وفيه قال:"ويحصل ابتداء السفر من بلد له سور (بمفارقة سور البلد المختص به)، وإن تعدد كما قاله الإمام وغيره دون السور الجامع لبلاد متفرقة كما سيأتي ومن بلد له بعض سور، وهو صوب سفره بمفارقته (ولو لاصقه) من خارجه (بنيان)، أي: عمران (أو مقابر، أو احتوى على خراب ومزارع) فتكفي مفارقة ما ذكر".

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 268) وفيه قال "فلا يقصر مستوطن بمحل إلا إذا فارقه فلا يقصر ساكن الخيام أو القرى إلا إذا فارق خيام قومه أو بيوت قريته".

ص: 2106

* قوله: (وَلَا يُتِمُّ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلَ بُيُوتِهَا).

لكن العلماء أحيانًا يثيرون مسائل فرعية حول هذا، فلو أن إنسانًا خرج ليسافر، ثم عاد وقد تذكر أنه نسي شيئًا، هل في حالة العودة يقصر؟ الصحيح: أنه يقصر؛ لأنه ما يزال في سفر

(1)

.

(1)

ذهب الجمهور إلى أنه من فارق بلده ثم تذكر شيئًا وعاد ولم يكن ينوي الرجوع، وكانت المسافة التي قطعها هي مسافة القصر فإنه يقصر في حال رجوعه.

واشترط الأحناف شرطين لجواز قصره في حالة رجوعه، وهما: عدم دخوله وطنه. وثانيًا: قضاءه مدة القصر، وهي ثلاثة أيام، فإذا لم يقضِ المدة ثم تذكر شيئًا قد نسيه فعاد فإنه يتم. وكذأ إذا قضى المدة وعاد وقد دخل وطنه فإنه يتم أيضًا، أما إذا كان قريبًا منه وقد بلغ مدة القصر استمر في قصره.

انظر في مذهب الأحناف: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 142)، وفيه قال:"والذي يظهر أنه لا بدَّ من دخول المصر مطلقًا؛ لأن العلة مفارقة البيوت قاصدًا مسيرة ثلاثة أيام لا استكمال سفر ثلاثة أيام بدليل ثبوت حكم السفر بمجرد ذلك فقد تمت العلة لحكم السفر فيثبت حكمه ما لم تثبت علة حكم الإقامة، وروى البخاري تعليقًا أن عليًّا خرج فقصر، وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له: هذه الكوفة، قال لا حتى ندخلها يريد أنه صلى ركعتين والكوفة بمرأى منهم فقيل له إلى آخره". وانظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 29).

وانظر في مذهب المالكية: "الشامل في فقه الإمام مالك"، للدميري (1/ 130)، وفيه قال:"فلو رجع قبل المسافة أتم، ولو لشيء نسيه على المشهور كمن عدل عن القصر لغير عذر، وإلا قصر كمن رجع بعد المسافة".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 236) وفيه قال:"لو (فارق البنيان)، أو غيره من الأمكنة التي شرط مفارقته لها (ثم رجع) إليها (من قريب)، أي: من دون مسافة القصر (لحاجة)؛ كتطهر (أو نواه)، أي: الرجوع لها، وهو مستقل ماكث ولو بمكان لا يصلح للإقامة (فإن كانت وطنه صار مقيما) بابتداء رجوعه، أو بنيته فلا يترخص في إقامته ولا رجوعه إلى أن يفارق وطنه تغليبًا للوطن". وانظر: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 375، 376).

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 508)، وفيه قال:" (ولو لم ينو الرجوع) عند مفارقته كما سبق مسافرًا (لكن بدا له) الرجوع (لحاجة) بدت له (لم يترخص) بقصر ولا فطر (في رجوعه بعد نية عوده، حتى يفارقه أيضًا) أو تنثني نيته في نحو يسير لما تقدم (إلا أن يكون رجوعه) إلى وطنه (سفرًا طويلًا)، أي: يبلغ مسافة القصر فيترخص في عوده؛ لأنه مسافر". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 190).

ص: 2107

* قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ

(1)

: أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ إِذَا كَانَتْ قَرْيَةً جَامِعَةً حَتَّى يَكُونَ مِنْهَا بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ)

(2)

.

هذا قول لا دليل عليه، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ في حديث أنس، والشك من شعبة: هل هي ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - يقصر الصلاة

(3)

، هذا حقيقة لا دليل فيه، وإنما فيه أنه إذا أراد سفرًا طويلًا، إذا خرج هذه المسافة توقف وقصر، ولذلك نجد أنه أحيانًا يؤخر الظهر إلى وقت العصر

(4)

.

* قوله: (وَذَلِكَ عِنْدَهُ أَقْصَى مَا يَجِبُ فِيهِ الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ المِصْرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ)

(5)

.

من المعلوم أن في الجمعة خلاف، والجمعة تجب على مَن سمع النداء، وعلى من آواه النداء إلى أهله، ومعلوم أن مالكًا قال: تجب على من كان بينه وبين موضعها ثلاثة أميال

(6)

، وهذا هو الذي يُشير إليه المؤلف.

(1)

أي: عن مالك كما سيأتي بيانه قريبًا.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 360) وفيه قال: "وظاهر قوله ويتم المسافر حتى يبرز من قريته (وتؤولت أيضًا على مجاوزة ثلاثة أميال بقرية الجمعة) بحمل قولها: حتى يبرز عن قريته على مجاوزة الثلاثة في قريتها". وانظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"، لابن عبد البر (1/ 245).

(3)

أخرجه مسلم (691) بلفظ: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثهَ فراسخ -شعبة الشاك- صلى ركعتين".

(4)

انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 328، 329)، وفيه قال:"وأما حديث أنس فليس معناه أن غاية سفره كانت ثلاثة أميال، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرًا طويلًا فتباعد ثلاثة أميال قصر، وليس التقييد بالثلاثة لكونه لا يجوز القصر عند مفارقة البلد، بل لأنه ما كان يحتاج إلى القصر إلا إذا تباعد هذا القدر؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليهما فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد عن المدينة".

(5)

تقدَّم قريبًا.

(6)

تقدَّم قريبًا.

ص: 2108

* قوله: (وَبِالقَوْلِ الأَوَّلِ قَالَ الجُمْهُورُ).

جمهور العلماء قاطبة قالوا بالقول الأول

(1)

، وهو الصحيح.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ الِاسْمِ لِدَلِيلِ الفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي السَّفَرِ فَقَدِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مُسَافِرٍ)

(2)

.

يعني: أن الإنسان إذا هيَّأ نفسه للسفر، وأعد العدة بأن يعد حقيبته مثلًا، فهو الآن قد بدأ في السفر، ومتى ما خرج فقد أصبح مسافرًا.

* قوله: (فَمَنْ رَاعَى مَفْهُومَ الِاسْمِ

(3)

قَالَ: إِذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ القَرْيَةِ قَصَرَ).

قال اللَّه سبحانه وتعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء: 101]، ومن يخرج من بلدته فقد بدأ بالضرب في الأرض، ففي الآية إذن دلالة على أن القصر يبدأ بمغادرة بلده

(4)

، أما وهو في بلده فلا يعتبر ضربًا في الأرض، وإنما هو بين أهله وذويه

(5)

.

(1)

تقدَّم النقل عنهم قريبًا.

(2)

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (12/ 376) وفيه قال:"فسافر أي شرع في السفر بأن فارق بيوت قريته العامرة مريدًا السفر مسافة القصر".

(3)

وهم الجمهور كما مر قريبًا النقل عنهم.

(4)

انظر: "محاسن التأويل" للقاسمي (3/ 308) وفيه قال: "ومن خرج من بلده قاصدًا إلى محل، يعد في مسيره إليه مسافرًا، قصر الصلاة".

(5)

انظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 191، 192)، وفيه قال:"قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}، فيه أنه لا يكون ضاربًا في الأرض حتى يخرج، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة. قال عبد الرحمن الهمذاني: خرجنا مع علي رضي الله عنه مخرجه إلى صفين، فرأيته صلى ركعتين بين الجسر وقنطرة الكوفة. وقال البخاري: خرج علي فقصر، وهو يرى البيوت، فلما رجع قيل له: هذه الكوفة. قال: لا حتى ندخلها".

ص: 2109

* قَوْله: (وَمَنْ رَاعَى دَلِيلَ الفِعْلِ

(1)

، أَعْنِي: فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ

(2)

: لَا يَقْصُرُ إِلَّا إِذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ القَرْيَةِ بثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، لِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ -شُعْبَةُ الشَّاك- صَلَّى رَكعَتَيْنِ

(3)

).

لكن هذا لا يدلُّ على أن الإنسان لا يبدأ القصر قبله، وإنما هذا فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي مسافة ثم يقصر؛ لأنه كان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الصلاة، فإن ارتحل قبلُ مشَى صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه كان يقطع مسافة حتى يأتي وقت العصر، فيجمع بينها وبين الظهر

(4)

، كما سيأتي أيضًا في مسألة الجمع بين الصلاتين، وجاء أيضًا في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جدَّ به السير، أي: أسرع به السير

(5)

جمَعَ

(6)

.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ إِذَا أقَامَ فِيهِ فِي بَلَدٍ أَنْ يَقْصُرَ، فَاخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، حَكَى فِيهِ أَبُو عُمَرَ نَحْوًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا)

(7)

.

تعددت الأقوال في هذه المسألة أيضًا وكثرت وافترقت، لكن المؤلف سيأخذ أشهرها، فهناك مَن يقول من أهل العلم: إذا أقام يومًا وليلةً

(8)

،

(1)

وهو الإمام مالك في رواية عنه كما مر.

(2)

أي: مالك كما مر قريبًا.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري (1112) ومسلم (704) بلفظ: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل، صلى الظهر، ثم ركب".

(5)

جَدَّ في السير، أي: أسرع. انظر: "المخصص"، لابن سيده (1/ 305).

(6)

أخرجه البخاري (1106) ومسلم (703) بلفظ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير".

(7)

تقدَّم نقل جملة من هذه الأقوال قريبًا.

(8)

انظر: "معالم السنن"، للخطابي (1/ 268)، وفيه قال:"وقال ربيعة قولًا شاذًا إن من أقام يومًا وليلة أتم الصلاة".

ص: 2110

وهناك من يقول: ثلاثة أيام

(1)

، وهناك من يقول: أربعة أيام

(2)

، وهناك من يقول: اثني عشر يومًا

(3)

، وخمسة عشر يومًا

(4)

، وتسعة عشر يومًا

(5)

، وهناك أقوال عدة

(6)

.

وقد جاء أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاثًا

(7)

، وأربعًا

(8)

، وعشرة أيام

(9)

،

(1)

انظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (11/ 182)، وفيه قال "وعن سعيد بن المسيب قول ثالث إذا أقام ثلاثًا أتم".

(2)

يُنظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (11/ 181 - 182) وفيه قال:"واختلفوا في مدة الإقامة فقال مالك والشافعي والليث والطبري وأبو ثور إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم، وهو قول سعيد بن المسيب في رواية عطاء الخراساني عنه".

(3)

انظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (11/ 182)، وفيه قال:"وعن السلف في هذه المسألة أقاويل متباينة منها إذا أزمع المسافر على مقام اثنتي عشرة أتم الصلاة رواه نافع عن ابن عمر قال نافع وهو آخر فعل ابن عمر".

(4)

انظر: "مناهج التحصيل"، للرجراجي (1/ 445)، وفيه قال:"أنه إذا عزم على إقامة خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وبه قال أبو حنيفة، وسفيان الثوري".

(5)

انظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (11/ 182)، وفيه قال:"وروى عكرمة عن ابن عباس قال أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تسع عشرة يقصر الصلاة فنحن إذا سافرنا تسعى عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا".

(6)

منهم من قال ثلاثة عشر يومًا. انظر: "التمهيد"، لابن عبد البر (11/ 182)، وفيه قال:"وقال الأوزاعي إن نوى إقامة ثلاثة عشر يومًا أتم وإن نوى أقل قصر".

(7)

أخرجه أبو داود (1885) بلفظ: "إن قريشًا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدًا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل، فيقيموا بمكة ثلاثة أيام. . . " وصححه الألباني في: "صحيح سنن أبي داود"(1647).

(8)

أخرجه البخاري (2505) ومسلم (1240) بلفظ "قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبح رابعة من ذي الحجة مهلين بالحج". وانظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 222، 223). في تبيين وجه الدلالة من الحديث.

(9)

أخرجه البخاري (1081) ومسلم (694) بلفظ: "عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسًا، يقول: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا".

ص: 2111

وأقام خمسة عشر يومًا

(1)

، وسبعة عشر يومًا

(2)

، وثمانية عشر يومًا

(3)

، وتسعة عشر يومًا

(4)

، فكلٌّ يتمسَّك بقوله، والذين يقولون مثلًا سبعة عشر يومًا يقولون: حذف منها يوم الدخول والخروج، وثمانية عشر حذف أحدهما، ورواية تسعة عشر عُدَّ فيها يوم الدخول ويوم الخروج، ولأن هذه المسألة لم يأتِ فيها تحديد، كثر الخلاف فيها، فكلُّ مسألة لا يأتي فيها نصٌّ قطعيٌّ يحدد القول فيها، يكثر فيها الخلاف، لكن العلماء يفرِّقون بين إنسان يدخل بلدًا يريد الإقامة لقضاء حاجة، ويعرف أنه سيغادر بعد ثلاثة أو أربعة أيام، وبين إنسان لا يدري، فهذا الذي لا يدري متى سيخرج قصر مطلقًا عند الأئمة الثلاثة؛ أبي حنيفه ومالك وأحمد

(5)

، والشافعية حدوا ذلك بثمانية عشر يومًا

(6)

.

(1)

أخرجه أبو داود (1231) بلفظ: "عن ابن عباس، قال: أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة" وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(226).

(2)

أخرجه أبو داود (1230) بلفظ: "عن ابن عباس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة" وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1114).

(3)

أخرجه أبو داود (1229)، عن عمران بن حصين، قال: غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشهدت معه صلى الله عليه وسلم الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين" وضعفه الألباني في: "مشكاة المصابيح" (1342).

(4)

أخرجه البخاري (4298) بلفظ: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يصلي ركعتين".

(5)

انظر في مذهب الأحناف: "التجريد"، للقدوري (2/ 885) وفيه قال:"قال أصحابنا: إذا أقام المسافر في بلد ولم ينو الإقامة صلى ركعتين".

وانظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 364) وفيه قال:"فيستمر على قصره (لا الإقامة) المجردة عن نية ما يرفعه كإقامته لحاجة يظن قضاءها قبل الأربعة فلا يقطع القصر وإن تأخر سفره".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 296) وفيه قال:" (أو أقام لحاجة)، أو جهاد (بلا نية إقامة لا يدري متى تنقضي) فله القصر، غلب على ظنه كثرته، أو قلته".

(6)

يُنظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 237) وفيه قال:" (وإن كان) المسافر بموضع (يتوقع الخروج) منه (يومًا فيومًا) إن حصلت حاجته (أو حبسه الريح في البحر) في موضع (قصر ثمانية عشر يومًا) غير يومي الدخول، والخروج".

ص: 2112

* قوله: (إِلَّا أَنَّ الأَشْهَرَ مِنْهَا هُوَ مَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ أنَّهُ إِذَا أَزْمَعَ المُسَافِرُ عَلَى

(1)

إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ)

(2)

.

يعني: إذا عزم المسافر على إقامة أربعة أيام، فإن كانت ثلاثة قصر، وقال أحمد: ما زاد عن أربعة

(3)

، يعني: إذا قام أربعة أيام، وفي رواية عنه إذا صلى إحدى وعشرين صلاة

(4)

، يعني: أربعة أيام وزيادة صلاة، فهذه يقصر فيها، فإن جاء بعد ذلك زاد صلاة، يعني: الثانية والعشرين، فإنه في هذه الحالة يتمُّ، وأبو حنيفة

(5)

ومعه جماعة

(6)

خمسة عشر يومًا.

* قوله: (وَالثَّانِي: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ

(7)

أَنَّهُ إِذَا

(1)

أزمعَ فلانٌ على كذا، إذا عزم عليه. انظر:"جمهرة اللغة"، لابن دريد (2/ 817).

(2)

انظر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 364)، وفيه قال:" (و) خامسها (نية إقامة أربعة أيام صحاح) مع وجوب عشرين صلاة في مدة الإقامة".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 236)، وفيه قال:" (وينتهي) سفره أيضًا (بإقامة أربعة أيام) بلياليها (صحاح)، أي: غير يومي الدخول، والخروج".

(3)

انظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 284) وفيه قال:"فإن أقام لحاجة وعلم أو ظن أنها لا تنقضي في أربعة أيام لزمه الإتمام كما لو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام".

(4)

انظر: "الإنصاف"، للمرداوي (5/ 68) وفيه قال:"قوله: وإذا نوى الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإلا قصر، هذا إحدى الروايات عن أحمد".

(5)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 38)، وفيه قال:"ومن دخل بلدًا ولم ينوِ أن يقيم فيه خمسة عشر يومًا، وإنما يقول: غدًا أخرج أو بعد غد أخرج حتى بقي على ذلك سنين صلى ركعتين".

(6)

منهم: عبد اللَّه بن عمر، أخرج محمد بن الحسن في "الآثار"(1/ 489) عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال:"إذا كنت مسافرًا، فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يومًا، فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري متى تظعن فأقصر".

(7)

قال الترمذي في "سننه"(1/ 685): "فأما سفيان الثوري، وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة".

ص: 2113

أَزْمَعَ عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ. وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ أَحْمَدَ

(1)

، وَدَاوُدَ

(2)

أَنَّهُ إِذَا أَزْمَعَ عَلَى أكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ، وَسَبَبُ الخِلَافِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ).

نعم، لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث واحد يبيِّن أن الإنسان إذا ما نزل بلدًا وقصد السفر، فإنه إذا مكث كذا يظلُّ مسافرًا، إلى أن تمضي عليه فترة كذا فحينئذ يتم الصلاة، لم يرد نص في ذلك، ولكن الأحاديث جاءت مطلقةً.

والخلاصة: أنهم أخذوا ذلك من فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ففي حديث أنس أن الرسول أقام بمكة عشرًا يقصر الصلاة

(3)

، وأيضًا هذه الإقامة لم تكن هذه كلها بمكة وبالمشاعر؛ لأنه دخل مكة في اليوم الرابع، ومكث فيها إلى اليوم السابع، إذن لم يمكث فيها عشرة أيام، وإنما مراد أنس أنه أقام بمكة عشرة أيام يدخل في ذلك ذهابه إلى المناسك، ورأى الجمهور أن مدة القصر ثلاثة أيام

(4)

.

والآخرون من أهل العلم كلٌّ يعلل بدليل، فمن قال منهم خمسة عشر يومًا، قالوا: الرسول أقام بمكة خمسة عشر يومًا يقصر الصلاة

(5)

، والذي يقول تسعة عشر يومًا نقل عن ابن عباس؛ لأنه راوي الحديث أن الرسول

(1)

سبق النقل عن الإمام أحمد قريبًا.

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 247) وفيه قال: "وقال داود من عزم على إقامة أربعة أيام عشرين صلاة قصر ومن عزم على مقام أكثر من ذلك أتم".

ومذهب الظاهرية أنه لو جاوز واحد وعشرين يومًا أتم. انظر: "المحلى بالآثار"، لابن حزم (3/ 216)، وفيه قال:"فإن سافر المرء في جهاد، أو حج، أو عمرة، أو غير ذلك من الأسفار-: فأقام في مكان واحد عشرين يومًا بلياليها: قصر، وإن أقام أكثر: أتم ولو في صلاة واحدة".

(3)

تقدَّم تخريج هذا الحديث.

(4)

تقدَّم قريبًا.

(5)

تقدَّم تخريج هذا الحديث.

ص: 2114

أقام تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة

(1)

، ومَن قال سبعة عشر يومًا فقد اعتمد على رواية صحيحة لحديث ابن عباس

(2)

، فأخذ بهذا الحديث، والذي قال ثمانية عشر يومًا أخذ بهذه الرواية

(3)

، لكن اختلف في وصلها وإرسالها، وهي وإن كانت مرسلة ولكنها مرسل صحيح

(4)

، وهكذا كلٌّ يتمسك بدليل يرى أنه الدليل ويتأول الآراء الأخرى، أو يحاول أن يرُدَّ الأدلة إليه.

* قوله: (وَالقِيَاسُ عَلَى التَّحْدِيدِ

(5)

ضَعِيفٌ عِنْدَ الجَمِيعِ)

(6)

.

إذن سبب تشعب الأقوال وتعددها، هو أنه لم يرد نصٌّ يحدد القدر الذي تُقصر فيه الصلاة في هذه الحالة، فلما لم يرد ووردت أدلة كلها تحكي لنا فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة، أخذ كل صاحب رأي بما يرى أنه الأظهر والأقوى.

* قوله: (وَلذَلِكَ، رَامَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ مِنَ الأَحْوَالِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ أَقَامَ فِيهَا مُقْصِرًا).

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

وهي رواية ابن عباس السابقة، وأيضًا لرواية عمران بن حصين كما سبق. قال الخطابي:"وخبر عمران بن حصين أصحها عند الشافعي وأسلمها من الاختلاف فاعتمده وصار إليه". انظر: "معالم السنن"(1/ 267).

(4)

الذي وقفت عليه أنهم أعلوا رواية: "خمس عشرة" بالإرسال. قال الألباني: "أخرجه أبو داود، وابن ماجه (1076) والبيهقي عن أبي داود وأعلَّاه بأن جماعة لم يذكروا فيه ابن عباس، فهو مرسل".

(5)

القياس بالتحديد: يقصد به ابن رشد "قياس الشبه" كما أوضح ذلك ابن رشد في موضع أخر من كتابه "بداية المجتهد": وفيه قال: "وهذا كله معدوم في هذا القياس ومع هذا فإنه من الشبه الذي لم ينبه عليه اللفظ وهذا النوع من القياس مردود عند المحققين، لكن لم يستعملوا هذا القياس في إثبات التحديد المقابل لمفهوم الحديث؛ إذ هو في غاية الضعف. . . ".

(6)

يُنظر: "المستصفى"، للغزالي (ص: 251) وفيه قال: "حجة من فرق بين جلى القياس وخفيه وهي أن جلي القياس قوي وهو أقوى من العموم والخفي ضعيف ثم حكي عنهم أنهم فسروا الجلي بقياس العلة والخفي بقياس الشبه".

ص: 2115

يعني: أنه أقام فيها يقصر الصلاة.

* قوله: (أَوْ "أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا حُكْمَ المُسَافِرِ"، فَالفَرِيقُ الأَوَّلُ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام "أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا يَقْصُرُ فِي عُمْرَتِهِ"

(1)

).

هذا من الأدلة التي يستدلون بها، ومنها أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرَّم على المهاجرين أن يمكثوا، ثم بعد ذلك رخَّص لهم، فقال:"يمكث المهاجر بعد أداء نسكه ثلاثًا"

(2)

، وقالوا: فالثلاثة لها معنى، وقد وردت في عدة مواضع ومناسبات، فينبغي أن نقف عندها

(3)

.

* قوله: (وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ النِّهَايَةُ لِلتَّقْصِيرِ).

كلامُ المؤلف صحيحٌ، فليس فيه حجة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بقي ثلاثة أيام فقصر، وبقي أربعة فقصر، وبقي أكثر من ذلك فقصر

(4)

.

* قوله: (وَإِنَّمَا فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي الثَّلاثَةِ فَمَا دُونَهَا).

هذا أقصى ما يدلُّ عليه، وكلام المؤلف قويٌّ؛ إذ يقول: إن أقصى ما يدلُّ عليه أنه يقصر في الثلاثة.

* قوله: (وَالفَرِيقُ الثَّانِي: احْتَجُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِمَا رُوِيَ "أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ مُقْصِرًا"، وَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا)

(5)

.

كلُّ هذا ورد، والذي ورد من أنه تسعة عشر يومًا هو أقواها

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم هذا.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2116

سندًا

(1)

، ثم يليه سبعة عشر يومًا، ثم ثمانية عشر يومًا، هذه كلها وردت عن الرسول

(2)

، فهل هذه تدلُّ على القصر أو لا؟ الذين يقولون: ثلاثة أيام، يقولون: هذه التي قصر فيها ثمانية عشر أو سبعة عشر أو غيرها أو عشرة أيام -كما رأينا- كانت بين مكة والمناسك، يقولون: ما كان يعرف كم سيمكث. لكن إذا علم الإنسان كم سيبقى، فلا يتجاوز ثلاثة أيام

(3)

، والذين قالوا من أهل العلم: أربعة قالوا: لا يتجاوز أربعة، وهم يختلفون في يومي الدخول والخروج.

* قوله: (رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

(4)

، وَبِكُلٍّ قَالَ فَرِيقٌ. وَالفَرِيقُ الثَّالِثُ: احْتَجُّوا بِمُقَامِهِ فِي حَجِّهِ بمَكَّةَ مُقْصِرًا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ

(5)

، وَقَدِ احْتَجَّتِ المَالِكِيَّةُ لِمَذْهَبِهَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جعَلَ لِلْمُهَاجِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِمَكَّةَ مُقَامًا بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ"

(6)

).

يعني: كما جاء في الحديث الصحيح، "يمكث المهاجر"، يعني: المطالب بالهجرة "بعد أداء نسكه ثلاثًا"

(7)

، أي: كان المهاجرون يُمنَعون من البقاء بعد أداء النسك، لكن رُخِّصَ لهم، لقضاء حوائجهم ثلاثة أيام.

* قوله: (فَدَلَّ هَذَا عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَتْ تَسْلُبُ عَنِ المُقِيمِ فِيهَا اسْمَ السَّفَرِ، وَهِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي ذَهَبَ الجَمِيعُ إِلَيْهَا

(8)

،

(1)

لأنه في "صحيح البخاري" كما مر.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم نقل هذا المذهب.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

تقدَّم تخريجه.

(7)

تقدَّم تخريجه.

(8)

تقدَّم النقل عنهم.

ص: 2117

وَرَامُوا اسْتِنْبَاطَهَا مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام أَعْنِي: مَنْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ بِقَصْدِ الإِقَامَةِ اسْمُ السَّفَرِ، وَلذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الإِقَامَةُ مُدَّةً لَا يَرْتَفِعُ فِيهَا عَنْهُ اسْمُ السَّفَرِ بِحَسَبِ رَأْيِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ المُدَّةِ، وَعَاقَهُ عَائِقٌ عَنِ السَّفَرِ أَنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا، وَإِنْ أَقَامَ مَا شَاءَ اللَّهُ).

وهذا عند جمهور العلماء عدا الشافعية

(1)

؛ فقد قيَّدوا ذلك في المشهور عنهم بثمانية عشر يومًا.

* قوله: (وَمَنْ رَاعَى الزَّمَانَ الأَقَلَّ مِنْ مُقَامِهِ تَأَوَّلَ مُقَامَهُ فِي الزَّمَانِ الأَكْثَرِ مِمَّا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ عَلَى هَذِهِ الجِهَةِ، فَقَالَتِ المَالِكِيَّةُ

(2)

مَثَلًا: إِنَّ الخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا الَّتِي أَقَامَهَا عليه الصلاة والسلام عَامَ الفَتْحِ إِنَّمَا أَقَامَهَا، وَهُوَ أَبَدًا يَنْوِي أَنَّهُ لَا يُقِيمُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ

(3)

، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَلْزَمُهُمْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي حَدُّوهُ).

يلزمهم في الزمان الذي حدوه، يعني: ثلاثة أيام، وربما أنه بقي ثلاثة أيام لا يدري متى سيذهب، فلماذا فرقتم بين هذه وبين هذه دون دليل للتفريق؟ يعني: يريد أن يقول الخصم يعني المخالف: نحن ننقض دعواكم بدعوى مماثلة، فأنتم تقولون بأن الرسول إنما مكث خمسة عشر أو سبعة عشر أو ثمانية عشر أو تسعة عشر يومًا عام الفتح؛ لأنه لا يدري متى سيسافر، فهلَّا قلتم في الثلاثة: بقي ثلاثة أيام ولا يدري متى سيذهب؟

(1)

كما تقدم النقل عنهم.

(2)

كما تقدم النقل عنهم.

(3)

انظر: "مناهج التحصيل" للرجراجي (1/ 447) وفيه قال: "لأن الخمسة عشر يومًا التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح إنما أقامها وهو أبدًا ينوي أنه لا يقيم أربعة أيام. . . ويحتمل أن تكون إقامته بنية الزمان الذي يجوز إقامته فيه مقصرًا باتفاق، ثم عرض له إقامة أكثر من ذلك لأمر أوجبها".

ص: 2118

* قوله: (وَالأَشْبَهُ فِي المُجْتَهِدِ فِي هَذَا أَنْ يَسْلُكَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَجْعَلَ الحُكْمَ لِأَكْثَرِ الزَّمَانِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام.

يريد المؤلف أن يقول: عندما يأتي مجتهد ممن اجتمعت لديه أدوات الاجتهاد، فأراد أن يجتهد في مثل هذه المسألة التي تشعبت فيها الآراء وتعددت الأقوال وأيضًا اختلفت وجهات النظر فيها ما الذي سيفعله؟

قوله: "أَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ مُقْصِرًا"، وَيَجْعَلَ ذَلِكَ حَدًّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الأَصْلَ هُوَ الإِتْمَامُ، فَوَجَبَ أَلَّا يُزَادَ عَلَى هَذَا الزَّمَان إِلَّا بِدَلِيلٍ، أَوْ يَقُولَ: إِنَّ الأَصْلَ فِي هَذَا هُوَ أَقَلُّ الزَّمَان الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الإِجْمَاعُ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام:"أَقَامَ مُقْصِرًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ"، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ لِلْمُسَافِرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقَامَهُ بِنِيَّةِ الزَّمَان الَّذِي تَجُوزُ إِقَامَتُهُ فِيهِ مُقْصِرًا بِاتِّفَاقٍ، فَعَرَضَ لَهُ أَنْ أقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ وَجَبَ التَمَسُّكُ بِالأَصْلِ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ)

(1)

.

لكن ما دليل قول ربيعة؟ ليست القضية قضية أقل ما قيل في ذلك، إنما الكل ينبغي أن يبني على دليل، والأقوال التي فوق هذا، -التي هي الثلاثة فما فوق- إنما استندت إلى أدلة.

* قوله: (وَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ أَنَّ المُسَافِرَ يَقْصُرُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَقْدَمَ مِصْرًا مِنَ الأَمْصَارِ

(2)

، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْمَ السَّفَرِ وَاقِعٌ

(1)

انظر: "عيون المسائل"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 144) وفيه قال: "وقال ربيعة: إنَّ نوى إقامة يوم وليلة أتمّ الصّلاة".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 374) بلفظ: "عن الحسن، قال: يصلي المسافر ركعتين حتى يرجع إلا أن يأتي مصرًا من الأمصار فيصلي بصلاتهم".

ص: 2119

عَلَيْهِ حَتَّى يَقْدَمَ مِصرًا مِنَ الأَمْصَارِ، فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ المَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالقَصْرِ).

عرض المؤلف هنا جملة مسائل محدودة، وهي خمس مسائل فيما يتعلَّق بأحكام القصر، لكنه لم يتعرض للنية، واختلاف ما لو سلك طريقًا قريبًا، يعني: ما لو كان هناك طريقان؛ طريق ضعيف لو سلكه لانطبقت عليه مسافة القصر، وطريق أكثر من ذلك، فهل لو سلك الطريق الذي يصل به إلى مسافة القصر يقصر الصلاة أو لا؟

(1)

.

(1)

ذهب الأحناف والحنابلة إلى أنه لو قصد الطريق الأبعد للقصر قصر. وخالف المالكية والشافعية، فقالوا لو ترك الطريق الأقصر واختار الطريق الأبعد لغرضٍ - قصر، وإلا لم يقصر، وفي قول آخر للشافعية له أن يقصر.

انظر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"، للحصفكي (2/ 123)، وفيه قال:"حتى لو أسرع فوصل في يومين قصر؛ ولو لموضع طريقان أحدهما مدة السفر والآخر أقل قصر في الأول لا الثاني. (صلى الفرض الرباعي ركعتين) ". وانظر: "التجريد"، للقدوري (2/ 898).

وانظر في مذهب المالكية: "شرح التلقين"، للمازري (1/ 886)، وفيه قال:"ولو كان في سفره طريقان أحدهما لا يبلغ مسافة القصر والآخر يبلغها، فإن سلك الطريق الأقصر لم يقصر لقصورها عن مسافة القصر. وإن سلك الطريق الأبعد، فإن كان لغرض فيها كالأمن أو السهولة أو حاجة لا بد منها فإنه يقصر. وإن كان لغير غرض ففي السليمانية لا ينبغي له أن يقصر". وانظر: "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب"، لخليل (2/ 21).

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 382 - 383)، وفيه قال:" (ولو كان لمقصده) بكسر الصاد كما بخطه (طريقان) طريق (طويل)، أي: مرحلتان، (و) طريق (قصير)، أي: دونهما (فسلك الطويل لغرض كسهولة أو أمن) أو زيادة، وإن قصد مع ذلك استباحة القصر، وكذا لمجرد تنزه على الأوجه؛ لأنه غرض مقصود؛ إذ هو إزالة الكدورة النفسية برؤية مستحسن يشغلها به عنها ومن ثم لو سافر لأجله قصر". وانظر: "التنبيه في الفقه الشافعي"، للشيرازي (ص: 40، 41).

وانظر في مذهب الحنابلة: "كشاف القناع"، للبهوتي (2803)، وفيه قال:"ولو كان إمامًا ومن له طريقان طريق بعيد وطريق قريب فسلك البعيد ليقصر الصلاة فيه قصر؛ لأنه مظنة قصد صحيح".

ص: 2120

هناك مسائل كثيرة جدًّا، وهي محل خلاف بين العلماء، لكن عادة المؤلف رحمه الله أن يُعْنى بأمهات المسائل، وهذه -كما هو معلوم- إنما هي أقرب إلى الأذهان؛ فالإنسان إذا ضبط الأصول سهل عليه.

فالإنسان عندما ينظر إلى روح الشريعة، لو سلك طريقًا بعيدًا فإنه سلك مسافة تقصر فيها الصلاة فيقصر، النية معلومة أن الإنسان لا بد أن ينوي، وثمة مسألة متفرعة عن النية، لو لم ينوِ ثُمَّ بعد ذلك تذكر النية، هذه كلها مسائل وغيرها كثير جدًّا في القصر وفي غيره.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(الفَصْلُ الثَّانِي فِي الجَمْعِ)

هذا هو القسم الثاني من أقسام صلاة المسافر، فإن المؤلف -كما نرى- قد قسَّم الباب إلى قسمين:

القسم الأول: تحدَّث فيه عن قصر الصلاة، وأجمل ذلك في مسائل خمس.

القسم التالي: سيتحدث فيه عن الجمع بين الصلاتين، ولا شكَّ أن الجمع بين الصلاتين إنما هو نوع من التخفيف، وهو أيضًا لا يختلف في حاله عن القصر، فكما أن ما جاء في القصر إنما هو تخفيف من اللَّه سبحانه وتعالى، وصدقة ورخصة، كذلك الحال بالنسبة للجمع بين الصلاتين.

لكن من المعلوم أن الإجماع قائم على أن الفجر لا تجمع مع غيرها، فلا يُجمَع بينها وبين العشاء، ولا تُجمع مع الظهر، وكذلك أيضًا

ص: 2121

العصر لا تجمع مع المغرب

(1)

، إذن الجمع يكون بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين أيضًا المغرب والعشاء في وقت إحداهما

(2)

، والعلماء أيضًا يتكلَّمون عن الأفضل، ولا شكَّ أن الأفضل في الجمع إنما هو جمع التأخير

(3)

،

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 168) وفيه قال:"وأجمعوا أنه لا يجمع بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح".

(2)

يُنظر: الإقناع في مسائل الإجماع لأبي الحسن ابن القطان (1/ 169) وفيه قال: "وأجمعوا على الجمع بين صلاتي فرض في وقت إحداهما في المرض والسفر وبعرفة والمزدلفة، وبالليل في المطر، وزاد الشافعي الجمع بالنهار بين الظهر والعصر في (المطر) ".

(3)

ذهب الأحناف إلى أنه لا يجوز جمع صلاتين في وقت أحدهما إلا في موضعين عرفة ومزدلفة كما سيأتي.

انظر: "التجريد"، للقدوري (2/ 905)، وفيه قال:"قال أصحابنا: لا يجمع المسافر بين الصلاتين في وقت إحداهما. لنا: ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وأول وقت العصر حين يدخل وقتها، وآخر وقتها حين تصفر الشمس". وانظر:"درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 54).

وذهب المالكية إلى أن الجمع يكون في صلاتي المغرب والعشاء فقط.

انظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 70)، وفيه قال:"ولا يجمع بين الظهر والعصر لعدم المشقة فيهما غالبًا بخلاف العشاءين؛ لأنهم لو منعوا من الجمع لأدى إلى أحد أمرين إما حصول المشقة إن صبروا لدخول الشفق، أو فوات فضيلة الجماعة إن ذهبوا إلى منازلهم من غير صلاة".

وذهبوا إلى أن جمع التقديم في هذين الوقتين أفضل لأهل الأعذار. انظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 370)، وفيه قال:" (و) رخص ندبًا لمزيد المشقة (في جمع العشاءين فقط) جمع تقديم لا الظهرين لعدم المشقة فيهما غالبًا".

وذهب الشافعية إلى جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأن الأفضل جمع التأخير، أما إذا كان نازلًا في وقت الأُولى فالأَوْلى تقديم الثانية.

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 272) وفيه قال:" (فإن كان سائرًا وقت الأولى) نازلًا في وقت الثانية كسائر يبيت بمزدلفة (فتأخيرها أفضل وإلا) بأن لم يكن سائرًا وقت الأولى بأن كان نازلًا فيه سائرًا في وقت الثانية (فعكسه). . . وبقي ما لو كان سائرًا في وقتيهما أو نازلًا فيه فالذي يظهر أن التأخير أفضل؛ لأن وقت الثانية وقت للأولى حقيقةً بخلاف العكس". وانظر: "المهذب"، للشيرازي (1/ 197). =

ص: 2122

لكن العلماء قبل ذلك يختلفون في حقيقة الجمع؛ فمن العلماء مَن لا يرى الجمع إلا في مواضع محدودة، فيقولون: الجمع ثبت في موضعين؛ في عرفات والمزدلفة

(1)

؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في عرفات جمع تقديم

(2)

، وبين أيضًا المغرب والعشاء جمع تأخير بالنسبة للمزدلفة المشعر الحرام

(3)

، قالوا

(4)

: وما عدا ذلك فلا، قالوا: والجمع هنا لم يكن للسفر وإنما هو لأجل النسك، بدليل أن أهل مكة أيضًا جمعوا مع غيرهم، بينما نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى خلفه أناس مقيمون كحال أهل مكة

(5)

، كان يقول صلى الله عليه وسلم:"أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر"

(6)

.

= وذهب الحنابلة إلى أن الأرفق بالإنسان هو الأفضل وإن استويا فالتأخير أفضل.

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 735 - 736) وفيه قال:" (والأفضل) لمن يجمع (فعل الأرفق) (من تأخير) الظهر إلى العصر، أو المغرب إلى العشاء (أو تقديم). . . (فإن استويا)، أي: التقديم والتأخير في الأرفقية، (فتأخير أفضل)؛ لأنه أحوط، وخروجًا من الخلاف".

(1)

وهو مذهب الحنفية. انظر: "منحة السلوك"، للعيني (ص: 110)، وفيه قال:"ولا جمع عندنا إلا في موضعين: الأول: في عرفة، يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين، حتى لا يجوز للمنفرد ذلك عند أبي حنيفة، خلافًا لهما، والثاني: في مزدلفة: يصلي الإمام بهم المغرب والعشاء في وقت العشاء بأذان وإقامة واحدة". وانظر: "درر الحكام"، لمنلا خسرو (1/ 54).

(2)

أخرجه أبو داود (1913) بلفظ: "حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مهجرًا، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة" وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1671).

(3)

أخرجه البخاري (1674)، ومسلم (1287) بلفظ:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمع في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة".

(4)

أي: الحنفية، كما مر.

(5)

يُنظر: "التجريد"، للقدوري (4/ 1907) وفيه قال:"والدليل على أن الإمام يجمع المسافر والمقيم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، ولم يأمر أهل مكة أن يصلوا كل واحدة في وقتها)، ولو خالف حالهم فيها حاله لبين لهم، كما بين لهم وجوب الإتمام، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر) ".

(6)

أخرجه أبو داود (1229) بلفظ: "غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد، صلوا أربعًا، فإنا قوم سفر" وضعفه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1342).

ص: 2123

إذن هم يصلون وراء الإمام، وهذه مسألة من المسائل التي يستدلُّ بها العلماء على إتمام الصلاة، يجعلونها حجة على الذين يقولون بوجوب القصر

(1)

، فالآن لما ورد هذا الدليل تذكرت هذه المسألة، وهي حجة للجمهور الذين يقولون بأن قصر الصلاة سنة، وليس بواجب

(2)

، قالوا: لأن الإجماع قائم على أن المسافر لو صلى خلف مقيم، فإنه يتم الصلاة

(3)

، ولو كانت صلاة القصر واجبة لما أتمَّ وراءه، وإنما يلزمه أن يقصر، وهذا دليل نضيفه إلى الأدلة السابقة، وهو دليل قويٌّ.

الجمع بين الصلاتين -كما ذكرت- قد ثبت كما يذهب إليه جماهير العلماء

(4)

، وقد صحَّ من فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد نقل الصحابة ذلك عنه صلى الله عليه وسلم

(5)

، والأمر في ذلك قد اشتهر، لكن من العلماء من ذهب إلى أن الجمع الذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يُحمَل على صورة واحدة فيما عدا عرفات ومنى، وفيما عدا عرفات والمزدلفة؛ لأن الجمع هناك من أجل النسك، وهذا أمر مجمع عليه ليس محلّ خلاف، فلم يكن لأجل السفر عند هؤلاء، لكن ما عدا ذلك قالوا: لا جمع فيه، وهذا القول نقل عن الحسن البصري، وعن ابن سيرين

(6)

والنخعي

(7)

، وكل هؤلاء من التابعين،

(1)

القائلون بوجوب القصر هم الحنفية، وقد سبق.

(2)

القائلون بأن القصر ليس واجبًا، هم المالكية والشافعية والحنابلة، وقد سبق.

(3)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 41) وفيه قال: "وأجمعوا على أن المقيم إذا ائتم بالمسافر، وسلَّم الإمام ركعتين أن على المقيم إتمام الصلاة".

(4)

سبق النقل عنهم قريبًا.

(5)

تقدَّم تخريجه الحديث الدال على ذلك.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 398) بلفظ: "عن الحسن ومحمد، قالا: ما نعلم من السنة الجمع بين الصلاتين في حضر ولا سفر إلا بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بجمع".

(7)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 553) بلفظ: "عن إبراهيم لا يجمعون في السفر ولا يصلون إلا ركعتين".

ص: 2124

وهو أيضًا قول أبي حنيفة الإمام

(1)

، وإن خالفه صاحباه في هذه المسألة

(2)

.

فهؤلاء العلماء الآنف ذكرهم يقولون بعدم جواز الجمع بين الصلاتين، أي: لا يجوز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين؛ لأن اللَّه، سبحانه وتعالى يقول:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وجبريل صلى بالرسول صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين، ثم قال له:"الوقت ما بين هذين"

(3)

فدل ذلك على أن لكل صلاة وقتًا محددًا له بداية وله نهاية، ليس للإنسان أن يصلي الصلاة في غيره، فليس له أن يسبق الوقت فيؤديها قبله، ولا أن يؤخرها حتى يدخل وقت الأخرى، قالوا

(4)

: وما ورد في الأوقات إنما هو متواتر، وقالوا: وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ليس التفريط في النوم"

(5)

، يعني: ليس التفريط في الصلاة كائنًا بسب النوم، "إنما التفريط على من لا يصلي الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى"

(6)

؛ فدلَّ ذلك على أن الصلاة لا تؤدى في غير

(1)

كما تقدم النقل عنه قريبًا.

(2)

لم يخالف أبا حنيفة صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن في هذه المسألة، وإنما خالفه في مسألة أُخرى بشأن الجمع.

انظر: "المحيط البرهاني"، لابن مازه (2/ 703) وفيه قال:"وإن لم يدرك الجمع مع الإمام الأكبر، فأراد أن يصلي وحده في رحله أو بجماعة بدون الإمام الأكبر صلى كل صلاة في وقتها عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: كما فعل مع الإمام الأكبر، فالحاصل أن عند أبي حنيفة شَرْط جواز الجمع بين صلاة الظهر والعصر في وقت الظهر يوم عرفة إحرام الحج، والإمام الأكبر، وعندهما إحرام الحج لا غير".

(3)

أخرجه أبو داود (393) بلفظ: ". . . ثم التفت إليَّ -أي: جبريل- فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء، من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين" وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(249).

(4)

أي: الحنفية كما مر.

(5)

أخرجه مسلم (681) بلفظ: "أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها".

(6)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2125

وقتها، قالوا: هناك أدلة قد اشتهرت وتواترت، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن التفريط ليس في النوم؛ لأن النائم معذور، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"رفع القلم عن ثلاثة"، وذكر من بينهم النائم حتى يستيقظ

(1)

، وكذلك أيضًا قال هنا:"ليس التفريط في النوم، إنما التفريط على من لا يصلي الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى"

(2)

بمعنى: أنه أجلها إلى وقت الأخرى، قالوا: وما ورد من أدلتكم أيضًا إنما هي أخبار آحاد، فلا ينبغي أن تخص الأحاديث المتواترة بأخبار الآحاد

(3)

، وهذا معلوم في مذهب الحنفية

(4)

.

أما جماهير العلماء فإنهم قد تناولوا هذه المسألة بالبسط، ومن العلماء مَن قال بمشروعية الجمع بين الصلاتين وجوازه، وهم: مالك والشافعي وأحمد

(5)

، فإن هؤلاء العلماء قالوا بجوازه، واستدلُّوا بحديث أنس، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء وكان يجمع بين الظهر والعصر"

(6)

.

(1)

أخرجه أبو داود (4398) بلفظ: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبى حتى يكبر"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(297).

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

انظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 127)، وفيه قال:" (ولنا) أن تأخير الصلاة عن وقتها من الكبائر فلا يباح بعذر السفر والمطر كسائر الكبائر، والدليل على أنه من الكبائر ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من جمع بين صلاتين في وقت واحد فقد أتى بابًا من الكبائر"، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: الجمع بين الصلاتين من الكبائر، ولأن هذه الصلوات عرفت مؤقتة بأوقاتها بالدلائل المقطوع بها من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بضرب من الاستدلال أو بخبر الواحد".

(4)

هذا القاعدة مطردة في كتب الحنفية، انظر:"التجريد" للقدوري (12/ 6104) وفيه قال: "والجواب: أن هذه الأخبار آحاد وردت في تحريم ما علمنا إباحته بأخبار الاستفاضة والاتفاق، ولا يجوز ترك ما ثبت بدليل مقطوع به بطريق مظنون".

(5)

كما مر النقل عنهم قريبًا. لكن المالكية قالوا بجوازه في المغرب والعشاء فقط. كما سبق.

(6)

أخرجه البخاري (1108) ومسلم (704): "عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا عجل عليه =

ص: 2126

وفي حديث عبد اللَّه بن عمر أيضًا أنه قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء"

(1)

.

وكذلك جاء في حديث أنس قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى صلاة الظهر، فإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر حتى يأتي وقت العصر فينزل فيجمع بينهما"

(2)

.

وكذلك ما جاء في حديث معاذ في قصة غزوة تبوك، فإنه وصف لنا ما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر، فإن ارتحل قبل أن تزيغ أخَّر الظهر إلى وقت العصر فجمع بينهما، وكذلك الحال بالنسبة للمغرب إذا غربت الشمس قبل أن يرتحل صلى المغرب والعشاء، فجمع بينهما فإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخَّر المغرب فجمع بينها وبين العشاء

(3)

. والأدلة في ذلك كثيرة جدًا.

* قوله: (وَأَمَّا الجَمْعُ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ، إِحْدَاهَا: جَوَازُهُ. وَالثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ الجَمْعِ).

= السفر، يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، حين يغيب الشفق" وهذا لفظ مسلم.

(1)

أخرجه البخاري (1106)، ومسلم (703) بلفظ:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير".

(2)

أخرجه البخاري (1111)، ومسلم (704) بلفظ:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أُخِّر الظهر إلى وقت العصر، ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب".

(3)

أخرجه أبو داود (1208) بلفظ: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشمس، أُخِّر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك: إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن يرتحل قبل أن تغيب الشمس أُخِّر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم جمع بينهما"، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1344).

ص: 2127

المقصود بجوازه هل هو جائز أو لا؟

(1)

.

* قوله: (وَالثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ الجَمْعِ).

هل هو جمع تأخير فقط، أو يجوز الأمران؛ أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير؟

(2)

.

* قوله: (وَالثَّالِثَةُ: فِي مُبِيحَاتِ الجَمْعِ).

يعني: ما الذي يباح الجمع من أجله، هل يجوز لمَن يسافر سفر معصية أن يجمع بين الصلاتين؟ وقد سبق الكلام عن ذلك أو ما يشبهه في قصر الصلاة

(3)

.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (أَمَّا جَوَازُهُ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ سُنَّةٌ)

(4)

.

هذا أمر لا خلاف فيه، لكن الذين يذهبون من أهل العلم إلى عدم الجمع في السفر

(5)

يقولون: إنَّ ذاك جمع لأجل النُّسك، ولذلك جمع أهل مكة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (وَبَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ أَيْضًا فِي وَقْتِ العِشَاءِ سُنَّةٌ أَيْضًا

(6)

، وَاخْتَلَفُوا فِي الجَمْعِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ المَكَانَيْنِ، فَأَجَازَهُ

(1)

تقدَّم قريبًا.

(2)

تقدَّم قريبًا.

(3)

تقدَّم قريبًا.

(4)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 277)، وفيه قال:"وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الصلاتين -الظهر والعصر- بعرفة في يوم عرفة، كذلك يفعل من صلى مع الإمام".

(5)

وهم الحنفية كما مر قريبًا.

(6)

انظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 278)، وفيه قال:"وعن ابن عمر "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا"، وهو إجماع أنه عليه السلام لما دفع من عرفة بعد غروب الشمس أَخَّر المغرب حتى جمعها مع العشاء بالمزدلفة بعد مغيب الشفق".

ص: 2128

الجُمْهُورُ

(1)

عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي المَوَاضِعِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا مِنَ الَّتِي لَا يَجُوزُ)

(2)

.

القائلون بمنع الجمع من العلماء استدلُّوا بأنَّ هذا يتعارض مع أوقات الصلوات، فيقولون: ثبتت أوقات الصلوات تواترًا، أي: ثبتت عن طريق التواتر، والجمع بين الصلاتين إنما هو إخلال بذلك؛ لأن معنى الجمع أن تؤخّر صلاة الظهر إلى العصر، أي: إلى وقت العصر، أو تؤخّر صلاة المغرب إلى وقت العشاء، فهذا أداء لإحدى الصلاتين في غير وقتها، أو أن تقدِّمَ صلاة العصر إلى وقت صلاة الظهر، أو العشاء إلى وقت المغرب، وهو أيضًا أداء لصلاة العصر ولصلاة العشاء في غير وقتهما

(3)

.

قالوا: وجبريل صلَّى بالرسول صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين، وقال له بعد أن صلى به في أول الوقت وفي آخره في جميع الصلوات -عدا المغرب فإنه قد صلى به المرتين في وقت واحد-:"الوقت ما بين هذين"

(4)

.

وجاء أيضًا في الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى"

(5)

، معنى هذا أن مَن أخَّر صلاة فدخل وقت الأخرى، فإنه يعتبر مفرطًا مؤديًا للصلاة في غير وقتها، والوقت شرط فلا ينبغي أن تؤدَّى صلاة إلا بتحقق شروطها، ما لم يمنع من ذلك عذر؛ كنوم أو نحوه، هذه هي أدلة هؤلاء العلماء

(6)

.

وقد سبق أن أشرنا إلى هذا، ورأينا أن جمهور العلماء

(7)

ردوا على

(1)

تقدَّم النقل عنهم قريبًا.

(2)

تقدَّم نقل ذلك عنهم.

(3)

مرَّت هذه الحجة عن الحنفية قريبًا.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

أي: الحنفية كما مر.

(7)

مر النقل عنهم قريبًا.

ص: 2129

الحنفية، وقالوا: نعم ثبتت الأوقات تواترًا، لكن الأوقات مطلقة تشمل صلاة الحضر وصلاة السفر، وفي هذه الحالة يستثنى من ذلك الجمع في السفر، وفي المواضع الذي ورد الجمع فيها.

فحديث "ليس في النوم تفريط"

(1)

إنما هو في حقِّ المفرِّط، أما مَن يجمع بين الصلاتين فإنه قد عمل بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حيث جاء عنه الترخيص في هذه المسألة، وقد عرفنا أنه ورد في ذلك أحاديث كثيرة؛ كحديث عبد اللَّه بن عمر، وحديث أنس، وحديث ابن عباس وحديث معاذ، وفيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم "كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ارتحل بعد ذلك"

(2)

.

وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين المغرب والعشاء

(3)

، وجاء في حديث معاذ في غزوة تبوك -وهي في السنة التاسعة فيعتبر الحكم فيها متأخرًا- قول معاذ:"خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر جميعًا، فإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس نزل إذا جاء وقت العصر، فجمع بينها وبين الظهر"، أو كما جاء في الحديث

(4)

، إذن هذا الحديث فيه التنصيص على الجمع بين الصلاتين، إما أن تُجمَع جمع تقديم أو جمع تأخير، والأحاديث في ذلك كثيرة، ومنها حديث عبد اللَّه بن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر وبين العصر

(5)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

أخرجه البخاري (1107)، ومسلم (705):"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء" هذا لفظ البخاري.

ص: 2130

* قوله: (وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ بِإِطْلَاقٍ)

(1)

.

* قوله: (وأصحابه) فيه كلام

(2)

؛ فهناك مَن يرى أن أصحابه لا يوافقون، لكن الذي يوافقه في ذلك بعض أصحابه، وإلا فمن أصحابه مَن هم مع الجمهور، كذلك نقل ذلك عن الحسن، وابن سيرين

(3)

، وجماعة من التابعين

(4)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ، أَوَّلًا: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَأْوِيلِ الآثَارِ الَّتِي رُوِيتْ فِي الجَمْعِ وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا عَلَى جَوَازِ الجَمْعِ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا أَفْعَالٌ، وَلَيْسَتْ أَقْوَالًا، وَالأَفْعَالُ يَتَطَرَّق إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَثِيرًا أَكْثَرَ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى اللَّفْظِ)

(5)

.

مرادُ المؤلف: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالجمع بين الصلاتين، وإنما فعل ذلك، لكن فعله صلى الله عليه وسلم أيضًا ملزمٌ، وهو في بعض الأمور جائز، فما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم مما يدلُّ على الوجوب يكون واجبًا، وما يدلُّ على أنه سنة يكون سنة، وما يدلُّ على أنه رخصة

(6)

-كهذه المسألة التي معنا- يكون رخصة.

(1)

كما تقدم النقل عنهم قريبًا.

(2)

تقدَّم النقل عن صاحبي أبي حنيفة.

(3)

تقدَّم النقل عن الحسن وابن سيرين.

(4)

كما تقدَّم النقل عنهم.

(5)

يُنظر: "إيضاح المحصول"، للمازري (ص: 135) وفيه قال: "فالأكثرون على أن البيان يقع بالأفعال، ومنهم من أنكر البيان بالفعل، ورأى مجرد الأفعال لا تنبئ على المراد، بخلاف صيغ الأقوال التي تنبئ على المراد بالاصطلاح عليها".

(6)

يُنظر: "البرهان في أصول الفقه"، للجويني (1/ 183) وفيه قال:"حكم فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. . . فأما ما يقع قربة في قصده فهو الذي اختلف فيه الخائضون في هذا الفن، فذهب طوائف من المعتزلة إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم محمول على الوجوب ويتعين اتباعه فيه، وذهب إلى هذا المذهب ابن سريج وأبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا. وذهب ذاهبون إلى أن فعله لا يدلُّ على الوجوب، ولكنه محمول على الاستحباب وفي كلام الشافعي ما يدلُّ على ذلك".

ص: 2131

* قوله: (ثَانِيًا: اخْتِلَافُهُمْ أَيْضًا فِي تَصْحِيحِ بَعْضِهَا).

الفريق الآخر من العلماء يقولون

(1)

: الجمع لم يرد في كتاب اللَّه عز وجل كالحال في القصر، وإنما هو فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكن الغاية من الجمع كما أشرنا سابقًا هي التخفيف والجمع بين الصلاتين، ولا شك أن فيه تخفيفًا على المسافر

(2)

، وهذا يتفق مع أصول الشريعة.

* قوله: (وَثَالِثًا اخْتِلَافُهُمْ فِي إِجَازَةِ القِيَاسِ فِي ذَلِكَ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ كَمَا تَرَى، أَمَّا الآثَارُ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الثَّابِتُ بِاتِّفَاقٍ أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ

(3)

أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ العَصْرِ)

(4)

.

يعني: قبل أن تزول الشمس.

* قوله: (ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ"

(5)

).

(1)

وهم الحنفية كما مر.

(2)

مَن قال بعلة التخفيف في الجمع هم الجمهور؛ المالكية والشافعية والحنابلة.

انظر في مذهب المالكية: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (2/ 711)، وفيه قال:"وأصل الجمع في السفر إنما هو تخفيف على المسافر، وعون له على سفره، وفي الجمع له في المنهل غاية التخفيف، فأبيح له ذلك. ويجمع المسافر في الحج وغيره خلافًا لأبي حنيفة".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 234)، وفيه قال:"صلاة المسافر شرعت تخفيفًا عليه لما يلحقه من تعب السفر، وهي نوعان القصر، والجمع".

وانظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 300) وفيه قال:" (و) يشترط (لجمع بوقت ثانية) وهو جمع التأخير شرطان أحدهما (نيته)، أي: الجمع (بوقت أولى) المجموعتين مع وجود مبيحه (ما لم يضق) وقت الأولى (عن فعلها) لفوات فائدة الجمع، وهي التخفيف".

(3)

"زاغَتِ الشمسُ": إِذا مالتْ وزالت. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (8/ 151).

(4)

سبق تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

ص: 2132

لأنه في هذه الحالة يكون وقت الظهر قد دخل، فيصليه، لكن جاء في حديث معاذ أنه صلى الظهر والعصر وهو متأخر

(1)

.

* قوله: (وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَان أَيْضًا قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ المَغْرِبَ)

(2)

.

في بعض الروايات: "إذا عجل به السير"

(3)

، وفى بعضها:"إذا جد به السير"

(4)

، والقصد: أنه أسرع في سيره.

* قوله: (حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العِشَاءِ"

(5)

، وَالحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ قَالَ:"صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعًا، وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيعًا، فِى غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ")

(6)

.

أيضًا حديث ابن عباس ورد في عدَّة روايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا سفر، وفي رواية أُخرى: من غير خوف ولا مطر

(7)

.

* قوله: (فَذَهَبَ القَائِلُونَ بِجَوَازِ الجَمْعِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ إِلَى أَنَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ العَصْرِ المُخْتَصِّ بِهَا، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا).

هؤلاء هم الحنفية

(8)

، فقالوا: إن الجمع هنا إنما هو جمع صوري،

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم (703) بلفظ: "أنه كان إذا عجل به السير يؤخِّر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخِّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق".

(4)

سبق تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

(6)

أخرجه مسلم (705).

(7)

أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود (1211) وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(579).

(8)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(1/ 382) وفيه قال: "ما رواه مما يدلُّ على التأخير =

ص: 2133

وهو أن يؤخِّر وقت الظهر، أي: صلاة الظهر يؤخّرها إلى آخر وقتها، فيؤديها، فإذا فرغ منها كان وقت العصر قد دخل.

والعلماء يقولون بجواز الفصل بينهما فصلًا يسيرًا، أما لو فُصل بينهما بفاصل كبير، فإنه يؤثِّر في الجمع

(1)

.

وقد أجاب الفريق الآخر عن هذا بأجوبة كثيرة لا أريد أن أستقصيها، فمنهم من قال: جاء في حديث أنس وغيره: "فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر، فإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر إلى وقت العصر"

(2)

، فهذا نصٌّ، ولا اجتهاد مع النصِّ؛ لأنه قد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤخِّر الظهر إلى وقت العصر

(3)

.

= محمول على الجمع فعلًا لا وقتًا، أي: فعل الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها".

(1)

القائل بهذا القول من العلماء، هم المالكية والشافعية والحنابلة.

انظر في مذهب المالكية: "حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب"(1/ 423)، وفيه قال:" (ثم يصليها الإمام بالناس بلا مهلة) هذا شرط في كل جمع وليس خاصًّا بالجمع ليلة المطر".

وانظر في مذهب الشافعية: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 243) وفيه قال:" (ويشترط أن يوالي بينهما)؛ لأن الجمع بجعلهما كصلاة واحدة فوجب الولاء كركعات الصلاة".

وانظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 736)، وفيه قال في شروط الجمع:" (و) الثاني: (أن لا يفرق بينهما)، أي: المجموعتين، (ولو سهوًا ونحوه)؛ كالجهل، فإن فرق بينهما سهوًا أو جهلًا؛ بطل الجمع، على الصحيح من المذهب (إلا بقدر إقامة ووضوء خفيف)؛ لأن معنى الجمع المقارنة والمتابعة، ولا يحصل مع تفريق بأكثر من ذلك ولا يضر كلام يسير لا يزيد على ذلك من تكبير عيدًا وغيره، ولا سجود سهو ولو بعد سلام الأولى (فيبطل) جمع (براتبة) صلاها (بينهما)، أي: المجموعتين".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2134

وفي حديث معاذ: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان إذا زاغت الشمس صلى الظهر والعصر معًا في وقت الظهر، عجَّل العصر إلى وقت الظهر فصلاهما"

(1)

إذن هذا فيه نصٌّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصليهما معًا في وقت إحداهما، وليس كما يقول هؤلاء العلماء من أنه يصلي هذه في آخِر وقتها، وتلك في أول وقتها

(2)

، ثم لو أن هذا كما يقول هؤلاء العلماء فهذا حقيقة لا يكون فيه تخفيف؛ لأن المعلوم أن الجمع بين الصلاتين الحكمة فيه التخفيف على المسافر

(3)

، فلو كان الجمع -كما يقولون- تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، وجعل التالية لها في أول وقتها، فمعنى هذا أن المسافر سيجلس يرقب الزمن، وهذا فيه مشقة عليه، بعكس ما هو مراعًى في أمر التخفيف، ولكان كون المسافر موسَّعًا عليه الأمر يصلي كل صلاة في وقتها كما هو الأصل - أيسر عليه وأسهل من أن يأخذ بهذا الرأي، فيجلس يرقب الوقت حتى إذا لم يبق إلا وقت تؤدَّى فيه صلاة الظهر صلَّاها، وكذلك المغرب، فإذا ما دخل وقت العصر أو وقت العشاء صلى الصلاة السابقة عليها.

* قوله: (وَذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْقَعَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَصَلَاةَ العَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا

(4)

عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ)

(5)

.

حديث إمامة جبريل؛ إذ صلى برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فانه صلى به الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وصلى به العصر حين صار ظلُّ كل شيء مثله، وفي اليوم الثاني صلى به الظهر في الوقت الذي صلى به العصر فيه،

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

انظر هذه الأدلة في الردِّ على الأحناف في: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (4/ 372).

(3)

تقدَّم قريبًا من قال من العلماء بعلة التخفيف في الجمع.

(4)

تقدَّم نقل قولهم قريبًا.

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2135

ثم قال له: "الوقت ما بين هذين"

(1)

، ونذكر أنه قد مرَّ بنا أن المالكية يقولون: هناك وقت يقدر بأربع ركعات قبيل العصر، لو أُدِّيت فيه إحدى صلاتي الظهر أو العصر كانت قد أديت في وقتها، يسمونه وقتًا مشتركًا

(2)

.

* قوله: (قَالُوا

(3)

: وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ حَمْلُ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ

(4)

؛ لِأَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا فِي الحَضَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ

(5)

: (أَعْنِي: أَنْ تُصَلَّى الصَّلَاتَانِ مَعًا فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا)، وَاحْتَجُّوا لِتَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا بِحَدِيث ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:"وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً قَطُّ إِلَّا فِي وَقْتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِجَمْعٍ")

(6)

.

وفي رواية: أنَّه صلى المغرب والعشاء وقدم الفجر "ما صلى صلاة في غير وقتها إلا صلاتين صلى المغرب والعشاء"، يعني: بالمزدلفة، "والفجر قبل وقتها"

(7)

، والمراد بـ "قبل وقتها" هو التعجيل بها، وعندما تكلمنا عن أوقات الحج بينا هذه المسألة.

* قوله: (قَالُوا

(8)

: وَأَيْضًا فَهَذِهِ الآثَارُ مُحْتَمِلَةٌ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 177) وفيه قال:" (واشتركا)، أي: الظهر والعصر (بقدر إحداهما)، أي: أن إحداهما تشارك الأخرى بقدر أربع ركعات في الحضر وركعتين في السفر".

(3)

أي: الحنفية.

(4)

تقدَّم تخريجه.

(5)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 169) وفيه قال: "وأجمعوا أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر بغير عذر المطر إلا من شذَّ".

(6)

أخرجه مسلم (1289) بلفظ: "ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها، إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها".

(7)

تقدَّم تخريجه.

(8)

أي: الحنفية، كما مر.

ص: 2136

تَأَوَّلْنَاهُ نَحْنُ أَوْ تَأَوَّلْتُمُوهُ أَنْتُمْ، وَقَدْ صَحَّ تَوْقِيتُ الصَّلَاةِ وَتِبْيَانُهَا فِي الأَوْقَاتِ).

يقصد بينا وعرفنا الجواب عن ادِّعائهم بأن للصلوات أوقاتًا، وقلنا: نعم أمركم مسلم، لكن هذا عامٌّ يخصُّ منه ما يتعلَّق بما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم في الجمع.

* قوله: (فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْ أَصْلٍ ثَابِتٍ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ).

نقول بأن الصلاة لم تنتقل عن أمر ثابت لأمر محتمل؛ لأنه في غير الحالات، حالات العذر، لا يجوز أن يجمع بين الصلاتين، ومن ذهب إلى جواز الجمع لغير حاجة، أو لغير مشقة، فهذا قوله ضعيف

(1)

.

* قوله: (أَمَّا الأَثَرُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِي تَصْحِيحِهِ، فَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ "أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ تَبُوكَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَالمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ)

(2)

.

وهذا غريب من المؤلف، فليست هذه الرواية هي التي اختلف العلماء فيها، فهذه رواية مسلم وغيره؛ وهي رواية ليست محل خلاف ولا جدال، بل هي رواية صحيحة، لكن الرواية التي اختُلِف في سندها -أي: في صحتها- هي التي ذكرتُ قبلُ: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر معًا، فإن ارتحل قبل أن تزيغ صلى العصر والمغرب جميعًا ومثل ذلك في المغرب والعشاء"

(3)

هذا

(1)

تقدَّم قريبًا.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يقصد ما أخرجه الترمذي (553)، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل، "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك، إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخَّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس =

ص: 2137

هو الذي فيه خلاف في سنده، وحسَّنه الترمذي وغيره، وله شواهد عدة من حديث أنس وابن عباس وعلي بن أبي طالب

(1)

، وهو حديث صحيح.

أما اللفظ الذي جاء به المؤلف، فهو لفظ صحيح، ليس محل نقاش ولا خلاف بين العلماء

(2)

.

* قوله: (قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيعًا"

(3)

).

نقول بأن الحديث صحيح

(4)

، وهو حجة.

* قوله: (وَهَذَا الحَدِيثُ لَوْ صَحَّ، لَكَانَ أَظْهَرَ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ فِي إِجَازَةِ الجَمْعِ).

الحديث حجة للذين يقولون بجمع التقديم، وللذين لا يشترطون أن يجد في سيره، وأنه لا يجمع إلا إذا جد به السير.

= عجَّل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجَّل العشاء فصلاها مع المغرب".

وهذا الحديث فيه أنه جمع الصلاة جمع تقديم، وهذا ليس بمعروف، وإنما المعروف حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ. وهو حديث (مسلم).

قال الترمذي: "وحديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ حديث غريب، والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ، من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. رواه قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد، عن أبي الزبير المكي. وبهذا الحديث يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، يقولان: لا بأس أن يجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما". انظر: "سنن الترمذي"(692/ 1). وانظر: "البدر المنير"، لابن الملقن (4/ 561).

(1)

تقدَّم تخريج هذه الأحاديث.

(2)

تقدَّم في تخريجه.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2138

* قوله: (لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ قَدَّمَ العِشَاءَ إِلَى وَقْتِ المَغْرِبِ، وَإِنْ كانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ أَخَّرَ المَغْرِبَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَصَلَّى العِشَاءَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيثِ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَلَى ذَلِكَ).

نحن أجبنا على هذا

(1)

، وقلنا: إنه جاء في الأحاديث أنه أخَّر الظهر إلى وقت العصر، وهناك قدَّم العصر إلى وقت الظهر، فهذا الإيراد والاعتراض غير وارد؛ لأنه يعد اعتراضًا ضعيفًا.

* قوله: (بَلْ لَفْظُ الرَّاوِي مُحْتَمِلٌ، وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي إِجَازَةِ القِيَاسِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ أَنْ يُلْحَقَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي السَّفَرِ بِصَلَاةِ عَرَفَةَ وَالمُزْدَلِفَةِ، (أَعْنِي: أَنْ يُجَازَ الجَمْعُ قِيَاسًا عَلَى تِلْكَ)).

يريد المؤلف أن يقول: إذا كنتم تنفون الجمع فلماذا اخترتموه في موضعين؛ في عرفات وفي المزدلفة؟ إذن أصل الجمع ثابت عندكم، لكنهم يقولون

(2)

: العلة ليست السفر.

* قوله: (فَيُقَالُ مَثَلًا؛ صَلَاةٌ وَجَبَتْ فِي سَفَرٍ، فَجَازَ أَنْ تُجْمَعَ، أَصْلُهُ جَمْعُ النَّاسِ بِعَرَفَةَ وَالمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

(3)

: (أَعْنِي جَوَازَ هَذَا القِيَاسِ)، لَكِنَّ القِيَاسَ فِي العِبَادَاتِ يَضْعُفُ، فَهَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ الخِلَافِ الوَاقِعِ فِي جَوَازِ الجَمْعِ)

(4)

.

(1)

تقدَّم قريبًا.

(2)

أي: الحنفية كما مر النقل عنهم.

(3)

أخرجه مالك في "الموطأ"(482) بلفظ: "عن ابن شهاب؛ أنه سأل سالم بن عبد اللَّه: هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم. لا بأس بذلك. ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة؟ "، وفي هذا الأثر إثبات هذا القياس.

(4)

يُنظر: "المحصول" لابن العربي (ص: 95) وفيه قال: "ونطاق القياس في العبادات ضيق، وإنما ميدانه المعاملات والمناكحات وسائر أحكام الشرعيات، والعبادات موقوفة على النص".

ص: 2139

من المعلوم أن العبادات ليس فيها قياس، لكن المسألة لا تحتاج إلى قياس، وقد بينا هذا.

* قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (وَهِيَ صُورَةُ الجَمْعِ)).

الآن نريد أن نعرف صورة الجمع.

* قوله: (فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَيْضًا القَائِلُونَ بِالجَمْعِ (أَعْنِي: فِي السَّفَرِ)).

الآن سيصبح الخلاف بين الجمهور، كان بين الحنفية وبين الجمهور

(1)

، ولا نقول إن أبا حنيفة لا يرى الجمع، إذن هو لا يدخل في بقية المسائل.

اختلف جمهور العلماء في الجمع: هل يقتصر على جمع التأخير؟ أو يجوز أن تصلى الصلاتان في وقت الأولى؟ هذه مسألة.

المسألة الأخرى: هل شرط الجمع لا يكون إلا إذا جدَّ به السير أو لا؟

(2)

هذا ما سيبحثه المؤلف، ثم سيتكلم عن الجمع في اليوم المطير، وكذلك إذا كان هناك وحل، وربما يذكره، وكذلك أيضًا المرض. . .

* قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنْ الِاخْتِيَارَ أَنْ تُؤَخَّرَ الصَّلَاةُ الأُولَى، وَتُصَلَّى مَعَ الثَّانِيَةِ وَإِنْ جُمِعَتَا مَعًا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الأُولَى جَازَ)

(3)

.

(1)

تقدَّم قريبًا.

(2)

سيأتي تفصيل هذا المسائل ونقل أقوال الفقهاء فيها.

(3)

في مذهب المالكية روايتان.

الأولى وهي: أَنْ تُؤَخَّرَ الصَّلَاةُ الأُولَى وَتُصَلَّى مَعَ الثَّانِيَةِ وَإِنْ جُمِعَتَا مَعًا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الأُولَى جَازَ.

يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (1/ 205) وفيه قال: "قال مالك: فأحب ما فيه إلى أن يجمع بين الظهر والعصر في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر يجعل الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها إلا أن يرتحل بعد الزوال فلا أرى بأسًا أن يجمع بينهما تلك الساعة في المنهل قبل أن يرتحل".

والثانية: أنه مخير في الجمع بين الصلاتين أن يصلي في وقت أحدهما. =

ص: 2140

هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم مَن رأى أن تصلى الصلاتان في وقت الأخرى؛ لأن هذا الذي ورد في جميع الأحاديث عدا حديث معاذ

(1)

؛ فإنه نص على التقديم، وغالب الأحاديث جاء الجمع فيها جمع تقديم، ومن هنا ذهب كثير من العلماء إلى أنه يجمع جمع تقديم

(2)

، لكن كثيرًا من الفقهاء ذهبوا إلى جواز جمع التقديم، وهو قول الشافعية ورواية للمالكية والحنابلة

(3)

.

* قوله: (وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ)

(4)

.

وأحمد، وهو مذهب الشافعي

(5)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، أَعْنِي: أَنْ يُقَدِّمَ الآخِرَةَ

= يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 369) وفيه قال: " (وقدم) العصر أول وقت الظهر والعشاء أول وقت المغرب جوازًا، وقيل: ندبًا".

وفي مذهب الشافعية مخير بين أن يقدم الآخرة إِلى وقت الأولى أو العكس ولكن الأفضل التأخير.

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 272) وفيه قال: " (فإن كان سائرًا وقت الأولى) نازلًا في وقت الثانية كسائر يبيت بمزدلفة (فتأخيرها أفضل وإلا) بأن لم يكن سائرًا وقت الأولى بأن كان نازلًا فيه سائرًا في وقت الثانية (فعكسه). . . وبقي ما لو كان سائرًا في وقتيهما أو نازلًا فيه فالذي يظهر أن التأخير أفضل؛ لأن وقت الثانية وقت للأولى حقيقة بخلاف العكس"

وفي مذهب الحنابلة: روايتان:

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 87) وفيه قال: "الصحيح من المذهب؛ جواز الجمع في وقت الأولى كالثانية. وعليه جماهير الأصحاب. قال الزركشي: هو المشهور المعمول به في المذهب. . . وقيل: لا يجوز الجمع للمسافر إلا في وقت الثانية، إذا كان سائرًا في وقت الأولى. اختاره الخرقي. وحكاه ابن تميم وغيره رواية".

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم النقل عنهم.

(3)

تقدَّم النقل عنهم قريبًا.

(4)

تقدَّم النقل عنهم.

(5)

تقدَّم النقل عنهما.

ص: 2141

إِلَى وَقْتِ الأُولَى أَوْ يَعْكِسَ الأَمْرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ)

(1)

.

أفرد مذهب الشافعي؛ لأنه لا خلاف فيه.

* قوله: (وَهِيَ رِوَايَةُ أَهْلِ المَدِينَةِ عَنْ مَالِكٍ)

(2)

.

وهي أيضًا -كما قلنا- الرواية الأخرى للإمام أحمد

(3)

.

* قوله: (وَالأُولَى رِوَايَةُ ابْنِ القَاسِمِ عَنْهُ)

(4)

.

نقول بالنسبة للنص هذا القول هو الصحيح الذي يشهد له الدليل، لكن الأحوط هو الرأي الآخر، يعني: كون الإنسان يؤخِّر إلى وقت الأخرى ويخرج من الخلاف.

* قوله: (وَإِنَّمَا كَانَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ مَالِكٍ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ الثَّابِتُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ).

وقد جاء فيه أنه أخَّر الظهر إلى وقت العصر

(5)

، هذا هو مراده.

* قوله: (وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَمَصِيرًا إِلَى أَنَّهُ لَا يُرَجِّحُ بِالعَدَالَةِ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا تَفْضُلُ عَدَالَةٌ عَدَالَةً فِي وُجُوبِ العَمَلِ بِهَا)).

يريد المؤلف أن يقول: إذا وُجِد عدولٌ ثقات من رواة الحديث، فلا ينبغي أن نفضِّلَ بينهم، فلا نقول: هذا أعدل، وهذا أعدل، وإنما نقبل العدالة، فلا تَفْضُلُ عدالةٌ عدالةً، إذن هذا رواته عدول، وهذا رواته عدول، فلا ينبغي أن نقول: هؤلاء أعدل؛ فنأخذ بروايتهم.

(1)

تقدَّم النقل عنه.

(2)

تقدَّم النقل عنه.

(3)

تقدَّم النقل عنه.

(4)

تقدَّم النقل عنه.

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2142

* قوله: (وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا صَحَّ حَدِيثُ مُعَاذٍ

(1)

وَجَبَ العَمَلُ بِهِ).

نقول: حديث معاذ قد صحَّ

(2)

، فينبغي العمل به لمَن أراد العمل به، أما قول المؤلِّف وجب العمل به أصلًا، فهذه عبارات يُطْلقها وهو لا يريد وجوب الحتم، وإلا لو أراد ذلك لكان خطأً؛ لأن الجمع أصله رخصة، والعلماء يفضلون الإتمام عليه

(3)

، بخلاف القصر كما عرفنا، إذن القصد هنا هو الأخذ بالرخصة.

* قوله: (كَمَا وَجَبَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ)

(4)

.

هناك قضية مهمة أيضًا عندما تكون مسألة من المسائل رُخِّص فيها، وأخذ بها الإنسان لأنها رخصة؛ امتثالًا لهذه الشريعة، فهو يثاب عليها، وينال أجرًا عظيمًا؛ لأن اللَّه يُحبُّ أن تؤْتَى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه

(5)

، فإذا أخذت بالرخصة وقصدك من ذلك امتثال ما جاء فيها من أمر، فأنت تثاب على ذلك ثوابًا إضافيًّا، إذن هذا عمل عظيم؛ لأنك استجبت لما يأتي عن اللَّه سبحانه وتعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم

(6)

.

* قوله: (إِذْ كَانَ رُوَاةُ الحَدِيثَيْنِ عُدُولًا، وَإِنْ كَانَ رُوَاةُ أَحَدِ الحَدِيثَيْنِ أَعْدَلَ).

قَالَ: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، وَهِيَ الأَسْبَابُ المُبِيحَةُ لِلْجَمْعِ).

هذه المسألة سيُدخِلُ المصنف رحمه الله فيها عِدَّة مسائل:

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

مر قريبًا تحقيق ذلك.

(3)

تقدَّم تفصيل ذلك.

(4)

تقدَّم تخريج هذين الحديثين.

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

مر في الحديث السابق.

ص: 2143

(فَاتَّفَقَ القَائِلُونَ بِجَوَازِ الجَمْعِ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ مِنْهَا).

أفادنا المصنف رحمه الله أن من أسباب الجمع: السفر، وقد سبق لنا الإشارة إلى أسباب التخفيف، وذكرنا منها المرض، والسفر، والنقص، وعموم البلوى، وغيرها. وهي أمور سبعة، وقد سبق حصرها.

فتحصل لنا أن السفر سبب من أسباب التخفيف؛ لأنه مظنة المشقة، فثبت به التخفيف، وإن لم تتحقق المشقة

(1)

.

* قَالَ: (وَاخْتَلَفُوا فِي الجَمْعِ فِي الحَضَرِ، وَفِي شُرُوطِ السَّفَرِ المُبِيحِ لَهُ).

أما الجمع في الحضر فقد يكون له سبب؛ كالمطر، أو المرض، أو الخوف، أو الريح؛ فمثلًا: إذا كانت ليلة مظلمة فيها ريح شديدة باردة، فهذه فيها كلام للعلماء، سيأتي إن شاء اللَّه. وقد يكون الجمع لغير سبب، فلا رخصة هنا، وقد شذَّ بعضهم؛ فأجاز الجمع في هذه الحال

(2)

.

(وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَرَ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ سَبَبًا مُبِيحًا لِلْجَمْعِ؛ أَيَّ سَفَرٍ كَانَ، وَأَيَّ صِفَةٍ كَانَ).

قوله: (أي سفر كان): يُشير إلى قضية لم يُفصِّلها هنا، وهذا مسلك يَسلكه أحيانًا إذا رأى أن هذه المسألة ليست من مقاصده؛ لكونها جزئية، فتنبه.

(1)

يُنْظَر: "قواطع الأدلة" للسَّمعاني (1/ 96)؛ حيث قال: "والسَّفر جُعِل عذرًا؛ لأنَّه سبب المشقة، فالمشقة في الأداء لا غير".

(2)

يُنْظَر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (4/ 384)؛ حيث قال: "قال ابن المنذر من أصحابنا: يَجوز الجمع في الحَضَر من غير خوف ولا مطر ولا مرض، وحكاه الخَطَّابي في: "معالم السُّنن" عن القفال الكبير الشاشي، عن أبي إسحاق المروزي، قال الخطابي: وهو قول جماعة من أصحاب الحديث؛ لظاهر حديث ابن عباس".

وانظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 137)؛ حيث قال: "وقد روينا عن ابن سيرين: أنَّه كان لا يرى بأسًا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء، ما لم يتخذه عادة".

ص: 2144

(أي سفرٍ كان): سواء كان طويلًا، وهو الذي تقصر فيه الصلاة، أو كان سفرًا قصيرًا لا تُقصر في مثله الصلاة، وهذا هو مذهب المالكية

(1)

والشافعية

(2)

.

وخالفهم الحنابلة فجعلوا الجمع كالقصر، وقالوا: لا بد أن يكون السفر مما تُقصر فيه الصلاة

(3)

، وهو أربعة بُرد فما فوق

(4)

.

والمالكية والشافعية إنما أجازوا الجمع في السَّفر القصير دون القصر؛ لجمعه صلى الله عليه وسلم في عرفات

(5)

، وفي مزدلفة

(6)

.

(1)

وهو خلاف الأولى عندهم، يُنْظَر:"الشرح الكبير" للدردير وحاشية الدسوقي" (1/ 368)؛ حيثُ قال: "(ورُخِّص له)، أي: للمسافر -رجلًا أو امرأة- جوازًا، بمعنى: خلاف الأَوْلَى (جمع الظُّهرين)، لمشقة فعل كل منهما في وقته، ومشقة السَّفر، (ببَر)، أي: فيه، لا في بَحر؛ قصرًا للرخصة على موردها إذا طال سفرُه، بل (وإن قصر) عن مسافة القصر".

(2)

المعتمد عند الشافعية: أنَّ الجمع بين الصلاتين إنَّما يكون في السفر الطويل، وفي قول عندهم:"يجوز الجمع في السفر القصير"، يُنْظَر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 393)؛ حيثُ قال: " (يجوز الجمع بين الظهر والعصر تقديمًا). . . وكالظهر الجمعة في هذا. . .، (وتأخيرًا) في وقت الثانية، (و) بين (المغرب والعشاء كذلك)، أي: تقديمًا وتأخيرًا (في السفر الطويل) المُجَوِّز للقصر. . . (وكذا القصير في قول) اختير؛ كالتنفل على الراحلة، وأشار بـ، "يجوز" إلى أن الأفضل ترك الجمع؛ خروجًا من خلاف مَن منعه".

(3)

يُنْظَر: "المغني" لابن قدامة (2/ 202)؛ حيث قال: "ولا يجوز الجمع إلا في سفر يُبيح القصر".

(4)

البُرُد: جمع بَريد، وهي سِتَّة عَشر فرسخًا، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: أربعة آلاف ذراع. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 116).

(5)

أخرجه أحمد (6130)، عن ابن عمر، قال:"غدا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من منى حين صَلَّى الصبح في صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذي كان ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُهجرًا، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة"، وحَسَّن إسنادَه الأرناؤوط.

(6)

أخرجه مسلم (1280) عن أسامة بن زيد: "أنه كان رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة، فلما جاء الشِّعْبَ أناخ راحلته، ثم ذهب إلى الغائط، فلما رجع صببت عليه من الإداوة، فتوضأ ثم ركب، ثم أتى المزدلفة فجمع بها بين المغرب والعشاء".

ص: 2145

* قَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ السَّيْرِ، وَنَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّفَرِ).

* قوله: (ضربًا من السَّير): يعني: أن يكون سائرًا فى وقت الأُولى، فإن من العلماء مَن يرى أنه لا يجمع بين الصلاتين إلا أن يكون سائرًا في وقت الأُولى

(1)

؛ يعني: جادًّا، كما جاء في الحديث: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَجمع بين المغرب والعشاء إذا جَدَّ به السَّيرُ

(2)

"

(3)

؛ أي: سائرًا في وقت الأُولى، ثم يجمع في وقت الثانية

(4)

.

(فَأَمَّا الَّذِي اشْتَرَطَ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ السَّيْرِ، فَهُوَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ عَنْهُ).

هي إحدى الروايات عن مالك، ولذلك قال:(فأمَّا الذي اشترط فيه ضربًا من السير فهو مالك في رواية ابن القاسم عنه).

(وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْمَعُ المُسَافِرُ إِلَّا أَنْ يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ

(5)

).

يعني: أن يكون سائرًا في وقت الأولى، وهو -أيضًا- قول في مذهب الحنابلة

(6)

.

(1)

وهو قول مالك، يُنْظَر:"المدونة"(1/ 205) حيث قال: "وقال مالك: لا يَجمع الرجل بين الصلاتين في السفر، إلا أن يجد به السير".

وبه قال الإمامان؛ الليث والثوري رحمهما اللَّه، يُنْظَر:"إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 35)؛ حيث قال: "وباشتراط جد السير قال الليث والثوري". وانظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (3/ 95).

(2)

جدَّ به السير: أي: أسرع فيه، واهتم به، واستمر فيه. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (3/ 113)، و"تاج العروس" للزبيدي (2/ 314).

(3)

أخرجه البخاري (1106)، ومسلم (703).

(4)

يُنْظَر: "الإشراف على نُكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 314)؛ حيثُ قال: "والاستحباب في آخر وقت الأُولى وأول وقت الثانية".

(5)

يُنْظَر: "المدونة"(1/ 205)؛ حيث قال: "وقال مالك: لا يَجمع الرجل بين الصلاتين في السفر إلا أن يجد به السير".

(6)

يُنْظَر: "الفروع" لابن مُفلح (3/ 104)؛ حيث قال: "وقيل: لا يجوز الجمع إلا لسائر، وعنه: لسائر وقت الأولى، فيؤخر إلى الثانية، اختاره الخرقي".

ص: 2146

(وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ

(1)

).

وهي الرواية الأخرى للإمامين: مالك

(2)

وأحمد

(3)

، وهذا هو الصَّحيح في نظرنا.

(وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ

(4)

، وَمَنْ ذَهَبَ هَذَا المَذْهَبَ، فَإِنَّمَا رَاعَى قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ"، الحَدِيثَ

(5)

).

يعني: إذا أسرع به السير؛ بمعنى: أنه سار في وقت الأُولى فإذا قطع مسافة يجمع، لا في أول الوقت.

لكنَّ حديث معاذ

(6)

نصٌّ في أنه إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل

(1)

يُنْظَر: "الأم" للشافعي (1/ 96)؛ حيث قال: "فللمسافر أن يجمع نازلًا وسائرًا".

(2)

يُنْظَر: "مناهج التحصيل" للرجراجي (1/ 421، 422)؛ حيثُ قال: "وأما حقيقة مذهب مالك في المسألة: فالذي يتحصل عندي ثلاثة أقوال كلها منصوصة: أحدها: أنه يجوز بشرطين: أن يجد به السير، ويخاف فَوَات أمر، وهو قول مالك في "المدونة". . .، والثاني: أنه يجوز الجمع بشرط واحد؛ وهو جَدُّ السير، وإن لم يَخش فوات أمر، وهو قول ابن حبيب، والثالث: أن الجمع يجوز في السفر، وإن لم يجد به السير، وهو قول أشهب".

(3)

يُنْظَر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" لإسحاق الكوسج (2/ 441)؛ حيثُ قال: "في السفر يجمع بين الصلاتين جَدَّ به السيرُ، أو لم يَجد".

(4)

وعدم الاشتراط هو مَشهور مذهب المالكية، يُنْظَر:"الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 368)؛ حيث قال: " (ورُخِّص له)، أي: للمسافر؛ رجلًا أو امرأة. . . (جمع الظهرين)؛ لمشقة فعل كل منهما في وقته، ومشقة السفر، (وفيها شرط الجد) في السير (لإدراك أمر)، لا لمجرد قطع المسافة، والمشهور الأول". وانظر: "منح الجليل" لعليش (1/ 416).

(5)

أخرجه مسلم (703): عن ابن عمر رضي الله عنه، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا عَجل به السير جمع بين المغرب والعشاء".

(6)

أخرجه مسلم (706): عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال:"خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتى إذا كان يومًا أَخَّر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعًا".

ص: 2147

جمع بين الظهر وبين العصر

(1)

، فليس فيه أنه عجل، بل فيه أنه صلى قبل أن يرتحل، وعليه فكلٌّ من الصفتين جائز

(2)

.

وقد عُلِم أن من عادة المسافر إذا ركب قبل الوقت أن نفسه تتوق دائمًا إلى أن يقطع مسافة، أو جزءًا من السفر الذي يريده، حتى وإن كان في سيارة، وهذا أمرٌ معروفٌ عند الناس عمومًا.

* قالَ: (وَمَنْ لَمْ يَذْهَبْ هَذَا المَذْهَبَ فَإِنَّمَا رَاعَى ظَاهِرَ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ).

حديث أنس المشار إليه ما أخرجه البخاريُّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:"كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السَّفر"

(3)

.

ولم يَرِد فيه: "عَجِل"

(4)

.

* قَالَ: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا -كَمَا قُلْنَا- فِي نَوْعِ السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الجَمْعُ).

سبق أن فَصَّلنا هذه المسألة، فاللَّه عز وجل في كتابه العزيز أطلق السَّفر، فقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وكذلك ما جاء -أيضًا- في الصيام، فإن اللَّه سبحانه وتعالى ذكر السَّفر مطلقًا

(5)

، وفي قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ

(1)

يُنْظَر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (4/ 96)؛ حيث قال: "فجاء في هذا الحديث ما يقطع الالتباس في أن للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر إذا زاغت الشمس؛ نازلًا كان أو سائرًا، جَدَّ به السير أو لم يجدَّ".

(2)

يُنْظَر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (3/ 96)؛ حيث قال: "وكلا الفعلين قد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ جمع حين جَدَّ به السير، وجمع دون ذلك، وليس ذلك بتعارض، بل كلُّ واحدٍ حكى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما رأى، وكُلٌّ سُنَّة".

(3)

أخرجه البخاري (1108).

(4)

يُنْظَر: "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" للبِرْماوي (4/ 526)؛ حيث قال: "قوله: (في السَّفر): فيه أنه لا فرق بين الجد فيه وعدمه".

(5)

يعني: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].

ص: 2148

فِي الْأَرْضِ. . .} [النساء: 101] أيضًا، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كحديث يَعلى بن أمية

(1)

وغيره من الأحاديث، كلها جاء السفر فيها مطلقًا دون تقييد، وهذا هو مذهب الحنفية

(2)

.

والجمهور يستدلون بأن الأصل في التخفيف في السفر المشقة

(3)

، ومعلوم من مقاصد هذه الشريعة ومن أهدافها: أنها تُخفف عن المسلم؛ رأفةً به ورحمةً ورفعًا للمشقة والحرج عنه، والعاصي لو خُفِّف عنه لكان في ذلك إعانةً له وتيسيرًا له للوصول إلى معصيته في أقرب وقت؛ فلا ينبغي أن يكون كذلك؛ فإذا أراد العاصي أن يتمتع بهذه الرخصة؛ كأن يأكل من الميتة -مثلًا- إذا اضطر إليها، أو أن يدفع الغصَّة بما لا يجوز، أو أن يقصر الصلاة وأن يجمع بين الصلاتين، فعليه أن يتوب إلى اللَّه سبحانه وتعالى توبة نصوحًا، فإذا تاب أصبح كغيره يجوز له الترخص، وأما قبل التوبة، فلا نُيَسِّر عليه؛ لأن:"الرُّخص لا تُناط بالمعاصي"

(4)

، وهذه قاعدة معروفة.

(1)

أخرج مسلم (686): عن يعلى بن أمية، قال:"قلت بعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ فقد أمن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بها عليكم؛ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَه".

(2)

يُنْظَر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 149)؛ حيث قال: " (لا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حَضَر ولا في سفر) ما خلا عرفة ومزدلفة؛ فإن الحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفات فيؤديهما في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة فيؤديهما في وقت العشاء"، وعليه؛ فلم يتكلموا في نوع السفر الذي يجوز فيه الجمع؛ لأنه لا جمع عندهم إلا في السفر المذكور، وهو سفر طاعة".

(3)

عند المالكية؛ يُنْظَر: "الذب عن مذهب الإمام مالك" لابن أبي زيد القيرواني؛ حيث قال: "أصل القَصر في السفر والفِطر تخفيفًا وتيسيرًا لمشقة السَّفر".

وعند الشافعية؛ يُنْظَر: "الأم" للشافعي (1/ 95)؛ حيث قال: "في الجَمع في السَّفر عِلَّة المشقة".

وعند الحنابلة؛ يُنْظَر: "الممتع في شرح المقنع" للتنوخي (1/ 506)؛ حيث قال: "القصر إنما جاز لمشقة السفر".

(4)

يُنْظَر: "المنثور في القواعد الفقهية" للزركشي (2/ 167)؛ حيث قال: "الرُّخص لا تُناط بالمعاصي؛ ومِن ثَمَّ: العاصي بسفره لا يَترخص بالفطر، والقصر، والجمع. . . ".

ص: 2149

* قَالَ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ سَفَرُ القُرْبَةِ؛ كَالحَجِّ وَالغَزْوِ، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ

(1)

).

أي: أن منهم مَن قصره على سفر القُربة

(2)

، وسبق أن ذكرناه عن ابن مسعود

(3)

.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ السَّفَرُ المُبَاحُ دُونَ سَفَرِ المَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ

(4)

).

منهم مَن أطلق الترخص في السفر المباح، وهو الرأي الذي نُرجحه هنا؛ فكل سفر مباح فإنه يُباح معه الجمع، وإن كان سفر تجارة أو نزهة أو صيد أو نحو ذلك؛ لأن الأصل التيسير.

* قَالَ: (وَظَاهِرُ رِوَايَةِ المَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ

(5)

).

وهو أيضًا قول أحمد

(6)

.

(1)

يُنْظَر: "المدونة"(1/ 205)؛ حيث قال: "وقال مالك في المسافر في الحج وما أشبهه من الأسفار: إنَّه لا يجمع بين الصلاتين إلا أن يجد به السير"، فلعلَّ هذا هو الظاهر الذي قصده ابن رشد رحمه الله.

(2)

وهم المالكية، يُنْظَر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 368)؛ حيث قال: "لا بد في الجواز من كونه غير عاص بالسَّفر، وغير لاهٍ به".

(3)

أخرج عبد الرزاق (4420): عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى صلاة قط إلا لوقتها، إلا أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء بجمع".

(4)

يُنْظَر: "حاشية الشرواني على تحفة المحتاج"(2/ 394)، حيث قال:"ويمتنع الجمع -أيضًا- في. . .، وفي سفر معصية".

(5)

يُنْظَر: "مواهب الجليل"(2/ 140)؛ حيث قال: "فصل: سُنَّ لمسافر غير عاص به ولاهٍ. . . لو كان سَفَره غير معصية، ثم طرأت المعصية قالوا: لم يَترخص؛ لأنَّ سفره عاد معصية. . . ".

(6)

يُنْظَر: "كشاف القناع"(5/ 2): (يجوز) الجمع (بين الظهر والعصر) في وقت إحداهما (و) بين (العِشاءين في وقت إحداهما). . . (لمسافر يَقصر)، أي: يُباح له قصر الرباعية، بأن يكون السفر غير مكروه ولا حرام".

ص: 2150

* قَالَ: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا: هُوَ السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ التَّعْمِيمُ؛ لِأَنَّ القَصْرَ نُقِلَ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَالجَمْعَ إِنَّمَا نُقِلَ فِعْلًا فَقَطْ).

أي: أن الحكم واحد فيهما، ولذلك لو رجعنا إلى الكتب المطولة نجد أنهم لا يُكررون هذه المسألة؛ وإنما يبسطون القول فيها في باب قصر الصلاة، ثم بعد ذلك إمَّا يُشيرون إلى أنها قد مَرَّت، أو لا يذكرونها؛ لأن الحكم فيهما سواء

(1)

.

فكما أنه لا يجوز للعاصي بسفره أن يقصر الصلاة، فكذلك ليس له أن يجمع بين الصلاتين؛ لأنه عاصٍ، والرُّخص لا تُستباح بالمعاصي.

وقوله: "وإن كان هنالك التعميم"، يعني بقوله:"هنالك" باب القصر، والمعنى: أن من الفقهاء مَن عَمَّم الرخصة في باب القصر، لنقله في النصوص بالقول والفعل، والقول يدل على العموم؛ قال تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} [النساء: 101]، فلم يخص سفرًا دون سفر؛ فمن هنا جاء التعميم.

وأما الجمع؛ فإنما نُقل بالفعل دون القول؛ فتجد الحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر"

(2)

، ونحو ذلك، وهذا مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على العموم عند جمهور الأصوليين

(3)

، وإنما يجيء التعميم لسبب آخر زائد على الفعل؛ كالقياس، أو نحوه.

(1)

هذا هو عينُ ما رأيتُه حين البحث في المصادر المختلفة، على اختلاف المذاهب.

(2)

تقدَّم تخريجُه.

(3)

المراد بالفعل المجرَّد: ما كان من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَظهر لدينا دليل نُلحقه به، فقد يكون عامًّا أو خاصًّا، ثم لا نعلم هل هو على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة؟ واعلم أنَّ قضية الفعل المجرَّد هي لبُّ باب الأفعال، وهي التي يقع فيه الخلاف. وقد اضطربت كتبُ الأصول فيما تنسب إلى بعض الأئمة من القول في =

ص: 2151

وحيث إننا نقطع أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سافر في الأسفار المندوبة، ولم يُسافر سفر معصية قط، فنقف بالرخصة على الصور التي وردت فيها، وهي الأسفار الواجبة أو المندوبة؛ كالحج والجهاد، ولا نُعَمِّمها بحيث تشمل أسفار المعصية والأسفار المباحة.

وأما القصر؛ فالآية الكريمة دَلَّت على العموم، فيُباح القصر في الأسفار كلها، ثم خَصَّت الأدلة سفر المعصية، فمنعناه لأجل ذلك.

لكن يمكن قياس الجمع على القصر بجامع مشقة السفر

(1)

؛ فنُلحق الجمع في السفر المباح بالقصر في السفر المباح للمشقة؛ فمع أن الجمع إنما نُقل فعلًا فقط، لكن لا بد من نظر إلى الحكمة؛ فنحن مأمورون بتدبر هذه الأحكام، وأن نمعن النظر فيها، وأن ندقق في حِكِمها؛ فمن استقصى أحكام الشريعة أدرك أنها ما نزلت إلا لغايات وحِكم جليلة.

*‌

‌ فائدة:

ليس كل مسافر تلحقه مشقة، وهذا أظهر في وقتنا هذا، وسيأتي بعد هذا الكلام في المطر، فإذا قلنا بجواز الجمع في الحضر في اليوم المطير -على خلاف بين العلماء- منهم مَن يخصُّه بين المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة أشد، ومنهم من يُعَمِّم؛ فيُدخل الظهر والعصر كالشافعية - عَمَّت الرخصة الجميع، سواء من يصيبه المطر، أو يتضرر به أو لا؛ لأن الرخصة إذا جاءت عَمَّت؛ فيذكر العلماء في هذا الباب أن هذا الحكم يعمُّ مَن هو آمن من إصابة المطر؛ كمن لا يأتيه المطر في طريقه بأن يكون

= دلالة الفعل المجرَّد عن الأحكام، حتى إننا لنجدهم ينسبون إلى الإمام الواحد أقوالًا متضاربة ينقض بعضها بعضًا، وإن أردتَ خير بيان في هذا الباب، فانظر: رسالة: "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية" للدكتور الأشقر (1/ 315، ومابعدها)؛ فقد أفرد قضية الفعل المجرَّد بفصل مستقل.

(1)

يُنْظَر: "الإبهاج في شرح المنهاج" للسبكي (3/ 64)، حيث قال:"قياس الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر على الجمع في السفر بجامع الحرج، فإن جنس الحَرَج مؤثر في نوع الحكم، وهو إباحة الجمع".

ص: 2152

الطريق مُغطًى بسقف، ونحوه، أو من بيته ملاصق للمسجد، أو مَن يقيم في غرفة في المسجد - كما كان فيما مضى، أو مَن لبيته منفذ مُشرع على المسجد، فالحكم معلق بالمشقة العامة، لا بآحاد المشقات التي تصيب بعضًا دون بعض؛ فإذا كانت المظنة قائمة يُخفف ولا ينظر للحاجة الخاصة بكل مُترخص؛ فمثلًا عقود السَّلم والإجارة والجعالة جاءت على خلاف القياس عند بعض أهل العلم؛ لأنَّ فيها شيء من الجهالة، وإنما أبيحت للحاجة إباحة عامة لم تقتصر على مَن يحتاج فحسب.

وكذلك إباحة كلب الصيد وكلب الحرث لكل أحد مع أن بعض الصائدين يَستغني عن الصيد بالكلب، ومع ذلك فإباحته عامة؛ لأنَّ:"الحاجة تَنزل منزلة الضرورة؛ عامَّة كانت أو خاصة"

(1)

؛ فإذا كانت الحاجة عامة فلا ينبغي أن يُخص بها أحد.

* قَالَ: (فَمَنِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى نَوْعِ السَّفَرِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُجِزْهُ فِي غَيْرِهِ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ الرُّخْصَةَ لِلْمُسَافِرِ، عَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَسْفَارِ).

أما هذه الدعوى فغير صحيحة، فحاشا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يخرج في غير طاعة، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما خرج إلا حاجًّا أو معتمرًا أو غازيًا، هذه هي أسفار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان أصحابه مِن بعده

(2)

.

نقول: هذا الذي ورد من إباحة الجمع في سفر الطاعة أو المباح لا يُقاس عليه سفر المعصية؛ لأن العاصي خرج على حدود اللَّه، وتجاوزها شأنه أن يُؤَدَّبَ، لا أن يُرَخَّص له.

والعقوبات على الذنوب تختلف؛ فمنها ما يقتضي القتل، أو إقامة

(1)

يُنْظَر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 88)؛ حيث قال: "القاعدة الخامسة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة؛ عامَّة كانت أو خاصة".

(2)

كأنَّ الشارح رحمه الله يستنكر ما فهموه؛ حيث أدخلوا سفر المعصية في عموم الأسفار من جهة الدلالة! واللَّه أعلم.

ص: 2153

الحد، أو التعزير بالسجن، أو بغيره، بل قد يصل التعزير إلى القتل من باب المصلحة؛ فللإمام -أحيانًا- أن يرفع التعزير إلى حد القتل حماية للمؤمنين؛ كما نجد الآن في المخدرات التي انتشرت واحتجنا في قطعها إلى رادع قوي؛ لأنها من أشنع الأمور التي تُفسِد الأمة، وإذا كان اللَّه تعالى يقول:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ. . .} [البقرة: 179]، بمعنى أن الرجل إذا فكَّر وعلِم أنه إذا قَتَل قُتِل ارتدع؛ فكم من الأنفس سيُحافِظ عليها خشيةَ أن يُقتل قِصاصًا؛ لقتله بغير حق خارجًا عن حدود اللَّه؟!

وقد فرض اللَّه سبحانه وتعالى فرائض، وأمرنا ألَّا نُضيعها، وحَدَّ حدودًا، وأمرنا ألا نتجاوزها، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"الحلالُ بَيِّنٌ، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس؛ فمَن اتَّقَى المشبهات استبرأ لدينه وعِرضه، ومَن وقع في الشبهات: كراع يَرعى حول الحِمَى يُوشك أن يُواقعه، ألا وإن لكلِّ مَلك حِمى، ألا إن حمى اللَّه في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فَسَدت فَسَد الجسدُ كله، ألا وهي القلب"

(1)

.

"استبرأ لدينه"؛ أي: عَصم دينه وعَصم نفسه من الوقوع في الحرام والخطأ والجرائم

(2)

.

و"الحِمى": مكان محمي لغيره

(3)

؛ فإذا قاربه لا يأمن أن تأتي دوابُّه فتدخل هذا الحِمى، فكذلك الذي يحوم حول الحرام يوشك أن يَرتع فيه؛ فعلى المسلم أن يَتجنب مثل هذه الأمور

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

(2)

يُنْظَر: "مطالع الأنوار على صحاح الآثار" لأبي إسحاق بن قرقول (4/ 407)؛ حيث قال: " (فَقَد استبرأ لدينِه وعِرْضِه)؛ أي: حَمَى نفسه من الوقوع في المُشكل الحرام".

(3)

فأطلق المصدر على اسم المفعول؛ أي: المكان المحمي.

(4)

يُنْظَر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 47)؛ حيث قال: "هذا مَثَلٌ ضربه لمحارم اللَّه عز وجل، وأصله: أن العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها =

ص: 2154

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(وَأَمَّا الجَمْعُ فِي الحَضَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّ مَالِكًا وَأَكْثَرَ الفُقَهَاءِ لَا يُجِيزُونَهُ، وَأَجَازَ ذَلِكَ جَمَاعَة مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ).

وهو قول العلماء كافَّة عمومًا

(1)

، وقد وقفتُ على أن ابن سيرين هو الذي قال بجواز الجمع لغير عذر، لكنه قَيَّده بأن لا يكون عادة

(2)

؛ يعني: إن كانت لك حاجة تَجمع، وهذا قول ضعيف مردود

(3)

. وقد نسبه المؤلف

= وتخرج بالتوعد بالعقوبة لِمَن قربها، فالخائف من عقوبة السلطان يَبعد بماشيته عن ذلك الحِمى؛ لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه؛ لأنه قد تنفرد الفاذة وتشذ الشاذة ولا ينضبط؛ فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحِمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك، وهكذا محارم اللَّه عز وجل من القتل والربا والسرقة وشرب الخمر والقذف والغِيبة والنميمة ونحو ذلك لا ينبغي أن يَحوم حولها مخافة الوقوع فيها".

(1)

يُنْظَر: "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" لابن عبد البر (12/ 210)؛ حيث قال: "أجمع العلماء على أنَّه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر على حال البتة، إلا طائفة شَذَّت".

(2)

يُنْظَر: "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" لابن المنذر (2/ 433): "وقد روينا عن ابن سيرين: أنه كان لا يرى بأسًا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة".

(3)

يُنْظَر: "المجموع شرح المهذب" للنووي رحمه الله (4/ 384)؛ حيث قال: "قال ابنُ المنذر من أصحابنا: يجوز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض، وحكاه الخطابي في: "معالم السنن" عن القفال الكبير الشاشي عن أبي إسحاق المروزي، قال الخطابي: "وهو قول جماعة من أصحاب الحديث؛ لظاهر حديث ابن عباس". وحديث ابن عباس عند مسلم (705): "جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك؛ فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء"، قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك، قال: "أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ". وخلاصة حجة ابن المنذر رحمه الله: أنه لا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار؛ لأنَّ ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه، وهو قوله: "أراد أن لا يُحرج أُمَّته"، انظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 433).

ص: 2155

إلى أشهب من المالكية

(1)

، وإلى بعض أهل الظاهر

(2)

، والعهدة عليه فأنا غير متأكد من هذا، وسواء قاله هؤلاء أو غيرهم، فهو قول مردود على قائله.

ومِثلُ هذا القول لو وجده بعض الناس لربما تساهلوا في أمور الصلاة؛ الحمد للَّه أنه لا يُوجد ولو رأي ضعيفٌ للأئمة، ولا حتى رواية شاذة لأحدهم في هذه ال‌

‌مسألة.

• مسألة:

وأمَّا تأخير بعض الناس الصلاة؛ لأنَّه صاحب عمل، أو لكونه يعمل في منجم أو مصنع أو ورشة أو يحتاج إلى نظافة، فليس عذرًا، وقد وردت إلينا أسئلة كثيرة جدًّا في هذه المسألة.

وهذا الذي ينطبق على قول الحنفية: إن الصلاة لها أوقات محددة جاءت متواترة لا ينبغي أن تُؤدى في غيرها

(3)

.

لكننا نقول: استثني منها الجمع في السفر، ويأتي الكلام عن الجمع في المطر والمرض ونحو ذلك، على ما فيه من خلاف.

(1)

ونسبه إليه القاضي عياضٌ المالكي رحمه الله: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(3/ 36)؛ حيث قال: "إلا شذوذًا، منهم من السلف: ابن سيرين، ومن أصاحبنا: أشهب، فأجازوا ذلك؛ للحاجة والعذر، ما لم تُتخذ عادة".

(2)

لم أجد في: "المحلى" لابن حزم الظاهري ما يُشير إلى التمذهب بهذا القول، بل إنَّ فيه (3/ 185):"ولا يختلف عدد الركعات إلا في الظهر والعصر والعتمة، فإنها أربع ركعات في الحضر للصحيح والمريض، وركعتان في السفر، وفي الخوف ركعة"، فإذا كان أهل الظاهر يُوجبون في الحضر على المريض أربع ركعات، فمن باب أولى الوجوب بلا عذر، ولم أقف على أحدٍ نسب هذا القول إلى أهل الظاهر إلا ابن رشد رحمه الله، واللَّه أعلم.

(3)

يُنْظَر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 102)؛ حيث قال: "فلا يجوز لأحد ترك الوقت المفروض فيه الصلاة إلا بدلالة، وقد اتفق الجميع على بعض هذه الصلوات: أنه لا يجوز ترك الوقت فيها، كذلك سائرها؛ لوجود التوقيت فيها".

ص: 2156

(وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ).

يدور الكلام حول الأعذار؛ كالمطر، والمرض، والخوف، والرِّيح الباردة الشديدة في الليلة المظلمة، والوحل؛ أي: الطين إذا اختلط بالماء بعد المطر؛ إذ فيه مشقة بَلِّ الثياب، وأيضًا يتأثر به الإنسان؛ فاختلفوا هل يُلحق المطر بالوحل أم لا؟

فهذه كلها مسائل اختلفوا فيها، ومدار الخلاف حول حديث عبد اللَّه بن عباس قال:"صَلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا بالمدينة، في غير خوف، ولا سَفر"، وهو مخرج في "صحيح مسلم"

(1)

، قال مالك رحمه الله:"أرى ذلك كان في مطر"

(2)

.

لكن يُشكل على قول مالك أنه قد جاء في "صحيح مسلم" عن ابن عباس، قال:"جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف، ولا مطر"

(3)

؛ فيبقى الإشكال، ولا بد أن هناك علة أُخرى، وقد أجاب عنه علماء آخرون بأنه جمع للمرض

(4)

.

(فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي مَطَرٍ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ).

ننبه أن حديث ابن عباس حديث صحيح مخرج في "صحيح مسلم" وغيره، حتى لا يُظن أن الحديث فيه شيء، ولكن يَرُدُّ ذلك رواية مسلم نفسه:"في غير خوف، ولا مطر".

(1)

أخرجه مسلم (705 - 50).

(2)

"موطأ الإمام مالك، رواية أبي مصعب الزهراني"(1/ 145).

(3)

أخرجه مسلم (705 - 54).

(4)

يُنْظَر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 24)؛ حيث قال: "وجَوَّز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض، وقَوَّاه النووي، وفيه نظر؛ لأنه لو كان جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين لعارض المرض؛ لمَا صلى معه إلا من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه، وقد صرح بذلك ابنُ عباس في روايته".

ص: 2157

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِعُمُومِهِ مُطْلَقًا، وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ زِيَادَةً فِي حَدِيثِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ، وَلَا مَطَرٍ").

المؤلف -هداه اللَّه

(1)

- أحيانًا يشبك الأحاديث بعضها ببعض؛ بمعنى: أن يأتي بحديثين فيُدخلهما في بعض، فيُوهم أنهما حديث واحد؛ كما فعل هنا.

وليس كما قال، بل هما روايتان، نعم هما في "صحيح مسلم"، لكن روايتان: رواية: "في غير خوف، ولا سفر"، ورواية:"في غير خوف، ولا مطر"، فقد أخذ المطر من حديثٍ وضمَّه إلى "في غير خوف، ولا سفر"، فقال:"في غير خوف، ولا سفر، ولا مطر"، وهذا مما لا ينبغي؛ فلننتبه أنهما حديثان، وليسا حديثًا واحدًا.

* قوله: (وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ

(2)

).

ولكننا نرد عليهم بأن قوله: "في غير خوف، ولا سفر"، "في غير خوف، ولا مطر"، يدلُّ على أنَّ هناك عذرًا آخر، ويدل لهذا أن الراوي لما سأل ابن عباس لم فعل ذلك؛ قال:"أراد أن لا يُحرج أُمَّته".

* قوله: (وَأَمَّا الجَمْعُ فِي الحَضَرِ لِعُذْرِ المَطَرِ).

المقصود بالمطر: هو ما يبل الثياب، بحيث يلحق الماشي فيه مشقة؛

(1)

لعل دعاء الشارح للمؤلف بالهداية مع كونه ميتًا، من باب قوله تعالى:{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ، قال الواحدي في "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (ص: 1001): "سيهديهم في الدنيا إلى الطاعات، وفي الآخرة إلى الدرجات".

(2)

يُنْظَر: "المحلى" لابن حزم (2/ 205)؛ حيث قال: "ونحن نرى الجمع بين الظهر والعصر، ثم بين المغرب والعشاء أبدًا بلا ضرورة ولا عذر، ولا مخالفة للسنن؛ لكن بأن يؤخر الظهر كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى آخر وقتها؛ فيبتدأ في وقتها ويُسَلَّم منها وقد دخل وقت العصر؛ فيؤذن للعصر، ويقام وتصلى في وقتها؛ وتؤخر المغرب كذلك إلى آخر وقتها؛ فيُكبر لها في وقتها ويُسلم منها وقد دخل وقت العشاء، فيؤذن لها ويُقام وتصلى العشاء في وقتها".

ص: 2158

كأن ينزل على رأسك، وعلى بقية بدنك، ويبل ثيابك، أما المطر الخفيف كالنقط اليسيرة الرذاذ فليس عذرًا.

وكذلك الوحل الذي يلحقك فيه مشقة باختلاط الماء بالتراب، بحيث يصبح طينًا منتشرًا؛ فربما يؤثر على ثيابك وعلى بدنك، وقد يُؤدي إلى الانزلاق.

جاء في حديث آخر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمع أيضًا بين المغرب والعشاء، وأيضًا بين الظهر والعصر، لكن الحديث فيه كلام.

* قوله: (فَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا

(1)

، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ فِي النَّهَارِ، وَأَجَازَهُ فِي اللَّيْلِ

(2)

).

والأخير مذهب أحمد أيضًا

(3)

.

ولم يذكر رأي أبي حنيفة، لأنه ذكر في أول مسألة أنه لا يرى الجمع أصلًا؛ فيبقى السَّير مع الأئمة الثلاثة.

فالإمام مالك وأحمد يقولان: يجمع في المطر بين المغرب والعشاء،

(1)

يُنْظَر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 402)، حيث قال:" (ويجوز) ولو للمقيم (الجمع) بين ما مر، ومنه الجمعة بدل الظهر (بالمطر) وإن ضعف، بشرط أن يبل الثوب، ومنه شفان؛ وهو ريح باردة فيها مطر خفيف". والمذهب الجديد للشافعية: منع الجمع لعذر المطر جمع تأخير؛ يُنْظَر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 402)، حيث قال:" (والجديد منعه تأخيرًا)؛ لأن المطر قد ينقطع فيؤدي إلى إخراج الأولى عن وقتها بغير عذر".

(2)

يُنْظَر: "الشرح الكبير وحاشية الدسوقي"(1/ 370)، حيث قال:" (و) رخص ندبًا؛ لمزيد المشقة (في جمع العشاءين فقط) جمع تقديم، لا الظهرين؛ لعدم المشقة فيهما غالبًا".

(3)

يُنْظَر: "دقائق أولي النُّهى لشرح المنتهى" للبهوتي (1/ 298، 299)؛ حيث قال: " (ويختص بالعشاءين ثلج وبرد وجليد ووحل وريح شديدة باردة)، ظاهره: وإن لم تكن الليلة مظلمة، ويُعلم مما تقدم: كذلك لو كانت شديدة بليلة مظلمة، وإن لم تكن باردة (ومطر يبل الثياب وتوجد معه مشقة)؛ لأن السنة لم تَرد بالجمع لذلك إلا في المغرب والعشاء".

ص: 2159

ولا يُجمع بين الظهر والعصر، وأما الشافعي فيرى الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وهي رواية عند الحنابلة، أو قول في المذهب

(1)

.

وإنما فرق مالك وأحمد؛ لأن فقههما هو فقه الأثر؛ أي: أنك تجد كثرة الآثار المنقولة عن الإمامين؛ لأنهما توسَّعا في علم الحديث؛ أي: في رواية الحديث، وأحمد أكثر الأئمة في ذلك؛ كما هو معروف. ويُسمَّى فقههما: فقه الأثر، لا سيما فقه الإمام أحمد؛ لكثرة الآثار المروية فيه، سواء كانت أحاديث مرفوعة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو مُرسلة، أو آثارًا عن الصحابة.

وإنما فَرَّقا للآثار الواردة؛ فقد جاء عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: "من السُّنَّة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء"

(2)

، قالوا: ويريد بالسنة: سُنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وجمع أبان بن عثمان رحمه الله في ليلة مطيرة بين المغرب والعشاء

(4)

.

وعن عبد اللَّه بن عمر أنَّه كان "إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء

(1)

هما وجهان؛ يُنْظَر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 337)؛ حيث قال: "والوجه الآخر: يجوز الجمع؛ كالعشاءين. اختاره القاضي، وأبو الخطاب في "الهداية"، والشيخ تقي الدين وغيرهم".

(2)

أخرجه أبو بكر الأثرم في "سننه"، كما في "التحجيل في تخريج ما لم يخرج من الأحاديث والآثار في إرواء الغليل" (ص: 95).

(3)

يُنْظَر: "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى الفراء (3/ 993)، حيث قال:"هذا يقتضي أن قول التابعي: من السنة: أنها سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم"، والمشهور أن قول التابعي:"من السنة كذا" في حكم الموقوف لا المرفوع، بخلاف قول الصحابي ذلك. انظر:"شرح ألفية العراقي" لابن العيني الحنفي (ص: 101).

(4)

أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"(6269)، عن هشام بن عروة، قال:"رأيت أبان بن عثمان يجمع بين الصلاتين في الليلة المطيرة؛ المغرب والعشاء، فيصليهما معه عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو سلمة بن عبد الرحمن؛ لا ينكرونه".

ص: 2160

في المطر، جمع معهم"

(1)

. ونُقِل عن غير واحد من السلف

(2)

.

فهذه الآثار المنسوبة إلى الصحابة أنهم كانوا يفعلون ذلك في المغرب والعشاء هي مُتمسك مالك وأحمد في الرواية الأولى.

والذين أجازوا ذلك استدلوا بحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام: "جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء"

(3)

.

لكنَّ الحديث فيه مقال

(4)

؛ ولذلك لم يأخذ به الآخرون.

ولا أعني: حديث عبد اللَّه بن عباس المتفق عليه؛ لأن حديث عبد اللَّه بن عباس جاء بروايات أن رسول صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، "في غير خوف، ولا سفر"، وفي رواية:"في غير خوف، ولا مطر"، فذِكرُ المطر مَنَعَهم من الاستدلال به.

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 145)، وصححه الألباني في "الإرواء"(3/ 41).

(2)

أخرج البيهقي في "الكبرى"(5557)، عن هشام بن عروة:"أن أباه عروة وسعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي - كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين، ولا ينكرون ذلك"، وأخرج أيضًا (5558)، عن موسى بن عقبة:"أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وأن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يُصلون معهم، ولا ينكرون ذلك"، وصحح إسنادَهما الألبانيُّ في "الإرواء"(3/ 40).

(3)

أخرج الطبراني في "المعجم الكبير"(10525)، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه:"جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الأولى والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل له، فقال: "صنعتُه، لئلا تكون أُمَّتي في حَرَج". ووجه استدلالهم بهذا الحديث: أنَّ ما ذُكر فيه من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع؛ وإرادة نفي الحرج يَقدح في حمله على الجمع الصُّوري؛ لأن القصد إليه لا يَخلو عن حرج. انظر: "فتح الباري"(2/ 24).

(4)

يُنْظَر: "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" للهيثمي (2/ 161)؛ حيث قال: "رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وفيه عبد اللَّه بن عبد القدوس ضَعَّفَه ابنُ معين والنسائي، ووَثَّقه ابن حبان، وقال البخاري: "صدوق إلا أنه يَروي عن أقوام ضعفاء". قلت: وقد روى هذا عن الأعمش، وهو ثقة".

ص: 2161

تبقى مسألة، وهي: إذا كان مطر يَبل الثياب، وجاز الجمع بين الصلاتين تخفيفًا وتيسيرًا، فهل الحُكم سار على الكل لأن الحاجة عامة، أم تخص من تلحقه المشقة فقط؟

اختلف العلماء؛ فالشافعية

(1)

، والحنابلة في رواية

(2)

قالوا: يجوز للإنسان أن يجمع، حتى وإن صَلَّى في بيته، أو كان مقيمًا في المسجد، أو كان بيته على المسجد مباشرة بحيث لا تمسُّه قطرة واحدة؛ لأن الحكم إذا قُرِّر شمل مَن تلحقه المشقة وغيره؛ كالمسافر، ومثله إباحة عقد السلم، وإباحة كلب الصيد، ونحو ذلك.

ومنهم مَن قال

(3)

: لا تعم، بل تُقصر المشقة على صاحبها، ولا يُتجاوز بها إلى غيره؛ كالرُّخصة في ترك الجمعة والجماعة تختص صاحب العذر، ولا يجوز لمن لا عذر له أن يترك الجمعة ولا الجماعة.

(1)

للشافعية في هذا قولان؛ يُنْظَر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 534)، حيث قال:" (والأظهر)، وفي "الروضة": "الأصح" (تخصيص الرُّخصة بالمصلي جماعة) بمصلي (بمسجد) أو غيره، (بعيد) عن باب داره عرفًا بحيث (يتأذى بالمطر في طريقه) إليه؛ نظرًا إلى المشقة وعدمها، بخلاف مَن يصلي ببيته منفردًا أو جماعة، أو يمشي إلى المُصَلَّى في كن، أو كان المصلى قريبًا فلا يجمع؛ لانتفاء التأذي. . . والثاني: يُترخص مطلقًا".

(2)

يُنْظَر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 339)، حيث قال:" (وهل يجوز لمن يصلي في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط)؟ (على وجهين). وكذا لو ناله شيء يسير. . . أحدهما: يجوز. وهو المذهب، قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد. . .، والوجه الثاني: لا يجوز".

(3)

وهم المالكية؛ يُنْظَر: "الشرح الكبير"(1/ 372)، حيث قال:" (ولا) تجمع (المرأة والضعيف ببيتهما) المجاور للمسجد؛ إذ لا ضرر عليهما في عدم الجمع، (ولا) يجمع (منفرد بمسجد) متعلق بـ "يجمع" المقدر، أي: بل ينصرف ليصلي العشاء ببيته إلا أن يكون راتبًا فيجمع كما تقدم، (كجماعة لا حرج)، أي: لا مشقة (عليهم) في إيقاع كل صلاة في وقتها؛ كأهل الزوايا والرُّبط، وكالمنقطعين بمدرسة أو تربة إلا أن يجمعوا تبعًا لمن يأتي للصلاة معهم من إمام أو غيره".

ص: 2162

* قوله: (وَأَجَازَهُ أَيْضًا فِي الطِّينِ دُونَ المَطَرِ فِي اللَّيْلِ).

أي: أجازه مالك في الطين، والمراد به هنا: الوَحَل أو الوَحْل بإسكان الحاء أو فتحها، وصورته: أن ينزل الماء فيختلط بالطين فيتكون الوحل؛ فالمالكية

(1)

والحنابلة

(2)

قالوا: يُجمع بين الصلاتين في الوحل إذا ترتب على ذلك مشقة، فالعلة الموجودة في المطر -وهي لحوق المشقة- موجودة أيضًا في الوحل.

ووافقهم على هذا بعض الشافعية، واعتبروه وجهًا قويًّا في المذهب، وإن كان المعروف من مذهب الشافعية: أنه لا يجمع بين الصلاتين لأجل الوحل -الذي سَمَّاه المؤلف الطين-، ولا لأجل المرض

(3)

.

* قوله: (وَقَدْ عَذَلَ

(4)

الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي تَفْرِيقِهِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ، وَصَلَاةِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ رَوَى الحَدِيثَ، وَتَأَوَّلَهُ:(أَعْنِي: خَصَّصَ عُمُومَهُ مِنْ جِهَةِ القِيَاسِ)، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "جَمَعَ

(1)

يُنْظَر: "الشرح الكبير"(1/ 370)، حيث قال:" (و) رخص ندبًا؛ لمزيد المشقة (في جمع العشاءين فقط). . . (لمطر) واقع أو متوقع، (أو طين مع ظلمة) للشهر، لا ظلمة غيم لـ (طين) فقط على المشهور، (أو ظلمة) فقط اتفاقًا".

(2)

يُنْظَر: "شرح منتهى الإردات" للبهوتي (1/ 298، 299)، حيث قال:"ويجمع في ثمان حالات. . .، (ويختص بالعشاءين ثلج وبرد وجليد ووحل). . .، والوحل أعظم مشقة من البرد، فيكون أولى. ويدل عليه حديث ابن عباس: "جمع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف ولا مطر"، ولا وجه يحمل عليه مع عدم المرض إلا الوحل. قال القاضي: وهو أولى مِن حمله على غير عذر".

(3)

يُنْظَر: "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" للرملي (2/ 282)، حيث قال:"لا جمع بغير السَّفر والمطر؛ كمرض، وريح، وظلمة، وخوف، ووحل، وهو الأصح المشهور؛ لأنه لم ينقل، ولخبر المواقيت فلا يُخالف إلا بصريح. . .، وحكى في "المجموع" عن جماعة من أصحابنا جوازه بالمذكورات، وقال: إنه قوي جدًّا في المرض والوحل".

(4)

عذل: العذل؛ اللوم. انظر: "العين"(2/ 99)، "لسان العرب"(11/ 437).

ص: 2163

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَالمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ":"أَرَى ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ"

(1)

).

"عذل"، أي: أخذ على مالك التفريق؛ إذ إنه قد روى حديث ابن عباس: أنه قال: "صَلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، في غير خوف ولا سفر" وقال: "أرى ذلك كان في مطر"، ومع هذا عدل عنه، ولذلك عذله الشافعي؛ إذ كأنه أخذ بأحد شطري الحديث وترك الشطر الآخر، وسيناقشه المؤلف.

ولكن للمالكية والحنابلة وجهة من النظر؛ وهي أن الآثار جاءت في

(1)

يُنْظَر: "الأم" للشافعي (7/ 216)، حيث قال -ردًّا على قول مالك المذكور:- "فزعمتم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ولم يكن له وجه عندكم إلا أن ذلك في مطر، ثم زعمتم أنتم أنكم تجمعون بين المغرب والعشاء بالمدينة، وكل بلد جامع، ولا تجمعون بين الظهر والعصر في المطر. . .، فذهبتم، ومن ذهب مذهبكم المذهب الذي وصفت من الاحتجاج في الجمع في المطر، ورأى أن وجه الحديث هو الجمع في المطر، ثم خالفتموه في الجمع في الظهر والعصر في المطر، أرأيتم إن قال لكم قائل: بل نجمع بين الظهر والعصر في المطر، ولا نَجمع بين المغرب والعشاء في المطر هل الحُجَّة عليه؟ إلا أن الحديث إذا كانت فيه الحجة لم يجز أن يُؤخذ ببعضه دون بعض؟ فكذلك هي على مَن قال: يجمع بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر، وقلما نجد لكم قولًا يصح، واللَّه المستعان، أرأيتم إذا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء؛ فاحتججتم على مَن خالفكم بهذا الحديث في الجمع بين المغرب والعشاء، هل تعدون أن يكون لكم بهذا حجة؟ فإن كانت لكم به حجة، فعليكم فيه حجة في ترككم الجمع بين الظهر والعصر، وإن لم تكن لكم بهذا حجة على مَن خالفكم، فلا تجمعوا بين ظهر ولا عصر، ولا مغرب ولا عشاء لا يجوز غير هذا، وأنتم خارجون من الحديث، ومن معاني مذاهب أهل العلم كلها، واللَّه المستعان، أو رأيتم إذ رويتم الجمع في السفر لو قال قائل كما قلتم: أجمع بين المغرب والعشاء؛ لأن أكثر الأحاديث جاءت فيه، ولا أجمع بين الظهر والعصر؛ لأنهما في النهار والليل أهول من النهار، هل الحجة عليه؟ إلا أن الجمع رخصة فيها، فلا يجوز أن يمنع أحد من بعضها دون بعض، فكذلك هي عليكم، واللَّه أعلم".

ص: 2164

المغرب والعشاء

(1)

.

وفيما ذكره من أن مالكًا رحمه الله خصصه من جهة القياس

(2)

، أو أنه أخذ بأحد شطري الحديث وترك شطرًا - نَظَرٌ؛ فإن مالكًا إنما راعى العمل، كما سيشير المؤلف؛ فإن مالكًا هو إمام دار الهجرة، وقد أدرك الفقهاء السبعة، وهم متفقون على هذا، مع ما ذكرنا من الآثار، وهي معتمد الحنابلة في مذهبهم حينما فَرَّقوا بين صلاتي الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فأجازوا الجمع في الأُخريين في المشهور دون الأُولَيَيْن، وفي القول الآخر وافقوا الشافعية

(3)

.

(قَالَ: فَلَمْ يَأْخُذْ بِعُمُومِ الحَدِيثِ، وَلَا بِتَأْوِيلِهِ: (أَعْنِي: تَخْصِيصَهُ)، بَلْ رَدَّ بَعْضَهُ، وَتَأَوَّلَ بَعْضَهُ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ).

وهذا لا يجوز بالإجماع لو لم يكن للمذهبين مُستند، فأما ولهم مُستند فيصح التفريق.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِيهِ: "جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ"، وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ: "وَالمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ"، وَتَأَوَّلَهُ).

ولننتبه أن العلماء دائمًا يُدققون ويبحثون عن علل الأحكام، فإذا كان الغرض من الجمع بين الصلاتين: المطر؛ فهذه العلة -وإن تحققت في الاثنين- فهي تختلف، ففرق بين سائر يسير في وضح النهار يرى طريقه ويدركه غاية الإدراك؛ فيذهب يمينًا وشمالًا، ويتجنب المواقع، وبين إنسان

(1)

يُنْظَر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 299)، حيث قال:"لأن السُّنَّة لم تَرِد بالجمع لذلك إلا في المغرب والعشاء". رواه الأثرم، وروى البخاري بإسناده:"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة".

(2)

يُنْظَر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 30)، حيث قال:"ولم يقل بذلك مالك في صلاة النهار، وخَصَّ الحديثَ بضربٍ من القياس".

(3)

سبق تخريج هذه المذاهب قبل قليل.

ص: 2165

يسير في ظلمة أو في شبه ظلمة؛ فإنه -وإن وجدت إضاءة- فالنهار دائمًا يختلف عن الليل في قوة الإضاءة

(1)

.

تنبيه: هذه المسالة ناقشها المؤلف مفصلة عقليًّا ومنطقيًّا، مع أنه لا يفعل هذا أحيانًا في مسائل كبرى في كتابه.

* قَالَ: ((وَأَحْسَبُ أَنَّ مَالِكًا رحمه الله إِنَّمَا رَدَّ بَعْضَ هَذَا الحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ عَارَضَهُ العَمَلُ).

نقول: بل لم يَرُدَّ الحديث، ولكنه رأى أن الجمع بين الظهر والعصر كالمخصص بالعمل.

* قوله: (فَأَخَذَ مِنْهُ بِالبَعْضِ الَّذِي لَمْ يُعَارِضْهُ العَمَلُ، وَهُوَ الجَمْعُ فِي الحَضَرِ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ:"كَانَ إِذَا جَمَعَ الأُمَرَاءُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ، جَمَعَ مَعَهُمْ"

(2)

، لَكِنَّ النَّظَرَ فِي هَذَا الأَصْلِ الَّذِي هُوَ العَمَلُ كَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مُتَقَدِّمِي شُيُوخِ المَالِكِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ لَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ إِجْمَاعَ البَعْضِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ).

• مسألة أصولية: عمل أهل المدينة، هل هو حُجَّة أم لا؟

فالمالكية يذهبون إلى أنه حُجَّة، وخالفهم جمهور الفقهاء والأصوليين، وهو الأقوى

(3)

؛ فقهاء المدينة جزء من الفقهاء؛ فلا يمكن

(1)

يُنْظَر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 370)، حيث قال:" (و) رخص ندبًا لمزيد المشقة (في جمع العشاءين فقط) جمع تقديم لا الظهرين؛ لعدم المشقة فيهما غالبًا".

(2)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 145).

(3)

يُنْظَر: "البحر المحيط في أصول الفقه" للزركشي (6/ 440)، حيث قال:"المسألة الرابعة: إجماع أهل المدينة على الانفراد لا يكون حجة، وقال مالك: إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم. قال الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث": قال بعض =

ص: 2166

قصر الإجماع عليهم، بل إجماعهم جزء من إجماع العلماء لا كله؛ فالإجماع لا يقتصر على طائفة أو على بلد.

* قوله: (وَكَانَ مُتَأَخِّرُوهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ نَقْلِ التَّوَاتُرِ، وَيَحْتَجُّونَ فِي ذَلِكَ بِالصَّاعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا نَقَلَهُ أَهْلُ المَدِينَةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَالعَمَلُ إِنَّمَا هُوَ فِعْلٌ، وَالفِعْلُ لَا يُفِيدُ التَّوَاتُرَ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِالقَوْلِ، فَإِنَّ التَّوَاتُرَ طَرِيقُهُ الخَبَرُ لَا العَمَلُ، وَبِأَنَّ جَعْلَ الأَفْعَالِ تُفِيدُ التَّوَاتُرَ عَسِيرٌ، بَلْ لَعَلَّهُ مَمْنُوعٌ، وَالأَشْبَهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عُمُومِ البَلْوَى الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ).

يعني: أن الصاع الذي اعتبره الفقهاء إنما هو ما تناقله أهل المدينة من صاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيريدون أن يجعلوا إجماع أهل المدينة أو عمل أهل المدينة حُجَّة، كالصاع المتفق عليه

(1)

.

واعتراض المؤلف على هذا بأن أقصاه أن يكون من باب عموم البلوى الذي يذهب إليه أبو حنيفة وغيره؛ كطين الشوارع، وما لا نفس له سائلة، وما يحصل عند دوس الدَّواب في حرث القمح، والجروح اليسيرة والدمامل وغيرها، فكله معفو عنه؛ لأن البلوى تعم به.

(وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْثَالُ هَذِهِ السُّنَنِ -مَعَ تَكَرُّرِهَا وَتَكَرُّرِ وُقُوعِها- أَسْبَابَهَا غَيْر مَنْسُوخَةٍ، وَيَذْهَبُ العَمَلُ بِهَا عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ الَّذِينَ أَتْقَنوا العَمَلَ بِالسُّنَنِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ).

لكن يمكن أن يُجاب عنه بأن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انتشروا في

= أصحابنا: إنه حُجة، وما سمعت أحدًا ذكر قوله إلا عابه، وإن ذلك عندي معيب. انتهى".

(1)

يُنْظَر: "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى الفراء (4/ 1151)، حيث قال:"ولا يجوز أن يحمل ذلك على عمل أهل المدينة إذا ظهر؛ مثل نقلهم للصاع؛ لأن هذا إن كان عن خبر مستفيض فلا يَخفى، وإن كان عن اجتهاد فاجتهادهم لا يلزم غيرهم".

ص: 2167

الآفاق، فلم يبقوا في المدينة؛ فمنهم من بقي بمكة، ومنهم من ذهب إلى الطائف، ومنهم من ذهب إلى البصرة، ومنهم من أقام بالكوفة، ومنهم من ذهب إلى مصر، ومنهم من كان بالشام، وكل منهم يحمل علمًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

؛ ولذلك نجد أن الشافعي بعد أن طوَّف بين العراق ومكة واليمن ألقى عصا التَّسْيارِ

(2)

في مصر؛ فغيَّر كثيرًا من الأقوال التي كان قد أخذ بها؛ لأنه وقف على أدلة ووجهات نظر؛ فرجع عن كثير من أقواله القديمة، ودوَّن -أيضًا- مذهبه الجديد المعروف.

* قَالَ: (وَهُوَ أَقْوَى مِنْ عُمُومِ البَلْوَى الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لأَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ أَحْرَى أَلَّا يَذْهَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْتَبِرُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي طَرِيقِ النَّقْلِ).

يقصد بقوله: (في طريق النقل)؛ أي: الواسطة في نقل الأخبار.

(وَبِالجُمْلَةِ: العَمَلُ لَا يُشَكُّ أَنَّهُ قَرِينَةٌ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالشَّيْءِ المَنْقُولِ إِنْ وَافَقَتْهُ أَفَادَتْ بِهِ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ، أَفَادَتْ بِهِ ضَعْفَ الظَّنِّ، فَأَمَّا هَلْ تَبْلُغُ هَذِهِ القَرِينَةُ مَبْلَغًا تُرَدُّ بِهَا أَخْبَارُ الآحَادِ الثَّابِتَةُ، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَعَسَى أَنَّهَا تَبْلُغُ فِي بَعْضٍ، وَلَا تَبْلُغُ فِي بَعْضٍ؛ لِتَفَاضُلِ الأَشْيَاءِ فِي شِدَّةِ عُمُومِ البَلْوَى بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ السُّنَّةُ الحَاجَةُ إِلَيْهَا أَمَسُّ وَهِيَ كَثِيرَةُ التَّكْرَارِ عَلَى المُكَلَّفِينَ - كَانَ نَقْلُهَا مِنْ طَرِيقِ الآحَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَشِرَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا فِيهِ ضَعْفٌ، وَذَلِكَ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ:

(1)

يُنْظَر: "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى الفراء (4/ 1151)، حيث قال:"ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقديم اجتهاد أهل المدينة على اجتهاد غيرهم؛ لأن ذلك إن كان يجب لمشاهدتهم لأقاويل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونزول آي القرآن، فإن ذلك حصل من الصحابة الذين انتقلوا إلى البصرة والكوفة، فلا معنى للتفريق".

(2)

التسيار: السير، وأصله من العصا التي يُتوكأ عليها. انظر:"المقصور والممدود" لأبي علي القالي (ص: 39)، و"مختار الصحاح" (ص: 159).

ص: 2168

إِمَّا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَإِمَّا أَنَّ النَّقْلَ فِيهِ اخْتِلَالٌ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ المُتَكَلِّمُونَ؛ كَأَبِي المَعَالِي وَغَيْرِهِ).

يقصد بـ "أبي المعالي": الجويني، وهو من علماء الشافعية وأئمتهم، وله كتاب معروف في الأصول.

* قوله: (وَأَمَّا الجَمْعُ فِي الحَضَرِ لِلْمَرِيضِ، فَإِنَّ مَالِكًا إبَاحَهُ لَهُ إِذَا خَافَ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ بِهِ بَطَنٌ

(1)

).

هذه مسألة أُخرى: حكم الجمع في الحضر للمريض.

فالمالكية

(2)

والحنابلة

(3)

وكثيرٌ من علماء الشافعية يرون جوازه، ويعتبرونه وجهًا قويًّا في مذهبهم

(4)

، خلافًا للشافعية في مشهور مذهبهم

(5)

.

استدل الأولون بحديث عبد اللَّه بن عباس، قال:"صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، في غير خوفٍ، ولا سفرٍ"، وفي رواية:"في غير خوف، ولا مطر".

(1)

بطن بطنًا: أصابه مرض البطن. انظر: "المعجم الوجيز"(ص 55).

(2)

يُنْظَر: "الشرح الصغير وحاشية الصاوي"(1/ 490)، حيث قال:"وأشار للجمع بسبب الإغماء ونحوه بقوله: (ومن خاف إغماء أو) حمى (نافضًا أو ميدًا) بفتح الميم، أي: دوخة بفتح الدال المهملة، (عند دخول وقت) الصلاة (الثانية) العصر أو العشاء (قَدَّمها)، أي: الثانية عند الأولى جوازًا على الراجح".

(3)

يُنْظَر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 298)، حيث قال:"ويجمع في ثمان حالات. . . (و) الرابعة: (المستحاضة ونحوها)، كذي سَلَس وجرح لا يرقأ دمه. . .، ويقاس عليها صاحب السَّلس ونحوه".

(4)

يُنْظَر: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 282)، حيث قال:"اختار النووي في "الروضة" جوازه في المرض، وحكى في "المجموع" عن جماعة من أصحابنا جوازه بالمذكورات، وقال: إنه قويٌّ جدًّا في المرض والوحل".

(5)

يُنْظَر: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 282)، حيث قال:"لا جمع بغير السفر والمطر؛ كمرض وريح وظلمة وخوف ووحل، وهو الأصح المشهور؛ لأنه لم ينقل، ولخبر المواقيت فلا يخالف إلا بصريح".

ص: 2169

فلما ذكر: (الخوف، والسفر، والمطر) تبين أنه إمَّا لأجل المرض أو غيره، ولا يكون عذر أقوى من المرض؛ فيجوز الجمع لأجله

(1)

.

وأجاب الشافعية: بأنه قد مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرارًا، ومع كثرة أمراضه لم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام جمع لأجل المرض، فدلَّ ذلك على أنَّه لا يُجمع لأجله

(2)

.

فعارضهم الأَوَّلُون: بأن العلة في المطر متحققة في المرض وأكثر

(3)

.

فأجاب الشافعية: بأن المريض إذا شَقَّ عليه الأمر انتقل إلى حالة أُخرى، وهي القعود؛ للحديث:"صَلِّ قائمًا، فإن لم تَستطع فقاعدًا، فإن لم تَستطع فعلى جَنْبٍ"

(4)

؛ فليس له الجمع.

وقوَّى الأولون ما ذهبوا إليه

(5)

: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رَخَّص لحَمَنة بنت جَحْش في الجمع؛ فقال: "وإن قَويت على أن تُؤخري الظهر وتُعجلي العصر؛ فتغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتُعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي. . . "

(6)

.

قوله: "بطن": يعني: يَسيل بطنه، وهو ما يُعرف الآن بالإسهال

(1)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 384)، حيث قال:"ووجه الدلالة منه: أن هذا الجمع إمَّا أن يكون بالمرض، وإما بغيره مما في معناه أو دونه؛ ولأن حاجة المريض والخائف آكد من الممطور".

(2)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 384)، حيث قال:"واستدل الأصحاب للمشهور في المذهب بأشياء. . . (ومنها) أن النبي صلى الله عليه وسلم مرض أمراضًا كثيرة، ولم ينقل جمعه بالمرض صريحًا".

(3)

يُنْظَر: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 298)، حيث قال:"لا عذر بعد ذلك إلا المرض".

(4)

أخرجه البخاري (1117).

(5)

يُنْظَر: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 298)، حيث قال:"لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة حين استفتته في الاستحاضة، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين. . . ".

(6)

أخرجه أبو داود (287)، وحَسَّن إسنادَه الألباني في "الإرواء"(1/ 202).

ص: 2170

ونحوه إذا كثر ذلك، فالمشقة أنواع؛ فهناك مشقة يترتب على ترك الأخذ بالرخصة فيها الهلاك؛ فلو أن إنسانًا لحقته مشقة وجاع ولم يجد ما يأكله إلا ميتة؛ فإن ترك هذه الميتة مات؛ فهذا يجب عليه أن يأكل الميتة، ومثله لو أصابته غصَّة ولم يجد ما يدفعها به إلا مُحَرَّم؛ فإنه يفعل ذلك، ولا يُلقي بنفسه إلى التهلكة. فهذه مشقة معروفة معتبرة.

ودونها مشقة لا تصل بالإنسان إلى ذهاب نفس أو طرف، ونحوه لكن يتضرر بها، وهذه هي المقصودة هنا.

أما المشقة اليسيرة؛ كصداع يسير، أو ألم ضِرس، أو ألم في طرف من الإنسان، هذا لا أثر له في الجمع، وإنما المقصود بالمشقة التي يتأذى بها الإنسان، وإن لم تصل إلى درجة الهلاك.

* قال: (وَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ

(1)

، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعَدِّي عِلَّةِ الجَمْعِ فِي السَّفَرِ، أَعْنِي المَشَقَّةَ).

علة الجمع في السفر: هي المشقة، وقد اختلفوا هل هي متعدية أو قاصرة؟

فالعلة المتعدية؛ كإلحاق الأرز بالقمح؛ لأن العلة موجودة في الأرز، سواء قلنا: العلة هي الكيل، أو الوزن والطعم، فهي موجودة في الفرع والأصل

(2)

.

(1)

يُنْظَر: "المهذب" للشيرازي (1/ 198)، حيث قال:"ولا يجوز الجمع إلا في. . .، فأما الوحل والريح والمرض فلا يجوز الجمع لأجلها؛ فإنها قد كانت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل أنه جمع لأجلها".

(2)

يُنْظَر: "الحدود في الأصول" لأبي الوليد الباجي (ص: 122، 123)، حيث قال:"العلة المتعدية: هي التي تَعَدَّت الأصل إلى فرع. ومعنى ذلك: أن كل حكم ثابت في معنى من المعاني لعلة لا تختص به، بل توجد في غيره، فإن تلك العلة متعدية؛ لأنها قد تعدت الأصل الذي تثبت فيه إلى فرع أو فروع. مثال ذلك: التحريم في بيع البر متفاضلًا ثبت لكونه مقتاتًا جنسًا عند المالكيين، أو مكيلًا جنسًا عند الحنفيين، أو مطعومًا جنسًا عند الشافعيين. وهذه كلها معان متعدية إلى الأرز والذرة، وغير ذلك مما يطول تتبعه، فكانت علته متعدية".

ص: 2171

وأما العِلة القاصرة فلا يتجاوز بها محلها، ولا تُنقل إلى حكم آخر

(1)

.

فعلى رأي المؤلف، مَن يرى أنها متعدية يقول: لا فرق بين هذا وهذا، فإذا جاز الجمع في المطر جاز في المرض؛ فالمشقة متحققة في المريض أكثر، ومن يقول: العلة قاصرة، فيُقتصر بها على موضعها لا يتجاوز بها.

والحقيقة: أن سبب الخلاف؛ ليس هو الخلاف في العلة -كما ذكر المؤلف- لكن في فَهْم حديث ابن عباس: "في غير خوف، ولا سفر"، "في غير خوف، ولا مطر"، فبقي أن تكون العلة؛ إما المرض، أو مساوية له، أو دونه، فإن كانت مساوية للمرض وليس المرض، فالمرض مثلها، وإن كانت دون ذلك؛ فالمرض من باب أولى.

قالوا: وكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُنقل عنه أنه جمع لأجل المرض، هذا لا يَلزم منه عدم الجواز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تَحَمَّل أشياء كثيرة.

* قَالَ: (فَمَنْ طَرَّدَ العِلَّةَ، رَأَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الأَوْلَى وَالأَحْرَى).

(طَرَّد

(2)

العلة)؛ أي: جعلها مُطردة

(3)

، بمعنى: نقلها إلى حكم آخر، لا أنه ألغاها.

(1)

يُنْظَر: "الحدود في الأصول" لأبي الوليد الباجي (ص: 123، 124)، حيث قال:"العلة الواقفة: هي التي لم تَتعد الأصل إلى فرع. والعلة الواقفة إذا ثبتت في معنى من المعاني كانت مقصورة عليه، وغير موجودة في سواه؛ فوصفت لذلك بأنها موقوفة عليه ممنوعة من أن تتعدى إلى سواه. وذلك مثل قولنا في أن بيع الذهب بالذهب متفاضلًا والورق بالورق متفاضلًا حرام، وعلة ذلك: أنها أصول الأثمان وقيم المتلفات، وهذه علة معدومة فيما سواهما، فلذلك وصفت بأنها واقفة".

(2)

يُنْظَر: "الحدود في الأصول" لأبي الوليد الباجي (ص: 123)، حيث قال:"والطرد: وجود الحكم لوجود العلة. ومعنى الطرد: إجراء الحكم على ما رام المستدل إجراءه عليه من إثبات أو نفي. ومثال ذلك: قولنا في النبيذ المسكر: أنه حرام؛ لأنه شراب فيه شدَّة مُطربة، فإنه حرام".

(3)

معنى كون العلة مطردة: أنه لا يتخلف الحكم عند وجود العلة، بل كلما وُجدت العلة وُجد الحكم.

ص: 2172

(وَذَلِكَ أَنَّ المَشَقَّةَ عَلَى المَرِيضِ فِي إِفْرَادِ الصَّلَوَاتِ أَشَدُّ مِنْهَا عَلَى المُسَافِرِ، وَلَمْ يَعُدَّ هَذ العِلَّةَ، وَجَعَلَهَا كَمَا يَقُولُونَ: قَاصِرَةً -أَيْ: خَاصَّةً بِذَلِكَ الحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ- لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ).

إذا كنتم تَعذرون المريض في ترك الجُمع والجماعات، فلماذا لا تُجيزون له الجمع؟

أجاب الشافعية بالفرق؛ فالجماعة لها بدلٌ، وهو الصلاة منفردًا، والجمعة بدلها الظهر، وأما الصلاة في وقتها فلا بدلَ لها؛ فالجَمْع إخراجٌ لها عن الوقت

(1)

؛ فهذا قياس مع الفارق.

(البَابُ الخَامِسُ مِنَ الجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ: القَوْلُ فِي صَلَاةِ الخَوْفِ)

(2)

هذا باب مُهم، ويعتني به الفقهاء رحمهم اللَّه تعالى، ويذكرونه في أبواب الصلوات.

وقد جاءت صلاة الخوف عن الرسول صلى الله عليه وسلم على عدة صفات أوصلها

(1)

يُنْظَر: "الأم" للشافعي (1/ 95)، حيث قال:"والدلالة على المواقيت عامة لا رخصة في ترك شيء منها ولا الجمع، إلا حيث رَخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في سفر".

(2)

صلاة الخوف: إيقاع الصلاة على الكيفية المخصوصة التي تُفعل حالة الخوف. والأصل فيها: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية [النساء: 102]، والأحاديث الآتية مع حديث:"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُموني أُصَلِّي"، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على فِعلها، وصَلّاها عليٌّ وأبو موسى وحذيفة. انظر:"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 391)، و"مغني المحتاج"(1/ 574)، و"شرح منتهى الإرادات"(1/ 301).

ص: 2173

العلماءُ إلى سِتَّة عشر

(1)

.

وقد اقتصر المؤلف على المشهور منها، وهي سبع، وهي لا تحتمل تبديلًا ولا تغييرًا، وكلها ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولا يختلف العلماء في جواز صلاتها على أيِّ صفة كانت، وإنما خلافهم في أيِّ الصفات أفضل

(2)

؟

فتارةً يُصلي الإمام بطائفة ركعة ثم تنصرف، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها ثم تنصرف، وتارةً يصلي بهم الإمام ركعة ثم يظل قائمًا؛ فيتمون لأنفسهم، ثم يذهبون فتأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام؛ تدركه وهو قائم، ثم تُصلي معه ركعة، ثم يجلس للتشهد، ثم بعد ذلك يقومون فيُتمون لأنفسهم، ثم يُسَلِّم بهم

(3)

.

والمؤلف لم يُقدم لها، وهي تحتاج إلى مقدمة:

‌أولًا: حكم صلاة الخوف في الحضر:

فصلاة الخوف لا تخلو إمَّا أن تكون في سَفَر أو حضر؛ فجماهير

(1)

يُنْظَر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 574)، حيث قال:"جاءت في الأخبار على ستة عشر نوعًا؛ في "صحيح مسلم" بعضها، ومعظمها في "سنن أبي داود"، وفي ابن حبان منها تسعة، في كل مَرَّة كان صلى الله عليه وسلم يفعل ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة".

(2)

يُنْظَر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم المصري (2/ 182)، حيث قال:"وذكر في "المجتبى" أنَّ الكل جائز، وإنَّما الخلاف في الأَوْلَى".

(3)

أخرج البخاري (942)، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال:"غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَل نجْد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تُصَلِّ، فجاؤوا، فركع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين، ثم سَلَّم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين".

ص: 2174

العلماء يَرون أن صلاة الخوف تُصَلَّى سفرًا وحضرًا

(1)

، خلافًا لمالك فقال: لا تُصلى في الحضر

(2)

.

‌ثانيًا: نوع القتال المُبيح لصلاة الخوف:

أطلق المؤلف صلاة الخوف، ولم يُقَيِّدها، والصواب: تقييدها بالقتال المباح.

فأحيانًا يكون القتال واجبًا؛ كقتال الكفار، وقُطَّاع الطريق، والبُغاة الذين يَخرجون على الإمام، فإذا قاتلهم الإمام فإنه يُقاتَل معه، فهنا يُشرع أن تُصَلَّى صلاة الخوف.

أما لو كان القتال على خلاف ذلك، وهو القتال المحرم؛ كقتال أهل العدل، أو مُقاتلة أهل الأموال لأخذ أموالهم، فهنا لا تُصلى فيه صلاة الخوف.

فتحصل من ذلك اشتراط: أن يكون القتال مباحًا؛ لِتَحِلَّ صلاةُ الخوف

(3)

.

(1)

يُنظر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"(2/ 188)، حيث قال:"لا تُشرع صلاة الخوف للعاصي في سفره". فظاهر المذهب: أن صلاة الخوف تُصَلَّى سفرًا وحضرًا، ولم أَرَ نصًّا.

ويُنظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج" للشربيني، حيث قال:"وتجوز في الحضر؛ كالسفر، خلافًا لمالك".

ويُنظر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 301)، حيث قال:" (تصحُّ صلاة الخوف بقتال مباح). . . (ولو حضرًا)؛ لأن المبيح الخوف لا السفر".

(2)

يُنظر: "المُدونة"(1/ 240)، حيث قال:"وقال مالكٌ: لا يصلي صلاة الخوف ركعتين إلا من كان في سفر، ولا يُصليها مَن هو في حَضَر".

(3)

يُنْظَر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"(2/ 188)، حيث قال:"لا تُشرع صلاة الخوف للعاصي في سفره، كما في "الظهيرية"، وعليه فلا تصح من البغاة".

ويُنْظَر في مذهب المالكية: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 391)، حيث قال:" (رخص) استنانًا على الراجح (لقتال جائز)، أي: مأذون فيه واجبًا كان كقتال المشركين والمحاربين والبغاة القاصدين الدم أو هتك الحريم، أو مباحًا كقتال مريد المال من المسلمين، لا حرام". =

ص: 2175

وصلاة الخوف في السفر ركعتان؛ لأن السفر تُقصر فيه الصلاة.

وتُصلى في الحضر أربعًا، وأما صلاة المغرب فقد سبق أنها لا تقصر لا سفرًا ولا حضرًا، وكذلك صلاة الفجر؛ فالفجر تُصلى في السفر ركعتين؛ سواء في ذلك حال الخوف أو السفر، أو الحضر، وصلاة المغرب تُصلى ثلاثًا في الحضر والسفر والخوف وغيره.

لكن نُقل عن عبد اللَّه بن عباس -ووافقه بعض العلماء- أن صلاة الخوف ركعة؛ لأنه نُقل عنه أنه قال: "فرض اللَّه الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وقد قيل: إن ركعة تجزئ في الخوف"

(1)

.

وقد أجاب العلماء عن ذلك بأن المراد بقوله: "وقد قيل: إن ركعة تجزئ في الخوف"؛ أى: ركعة مع الإمام ثم يُتِمُّون لأنفسهم

(2)

؛ فمن الصفات التي تُصلى فيها صلاة الخوف: أنهم يصلون مع الإمام ركعة واحدة، ثم يقومون فيتمون لأنفسهم، فكأنهم انفصلوا عن الإمام، بل من العلماء من يقول: انفصلوا عن الإمام؛ لأنهم يُتمون لأنفسهم، ثم يسلمون وينصرفون، فتأتي الطائفة الأخرى فتكبر وتدخل مع الإمام.

= ويُنْظَر في مذهب الشافعية: "المهذب في فقه الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 198، 199)، حيث قال:"تجوز صلاة الخوف في قتال الكفار. . .، وكذلك يجوز في كلِّ قتال مباح؛ كقتال أهل البغي، وقتال قطاع الطريق؛ لأنه قتال جائز، فهو كقتال الكفار، وأمَّا في القتال المحظور؛ كقتال أهل العدل وقتال أصحاب الأموال لأخذ أموالهم، فلا يجوز فيه صلاة الخوف؛ لأن ذلك رحمة وتخفيف، فلا يجوز أن يتعلَّق بالمعاصي، وفيه إعانة على المعصية، وهذا لا يجوز".

ويُنْظَر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 301)، حيث قال:" (تصح صلاة الخوف بقتال مباح)؛ لأنها رخصة، فلا تُستباح بالقتال المحرم؛ كقتال مِن أهل بغي وقطاع طريق".

(1)

أخرجه مسلم (687).

(2)

يُنْظَر: "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 45)، حيث قال:" (وفي الخوف ركعة)؛ يعني: مع الإمام ثم يتمون بركعة أُخرى واللَّه أعلم، وقد قيل: إن ركعة تُجزئ في الخوف".

ص: 2176

وهل يدخلون معه وهو جالس أو وهو قائم؟

اختلف العلماء، والأولى: يدخلون معه وهو قائم.

وأما صلاة المغرب؛ هل الطائفة الأولى تُصلي معه ركعتين أم ركعة واحدة؟

يقول بعضهم: يصلون ركعتين. وبعضهم يقول: يصلون ركعة واحدة؛ فمن قال: يصلون ركعتين يقولون: لأن هذا هو الأولى، والذين يقولون: تُصلي الطائفة الأولى ركعة واحدة؛ لأنهم يُدركون فضيلة تكبيرة الإحرام، فينبغي أن يكون مقابل ذلك أن تُدرك الطائفة الأخرى معه ركعتين.

والذين قالوا: يُصَلِّي الأَوَّلون ركعتين قالوا: حتى يُدرك هؤلاء تشهدًا، وأولئك يدركون التشهد الأخير.

والخلاف إنما هو في الأفضل.

* قوله: (اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي جَوَازِ صَلَاةِ الخَوْفِ بَعْدَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَفِي صِفَتِهَا؛ فَأَكْثَرُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الخَوْفِ جَائِزَةٌ).

قَصَر بعضهم جواز صلاة الخوف على وقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا بعده؛ لأن اللَّه تعالى يقول:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ. . .} [النساء: 102].

فقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} ، قصره عليه.

وسينبه المؤلف على رأي أبي يوسف من الحنفية، وسنذكر المزني كذلك ووجه استدلاله.

وأما الأئمة الأربعة فمتفقون على أن صلاة الخوف جائزة مشروعة

(1)

،

(1)

يُنْظَر: في مذهب الأحناف: "الدر المختار"(2/ 186)، حيث قال:" (هي جائزة بعده عليه الصلاة والسلام عندهما)، أي: عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللَّه". =

ص: 2177

وأنها منذ زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث اللَّه الأرض ومَن عليها؛ فكلما احتاج المسلمون إليها؛ فإنها تُقام

(1)

، وهي على نوعين:

(1)

صلاة الخوف بعمومها.

(2)

صلاة شدة الخوف.

وصفة صلاة الخوف قد أشرنا إليها، وذكر المؤلف منها سبعًا.

وأما صلاة شدة الخوف؛ فإنهم يصلون رجالًا وركبانًا؛ يعني: سواء كانوا راجلين أو راكبين يُومِئون في ركوعهم وسجودهم، ويخفضون في السجود أكثر.

فيصلونها على أي حالة، إذا اشتد الخوف؛ كحال الطعن وغيره، عندما تلتحم المعارك ويشتد الخوف

(2)

.

= ويُنْظَر في مذهب المالكية: "حاشية الصاوي"(1/ 518)، حيث قال:"فصل: في صلاة الخوف وكيفيتها (سُنَّ لقتال جائز)؛ أي: مأذون فيه. . . قسمهم)، أي: القوم (قِسمين، وعَلَّمهم) ".

ويُنْظَر في مذهب الشافعية: "المجموع" للنووي (4/ 404، 405)، حيث قال:"مذهبنا: أنها مشروعة".

ويُنْظَر في مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 301)، حيث قال:"ومشروعيتها بالكتاب والسنة".

(1)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 404، 405)، حيث قال:"وكانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة لكل أهل عصره معه صلى الله عليه وسلم، ومنفردين عنه، واستمرت شريعتها إلى الآن، وهي مستمرة إلى آخر الزمان، قال الشيخ أبو حامد وسائر أصحابنا: وبهذا قالت الأمة بأسرها إلا أبا يوسف والمزني".

(2)

يُنْظَر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 224)، حيث قال:"قالوا: ويجوز أن يكون ذلك في مراتب على حسب شدة الخوف. . .، وقال إسحاق: كلها جائز، وذلك على قدر الخوف. . .، قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع، صَلَّاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوخى في كلها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة".

ص: 2178

وقد لا تلتحم المعارك، ولكن تحصل شدة الخوف عندما يُطوقهم الأعداء من كل جانب؛ فتُشرع لهم الصلاة.

وهذا مما يدل على وجوب صلاة الجماعة، وقد عرفنا أن كثيرًا من العلماء بأنها سنة، والحق أن صلاة الجماعة واجبة؛ ولو لم تكن صلاة الجماعة واجبة لكان أحق الناس أن يُخفف عنهم هؤلاء الذين يَرَون عَدُوَّهم رأي العين، يتربص بهم الدوائر، ويتحين أيَّ فرصة لينقض عليهم، ومع ذلك لم يُرخص اللَّه سبحانه وتعالى للمؤمنين في ترك الجماعة، وإنما ذلك لأهمية صلاة الجماعة.

‌موعظة وتذكير بالاعتناء بالصلاة:

وبهذا نتبين أهمية الصلاة ومكانتها في الإسلام، وأنها أول ما يُحاسب عليه العبد من أعماله، فالإنسان فإذا وحَّد اللَّه سبحانه وتعالى فهو مطالب بأركان، ولذلك عندما جاء الأعرابيُّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسأله عما فرض اللَّه عليه - ذكر له أركان الإسلام؛ فعن طلحة بن عبيد اللَّه، قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دويَّ صوته، ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خمس صلوات في اليوم، والليلة". فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان"، فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: "لا، إلا أن تطوع"، وذكر له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع"، قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: واللَّه، لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق"

(1)

.

وقد قال تعالى عن الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 45، 46].

(1)

أخرجه البخاري (46).

ص: 2179

ويأتي -أيضًا- في مقدمة ذلك صلاة الجماعة التي تساهل فيها كثير من المسلمين، فلم يؤدوا حقها، ولم يُعنوا بها، بل تكاسلوا وتخلَّفوا عنها، وقد عرفنا فيما مضى أن التخلف عنها علامة من علامات المنافقين، أما الذين يتطلعون إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فإن أولئك يسارعون في الأعمال الصالحة -وفي مقدمتها الصلاة- فيُؤدونها في جماعة.

فالذين يسعون إلى الحسنى إنما يسعون إليها بطاعة اللَّه سبحانه وتعالى، والصلاة هي الوسيلة التي يُناجي المسلم فيها ربَّه؛ فيقف فيها بين يدي اللَّه سبحانه وتعالى لا يرجو غيره ولا يطلب سواه؛ فلا ملجأ منه إلا إليه سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101].

فالذين سبقت لهم منا الحسنى هم أولئك الذين اتقوا اللَّه سبحانه وتعالى، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)} [الأحقاف: 13].

في الموقف الذي يخاف الناس فيه يوم العرض الأكبر على اللَّه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، في ذلك الموقف يجد الإنسان ما قدم من العمل الصالح، ويجد في مقدمته هذه الصلاة التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم:"من حافظَ عليها كانتْ له نُورًا وبرهانًا ونجاةً يومَ القيامةِ ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً يومَ القيامةِ"

(1)

.

فهذه هي الصلاة، ولذلك وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فَزع إلى الصلاة، أي: أسرع إليها، وهي -أيضًا- مما تطمئن به القلوب، وترتاح به الأفئدة، وتسكن إليها النفوس، فالإنسان إذا ما ذهب ليُصلي تَخِف همومه، وتزول عنه، ويبقى مطمئن النفس؛ لأنه رجع إلى اللَّه، فإن كانت هناك مصيبة يعلم أن ذلك بقضاء اللَّه وقدره؛ فتَخف آلامه وأحزانه.

(1)

أخرجه أحمد (6576)، وحَسَّن إسنادَه الأرناؤوط.

ص: 2180

فقد طالب اللَّه عز وجل المؤمنين بالصلاة في هذا الموقف، تصور: العدو تَراه أمامك، وربما يُحيط بك كالمِعصم، ومع ذلك لا تترك هذه الصلاة؛ لأهميتها، وعناية الإسلام بها، ولذلك كان الصحابة يتسابقون عليها، كان الرجل يُؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف، ولو فاتته جماعة بعذر، فإنه يَظل في يومه قلقًا غير مرتاح، مع أن اللَّه قد عذره في ذلك.

ففي هذا المقام الذي للإنسان فيه أعظم حاجة إلى التخفيف، لم يُرخص اللَّه سبحانه وتعالى في تركها، بل أمرهم أن يُؤدوها مع هذا الخوف، بل وفي حال اشتداد الخوف.

* قوله: (لِعُمُومِ قَوْلِه تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} الآية [النساء: 101]).

الآية التي تلي هذه الآية مباشرة هي الآية التي يُستدل بها على صلاة الخوف، ولكن لعل المؤلف استشهد بها لما كانت هذه الآية سبب نزول القصر، وإنما الآية التي يُستشهد بها وتُجعل دليلًا في هذا المقام هي قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ. . .} .

وقد نزل قَوْلُه تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} في قَصْرِ الصلاة.

ولهذه الآية مناسبة؛ فقد روى النسائي عن أبي عياش الزرقي، قال: "كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعسفان، فصلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقال المشركون: لقد أصبنا منهم غِرَّة، فأنزل اللَّه -يعني: صلاة الخوف- بين الظهر والعصر، فصلى بنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ففَرَّقنا فرقتين؛ فرقة تُصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفرقة يحرسونه، فكبر بالذين يَلُونه والذين يحرسونهم، ثم ركع فركع هؤلاء وأولئك جميعًا، ثم سجد الذين يلونهم، وتأخر هؤلاء والذين يلونه، وتقدم

ص: 2181

الآخرون فسجدوا، ثم قام فركع بهم جميعًا الثانية بالذين يلونه وبالذين يحرسونهم، ثم سجد بالذين -يعني: يلونه- ثم تأخر، وأقاموا في مصاف أصحابهم، وتَقَدَّم الآخرون فسجدوا، ثم سَلَّم عليهم، فكانت لكلهم ركعتان ركعتان مع إمامهم"

(1)

.

لذلك صدَّر المؤلف بها واعتبرها آية الخوف مع أن الآية التي يُستشهد بها على صلاة الخوف هي قول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى. . .} [النساء: 102]، إلى آخر الآية المعروفة.

فهذه الآية جاءت في صلاة الخوف، وأما فى صلاة شدة الخوف فجاء قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا. . .} ، فهذا كله ذكره اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه.

وفي قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102].

أمر اللَّه سبحانه وتعالى المؤمنين أن يُصلوها، وحَذَّرهم من أن يَغدُر بهم أعداؤهم، ولذلك صَلَّاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده، ومنهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتاله مع الخوارج، وكان قتالًا مفروضًا عليه، وكان معه جمع غفير من الصحابة، بل من أكابر الصحابة رضوان اللَّه عليهم ولم يُخالف في ذلك، بل كان إجماعًا منهم

(2)

.

(1)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(1951).

(2)

جاء عن علي رضي الله عنه في صلاة الخوف: "تتقدم طائفة مع الإمام، وطائفة بإزاء العدو؛ فيُصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين، ثم تذهب الطائفة الذين صلوا مع الإمام فيقومون موقف أصحابهم، ويجيء أولئك فيدخلون في صلاة الإمام؛ فيصلي بهم ركعة، ثم يُسلم الإمام، ثم يقومون فيصلون ركعة مكانهم، ثم ينطلقون فيقومون مكان أصحابهم، ويجيء أولئك فيصلون ركعة". أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(4244).

ص: 2182

* قوله: (وَلِمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَعَمَلِ الأَئِمَّةِ وَالخُلَفَاءِ بَعْدَهُ بِذَلِكَ، وَشَذَّ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَا تُصَلَّى صَلَاةُ الخَوْفِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بإِمَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تُصَلَّى بَعْدَهُ بِإِمَامَيْنِ، يُصَلِّي وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِطَائِفَةٍ رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي الآخَرُ بِطَائِفَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ الحَارِسَةُ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا، وَتَحْرُسُ الَّتِي صَلَّتْ)

(1)

.

وقد أخذ أبو يوسف ذلك من قول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]

(2)

.

وهذا لا يمنع أن تَدخل أمته فيها؛ فمن المقرر في علم أصول الفقه أن الخطابات قد تأتي موجهة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأمته داخلة في ذلك

(3)

، فكون اللَّه صلى الله عليه وسلم خَاطَبَه بقوله:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} لا يمنع أن تكون أُمَّته داخلة معه، بل هي داخلة في ذلك دخولًا أوليًّا.

(1)

يُنْظَر: "المبسوط" للسرخسي (2/ 45)، حيث ذكر مذهب أبي يوسف، فقال:"كل طائفة يتمكنون من أداء الصلاة بإمام على حِدة، فلا يجوز لهم أداؤها بصفة الذهاب والمجيء".

(2)

يُنْظَر: "المبسوط" للسرخسي (2/ 45)، حيث ذكر وجه استدلال أبي يوسف من الآية، فقال:"فقد شَرَط كونه فيهم لإقامة صلاة الخوف".

(3)

يُنْظَر: "الواضح في أصول الفقه" لأبي الوفاء بن عقيل (3/ 102)، حيث قال:"فصلٌ في الدلالة على دخولِ غيرهِ صلى الله عليه وسلم في حكم خطابه: هو أنه صلى الله عليه وسلم جُعل منارًا للأحكام، وعَلَمًا عليها، وقدوةً يُقتدى به فيها، فصَارَ خطَابُ اللَّه سبحانه له خطابًا لجميع مَن دعاه إلى الإِسلام، وكذلك حسن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولم يقل: فطلِّقْهن، وهذا يدُلُّ على أنه إذا خاطبه فقد خاطب أُمَّتَهُ، وجعل خطابه له نائبًا مناب خطابهم. ومن ذلك قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 37]، فأخبر أنه إنَّما أباحَهُ ذلك ليكونَ مبيحًا لجميع الأُمَّةِ، ولو كان الأمر يخصُّهُ لما انتفى عنهم الحرجُ بنفي الحرجِ عنه، فصارَ كأنَّه يقول: أرخصنا لكَ في تزويجِ أزواجِ أدعيائكَ؛ لنُرخِّص لأمتكَ بذلك اقتداءً بك، ونزولًا على ما شُرع لك، فثبت بهذا أنهم مشاركوه في الحكم الذي يُخاطب به. . . ".

ص: 2183

وإنما رأى أبو يوسف -صاحب أبي حنيفة- أن هذه مزية لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي فضيلته وفضله على غيره، وهذا أمر مُجمع عليه، ولا يُنازع فيه مسلم، وهذه الفضيلة تجبر ما في صلاة الخوف من نقص وإخلال بالواجبات وتبديل ونحوه. ولا يتحقق ذلك في غير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقد أجاب العلماء عن ذلك: بأن الفضيلة لا تُسوغ ترك الواجب؛ حتى وإن كانت الصلاة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأداءُ الواجب أَوْلَى

(2)

.

ولم يَعرض المؤلف لقول المزني -من أصحاب الإمام الشافعي- بأن صلاة الخوف قد نُسِخت.

ولا ينازع المزني في قيام صلاة الخوف في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكنه يراها مَنسوخة

(3)

، وقد استدل بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَوَّت عِدَّة صلوات يوم الخندق؛ يوم الأحزاب، كما قال تعالى:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} [الأحزاب: 10].

لمَّا حاصر المشركون المؤمنين يوم الخندق، وأشار سلمان الفارسي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، وكان موقفًا رهيبًا مخيفًا، فانشغل المسلمون عن عدة صلوات، هي: الظهر والعصر والمغرب؛ قالوا: فكون

(1)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 405)، حيث حكى هذا الاستدلال عن أبي يوسف، فقال:"قال: والتغيير الذي يدخلها كان ينجبر بفعلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيره".

(2)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 405)، حيث قال:"وأمَّا الجواب عن انجبار الصلاة بفعلها خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال أصحابنا: الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم فضيلة، ولا يجوز ترك واجبات الصلاة لتحصيل فضيلة، فإن لم تكن صلاة الخوف جائزة مطلقًا لما فعلوها".

(3)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 405)، حيث قال:"وقال المزني: كانت ثُمَّ نُسخت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. . . واحتج المزني بأن النبي صلى الله عليه وسلم فاته صلوات يوم الخندق، ولو كانت صلاة الخوف جائزة لفَعلها ولم يفوت الصلاة. . .، (وأما الجواب) عن احتجاجهم بالآية، فقد سبق أنها حجة لنا؛ لأن الخطاب والأصل التأسي".

ص: 2184

الرسول صلى الله عليه وسلم فاتته صلوات ومع ذلك لم يُصَلِّ صلاة الخوف - دَلَّ ذلك على نسخها؛ إذ لو كانت باقية لصلاها

(1)

.

والجواب عما ذكر: أنَّ النسخ لا يُلجأ إليه إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة، عند الترجيح بينها

(2)

.

ومن شرط النسخ: معرفة التاريخ؛ فالمتأخر يَنسخ المتقدم ما لم يُمكن الجمع

(3)

.

ويمكن الجواب عن قوله بجوابين:

• الجواب الأول: أن صلاة الخوف جائزة، وليست واجبة، وترك النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها في غزوة الخندق لا يَلزم منه النسخ

(4)

، وهذا يُبطل رأيه.

(1)

أخرج الإمام أحمد في "مسنده"(11466)، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه رضي الله عنه، قال: حُبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل، حتى كفينا، وذلك قول اللَّه تعالى:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} ، قال:"فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلالًا، فأقام صلاة الظهر فصلاها، وأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر، فصلاها وأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام المغرب، فصلاها كذلك"، قال:"وذلكم قبل أن يُنزل اللَّه في صلاة الخوف: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ".

(2)

يُنْظَر: "شرح الكوكب المنير"(3/ 529)، حيث قال:"ولا نَسخ مع إمكان الجمع بين الدليلين؛ لأنا إنما نحكم بأن الأول منهما منسوخ إذا تعذر علينا الجمع، فإذا لم يتعذر وجمعنا بينهما بكلام مقبول -أو بمعنى مقبول- فلا نسخ".

(3)

يُنْظَر: "التلخيص في أصول الفقه" للجويني (2/ 543)، حيث قال:"أجمع العلماء على أن مِن شرط الناسخ: أن يتأخر عن المنسوخ، وإنما يتبين ذلك بأن يتأرخ الناسخ والمنسوخ جميعًا، فلو لم يثبت التاريخ في واحد منهما، أو ثبت التاريخ في أحدهما، فلا يتبين الناسخ منهما".

(4)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 406)، حيث قال:"صلاة الخوف على هذه الصفة جائزة ليس واجبة، فلا يلزمه من تركها النسخ".

ص: 2185

• الجواب الثاني: أن المشهور أن صلاة الخوف نزلت بعد غزوة الأحزاب؛ فأنى يتأتى نسخ المتأخر بالمتقدم

(1)

؟!

وبذلك يتبين ضعف هذين القولين، ويظهر أن الحق هو ما ذهب إليه أئمة العلماء من الفقهاء والمحدثين؛ ومنهم الأئمة الأربعة من مشروعية صلاة الخوف، وأنها لم تُنسخ، ولم تكن خاصة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ولا يخفى أن أعلم الناس بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هم الذين شاهدوا التنزيل، ونهلوا من مشكاته عليه الصلاة والسلام، وأخذوا الحلم غضًّا طريًّا لم تَشبه شائبة، ولم يخالطه كدر ولا إشكال، وهم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد صلوا صلاة الخوف فلا حُجة بعد حجتهم، ولا قول بعد أقوالهم، لا سيما وقد اتفقوا؛ فلا يسعنا خلافهم، أما إذا اختلفوا، فحينئذ يُجتهد في أقوالهم

(2)

.

فينبغي أن نقف حيث أجمعوا، ولا يعني ذلك ذم أبي يوسف، أو المُزني، بل هما عالمان مجتهدان، ولكنهما أخطآ في فهمهما وفي اجتهادهما، وإذا اجتهد القاضي فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد؛ لأن غرضهما الحق لا غير.

ولا يسمح المقام بذكر تفاصيل اختلاف العلماء في هذه المسألة؛ فبعضهم يُفرِّق بين أن يكون العدو في جهة القبلة بحيث يراه المسلمون، وبين أن يكون العدو في غير القبلة

(3)

.

(1)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 405)، حيث قال:"وأمَّا دعوى المزني النَّسخ، فجوابه: أن النسخ لا يَثبت إلا إذا علمنا تقدم المنسوخ وتعذر الجمع بين النصين، ولم يُوجد هنا شيء من ذلك، بل المنقول المشهور أن صلاة الخوف نزلت بعد الخندق؛ فكيف ينسخ به؟ ".

(2)

يُنْظَر: "المجموع" للنووي (4/ 406)، حيث قال:"لأن الصحابة أعلم بذلك، فلو كانت منسوخة لما فعلوها، ولا نكروا على فاعليها".

(3)

وهم الشافعية والحنابلة؛ يُنظر للشافعية: "المجموع" للنووي، حيث قال: "قال أصحابنا: وإنما تُستحب هذه الصلاة بثلاثة شروط: أن يكون العدو في غير القبلة، =

ص: 2186

وقد وقعت صلاة الخوف في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على صفات متعددة، فمنها ما حصل في غزوة ذات الرقاع، ونخلة، وعُسفان، وغير ذلك.

(وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الخَوْفِ هِيَ عِبَادَةٌ، أَوْ هِيَ لِمَكَانِ فَضْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ، لَمْ يَرَ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

الآية دليل على أنها عامَّة: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]. {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].

(وَمَنْ رَآهَا لِمَكَانِ فَضْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام رَآهَا خَاصَّةً بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

قد بيَّنا ضعف هذا القول، بل هو شاذٌّ، كما ذكر المؤلف؛ إذ لا دليل على هذا الاختصاص، وأصل صلاة الخوف ليست واجبة، وإنما هي جائزة، وأيضًا صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الفضيلة، ولا شَكَّ أنها أفضل من غيرها، ولكن لا يؤدي ذلك إلى أن أترك واجبًا لأجل أمرٍ فاضل.

* قوله: (وَإِلَّا فَقَدَ كَانَ يُمْكِنُنَا أَنْ يَنْقَسِمَ النَّاسُ عَلَى إِمَامَيْنِ).

أي: بدلًا من أن يُصلوا صلاة ناقصة الواجبات؛ لأجل أن يكونوا

= وأن يكون في المسلمين كثرة والعدو قليل، وأن يخاف هجومهم على المسلمين في الصلاة، قال أصحابنا: فهذه الأمور ليست شرطًا لصحتها، فإنَّ الصلاة على هذا الوجه صحيحة عندنا من غير خوف؛ ففي الخوف أولى، وإنما المراد: أنها لا تُندب على هذه الهيئة إلا بهذه الشروط الثلاثة، واللَّه أعلم".

ويُنظر للحنابلة: "الهداية على مذهب الإمام أحمد"(ص: 106)، حيث قال:"وإن كان العدو في جهة القبلة، وهم بحيث لا يخفى بعضهم على بعض، ولا يخاف كمينًا لهم، وفي المسلمين كثرة جاز أن يصلي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان".

ص: 2187

خلف إمام واحد كان يمكن أن يَنقسموا مجموعتين بإمامين.

* قوله: (وَإِنَّمَا كَانَ ضَرُورَةُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ خَاصَّةً مِنْ خَوَاصِّ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَتَأَيَّدَ عِنْدَهُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِدَلِيلِ الخِطَابِ المَفْهُومِ مِنْ قَوْلهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآيَةَ [النساء: 102]، وَمَفْهُومُ الخِطَابِ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ، فَالحُكْمُ غَيْرُ هَذَا الحُكْمِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ إِلَى "أَنَّ صَلَاةَ الخَوْفِ تُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الخَوْفِ إِلَى وَقْتِ الأَمْنِ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ"، وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ يَوْمَ الخَنْدَقِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الخَوْفِ، وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِهَا).

قال ابنُ عبد البر رحمه الله: "قد احتجَّ بهذا -يعني: أنه ما صَلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم الخندق حتَّى غَربت الشمس- من ذهب إلى أن صلاة الخوف تُؤخر إذا لم يَستطع عليها على وجهها إلى وقت الأمن والاستطاعة، وهذا قولُ جماعة من فقهاء أهل الشام شَذُّوا عن الجمهور الذين هم الحُجَّة على مَن خالفهم، وقد بان فسادُ ما ذهبوا إليه بالحديث الثابت أن يوم الخندق قبل صلاة الخوف وقبل نزول الآية فيه"

(1)

.

* قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ صَلَاةِ الخَوْفِ، فَإِنَّ العُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا لِاخْتِلَافِ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ: (أَعْنِي: المَنْقُولَةَ مِنْ فِعْلِهِ) صلى الله عليه وسلم في صَلَاةِ الخَوْفِ، وَالمَشْهُورُ مِنْ ذَلِكَ سَبْعُ صِفَاتٍ، فَمِنْ ذَلِكَ: مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ "عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الخَوْفِ أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَصَفَّتْ طَائِفَةٌ وِجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا،

(1)

"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 408).

ص: 2188

وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وِجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِمْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ"، وَبِهَذَا الحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ).

ظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الشافعي اقتصر على هذه، والصواب أنه استحب ثلاث صور، مع صلاة شِدَّة الخوف؛ قال النوويُّ:"واختار الشافعي رحمه الله منها ثلاثة أنواع: (أحدها): صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل. (والثاني): صلاته صلى الله عليه وسلم بذات الرِّقاع. (والثالث): صلاته صلى الله عليه وسلم بعُسفان، وكلها صحيحة ثابتة في "الصَّحيحين"، ولصلاة الخوف نوعٌ رابعٌ جاء به القرآنُ، وذكره الشافعيُّ وهو صلاة شِدَّة الخوف؛ قال اللَّه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} "

(1)

.

ويُوافقه أحمد على هذه الصفة في حديث صالح بن خَوَّات، ويجوز الصلاة بكل صفة وَرَدَت.

* قوله: (وَرَوَى مَالِكٌ هَذَا الحَدِيثَ بِعَيْنِهِ عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ مَوْقُوفًا؛ كَمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: أَنَّهُ لَمَّا قَضَى الرَّكْعَةَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ سَلَّمَ، وَلَمْ يَنْتَظِرْهُمْ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنَ الصَّلَاةِ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ هَذِهِ الصِّفَةَ، فَالشَّافِعِيُّ آثَرَ المُسْنَدَ عَلَى المَوْقُوفِ، وَمَالِكٌ آثَرَ المَوْقُوفَ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالأُصُولِ: (أَعْنِي: أَلَّا يَجْلِسَ الإِمَامُ حَتَّى تَفْرُغَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاتِهَا؛ لِأَنَّ الإِمَامَ مَتْبُوعٌ لَا مُتَّبعٌ)، وَغَيْرُ مُخْتَلَفٍ عَلَيْهِ).

كأنَّ مالكًا قاس على سائر الصلوات؛ فالمأموم ينتظر الإمام بلا عكس، فقَدَّم هذه الصفة لِمُوافقتها الأصول، ووافقه على ذلك أبو ثَوْرٍ.

(1)

"المجموع شرح المهذب"(4/ 407).

ص: 2189

* قوله: (وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ؛ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الخَوْفِ بِطَائِفَةٍ، وَطَائِفَةٌ مُسْتَقْبِلُو العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينِ مَعَهُ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَانْصَرَفُوا وَلَمْ يُسَلِّمُوا، فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ العَدُوِّ، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُونَ فَقَامُوا مَعَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ هَؤُلَاءِ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا وَذَهَبُوا، فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي العَدُوِّ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ إِلَى مَرَاتِبِهِمْ؛ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا"، وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مَا خَلَا أَبَا يُوسُفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ).

وأحمد يُوافقهم على ذلك؛ فهو يأخذ بكل ما وَرَدَ.

وقوله: (مَا خَلَا أَبَا يُوسُفَ. . .)، أي: لكونه كان يمنع صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: الوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَسَفَانَ، وَعَلَى المُشْرِكينَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَصَلَّيْنَا الظُّهْرَ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: لَقَدْ أَصَبْنَا غَفْلَةً لَوْ كُنَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ القَصْرِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ العَصْرُ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، وَالمُشْرِكُونَ أَمَامَهُ، فَصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَفٌّ وَاحِدٌ، وَصَفَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَفٌّ آخَرُ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ، وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الآخَرُ يَحْرُسُونَهُمْ؛ فَلَمَّا صَلَّى هَؤُلَاءِ سَجْدَتَيْنِ وَقَامُوا، سَجَدَ الآخَرُونَ الَّذِينَ كَانُوا خَلْفَهُ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ إِلَى مَقَامِ الآخَرِينَ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الآخَرُ إِلَى مَقَامِ الصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ

ص: 2190

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ سَجَدَ الآخَرُونَ، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا، فَسَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا"، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ صلَّاهَا بِعَسَفَانَ، وَصَلَّاهَا يَوْمَ بَنِي سُلَيْمٍ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ جَابِرٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَهُوَ أَحْوَطُهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ كَبِيرُ عَمَلٍ مُخَالِفٍ لِأفْعَالِ الصَّلَاةِ المَعْرُوفَةِ، وَقَالَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ جُمْلَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَخَرَّجَهَا مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ جَابِرٌ: كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلَاءِ بِأُمَرَائِكُمْ").

لكن ينبغي تقييد هذه الصفة بقيود؛ قال ابن قُدامة في "المُغني": "ومِن شرط هذه الصلاة: أن يكون العدو في جهة القبلة؛ لأنه لا يُمكن حراستهم في الصلاة إلا كذلك، وأن يكونوا بحيث لا يَخفى بعضهم على بعض، ولا يُخاف كمين لهم"

(1)

.

* قوله: (وَالصِّفَةُ الخَامِسَةُ: الوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ. قَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ زَهْدَمٍ: "كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ، فَقَامَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الخَوْفِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا شَيْئًا"، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ مُخَالَفَةً كَثِيرَةً. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الحَضَرِ أَرْبَعٌ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَفِي الخَوْفِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ"، وَأَجَازَ هَذِهِ الصِّفَةَ الثَّوْرِيُّ).

(1)

"المغني" لابن قدامة (2/ 307).

ص: 2191

وقد قال بهذه الصفة طائفةٌ من السَّلف؛ منهم: طاوس، ومجاهد، والحَسَن، وقتادة، والحَكَم، ويقتضي عموم كلام أحمد جوازها؛ لأنه ذَكر ستة أوجه، ولا أعلم وجهًا سادسًا سواها، وأصحابنا يُنكرون ذلك

(1)

.

وهذه الصفة تختصُّ بشدة القتال، ولا تستعمل عمومًا؛ قال ابن قدامة:"والذي قال منهم: ركعة، إنَّما جعلها عند شدة القتال".

* قوله: (وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ: الوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ"، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الحَسَنُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ نِيَّةِ الإِمَامِ وَالمَأْمُومِ لِكَوْنِهِ مُتِمًّا، وَهُمْ مُقْصِرُونَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ).

لكن في حديث أبي بَكْرَة أنَّه سَلَّم من الركعتين، وصَلَّى بالأخرى ركعتين، ثم سَلَّم؛ روى أبو داود عن أبي بكرة، قال:"صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في خوفٍ الظهرَ؛ فصَفَّ بعضُهم خلفه، وبعضهم بإزاءِ العدو، فصلى بهم ركعتين، ثم سَلَّم، فانطلق الذين صَلَّوْا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين، ثم سَلَّم، فكانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين"، وبذلك كان يُفتي الحسن.

وأمَّا حديث جابر -وهو مخرج في "الصَّحيحين"- وفيه: "فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصَلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان".

ومأخذ الحَسن أن النبي صلى الله عليه وسلم أَتَمَّ أربعًا، وهم قد صلوا ركعتين؛ فدل على صِحَّة اختلاف نية الإمام والمأموم.

(1)

"المغني" لابن قدامة (2/ 308).

ص: 2192

* قوله: (وَالصِّفَةُ السَّابِعَةُ: الوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِي عليه الصلاة والسلام: "أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الخَوْفِ قَالَ: يَتَقَدَّمُ الإِمَامُ، وَطَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً، وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا، فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ، وَلَا يُسَلِّمُونَ، وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الإِمَامُ، وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، تَتَقَدَّمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الإِمَامُ؛ فَتَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا"، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: الحُجَّةُ لِمَنْ قَالَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا: أَنَّهُ وَرَدَ بِنَقْلِ الأَئِمَّةِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهُمُ الحُجَّةُ فِي النَّقْلِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَهِيَ أَيْضًا مَعَ هَذَا أَشْبَهُ بِالأُصُولِ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الأُولَى وَالثَّانِيَةَ لَمْ يَقْضُوا الرَّكْعَةَ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ المَعْرُوفُ مِنْ سُنَّةِ القَضَاءِ المُجْتَمَعِ عَلَيْهَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ).

وأبو عمر، هو: ابن عبد البر رحمه الله ومحصل كلامه: أنَّ حديث ابن عمر اعتضد بكونه رواية أهل المدينة، وأنه موافق للأصول من كون المأموم لا يَستقبل القضاء إلا بعد فراغ إمامه.

* قوله: (وَأَكْثَرُ العُلَمَاءِ عَلَى مَا جَاءَ فِي هَذَا الحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ الخَوْفُ جَازَ أَنْ يُصَلُّوا مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةَ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا

(1)

، وَإِيمَاءً

(1)

يُنظر للمالكية: "الشرح الصغير"(1/ 521)، حيث قال:" (وحل) للمصلي صلاة الالتحام (للضرورة)، أي: لأجلها. . .، (وعدم توجه) للقبلة". =

ص: 2193

مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَلَا سُجُودٍ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: "لَا يُصَلِّي الخَائِفُ إِلَّا إِلَى القِبْلَةِ"

(1)

، وَ"لَا يُصَلِّي أَحَدٌ فِي حَالِ المُسَايَفَةِ"

(2)

. وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةُ هَذَا الفِعْلِ لِلْأُصُولِ).

أي: لأصول الصلاة؛ فإنَّ مَن صلى هذه الصلاة احتاج إلى الإخلال باستقبال القبلة والطمأنينة، وغير ذلك، فرأى أبو حنيفة أنه لا يُصلي على هذه الحال. وإذ قد ثبتت السُّنَّة بها، فلا تعويل على غيرها.

* قوله: (وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا جَائِزَةٌ، وَأَنَّ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يُصَلِّيَ أَيَّتَهَا أَحَبَّ).

ومنهم الإمام أحمد، وأصحابه كما قَدَّمنا.

= ويُنظر للشافعية: "نهاية المحتاج" للهيتمي (3/ 13)، حيث قال:" (ويعذر في ترك القبلة) لحاجة القتال؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، قال ابن عمر: "مُستقبلي القبلة، وغير مستقبليها". قال الشافعى: رواه ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم".

ويُنظر للحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 307)، حيث قال:"وإذا اشتد الخوف، أي: تواصل الطعن والضرب والكر والفر، ولم يمكن تفريق القوم وصلاتهم. . . (صلوا) إذا حضرت الصلاة وجوبًا، ولا يؤخرونها إلى الأمن (رجالًا وركبانًا، للقبلة وغيرها). . .، (ولا يلزم) مصليًّا إذن (افتتاحها)، أي: الصلاة (إليها)، أي: القبلة (ولو أمكن) المصلي ذلك كبقية الصلاة".

(1)

بل إنَّ مذهب الإمام أبي حنيفة: (التفصيل)؛ فهو يُفَرِّق بين حضور العدو وانصرافه، يُنْظَر:"تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي، حيث قال:" (فإن اشتد الخوف صَلَّوا رُكبانًا فُرادى بالإيماء إلى أيِّ جهة قَدروا)؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، والتوجه إلى القبلة يسقط للضرورة. . .، ولو شرعوا فيها والعدو حاضر ثم ذهب، لا يجوز لهم الانحراف عن القبلة؛ لزوال سبب الرخصة، وبعكسه لو شرعوا فيها، ثم حضر العدو - جاز لهم الانحراف في أوانه؛ لوجود الضرورة، واللَّه أعلم".

(2)

المسايفة: أن يلتقي القوم بأسيافهم، ويضرب بعضهم بعضًا بها، يقال: سايَفته فسفته أسيفه: إذا غلبته بالضرب بالسيف. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 81).

ص: 2194

* قوله: (وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا كانَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ المَوَاطِنِ).

أي: أن كل صلاة تُناسب حالة، فبعضها يُناسب إذا كان العدو في القِبلة، وبعضها بعكسه، وبالجملة؛ فتعدد هذه الصفات توسيع من اللَّه تعالى على المكلفين، فيُشرع لهم أن يأخذوا بما يحتاجونه من ذلك، واللَّه أعلم.

(البَابُ السَّادِسُ مِنَ الجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ فِي صَلَاةِ المَرِيضِ)

الصلاة لها عِدَّة أبواب، وقد مرَّ بنا جملة منها، أولها: حُكمُ الصلاة، وصلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، وكذلك صلاة السَّفر، وغير ذلك، وبقي -أيضًا- أنواع من الصلوات ستأتي، كصلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الجنازة، ونحن الآن نتحدث عن صلاة المريض.

والمريض مَن لَحِقَه مرضٌ، فهل المرض عذرٌ في إسقاط الصلاة، أو هو عذرٌ في تخفيفها؟

لا شَكَّ أن المريض مخاطب بالصلوات فهو يدخل في الخطاب بقول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينَّة: 5]، وقال سبحانه وتعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ. . .} [البقرة: 43]، وقال سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} [الحج: 77]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت في شأن الصلاة.

وجاءت السُّنَّةُ النبوية ببيان أهمية الصلاة، وما يتعلَّق بها.

ص: 2195

فالمريض داخلٌ في المُخاطَبِين بوجوب الصلاة، ولكن اللَّه سبحانه وتعالى جعله من أهل الأعذار، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم الحالة التي يُصَلِّي عليها المريض، فلا تَسقط عنه الصلاة في أيِّ حال، فإن عجز عن القيام صَلَّى قاعدًا، وإن عجز عن القعود صَلَّى مُضطجعًا على جنبه، فإن لم يستطع صلى مُستلقيًا، ولا تسقط عنه، ولو وصل الأمر به إلى أن يشير، وهذا يدلنا على عظيم أهمية الصلاة.

والمريض أحدُ سبعةٍ وَرَدَ التخفيفُ عنهم في هذه الشريعة المطهرة.

فإن أسباب التخفيف في هذه الشريعة سبعة: يأتي منها السَّفر، والمرض، والإكراه؛ فالمُكره يُخفف عنه تخفيفًا مُقَيَّدًا بقيود وحدود بَيَّنها العلماء.

ومن أسباب التخفيف: النِّسيان، والجهل، قال تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، يقول عليه الصلاة والسلام:"عُفِيَ لأمَّتِي عَن الخَطَأِ والنِّسيان وما اسْتُكرِهوا عليهِ".

ومن أسباب التخفيف: عُموم البلوى، فهناك أمور يَشُقُّ على الإنسان أن يَتخلص منها -ولها أمثلة كثيرةٌ جدًّا- وربما نَعرض للشيء من ذلك حال حديثنا عن هذه المسألة أو غيرها إن شاء اللَّه.

ومن أسباب التخفيف: النقص، والمراد به: القصور، ومن ذلك: رَفْعُ القلم عن الصَّبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق.

ومنه العبد؛ فقد خَفَفت عنه هذه الشريعة كثيرًا من الأحكام نظرًا لظروفه ونَقْصِه، فمنها: عِدَّة المملوكة تأتي على النِّصف من عدة الحرة، وكذلك الحدود خُفِّف عنهم فيها، فلم يُساووا الأحرار، والمرأة تَسقط عنها الجمعة والجماعة، ولا يجب عليها الجهاد، واختصت ببعض الأحكام، فأُبيح لها لبس الذهب والحرير، إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة.

وقد استوعب العلماء ذلك فيما يُعرف بالقواعد الفقهية؛ وهذا

ص: 2196

الموضوع يَنبني على قاعدةٍ هامة، وهي قاعدة:"المَشقة تَجْلِب التَّيسير"

(1)

.

* قوله: (أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ المَرِيضَ مُخَاطَبٌ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ

(2)

).

هذا محلُّ إجماع؛ لأنه يدخل ضمن المخاطبين المأمورين بأداء الصلاة المَنهيين عن تركها، ولكن مرضه سبب من أسباب التخفيف؛ ولذلك يُيسر عليه؛ كما في حديث عمران بن الحُصين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستَطِع فقاعدًا، فإن لم تستَطِع فعلى جَنبٍ"، وهو حديث أخرجه البخاري وغيره

(3)

، ويتبين به أن للمريض أحوالًا.

* قوله: (وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ القِيَامِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ، وَيُصَلِّي جَالِسًا

(4)

).

للصلاة أركان وشروط، وقد تقدم من شروط صحتها: ستر العورة، واستقبال القبلة، وغير ذلك.

ومن أركانها: القيام فلا يَسقط إلا بالعجز عنه، ومن قَدر على القيام

(1)

يُنظر: "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي، حيث قال:"القاعدة الثالثة: المشقة تَجلب التيسير،. . .، وإن شئت قلت: إذا ضاق الأمر اتَّسع".

(2)

يُفهم هذا الإجماع من تعريفهم للمُكلَّف، يُنْظَر:"التقريب والإرشاد الصغير" للباقلاني (1/ 239، 240)، حيث قال:"القول في معنى التكليف. . . والفقهاء يستعملون ذلك على ثلاثة معان. . . والوجه الثالث: أن يقولوا: إن الطفل مخاطب ومكلف، وكذلك العبد والمريض، يَعنون بذلك: أنهم إذا فعلوا ما لا يجب عليهم فعله ناب مَناب ما يجب عليهم، ووقع موقعه، فلذلك قالوا: إن المريض الذي يجهده الصيام والقيام إلى الصلاة -ولا يجب ذلك عليه- مخاطب بهما إذا فعلهما، يعنون بذلك: أنه واقع موقع ما يَجب عليه".

(3)

أخرجه البخاري (1117).

(4)

يُنْظَر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (2/ 212)، حيث قال:"أجمع أهل العلم على أنَّ فرض مَن لا يطيق القيام أن يصلي جالسًا".

ص: 2197

وعجز عن الركوع والسجود لم يَسقط عنه القيام؛ لأنه ركن مُستقل بذاته. ونظيره: مَن عجز عن القراءة لم يسقط عنه القيام، والعكس: مَن عجز عن القيام لم تَسقط عنه القراءة؛ لأن كُلَّ ركن منها قائم بذاته.

* قوله: (وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الرُّكُعِ وَالسُّجُودِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْهُمَا، أَوْ أَحَدَهُمَا، وَيُومِئُ مَكَانَهُمَا

(1)

).

الركوع والسجود ركنان، ومع ذلك يسقطان في حال العجز، أو لحوق ضرر، وسيأتي مُفَصَّلًا إن شاء اللَّه.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَفِي هَيْئَةِ الجُلُوسِ، وَفِي هَيْئَةِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الجُلُوسِ وَلَا عَلَى القِيَامِ؛ فَأَمَّا مَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: هَذَا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ القِيَامَ أَصْلًا

(2)

).

اختلفوا فيمن رُخِّص له أن يُصَلِّي جالسًا، هل هو العاجز عن القيام

(1)

يُنْظَر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"(2/ 97)، حيث قال:" (وإن قدر على بعض القيام) ولو متكئًا على عصا أو حائط (قام) لزومًا بقدر ما يقدر ولو قدر آية أو تكبيرة على المذهب؛ لأن البعض مُعتبر بالكل، (وإن تعذرا) ليس تعذرهما شرطًا، بل تعذر السجود كاف، (لا القيام أومأ) ".

وفي مذهب المالكية: "الشرح الكبير"(1/ 258)، حيث قال:" (وأومأ) بالهمز (عاجز) عن كل أفعال الصلاة (إلا عن القيام) فقادر عليه، فيومئ من قيامه لركوعه وسجوده، ويكون الإيماء له أخفض من الإيماء للركوع".

وفي مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"(1/ 349)؛ حيث قال: "أو أمكنه (القيام دون الركوع والسجود) لعلة بظهره مثلًا تمنع الانحناء (قام) وجوبًا، (وفعلهما بقدر إمكانه) في الانحناء لهما بالصلب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحيح: "إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم"، فإن عجز فبالرقبة والرأس، فإن عجز أومأ إليهما".

وفي مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 288)، حيث قال:" (ويُومئ بركوع وسجود) عاجز عنهما ما أمكنه، نصًّا؛ لِما تقدم، (ولجعله)، أي: السجود (أخفض) للخبر وللتمييز".

(2)

يُنْظَر: "الأوسط" لابن المنذر (4/ 431)، حيث قال:"قالت طائفة: إذا لم يستطع أن يقوم لدنياه، فليُصل قاعدًا، كان ميمون بن مهران يقول ذلك".

ص: 2198

مطلقًا؛ كالمشلول الذي لا يستطيع النهوض؟ أو هو الذي يستطيع النهوض ولكن تَلحقه مضرة بالقيام يُسَمِّيها الفقهاء: المشقة.

وإن قلنا: إن المقصود بذلك مَن تلحقه مشقة، فما نوع هذه المشقة؟

فالمشقات تتفاوت، وليست كلها على نسق واحد، ولا مرتبة واحدة؛ فَمِن المشاق ما يترتب عليه لحوق ضَرر بَيِّن قد يؤدي إلى إزهاق النفس أو ذهابها، ومن المشقة ما قد يؤدي إلى ذهاب عضو من أعضاء الإنسان، ومنها ما هو سهل يسير، ومنها ما يأتي منزلة بين المنزلتين؛ فلا تصل إلى درجة لحوق الهلاك بالإنسان، ولا تَنزل إلى درجة المشاق اليسيرة.

* قوله: (وَقَوْمٌ قَالُوا: هُوَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ القِيَامُ مِنَ المَرَضِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ).

ليس هذا مذهب مالك فحسب، بل هذا هو رأي جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة

(1)

، وهو الذي يلتقي مع رُوحِ هذه الشريعة ولُبِّها، والمقصود: مَن يَلحقه مشقة وضرر بقيامه.

(1)

يُنْظَر في مذهب الأحناف: "الدر المختار"(2/ 96)، حيث قال:" (مَن تَعَذَّر عليه القيام)؛ أي: كله (لمرض) حقيقي، وحَدُّه: أن يَلحقه بالقيام ضررٌ به، يُفتى (قبلها أو فيها)، أي: الفريضة، (أو) حكمي بأن (خاف زيادته أو بُطء بُرئه بقيامه، أو دوران رأسه، أو وجد لقيامه ألمًا شديدًا)، أو كان لو صَلَّى قائمًا سلس بوله، أو تَعَذَّر عليه الصوم كما مَرَّ - (صَلَّى قاعدًا) ".

وفي مذهب المالكية: "الشَّرح الكبير" للدردير، حيث قال:" (يجب بفرض)، أي: في صلاة فرض (قيام) استقلالًا للإحرام والقراءة وهوي الركوع. . . (إلا لمشقة) لا يَستطيع معها القيام".

وفي مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"(1/ 349)، حيث قال:"قال الرافعي: ولا نعني بالعجز: عدم الإمكان فقط، بل في معناه: خوف الهلاك، أو الغرق، وزيادة المرض، أو لخوف مشقة شديدة، أو دوران الرأس في حَقِّ راكب السفينة، كما تقدم بعض ذلك. قال في "زيادة الروضة": والذي اختاره الإمام في ضبط العجز: أن تلحقه مشقة تُذهب خشوعه، لكنه قال في "المجموع": إنَّ المذهب خلافه".

وفي مذهب الحنابلة: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 287)، حيث قال:" (فإن عجز) عن القيام كذلك، (أو شَقَّ) عليه القيام (لضرر) يَلحقه به، (أو زيادة مرض، أو بُطء برء ونحوه)؛ كوهن بقيام، (فـ) إنه تلزمه المكتوبة (قاعدًا) ".

ص: 2199

وقال: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهم هو: هَلْ يَسْقُطُ فَرْضُ القِيَامِ مَعَ المَشَقَّةِ أَوْ مَعَ عَدَمِ القُدْرَةِ؟ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ).

ليس المراد بقوله: (وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ): أنَّه ليس فِيمن عَجز عن القيام نصٌّ بالجلوس، وإنَّما مراده أنه ليس هناك نصٌّ يُبَيِّن: هل المراد بالعاجز عن القيام هو العاجز مطلقًا، أو هو الذي يستطيع ولكن تلحقه مشقة؟ ولذلك لا يصحُّ تَعليق البعض بقولهم:"بل فيه نصٌّ"، ثم يُورد حديث عمران بن حصين، وفيه: قوله عليه الصلاة والسلام: "صَلِّ قائمًا، فإن لَم تَستَطِع فقاعدًا، فإن لم تستَطِع فعلى جَنْبٍ"؛ إذ ليس هذا مراد المؤلف، بل قصد أنه لم يَرِد نَصٌّ يُحَدِّد المراد بعدم الاستطاعة: هل هي العجز، أو القدرة مع لحوق المشقة؟

ومع ذلك؛ فعمومِ أدلة الشريعة دالٌّ على ذلك، فاللَّه سبحانه وتعالى عندما يذكر لنا كثيرًا من الأحكام يُذيِّلها -أي:(يختمها) - بذكر الحُكم ثم يَذكر علته؛ فعندما تكلم سبحانه وتعالى عن الوضوء والغُسل في سورة المائدة في قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]- فَذَكَر الحُكم، ثم قال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، والحرج: المَشقة، فاللَّه سبحانه وتعالى عندما خَفَّف عن المؤمنين في هذه الأحوال وأنزل التيمم وشَرعه، إنَّما أراد بذلك أن يَرفع المشقة عن المؤمنين.

واللَّه سبحانه وتعالى -أيضًا- يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] تذييلًا لآيات الصيام.

وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 77، 78].

ص: 2200

فاللَّه سبحانه وتعالى رَفَعَ الحرج عن هذه الأمة، والأدلة على ذلك كثيرة في كتاب اللَّه عز وجل، وأَمَّا سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهي مليئة بمثل ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما أرسل معاذًا وأبا موسى إلى اليمن بِمَ أوصاهما؟ قال:"يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا"

(1)

.

وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا في الحديث الصَّحيح: "إنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرِين، ولَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرين"

(2)

.

و"ما خُيَّر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أمرين؛ أحدهما أَيْسَر من الآخر إلا اختار أَيْسَرَهما، ما لم يكن إثمًا"

(3)

، وبُعِث عليه الصلاة والسلام بالحَنِيفية السَّمحاء، والأحاديث كثيرةٌ جدًّا.

ومِن مجموع هذه الأدلة في كتاب اللَّه عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أَسَّسَ العلماء القاعدة المعروفة؛ إحدى القواعد الخمس الكبرى: "المَشقة تَجلب التيسير".

فقد أخذها العلماء من النصوص، وقالوا: إنَّ الرُّخص في هذه الشريعة والتَّخفيفات إنَّما مدارها على هذه القاعدة: "المَشقة تَجلب التَّيسير".

وهذه القاعدة لم يَضعها العلماء ارتجالًا، وإنما أخذوها واستمدوها من كتاب اللَّه عز وجل ومن سُنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونحن لو أردنا أن نتتبع سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أقواله، وفي أيضًا أفعاله وفي توجيهاته وفي تقريراته -لوجدنا أنه عليه الصلاة والسلام إنَّما كان يُوَجِّه إلى التيسير.

فهذه الشريعة قامت على أُسُسٍ منها:

* عدم المشقة.

* العدالة بين الناس.

(1)

أخرجه البخاري (3038).

(2)

أخرجه البخاري (220).

(3)

أخرجه مسلم (2327).

ص: 2201

* مراعاة مصالحهم.

فقول المؤلف: (لم يَرِد نصٌّ) مُعارَض بعموم أدلة الشريعة الدالة على التيسير والتخفيف، فليس المقصود من ذلك: العجز عن القيام، وإنما المقصود لُحوق المشقة.

فهذا القول هو الرَّاجح في هذه المسألة، بل الذي نراه صوابًا أن المراد بقوله:"صَلِّ قائمًا، فإن لم تَستطع فقاعدًا، فإن لم تَستطع فَعَلَى جَنْبٍ"، هو مَن تَلحقه مشقة يتضرر بها لو قام، أما إذا كانت المشقة يَسيرة فلا اعتبار لها في هذا المقام.

* قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ الجُلُوسِ: فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَجْلِسُ مُتَرَبِّعًا (أَعْنِي: الجُلُوسَ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنَ القِيَامِ)).

الخلاف هنا في الأفضلية لا الصِّحة. والتربيع معروف؛ فأكثر العلماء يقولون بالتربيع، وهو مذهب مالك

(1)

والشافعي

(2)

وأحمد في الصحيح المشهور عنه

(3)

.

(1)

يُنْظَر: "الشرح الصغير"(1/ 360)، حيث قال:" (فإن تعذر) القيام بحالتيه (جلس كذلك)، أي: مستقلًّا وجوبًا إن قدر، وإلا فمستندًا، (وتربع) ندبًا (له)، أي: للجلوس في القيام؛ أي: في الحالة التي يجب فيها القيام للقادر، وهي حالة التكبير للإحرام والقراءة والركوع، وأما في حالة الجلوس بين السجدتين وللتشهد، فالإفضاء كما مَرَّ (كالمتنفل) من جلوس، فإنه يتربع ندبًا في محل القيام، ويُغير جلسته في التشهد وبين السجدتين".

(2)

الجلوس مفترشًا أفضل من الجلوس متربِّعًا في الأظهر عند الشافعية، يُنْظَر:"مغني المحتاج"(1/ 350)، حيث قال:" (ولو عجز عن القيام قعد) للحديث السابق وللإجماع، (كيف شاء) لإطلاق الحديث المذكور، ولا ينقص ثوابه عن ثواب المصلي قائمًا؛ لأنه معذور. . .، (و) لكن (افتراشه)، وسيأتي بيانه في موضع قيامه (أفضل من تربعه) وغيره (في الأظهر)، لأنها هيئة مشروعة في الصلاة، فكانت أولى من غيرها. والثاني: تربيعه أفضل، وهو نصُّه في البويطي".

(3)

يُنْظَر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 287)، حيث قال: " (فإن عجز) عن القيام =

ص: 2202

وتعليلهم الجلوس متربِّعًا: أنَّه إذا عجز الإنسان عن القيام، أي: لَحِقته مشقةُ ظاهرة فَصَلَّى قاعدًا، فإنه يجلس على هيئة تُخالف الهيئة التي كان يجلس عليها؛ لأنَّ هذا الجلوس بدلٌ من القيام، فينبغي أن يكون بدل القيام مخالفًا للجلوس المعتاد في الصلاة؛ كجلوس الافتراش أو التَّوَرُّك

(1)

.

والافتراش: أن يَفرش رِجْلَه اليُسرى ويجلس عليها.

والتورك: أن يَجلس على وركه، ويُقَدِّم رِجْلَه اليسرى.

ومن العلماء من يقول: يجلس على أيِّ هيئة كانت.

ومنهم من يقول: يجلس مُفترشًا، وهي رواية للشافعي

(2)

.

ومنهم من يقول: يَجلس متوركًا.

ومنهم من يرى أنه: يَنصب رجله اليمنى.

وأما مَن ذهب إلى أنه يجلس إمَّا مفترشًا أو متوركًا أو على أي هيئة من هيئات الصلاة يختارها؛ فحللوه بأن التربيع قُحود العادة، بينما الافتراش جلوس العبادة، فنُقَدِّم جلوس العبادة على جلوس العادة.

= كذلك، (أو شق) عليه القيام (لضرر) يلحقه به، (أو زيادة مرض، أو بطء برء ونحوه)؛ كوهن بقيام (فـ) إنه تلزمه المكتوبة (قاعدًا)، وعلى قياس ما سبق ولو معتمدًا، أو مستندًا بأجرة يقدر عليها، (متربعًا ندبًا) وفاقًا؛ كمتنفل، وكيف قعد جاز".

(1)

يُنْظَر: "الأوسط" لابن المنذر (4/ 436)، حيث قال:"ويُشبه أن يكون من حجة مَن رأى أن يتربع في الصلاة: أنَّ المُصلي قائمًا لما كان حاله قائمًا غير حاله جالسًا، وجب أن يُفرق بين الحالين، فيكون في حال قيامه متربعًا؛ ليُفصل بين حال قيامه وحال جلوسه".

(2)

هذا الأظهر عند الشافعية، يُنْظَر:"مغني المحتاج"(1/ 350)، حيث قال:" (افتراشه). . . (أفضل من تربعه) وغيره (في الأظهر)؛ لأنها هيئة مشروعة في الصلاة، فكانت أولى من غيرها. والثاني: تربيعه أفضل، وهو نصُّه في البويطي".

ص: 2203

* قوله: (وَكَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ الجُلُوسَ مُتَرَبِّعًا

(1)

؛ فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّرْبِيعِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُلُوسِ التَّشَهُّدِ. .).

عِلَّة مَن رأى كراهة التربيع: أنه جلوس العادة، فلا ينبغي أن يكون جلوس الصلاة.

* قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّرْبِيع فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُلُوسِ التَّشَهُّدِ)؛ أي: لكونه حَلَّ مَحل القيام، لا أنه وَجلوس التشهد شيء واحد؛ فالتربيع كما لو جلس العاجز كجلسة التشهد.

* قوله: (وَمَنْ كَرِهَهُ، فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُلُوسِ الصَّلَاةِ).

أي: ليست من هيئات الصلاة، وقال بعضهم: بل هو الأَولى؛ لأنه بدل قيام، والقيام غير الجلوس، فينبغي أن يكون ما يَخلفه ويَنوب عنه ويَحل محله يختلف عن الجلوس المعروف.

* قوله: (وَأَمَّا صِفَةُ صَلَاةِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى القِيَامِ وَلَا عَلَى الجُلُوسِ، فَإِنَّ قَوْمًا فَالُوا: يُصَلِّي مُضْطَجِعًا، وَقَوْمٌ قَالُوا: يُصَلِّي كَيْفَمَا تَيَسَّرَ لَهُ، وَقَؤمٌ قَالُوا: يُصَلِّي مُسْتَقْبِلًا رِجْلَاه إِلَى الكَعْبَةِ).

اختلف العلماء في الحالة الثالثة، وهي العاجز عن الجلوس

(2)

.

هل يُصَلي في هذه الحالة على جَنْبه مضطجعًا؟

وإذا قلنا: على جنبه؛ فهل الأَولى أن يَضطجع على جنبه الأيمن، أم هو مُخيَّر بين الجنبين، أم يُصلي مُستلقيًا؟

(1)

يُنْظَر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 138)، حيث قال:"روي عن ابن مسعود أنَّه كره أن يَتربع أحدٌ في الصلاة، قال عبد الرزاق: يقول: إذا صلى قائمًا فلا يجلس للتشهد متربعًا، فأما إذا صلى قاعدًا فليتربع".

(2)

هذا الخلاف خلاف أفضلية لا خلاف صحة.

ص: 2204

ورد في رواية ليست في البخاري: "فإن لَم تَستطع فعلى جنبٍ، فإن لم تَستطعْ فمستلقيًا".

فالاستلقاء

(1)

جاء مرحلة رابعة، ولكن هذه الزيادة فيها كلام للعلماء

(2)

.

أكثر الفقهاء ومنهم المالكية

(3)

والشافعية

(4)

والحنابلة

(5)

على أنَّ العاجز عن الجلوس يُصلي مضطجعًا، والأفضل: أن يضطجع على جَنْبِه الأيمن ووجهه إلى القبلة.

وقال الآخرون: يَستلقي فيَمُدُّ رِجْلَيه ناحية القبلة ووجهه، أي: ينام

(1)

الاستلقاء: أن يُلقى على ظهره، ويُجعل رِجْلاه إلى القبلة، وتحت رأسه مخدة؛ ليرتفع، فيصير شبه القاعد، ولصير وجهه إلى القبلة لا إلى السماء. انظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 201).

(2)

أشار إلى هذه الزيادة عدد من أهل العلم، وقاموا بعزوها إلى النسائي، منهم: ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"(2/ 121)، والزيلعي في "نصب الراية"(4/ 198)، وابن أبي المجد المقدسي في "المقرر على أبواب المحرر"(1/ 336)، والحافظ ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية"(1/ 209)، والألباني في "صفة الصلاة"(1/ 93، الحاشية)، وغيرهم كثير! ومع هذا فلم أجد هذه الزيادة في "السنن الكبرى"، ولا في "المُجتبى" للنسائي، ولم يعز المزي الحديث بهذا اللفظ للنسائي، يُنظر:"تحفة الأشراف"(8/ 185)، وقد شكك فيها عدد من المحققين، قال الشيخ الألباني في "صفة الصلاة"(1/ 91، الحاشية): "ولم أجده في (سننه الصغرى)؛ فلعله في (الكبرى) له"، واللَّه أعلم.

(3)

يُنْظَر: "الشرح الصغير" للدردير (1/ 361)، حيث قال:" (ثم) إن لم يقدر على الجلوس بحالتيه صَلَّى (على شِقٍّ أيمن) بالإيماء ندبًا، (فأيسر) إذا لم يقدر على الشق الأيمن؛ ندبًا أيضًا".

(4)

يُنْظَر: "مغني المحتاج"(1/ 350)، حيث قال:" (فإن عجز) المصلي (عن القعود) بأن ناله من القعود تلك المشقة الحاصلة من القيام (صَلَّى لجنبه)، مستقبلًا القبلة بوجهه ومقدم. بدنه وجوبًا؛ لحديث عمران. . .، وكالميت في اللحد، والأفضل أن يكون على (الأيمن)، ويكره على الأيسر بلا عذر".

(5)

يُنْظَر: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 287)، حيث قال:" (فإن عجز) عن القعود، (أو شَقَّ) عليه القعود، (ولو بتعديه بضرب ساقه)، كتعديها بضرب بطنها فنفست، (فعلى جنبه) يُصلي".

ص: 2205

متمددًا إلى القِبلة، ودليلهم في ذلك نَصُّ الحديث:"صَلِّ قائمًا، فإن لم تستَطِع فقاعدًا، فإن لم تستَطِع فعلى جَنبٍ"، وهذا نصٌّ، ولا اجتهاد مع النص. والنص ما لا يَقبل تأويلًا ولا تبديلًا، فلا يجوز لنا أن نجتهد مع وجود النص.

والذين قالوا: يُصلي مستلقيًا: أبو حنيفة

(1)

، وبعض السَّلف

(2)

، وخالفه صَاحِبَاه

(3)

، وله رواية بموافقة مذهب الجمهور

(4)

.

وقد عَلَّلوا قولهم: بأنه في هذه الحالة يَتَجه إلى القبلة، فإذا أراد أن يركع رفع رأسه، وإذا أراد أن يَسجد اتَجه إلى القبلة، وأمَّا الذي ينام على جنبه الأيمن؛ فإنه إذا أراد أن يَسجد لف رأسه فاتَّجه إلى غير القبلة

(5)

.

وأجاب الجمهور: بأن الصَّحيح في حال ركوعه يكون وجهه إلى الأرض، وكذلك في سجوده؛ فيَبقى الإشكالُ واردًا.

ولا شكَّ أن الوقوف عند النص هو الأَوْلَى بأن يُصلي الإنسان قائمًا؛

(1)

يُنْظَر: "الدر المختار"(2/ 99)، حيث قال:" (وإن تعذر القعود) ولو حكمًا، (أومأ مستلقيًا) على ظهره، (ورجلاه نحو القبلة) غير أنه يَنصب ركبتيه؛ لكراهة مد الرجل إلى القبلة، ويرفع رأسه يسيرًا؛ ليصير وجهه إليها، (أو على جنبه الأيمن) أو الأيسر ووجهه إليها، (والأول أفضل) على المعتمد".

(2)

يُنْظَر: "الأوسط" لابن المنذر (4/ 437، 438)، حيث قال:"وقالت طائفة: في المريض إذا لم يَستطع أن يصلي قاعدًا يصلي مستلقيًا، ويجعل رجليه مما يلي القبلة، ويومي برأسه إيماء، هذا قول الحارث العكلي. . .، عن نافع: أن ابن عمر، قال: يصلي المريض مستلقيًا على قفاه تلي قدماه القبلة".

(3)

يُنظر: لمذهب محمد بن الحسن: "الأصل المعروف بالمبسوط"(1/ 218)، حيث قال:"فإن كان لا يستطيع أن يصلي إلا مضطجعًا كيف يصنع؟ قال: يستقبل القبلة، ثم يصلي مضطجعًا يومي إيماء، ويجعل السجود أخفض من الركوع".

(4)

يُنْظَر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق"(1/ 201)، حيث قال:"وقال الشافعي: يومي على الجنب، وهو رواية عن أبي حنيفة".

(5)

يُنْظَر: "مرقاة المفاتيح" للقاري (3/ 936)، حيث قال:"المستلقي تقع إشارته إلى جهة القبلة، وبه يتأدى الفرض بخلاف الاخر، ألا ترى أنه لو حَقَّقه مستلقيًا كان سجودًا وركوعًا إلى القبلة، ولو أَتَمَّه على جنب كان إلى غير جهتها".

ص: 2206

فإذا لَحِقته مشقة بَيِّنة وظاهرة؛ قد يَحصل معها تأخر الشفاء أو مُضاعفة الألم أو تأخر البُرء، فإنه يُصلي جالسًا على أيِّ حال.

وقد ذكرنا اختلاف العلماء في الأفضل، فإن عَجَز صَلَّى على جنبه، والأَولى أن يُصلي على جنبه الأيمن، لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم "كان يُعجبه التَّيَمُّنَ في تَنَعُّلِه، وتَرَجُّلِه، وطهوره، وفي شأنه كله"

(1)

.

وشرع للإنسان إذا دخل المسجد أن يُقَدِّم رِجْله اليُمنى، وإذا خرج يقدم اليسرى، وكذلك في لبس ثيابه، وغير ذلك؛ فكل عمل فيه فَضْل فإنه يُقدم فيه اليمين، فالأولى أن يُصلي على الجانب الأيمن، لكن لو صَلَّى على جانبه الأيسر صَحَّت صلاته عند مَن يفضلون الصلاة على الأيمن.

•‌

‌ مسألة:

هل تصحُّ صلاة مَن صلى مُستلقيًا عند مَن يقول: "يُصَلِّي على جنب"؟

فأكثرهم قالوا: تَصِحُّ

(2)

. لأن هذه من هيئات المصلي، فيصح له ذلك.

ونازعت قلة منهم في ذلك

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (168).

(2)

وهم الشافعية والحنابلة، وزاد الحنابلة الكراهة، يُنظر للشافعية:"مغني المحتاج"(1/ 350)، حيث قال:" (فإن عجز) المصلي (عن القعود). . . (صلى لجنبه)، مستقبلًا القبلة بوجهه ومقدم بدنه وجوبًا. . . والأفضل أن يكون على (الأيمن)، ويكره على الأيسر بلا عذر. . .، (فإن عجز) عن الجنب، (فمستلقيًا) على ظهره وأخمصاه للقبلة".

ويُنظر للحنابلة: "كشاف القناع"(1/ 499)، حيث قال:" (ويصح) أن يصلي (على ظهره ورجلاه إلى القبلة مع القدرة) على الصلاة (على جنبه)؛ لأنه نوع استقبال، ولهذا يوجه الميت كذلك عند الموت، (مع الكراهة) للاختلاف في صحة صلاته".

(3)

وهم المالكية؛ يُنْظَر: "الشرح الكبير"(1/ 258)، حيث قال:"و (ندب على) شق (أيمن، ثم) ندب على (أيسر، ثم) ندب على (ظهر) ورجلاه للقبلة، وإلا بطلت، فإن عجز فعلى بطنه، ورأسه للقبلة وجوبًا".

ص: 2207

والأولى بالمسلم أن يقف عند ظاهر النصوص -ما دامت بَيِّنة- فيأخذ بما هو الأحوط له في دينه وأبرأ له في ذلك.

* قوله: (وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ عَلَى جَنْبِهِ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا وَرِجْلَاهُ إِلَى القِبْلَةِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَ ابْنُ المُنْذِرِ).

ولا يَنتهي الأمر عند هذا الحَدِّ، فلو لم يَتيسر له القيام ولا الجلوس ولا الاستلقاء - أَوْمَأَ إيماءً ولو بِطَرْفِه.

وهذا كله يدل على خطورة الصلاة، وعِظم شأنها وأهميتها، وأنَّها لا تسقط في حال من الأحوال.

[الجملة الرابعة في قضاء الصلاة وجبر ما يقع فيها من خلل]

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(الجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ تَشْتَمِلُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الَّتِي لَيْسَتْ أَدَاءً)

أراد بذلك أن يقول: إنَّ من أفعال الصلاة ما هو أداء

(1)

، ومنها ما هو قضاء

(2)

؛ فإذا ما جاء المصلي مثلًا وقد سبقه الإمام برَكْعَةٍ أو رَكْعَتَين، فهل ما سيُؤدِّيه يُعْتبر قضاءً أم أداءً؟ هذا مما سيَذْكره المؤلف، وفيه خلافٌ بين العلماء، ويَترتَّب عليه أيضًا أحكامٌ أُخرى، وفروعٌ.

ولا شكَّ أن اختيارَ المؤلف لمثل هذه المسائل مهمٌّ، وربما قد نرى

(1)

"الأَدَاء": فعل العبادة في وقتها. انظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 185).

(2)

"القضاء": فعل العبادة بعد خروج وقتها المعين شرعًا. انظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 185).

ص: 2208

مسائل تتكرر معنا في هذا الكتاب، وهذه من أقل الكتب تكرارًا، فلَوْ قرأ القارئ في الكتب الموسعة مثلًا؛ يجد المسائل تَتكَرَّر كثيرًا أما هنا، فقد يُكرِّر المسائل؛ ليزيد في بيانها في أمرٍ لَمْ يسبق أن تحدث عنه.

* قوله: (وَهَذِهِ هِيَ: إِمَّا إِعَادَةٌ، وَإِمَّا قَضَاءٌ، وَإِمَّا جَبْرٌ لِمَا زَادَ).

قَسَّم المؤلف الأفعالَ التي ليست أداءً إلى أنها إما إعادة، أو قضاء، أو جبر لما زاد.

* الإعادة: كَأنْ تعيد الصلاة مثلًا على القول بوجوب الترتيب بين الصلوات، فلو دخل المصلي والإمام يُصلي صلاة العصر مثلًا، ثم تذكر وهو في الصلاة أنه نسي الظهر؛ فلا ينبغي له أن يقطع الصلاة؛ لأن اللَّه تعالى يقول:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، إذ هنالك حالتان للوقت:

1 -

حالة يكون الوقت أمامك موسعًا.

2 -

وحالة يكون الوقت مضيقًا.

ففي هذه الحالة يُصلي مع الإمام هذه الصلاة، ثم إذا ما فرغ يعود فيُصلي صلاة الظهر، ثم يعيد الصلاة التي صلَّاها مع الإمام.

* القَضَاء: وهو أن تدخل، فتجد الإمام قد سبقك بركعةٍ أو ركعتين أو أكثر، فَتُصلِّي معه ما أدركت، ثم بعد ذلك هل تعيد أم تقضي؟ عليه القضاء كما سيأتي في الأحاديث:"فما فاتَكم فأتِمُّوا"

(1)

.

وفي بعض الروايات: "فما فاتكم فاقْضُوا"

(2)

.

والحديث المتفق عليه: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إليها وعليكم السكينة، فما أدركتم فَصلُّوا، وما فاتكم فأتموا"، رواه البخاري

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (636)، ومسلم (602).

(2)

أخرجه النسائي (861)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح النسائي"(860).

(3)

أخرجه البخاري (636)، ومسلم (602) بلفظ:"إذَا أُقيمَت الصَّلاة، فلا تَأْتوها تَسْعَون، وأتوها تَمْشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصَلُّوا، وما فَاتَكم فَأتمُّوا".

ص: 2209

هَذِهِ هي الرِّواية المشهورة، وفِيهِ روَاية أُخرى صحيحة:"وَمَا فَاتكم فَاقْضُوا"

(1)

.

إذًا، من هنا ذكر الإعادة، وكذلك أيضًا أمورٌ تتعلق بالقضاء أو الإتمام.

* قوله: (أَوْ نَقَصَ بِالسُّجُودِ).

* وإما جبرٌ لما زاد أو نقص: يقصد بهذا (سجود السهو) فقد يحصل خلل في الصلاة، وهذا الخلل (إما أن يكون نقص في الصلاة، وإما زيادة فيها، أو شك في عدد الركعات).

مثال الزيادة: أي: قَدْ يقوم الإنسان إلى خامسةٍ لصلاة رباعية، فَيُنبَّه ويعود، ثمَّ يسجد للسهو بعد السلام.

وَقَدْ يكون لنَقْصٍ في الصلاة أيضًا كما في قصة (ذي اليدين): أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم سلَّم من اثنتين في صلاة رباعية، فتكلم ذو اليدين، وقال: أقصرت الصلاة أم نَسيت؟ قال: "مَا قَصرت، وما نسيت"، ثم سأل الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة، فذكروا له ذلك، فقام فصلى ركعتين، ثم سجد سجدتين قبل السلام

(2)

.

أمَّا لو شك في صلاتِهِ، فلم يدرِ كم صلى، فَلْيَبْنِ على الأقل، ويسجد قبلِ السلام، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا شَكَّ أحدُكمْ في صَلاتِهِ، فلم يَدْرِ كَمْ صلَّى، ثلاثًا أمْ أربعًا؟ فليطرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ على ما استيقنَ"، صحيح مسلم

(3)

.

أَيْ: لَوْ شكَّ: هل صلَّى اثنتين أم ثلاثًا، يجعلها اثنتين ويضيف الثالثة، هذا مراده.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (482)، ومسلم (575) وَفيها أنَّه "سَجَدَ سَجْدَتَيْن وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ التَّسْلِيم"، وَفِي جَميع روايات الحديث في "الصحيحين" و"السنن" أَن النبي سجد بعد السلامَ، فلعله سَبْق لسان من الشارح.

(3)

أخرجه مسلم (571).

ص: 2210

ومن هنا جاء سجود السهو بعضه بعد السلام، وبعضه قبل السلام، ولذلك بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:"فإن كان صلاها رابعةً، شفعن له، وإن كان صلَّاها خمسًا كان ترغيمًا للشيطان"

(1)

. إذ الشَّيطان يُوَسوس للإنسان في صلاته يحاول أن يوقعه، وأن يشوِّش عليه، وأن يُذْهب عنه خشوعه حتى ما يكون من المُفْلحين الَّذينَ أشَار اللَّه إليهم بقوله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2].

فَاللَّه سبحانه وتعالى يسَّر على هذه الأمة، فأوجد سجود السهو؛ ليكون ترغيمًا

(2)

للشيطان، ودحرًا

(3)

له.

إذًا، القصد هنا أنك قد تعيد الصلاة، والإعادة لأجل الترتيب سيأتي الخلاف هنا فيها، هل الصلاة الفائتة تُرَتب أم لا؟

الترتيبُ متعينٌ بين الصلوات: (صلاة الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وهكذا)، لكن في الفوائت هل هناك ترتيب أم لا؟ هذا محل خلاف بين العلماء سيأتي الكلام عنه على وجوب الترتيب

(4)

، ولا بد من إعادة الصلاة، لكن يختلف الأمر بين أن تأتي فتجد الإمام قد شرع في صلاة العصر مثلًا وأنت تعلم أنك نسيت صلاة الظهر؛ هنا تدخل معه في هذه الصلاة، وتنوي صلاة الظهر، أما ما تَكلَّمنا عنه فهو أنك

(1)

أخرجه مسلم (571)، ولفظه:"إذا شكَّ أَحدكُمْ في صلاته، فلم يَدْرِ كَمْ صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فإن كان صلى خمسًا، شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان".

(2)

"الرُّغم": الكره، و"أرغم اللَّه أنفه" أي: ألزقه بالرغام، وهو التراب؛ هَذَا هو الأصل، ثم استعملَ في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (12/ 245).

(3)

"دحر": دحره يدحره دحرًا ودحورًا: دفعه وأبعده. والدحر: الدفع بعنفٍ على سبيل الإهانة والإذلال. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 278).

(4)

سَيَأتي الكلام على مَسْألة وجوب الترتيب بين الصَّلوات في الباب الثاني من الجملة الرابعة في قَضَاء جملة الصلاة.

ص: 2211

دخلتَ معه على أن هذه صلاة العصر، ثم بعد ذلك تبيَّن أنك نسيت الظهر.

وَهَذَا علَى القول بجواز اختلاف نية الإمام عن المأموم، وهو أن تدخلَ معه في العصر، فتنوي الظهر وهو يصليها عصرًا

(1)

.

* قوله: (فَفِي هَذِهِ الجُمْلَةِ إِذًا ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ).

إن من القضايا المهمة في هذا الكتاب هذه المسائل التي يومئ إليها المؤلف، وهي مسائل أحيانًا تكون أركانًا ومهمة يوجز الكلام فيها، وهي تحتاج إلى عنايةٍ أكثر واهتمام، وهناك مسائل يفصل القول فيها ويبينها.

* قوله: (البَابُ الأَوَّلُ: فِي الإِعَادَةِ. البَابُ الثَّانِي: فِي القَضَاءِ. البَابُ الثَّالِثُ: فِي الجُبْرَانِ الَّذِي يَكُونُ بِالسُّجُودِ).

بمعنى: إعادة الصلاة.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(1)

اختلفت مذاهب الفقهاء فيمَنْ صلَّى فرضًا خلف إمامٍ يصلي فرضًا آخر، فمنعه الحنفية والمالكية والحنابلة، وأجازه الشافعية.

مذهب الحنفية، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 30)، حيث قال:"ولا يُصَلي المفترض خلف المتنفل، ولا مَنْ يصلي فرضًا خلف من يُصلِّي فرضًا آخر، ويُصلِّي المتنفل خلف المفترض".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(1/ 339) حيث قال: " (و) ثاني شروط الاقتداء (مساواة) من الإمام ومأمومه (في) عين (الصلاة)، فلا تصح ظهرًا خلف عصر، ولا عكسه، فَإِنْ لم تَحْصل المُسَاواة، بطلت".

وَمَذْهب الشافعيَّة، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (ص 42) حيث قال: "وتصحُّ قدوة المؤدي بالقاضي، والمفترض بالمتنفل، وفي الظهر بالعصر، وبالعكوس، وكذا الظهر بالصبح والمغرب، وهو كالمسبوق".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 170) حيث قال: "ولا يصحُّ ائتمام مَنْ يُصلِّي الظهر بمَنْ يصلِّي العصر أو غيرهما، ولَا عكسه".

ص: 2212

(البَابُ الأَوَّلُ فِي الإِعَادَةِ)

(1)

* قوله: (وَهَذَا البَابُ الكَلَامُ فِيهِ فِي الأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي الإِعَادَةَ، وَهِيَ مُفْسِدَاتُ الصَّلَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِعَادَةُ؛ عَمْدًا كَانَ أَوْ نِسْيَانًا

(2)

، وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى لِغَيْرِ القِبْلَةِ؛ عَمْدًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ نِسْيَانًا

(3)

، وَبِالجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ أَخَلَّ بشَرْطٍ مِنْ شُرُوط صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الإِعَادَةُ، وَإنَّما يَخْتَلِفُونَ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الشُّرُوطِ المُصَحِّحَةِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا البَابِ خَارِجَةً عَمَّا ذُكِرَ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الحَدَثَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ).

بَعْض العلماء يُفصِّل فيُفرِّق بين الحدث الذي يحصل باختيار الإنسان؛ سواء كان هذا المختار متعمدًا أو ناسيًا، لكنه خَرَج باختياره، وبين إنسان يطرأ عليه الحدث (أي: يغلبه الحدث)، فيحدث في ذلك، فهل الصورة تختلف؟

(1)

هذه المسألة سوف تتكرَّر مرةً أُخرى بتفصيلٍ أكثر من الشارح بعد استيفاء الكلام في المسألة التي بَعْدها، ولعل الأنسب حذف هذا الجزء، واستبداله بالتفصيل الذي فصله الشارح بعد ذلك.

(2)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 81)، حيث قال:"والوضوء للصلاة فرضٌ، ولا تجزئ الصلاة إلا به لمَنْ وجد الماء. . هذا إجماعٌ لا خلاف فيه من أحدٍ".

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 124)، حيث قال:"وأَجْمَعوا أنه مَنْ صلى بغير اجْتِهَادٍ، ولا طلب للقبلة، ثم بان له أنه لم يستقبلها في صلاته، أن صلاته فاسدة؛ كمَنْ صلَّى بغير طهارةٍ".

ص: 2213

الجواب: لا خلاف بينهم في هذا المقام أن الحدث سواء كان المحدث متعمدًا أو ناسيًا ولا فرق بين أن يغلبه الحدث أو لا يغلبه إن ذلك ينقض الطهارة، لكن الخلاف بينهم هل يبطل الصلاة أو لا

(1)

؟

ولذلك، جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيدٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: شُكِيَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم الرجُلُ يُخيَّلُ إليه أنَّه يجدُ الشَّيءَ في الصَّلاةِ، قال:"لَا يَنْصَرف حتَّى يَسْمَعَ صوتًا، أو يَجِدَ رِيحًا"

(2)

.

"لا ينصرف": نهيٌ من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الأمرُ قَاصرًا على أن يسمع صوتًا أو يجد ريحًا

(3)

، فَقَدْ يخرج منه أكثر من ذلك، وَدائمًا مَنْهجُ الكتَاب وأُسْلوب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو التَّكنية: أن يُكنَّى عن بَعْض الأمور: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، فأَحْيَانًا لا يأتي التصريح بمَا هو مرادٌ، لكنه تَدلُّ الإشَارة عَلَيه دلالة واضحة.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَقْتَضِي الإِعَادَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِذَا كَانَ قَدْ ذَهَبَ مِنْهَا رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ قَبْلَ طُرُوِّ الحَدَثِ أَمْ يَبْنِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنَ الصَّلَاةِ).

مُرَادُهُ: إنَّ الحدث إذَا طرأ في الصلاة فأثَّر عليها، فَهَلْ هذا يَسْتوجب استئنافَ الصلاة، أَيْ: أن يعيدَها من أوَّلها؟ لَا يَخْتلفون في أنَّه إذا أحدث الإنسان، فإن وضوءَه ينتقض، وإنه يجب عليه أن يتوضأ، لكن بَعْد الوضوء هل يستأنف الصلاة أي: يعيدها أو أنه يبدأ من المقام الذي كان عنده؟

(1)

ستأتي.

(2)

أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).

(3)

يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 238)، حيث قال:"ودل حديث الباب على صحة الصلاة ما لم يتيقن الحدث، وليس المراد تخصيص هذين الأمرين باليقين؛ لأن المعنى إذا كان أوسع من اللفظ، كان الحكم للمعنى. . قاله الخطابي. وقال النووي: هذا الحديث أصلٌ في حُكْم بقاء الأشياء على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها".

ص: 2214

فَمَثلًا لو أنه أحدث وهو في الركوع، فهل يعود إلى الركوع الذي أحدث فيه؟ أو أنه يبدأ الصلاة من أوَّلها.

* ذهب (المالكية

(1)

والحنابلة

(2)

والشافعية

(3)

) إلى وجوب الاستئناف، وأنه لا أثر لذلك الحدث، وذلك دون دخولٍ في تفصيل آراء هذه المذاهب.

* وَنُقِلَ عن بعض السَّلف (كعُمَر بن الخطاب

(4)

، وعبد اللَّه بن

(1)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 493)، حيث قال:"ص (ولا يبني بغيره). . . والمعنى أنَّ من حصل له شيء مما ينافي الصلاة من سبق حدث أو تذكره أو سقوط نجاسة أو تذكرها أو غير ذلك مما يبطل الصلاة، فإنه لا يَبْني على ما مَضَى من صلاته، بل يقطعها ويستأنف الصلاة، وهذا هو المذهب. قال في "المدونة": ولا يبني إلا في الرعاف وحده"، وانظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 207).

(2)

مَذْهب الحنابلة فيه رواياتٌ، وأَشْهرُهَا الموافقة لمذهب الشافعية أنه لا يبني في حدثٍ ولا في غيره. انظر:"الإنصاف" للمرداوي (2/ 32)، حيث قال:"قوله: (وإن نوى الإمامة لاستخلاف الإمام له إذا سبقه الحدث، صح في ظاهر المذهب)، اعلم أن الإمام إذا سبقه الحدث تبطل صلاته على الصحيح من المذهب كتَعمُّده، وعنه: تبطل إذا سبقه الحدث من السَّبيلَين، ويبني إذا سبقه الحدث من غَيْرهما، وعنه: لا تبطل مطلقًا، فيبني إذا تطهر، اختاره الآجري، وذكر ابن الجوزي وغيره رواية أنه يُخيَّر بين البناء والاستئناف".

(3)

يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 271)، حيث قال:"وان أحرم متطهرًا ثم أحدث باختياره، بطلت صلاته، عمدًا كان حدثُهُ أو سهوًا، علم بالصلاة أم نسيها، وإنْ أحدث بغير اختياره بأن سبقه الحدث، بطلت طهارته بلا خلافٍ، وبطلت صلاته أيضًا على المشهور الجديد، ولا تبطل على القديم؛ سَوَاء كان الحدث أصغر أو أكبر، بل يتطهر ويبني على صلاته".

ومذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 220)، حيث قال:"واختلف في الحدث السابق، وهو الذي سبقه من غير قصدٍ، وهو ما يخرج من بدنه من بولٍ أو غائطٍ أو ريحٍ أو رعافٍ أو دمٍ سائلٍ من جرح أو دمل به بغير صنعه، قال أصحابنا: لا يفسد الصلاة، فيجوز البناء استحسانًا".

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 13) في الرجل إذا رعف في الصلاة، قال:"ينفتل فيتوضأ، ثم يرجع فيصلي، ويعتد بما مضى".

ص: 2215

عمر

(1)

، وعلى بن أبى طالب

(2)

) والحنفية

(3)

يرون أنه يبنى على ما انتهى إليه أي: يبني على ما مضى من صلاته.

وتكلَّم المؤلف عن هذه المسألة وقال: لم يرد فيها إلا أثرٌ عن عبد اللَّه بن عمر، أورده مالك في "موطئه" فيما صح عنه أنَّه كَانَ إذا أصَابه رعاف

(4)

فإنه ينصرف ثم بعد ذلك يتوضأ، ويعوفى للصلاة، ولا يتكلم

(5)

.

وَوَرد في ذلك حديثٌ مختلفٌ في صحته، وقد صح مرسلًا، وهو حديثٌ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أصَابه قيءٌ أو رعافٌ أَوْ قَلس

(6)

أو مَذيٌ

(7)

فَلْيَنْصَرفْ فليتوضَّأ، ثم ليبن على صَلَاتِهِ، وهُوَ في ذَلِكَ لا يَتَكَلَّم"

(8)

.

فَهَذا دليلٌ على أنه يَبْني.

وَردَّ الجمهورُ بأنه ليس هناك دليلٌ مرفوعٌ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد صح، وَهَذا أمرٌ اختلفَ فيه السَّلف، ولَمْ يكن قَوْل الصحابة رضي الله عنهم في ذَلكَ متحدًا؛ وإنَّما وقَع بينهم خلافٌ في هذه المسألة، وقالوا: نرجع

(1)

أخرجه مالك في "الموطإ"(46)، وسيأتي. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 13)، عن ابن عمر، قال:"مَنْ رعف في صلاته، فلينصرف، فَلْيَتوضَّأ، فَإِنْ لَمْ يتكلَّم، بنَى على صَلَاته، وإنْ تكلم استأنف الصَّلاة".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 13)، عن عليٍّ، قال:"إذا وجد أحدكم في بطنه ذرًّا، أو قيئًا، أو رعافًا، فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم".

(3)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 30)، حيث قال:"فَإِنْ سبقه الحدث انصرف، فإن كان إمامًا استخلف وتوضأ وبنى على صلاته، والاستئناف أفضل".

(4)

تقدَّم معناه.

(5)

أخرجه مالك في "الموطإ"(46).

(6)

"القلس": ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه، وليسَ بقيءٍ، فإذا غلب فهو قيء. انظر:"تاج العروس" للزبيدي (16/ 391).

(7)

"المَذْي": هو البلل اللزج الذي يخرج من الذكر عند ملاعبة النساء. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (39/ 517).

(8)

أخرجه ابن ماجه (1221)، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "ضعيف ابن ماجه"(ص 225).

ص: 2216

فيها إلى القياس، والقياس معتمد، فيقولون: لو أن إنسانًا أحدث متعمدًا، فإنه في هذه الحالة إلى جانب بطلان طهوره، تبطل صلاته، قالوا: فيلحق بذلك غير المتعمِّد، فقَاسوا غير المُتَعمِّد على المتعمِّد في هذه الحالة، فرأوا أنه لا فرق بينهما، أي: لم يَرَوا فرقًا بين أن يكون الحدث قَدْ صدَر من إنسان متعمدًا، أو ناسيًا، وبين أَنْ يكون من إِنْسَانٍ قَدْ غلبه الحدث، وسَيْطر عليه، فلم يملك ردَّه، وإنما الذي ورَد في ذلك الرعاف، وَسَبق أن تَكلَّمنا عن الأحداث تفصيلًا، وَبينَّا الفرقَ بين ما يخرج من دُبُر الإنسان وقُبُله، وبَيْن ما يَخرج من بقيَّة بَدَنه، وتفصيل العُلَماء في النجَاسات، وَكَذلك بالنسبة لسائر الحيوانات والكلام في الدم وغيره.

وَالرَّاجح: أنه لا شكَّ أن الأَوْلَى أن يأخذ بالأَحْوَط، وهو أن يعيدَ صَلَاته، وليس ذلك داخلًا في قول اللَّه سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمد: 33]؛ لأنَّه ما قَصَد إبطال الصلاة، وإنما وُجِدَ خلل أفسد عليه طهارته؛ فَسَرَى ذلك عند البعض إلى صلاته، وعند البعض اقتصر على الطهارة، فيَنْبغي أن يُجدِّد طهارته ثم يعود.

"وقَبْل طُرُوء الحَدَث"، أَيْ: قبل حُصُوله.

* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْنِي لَا فِي حَدَثٍ، وَلَا فِي غَيْرِهِ مِمَّا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إِلَّا فِي الرُّعَافِ فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَبْنِي لَا فِي الحَدَثِ وَلَا فِي الرُّعَافِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ).

مَسْألة الرعاف فيها اختلافٌ، وَهِيَ ليست عند الشَّافعيِّ وَحْده؛ بَلْ وعند أحمد

(1)

.

(1)

سبق ذكر مَذَاهب العلماء، وأن مذهب المالكية والحنابلة في روايةٍ: أنه يَبْني في الرعاف، ولا يبني في غيره من الأحداث، وأنَّ الرواية المشهورة عند الحنابلة هي الموافقة لمذهب الشافعية أنه لا يبني في رعافٍ، ولا في غَيْره.

ص: 2217

* قوله: (وَذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ يَبْنِي فِي الأَحْدَاثِ كُلِّهَا).

قَصَد بِالكُوفيِّين: علماء الكوفة، وعلَى رأسهم الإمام أبو حنيفة، ولَيْس ذلك قاصرًا عليه، وإنَّما لفظ "علماء الكوفة" إذا أُطْلق ينصرف أيضًا إلى (حماد بن أبي سليمان، وهو تابعي، وكذلك شيخُهُ إبْرَاهيم النَّخعي، والأسود النخعي، وغير هؤلاء كثيرٌ)، كَمَا أن بقيَّة علماء الأمصار أيضًا عددهم كبير.

* قَالَ: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي جَوَازِ ذَلِكَ أَثَرٌ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

وَيعترض عَلَيه؛ لأنه وَرَد في ذلك حديث عائشة رَفَعته إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَكنه صحَّ مرسلًا. قالت عائشة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أصابه قيءٌ أو رعاف أو قَلس أو مَذيٌ، فلينصَرِفْ فليتوضَّأ ثم ليبنِ على صلاتِه وهو في ذلك لا يتكَلَّم"

(1)

.

"فلينصرف"، أَيْ: من صلاتِهِ.

"ليَبْن

(2)

على صَلَاتِهِ"، أَيْ: يبدأ من المَكَان الذي انتهى إليه.

* قوله: (وَإِنَّمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَعَفَ فِي الصَّلَاةِ، فَبَنَى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ)

(3)

.

هذا أَوْرَده مالكٌ في "موطئه" أن ابن عمر "كان إذا أصابه رعاف، انصرف من صلاته، ثمَّ ذهب فتوضأ، وعاد وبنى على صلاته"، وابن عمر من السلف الذين نقل عنهم البناء، ومعه والده عمر

(4)

، ونقل أيضًا عن

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

الصواب: وليبنِ.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 13)، عن عُمَر بن الخطاب في الرجل إذا رعف في الصلاة قال:"ينفتل فيتوضَّأ، ثم يرجع فيُصلِّي، ويعتد بما مَضَى".

ص: 2218

علي بن أبي طالب موقوفًا عليه

(1)

، وعن سلمان الفارسي

(2)

، وغيرهم كثير

(3)

.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا الفِعْلَ مِنَ الصَّحَابِيِّ يَجْرِي مَجْرَى التَّوْقِيفِ، إِذْ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا بِقِيَاسٍ، أَجَازَ هَذَا الفِعْلَ).

ظَاهر قَوْل المؤلف يقول: عندما يعمل الصحابي عملًا من الأعمال، لا ينصرف إلى الذهن أن هذا هو رأيه؛ وإنما لا يمكن أن يفعل أمرًا من مثل هذه الأمور يتعلَّق بعبادةٍ من أجل العبادات وأعظمِها ألا وهي الصلاة، والطهارة شرط فيها إلا أن يكون ذلك لأمر توقيفي سمعه أو بلغه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكننا نقول: ليس كل ما يُنْقَل عن السلف يكون قَد اعتمد على دليلٍ، فما يُنْقَل عن السلف منه ما يعتمد على دليلٍ، ومنه ما يكون قولًا للصحابي، لكن هذا الذي فَعَله ابن عمر يُعضِّده ويُقوِّيه الأثر الذي أَوْرَدناه، وهو حديث عائشة الذي صَحَّ مرسلًا.

والَّذين لا يَأْخذون بالبناء يُضعِّفون هذا الحديث، وقَدْ جاء بعدة روايات، والَّذي ذَكرت لَكم صحَّ مرسلًا.

* قوله: (وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الرُّعَافَ لَيْسَ بِحَدَثٍ، أَجَازَ البِنَاءَ فِي الرُّعَافِ فَقَطْ، وَلَمْ يُعَدِّهِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ)

(4)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 13)، عن سلمان، قال:"إذا أحدث أحدكم في الصلاة فلينصرف غير داعٍ لصنعه، فليتوضأ ثم ليعد في آيته التي كان يقرؤها".

(3)

من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 13) عن أبي بكر بمثل قول عمر، وعن علقمة "أنه رعف في الصلاة، فأخذ بيد رجل فقدمه، ثم ذهب فتوضأ، ثم جاء فبنى على ما بقي من صلاته". وعن طاوس، قال:"إذا رعف الرجل في صلاته انصرف فتوضأ، ثم بنى على ما بقي من صلاته".

(4)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 471)، حيث قال:"قال في "المقدمات": واعلم أن الرعافَ ليس بِحَدَثٍ عند مالك، وجميع أصحابه فلا ينقض الطهارة، قل أو كثر، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه في قولهم أنه ينقض".

ص: 2219

رُبَّما يُشْكل على البعض كلمة "البناء"؛ فأنت إذا أردتَ أن تُقيم منزلًا (دارًا) تضع له أساسًا، ثم بَعْدَ ذلك تضع البناء، فأنت قد دخلتَ في الصلاة وشرعت فيها؛ ومفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فمَعْنى البناء أنك لا تلغي ما مضى، وإنما تَعْتبره تأسيسًا، فتبني عليه، هذا هو مرادُهُ، فَمَا مضَى تَعْتبره أساسًا تبني عليه، وكَوْنك تَسْتأنف يعني: تلغي ما مَضَى، وتبدأ العمل استئنافًا، أي: جديدًا.

ومسألة "الرُّعاف" ليس بمثابة الحدث، وقد مرَّ الكلام فيه فيما سبق، وكذلك الرعاف يختلف قلةً وكثرةً، والدم الذي يخرج من الإنسان تكلمنا عنه سابقًا، ويُفرق أيضًا بين ما يراه الإنسان فاحشًا زائدًا، وبين ما يراه قليلًا؛ فما يخرج من دمٍ يسيرٍ معفو عنه، وتقدير ذلك يرجع إلى الإنسان

(1)

، ولذلك

(1)

اخْتَلفت مَذاهبُ الفُقَهاء في العفو عن يسير النجاسة:

فعند الحنفية: قدر الدرهم معفو عنه في النجاسات المغلظة، وفي المخففة يُعْفى عما دون ربع الثوب.

وانظر: "مختصر القدوري"(ص 21)، حيث قال:"ومَنْ أصابه من النجاسة المغلظة كالدم والبول والغائط والخمر مقدار الدرهم، فما دونه جازت الصلاة معه، فإن زاد لم تجز، وَإنْ أَصَابته نجاسة مخففة كبول ما يؤكل لحمه، جازت الصلاة معه ما لم يبلغ ربع الثوب".

وعند المالكية: يُعْفى عن قَدْر الدرهم مطلقًا.

وانظر: "الشرح الصغير" للدردير (7411)، حيث قال:" (وقدر درهم من دمٍ وقيحٍ وصديدٍ)، أي: يُعْفى عن قدر الدرهم البغلي، وهو الدائرة السوداء الكائنة في ذراع البغل فدون".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 127)، حيث قال:" (وكذا في قول نجس لا يدركه طرف) أَيْ: لَا يشاهد بالبصر لقلته؛ لا لموافقة لونٍ ما اتصل به كنقطة بول وخمر. . . لعسر الاحتراز عنه، فأشبه دم البراغيث".

وعند الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 61)، حيث قال:"ولا يُعْفى عن يسير نجاسةٍ ولَوْ لم يدركها الطرف كالذي يعلق بأرجل ذباب ونحوه إلا يسير دم وما تولَّد منه من قيح وغيره ماء قروح في غير مائعٍ ومطعوم وقدره الَّذي لم ينقض من حيوانٍ طاهرٍ من آدميٍّ من غير سبيل حتى دم حيض ونفاس واستحاضة أو من غير آدميٍّ مأكول اللحم أو لا كهر، ويضم متفرق في ثوب لا أكثر".

ص: 2220

استفتِ نَفْسَك وإنْ أفتَوْك

(1)

.

* قوله: (وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ حَدَثٌ، أَجَازَ البِنَاءَ فِي سَائِرِ الأَحْدَاثِ قِيَاسًا عَلَى الرُّعَافِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

خُلَاصَة القَوْل ودليله:

* الجمهور: قاسوا غيرَ العامد على العامد، فقالوا: العامد تنتقض طهارته، وتفسد صلاته، وغَيْره كذلك؛ لأنه أحدثَ، فلَا نرى فرقًا بينهما، فأخذوا بالقياس لضعف الأدلَّة عندهم.

* الآخرون: تَمسَّكوا بما نُقِلَ عن الصَّحابة، وبأثر عائشة المرسل. . هَذِهِ هي خُلَاصة ما في هَذِهِ المسألة.

المُؤلِّف ليس لديه تعمق واسعٌ فيما يتعلَّق بمباحث السُّنَّة، ولذلك أحيانًا نجد أن مباحثَه تقصر عن الوُصُول إلى الغاية؛ فتجد أحيانًا أنه يبحث المسائل بحثًا عقليًّا، وربما يعرض لبعض الأدلة، وتَخْفاه أدلةٌ أُخرى، وربما ترد أدلةٌ صحيحةٌ في المسألة ولا يقف عليها، أو ربما يتصوَّر أنها غير صَحيحَةٍ بدليل أنه أحيانًا يقول: لَوْ صحَّ الحديث، مع أنه في "الصَّحيحين"، أو في أحدهما.

ولذَلكَ، درَاسة هذا الكتاب تحتاج إلى عِنَايةٍ وتَفهُّمٍ لألفاظه، وهذا الكتاب لا شكَّ من الكتب القديمة التي تفيد أيضًا طالب الفقه في دراسته؛ فيستفيد من أسلوبه، ومن طريقة عَرْضه للمسائل، ومن طريقة ترتيبه.

(1)

هذا جزءٌ من حديث أخرجه أحمد (18001)، وغيره عن وابصة بن معبد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لوابصة:"جِئْتَ تَسْأل عن البِرِّ والإثم؟ ". قال: قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه، فضرب بها صدره، وقال:"اسْتَفْتِ نَفْسك، استفتِ قلبك يا وابصة -ثلاثًا- البِرُّ ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإنْ أفتاكَ النَّاس وأفتوك". وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف جدًّا.

ص: 2221

ولا شك أن القراءة في الكتب المتقدمة فيها فوائد؛ لأن عمقَ الأسلوب له أثرٌ؛ لأنَّ المسألة عندما تُعْمِلُ فِكْرَك، وتُجِدُّ فيها، وتتعمق فيها، أو تَسْبر غَوْرها

(1)

؛ بهذا يُصْبح عندك مَلَكةٌ ومِرَانٌ على دراسة المسائل التي تحتاج إلى كدِّ

(2)

ذهنٍ وتعبٍ، وإنما لا تُعود نفسك على أن تكون سطحيًّا تأخذ بالظواهر، وتتعود على ذلك، ويتعود ذهنك على هذا الأمر، فلا يكون لديه الاستعداد أن يدرس المسائل الصعبة التي تحتاج إلى وَقَفَاتٍ وتَعمُّقٍ كما نجد ذلك في سائر العلوم.

* قوله: (إِذْ قَدِ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ المُصَلِّيَ إِذَا انْصَرَفَ إِلَى غَيْرِ القِبْلَةِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ

(3)

، وَكَذَلِكَ إِذَا فَعَلَ فِيهَا فِعْلًا كَثِيرًا

(4)

لَمْ يُجِزِ البِنَاءَ؛ لَا فِي الحَدَثِ، وَلَا فِي الرُّعَافِ).

مُرَادُهُ بأنَّ الإجماعَ قد حَصَل فيما لو أن المصلي اتجه إلى غير القبلة بسبب حدثٍ أحدثه، أو ما شَابَه ذلك أنه قَدْ خرج من الصلاة بذلك الانصراف عن القبلة؛ وذلك لأنَّ الاتجاه إلى القبلة من شُرُوط صحَّة الصلاة

(5)

، وَكَذَلك انْعَقَد الإجماعُ على خُرُوج المصلِّي من صلاته؛

(1)

"السَّبْر": استخراج كُنْه الأمر. والسَّبْر: مصدر سبر الجرح يسبره ويسبره سَبْرًا: نظر مقداره وقاسه ليعرف غوره. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 340).

(2)

"الكَدُّ": الشدة في العمل، وطلب الرزق، والإلحاح في محاولة الشيء. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (3/ 377).

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 124)، حيث قال:"واتفقوا أن مَنْ تحوَّل عن القبلة عمدًا لغير قِتَالٍ، أو لغير غسل حدث غالب، أو نسيان الوضوء له أو لغير غسل لرعاف، أو لغير ما افترض على المرء من أمير بمعروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس، أو إطفاء نار أو إمساك شيءٍ فائتٍ من مال، أو بغير إكراهٍ، أن صلاته فاسدة".

(4)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 141)، حيث قال:"واتفقوا أن الأكل والقهقهة والعمل الطويل بما لم يُؤْمر به فيها ينقضها إذا كان يتعمَّد ذلك كله، وهو ذاكرٌ بأنَّه في صلاته".

(5)

مَذْهب الحنفيَّة، يُنظر:"مختصر القدوري"(ص 26)، حيث قال:"ويستقبل القبلة إلا أن يكون خائفًا، فيصلي إلى أيِّ جهة قدر". =

ص: 2222

إذا فعل فعلًا كثيرًا يتبين للرائي أنه ليس في صلاةٍ بسبب كثرة فعلِهِ، فلا يجوز له البناء بعد رجوعه إلى الصلاة ثانيةً، سواء كان انصرافه عن القبلة بسبب حدثٍ أو رعافٍ.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ: هَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي إِذَا صَلَّى لِغَيْرِ سُتْرَةٍ أَوْ مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ؟).

هَذِهِ من المَسَائل المهمة، وربما لا يسلم أحدٌ منا من الوقوع فيها، وهذه ينبغي أن يُلاحظ فيها جانبان:

الجانب الأول: (هو المُصلِّي):

إذا أراد المصلي أن يُصلي نافلةً أو سنةً من السنن، فعليه أن يختار مكانًا يجد فيه سترةً، فإن كان في المسجد؛ فإنه يقف أمام الحائط، أو سارية

(1)

من السواري، أو كرسيٍّ من الكراسي، أو وجود شَيْءٍ من الأشيَاء؛ لأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان تُوضَع له العنزة

(2)

، وَكَانَ يُصلِّي إلى مؤخرة الرحل

(3)

،

= وَمَذْهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 507)، حيث قال:"فصل (ومع الأمن استقبال عين الكعبة لمَنْ بمكة) ش يعني أنَّ من شروط الصلاة مع الأمن يريد والقدرة والذكر استقبال عين الكعبة".

ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (ص 30)، حيث قال:"باب شروط الصلاة خمسة: معرفة الوقت والاستقبال. . . ".

ومَذْهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 100)، حيث قال:"ثم أمر بالتوجُّه إلى الكعبة، وهو الشرط الثامن لصحة الصلاة، فلا تصح بدونه إلا المعذور".

(1)

"السارية": أسطوانة من حجارة أو آجر، وجمعها السواري. انظر:"تهذيب اللغة" للأزهري (13/ 38).

(2)

أخرجه البخاري (5786) ومسلم (503).

و"العنزة": عصا في قدر نصف الرمح أو أكثر شيئًا مثل سنان الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير، وقيل: هي أطول من العصا، وأقصر من الرمح، والعكازة قريب منها. انظر:"لسان العرب" لابن منظور (5/ 384).

(3)

أخرجه مسلم (499) عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فليُصلِّ، ولا يبال مَنْ مَرَّ وراء ذلك"، =

ص: 2223

وصلى إلى بعيره

(1)

، وجاءت أحاديث كثيرة تحض على السُّترة في الصلاة، وتُرغِّب فيها، وأن المسلم ينبغي عليه أن يَتَّخذ له سترةً إذا أراد أن يُصلي، وأن هذه السترة ينبغي أن تكون وقايةً له بحيث لا يمر أحدٌ بينه وبين سترته، كما أنه لا ينبغي للطرف الآخر أن يؤذي أخاه المؤمن بالمرور بين يديه، فيترتب على ذلك تشويش عليه، وربما ذهاب خشوعه، وهناك مَنْ يرى أنه يقطع الصلاة.

إذن، ينبغي للمسلم أن يختار سترةً، فلا ينبغي أن يُعرِّضَ نفسه ليتسبب في أن يلحق بإخوانه المسلمين إثمًا بسببه.

الجانب الثاني: (هو المارُّ بين يديه):

ينبغي أن يتوقع مثل ذلك، فلا يتسرع في الخروج، فيمر بين يدي المصلين، والمسألة تختلف بين أن يكون المُصلِّي (إمامًا، أو منفردًا، أو مأمومًا).

أما المأموم: فسترة الإمام سترة للمأموم، وقد ورد في ذلك أحاديث نُقلت في ذلك

(2)

، وإن كان فيها كلام للبعض، لكن هذه من المسائل التي التقى عندها العلماء، وأخذوا بها، فسُتْرة الإمام سترة للمأموم

(3)

.

إذن، يبقى الإشكال فيما يتعلَّق بالإمام، وفيما يتعلَّق بمَنْ يُصلي

= ومُؤخِّرة الرحل: هي التى يستند إليها الراكب. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 12).

(1)

أخرجه البخاري (507)، عَن ابن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه "كان يعرض راحلته، فيُصلَي إليها"، قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب؟ قال: "كان يأخذ هذا الرحل فيعدله، فيصلي إلى آخرته" أو قال: "مؤخره"، وَكَانَ ابن عمر رضي الله عنه يفعله.

(2)

أخرجه الطَّبرانيُّ في "الأوسط"(1/ 147)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"سُتْرة الإمام سترة مَنْ خلفه"، وَضعَّفه الأَلْبَاني في "السلسلة الضعيفة"(3695).

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 143)، حيث قال:"والإجماعُ المتيقنُ الذي لا شك فيه أن سُتْرة المصلِّي لا يكلف أحد من المأمومين اتخاذ سترة أُخرى؛ بل تكفي الجميع سترة الإمام".

ص: 2224

منفردًا، وإن كان يُصلي الفريضة أو كان يُصلي صلاة تطوع؛ فينبغي أن يتخذ له سترةً، ولا ينبغي للمسلم أيضًا أن يمرَّ بين يديه، وقَدْ جاءت أحاديثُ فيها من الوعيد الشديد، ومن التوبيخ للَّذين يمرُّون بين أيدي المصلين

(1)

، كذلك أيضًا وَرَد النهي عن تَخطِّي رقاب الناس وتجاوزها

(2)

.

كَمَا أنَّه لا ينبغي أن تُتْرك الصفوف الأولى خاليةً حتى لا يتسبب ذلك في وجود مَنْ يتخطَّى رقاب الناس، فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم كان يُعْنى بهذا الأمر، وكانت -كما قلنا- تُوضَع له العنزة

(3)

وهي عصا، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يَفْعلون

(4)

، ولذلك جاء في حديثٍ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه في مكان وليس أمامه سترة، فأرادت بهيمة أو بهمة أن تمر، فظلَّ يتقدَّم يدفعها حتى لصقَ بطنه بالجدار

(5)

، وهذا دليلٌ على ردِّ المرور.

(1)

من ذلك ما أخرجه البخاري (510) ومسلم (507)، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لَوْ يَعْلَم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه، لَكَان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمرَّ بين يديه"، قال أبو النضر: لا أدري، أقال: أربعين يومًا، أو شهرًا، أو سنةً.

ومنها: ما أخرجه ابن ماجه (946) عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم أحدكم ما له في أن يمرَّ بين يدي أخيه، معترضًا في الصلاة، كان لأن يقيم مائة عامٍ، خير له من الخطوة التي خطاها"، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(787).

(2)

من ذلك ما أخرجه أبو داود (1118) عن عبد اللَّه بن بسر: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اجلس، فقد آذيتَ"، وقال الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" (1024):"إسناده صحيح على شرط مسلم".

وما أخرجه أبو داود أيضًا (347) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن اغْتسَل يوم الجُمُعة، ومسَّ من طِيبِ امرأته إنْ كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخطَّ رقاب الناس، ولم يَلْغ عند المَوْعظة، كانت كفارةً لما بينهما، ومَنْ لغا وتخطَّى رقاب الناس، كانت له ظهرًا"، وحَسَّنه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(375).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

روي ذلك عن عمر وأنس.

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 248) عن الأسود، قال:"رأيت عمرَ يركز عنزة، ثم صلى إليها، والظعن تمر بين يديه"، وَعَن يحيى بن أبي كثيرٍ، قال:"رَأيْتُ أنس بن مَالِكٍ في المَسْجد الحَرام قد نصب عصا يصلي إليها".

(5)

أَخْرَجه أبو داود (708)، عن عمرو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: "هبطنا مع =

ص: 2225

* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ: المَرْأَةُ وَالحِمَارُ وَالكَلْبُ الأَسْوَدُ).

اختلَف العلماء: هل هناك فرقٌ بين مارٍّ ومارٍّ؟ فهل الإنسان يختلف عن الحيوان؟ وَهَل الذَّكَر يختلف عن الأنثى؟

ذهب الجمهور (أبو حنيفة

(1)

، ومالك

(2)

، والشافعي

(3)

، وهي رواية عن الإمام أحمد

(4)

) وهي الرواية القريبة للنصوص أيضًا، وإن كان وردت نصوص أُخرى لكن فيما يظهر لنا أنه لا يقطع صلاته إذ الذي ورد في ذلك يدل على نقص الصلاة لا بطلانها.

= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر، فحضرت الصلاة يعني: فصلى إلى جدارٍ، فاتخذه قبلةً ونحن خلفه، فجاءت بهمةٌ تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار، ومرت من ورائه"، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" (ص 2).

(1)

يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (1/ 63)، حيث قال:"وإنْ مرت امرأة بين يدي المصلي، لم تقطع صلاته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يَقْطع الصَّلاة مرور شيءٍ"، إلا أن المارَّ آثمٌ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لَوْ عَلِمَ المَارُّ بين يَدَي المصلي ماذَا علَيه من الوِزْرِ لَوَقف أربعين"، وانظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"، (1/ 634).

(2)

يُنظر: "مَوَاهب الجليل" للحطاب (1/ 535)، حيث قال:"ومَا ذكره عن مَالِكٍ، فإن عنى به كون الصلاة لا يقطعها شيء، فَهو مذهبه، لكنه ليس خاصًّا بالمسجد الحرام، بل في سائر الأماكن".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 160)، حيث قال:"مَذْهبنا أنه لا يبطل الصلاة مرور شيءٍ للأحاديث فيه".

(4)

المذهب الحنبلي على أن الكلب الأسود يقطع الصلاة.

يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 132)، حيث قال:"وإنْ مرَّ بينه وبينها أَوْ لم تكن له سترة، فمَرَّ بين يديه قريبًا كقربه من السترة كلب أسود بهيم، وهو ما لا لون فيه سوى السواد، بطلت صلاته".

وَأمَّا المَرْأة والحمار، فَرِوَايَتانِ في مذهب الحنابلة، وستأتي.

ص: 2226

لكن نُقِلَ عن بعض السلف (كالحسن البصري

(1)

؛ وهو من كبار التابعين، وعكرمة

(2)

، وهي رواية للإمام أحمد

(3)

) إلى أنه يقطع صلاته، وإن كانت الرواية التي يرجحها كثيرٌ من الحنابلة ويأخذون بها هي التي تلتقي مع مذهب الجمهور، وهو أن المرور لا يقطع.

وَوَرَد أن الذي تُقْطع الصلاة من أجله هو ما جاء في الحديث: "يَقطعُ الصَّلاةَ المرأةُ، والحمارُ، والكَلبُ الأسوَدُ"

(4)

.

وقَدْ وَرَد ما يعارض هذا الحديث كما جاء في بعض الأحاديث أن عائشة كانت تعترض بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي، وكان إذا سَجَد غَمزَها، فَقَبضت رِجْلَيها، فإذا ما قام، مدَّت رجليها

(5)

.

قوله: (وَصَلَّى إلى السرير)، وَنُقِلَ أيضًا كما في رواية مسروقٍ، أن السيدة عائشة أنكرَت وقالت:"شبَّهتمونا بالحمر والكلاب"

(6)

!

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البرِّ (2/ 84)، حيث قال:"فَقَالت طَائفةٌ: يقطع الصَّلاة على المُصلِّي إذا مرَّ بين يديه الحمار والكلب والمرأة، وممَّن قال بها: أنس بن مالك وأبو الأحوص والحسن البصري".

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 252) عن عكرمة، قال:"يَقْطع الصلاة الكلب، والمرأة، والخنزير، والحمار، واليهودي، والنصراني، والمجوسي".

(3)

سبق ذكر مذهب الحنابلة في قطع الصلاة بمرور الكلب الأسود، وأما قطعها بالمرأة والحمار فروايتان، والمشهور أنها لا تقطع الصلاة.

انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 106) حيث قال: "قوله: (وفي المرأة والحمار روايتان). . . إحداهما: لا تبطل، وهي المذهب نقلها الجماعة عن الإمام أحمد، وجزم به في الخرقي، والمبهج، والوجيز، والإفادات، والمنور، والمنتخب. قال في "المغني": هي المشهورة. . . والرواية الثانية: تبطل اختارها المجد، ورجحه الشارح، وقدمه في المستوعب وابن تميم، وحواشي ابن مفلح، وجزم به ناظم المفردات، وهو منها، واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: هو مذهب أحمد".

(4)

أخرجه مسلم (511).

(5)

أخرجه البخاري (382)، ومسلم (512).

(6)

أخرجه البخاري (514)، ومسلم (512)، عن مسروقٍ، عن عائشة، وذكر عندها ما يقطع الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة، فقالت عائشة: قَدْ شَبَّهتمونا بالحمير =

ص: 2227

وَجَاء أيضًا في حديث الفضل بن عباس أنه قال: أتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بادية في الصحراء، فصلى إلى غير سترة، فكانت أتان وكلبة لنا تعبثان بين يديه

(1)

-وهنا وردت الأتان وهي أنثى الحمار- وقد جاء في الحديث أن الحمار يقطع الصلاة، وهذه كانت ترتع بين يديه.

كَذَلك جَاءَ في حديث عبد اللَّه بن عبَّاس وهو حديثٌ متفقٌ عليه (أنه جَاءَ على حِمَارٍ أتانٍ ورَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بالناس في مِنى، فَنزلَ عن الأتان، وَدَخَل في الصَّفِّ، وكانت الأتان تَرْتع بين بعض الصف)

(2)

.

هنا ظاهر الحديث الأخير هذا أنه كان بين الصفوف، وأنه ليس أمام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

إذن، وَرَدَ هذا، وورد هذا، ومن أصرح الأدلة التي يأخذ بها الجمهور:"لا يقطع الصلاة شيء"

(3)

حديث أبي داود، لكنهم يختلفون فيه صحةً وضعفًا

(4)

.

فَهَذِهِ المسألة فيها خلافٌ، وَالخلافُ فيها ليس كبيرًا، هل مُرُورُ ما ورَد النهي عنه يقطع الصلاة أو لَا؟

= والكلاب، واللَّه لقد "رَأيتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي، وإنِّي على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأَكْرَه أن أجلس فأُوذِيَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأنسل من عند رجليه".

(1)

أخرجه أبو داود (718)، وغيره، ولفظه: عن الفَضْل بن عباس قال: "أتانا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن في باديةٍ لنَا، ومَعَه عباس، فصلَّى في صحراء؛ ليس بين يديه سترةٌ؛ وحمارة وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك". وضعَّفه الأَلْبَانيُّ في "المشكاة"(784).

(2)

أخرجه البخاري (76) ومسلم (504).

(3)

أَخْرَجه أبو داود (719)، وَضعَّفه الأَلْبَاني في "المشكاة"(785).

(4)

ضَعَّفه النوويُّ في "المجموع"(3/ 246)، وَذَكر ابن الجوزي طرق الحديث كلها في "التحقيق في مسائل الخلاف"(1/ 427)، ثم قال:"والجواب أن هذه الأحاديث كلها ضعاف".

ص: 2228

فأَكْثَر العُلَماء على أنَّه (لا يقطع الصلاة إنما ينقصها)، فقد نُقِلَ عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"ينقص نصف الصلاة"

(1)

، ولا شك أنه قَدْ جاء التحذير من المرور، وأن من مرَّ يأثم بذلك إذا كان عالمًا بالنهي والوعيد الوارد فيه، أمَّا إذَا كان ناسيًا جَاهلًا للتحريم، فلا إِثْمَ علَيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطأ والنِّسيان وَمَا استُكْرهوا عليه"

(2)

.

وقَدْ نُقِلَ عن الإمام أحمد في روايته مع الفريق الثاني (أنَّه لما سُئِلَ عن مُرُور الكلب والحمار والمرأة؟! فقال: مرور الكلب يقطع، وقال: في نفسي من الحمار والمرأة شيء)

(3)

؛ لأن الكلب لم يرد أدلة أُخرى تقيده، والأسود خاصة، أما بالنسبة للحمار والمرأة وردت أدلة أُخرى تدل على عدم جواز ذلك.

* قوله: (وَسَبَبُ هَذَا الخِلَافِ: مُعَارَضَةُ القَوْلِ لِلْفِعْلِ).

لماذا خصت هذه الأشياء (المرأة، والحمار، والكلب الأسود)؟

أما عن الكلب، فقَدْ ورد في حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه لما سُئِلَ: ما بال الكلب الأسود من غيره؟ قال: سَألتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عنه، فَقَال:"شَيْطان"

(4)

.

لَيْس مَعْنى ذلك أنه شيطانٌ في ذاتِهِ، لكن العلماء تأوَّلوا ذلك،

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 152)، ونصه:"إنه ليقطع نصف صلاة المرء مرور المرء بين يديه".

(2)

لم يَرِدْ بهذا اللفظ، وإنما أَخْرَجه ابن ماجه (2045) وغيره، ولفظه: عن ابن عباس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّهَ وَضَع عن أُمَّتي الخطأَ، والنِّسيان، وما استُكْرهوا عليه"، وصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح الجامع"(1836).

(3)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه" للكوسج (2/ 640 - 642)، حيث قال:"قلت: ما يقطع الصلاة؟ قال: ما أعلمه يقطعها إلا الكلب الأسود الذي لا أشك فيه، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء".

(4)

أخرجه مسلم (510).

ص: 2229

فقالوا: إنه كثير العقر

(1)

، وليس معنى ذلك أنه عندما يطلق على الشيء لفظة "شيطان" أنه شيطان فعلًا.

فاللَّه سبحانه وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].

فَسُمِّي من الجن شياطين، ولذلك يُسمى المارد من الإنس شيطانًا، وَسَيرد بنا حديث متفق عليه في الَّذي يمرُّ بين يدي المُصلِّي؛ قوله صلى الله عليه وسلم:"فَليُقاتِلهُ، فإنما هو شيطانٌ"

(2)

.

أمَّا بالنسبة للمرأة، فقَدْ ذكرنا أحاديث تدل على أن عائشة كانت معترضةً بين يدي رسول اللَّه

(3)

.

قَالَ العُلَماء: النَّهي عن مُرُور المرأة بين يدي المصلي؛ لأنها تصرف المصلي، وربما يشتغل بها وغيره، ولذَلكَ أجابوا عن حديث عائشة بأن عائشة كانت مع رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَخْتلف عَنْ غيره؛ فأيكم يملك إربه كما كان يملك صلى الله عليه وسلم.

وَكَذلك ورَد فِي الحديث أنَّ ذلك كان في الليل، وليس في البُيُوت مصابيح

(4)

.

أمَّا بالنِّسبة للحمار: فقَدْ وَرَدتْ أحَاديثُ تدلُّ على أنَّ هذه الأشياءَ لا تقطع الصلاة، وَوَرد أيضًا هذا الحديث، وهو يدلُّ على قطع الصلاة، فما الجواب؟

(1)

"عقر الناس": من باب ضَرَب، فَهو عقورٌ، والكَلْب العقور: هو كل سَبُع يعقر من الأسد والفهد والنمر والذئب. والجمع عقر، مثل: رسول ورُسُل. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 421).

(2)

أخرجه البخاري (509) ومسلم (505).

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(4/ 228)، حيث قال:"وصلاته مع أنه كان في الليل والبُيُوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح".

ص: 2230

الَّذين قالوا بأنه لا يقطع الصلاة؛ رَأَوا أن هذا الحديث وهو: "الكَلْبُ الأَسْوَد، والمرأة، والحمار يقطع الصلاة"، منسوخ، وهذا غير صحيح؛ لأن دعوى النسخ إنما يُنْتَقل إليها عندما يتعذر الجمع بين الأدلة، والجمع هنا ممكنٌ، فيحمل ما ورد في هذا الحديث على نقصان الصلاة، وبذلك تلتقي الأدلة، ولا معارضة بينهما.

ودعوى النسخ أيضًا تحتاج إلى معرفة التاريخ، إذ بها يتبين المتقدم من المتأخر، ولا يلزم أيضًا أن يأتي دليل متأخر عن حديث متقدم فيكون ناسخًا؛ لأنه قد يكون مخصصًا له، وقد يكون مطلقًا له، وقد يكون متضمنًا حكمًا آخر.

فالمَسْألةُ لَيْسَت على إطلاقها بأن يُدَّعى بأن حديث عائشة وما في معناه (كحَديث الفضل بن العباس

(1)

، وحديث عبد اللَّه بن عباس

(2)

)؛ أنها ناسخةٌ لحديث قطع الصلاة؛ لأنَّ هذا يُلْجأ اليه إذا تَعذَّر الجمع

(3)

.

فَالعُلَماءُ قَدْ وضعوا مسالك، ووضعوا موازينَ دقيقةً في ذلك، وأنه عندما يُوجَد تَعَارضٌ بين دَليلَين دائمًا يُحَاول أن يُوفق بينهم.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يُنظر: "المجموع" للنووي (3/ 251)، حيث قال: "وأما الجواب عن الأحاديث الصحيحة التي احتجوا بها، فمن وجهين:

أصحهما وأحسنهما: ما أجاب به الشافعي والخطابي والمحققون من الفقهاء والمحدثين: أن المرادَ بالقطع القطعُ عن الخشوع والذكر للشغل بها والالتفات إليها، لا أنها تفسد الصلاة. قال البيهقي رحمه الله: ويدلُّ على صحة هذا التأويل أن ابن عباس أحد رُوَاة قطع الصَّلاة بذلك، ثم رُوِيَ عن ابن عباس أنه حَمَله على الكراهة، فَهَذا الجواب هو الذي نعتمده.

وأمَّا ما يدَّعيه أصحابنا وغَيْرهم من النسخ، فلَيْس بمقبولٍ، إذ لا دليل عليه، ولا يلزم من كون حديث ابن عباس في حجة الوداع وهي في آخر الأمر أن يكون ناسخًا، إذ يمكن كون أحاديث القطع بعده، وقد علم وتقرر في الأصول أن مثل هذا لا يكون ناسخًا مع أنه لو احتمل النسخ لكان الجَمْعُ بين الأحاديث مقدمًا عليه، إذ ليس فيه رد شيءٍ منها، وهذه أيضًا قاعدةٌ معروفةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَم".

ص: 2231

مثلًا نجد من الأدلة: "خَيْرُ الشُّهود الذي يشهد قبل أن يُسْتشهد"

(1)

.

وفي حديثٍ آخَرَ: "شرُّ الشهود الذي يشهد قبل أن يُستشهد"

(2)

.

فهل هذا ناسخ للآخر؟ لا، فيُحْمل حديث:"شرُّ الشُّهُود الَّذي يشهد قبل أن يُستشهد"، على هذا الذي يتسرَّع في الشهادة في أمرٍ يَتَرتب عليه إلحاق ضررٍ بمسلمٍ، ويُحْمل حديث:"خَيْر الشُّهُود الذي يشهد قبل أن يُسْتشهد"؛ على إنسَان يعلم بوجود حقٍّ لأخيه المسلم لو كَتَمه لتضرر، فيأتي فيُعْلنه، فيترتب عليه خيرٌ لأخويه، لأخيه الذي عنده الحق بأن يخرج ذلك الحق من عنده، ولصاحب الحق ليتمتع به، ويستفيد منه، وبذلك أَمْكَن الجمع بينهما.

وكذلك أيضًا وردت أحاديث كثيرة منها: "فِرَّ من المجذومِ فراركَ من الأَسدِ"

(3)

، والأحاديث الأخرى التي تدل على خلاف ذلك

(4)

وهكذا، فالمنهج الصحيح في ذلك أن يسلك دائمًا مسلك الجمع؛ لأن الجمع بين الأدلة سَوَاء كانت في الكتَاب أو في السُّنة؛ فإنه يُعْمل بالأدلة عمومًا،

(1)

أخرجه مسلم (1719)، عَنْ زيد بن خالدٍ الجهنيِّ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألَا أُخْبركُمْ بخَيْر الشُّهَداء، الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها".

(2)

قَالَ الأَلْبَانيُّ في "الضعيفة"(4867): لَا أَصْلَ بهذا اللفظ. . . ثم قال: "وأَقْرَب الألفاظ إليه حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا بلفظ: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم"، واللَّه أعلم؛ أذكر الثالث أم لا، قال: "ثمَّ يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا"، أخرجه مسلم (2535).

(3)

أَخْرَجه أحمد (9722)، وَصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "الصحيحة"(783).

(4)

منها ما أخرجه البخاري (5717)، ومسلم (2220)، عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة"، فقال أعرابيٌّ: يا رسول اللَّه، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال:"فمَنْ أعدى الأول؟ ".

وانظر في الجمع بين هذه الأحاديث "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة (ص 168) حيث قال: "ونحن نقول: إنه ليس في هذا اختلاف، ولكل معنى منها وقت وموضع، فإذا وضع بموضعه، زال الاختلاف".

ص: 2232

وعندما ترجح بينها إنما ترجح لوجود مرجحٍ، والانتقال إلى النسخ إنَّما هو عملٌ ببعضها، وتركٌ للبعض الآخر.

وَلَا شَكَّ أنَّ أسلمَ طَرِيقٍ إنَّما هو الجمع بين الأدلة، وبذلك يُمْكن أن تعمل الأدلة جميعًا، وهو أَوْلَى من أن نأخذ ببعضها، ونترك البعض الآخر.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "يَقْطَعُ الصَّلَاةَ المَرْأَةُ، وَالحِمَارُ، وَالكَلْبُ الأَسْوَدُ"

(1)

).

أما قوله: "معارضة ذلك الفعل للقول"، هَذَا لو لم يرد حديث:"لا يقطع الصلاة شيء"

(2)

، وَهُوَ يريد أن يجعل القول:"يَقْطَع الصَّلاة: المَرأةُ، والحمَار، والكَلب الأسود"، هذا قولٌ، ويريد أن يجعل حديث عائشة وقصَّة اعتراضها بين يَدَي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَحَديث الفضل بن عباس، وَكَذلك حديث عبد اللَّه بن عبَّاس، هذه أفعال، فيريد أن يوازن بين الفعل والقول، وأيهما يقدم؟ لكنه ورد حديث:"لا يَقْطع الصلاة شيءٌ"، إذن ورد قولٌ؛ فليست القضية كما يقول المؤلف أن سبب الخلاف معارضة القول للفعل.

* قوله: (وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ وَالبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِضَةً كَاعْتِرَاضِ الجِنَازَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي"

(3)

).

هَذَا الحديثُ وَرَد بألفاظٍ متعددةٍ في (البخاري ومسلم وعند أصحاب السنن

(4)

، وأحمد

(5)

، وغير هؤلاء

(6)

)، وَلَكن المؤلف جاء بلفظٍ مِنَ

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري (383)، ومسلم (512)، واللفظ له.

(4)

أخرجه أبو داود (712)، والنسائي (755)، وابن ماجه (956).

(5)

في "مسنده"(25637).

(6)

منهم ابن حبان في "صحيحه"(6/ 111)، وابن خزيمة في "صحيحه"(2/ 18).

ص: 2233

الألفاظ التي اشتملت على الغرض المقصود، والأحكام المترتبة، والَّتي استفادوا بها من هذا الحديث، جَاءَ به ليكون دليلًا على المسألة.

كذلك جَاءَ أيضًا: (أنَّها على سَرِيرٍ، وأن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي، وأنها كانت تذهب حتى لا تشغل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

* قوله: (وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ الجُمْهُورِ عَنْ عَلِيٍّ

(2)

، وَعَنْ أُبَيٍّ

(3)

).

رَوَى أيضًا عن السلف آراء لهم مثل قول الجمهور، ومن أدلة الجمهور حديث الفضل بن عباس، ويرونه من أقوى أدلتهم في هذه المسألة عندما قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بادية في الصحراء، فقام إلى غير سترةٍ فصلى والناس وراءه، فكانت أتان وكلبة تعبثان بين يديه ولا يبالي"

(4)

.

ووجه الدلالة في الحديث: "ولا يبالي"، وقد أجاب عنه بعض العلماء

(5)

، وَقَالوا: ذلك في أول الأمر، وقبل مشروعية السترة، وجاء في حديث عبد اللَّه بن عباس الذي أوردناه قبل قليل في مِنًى أنه:"نَزلَ عن الأتان، وكانت تَرْتع بين الصُّفوف"

(6)

، لَكن هذَا ليس أمَام الإمام.

(1)

أخرجه مسلم (512).

(2)

أَخْرَجه مالكٌ في "الموطإ" بلاغًا (40)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 250).

(3)

لم أقف عليه.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

الَّذين قالوا بالنسخ قالوا بنَسْخ أحاديث قطع الصلاة بما جاء في حديث ابن عباس في منى، وقد نَسَبه النوويُّ لبعض الشافعية.

يُنْظَر: "المجموع" للنوويِّ (3/ 251)، حيث قَالَ:"وأمَّا ما يَدَّعيه أصحابنا وغيرهم من النَّسْخ، فليس بمَقْبولٍ، إذْ لا دليل عليه، ولا يلزم من كون حديث ابن عباس في حجة الوداع، وهي في آخر الأَمْر أن يكونَ ناسخًا؛ إذ يمكن كون أحاديث القطع بعده، وقَدْ علم وتقرَّر في الأصول أن مثل هذا لا يكون ناسخًا مع أنه لو احتمل النسخ لَكَان الجمع بين الأحاديث مقدمًا عليه، إذْ ليسَ فيه ردُّ شيءٍ منها، وهذه أيضًا قاعدةٌ معروفةٌ، واللَّه أعلم".

(6)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2234

وَجَاء أيضًا في حَدِيثٍ آخَر أوردناه أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم ردَّ بهمةً أو بهيمةً حتى لصق بطنه الجدار

(1)

.

فالشَّيْءُ الذي ننتهي إليه هُوَ أهمية السُّترة، وأنها مشروعةٌ، وأنه ينبغي للإنسان أن يعتني بها، ولا ينبغي أيضًا للمسلم الآخر المار أن ينتهك حرمة أَخِيهِ المسلم.

* قوله: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي كَرَاهِيَةِ المُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ المُنْفَرِدِ وَالإِمَامِ إِذَا صَلَّى لِغَيْرِ سُتْرَةٍ أَوْ مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ)

(2)

.

فَهَذا أمرٌ مُسلَّمٌ به بين العلماء في أنه يُكْره للمار أن يمرَّ بين المُصلِّي وبين سترته، كما أنهم يُطَالبون المصلي أن يتخذ سترةً، فلا يُعرِّض نفسه للمرور بين يديه أي: إذا أراد الإنسان أن يُصلي فليتخذ سترةً؛ وقايةً له من أن يمرَّ أحد بينه وبين يديه، ولكن إن مرَّ بينه وبين يديه فإنه يدفعه، فإن أبى فليقاتله كما سيأتي في الحديث

(3)

.

وهذه السترة كما سبق أن تكلمنا عنها في أوائل أبواب الصلاة، وبيَّنا أن العلماء حددوا ذلك، واختلفوا في مقياسها، هل ارتفاعها ذراع أو ثلثا ذراع، أو أقل أو أكثر؟ وتكلموا أيضًا عما يَقَع بين المصلي وبين سترته من مَسَافةٍ، وقَدْ ثبت في الحديث الصحيح:"أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بينه وبين سترته ممر الشاة"

(4)

، قدرها بعض العلماء بثلاثة أذرع

(5)

.

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

ينظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 142)، حيث قال:"واتفقوا على كراهة المرور بين يدي المصلي وسترته، وأن فاعل ذلك آثم".

(3)

سيأتي ذكر مذاهب العلماء في دفع المارِّ بين يدي المصلي.

(4)

أخرجه البخاري (496)، ومسلم (508).

(5)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 142)، حيث قال:"واتفقوا على أن مَنْ قرب من سترته ما بين ممرِّ الشاة إلى ثلاثة أذرع، فقد أدى ما عليه"، وانظر:"فتح الباري" لابن حجر (1/ 575).

ص: 2235

فهناك سترةٌ، وهذه السترة تُعْطي الإنسانَ فرصةً ليسجد وهو مطمئن، فهي مُرغَّبٌ فيها، وحضَّ عليها الرَّسول صلى الله عليه وسلم.

فالحَنابلَة يَأْخُذُون بذلك

(1)

، وغَيْرهم لا يأخذ به

(2)

، فإذا لم يجد

(1)

أي مذهب الحنابلة: أنه إن لم يجد شاخصًا يستتر به، فليخطَّ خطًّا، فالظاهر أن الكلام فيه سقطٌ.

ويُنْظَر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 131، 132)، حيث قال:"فَإنْ لم يجد شاخصًا وتعذَّر، غرز عصا ونحوها، وعرضًا أعجب إلى أحمد من المطول، ويكفي خيط ونحوه، وما اعتقده سترة، فإن لم يجد، خطَّ خطًّا كالهلال".

وهي رواية عند الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 637)، حيث قال:" (قوله: وقيل: يكفي)، أي: كل من الوضع والخط: أي: يحصل به السُّنَّة، فيُسَن الوضع كما نقله القدوري عن أبي يوسف، ثم قيل: يضعه طولًا عرضًا؛ ليكون على مثال الغرز، ويُسَن الخط كَمَا هُوَ الرِّواية الثانية عن محمد؛ لحديث أبي داود: "فَإِنْ لَمْ يكن معه عَصا فليَخُطَّ خطًّا"، وهو ضَعيفٌ، لَكنه يجوز العمل به في الفَضَائل".

وَأَخَذ به الشافعيُّ أيضًا في القديم. يُنظر: "منهاج الطالبين" للنووي (ص 32، 33) حيث قال: "ويُسَن للمصلي إلى جدارٍ أو ساريةٍ أو عصا مغروزةٍ أو بسط مصلى أو خط قبالته دفع المار".

(2)

مذهب الحنفية في رواية، والمالكية، ورواية عند الشافعية: أنه لا يخط خطًّا إن لم يجد شاخصًا.

يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (1/ 637)، حيث قال:" (قوله: ولا يكفي الوضع)، أي: وضع السترة على الأرض إذا لم يمكن غرزها، وهذا ما اختاره في الهداية، ونسبه في غاية البيان إلى أبي حنيفة ومحمد، وصَحَّحه جماعةٌ منهم قاضي خان معللًا بأنه لا يفيد المقصود بحر (قوله: ولا الخط)، أي: الخط في الأرض إذا لم يجد ما يَتَّخذه سترة، وهذا على إحدى الروايتين أنه ليس بمسنونٍ، ومشى عليه كثيرٌ من المشايخ، واختاره في "الهداية"؛ لأنه لا يحصل به المقصود، إذ لا يظهر من بَعِيدٍ".

ويُنظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(1/ 246)، حيث قال:" (و) لا (خط) يخطُّهُ من المشرق للمغرب أو من القبلة لدُبُرها".

وَيُنْظر: "المَجْموع" للنوويِّ (3/ 247)، حيث قال:"فَإن لَمْ يجد شيئًا شاخصًا، فهل يستحبُّ أن يخطر بين يديه، نص الشافعي في القديم، وسنن حرملة أنه يستحبُّ، وفي البويطي لا يستحب".

ص: 2236

سترةً، وَضَع شيئًا يقيمه أمامه، عصا، أو يخط خطًّا، أو نحو ذلك، وسر الخلاف: أن الحنابلة يصححون الحديث

(1)

، وغيرهم يضعِّفونه

(2)

، والواقع أن الإنسان إذا لم يجد وهو في صحراء مثلًا فيَنْبغي أن يخطَّ خطًّا.

* قوله: (وَلَمْ يَرَوْا بَأْسًا أَنْ يَمُرَّ خَلْفَ السُّتْرَةِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيِ المَأْمُومِ؛ لِثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالَ:"أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصُّفُوفِ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ أَحَدُ"

(3)

).

أتانٌ

(4)

وهي أنثى الحمار. "نَاهَزتُ"

(5)

، أَيْ: قاربت الاحتلام. تَرْتَع أي: تسير على راحتها.

(1)

يعني بذلك: الذي أخرجه أبو داود (689) عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلَّى أَحدكُمْ، فَلْيجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا، فليخطط خطُّا، ثم لا يضره ما مَرَّ أمامه".

(2)

ضَعَّفه ابْنُ عابدين في "رد المحتار"(1/ 637)، حيث قال:"وهو ضعيف، لكنه يَجُوز العمل به في الفضائل".

وانظر: "المجموع" للنووي (3/ 246)، حيث قال:"وحديث أبي هريرة في الخط رواه أبو داود وابن ماجه. قال البغوي وغيره: هو حديث ضعيف، وروى أبو داود في "سننه" عن سفيان بن عيينة تضعيفه، وأشار إلى تضعيفه الشافعي والبيهقي وغيرهما. قال البيهقي: "هذا الحديث أخذ به الشافعي في القديم وسنن حرملة"، وقال في البويطي: ولا يخطُّ بين يَدَيه خطًّا إلا أن يكون في ذلك حديث ثابتٌ فيتبع. قال البيهقي: "وإنَّما توقَّف الشافعي في الحديث لاختلاف الرُّواة على إسماعيل بن أمية أحد رواته"، وقال غَيْر البيهقي: هو ضعيفٌ لاضطرابه. . وضعَّفه الأَلْبَاني في "ضعيف أبي داود" (107)، (ذكر الشارح أن بعض أهل العلم ضعفوا الحديث، فهذا تفصيل لمَنْ ضعفه من الأئمة).

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

"الأتان": الحمارة، والجمع آثن، انظر:"لسان العرب" لابن منظور (13/ 6).

(5)

"نَاهَزَ فلانٌ الحُلُمَ"، أي: قَارَبه. وناهز الصبي البلوغ، أي: دَانَاه. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 421).

ص: 2237

وقَدْ وقع خلاف بين العلماء لما تُوفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كم كان عُمُرُ ابن عباس وقتئذٍ أهي عشر سنوات؟ أم اثنتا عشرة سنة؟ أم خمس عشرة سنة؟ وقد رجَّح الإمام أحمد أنه عندما مَاتَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان عمره خمس عشرة سنة

(1)

.

وَالحديثُ هنا يُشير إليه بقوله: "ناهزت الاحتلام"، وذلك في مِنى، والرسول صلى الله عليه وسلم حج ولم تمضِ إلا أشهر وتُوفِّي صلى الله عليه وسلم، إذًا ابن عباس الأقرب أنه كان في سن الخامسة عشرة من عمره.

قَوْله: (وَهَذَا عِنْدَهُمْ يَجْرِي مَجْرَى المُسْنَدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى كرَاهِيَةِ المُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي، لِمَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ"

(2)

).

الوعيد جَاءَ في عدة أحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ يَعلَمُ المارُّ بين يدَيِ المُصلِّي مَاذَا عليه، لَكَان أن يَقِفَ أربعينَ خيرًا له من أن يمُرَّ بين يدَيه"

(3)

.

و"لو" يجوز استعمالها، وفيها كلام معروف، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول أيضًا:"لوِ استَقْبَلتُ مِنْ أَمرِي ما استدبَرتُ لما سُقْتُ الهَدْيَ، وَلَجَعلتُها عُمْرةً"

(4)

.

(1)

يُنْظَر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 90، 91)، حيث قال:"فإن المحفوظ الصحيح أنه وُلدَ بالشِّعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذَلكَ قطع أهل السير، وصَحَّحه ابن عبد البَر، وأورد بسندٍ صحيحٍ عن ابن عباس أنه قال: "ولدت وبنو هاشم في الشعب"، وهذا لا ينافي قوله: "ناهزت الاحتلام" أي: قاربته، ولا قوله: وَكَانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك؛ لاحتمال أن يكون أدرك فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع. وأما قوله: وأنا ابن عشرٍ، فمَحْمولٌ على إلغاء الكسر.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري (510)، ومسلم (507).

(4)

أخرجه البخاري (1651)، ومسلم (1218).

ص: 2238

وَفِي هَذَا المقام يَجُوز استخدامها، وسُئِلَ الرَّاوي عن ذلك؛ أربعين ماذا؟ شكٌّ من الراوي، هل قال: أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين سنةً

(1)

.

وَجَاء في حَدِيثٍ آخَرَ عند ابن ماجه وغيره: "مئة عامٍ"

(2)

.

فلو أخذنا بأقل مقدار وأقل زمن، ألا وهو أربعون يومًا؛ لكان ذلك من أشقِّ الأشياء عليه، أي: أن يقف الإنسان أربعين يومًا ينتظر هذا المصلي ليفرغ من صلاته أهون له وخيرٌ له من أن يمر بين يديه.

والحديث: "لو يَعْلَمُ المارُّ بينَ يدَي المصلِّي ماذا عليه"، أَيْ: مقدار ماذا عليه من الإثم، وقَدْ جاء التصريح به في بعض الأحاديث: "لَوْ يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم

(3)

-ماذا سيلحقه من الإثم- لكان خيرًا له أن يقف مدةً طويلةً كانت خيرًا له من أن يمرَّ بين يدي المصلي".

إذًا، في هذا وعيدٌ شديدٌ، وفيه تحذيرٌ أكيدٌ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للذين يَتسَاهلون فيَمرُّون بين أيدي المصلين، فيُحَاولون أن يقطعوا عليهم صلاتهم.

وقَدْ ورد أيضًا في أثرٍ عن أبي سعيد أنه كان يُصلي، فأراد شاب أن يمر بين يديه فدفعه، ثم أراد أن يمر فدفعه، فغضِب الشاب وأخذ يتكلم، فدخل على مروان يشكو أبا سعيد، فلما جاء أبو سعيد ذكر له مروان بن الحكم ذلك، فأورد أبو سعيد حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لو يَعلَمُ المارُّ بين يدَي المُصلِّي ماذا عليه -يعني من الإثم- لَكَان أن يَقِفَ أربعينَ خيرًا له من أن يمُرَّ بين يدَيه"

(4)

.

(1)

في رواية البخاري (510): "قال أبو النضر: لا أدري، أقال: أربعين يومًا، أو شهرًا، أو سنةً".

(2)

أخرجه ابن ماجه (946) وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ فى "المشكاة"(787).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 253).

(4)

أخرجه البخاري (510)، ومسلم (507).

ص: 2239

فالأَمْرُ خطيرٌ، وَنَجن نتساهل في هذا، وربما يمر الإنسان ولا يُلْقي بالًا لذلك الأمر، فأنت بذلك شَوَّشت على أخيك المسلم، وأثَّرت عليه، فينبغي أن تحفظَ له هذا المقام، فيَنْبغي للمُصلِّي ألا يُعرِّض إخوانَه المسلمين لمِثْلِ ذلك، ولكن بعض المواضع تختلف أحيانًا، فيُكْره أَخُوك على المرور، فمثلًا أحيانًا يكون الإنسان في حَرَم مكة

(1)

، أو في المدينة كما تعلمون، والناس كُثُر، ويشقُّ على الإنسان ألا يمرَّ، فقد تكلم العلماء عن هذه الأماكن التي يزدحم فيها. الناس، وقالوا: ربما يتسامح فى ذلك قَدْر الإمكان

(2)

، أمَّا في المواضع التي تستطيع أن تُتَجنَّب فلا.

ولذلك، جاء أيضًا في الحديث الآخر: "إذا جغل أحدُكُم سترةً بين

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 501، 502)، حيث قال:"إذا صلى في المسجد الحرام ينبغي ألا يمنع المارَّ لهذا الحديث، وهو محمول على الطائفين؛ لأنَّ الطواف صلاة، فصار كمَنْ بين يديه صفوف من المصلين. . . حكى عز الدين بن جماعة عن "مشكلات الآثار" للطحاوي أن المرور بين يدي المصلي بحَضْرة الكعبة يجوز. اهـ".

ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 535)، حيث قال:"وسُئِلَ مالكُ عن مكَّة والمرور بها بين يدي المصلي في المسجد، أترى أن يمنع منها بمثل ما يمنع من غيرها؟ قال: نعم، إنِّي لأَرَى ذلك إذا كان يصلي إلى عمودٍ أو سترةٍ، ولا أدري ما الطواف، كأنه يُخفِّفه إنْ صلى إلى الطائفين. قال محمد بن رشد في قوله: "إذا كان يصلي إلى عمود أو سترة"، دليلٌ على أنه إذا صلى في المسجد الحرام إلى غير سترة، فالمرور بين يديه جائز، وليس عليه أن يدرأ مَنْ يمرُّ بين يديه بخلاف المصلي في غير المسجد الحرام إلى غير سترة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 375) حيث قال: " (أو يكن في مكة المشرفة فلا) يردُّ المار بين يديه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "صلى بمكة والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة".

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 56) حيث قال: "وكذا لو قصر المصلي بأن وقفَ في قارعة الطريق أو بشارع أو درب ضيق أو نحو باب مسجد كالمحل الذي يغلب مُرُور الناس به في وقت الصلاة، ولو فِي المسجد كالمطاف، وكأن ترك فرجةً في صف أمامه، فاحتيج للمرور بين يديه لفرجةٍ قبله، فلا يحرم المرور في جميع ذلك، ولو فِي حَريم المُصلِّي".

ص: 2240

يديه، فأراد أحد أن يمرَّ بينه وبينها، فَلْيَدْفعه، فإن أبى فليُقَاتله، فإنما هو شيطانٌ"

(1)

.

ولقَدْ جَاء المؤلف بالشطر الثاني من الحديث، فَقَال:"فليُقَاتله، فَإنَّما هو شيطانٌ"، فالرَّسول صلى الله عليه وسلم شبَّه الذي يمر بين يدي المصلي بأنه شيطانٌ، فإذَا صلَّى أحدٌ، فَجَعل بينه وبين القبلة ما يستره، فأراد أحدٌ أن يمر بينه وبين سترته "فليدفعه"، وفي بعض الرِّوايات:"فَلْيَدفع بنحره"

(2)

، وهذا في "الصحيحين"، "فَإِنْ أبَى فليُقَاتله، فإنما هو شيطانٌ".

في آخر الحديث: "فَإِنْ أبَى -أي: امتنع- فليُقَاتله، فانما هو شيطانٌ"، هذا يَتَرتب عليه كثيرٌ من الأحكام. لم يذكرها المؤلف.

فإذا أراد أن يمرَّ فَدَفعته فمرَّ:

* بعض العلماء

(3)

يقول: ترده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فليدفعه، فإن أبى فليقاتله"، فلو تجاوز يرده.

* والبعض يقول: لو رَدَّه لكان مرورًا آخر.

* والبعض يقول: لا يؤخذ بلفظ الحديث

(4)

.

ومهما يَكُنْ من أمرٍ، فالأمر فيه خطورة، وفيه وعيدٌ شديدٌ لمَنْ يفعل

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم (505).

(3)

أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 252)، عَن ابْن مَسْعودٍ أنه كان إذا مرَّ أحدٌ بين يديه وهو يصلي، التزمه حتى يرده، ويقول: إنه ليقطع نصف صلاة المرء مرور المرء بين يديه.

ومثله عن سالم بن عبد اللَّه أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 25).

(4)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 181، 182)، حيث قال:"فَإِنْ مرَّ بين يديه إنسان فعَبَر، لم يستحب رده من حيث جاء. . . ولنا أن هذا مرور ثانٍ، فينبغي ألا ينسب إليه كالأول، ولأن المار لو أراد أن يعود من حيث جاء لكان مأمورًا بمنعه، ولم يحلَّ للعابر العود، والحديث لم يتناول العابر، إنما في الخبر: "فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه"، وبعد العبور فليس هذا مريدًا للاجتياز".

ص: 2241

ذلك، فإن أبى (أي: المار)، وأصرَّ على أن يمر فمر، فإنما هو شيطانٌ.

وليس المراد أنه "شيطان" فعلًا، وإنما أُجيب عن ذلك: بحَمْل هذا الفعل على فِعْلِ الشيطان، أي: أن الشيطان لا يريد بالمسلم خيرًا، وهو يعلم أن أقرب وسيلةٍ تربط المرء بربه إنما هي هذه الصلاة، وهذه الصلاة فيها السجود، وأن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد

(1)

، وأن الإنسان في هذه الصلاة قد طرح الدنيا وَرَاءه، واتجه إلى اللَّه سبحانه وتعالى بقلبٍ سليمٍ منيبٍ، وأنه بذلك قد مرَّغ أشرف ما في بدنه ألا وهو الوجه، فسجد للَّه خاضعًا منيبًا منقادًا مُطرحًا بين يديه.

فالشيطان لا يُسَر إذا رأى المسلم في هذه الحالة، فهو يبذل كل طاقته ليُشوِّش على المسلم، فيُفْسد عليه صلاته، فيلبس عليه فيها حتى يتردَّد، وقَدْ مرَّ أمثلةُ كثيرةٌ من ذلك أنَّ الشيطان يُحَاول أن يشوِّش على الإنسان حتى يزيد أو ينقص في صلاته، وأن الإنسان إذا تردَّد، فإنه يجبر صلاته:"إذا شَكَّ أحدُكم في صلاتِهِ، فلم يَدْرِ كم صلَّى ثلاثًا أمْ أربعًا؟ فليطرَحِ الشَّكَّ، وليبنِ على ما استيقنَ"

(2)

، وبيَّن أنَّ ذلك يكون ترغيمًا للشيطان، ودحرًا له.

إذًا، الشيطان يحمل الإنسانَ على هذا الفعل -فإنَّما هو شيطانٌ- أَيْ: حمله شيطانٌ على هذا الفعل؛ لأنَّ الشيطان لا شكَّ يَسْعى إلى الإغواء، قال تعالى:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83].

فمَنْ يعمل هذا؛ كأن الشَّيطانَ حمَله على ذلك، وانقاد له، وامتثل

(1)

أخرجه مسلم (482)، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدعاء".

(2)

أخرجه مسلم (571)، ونصه:"إذا شكَّ أحدكُمْ في صلاته، فلم يدركم صلَّى، ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فإن كان صلى خمسًا، شفعن له صلاته، وإنْ كان صلى إتمامًا لأربعٍ، كانتا ترغيمًا للشيطان".

ص: 2242

لمذهبِهِ، أو ربما -فإنَّما هو شيطانٌ- أي: فِعلُهُ فِعْلُ الشَّيطان.

* وبَعْضهم قال

(1)

: المُرَادُ بذلك القرين -فإنَّما هو شيطانٌ- أَيْ: قرينه، وقَدْ ورد التنصيص على ذلك في "صحيح مسلم":"فَإِنْ أبَى فليُقَاتله، فإنَّ معَه القرين"

(2)

أي: قرينه.

فَهَذه المسألة تدلُّ على خطورة المُرُور، وربما أطلنا عليها، وقد نراها سهلةً يسيرةً نعرفها، لكنها مسألةٌ لها أهميةٌ عظيمةٌ، والمسلم في هذه الحياة عندما يأتي إلى بيتٍ من بُيُوت اللَّه، جاء يطلب الأجر، يسعى إلى الثواب، يريد أن يطلب ما عند اللَّه، فهو في هذه الحالة قدم الباقية على الفانية، تركتَ الفانيةَ وراءك، وأعرضتَ عن أمور الدنيا، وتركتها وراءك ظهريًّا، وَجئت تَطْلب الأجرَ والثوابَ من اللَّه سبحانه وتعالى.

فَعَليك أن تَعُودَ بِثَوَابٍ جزيلٍ من اللَّه سبحانه وتعالى، فلا تُعرِّض نفسك لمثل هذه الأمور، وما يَمْنعك أن تمكثَ قليلًا في المسجد، فتُعْطي إخوانك المسلمين فرصةً ليُصلُّوا صلواتهم حتى لا تقعَ في المحظور، ولا تتسبب في نقصان صلاتهم، وقَدْ رأينا أن ابن مسعود رضي الله عنه نُقِلَ عنه أنه قال:"ينقص نصف الصلاة"

(3)

.

وَالعُلَماء كلهم مُتَّفقون على عدَم بطلان الصلاة

(4)

، فالقصد بذلك النقص أي: يلحق الصلاة نقص؛ سواء كان النقص في الثواب، أو في غير ذلك.

(1)

يُنْظَر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 223) حيث قال: "قال القاضي: قيل: معناه إنما حَمَله على مروره وامتناعه من الرجوع الشيطان. وقيل: معناه يفعل فعل الشيطان؛ لأن الشيطان بعيدٌ من الخير وقبول السنة. وقيل: المراد بالشيطان القرين، كما جاء في الحديث الآخر: "فإن معه القرين"، واللَّه أعلم".

(2)

أخرجه مسلم (506).

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 142)، حيث قال:"واتفقوا أن ما عَدَاه المرأة والكلب والحمار والهر والمشرك لا يقطع الصلاة".

ص: 2243

كذلك نَحْن نعلم أن الصلاة ثوابها يزداد وينقص بسبب الخشوع؛ ولذلك ممن أثنى اللَّه سبحانه وتعالى عليهم: (المؤمنون)، وأثنى على الخاشعين في صلاتهم، يقول سبحانه وتعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2] إلى أن قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 10 - 11].

إذًا، كُلَّما خشعَ قلب الإنسان، خشعت جوارحه، وَسَكنت وازداد ثوابه، وَكلَّما ضعف وقلَّ خشوعه، سَيْطر عليه الشيطان، وبدأ يكثر الحركةَ والتقلبَ، وانصرف ذهنه، وَخَرج إلى أمور الدنيا، وبدأ يبيع ويشتري ويُسَافر، وينزل، وربما يُخَاصم، وربما يدرس قَضَايا طويلةً، وربما يدخله الشَّيطان في قضايا تعقَّدت عليه قبل الصلاة، فتدخل عليه الأفكار، فيشتغل فيها، فلَوْ سألته: ماذا قرَأ الإمام؟ يَقُولُ: لا أدري، ماذا فَعَل الإمام؟ يَقُول: لا أدري، أي: يبقى صورة دون أن يخضع قلبه لذلك العلم.

ولذلك، لما رأى الصحابي عمر رضي الله عنه ذلك الرجل الذي يُكْثر الحركة قال:"لَوْ خَضَع قلبُهُ، لَخَضعت جوارحُهُ"

(1)

.

فَنَتبيَّن من هذا أيضًا أهميَّة المحافظة على حُرْمة المسلم، وعَدَم المرور بينه وبين سترته، وَإِنْ لم تكن له سترةٌ؛ فَلْيُحَاول المسلم ألَّا يمرَّ بين يديه، كَذَلك ينبغي للمصلي أن يبحث عن مكانٍ يجد فيه ما يستره عن مرور الناس.

* قوله: (وإنَّمَا اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى كَرَاهِيَةِ المُرُورِ بَيْنَ يَدَي المُصَلِّي، لِمَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إذا صَلَّى أحدُكُم إلى شيءٍ يستُرُهُ، فأرادَ أحَدٌ أنْ يمرَّ بين يديْهِ، فليدفَعْهُ، فَإنْ أبَى فَليُقاتِلْهُ، فإنَّما هو شَيْطانٌ").

(1)

المعروف أنَّه من قول سعيد بن المسيب، وأَخْرَجه ابن أبي شيبة (2/ 86)، وروي مرفوعًا. وقال الأَلْبَانيُّ في "الإرواء" (373):"لا يصح لا مرفوعًا، ولا موقوفًا، والمرفوع أشد ضعفًا، بل هو موضوع".

ص: 2244

بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم المقاتلةَ للمارِّ، ونَفْهم من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم حضَّ على السترة، وبعض الروايات عند مسلم:"فليدفع بنحره"

(1)

، ولذلك تكلم العلماء في لو أن إنسانًا أراد أن يمر بين يدي المصلي، هل هناك مراحل يتخذها معه؟ بمعنى يدفعه قليلًا؟

يختلف الأمر إذا كانت هناك سترة أم لا

(2)

، فبعض العلماء قال: إذا كان يَتنَاوله، دَفَعه، وإذا كان لا يَصلُ إليه، فإنَّه يُشير إليه أو يُسبِّح

(3)

، وَوَرد أن الإنسان إذا نابه شيءٌ في صلاته، فليُسبِّح الرجال، ولتصفق النساء

(4)

، فالعلماء يُفرِّقون بين إنسانٍ له سترة، وإنسان ليس له سترة، فيقولون: مَنْ يضع سترةً يتقي بها مرور غيره؛ فأمره أشدُّ، وخطره أكبر، فإذا أرَاد إنسان أن يمرَّ بينه وبين سترته، يدفعه قليلًا؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"فإنْ أَبَى فليُقَاتله".

فائدة لُغوية: صيغة المفاعلة تدل على أن اثنين اشتركا في الفعل، ولذلك يُنكر العلماء على أن تقول مثلًا: قاتل أو ضارب في أمرٍ يكون فيه واحد، أو تقول: ساهم وأنت تتحدث عن واحدٍ، إنما تقول: أسهم، إنما

(1)

أخرجه مسلم (505/ 259).

(2)

يُنظر: "المجموع" للنووي (3/ 249)، حيث قال:"أما إذا لم يكن بين يديه سترة، أو كانت وتباعد عنها، فوجهان، أحدهما: له الدفع لتقصير المار، وأصحهما: ليس له الدفع لتقصيره بتَرْك السترة، ولمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم إلى شيءٍ يستره"، ولا يحرم في هذه الحالة المرور بين يديه، ولكن يُكْره".

(3)

يُنظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 223) حيث قال: "قال القاضي عياض:

وكذا اتفقوا على أنه لا يَجُوز له المشي إليه من موضعه ليرده، وإنما يدفعه ويرده من موقفه؛ لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مُرُوره من بعيد بين يديه، وإنما أُبِيحَ له قدر ما تناله يده من موقفه، ولهذا أُمِرَ بالقرب من سترته، وإنما يرده إذا كان بعيدًا منه بالإشارة والتسبيح".

(4)

أخرجه البخاري (1218)، ومسلم (421)، ولفظ مسلم: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ مَنْ نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيح للنساء".

ص: 2245

يَحْصل ذلك فى الأمور المشتركة

(1)

، فَجَاء فى الحديث:"فَلْيُقَاتله"، إذا كان هناك دافعٌ يدفعه، فإن أبى فليقاتل.

وبَعْضُ العلماء يقول: ليس المراد من ذلك القتل المعروف، لأنه يؤدي إلى ذهاب حياته، كما ذكر القاضي عياض في شرحه لـ "صحيح مسلم"

(2)

.

وبعض العلماء قال: لا يدفعه، فإن أبى فليدفع أكثر، فإن انتهى الأمر إلى أن يدفعه بقوة، فلو ذهب فإنه يذهب دمه هدرًا، ولا دية عليه

(3)

.

(1)

يُنظر: "شرح شافية ابن الحاجب" لركن الدين الإستراباذي (1/ 253)، حيث قال:"اعلم أن "فاعل" يأتي لمعانٍ، أحدها: أن يأتي غالبًا لنسبة مصدر الفعل الثلاثي إلى أحد الأمرين متعلقًا بالأمر الآخر "مشاركًا له". . . نحو: ضارب زيد عَمرًا، فإن "ضارب" لنسبة الضرب إلى زيدٍ، متعلقًا بعمرٍو، مشاركًا له صريحًا. . . ".

(2)

يُنظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 419)، حيث قال:"وأجمعوا على أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح، ولا ما يؤدي إلى هلاكه، فإن درأه بما يجب فهلك من ذلك، فلا قود عليه باتفاق، وهل فيه دية أو هو هدر؟ فيه للعلماء قولان، وهما في مذهبنا أيضًا، وكذلك اتَّفَقوا أن هذا كله لمَنْ لم يعزر بصلاتِهِ، واحتاط لها، وصلَّى إلى سُتْرةٍ، أو فِي مكانٍ يَأْمن المرور بين يديه".

(3)

يُنظر: "المجموع" للنووي (3/ 249)، حيث قال:"ويدفعه دفع الصائل بالأسهل ثم الأسهل، ويزيد بحَسَب الحاجة، وإنْ أدى إلى قتله، فإن مات منه، فلا ضمان فيه كالصائل".

ومذهب الحنفية على خلاف ذلك، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 637، 638)، حيث قال:" (قوله: فلو ضربه. . . إلخ). . . صرَّحوا في كتبنا بأنه رخصة، والعزيمة عدم التعرُّض له، فحيث كان رخصة يتقيد بوصف السلامة، أفاده الرحمتي بل قولهم: "ولا يزاد على الإشارة" صريح في أن الرخصة هي الإشارة، وأن المقاتلة غير مأذون بها أصلًا. . . فإذا كانت المقاتلة غير مأذونٍ بها عندنا، كان قتله جناية يلزمه موجبها من دية أو قود".

وَمَذْهب المَالكية: فيُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 246)، حيث قال: "ولو دفع، فأتلف له شيئًا كما لو خرق ثوبه أو سقط منه مال، ضمن على المعتمد، ولو دفعه دفعًا مأذونا فيه كما قاله ابن عرفة، ولو دفعه فمات، كانت ديته على عاقلة دافعه على المعتمد؛ لأنه لما كان مأذونًا له فيه في الجملة، صار =

ص: 2246

وَيَخْتلفون في الدية، وهذه مسائلُ جزئيةٌ لَمْ يعرض لها المؤلف، لَكننا عرضنا لها لنُبيِّن أهميَّة الأمر.

فَالرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بيَّن أنَّ مَنْ يمرُّ بين يدي المصلي شيطانٌ، وأن عليه أن يدفعه، وأنه إذا أبى أن يرتدع من الدفع؛ فليُقَاتله، وهذا يدلُّ على خطورة الأمر وأهميته.

* قوله: (المسألة الثالثة اخْتَلَفُوا فِي النَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَوْمٌ كَرِهُوهُ، وَلَمْ يَرَوْا الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ وَقَوْمٌ أَوْجَبُوا الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ نَفَخَ، وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُسْمَعَ أَوْ لَا يُسْمَعَ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ النَّفْخِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا أَوْ لَا يَكُونَ كَلَامًا. المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الضَّحِكَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ).

حَكَى ابْنُ المُنْذر إجماع العلماء على أن الضحكَ يقطع الصلاة

(1)

، لكن تتبعه كَثيرٌ من العلماء كابن قدامة في "المغني"

(2)

، والنووي في "المجموع"

(3)

، وغير هؤلاء، وَبيَّنوا أن مرادَه بذلك هو إذا بان منه حرفان،

= كالخطإ، فلذا لم يقتل فيه، وكانت الدية على العاقلة. وقيل: يكون هدرًا. وقيل: الدية في مال الدافع".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 211)، حيث قال:" (فإن أبى) المار إلا المرور بين يدي المصلي، ودفعه المصلي (فإن أصر) على إرادة المرور ولم يندفع بالدفع (فله)، أي: المصلي (قتاله) لا بنحو سيي، ولو مشى له قليلًا، ولا تبطل صلاته. . . (ولا يكرره)، أي: الدفع (إن خاف فسادها)، أَيْ: الصلاة؛ لأنه يؤدي إلى فساد صلاته (ويضمنه)، أي: يضمن مصل مارًّا بين يديه (معه)، أي: مع تكرار الدفع من خوف الفساد؛ لعدم الإذن فيه، إذن وعلم منه: أنه لا يضمنه بدونه".

(1)

يُنظر: "الإجماع" لابن المُنْذر (ص 39)، حيث قال:"وأَجْمَعوا على أن الضحك يفسد الصلاة".

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 39، 40)، حيث قال:"وإن ضحك فبان حرفان، فسدت صلاته، وكذلك وإن قهقه ولم يكن حرفان".

(3)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (4/ 89)، حيث قال:"مَذْهبنا أن التَّبسُّم لا يضر، وكذا الضحك إن لم يبن منه حرفان، فإن بان بطل صلاته".

ص: 2247

وليس المراد هو مجرد الضحك؛ فإنهم قالوا: كثيرٌ من العلماء لا يَرَوْن أن الضحك يؤثر إذا لم يَبُنْ من الضاحك حَرْفان.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي التَّبَسُّمِ

(1)

).

وأما التبسم، فالخلاف فيه يسيرٌ جدًّا، فجماهير العلماء يرون أنه لا تأثير له، لأنه لا يُسمَّى كلامًا

(2)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ التَّبَسُّمِ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِالضَّحِكِ أَوْ لَا يُلْحَقَ بِهِ).

وسبب اختلافهم في ذلك إلحاق التَّبسُّم بالضحك:

* فمن ذهب إلى أن التبسّم يلحق بالضحك، قال: يقطع الصلاة.

* ومن ذهب إلى أن التبسُّم لا يلحق بالضحك؛ لأنه ليس كلامًا، قال بعدم قطع الصلاة.

(1)

"بسم يَبْسم بسمًا": إذا فتح شفتيه كالمكاشر، وتبسم وهو أقل الضحك وأحسنه. انظر:"تاج العروس"(31/ 286) للزبيدي.

(2)

وهو مذهب الأئمة الأربعة.

مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 145)، حيث قال:"وعن التَّبسُّم وهو ما لا صوت فيه أصلًا، بل تبدو أسنانه فقط، فلا يبطلهما".

ومذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 33)، حيث قال:"وقال في "النوادر": قال: أصبغ: لا شيء عليه في التبسُّم إلا الفاحش منه شَبيهٌ بالضحك، فأحب إليَّ أن يعيد في عمده، ويسجد في سهوه. انتهى. وقال في "الطراز": فإن أشكل عليه تبسمه قال أصبغ. . . إلى آخر ما تقدم عنه في كلام "النوادر"، ثم قال: وهذا مذهب أصبغ في الضحك، وعلى مذهب الكتاب يعمل بالأحوط متى أشكل، انتهى".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 412)، حيث قال:"وخرج بالضحك التبسُّم، فلا تَبْطل به الصلاة".

ومَذْهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 401)، حيث قال:" (ولا) تبطل الصلاة (إن تبسم) فيها، وَهُوَ قول الأكثر، حكَاه ابن المنذر".

ص: 2248

* قوله: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الحَاقِنِ).

هناك جزئيات ومسائل لم يَعْرض لها المؤلف، منها:

* (مسألة النفخ في الصلاة): وقد وقِع فيها خلاف، وأن مِنَ العلماء مَنْ يُفَصِّل القولَ في ذلك، فيقول: مَنْ نفخ في صلاته، فَبَان منه حرفان، بطلت صلاته، وإن لم يَبُنْ منه شيء فلا

(1)

.

وَيُفرِّقون بين أن يغلبه الأمر، أو لا يغلبه، هذا فيما يتعلَّق بالتأفيف.

وذلك حَصَل من الرَّسول صلى الله عليه وسلم كما ذَكَر ذلك الترمذي في "سننه" أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاته

(2)

أي: في صلاة الكسوف وهو يُصلِّي في سجوده.

(1)

يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (1/ 614)، حيث قال:"والنفخ المسموع المهجى مفسد عندهما، خلافًا لأبي يوسف. . . ولو نفخ في الصلاة، فإن كان مسموعًا تبطل وإلا فلا، والمسموع ما له حروف مهجاة عند بعضهم نحو: أف وتف، وغير المسموع بخلافه، وإليه مال الحلواني، وبعضهم لا يَشْترط للنفخ المسموع أن يكون له حروف مهجاة، وإليه ذَهَب خواهر زاده، وَعَلى هذا إذا نفر طيرًا أو غيره أو دعاه بما هو مسموع".

وعند المالكية: المشهور أن تَعمُّد النفخ يبطل قليله وكثيره، ظهر حرف أو لم يظهر. ويُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 289)، حيث قال:"قوله: أو بتعمد نفخ بفمٍ)، أي: سواء كان كثيرًا أو قليلًا، ظهر معه حرف أم لا؛ لأنه كالكلام في الصلاة، وَهَذَا هو المشهور، وقيل: إنَّه لا يبطل مطلقًا. وقيل: إن ظهر منه حرف أبطل، وإلا فلا".

وفصل الشافعية أيضًا، فأبطلوا الصلاة إن ظهر حرفان، وإلا فلا.

يُنظر: "المنهاج" للنووي (ص 32)، حيث قال:"والأصحُّ أن التنحنح والضحك والبكاء والأنين والنفخ إن ظهر به حرفان بطلت وإلا فلا".

وَكَذَلك الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 226)، حيث قال:" (إن تنحنح بلا حاجة) فبان حرفًا (أو نفخ فبان حرفان)، فتبطل به صلاته؛ لقول ابن عباس: "من نفخ في صلاته فقد تكلم"، رواه سعيد".

(2)

لم يخرجه الترمذي، ولكن أخرجه أبو داود (1194)، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: انكسفت الشمس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يكد يركع، ثم =

ص: 2249

* (ما يتعلَّق بالبكاء): كثيرًا ما يعتري الإنسان البكاء، فالإنسان بشرٌ والمؤمن له قلبٌ، وهذا القلب يختلف باختلاف الناس، فهناك مَنْ وهبه اللَّه سبحانه وتعالى قلبًا رقيقًا رحيمًا يتأثر بالمواعظ، إذا سمع آيةً تأثر بها، فإن كان الموطن موطن خوف ترى أثر ذلك واضحًا فيه، وقد يعتريه البكاء، وقد يتجاوز ذلك إلى الشهيق.

كَذَلك أيضًا من الناس مَنْ لا يتأثر بذلك، فتجد قلبه كالحجارة، وهكذا الحال بالنسبة للمواعظ، إذًا هناك بكاء، وهناك تأوهٌ، وهناك أنينٌ، فما الحكم؟

كثيرًا ما نجد أن من الأئمة مَنْ يدعو في صلاته، كما نرى ذلك في صلاة التراويح، فيغلبه البكاء، فهل هذا البكاء يُؤثِّر في الصلاة؟

العلماء فصَّلوا القول في ذلك، فقالوا:

مَنْ غلبه البكاء، فلا تأثير له؛ لأن ذلك دليلٌ على صحة القلب واستقامتِهِ وسلامتِهِ، وكلما كان المؤمن رقيق القلب متأثرًا، فإنه يعلوه البكاء في صلاته، فالإنسان قد تَمرُّ به آياتٌ تتحدَّث عمَّا يتعلَّق بعَذَاب القَبْر، وبالحشر، وبجهنم وصفاتها، فهو -بلا شكٍّ- يتأثَّر في هذه المواقف، فيَغْلبه البكاء، فمَنْ غلبه البكاء أي: سَبَقه بحيث إنَّه لا إرادة له في ذلك، فهذا لا تأثيرَ له، ولا يُؤثِّر في صلاته نقصًا.

* ونوع لا يغلبه البكاء، ولكنه يبكي، وهذا الذي يبكي لا يخلو من أمرين:

= ركع، فلم يكد يرفع، ثم رفع، فلم يكد يسجد، ثم سجد، فلم يكد يرفع، ثم رفع، فلم يكد يسجد، ثم سجد، فلم يكد يرفع، ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده، فقال:"أف أف"، ثم قال:"رب، ألم تعدني ألَّا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني ألَّا تعذبهم وهم يستغفرون؟ "، ففرغ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من صلاتِهِ، وقد أمحصت الشمس، وساق الحديث. . وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(1079).

ص: 2250

- إما أن يكون بكاؤه خوفًا من اللَّه سبحانه وتعالى، وخشيةً له، وخوفًا من النار، وما فيها من العذاب الذي أعدَّه اللَّه سبحانه وتعالى للعُصَاة المُلْحدين، فقَدْ يَتذكَّر أهوال القَبْر وَمَا فِيهِ من السؤال، وكذلك قد يتذكَّر ما في عرصات القيامة، وقد تمرُّ به آياتٌ، فيتأثر بها، فيَبْكي، فَهَذا إن كان بكاؤه خوفًا من النَّار، أو خشيةً للَّه سبحانه وتعالى، فإنه في هذه الحالة لا تبطل صلاته.

- أمَّا إنْ كان بكاؤه لغير ذلك، فلا يخلو إما أن يبين منه حرفان أو لا، فإن بان منه حرفان، بَطَلت صلاته وإلا فلا

(1)

.

وَمِنَ العُلَماء مَنْ يرى أن البكاء ذِكْرٌ، وأنه ما إذا كان ذكرًا فإنه لا يفسد الصلاة؛ ويَسْتدلون على ذلك بقول اللَّه تعالى في مدحه لنبيه وخليله إبراهيم عليه السلام: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا

(1)

للفقهاء تفصيلٌ في البكاء بين ما كان بصَوْتٍ أو لا، وبين مَنْ غلَبه البكاء أو كان باختياره، وغير ذلك.

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (ص 85)، حيث قال:" (والبكاء بصوت) يحصل به حروف (لوجع أو مصيبة) قيد للأربعة إلا لمريض لا يملك نفسه عن أنينِ وتأوُّهٍ؛ لأنه حِينَئذٍ كعطاسٍ وسعالٍ وجشاءٍ وتثاؤب، وإن حصل حروف للضرورة (لا لذكر جنة أو نار) ".

ومَذْهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 353)، حيث قال:"هذا كلُّه إلا إذا كان البكاء بصوتٍ، وأما إذا كان لا صوت فيه، فإنه يبطل اختيارًا أو غلبة تخشعًا أم لا، ولنبغي إلا أن يكثر الاختياري منه، وأما بصوت فإن كان اختيارًا، أبطل مطلقًا، كان لتخشع أم لا بأن كان لمصيبةٍ، إن كان غلبة إن كان بتخشع لم تبطل ظاهره، وإن كثر وإن كان لغيره أبطل".

وَمَذْهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (ص 32)، حيث قال:"والأصح أن التنحنح والضحك والبكاء والأنين والنفخ إِنْ ظهر به حرفان بطلت وإلا فلا".

ومَذْهب الحَنَابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 41)، حث قال:"فأمَّا البكاء والتأوُّه والأَنين الذي ينتظم منه حرفان، فما كان مغلوبًا عليه لم يؤثر على ما ذكرنا من قبل، وما كان من غير غلبة فإن كان لغير خوف اللَّه أفسد الصلاة، وإن كان من خشية اللَّه، فقال أبو عبد اللَّه بن بطة في الرجل يتأوه في الصلاة: إنْ تأوه من النار، فلا بأس. وقال أبو الخطاب: إذا تأوه، أو أَنَّ، أو بكى لخوف اللَّه، لم تبطل صلاته".

ص: 2251

إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة: 114].

"وأوَّاه"

(1)

صفة مبالغة، فاللَّه مدح إبراهيم بهذا الوصف، فلو لم يكن ذلك محل ثناء لمَا امتدحه اللَّه به، إذًا فالأَوَّاه يتَّصف بهذه الصفة، وما دام يتصف بها وهي صفة ذِكْرٍ؛ فلا ينبغي أن تُؤثِّر في الصلاة؛ لأن الذِّكر لا يؤثر في نقصان الصلاة، وَلَا فِي بُطْلانها.

كَذَلك أيضًا يختلفون فيما يتعلَّق بالبكاء، ويقولون فيما يتعلَّق بالبكاء بعد أن اتفقوا على أن مَنْ غلبه البكاء، أو بكى خوفًا من النار، أو خشيةً للَّه؛ فإن ذلك لا يؤثر، وبعضهم يرى أن البكاء لا يفسد الصلاة؛ لأن اللَّه أثنى على الباكين وامتدحهم في كتابه، فقال سبحانه وتعالى:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 109]، وقال:{. . . خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} [مريم: 58].

فَهذِهِ صفةٌ امتدح اللَّه سبحانه وتعالى بها الباكين

(2)

.

وَمِنَ العُلَماء مَنْ يقول: إن البكاء إنْ لم يكن لما ذُكِرَ أولًا، خوفًا من اللَّه، وخوفًا من النار، وغلبه البكاء، فهذا يُعْتبر خارجًا عن الصلاة، فيؤثر فيها، كالحال بالنسبة لرَدِّ السلام، وأيضًا الرد على العاطس، ونحو ذلك.

فَهَذِهِ مَسائلُ يَخْتلفون فيها، كما يَخْتلفون كما ذكرنا في التأوُّه والأنين، فمنهم مَنْ يرى أنه لا تأثير له إن لم يبن حرفان، ومنهم مَنْ يرى أنه يؤثر في الصلاة؛ لأنه لم يَرِدْ في ذلك دليلٌ يستدل به.

(1)

"آه": كلمة تقال عند الشكاية أو التوجع والتحزن. و"الأواه": الموقن بالإجابة أو الدعاء، أي: كثير الدعاء، وانظر:"تاج العروس" للزبيدي (36/ 330).

(2)

يُنْظَر: "المغني" لابن قدامة (2/ 41)، حيث قال:"قال القاضي: التأوُّه ذكرٌ، مدح اللَّه تعالى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، والذكر لا يُفْسد الصلاة، ومدح الباكين بقوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}، وقال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ}، وَرُوِيَ عن مطرف بن عبد اللَّه بن الشِّخّير عن أبيه، أنه قال: "رأيت رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلِّي، ولصدره أزيز كأزيز المِرْجَلِ من البكاء".

ص: 2252

هَذَا هو خلاصة ما في هذه المسائل ذات الصلة بالكلام، وهي ما يَذْكرها العلماء غالبًا من المسائل المتفرِّعة عن الكلام في الصلاة.

* قوله: (اخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الحَاقِنِ).

قَدَّمَ المؤلف الكلام على الحاقن على الكلام على رد السلام، وَكَان الأَوْلَى أن يقدم ذاك أيضًا؛ لأنه مرتبطٌ بالكلام، لكنَّنا نسير على نَسَق الكتاب ونَهْجه.

أوَّلًا: يقصد بالحاقن

(1)

: الذي يَحْمل بولًا شديدًا، وأصبحَ محصورًا، أَيْ: يحتاج إلى أن يتبوَّل، أصبح هذا البول يؤثر فيه.

وكذلك أيضًا مَنْ يدفعه الغائط، فمَنْ هو الحاقن أو الحاقب

(2)

، وما حكم صلاتِهِ؟

اختلف في ذَلكَ العلماء:

أوَّلًا: فجمهور العلماء يَرَون أن مَنْ صلى وهو حاقن أو حاقب؛ فإنه يُكره له ذلك، ولا تأثير لذلك في الصلاة

(3)

. أي أنه لو صلى على صفةٍ

(1)

"الحاقن": الذي له بول شديد، ويقال: الحاقن في البول، والحاقب في الغائط. انظر:"تاج العروس" للزبيدي (34/ 451).

(2)

"حقب البعير": إذا احتبس بوله. و"الحاقب": هو الذي احتاج إلى الخلاء، وحصر غائطه. انظر:"تاج العروس" للزبيدي (2/ 298).

(3)

وَهُوَ مَذْهب الحنفيَّة، وانظر:"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 641)، حيث قال:" (قوله: وصلاته مع مدافعة الأخبثين. . . إلخ)، أي: البول والغائط. قال في "الخزائن": سواء كان بعد شروعه أو قبله، فإن شغله قطعها إن لم يخف فوت الوقت، وإن أتمها أثم".

وهو أيضًا مذهب الشافعية، يُنظر:"منهاج الطالبين" للنووي (ص 33)، حيث قال:"يُكْرَه الالتفات إلا لحاجة. . . والصلاة حاقنًا أو حاقبًا أو بحضرة طعام يتوق إليه".

وهو المذهب عند الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 127)، حيث قال فيما يُكْره في الصلاة: "وابتداؤها حاقنًا من احتبس بوله، أو حاقبًا من احتبس غائطه، أو مع ريحٍ محتبسةٍ ونحوه، أو تائقًا إلى طعامٍ أو شرابٍ أو جماعٍ، فيبدأ بالخلاء، وما =

ص: 2253

من هاتين الصفتين؛ فإنها لا تُؤثِّر في صلاته، ولا تُفْسدها، وَقَاسوا ذلك على مَنْ صلى ونفسه تتوق ومتعلقة بالطعام:"لَا صَلَاة بحَضْرة الطَّعام، ولَا وَهُوَ يُدَافعه الأَخْبَثان"

(1)

.

فالعُلَماءُ متَّفقون على أن مَنْ صلى وهو يشتهي الطعام، وتتوق نفسه إليه وتميل إليه؛ فإن صلاته صحيحة بلا خلاف

(2)

، كذلك هنا بالنسبة لمَنْ صلى وهو حاقن أو حاقب.

ثانيًا: ومن العلماء من قال: ينبغي أن يعيد في الوقت، وقد نسب المؤلف ذلك إلى مالك، وأظن أن مذهب المالكية فيه تفصيل في هذه المسألة

(3)

، ونُقل أيضًا عن ابن أبي موسى من الحنابلة ما يقرب من ذلك

(4)

، ولكنه قيَّد ذلك بأن يكون شديدًا.

ولكن: ما الحكمة من قول العلماء بأن من صلى وهو حاقن أو حاقب فإنه يُكْره له ذلك أو تبطل صلاته؟

لأنَّ الإنسانَ مُطَالبٌ بأن يخشعَ في صلاته، والحاقن قَدْ يذهب خشوعه، فقد تَشوَّش ذهنه، وانشغل قلبُهُ، وقد ذَهَب عنه اطمئنان القلب،

= تاق إليه، ولو فاتته الجماعة ما لم يضق الوقت، فلا يُكْره، بل يجب ويحرم اشتغاله بالطهارة إذن".

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 297)، حيث قال:"وقد أجمعوا أنه لو صلَّى بحضرة الطعام، فأكمل صلاته، ولم يترك من فرائضها شيئًا أن صلاته مجزية عنه، وكذلك إذا صلى حاقنًا فأكمل صلاته".

(3)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (2/ 400)، حيث قال:"وقال في "الطراز" في باب الصلاة بالحقن: ومَنْ بلغ به الجوع ثم حضر الطعام والصلاة، فليبدأ بقضاء حاجته من الطعام؛ لأنه يتفرَغ بذلك للصلاة، فإن بدأ بالصلاة، فإن كان باله مشغولًا، بحيث لا يدري ما صلى يعيد ذلك أبدًا، وإن كان دون ذلك، ولكن يُقْلقه ويعجله، فحسن أن يعيد في الوقت، وإن كان إنما تَتُوقُ نفسه إلى الطعام من غير أن يشغله، فلا شيء عليه، انتهى باختصارٍ".

(4)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 92)، حيث قال:"وعنه يُعِيدُ مع مدافعة أحد الأخبثين، وعنه يعيد إِنْ أزعجه، وذكر ابن أبي موسى: أنه الأظهر من قوله".

ص: 2254

وراحة النفس؛ لأن هناك أمرًا يزعجه، ويشغل باله، ولذلك لا ينبغي أن يدخل الصلاة وهو حاقن أو حاقب حتى وإنْ فَاتَته الصلاة، وإنما يَنْبغي أن يدخلَ إلى الصلاة وهو مطمئن النفس، لَا يُوجَد ما يشغل باله، ولا ما يُشوِّش عليه، ولا ما يذهب خشوعه أو يضعفه، لأن اللَّه سبحانه وتعالى أثنى على الخاشعين.

لكن لو حصل ذلك، هل يؤثر ذلك في صلاته؟

لا شك أنه وَرَد في ذلك عدة أحاديث، ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحلُّ لامْرِئٍ أن ينظرَ في جَوْف بيت امْرِئٍ حتى يستأذنَه، ولا أن يقومَ إلى الصلاة وهو حقن"

(1)

.

"حَقِن" على وَزْن "فَعِل"، وهذه صيغة من صيغ المبالغة، وحقن يعني حاقن.

وجاء أيضًا في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث عائشة أنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ، ولا وهو يُدافِعُه الأخبثانِ"

(2)

.

كَأنَّ البولَ والغائطَ يُصَارعانه، هما يريدان منه أن يقضي حاجته، وهو يتحمل ويتصبر، فيدخل في الصلاة، ولا شكَّ أن ذلك سيَشْغله، وسيشوش عليه، ومع ذلك نجد أن جماهير العلماء حملوا ذلك على الكراهة، وقالوا: لا نرى فرقًا بين هذا وبين مَنْ يدخل في صلاته ونفسه متعلقة بذلك الطعام.

وَلذَلك، جاء في الحديث:"إذا حضرت العِشَاءُ، فابدؤوا بالعَشاء"

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي (357)، وضعفه الأَلْبَانيُّ في "ضعيف أبي داود"(12) إلا الجملة الأخيرة منه، فصحيحة لشواهدها.

(2)

أخرجه مسلم (560).

(3)

أخرجه البخاري (671)، ومسلم (557) ولفظه:"إذا حضر العَشَاء، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعَشَاء".

ص: 2255

كذلك الحديث الذي مرَّ بنا قبل قليل، وهو حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لَا صَلَاة بحَضرة الطعام".

لأنَّ القصدَ من ذلك أن يدخل الإنسان في هذا الرُّكن الثَّانِي من أركان الإسلام وهو مطمئن النفس، مرتاح البال، لا يشغله شاغلٌ عن طاعة اللَّه سبحانه وتعالى، وعن ذِكْرِهِ، وعن تلاوة القرآن، وأداء هذه الصلاة برُكُوعها، وأركانها، وشرائطها، وواجباتها حتى يحصل على عَظِيمِ الثواب من اللَّه سبحانه وتعالى، لَكنَّهم قالوا: لا يختلف حاله عن حال مَنْ يشغله الطعام، ولا كذلك مَنْ ينشغل بأمور الدنيا؛ فكم مِنَ المُصلِّين مَنْ إذا دخل في صلاته، أصبح يفكر في أمور الدنيا يقلبها يمينًا وشمالًا، وهناك أيضًا مَنْ يفكر في أمورٍ أُخرى قد تكون في مصلحة المسلمين، كما أُثِرَ ذلك عن عمر رضي الله عنه

(1)

، ومع ذلك قال العلماء: لم يرد نصٌّ في أن هذه الأشياء تبطل الصلاة، بمعنى أن العلماء لم يقولوا بأنها تبطل الصلاة

(2)

، فالخلاف في هذه المسألة هو خلافٌ بين الجمهور وبين غيره.

(1)

أخرجه البخاري معلقًا (2/ 67) عن عمر قال: "إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة".

(2)

وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 15)، حيث قال:"وبهذا علم أن ترك الخشوع لا يخلُّ بالصحة، بل بالكمال، ولذا قال في "الخلاصة" و"الخانية": إذا تفكر في صلاته فتذكر شعرًا أو خطبةً، فقرأهما بقلبه ولم يتكلم بلسانه، لا تفسد صلاته".

ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 34)، حيث قال:"قوله: "تفكر بدنيوي"، أي: ولم يشغله عن الصلاة، فَإِنْ شَغَله حتى لا يدري ما صلى أعاد أبدًا، فإنْ شغله زائدًا عن المعتاد ودَرَى ما صلى، أعاد بوقتٍ. . . ثمَّ إن لم يشغله عن الصلاة، فالأمر ظاهر، وإنْ شَغَله عنها فإن شكَّ في عدد ما صلى، بنى على اليقين، وإنْ لم يدرِ ما صلى أصلًا بطلت. . وَهَذا إذا لم يكن التفكر متعلقًا بالصَّلاة، فإن كان متعلقًا بها كالمراقبة. . فإن لم يدرِ ما صلى، بنى على الإحرام، وإِنْ كان مستحضرًا له، فالحكم واحد في الجميع إلا في هذا الفرع".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 391)، حيث قال:" (وفراغ قلب) من الشواغل الدنيوية؛ لأنه أعون على الخضوع والخشوع. وقال القاضي حسين: يُكْره أن يفكِّر في صلاته في أمر دنيوي أو مسألة فقهية، أما التفكُّر في أمور الآخرة، فلا بأس به، وأما فيما يقرؤه فمستحبٌّ". =

ص: 2256

وَالرَّاجح: أنَّ الأَوْلَى في المُصلِّي ألَّا يدخل في صلاته وهو حاقن أو حاقب؛ فإن فَعَل، فصلاتُهُ صحيحةٌ مع الكراهة، والعلة في ذلك -كما ذكرنا- هو أن وجودَ مثل هذه الأشياء تَشْغله وتُشوِّش عليه، وربما تجعل قلبه ينصرف، وقد يحسُّ بألمٍ، وبمشقةٍ، فبدل أن ينشغل في عبادته، ويُفرِّغ نفسه لها؛ يتشوش ذهنه في هذه الأمور.

* قوله: (فَأَكْثَرُ العُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ حَاقِنٌ، لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ زيدِ بْنِ أَرْقَمَ).

زَيْد بن أرقم هو الَّذي وَرَد عنه: "كنَّا نَتكَلَّم في الصلاة، يُكلِّم أحدنا صاحبَه إلى جَنْبه"، حتى نزَل قوله تَعالَى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

"فأُمِرْنَا بالسُّكُوت" في رواية "الصحيحين"

(1)

، وفي مسلم:"فأمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام"

(2)

.

* قوله: (قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الغَائِطَ، فَلْيَبْدَأْ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ"

(3)

، وَلمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:"لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ"

(4)

، يَعْنِي: الغَائِطَ وَالبَوْلَ، وَلِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ

=ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (2/ 98)، حيث قال:"عمل القلب لا يُبْطل الصلاة وإن طال، على الصحيح من المذهب نص عليه، وقيل: يبطل إن طال، اختاره ابن حامد وابن الجوزي، قاله الشيخ تقي الدين قال: وعلى الأول لا يُثَاب إلا على ما عمله بقلبه".

(1)

أخرجه البخاري (1200)، ومسلم (539).

(2)

أخرجه مسلم (539).

(3)

أخرجه أبو داود (88)، والترمذي (142)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(80)، وهو عن عبد اللَّه بن أرقم كما ذكر الشارح.

(4)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2257

عَنْ عُمَرَ أَيْضًا

(1)

، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ، وَأَنَّهُ يُعِيدُ).

نُقِلَ هذا عن مالك

(2)

، وليس المالكية كلهم متفقين على هذا، وحُكِيَ عن بعض الحنابلة عن ابن أبي موسى من الحنابلة

(3)

أنه قال: "إذا اشتدَّ به الأمر، فإن ذلك يؤثر على صلاته"، ومذهب الجمهور أن ذلك مكروهٌ، وليس مبطلًا للصلاة؛ لأنه ليس من مُبْطلات الصلاة، إنَّما الذي يبطل الصلاةَ أمورٌ كثيرةٌ، منها الكلام، وفيه تفصيلٌ، ومنها انتقاض الطهارة، والأكل والشرب ومسائل عدة معروفة.

* قوله: (وَرَوَى ابْنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الحَاقِنِ فَاسِدَةٌ)

(4)

.

ابن القاسم هو إمام معروف من أجلَّاء علماء المالكية الذين تتلمذوا على يد الإمام، وتربوا في مدرسته، وأقصد بالإمام الإمام مالكًا إمام دار الهجرة، فهو الذي روى مُدوَّنته، أو التي حكاها سحنون عن ابن القاسم، فَابْنُ القَاسم كان يسأل مالكًا أحيانًا، وفي الكثير يجيب مالكٌ رحمه الله، وأحيانًا لا يجيب مالكٌ، والمالكية يَعْرفون ما يخص الإِمَامَ مالكًا، وما جَاءَت به إجابات ابن القاسم.

* قَالَ: (وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ "أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالإِعَادَةِ فِي الوَقْتِ وَبَعْدَ

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 184).

(2)

تقدَّم ذكر التفصيل في مذهب مالك.

(3)

تقدَّم نقل مذهب الحنابلة في ذلك، وأن اختيار ابن أبي موسى أنه يعيد إن أزعجه.

(4)

يُنظر: "المدونة" لابن القاسم (1/ 113)، حيث قال:"قلت: أرأيت إذا أعجله عن صلاته، أهو ممَّا يشغله؟ قال: نعم. قلت: فإن صلى على ذلك وفرغ، أترى عليه إعادة؟ قال: إذا شغله فأحب إليَّ أن يعيد. قلت له: في الوقت وبعد الوقت؟ قال: إذا كان عليه الإعادة، فهو كذلك يعيد وإن خرج الوقت، وقد بلغني ذلك عن مالك".

ص: 2258

الوَقْتِ"

(1)

. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي النَّهْيِ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْهُ أَمْ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ؟)

(2)

.

هذه مسألة أصولية معروفة، وهي: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟ وكما هو الحال بالنسبة للأمر، فالأمر يقتضي الوجوب، والنهي أحيانًا يقتضي فساد المنهي عنه، وأحيانًا يأتي صارف من الصوارف كقرينة، فتنقل ذلك من النهي الذي يفسد العمل إلى الكراهة، وقد يكون النهي نهي تنزيه، وهذه مسائل معروفة.

* قوله: (وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيمِ مَنْ فَعَلَهُ فَقَطْ إِذَا كَانَ أَصْلُ الفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِهِ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا، وَقَدْ تَمَسَّكَ القَائِلُونَ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ

(1)

تقدَّم ذكر مذهب المالكية، وقَدْ أوجبوا الإعادة أبدًا على مَنْ أشغلَه ذلك عن فَرْضٍ من فرائض الصلاة، وأما غير ذلك فَيُعِيدُ فِي الوقت.

ويُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (1/ 349، 350)، حيث قال:" (و) بطلت (بمشغل)، أي: مانع (عن فرض) من فرائض الصلاة؛ كركوع أو سجود وقراءة فاتحة أو بعضها كشدة حقن أو غثيان أو وضع شيءٍ في فمه، (وأعاد فيه) مشغل عن (سنة) مؤكدة".

وقال الصاوي في "الحاشية": "واعلم أن محل البطلان بالمشغل عن الفرض: إذا كان لا يقدر على الإتيان معه بالفرض أصلًا، أو يأتي به معه، لكن بمشقة إذا دام ذلك المشغل".

(2)

اختلفت مذاهب العلماء في مسألة اقتضاء النهي للفساد على أقوال.

يُنظر: "التلخيص في أصول الفقه" للجويني (1/ 481)، حيث قال: اعلم -وفَّقك اللَّه- أن هذا مما اختلف فيه الفقهاء والمتكلمون، فَمَا ذهب إليه الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وأهل الظاهر، وطائفة من المتكلمين: أن النهيَ عن الشيء يدلُّ على فساده كما أن الأمر بالشيء يدلُّ على إجزائه، ثم اختلف هؤلاء، فَذَهب بعضهم أن النهي دال على فساد المنهي عنه من جهة وَضْع اللسان، وذَهَبَ آخرون إلى أن النهي إذا ثبت فإنما يعلم فساد المنهي عنه بموجب الشرع دون قضية لفظ النهي في اللغة، وَذَهَب الجمهور من المتكلمين أن النهي لا يدلُّ على الفساد، ثمَّ أجمع هؤلاء على أنه كما لا يدل على فساد المنهيِّ عنه، لا يدلُّ على صحته وإجزائه". وانظر:"اللمع" للشيرازي (ص 25)، و"قواطع الأدلة" للسمعاني (1/ 140).

ص: 2259

بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الشَّامِيُّونَ

(1)

، مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَنْ ثَوْبَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

هذا هو الحديث الذي أشرنا إليه قبل قليلٍ، وهو حديث ثوبان الذي أخرجه الترمذي وحسَّنه:"لا يحل لامرئٍ أن يدخل جوف بيت حتى يستأذن، ولا أن يُصلي وهو حقن"

(2)

.

* قوله: (قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَاقِنٌ جِدًّا". قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفُ السَّنَدِ، لَا حُجَّةَ فِيهِ)

(3)

.

جاء المؤلف بلفظ آخر، أما اللفظ الذي ذكرت، فَهُو لفظ الترمذي وَحَسَّنه، وابن عبد البَر قد تكلَّم عنه، والحديث فيه خلافٌ بين العلماء تصحيحًا وتضعيفًا

(4)

.

لَكن الحَديث الآخر يكفي عنه حديث عائشة الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، وأخرجه غيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان"

(5)

.

* قوله: (المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قال: اخْتَلَفُوا فِي رَدِّ سَلَامِ المُصَلِّي عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ).

(1)

قَالَ أبو داود في "سننه"(91): "هذا من سنن أهل الشام لم يشركهم فيها أحد".

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 297)، حيث قال:"وقد رُوِيَ من حديث الشاميين في هذا الباب حديث لا حجة فيه؛ لضعف إسناده، منهم مَنْ يجعله عن أبي هريرة، ومنهم مَنْ يجعله عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحلُّ لمؤمنٍ أن يصلي وهو حاقن جدًّا".

(4)

قال الترمذي في "سننه"(357): "حديث ثوبان حديث حسن"، وقال الأرناؤوط في حديث ثوبان: صحيح لغيره دون قوله: "ولا يؤمنَّ إمامٌ قومًا فيخص نفسه بدعوة دونهم". وانظر: "مسند أحمد"(22152)، وسبق تضعيف الأَلْبَانيِّ للحديث.

(5)

تقدَّم تخريجه.

ص: 2260

هذه المسألة الخلاف فيها متعلق بالكلام في الصلاة؛ هل القصد بذلك رد السلام في الصلاة؟ فلو أن إنسانًا دخل، فوجد إنسانًا يصلي، أو جماعةً يصلُّون، فسلَّم عليهم، فهل لهذا المصلي أو لتلك الجماعة أن يردُّوا عليه السلام؟

- إن قلنا: نعم، فما نوع الرَّد؟ هل يردُّون عليه لفظًا بأن يقول مثلًا: وعليكم السلام.

- أو أنه يردُّ عليه إشارةً؟ وإن قلنا بالإشارة؛ فما نوع الإشارة؟ هل يُشير بيده فيجعل كفه أسفل، وأعلاها إلى أعلى؟ أو يُشير بإصبعه هكذا، أو أنه يُؤجِّل ذلك إلى ما بعد الصَّلاة؟

ففي هذه المسألة أحوال:

- الحال الأولى: هل يرد عليه السلام لفظًا أو يرد عليه بالإشارة؟ وإن قلنا: يرد عليه إشارةً، فما نوع الإشارة؟ أو: هل له أن يسكت، فإذا ما فرغ من صلاته رد عليه السلام؟

الأَحَاديثُ التي قَدْ وردت فى ذلك كثيرةٌ جدًّا، ولقد تكلَّمنا عن السلام في الصلاة، وذلك عندما تحدثنا عن الكلام أثناء الخطبة في الجمعة، فإننا عرضنا هناك لمسائلَ، منها: رد السلام إذا كان الإمام يخطب على المنبر يوم الجمعة، فسلم أحد الحاضرين وهو يخطب، هل يرد عليه أم لا؟

وقَدْ وردت أحاديث في رد السلام؛ يقول اللَّه تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنَّ ذلك من حقوق المسلم على أخيه المسلم، ووردت أيضًا أحاديث عدة تدل على رد السلام

(1)

، فذلك مضى وانتهى.

(1)

من ذَلكَ ما أخرجه البخاري (1240)، ومسلم (2162)، عَنْ أبي هريرة، قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ تَجب للمُسْلم على أخيه: ردُّ السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز"، واللفظ لمسلم.

ص: 2261

أما عن رد السلام بالنسبة للمصلي؛ فما حكمه؟

لا شك أن الكلام في الصلاة كان جائزًا مطلقًا، ولذلك جاء في حديث زيد بن أرقم أنه قال:"كنَّا نَتَكلَّم فِي الصلاة، يُكلِّم أَحدُنَا صَاحبه إلى جنبه حتى نزل قَوْله تعالى: {. . . وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]، فأُمِرْنا بالسُّكُوت"

(1)

.

وفي روايةٍ زيادة لمسلم: "ونُهِينَا عن الكلام"

(2)

.

فكان الكلام مطلقًا جائزًا في أول الأمر، ولذلك استغرب يعلى بن أمية، عندما رد على الذي عطس في الصلاة، فأنكر عليه الصحابة رضي الله عنهم

(3)

، كَذَلك جاء في حديث عبد اللَّهِ بن مسعود أنه قال: كنَّا نُسلِّم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي قبل أن نذهب إلى النجاشي، فلمَّا رجعنا، سَلَّمنا على رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلَمْ يردَّ علينا، فَسَألوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذَلكَ، فقال:"إنَّ في الصلاة لشُغْلًا"

(4)

.

وَفِي حَدِيثِ يَعْلى بن أُميَّة بعد أن عطس الرجل، فقال: يَرْحمك اللَّه، ثم أنكرَ عليه القوم، فدَعَاه رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ثمَّ قال له في آخر الحديث: "إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

يشير الشارح إلى ما أَخْرَجه مسلم (537)، عن مُعَاوية بن الحكم السُّلمي، قال: بينا أنا أُصلِّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك اللَّه، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فواللَّه، ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، وهو عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، وليس عن يعلى بن أمية.

(4)

أخرجه البخاري (1199)، ومسلم (538)، ولفظه:"إِنَّ فِي الصَّلاة لشغلًا".

ص: 2262

التسبيح، والتكبير، وقراءةُ القرآن"

(1)

، فَمِنْ هذه الأدلة وغيرها -وهي كثيرةٌ جدًّا- نَتبيَّن أن الكلامَ كان جائزًا، وأن ردَّ السلام كان يحصل أيضًا، ثمَّ جاءت بعد ذلك أدلة تمنع ذلك.

وَفِيمَا يتعلَّق بالإشارة:

جَاءَ فِي حديث صهيبٍ رضي الله عنه أنه مَرَّ برَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي قال: "فَسلَّمت عليه وكلَّمته، قال: فرد إشارةً.

قال بعض الرواة: لا أظنه إلا أشار بإصبعه

(2)

.

أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي، فسلم صهيبٌ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فرد بالإشارة.

وَجَاءَ أيضًا في حديث عبد اللَّهِ بن عُمَر رضي الله عنهما أنه قال: "جَاءَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قُبَاءٍ، فصلَّى فيها، فأقبل عليه الأنصار، فسلموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت لبلال: كيف ردَّ عليهم؟ فقال بلالٌ - قال بعد ذلك الراوي: قال يعقوب: لا أظنه إلا أشار بيده وكفه إلى أسفل"

(3)

.

الخُلَاصَة: أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم ردَّ إشارةً، وأنه جَاء في حَدِيثٍ أنه أشار بِيَدِهِ هكذا، وَبَاطن الكف إلى الأرض، وأعلاها إلى أعلى، وأنه مرةً أشار بإصبعه؛ وجاء أيضًا في حديث جابرٍ أنه مرَّ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على الراحلة إلى غير القبلة في نَافِلَةٍ، فسلَّم عليه، فلم يردَّ عليه صلى الله عليه وسلم، فلمَّا

(1)

تقدَّم تخريجه، وهو عن معاوية بن الحكم السلمي، وليس عن يَعْلى بن أمية.

(2)

أخرجه أبو داود (925)، والترمذي (367)، وصَحَّحه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(858).

(3)

أخرجه أبو داود (927)، والترمذي (368)، ولفظ أبي داود: عبد اللَّه بن عمر، يفول:"خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه"، قال:"فجاءته الأنصار، فسلموا عليه وهو يصلي"، قال:"فقلت لبلال: كيف رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يردُّ عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ "، قال:"يقول هكذا، وبسط كفه"، وبسط جعفر بن عون كفَّه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق. وقَالَ الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود" (860): حسن صحيح.

ص: 2263

فرَغِ من صَلَاتِهِ قال: "إنه لَمْ يمنعني من أن أردَّ عليك إلا أنِّي كنت أُصلِّي"

(1)

.

إذن؛ تَبينَّا من هَذَا أن ردَّ السلام كان في أوَّل الأمر جائزًا؛ وأنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم سلَّم عليه أصحابه بعد ذلك، فلَمْ يردَّ عليهم، وبين في بعض الأحاديث كحديث بن مسعود أنه قال:"إنَّ فِي الصلاة لشغلًا".

وجاء في حديثٍ آخَرَ: أنه رد إشارةً بإصبعه.

وفي حديثٍ أيضًا: أنه رد إشارةً بيده.

وأيضًا جاء أن الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لم يردَّ، وأن ردَّه جاء بعد الصلاة.

ولذَلكَ، اختلف العلماء في هذه المسألة:

فمنهم مَنْ يرى -وهُمْ جَماهير العلماء- أنه لا يجوز أن يرد المصلي فى صلاته لفظًا؛ فإن فعلَ، بطلت صلاته.

فلو أن إنسانًا مرَّ بالمُصلِّي فسلم عليه، فقال: السلام عليكم؛ فرد فقال: وعليكم السلام، فإنَّ صلاته تبطل عند جماهير العلماء؛ لكنه إن رد عليه إشارةً، فلا تَبْطل عند هؤلاء تَمسُّكًا بما ذكرنا من بعض الأدلة

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (1217)، ومسلم (540).

(2)

هَذَا مَذْهب المالكية، وانظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 341، 342)، حيث قال:" (و) كره (إشارة للرد) برأس أو يد (على مشمت) شمته وهو يُصلِّي إذا ارتكب المكروه، وحمد لعطاسه، وأما الرد بالكلام فمبطل، وأما رد السلام بالإشارة على مسلم عليه، فمطلوب".

ومَذْهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" للهيتمي (2/ 148)، حيث قال:"ويُسَنُّ لمصلٍّ عطس أو سلم عليه أن يحمد بحيث يسمع نفسه، وأن يرد السلام بالإشارة باليد أو بالرأس، ثم بعد سلامه منها باللفظ".

وَمَذْهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 130)، حيث قال:"ويُكْرَه السلام على المصلي، والمذهب لا، وله رده بإشارة، فإن رده لفظًا، بطلت، ولو صافح إنسانًا يريد السلام عليه، لم تبطل".

ص: 2264

وَمِنَ العُلَماء مَنْ يرى: أنه يؤخِّر ذلك إلى ما بعد الصلاة، فيرد عليه

(1)

.

وَبَعْض العُلَماء يُفصِّل القول في ذلك؛ لأنه ربما يسلم عليه إنسانٌ يجهل الحكم، فَيَظن أنه بتَرْك الردِّ عليه، يترك ذلك أثرًا في نفسه؛ وهذا حصل مع عبد اللَّه بن مسعودٍ؛ لأنهم كانوا يسلمون على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما عادوا من عند النجاشي، سلَّم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يردَّ علَيه، فوقع في نفسه شَيءٌ، فسأل رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"إنَّ فِي الصلاة لشغلًا".

إذن؛ لا يَنْبغي لمسلمٍ أن يرد السلام في الصلاة؛ لأن السلام كلام، فلا ينبغي أن يحصل منه، فإن سلم عليه أحدٌ فليرد إشارةً، إما بيده، وإما أن يُشير كذلك بإصبعه، أو أن يؤجل ذلك إلى ما بعد الصلاة، وذلك وَرَد عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (فَرَخَّصَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وَالحَسَنُ بْنُ أَبِي الحَسَنِ البَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ)

(2)

.

لأنَّهم يَرَون أن ذلك من الذِّكْر، فلا يمنع؛ وهؤلاء يستدلون بقول اللَّه تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، وقوله

(1)

روي هذا عن عطاء والثوري.

وانظر: "المجموع" للنووي (4/ 105)، حيث قال:"وحكى الشيخ أبو حامد عن عطاء والثوري أنهما قالا: يرد بعد فراغ صلاته؛ سواء كان المسلم حاضرًا أم لا، ورُوِيَ عن أبي الدرداء. وقال النخعي: يرد بقلبه، واللَّه أعلم".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البَر (2/ 338)، حيث قال:"قد رُوِيَ عن طائفةٍ من التابعين -منهم الحسن وقتادة- أنهم أجازوا أن يرد السلام كلامًا وهو يصلي. وَقَالَ مَنْ ذهب مذهبهم من المتأخرين السالكين سبيل الشذوذ: إنَّ الكلام المنهي عنه في الصلاة هو ما لا يحتاج إليه في الصلاة، وأما ردُّ السلام، فَهو فرضٌ على من سلم عليه في الصلاة وغيرها، فمَنْ فَعَل ما يجب عليه فعله، لم تفسد صلاته".

ص: 2265

تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، أي: علَى أَهْل دينكم.

* قوله: (وَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ بِالقَوْلِ، وَأَجَازُوا الرَّدَّ بِالإِشَارَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ)

(1)

.

هؤلاء هُمْ جمهور العلماء، وكذلك مذهب أحمد.

* قوله: (وَمَنَعَ آخَرُونَ رَدَّهُ بِالقَوْلِ وَالإِشَارَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ النُّعْمَانِ

(2)

).

يُقْصد بالنعمان: أبو حنيفة؛ لأن اسمه النعمان.

* قوله: (وَأَجَازَ قَوْمٌ الرَّدَّ فِي نَفْسِهِ

(3)

، وَقَوْمٌ قَالُوا: يَرُدُّ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ)

(4)

.

هذه اختلافات داخل المذاهب، فمثلًا الحنابلة يقولون: لا يجوز أن يرد لفظًا، وإنما يرد إشارةً بإصبعه أو بيده، وله أن يؤجل ذلك إلى ما بَعْد الصلاة

(5)

.

وَمَعْلومٌ أنَّ الفقهَ يَخْتلف باختلاف مذاهب رُوَاته؛ فهناك مذهبان من المذاهب الأربع (مالك وأحمد)، عُني إمامهما بفقه الأثر، أي: يقفون عند الأحاديث والآثار التي جاءت عن الصحابة والسلف، لَكن بعد ذلك الذين جاؤوا من بعدهم فرغوا، فيُعْرف هذا بفقه السلف؛ ويُعْرف الفقه الحنفي

(1)

تقدَّم ذكر المذاهب الثلاثة (المالكية والشافعية والحنابلة).

(2)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص 30)، حيث قال:"ولا يرد السلام بلسانه، ولا بيده".

(3)

رُوِيَ ذلك عن إبراهيم النخعي.

وأَخْرَجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(418/ 1)، قال:"يردُّ علَيه في نفسه".

(4)

تَقدَّم أن هذا المذهب مرويٌّ عن عطاء والثوري.

(5)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 110)، حيث قال:"له ردُّ السلام من إشارةٍ من غير كراهةٍ على الصحيح من المذهب، وعنه يُكْره في الفرض، وعنه يجب، ولا يردُّه في نفسه، بل يستحبُّ الرد بعد فراغِهِ منها".

ص: 2266

بفقه الرأي؛ لأنه اعتمد في كثيرٍ من المسائل على القياس؛ ويرون المذهب الشافعي وسطًا بين هذه المذاهب، فهو يجمع بين المدرستين.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ رَدُّ السَّلَامِ من نَوْع التَّكَلُّمِ فِي الصَّلَاةِ المَنْهِيِّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الكَلَامِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، وَخَصَّصَ الأَمْرَ بِرَدِّ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} الآية [النساء: 86] بِأَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنِ الكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ).

الآيةُ مجملةٌ عامةٌ، لَكن الأحَاديث خاصَّة.

وَمِنْهَا: كنَّا نُسلِّم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يَذْهبوا إلى النجاشي -كَمَا جَاءَ في بعض الرِّوايات- فلمَّا رجعوا من عنده سلموا، فلم يرد عليهم، وقال:"إنَّ فِي الصلاة لشُغلًا"، وسُلِّم عليه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ولم يرد، وإنَّما كان يرد بالإشارة، والإشارة لا تبطل الصلاة؛ إنما الذي يبطل الصلاة هو الكلام، وليس هذا الكلام على إطلاقه، فقَدْ عرف ما يتعلَّق بذلك تفصيلًا.

* قوله: (قَالَ: لَا يَجُوزُ الرَّدُّ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الكَلَامِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ خَصَّصَ أَحَادِيثَ النَّهْيِ بِالأَمْرِ بِرَدِّ السَّلَامِ، أَجَازَهُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ المُنْذِرِ: وَمَنْ قَالَ: لَا يَرُدُّ، وَلَا يُشِيرُ، فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ

(1)

).

أبو بكر بن المنذر - هُوَ إمامٌ جليلٌ، وهو منَ العلماء الذين عنوا بأقوال الأئمة، وأيضًا من العلماء الذين عنوا فيما يتعلَّق بنَقْل الإجمَاع، وكثيرًا ممن كتبوا بعده، أَخَذوا وتأثَّروا بكتبه، وله كتابه "الأوسط"، وله

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (3/ 253)، حيث قال:"وقال النعمان: لا يردُّ السلام، ولا أحب أن يشير. . فاستحبَّ خلاف ما سَنَّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سن للمصلي أن يرد السلام بإشارةٍ، وقَدْ سنَّ النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة في الصلاة في غير موضعٍ".

ص: 2267

كذلك كتبٌ عدة، وكلُّها من الكُتُب الجامعة، وإلى كونها تجمع الفقه، كَذَلك تجمع الأحاديث والآثار، فكُتبُهُ إلى جانب كَوْنها مَرَاجع في الفقه، هي مَرَاجع في الأحاديث، وأيضًا في آثار الصحابة والسلف رضي الله عنهم عمومًا.

قوله: "فقد خالف السُّنة"، إن قال: لا يرد -يقصد هنا: ليس الرد باللفظ، وإنما أن يرد إشارةً- على اختلاف الصفات التي ذكرنا.

* قوله: (. . . فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ صُهَيْبٌ "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَدَّ عَلَى الَّذِينَ سَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بِإِشَارَةٍ"

(1)

. . .).

رد إشارةً، وليس القصد هنا هو الرد بالقول.

وكذلك في حديث عبد اللَّه بن عمر عندما أشار إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى قُبَاء وكان يصلي، فجاء إليه الأنصار، فسلموا عليه، سأل بلالًا كيف رد عليهم، فأجابه بأن قال يعقوب (يعني: راوي الحديث)، قَالَ: أشَار بيده؛ ثمَّ فصلها، فَقَال: فبَسَط كفَّه أسفلها إلى الأرض

(2)

.

إذًا؛ هذه من أنواع الإشارة التي ترد، لكن لو أشار بعينه (طَرْفه) هذا ما تكلَّم عنه الفقهاء؛ فالفقهاء عندما يجدون نصًا، يُفرِّعون عليه كثيرًا من المسائل؛ لَكن هذا الكتاب لا يعرض لكل شيءٍ؛ بَلْ هو يختار الأصل، ويَكْفيك أنك إذا أمسكتَ بأصول المسائل، يسهل عليك أن ترد إليها ما يتعلَّق بذلك.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

تقدَّم تخريجه، وأن الراوي هو جعفر بن عون.

ص: 2268