المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم صلى اللَّه على محمد وآله   ‌ ‌[كِتَاب أَحْكَامِ الْمَيِّتِ] ‌ ‌[البَابُ - بغية المقتصد شرح بداية المجتهد - جـ ٦

[محمد بن حمود الوائلي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى اللَّه على محمد وآله

[كِتَاب أَحْكَامِ الْمَيِّتِ]

[البَابُ الأَوَّلُ فِيمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفعَلَ بهِ عِنْدَ الِاحْتِضَار وَبَعْدَهُ]

هذا باب جديد يبحثُ فيه المؤلف جملةً من الأحكام المتعلِّقةِ بالجنائز، فلم يستوفِ كُلَّ مسائلِه بل لم يَمُرَّ على أكثرها، وإنما اختار أمهاتِها كعادَتِه في منهجه في هذا الكتاب.

أما ما يتعلق بفروع هذا الكتابِ وجُزْئياتِهِ فلعلَّنا -إن شاء اللَّه- نعرِضُ ما نتذكَّرُهُ أثناء الدرس والشَّرْح.

والأموات جمع مَيِّتٍ، والموت إنما هو مصدر: مات يموت موتًا، والموت مشْتَقُّه أو فِعْله وردت فيه عدة لُغاتٍ، فيقال: مات يموت، من باب: نَصَر ينصُرُ، أو قَالَ يقُولُ.

وورد فيه: مات يموتُ، كخافَ يخاف.

ص: 2921

وورد فيه أيضًا: مات يَمِيتُ كمثل باع يَبِيعُ.

والموت: هو مفارقة الرُّوحِ الجَسدَ؛ أي: إذا ما خرجت الروح من جسد الإنسان فإنه ينتَهِي من هذه الحياة الدنيا وينتَقِلُ بعد ذلك إلى دارٍ أخْرَى

(1)

.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ -وَهِيَ حُقُوقُ الأمْوَاتِ عَلَى الأحْيَاءِ- يَنْقَسِمُ إِلَى سِتِّ جُمَلٍ).

والمؤلف لم يقدم للكِتابِ مقدَّمة كما يسلُك ذلك كثيرٌ من الفُقهاءِ، أو علماء الحَدِيثِ الذين يُعنَوْن بشُروح الكتب، وإنما دخل المؤلف في مسائل الكتاب، ولا شك أيضًا أنَّ من عادة بعض الفقهاء أن يقدِّم لمثل هذا الكتاب بما يتعلَّقُ بعيادَةِ المريض، وكذلك ما يتعَلَّقُ بالاستعداد للموت.

فنحن -إن شاء اللَّه- سنبدأ بهذا الكتاب ولعلنا جميعًا نستفيدُ منه، ليكون لنَا ذِكْرى متجددة، أن نتذكر الموت كما أرشَدَنا إلى ذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله:"أكثروا من ذِكْر هَاذِمِ اللَّذَّاتِ"

(2)

؛ فإن الموت لا يُذكَر في كثيرٍ إلا قَلَّلَهُ، ولا في قليل إلا كثَّرَه، وإذا ما تذكر الإنسان الموت وهو في أوقات فرَحِهِ وسعادتِهِ فإن الدنيا تسهُلُ في عينِهِ وتقل في نظرِهِ، ولا شَكَّ أن الإنسان إذا أكثر من ذِكْر الموت فإنَّ قلبه يرِقُّ، وإذا ما رقَ قلبه اشتد خَوفُهُ، وإذا ما اشتد خَوفُه بدأ يفكر في الآخرة ويستعد لها:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا. . .} [الإسراء: 19]، فإن سعيه حينئذٍ يكون مشكورًا، وهكذا كان السَّلَفُ رضي الله عنهم يستعدون للموت ويتذكَّرُونه في كثير من أوقاتهم فهُمْ لا يغفُلون عنه، ودائمًا عندما يتذكر الإنسان الموت فإن الدنيا تقل في عينه.

(1)

يُنظر: "الصحاح" للجوهري؛ حيث قال: "الموتُ: ضدُّ الحياة. وقد مات يموت ويمات أيضًا. . . وقومٌ مَوْتى وأمواتٌ، ومَيِّتون ومَيْتون. وأصل ميت: مَيْوت على فيعل، ثم أدغم. ثم يخفف فيقال ميت".

(2)

أخرجه ابن حبان في: "صحيحه"(2995).

ص: 2922

ولذا نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ بمَنْكِبِ عبد اللَّه بن عمر الصحابي الجليل فقال له: "كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سَبِيلٍ"

(1)

.

إذًا، مقام الإنسان في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوز أن يكون غَريبًا، مَرَّ بمدينَةٍ أو قرْيَةٍ أو بلدة أو يكون أيضًا مسافرًا عرَّجَ عليها، وهذه الحياة إنما هي دارُ عمَلٍ وليست دارَ دَوامٍ وليست دار جزاء، وإنما الدار الآخرة هي التي يجد فيها الإنسان حياته.

ومهما طالت حياة الإنسان في هذه الدنيا ومهما تقلب في نَعِيمِها فإنه بلا شك سينتهي إلى الموت؛ لأن هذا أمر متحكم في حق كل إنسانٍ، كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].

فكل نفسٍ في هذه الحياة ستموت، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نتَّخِذُ هذه الحياة وسيلة لتقربنا إلى اللَّه سبحانه وتعالى؟!

تذكَّر في مَشْيبِكَ والمآب

ودفنِك حين مَوتِك في التُّراب

وليَأتِيَن عليك يوم مرة

يُبكى عليكَ مقنَّعًا لا تسمع

فكم نرى من الأموات الذين يمرون بنا، فيما مضى إذا مَرَّت الجنازة اقشعرت قلوب الناس وبقوا في ليلتهم في هَمٍّ، أما اليوم فإننا تَمُرُّ بنا الجنائز تلو الأُخرى وكأن ذلك أمرًا عاديًّا لا يحرك مشاعرَنَا ولا يؤثر في قلوب كثير مِنَّا، وإن وُجِدَ بحمد اللَّه من يتأثر بذلك.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "استَحْيوا من اللَّه حقَّ الحياءِ". قالوا: يا رسول اللَّه إنا نَسْتَحِيي والحمد للَّه، قال:"ليس ذاك، ولكن الاستحياءَ من اللَّهِ حق الحياءِ أن تحفظَ الرأسَ وما وَعَى، والبطنَ وما حَوَى، ولِتَذْكُر المَوتَ والبِلى، ومن أراد الآخرة تَركَ زينةَ الدُّنْيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللَّه حق الحياء"

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (6416).

(2)

أخرجه الترمذي (2458)، وحسنه الألباني.

ص: 2923

هكذا كان السلف رضي الله عنهم، لم يكونوا ينشغلون في الحياة الدنيا، فإذا ما استعد الإنسان للآخرة وأكثر من ذكرها وقَلَّتْ في عينه هذه الدنيا وزهد بها، فإنه حينئذ سيراجِعُ نفسه وسيُحاسِبُها حسابًا يسيرًا، إن كان قد ظَلَم غيرَهُ فليراجع المظالِمَ وليَعُدْ إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وإذا كانت هذه الأحوال مطلوبة من المرء في كل وقت من أوقاتِهِ فهي تتأكد أكثر في حالة المَرَضِ، لأن الإنسان ربما لا يقوم من مرضه هذا وإنما يتوفَّاهُ اللَّه سبحانه وتعالى.

ولذلك يقول الشاعر:

أَنَلهو وَأَيّامُنا تَذهَبُ

ونلعبُ والموتُ لا يَلعبُ

عجبت لذي لَعِبٍ قد لَهى

عجبت ومالي لا أعَجَبُ

أيلهو ويلعب من نفسه

تموتُ ومنزلُهُ يخربُ

أرى كُلَّ ما ساءنا دائمًا

على كلِّ ما سرنا يغلب

ترى الليل يطلبنا والنهار

ولم ندر أيهما أغلب

أحاط الجديدان جمعًا بنا

فليس لهما عنهما مهرب

وكلٌّ لهُ مدةٌ تنقضي

وكلٌ لهُ أجلٌ يُكتَبُ

كل إنسان في هذه الحياة سينتهي به المقام إلى الموت، ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خيركم من طال عُمُرُه وحَسُنَ عمله"

(1)

، والإنسان لا يضمن في أي لحظة ولا في أي ساعَةٍ يغادِرُ هذه الحياة الدنيا؛ فينبغي أن يكون في كل لحظة من لحظات عمره مُسْتَعِدًّا للموت متهيئًا له بعمل الأعمال الصالحة واجتناب الأعمال التي تضُرُّهُ في هذه الحياة.

يفعل كل ما يقرِّبُه إلى اللَّه سبحانه وتعالى، يفعل كل ما يقرِّبُهُ إلى الجنة ويباعِدُهُ عن النار، وبذلك يعيشُ في هذه الحياة سعيدًا، حتى إذا ما أُلقِيَ في قَبْرِهِ وتولى عنه أصحابه وهو يسمع قَرْع نِعالِهِمْ، ويأتيه الملكان ويسألانه فإنه

(1)

أخرجه الترمذي (2330)، وقال الألباني:"صحيح لغيره".

ص: 2924

يجيبُ الإجابة الصحيحة التي سنتعرض لها -إن شاء اللَّه- في جملة الأحاديث التي ستَمُرُّ بِنَا.

* قوله: (والكلام في هذا الكتاب -وهي حقوق الأموات على الأحياء- ينقسم إلى ست جُمَلٍ).

هنا عَرض المؤلف مسألة ينبَغِي أن ننتَبِهَ لها؛ فهذه الشريعة ما طرَقَ العالَمَ شريعةٌ مثلها، فإنها اهتمَّتْ بحياة الإنسان في كل أحواله سَفَرًا كان أو حضرًا، في حالة نومِهِ أو في حالة يقَظَتِهِ، وإذا كان اللَّه سبحانه وتعالى قد كرَّم المؤمنين في وقت حياتهم فإن هذه الشريعة أيضًا أثبَتَتْ أن لهم حقوقًا بعد مَماتهم، فنحن نجِدُ أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكثر من زِيارَةِ المَرْضَى ويمسحُ على رأس المَريضِ ويدْعو له عليه الصلاة والسلام بالشِّفاءِ، وكذلك كان أصحابُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يَحْضُرُ الجنائز ويصلي عليها ويمْشِي فيها ويحضر الدَّفن، كل ذلك كان من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان أصحابه يفعلون ذلك.

فهذه الشريعة عُنِيَت بحقوق المسلم، والمسلم إذا ماتَ تَبْقَى له حقوق، فالمسلم بحاجة إلى من يُغسِّله، ومن يكفِّنه، والمسلم بحاجَةٍ إلى من يُصَلِّي عليه، وهو كذلك بحاجة إلى من يحمل جنازته ويسيرُ بها، ثم بعد ذلك يحفِرُ قبْرَهُ ويوضع فيه، ثم بعد ذلك يودَّع.

وعندما ينتهي المسلم في هذه الحياة فلا يُلْقَى جثَّة من الجثث، وإنما تَبْقى حرمته بعد مماته كحُرْمتِهِ قبل وفاته، فحرمة أمواتِنَا كحُرمة أحيَائِنَا.

* قوله: (الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِيمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، وَبَعْدَهُ. الثَّانِيَةُ: فِي غُسْلِهِ).

عند الاحتضار، عندما تبْدُو على المسلم علامات الموت فإنه في هذا المقام يُلقَّن شهادة (لا إله إلا اللَّه)، ومعلوم ما لهذِهِ الشهادَةِ من مكانَةٍ، وهذه الشهادة التي هي كلمة التوحيدِ هي التي ستَجِدُها معك يوم القيامة يوم لا ينفَعُ فيه مالٌ ولا بنون، متى ما أديتَ هذه الشهادة، متى ما نَطَقْتَ

ص: 2925

بها وعَمِلْتَ بها فإنك ستفوزُ في هذه الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، ولذلك يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لَقِّنُوا موتَاكم لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"

(1)

، ويقول عليه الصلاة والسلام:"من كانَ آخِرُ كلامِه لا إله إلا اللَّه دَخَلَ الْجَنَّةَ"

(2)

، هي أحلى كلمة يردِّدُها المسلم على لسانِهِ، ينبغي للمسلم دائمًا أن يكون لسانُه رَطْبًا بذكر اللَّه، وما أجمل وأعظم وأحسن أن يكون مما تردد لا إله إلا اللَّه!، وما أعظم أن يكون وداع المرء المسلم هذه الحياة الدنيا النطق بهذه الشهادة لا إله إلا اللَّه!، ولما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رؤوفًا بأمته، رَحِيمًا بهم، مشفقًا عليهم، حريصًا عليهم في كل أحوالهم أمرَ عليه الصلاة والسلام بأن يُلقَّن المسلم هذه الشهادة، حتى يكون آخر كلمة نَطَقَ بها في هذه الحياة، إنما هي كلمة التوحيد (لا إله إلا اللَّه)، التي من أجلها قامت السموات والأرض ومن أجلها أُرْسِلَ الرُّسُل، ومن أجلها أنزلت الكُتُب على رسول اللَّه، ومن أجلها حملَ المؤمنون السلاحَ يقاتِلُون في سبيل اللَّه لينشُرُوا دِينَ اللَّهِ في كل مكان ليحققوا كلمة التوحيد (لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه).

فمن الجميل أن يكون وداعُ المؤمن لهذه الحياة بعد كلمة: (لا إله إلا اللَّه).

* قوله: (الثَّالِثَةُ: فِي تَكْفِينِهِ).

هذه الأمور الأربعة سيأتي فيها بعض الخلاف بين العلماء، لكن الصحيح أن تغْسِيلَ الميت وتكفينَهُ والصلاة عليه ودَفْنه من الأمور الواجبةِ، فهي من فُروضِ الكِفَايةِ وليست من الفروض العَينِيَّةِ؛ أي: من الواجبات التي إذا قام بها بعض المسلمين سقَطَ الفرض عن بقيَّتِهِمْ.

(الرَّابِعَةُ: فِي حَمْلِهِ وَاتِّبَاعِهِ).

وانظر كيف أنَّ الإسلام يتابعُ المؤمن في كل أحواله:

(1)

أخرجه مسلم (916).

(2)

أخرجه أبو داود (3116)، وقال شعيب الأرناؤوط:"حديث صحيح".

ص: 2926

أولًا: إذا مرض المريض فإن الشريعة الإسلامية أثبتت له حقوقًا، أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيادة المريض، في الحديث المتفق عليه، وذكر عِدَّة أشياء

(1)

.

فعيادة المريض مطلوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى ويدعو لهم:"اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِب البَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا"

(2)

، وكان إذا رأى مريضًا قال:"لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ"

(3)

، وأيضًا وردت عنه عليه الصلاة والسلام عدة أدعية في هذا المقام.

فالشريعة الإسلامية تُعْنى بهذا المريض، وقبل موتِهِ في حالة مرضِهِ نص الفقهاء على أنه يختار أرفقَ الناس لملازمة المَريض، فالمريض يحتاج إلى إنسان يتحمَّلُ تَعَبَه يتحمل مشَاقَّه، لأن المريض في حالة يكون من يرؤف به ويقوم بخِدمَتِهِ ذا جلدٍ وصبر على ما يحصل منه من مشقَّة تتعب ذلك الإنسان الذي قام بشُؤونه، ولا ننسى أن من يلازم المريض ويقوم بالعناية به وإصلاح أحواله لن يذهب ذلك عند اللَّه فسيجد ذلك مدَّخرًا له عند اللَّه سبحانه وتعالى وسيجد ثواب ذلك العمل.

إذًا: يُختار أرفق الناس به ليهتم بأحواله ويتابعها.

ثم بعد ذلك إذا مات الميت بدأت العناية به كما مَرَّ بتلقينه الشهادتين ثم إذا مات تُخلَع ثيابه ويوجه إلى القبلة ويرفق بأحواله ويُغَسَل ويُكفَّن.

وكيف يغسَّل؟ وكيف يكفَّن؟ ومن أحق الناس بتَغسيلِهِ؟ ثم يُحمَل وكيف يُحمَل؟ وكيف يُسار به في جنازته أيسارُ أمامَه أم خلْفَهُ أم أن ذلك جائز؟ أيسير الناس رُكْبانًا أو مشاةً؟ إذا وضع في ذلك هل يجلس الناس

(1)

أخرج البخاري (1240): عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "حق المُسلِمِ على المُسْلِمِ خمْسٌ: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس".

(2)

أخرجه البخاري (5743).

(3)

أخرجه البخاري (3616).

ص: 2927

وينتظرون حتى يوضع في قَبرِهِ؟ هل كل من حضر يحثِي على قبره التراب؟ بعد ذلك يوضع في قبره، ويشَّقُ له اللحد، ويوضع اللَّبِنُ، ثم بعد ذلك يغطى قبى، هل يُرَشُّ؟ وإلى غير ذلك، أحكامه كثيرة جدًّا، كل هذه أمور بينتها هذه الشريعة الإسلامية.

أيضًا ما يتعلق بحقوقه إن كان الإنسان عليه ديون كيف تُقْضى دُيونُه؟ أيبدأ بها؟ وللدَّيْنِ أهمية كبيرة وما ورد في ذلك من أحاديث بالتشديد في قضاء الدَّيْنِ وفي عدم التساهل فيه، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توقف عن الصلاة على رَجُلٍ عليه دين حتى قام أبو قتادة فقال: أنا أقضي عنه يا رسول اللَّه، فقام رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام فصلَّى عليه

(1)

.

وأن نفس المؤمن معلقة بدينه فإذا قُضِيَ دَينُه انتهى كل شيء.

* قوله: (الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَبَعْدَهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَقَّنَ الْمَيِّتُ عِنْد الْمَوْتِ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ).

وهذه تكلمنا عَنْها، وهذا أمر ورد فيه حديث في صحيح مسلم وفي غيره: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بتلقين المَيِّتِ عند موته بهذه الشهادة لتكون آخرَ ما يتَلَفَّظُ وينْطِقُ به في هذه الحياة، فحتى يلقى اللَّه سبحانه وتعالى وهو يحمِلُ هذه الشهادة.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقِّنُوا موتاكم لا إله إلا اللَّه"

(2)

.

ومجرد النطق بالشهادتين لا يكْفِي، فلا بُدَّ من العَمَلِ معَهما، فلا يكفي أن يقولَ الإنسان:(لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه)، ثم نَجِدُ أن أعمالَهُ تهدِمُ ما يتعلق بذلك، فإذا قال المسلم:(لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه) فإنه يجِبُ عليه أن يُؤَدِّيَ حقَّ الشَّهادتين.

(1)

أخرجه أحمد (22657)، وقال الأرناؤوط:"حديث صحيح بطرقه وشواهده".

(2)

أخرجه مسلم (916).

ص: 2928

ولذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه عندما ارتَدَّ من ارتَدَّ من العَربِ ووجد من مَنَعَ الزكاةَ منهم فإنه قال: (إلا بحَقِّها)

(1)

ولما نُوقِشَ، وقيل له: أليسوا يقولون: لا إله إلا اللَّه، يعني ورد في الحديث الصحيح أن رسول اللَّه أمَرَ بمحارَبَةِ هؤلاء قال:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"

(2)

.

ومن حق الشهادَتينِ أن تعمَلَ بمُقْتضاهما، لا أن يأتي الإنسان نطَقَ بالشهادتين ثم يذهب للأموات فيدْعُوهم ويستَشْفِعُ بهم ويطوفُ حول قبورهم ويصرِفُ لهم أنواعًا من العبادات التي لا تليق إلا باللَّه ولا ينبغي أن تصرف إلا للَّه لا لملَكٍ مقرب ولا لنبيٍّ مرسل ولا لوليٍّ ولا لصالحٍ ولا لغير هؤلاء.

لا ينبغي للمسلم أن ينطِقَ بهما ثم يذهب فيدعو غير اللَّه ممن يُدَّعَى صَلاحهم وتُقاهم وورعهم، أو يطوف حول قبورهم، أو يذبح لهم، أو يتقرَّب لهم بأمور لا تجوز إلا للَّه سبحانه وتعالى فهذا يتنَافَى مع الشهادتين.

(لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ").

اللفظ المعروف: "لقنوا موتاكم لا إنه إلا اللَّه"

(3)

، ولا شك أن لا إله إلا اللَّه هي شهادة أن لا إله إلا اللَّه.

(وَقَوْلِهِ: "مَنْ كَانَ آخِرَ قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ").

لا شك، وهذا حديث صحيح ثَبَتَ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ

(1)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(3419).

(2)

أخرجه البخاري (392).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 2929

آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ"

(1)

، وفي قصة الحديث: أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: "لَا تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا"

(2)

.

فمن قال لا إله إلا اللَّه خالصًا من قلبه دخل الجنة، أما أن يقولها الإنسان مجردَ قَوْلٍ باللسان فهذا لا يكفي ولا يغني.

(وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْبَابِ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ).

يعني إذا مات الميت ماذا يُعمَلُ به؟ هل يُوجَّه إلى القبلة؟ يعني يوضع على يمينه ويوجَّه إلى القبلة، أو أن يُترك بالحالة التي هو عليها؟

كثير من العلماء يرى أن الأَوْلى في ذلك والمستحب أن يوجَّه المسلم إلى القِبْلَةِ؛ لأن هذه القبلة التي يُصلي إليها المسلمون، وهي التي يتجِّه المسلمون فيها إلى اللَّه سبحانه وتعالى في سائرِ صَلَواتِهم، فهي خير جهة يتَّجِهُ إليها المُسلِم، ونُقِلَ أيضًا عن حذيفة بن اليمان أنه قال: إذا متُّ فوجِّهُوني، أو ما معناه، يعني نقل عنه أنه أمر بتوجِيهِهِ إلى القبلة.

ونُقل عن بعض العلماء أنه لا يَرَى استحباب ذلك، ونُقل عن سعيد بن المسيب لما قيل له يتوجه إلى القبلة، قال: أنا على القِبْلَةِ دَائمًا

(3)

، ومع ذلك فَهِمَ العلماء من ذلك أن قوله:(نوجِّهك إلى القبلة) أن هذا أمر منتشر.

إذًا: توجيهه للقبلة هو الأصل، فاستحب ذلك كثير من العلماء كالشافعية والحنابلة.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (2856).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"، كتاب الجنائز، باب غسل المرء إذا حضره الموت، وحروف الميت إلى القبلة، رقم (6062) قال عبد الرزاق: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ إِنْسَانًا حِينَ حَضَرَ ابْنَ الْمُسَيِّبِ الْمَوْتُ وَهُوَ مُسْتَلقٍ قَالَ: احْرِفُوهُ قَالَ: أَوَلَسْتُ عَلَيْهَا؟ يَعْنِي أَنَّهُ عَلَى الْقِبْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقْبِلَهَا لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ.

ص: 2930

* قوله: (فَرَأَى ذَلِكَ قَوْمٌ وَلَمْ يَرَهُ الآخَرُونَ

(1)

. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّوْجِيهِ: مَا هُوَ مِنَ الأَمْرِ القَدِيمِ).

ومراد الإمام مالك رحمه الله أن ذلك ليس معروفًا ولم يَرِدْ -فيما أعلم- حَدِيث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإنما أُثِرَ عن بعض السلف، وأيضًا تكلم العلماء الذين استحبوا ذلك على أن جهة القبلة لها مَزَايا وفيها فضائل فإنه يتوجَّه إليهَا في الصلاة فيوجَه إلى القبلة.

(1)

مذهب الأحناف، يُنظر:"الدر المختار، وحاشية ابن عابدين"(2/ 189) حيث قال: " (يوجه المحتضر) وعلامته استرخاء قدميه، واعوجاج منخره وانخِسَاف صدغيه (القبلة) على يمينه هو السُّنَّة، (وجاز الاستلقاء) على ظهره (وقدماه إليها) وهو المعتاد في زماننا، (و) لكن (يرفع رأسه قليلًا) ليتوجه للقبلة (وقيل يوضع كما تيسر على الأصح) صححه في المبتغى، (وإن شق عليه ترك على حاله) والمرجوم لا يوجه معراج".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي"(1/ 414)، حيث قال:" (و) ندب لحاضره (تقليبه) للقبلة (عند إحداده)؛ أي: شخوص بصره للسماء (على) شق (أيمن ثم) إن لم يمكن فعلى (ظهر) ورجلاه للقبلة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 5)؛ حيث قال: "ويضجع المحتضر لجنبه الأيمن إلى القبلة على الصحيح فإن تعذر لضيق مكان ونحوه ألقي على قفاه ووجهه وأخمصاه للقبلة".

مذهب المالكية، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 82)؛ حيث قال: " (و) يسن (توجيهه إلى القبلة قبل النزول به وتيقن موته وبعده) لقوله صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام: "قبلتكم أحياءً وأمواتًا" رواه أبو داود ولقول حذيفة: "وجهوني". (و) توجيهه (على جنبه الأيمن إن كان المكان واسعًا) أفضل روي عن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لأم رافع: "استقبلي بي القبلة ثم قامت فاغتسلت أحسن ما تغتسل ولبست ثيابًا جددًا وقالت إني الآن مقبوضة ثم استقبلت القبلة متوسدة يمينها". (وإلا) بأن لم يكن المكان واسعًا وجه (على ظهره)؛ أي: مستلقيًا على قفاه وأخمصاه إلى القبلة كالموضوع على المغتسل (وعنه) يوجه (مستلقيًا على قفاه) واسعًا كان المكان أو ضيقًا (اختاره الأكثر) وعليه العمل. (قال جماعة يرفع رأسه) أي المحتضر إذا كان مستلقيا (قليلًا ليصير وجهه إلى القبلة دون السماء واستحب، الموفق والشارح تطهير ثيابه قبل موته) لأن أبا سعيد لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها".

ص: 2931

(وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ

(1)

أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ).

ربما سعيد بن المسيب الذي نُقِلَ عنه؛ لأن لم يُنْقَلْ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه شيء في ذلك فأراد ألا يتخذ ذلك على أنه أمر مقَرَّرٌ وحتْمِيٌّ، وإلا فالتوجه إلى القبلة نُقِلَ عن حذيفة بن اليمان، وأنه طلب ذلك.

(وَلَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ - أَعْنِي: الْأَمْرَ بِالتَّوْجِيهِ.

فَإِذَا قَضَى الْمَيْتُ غَمَّضَ عَيْنَيْهِ).

المَيْتُ بالتخفيف لمن فارقَ الدنيا، ولكن بالتشديد لمن هو في الحياة.

ولذلك يقول الشاعر:

لَيْسَ مَنْ ماتَ فاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ

إنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ

(2)

* قوله: (وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ دَفْنِهِ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِذَلِكَ).

ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحضَّ على تعجيلِ دَفْنِهِ

(3)

، لكن هذا لا يَعُم جميع الأموات فقد تأتي حاجاتٌ كما نَرَى في هذا الزمن، وقد جَدَّت أمور ووقعت وقائع وتطورت أمور من الصناعات وغيرها ترتَّب على وجودها وجود أحكام جديدة.

فقد يأتي إنسان فتصدمه سيارة ولا يُعرَف من أصابه، فهذا يحتاج إلى

(1)

لم أقف عليه مسندًا.

(2)

يُنظرت "الأصمعيات"(ص 152)، منسوبًا إلى عدي بن رعلاء الغساني.

(3)

أخرج الترمذي في "سننه"(1075): عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:"يَا عَلِيُّ، ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاةُ إِذَا أَتَتْ، وَالجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا". قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمَا أَرَى إِسْنَادَهُ بِمُتَّصِلٍ.

ص: 2932

وقت ليتَبَيَّن من الأمر، كذلك أيضًا إنسان قد يُغمَى عليه، قد يُصدم في شيء، يسقط من مكان عال، ربما أنه بعد لم يفارق الحياة، قد يغرَقُ في مكان ولا يفارق الحياة، لكن الماء غشيه.

فهناك أمور يُحتاج فيها إلى عدم التسرع في غسل الميت ودفنه، لكن إذا ما تيَقَّنَ موت المسلم فإن الأولى في ذلك كما ذكر المؤلف هو الإسراع في تجهيزه كما أوصى بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فإذا فارقَتِ الروح الجسد فإنه يشخَصُ بصرَ المرءِ يعني يفتح الميت عينيه، ولذلك لما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلَمَة أغمض عينيه

(1)

.

ولذلك يقول العلماء: إذا ما مات الميت فإنه أوَّلُ ما يُفعل معه أن تُغمَضَ عينيه، وبعض العلماء يرى أنه تُليَّن مفاصله حتى لا يشتد يعني يؤخذ بساقيه فتقدم وتؤخر، وبعضهم يقول: يُلَف على لِحْييه عصابة حتى لا يرتخي وجهه يعني تشد عليه عصابة، ويقولون يوَجه إلى القبلة وكذلك إذا وضئ أيضًا يُرفق به، وفي كل الأحوال يُسعى إلى ما فيه مصلحة المَيِّتِ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سَلَمة وغمَّض عينيه ودَعا له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بقوله:"اللهم افسحِ له في قَبْرِهِ وأضِئ له فيه، اللهم أعظِمْ نورَهُ واغفر ذنْبَهُ، اللهم ارفَعْ دَرَجته في المَهْدِيِّين واجعله في بركة في الغابرين، واغفر لنَا وله يا رب العالمين"

(2)

.

ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة -كما في الحديث الصحيح- فغمَّض عينيه ودعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمغفرة وأن يرفع درجاته في المَهْدِيِّينَ وأن يجعل له عَقِبًا صالحًا وأن يعْفر اللَّه له سبحانه وتعالى، ولذلك قال في الحديث:"واغفر لنا وله، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه" وهذه من الأدعية التي وردت في الأموات.

(1)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(2)

أخرجه مسلم (920).

ص: 2933

* قال: (إِلَّا الْغَرِيقَ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الْمَذْهَبِ تَأْخِيرُ دَفْنِهِ).

وكذا كلُّ إنسان يُتردد في موتِهِ كمَنْ يُغمى عليه كما تَرَوْنَ الآن كم تمضي بعد تطور الطب الآن من أن يجلس إنسان على السَّرِير ربما جلس أشهرًا أو سنوات وهو الآن تجده على الحياة ولكنه لا يعِي، إذن هل هذا يدفن؟ لا.

إذًا لا يُتعجل في مثل هؤلاء، إنما يُتعجل في ذلك إذا ثبت يَقِينًا أن الروح قد فارَقَتِ البَدَنَ.

* قال: (فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الْمَذْهَبِ).

ويقصد بالمذهب مذهب مالك وهذا عند الفقهاء عامَّة، يعني الغَرِيق ومن يشبهه كذلك من أصابته صدمة، كذلك من أغْمِيَ عليه، ومن وقع من مكان عال إلى غير ذلك، وقد ورد في الآثار أنه وجد من أُغْمِيَ عليه أيام، وتكلم الفقهاء في ذلك وفي حق المغمى عليه هل يقضي الصلاة أو لا يقضيها؟ وسبق أن بيَّنَّا ذلك، وبعضهم قال يقضِيهَا، لكن لو وضع لذلك حدًّا، وبعضهم يرى أنه يقضيها مُطلقًا، وبعضهم قيَّد ذلك بيوم وليلة وهكذا.

(مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَدْ غَمَرَهُ فَلَمْ تَتَبَيَّنْ حَيَاتُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا قِيلَ هَذَا فِي الْغَرِيقِ فَهُوَ أَوْلَى فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَرْضَى).

نعم، كما ذكر المؤلِّفُ، والقاضي هو المؤلف، وكثير من المَرْضى، ولعلَّ هذه الأحوال ظهرت في زمننا هذا أكثر من غيره فهذه أمور مُشاهدة ومعروفة.

(مِثْلُ الَّذِينَ يُصِيبُهُمُ انْطِبَاقُ الْعُرُوقِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الأطِبَّاءِ).

لا شك أن المؤلف يتكلم عن الطب فيما مضى، فأما الطب الآن فقد تطور واكتشفت أمور كثيرة، وأيضًا الآلات التي يستخدمها الأطباء قد تطورت وأصبحت هناك علامات كثيرة يستفاد منها في مثل ذلك.

ص: 2934

(حَتَّى لقد قَالَ الأطِبَّاءُ؛ إِنَّ الْمَسْكُوتِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَنُوا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ).

يعني المسكوتين أي: الذين ماتوا كما يقول بالسَّكْتَةِ.

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(الْبَابُ الثَّانِي فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ)

وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ: مِنْهَا فِي حُكْمِ الْغُسْلِ. وَمِنْهَا فِيمَنْ يَجِبُ غُسْلُهُ مِنَ الْمَوْتَى. وَمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُغَسِّلَ، وَمَا حُكْمُ الْغَاسِلِ. وَمِنْهَا فِي صِفَةُ الْغُسْلِ.

[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ الْغُسْلِ فَأَمَّا حُكْمُ الْغُسْلِ]

فَإِنَّهُ قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَقِيلَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالْقَوْلَانِ كلَاهُمَا فِي الْمَذْهَبِ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ نُقِلَ بِالْعَمَلِ لَا بِالْقَوْلِ، وَالْعَمَلُ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تُفْهِمُ الْوُجُوبَ أَوْ لَا تُفْهِمُهُ. وَقَدِ احْتَجَّ عَبْدُ الْوَهَّابِ لِوُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي ابْنَتِهِ "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا" وَبِقَوْلِهِ فِي الْمُحْرِمِ "اغْسِلُوهُ". فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَرَجَ مَخْرَجَ تَعْلِيم لِصِفَةِ الْغُسْلِ لَا مَخْرَجَ الْأَمْرِ بِهِ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الأَمْرَ وَالصِّفَةَ قَالَ بِوُجُوبِهِ).

ص: 2935

[الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَنْ يَجِبُ غُسْلُهُ مِنَ الْمَوْتَى]

* قوله: (الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَنْ يَجِبُ غُسْلُهُ مِنَ الْمَوْتَى).

ذلك أن الموتى أنواع، إنسان يُقتَل في المعركة، وإنسان يموت على فراشه، وإنسان أيضًا يقتله اللصوص، وإنسان يقتله البغاة، وإنسان يُقتَل دون ماله، أو يُقتَل دون عِرْضِهِ، أو يُقتل دون نفسه.

وربما إنسان غافل فتصيبه رصاصة طائشة فتقتله، وإنسان قد يكون على مكان عال فيسقُطُ، وإنسان قد يسبح في مكان فيَغْرق، وإنسان يَمُر بوادٍ من الأودية فيأتي السيل فيحْملُه، والأسباب كثيرة جدًّا، وأنواع الموت متعددة.

لكن العلماء يقسمونه إلى قسمين:

* شهيد وغير شهيد.

* مسلم وغير مسلم.

والشهيد أيضًا يقسمونه إلى نوعين:

* شهيد في المعركة.

* وشهيد في غير المعركة.

فَالشَّهيدُ في المعركة لا يُغَسَّلُ، ولا يُصلى عليه؛ وإنْ كان فيه كلامٌ لبعض العلماء كما سيأتي.

(وَأَمَّا الأمْوَاتُ الَّذِينَ يَجِبُ غُسْلُهُمْ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى

ص: 2936

غُسْلِ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُقْتَلْ فِي مُعْتَرَكِ حَرْبِ الْكُفَّارِ

(1)

).

يَعْني: المسلم الذي لم يدخل مَعركةً من المعارك، فإن هذا يُغَسَّل ويُصلَّى عليه، وهذا ليس محلَّ خلاف بين العلماء، وأمثلة ذلك كثيرة، وأدلَّته أشهر من أن تُذكَر.

(وَاخْتَلَفُوا فِي غُسْلِ الشَّهِيدِ، وَفِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَفِي غُسْلِ الْمُشْرِكِ).

إذًا، المؤلف تكلم عن غسل الشهيد، وعن الصلاة عليه، وعن المُشْرِك.

وَسبب تَعرُّض المؤلف لذلك ربما يكون ما ورَد في قصة أبي طالب، فإنه لما مات وأخبَرَ ابنه عليٌّ رضي الله عنه رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بموت عمه، وأنه قال:"المُشْرك"، وفي بعضها:"عمك الضال"، ووجهه الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إلى مُوَاراته، وأمره ألا يُحدِثَ حَدَثًا حتى يعود إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمره بعد المُواراةِ أن يغتَسِلَ

(2)

.

(فَأَمَّا الشَّهِيدُ - أَعْنِي: الَّذِي قَتَلَهُ فِي المُعْتَرَكِ المُشْرِكُونَ).

لا شك أن هذه أعظم الشهادات، إنسان يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون، يعني: كانوا يحبون الموت في سبيل اللَّه كما كنا نحب الحياة.

ولذلك، مضى أن نعرض لمثل ذلك أيضًا، يوجد من بعض المرضى -هداهم اللَّه- أو حتى من بعض الأصحَّاء إذا ضاقت أمامهم السُّبُل، وربما قَلَّ في يَدِهم العيش؛ فإنك تجدُ أحدَهم يتضَجَّر ويتمنَّى الموت،

(1)

يُنظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 34)؛ حيث قال: "وَاتَّفَقُوا على أَن غسله وَالصَّلَاة عَلَيْهِ إن كَانَ بَالغًا وتكفينه، مَا لم يكن شَهِيدًا أَو مقتولًا ظلمًا فِي قصاصِ فَرْضٍ".

(2)

سيأتي تخريجه.

ص: 2937

ورَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا"؛ يعني: إن كان لا بد متمنيًا، "فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي"

(1)

.

أنت قد تطلب الموت، وربما هذه الأوقات التي قد تكون قليلةً في حياتك هي التي ستَنْجُو بها من عذاب اللَّه، "خيرُكم مَنْ طالَ عُمُره، وحَسُنَ عملُهُ"، قد تجد إنسانًا يرتكب المَوبقات والمعاصي، فإذا ما مرَّت به فترةٌ من الحياة، تغيَّرت حاله، وتَقدَّم على كَثِيرٍ من الصالحين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"خِيَارُكُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا"

(2)

.

كَمْ من إنسانٍ كان عاصيًا منحرفًا! ولذلك لا ينبغي لمسلمٍ إذا رأى منحرفًا أن يقول: هذا لا يمكن أن يتوب! هذا كما يحصل من بعض المسلمين هداهم اللَّه، هذا لا يصلح وقد جاء في الحديث: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَدَّثَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللَّه -تعالى- قَالَ:"مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانِ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"

(3)

.

الهداية بيده سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول اللَّه -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، فَكَمْ رأينا من الضُّلَّال المنحرفين الذين خرجوا عن الطريق السَّوِيّ، من الذين ارتكبوا الموبِقات، من الذين أشركوا باللَّه سبحانه وتعالى، من الذين تقلَّبوا في البِدَعِ والخرافات والضلالات، ثم هَداهم اللَّه سبحانه وتعالى، فَسَلكوا طريقًا مستقيمًا لا عِوَجَ فيه، ولا انحراف.

هدْه الهداية بيد اللَّه سبحانه وتعالى، فإذا ما رأيتَ أخاكَ المسلِمَ قد خرج عن

(1)

أخرجه البخاري (5671)، ومسلم (2680).

(2)

أخرجه البخاري (3374).

(3)

أخرجه مسلم (2621).

ص: 2938

الطريقِ السَّوِيِّ؛ فادع اللَّه سبحانه وتعالى أن يهديه، وادع اللَّه سبحانه وتعالى أن يُصلِح قلبَه، إنْ وجدت فيه خَللًا فانصحه وبَيِّن له طريق الحقِّ وطريقَ الرشادِ، وحذِّره من طريق الغِوَايةِ والضَّلالِ، وأخبره أن هذه الحياة الدنيا إلى فناءٍ، وأن الآخرة هي الدارُ الباقِيَةُ، وأنه عليه أن يُؤْثِرَ الباقية على الفانية، هذا هو واجب المسلم نحو أخيه.

إذن، لا ينبغي لمُؤْمنٍ إذا نزلت به نازلةٌ أو وقعت به شدةٌ أن يتمنَّى الموت، ولَا ينبغي أن يُحْتج بقول مريم عليها السلام:{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} ؛ لأنها فعلت ذلك خشية الفتنة على قومها، وأما قول يوسف عليه السلام:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} ، أنتم تعلمون ما مرَّ على يوسف نبيِّ اللَّه عليه السلام من الأذى، فإخوته يكيدون له، ويُلقَى في البئر، ويُباع بثمنٍ بخسٍ، ثم يُنْقَل سلعةً رخيصةً، فَيُبَاع في أسواق مصر، ثم بعد ذلك يُلْقى في غيابات السجن، ويُتَّهَم قبل ذلك بأمرِ هو بريء منه، ويتجه إلى اللَّه سبحانه وتعالى:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، فقال:{فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} ، ويخرج إلى السجن ويظل فيه فترةً طويلةً، ثم تُرَى الرؤية، ثم يطلبه بعد ذلك حاكم مصر وعزيزها، ثم بعد ذلك يتبيَّن الحق من غيره.

ويظهر أنَّ نبيَّ اللَّه خرج صافيًا نقيًّا؛ لأن أنبياءَ اللَّه لا يحصل منهم ذلك، ثم بعد ذلك يُمكِّن اللَّه له في الأرض، ويضعه على حكم مصر، ثم بعد ذلك يجمع اللَّه له الشمل بعد أن تفرَّق، يأتي إليه أبوه بعد أن ذهب بصرُهُ، فَيُلْقى عليه ثوب ابنه فيرتد بصيرًا، ويأتي بإخوته فيطلبون منه أن يدعو اللَّه سبحانه وتعالى لهم بالمغفرة، وكل ما حصل منهم من أذًى، وما لحق به من مشقات ومتاعب، ومع ذلك نجد أنه استغفر اللَّه سبحانه وتعالى:{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} .

وهَكَذا شأن المؤمن، مهما مسَّه من الأذى، ومهما ناله من إخوانه المؤمنين؛ فعليه أن يتحمل ذلك {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ

ص: 2939

عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} .

إذًا، هذا هو الطريق، هذه هي مرتبَةُ الإحسانِ، فمتى إذا ما وصلتَ إليها مع إيمانك بربك، فأنت وصلتَ إلى مَرْتبةِ الإحسان، فما أجمل أن يُمكِّنك اللَّه سبحانه وتعالى من أخيك، وأَنْ تَرَى الحقَّ في جانبك ظاهِرًا جَليًّا، ثم تعفُوَ وتصفحَ! لا شكَّ أنك ستجد ثوابَ ذلك مدَّخرًا عندَ اللَّه سبحانه وتعالى في يومٍ أحوج ما تَكُونُ فيه إلى الحسنة الواحدة، لكننا نغفُل عن هذه الأمور، وكل واحدٍ منا يريدُ أن ينتصرَ لنفْسِهِ، ولماذا يعتدي عليَّ فلان، وربما قاطع القَريبُ قريبَه، والصديقُ صديقَه، والرحمُ رحمَه. . . وهكذا، وتشتَّت المسلمون، واستبدَّت بينهم الفُرقَة والخِلاف، كلُّ ذلك بسبب أمورٍ بسيطةٍ، وأكثر ما تكون بسبب زَبَد الدُّنيا وما فيها.

فالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم نَهَى أحدُنا أن يتمنَّى الموت لضُرٍّ نزَل به، ولذَلكَ تجدون أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

وَيَقُولُ بعض العلماء: "لو لم يَرِدْ في الصبر إلا هذه الآية لكَفَتْ".

وفي قصة المرأة التي جَاءَتْ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقالت: إِنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ:"إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ" فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا

(1)

.

لم يهمَّها أن تُصرَع، لكنها لا تريد أن تتكشَّف أمام الرجال، فخَيَّرها رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أن تصبِرَ ولها الجنة، وبين أن يدْعُوَ اللَّه لها، فيزول ما بها من سقمٍ ومرضٍ، فما الذي اختارت؟ اختارت أن تبقى على ما هي عليه، اختارت اللَّه سبحانه وتعالى والجنة.

(1)

أخرجه البخاري (5652)، ومسلم (2576).

ص: 2940

إذًا، هذا أذًى يمسُّها، ويلحق بها، فلما خيَّرها رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين جَنَّةٍ عرضها السموات والأرض، وبين دنيا يمر بِهَا الإنسان، وسيُحَاسب عما فيها، وأن تبقى سعيدةً يزول ما بها من مرضِ، فهي اختارت ما عند اللَّه سبحانه وتعالى.

إذًا، فَلْنَصبر إذا ما ابتُلِينا، ولا ننسى أنَّ ما يصِيبَ المسلم من سَقَمٍ أو مَرَضٍ إنما يُكفِّر اللَّه به سبحانه وتعالى الخطايا والذنوب، ولذلك يُبْتلى الناس على قدر أعمَالهِمْ، الأمثل فالأمثل، فأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ألم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قيل عنه إنه ساحر؟ وإنه كافر؟ وأُلْقِيَ سلى الجَزُورِ عليه عليه الصلاة والسلام وهو قائم يصلِّي؟ ويذهب عليه الصلاة والسلام إلى الطائف يَطْلب أناسًا يستَجِيبون لدعوته؛ فيسلطون عليه صغارَهم وسُفهاءَهم ليرْمُوه بالحجارة، ويرجع إلى مكة ولا يدخلها إلا بحماية المُطعِم بنِ عَدِيٍّ.

وقد مَرَّ رَسُولُ اللَّه بمَصَاعبَ، وتآمَروا على قَتْله، واختاروا من كلِّ قَبِيلةٍ رجلًا؛ ليتفرَّق دمُهُ عليه الصلاة والسلام، لكن كما قال اللَّه:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وَتَمْضي الأيَّام، ويُؤْذَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويُلقى بعض أصحابه في شدَّة الرَّمْضاء في صحراء مكة، ينامُ في شدة الحرِّ، وتوضَعُ الصخرةُ على صدْرِه وهو يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ.

هذَا هو الإيمان، وكان ممن قبلنا يُنْشَرُون بالمناشير ويظلُّون على إيمانهم، فلماذا إذا أصابت أحدُنا وَعكةً صحِّية، أو تعبًا أو تألمَ، أو سالَ جُرحه دمًا، أو أصابته مصيبة من المصائب، لماذا لا يقول:"إنا للَّه وإنا إليه راجعون"، لماذا يجزع؟ لماذا يلطم؟ لماذا يصرخ؟ إذا تُوفِّي له أب أو ابن أو قريب له يقول:"إن للَّه ما أخذ، وللَّه ما أعطى"، فينبغي أن نصبِرَ، فيقول في هذا المقام:"إنا للَّه، وإنا إليه رَاجعون، اللهم أجْرُني في مُصِيبَتِي، واخلُف لي خيرًا مِنها"، مَنْ فعل ذلك، فإن اللَّه سبحانه وتعالى سيُخْلِفُه في مصيبتِهِ؛ لأنَّ رسول اللَّه -وهو الصادق المصدوق- قد أخبر عن ذلك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًّا.

ص: 2941

فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَة، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهُمَّ أجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْر مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ:"أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ"

(1)

.

(فَإِنَّ الْجُمْهُورَ

(2)

عَلَى تَرْكِ غُسْلِهِ لِمَا رُوِيَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ فَدُفِنُوا بِثِيَابِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ")

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (918).

(2)

مذهب الأحناف، يُنظر:"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 197)؛ حيث قال: "قال أبو جعفر: (ومن قتل في المعركة لم يغسل، وصلي عليه، ودفن في ثيابه، إلا أنه ينزع الحشو من الجلد والفرو والسلاح، ويزيدون ما شاؤوا، وينقصون ما شاؤوا) ".

مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 258)؛ حيث فيها: "في الشهيد وكفنه ودفنه والصلاة عليه قال: وقال مالك: من مات في المعركة فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه قال: ورأيته يستحب أن يترك عليه خفاه وقلنسوته".

مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (1/ 304)؛ حيث قال: " (قال الشافعي -رحمه اللَّه تعالى-): وإذا قتل المشركون المسلمين في المعترك لم تغسل القتلى، ولم يُصَلَّ عليهم ودُفِنوا بكُلُومهم ودمائهم، وكفَّنهم أهلُوهم فيما شاؤوا كما يكفَّنُ غيرهم إن شاؤوا في ثيابهم التي تشبه الأكفان وتلك القمص والأزر والأردية، والعمائم لا غيرها، وإن شاؤوا سلبوها وكفنوهم في غيرها كما يصنع بالموتى من غيرهم، وتنزع عنهم ثيابهم التي ماتوا فيها".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"(3/ 1396)؛ حيث قال: "قلت: وهل يغسل الشهيد؟ قال: إذا مات في المعركة لم يغسل".

(3)

أخرج البخاري (1344): عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ =

ص: 2942

معركة أُحُدٍ هي التي وقعت في الموقع الذي في المدينة قرب جبل أُحُد، والنَّصرُ فيها كان في أول الأمْرِ لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، لَكن عندما تعجَّل الرُّماة، وما قَصَدوا مخالفةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قصدًا، وَلَكن حَصل ذلك بأن تَرَكُوا مَواقعَهم؛ فاستغلَّ العدوُّ تلك الفرصة، فانقضَّ عليهم، وأحاط بهم كالسِّوار، فنزل بالمسلمين ما نزل من البلاء، وقُتِلَ عددٌ من المسلمين.

لَا شكَّ أنَّ هذه المعركَةَ فيها دروسٌ كثيرةٌ جدًّا مهما حاول الإنسان أن يَتنَاولها، لَكن في هذا المقام من أهمِّ ما فيها من دروسٍ أنَّ مخالفَةَ القائد يترتب عليها ضَررٌ، فهؤلاء خرجوا وتركوا مواقِعَهم ليجمعوا الغنائم على أن النصر قد ظهر وتَبَيَّن للمؤمنين، فكانت النتيجة أن التفَّ عليهم المشركون، وأوقعوا السيف بالمؤمنين، وممن مسَّه أذى في ذلك المقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا مما يُبْتَلى به المؤمنون:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} .

إذن، يُبْتَلَى المؤمن في أمورٍ، فَيُخْتَبر فيها، فالمؤمنون ابتلوا في ذلك، هذا درسٌ من الدروس، ونحن نَعْلَم قبل ذلك في موقعة بَدْرٍ كَمْ كان عدد المؤمنين، وكم كان عدد أعدائهم، المؤمنون قِلُّة، وسلاحهم لا يُقَارن بسلاح أعْدائهم، لكن اللَّه سبحانه وتعالى كان معهم، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما كان في الغارِ وأبو بكرٍ معه، والمشركون يمرُّون بجِوارِهم ويَرَوْن أقدامَهم، ويخاف أبو بكر على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا على نفسه، ويقول:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، إذن تمرُّ بالمسلمين بعض المصائب، فينبغي أن يصبروا عليها.

إذًا، هَذِهِ المَعْركة قُتِلَ فيها عَددٌ من المسلمين، وهم -بلا شكٍّ- شهداء عند ربهم يرزقون، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدفنهم.

= الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ:"أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ"، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ:"أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ".

ص: 2943

واعلم أنَّ الإنسانَ في هذه الحياة مهما طالت به الحياة، فإنَّ مصيره بلا شك إلى الممات.

لَا بُدَّ مِنْ تَلَفٍ مُقِيمٍ فَانْتَظِرْ

أَبِأَرْضِ قَومِك أَمْ بِأُخْرَى المَصْرَعُ

(1)

هذا هو مصير الإنسان الذي سينتهي إليه.

قَسَّم المؤلف الموتى إلى قسمين: شهداء وغير شهداء.

ثم الشهداء منهم من يُقْتَل في المعركة، ومنهم من يموت في غير المعركة، فقد يموت بسبب الحريق أو الغرق، أو يقتل دون نفسه أو دون ماله أو دون أهله أو دون عرضه، وغير ذلك، ومن يُصَاب بالطاعون فهو شهيد، وقد عدَّد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثيرًا من أنواع القتلى، وكذلك الذين يموتون ببعض الأمور بأنهم من الشهداء.

لكن هل يصل هؤلاء إلى درجة الشهداء الذين قَدَّموا أنفسهم رخيصةً في سبيل اللَّه لإعلاء كلَمة اللَّه سبحانه وتعالى؟ الذين قاتلوا لتكون كلمة اللَّه هي العليا، وكلمة الذين كفروا السُّفْلى؟ هؤلاء الذين قُتِلُوا في المعركة إنما هم شهداء، هؤلاء الذين قاتلوا لإعلاء كلمة اللَّه.

أما مَنْ يقاتل لأجل العصبية، أو لأجل أن يُقَال فلان شجاع، أو لغير ذلك من الأسباب التي لَيْست من الدين في شيءٍ، فهذا لا يعتبر شهيدًا، وفي قصَّةِ الرجل الذي عُرِضَ عليه الإسلام، وأنْ يخرج مقاتلًا في واقعة بدرٍ، وجدَه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضمن الذين أُصِيبُوا، فذهبوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكرون له حاله، فقال:"هُوَ فِي النَّارِ"، فعادوا إلى الرجل فوجدوه فيٍ آخر رمقٍ من حياته فسألوه: لِمَ قاتلت فقُتِلتَ، فبيَّن أنه إنما قاتل عصبيةً؛ فلنحذر من العصبية العمياء.

(1)

ديوان الهذليين (1/ 3).

روى هذا البيت في "المفضليات" لمنمم بن نويرة من قصيدته التي أوَّلها:

صرمت زنيبة حبل من لا يقطع. وروايته فيه:

لا بد من تلف مصيب فانتظر

أبأرض قومك أم بأخرى تصرع

ص: 2944

إذًا، من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا، فهو في سبيل اللَّه:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} ، هؤلاء الذين قُتلوا في المعركة هم الذين يأتون في مقدمة الشهداء.

إذًا، الشهداء نوعان: شهيد قُتِلَ في المعركة؛ فهذا أكثر العلماء يذهبون إلى أن هؤلاء لا يُغَسَّلون، ولا يُصَلّى عليهم، ودليل ذلك ما حَصل لشهداء أُحُدٍ.

وبالنظر إلى ما ذكره اللَّه سبحانه وتعالى عن نبيه يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} ، نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى يَسَّرَ لَه جميع أسباب الراحة في هذه الدنيا بعد أن نال ما نال من الشَّقاء والتَّعب، فهو لا يتمنى الموت لضرٍّ ونحوه، ولكنه يسأل اللَّه -تعالى- أن يُميتَه على الإسلام بعد أن وفقه اللَّه سبحانه وتعالى، وبعد أن خلصه من تلك الأمور التي خيطت حبالها، وَشِيكَتْ حوله، بعد أن أنقذه اللَّه سبحانه وتعالى وجعله حاكمًا على مصر، أعطاه اللَّه سبحانه وتعالى أمرًا عظيمًا، وشيئًا كثيرًا في هذه الحياة، فما كان منه إلا أن يشكر اللَّه سبحانه وتعالى، ولا شك أن من أجلِّ ما يتمناه الإنسان في هذه الحياة أن يميتَه اللَّه سبحانه وتعالى مسلمًا، وأن يتوفَّاه في الصالحين.

إذًا، هؤلاء الشهداء الذين يُقتَلون في المعركة يقول العلماء: لا يُغسَّلون، ولا يُصلَّى عليهم، فهم في الحالة التي هم عليها نِعْمَ الحالة حتى وإن اختلطت بهم دماؤهم، لكن العلماء يقولون: يُنزع عنهم الحَدِيدُ والجُلود، ويختلفون بعد ذلك بما عليهم من فَرْوٍ وغيره هل يُنزَع أو لا، فبعض العلماء يرى أنها تبْقى، وبعضهم يرى أنها تُؤْخذ من أجسادِهِم.

* قوله: (وَكَانَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَقُولَانَ:"يُغَسَّلُ كُلُّ مُسْلِمٍ فَإِنَّ كُلَّ مَيِّتٍ يُجْنِبُ"

(1)

).

(1)

أخرج عبد الرزاق (6650): عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَا:"يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ فَإِنَّ كُلَّ مَيِّتٍ يُجْنبُ".

ص: 2945

الحسن هو الحسن البصري، وسعيد بن المسيب أيضًا، كلاهما من كبار وأجلَّاء التابعين، وحياتُهما وسِيرتُهما معروفة في خِدمة هذا الدِّين، وفي نقل ثرْوَةِ رسولِ صلى الله عليه وسلم وتَرِكتِهِ التي أودعها في أصحابه، فإن أولئك النَّفَرَين من الذين نَقَلُوا سُنَّة رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبلَّغوها للناس في وقتٍ، فَحَملها العدولُ عنهم.

وَلَهم مَواقفُ معروفةٌ في خِدمَةِ هذا الدِّينِ ونشْرِهِ، وفي الجهاد في سبيل اللَّه، وَفي الدعوة إليه، لكن العلماء يختلفون في مثل هذه المسائل، ولَا يلزم أيضًا أن يكون الحقُّ دائمًا في جانب الإنسان إذا كان صالحًا وتقيًّا وكان تابعيًّا أو غير ذلك، فإن العلماء يجتَهِدُون، والمجتهدُ قد يُصِيبُ، فإن أصاب فلَه أجران، وقد يجتهد قاصدًا الوصول إلى الحقِّ فيخطئ؛ فله أجرٌ على اجتهادِهِ:"إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"

(1)

، لكن مَنْ يجتهد في دين اللَّه عن جَهْلٍ وغير عِلْمٍ؛ فهذا ممن يَحكُمُ بدينِ اللَّه على جَهْلِ، فهذا لا يدخل في هذا الصِّنف، وإنما هذا يحكمُ بغير ما جاء عن اللَّهِ سبحانه وتعالى، ولا عن رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وهذا مما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"

(2)

، وما أكثرَ الذين يُفْتُون عن جهْلٍ! وما أكثرَ الذينَ لا يعرفون الجوابَ فيَقُولُون بالجواب خشية أن يُقَال: إن فلانًا لا يعرِفُ الجوابَ، ونَسوا أن كبارَ الأئمة كالإمام مالك إمام دار الهجرة وغيره سُئِلَ عن مسائل كثيرة وقال فيها: لا أدْرِي

(3)

؛ ولذلك قيل: "لا أدري نصفُ

(1)

أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716).

(2)

أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).

(3)

جاء في "آداب الشافعي ومناقبه"(ص: 79): عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَجْلانَ، يَقُولُ:"إِذَا أَغْفَلَ الْعَالِمُ لا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ".

ص: 2946

العِلم"

(1)

، فقولك:"لا أدرِي" خير من أن تقول وأنتَ لا تَدْرِي؛ فتُفْتِي بجَهْلٍ، فربما توقع الناسَ في ارتكاب محظور أو مُحرَّم.

(وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أنَّ مَا فُعِلَ بِقَتْلَى أُحُدٍ كَانَ لِمَوْضِعِ الضَّرُورَةِ -أَعْنِي: الْمَشَقَّةَ فِي غُسْلِهِمْ-).

يعني: منهم مَنْ يرى أن هؤلاء قتلى كثيرون، وأن المسلمين قد انشَغَلُوا بأمورهم، فإنهم قد استَحرَّ بهم القتلُ في تلك المعركة بعد أن انتصروا في أوَّلها، قالوا: هذا لأجل الضرورةِ، أمَرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بدَفْنهِمْ؛ فقَدْ وُجِدَ عدد من المسلمين ممن أصيب في نفْسه، -وممَّن أصيب في ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنه كُسِرَتْ رَبَاعيته، وأصيب أيضًا غيره من الصحابة الكثير.

إذًا، الإصاباتُ نَزَلت بالمسلمين، فالطرف الآخر يرى أن الدَّفنَ من غير تغْسيلٍ وصلاة إنما هو لأجل الضرورة؛ لكثرَةِ المَوتَى وانشغال المسلمين عنهم.

(وَقَالَ بِقَوْلِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ

(2)

.

(1)

أخرح الدارمي في "السنن"(186): عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ "لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ"، وقال محقِّقه:"إسناده صحيح".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 118)؛ حيث قال: "قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بقول سعيد بن المسيب والحسن البصري في غسل الشهداء إلا عبيد اللَّه بن الحسن العنبري، وليس ما قالوه من ذلك بشيء؛ لأن الشيء الذي جعلوه علة ليس بعِلَّة لأن كل واحد من القتلى كان له أولياء يشتغلون به دون غيره وبل العلة في ذلك ما قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أن الشهيد يأتي يوم القيامة وريح دمه كريح المسك"، واحتج بعض من ذهب من المتأخرين مذهب سعيد والحسن في ترك غسل الشهداء بقوله عليه السلام في شهداء أحد: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، قال: وهذا يدل على خصوصهم وأنهم لا يشركهم في ذلك غيرهم كما لا يشركهم في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر: يلزمه أن يقول في المحرم الذي وقصته ناقته أن لا يفعل بغيره من المسلمين كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم به؛ لأنه قال فيه: "يُبعث يوم القيامة ملبيًّا"، وهو لا يقول بذلك".

ص: 2947

وَسُئِلَ [أَبُو عُمَرَ]

(1)

فِيمَا حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ غُسْلِ الشَّهِيدِ فَقَالَ: قَدْ غُسِّلَ عُمَرُ وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَكَانَ شَهِيدًا -يَرْحَمُهُ اللَّهُ-

(2)

).

وفي قصَّة عُمَر رضي الله عنه، حيث كان وَاقفًا في فريضة الفجر عندما كان أميرًا للمؤمنين يُصلِّي بالناس صلاة الفجر، فتقدم أبو لؤلؤة المجوسي معه سيفه الذي غمسَه بالسُّمِّ ليالي وأيامًا، فطعن عددًا من الصحابة حتى وصل إلى عمر رضي الله عنه فطعنه، وانتهى به الأمر

(3)

.

وَهُوَ رضي الله عنه قد تمنَّى أن يُميتَه اللَّه شهيدًا، وفي هَذه المدينة، وقد تحقَّق له رحمه الله ما طلب من رَبِّه.

إذًا، هو شَهيدٌ لا شكَّ؛ لأنه قُتِلَ في سَبيل اللَّه قائمًا يُصلِّي بالناس، قتَلَهُ عدوٌّ من أعداء اللَّه وهو ينطق بالحقِّ، ويقرأ بالناس في صلاة الفجر.

إذًا، هو شهيد، لكنه -كما ذكر ابن عبد البر

(4)

- غُسِّلَ وصُلِّي عليه.

* قوله: (وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ فِي حَرْبِ الْمُشْرِكينَ لَا يُغَسَّلُ فِي الشُّهَدَاءِ مِنْ قَتْلِ اللُّصُوصِ أَوْ غَيْرِ أَهْلِ الشِّرْكِ).

يَعْني: يريد أن يُبيِّن أن الذين ذهبوا -وهم جماهير العلماء- إلى أن

(1)

الصواب: (ابن عمر)؛ يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 347)؛ حيث قال: "وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ غُسْلِ الشَّهِيدِ فَقَالَ: قَدْ غُسِّلَ عُمَرُ، وَكُفِّنَ، وَحُنِّطَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَكَانَ شَهِيدًا".

(2)

أخرج ابن أبي شيبة (32821): عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"غُسِّلَ عُمَرُ وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ".

(3)

أخرجها الآجريُّ في "الشريعة"(1395) في قصة طويلة مبكية.

(4)

تابع الشارحُ رحمه الله المؤلِّفَ في قوله: "وَسُئِلَ [أَبُو عُمَرَ] فِيمَا حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ"، فَوَهِمَ فظنَّه أبو عمر ابن عبد البر، ولكنَّه (ابن عمر) كما سبق وبيَّنتُ، وابن المنذر: هو أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (المتوفى: 319 هـ)، وابن عبد البر: هو أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر بن عاصم، النمري، القرطبي (المتوفى: 463 هـ)، فكيف يحكي المتقدِّمُ عن المتأخِّرِ!

ص: 2948

مَنْ قُتِلَ شهيدًا في المعركة هؤلاء هُمُ الَّذين اتفقوا على ألا يُغسَّل، ولا يُصلَّى عليه، أيضًا اختلفوا في مسألة أخرى.

واللُّصوص قد يَتَربصون، قد يقفزون على بيت إنسان، أو على متجره، أو على مزرعته، أو على غيرها يريدون المال، وربما يَصِلُ بهم الأمر إلى أن يقتلوا هذا الإنسان، فَهو -بلا شكٍّ- شهيد؛ لأنه قُتِلَ دون ماله، هؤلاء لصوص تسلَّطُوا على هذا الإنسان فأرادوا سرقته، فهو يريد أن يدافع عن نفسه، وربما يُقتَل دون أن يدافع عن نفْسِه، فهذا ممن قُتِلَ دون نفسه وماله، إذًا هو شهيد.

كذلك أيضًا قُطَّاع الطريق الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر، يَقِفُون في بعض الطرق وبتربصون بهم كما كان يُفْعل قبل فترةٍ بطريق الحُجَّاج حتى انتشر الأمن -بحمد اللَّه- في هذه البلاد، وصارَ الإنسان ينتقل وحدَهُ ليلًا ونهارًا في أي مكان لا يخشى إلا اللَّه سبحانه وتعالى.

هذه نعمةٌ لا شك تقتضي منَّا الشكرَ جميعًا، وعلينا كذلك أن نشكر مَنْ كانت له جهود في ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يشكر اللَّهَ من لا يشكُرُ الناسَ"

(1)

.

إذًا، هذَا عملٌ عظيمٌ انتهى -بحمد اللَّه- نتيجة الإخلاص وإقامة العدل، ونشر الفضيلة وتطبيق شريعة اللَّه إلى أن استقر الأمن.

ولا شكَّ أنَّ أي بلدٍ تُطبَّق فيها شريعة اللَّه، فإنها ستنتشر فيها الفَضِيلةُ، وتختفي الرَّذِيلَةُ، وأي بلدٍ يُبْتعَد فيها عن شريعة اللَّه، وتطبق فيها القوانين التي هي من عُقولِ الناس، وزُبَد أفكارِهِم، فإنها -بلا شَكٍّ- ستنتشر فيها الرَّذائل، وتعُمُّ الفَوضى، ويكثر القتلى فيها.

إذًا، هؤلاء الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر في طُرُقاتِهِمْ وغيرها، هؤلاء إذا قتلوا أمثال هؤلاء، هؤلاء شهداء؛ لأنه غُدِرَ بهم وقُتلوا، فكيف يُعامل هؤلاء من حيث الصلاة والتغسيل؟

(1)

أخرجه أبو داود (4811).

ص: 2949

* قوله: (فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ

(1)

، وَأَحْمَدُ

(2)

، وَجَمَاعَةٌ: حُكْمُهُمْ حُكْمُ مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ).

أَحْمَد في رِوَايةٍ.

* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ

(3)

، وَالشَّافِعِيُّ

(4)

: يُغَسَّلُ).

وَهي روايةٌ أُخرى للإمام أحمد

(5)

.

* قال: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ الْمُوجَبُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْغُسْلِ هِيَ الشَّهَادَةُ مُطْلَقًا، أَوِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَيْدِي الْكُفَّارِ).

يريد المؤلف أن يقول: سبب الخلاف هل رفع حُكْم الغسل

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 348)؛ حيث قال: "وقال سفيان الثوري: من قتل مظلوما لم يغسل. وكذلك قال الأوزاعي فيمن يقتل في نفسه، أو قتله اللصوص، وبه قال أحمد، وأصحاب الرأي فيمن قتله اللصوص".

(2)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"(8/ 3905)؛ حيث قال: "قلت: رجل قتله اللصوص، أيغسل أم لا؟ قال: كل قتيل يغسل إلا من قتل في المعركة".

(3)

يُنظر: "المدونة"(1/ 259)؛ حيث فيها: "وقال مالك: ومن قتل مظلومًا أو قتله اللصوص في المعركة فليس بمنزلة الشهيد، يغسل ويكفن ويحنط ويصلى عليه، وكذلك كل مقتول أو غريق أو مهدوم عليه إلا الشهيد وحده في سبيل اللَّه فإنه يصنع بهذا وحده ما يصنع بالشهداء، لا يغسلون ولا يكفنون إلا بثيابهم ولا يحنطون ولا يصلى عليهم ولكن يدفنون. قلت: ويصنع بقبورهم ما يصنع بقبور الموتى من الحفر واللحد؟ قال: نعم. قلت: وهو قول مالك؟ قال: نعم، وهو رأيي".

(4)

يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 306)؛ حيث قال: "من أكله سَبُع أو قتَله أهل البغي أو اللصوص أو لم يعلم من قتله غسل وصلي عليه، فإن لم يوجَدْ إلا بعض جسَدِهِ صلى على ما وُجِدَ منه، وغسل ذلك العضو".

(5)

يُنظر: "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" للقاضي أبي يعلى (1/ 203)؛ حيث قال: "واختلفت في شهيد غير المعركة مثل الذي يقتله للصوص ومن قتل ظلمًا دون ماله ونفسه عمدًا. فنقل صالح وأبو الحارث: أنه كشهيد المعركة لا يغسَّل، وهل يصلى عليه؟ على روايتين: لأنه قتل بغير حق، ولا وجب عليه غسل في حال الحيال أشبه شهيد المعركة. ونقل أبو طالب: أنه كسائر الأموات يغسل ويصلى عليه، لأنه مات في غير معركة المشركين أشبه سائر الأموات".

ص: 2950

والصلاة، بسبب الشهادة مطلقًا، وإطلاق الشهيد على هذا، أو أنهم نوعٌ خاصٌّ من الشهداء، وهم الذين قُتِلُوا في المعركة أمام أعداء اللَّه الكفار؟ هذا هو الذي يريد أن يقوله.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هِيَ الشَّهَادَةُ مُطْلَقًا قَالَ: لَا يُغَسِّلُ كُلُّ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ شَهِيدٌ مِمَّنْ قُتِلَ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هِيَ الشَّهَادَةُ مِنَ الْكُفَّارِ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا غُسْلُ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ).

انتقَل المؤلف إلى مَسْألةٍ أخرى، قد يكون الابن مسْلِمًا والأب كافرًا، أو العكس من ذلك، فهل يُغسِّل المسلم الكافر أو لا؟

هذه مسألة فيها خلاف وتفصيل:

* بعض العلماء يرى أنه ليس للمسلم أن يغسِّلَ كافرًا مهما كان، سواء كان مُرتدًّا أو كافرًا أصليًّا، وسواء كان قريبًا للمسلم أو غير قريب له.

* وبعضهم يرى أنَّ له أن يُغَسِّل الكافرَ، وأن يمشي في جِنازته، وأن يدفِنَهُ أي: يُوَاريه في التراب.

* ومن العلماء مَنْ قال: يواريه فقط في التراب، ولا يُغَسِّله، ولا يمشي في جنازته؛ لأنه ليس أهلًا لذلك.

* قوله: (فَكَانَ مَالِكٌ

(1)

يَقُولُ: لَا يُغَسِّلُ الْمُسْلِمُ وَالِدَهُ الْكَافِرَ وَلَا يَقْبُرُهُ).

عند الإمام أحمد

(2)

لا يُغَسِّله، ولا يَقْبره، وعند الإمام مَالِكٍ يتفق

(1)

يُنظر: "المدونة"(1/ 261)؛ حيث فيها: "قال ابن القاسم قال مالك: لا يغسل المسلم والده إذا مات الوالد كافرًا، ولا يتْبَعُه ولا يُدْخِلُه قبره إلا أن يخشى أن يضيع فيوارِيَهُ".

(2)

يُنظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد" لأبي الخطاب الكلوذاني (ص: 119)؛ حيث قال: "ولا يغسل المسلم قريبه الكافر ولا يتولى دفنه".

ص: 2951

مع الإمام أحمد إلا أن مالكًا يرى أنه يواريه في التراب إذا احتيج إلى ذلك.

وعند الشافعية يرى أنه يُغسِّله ويدفِنُه، ويسيرُ في جنازتهِ، والحنفية يفرِّقون بين المرتدِّ وغيره؛ فيرون أن المرتد لا ينظر إليه، أما غيره فهم يتفقون مع الشافعية من حيث الجملة.

* قال: (إِلَّا أَنْ يَخَافَ ضَيَاعَهُ فَيُوَارِيَهُ).

يَعْني: يخَاف ضياعه فيُوَاريه؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ؛ ففسر ذلك أن المُوَاراة إنما هي من المُصاحَبَةِ؛ لأنه مهما كان هو والده، وَإِنْ وُجِدَ ما يفصل بينهما، فهذا مسلِمٌ في الجنة، وهذا كافرٌ في النار، هذا مطيعٌ للَّه سبحانه وتعالى، وذاك عاصٍ له خارج على حدوده، فَشتَّان بين الاثنين، فكيف يأتي مسلم فيُغَسِّل كافرًا، ثم بعد ذلك يمشي في جنازته إشهارًا، ثم بعد ذلك يحفِرُ له ويدفنه، هذه وجهة هؤلاء.

وَأُولَئك المجيزون يَرَون أن هذا من المعاملة الحسنَةِ، والخلاف كلُّه يدور حول قصة أبي طالب عمِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما جاء علي بن أبي طالب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخبره بموتِ عمِّه، وَالجَدير بالذكر أن أبَا طَالِبٍ له مواقف مشهودة مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكن وإن كانت له مواقف، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ترك وسيلةً من الوسائل إلا وبذلها عَلَّه يدخل في الإِسلَام:"أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"

(1)

، لكن الرجل قد انصرَفَ، وأراد أن يبقى على دِينِ آبائه وأجدادِه، أما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم ينسَ، حاول معه، وفي مرَضِهِ الذي مات فيه عرَضَ عليه أن ينطقَ بالشهادتين فلم ينطق بهما خشية أن يقال بأنه تَغَيَّر وتَحَوَّلَ عن دِينِ آبائه وأجداده، إنها العصبِيَّةُ العمياءُ!

(1)

أخرجه البخاري (3884).

ص: 2952

فلما جاء علي بن أبي طالب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخبره، فقال: إنَّ عمَّك الشيخَ الضالَّ قد مات، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اذْهَبْ فَوَارِهِ، ثمَّ لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي" قَالَ: فَوَاريتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ، قَالَ:"اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ، ثُمَّ لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي"

(1)

، فذهب فواراه في التراب، ثم عاد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يغتسل. . .

مَحلُّ الشاهد: أن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا أن يوارِيَ أباه؛ أي: أن يدفنه. . . ولم يَرِدْ في هذا الحديث الغُسْلَ، لكن كما ذكر ابن حجر وغيره كون الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من عليٍّ رضي الله عنه أن يغتسل بعد أن وارَاهُ، فإن هذا دليل على أنه غَسَّلَهُ، وسيأتي الكلام على الطريقة التي يُغَسَّل بها الميت، لكن ورد في بعض الروايات وتحتاج للتثَبُّت من صِحَّتها أن عليًّا غسَّلَ أباه؛ لأن الرسولَ صلى الله عليه وسلم أمره بتغْسيلِهِ.

* قال: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

: لَا بَأْسَ بِغَسْلِ الْمُسْلِمِ قَرَابَتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْنِهِمْ).

بل قال الشافعي أيضًا: ويمشي في جنازة والده أو قريبه.

لَكن أبا حنيفة يُفرِّق بين الكافر الأصلي فيتفق مع الشافعية، وبين المرتدِّ فهو يختلف، فرَّق بين الكافر الأصلي الذي لم يَذُقِ الإيمان، ولم تخالط بشَاشتُهُ قلبَه، وبين إنسان ذاقَ حَلاوةَ الإيمان، ولكنه بعد ذلك ارتدَّ على عَقِبَيهِ، وَلذلك يَقُولُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بدَّلَ دينَه فاقتلوه".

إذًا، المرتدُّ رَجلٌ دخل في الإسلام، فَعَرف ما في الإسلام من مَزَايا، وما يشتمل عليه من محاسن، ثم ارتدَّ ونكَص على عَقِبَيهِ، فاستبدل الكفرَ بالإيمانِ، واستبدل الظلام بالنُّور، فهذا حالُهُ أشد من حال الكافر

(1)

أخرجه أحمد (759)، وقال الأرناؤوط:"إسناده ضعيف".

(2)

يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 303)؛ حيث قال: "ولا بأس أن يُغَسِّلَ المسلم ذا قَرابته من المشركين، ويتبع جنائزه، ويدفنه ولكن لا يصلي عليه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عَلِيًّا رضي الله عنه بغسل أبي طالب".

ص: 2953

الأصلي، ولذلك يقول الحنفية: لا ينبغي لقَرِيبِهِ المسلم أن يُغسِّله، ولا أن يدفِنَهُ، ولا أن يشارك في دَفنِهِ.

* قال: (وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(2)

).

أما أبو ثَوْرٍ، فهو من أصحاب الإمام الشافعي، لكن له آراء كثيرة يخالف فيها المذهب الشافعي، وبعضُهم يجعله صاحبَ مذْهب، وأنه صاحب رأي مستَقِلٍّ، وهو إمامٌ جليلٌ مشهورٌ.

* قال: (قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: "لَيْسَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ الْمُشْرِكِ سُنَّةٌ تُتَّبَعُ"

(3)

، وَقَدْ رُوِيَ:"أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِغُسْلِ عَمِّهِ لَمَّا مَاتَ"

(4)

).

ابْنُ المنذر هو الإمَام الجليل المشهور صاحب الكتب المشهورة التي عوَّل علَيها كثيرٌ من العلماء الذين جاؤوا من بعده، ككتاب "الإجماع" وكتابه "الأوسط" وكتابه "الإشراف"، وهو ممن يحكي الإجماع، وَكتبُهُ

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 341)؛ حيث قال: "وكان الشافعي يقول: لا بأس أن يغسل المسلم ذا قرابته من المشركين، ويتبعه، ويدفنه، وبه قال أبو ثور".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 209)، حيث قال:"قال أبو جعفر: (ويغسل المسلم ذا قرابته من الكفار) ".

(3)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 341)؛ حيث قال: "قال أبو بكر: ليس في غسل من خالف الإسلام سنة يجب اتباعها، والحديث الذي احتج به الشافعي منقطع لا تقوم به الحجة".

(4)

أخرج عبد الرزاق (9935) عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الشَّيْخَ الضَّالَّ لِأَبِي طَالِب قَدْ مَاتَ قَالَ: "فَاغْسِلْهُ ثُمَّ اغْتَسِلْ كَمَا تَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ أَجِنَّهُ" قَالَ: مَا كُنتُ لِأَفْعَلَ قَالَ: "فَأْمُرْ غَيْرَكَ". ثم أخرج (9936): عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبِ الْأَسْدِيِّ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا مَاتَ، انْطَلَقَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ فَمَنْ يُوَارِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَلَا تُحْدِثْ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي" قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ دَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ.

ص: 2954

حقيقةً -وبخاصة "الأوسط"، وكذلك "الإشراف"- مَليئةٌ بأحَاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأسانيدها، وهي أيضًا كذلك مليئةٌ بآثار الصحابة رضي الله عنهم، وهي أيضًا من الكتب التي يُرْجَع إليها في فقه السُّنَّة، وفي الأثر أيضًا.

* قال: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلِ الغُسْلُ مِنْ بَابِ العِبَادَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ النَّظَافَةِ؟ فَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً، لَمْ يَجُزْ غُسْلُ الكَافِرِ، وَإِنْ كَانَتْ نَظَافَةً جَازَ غُسْلُهُ).

لَا شَكَّ أنَّ أكثَرَ العلَماء يرون أنَّ الغسلَ لأجل النَّظافة؛ ولذلك يقولون: إنَّ الحكمَةَ في تَغْسِيلِ الميِّت ظاهرةٌ، وهي النظافة؛ لأن القَصدَ تنظيفُ بدنه من النجاسات؛ ولذلك يقول كثير من العلماء: يُوَضَّأ وضوءه للصلاة، وبعض العلماء يرى أنه يقتَصر التنظيف بخِرْقةٍ، وبعضهم بخِرْقتين، فيلف الإنسان على يديه خِرقة، ثم بعد ذلك يغسل مكان السبيلين. . هذا مَنْ يرى خِرْقَتينِ، ثم يأخذ الأُخرى بعد ذلك ويغسل بها سائرُ بدنِهِ. . هذا بعد أن يوضئه؛ لأنهم يقولون: أولًا يُغْسَل السبيلان ثم يُوضئوه؛ لأن الرسولَ صلى الله عليه وسلم لما أوصى بغَسْلِ ابنته قال: "ابدأن بمَيامِنِهَا، وبمواضعِ الوضوءِ مِنْها"

(1)

، فاعتبر ذلك العلماء دليلًا على أن الميت يُوضَّأ كالحَيِّ.

ولَا شك أنَّ الواجب في تغسيل الميت غسلة واحدة، لكن وَرَد:"اغسلنها بماءٍ وسدرٍ"، "اغسِلْنَها ثلاثًا أو خمسًا"، وفي رِوايةٍ:"أو سبعًا"

(2)

، والقصد من ذلك التنقيةُ، كما أن الواجب في الوضوء إنما هي غَسلة واحدة، والثانية والثالثة إنما هي مستحبة، والثانية أفضل من الواحدة، والثالثة أفضل من الاثنتين.

إذًا، هناك أمرٌ واجبٌ، وهناك أمرٌ غير واجبٍ، والعلماء يذكرون في تغْسِيلِ الميت بعضهم يرى أنه يُجلَس قليلًا، يعني: يُسنَد؛ لأن المَيِّتَ لا يستطيع أن يجلس، ثم بعد ذلك يُوضَّأ، ثم يُمَال إلى جهة قدميه حتى إذا

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

سيأتي تخريج الروايات.

ص: 2955

ما غُسل، فإنه يخرج الماء يعني: يجري إلى جهة الرِّجلين، ثم يُغسَل يمينه ثم بعد ذلك يُغسَل يساره وهكذا، كما لو كان الإنسان يغتسل عن الجنابة.

هَل الَّذي عليه جنابةٌ يُغْسَل مرتين؟

اختلَف العلماء في ذلك، والصحيح أنه يُكْتفى بغَسْلةٍ واحدةٍ؛ لأن المؤمن لا يَجْنُبُ، ولذلك الجنابة لا تؤثِّر، فإذا ما كان على الإنسان وغسلت، زالت.

فلو قُدِّرَ أن إنسانًا عليه جنَابة، وأراد أن يغتَسِلَ للجمعة، فإنه ينوي الغُسْلين معًا، وبعضهم يقول: ينوي غُسْل الجنابة؛ لأنها هي الغسلة الواجبة، ويدخل فيها أيضًا الغُسْل غيرُ الواجبٍ فيتداخلان "إذا اجتمع أمران من جِنْسٍ واحدٍ، ولم يختلف مَقْصودُهما، دخل أحدُهما في الآخر غالبًا"، وهي قاعدة فِقْهِيَّةٌ مشهورة.

[الْفَصْل الثَّالِثُ فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُغَسِّلَ الْمَيِّتَ]

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُغَسِّلَ الْمَيِّتَ، وَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُغَسِّلَ الْمَيِّتَ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرِّجَالَ يُغَسِّلُونَ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ يُغَسِّلْنَ النِّسَاءَ

(1)

.

(1)

لعل المؤلِّف فَهم هذا الإجماع من مفهوم كلام ابن المنذر رحمه الله في "الأوسط"(5/ 337)، حيث قال:"ذكر الرجل يموت مع النساء أو المرأة تموت مع الرجال واختلفوا في الرجل يموت مع النساء أو المرأة تموت مع الرجال".

ص: 2956

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ تَمُوتُ مَعَ الرِّجَالِ، أَوِ الرَّجُلِ يَمُوتُ مَعَ النِّسَاءِ مَا لَمْ يَكُونَا زَوْجَيْنِ

(1)

عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ قَوْمٌ

(2)

: يُغَسِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ فَوْقِ الثِّيَابِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يُيَمِّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(3)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(4)

، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ

(5)

. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُغَسِّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُيَمِّمُهُ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ

(6)

، بَلْ يُدْفَنُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ تَغْلِيبِ النَّهْيِ

(1)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 44)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن المرأة تغسل زوجها إذا مات".

(2)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 337)؛ حيث قال: "فقالت طائفة: تغسل في ثيابها تغمس في الماء غمسًا، هكذا قال النخعي، وقال الزهري، وقتادة: تغسل وعليها الثياب، وقال الحسن البصري، وإسحاق بن راهويه: يصب عليها الماء من فوق الثياب".

(3)

يُنظر: "التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص: 49)، حيث قال:"فإن مات رجل وليس هناك إلا امرأة أجنبية أو ماتت امرأة، وليس هناك إلا رجل أجنبي يمما".

(4)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (2/ 201)؛ حيث قال: "ماتت بين رجال أو هو بين نساء يممه المحرم فإن لم يكن فالأجنبي بخرقة وييمم الخنثى المشكل لو مراهقًا وإلا فكغيره فيغسله الرجال والنساء".

(5)

وهو مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 411)، حيث قال:" (ثم) إن لم يوجد محرم وليس إلا رجال أجانب (يممت)؛ أي: يممها واحد منهم (لكوعيها) فقط وجاز مسها للضرورة مع ضعف اللذة بالموت".

وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 90)، حيث قال:" (وإن مات رجل بين نسوة لا رجل معهن) ممن لا يباح لهن غسله، بأن لم يكن زوجاته ولا إمائه: يمم بحائل (أو عكسه) بان، ماتت امرأة بين رجال (ممن لا يباح لهم)، أي: الرجال (غسله)؛ أي: الميت، بأن لم يكن فيهم زوجها ولا سيدها: يممت لما روى تمام في فوائده عن واثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجال".

(6)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 14)؛ حيث قال: "وقال الليث: إذا لم يكن مع الرجل إلا النساء ولا مع المرأة إلا الرجال فإن كل واحد منهما يلف في ثيابه ويصلى عليه ولا يغسل ولا ييمم، وقال الليث أيضًا: إن توفي رجل مع رجال ولا ماء معهم دفن كما هو ولم ييمم".

ص: 2957

عَلَى الْأَمْرِ، أَوِ الأَمْرِ عَلَى النَّهْيِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغُسْلَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَنَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى بَدَنِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ إِلَى بَدَنِ الرَّجُلِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ).

قال الشافعي وجمهور العلماء: إذا لم يكن مع المرأة إلا الرجال، ولا مع الرجل إلا النساء يَمَّمت المرأةُ الرجلَ والرجلُ المرأةَ ولم يُفرِّق بين ذِي المَحرم وغيره، ولكن من وراء الثوب.

قال أبو حنيفة وأصحابه: يُيَمِّمُ ذُو المحرَمِ المرأةَ بيدِه ويُيَمِّمُها الأجنبي من وراء الثوب.

* قوله: (فَمَنْ غَلَّبَ النَّهْيَ تَغْلِيبًا مُطْلَقًا -أَعْنِي: لَمْ يَقِسِ الْمَيِّتَ عَلَى الْحَيِّ فِي كَوْنِ طَهَارَةِ التُّرَابِ لَهُ بَدَلًا مِنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا- قَالَ: لَا يُغَسِّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُيَمِّمُهُ. وَمَنْ غَلَّبَ الأَمْرَ عَلَى النَّهْيِ قَالَ: يُغَسِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ -أَعْنِي: غَلَّبَ الْأَمْرَ عَلَى النَّهْيِ تَغْلِيبًا مُطْلَقًا. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّيَمُّمِ فَلأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ يَجُوزُ لِكلَا الصِّنْفَيْنِ، وَلِذَلِكَ رَأَى مَالِكٌ

(1)

أَنْ يُيَمِّمَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي يَدَيْهَا وَوَجْهِهَا فَقَطْ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْهَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَأَنْ تُيَمِّمَ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ لأنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرَّجُلِ عَوْرَةٌ إِلَّا مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَكَأَنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي نَقَلَتِ الْمَيِّتَ مِنَ الْغُسْلِ إِلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ هِيَ تَعَارُضُ الْأمْرِ وَالنَّهْيِ، فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ هَذِهِ الضَّرُورَةَ بِالضَّرُورَةِ الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا لِلْحَي التَّيَمَّمُ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ فِيهِ بُعْدٌ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ).

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير للدردير"(1/ 411)؛ حيث قال: " (ثم) إن لم يوجد محرم وليس إلا رجال أجانب (يممت) أي يممها واحد منهم (لكوعيها) فقط وجاز مسها للضرورة مع ضعف اللذة بالموت".

ص: 2958

لم يقس الميت على الحَيِّ فجعل لكُلٍّ منهما حُكمًا مُفردًا فنتَجَ عن ذلك القول بأنه لا يُغسِّلُ أحدُهما الآخر.

* قوله: (فَأَمَّا مَالِكٌ فَاخْتَلَفَ فِي قَوْلِهِ في هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَمَرَّةً قَالَ: يُيَمِّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قَوْلًا مُطْلَقًا، وَمَرَّةً فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَرَّةً فَرَّقَ فِي ذَوِي الْمَحَارِمِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَيَتَحَصَّلُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فِي ذَوِي الْمَحَارِمِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ

(1)

: أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ يُغَسَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الثِّيَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُغَسِّلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ولَكِنْ يُيَمِّمُهُ، مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي غَيْرِ ذَوِي الْمَحَارِمِ. وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ -أَعْنِي: تُغَسِّلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ، وَلَا يُغَسِّلُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ-. فَسَبَبُ الْمَنْعِ: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَوْضِعِ الْغُسْلِ مِنْ صَاحِبِهِ كَالأَجَانِبِ سَوَاءٌ. وَسَبَبُ الْإِبَاحَةِ: أَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَهُمْ أَعْذَرُ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَجْنَبِيِّ. وَسَبَبُ الْفَرْقِ: أَنَّ نَظَرَ الرِّجَالِ إِلَى النِّسَاءِ أَغْلَظُ مِنْ نَظَرِ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النِّسَاءَ حُجِبْنَ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ إِلَيْهِنَّ وَلَمْ يُحْجَبِ الرِّجَالُ عَنِ النِّسَاءِ).

هذا ذكرٌ لأقوال مالك في هذه المسألة، وهذا يبيِّنُ أن الإمام المجتهد قد يتغير اجتهاده في المسألة الواحدة مرات ومرات، ولا يفسد ذلك الاجتهاد وقيمتُه.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 13)؛ حيث قال: "فقال مالك في المدونة وفي العتبية من رواية سحنون وعيسى عن ابن القاسم ومن سماع أشهب أنه أيضًا جائز أن يغسل المرأة ذو محرم منها من فوق الثوب إذا لم يكن نساء وكذلك الرجل تغسله ذات المحرم منه إذا لم يكن رجال وتستره، وذكر محمد بن سحنون عن أشهب أنه لا يغسل ذو المحارم بعضهم بعضًا ولكن ييممون، وذكر ابن عبد الحكم عن مالك معنى ما ذكره في موطئه إلا أنه كان لا يجاوز بالنساء إذا يممهن الرجال الكفين ويبلغ النساء بتيمم الرجال إلى المرفقين فإن كن ذوات محارم فلا بأس أن يغسلن الرجل ما لم يطلع على عورته ويغسل الرجل ذأت المحرم منه في درعها ولا يطلع على عورتها".

ص: 2959

* قوله: (وَأَجْمَعُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى جَوَازِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا

(1)

. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ غُسْلِهِ إِيَّاهَا، فَالْجُمْهُورُ

(2)

عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

: لَا يَجُوزُ غُسْلُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ تَشْبِيهُ الْمَوْتِ بِالطَّلَاقِ، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالطَّلَاقِ قَالَ: لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهُ بِالطَّلَاقِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ قَالَ: إِنَّ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا قَبْلَ الْمَوْتِ يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا دَعَا أَبَا حَنِيفَةَ أَنْ يُشَبَّهَ الْمَوْتُ بِالطَّلَاقِ لأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأُخْرَى، كَالْحَالِ فِيهَا إِذَا طُلِّقَتْ، وَهَذَا فِيهِ بعْدٌ، فَإِنَّ عِلَّةَ مَنْعِ الْجَمْعِ مُرْتَفِعَةٌ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، لِذَلِكَ حَلَّتْ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عِلَّةَ مَنْعِ الْجَمْعِ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَإِنَّ مَنْعَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، فَيَقْوَى حِينَئِذٍ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ).

اختلفوا في جواز غسل الرَّجل امرأتَهُ:

فقال أكثرهم: جائز أن يغسلَ الرجُل امرأتَه كما جاز أن تغسله.

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 334)؛ حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن للمرأة أن تغسل زوجها إذا مات".

(2)

مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 260)؛ حيث فيها: "قال: وسألته عن الرجل يغسل امرأته في الحضر وعنده نساء يغسلنها؟ فقال: نعم. قلت: والمرأة تغسل زوجها وعندها رجال؟ فقال: نعم، فقلت له: أيستر كل واحد منهما عورة صاحبه؟ قال: نعم، وليفعل كل واحد منهما بصاحبه كما يفعل بالموتى يستر عليهم عورتهم".

مذهب الشافعية، يُنظر: الأم للشافعي (1/ 311)؛ حيث قال: "ويغسل الرجل امرأته إذا ماتت، والمرأة زوجها إذا مات".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"مختصر الخرقي"(ص: 39)؛ حيث قال: "وتغسل المرأة زوجها وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس".

(3)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 204)؛ حيث قال: "قال أبو جعفر: (وتغسل المرأة زوجها إذا مات، ولا يغسل الرجل زوجته) ".

ص: 2960

وحجتهم:

أولًا: أن عليًّا غسَّل فاطمة رضي الله عنهما. ثانيًا: قياسًا على غسل المرأة زوجها؛ لأنهما زوجان.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: تغسله ولا يغسلها؛ لأنه ليس في عدَّة منها. وعلَّل أبو حنيفة: بأنَّ لزوجها أن يتزوج أختها فلذلك لا يُغَسِّلها وهذا لا ينتقض عليهم بغسلها له.

* قوله: (وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ لَا تُغَسِّلُ زَوْجَهَا

(1)

. وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجْعِيَّةِ، فَروى مَالِك أَنَّهَا تُغَسِّلُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(2)

. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ

(3)

: لَا تُغَسِّلُهُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ، لأَنَّهُ لَيْسَ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَرَاهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(4)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ هَلْ يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجْعِيَّةِ أَوْ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا؟).

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 185)؛ حيث قال: "وأجمع العلماء على أنه جائز أن تغسل المرأة زوجها إن مات في عدتها، واختلفوا في الرجعية".

(2)

يُنظر: "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح"(ص: 571)؛ حيث قال: " (والمرأة تغسل زوجها) ولو معتدة من رجعي أو إظهار منها في الأظهر أو إيلاء لحل مسه والنظر إليه ببقاء العدة".

(3)

يُنظر: "المدونة"(1/ 260)؛ حيث فيها: "قلت: أرأيت الرجل إذا طلق امرأته بطلقة يملك الرجعة فمات أتغسله؟ قال: لا. وقال: ولقد سئل مالك عن المرأة يطلقها زوجها واحدة واثنتين وهو يملك رجعتها فتستأذن زوجها أن تبيت في أهلها ولم يراجعها؟ فقال: ليس إذنه بإذن وما له ولها لا قضاء له عليها حتى يراجعها فهذا مما يدل على الذي مات عنها وهي مطلقة واحدة أنها لا تغسله".

(4)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (3/ 107)؛ حيث قال: " (وَيُغَسِّلُ أَمَتَهُ). . . (وَزَوْجَتَهُ) غَيْرَ الرَّجْعِيةِ وَالْمُعْتَدَّةِ عَنْ شُبْهَةٍ وَإِنْ حَلَّ نَظَرُهَا لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ فِيهَا بأَجْنَبِيٍّ وَلَوْ ذِمِّيَّةً (وَهِيَ)، أَيْ: غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا وَلَوْ ذِمِّيَّةً تُغَسِّلُ (زَوْجَهَا) إجْمَاعًا وَإِنْ اتَّصَلَتْ بِزَوْجٍ بِأَنْ وَضَعَتْ عَقِبَ مَوْتِهِ".

ص: 2961

اختلفوا في الرجعية:

فقال مالك: أنه يُغَسِّلها وأنها تُغَسِّله إن كان الطلاق رجعيًّا، وهو قول أبي حنيفة.

وقال بعضهم: لا تُغسِّله وإن كان الطلاق رجعيًّا، قال وهو قياس من قول مالك؛ لأنه ليس له أن يراها عنده، وهو قول الشافعي.

* قوله: (وَأَمَّا حُكْمُ الْغَاسِلِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَقَالَ قَوْمٌ

(1)

: مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ. وَقَالَ قَوْمٌ

(2)

: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ" خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(3)

. وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ: فَإِنَّهَا لَمَّا غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَقَالَتْ: إِنِّي صَائِمَةٌ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ؟ قَالُوا: لَا. وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ فِي هَذَا صَحِيحٌ

(4)

. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 350)؛ حيث قال: "وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: "مَنْ غَسَلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ"، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ".

(2)

هو مذهب الأحناف، يُنظر:"البحر الرائق شرح كنز الدقائق" لابن نجيم (2/ 188)؛ حيث قال: "وليس على من غسل ميتًا غسل، ولا وضوء".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"المهذب في فقه الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 241)؛ حيث قال: "ويستحب لمن غسل ميتًا أن يغتسل. . . ولا يجب ذلك".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 151)؛ حيث قال: " (و) يسن الغسل (من غسل ميت مسلم أو كافر) لما روى أبو هريرة مرفوعًا "من غسَّلَ ميِّتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسَّنه وصحح جماعة وقفه عليه. وعن علي نحوه، وهو محمول على الاستحباب؛ لأن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر وسألت هل علي غسل؟ قالوا: لا رواه مالك مرسلًا".

(3)

أخرجه أبو داود (3161)، وقال الأرناؤوط:"إسناده ضعيف".

(4)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 223).

ص: 2962

هُرَيْرَةَ فَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا حَكَى أَبُو عُمَرَ غَيْرُ صحِيحٍ

(1)

، لَكِنَّ حَدِيثَ أَسْمَاءَ لَيْسَ فِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارَضَةٌ لَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الشَّيْءَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لأَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَسُؤَالُ أَسْمَاءَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يَدُلُّ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ، وَلِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

رضي الله عنه عَلَى عَادَتِهِ فِي الِاحْتِيَاطِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَى الأَثَرِ: لَا غُسْلَ عَلَى مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ).

اختلف فيه الفقهاء في هذه المسألة:

فقال بعضهم: منهم قائلون كل من غَسَّل ميِّتًا فعليه الغُسل.

قالوا: وإنما أسقط المهاجرون والأنصار -الذين حضروا غُسْل أسماء لزوجها- الغسل عنها لما ذكرت لهم؛ لأن إنما هي صائمة وأنه يوم شديد البرد.

واحتجَّ من رأى الغُسل على من غَسَّل الميت؛ بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غسَّلَ مَيِّتًا فلْيَغْتَسِلْ ومن حَملَهُ فليتوضَّأْ".

وروي عن بعض الصحابة: أنه لا غُسل علَى من غسَّلَ الميِّتَ، وحديث أبي هريرة ضعَّفه بعض أهل العلم.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 174)؛ حيث قال: "وإنما أدخل مالك هذا الحديث إنكارًا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "من غسل ميتًا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". وهو حديث يرويه ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوءمة عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام وقد جاء من غير هذا الوجه أيضًا وإعلامًا أن العمل عندهم بخلافه". وقال في موضع آخر "الاستذكار"(3/ 13): "وأما حديث أبي هريرة: فروي من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، ودون العلاء زهير بن محمد وليس بحجة، ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ومن أصحاب سهيل من يرويه عن سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة، ورواه ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوءمة عن أبي هريرة كلهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتًا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ".

(2)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 241)؛ حيث قال: "وقال في البويطي: إن صح الحديث قلت بوجوبه".

ص: 2963

[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي صِفَةِ الْغُسْلِ]

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى:

(الْفَصْلُ الرَّابعُ فِي صِفَةِ الْغُسْلِ

وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلُ؛ إِحْدَاهَا: هَلْ يُنْزَعُ عَنِ الْمَيِّتِ قَمِيصُهُ إِذَا غُسِّلَ؟ أَمْ يُغَسَّلُ فِي قَمِيصِهِ؟).

هذه قضيةٌ مهمةٌ ومسألةٌ لها مكانتها.

لقد اعتنت الشريعة الإسلامية بالمسلم حالَ حياتِهِ، وكذلك بعد مَماتِهِ، وقد أخَذْنَا نَماذجَ، وذكرنا أمثلةً لذلك، وكيف تتعامل الشريعة العظيمةُ التي ما طَرقَ العالَمَ مِثْلُها، كيف تتعامل مع المسلم، وكيف تَحفظُ له مكانتَهُ في حياته متى ما لَزِمَ حدودَ اللَّه -تعالى- ووقف عندها، أمَّا إذا خَرجَ عن حُدودِهِ سبحانه وتعالى، وتجاوزها، وَضَيَّع فرائضَ اللَّهِ، فإنَّ هذِهِ الشريعة فيها من الضوابطِ ومن الحَواجِزِ ومن الروادِعِ ما يردَعُ الإنسان الذي يخرُجُ عن حُدودِ اللَّه.

إذًا، الشريعة أيضًا تهتم بالمسلم في حال مماته، وقد رأينا ضربًا من الأمثلة والأحكام الَّتي مرَّت بنا، وما لم يذكره المؤلف أكثر مما ذَكَره، وربما نحن ذكرنا جُمَلًا لم يعرِضْ لها المؤلف، وسنذكر أيضًا غيرَهَا.

‌كَيفيَّة الغسل؟

سبب اختلاف العلماء هنا هو حِرصُهم على كَرامَةِ المسلِم، وحِرصُهم على حِفظِ عورةِ المسلم، وحرصهم أيضًا على جسدِ المُسلِمَ؛ ولذلك لا ينبغي لمن يحضر الغُسْلَ أن ينظر لجِسمِ المَيِّتِ، وَإِنْ نظر إليه فوجد فيه عَيْبًا، فليس له أن يذيعَه وينشرَه بين الناس؛ لأنه ليس للمسلم أن يذكر ما

ص: 2964

في أخيه المسلم؛ لأن هذا الميت ربما كان يعتبر ذلك سرًّا لا يريد نشرَه، فيأتي هذا فينشره.

لَكن لَوْ رأيتَ من محاسن الميت وبعض فضائله، فهذا أمر طيِّب أن تنشرَه أيضًا؛ لأن في ذلك ذكرًا حسنًا له، وحتى يكون قدوةً لغيره، ويستفيد من هذا الرجل الذي كان صالحًا في حياته.

من هنا اختلَف العُلَمَاءُ، إذا مات المَيِّتُ هل تُنزَع عنه ثِيابُهُ أو يُغَسل في قميصه؟

بَعْضهم قال: يُغَسل في قميصه ليبقى بدنُهُ محفوظًا، ويُصَب عليه المَاء، ويفرك من فوق الثياب. وبعضهم قال: لا تنزع عنه ثيابه.

والَّذين قالوا: تنزع عنه ثيابه أيضًا اختلفوا اختلافًا يسيرًا، بعضهم قال: يُغَطى. وبَعْضهم قال: تُستَر عورته من السُّرة إلى الرُّكبة، وغير ذلك من الأمور.

وجُمْهور العلماء (أبو حنيفة ومالك وأحمد) يرون أنه يُستحَبُّ أن يُنزَع عن الميتِ ثيابُه، وأن يُغسل وهو أيضًا محفوظ العورة أي: يكون مستور العورة من السُّرة إلى الرُّكبَة، هذا هو مذهب جماهير العلماء.

وذهب الإمام الشافعي إلى أنه يُغسل في قميصه.

وقد أشار المؤلف إلى حديثٍ في هذه المسألة، فقد ورد أثرٌ في ذلك أن الصحابة غَسَّلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتَردَّدوا في ذلك الأمر، أيُجَرِّدونه من ثيابه عليه الصلاة والسلام كما يُجرَّد سائر الموتى أو يَغسلونه وعليه ثيابه، فألقى اللَّه سبحانه وتعالى عليهم النوم، وفي روايةٍ: ألقى اللَّه سبحانه وتعالى عليهم النُّعَاس حتى أصبحت أذقانهم تَنْزِلُ على صدورهم، يعني: أخذهم النوم، ثم سُمِعَ من الداخل منادٍ ينادي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تُنزَع عنه ثيابه، وإنما يُغَسَّل بها، فغسلوا النَّبي صلى الله عليه وسلم بثيابِهِ، فكانوا يصبون عليه الماءَ، ويَفْرُكُونَ جسده عليه الصلاة والسلام.

جاءَ في آخر ذلك الأثَر قول عائشة: "وايمُ اللَّهِ، لو اسْتَقبلتُ من أمري ما استَدْبَرْتُ لما غسَّل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا نِسَاؤهُ".

ص: 2965

وفي رِوَايةٍ: "لو استَقْبَلْنا من أمْرِنَا"، يعني: تتحدث عن أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

إذًا، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا تُوفِّي كما في حديث عائشة:"أردنا أن نُغَسِّلَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاختلف القوم في ذلِكَ، فقال بعضهم: أنُجَرده كما نُجَرد أمواتنا أو نُغَسِّلُه في ثِيابِهِ"، ثم بعد ذلك أصابهم النعاس، فسمعوا مناديًا ينادي. . . هذا الأثر حسن، وفي آخره نص عائشة:"لو استقبلت. . .".

وقد اختلف العلماء، فالإمام الشافعي أخذ بهذا الحديث وَعَمَّمه، فقال: ما دَام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد غُسِّلَ في ثيابه وهو أسوَتُنَا وقُدْوتُنا، فينبغي كذلك أن يُغسل كل مَيِّتٍ في ثوبه.

والآخَرون قالوا: لا، هذا خاص برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدليل أنه قد انتشر واشتُهِرَ أنهم ينزعون ثياب المَوْتى بدليل قول عائشة في نفس الأثر:"أنُجَرِّدُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم من ثِيابِهِ كما نُجَرد أمْواتَنَا".

إذًا، هذه عادَتُهم، وهذا كانوا يفعلونه في حياته صلى الله عليه وسلم، وهذا هو السائر بينهم، أما بالنسبة لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد رأينا ما وَردَ في ذلك الأثرِ.

* قوله: (اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: إِذَا غُسِّلَ الْمَيِّتُ تُنْزَعُ ثِيَابُهُ وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ

(2)

، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(4)

: يُغَسَّلُ

(1)

يُنظر: "التلقين في الفقه المالكي" للقاضي عبد الوهاب (1/ 55)؛ حيث قال: "وتنزع ثيابه وتستر عورته، وإن احتاج إلى مباشرتها فبخرقة إلا أن يضطر إلى إخراج شيء بيده".

(2)

وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للمرداوي (6/ 56)؛ حيث قال: "وإذا أخذ في غسله، ستر عورته وجرده".

(3)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 190)؛ حيث قال: " (فإن كان له قميص ألبسه إياه، وإن لم يكن له قميص لم يضره)؛ وذلك لأن التكفين يحتذي به اللبس في حل الحياة، فلذلك كان الرداء فوق القميص".

(4)

يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 302)؛ حيث قال: " (قال الشافعي): والذي أحب من غسل الميت أن يوضع على سَرِيرِ المَوتى، ويغسل في قميص أخبرنا مالك عن =

ص: 2966

فِي قَمِيصِهِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ غُسْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي قَمِيصِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً).

يَعْني: هل غَسْل الصحابة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد مماته عليه الصلاة والسلام سُنَّة؟ فَإِنْ كان كذلك، فينبغي أن تكون السُّنَّة عامة كل من مات من المسلمين، ويُغسل في ثيابه، أو أن ذلك خاص برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن جسمه عليه الصلاة والسلام طيب طاهر، فتبقى عليه ثيابه كما رأينا ذلك في النداء الذي جاء من البيت كما جاء في الأثر.

لذلك، مَنْ رأى أن ذلك خاص برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالوا -وهم الجمهور- تُنزَع الثياب، وتُستَر العورة وتُغسل، وذلك أبلغ في الغَسلِ وأمكن؛ لأن المقصود من ذلك هو تنظيف الميت وتطهيره.

ومن قال: إن ذلك سُنَّة ينبغي أن يُقْتدى برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو بما فُعِلَ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأن يكون ذلك الحكم عامًّا، قال: إن كل ميت يُغسل في قميصه.

(فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ وأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَيِّتِ إِلَّا مَا يَحْرُمُ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ قَالَ: يُغَسَّلُ عُرْيَانًا إِلَّا عَوْرَتَهُ فَقَطِ الَّتِي يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ).

بالنِّسبة للرجل يجوز أن يُنْظرَ إلى جِسمه عدا العورة، وقَدْ فَصَّلنا القول في عورة الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورةٌ إلا وجْهها وكفَّيها في الصلاة، وهناك تفاصيل في هذا، وأن الأَمَةَ على الصحيح عورتها كعورة الرجل؛ لأن وضعها يختلف عن المرأة الحرة، لكن عورة الرجل ما بين السُّرَّة إلى الركبة، هذا هو القول الصحيح، وهناك أقوال غير هذا القول.

= جعفر بن محمد عن أبيه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غسل في قميص"(قال): فإن لم يغسل في قميص ألقيت على عورته خرقة لطيفة تواريها، ويستر بثوب".

ص: 2967

إذًا، القول الصحيح أنه لا ينبغي أن يُنظَر إلى عورة المُسلم حيًّا كان أو ميِّتًا، عدا الزوجين، فينظر بعضهم إلى بعض.

* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةً يَسْتَنِدُ إِلَى بَابِ الْإِجْمَاعِ أَوْ إِلَى الأَمْرِ الْإِلَهِيِّ).

ما معنى يستند إلى باب الإجماع؟ وهل هناك إجماع؟

قصد المؤلف هنا أن غَسْل الميت في ثَوبِه لم يقل أحدهم إنَّ ذلك لا يجوز، لكنه خلاف المستضعف عند الأثر.

إذًا، هذه قضية اتفق الكل على صحتها، فَهي مُجمَع عليها، قضية أن يُغسَّل في غير ثيابه يعني: أن تُنزَع منه، ويخالف فيها الشافعية، ويرون أنها في الثياب، هذا لعله يكون مُراد المؤلف، وإلا المسألة ليس فيها إجماع في هذه القضية.

* قوله: (لأَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ "أَنَّهُمْ سَمِعُوا صَوْتًا يَقُولُ لَهُمْ: لَا تَنْزِعُوا الْقَمِيصَ، وَقَدْ أُلْقِيَ عَلَيْهِمُ النَّوْمُ"

(1)

، قَالَ: الأَفْضَلُ أَنْ يُغَسَّلَ الْمَيِّتُ فِي قَمِيصِهِ).

هذه قطعةٌ يسيرةٌ ذَكَرها المؤلف من الأثر الذي ذَكرتُ، وهو قول عائشة أنها قالت:"لما أردنا غَسْلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، اختلف القوم"، وفي بعض الروايات:"اختلَف الناس"، فقال بعضهم:"أنُجَرد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نُجرِّد أمواتنا أو نُغَسِّلُه في ثِيابِهِ، ثم بعدى ذلك ألقى اللَّه عليهم النوم". وفي رواية: "فأصبح كل رجل ذقَنه إلى صدْرِهِ، فسمعوا مناديًا ينادي من الداخل"، "وفي بعض الروايات: من داخل البيت - أن يُغَسلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثيابِهِ".

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 231)، بلاغًا، وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 394):"هذا الحديث لا أعلمه يروى على هذا النسق بوجه من الوجوه غير بلاغ مالك هذا، ولكنه صحيح من وجوه مختلفة وأحاديث شتى جَمِيعها مالك، واللَّه أعلم".

ص: 2968

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

: لَا يُوَضَّأُ الْمَيِّتُ).

هذه مسألة أُخرى أدرج المؤلف بعضها في بعضٍ، هل يُوَضَّأ الميت أو يُكتَفى بغَسل الميت؟ هذه المسألة فيها خلاف.

مِنَ العلماء مَنْ قال: يُوضَّأ، ويستدلُّون بحديث أُمِّ عطية عندما قال لها رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في قصة تغْسِيلِ ابنتِهِ:"اغْسِلْنَها بِمَاءٍ وسِدْرٍ"، وفي بعض الروايات جاءت:"ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا".

ومن هنا نجد أن العلماء يقولون: يُوضَّأ، ويُغْسل الكفَّان، ثم بعد ذلك يُمَضمض أو أنه تُلَفُّ خِرْقةٌ وتُنَظف الأسنان، وَكَذلك بالنسبة للأنف، ثم بعد ذلك يُغسل الوجه واليدان إلى أن يُسْتكمل الوضوء المعروف، فأكثرُ العلماءِ على أن الميت يُوضَّأ، وبعضهم لا يرى ذلك.

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

: يُوَضَّأُ).

وأحمد.

(وَقَالَ مَالِكٌ

(3)

: إِنْ وُضِّئَ فَحَسَنٌ

(4)

. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ:

(1)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 187)؛ حيث قال: " (ولا يمضمض، ولا ينشق)؛ وذلك لأنه لا يتهيأ ذلك فيه؛ لأن المضمضة والاستنشاق ليس هو حصول الماء في الفم والأنف فحسب؛ لأنه لو شرب الماء لم يكن تمضمضًا، ولا مؤدبًا لسنة الطهارة، والمضمضة أن يأخذ الماء في فيه، فيديره فيه بالمضمضة، ثم يمجه، والاستنشاق أن يجذب الماء بنفسه إلى أنفه، وذلك غير ممكن في الميت، فلذلك سقط في غسله".

(2)

يُنظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 239)، حيث قال:"ثم يُوَضَّأ كما يتوضأ الحي لما روت أم عطية قالت: لما غسلنا ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لنا: "ابدؤوا بمَيامِنها ومواضع الوضوء"، ولأن الحي يتوضأُ إذا أراد الغسل".

(3)

يُنظر: "المدونة"(1/ 260)؛ حيث فيها: "قلت: هل يوضأ الميت وضوء الصلاة في فول مالك إذا أرادوا غسله؟ قال: لم يحد لنا مالك في ذلك حدًّا، وإن وضئ فحسن وإن غسل فحسن".

(4)

وهو مذهب الأحناف: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 349)؛ حيث قال: " (ثم =

ص: 2969

مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلأَثَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أن لا وُضُوءَ عَلَى الْمَيِّتِ، لأَنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَة مَفْرُوضَة لِمَوْضِعِ الْعِبَادَةِ، وَإِذَا أُسْقِطَتِ الْعِبَادَةُ عَنِ الْمَيِّتِ سَقَطَ شَرْطُهَا الَّذِي هُوَ الْوُضُوءُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْغُسْلَ وَرَدَ فِي الْآثَارِ لَمَا وَجَبَ الغُسْلُ).

لَوْ تزوج المُسْلم ذميَّةً، هل يجوز لها أن تغسله؟ يقولون: لا يجوز لها أن تغسله، وهذا هو الرأي الصحيح؛ لأن النية واجبة في الغُسل، ومعنى هذا أنه عبادة، والنية واجبة، والذمية ليست من أهل العبادات، فلا يجوز أن تُغَسل.

إذًا، كونها عبادةً تُشْتَرط فيها النِّية وغير ذلك، فتغسيل الميت عبادة؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.

(وَظَاهِرُ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ الثَّابِتِ أَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ لأَنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ: "ابْدَأْنَ بمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا" وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَة خَرَّجَهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ

(1)

).

إذًا، هذا نصٌّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه البدء بالميامن ومواضع الوضوء، وهذا هو الوضوء، إذًا الوضوء مشروع، إذًا القول الراجح في هذه المسألة هو الوضوء، ثمَّ إنَّ الوضوء أحفظ، يعني: تَوْضئة الميت أحوط من تركِ الوضوء؛ لأنَّ من العلماء من يرى الوضوء، ومنهم مَنْ لا يرى ذلك، فمن أخذ بتَوضِئَةِ الميِّت خرَج من الخلاف، ومَنْ ترَكه بقي في الخلاف، فأيضًا إلى جانب كون ذلك أقوى دليلًا هو أيضًا أحوط من حيث الحكم.

= يوضئه) استحبابًا كاملًا لحديث أم عطية مرفوعًا في غسل ابنتها: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها"، رواه الجماعة، وكغسل الجنابة".

(1)

أخرجه البخاري (167)، ومسلم (939).

ص: 2970

(وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تُعَارَضَ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا الْغُسْلُ مُطْلَقًا، لأَنَّ الْمُقَيَّدَ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ).

حديث الرِّواية التي ذَكَرهَا المؤلف، وهي في "الصحيحين":"ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِع الوُضُوءِ مِنْهَا"، وهذه الَّتي أمَرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بتَغْسِيلِها هي ابنته زينب رضي الله عنها، وهي أكبَر بَناتِهِ، وهي زَوْجة أبي العاص، وهنا لم يذكرها المؤلف في رواية "الصحيحين"، لكنه جاء التنصيص عليها في روايةٍ عند مُسْلِمٍ، فهي زينب، وهي أكبر بنات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي زوجة أبي العاص.

هذا الَّذي يريد أن يتكلم المؤلف عنه هو قضية المُعَارضة، وهو ما جاء في العموم أن الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قال:"اغْسِلْنَها بِمَاءٍ وسِدْرٍ"، وفي قصة الذي رفسته دابته:"اغسلوه بماءٍ وسدرٍ"، قال المعارضون: لم يرد ذِكْرٌ للوضوءِ، فلَوْ كان الوضوء مطلوبًا لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم:"اغسلنها بماءٍ وسدرٍ، واجعلنها في الآخر كافورًا أو شيئًا من كافورٍ"، "اغسلوه بماءٍ وسدرٍ، وكفِّنوه في ثيابه، ولا تغطوا رأسه، ولا تمسوه طيبًا، فإنه يُبْعَث يوم القيامة مُلبِّيًا"؛ وهذا في قصة الرجل الذي كان في أيام الحج مسافرًا، فوقصته دابته.

قالوا: جاء مطلقًا، ولم يرد فيه الوضوء، والوضوء جاء في هذه الرواية، فهل نأخذ بالعموم أو نأخذ بالخصوص؟

هذه مسألةٌ فيها خلاف: هل يُقَدم العموم على الخصوص أو يُقَدم الخصوص على العموم؟ هل يُقْضى بالمطلق على المُقَيد أو بالمُقَيد على المطلق، الصحيح أنه يُقَدم الخاصُّ على العامِّ؛ لأنه تخصيصٌ لبعض أفراده، وكذلك المُقَيد على المُطلَق، لكن ابن حزم خالف في هذه الناحية، وكثيرًا ما يُشير المؤلف إلى هذه القضية؛ لأنه يعرف ابن حزم وأصوله، وهو أيضًا ممن عاش في الأندلس.

ص: 2971

(إِذْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَرَاهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَيُشْبِهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةُ الْمُطْلِقِ لِلْمُقَيَّدِ).

أين المُقَيد وأين المُطْلَق؟ المطلق: "اغْسِلْنَها"، "اغسِلُوه"، وَالمُقَيد:"ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا"، فَقُيد أيضًا ذلك.

(وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَتْ آثَارٌ كثِيرَة فِيهَا الأَمْرُ بِالْغُسْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ وُضُوءٍ فِيهَا).

المَقْصُودُ بالآثار الأحَاديثُ التي أشرنا إليها.

(فَهَؤُلَاءِ رَجَّحُوا الْإِطْلَاقَ عَلَى التَّقْيِيدِ لِمُعَارَضَةِ الْقِيَاسِ لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ

(1)

. وَالشَّافِعِيُّ جَرَى عَلَى الأَصْلِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ).

[المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]

(اخْتَلَفُوا فِي التَّوْقِيتِ فِي الْغُسْلِ).

انتقل المؤلف إلى مسألة التوقيت في الغُسْل، هل هناك عدد مؤقت أي مُحدَّد؟ هل غُسْل الميت مُحدَد بواحدة أو بأكثر من ذلك؟

ورد الثلاث، وَهَذا هو المشهور، و"الثَّلَاث" وردت في كثيرٍ من أحكام السُّنَّة، كذلك وردت أيضًا:"اغسِلْنَها ثلاثًا أو خمسًا"، وفي رواية:"أو سبعًا"، ولذلك مِنَ العلماء مَنْ قال: الأفضل الثلاث، وله إلى خمسٍ وسبعٍ.

(1)

يُنظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (3/ 255)؛ حيث قال: "قال ابن القصار: والحجة لقول مالك أنه قد ثبت وجوب غسله كالجنب، فلما كان وضوء الجنب عند الغسل مستَحَبًّا، كذلك هذا، ولما كان الحي يتوضأ في غسله ليلقى ربه في أعلى مراتب الطهارة، كان في الميت الذى حصل في أول منازل الآخرة أولى أن يلقى ربه في أعلى مراتب الطهارة أيضًا".

ص: 2972

لكن ما هو الواجب؟ هل الواجب غسله واحدةً أو أكثَر؟

من العلماء مَنْ رأى أن الواجبَ في غُسل الميت هو غَسْلَةٌ واحدة كالحال بالنسبة لغسل الحائض، وكذلك أيضًا الجُنُب، فالجُنُب إنما عليه أن يَغسل جسده مرةً واحدةً، وكذلك أيضًا المرأة الحائض إنْ أرادت أن تتطهَّر، لكن الأفضل أن تضيفَ إليها ثانيةً، وإنْ أضافت ثالثةً، فَهو أفضل.

والواجب في الوضوء إنما هو مرة واحدة، والاثنتان أفضل، والثلاث أفضل؛ لأن الاثنتين فيها زيادة احتياط، والثلاث أكثر من ذلك، وفيه أيضًا مُبَالغة في الوضوء، إذًا العُلَماء بعضهم رأى أنَّ الواجب واحدة، وكلٌّ مجتمعون أن الأَوْلَى في ذلك الوتر.

(فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحْسَنَهُ وَاسْتَحَبَّهُ، وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا التَّوْقِيتَ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْوِتْرَ، أَيَّ وِتْرٍ كَانَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ

(1)

).

ابْن سيرينَ من التابعين، إمامٌ معروفٌ، عُرِفَ واشتهر بتعبيرِ الرُّؤيا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الثَّلاثَةَ فَقَطْ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

).

كلمة المؤلف: (ومنهم مَنْ أوجب الثلاثة فقط وهو أبو حنيفة)، هذه لا أعرفها، هي في روايةٍ، لكن المعروف الواجب هي غسله واحدة، وما بقي بعد ذلك يختلفون في أفضليته.

(وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ أَقَلَّ الْوِتْرِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَنْقُصُ عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَحُدَّ الأَكْثَرَ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ

(3)

، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ الأَكْثَرَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 333)؛ حيث قال: "وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُغْسَلُ وِتْرًا".

(2)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (2/ 197)؛ حيث قال: " (ويصب عليه الماء عند كل اضطجاع ثلاث مرات) لما مر (وإن زاد عليها أو نقص جاز) إذ الواجب مرة".

(3)

يُنظر: "الأم" للشافعي (1/ 320)؛ حيث قال: "قال الشافعي -رحمه اللَّه تعالى-: أقل ما يجزئ من غسل الميت الإنقاء كما يكون أقل ما يجزئ في الجنابة، وأقل ما أحب أن يغسل ثلاثًا فإن لم يبلغ بإنقائه ما يريد الغاسل فخمس، فإن لم يبلغ ما =

ص: 2973

لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ السَّبْعَةَ، وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ

(1)

).

إذًا، هَلْ هناك تَوْقيتٌ للغسل؟

نقول: لا، لكن أقل ما ينبغي أن يُغسَل به الميت هو مرة واحدة، لكن الأَوْلَى في ذلك أن يُزَادَ على الواحدة، وإن اقتصر على ثلاث فحسن، لكن الفقهاء الذين لاحظوا زيادة العدد لاحظوا أمرًا آخر؛ لأنه ربما يُغسَل الميت ثلاث مرات فتخرج منه نجاسة، فهل تضاف غسلة أخرى؟ نعم، هل نقتصر عند السبع؟ بعضهم قال: نعم كالحنابلة، وبعضهم قال: لا، ولو تجاوزنا السبع، هذا إذا خرجت منه نجاسة، لكن لو خرج منه شيء بعد تكفينه أو نحوه فلا، إنما الكلام هنا لو غُسِلَ الميت فخرج منه شيء.

أيضًا عند تغسيل الميت فيما يتعلق ببطن الميت، هل يُمسَح عليه مثلًا؟ هل يُعصَر عليه برفق؟ هذه مسائل ربما عرض إليها المؤلف لعله يأتي إليها.

الشاهد: أن الواجب في غسل الميت مرة واحدة، والأولى أو الأفضل في ذلك الثلاث، لكن لو خرج من الميت شيء، فإنه يُتَجاوز العدد، فهل نقف عند آخر ما ورد في النص (السبع)؟ أو أن المقصود من ذلك هو إزالة ما يخرج منه حتى وإن تجاوزت السبع والثمان والتسع والعشر كَمَا هو مذهب الشافعية؟

= يحب فسبع، ولا يغسله بشيء من الماء إلا ألقى فيه كافورًا للسنة، وإن لم يفعل كرهته، ورجوت أن يجزئه، ولست أعرف أن يلقى في الماء ورق سدر، ولا طيب غير كافور، ولا يغره، ولكن يترك ماء على وجهه، ويلقي فيه الكافور".

(1)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 345)؛ حيث قال: "قال أحمد من غسل مَيِّتًا لم يغسله أكثر من سبع، لا يجاوزه، خرج منه شيء أو لم يخرج. قيل له: فنوضئه إذا خرج منه شيء بعد السبع؟ قال: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذا أمر، ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، في حديث أم عطية، ولأن زيادة الغسل وتكريره عند كل خارج يرخيه، ويفضي إلى الحرج، لكنه يغسل النجاسة، ويحشو مخرجها بالقطن".

ص: 2974

(وَمِمَّنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ الْوِتْرِ وَلَمْ يَحُدَّ فِيهِ حَدًّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَصْحَابُهُ

(1)

، وَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ مَنْ شَرَطَ التَّوْقِيتَ وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ بَلِ اسْتَحَبَّهُ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ يَقْتَضِي التَّوْقِيتَ؛ لأنَّ فِيهِ:"اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ"

(2)

، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ:"أَوْ سَبْعًا"

(3)

. وَأَمَّا قِيَاسُ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَيِّ فِي الطَّهَارَةِ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا تَوْقِيتَ فِيهَا كَمَا لَيْسَ فِي طَهَارَةِ الْحَيِّ تَوْقِيتٌ. فَمَنْ رَجَّحَ الأَثَرَ عَلَى النَّظَرِ قَالَ بِالتَّوْقِيتِ. وَمَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَ الأَثَرِ وَالنَّظَرِ حَمَلَ التَّوْقِيتَ عَلَى الاسْتِحْبَابِ).

لَا شكَّ أنَّ الوقوف عند الأثر أَوْلَى، لكن ينبغي أن نتلمَّس العلة، أحيانًا تكون العلَّةُ والحكمةُ ظاهرةً، فَمَا المراد من تغسيل الميت؟ لا شكَّ أن المراد من تغسيل الميت هو تطهير بدنه، وإزالة ما علق فيه من نَجَاسةٍ، أَوْ ما خرج من ذلك البدن، فَبَعْض العلماء يرَى أن هناك حدًّا أعلى يُنْتهى إليه، وبعضهم قال: لَا، كلُّ ما خرَج من البدن، فينبغي أن يُغسَل إلى أن يُنقى.

(وَأَمَّا الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْقِيتِ، فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ أَلْفَاظُ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ رَأَى أَلَّا يَنْقُصَ عَنْ ثَلَاثَةٍ، لأَنَّهُ أَقَلُّ وِتْرٍ نُطِقَ بِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ).

لكن الشافعيَّة يرون ألا ينقص عن ثلاثةٍ فيما هو الأفضل والمستحب، لكن الواجب عندهم هي غسلُهُ واحدةً كالحنابلة.

(1)

يُنظر: "المدونة"(1/ 260)؛ حيث فيها: "قال مالك: وأحب إلي أن يغسل ثلاثًا كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاثًا وخمسًا بماء وسدر، ويجعل في الآخرة كافورًا إن تيسر ذلك". هذه رواية ابن وهب".

(2)

أخرجه البخاري (1257).

(3)

أخرجه البخاري (1254).

ص: 2975

(وَرَأَى أَنَّ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ"

(1)

، وَأَمَّا أَحْمَدُ فَأَخَذَ بِأَكْثَر وِتْرٍ نُطِقَ بِهِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"أَوْ سَبْعًا").

لَكن عند الحنابلة "ثلاث" الأفضل عندهم فيما لم يخرج شَيءٌ من بدنه.

(وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَصَارَ فِي قَصْرِهِ الْوِتْرَ عَلَى الثَّلَاثِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ يَأْخُذُ الْغُسْلَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: "ثَلَاثًا، يُغَسَّلُ بِالسِّدْرِ مَرَّتَيْنِ، وَالثَّالِثَةَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ"

(2)

. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوِتْرَ الشَّرْعِيَّ عِنْدَهُ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الثَّلاثِ فَقَطْ).

سَيَأْتِي أيضًا تنبيه المؤلف أنه ينبغي أن يكونَ من بين الغسلات غسله بماء قرَاح.

(وَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُغسَّلَ فِي الأوْلَى بِالْمَاءِ الْقِرَاحِ).

المقصود بالماء القراح: الماء الصافي النقي يعني: المُجرد من كل شيءٍ حتى يبقى بدنه نَظِيفًا لا يعلَقُ به شيء، وبَعْضهم يطلق القراح الآن على الحلو، ولا مانعَ أن يكون الماء القراح حلوًا صافيًا.

(وَفِي الثَّانِيَةِ بِالسِّدْرِ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِالمَاءِ وَالكَافُورِ).

فَالقَصْد من ذلك هو التنظيف، فَإنْ لم يوجد سدرٌ أو غيره، ووجد ما يُسْتعمل محله مما يُنقي ويُنظف فذلك كافٍ؛ لأن ذلك هو الذي كان معروفًا، لكن إن وُجِدَ بديل عنه فذلك جائز؛ لأن القصد من ذلك هو

(1)

أخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939).

(2)

أخرجه أبو داود (3147)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.

ص: 2976

تنظيف البدن، أما من يريد أن يقف عندما ورد في الحديث أو الآثار فيغسله بسدرٍ وكافورٍ كما في حديث:"اغسِلْنَها بِماءٍ وسدرٍ، واجعَلْن في الآخرَةِ كافورًا أو شيئًا من كافور".

(وَاخْتَلَفُوا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِهِ حَدَت هَلْ يُعَادُ غُسْلُهُ أَمْ لَا؟).

نعم، إذا خرج من بطنه حدث، فيُعَاد غسله؛ لأن القصد هنا إنما هو تنظيف البدن وتطهيره.

(فَقِيلَ: لَا يُعَادُ

(1)

، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ

(2)

، وَقِيلَ: يُعَادُ).

والذين قالوا: يُعَاد هُمُ الشافعية

(3)

، والحنابلة

(4)

.

(وَالَّذِينَ رَأَوْا أَنَّهُ يُعَادُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْإِعَادَةُ إِنْ تَكَرَّرَ خُرُوجُ الْحَدَثِ، فَقِيلَ يُعَادُ الْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(5)

.

(1)

هو مذهب الأحناف، يُنظر:"التجريد" للقدوري (3/ 1051)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: إذا خرج من الميت نجاسة بعد الغسل، غسل ذلك الموضع، ولم يعد غسله".

(2)

يُنظر: "شرح التلقين" للمازري المالكي (1/ 1115)؛ حيث قال: "لأنه إذا فعل ذلك خرج ما في بطنه من النجاسة فيؤمن خروج شيء بعد الفراغ من غسله، فإن جمهور الفقهاء على أن غسله لا يعاد وإنما يغسل ذلك الموضع؛ لأن الغسل قد صح فلا يبطل بما يحدث كغسل الحي من الجنابة".

(3)

يُنظر: "نهاية المطلب في دراية المذهب" للجويني (3/ 11)؛ حيث قال: "إذا غسلنا الميت، فخرجت منه نجاسة، فلفظ الشافعي: أنا نُعيدُ غسله".

(4)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح"(3/ 150)؛ حيث قال: "إِلَّا أَن يخرج مِنْهُ شَيْء فيعاد عَلَيْهِ الْوضُوء وَيغسل إِلَى سبع مرار، وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يسترخي".

(5)

يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (2/ 529)، حيث قال: "اختلف أصحابنا فيما لو خرج شيء من دبره أو قبله على ثلاثة أوجه: فمنهم من قال: لا يعاد الغسل واجبًا بل يعاد مستحبًا، والواجب أن ينقي المكان الذي خرج منه الخارج النجس، ولأنه خارج من الميت بعد سقوط فرض الغسل فلا تجب إعادة الغسل، كما لو أدرجه في الكفن، ثم خرج وهذا هو القياس، وبه قال أبو حنيفة، والثوري وهو اختيار المزني وقرئ ههنا: وأعاد عليه غَسله بفتح الغين لا بضمها فيكون غسل ذلك المكان. وقال أبو إسحاق: =

ص: 2977

وَقِيلَ: يُعَادُ ثَلَاثًا. وَقِيلَ: يُعَادُ سَبْعًا

(1)

. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى السَّبْعِ شَيْءٌ

(2)

).

"واحدةً" عند الشافعية، فإن خرج شيءٌ من بطنه، فالشافعية قالوا: يُعَاد إلى أن ينقى بدنه.

(وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْلِيمِ أَظْفَارِ الْمَيِّتِ وَالأَخْذِ مِنْ شِعْرِهِ).

هَذِهِ أيضًا مَسائلُ أخرى، يعني: إذا مات الميت وكانت أظافرُهُ أو كانت عانتُهُ أو كان شاربه طويلًا، هل تؤخذ منه هذه الشعور؟ ولو قُدِّر أنه أُخذَ منه شيء، فهل يُدْفن معه أو يُدفَن في مكان آخر؟

هذا كله أيضًا اختلف فيه العلماء، بعض العلماء يرى أن يؤخذ من شاربه إن كان طويلًا وتترك أظفاره، وبعضهم يرى أنه لا يؤخذ من الميت شيءٌ في هذه الحالة.

(فَقَالَ قَوْمٌ

(3)

: تُقَلَّمُ أَظْفَارُهُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ

(4)

:

= يحتمل أن يقال: يجب الوضوء؟ لأنه خروج الحدث بعد الغسل كما في الحي يوجب الوضوء، وقال ابن أبي هريرة: يعاد الغُسل واجبًا ويقرأ بالضم، وأعاد عليه غسله، وهذا لأن الموت يوجب الغسل وليس فيه أكثر من زوال التكليف، ومثل هذا من الحي يوجب الوضوء، فكذلك خروج الحدث منه يوجب الغسل، وإن كان من الحي يوجب الوضوء، ولأن القصد أن يكون خاتمة أمره الطهارة الكاملة. وقال أحمد: يعاد غسله إلى سبح مرات، ثم إذا فرغ من جميع ذلك".

(1)

هذا قول الإمام أحمد؛ كما يتبيَّن من التوثيق السابق المُتعلِّق بهم.

(2)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 183)؛ حيث قال: "ولا أعلم أحدًا قال بمجاوزة سبع غسلات في غسل الميت".

(3)

هو مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (1/ 319)؛ حيث قال: "ويقلم من أظفاره، ويصنع به بعد الموت ما كان فطرة في الحياة".

وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 51)؛ حيث فيه: "قلت: وينقي ما في الأظفار من وسخ؟ قال: نعم، ويقص أظفاره إن كانت فاحشة، وترد في أكفانه".

(4)

وهو مذهب الأحناف: يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (2/ 59)؛ حيث قال: "والسنة =

ص: 2978

لَا تُقَلَّمُ أَظْفَارُهُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ).

وهذا كله فيه خلافٌ في المذاهب، فتجد أكثر من رأيٍ في داخل المذهب، فالمسألة فيها خلاف؛ فمنهم من قال: يؤخذ من شاربه ولا يؤخذ من أظفاره، ومنهم مَنْ قال: يُقَص شاربه، وتُقَص أظفاره، وبعضهم قال: حتى عانته، وبعضهم قال: لا يؤخذ من الميت شيءٌ.

(وَأَمَّا سَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَالْخِلَافُ الْوَاقِعُ فِي ذَلِكَ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قِيَاسَ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَيِّ، فَمَنْ قَاسَهُ أَوْجَبَ تَقْلِيمَ الأَظْفَارِ وَحَلْقَ الْعَانَةِ لأنَّهَا مِنْ سُنَّةِ الْحَيِّ بِاتِّفَاقٍ).

أمَّا قوله: (أوجب)، فما قال: أحدٌ بالإيجاب، لكن الأمر هنا أمر استحباب، أو عدم استحباب، والمؤلف كثيرًا ما تغلب عليه عبارة فيقول:(أوجب).

(سُنَّة الحيِّ باتفاق)؛ لأنها عشرٌ من الفطرة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر "قَصَّ الشارب ونتفَ الإبْطِ وحلق العانَةِ وتقليمَ الأظفار"، إذًا هذه من عَشْر الفطرة.

* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي عَصْرِ بَطْنِهِ قَبْلَ أَنْ يُغَسَّلَ).

هذه أيضًا أشَار إليها المؤلف، يعني: من العلماء مَنْ يرى أنه إذا

= دفنه على ما مات عليه ولهذا لا تقص أظفاره ولا شاربه ولا ينتف إبطه ولا تحلق عانته".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الفواكه الدواني" للقيرواني (1/ 286)؛ حيث قال: " (ولا تقلم) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل (أظفاره ولا يحلق له شعر)، والمعنى أنه يكره للغاسل قلم أظافر الميت وكذلك حلق شعر رأسه، وكذا يكره للمريض فعل ذلك إذا قصد به الموت على تلك الحالة، لا إن قصد به الإراحة بإزالة نحو الظفر والشعر كراهة".

ص: 2979

مات الميت يوضع فوق بطنه شيء، وأذكر ممن نص على ذلك الحنابلة، يقولون: تُوضَع عليه حديدة، أو شيء من ذلك حتى لا ينتفخ بطنه.

(فَمِنْهُمْ

(1)

مَنْ رَأَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ

(2)

مَنْ لَمْ يَرَهُ).

وفيما يتعلَّق بعصر بطنه، اختلف العلماء: بعضهم يرى أنه لا يُعْصر بطنه وإنما تُمَر اليد عليه، يعني: يُمسَح، وبعضهم يرى أنه يُمسَح مسحًا شديدًا، وبعضهم يرى أنه يُمسَح مسحًا خفيفًا، وبعضهم قال: يُعصَر عَصرًا رقيقًا، والذين قالوا: يُعصَر عصرًا رقيقًا الحنابلة، والذين قالوا: يُمسح عليه الشافعية والحنفية والمالكية، لكنهم يختلفون في كيفية إمرار اليد، يعني: هل يُمسَح بشدة أو يُمسَح برفقٍ ولينٍ.

‌لماذا يُعصَر بطنه أو لماذا تُمَر عليه اليد؟

القصد من ذلك هو إخراج ما في البدن؛ لأنه قد يكون في البدن نجاسات في معدته، فعندما تُعصَر بطنه أو تُمَر اليد عليه يخرج ما فيه، فهذا يعين على نظافته وتغسيله؛ لأنه ربما لو لم تُمَر عليه اليد أو لم يعصر بعد أن يُغسل يخرج منه شيء من الحَدَث.

(فَمَنْ رَآهُ رَأَى أَنَّ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ الِاسْتِنْقَاءِ مِنَ الْحَدَثِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمَيِّتِ كَمَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ لَمْ يَرَ

(1)

هو مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 260)؛ حيث فيها: "قال ابن القاسم قال مالك: يعصر بطن الميت عصرًا خفيفًا".

وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للماوردي (6/ 61)؛ حيث قال: "ويعصر بطنه عصرًا رفيقا، ويكثر صب الماء حينئذ، يفعل به ذلك كل غسلة على الصحيح من المذهب".

(2)

هو مذهب الأحناف: يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 189)، حيث قال:"ويمسح بطنه في الثانية مسحًا رقيقًا".

وهو مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (1/ 320)، حيث قال:"ويمر يده على بطنه إمرارًا رَفِيقًا بليغًا ليخرج شيئًا إن كان فيه ثم فإن خرج شيء ألقاه".

ص: 2980

ذَلِكَ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَمْ يُشْرَعْ، وَأَنَّ الْحَيَّ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ).

مُرَاد المؤلف أن يقول: هذه مسألة اجتهادية لم يَرِدْ فيها نَصٌّ أنه يُعصَر بطنه أو تُمَر اليد عليه.

إذن، لم يَرِدْ في هذا شرعٌ، كأن هذا فيه تكلفٌ، فهو إقرار لأمر لم يشرع، لكننا لا نَنْسى أنَّ هذا من الوَسَائل، والوَسائلُ أحيانًا تُعْتبر مقدمات لأحكام، فهذا العمل:(أن يُعصَر بطنه، أو تُمَر اليد عليه) إنما القصد منه هو المساعدة في إخراج ما في بطنه، فهذا فيه فائدة بأن يكون ذلك أفضل وأنقى وأطهر وأنظف لبدنه.

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الأَكْفَانِ]

بدأ المصنف أولًا بالكلام عن تغسيل الميت، ثم ينتقل إلى تكفين الميت، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الصلاة عليه، ثم إلى حمله ودفنه.

وسبق ذكر أن هذه الأشياء منها ما هو من فروض الكِفَايات، نحو تغسيل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه.

هنا قد انتقل المصنف إلى مسألة من أمهات مسائل هذا الباب، وهي مسألة الأكفان.

معلوم أن شأن المرأة في لِبَاسها يختلف عن شأن الرجل في بعض الأمور، فالشرع الحنيف قد أمر بسَتْرِ العورات والتحفظ لها، سواءٌ في ذلك الرجال والنساء، إلا أن الشرع الحنيف قد أمر النساء بشيءٍ زائدٍ من المبالغة في التصون والتحفظ والتستر مما لم يأمر به الرجال.

ولم يختلف ذلك المقصد الشرعي في ستر النساء حال حياتها عنه في

ص: 2981

موتها، بل اطَّرَدَ واستمَرَّ ونُدب الناس إليه، لذلك يكفن النساء في خمسة أثواب، على خلاف الرجل الذي يكفن في ثلاثة.

(وَالأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كُفِّنَ فِى ثَلَاثَةِ أَثْوَابِ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ"

(1)

).

جاء في هذا الحديث المتفق عليه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ في ثلاثة أثواب سَحُولِيَّة بالفتح -بفتح السين وتروى بالضم- ليس فيها قميصٌ -أي: ثوب- ولا عمامة، وقَدْ جاء في حديثٍ آخر بيان ذلك.

و"سحولية" نسبةً إلى قريةٍ في اليمن تُعْرف بسحول، كانت تشتهر بصناعة الثياب، فقيل: ثياب سحولية. وقيل منسوبة إلى السحول الذي يغسل الثياب؛ لأنه إذا غسل الثوب يفركه، فكأنه يسحَلُهُ.

فالمراد بها الثياب من القطن، ويعضد هذا القراءة بضم السين، فيتعين أن تكون ثيابًا بيض من قطن.

وقد جاء في عدة أحاديث بيان فضل الثياب البيض، ولذلك حضَّ ورغَّب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في لبس البياض، وتكفين الأموات فيه، قال عليه الصلاة والسلام:"البَسُوا البَيَاضَ، وَكَفِّنوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ"، أَوْ "أَمْوَاتَكُمْ".

(وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ لَيْلَى بِنْتِ قَائِفٍ الثَّقَفِيَّةِ قَالَتْ: "كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَقْوَ ثُمَّ الدِّرْعَ ثُمَّ الْخِمَارَ ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ فِي الثَّوْبِ الْآخِرِ، قَالَتْ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عِنْدَ الْبَابِ مَعَهُ أَكفَانُهَا يُنَاوِلهَا ثَوْبًا ثَوْبًا"

(2)

).

"الحَقْو": المقصود به الإزار.

(1)

أخرجه البخاري (1264)، ومسلم (941).

(2)

أخرجه أبو داود (3157)، وقال الأرناؤوط:"إسناده ضعيف".

ص: 2982

أما "الدرع": فالمراد به القميص الذي يلبسه الإنسان؛ أي: الثوب.

و"الخِمَار": ما تخمر به المرأة رأسها، وينزل بعض منه على الوجه أيضًا، والقصد من ذلك هو ستر المرأة.

(المِلْحَفَة): من اللحاف، والمراد بالملحفة: ما تُلْحف أو تلتحف به المرأة؛ أي: ما تغطي فيه بدنها من عباءةٍ أو ثوبٍ أو غير ذلك.

ومنهم من يقول: هي الملاءة -مثل العباءة الآن- أو ثياب طويلة تلبسها النساء تسترها فوق القميص، لها أكمام واسعة، تنزل على الأرض، كذلك هناك ملحفة كالجِلال تضعها المرأة على نفسها فيسترها كلها من أعلى لأسفل.

(ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ فِي الثَّوْبِ الآخِرِ).

يعني: بعد الحقو والدرع والخمار والملحفة؛ لُفَّت في ثوب أخير معد لهذا.

(فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَيْنِ الأَثَرَيْنِ فَقَالَ: يُكَفَّنُ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، وَالْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

، وَأَحْمَدُ

(2)

،

(1)

يُنظر: "التنبيه في الفقه الشافعي" للشيرازي (ص: 50)؛ حيث قال: "ويستحب أن يكفن الرجل في ثلاثة أئواب: إزار، ولفافتين بيض، والمرأة في خمسة أثواب: إزار، وخمار، ودرع، ولفافتين بيض، ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه والواجب ثوب واحد".

(2)

يُنظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 58)؛ حيث قال: "قال إسحاق بن منصور: قلت: في كم يُكفن الميت؟ قال: أما الرجل في ثلاثة أثواب يُدرج فيه إدراجًا ليس فيها قميص ولا عمامة. مسائل الكوسج (792) ". وانظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 58)؛ حيث فيه: "قال إسحاق بن منصور: قلت: في كم تُكفن المرأة؟ قال: المرأة في خمسة أثواب. مسائل الكوسج (794) ".

ص: 2983

وَجَمَاعَةٌ

(1)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

: أَقَلُّ مَا تُكَفَّنُ فِيهِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ، وَالسُّنَّةُ خَمْسَةُ أَثْوَابِ، وَأَقَلُّ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ ثَوْبَانِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ. وَرَأَى مَالِكٌ

(3)

أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فِيهِمَا إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوِتْرُ).

يعني الحديثين المذكورين آنفًا، فهل معنى هذا أن الميت لا يُكفن في أقل من ثلاثة أثواب؟ أو أن المقصود أنه الأَوْلى والأكمل؟

وقَدْ ورد أن مصعب بن عمير رضي الله عنه لم يجدوا عند تَكفِينه إلا ثوبًا واحدًا؛ إذا غُطي به رأسه خرجت رِجلاه، وإذا غُطيت رجلاه خرج رأسُهُ، فأرشدهم رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أن يغطوا رأسه بالثوب، وأن يستروا ما ظهر من رجليه بالإذْخِرِ.

لذلك، اختلف العلماء في إنسانٍ أُدخل القبر دون أن يُكَفن، هل يُنْبش قبره فيُكفن أو يُترك؟ فبعض العلماء قال: يُنبش؛ لأن الكفن مطلوب. وبعضهم قال: لا؛ لأن النبش فيه نوعٌ من التعدي، فكأنه مُثْلةٌ، والقصد من التكفين إنما هو ستر الميت، وقد سُتِرَ بالتراب، والتراب كافٍ.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّوْقِيتِ فِي مَفْهُومِ هَذَيْنِ الأَثَرَيْنِ، فَمَنْ فَهِمَ مِنْهُمَا الإِبَاحَةَ لَمْ يَقُلْ بِتوْقِيت إِلَّا أَنَّهُ اسْتَحَبَّ الْوِتْرَ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْوِتْرِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُمَا

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 356)؛ حيث قال: "فقال كثير من أهل العلم: تكفن المرأة في خمسة أثواب كذلك قال النخعي، والشعبي، ومحمد بن سيرين، وبه قال الأوزاعي".

(2)

يُنظر: "مختصر القدوري"(ص: 47)؛ حيث قال: "والسنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب. . . وتكفن المرأة في خمسة أثواب. . . فإن اقتصروا على ثلاثة أثواب جاز".

(3)

يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 272)؛ حيث قال: "ويكفن الرجل في ثلاث أثواب،. . . وتكفن المرأة في خمسة أثواب، ويستحب الوتر في الكفن، وإن كفن في ثوب واحد أجزأ".

ص: 2984

الإِبَاحَةَ إِلَّا فِي التَّوْقِيتِ، فَإِنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ شَرْعًا لِمُنَاسَبَتِهِ لِلشَّرْعِ، وَمَنْ فَهِمَ مِنَ الْعَدَدِ أَنَّهُ شَرَعَ الْإِبَاحَةَ قَالَ بِالتَّوْقِيتِ، إِمَّا عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، وَإِمَّا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ، وَكلُّهُ وَاسِعٌ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ-، وَلَيْسَ فِيهِ شَرْعٌ مَحْدُودٌ).

لكن الاقتصار على ما جاءت به السُّنَّة أَوْلَى.

(وَلَعَلَّهُ تَكَلُّفُ شَرْعٍ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ شَرْعٌ، وَقَدْ كُفِّنَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ بِنَمِرَةٍ، فَكَانُوا إِذَا غَطَّوْا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّوْا بِهَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ"

(1)

).

قد يعترض على هذا من يرى وجوب الأثواب الثلاثة، ويعلله بأنه كُفن في ثوب واحد لعدم استِطَاعتهم ما هو أكثر، فشأنُ مصعب رضي الله عنه لا يعدُّ دليلًا قاطعًا في المسألة. وعلى أي حال فإن الاقتصار على ثوب واحد جائز.

* قوله: (وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُغَطَّى رَأْسُهُ وَيُطَيَّبُ

(2)

، إِلَّا الْمُحْرِمَ إِذَا مَاتَ فِي إِحْرَامِهِ).

الميت إذا كُفِّن يُغطى رأسه، ويطيب ويوضع الحنوط في كفنه، لكن المُحْرِمَ تختلف حاله؛ لما ورد في الحديث من قصة الرجل الذي وَقَصَتْهُ دابته، فقال عليه الصلاة والسلام:"اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيب، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ -وفي رواية: "ولا وجهه"- وَلَا تُحَنِّطُوهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبيًا".

(1)

أخرجه البخاري (4047).

(2)

يُفهم هذا الإجماع من نحو قول ابن المنذر في "الأوسط"(5/ 344)؛ حيث قال: "اختلف أهل العلم في تخمير رأس المحرم الميت، وتطييبه، فقالت طائفة: يصنع به كما يصنع بسائر الموتى".

ص: 2985

وقد سبق ذكر الشهداء، وأنهم مَخْصُوصون بأحكام ليست لغيرهم؛ خصوصًا الذين يقتلون في المعركة، فإنهم يُدفنون في ثيابهم، ولا يُغسَّلُون ولا يُصلَّى عليهم، وجاء في الأحاديث أن الشهيد يُبعث يوم القيامة وجراحاته تنزف دمًا، اللون لون الدم والريح ريحُ المِسْكِ.

والمراد على أي حال أن المُحرِمَ له أحكامٌ تخَصُّه؛ لأنه مات وهو متلبِّسٌ بعباده، مات وهو يؤدي رُكنًا من أركان الإسلام، وسُنةً من سُنن هذه الشريعة، إذًا فقد مات في عبادة، فعُومل معاملةً خاصةً.

(فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

: الْمُحْرِمُ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(3)

: لَا يُغَطَّى رَأْسُ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ وَلَا يَمَسُّ طِيبًا).

وقال أحمد

(4)

بقول الشافعي.

(1)

يُنظر: "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص: 164)؛ حيث قال: "ويفعل بالميِّت محرمًا ما يفعل بالحلال".

(2)

يُنظر: "التجريد" للقدوري (3/ 1052)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: إذا مات المُحْرِمُ فعل به ما يفعل بغيره من تخمير رأسه وتطييبه".

(3)

يُنظر: "كفاية النبيه في شرح التنبيه" لابن الرفعة (5/ 56)؛ حيث قال: "قال: فإن كان -أي: الميت- محرِمًا لم يقرب الطِّيبَ، ولا يلبس المخيط -أي: إذا كان رجلًا- ولا يخمر رأسه، لما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: وقصَتْ برَجُلٍ مُحْرِم ناقتُه فقتلته، فأتي به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبًا، فإله يبعث مهِلًّا"، فنص على حكمين من أحكام الإحرام، ونبه على أن العلة الإحرام؛ فوجب اطراد جميع أحكامه، ولأنه محرم لا يخرج من إحرامه بفعله؛ فوجب ألا يبطل بموته كالحي".

(4)

وهو مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 351)؛ حيث قال: " (ومحرم) بحج أو عمرة (ميت ك) محرم (حي) فيما يمنع منه (يغسل بماء وسدر) لا كافور (ولا يقرب طيبًا) مطلقًا، ولا فدية على من طيبه ونحوه، (ولا يلبس ذكر المخيط) نحو قميص، (ولا يغطى رأسه) أي المحرم الذكر، (ولا) يغطى (وجه أنثى) محرمة ولا يؤخذ شيء من شعره ولا ظفره لحديث ابن عباس مرفوعًا في محرم مات: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا". متفق عليه".

ص: 2986

أما غيره من الأموات فإنه يُستحب تطييبه وتجْمِيرُهُ، ووضع الحنوط في كفنه، فهذا أمرٌ طيب؛ حتى يودع الدنيا ويقبل على الرب تبارك وتعالى وهو على أفضل هيئة وأحسن حال.

وقول المؤلف: (اخْتَلَفُوا فِيهِ) فيه فائدة:

فمع أن المسألة قد ورد فيها نص ثابت إلا أن العلماء مع ذلك اختلفوا؛ لأن أهل العلم إنما يختلفون من جهة تعليل الأحكام، واستخراج الأحكام واستنباطها من النصوص وتوجيهها، فليس الخلاف لقصد مخالفة النص، أو الإعراض عنه واستبداله بالأهواء ومستحسنات العقول، وإنما هو خلاف في الاستدلال والاستنباط من النصوص، واستخراج الأحكام منها؛ فليتنبه لهذا.

(وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْخُصُوصِ، فَأَمَّا الْخُصُوصُ: فَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسِ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ فَمَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ: "كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تَقْرَبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي"

(1)

. وَأَمَّا الْعُمُومُ: فَهُوَ مَا وَرَدَ مِنَ الأَمْرِ بِالْغُسْلِ مُطْلَقًا).

الأمر بالغسل مطلقًا كقوله: "اغسلوه بماءٍ وسدر" في هذا الحديث، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"اغسلنها بماءٍ وسدر"، و"اغسِلْنَها ثلاثًا أو خمسًا".

(فَمَنْ خَصَّ مِنَ الأَمْوَاتِ الْمُحْرِمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ كَتَخْصِيصِ الشُّهَدَاءِ بِقَتْلَى أُحُدٍ جَعَلَ الْحُكْمَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمًا عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَالَ: لَا يُغَطَّى رَأْسُ الْمُحْرِمِ وَلَا يُمَسُّ طِيبًا).

يعني: التخصيص بقتلى أُحُدٍ أن شهيد المعركة لا يصلى عليه، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى على شهداء أحُدٍ في قبورهم بعد موتهم بثماني سنوات،

(1)

أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (1206).

ص: 2987

فهم مخصوصون من شهداء المعركة بجواز الصلاة عليهم، كما أن المحرم مخصوص من عُمومِ الأموات بعدم ستر الوجه والتحنيط والتطييب.

وبسبب هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم وقع خلافٌ بين العلماء: يُصلى على الشهداء الذين يُقتلون في المعركة، أو لا؟

وقد جاء في حديثٍ تعليل ذلك، أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليهم يودِّعُهم؛ لأنه علم بدنُوِّ أجله، فكأنما يودع الشهداء.

(وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ لَا مَذْهَبَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ قَالَ: حَدِيثُ الأَعْرَابِيِّ خَاصٌّ بِهِ لَا يُعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ).

الظاهر أنه لا وجه لتخصيصه بذلك الميت، ولا دليل على تخصيصه به؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قاله بمشهدٍ من الصحابة، ومع ذلك لم يبيِّن عليه الصلاة والسلام أن هذه خصيصة لذلك الرجل دون غيره، والرسول صلى الله عليه وسلم مبيِّنٌ عن اللَّه، فهو الذي يُبلِّغُ أمَّتَه الأحكامَ ويبيِّنُها لهم عليه الصلاة والسلام، واللَّه -تعالى- يقول له:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

والقاعدة الأصولية: (إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز)، فلو كان ذلك خاصًا لبَيَّنَه الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه لما أطلق دُونما تخصيص؛ دلَّ ذلك على أنه يَعُمْ كل من ماتَ مُحْرِمًا.

[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي صِفَةِ الْمَشْيِ مَعَ الْجَنَازَةِ]

قد مر معنا أن الميت من وقت أن يموت فإن له حقوقًا ينبغي أن تؤدى إليه، بل حتى قبل موته، في حال مرضه ونحوه، فإنه تنبغي زيارته وعيادته، والتخفيف عنه، وإيكال أمره إلى من يَرْفُقُ به ويرؤف به ويخفف

ص: 2988

عنه مشقَّةَ مرضِهِ وآلامه، وهكذا كان فِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعود المرضى، ويدعو لهم، ويكون سببًا في شِفَائهم عليه الصلاة والسلام.

ثم إذا قضى اللَّه عليه الموت فتؤدى إليه حُقوقًا، نحو الدعاء له، وتَغْسيله وتكفينه، والصلاة عليه، وحمله، والمشي مع جنازته، وشهود دفنه، والاستغفار له ونحو ذلك.

وهنا المصنف رحمه الله يشرع في الكلام عن أحد هذه الأشياء، وهو المشي مع الجنازة.

(الْبَابُ الرَّابعُ: فِي صِفَةِ الْمَشْيِ مَعَ الْجَنَازَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سُنَّةِ الْمَشْيِ مَعَ الْجَنَازَةِ).

لا خلاف بين العلماء أن المشي مع الجنازة -يُقال الجَنازة بالفتح، والجِنازة بالكسر، كلاهما صحيح- سُنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك، وفعَلَهُ، وفعله أصحابه رضي الله عنهم، فهو من السُّنَنِ، بل له فضل عظيم عند اللَّه تبارك وتعالى، فقد جاء في الحديث أن من صلَّى على جِنازةٍ كان له قيراط، ومن صلى عليها ومشي معها حتى وضعت في قَبْرِهَا فله قيراطان.

فالمشي مع الجنازة مستحَبٌّ، لكنه للرجال دون النساء، أما النساء فيُكره لهن المشي مع الجنازة؛ لحديث أم عطية الأنصارية أنها قالت: نُهينَا عن اتباع الجنائز.

ثم مسألة أُخرى لم يعرض لها المصنِّف رحمه الله، وهي كيفية المَشْي مع الجنازة، مشي بطيء متمَهِّلٍ، أو عكسه من السعي أو الرَّمَلِ مثلًا، كالرمل الذي يكون في الطواف أو بين العلمين في السَّعْي.

أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام:"أَسْرعُوا بالجنازة فَإِن تَكُن صَالِحَة فَخير تقدمونها إِلَيْهِ وَإِن تكن سوى ذَلِك فشر تَضَعونَه عَن رِقَابكُمْ" رواه الشيخان

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (1315)، ومسلم (944).

ص: 2989

فهذا دليلٌ على الإسراع بالجنازة، لكن المراد بالإسراع في المَشْي ليس الركض أو الرمل بها كما قال بعض العلماء.

ولا يفهم منه أن المراد أن يتجاوز ذلك الإسراع إلى حدِّ الرَّكْض أو ما شابه، فهذا مما قد تتضرر به الجنازة، ومن يحمِلُها، ويتضرر من يمْشِي معها وقد يشق على الناس متابعة الجنازة والمَشْي معها على هذا الحال، فليس المراد أن يرُكض بها وإنما الإسراعُ في المشْي.

ثم المسألة التي ذكر المؤلف، موضع الماشي مع الجنازة، هل يُمشَى أمام الجنازة أو خَلفها، هل ثمَّ فرقٌ بين الماشي والراكب، فيمشي الراجل أمام الجنازة والراكب يمشي خلفها، أو أنه لا بأس أن يُمشى أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها.

هذا كله وردت فيه أحاديث، لكن أكثر الأحاديث الواردة وأصحها هو المَشْي أمام الجنازة، من ذلك حديث عبد اللَّه عمر الذي قال فيه: رأيت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر يمشُونَ أمام الجنازة.

وورد في أحاديث أُخرى أن الجنازة تابعةٌ غير متبوعة، وإذا كانت تابِعَةً غير متبوعة فالمشي يكون خلفها، ويقيسون ذلك على الإمام، فالإمام يُتبع ولا يتقدمه أحد، فينبغي للناس أن يمشُوا وراء الجِنازةِ.

وورد في حديثٍ آخر: "فضلُ الماشِي خلْفَ الجنازةِ على الماشِي أمامَها كفضل المكتوبة على صلاة التطوع"

(1)

، وفي رواية:"كفَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ"

(2)

.

وقد صحت الأحاديث في المشي خلفها وعن يمينها وعن شمالها، لكن أكثر الأحاديث وأصرحها هي أحاديث المشي أمامها، لذلك نقول: الأفضل أن يُمشى أمام الجنازة، فإن مشى خلفها وعن يمينها وعن شمالها فلا بأس.

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (6263).

ص: 2990

(فَذَهَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ

(1)

إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهَا الْمَشْيَ أَمَامَهَا).

يعني بأهل المدينة مالكًا وأصحابه، وهو كذلك مذهب الشافعي وأحمد رحمهم الله. فمذهب الجمهور هو استحباب المشي أمام الجنازة.

(وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

وَسَائِرُهُمْ: إِنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ).

إذا قيل الكوفيون فيدخل فيهم التابعي إبراهيم النخعي وكذلك حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، لكن غالبًا ما يُنص على الحنفية؛ لأن لهم مذهبًا فقهيًّا قد اشتُهر ودُوِّنَ وعُرف.

(وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُ الآثَارِ الَّتِي رَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ عَنْ سَلَفِهِ وَعَمِلَ بِهِ).

الأحاديث في هذه المسألة كثيرة، وقد عرض المؤلف بعضًا منها.

(1)

هو مذهب المالكية، يُنظر:"المدونة"(1/ 253)؛ حيث فيها: "قلت لمالك: فالمشي أمام الجنازة؟ قال: قال مالك: المشي أمام الجنازة هو السُّنَّة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (1/ 310)؛ حيث قال: " (قال الشافعي): والقول في أن المشي أمام الجنازة أفضل مشى النبي صلى الله عليه وسلم أمامها، وقد علموا أن العامة تقتدي بهم، وتفعل فعلهم، ولم يكونوا مع تعليمه العامة نعلمهم يدعون موضع الفضل في أتباع الجنازة، ولم نكن نحن نعرف موضع الفضل إلا بفعلهم، فإذا فعلوا شيئًا وتتابعوا عليه كان ذلك موضع الفضل فيه، والحجة فيه من مشي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أثبت من أن يحتاج معها إلى غيرها".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإنصاف" للماوردي (6/ 205)؛ حيث قال: "وأن يكون المشاة أمامها. يعني، يستحب ذلك. وهذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 221)، حيث قال:"قال أبو جعفر: (المشي خلف الجنازة أفضلِ من المشي أمامها، وكل ذلك مباح): قال أبو بكر: وذلك لما رواه عبيداللّه بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال أبو سعيد الخدري لعلي رضي الله عنهما: "يا أبا الحسن! أخبرني عن المشي مع الجنازة، أي ذلك أفضل: المشي أمامها أم خلفها؟ فقال علي رضي الله عنه: إن فضل المشي خلفها على المشي أمامها، كفضل صلاة المكتوبة على التطوع. قال: يا أبا الحسن! أبرأيك تقول أم شيء سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيء سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

ص: 2991

(فَرَوَى مَالِكٌ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مُرْسَلًا الْمَشْيَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ

(1)

، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

).

هذا الذي ذكره المؤلف مرسلًا عن مالك جاء موصولًا عند غيره، أصحاب السنن وغيرهم.

(وَأَخَذَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِمَا رَوَوْا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَلِيٍّ فِي جَنَازَةٍ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي، وَهُوَ يَمْشِي خَلْفَهَا، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشِيَانِ أَمَامَهَا).

في الكلام تقدير، فهذا الذي أخذ علي بن أبي طالب بيده رأى عليًا رضي الله عنه يمشي خلف الجنازة، وكون هذا مخالف لفعل الشيخين رضي الله عنهما من المشي أمامها؛ فأشكل عليه ذلك فسأل عليًّا رضي الله عنه.

(فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ فَضْلَ الْمَاشِي خَلْفَهَا عَلَى الْمَاشِي أَمَامَهَا كَفَضْلِ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَإِنَّهُمَا لَيَعْلَمَانِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمَا سَهْلَانِ يُسَهِّلَان عَلَى النَّاسِ

(3)

).

يعني أنَّ المشي أمامها فيه وتيسير وتخفيف على الناس؛ فأرادا رضي الله عنهما أن يُسهِّلا على الناس.

أما علي رضي الله عنه اختار أن يمشي خلفها، وفي كلِّ سعةٌ والحمد للَّه، لكنَّ الأَوْلى والأفضل هو ما فعله الشيخان، وهو ما ذهب إليه أكثر العلماء من المشي أمامها.

(1)

أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 225): عن مالك، عن ابن شهاب: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا "يمشون أمام الجنازة"، والخلفاء هلم جرًّا، وعبد اللَّه بن عمر.

(2)

سبق توثيقه.

(3)

أخرجه أحمد (754)، وقال الأرناؤوط:"حسن لغيره".

ص: 2992

(وَرُوِيَ عَنْهُ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "قَدِّمْهَا بَيْنَ يَدَيْكَ، وَاجْعَلْهَا نُصْبَ عَيْنَيْكَ، فَإِنَّمَا هِيَ مَوْعِظَة وَتَذْكِرَةٌ وَعِبْرَةٌ"

(1)

).

يُذكِّر علي رضي الله عنه مُحَدِّثَه بأمر من أهم الأمور في اتباع الجنائز، وهو الاتعاظ والاعتبار من هذا الموقف المهيب، الجنازة بارزة على الأكتاف، يسار بها إلى القبر، وقد أفضى صاحبها إلى ما قدَّم، وغدا -ولا بد- يصير مشيعها إلى نفس المصير، ويكون مكان صاحب الجنازة. كما قال أبو ذؤيب الهذلي:

وليأتين عليك يوم مَرَّة

يُبكى عليك مقنع لا تسمع

لا بُدَّ مِن تَلَفٍ مُقيمٍ فَانتَظِر

أَبِأَرضِ قَومِكَ أَم بِأُخرى المَصرَعُ

فكل واحد سيدركه الموت يومًا من الدهر مهما تباعد ذلك اليوم، ومهما مضت به السنون، ومهما عُمِّرَ في هذه الحياة، قال اللَّه تبارك وتعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26 - 27]، وقال:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185].

فينبغي للإنسان أن يجعل من هذه الجنازة التي أمامه عبرة وعظة وتذكيرًا، يتذكر سيرته في الحياة؛ ماذا قدم من عمل صالح يُقابل به ربه تبارك وتعالى في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقَلْبٍ سليم.

هل أدى الحقوق المأمور بأدائها إلى مستحقيها، هل أحسن إلى الخلق المأمور بالإحسان إليهم، هل تحمل مظلمة أو أساء أو تعَدَّى أو بغى عَلَى الخلقِ.

فإن أحسن فليحمد اللَّه على توفيقه وليستَزِدْ من هذا الإحسان، وإن

(1)

أخرجه عبد الرزاق (6267).

ص: 2993

أساء أو تعدى أو ظلم؛ فليستغفر اللَّه ويستَعْتِبُه في محْوِها، ويتحلل من أهل المظالم، ويرد إليهم حقوقهم، ففي الدنيا دينار ودرهم، وغدًا لا درهم ولا دينار، وإنما تؤخذ حقوق العباد من حسناته، فإن فنيت، أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه، ثم طرح في النار، نسأل اللَّه -تعالى- العَفْوَ والعافية، فينبغي للإنسان أن يستفيد من هذا الموقف، هو في مِشية ينبغي أن يتذكر فيها الآخرة.

ولذلك أنكر العلماء على الذين يشتغلون بالكلام أو بأمورِ الدُّنيا أو يضحكون في مثل هذا المقام؛ لأن هذا دليلٌ على غفلة القَلْب وقِلَّةِ الاتعاظ والاعتبار، وعلى عدم تذكر الإنسان للموت، كما قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم:"أَكْثِرُوا مِنْ ذِكرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ"

(1)

؛ لأن تذكر الإنسان للموت يعينه على الاجتهاد في الخير والإقصار عن الشرِّ، والتجهز لملاقاته والاستعداد للرحيل.

فهذا هو المراد الذي أشار إليه علي رضي الله عنه، ونصح يه محدثه من تقديم الجنازة بين يديه وجَعْلِها نصب عينيه، ليحصل له من الاتعاظ والاعتبار بهذا المقام ما يكون عونًا على الاستعداد لذلك اليوم، وذلك المصرع.

ومثل هذه الحال من الاتعاظ والتدبر لا تحصل فقط بالمشي خلف الجنازة، بل تحصل بتشييعها على أي حال، سواء من أمامها أو من خلفها أو من أي جهة، لكن لعل الماشي خلف الجنازة يرى أكثر مما يرى غيره من بروز الجنازة على الأكتاف، وحشد الناس حولها فيكون أعمل في نفسه وأشد وقعًا وتأثيرًا عليها ونحو ذلك.

(وَبِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سَأَلْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّيْرِ في الْجَنَازَةِ فَقَالَ: "الْجَنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ

(1)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(2995).

ص: 2994

بِتَابِعَةٍ، وَلَيْسَ مَعَهَا مَنْ يُقَدِّمُهَا"

(1)

، وَحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الرَّاكِبُ يَمْشِي أَمَامَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا أو عن يَسَارِهَا قَرِيبًا مِنْهَا"

(2)

).

هنا مسألة أيضًا لم يذكرها المؤلف نعْرِضُ لها، وهي أن يتبع الجنازة راكبًا، بعض العلماء قالوا: يُكره أن يتبَعَ الإنسانُ الجنازة رَاكبًا، وقد أنكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على من رآه رَاكبًا؛ لأن الملائكة -وهم عباد اللَّه المكرمون- يمشُونَ في الجنازة، ولذا كان فِعْلُه صلى الله عليه وسلم هو اتباع الجنائز ماشيًا، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه ركب لما رَجَع منها، فللإنسان أن يركب إذا عاد منها، لكن حال اتِّبَاعها ينبغي للإنسان أن يتْبَعَها ماشيًا، فذلك أعون له على التواضع وتذكر ما ينبَغِي عليه تذكره في هذا الموقف العظيم، من الاستكثار من الصالحات، وترك المحرمات، والتَّنَزُّه عن المخالفات، وما أشبه من الاستعداد لمثل ذلك اليوم المهيب.

ويتذكر أحوال الآخرة، والقيام بين يدي الرب تبارك وتعالى، حيث إلجام الناس بالعرق، والمرور على الصراط، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، يتذكر أن ثَمَّ مِيزانًا وكتابًا لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وأن المرء سيُسأل عن كل شيءٍ، فإن كان قد عمل خيرًا فيجده أمامه، وإن وجد شرًّا فلا يلومن إلا نفسه.

(وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي الْمَعْنَى قَالَ: "امْشُوا خَلْفَ الْجَنَازَةِ"

(3)

، وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ صَارَ إِلَيْهَا الْكُوفِيُّونَ وَهِيَ أَحَادِيثُ يُصَحِّحُونَهَا وَيُضَعِّفُهَا غَيْرُهُمْ

(4)

).

(1)

أخرجه أبو داود (3184)، وقال الأرناؤوط:"إسناده ضعيف".

(2)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(1042).

(3)

يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (12/ 99)؛ حيث قال: "وقد روي في هذا الباب حديث هو عندهم منكر من حديث جريج بن معاوية أخي زهير بن معاوية، عن كنانة مولى صفية، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "امشوا خلف الجنازة".

(4)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 21)؛ حيث قال: "فهذا ما جاء من الآثار =

ص: 2995

فيها ما هو صحيح وفيها ما ليس كذلك، والأحاديث التي فيها المشي أمام الجنازة أكثر وأصح، والكل في ذلك جائز وفيه سعة، لكن المختار هو المشي أمامها، ما لم تنزل بهم ضرورة أو تحصل مشقة أو يحدث زحام وتدافع وما أشبه، فحينئذ ينبغي أن يتَفَرَّقَ الناس، فالأمر واسع كما ذكرنا.

(وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ إِلَى الْجَنَازَةِ مَنْسُوخٌ

(1)

بِمَا رَوَى مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ فِي

= المرفوعة في هذا الباب، وهي كلها أحاديث كوفية لا تقوم بأسانيدها حجة، وقد ذكرناها باسانيدها وعللها في التمهيد".

(1)

مذهب الأحناف، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (2/ 232)؛ حيث قال: " (كما كره) لمتبعها (جلوس قبل وضعها) وقيام بعده، (ولا يقوم من في المصلى لها إذا رآها) قبل وضعها، ولا من مرت عليه هو المختار، وما ورد فيه منسوخ".

ومذهب المالكية: يُنظر: "شرح الزرقاني على مختصر خليل"(2/ 192)؛ حيث قال: " (و) كره لجالس تمر به جنازة أو تابع سابق لهما للمقبرة قد جلس (قيام لها) إذا رآها حتى توضع".

ومذهب الشافعية، يُنظر: الأم للشافعي (1/ 318)؛ حيث قال: "أخبرنا الربيع، قال: (قال الشافعي): ولا يقوم للجنازة من شهدها، والقيام لها منسوخ، أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن واقد بن عمر بن سعد بن معاذ، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنائز ثم جلس بعد. أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن محمد بن عمرو بن علقمة بهذا الإسناد أو شبيها بهذا، وقال: قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأمر بالقيام ثم جلس، وأمر بالجلوس".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 129)؛ حيث قال: " (وإن جاءت) الجنازة (وهو جالس أو مرت به) وهو جالس (كره قيامه لها) لحديث علي قال "رأينا النبي صلى الله عليه وسلم قام فقمنا تبعًا له يعني في الجنازة" رواه مسلم وأحمد، وعن ابن سيرين قال: "مر بجنازة على الحسن بن علي وابن عباس، فقام الحسن ولم يقم ابن عباس فقال الحسن لابن عباس: أما قام لها النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: قام ثم قعد" رواه النسائي".

ص: 2996

الْجَنَائِزِ ثُمَّ جَلَسَ"

(1)

. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ، وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ مِنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِيَامِ لَهَا كحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَائِزَ فَقُومُوا إِلَيْهَا حَتَّى تَخْلُفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ"

(2)

. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ رَأَوْا أَنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوخ فِي الْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ فِي وَقْتِ الدَّفْنِ، فَبَعْضُهُمْ

(3)

رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ النَّهْيِ، وَبَعْضُهُمْ

(4)

رَأَى أَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْيِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ ذَلِكَ احْتَجَّ بِفِعْلِ عَلِيِّ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى النَّسْخَ، وَقَامَ عَلَى قَبْرِ ابْنِ الْمُكَفَّفِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَجْلِسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: "قَلِيلٌ لأَخِينَا قِيَامُنَا عَلَى قَبْرِهِ"

(5)

).

يعني: إذا كان المرء جالسًا فمرتْ به جنازة، هل يقوم لها أو يبقى على حاله.

ورد القيام في أحاديث، وورد عدم القيام في أحاديث أخر، وورد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام وقعد، وأن القعود كان آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ووردَ أن الرَّسولَ-صلى الله عليه وسلم قام حتى ذكر له أن يهودَ تَفْعله، فتَرَكَهُ صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 232): عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ "يَقُومُ فِي الْجَنَائِزِ، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ".

(2)

أخرجه البخاري (1307)، ومسلم (958).

(3)

هو مذهب المالكية، يُنظر:"شرح الزرقاني على مختصر خليل"(2/ 192)؛ حيث قال: "وأما القيام عليها حتى تدفن فلا بأس به وليس ذلك مما نسخ".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 120)؛ حيث قال: "قال المروذي: رأيت أبا عبد اللَّه إذا صلى على جنازة هو وليُّها لم يجلس حتى تُدفن. ونقل عنه حنبل: لا بأس بقيامه على القبر حتى تدفن، خيرًا وإكرامًا. "الفروع" 2/ 262".

(4)

هو مذهب الأحناف، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 232)؛ حيث قال: "يكره القيام بعد وضعها عن الأعناق".

(5)

أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(23/ 269).

ص: 2997

بعض العلماء يرى أنه دليل على النسخ، وإنما قام الرسول وقعد، فهو يفعل أحيانًا ويترك أحيانًا.

فالمسألة كما ذكر المؤلف فيها خلاف، فبعضهم يرى أن القيام كان ثَابِتًا ثم نُسخ، وبعضهم لا يقول بالنسخ ويرون أن يقوم المرء للجنازة، وللإنسان أن يختار ما يشاء.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

‌(البَابُ الخَامِسُ: فِي الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ

(1)

)

(وَهَذِهِ الجُمْلَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا بَعْدَ مَعْرِفَةِ وُجُوبِهَا فُصُولٌ، أَحَدُهَا: فِي صِفَةِ صَلَاةِ الجَنَازَةِ. وَالثَّانِي: عَلَى مَنْ يُصَلَّى، وَمَنْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ. وَالثَّالِثُ: فِي وَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَالرَّابِعُ: فِي مَوْضِعِ هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَالخَامِسُ: فِي شُرُوطِ هَذِهِ الصَّلَاةِ).

[الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي صِفَةِ صَلَاةِ الجَنَازَةِ]

(فَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَسَائِلُ، المَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ التَّكْبِيرِ).

(1)

الجِنازة -بالكسر-: الميت بسريره، وقيل: بالكسر السرير، وبالفتح الميت. . . قال الفارسي:"لا يُسمَّى جِنَازة حتى يكون عليه ميت، وإلا فهو سرير أو نعش". انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 324).

ص: 2998

وقبل التكبير هناك دعاء الاستفتاح، وأكثر العلماء لا يرى مشروعيته في صلاة الجنازة

(1)

، ثم يأتي التعوذ، وأكثر العلماء يرى مشروعيته

(2)

، ثم النية، ثم بعد ذلك التكبير، والمشهور أنه أربع تكبيرات، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وهناك مَنْ يرى أنه يُكبِّر خمسًا، وبعضهم أوصله إلى ثمان، لكن المشهور الذي استقرت عليه آراء الفقهاء وأقوالهم أنه أربع تكبيرات

(3)

، يُكبِّر في الأولى ويقرأ الفاتحة، ثم يُكبِّر التكبيرة الثانية،

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 197). حيث: "قوله: وهي أربع تكبيرات بثناء بعد الأولى. . .). . . ولم يعين المصنف الثناء وروى الحسن أنه دعاء الاستفتاح. . . ولم يذكر القراءة؛ لأنها لم تثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي المحيط والتجنيس ولو قرأ الفاتحة فيها بنية الدعاء فلا بأس به، وإن قرأها بنية القراءة لا يجوز؛ لأنها محل الدعاء دون القراءة اهـ".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 411 - 412). حيث قال: " (وركنها)؛ أي: صلاة الجنازة أربعة. . . (و) ثالثها (الدعاء) من إمام ومأموم بعد كل تكبيرة أقله اللهم اغفر له أو ارحمه وما في معناه وأحسنه دعاء أبي هريرة رضي الله عنه وهو أن يقول بعد الثناء على اللَّه تعالى والصلاة على نبيه اللهم إنه عبدك وابن عبدك. . . ".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 23). حيث قال: " (والأصح ندب التعوذ)؛ لأنه سنة للقراءة فاستحب كالتأمين؛ ولأنه قصير، ويسر به قياسًا على سائر الصلوات (دون الافتتاح) ".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 113). حيث قال: " (ويعوذ) ويبسمل (قبل الفاتحة) لما سبق في صفة الصلاة (ولا يستفتح) لأنها مبنية على التخفيف".

(2)

وعند الحنفية، والمالكية، ليس فيها قراءة وسيأتي مفصلًا.

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 23). حيث قال: " (والأصح ندب التعوذ)؛ لأنه سنة للقرأءة فاستحب كالتأمين؛ ولأنه قصير، ويسر به قياسا على سائر الصلوات (دون الافتتاح) ".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 113). حيث قال: " (ويعوذ) ويبسمل (قبل الفاتحة) لما سبق في صفة الصلاة (ولا يستفتح) لأنها مبنية على التخفيف".

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 187). حيث قال: "ولا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال: يكبر الإمام خمسًا إلا ابن أبي ليلى، فإنه قاله على حديث ابن أرقم".

ص: 2999

ويُصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم كالصلاة في التشهد، ثم يُكبِّر التكلبيرة الثالثة، ويدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين وللميت، ثم بعد ذلك يُكبِّر التكبيرة الرابعة

(1)

.

هل يسكت بعد الرابعة -كما هو قول بعض العلماء- هُنية ثم يُسلم، أو يذكر شيئًا من الدعاء؛ بَعْضهم يرى أنه يدعو فيقول:"ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار"

(2)

، وبعضهم يقول:"اللَّهمَّ لا تحرمنا أَجْرَهم، ولا تَفتنَّا بعدهم"

(3)

، وبعضهم يرى أنه يُكبِّر، ثم يسكت قليلًا، ثم يُسلِّم ولا يذكر شيئًا

(4)

.

* قوله: (. . . فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا مِنْ ثَلَاثٍ إِلَى سَبْعٍ -أَعْنِي: الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم)

(5)

.

ويَعْني بالصدر الأول: الصحابة رضي الله عنهم.

* قوله: (وَلَكِنَّ فُقَهَاءَ الأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي الجَنَازَةِ أَرْبَعٌ).

وفقهاء الأمصار هم الأئمة الأربعة، لكن لو زاد خامسةً، فإنَّ الصلاةَ صحيحةٌ.

(1)

سيأتي مفصلًا.

(2)

ذكره الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 241). حيث قال: "ولم يذكر المصنف بعد الرابعة سوى التسليمتين، وهو ظاهر المذهب وروي عن بعضهم أنه يقول بعد الرابعة قبل التسليم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201] ".

(3)

ذكره الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 25). حيث قال: " (ويقول) ندبًا (في) التكبيرة (الرابعة)؛ أي: بعدها (اللهم لا تحرمنا). . (أجره)؛ أي: أجر الصلاة عليه، أو أجر المصيبة به فإن المسلمين في المصيبة كالشيء الواحد (ولا تفتنا بعده)؛ أي: بالابتلاء بالمعاصي".

(4)

وهو مذهب، الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 115). حيث قال: " (ويقف بعد) التكبيرة (الرابعة قليلًا). . . (ولا يدعو) ".

(5)

يُنظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (2/ 493 - 497).

ص: 3000

* قوله: (إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى

(1)

وَجَابِرَ بْنَ زيدٍ

(2)

، فَإِنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: إِنَّها خَمْسٌ. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ"

(3)

، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).

وَهُنَاك حَديثٌ آخر فِي المتفق عليه، رواه جابر بن عبد اللَّه

(4)

، والنجاشي كان له موقفٌ من الإسلام معروف، وكيف أنه نصر الذين هاجروا إلى الحبشة، وكيف وقف في وجه أعدائهم، وكيف حاولت قريشٌ أن تستردهم أذلةً، فوقف معهم واستمع إلى ما عندهم، ثم بعد ذلك هُدِيَ إلى الإسلام فأسلم.

فرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى عليه صلاة الغائب، وصلاةُ الغائب جائزة؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَعلَها، وسيأتي خلافٌ في هذه المسألة

(5)

.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 187). حيث قال: "ولا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال: يكبر الإمام خمسًا إلا ابن أبي ليلى، فإنه قاله على حديث ابن أرقم".

(2)

ورد عن جابر أنه قال ثلاثًا، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 496)(11457) عن القاسم، قال: أخبرني أبي، أنه صلى على جنازة فقال له جابر بن زيد:"تقدم فكبر عليها ثلاثًا".

وانظر: "والأوسط" لابن المنذر (5/ 429).

والخمس، وردت عن علي، وابن مسعود، وزيد ابن أرقم، ومعاذ، وحذيفة رضي الله عنهم جميعًا-، انظر:"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 496).

(3)

أخرجه البخاري (1245)، ومسلم (951).

(4)

أخرجه البخاري (1334)، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث". ومسلم (952)، عن جابر بن عبد اللَّه:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعًا".

(5)

عند قول المصنف: "وأكثر العلماء على أنه لا يصلى إلا على الحاضر. وقال بعضهم يصلى على الغائب لحديت النجاشي، والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي وحده".

ص: 3001

وَهَذا الحَديثُ فيه أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم-كبَّر أربعًا.

* قوله: (وَلِذَلِكَ، أَخَذَ بِهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ، وَجَاءَ فِي هَذَا المَعْنَى أَيْضًا مِنْ:"أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى قَبْرِ مِسْكِينَةٍ، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا"

(1)

).

وهذه المرأة المسكينة لما علم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنها مرضت، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعْنَى بأمر المساكين والفقراء والمحتاجين والمرضى، ولقد وَهَبَ اللَّه سبحانه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والشفقة ما وَهَبه، فهو القائل سبحانه وتعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199].

فعندما أدرك صلى الله عليه وسلم مرضها، طلب من أصحابه أن يخبروه بموتها إذا ماتت، فماتت ليلًا، فأُخرجت جنازتها، وشقَّ على أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقرعوا الباب على نبيهم، وأن يوقظوه من نومه، فاتخذوا ما اتخذوا في شأن تلك المرأة، فلما جاء اليوم الثاني أُخْبِرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنكر الأمر، وقال:"ألم أقل آذنوني؟ "، قالوا: بلى، ولكننا خشينا -أو: كرهنا- أن نوقظك من نومك، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَنْ معه وصلى على القبر.

وَبِهَذَا يستدلُّ العلماء على صحة الصلاة على القبر في حق مَنْ لم

(1)

أخرجه النسائي (2022)، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمه يزيد بن ثابت، أنهم خرجوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأى قبرًا جديدًا، فقال:"ما هذا؟ " قالوا: هذه فلانة مولاة بني فلان، فعرفها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ماتت ظهرًا وأنت نائم قائل، فلم نحب أن نوقظك بها، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصف الناس خلفه، وكبر عليها أربعًا، ثم قال:"لا يموت فيكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي له رحمة".

وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير"(7789).

ص: 3002

يُصلَّ عليه

(1)

، وهل للإنسان أن يكرر الصلاة على الميت؟ هذا فيه كلامٌ للعلماء معروف

(2)

، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أُحُدٍ بعد مرور ثمان سنوات

(3)

.

وهذا الحديث الذي ذُكر عن المسكينة فيه كلام، وله عدة طرق

(4)

،

(1)

سيأتي بالتفصيل الكلام على هذه المسألة، عند قول المصنف:"المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى القَبْرِ".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 311). حيث قال: "ولا يصلى على ميت إلا مرة واحدة، لا جماعة ولا وحدانا عندنا، إلا أن يكون الذين صلوا عليها أجانب بغير أمر الأولياء، ثم حضر الولي فحينئذ له أن يعيدها".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 569). حيث قال: " (و) كره (تكرارها)؛ أي: الصلاة على الميت (إن أديت) أولًا جماعة. (وإلا) تؤد جماعة بأن صلى عليها فذ (أعيدت) ندبًا (جماعة) لا أفذاذًا، فالصور أربع تكره الإعادة في ثلاث، وتندب في واحدة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب" للنووي (5/ 246). حيث قال: "إذا صلى على الجنازة جماعة أو واحد ثم صلت عليها طائفة أُخرى فأراد من صلى أولًا أن يصلي ثانيًا مع الطائفة الثانية ففيه أربعة أوجه (أصحها) باتفاق الأصحاب لا يستحب له الإعادة بل المستحب تركها. . . . وقطع به صاحب الحاوي والقاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم وادعى إمام الحرمين في النهاية اتفاق الأصحاب عليه".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (1/ 889). حيث قال: " (وكره لمن صلى) على الجنازة (إعادتها)؛ أي: الصلاة، قال في "الفصول": لا يصليها مرتين كالعيد (إلا إذا صلي عليه)؛ أي: الميت (بلا إذن الأولى بها)؛ أي: بالصلاة من المصلي (مع حضوره) -أي: الأولى- وعدم إذنه، ولم يصل خلفه، (فتعاد) الصلاة عليه (تبعًا) للولي؛ لأنها حقه، ذكره أبو المعالي".

(3)

أخرجه البخاري (4042)، ومسلم (2296)، واللفظ له، عن عقبة بن عامر، قال:"صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالموح للأحياء والأموات، فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم" قال عقبة:"فكانت آخر ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر".

(4)

أخرجه النسائي (1907)، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره، "أن مسكينة =

ص: 3003

وبعض العلماء صححه

(1)

، وبعضهم ضعَّفه

(2)

.

* قوله: (وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمِ يُكَبِّرُ عَلَى الجَنَائِزِ أَرْبَعًا، وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: كَان رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا"

(3)

، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ عَلَى الجَنَائِزِ أَرْبَعًا وَخَمْسًا وَسِتًّا وَسَبْعًا وَثَمَانِيًا حَتَّى مَاتَ النَّجَاشِيُّ، فَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، ثُمَّ ثَبَتَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَرْبَعٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ"

(4)

).

وبَعْضُ العلماء رأى نَسْخَ الزيادة

(5)

، وبعضهم قالوا: لم يثبت ما يدل

= مرضت، فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمرضها، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إذا ماتت فآذنوني"، فأخرج بجنازتها ليلا، وكرهوا أن يوقظوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبر بالذي كان منها، فقال:"ألم آمركم أن تؤذنوني بها"، قالوا: يا رسول اللَّه، كرهنا أن نوقظك ليلًا، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى صف بالناس على قبرها، وكبر أربع تكبيرات" وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (7789).

وتقدم قبل قليل رواية النسائي من طريق خارجة.

(1)

صححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير"(7789).

(2)

أعله البخاري في "التاريخ الأوسط"(1/ 42). حيث قال: "حدثنا معلى بن أسد، ومحمد بن محبوب قالا: حدثنا عبد الواحد، حدثنا عثمان بن حكيم، حدثنا خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمه يزيد بن ثابت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فرأى قبرًا قيل فلانة وأنت قائل، فصلى عليه، فإن صح قول موسى بن عقبة إن يزيد بن ثابت قتل أيام اليمامة في عهد أبي بكر فإن خارجة لم يدرك يزيد".

(3)

أخرجه مسلم (957).

(4)

أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار"(3/ 30). والتكبير أربعًا على النجاشي ثابت، يُنظر:"صحيح البخاري"(3881).

(5)

وهو مذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 198). حيث قال: "فلو كبر الإمام خمسا لم يتبع)؛ لأنه منسوخ، ولا متابعة فيه".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير، حيث قال:" (فإن زاد) الإمام خامسة عمدًا أو سهوا (لم ينتظر)؛ بل يسلمون قبله وصحت لهم وله أيضًا إذ التكبير ليس كالركعات من كل وجه، فإن انتظروا سلموا معه وصحت".

ص: 3004

على النسخ

(1)

، لكن كما ذكر المؤلف الذي استقرَّ عليه رأي جماهير الفقهاء (فقهاء الأمصار) هو الاقتصار على أربع تكبيرات.

* قوله: (وَهَذَا فِيهِ حُجَّةٌ لَائِحَةٌ لِلْجُمْهُورِ

(2)

، وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي أَوَّلِ التَّكْبِيرِ عَلَى الجَنَازَةِ

(3)

).

وَهَذِهِ مَسْألةٌ أُخرى تَتَعلَّق برفع اليدين، ومعلومٌ أنَّ هناك مواضع أربعة في الصلاة تُرْفع فيها الأيدي:

1.

عند تكبيرة الإحرام، وهذا أمرٌ مُجْمعٌ عليه.

2.

عند الركوع.

3.

عند الرفع من الركوع.

4.

عند القيام من التشهُّد الأول.

هذه هي المواضع الأربعة في غير صلاة الجنازة، لكن المؤلف سيتكلم عن صلاة الجنازة، وأيضا اختلف العلماء فيما هو المستحب، هل يرفع يديه إلى منكبيه أو إلى أذنيه؟ فالجمهور إلى المنكبين، والحنفية إلى الأذنين، وكلها وردت فيها أحاديث صحيحة

(4)

.

(1)

وهم الشافعية، ويُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 21). حيث قال: " (فإن خمس) عمدًا (لم تبطل) صلاته (في الأصح) لثبوتها في صحيح مسلم، لكن الأربع أولى لتقرر الأمر عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ولأنها ذكر وزيادة الذكر لا تضر".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 385). حيث قال: "والأفضل أن لا يزيد على أربع لأن فيه خروجًا من الخلاف، وأكثر أهل العلم يرون التكبير أربعًا".

(2)

تقدم ذكر مذاهبهم بالتفصيل.

(3)

يُنظرت "الإجماع" لابن المنذر (44). حيث قال: "وأجمعوا على أن المصلي على الجنازة يرفع يديه في أول تكبيرة يكبرها".

(4)

تقدم كل ذلك مفصلًا في صفة الصلاة، عند قول المصنف:"الفصل الثاني في الأفعال التي هي أركان في الصلاة".

ص: 3005

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ التَّكْبِيرِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَرْفَعُ

(1)

؛ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَرْفَعُ

(2)

. ورَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فِي جَنَازَةِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ التَّكْبِيرِ، وَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى"

(3)

، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الأَثَرِ وَكانَ مَذْهَبُهُ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ إِلَّا فِي أَوَّلِ التَّكْبِيرِ قَالَ: الرَّفْعُ فِي أَوَّلِ التَّكْبِيرِ. وَمَنْ قَالَ: يَرْفَعُ فِي كُلِّ تَكْبِيرٍ، شَبَّهَ التَّكْبِيرَ الثَّانِيَ بِالأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ يُفْعَلُ فِي حَالِ القِيَامِ وَالِاسْتِوَاءِ).

أَيْ: اختلَفوا في الرفع فيما عدَا تكبيرة الإحرام، فالحنفيَّة

(4)

قالوا: لا يرفع فيما عداها اعتمادًا على ظاهر الحديث؛ لأن أبا هريرة لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع في سائر التكبير، والشافعية

(5)

والحنابلة

(6)

قالوا: يرفع؛ لأن التكبير كله على حالة واحدة.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي القِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ

(1)

وهو مذهب الشافعية، ويُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 23). حيث قال: " (ويسن رفع يديه في التكبيرات) فيها حذو منكبيه ووضعهما بعد كل تكبيرة تحت صدره كغيرها من الصلوات".

ومذهب الحنابلة أيضًا، ويُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 116). حيث قال: " (ويرفع يديه مع كل تكبيرة). . . ولأنه لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود، فسن فيها الرفع كتكبيرة الإحرام. . ".

(2)

وهو مذهب الحنفية، ويُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 241). حيث قال: "ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى في ظاهر الرواية".

ومذهب المالكية أيضًا، ويُنظر:"الشرح الكبير" للدسوقي (1/ 418). حيث قال: " (و) ندب (رفع اليدين بأولى التكبير) فقط".

(3)

أخرجه الترمذي (1077)، وحسنه الألباني في "أحكام الجنائز" (ص: 115).

(4)

تقدم ذكر قولهم.

(5)

تقدم ذكر قولهم.

(6)

تقدم ذكر قولهم.

ص: 3006

الجَنَازَةِ: فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ، إِنَّمَا هُوَ الدُّعَاءُ

(1)

. وَقَالَ مَالِكٌ: قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الكِتَابِ فِيهَا لَيْس بِمَعْمُولٍ بِهِ فِي بَلَدِنَا بِحَالٍ

(2)

، قَالَ: وَإِنَّمَا يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى، ثُمَّ يُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ، فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُكَبِّرُ الثَّالِثَةَ فَيَشْفَعُ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأوْلَى بِفَاتِحَةِ الكِتَاب

(3)

، ثُمَّ يَفْعَلُ فِي سَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ

(4)

وَدَاوُدُ

(5)

، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ العَمَلِ لِلْأَثَرِ، وَهَلْ يَتَنَاوَلُ أَيْضًا اسْمَ الصلَاةِ صَلَاةَ الجَنَازَةِ أَمْ لَا؟ أَمَّا العَمَلُ فَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ مَالِكٌ عَنْ بَلَدِهِ. وَأَمَّا الأَثَرُ فَمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ:

(1)

لمذهب الحنفية، في ذلك يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 197). حيث: "قوله: وهي أربع تكبيرات بثناء بعد الأولى. . .). . . ولم يعين المصنف الثناء وروى الحسن أنه دعاء الاستفتاح. . . ولم يذكر القراءة؛ لأنها لم تثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي المحيط والتجنيس ولو قرأ الفاتحة فيها بنية الدعاء فلا بأس به، وإن قرأها بنية القراءة لا يجوز؛ لأنها محل الدعاء دون القراءة اهـ".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 418). حيث قال: "ولا يقرأ الفاتحة؛ أي: يكره إلا أن يقصد الخروج من خلاف الشافعي".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 40). حيث قال: "وأما أختلاف أئمة الفتوى بالأمصار في ذلك فقال مالك في الصلاة على الجنازة إنما هو الدعاء وإنما فاتحة الكتاب ليس بمعمول بها في بلدنا".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 22). حيث قال: " (الرابع) من الأركان (قراءة الفاتحة) كغيرها من الصلوات، ولعموم خبر: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"".

(4)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 116). حيث قال: " (و) الثالث قراءة (الفاتحة على إمام ومنفرد) لما تقدم من حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ويتحملها الإمام عن المأموم".

(5)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (3/ 353). حيث قال: "عن الحسن: أنه كان يقرأ بفاتحة الكتاب في كل تكبيرة في صلاة الجنازة؟ وهو قول الشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهما".

ص: 3007

"صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، فَقَالَ: لتَعْلَمُوا أَنَّهَا السُّنَّةُ"

(1)

، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى تَرْجِيحِ هَذَا الأَثَرِ عَلَى العَمَلِ

(2)

وَكَانَ اسْمُ الصَّلَاةِ يَتَنَاوَلُ عِنْدَهُ صَلَاةَ الجَنَازَةِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ"

(3)

، رَأَى قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الكِتَابِ فِيهَا).

اختلَف الفُقَهاء في قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، فيرى المالكية والحنفيَّة أنه ليست هناك قراءة، واستدلَّ مالكٌ على ذلك بعمل أهل المدينة، وهو عنده مُقَدَّمٌ على أقضية الصحابة، كَمَا أنَّ مالكًا لا يقبل حديثًا خالف عمل أهل المدينة؛ لأن عملهم بمنزلة روايتهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورواية الجماعة عن الجماعة أولى من رواية الفرد عن الفرد، ويرى الشَّافعيَّة والحنابلة أنَّه يقرأ الفاتحة

(4)

، واستدلُّوا بالأثر الذي روى طلحة، وأنه صلى خلف ابن عباسٍ فقرأ

(5)

، وصلاة الجنازة تقع تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا صلَاة إلا بفاتحَة الكتاب"

(6)

، من حيث إنها صلاة.

أَمَّا بعد التكبيرَة الثانية، فليسَ هناك خلاف بينهم، فمَذْهب الشافعية هو نفسه مذهب المالكيَّة والحنفيَّة من حيث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية، والدعاء للميِّت بعد الثالثة، والتسليم بعد الرابعة

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري (1335).

(2)

وهم الشافعية والحنابلة وداود وأهل الظاهر.

(3)

أخرجه البخاري (756)، ولفظه:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". ومسلم (394).

(4)

تقدم مفصلًا.

(5)

أخرجه النسائي في "السنن"(1987)، عن طلحة بن عبد اللَّه بن عوف، قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكمَاب، وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده، فسألته فقال:"سنة وحق"، وصححه الألباني في "المشكاة"(1654).

(6)

تقدم قريبًا.

(7)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 312 - 313) حيث قال: "ثم يكبر أربع تكبيرات. . . وإذا كبر الثانية يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي الصلاة =

ص: 3008

* قوله: (وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ بِظَوَاهِرِ الآثَارِ الَّتِي نُقِلَ فِيهَا دُعَاؤُهُ عليه الصلاة والسلام في الصَّلَاة عَلَى الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِيهَا أَنَّهُ قَرَأَ).

وَرَدتْ أحَاديثُ لم يَرِدْ فيها ذِكْرٌ للقرَاءة، ولذلك قال كَثيرٌ من العُلَمَاء والمُحَققين: إنَّ قراءةَ الفاتحة لَيْست واجبةً في صلاة الجنازة، ولكنها سُنَّة

(1)

، وإذا كانت سُنَّةً، فينبغي أن نحافظَ عليها.

= المعروفة. . . وإذا كبر الثالثة يستغفرون للميت ويشفعون وهذا؛ لأن صلاة الجنازة دعاء للميت والسنة في الدعاء أن يقدم الحمد. . . ثم يكبر التكبيرة الرابعة ويسلم تسليمتين".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 553 - 556). حيث قال: " (وأركان الصلاة) على الجنازة خمسة:

(و) ثانيها: (أربع تكبيرات) كل تكبيرة بمنزلة ركعة في الجملة. . . (و) ثالثها (دعاء له) أي للميت (بينهن)؛ أي: التكبيرات (بما تيسر). . . (ودعاء بعد) التكلبيرة (الرابعة إن أحب)، وإن أحب لم يدع وسلم. . . ورابعها (تسليمة) واحدة يجهر بها الإمام بقدر التسميع. (وندب لغير الإمام إسرارها). . . ".

لمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 22 - 25). حيث قال: "الرابع: قراءة الفاتحة بعد الأولى. . . الخامس: الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الثانية،. . . السادس: الدعاء للميت بعد الثالثة. . . ويقول في الرابعة، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح المنتهي" للبهوتي (1/ 359 - 361). حيث قال: " (ثم يكبر) مصل (أربعًا. . . (يحرم بالتكبيرة الأولى). . . (ويتعوذ ويسمي ويقرأ الفاتحة). . . (وفي) التكبيرة (الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. . . (ويدعو في) التكبيرة (الثالثة). . (بأحسن ما يحضره). . (ولا يدعو) بعد الرابعة لظاهر الخبر (ويسلم) تسليمة (واحدة عن يمينه). . . ".

(1)

يُنظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (21/ 286). حيث قال: "فالناس في قراءة الفاتحة فيها على أقوال: قيل: تكره. وقيل: تجب. والأشبه أنها مستحبة لا تكره ولا تجب فإنه ليس فيها قرآن غير الفاتحة فلو كانت الفاتحة واجبة فيها كما تجب في الصلاة التامة لشرع فيها قراءة زائدة على الفاتحة. ولأن الفاتحة نصفها ثناء على اللَّه ونصفها دعاء للمصلي نفسه لا دعاء للميت والواجب فيها الدعاء للميت وما كان تتمة كذلك".

ص: 3009

* قوله: (وَعَلَى هَذَا، فَتَكُونُ تِلْكَ الآثَارُ كَأَنَّهَا مُعَارِضَة لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ

(1)

، وَمُخَصِّصَةٌ لِقَوْلِهِ:"لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ").

وحديث ابن عباس هو الذي مرت أيضًا الإشارة إليه، وهو حديثٌ صحيح عندما قام فصلى صلاة الجنازة، فقرأ بالفاتحة، وَجَهر بها، وقال: هذه السُّنَّة (أو: إنها السُّنَّة).

* قوله: (وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: (وَكَانَ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَائِهِمْ وَأَبْنَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا): أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَخْبَرَهُ "أَنَّ السُّنَّةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَائِزِ أَنْ يُكَبِّرَ الإِمَامُ، ثُمَّ يَقْرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ سِرًّا فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يُخْلِصَ الدُّعَاءَ فِي التَّكْبِيرَاتِ الثَّلاثِ"

(2)

).

ولا شك أن هذا هو أكملها وأَوْلَاها.

* قوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ).

وابن شهاب هو الإمام الزهري، أحد التابعين المشهورين، وممن لهم قَدمٌ راسخةٌ في حفظ أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي تدوينها، وهو أَحدُ الرُّوَاة المشهورين الذين تلقى عنهم جَمعٌ من العلماء، وَمن بينهم الإمام مالك إمام دار الهجرة

(3)

.

* قوله: (فَذَكَرْتُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ أَبُو أُمَامَةَ مِنْ ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سُوَيْدٍ الفِهْرِيِّ، فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ يُحَدِّثُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَائِزِ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَكَ بِهِ أَبُو أُمَامَةَ)

(4)

.

(1)

أخرجه النسائي (1987)، وصححه الألباني في "المشكاة"(1654).

(2)

أخرجه النسائي (1989)، وصححه الألباني في "أحكام الجنائز" (ص: 111).

(3)

يُنظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 326). .

(4)

يُنظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 500). حيث قال: "قال الزهري: فذكرت =

ص: 3010

ولا ننسى عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ".

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي التَّسْلِيمِ مِنَ الجَنَازَةِ).

وَهَذه مَسْألةٌ أُخرى سيبدؤها المؤلف، وهي في نظري من كليات المسائل، ولذلك ذَكَرها في هذا المقام، هل يُقْتصر في التسليم من الجنازة على وَاحِدَةٍ، حيث يُسلِّم على يمينه تسليمةً واحدةً، أو أنه يفعل كما يفعل في الصلاة يُسلِّم تسليمَتين عن يمينه، ثم عن شماله؟ من العلماء من قال: يُسلم تسليمة واحدة، وهذا هو رأي جمهور العلماء، ويستدلون على ذلك بحديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الجنازة، فَكبَّر أربعًا، وسلَّم تسليمةً واحدةً

(1)

، وهَذَا الحَديث مختلفٌ فيه، لكن بعد التحقيق نجد أنَّ سَندَه حسنٌ.

كذلك أيضًا نُقِلَ عن جمعِ غفير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يُسلِّمون تسليمةً واحدة

(2)

، ولو سلَّم تسليمتين، فذلك أمرٌ جائزٌ، وليس فيه كراهة.

* قوله: (هَلْ هُوَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ؟ فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ

(3)

،

= الذي أخبرني أبو أمامة من ذلك، لمحمد بن سويد الفهري، فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث، عن حبيب بن مسلمة، في الصلاة على الجنازة مثل الذي حدثك أبو أمامة".

(1)

أخرجه الدارقطني (2/ 432)، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "صلى على جنازة فكبر عليها أربعًا، وسلم تسليمة واحدة"، وحسنه الألباني في "أحكام الجنائز" (ص: 128).

(2)

منهم أبو بكر، وعمر، وأنس. يُنظر:"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 267)، عن الحسن، "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر كانوأ يسلمون تسليمة واحدة"، وعن حميد، قال:"كان أنس، يسلم واحدة"، وعن سعيد بن مرزبان، قال: صليت خلف ابن أبي ليلى، فسلم واحدة ثم قال:"صليت خلف علي، فسلم واحدة".

(3)

وهو مذهب المالكية والحنابلة، =

ص: 3011

وَقَالَتْ طَائِفَة وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ

(1)

).

يَعْني: هو قال: "وَاحدٌ أو اثنَان" ردًّا على التسليم، هل التسليم واحد أو اثنان؟ ولو قال:"التسليمة"، لَقَال أيضًا: واحدة أو اثنتان.

* قوله: (وَاخْتَارَهُ المُزَنِيُّ

(2)

مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ)

(3)

.

= يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 413) حيث قال: " (قوله وتسليمة خفيفة)؛ أي: لكل من الإمام والمأموم فلا يرد المأموم على إمامه ولا على من على يساره خلافًا لابن حبيب القائل إنه يندب رده على الإمام إن سمعه وخلافًا لسماع ابن غانم من ندب رد المأموم على الإمام وعلى من على يساره".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"(2/ 116). حيث قال: " (ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه) نص عليه وقال: عن ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولقوله: "وتحليلها التسليم" وروى عطاء بن السائب "أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على الجنازة تسليمة" رواه الجوزجاني".

(1)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 197). حيث قال: "قوله: وهي أربع تكبيرات بثناء بعد الأولى وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية ودعاء بعد الثالثة وتسليمتين بعد الرابعة".

(2)

يُنظر: "الأم" للشافعي (8/ 133)(مختصر المزني). حيث قال: "ثم يسلم عن يمينه وشماله ويخفي القراءة والدعاء ويجهر بالسلام".

(3)

يُنظر: "المجموع" للنووي (5/ 240). حيث قال: "وللأصحاب طريقان (أحدهما) طريقة المصنف والعراقيين وبعض الخراسانيين أن التسليم هنا كالتسليم في سائر الصلوات فيكون فيه ثلاثة أقوال (أصحها) يستحب تسليمتان (والثاني) تسليمة (والثالث) إن قل الجمع أو صغر المسجد فيسلم وإلا فتسليمتان (والطريق الثاني) حكاه إمام الحرمين وجماعات من الخراسانيين أن هذا مرتب على سائر الصلوات إن قلنا هناك تسليمة فهنا أولى وإلا فقولان (أصحهما) تسليمتان وهذا الطريق أصح لأن الاقتصار على تسليمة واحدة هناك قول قديم وهنا هو نصه في الإملاء وهو من الكتب الجديدة".

ويُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 12 - 22). حيث قال: " (الثالث) من الأركان (السلام) بعد التكبيرات وهو فيها (كغيرها) أي: كسلام غيرها من الصلوات في كيفيته وتعدده، ويؤخذ من ذلك عدم سن زيادة وبركاته، وهو كذلك خلافًا لمن قال: يسن ذلك وأنه يلتفت في السلام ولا يقتصر على تسليمة واحدة يجعلها تلقاء وجهه وإن قال في المجموع إنه الأشهر".

ص: 3012

والمُزَنِيُّ هو أحد علماء الشافعية المشهورين الذين لهم قدمٌ راسخةٌ في خدمة المذهب.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي التَّسْلِيمِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقِيَاسُ صَلَاةِ الجَنَائِزِ عَلَى الصَّلَاةِ المَفْرُوضَةِ).

والمؤلف يريد أن يربط بين الخلاف في الصلاة المعروفة (الصلاة المفروضة أو صلاة التطوع)، وبين صلاة الجنازة، هل يقتصر على تسليمةٍ واحدةٍ أو على تسليمتين؟

هناك خلاف

(1)

، فمن العلماء من يرى أن الواجب في التسليم من الصلاة إنما هي واحدة، وأكثرهم يرى أنهما اثنتان، فمراده القول: إنَّ سببَ الخلاف هو قياس صلاة الجنازة على الصلاة المكتوبة.

* قوله: (فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ التَّسْلِيمَةُ وَاحِدَةً فِي الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ، وَقَاسَ صَلَاةَ الجَنَازَةِ عَلَيْهَا، قَالَ بِوَاحِدَةٍ. وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ تَسْلِيمَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ المَفْرُوضَةِ، قَالَ هُنَاك بِتَسْلِيمَتَيْنِ إِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ تِلْكَ سُنَّةً فَهَذِهِ سُنَّةٌ، وَإِنْ كانَ فَرْضًا فَهَذِهِ فَرْضٌ).

وهذه من المسائل التي لا يتوقف على الخلاف فيها حرج، فلو اقتصر الإنسان على واحدة، فإن ذلك قد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعن كثيرٍ من الصحابة.

* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ المَذْهَبُ هَلْ يَجْهَرُ فِيهَا أَوْ لَا يَجْهَرُ بِالسَّلَامِ؟

(2)

).

(1)

تقدم عند قول المصنف: "المسألة الثامنة اختلفوا في التسليم من الصلاة، فقال الجمهور بوجوبه، وقال أبو حنيفة: ليس بواجب، والذين أوجبوه، منهم من قال: الواجب على المنفرد والإمام تسليمة واحدة، ومنهم من قال اثنتان".

(2)

ويُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (1/ 556). حيث قال " (و) رابعها (تسليمة) واحدة يجهر بها الإمام بقدر التسميع. (وندب لغير الإمام إسرارها) ".

ص: 3013

وَمُرَادُهُ بالمذهب: مذهب مالك، هل يجهر بالتسليم أو لا؟ إنْ كَانَ إمامًا يجهر بها ليسمع الآخرين.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاخْتَلَفُوا أَيْنَ يَقُومُ الإِمَامُ مِنَ الجَنَازَةِ).

وهَذِهِ مسألة أُخرى يراها المؤلف كلِّيَّةً، عندما يُوضَع الميت للصلاة عليه، أين يكون موقف الإمام منه؟

وهَذَا الذي يُصلَّى علَيه قد يكون واحدًا، وقد يكون أكثر، والَّذين يُصلَّى عليهم قد يكونون ذكورًا، وقد يكونون إناثًا، وقد يكون فيهم الذكور وفيهم الإناث، والعلماء قد تكلَّموا في هَذِهِ المسألة واختلفوا.

فمن العُلَماء مَنْ قال: يُصلَّى عند صدر الرجل، وبعضهم قال: عند رأس الرجل، يَعْني: يكون الإمام أمَامه صدر الرجل، فيتوسَّط الرجل من صدره، وبعضهم قال: عند رأسه، وبعضهم قال: عند منكبيه

(1)

.

وبالنسبة للمرأة: عند وسطها، وبالنسبة للمرأة الخلاف فيها يسيرٌ؛ لأنَّ الأحَاديث تعدَّدت في ذلك، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عند وسط المرأة

(2)

، وفي بعض الأحاديث: عند عجيزتها، يعني: عند وسطها

(3)

.

وأما الصلاة عند رأس الرجل، فقد ورد ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

سيأتي تفصيله.

(2)

أخرجه مسلم (964)، عن سمرة بن جندب، قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى على أم كعب، ماتت وهي نفساء، "فقام رسول اللَّه-صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها".

(3)

أخرجه أبو داود (3194)، وفيه، ". . . . فقالوا: يا أبا حمزة المرأة الأنصارية. فقربوها وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل، ثم جلس، فقال العلاء بن زياد، يا أبا حمزة، "هكذا كان يفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي، على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعًا، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة"، قال: نعم. . . "، وصححه الألباني في "المشكاة" (1679).

(4)

أخرجه أبو داود (3194)، وصححه الألباني في "المشكاة"(1679).

ص: 3014

* قوله: (فَقَالَ جُمْلَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ: يَقُومُ فِي وَسَطِهَا، ذَكَرًا كانَ أَوْ أُنْثَى

(1)

).

أَيْ: مِنَ العلماء مَنْ لا يُفرِّق؛ لأنهم قالوا: ورَد حديثٌ متفقٌ عليه في المرأة، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عند وسطها

(2)

، ولا فرق بين الرجل والمرأة، فيكون الرجل كذلك، ومنهم مَنْ قال: لا؛ لأنه ورد حديثٌ آخر وإنْ لم يكن في "الصحيحين"، فقد صَحَّ، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى عند رأس الرجل

(3)

.

ثم يختلفون أيضًا -وهذه لم يَعْرض لها المؤلف؛ لأن هذه مسألة جزئية لا يراها من كليات المسائل وأمهاتها- كيف يوضع الأموات؟ يعني لو وُجِدَ رجالٌ ونساءٌ، فلو كانوا رجالًا، ينتهي الأمر، لكن لو وُجِدَ رجالٌ ونساءٌ، وأراد الإمام أن يصلي عليهم جميعًا، هل تتساوى رؤوسهم، أو يُوضَع الرجال ويؤتَى بالمرأة فتُوضَع عند صدر الرجل، يعني: يُوضَع وسط المرأة عند صدر الرجل على القول بهذا، أو عند رأسها عند مَنْ يقول بالصلاة على الرأس حتى تتحد الصلاة؛ لأنَّ المرأة يُصلَّى إلى وسطها، والرجل يُصلَّى إما إلى رأسه، أو إلى صدره، فينبغي أن تكون الجهة التي يتوسَّطها الإمام متساويةً بالنسبة للرجال وللنساء؟

(4)

.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: يَقُومُ مِنَ الأُنْثَى وَسَطَهَا، وَمِنَ الذَّكَرِ

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 418). حيث قال: "وكان أبو ثور يقول: "يقوم وسط الجنازة".

(2)

أخرجه البخاري (332)، عن سمرة بن جندب:"أن امرأة ماتت فى بطن، فصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقام وسطها"، ومسلم (964).

(3)

أخرجه أبو داود (3194)، وصححه الألباني في "المشكاة"(1679)، وتقدم قريبًا.

(4)

سيأتي تفصيله قريبًا، عند قول المصنف:"المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيب جَنَائِزِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ".

ص: 3015

عِنْدَ رَأْسِهِ

(1)

. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقُومُ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى عِنْدَ صَدْرِهِمَا

(2)

، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ القَاسِمِ

(3)

وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَيْسَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ حَدٌّ)

(4)

.

والذي ذكره المؤلف غير مُسلَّم؛ لأن مذهب الشافعية فيه حدٌّ، فالشافعية يقولون: عند وسط المرأة، وإِنِ اختلف قولهم بالنسبة للرجل، لكنهم بالنِّسْبة للمرأة يَروْن أن الإِمَامَ يُصلِّي عند عجيزتها؛ أي: عند وسطها؛ لأن العجيزة هي المنتصف، وبالنسبة للرجل عند رأسه، وَهَذا هو المعروف المشهور في المذهب.

وعند مَالِكٍ: يُصلَّى عند منكب الرجل، وعند وسط المرأة.

إذًا، الكلَامُ في المَذْهبين ليس كما ذكر المؤلف، وأما عند الحنابلة فإنه يُصلَّى عند وسط المرأة، وعند صدر الرجل

(5)

.

(1)

وهو مذهب الشافعية، ويُنظر:"مغني المحتاج"(2/ 31). حيث قال: " (ويقف) المصلي ندبًا من إمام ومنفرد (عند رأس) الذكر (الرجل) أو الصغير (وعجزها) أي: الأنثى".

(2)

وهو مذهب الحنفية، ويُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 200). حيث قال: " (قوله ويقوم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر)؛ لأنه موضع القلب وفيه نور الإيمان فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لإيمانه وهذا ظاهر الرواية، وهو بيان الاستحباب حتى لو وقف في غيره أجزأه".

(3)

يُنظر: "الاستذكار": لابن عبد البر (3/ 50). حيث قال: "وقال ابن القاسم يقوم من الرجل عند صدره ومن المرأة عند منكبيها".

(4)

لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 557). حيث قال: " (و) ندب (وقوف إمام وسط) الميت (الذكر وحذو منكبي غيره) ".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"(2/ 31). حيث قال: " (ويقف) المصلي ندبًا من إمام ومنفرد (عند رأس) الذكر (الرجل) أو الصغير (وعجزها)؛ أي: الأنثى".

(5)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 112). حيث قال: " (ويسن أن يقوم إمام عند صدر رجل). . . (ووسط امرأة). . . (وبين ذلك) أي: بين الصدر والوسط من خنثى مشكل لاستواء الاحتمالين".

ص: 3016

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: يَقُومُ مِنْهُمَا أَيْنَ شَاءَ

(1)

. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُ الآثَارِ فِي هَذَا البَابِ).

ولَيْس الاختلافُ هنا اختلافَ إيجاب، وإنما هو اختلاف استحباب، ما هو المُستحب في موقف الإمام وهو يُصلي على الجنازة؟ هل يقف عند صدر الرجل وعند وسط المرأة؟ أو يقف عند وسط المرأة وعند رأس الرجل، أو يقف عند وسط المرأة وعند منكبي الرجل؟ هَذَا محلُّ خِلَافٍ بين العلماء، ولو فُعِلَ واحدٌ من هَذِهِ، لَكَان جَائزًا.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَّجَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ كعْبِ مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاءُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ عَلَى وَسَطِهَا"

(2)

).

وَهَذَا نَصٌّ مُتَواترٌ، ولذلك قَلَّ الخلاف بالنِّسبة للمرأة؛ لأنه ورَد عند وسطها وعند عجيزتها، إذًا هذا حديثٌ متفقٌ عليه، بل هو في كثيرٍ أيضًا من كتب السنن والمسانيد، والرسول صلى الله عليه وسلم صلى على أم كعب وهي نُفَساء، يعني: ماتت وهي نُفَساء، فصلى عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوقف عند وسطها، ومن هنا لم يكن هناك خلافٌ كبير فيما يتعلق بالمرأة.

* قوله: (وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ، فَقَامَ حِيَالَ رَأْسِهِ، ثُمَّ جَاؤُوا بِجَنَازَةِ امْرَأَةٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ، صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَامَ حِيَالَ وَسَطِ السَّرِيرِ، فَقَالَ العَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الجَنَائِزِ، كَبَّرَ أَرْبَعًا، وَقَامَ عَلَى جَنَازَةِ المَرْأَةِ مَقَامَكَ مِنْهَا، وَمِنَ الرَّجُلِ

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 418). حيث قال: "وكان الحسن البصري لا يبالي أين قام من الرجل والمرأة".

(2)

أخرجه البخاري (332)، ومسلم (964).

ص: 3017

مَقَامَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ"

(1)

، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي المَفْهُومِ مِنْ هَذِهِ الأَفْعَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ قِيَامَهُ عليه الصلاة والسلام فِي هَذِهِ المَوَاضِعِ المُخْتَلِفَةِ يَدُلُّ عَلَى الإِبَاحَةِ، وَعَلَى عَدَمِ التَّحْدِيدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ قِيَامَهُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الأَوْضَاعِ أَنَّهُ شَرْعٌ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّحْدِيدِ).

الصَّحيح أنه شرعٌ، لكن يُقْصد بالشرع هنا الاستحباب، فما دَامَ فعَل ذَلكَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيَنْبغي أن يُفْعَلَ.

* قوله: (وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّتِهِ، فَقَالَ: المَرْأَةُ وَالرَّجُلُ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الأَصْلَ أَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي ذَلِكَ فَارِقٌ شَرْعِيٌّ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ حَدِيثَ ابْنِ غَالِبٍ، وَقَالَ: فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ)، فينبغي الأخذ به.

* قوله: (فَيجِبُ المَصِيرُ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ أَصْلًا، وَأَمَّا مَذْهَبُ ابْنِ القَاسِمِ وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا أَعْلَمُ لَهُ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فِي ذَلِكَ مُسْنَدًا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ ذَلِكَ

(2)

. المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِ جَنَائِزِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ).

وهذه مسألة مهمة، يعني: لو وُجِدَتْ عدة جنائز أُريد الصلاة عليها، كيف تُرتَّب؟

جماهير العلماء على أن الرجال مما يلي الإمام، ثم بعد ذلك تأتي

(1)

أخرجه أبو داود (3194)، وصححه الألباني في "المشكاة"(1679).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، عن أبي الحسين، قال: كان عبد اللَّه "إذا صلى على الجنازة قام وسطها، ويرفع من صدر المرأة شيئًا".

ص: 3018

المرأة، وقد يوجد مع الرجال والنساء صبيان، فهل يُوضَع الصبيان وسطًا بين الرجال والنساء، فيكون الرجال أولًا، ثم الصبيان، وتكون النساء إلى القبلة أقرب، والرجال مما يلي الإمام؟ هذا قَولٌ.

وَقَولٌ آخَر: أنه يُصلَّى على الرجال وَحْدهم، وعلى النساء وحدهم؛ خروجًا من الخلاف، ومنهم من قال بالعكس، يكون النساء إلى جهة الإمام، والرجال إلى جهة القبلة؛ لأن الأصل هو تقديم الرجال، لكن القول الصحيح في نظري أن يكون الرجال إلى جهة الإمام، ثم يلي بعد ذلك النساء

(1)

.

* قوله: (إِذَا اجْتَمَعُوا عِنْدَ الصَّلَاةِ).

وقد وردت في ذلك عدة أحاديث كما سيذكرها المؤلف، أم كلثوم زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابنة علي ابن أبي طالب لما توفيت مع ابنها زيد، كيف تمَّ وَضْعُ جِنَازَتهما؟

(2)

.

* قوله: (فَقَالَ الأَكْثَرُ: يُجْعَلُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الإِمَامَ، وَالنِّسَاءُ مِمَّا يَلِي القِبْلَةَ

(3)

.

(1)

سيأتي مفصلًا.

(2)

أخرجه أبو داود (3193)، عن يحيى بن صبيح، قال: حدثني عمار، مولى الحارث بن نوفل، أنه شهد جنازة أم كلثوم، وابنها، فجعل الغلام مما يلي الإمام، فأنكرت ذلك، وفي القوم ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو قتادة، وأبو هريرة، فقالوا:"هذه السنة"، وصححه الألباني في "أحكام الجنائز" (ص: 104).

(3)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (2/ 219). حيث قال: " (وإن جمع) جاز، ثم إن شاء جعل الجنائز صفًا واحدًا وقام عند أفضلهم، وإن شاء (جعلها صفًا مما يلي القبلة) واحدًا خلف واحد (بحيث يكون صدر كل) جنازة (مما يلي الإمام) ليقوم بحذاء صدر الكل وإن جعلها درجا فحسن لحصول المقصود (وراعى الترتيب) المعهود خلفه حالة الحياة، فيقرب منه الأفضل فالأفضل الرجل مما يليه؛ فالصبي فالخنثى فالبالغة فالمراهقة؛ والصبي الحر يقدم على العبد، والعبد على المرأة؛ وأما ترتيبهم في قبر واحد لضرورة فبعكس هذا، فيجعل الأفضل مما يلي القبلة". =

ص: 3019

وَقَالَ قَوْمٌ بِخِلَافِ هَذَا

(1)

)

يَعْني: علَى العكس من ذلك.

* قوله: (أَيْ: النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الإِمَامَ، وَالرِّجَالُ مِمَّا يَلِي القِبْلَةَ)، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يُصَلَّى على كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، الرِّجَالُ مُفْرِدُونَ، وَالنِّسَاءُ مُفْرِدَاتٌ

(2)

، وَسَبَبُ الخِلَافِ: مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ

= ولمذهب المالكية، يُتظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 567). حيث قال: " (وفي الصلاة) عليه (يلي الإمام أفضل رجل) فالأفضل (فالطفل الحر فالعبد) كبير فصغير، (فالخصي) حر كبير فصغير فعبد كبير فصغير (فالمجبوب) كذلك (فالخنثى) كذلك (فالحرة) كبيرة فصغيرة (فالأمة) كذلك".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 491 - 492). حيث قال: " (ويجوز على الجنائز صلاة). . . لأن ابن عمر صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يليه والنساء مما يلي القبلة، ولخبر أبي داود بإسناد صحيح أن سعيد بن العاص صلى على قلد بن عمر بن الخطاب وأمه أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهم فجعله مما يليه وجعلها مما يلي القبلة وفي القوم نحو ثمانين من الصحابة فقالوا هذه السنة".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 112). حيث قال: " (ويقدم إلى الإمام من كل نوع أفضلهم) أي: أفضل أفراد ذلك النوع لأنه يستحق التقدم في الإمامة لفضيلته، فاستحق تقديم جنازته ويؤيد ذلك أنه "كان صلى الله عليه وسلم يقدم في القبر من كان أكثر قرآنًا" فيقدم إلى الإمام الحر المكلف ثم العبد المكلف، ثم الصبي، ثم الخنثى ثم المرأة، نقله الجماعة كالمكتوبة (فإن تساووا) في الفضل (قدم أكبر) أي: أسن، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "كبر كبر" (فإن تساووا) في السن (فسابق) أي: يقدم لسبقه (فإن تساووا) في ذلك (فقرعة) فيقدم من تخرج له القرعة كالإمامة".

(1)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 421). حيث قال: "وقالت طائفة: يجعل النساء مما يلي الإمام والرجال مما يلي القبلة، هذا قول الحسن، والقاسم، وسالم، وروي هذا القول عن مسلمة بن مخلد".

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبيد اللَّه بن عمر، عن سالم، والقاسم، قالا:"النساء مما يلي الإمام والرجال مما يلي القبلة".

(2)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 421). حيث قال: "وفيه قول ثالث: وهو أن يصلى على المرأة على حدة، وعلى الرجل على حدة، فعل ذلك ابن مغفل، وقال: هذا لا شك فيه".

ص: 3020

الشَّرْعِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ مَحْدُودٌ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ يَجِبُ الوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَلِذَلِكَ رَأَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ في أَمْثَالِ هَذِهِ المَوَاضِعِ شَرْعٌ أَصْلًا، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا شَرْعٌ لَبُيِّنَ لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ الأَكْثَرُ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "المُوَطَّإِ" مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الجَنَائِزِ بِالمَدِينَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَعًا، فَيَجْعَلُونَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الإِمَامَ، وَيَجْعَلُونَ النِّسَاءَ مِمَّا يَلِي القِبْلَةَ

(1)

، وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى كذَلِكَ عَلَى جَنَازَةٍ فِيهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَالإِمَامُ يَوْمَئِذٍ سَعِيدُ بْنُ العَاصِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ أَمَرَ مَنْ سَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: هِيَ السُّنَّةُ

(2)

، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي المُسْنَدِ عِنْدَهُمْ).

ويُقْصد بـ "عبد الرزاق": صاحب "المصنف".

وإذا كان الصحابة فعلوا ذلك، ونسبوا هذا الفعل إلى سُنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيَنْبغي الوقوف عندها.

* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ الرِّجَالِ شَبَّهَهُمْ أَمَامَ الإِمَامِ بِحَالِهِمْ خَلْفَ الإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ).

عَمَلًا بأثر ابن مسعودٍ الموقوف

(3)

.

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 230).

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/ 465).

(3)

أخرجه عبد الرزاق موقوفًا في "المصنف"(3/ 149)، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة لها الخليل تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فألقي عليهن الحيض، فكان ابن مسعود يقول:"أخروهن حيث أخرهن اللَّه"، فقلنا لأبي بكر: ما القالبين؟ قال: "رفيصين من خشب".

ص: 3021

* قوله: (وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ")

(1)

.

لَكن القصد من ذلك هو القرب للإمام، فالذي يكون أقرب إلى الإمام هو المتقدم، وصلاة الجنازة تأتي على العكس من الصلاة المكتوبة؛ لأن الصلوات المكتوبة يكون الناس وَرَاء الإمام، أمَّا هذه فتكون أمام الإمام.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اعْتَقَدَ أَنَّ الأَوَّلَ هُوَ المُتقَدَّمُ، وَلَمْ يَجْعَلِ التَّقْدِيمَ بِالقُرْبِ مِنَ الإِمَامِ).

وَحَقيقَة القَصد بالتقديم هو القرب من الإمام، ولذلك فإنَّ القول الأول هو الصحيح.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ، فَاحْتِيَاطًا مِنْ أَلَّا يُجَوِّزَ مَمْنُوعًا).

فَصاحبُ هذا الرأي خشي أن يَقعَ في الخلاف، فأراد الاحتياط، ولا خلاف في الحقيقة ما دَام هذا ثَبتَ عن الصحابة، وقالوا: هذه السُّنة، فينبغي أن يفعل بها، ولا حرج في ذلك، وحتى لو قدَّمَ وأخَّر، لا تبطل صلاة الجنازة في هذه الحالة، لَكن لو وُجِدَ معهم صبيان، فبَعْضهم يرى أن يُوَسط الصبيان، وبعضهم يرَى أن يكون النِّساء بعد الرجال ثم الصِّبيان

(2)

.

(1)

يُنظر: "الهداية في تخريج أحاديث البداية" للغماري (3/ 189). حيث قال: "ليس هو بحديث مرفوع، إنما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن مسعود من قوله وقد وهم كثير من الناس في رفع هذا الكلام بل وفي عزوه إلى الصحيحين وغيرهما من الأصول". ويُنظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص: 71 - 72).

(2)

تقدم قريبًا.

ص: 3022

* قوله: (لِأَنَّهُ لَمْ تَرِدْ سُنَّةٌ بِجَوَازِ الجَمْعِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ الإِبَاحَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا بِالشَّرْعِ، وَإِذَا وُجِدَ الِاحْتِمَالُ، وَجَبَ التَّوَقُّفُ إِذَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا

(1)

. المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي يَفُوتُهُ بَعْضُ التَّكْبِيرِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ).

وَهَذِهِ مسألةٌ مهمةٌ، وفيها خلافٌ؛ لأن الذي تفوته الصَّلاة على الجنازة إنما قَدْ فَاتَه بعض الصلاة، وأَعْتَقد أنَّ هذا هو مراد المؤلف؛ لأنه قد تفوت الإنسَان الصَّلاة كاملةً، فبعد ذلك هل يُصلِّي عليه إنْ كَانَت مَوْجودةً بعد لم تُرْفع؟ ثم إذا لم يصلِّ عليها، هَلْ يُصلِّي عليها عند القَبْر؟ وهذا سيأتي الكلام فيه، لكن القَصد فيمَنْ فاته شيءٌ من صلاة الجنازة، ماذا يفعل؟ هل يدخل مع الإمام كَمَا يفعل في الفريضة إذا جاء والإمام يصلي مع الناس، فإنه يدخل مع الإمام في أَيِّ جزءٍ من أجزائها، أو أنه ينتظر حتى يُكبِّر الإمام التكبيرة التي تلي التكبيرة التي فاتته، فيدخل مع الإمام فيها؟ ثم إذا كبَّر مع الإمام أيضًا، وَصَار مع الإمام، هَلْ يقضي ما فاته من التكبير متتابعًا؟ بمعنى: لو قُدِّر أنه أدرَك تَكْبيرتين، وجاء بهما مع الإمام، وفاتته تكبيرتان، هل يأتي بالتكبيرتين متتابعتين؟ فيقول: اللَّه أكبر، ثم يُتْبعها بقول: اللَّه أكبر فقط؟ أو أنه يأتي بكل واحدة منهما بالدعاء المأثور؟ هذه أيضًا اختلف فيها العلماء، فبعضهم يقول: يأتي بهما متتابعة، وبعضهم يقول: إنْ فاتته التكبيرة الأولَى، فإنه يقرأ الفاتحة، وفي الثانية

(1)

وليس على إطلاقه، ويُنظر:"روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 508). حيث قال: "والتأويل: صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح به لاعتضاده بدليل يصير به، أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر. إلا أن الاحتمال يقرب تارةً ويبعد أخرى، وقد يكون الاحتمال بعيدًا جدًّا فيحتاج إلى دليل في غاية القوة. وقد يكون قريبًا فيكفيه أدنى دليل".

وقال أيضًا (1/ 559): "وإن توقفوا لمطلق الاحتمال: لزمهم التوقف في الظواهر كلها، وترك العمل بما لا يفيد القطع، واطراح أكثر الشريعة فإن أكثرها إنما ثبت بالظنون".

ص: 3023

يصلي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقَدْ أدرَك مع الإمام الثالثة والرابعة، وهذه فيها خلافٌ بين العلماء.

ولا خلاف بين العلماء في أنَّ من فاته بعض التكبير في صلاة الجنازة، فأتى به متتابعًا، ولو لم يذكر دعاءً، فإن صلاة الجنازة صحيحة، لكنهم يختلفون في حالة واحدة: فيمن أدرك بعض التكبيرات مع الإمام، فَأدَّاها معه، وَسَلَّم مع الإمام، بمعنى أنه لم يَأْتِ بجميع التكبيرات، هل تَصحُّ صلاته أو لا؟ فعند الحنابلة: تَصحُّ في روايةٍ مشهورةٍ في المذهب. . وَفِي المَذَاهب الأخرى: لا تَصحُّ؛ لأنَّ صلَاة الجنازة لم تَكْمُل في هذا المَقَام

(1)

.

وَقَدْ أَشَرْتُ إلَى ذلك بإِيجَازٍ، لكنه أوفَى مما ذكَره المؤلف، وأكثر استقصاءً، إذن لو أتى الإنسان والإمام قد سبقه في بعض أجزاء صلاة الجنازة، هل يدخل معه أو ينتظر حتى يُكبِّر؟

إن قلنا: يدخل معه، قِسنا ذلك على بقية الصلوات، وإن قلنا: لا، فإنه ينتظر. . هذه ناحية.

النَّاحية الأخرى: ما فَاتَه من تَكْبيراتٍ، هل يأتي به متتابعًا، فيقول: اللَّه أكبر، ثم يقول: اللَّه أكبر مثلًا؟ إن قلنا كذلك هل يلزمه أن يأتي بما فيهما من ذِكْرٍ؟ أو بما فيها إن كانت ثلاثةً من ذِكْرٍ أو لا؟ هذه كلُّها اختلف فيها العلماء

(2)

.

* قوله: (مِنْهَا: هَلْ يَدْخُلُ بِتَكْبِيرٍ أَمْ لَا؟ وَمِنْهَا: هَلْ يَقْضِي مَا فَاتَهُ أَمْ لَا؟).

بمَعْنى أنَّه وَجد الإمام قد كبَّر فسبق، هل يُكبر ويلحقه كما يفعل في الصلاة المفروضة؟ لأنه لَوْ جاء والإمام قد ركع، فإنه يُكبِّر تكبيرة الإحرام

(1)

سيأتي مفصلًا.

(2)

سيأتي مفصلًا.

ص: 3024

ويركع، وهذه مسألة فيه تفصيل بين العلماء؛ هل يكبر تكبيرة الإحرام ثم يُكبِّر تكبيرةَ الرُّكوع فيلحق بالإمام؟ ولو كَبَّر تكبيرة الركوع هل تُجْزئ؟ الصحيح: لا؛ لأن تكبيرةَ الإحرام ركن، وتكبيرة الركوع واجبة عند بعض العلماء، وسُنَّة عند بعضهم، فينبغي للإنسان أن يكبر تكبيرة الإحرام، ثم بعد ذلك يركع، أو يكبر تكبيرة الإحرام ثم يكبر تكبيرة الركوع ويركع، وهذا هو الذي ينبغي أن يفعله، وما عدا ذلك فلا

(1)

.

* قوله: (وَإِنْ قَضَى فَهَلْ يَدْعُو بَيْنَ التَّكْبِيرِ أَمْ لَا؟).

بَعْضهم يرَى عدم القضاء - وَذكرت لكم هذه الرواية في مذهب أحمد

(2)

، وَأَكْثَر العلَماء على أنه يقضي

(3)

؛ لأنه لو لم يقضِ ما فاته، لم تصحَّ صلاته؛ لأن صلاة الجنازة تقوم على أربع تكبيرات، وهذه قد اختلت ونقصت، وإذا كان ما يفوت الإنسان في صلاته يقضيه كما أخبر بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله:"إذا أتيتم الصَّلاة فأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فَصلُّوا، وما فاتكم فأتموا"

(4)

، وهذه صلاة، فينبغي أن يأتي الإنسان بما فاته فيها، ولا ينبغي أن يُفرِّط.

* قوله: (فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ أَوَّلَ دُخُولِهِ

(5)

، وَهُوَ

(1)

تقدم مفصلًا، عند قول المصنف:"اختلفوا: هل من شرط هذا الداخل أن يكبر تكبيرتين تكبيرة للإحرام وتكبيرة للركوع أو يجزيه تكبيرة الركوع؟ ".

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 369). حيث قال: "مسألة: قال: ومن فاته شيء من التكبير قضاه متتابعا، فإن سلم مع الإمام ولم يقض، فلا بأس. وجملة ذلك أن المسبوق بتكبير الصلاة في الجنازة يسن له قضاء ما فاته منها".

(3)

سيأتي بيانه.

(4)

أخرجه البخاري (908)، بلفظ:"إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا".

(5)

يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (1/ 413). حيث قال: " (وصبر المسبوق) وجوبًا إذا جاء وقد فرغ الإمام ومأمومه من التكبير واشتغلوا بالدعاء (للتكبير) أي إلى أن يكبر، ولا يكبر حال اشتغالهم بالدعاء، فإن كبر صحت ولا يعتد بها عند الأكثر، فإن أدركهم في التكبير كبر معهم (ودعا) بعد سلام إمامه بعد كل تكبيرة (إن تركت وإلا) تترك بأن رفعت بفور (والى) بين التكبير ولا يدعو لئلا تصير صلاة على غائب".

ص: 3025

أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ

(1)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الإِمَامُ وَحِينَئِذٍ يُكَبِّرُ

(2)

، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ

(3)

، وَالقِيَاسُ التَّكْبِيرُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي المَفْرُوضَةِ).

فَالقيَاس فِي هذا المقام، هل يُكبِّر المأموم في أيِّ جُزْءٍ ليدرك الإمام فيه؛ كالحال بالنسبة للصَّلوات المفروضة؛ فإنك تدخل مع الإمام في أيِّ جزءٍ من أجزائه ولا تنتظر؛ فلو جئتَ والإمام ساجد لا تنتظر حتى يقوم الإمام، وإنما تدخل معه في الصلاة.

* قوله: (وَاتَّفَقَ مَالِكٌ

(4)

وَأَبُو حَنِيفَةَ

(5)

. . . . . .

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (3/ 144 - 145). حيث قال: " (ويكبر المسبوق ويقرأ الفاتحة وإن كان الإمام في) تكبيرة (غيرها)؛ أي: الأولى لأن ما أدركه أول صلاته فيراعي ترتيب نفسه. (ولو كبر الإمام أُخرى قبل شروعه في الفاتحة كبر معه وسقطت القراءة) ".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 364). حيث قال: "ويستحب إحرام مسبوق معه في أي حال صادفه، ولا ينتظر تكبيره كباقي الصلوات".

(2)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (2/ 216). حيث قال: " (والمسبوق) ببعض التكبيرات لا يكبر في الحال بل (ينتظر) تكبير (الإمام ليكبر معه) للافتتاح لما مر أن كل تكبيرة كركعة".

(3)

يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (1/ 256 - 257). حيث قال: "قال: وسألت مالكًا عن الرجل يأتي الجنازة وقد فاته الإمام ببعض التكبير أيكبر حين يدخل أم ينتظر حتى يفرغ الإمام فيكبر؟ قال: بل ينتظر حتى يمْرغ الإمام، ويدخل بتكبيرة الإمام يقضي ما فاته إذا فرغ الإمام".

(4)

يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (1/ 413). حيث قال: " (ودعا) بعد سلام إمامه بعد كل تكبيرة (إن تركت وإلا) تترك بأن رفعت بفور (والى) بين التكبير ولا يدعو لئلا تصير صلاة على غائب".

(5)

يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 242). حيث قال: "ثم المسبوق يقضي ما فاته نسقا بغير دعاء؛ لأنه لو قضاه بدعاء ترتفع الجنازة فتبطل الصلاة؛ لأنها لا تجوز بلا حضور ميت، ولو رفعت قطع التكبير إذا وضعت على الأعناق، وعن محمد إن كانت إلى الأرض أقرب يأتي بالتكبير، وقيل: لا يقطع حتى تتباعد".

ص: 3026

وَالشَّافِعِيُّ

(1)

عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنَ التَّكْبِيرِ).

ولذلك، لم يَذْكر أحمد، وربما يتصور البعض أن هذا على خلاف عادته، واللَّه أعلم، لكن عدم ذكره لأحمد في محله؛ لأن أحمد يرى أن مَنْ فاته التكبير أو بعض التكبير وسلَّم، فإن صلاته تصح

(2)

.

* قوله: (إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنْ يَدْعُوَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ المَقْضِيِّ

(3)

، وَمَالِكٌ

(4)

وَالشَّافِعِيُّ

(5)

يَرَيَانِ أَنْ يَقْضِيَهُ نَسَقًا).

وأيضًا على الرواية المعروفة عند الإمام أحمد، وهي المشهورة

(6)

أن الإنسان يقضي ما فاته نسقًا على ما قاله الإمام مالك والشافعي في هذا.

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج" للهيتمي (1/ 145 - 146). حيث قال: " (وإذا سلم الإمام تدارك المسبوق باقي التكبيرات بأذكارها) وجوبًا في الواجب وندبًا في المندوب (وفي قول: لا تشترط الأذكار) فيأتي بها نسقًا لأن الجنازة ترفع حينئذ وجوابه. أنه يسن إبقاؤها حتى يتم المقتدون وأنه لا يضر رفعها والمشي بها قبل إحرام المصلي وبعده وإن حولت عن القبلة ما لم يزد ما بينهما على ثلثمائة ذراع، أو يحل بينهما حائل مضر في غير المسجد".

(2)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 120). حيث قال: " (فإذا سلم) المسبوق (ولم يقض) ما فاته (صح) ذلك".

(3)

تقدم قريبًا. ومذهبهم، أن المسبوق يقضي بعد سلام الإمام نسقًا، بلا دعاء إن خشي أن ترفع الجنازة.

(4)

تقدم قريبًا. ومذهبهم في الأشهر، أنه يقضي التكبيرات بأذكارها ما لم ترفع الجنازة، فإن رفعت قضى التكبير فقط.

(5)

تقدم قريبًا. ومذهبهم في الأشهر، قضاء التكبيرات بأذكارها.

(6)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 120). " (ويقضي مسبوق ما فاته) قبل دخوله مع الإمام (على صفته). . (بعد سلام الإمام). . (فإن أدركه) المسبوق (في الدعاء تابعه فيه) أي: الدعاء (فإذا سلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة) بعد التعوذ والبسملة (ثم كبر وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم كبر وسلم). . . (فإن خشي) المسبوق (رفعها) أي: الجنازة (تابع) أي: والى (بين التكبير من غير ذكر). . . (فإذا سلم) المسبوق (ولم يقض) ما فاته (صح) ذلك".

ص: 3027

* قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى القَضاءِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"

(1)

).

وهذا أكملُ وأبعدُ عن الخلاف.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا العُمُومَ يَتَنَاوَلُ التَّكْبِيرَ وَالدُّعَاءَ قَالَ: يَقْضِي التَّكْبِيرَ، وَمَا فَاتَهُ مِنَ الدُّعَاءِ، وَمَنْ أَخْرَجَ الدُّعَاءَ مِنْ ذَلِكَ إِذْ كَانَ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ قَالَ: يَقْضِي التَّكْبِيرَ فَقَطْ إِذْ كَانَ هُوَ المُؤَقَّتُ، فَكَانَ تَخْصِيصُ الدُّعَاءِ مِنْ ذَلِكَ العُمُومِ هُوَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ العَامِّ بِالقِيَاسِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِالعُمُومِ، وَهَؤُلَاءِ بِالخُصُوصِ).

وقَدْ تكون هذه العبارة فيها غموضٌ أو عدم وضوح، ومراد المؤلف أنه ليس هناك دعاء مؤقت محدد في هذا المقام، وإنما يدعو الإنسان بالدعاء الذي يفيده في هذا المقام، فيدعو للمسلمين، ولنفسه، ولوالديه، ويُكثر من الدعاء للميت، فيسأل اللَّه له الرحمة والمغفرة، إلى غير ذلك مما ورد.

* قوله: (المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى القَبْرِ).

وهذه مسألة هامة جدًّا، وينبغي أن تؤخذ الحَيطة فيها؛ لأنه عندما تجوز الصَّلاة على القبر، تختلف الأوضاع؛ فهناك مَنْ يخالف الحد من المسلمين؛ فيذهب إلى القبور، ويفعل عندها ما لم يُشْرع، بل يفعل من الأعمال التي توقعه في الشرك، وربما في الشرك الأكبر، وهذا هو الذي حذَّر منه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك سنمر بمباحث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجلِسوا على القبورِ، ولا تصلُّوا إليها"

(2)

؛ لأن القرب من هذه الأمور

(1)

أخرجه البخاري (908)، بلفظ:"إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا".

(2)

أخرجه مسلم (972).

ص: 3028

قد تُوقِعُ الإنسان في بعض الزلل، وربما توقعه في نَوْعٍ من أنواع الشِّرك، فأولئك الذين يَتَرددون على القبور، ويطوفون حولها، ويطلبون من أهلها الشفاعة أو الوساطة، أو أن يشفي لَهم مريضًا، أو أن يرفع عنهم كربًا، ويتجهون إلى هذا المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ويُعرضون عن الخالق الذي بيده ملكوت السموات والأرض، لا شك أن هذا أمر غير جائز، ولا ينبغي لمسلمٍ أن يسلك هذا الطريق.

إذًا، الكلام هنا عن الصلاة فيمن فاتته الصلاة على الميت؛ هل يصلي؟ وهل يذهب إلى القبر فيصلي عليه؟ ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في قصة المسكينة التي أرشد فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنها إذا ماتت أن يؤذنوه، فماتت المرأة ليلًا، وأُخْرجت جنازتها، وصُلِّي عليها ودُفِنَتْ، فلما فقد ذلك رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أُخْبِرَ من قِبَلِ الصحابة، ثم بعد ذلك سألهم:"ألست قد ذَكَرت لكم أن تؤذنوني بموتها؟ "، أو:"ألَمْ أقُلْ لكم آذنوني؟ "، فَبيَّنوا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهم ما أرادوا أن يؤثِّروا عليه، وأن يوقظوه من نومه، فَذَهب رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه، وَصلَّى على قبرها، كَذَلك في قصة الرجل الذي كان يقمُّ المسجد؛ فإنه بعد أن فَقَده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برهةً من الزمن، سأل عنه، فذهب وصلَّى على قبره

(1)

.

إذًا، الصلاة على القبر جَائزةٌ، ولكن العلماء يختلفون في القدر المحدد لذلك، هل هو ليلة، أو ثلاثة أيام، أو شهر

(2)

؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه النسائي (2022)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير"(7789 - 2891).

(2)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 414). حيث قال: "وقالت طائفة: يصلى على القبر إلى شهر للغائب من سفر، وإلى ثلاث للحاضر، هكذا قال إسحاق، وحكاه عن عبد الرحمن بن مهدي".

ويُنظر: "المجموع" للنووي (5/ 247)، حيث قال: "إذا حضر من لم يصل عليه بعد دفنه وأراد الصلاة عليه في القبر أو أراد الصلاة عليه في بلد آخر جاز بلا خلاف للأحاديث السابقة في المسألة الثانية وإلى متى تجوز الصلاة على المدفون فيه ستة أوجه (أحدها) يصلى عليه إلى ثلاثة أيام ولا يصلى بعدها حكاه الخراسانيون وهو المشهور عندهم (والثاني) إلى شهر (والثالث) ما لم يبل جسده (والرابع) يصلي عليه =

ص: 3029

صلَّى على قَبْرٍ بعد شهر، ولا ننسى أنه صلَّى على شهداء أُحُد بعد ثمانِ سنوات من شهادتهم؛ يعني من موتهم شهداء

(1)

.

* قَالَ: (لِمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الجَنَازَةِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى القَبْرِ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلِّي عَلَى القَبْرِ إِلَّا الوَلِيُّ فَقَطْ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الجَنَازَةِ

(3)

).

لأنَّ أبَا حنيفة يرَى أن الوليَّ له ميزة يختص بها؛ لأنه ولي الميت، فله من الخصيصة ما لا يشركه فيها غيره، ولذلك يصلي عليه، أما جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة فإنهم يرون أن الصلاة جائزة لكلِّ من فاته أن يصلي على الميت.

= من كان من أهل فرض الصلاة عليه يوم موته (والخامس) يصلي من كان من أهل الصلاة عليه يوم موته وإن لم يكن من أهل الفرض فيدخل الصبي المميز وممن حكي هذا الوجه المصنف في التنبيه وصححه البندنيجي (والسادس) يصلى عليه أبدًا فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة رضي الله عنهم ومن قبلهم اليوم واتفق الأصحاب على تضعيف هذا السادس".

وينظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 381). حيث قال: "جملة ذلك أن من فاتته الصلاة على الجنازة، فله أن يصلي عليها، ما لم تدفن، فإن دفنت، فله أن يصلي على القبر إلى شهر. هذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، روي ذلك عن أبي موسى، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم وإليه ذهب الأوزاعي، والشافعي".

(1)

أخرجه البخاري (4042)، ومسلم (2296).

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 427). حيث قال: " (ولا يصلى على قبر)، أي: يكره على الأوجه (إلا أن يدفن بغيرها) أي بغير صلاة فيصلى على القبر وجوبًا ولا يخرج إن خيف عليه التغير وإلا أخرج على المعتمد، ومحل الصلاة على القبر ما لم يطل حتى يظن فناؤه (ولا) يصلى على (غائب) من غريق وأكل سبع أو في بلد أُخرى (ولا تكرر) الصلاة على من صلي عليه وهذا مكرر مع قوله وتكرارها".

(3)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (2/ 222 - 223). حيث قال: " (فإن صلى غيره)، أي: الولي (ممن ليس له حق التقديم) على الولي (ولم يتابعه) الولي (أعاد الولي) ولو على قبره إن شاء لأجل حقه لا لإسقاط الفرض؛ ولذا قلنا: ليس لمن صلى عليها أن يعيد مع الولي لأن تكرارها غير مشروع".

ص: 3030

* قَالَ: (وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرَ وَليِّهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

وَأَحْمَدُ

(2)

وَدَاوُدُ وَجَمَاعَةٌ

(3)

: يُصَلِّي عَلَى القَبْرِ مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الجَنَازَةِ).

ويقصد بـ "داود": داود الظاهري، الإمام، صاحب المذهب المعروف الذي يُنْسب إليه الظاهرية، وهم الذين يقولون بظواهر النصوص.

* قوله: (وَاتَّفَقَ القَائِلُونَ بِإِجَازَةِ الصَّلَاةِ عَلَى القَبْرِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ حُدُوثُ الدَّفْنِ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ المُدَّةِ، وَأَكْثَرُهَا شَهْرٌ

(4)

).

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 28). حيث قال: " (وتصح بعده) أي الدفن للاتباع لخبر الصحيحين بشرط أن لا يتقدم على القبر كما سيأتي في زيادة المصنف، ويسقط الفرض بالصلاة على القبر على الصحيح، وإلى متى يصلى عليه؟ فيه أوجه. أحدها أبدًا، فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة فمن بعدهم إلى اليوم. قال في المجموع: وقد اتفق الأصحاب على تضعيف هذا الوجه. ثانيها إلى ثلاثة أيام دون ما بعدها، وبه قال أبو حنيفة. ثالثها: إلى شهر وبه قال أحمد. رابعها ما بقي منه شيء في القبر فإن انمحقت أجزاؤه لم يصل عليه، وإن شك في الانمحاق فالأصل البقاء. خامسها: يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه يوم موته وصححه في الشرح الصغير فيدخل المميز على هذا دون غير المميز (والأصح تخصيص الصحة) أي صحة الصلاة على القبر (بمن كان من أهل فرضها وقت الموت) دون غيره؛ لأنه يؤدي فرضًا خوطب به".

(2)

يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (1/ 890). حيث قال: " (ولمن فاتته) صلاة الجنازة لعذر أو غيره الصلاة استحبابًا (ولو جماعة قبل دفن) الميت (وبعده، فيصلي عليه)؛ أي: الميت (بقبره) -أي: على قبره- جاعلًا له (بين يديه) كالإمام، لحديث أبي هريرة "أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شابًا. . . . " وعن ابن عباس قال:"انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه، وصفوا خلفه وكبر أربعًا" متفق عليهما. قال أحمد: ومن يشك في الصلاة على القبر؟ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان. (إلى شهر من دفنه، لا) من (موته) ".

(3)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 34). حيث قال: "وقال الشافعي وأصحابه من فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إن شاء وهو رأي عبد اللَّه بن وهب صاحب مالك وبه يقول محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي وسائر أصحاب الحديث".

(4)

تقدم قريبًا تفصيل ذلك، وليس كما قال، فالمعتمد عند الشافعية أكثر من شهر، ويُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 486). حيث قال: " (والأصح تخصيص الصحة)، =

ص: 3031

لأنه قد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قَدِمَ من سفرٍ، فصلَّى على رجل بعد شهر

(1)

، لكنهم اختلفوا، فبعضهم يقول: إلى أكثر من ذلك؛ لأن كَوْن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى على هذه الجنازة بعد شهرٍ، ليس معنى هذا أن ما زاد على ذلك لا تجوز الصلاة عليه، وإنما بعضهم قال: يُصَلَّى على الميت إلى الأبد. ويستدلون بقصة شهداء أُحُد؛ فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج بعد مُضي ثمانِ سنوات من دفنهم، فصلَّى عليهم

(2)

، وبَعْضهم يُعلِّل ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى عليهم في آخر حياته؛ توديعًا للأحياء والأموات.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ العَمَلِ لِلْأَثَرِ، أَمَّا مُخَالَفَةُ العَمَلِ، فَإِنَّ ابْنَ القَاسِمِ قَالَ. . .).

دَائمًا إذا ذَكَر المؤلِّفُ هنا العملَ ومعارضتَه للأثر، فيقصد به عمل أهل المدينة، وَمَعْروفٌ أن المالكيَّة يأخذون بعَمل أهل المدينة، وَلَكن غيرهم لا يُعَارضون به الأدلة، والأدلَّة قد ثَبتَتْ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه صلَّى على جنائزَ في القبر.

قَالَ: (قُلْتُ لِمَالِكٍ: فَالحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ، قَالَ: قَدْ جَاءَ هَذَا الحَدِيثُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ العَمَلُ

(3)

، وَالصَّلَاةُ عَلَى القَبْرِ ثَابِتَةٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيثِ).

وَيَكْفينا أن يَتَّفقَ أَصْحَابُ الحَديث على مثل ذلك؛ لأنه قَدْ ثبت عن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم من طرقٍ صحيحةٍ أنه صلى على القَبْر، وما دام قد ثبت ذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو القدوة، وهو الذي عن طريقه نأخذ الأحكام،

= أي: صحة الصلاة على الغائب والقبر (بمن كان من أهل) أداء (فرضها وقت الموت) دون غيره؛ لأن غيره متنفل وهذه لا يتنفل بها".

(1)

أخرجه الترمذي (1038)، عن سعيد بن المسيب:"أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر"، وضعفه الألباني في "الإرواء"(737).

(2)

أخرجه البخاري (4042)، ومسلم (2296).

(3)

انظر: "المدونة" لمالك (1/ 257).

ص: 3032

وهو الذي عن طريقه نتلقى الشرع عليه الصلاة والسلام، والأَصْلُ أن ما يأتي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أحكامٍ أنها له ولأُمَّته ما لم يَرِدْ ما يخصه بذلك، ولم يَرِدْ دليلٌ يدلُّ على خصوصية ذلك برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيَبْقى الحكم عامًّا يدخل فيه رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحوه.

إذًا، مَنْ فَاتَته الصَّلاة على القبر، فلَه أن يصلي عليه كما فعلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: رَوَيْتُ الصَّلَاةَ عَلَى القَبْرِ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مِنْ طُرُقٍ سِتَّةٍ كُلُّهَا حِسَانٌ

(1)

).

وهَذَا الَّذي ذكَره الإمام أحمد، وهو كما قال رحمه الله، يَعْني: جَاء عن عدَّه طرق أكثر من الستة -كما سينبِّه المؤلف- ونبه غيره إلى أنه جاء عن تسع طرق عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر.

* قوله: (وَزَادَ بَعْضُ المُحَدِّثِينَ ثَلَاثَةَ طُرُقٍ، فَذَلِكَ تِسْعٌ

(2)

،

(1)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 382). حيث قال: "قال أحمد رحمه الله: ومن شك في الصلاة على القبر يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان ولأنه من أهل الصلاة، فيسن له الصلاة على القبر، كالولي، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلى عليه؛ لأنه لا يصلى على القبر بعد شهر".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 34). حيث قال: "وقال أحمد بن حنبل رويت الصلاة على القبر عن النبي عليه السلام من ستة وجوه حسان كلها قال أبو عمر: قد ذكرتها كلها بالأسانيد الجياد في التمهيد وذكرت أيضًا ثلاثة أوجه حسان مسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فتمت تسعة".

والأوجه التسعة هي أحاديث: ابن عباس وأبي هريرة وعامر بن ربيعة وسهل بن حنيف ويزيد بن ثابت وأنس بن مالك وحصين بن وحوح وأبي أمامة بن ثعلبة وسعد بن عبادة.

* فحديث ابن عباس أخرجه البخاري (1340)، ومسلم (954).

* وحديث عامر بن ربيعة أخرجه ابن ماجه (1529).

* وحديث يزيد بن ثابت أخرجه النسائي (2022)، وابن ماجه (1528).

* وحديث أنس أخرجه مسلم (955)، وابن ماجه (1531).

ص: 3033

وَأَمَّا البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فَرَوَيَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ

(1)

، وَأَمَّا مَالِكٌ، فَخَرَّجَهُ مُرْسَلًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ

(2)

، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِيمَا أَحْسَبُ - أَعْنِي: مِنْ رَدِّ أَخْبَارِ الآحَادِ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا البَلْوَى إِذَا لَمْ تَنْتَشِرْ، وَلَا انْتَشَرَ العَمَلُ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ عَدَمَ الِانْتِشَارِ إِذَا كَانَ خَبَرًا شَأْنُهُ الِانْتِشَارُ قَرِينَةٌ تُوهِنُ الخَبَرَ، وَتُخْرِجُهُ عَنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ إِلَى الشَّكِّ فِيهِ أَوْ إِلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَذِبِهِ أَوْ نَسْخِهِ)

(3)

.

= * وحديث حصين بن وحوح أخرجه أبو داود (3159).

* وحديث أبي أمامة بن ثعلبة أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 272)(792).

* وحديث سعد بن عبادة أخرجه الترمذي (1038).

(1)

أخرجه البخاري (1337)، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن أسود رجلًا -أو امرأة- كان يكون في المسجد يقم المسجد، فمات ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته، فذكره ذات يوم فقال: "ما فعل ذلك الإنسان؟ " قالوا: مات يا رسول اللَّه، قال: "أفلا آذنتموني؟ " فقالوا: إنه كان كذا وكذا -قصته- قال: فحقروا شأنه، قال: "فدلوني على قبره" فأتى قبره فصلى عليه"، ومسلم (956).

(2)

يُنظر: "موطأ مالك"(1/ 227).

وأخرجه أيضًا النسائي (2022)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير"(7789 - 2891).

(3)

يُنظر: "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" لعلاء الدين البخاري (2/ 370). حيث قال: "وهو كل خبر يرويه الواحد، أو الاثنان فصاعدًا، لا عبرة للعدد فيه بعد أن يكون دون المشهور والمتواتر، وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينًا عندنا".

وقال أيضًا (3/ 16 - 17): " (وأما القسم الثالث) فكذا خبر الواحد إذا ورد موجبًا للعمل فيما يعم به البلوى أي فيما يمس الحاجة إليه في عموم الأحوال لا يقبل عند الشيخ أبي الحسن الكرخي من أصحابنا المتقدمين، وهو مختار المتأخرين منهم. . . . واحتج من لم يقبله بأن العادة تقتضي استفاضة نقل ما يعم به البلوى وذلك؛ لأن ما يعم به البلوى كمس الذكر لو كان مما ينتقض به الطهارة لأشاعه النبي عليه السلام ولم يقتصر على مخاطبة الآحاد بل يلقيه إلى عدد يحصل به التواتر أو الشهرة مبالغة في إشاعته لئلا يفضي إلى بطلان صلاة كثير من الأمة من غير شعور به، ولهذا تواتر =

ص: 3034

ويريد المؤلف أن يُبَيِّن منحًا أخذ به الحنفية، وهو: هل يُخْبر بخَبَر الآحَاد؟ الواقع أن الحنفية لم يلتزموا بهذا، فكم من الأحاديث أخذوا بها؛ لأنها توافق رأيًا في المذهب، وهي أيضًا أخبار الآحاد، وَخَبر الآحَاد إذا صح، لا ينبغي أن يُرَدَّ، بل ينبغي ويجب العمل به.

* قوله: (قَالَ القَاضِي:).

والقاضي هنا هو ابن رشد، وكلما ورد "القاضي" دون قيد في الكتاب، فالمراد به المؤلف: ابن رشد الحفيد.

* قوله: (وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالعَمَلِ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الحَنَفِيَّةُ عُمُومَ البَلْوَى

(1)

، وَقُلْنَا: إِنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ).

أَيْ: تَكرَّر كلَام المؤلف كثيرًا عن أهل المدينة، وهذه مسألةٌ أصوليةٌ معروفةٌ يتكلم عنها العلماء، وعمل أهل المدينة يختلفون فيه: هل هو حُجَّة أو لا

(2)

، فهذه أمور خفَّفت فيها الشريعة الإسلامية، وهي تدخل ضمن

= نقل القرآن، واشتهر أخبار البيع، والنكاح، والطلاق، وغيرها، ولما لم يشتهر علمنا أنه سهو أو منسوخ. ألا ترى أن المتأخرين لما قبلوه اشتهر فيهم فلو كان ثابتًا في المتقدمين لاشتهر أيضًا ولما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته".

(1)

يُنظر: "البحر المحيط" للزركشي (6/ 258). حيث قال: "قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه: ومعنى قولنا: تعم به البلوى: أن كل أحد يحتاج إلى معرفته". وانظر: "كشف الأسرار" لعلاء الدين البخاري (3/ 16).

(2)

يُنظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (1/ 243). حيث قال: "اتفق الأكثرون على أن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافًا لمالك، فإنه قال: يكون حجة، ومن أصحابه من قال إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم، ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى، ولا تمتنع مخالفته. ومنهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. والمختار مذهب الأكثرين، وذلك أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة والخارج عن أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين، فلا يكون إجماعهم حجة".

ص: 3035

قاعدة: "المشقَّة تجلب التيسير"

(1)

.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

[الفَصْلُ الثَّانِي فِيمَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَمَنْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ]

وهَذِهِ من القضايا المهمة، وسيتكلَّم المؤلف عن الذين يُصلَّى عليهم، والقصد بالذين يصلى عليهم هم مَنْ يدخلون تحت الإسلام، لكن يوجد من المسلمين مَنْ يرتكب المعاصي، وهؤلاء يختلفون باختلاف المعاصي التي يرتكبونها، ثم يوجد معاصٍ يختلف العلماء فيها؛ لأنها قد تُخْرج الإنسان من الإيمان إلى الكفر، ومن المعاصي ما قد يرتكبه الإنسان من الكبائر، فهذه كلها ينبغي أن ننتبه لها.

وَمن المعاصي التي قد تحصل من المسلم: الغلُّ

(2)

من الغنيمة، أي: السرقة منها، فهل مثل هؤلاء يُصلَّى عليهم؟

مَنْ علَيه دينٌ أيضًا، هل يصلى عليه؟ نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَوقَّف عن الصلاة عن الغالِّ

(3)

، ولم يصل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على مَنْ عليه

(1)

يُنظر: "التحبير شرح التحرير في أصول الفقه" للمرداوي (8/ 3847). حيث قال: "من القواعد أن المشقة تجلب التيسير. ودليله: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. إشارة إلى ما خفف عن هذه الأمة من التشديد على غيرهم، من الإصر ونحوه، وما لهم من تخفيفات أخر دفعًا للمشقة".

ويُنظر: "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 77) حيث قال: قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته.

(2)

الغلول: الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة. ويُنظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 380).

(3)

أخرجه أبو داود (2710)، عن زيد بن خالد الجهني: "أن رجلًا من أصحاب =

ص: 3036

دينٌ

(1)

، ولم يصلِّ على مَنْ قتل نفسًا

(2)

، وقال عليه الصلاة والسلام بالنسبة للغال:"صلوا على صاحبكم"

(3)

، وكذلك الذي كان عليه دَين لم يُصلِّ عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى قام أبو قتادة، فقال: عليَّ قضاء دَينه، فصلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

.

وَالعُلَماءُ بالنسبة للدَّين، فإنهم يُفصِّلون القولَ في ذلك، فإنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن يصلِّي على مَنْ عليه دَين إذا ماتَ، وليس عنده ما يفي بدَينه، أمَّا لو كان عليه دَين وعنده تركة يمكن تأدية الدَّين منها، فإن هذا لا يعتبر مدينًا؛ لأنه سيوفَّى الحقُّ مما تركه من تركةٍ، لكن القصد مَنْ يموت وعليه دَين ليس له مال ولا تركة يمكن أن يوفَّى دينه منها، لكن بعد أن فتحت الفُتُوح، فَتحَ اللَّهُ على المؤمنين، وتَوسَّعت البلاد، وبدأت الخيرات والجبايات تأتي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من كل مكانٍ، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أَنَا أَوْلَى بالمُؤْمنينَ من أنفسهم، فمَنْ مات وعليه دَين، فأنا أَوْلَى به، وما تركه من تركة فهي لوَرَثتِهِ"

(5)

.

= النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"صلوا على صاحبكم". فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال:"إن صاحبكم غل في سبيل اللَّه". ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز يهود لا يساوي درهمين"، وضعفه الألباني في "الإرواء" (726).

(1)

أخرجه البخاري (2289)، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال:"كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال: "هل عليه دين؟ "، قالوا: لا، قال: "فهل ترك شيئًا؟ "، قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول اللَّه، صل عليها، قال: "هل عليه دين؟ " قيل: نعم، قال: "فهل ترك شيئا؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قال: "هل ترك شيئًا؟ "، قالوا: لا، قال: "فهل عليه دين؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صلوا على صاحبكم"، قال أبو قتادة صل عليه يا رسول اللَّه وعلي دينه، فصلى عليه".

(2)

أخرجه مسلم (978)، عن جابر بن سمرة، قال:"أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه".

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

أخرجه مسلم (1619)، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان يؤتى بالرجل الميت =

ص: 3037

إذًا، هناك أصنافٌ من الناس توقَّف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم، ونجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالنسبة لماعزٍ الذي جاء واعترف بالزنا، وأُقِيمَ عليه الحد، ورجم في ذلك، اختلفت الرواية: فبعض الرِّوايات جاء فيها أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُصلِّ عليه

(1)

، وفي بَعْضها أنه صلَّى عليه

(2)

، ولكن ثبت في حديث قصَّة الغامدية

(3)

، وكذلك أيضًا

= عليه الدين، فيسأل:"هل ترك لدينه من قضاء؟ " فإن حدث أنه ترك وفاء، صلى عليه، وإلا قال:"صلوا على صاحبكم"، فلما فتح اللَّه عليه الفتوح، قال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فهو لورثته".

(1)

أخرجه أبو داود (4430)، عن جابر بن عبد اللَّه، أن رجلًا من أسلم جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاعترف بالزنا، فأعرض عنه، ثم اعترف، فأعرض عنه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أبك جنون؟ " قال: لا، قال:"أحصنت؟ " قال: نعم، قال: فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم في المصلى، فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا، ولم يصل عليه"، وصححه الألباني في "الإرواء" (2322).

(2)

أخرجها البخاري (6820)، عن جابر: أن رجلًا من أسلم، جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى شهد على نفسه أربع مرات، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أبك جنون" قال: لا، قال:"آحصنت" قال: نعم، فأمر به فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا، وصلى عليه لم يقل يونس، وابن جريج، عن الزهري:"فصلى عليه". سئل أبو عبد اللَّه: فصلى عليه، يصح؟ قال: رواه معمر، قيل له: رواه غير معمر؟ قال: لا".

ويُنظر: "الإرواء" للألباني (2322). حيث قال: "وقال البخاري: "وصلى عليه". وهي رواية شاذة تفرد بها محمود بن غيلان عن عبد الرزاق دون سائر الرواة عنه".

(3)

أخرجه مسلم (1695)، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه:". . . قال، فجاءت الغامدية، فقالت: يا رسول اللَّه، إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول اللَّه، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فواللَّه إني لحبلى، قال: "إما لا فاذهبي حتى تلدي"، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: "اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه"، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت ت هذا يا نبي اللَّه قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد =

ص: 3038

الجُهَنية

(1)

، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى على الغامدية، ولمَّا قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول اللَّه، تقيم عليها الحد وتصلي عليها؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لقد تابت توبةً لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم"

(2)

. وفي قصة الجهنية أنها تابت توبةً لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وبيَّن أنها جادت بنفسها للَّه تعالى، فهَلْ هناك أفضل من أن يُقدِّم الإنسان نفسه للَّه سبحانه وتعالى.

هَذَا كلُّه -إن شاء اللَّه- سنأخذه واحدًا واحدًا، ونتكلم عنه.

* قوله: (وَأَجْمَعَ أَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى إِجَازَةِ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

(3)

، وَفِي ذَلِكَ أَثَر أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:"صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"

(4)

).

هَذَا الحَديثُ يكثر ذكرُهُ في كتب التوحيد، وفي الحديث، وفي الفقه أيضًا، وهَذِهِ المسائل التي نتناولها، والَّتي بدأنا بها هي مسائل فقهية، لكنها حقيقةً مسائل عقدية؛ لأن الكلام هنا في إيقاف الصلاة على مثل

= فسبها، فسمع نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال:"مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له"، ثم أمر بها فصلى عليها، ودفنت".

(1)

أخرجه مسلم (1696)، عن عمران بن حصين، أن امرأة من جهينة أتت نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي اللَّه، أصبت حدًّا، فأقمه علي، فدعا نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم وليها، فقال:"أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها"، ففعل، فأمر بها نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم، فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي اللَّه وقد زنت؟ فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها للَّه تعالى؟ ".

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 182). حيث قال "وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلوا على كل من قال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه"، وفي السند ضعف، إلا أن الإجماع يشهد له ويصححه".

(4)

أخرجه الدارقطني (2/ 401)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(728).

ص: 3039

هؤلاء لأمرٍ يخدش في عقيدة هؤلاء، إذن "صلُّوا خلفَ مَنْ قال: لا إله إلا اللَّه"، و"عَلَى مَنْ قال: لا إله إلا اللَّه". هَذَا الحديث ورَد من عدة طرق

(1)

، وكلها لا تخلو من مقالٍ

(2)

، لكن لو صحَّ هذا الحديث، لكان رافعًا للنزاع في هذه المسألة:"صلُّوا على مَنْ قال: لا إله إلا اللَّه"، فلَمَّا لم يصحَّ هذا الحديث، كثر الخلاف بين العلماء: هل يصلَّى على أهل الكبائر أو لا يصلى عليهم؟

* قوله: (وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ أَمْ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ).

وبداية الحديث: "صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قال: لا إله إلا اللَّه"

(3)

، وفي هذا دليلٌ على أنه يُصلَّى خلف الفاسق، وهذا هو الذي أخذ به الشافعية

(4)

، وقد رجحنا هذا في كتاب الصلاة، لكن الفسق يختلف أيضًا، فليس الفساق على درجة واحدة؛ لأن الفسق قد يكون فسقًا عقديًّا، فحالته تختلف، ولذلك نجد أن الصلاة خلف الفساق تختلف، قد يقتضي المقام أن تصلي خلف الفاسق حتى لا يحصل خلافٌ وتفتيتٌ لكلمة المسلمين، وإن كان الأَوْلَى أن تختار الصلاة خلف إمام غير فاسق

(5)

.

وَأَهْلُ الكَبائر هم أصحاب الكبائر المعروفة، واختلفَ العُلَمَاءُ في

(1)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(10/ 320)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12/ 447)، وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 420).

(2)

يُنظر: "سنن الدارقطني"(2/ 403). حيث قال: "وليس فيها شيء يثبت".

(3)

أخرجه الدارقطني (2/ 403)، عن علي، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أصل الدين الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد مع كل أمير ولك أجرك، والصلاة على كل من مات من أهل القبلة".

(4)

يُنظر: "نهاية المحتاج" للرملي (2/ 179 - 180). حيث قال: " (والعدل. . أولى) بالإمامة (من الفاسق)،. . وإنما صحت لخبر الشيخين أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج، قال الإمام الشافعي: وكفى به فاسقًا. وتكره خلفه وخلف مبتدع لا يكفر ببدعته".

(5)

تقدم الكلام على هذه المسألة، عند قول المؤلف:"فِي مَعْرِفَةِ شُرُوطِ الإِمَامَةِ. المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي إِمَامَةِ الفَاسِقِ".

ص: 3040

تعريف الكبيرة

(1)

، فهل هي الَّتي تُخْتم بالوعيد بالنار، أو الَّتي يتوعد عليها بعقوبة أو التي يترتب عليها حدٌّ؟ فيها كلامٌ كثير للعلماء

(2)

، لكن القصد: من ارتكب كبيرةً من الكبائر كالسارق، والزاني، والبغاة، وأمثال هؤلاء؛ لأنَّ من العلماء مَنْ لا يرى الصلاة على قُطَّاع الطريق، ولا على البغاة

(3)

، ومن العلماء مَنْ يرى الصلاة على كل مسلمٍ؛ برًّا كان أو فاجرًا

(4)

، ومن

(1)

يُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 184). حيث قال: "ومن أحسن التعاريف قول القرطبي في المفهم "كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عليه الحد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة".

(2)

ومن ذلك: ما جاء عن ابن مسعود أنه قال: الكبائر: ما بين فاتحة سورة النساء إلى ثلاثين آية منها: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} "، وعن علي أنه قال الكبائر سبع، وعن ابن عباس قال: "كل ما نهى اللَّه عنه فهو كبيرة"، وعنه أنه قال: هي إلى السبعين أقرب. وورد عنه أيضًا أنه قال: "كل شيء عصي اللَّه فيه فهو كبيرة. وقال آخرون: هي ثلاث"، وقال أيضًا: "الكبائر: كل ذنب ختمه اللَّه بنار أو غضب، أو لعنة، أو عذاب" "وقال: سعيد بن جبير: "كل موجبة في القرآن كبيرة". وقال الضحاك: الكبائر: كل موجبة أوجب اللَّه لأهلها النار، وكل عمل يقام به الحد فهو من الكبائر. انظر:"تفسير الطبري"(6/ 640 - 653).

(3)

وهم الحنفية، ويُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 311). حيث قال: "وأما بيان من يصلى عليه فكل مسلم مات بعد الولادة يصلى عليه صغيرًا كان، أو كبيرًا، ذكرًا كان، أو أنثى، حرًّا كان، أو عبدًا إلا البغاة وقطاع الطريق".

(4)

وهم الشافعبة والحنابلة، يُنظر:"مغني المحتاج"(2/ 52). حيث قال: " (وقاتل نفسه) حكمه (كغيره في) وجوب (الغسل) له (والصلاة) عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة واجبة على كل مسلم برًا كان أو فاجرًا وإن عمل الكبائر" رواه البيهقي، وقال: هو أصح ما في الباب إلا أن فيه إرسالًا والمرسل حجة إذا اعتضد بأحد أمور: منها قول أكثر أهل العلم وهو موجود هنا".

ويُنظر: "شرح النووي على صحيح مسلم"(7/ 47 - 48) حيث قال: "قال القاضي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كلل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنى وعن مالك وغيره أن الإمام يجتنب الصلاة على مقتول في حد وأن أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجرًا لهم وعن الزهري لا يصلى على مرجوم ويصلى على المقتول في قصاص وقال أبو حنيفة: لا يصلى على محارب ولا على قتيل الفئة الباغية وقال قتادة: لا يصلى على ولد الزنى وعن الحسن لا يصلى على النفساء تموت من زنا ولا على ولدها". =

ص: 3041

العلماء من يفصل القول في ذلك

(1)

.

* قوله: (إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ لِأَهْلِ الفَضْلِ الصَّلَاةَ عَلَى أَهْلِ البِدَعِ، وَلَمْ يَرَ أَنْ يُصَلِّيَ الإِمَامُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ حَدًّا

(2)

).

فالإمام لا يصلي عنده، لكنه لا يمنع أن يصلي الناس، كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للغالِّ، فإنه بالنسبة للرجل الذي من جُهَينة، وكان في خَيْبر، فَقَال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا على صَاحبكم"، فرأى تغيرًا في وجوه القوم، فلمَّا رأى ذلك في وجوههم، قال:"إنه غل من الغنيمة"

(3)

، {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، أي: أنه اختلس

= ويُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 109). حيث قال: "وهي فرض كفاية على غير شهيد معركة ومقتول ظلمًا لأمر الشارع بها في غير حديث كقوله: صلى الله عليه وسلم "صلوا على أطفالكم فإنهم أفراطكم" وقوله صلى الله عليه وسلم في الغال: "صلوا على صاحبكم" وقوله: "إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا صلوا عليه" وقوله: "صلوا على من قال: لا إله إلا اللَّه" والأمر للوجوب وإنما تجب على من علم بالميت من المسلمين لأن من لم يعلم به معذور".

(1)

وهم المالكية، ويُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 569). حيث قال: " (و) كره (صلاة فاضل على بدعي) لم يكفر ببدعته، (أو) على (مظهر كبيرة) كشرب خمر، أي: يفعلها عند بعض الناس من غير مبالاة، (أو) على (مقتول بحد) كقاتل أو زان محصن رجم".

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 424). حيث قال: " (و) كره (صلاة فاضل) بعلم أو عمل أو إمامة (على بدعي) ردعا لمن هو مثله (أو مظهر كبيرة) كزنا وشرب خمر إن لم يخف عليهم الضيعة (و) كره صلاة (الإمام) وأهل الفضل (على من حده القتل) إما (بحد) كمحارب وتارك صلاة وزان محصن (أو قود) كقاتل مكافئ زجرًا لأمثالهم (ولو تولاه)؛ أي: القتل (الناس دونه)؛ أي: دون الإمام".

(3)

أخرجه أبو داود (2710)، عن زيد بن خالد الجهني:"أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "صلوا على صاحبكم". فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: "إن صاحبكم غل في سبيل اللَّه". ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز يهود لا يساوي درهمين"، وضعفه الألباني في "الإرواء"(726).

ص: 3042

شيئًا من الغنيمة، وَهَذه كَبيرةٌ من الكبائر، فلا يجوز أن يؤخذ من الغنيمة؛ لأن الغنيمة حق للمؤمنين.

ويَخْتلف العلَماء أيضًا في إقامة الحدِّ بالنسبة لهذه المسألة، والحال تختلف: فرقٌ بين أن يأخذ من الغنيمة قبل تقسيمها

(1)

؛ فهذا ملكٌ عامٌّ، وبين أن يأخذ منها بعد أن يصل كلُّ سهمٍ ونصابٍ إلى صاحبه؛ فالحالة هنا أشد وأكبر

(2)

.

إذًا، الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم توقَّف عن الصلاة على الغالِّ، ولم يصلِّ على الذي قتل نفسه؛ ولذلك لما جاؤوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برجلٍ قتل نفسه بمشاقصَ

(3)

، يعني: بنصل، لم يُصلِّ عليه رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه عمدًا؛ لأن هذا جَزعٌ من مُصِيبَةٍ نَزَلتْ به، أو حادثة حلَّت به، أو ضاقت به الدنيا، فهو لم يتحمل، ولم يصبر، ولم يتمثل قول اللَّه سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ

(1)

وهذا غلول، ويحرق متاع الغال عند الحنابلة.

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 92). حيث قال: " (والغال من الغنيمة، وهو من كتم ما غنمه، أو) كتم (بعضه: يجب حرق رحله كله) لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر حرقوا متاع الغال" رواه أبو داود. . . (ما لم يكن باعه أو وهبه)، فلا يحرق؛ لأنه عقوبة لغير الجاني (إذا كان) الغال (حيًّا). . (حرًا). . (مكلفًا)؛ لأن الإحراق عقوبة، وغير المكلف ليس من أهلها".

(2)

وهذه سرقة، يُنظر:"الإقناع" لابن القطان (2/ 263). حيث قال: "واتفق أئمة الفتوى بالأمصار على مراعاة الحرز فيما سرقه السارق. . . . والقطع واجب بإجماع على من سرق من حرز وهو حق للَّه عز وجل".

(3)

المشقص: نصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض، فإذا كان عريضًا فهو المعبلة. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 495).

(4)

أخرجه مسلم (978)، عن جابر بن سمرة، قال:"أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه".

ص: 3043

عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 153 - 157].

{هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ؛ لأنَّهُم استكَانوا لحكم اللَّه، وَصَبَروا على قضائه وقدره؛ وحمدوا اللَّه سبحانه وتعالى على كل أمرٍ من أمورهم؛ لأن ما يأتيك في هذه الدنيا إنما هو من اللَّه سبحانه وتعالى، وما يؤخذ منك، فهو ما للَّه سبحانه وتعالى، فإن للَّه سبحانه وتعالى ما أعطى، وله ما أخذ، فلا ينبغي لمُؤْمنٍ في هذه الحياة إذا نَزَلتْ به نَازلةٌ، أو حَلَّت به مصيبةٌ من فَقْدِ وَلَدٍ أن يقتل نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما تُوفِّي ابنه إبراهيم قال:"تَدْمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلَّا ما يُرْضي الرَّبَّ، وإنا بك يا إبراهيم لمَحْزونون"

(1)

.

وخَيْر درسٍ في ذلك وعبرة: ما وقَع لأمِّ سلمة عندما تُوفِّي زوجها أبو سلمة، فإنها قالت: ومن بعد أبي سلمة؟ فلما دَخَل عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى حَدِيثٍ هي روته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"ما من عَبْدٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول: إنا للَّه، وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلفا لي خيرًا منها، إلا آجره اللَّه في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها"، فَكَانت النتيجة أن امتثلت أُمُّ سلمة زوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ووقفت عندها، وعملت بها، فكانت النتيجة أن استبدلها اللَّه سبحانه وتعالى بخَيْرٍ من أبي سلمة: هو مُحمَّد بن عبد اللَّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي أصبح زوجًا لها

(2)

.

هَكَذا هو شأن المؤمنين، ولذلك نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى قارن الصَّبر

(1)

أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).

(2)

أخرجه مسلم (918)، عن أم سلمة، أنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره اللَّه: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف اللَّه له خيرًا منها"، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف اللَّه لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالت: أرسل إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيور، فقال:"أما ابنتها فندعو اللَّه أن يغنيها عنها، وأدعو اللَّه أن يذهب بالغيرة".

ص: 3044

بالصلاة، فقال سبحانه وتعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} [البقرة: 45 - 46]، هَذَا هو شأن كلِّ مؤمن، إذا نَزَل به أمرٌ من الأمور، أمرٌ يُكدِّر خاطره، أو يؤثر على نفسه، فهو يتألم، ولا يستطيع أن يكظم الألم، ولا مانع أن يبكي، لكن لا يتجاوز الحد فيصرخ، ويلطم نفسه، ويشق ثيابه، ويعمل بعمل أهل الجاهلية التي حَذَّرنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم منها بقوله:"ليسَ منَّا مَنْ ضرب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودَعا بدعوى الجاهلية"

(1)

.

* قَالَ: (وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ).

فَمِنَ العُلَماء مَنْ قال: يُصلَّى على كلِّ مَنْ قال: لا إله إلا اللَّه، ويأخُذُون بحديث:"صلُّوا على مَنْ قال: لا إلَه إلَّا اللَّه"

(2)

، وقَدْ أشرنا إلى أنَّ في هذا الحديث ضعفًا، وأن العلماء قد تكلَّموا عنه، ومن العلماء مَنْ فصل القول في ذلك، فقال: يصلَّى على كل مرتكبِ صغيرةٍ، وكذلك فإنهم اتفقوا من حيث الجملة على الصلاة على أهل الكبائر، ما عدا أبا حنيفة، فقد استثنى من أولئك البغاة، وكذلك المحاربين، ورأى الإمام مالك أنه لا يُصلَّى على من قُتِلَ حدًّا؛ أي: لا يُصلِّي عليه الإمام، واستدلَّ على ذلك بقصة ماعزٍ، وأَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ عليه، ولم يَنْه عن الصَّلاة عليه

(3)

.

لَكن الَّذي وقَع فيه اختلافٌ بين العلماء هُمْ أهلُ البدع، وأهلُ البدع المقصود بهم هنا هم الذي ابتدعوا في عقيدة التوحيد، فهؤلاء هم الذين تركوا عقولهم تسبح أيضًا في بعض الأمور حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من نَفْي أفعال العباد، وكذلك أولئك الذين نفوا القدر، وأمثال هؤلاء، فإن هؤلاء مِنَ العلماء مَنْ توقَّف في الصلاة عليهم، ومن العلماء مَنْ رأى أنه

(1)

أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (103).

(2)

أخرجه الدارقطني في السنن (2/ 401)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(728).

(3)

تقدم كل ذلك مفصلًا.

ص: 3045

يُصلَّى على كل صاحب كبيرةٍ ومبتدعٍ ما دام ينطق بالشهادتين

(1)

.

* قوله: (فَرَأَى قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ

(2)

، وَأَجَازَ آخَرُونَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ

(3)

، وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يُجِزِ الصَّلَاةَ عَلَى أَهْلِ الكَبَائِرِ، وَلَا عَلَى

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 53). حيث قال: "عن ابن سيرين قال: ما أعلم أحدًا من الصحابة والتابعين ترك الصلاة على أحد من أهل القبلة آثمًا، وقال ابن عبد الحكم عن مالك: لا تترك الصلاة على أحد مات ممن يصلي إلى القبلة، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء: يصلى على كل من شهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكره مالك من بين سائر العلماء أن يصلي أهل العلم والفضل على أهل البدع".

ويُنظر "المغني" لابن قدامة (2/ 416). حيث قال: "قال أحمد: لا أشهد الجهمية ولا الرافضة، ويشهده من شاء، قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على أقل من هذا؛ الدين، والغلول، وقاتل نفسه. وقال: لا يصلى على الرافضي. وقال أبو بكر بن عياش: لا أصلي على رافضي، ولا حروري. وقال الفريابي: من شتم أبا بكر فهو كافر، لا يصلى عليه. قيل له: فكيف نصنع به، وهو يقول: لا إله إلا اللَّه؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته. وقال أحمد: أهل البدع لا يعادون إن مرضوا، ولا تشهد جنائزهم إن ماتوا، وهذا قول مالك. قال ابن عبد البر: وسائر العلماء يصلون على أهل البدع والخوارج وغيرهم".

(2)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 408). حيث قال: "واختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه فكان الحسن، والنخعي، وقتادة يرون الصلاة عليه، وقال الأوزاعي: لا يصلى عليه، وذكر أن عمر بن عبد العزيز لم يصل عليه".

(3)

وهم الجمهور، لمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار" للحصكفي (2/ 211). حيث قال: " (من قتل نفسه) ولو (عمدا يغسل ويصلى عليه) به يفتى وإن كان أعظم وزرًا من قاتل غيره".

لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير (1/ 424). حيث قال:" (و) كره (صلاة فاضل) بعلم أو عمل أو إمامة (على بدعي) ردعا لمن هو مثله (أو مظهر كبيرة) كزنا وشرب خمر إن لم يخف عليهم الضيعة (و) كره صلاة (الإمام) وأهل الفضل (على من حده القتل) إما (بحد) كمحارب وتارك صلاة وزان محصن (أو قود) كقاتل مكافئ زجرًا لأمثالهم (ولو تولاه) أي القتل (الناس دونه) أي دون الإمام".

لمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 52). حيث قال: " (وقاتل نفسه) حكمه (كغيره في) وجوب (الغسل) له (والصلاة) عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة =

ص: 3046

أَهْلِ البَغْيِ وَالبِدَعِ

(1)

، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّلَاةِ. . .).

أمَّا أهل الكبائر، فأكثر العلماء على صحة الصلاة عليهم، وأبو حنيفة يستثني من أولئك المحاربين الذين يخرجون على المؤمنين، وكذلك البغاة؛ لأنهم تَشبَّهوا بأهل دار الحرب

(2)

، وَالإمَامُ مَالِكٌ استثنى من ذلك مَنْ أُقِيمَ عليه الحَدُّ؛ أي: حد القتل، كالزَّانِي الثيِّب إذا قتل حدًّا

(3)

.

قَالَ: (أَمَّا فِي أَهْلِ البِدَع، فَلِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَكْفِيرِهِمْ بِبِدَعِهِمْ، فَمَنْ كَفَّرَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ البَعِيدِ، لَمْ يُجِزِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ إِذْ كَانَ الكُفْرُ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ تَكْذِيبُ الرَّسُولِ لَا تَأْوِيلُ أَقْوَالِهِ عليه الصلاة والسلام قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ).

والمُؤلِّف هنا يُشير إلى مسألة: هل هناك فرق بين مَنْ يقع في الكفر

= واجبة على كل مسلم برًا كان أو فاجرًا وإن عمل الكبائر" رواه البيهقي، وقال: هو أصح ما في الباب إلا أن فيه إرسالًا والمرسل حجة إذا اعتضد بأحد أمور: منها قول أكثر أهل العلم وهو موجود هنا".

لمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 123). حيث قال: " (ولا يسن للإمام الأعظم. . . الصلاة على غال وهو من كتم غنيمة أو بعضها). . . و (قاتل نفسه عمدًا) لما روى مسلم عن جابر بن سمرة أن "رجلًا قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه". . . . فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال وقاتل نفسه وهو الإمام وأمر غيره بالصلاة عليهما وألحق به من ساواه في ذلك لأن ما ثبت في حقه ثبت في حق غيره، ما لم يقم على اختصاصه به دليل. . . (ولو صلى) الإمام الأعظم أو قاضيه (عليهما) أي: على الغال وقاتل نفسه عمدًا (فلا بأس كبقية الناس) لأن امتناعه من ذلك ردع وزجر، لا لتحريمه (وإن ترك أئمة الدين الذين يقتدى بهم الصلاة على قاتل نفسه، زجرًا لغيره فهذ أحق) ".

ويُنظر: "شرح النووي علي صحيح مسلم"(7/ 47 - 48) حيث قال: "قال القاضي عياض: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنى".

(1)

تقدم قريبًا.

(2)

تقدم قريبًا.

(3)

تقدم قريبًا.

ص: 3047

في بعض المسائل متأولًا كالذين يتأولون بعض الصفات، وأخطر من أولئك الذين ينفون القدرَ، وكذلك أمثال الجبرية والجهمية، وهؤلاء الذين تَكلَّم عنهم العلماء، والذين قالوا بخلق القرآن أيضًا. . . أمثال هؤلاء اختلف العلماء فيهم من حيث التكفير وعدمه، إذًا هؤلاء متأولون، وهم لا شك أخطؤوا الصواب، وتجاوزوا الطريق السوي في هذا الأمر، وبين من يُعْلن الكفر صريحًا؟ من العلماء مَنْ توقَّف في الصَّلاة على هؤلاء المتأولين

(1)

، ومن العلماء مَنْ رأى أنه يُصلَّى عليهم ما داموا ينطقون بالشهادتين

(2)

.

* قوله: (وَإِنَّمَا أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ)

(3)

؛

(1)

تقدم قريبًا.

(2)

يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 35). حيث قال: "وأجمعوا على جواز الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، وإن أذنب أي ذنب كان، ولا يحجب الاستغفار ولا الدعاء عن أحد من المسلمين من أهل الكبائر غير المبتدعين الملحدين".

(3)

والمنافق ظاهر النفاق كافر، ويُنظر:"تفسير ابن كثير"(4/ 192 - 193). حيث قال: "أمر اللَّه تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له؛ لأنهم كفروا باللَّه ورسوله، وماتوا عليه. وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه".

ولمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 193). حيث قال: " (قوله وشرطها إسلام الميت وطهارته) فلا تصح على الكافر للآية {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ".

ومذهب المالكية، يُنظر:"أحكام القرآن" للقرطبي. حيث قال: "السابعة - لما قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} قال علماؤنا: هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 32). حيث قال: " (وتحرم) الصلاة (على الكافر) حربيًا كان أو ذميًّا لقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 118). حيث قال: "مع ما تقدم (إسلام ميت) لأن الصلاة عليه شفاعة والكافر ليس من أهلها ولا يستجاب فيه دعاء قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ".

ص: 3048

لأنَّ هذَا جَاء بنصِّ القرآن

(1)

.

* قوله: (مَعَ تَلَفُّظِهِمْ بِالشَّهَادَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، الآيَةَ [التوبة: 84]).

{إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 84]، {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54]، إلَى آخِرِ الآيات.

* قَالَ: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَهْلِ الكَبَائِرِ، فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِي القَوْلِ بالتَّكْفِيرِ بِالذُّنُوبِ).

وَأَكْثَر العلَماء على أنه يصلَّى عليه

(2)

، وَكَذلك الذين قاتلوا، كَمَنْ قاتلوا عليًّا رضي الله عنه، وأمثال ذلك، والَّذين فرَّقوا كلمة المسلمين، وأوجدوا الخلافَ، وما ترتب على ذلك من أضرارٍ؛ لأن المسلمين أو الدولة الإسلامية بدلًا من أن تقاتل أعداء المسلمين، وأن تفتح البلاد، وتدعو الناس إلى نور القرآن، انشغلوا بأمثال هؤلاء، فأوجدوا أثرًا في جسم الأمة الإسلامية، وكانوا سببًا في وقوع كثيرٍ من النكبات وغيرها، لكن اللَّه سبحانه وتعالى أخمد فتنتهم، ولذلك عادت الدولة الإسلامية بعد ذلك في وقتهم إلى فتح البلاد، ونشر الإسلام في كل مكان.

* قوله: (لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ

(3)

).

وليس كل مَنْ يرتكب معصيةً من المعاصي يكفر مطلقًا، لم يقل أحدٌ

(1)

قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].

(2)

يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 182). حيث قال: "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلوا على كل من قال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه"، وفي السند ضعف، إلا أن الإجماع يشهد له ويصححه".

وتقدم قبل قليل تفصيل ذلك.

(3)

يُنظر: "الإجماع" لابن القطان (1/ 35). حيث قال: "وأجمع المسلمون من أهل السنة أن مؤمني أهل القبلة الذين آمنوا باللَّه وملائكته وكتبه ورسله وبجميع ما أمر اللَّه تعالى ورسوله بالإيمان به، غير خارجين من الإسلام بكبائرهم، ولا مكفرين بها".

ص: 3049

بذلك، لكن الكلام في الذين يرتكبون بدعةً عقديةً، هؤلاء هم الذين تكلم عنهم العلماء، أمَّا الذين يرتكبون كبيرةً من الكبائر كالزنا، فهؤلاء لا يُحْكم بكفرهم، وإنَّما هم عصاةٌ، وهم أيضًا داخلون تحت المشيئة.

* قوله: (فَلِذَلِكَ، لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الفُقَهَاءُ الصَّلَاةَ عَلَى أَهْلِ الكَبَائِرِ، وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ مَالِكٍ الصَّلَاةَ عَلَى أَهْلِ البِدَعِ، فَذَلِكَ لِمَكَانِ الزَّجْرِ وَالعُقُوبَةِ لَهُمْ

(1)

).

ولذَلكَ، يذكر العلماء أنَّ الإِمَامَ لا يصلي على أمثال هؤلاء حتى يكون ذلك رادعًا وزاجرًا لأمثال هؤلاء؛ لأن الإنسان إذا ارتكب الكبائر، وخَاض في المعاصي، ولم يُصَلَّ عليه بعد ذلك، فإن هذا دليلٌ على النقص فيه، فلعل ذلك يكون زاجرًا ورادعًا لمن يفكر في ارتكاب كبيرة من الكبائر.

* قوله: (وَإِنَّمَا لَمْ يَرَ مَالِكٌ صَلَاةَ الإِمَامِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ حَدًّا؛ "لِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَاعِزٍ، وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

).

وَالأَحَاديث بالنسبة لمَاعِزٍ قد تَعدَّدت، ففيها أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وفيها أنه لم يصلِّ عليه

(3)

، وأنه "لم يصلِّ عليه" هذه هي التي

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 424). حيث قال: " (و) كره (صلاة فاضل) بعلم أو عمل أو إمامة (على بدعي) ردعًا لمن هو مثله (أو مظهر كبيرة) كزنا وشرب خمر إن لم يخف عليهم الضيعة (و) كره صلاة (الإمام) وأهل الفضل (على من حده القتل) إما (بحد) كمحارب وتارك صلاة وزان محصن (أو قود) كقاتل مكافئ زجرًا لأمثالهم".

(2)

أخرجه أبو داود (3186)، عن أبي برزة الأسلمي:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز بن مالك، ولم ينه عن الصلاة عليه". وصححه الألباني في "الإرواء"(2322).

(3)

أخرجها البخاري (6820)، عن جابر: أن رجلًا من أسلم، جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى شهد على نفسه أربع مرات، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أبك جنون" قال: لا، قال:"آحصنت" قال: نعم، فأمر به فرجم بالمصلى، فلما =

ص: 3050

تمسك بها المالكية، وفي مقدمتهم الإمام مالك، ورأوا أنها أصح الروايات في ذلك؛ لأن هذه هي التي رواها الأكثرون، ولكن جاء في أحاديث أُخرى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى على الغامدية، وأيضًا بالنسبة لقصة الغامدية جاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ عليها، وإنما أمرهم أن يصلُّوا عليها

(1)

، لكن في قصة الجهنية جاء أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى عليها، ولذلك قال له عمر: تصلي عليها وقد زنت؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقَدْ تَابَت توبةً لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوَسعَتهم"

(2)

.

* قوله: (وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ؛ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ"

(3)

).

وَهَذا الحَديثُ أخرَجه الإمام مسلم وغيره أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيء له برجلٍ قد قَتل نفسه بمشاقص (يعني: بنَصْلٍ)، فلم يصلِّ عليه رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا دليلٌ على أن مَنْ قتل نفسه متعمدًا لا يصلَّى عليه؛ لأنه إنَّما فعل ذلك منافاةً للصَّبر، وهو مطالبٌ بأن يصبر على طاعة اللَّه، وأن يصبر عن مَعَاصيه، وأن يصبر على أقداره؛ ولذلك يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إِنَّ أَمْر المؤمنِ كله خير، إن أصابته

= أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا، وصلى عليه لم يقل يونس، وابن جريج، عن الزهري:"فصلى عليه". سئل أبو عبد اللَّه: "فصلى عليه، يصح؟ قال: رواه معمر، قيل له: رواه غير معمر؟ قال: لا".

(1)

يُنظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 169). حيث قال: "فائدة: قال القاضي عياض: قوله: "فصلى عليها" هو بفتح الصاد واللام عند جمهور رواة مسلم، ولكن في رواية ابن أبي شيبة وأبي داود: "فصلي" بضم الصاد على البناء للمجهول، ويؤيده رواية أبي داود الأخرى: "ثم أمرهم فصلوا عليها". . . والذي في "مسلم" كما ترى: أنه صلى على الجهنية، وأما الغامدية فمحتملة".

(2)

أخرجه مسلم (1696)، وتقدم لفظه.

(3)

أخرجه مسلم (978)، عن جابر بن سمرة، قال:"أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه".

ص: 3051

ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء صبر، فكان خيرًا له"

(1)

، فالمؤمن الحق إذا نزلت به مصيبة، فإنه يَصْبر ويحتسب، وكذلك إذا حلَّت به نعمة من النعم، فإنه يشكر اللَّه سبحانه وتعالى، إذًا المؤمن يشكر اللَّه سبحانه وتعالى في حالتي السَّرَّاء والضَّرَّاء.

وَفِي قصَّة المرأة التي شكَت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنها تُصْرع، وأنها تقع وربما تَكشَّفت، وطلبت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فَخيَّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أن يدعو لها فتشفى، وبين أن تكون لها الجنة، فاختارت أن تبقى على حالها وهي تريد الجنة

(2)

، وهذه بُغْية كل مؤمن، فكل مسلم في هذه الحياة إنما يسعى فيها عَلَّه أن يصل إلى تلك الجنة التي أُعدَّت للمتقين.

* قوله: (فَمَنْ صَحَّحَ هَذَا الأَثَرَ قَالَ: لَا يُصَلَّى عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ

(3)

)؛ لأن هذا الأثر عند الجماعة عدا البخاري، إذًا هو في "صحيح مسلم"، وهذه من المآخذ التي تُؤْخذ على المؤلف في هذا، وهو أنه أحيانًا قد يَهِمُ في بعض الأمور، فيقول في حديث: لو صحَّ،

(1)

أخرجه مسلم (2999).

(2)

أخرجه البخاري (5652)، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع اللَّه لي، قال:"إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه أن يعافيك" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع اللَّه لي أن لا أتكشف، فدعا لها حدثنا محمد، أخبرنا مخلد، عن ابن جريج، أخبرني عطاء:"أنه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء، على ستر الكعبة".

(3)

يُنظر: "شرح النووي علي مسلم"(7/ 47). حيث قال: "قوله: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه). . . وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء يصلى عليه وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجرًا للناس عن مثل فعله وصلت عليه الصحابة".

ص: 3052

وهو في أحد "الصحيحين"، ومعلوم أن ما في "الصحيحين" أو في أحدهما لا يحتاج إلى أن يُصحَّحَ، أو أن يُبْحثَ في سنده.

* قوله: (وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْهُ، رَأَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ المُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، كلمَا وَرَدَ بِهِ الأَثَرُ

(1)

، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِنَ المُخَلَّدِينَ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ).

فإن الذين يدخلون النار ليسوا كلهم على نسق واحد، وليسوا في مرتبة واحدة، فبعضهم يدخل النار ويخرج منها، وأما الكفار فهم الذين يُخلَّدون فيها، ولذلك يقول اللَّه سبحانه وتعالى في الحديث الصحيح:"وعزتي وجلالي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا اللَّه"

(2)

، فمن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان يخرج من النار إن أُدْخلها.

* قوله: (وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: "أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الإِيمَان"

(3)

، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ المَقْتُولِينَ فِي المَعْرَكَةِ).

وهَذِهِ مسألةٌ سبق أن عرض لها المؤلف وعاد إليها مَرَّةً أخرى: الذين يقتلون في المعركة من الشهداء، وَسَبق أن تكلَّمنا عن الشهداء، وبيَّنَّا أنهم أنواع: فمن الشهداء من يقتل في المعركة، ومن الشهداء عدد آخر أشار إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبيَّنه، كالذي يموت في حريق أو في غرق أو

(1)

أخرجه البخاري (1363)، ومسلم (109)، واللفظ له، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدًا".

(2)

أخرجه البخاري (7510).

(3)

أخرجه مسلم (183).

ص: 3053

المطعون أو أمثال هؤلاء ممن ورد النص فيهم

(1)

، فالَّذينَ ماتوا في المعركة في ساحة القتال وهم يُقَاتلون أعداء اللَّه سبحانه وتعالى هل لهم حكمٌ يخصُّهم؟ أكثر العلماء

(2)

قالوا: نعم، من مات في المعركة لا يُغسَّل، ولا يُصَلَّى عليه، وإنما يُدْفن في ثيابه

(3)

، فإن كان عليه شَيءٌ من الحديد ونحوها، فإنها تُنْزع منه، لكنه يُدْفن على حالته ليأتي يوم القيامة لونه لون الدم، وريحه ريح المسك

(4)

، ومن الأمثلَة على ذلك ما وقع لشهداء أُحُدٍ، فإنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ومَعَه المؤمنون دفنوهم، فلم يغسلوهم، ولم يُصلُّوا عليهم، ومنهم مَنْ دُفِنَ، يعني: عدد منهم، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد

(5)

.

ولذلك، يتكلم العلماء عن هذه المسألة فيما إذا قُبِرَ عددٌ، فقالوا: لا مانع من أن يُقْبَرَ عَدَدٌ في قَبْرٍ وَاحِدٍ، والمسألة فيها خلافٌ، لكن يُوضَع

(1)

أخرجه مسلم (1915)، عن أبي هريرة، قال، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما تعدون الشهيد فيكم؟ " قالوا: يا رسول اللَّه، من قتل في سبيل اللَّه فهو شهيد، قال:"إن شهداء أمتي إذًا لقليل"، قالوا: فمن هم يا رسول اللَّه؟ قال: "من قتل في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات فى الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد"، قال ابن مقسم: أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: "والغريق شهيد".

(2)

خلافًا للحنفية، وسيأتي تفصيله.

(3)

معنى حديث أخرجه أبو داود (3134) عن ابن عباس، قال:"أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(710).

(4)

معنى حديث أخرجه النسائي (2002) عن عبد اللَّه بن ثعلبة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقتلى أحد: "زملوهم بدمائهم، فإنه ليس كلم يكلم في اللَّه إلا يأتي يوم القيامة يدمى، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3573).

(5)

أخرجه البخاري (1343)، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: "أيهم اكثر أخذًا للقرآن"، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم".

ص: 3054

حاجز من التراب يفصل بينهم، ويجب أن يقدم الرجال إلى جهة القبلة، ثم يليهم النساء، فإن كانوا رجالًا، فيقدَّم الأفضل فالأفضل، كفِعْلِ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 319). حيث قال: "ولا يدفن الرجلان أو أكثر في قبر واحد هكذا جرت السنة من لدن آدم إلى يومنا هذا، فإن احتاجوا إلى ذلك قدموا أفضلهما وجعلوا بينهما حاجزًا من الصعيد لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر بدفن قتلى أحد وكان يدفن في القبر رجلان، أو ثلاثة، وقال:"قدموا أكثرهم قرآنًا" وإن كان رجل وامرأة قدم الرجل مما يلي القبلة، والمرأة خلفه اعتبارًا بحال الحياة. ولو اجتمع رجل وامرأة، أو صبي وخنثى وصبية دفن الرجل مما يلي القبلة، ثم الصبي خلفه، ثم الخنثى، ثم الأنثى، ثم الصبية؛ لأنهم هكذا يصطفون خلف الإمام حالة الحياة".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 567). حيث قال: (و) جاز (جمع أموات بقبر) واحد (لضرورة)، كضيق مكان أو تعذر حافر ولو ذكورًا وإناثًا أجانب. (و) إذا دفنوا في وقت واحد (ولي القبلة الأفضل) فالأفضل".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 40). حيث قال: " (ولا يدفن اثنان في قبر) أبتداء بل يفرد كل ميت بقبر حالة الاختيار للاتباع، ذكره في المجموع وقال: إنه صحيح، وعبارة الروضة: المستحب في حالة الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر اهـ. فلو جمع اثنان في قبر واتحد الجنس كرجلين وامرأتين كره عند الماوردي، وحرم عند السرخسي، ونقله المصنف عنه في مجموعه مقتصرًا عليه وعقبه بقوله: وعبارة الأكثرين ولا يدفن اثنان في قبر. قال السبكي: لكن الأصح الكراهة أو نفي الاستحباب. أما التحريم فلا دليل عليه اهـ. وسيأتي ما يقوي التحريم، (إلا لضرورة) كأن كثروا وعسر إفراد كل ميت بقبر فيجمع بين الاثنين والثلاثة والأكثر في قبر بحسب الضرورة، وكذا في ثوب، وذلك للاتباع في قتلى أُحد".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 143). حيث قال: " (ويحرم دفن اثنين فأكثر في قبر واحد). . . (إلا لضرورة أو حاجة) ككثرة الموتى وقلة من يدفنهم، وخوف الفساد عليهم،. . . وإذا دفن اثنين فأكثر في قبر واحد فـ (إن شاء سوى بين رؤوسهم، وإن شاء حفر قبرًا طويلًا، وجعل رأس كل واحد) من الموتى (عند رجل الآخر أو) عند (وسطه، كالدرج ولجعل رأس المفضول عند رجلي الفاضل ويسن حجزه بينهما بتراب) ليصير كل واحد، كأنه في قبر منفرد (والتقديم إلى القبلة كالتقديم إلى الإمام في الصلاة فيسن). أن يقدم الأفضل فالأفضل إلى القبلة في القبر".

ص: 3055

إذًا، المَشْهورُ أنَّ الشهيد الذي قُتِلَ في المعركة لا يُغسَّل، ولا يُصلَّى عليه، لَكن جَاءَ في حديثٍ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أُحُدٍ

(1)

، فهل يصلى على الشهداء؟ المسألة فيها خلاف

(2)

.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ

(3)

: لَا يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ المَقْتُولِ فِي المَعْرَكَةِ، وَلَا يُغَسَّلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ، ويُغَسَّلُ).

(1)

أخرجه البخاري (4042)، ومسلم (2296)، واللفظ له، عن عقبة بن عامر، قال:"صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات، فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم" قال عقبة:"فكانت آخر ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر".

(2)

سيأتي مفصلا.

(3)

لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 574 - 576). حيث قال: "وحرمًا): أي الغسل والصلاة. . . (كشهيد معترك) يحرم الغسل والصلاة عليه (لحياته ولو) كان شهيدًا (ببلاد الإسلام أو لم يقاتل) كأن يصيبه السهم وهو نائم، (أو قتله مسلم خطأ) يظنه كافرًا أو قصد كافرًا فأصابه، وكذا إذا رجع عليه سيفه أو سهمه أو تردى من شاهق فمات حال القتال، (أو رفع) عطف على ما في حيز المبالغة أي ولو رفع حيًّا (منفوذ المقاتل)؛ فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 33). حيث قال: " (ولا يغسل الشهيد ولا يصلى عليه) أي يحرمان؛ لأنه حي بنص القرآن، ولما روى البخاري عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أُحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم"".

ولمذهب الحنابلة في غسل الشهيد، يُنظر:"كشاف القناع"(2/ 98). حيث قال: " (ويحرم غسل شهيد المعركة المقتول بأيديهم). جزم به أبو المعالي وحكى رواية واحدة لأنه أثر الشهادة والعبادة وهو حي قال في التبصرة: لا يجوز غسله، وكلام الموفق وغيره: يحتمل الكراهة والتحريم، ذكر في الإنصاف وقال في مجمع البحرين لم أقف بتصريح لأصحابنا هل غسل الشهيد حرام أو مكروه فيحتمل الحرمة لمخالفة الأمر وقطع في التنقيح بأنه يكره وتبعه في المنتهى مع قولهما ويجب بقاء دم شهيد عليه".

ولمذهبهم في الصلاة علي الشهيد، يُنظر:"شرح منتهي الإرادات" للبهوتي (1/ 357). حيث قال: " (والصلاة على من قلنا بغسله) من الموتى (فرض كفاية). . . وعلم منه: أنه لا يصلى على شهيد معركة ومقتول ظلمًا في حال لا يغسلان فيها".

ص: 3056

هذا خلاف ما هو معروف عن مذهب أبي حنيفة، فإن أبا حنيفة يرى أنه لا يغسل، ولكن يصلى عليه

(1)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الآثَارِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ)، وَهَذَا حَديثٌ صَحيحٌ.

* قوله: ("أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَدُفِنُوا بِثِيَابِهِمْ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا"

(2)

، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسْنَدًا:"أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَعَلَى حَمْزَةَ، وَلَمْ يُغَسلْ، وَلَمْ يُيَممْ"

(3)

).

وَقَدْ مرَّ بنا أنه إذا ماتت امرأةٌ بمِن رجال أجانب، أو رجل بين نساء أجانب، بعض العلماء قالوا: يغسلون من وراء حاجب، وبعضهم قالوا:

(1)

وهو كما قال، ويُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 212). حيث قال: " (قوله فيكفن ويصلى عليه بلا غسل) بيان لحكمه أما عدم الغسل فلحديث السنن أنه "عليه الصلاة والسلام أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم. . . وأما الصلاة "فلصلاته عليه السلام على حمزة وغيره يوم أحد" ولحديث البخاري "أنه صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين"، وما قيل من أنهم أحياء والحي لا يصلى عليه فمدفوع بأنه حكم أخروي لا دنيوي بدليل ثبوت أحكام الموتى لهم من قسمة تركاتهم وبينونة نسائهم إلى غير ذلك، وما قيل من أنها للاستغفار وهم مغفور لهم فمنتقض بالنبي والصبي كما في الهداية".

(2)

أخرجه أبو داود (3138)، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبد اللَّه، أخبره:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ويقول: "أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟ " فإذا أشير له إلى أحدهما، قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يغسلوا"، وأخرجه أيضًا البخاري (1343).

(3)

أخرجه ابن ماجه (1513)، عن ابن عباس، قال: أتي بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فجعل "يصلي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يرفعون وهو كما هو موضوع" قال الألباني في "أحكام الجنائز"(ص: 104): "هذا سند جيد، رجاله كلهم ثقات".

ص: 3057

يُيَمَّمُون، فتُيمَّم المرأة، وَكَذلك يُيمَّم الرجل

(1)

.

* قوله: (وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا مُرْسَلًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الغِفَارِيِّ

(2)

، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَهُ سَهْمٌ، فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ).

وَهَذَا تَأوَّله العلمَاء الَّذين يرون أنه لا يُصلَّى على الشهداء، ولا يُغسَّلون بأن الرجل كان خارج المعركة، فأصابه سهم.

(1)

لمذهب الحنفية، ويُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 305 - 306). حيث قال: ". . . ولكن ييممنه غير أن الميممة إذا كانت ذات رحم محرم منه تيممه بغير خرقة، وإن لم تكن ذات رحم محرم منه تيممه بخرقة تلفها على كفها؛ لأنه لم يكن لها أن تمسه في حياته فكذا بعد وفاته.

وأما المرأة فنقول:

ذلك فإنها لا تغسل، ولكنها تيمم لما ذكرنا غير أن الميمم لها إن كان محرما لها ييممها بغير خرقة، وإن لم يكن محرما لها فمع الخرقة يلفها على كفه لما مر ويعرض بوجهه عن ذراعيها؛ لأن في حالة الحياة ما كان للأجنبي أن ينظر إلى ذراعيها فكذا بعد الموت، ولا بأس أن ينظر إلى وجهها، كما في حالة الحياة".

لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الصغير" للدردير (1/ 410). حيث قال: " (ثم) إن لم يوجد غسلته (امرأة محرم) بنسب أو رضاع كصهر كزوجة ابنه على المعتمد (وهل تستره) جميعه وجوبًا (أو) تستر (عورته) فقط بالنسبة لها وهي كرجل مع مثله كما مر (تأويلان). (ثم) إن لم يكن محرمًا بل أجنبية فقط (يمم لمرفقيه) ".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 450 - 451). حيث قال: " (فإن لم يحضر) ها (إلا أجنبي، أو) لم يحضره إلا (أجنبية) (يمم)؛ أي: الميت حتمًا (في الأصح) فيهما إلحاقًا لفقد الغاسل بفقد الماء، إذ الغسل متعذر شرعًا لتوقفه على النظر، أو المس المحرم، ويؤخذ منه أنه لو كان في ثياب سابغة وبحضرة نهر مثلًا وأمكن غمسه به ليصل الماء لكل بدنه من غير مس ولا نظر وجب وهو ظاهر". ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 90 - 91). حيث قال: (وإن مات رجل بين نسوة لا رجل معهن) ممن لا يباح لهن غسله، بأن لم يكن زوجاته ولا إمائه: يمم بحائل (أو عكسه) بأن، ماتت امرأة بين رجال (ممن لا يباح لهم)؛ أي: الرجال (غسله)؛ أي: الميت، بأن لم يكن فيهم زوجها ولا سيدها: يممت".

(2)

أخرجه أبو داود في "المراسيل"(ص 306) حديث (427).

ص: 3058

* قوله: (فَصَلَّى عليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "إِنَّ هَذَا عَبْدٌ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْهِ"

(1)

، وَكِلَا الفَرِيقَيْنِ يُرَجِّحُ الأَحَادِيثَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا).

لكن الظاهر لنا هو رجحان مذهب أو قول مَنْ قال: إن الشهيد في المعركة لا يُغسَّل، ولا يُصلَّى عليه.

* قوله: (وَكَانَتِ الشَّافِعِيَّةُ تَعْتَلُّ

(2)

بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَتَقُولُ

(3)

: يَرْوِيهِ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ

(4)

).

الشافعية والحنابلة ممن يرون أنه لا يغسل الشهيد في المعركة ولا يصلى عليه، ولذلك قال: تعتل الشافعية، فيذكرون علة قادحة في حديث

(1)

أخرجه النسائي (1953)، وقال الألباني في "أحكام الجنائز" (ص: 61): "إسناده صحيح، رجاله كلهم على شرط مسلم".

(2)

يُنظر: "مختار الصحاح" للرازي (216). حيث قال: "والعلة المرض. وحدث يشغل صاحبه عن وجهه كأن تلك العلة صارت شغلًا ثانيًا منعه عن شغله الأول. و (اعتل) أي مرض فهو (عليل) ".

وللفائدة، يُنظر:"مقدمة ابن صلاح"(90). حيث قال: "فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها. ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر. ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم وأهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به، أو يتردد فيتوفف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه. وكثيرًا ما يعللون الموصول بالمرسل مثل: أن يجيء الحديث بإسناد موصول، ويجيء أيضًا بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول، ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه".

(3)

يُنظر: "التخليص الحبير" لابن حجر (2/ 274). حيث قال: "لكن حديث ابن عباس روي من طرق أخرى منها ما أخرجه الحاكم وابن ماجه والطبراني والبيهقي من طريق يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله وأتم منه ويزيد فيه ضعف يسير".

(4)

لعل صوابه: يزيد بن أبي زياد.

ص: 3059

عبد اللَّه بن عباس حتى يقدِّموا عليه الحديث الأول الذي رواه أبو داود، ولا شك أن حديث:"لم يُغسَّلوا، ولم يصلَّ عليهم"، أصح وأقوى من تلك التي ورد فيها الصلاة والغسل.

* قَالَ: (وَكَانَ قَدِ اخْتَلَّ آخِرَ عُمُرِهِ، وَقَدْ كَانَ شُعْبَةُ يَطْعَنُ فِيهِ. وَأَمَّا المَرَاسِيلُ فَلَيْسَتْ عِنْدَهُمْ بِحُجَّةٍ).

ومَسْألة الاحتجاج بالمرسل من عدمه إنما هي مسألة خلافية، فالشافعيَّة لا يحتجُّون بالمرسل

(1)

، وبعض العلماء يحتجُّون به

(2)

، لكن لدينا حديث صحيح في هذه المسألة فيقدم، ولذلك نقول: الراجح في هذه المسألة هو أن الشهيد إذا مات في المعركة لا يغسل، ولا يصلى عليه.

قال رحمه الله: (وَاخْتَلَفُوا مَتَى يُصَلَّى عَلَى الطِّفْلِ)؟

وَالمؤلِّف يقصد بذلك الطفل عمومًا، فهل يُصلَّى على الطفل إذا

(1)

يُنظر: "الرسالة" للشافعي (1/ 465 - 466). حيث قال: "ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة، استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين، بدلائل ظاهرة فيها، قال: فلم فرقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول اللَّه، وبين من شاهد بعضهم دون بعض؟ فقلت: لبعد إحالة من لم يشاهد أكثرهم. . . ".

(2)

وهم الحنفية والمالكية ورواية عند الحنابلة، ولمذهب الحنفية، يُنظر:"كشف الأسرار" لعلاء الدين البخاري (3/ 2). حيث قال: "وأما إرسال القرن الثاني والثالث فحجة عندنا، وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وأكثر المتكلمين".

لمذهب المالكية، يُنظر:"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (379). حيث قال: "المراسيل عند مالك وأبي حنيفة وجمهور المعتزلة حجة، خلافًا للشافعي؛ لأنه إنّما أرسل حيث جزم بالعدالة فيكون حجة".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 365). حيث قال: "فأما مراسيل غير الصحابة، وهو أن يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره، أو يقول: قال أبو هريرة من لم يدركه: ففيها روايتان:

إحداهما: تقبل، اختارها القاضي. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وجماعة من المتكلمين والأخرى: لا تقبل، وهو قول الشافعي، وبعض أهل الحديث وأهل الظاهر".

ص: 3060

خَرَج من بُطن أُمِّه فاستهلَّ صارخًا؟ أَوْ أن يُصلَّى عليه مطلقًا ولو خرج ميتًا؟ أو يصلَّى على السِّقْط؛ أي: الذي بدأت خلقته؟ فالذي خلِّق ومضى عليه أربعة أشهر، كما جَاءَ فِي الحديث:"إنَّ أَحدَكُمْ يخلق في بطن أُمِّه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم بعد ذلك ينفخ فيه الروح"

(1)

، ونفخت فيه الروح، وبدأت علامات الخلقة عليه، نجد أن الحنابلة يرون أن مَنْ بلغ أربعة أشهر يصلَّى عليه

(2)

، ومن العلماء مَنْ قال: لا يصلى عليه حتى يستهل؛ أي: يخرج من بطن أمه حيًّا

(3)

.

* قَالَ: (فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى الطِّفْلِ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا

(4)

)؛ لأنه وَرَد في ذلك حديث: "لَا يُصلَّى على الطِّفل، ولا يرث، ولا يورث حتى يستهلَّ"

(5)

، وهذا الحديث ضعيف، لَكن جاء في حديث آخر صحَّحَ العلماء سندَه أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"الطفل يصلى عليه"

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (3208)، قال عبد اللَّه:"حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث اللَّه ملكًا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار، وبعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة".

(2)

سيأتي بيانه.

(3)

سيأتي بيانه.

(4)

يُنظر: "الشرح الصغير" للدردير (1/ 574). حيث قال: " (كمن لم يستهل صارخًا): يكره غسله والصلاة عليه، (ولو تحرك أو بال أو عطس إن لم تتحقق حياته)، فإن تحققت وجبا".

(5)

أخرجه الترمذي (1032) وغيره، وضعفه الألباني في "المشكاة"(1691).

(6)

أخرجها ابن ماجه (1507)، عن المغيرة بن شعبة: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "الطفل يصلى عليه"، وصححه الألباني في "المشكاة"(1667).

ص: 3061

وفى روايةٍ: "السِّقْط يصلى عليه"

(1)

.

* قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ

(3)

).

لَكن مَذْهب الحنفيَّة فيه تفصيل، فلو أنه وُلِدَ ميتًا، لا يُصلَّى عليه

(4)

.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ).

وهذا هو مذهب الحنابلة، ونص عليه الإمام أحمد

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود (3180)، عن المغيرة بن شعبة، وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها، وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها قريبًا منها، والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة". وصححه الألباني في "المشكاة"(1667).

(2)

لمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (2/ 495 - 496). حيث قال: " (والسقط). . . (إن استهل) أي صاح (أو بكى ككبير). . . (وإلا). . . (فإن ظهرت أمارة الحياة كاختلاج) أو تحرك (صلي عليه في الأظهر). . . (وإن لم تظهر) أمارة الحياة (ولم يبلغ أربعة أشهر). . . (لم يصل عليه) قطعًا لعدم الأمارة (وكذا إن بلغها). . . (في الأظهر) لعدم ظهور حياته فيجب غسله وتكفينه ودفنه. . . واعلم أن للسقط أحوالًا حاصلها أنه إن لم يظهر فيه خلق آدمي لا يجب فيه شيء، نعم يسن ستره بخرقة ودفنه، وإن ظهر فيه خلقة ولم تظهر فيه أمارة الحياة وجب فيه ما سوى الصلاة، أما هي فممتنعة كما مر فإن ظهر فيه أمارة الحياة فكالكبير".

(3)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 203). حيث قال: " (قوله، ومن استهل صلي عليه وإلا لا). . . وفي الشرع أن يكون منه ما يدل على حياته من رفع صوت أو حركة عضو، ولو أن يطرف بعينه وذكر المصنف أن حكمه الصلاة عليه ويلزمه أن يغسل وأن يرث ويورث وأن يسمى، وإن لم يبق بعده حيًّا لإكرامه،. . . ".

(4)

يُنظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 302). حيث قال: "فاتفقت الروايات على أنه لا يصلى على من ولد ميتًا، والخلاف في الغسل".

(5)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 101). حيث قال: " (وإذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر) أي: لأربعة أشهر فأكثر (غسل وصلي عليه) نص عليه في رواية حرب وصالح لقوله صلى الله عليه وسلم: "والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" رواه أحمد وأبو داود ورواه النسائي والترمذي وصححه ولفظهما: "والطفل يصلى عليه" واحتج به أحمد ولأنه نسمة نفخ فيها الروح. (ولو لم يستهل) أي: يصوت عند الولادة".

ص: 3062

* قوله: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى

(1)

، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: مُعَارَضَةُ المُطْلَقِ لِلْمُقَيَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:"الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا"

(2)

).

القصد بالطفل هنا هو الذي في بطن أمه، أما إذا وُلِدَ الطفل، وأصبح حيًّا ولو حتى صرخ صرخةً، فهذا يرث ويورث.

* قوله: (وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: "الطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ").

وفي رواية: "السِّقْط يصلى عليه"، وهذا أصح من الأول، إذن يؤخذ به.

* قوله: (فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: ذَلِكَ عَامٌّ، وَهَذَا مُفَسِّرٌ، فَالوَاجِبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ العُمُومُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ).

يَعْني حديث: "الطِّفل لا يُصلَّى عليه، ولا يرث، ولا يورث حتى يستهل صارخًا"، إنما هو قيدٌ للحديث الثانِي:"الطفل يُصلَّى عليه، فأراد المؤلف على رأي هؤلاء أن يكون ذاك مقيدًا لهذا: "الطفل يُصلَّى عليه"، ويضيف إليه القيد الذي في الحديث الأول: "إذا استهل. . . "، يعني: إذا ولد حيًّا.

* قَالَ: (فَيَكُونُ مَعْنَى حَدِيثِ المُغِيرَةِ أَنَّ الطِّفْلَ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ حَدِيثِ المُغِيرَةِ قَالَ: مَعْلُومٌ أَنَّ المُعْتَبَرَ

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 39). حيث قال: "وروي عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال في السقط يقع ميتًا إذا تم خلقه ونفخ فيه الروح صلى عليه، وهو قول ابن أبي ليلى وابن سيرين".

(2)

أخرجه الترمذي (1032)، وضعفه الألباني في "المشكاة"(1691).

ص: 3063

فِي الصَّلَاةِ وَحُكْمِ الإِسْلَامِ الحَيَاةُ، وَالطِّفْلُ إِذَا تَحَرَّكَ فَهُوَ حَيٌّ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ المُسْلِمِينَ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ حَيٌّ إِذَا مَاتَ، صُلِّيَ عَلَيْهِ، فَرَجَّحُوا هَذَا العُمُومَ عَلَى ذَلِكَ الخُصُوصِ لِمَوْضِعِ مُوَافَقَةِ القِيَاسِ لَهُ).

وَالعُمُوم إنَّما هو: "الطفل يُصلَّى عليه"، وهو أقوى من الأول؛ لأن هذا حديث صحيح، وذاك فيه مقال.

* قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يُصَلَّى عَلَى الأَطْفَالِ أَصْلًا

(1)

).

وهذا شذوذٌ يُعْتبر كما ذكر المؤلف؛ لأنه خلاف ما جاء به الحديث.

* قوله: (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ "أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُصَلِّ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ"

(2)

).

وهذا من أسباب الخلاف، والصحيح: وهو ابن ثمانية عشر شهرًا؛ لأن هذه الرواية (رواية عائشة) صححها كثيرٌ من العلماء، وجاءت أيضًا روايات أخرى: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم

(3)

.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 38). حيث قال: "والشذوذ قول من قال لا يصلى على الأطفال وهو قول تعلق به بعض أهل البدع وللفقهاء قولان في الصلاة على الأطفال".

(2)

أخرجه أبو داود (3187)، عن عائشة، قالت:"مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمانية عشر شهرًا فلم يصل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". وصحح الألباني إسناده في "أحكام الجنائز"(ص: 79).

(3)

أخرجه أبو داود (3188)، عن وائل بن داود، قال: سمعت البهي، قال:"لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المقاعد".

ويُنظر: "أحكام الجنائز" للألباني (ص: 59). حيث قال: "واعلم أنه لا يخدج في ثبوت الحديث أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ابنه إبراهيم. لأن ذلك لم يصح عنه وإن جاء من طرق، فهي كلها معلولة إما بالإرسال، وإما بالضعف الشديد، كما تراه مفصلًا في "نصب الراية" (2/ 279 - 280)، وقد روى أحمد (3/ 281)، عن أنس أنه سئل: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم؟ قال: لا أدري. وسنده صحيح. ولو كان صلى عليه، لم يخف ذلك على أنس إن شاء اللَّه، وقد خدمه عشر سنين".

ص: 3064

وَفِي بَعْضها: وعُمُره ستةَ عشرَ شهرًا

(1)

، فاختلف العلماء في ذلك، فمن العلماء مَنْ قال: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُصلِّ على ابنه إبراهيم، إذن لا يُصلَّى على الطفل.

ومنهم من قال بأحاديث أُخرى -وإن كان بعضها مراسيل، لكنها إذا جُمعَت صارت صالحةً للاحتجاج بها- وفيها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم

(2)

.

وَمنهم مَنْ حَاول أن يتلمَّس سببًا على الرواية الأولى (رواية عائشة) أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُصلِّ على ابنه إبراهيم، قالوا: لأنه صادف يوم أن كسفت الشمس، فانشغل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصلاة الكسوف.

ومنهم مَنْ قال: استغنى ببُنوَّته لرَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(3)

، أَيْ بأنه ابنٌ لرسول اللَّه، لَكن جَاء في الأحاديث بعضها أنه لم يُصلِّ عليه، وبعضها أنه صلى عليه، عليه الصلاة والسلام

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد في "المسند"(8/ 4213)، عن البراء بن عازب، قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ومات، وهو ابن ستة عشر شهرًا، وقال:"إن له في الجنة من تتم رضاعه وهو صديق".

وقال الأرناؤوط: "وهذا إسناد ضعيف لضعف جابر -وهو ابن يزيد الجعفي- وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين".

(2)

يُنظر: "السنن الكبري" للبيهقي (4/ 14). حيث قال: "فهذه الآثار وإن كانت مراسيل فهي تشد الموصول قبله، وبعضها يشد بعضًا، وقد أثبتوا صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وذلك أولى من رواية من روى أنه لم يصل عليه".

(3)

يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 496). حيث قال: "ثم اختلف هؤلاء في السبب الذي لأجله لم يصل عليه، فقالت طائفة: استغنى ببنوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قربة الصلاة التي هي شفاعة له، كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه. وقالت طائفة أخرى: إنه مات يوم كسفت الشمس، فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه، وقالت طائفة: لا تعارض بين هذه الآثار، فإنه أمر بالصلاة عليه، فقيل: صلي عليه، ولم يباشرها بنفسه لاشتغاله بصلاة الكسوف، وقيل: لم يصل عليه. وقالت فرقة: رواية المثبت أولى؛ لأن معه زيادة علم، وإذا تعارض النفي والإثبات قدم الإثبات".

(4)

تقدم تخرجها.

ص: 3065

* قوله: (وَرُوِيَ فِيهِ: "أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ لَيْلَةً"

(1)

، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الأَطْفَالِ المَسْبِيِّينَ).

وقد انتقَل المؤلِّف إلى نوع آخر من الأطفال، ويقصد بـ (المسبيِّين): الكفار؛ أي: الذين إذا وقعت معركة بين المؤمنين وبين الكافرين، وَنَصر اللَّه فيها المؤمنين، فَسَبوا عددًا من الكافريق، وربما سَبَوا بعض أبناء الكافرين، فهذا الطفل الذي يسبى من قِبَلِ المؤمنين، هل يصلى عليه؛ لأنه سينتقل إلى دار المؤمنين، أو أن هناك تفصيلًا في المسألة؟

فيقول العلماء: إن سبي وحده، فإنه يُصلَّى عليه، على الرأي الصحيح، وإن سبي مع أحد أبويه أو معهما، فهو يأخُذ حكمهما.

* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ البَصْرِيِّينَ عَنْهُ أَنَّ الطِّفْلَ مِنْ أَوْلَادِ الحَرْبِيِّينَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى يَعْقِلَ الإِسْلَامَ، سَوَاءٌ سُبِيَ مَعَ وَالِدَيْهِ أَوْ لَمْ يُسْبَ مَعَهُمَا، وَأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ أَبَوَيْهِ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ الأَبُ، فَهُوَ تَابعٌ لَهُ دُونَ الأُمِّ

(2)

، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا إِلَّا أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، فَهُوَ

(1)

أخرجه أبو داود (3188)، عن وائل بن داود، قال: سمعت البهي، قال:"لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المقاعد"، قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني، قيل له: حدثكم ابن المبارك، عن يعقوب بن القعقاع، عن عطاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم وهو ابن سبعين ليلة".

وأخرجه أيضًا في "المراسيل"(ص: 309)، وتقدم تعليق الألباني، على أحاديث الصلاة على ابنه عليه السلام.

(2)

يُنظر: "المدونة" للإمام مالك (1/ 255). حيث قال: "قال: وسألت مالكًا عن المسلمين يصيبون السبي من العدو فيبايعون، فيشتري الرجل منهم الصبي ونيته أن يدخله الإسلام وهو صغير فيموت، أترى أن يصلي عليه قال: لا إلا أن يكون قد دخل في الإسلام، وقال غيره: هو معن بن عيسى يصلي عليه. قلت لابن القاسم: أرأيت من نزل بهم أهل الشرك بساحلنا فباعوهم منا وهم صبيان. فماتوا قبل أن يتكلموا بالإسلام بعدما اشتريناهم، هل تحفظ من مالك فيه شيئًا؟ قال: نعم، لا يصلى عليهم حتى يجيبوا إلى الإسلام". =

ص: 3066

عِنْدَهُ تَابِعٌ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا

(1)

، لَا لِلْأَبِ وَحْدَهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ).

وهو أيضًا عند أحمد، وعنده زيادة:"أنه لو سبي وحده، فإنه يصلى عليه"

(2)

.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلَّى عَلَى الأَطْفَالِ المَسْبِيِّينَ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ مَنْ سَبَاهُمْ

(3)

).

ومذهب الحنفية فيه تفصيلٌ.

* قوله: (وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إِذَا مَلَكَهُمُ المُسْلِمُونَ، صُلِّيَ عَلَيْهِمْ،

= ويُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 426 - 427). حيث قال: " (ولا) يغسل (محكوم بكفره) أي يحرم (وإن صغيرًا) مميزًا (ارتد) لأن ردته معتبرة كإسلامه وإن كان يؤخر قتله لبلوغه إن لم يتب (أو نوى به سابيه). . . (الإسلام) وهذا في الكتابي ولو غير مميز وما يأتي في الردة من أنه يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام سابيه فهو في المجوس (إلا أن يسلم) الكتابي المميز بالفعل فيغسل (كأن أسلم) من غير سبي (ونفر من أبويه) إلينا بل ولو مات بدار الحرب فإنه يغسل ويصلى عليه (وإن اختلطوا) أي المحكوم بكفرهم مع مسلمين غير شهداء (غسلوا) جميعًا (وكفنوا وميز المسلم بالنية في الصلاة) ودفنوا في مقابر المسلمين".

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 606 - 607). حيث قال: " (ويحكم) أيضًا (بإسلام الصبي بجهتين). . . (إحداهما). . . (الولادة، فإذا كان أحد أبويه مسلمًا وقت العلوق فهو). . . (مسلم) بإجماع وتغليبًا للإسلام. . . (الثانية إذا سبى مسلم طفلًا) أو مجنونًا (تبع السابي) له (في الإسلام) فيحكم بإسلامه ظاهرًا وباطنًا (إن لم يكن معه أحد أبويه)؛ لأنه له عليه ولاية وليس معه من هو أقرب إليه منه فتبعه كالأب".

(2)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 416 - 417). حيث قال: "ولا يصلى على أطفال المشركين؛ لأن لهم حكم آبائهم، إلا من حكمنا بإسلامه، مثل أن يسلم أحد أبويه، أو يموت، أو يسبى منفردًا من أبويه، أو من أحدهما، فإنه يصلى عليه".

(3)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (2/ 228 - 230). حيث قال: " (كصبي سبي مع أحد أبويه) لا يصلى عليه لأنه تبع له أي في أحكام الدنيا لا العقبى، لما مر أنهم خدم أهل الجنة. (ولو سبي بدونه) فهو مسلم تبعًا للدار أو للسبي (أو به فأسلم هو أو) أسلم (الصبي وهو عاقل) أي ابن سبع سنين (صلي عليه) لصيرورته مسلمًا".

ص: 3067

يَعْنِي: إِذَا بِيعُوا فِي السَّبْي. قَالَ: وَبِهَذَا جَرَى العَمَلُ فِي الثَّغْرِ، وَبِهِ الفُتْيَا فِيهِ

(1)

، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانُوا مَعَ آبَائِهِمْ وَلَمْ يَمْلِكْهُمْ مُسْلِمٌ، وَلَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَويْهِمْ، أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ

(2)

).

وهَذَا -كَمَا ذكر المؤلف- ليس فيه خلافٌ فيما أعلم.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي أَطْفَالِ المُشْرِكينَ، هَلْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الآثَارِ أَنَّهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ

(3)

؛ أَيْ أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ).

وقَدْ جاء في حديث: "هُمْ معَ آبَائِهِمْ"

(4)

.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 116). حيث قال: "قال الأوزاعي في الصبيان يموتون من السبي بعد أن اشتروا، قال: يصلى عليهم، وإن كانوا لم يباعوا لم يصل عليهم، يريد إذا كانوا في ملك مسلم فملكه لهم أولى بهم من حكم آبائهم، قال ابن الطباع: على هذا فتيا أهل الثغر، وهو قول سليمان بن موسى، ورواية الحارث عن الأوزاعي، وذكر أبو المغيرة عن صفوان بن عمرو قال: سمعت أصحابنا، ومشيختنا يقولون: ما ملك المسلمون من صبيان العدو فماتوا يصلى عليهم، وإن لم يصلوا لأنهم مسلمون ساعة يملكهم المسلمون".

(2)

يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 359). حيث قال: "واتفقوا أن أولاده الكبار المختارين لدين الكفر أنهم كسائر المشركين ولا فرق. وحكم الطفل حكم أبويه بإجماع وحكمه حكم أبيه، وهم مختلفون هل حكمه حكم أمه إذا أسلمت".

(3)

أخرجه البخاري (3013)، ومسلم (1745)، واللفظ له، من حديث الصعب بن جثامة:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: لو أن خيلًا أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين قال: "هم من آبائهم").

(4)

أخرجه أحمد في "المسند"(24545). عبد اللَّه بن أبي قيس مولى غطيف، أنه أتى عائشة أم المؤمنين، فسلم عليها، فقالت: من الرجل؟ قال: أنا عبد اللَّه مولى غطيف بن عازب، فقالت: ابن عفيف؟ فقال: نعم، يا أم المؤمنين، فسألها عن الركعتين بعد صلاة العصر، أركعهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت له:"نعم"، وسألها عن ذراري الكفار، فقالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هم مع آبائهم"، فقلت: يا رسول اللَّه، بلا عمل؟ قال:"اللَّه عز وجل أعلم بما كانوا عاملين".

وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف، فقد اضطرب فيه عبد اللَّه بن أبي قيس".

ص: 3068

وجاء في حديث آخر: "اللَّه إذْ خَلَقهم أعلَم ما كَانوا عليه"

(1)

.

وقَدْ سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات مرة عن أبناء المشركين؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "اللَّه إذ خلقهم أعلم ما كانوا عليه"

(2)

.

وَاللَّهُ سبحانه وتعالى يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن أنه لو كان كيف يكون، ولذلك يقول اللَّه سبحانه وتعالى عن أهل النار عندما يُلْقَون في نار جهنَّم، فيطلُبُون من اللَّه سبحانه وتعالى أن يُرَدُّوا إلى هذه الحياة ليعملوا عملًا صالحًا، فَاللَّهُ سبحانه وتعالى يَقُولُ فيهم:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ، يقولون:{يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)} [الأنعام: 27 - 28].

إذن، جَاء في الحديث الذي أخرجه مسلم:"اللَّه إذ خلقهم أعلم ما كانوا عليه"

(3)

؛ أي: اللَّه سبحانه وتعالى يعلم ما سَيَكونون عليه من أعمال فيما لو بقوا في هذه الحياة.

وَفِي حَدِيثٍ آخرَ: "هُمْ مع آبَائهم"

(4)

، أيْ: يأخذون حكم آبائهم.

وجَاء في حديثٍ ثالثٍ لكنه ضعيف، ولو صح هذا لرفع النزاع؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عنهم تلا الآية:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، "هم على الفطرة"

(5)

، لكن هذا ضعيف.

(1)

أخرجه مسلم (2660)، عن ابن عباس، قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عن أطفال المشركين، قال:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم".

(2)

أخرجه مسلم (2660).

(3)

أخرجه مسلم (2660).

(4)

تقدم قريبًا.

(5)

أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" 18/ 117 من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال:"هم مع آبائهم". ثم سألته بعد ذلك، فقال:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". ثم سألته بعدما استحكم الإسلام، فنزلت {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقال:"هم على الفطرة، أو قال: في الجنة".

قال الحافظ في "الفتح" 3/ 247: أبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف.

ص: 3069

وَهَذه المسألة فيها كلامٌ كثيرٌ، وهي تدرس في مباحث العقيدة فيما يتعلق بأطفال المشركين

(1)

، والمؤلف عرض لها هنا لعلاقتها بالصلاة؛ لأن علوم الشريعة الإسلامية هي بمثابة شجرة ذات أغصان، فأصلها الثابت هو كتاب اللَّه عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصلُ هذه العقيدة الصحيحة الإيمان الذي بَيَّنه رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، وَبيَّنه اللَّه تعالى في كتابه، ثم تأتي بعد ذلك بقيَّة العبادات بمثابة أغصان هذه الشجرة التي تَتَغذَّى من هذا الأصل، فكل إنْسَانٍ يطرح هذه العقيدة وراءه مهما أخلص في صلاته، ومهما أدَّى زكاته، ومهما أحسن صيامه، ومهما أدى فريضة الحج، ما دامت عقيدته فاسدةً؛ فإن ذلك لا ينفعه؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقول عن الكفار:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].

إذن، ينبغي للمسلم دائمًا أن يصلح الأساس، ثم بعد ذلك يبني على هذا الأساس تلك الفروع، ويخطئ مَنْ يرى أنه ينبغي أن يُجْمع المسلمون حول كلمة (إسلام) فقط، ولا ينبغي أن يركز على أمر العقيدة، ونسوا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمضى بمكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى توحيد اللَّه، ويدعو الناسَ إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، ويحارب الأصنام والأوثان، ويدعو الناس إلى إخلاص التوحيد وتجريده مما علق به أيضًا من شوائب، إذن يُصْلَح الأصل، ثم بعد ذلك تتبعه فروع الشريعة الإسلامية.

* قَالَ: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي أَطْفَالِ المُشْرِكينَ، هَلْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الآثَارِ أَنَّهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ

(2)

).

وَروَايَة: "مِنْ آبَائِهِمْ" لا أحفظها، لكن أحفظ الحديث: "هُمْ مَعَ

(1)

ونقل ابن القيم فيهم ثمانية مذاهب، ويُنظر:"طريق الهجرتين" لابن القيم (387 - 402).

(2)

تقدم تخريجها.

ص: 3070

آبَائهم"، وجواب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في "صحيح مسلم": "اللَّه إذ خلقهم أعلم ما كانوا عليه"

(1)

، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يعلم سبحانه وتعالى ما سيكونون لو بَقَوا أحياءً، وعاشوا على هذه الدنيا.

* قوله: (أَيْ أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ).

يقول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، واللَّه سبحانه وتعالى بَيَّن طريق الهداية، وبيَّن طريق الغواية

(2)

، وأرشد الناس إلى سلوك طريق الهداية، وبيَّن لهم كل الأسباب، وأوضح لهم طريق النجاة، وبيَّن لهم صراطه المستقيم، واللَّه سبحانه وتعالى يأمرهم بأن يعبدوا اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يشركوا به شيئًا، لكن يوجد من الناس مَنْ تغلب عليه الشقاوة، ويختار طريق الشقاوة على طريق السعادة فيزل.

* قوله: (وَدَلِيلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ"

(3)

أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ المُؤْمِنِينَ).

وهذا دَليلٌ متفقٌ عليه، وهو قَوْله عليه الصلاة والسلام:"كُلُّ مَوْلودٍ يُولَد على الفِطْرَةِ"، فالأصلُ في الإنسان أنه يولَد على الفطرة، على الحنيفية السمحة، على ملة إبراهيم، فالدين عند اللَّه سبحانه وتعالى هو الإسلام:"كلُّ مَوْلودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه"، ولم يرد في الحديث:"أو يسلمانه"؛ لأنه في الأصل مولود على الفطرة.

وفي قصة المرأة التي سألها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا قال لها: "أين اللَّه؟ "،

(1)

تقدم قريبًا.

(2)

الغواية: الضلال. انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (ص: 687).

(3)

أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658)، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها في جدعاء؟ " ثم يقول أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] الآية.

ص: 3071

قالت: في السماء. قال: "أَعْتقهَا، فإنها مؤمنةٌ"

(1)

.

ولذلك، فرعون عندما قال:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، قال:{. . . يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 - 37]، ولم يقل: احفر لي في الأرض، ولم يقل: اذهب يمينًا وشمالًا، لكنه قال:{ابْنِ لِي صَرْحًا} ، وهو في ذلك متحديًا متعديًا، لكنه بعد أن أدركه الغرق أراد أن يؤمن، لكن هيهات لا ينفعه ذلك.

* قوله: (وَدَلِيلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ"، أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ المُؤْمِنِينَ).

لَكن قَدْ ينقله أبوه من الفطرة إلى اليهودية أو إلى النصرانية، أو ينقله أيضًا إلى المجوسية، أَوْ إلَى غَيْرها.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لِلصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ).

وَهَذه مسألةٌ سبق أنْ مررنا عليها ربما ظنًّا منا أن المؤلف لم يعرض لها، لكنه عاد إليها فيما يتعلق بمَنْ يقدم في الصلاة على الميت: هل يقدم الوالي وأولى الناس في كَثِيرٍ من الأمور؟ أو يقدَّم أيضًا الولي (ولي الميت)، أو يُقدَّم مَنْ أوصاه المَيِّت بأن يصلِّي عليه؟

قَالَ بعض العلماء: يقدم الوالي مطلقًا؛ لأن له الولاية المطلقة، وبعضهم قال: يقدم الولي، وبعضهم قال: يقدم الوصي.

(1)

أخرجه مسلم (537)، عن معاوية بن الحكم السلمي، قال:

وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول اللَّه أفلا أعتقها؟ قال: "ائتني بها" فأتيته بها، فقال لها:"أين اللَّه؟ " قالت: في السماء، قال:"من أنا؟ " قالت: أنت رسول اللَّه، قال:"أعتقها، فإنها مؤمنة".

ص: 3072

وَالأَمْرُ لا يتعلَّق بصحة الصلاة، وَعَدم صحَّتها، لَكن الكلام فيما هو الأَوْلَى؟ فبعض العلماء قال: يقدم الولي، وبعضهم قال: الوصي؛ لأن له الحق في ذلك، والذين قالوا: يقدم الولي؛ لأنه هو الذي يُقدَّم في كثيرٍ من الأمور، وَفِي ذلك ما يَتَعلَّق أيضًا بعقد النكاح، فالوليُّ يقدم فيه، ولذلك جاء في الحديث:"والسُّلطان وليُّ مَنْ لا وليَّ له"

(1)

، فجعل في المرتبة الثانية بعد الوليِّ.

ومنهم مَنْ يقول: لَا، الصلاةُ داخلةٌ في الولاية العظمى، فينبغي أن يقدم فيها الإمام؛ لأن الإِمَامَ هو الَّذي يعين الأئمة ويختارهم. وبعضهم قال: لا، إذا أَوْصَى لإنسانٍ بأن يُصلِّي عليه، فَهو أَوْلَى، وقد صحَّ عن عددٍ من الصحابة أنهم أوصوا أن يصلَّى عليهم، فَخلَّى عليهم مَنْ أوصوا لهم.

وَأَبو بَكْرٍ رضي الله عنه أوصَى عمرَ أن يصلِّي عليه

(2)

، فصلَّى عليه عُمَرُ رضي الله عنه، وَكَذلك أوصى عبد اللَّه بن مسعود

(3)

، وكذلك أوصت عائشة أن يصلِّي عليها أبو هُرَيرة

(4)

، وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ من وَصَايا الصحابة رضي الله عنهم

(5)

، فمن هنا أخذ بعض العلماء (وهم الحنابلة)

(6)

، فقالوا: الوَصيُّ يُقدَّم. وَمنَ العلماء (وهم

(1)

أخرجه أبو داود (2083)، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغبر إذن مواليها، فنكاحها باطل"، ثلاث مرات "فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"، وصححه الألباني في "المشكاة"(3131 - 6).

(2)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 471)، عن معمر، عن الزهري قال:"صلى عمر على أبي بكر، وصلى صهيب على عمر".

(3)

يُنظر: "سير أعلام النبلاء"(1/ 499)، عن شريك، عن أبي إسحاق: أن ابن مسعود أوصى إلى الزبير أن يصلي عليه.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 471)، عن ابن جريج، عن نافع قال: سمعته يقول: "صليت على عائشة والإمام يومئذ أبو هريرة. . . ".

(5)

يُنظر: "مصنف ابن ابي شيبة"(2/ 483).

(6)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 111)، حيث قال:" (والأولى بها) أي بالصلاة على الميت إماما وصيه العدل لإجماع الصحابة فإنهم ما زالوا يوصون بذلك ويقدمون الوصي. . . ثم (بعد الوصي: السلطان) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن الرجل =

ص: 3073

الشافعية) مَنْ قال: الولي، ومنهم مَنْ قال (وهُمُ المالكيَّة): الوالي، دون تفصيلٍ في المذهب

(1)

.

* قوله: (فَقِيلَ: الوَلِيُّ

(2)

، وَقِيلَ: الوَالِي

(3)

، فَمَنْ قَالَ: الوَالِي، شَبَّهَهُ بِصَلَاةِ الجُمُعَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةُ جَمَاعَةٍ).

= الرجل في سلطانه" - الحديث رواه مسلم وغيره ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده كانوا يصلون على الموتى ولم ينقل عن أحد منهم أنه استأذن العصبة. . . (ثم نائبه الأمير) أي: أمير بلد الميت، إن حضرها (ثم الحاكم وهو القاضي). . . (ثم) بعد السلطان ونوابه: الأولى بالصلاة على الحر (أقرب العصبة). . . (ثم ذوو أرحامه) الأقرب فالأقرب، كالغسل (ثم الزوج) ثم الأجانب (ومع التساوي) كابنين أو أخوين أو عمين (يقدم الأولى بالإمامة) لما تقدم هناك (فإن استووا في الصفات) بحيث لا أولوية لأحدهم على الآخر في الإمامة (أقرع) ".

(1)

سيأتي بيانه.

(2)

وهو مذهب الشافعية، ويُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 29). حيث قال: " (الجديد أن الولي) أي القريب الذكر (أولى) أي أحق (بإمامتها) أي الصلاة على الميت (من الوالي) وإن أوصى الميت لغير الولي؛ لأنها حقه، فلا تنفذ وصيته بإسقاطها كالإرث، وما ورد من أن أبا بكر وصى أن يصلي عليه عمر فصلى وأن عمر وصى أن يصلي عليه صهيب فصلى ووقع لجماعة من الصحابة ذلك محمول على أن أولياءهم أجازوا الوصية، والقديم أن الوالي أولى، ثم إمام المسجد ثم الولي كسائر الصلوات، وهو مذهب الأئمة الثلاثة،. . . ولو غاب الولي الأقرب قدم الولي الأبعد سواء أكانت غيبته قريبة أم بعيدة. قاله البغوي، (فيقدم الأب). . . (ثم الجد) أبو الأب (وإن علا)؛ لأن الأصول أكثر شفقة من الفروع (ثم الابن ثم ابنه وإن سفل). . . ".

(3)

وهو مذهب الحنفية، ويُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 317). حيث قال: "وأما بيان من له ولاية الصلاة على الميت فذكر في الأصل: أن إمام الحي أحق بالصلاة على الميت، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام الأعظم أحق بالصلاة إن حضر، فإن لم يحضر فأمير المصر، وإن لم يحضر فإمام الحي، فإن لم يحضر فالأقرب من ذوي قراباته، وهذا هو حاصل المذهب عندنا، والتوفيق بين الروايتين ممكن؛ لأن السلطان إذا حضر فهو أولى؛ لأنه إمام الأئمة فإن لم يحضر فالقاضي؛ لأنه نائبه فإن لم يحضر فإمام الحي؛ لأنه رضي بإمامته في حال حياته، فيدل على الرضا به بعد مماته؛ ولهذا لو عين الميت أحدًا في حال حياته فهو أولى من القريب لرضاه به إلا أنه بدأ في كتاب الصلاة بإمام الحي؛ لأن السلطان قلما يحضر =

ص: 3074

وقَدْ مَرَّ بنا الخلاف فيما يتعلَّق بإقامة صلاة الجمعة، فلها شروطٌ: ومن تلك الشروط كما يرى بعض العلماء: الوالي، يعني أن يكون الذي يصلي بالناس إنما هو الوالي أو مَنْ ينيبه، وهذه المسألة مرَّت بنا

(1)

.

ويريد المؤلف هنا أن يلحق أيضًا صلاة الميت بالجمعة؛ لأن كل واحدة منهما صلاة.

* قَالَ: (وَمَنْ قَالَ: الوَلِيُّ، شَبَّهَهَا بِسَائِرِ الحُقُوقِ الَّتِي الوَلِيُّ بِهَا أَحَقُّ، مِثْلُ مُوَارَاتِهِ وَدَفْنِهِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَنَّ الوَالِيَ بِهَا أَحَقُّ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ المُنْذِرِ: وَقَدَّمَ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَعِيدَ بْنَ العَاصِ وَهُوَ وَالِي المَدِينَةِ لِيُصَلِّيَ عَلَى الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مَا تَقَدَّمْتُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبِهِ أَقُولُ

(2)

)، أَيْ: أبو بكر بن المنذر يقول: وبهذا القول أقول.

* قوله: (وَأَكْثَرُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى إِلَّا عَلَى الحَاضِرِ

(3)

).

= الجنائز، ثم الأقرب فالأقرب من عصبته وذوي قراباته؛ لأن ولاية القيام بمصالح الميت له".

(1)

عند قول المصنف: "وأما الشرط الثاني:

واشترط أبو حنيفة المصر والسلطان مع هذا، ولم يشترط العدد".

(2)

يُنظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/ 399). حيث قال: "عن أبي حازم، قال: شهدت حسينا حين مات الحسن، وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص وهو يقول: "تقدم فلولا السنة ما قدمتك، وسعيد أمير المدينة" قال أبو بكر: وقد كان بحضرته في ذلك الوقت خلق من المهاجرين، والأنصار، فلما لم ينكر أحد منهم ما قال: دل على أن ذلك كان عندهم حقا واللَّه أعلم، وليس في هذا الباب أعلى من هذا؛ لأن جنازة الحسن بن علي حضرها عوام الناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وغيرهم على ما يرى، واللَّه أعلم. قال أبو بكر: ودل حديث عمرو بن سلمة على ذلك".

(3)

وهو مذهب الحنفية، والمالكية.

ولمذهب الحنفية، ويُنظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 312). حيث قال: "وعلى هذا قال أصحابنا: لا يصلى على ميت غائب، وقال الشافعي: يصلى عليه استدلالًا بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهو غائب، ولا حجة له فيه لما بينا على أنه روي أن الأرض طويت له، ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره، ثم ما ذكره غير سديد؛ =

ص: 3075

وهَذِهِ مسألةٌ مهمةٌ جدًّا، وهي الصلاة على الغائب، فقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على النجاشيِّ

(1)

، فهل هذا تشريعٌ؟ يعني: هل صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شريعةٌ مستقرةٌ وحكمٌ ثابتٌ يقتدى به، فيُصلَّى على كل غائبٍ؟ أو أنَّ المسألة فيها تفصيلٌ؟

قَالَ بَعْضُ العلَماء: يُصلَّى على كلِّ غائب.

وَمِنَ العلمَاء مَنْ فَصَّل القولَ في ذلك، فقال: إنْ كان الغائب في بلدٍ لا يوجد فيها مسلمون يصلُّون عليه، فيصلَّى على الغائب كَمَا كان من النجاشي عندما صلَّى عليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإنْ كان في البلد الذي مات فيه مسلمون، وقاموا بالصلاة عليه، فإنه يُكْتفى بصلاتهم.

وَمِنَ العُلَمَاء مَنْ قال

(2)

: إنَّ صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على النجاشي كانت خاصةً به؛ لأنه لا بدَّ من مشاهدة الإمام لمن يصلي عليه، فيقولون: زويت

(3)

الأرض لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث المتفق عليه: "أنها زويت له الأرض، فرأى مشارقها ومغاربها"

(4)

، يقول العلماء: زويت له الأرض فرآه، وبعضهم يقول: ربما كان رآه على سرير أو نحو ذلك.

= لأن الميت إن كان في جانب المشرق فإن استقبل القبلة في الصلاة عليه كان الميت خلفه، وإن استقبل الميت كان مصليًّا لغير القبلة وكل ذلك لا يجوز".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير" للدردير (1/ 427). حيث قال: " (قوله ولا يصلى على غائب)؛ أي: يكره، وأما صلاته عليه الصلاة والسلام وهو بالمدينة على النجاشي لما بلغه موته بالحبشة فذاك من خصوصياته أو أن صلاته لم تكن على غائب لرفعه له صلى الله عليه وسلم حتى رآه فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون".

(1)

أخرجه البخاري (1334)، ومسلم (952)، عن جابر رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعًا".

(2)

وهم المالكية والحنفية، وسيأتي تفصيله.

(3)

زويت: جمعت. وزويت الشيء: جمعته وقبضته. انظر: "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (1/ 3).

(4)

أخرجه مسلم (2889)، عن ثوبان، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. . . . ".

ص: 3076

ولا شكَّ أنه ليس هناك دليلٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك، لكن هذه استنباطات فَهِمَهَا بعض العلماء؛ ولذلك قال بعض العلماء: يصلى على الغائب.

أقول: ما دَامَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدْ صلَّى على النجاشي ومعه المؤمنون، ولم يقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو الذي يشرع الأحكام ويُبيِّنها عن اللَّه سبحانه وتعالى بأن ذلك خاص، والوقت كان وقتَ بيانٍ، القاعدة الأصولية المعروفة تقول:"تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"

(1)

، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أَمَرَه اللَّه سبحانه وتعالى بأن يُبيِّن للناس ما نزل إليهم، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64].

إذًا، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُبيِّن، قال العلماء: لمَّا صلى على النجاشي وسكت، أصبح ذلك شرعًا يُعْمل، لكن ليس ذلك لازمًا، فلو وُجِدَ إنسانٌ من الصالحين، وَممَّن له مكانةٌ عظيمةٌ، ونريد أن يُصلَّى عليه وهو غائبٌ، فلا نرى مانعًا من ذلك، واللَّه أعلم.

* قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلَّى عَلَى الغَائِبِ

(2)

لِحَدِيثِ النَّجَاشِيِّ

(3)

).

(1)

يُنظر: "روضة الناظر" لابن قدامة (1/ 534). حيث قال: "ولا خلاف في: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة".

(2)

وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 27). حيث قال: " (ويصلى على الغائب عن البلد) وإن قربت المسافة ولم يكن في جهة القبلة خلافًا لأبي حنيفة ومالك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "أخبر الناس وهو بالمدينة بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه وهو بالحبشة". رواه الشيخان. وذلك في رجب سنة تسع. قال ابن القطان: لكنها لا تسقط الفرض عن الحاضرين. قال الزركشي: ووجهه أن فيه ازدراء وتهاونًا بالميت، لكن الأقرب السقوط لحصول الفرض، وظاهره أن محله إذا علم الحاضرون ولا بد أن يعلم أو يظن أنه قد غسل وإلا لم تصح".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 121). حيث قال: " (ويصلي إمام) أعظم (وغيره على غائب عن البلد، ولو كان دون مسافة قصر، أو) كان (في غير جهة القبلة) أي: قبلة المصلي (بالنية إلى شهر) كالصلاة على القبر، لكن يكون الشهر هنا من موته. . . ".

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 3077

وحديث النجاشي متفق عليه.

* قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّجَاشِيِّ وَحْدَهُ

(1)

).

ومن قال إنه خاص به، يطالب بالدليل. فما دليل الخصوصية؟

ومن أحسن من بحث هذه المسألة وفصل القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

-وأنا أشرت إلى طرف منه، وأذكر بعضًا من كلامه في هذا- أنه فصل القول في هذه المسألة. وأيضًا نقله عنه تلميذه ابن القيم -رحمهما اللَّه تعالى جميعًا-، في كتابه زاد المعاد

(3)

. ذكر في ذلك التفريق بين أن يكون البلاد التي فيها الغائب فيها مسلمون هناك، فإن كان فيها

(1)

وهم الحنفية، والمالكية، وتقدم تفصيل مذاهبهم.

(2)

يُنظر: "المسائل والأجوبة" لابن تيمية (ص: 225) حيث قال: مسألة الصلاة على الغائب، وفيها للعلماء قولان مشهوران: أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه - عند أكثر أصحابه.

والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابن أبي موسى، وهو ثبت في نَقْلِ مذهبِ أحمد - ورجحناها في مذهبه.

ثم قال: ومن وجوب الصلاة على الغائب الذي لم يُصل عليه فقد أحسنَ فيما قال، ولعل قولَه أعدلُ الأقوال.

(3)

يُنظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 500 - 501). حيث قال: "لم يكن من هديه وسنته صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل ميت غائب. فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غيب، فلم يصل عليهم، وصح عنه:

"أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت"، فاختلف الناس في ذلك على ثلاثة طرق، أحدها: أن هذا تشريع منه، وسنة للأمة الصلاة على كل غائب، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وقال أبو حنيفة، ومالك: هذا خاص به، وليس ذلك لغيره، قال أصحابهما: ومن الجائز أن يكون رفع له سريره، فصلى عليه وهو يرى صلاته على الحاضر المشاهد، وإن كان على مسافة من البعد، والصحابة وإن لم يروه، فهم تابعون للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. قالوا: ويدل على هذا، أنه لم ينقل عنه أنه كان يصلي على كل الغائبين غيره، وتركه سنة، كما أن فعله سنة، ولا سبيل لأحد بعده إلى أن يعاين سرير الميت من المسافة البعيدة، ويرفع له حتى يصلي عليه، فعلم أن ذلك مخصوص به. . . ".

ص: 3078

مسلمون اكتفي بالصلاة عليه هناك، وإن لم يكن فيها يصلى عليه. لكن المسألة ليس فيها دليل على عدم الجواز.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُصَلَّى عَلَى بَعْضِ الجَسَدِ؟ وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى أَكْثَرِهِ لِتَنَاوُلِ اسْمِ المَيِّتِ لَهُ

(1)

، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُصَلَّى عَلَى

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (2/ 112). حيث قال: "وإذا وجد أطراف ميت أو بعض بدنه لم يغسل ولم يصل عليه بل يدفن إلا إن وجد أكثر من النصف من بدنه فيغسل ويصلى عليه، أو وجد النصف ومعه الرأس فحينئذ يصلى عليه. ولو كان مشقوقًا نصفين طولًا فوجد أحد الشقين لم يغسل ولم يصل عليه".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 141). حيث قال: "أي أن الإنسان إذا وجد منه دون الجل من الجسد فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه. والجسد ما عدا الرأس، فإذا وجد نصف جسده ورأسه لم يغسل ولم يصل عليه، وهذا موافق لظاهر المدونة والرسالة، وليس مراده جل الذات؛ لأنه يقتضي غسل ما ذكر، وكلام المؤلف يقتضي أنه يصلى على ما فوق نصف الجسد ودون ثلثيه، ولكن نص ابن القاسم على ما نقله شارح الرسالة ابن عمر، يفيد أنه إنما يصلى على ثلثي الجسد أو أكثر، ولا يصلى على ما نقص عن ثلثي الجسد وزاد على نصفه ولو كان معه الرأس، وإنما صلي على ثلثيه ولم يصل على ما دون ذلك؛ لأن الصلاة لا تجوز على غائب عند مالك وأصحابه واستخفوا إذا غاب اليسير منه الثلث فدون الصلاة عليه أي: لأنه تبع لثلثيه أو أكثر، وفي تعليل تت نظر يعلم بالتأمل".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 32). حيث قال: " (ولو وجد عضو مسلم علم موته) بغير شهادة، ولو كان الجزء ظفرًا أو شعرًا (صلي عليه) بقصد الجملة بعد غسله وجوبًا كالميت الحاضر؛ لأنها في الحقيقة صلاة على غائب. نعم من صلى على هذا الميت دون هذا العضو نوى الصلاة على العضو وحده كما جزم به ابن شهبة".

لمذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 124). حيث قال: " (وإن وجد بعض ميت تحقيقًا) أي: يقينا أنه من ميت (غير شعر وظفر وسن، غسل وكفن، وصلي عليه، ودفن وجوبًا) لأن أبا أيوب صلى على رجل قاله أحمد، وصلى عمر على عظام بالشام، وصلى أبو عبيدة على رؤوس بعد تغسيلها، وتكفينها رواها عبد اللَّه بن أحمد وقال الشافعي: ألقى طائر يدا بمكة من وقعة الجمل، عرفت =

ص: 3079

أَقَلِّهِ، قَالَ: لِأَنَّ حُرْمَةَ البَعْضِ كَحُرْمَةِ الكُلِّ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ البَعْضُ مَحَلَّ الحَيَاةِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُجِيزُ الصَّلَاةَ عَلَى الغَائِبِ

(1)

).

وهذه مسألة أخرى؛ لأنه قد يقطع الجسد، قد يأتي سيف على يد إنسان فيقطعها، وقد حدث هذا لبعض الصحابة الذين كانوا يحملون اللواء، كجعفر وغيره، فقد يقطع من الإنسان أجزاء، فهذه الأجزاء هل يصلى عليها؟ وهل هناك فرق بين أن يكون الباقي من جسد المؤمن أكثره أو لا؟ بمعنى إن بقي من الجسد أكثره فعل به كذا، وإن لم يكن فلا؟ هذه مسألة فيها تفصيل. وقد حدث مثل هذا فيما وقع من حرب بين علي رضي الله عنه وبين الخارجين عليه، وقد صلى على بعض الأطراف. ويحكي الفقهاء -ولست متأكدًا من صحة سندها- أن طيرًا حمل يدًا فأوقعها في مكة من تلك الحروب التي حصلت، فعرف صاحبها بخاتمه الذي كان يلبسه في أصبعه، فصلي عليه

(2)

.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

= بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فصلى عليها أهل مكة، واستثنى الشعر، والظفر والسن لأنه لا حياة فيها. . . ".

(1)

وهم الشافعية والحنابلة، وقد تقدَّم بيانه.

(2)

هذا الأثر ذكره الشافعي بنحوه بلاغا في "الأم"(1/ 306). حيث قال: "وبلغنا أن طائرًا ألقى يدًا بمكة في وقعة الجمل فعرفوها بالخاتم فغسلوها، وصلوا عليها".

قال ابن الملقن في "البدر المنير"(5/ 378): "وذكره الزبير بن بكار في "الأنساب" وقال: "كان الطائر نسرًا". قلت: وقال ابن قتيبة: "كان (عقابًا)" وتقدم أنه ألقاها بمكة، وقال غيره: ألقاها باليمامة. وقال أبو موسى الأصبهاني وغيره: ألقاها بالمدينة، وكانت وقعة الجمل في جمادي الأولى سنة ست وثلاثين، وبعدها صفين سنة سبع وثلاثين، وكلاهما في خلافة علي رضي الله عنه".

ص: 3080

(الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ)

هنا يشرع المصنف رحمه الله في ذكر مسألة جديدة: وهي وقت الصلاة على الجنازة.

هل يُصلى على الجنازة في كل وقت؟ أشرنا فيما مضى إلى أنه يُشترط في صلاة الجنازة ما يُشترط في الصلوات المكتوبة عدا دخول الوقت؛ فإن صلاة الجنازة لا يُشترط لها وقت.

لكن توجد أوقات نُهي عن الصلاة فيها؛ فهل تدخل فيها صلاة الجنازة؟ وهي الأوقات التي ورد فيها نصٌّ في حديث عقبة بن عامر الذي أخرجه مسلم

(1)

وغيره

(2)

أنه قال ثلاثُ ساعاتٍ نهانا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ نُصلِّيَ فيهنَّ وأنْ نقبُرَ فيهنَّ موتانا: "حينَ تطلُعُ الشَّمسُ بازغةً حتَّى ترتفعَ"؛ يعني: حين تطلع الشمس ثم ترتفع قيد رمح، "وحينَ يقومُ قائمُ الظَّهيرةَ"؛ أي: حين تكون الشمس في كبد السماء

(3)

وقت الزوال، "وحينَ تَضيَّف الشَّمسُ للغروبِ" أي: تميل إلى جهة الغروب.

هذه الأوقات كره كثير من العلماء أن يُصلى على الجنازة فيها.

ومنهم من قال: بل يُصلى في هذه الأوقات؛ لأن صلاة الجنازة كالصلوات ذوات الأسباب، فيُصلى عليها في كل الأوقات، وإن كانت من أوقات النهي.

(1)

أخرجه مسلم (831).

(2)

أخرجه أبو داود (3192)، والترمذي (1030)، والنسائي (560).

(3)

كبد السماء: ما استقبلك من وسطها. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (10/ 74).

ص: 3081

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الوَقْتِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى الجَنَازَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فِي الأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَهِيَ: وَقْتُ الغُرُوبِ وَالطُّلُوعٍ وَزَوَالِ الشَّمْسِ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: "ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا، وَأَنْ نَقْبُرَ مَوْتَانَا". الحَدِيثَ

(1)

. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُصَلَّى فِي الغُرُوبِ).

هاهنا أورد المصنف طرفًا من الحديث، كأنه يكتفي ببعضه عن ذكر كله، وقد أوردناه تامًّا.

* قول: (وَالطُّلُوعِ فَقَطْ، وَيُصَلَّى بَعْدَ العَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ)

(2)

.

والعلة في هذا: -كما جاءت في الحديث- أن الشمس حين تطلع فإنها تطلع بين قرني شيطان

(3)

؛ وأنها تغرب حين تغرب بين قرني شيطان فيسجد لها الكفار حينئذ.

وربما قد رأى الإخوة الذين سافروا إلى بلاد كبلاد الهند أن

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 187)؛ حيث قال: " (قوله: وإلا جنازة وسجود تلاوة) هذا استثناء من وقتي الكراهة؛ أي: من مجموع قوله وكره بعد فجر وفرض عصر (قوله: لا فيهما فيكرهان على المعتمد)؛ فلو صلى على الجنازة في وقت الكراهة فإنها لا تعاد بحال، بخلاف ما لو صلى عليها في وقت المنع فقال ابن القاسم: إنها تعاد ما لم تدفن؛ أي: ما لم توضع في القبر وإن لم يسو عليها التراب. وقال أشهب: لا تعاد وإن لم تدفن. وهذا مع عدم الخوف عليها لو أخرت لوقت الجواز".

(3)

قرني شيطان: فيه أقوال؛ أحدها: أن قرني الشيطان ناحيتا رأسه، وقيل: قرناه جمعاه اللذان يغريهما بإضلال البشر يقال: هؤلاء قرن من الناس. ويقال: معنى القرن الاقتران يريد أنه يظهر مع الشمس مقارنًا لها. انظر: "غريب الحديث"، للخطابي (1/ 725).

ص: 3082

المشركين والوثنيين هناك يتحيَّنون لعبادتهم وقت طلوع الشمس ووقت غروبها.

* قوله: (وَبَعْدَ الصُّبْحِ مَا لَمْ يَكُنِ الإِسْفَارُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى الجَنَازَةِ فِي الأَوْقَاتِ الخَمْسَةِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ

(1)

، وَهُوَ قِيَاسُ أَبِي حَنِيفَةَ

(2)

. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى عَلَى الجَنَازَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ

(3)

؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ خَارِجٌ عَلَى النَّوَافِلِ لَا عَلَى السُّنَنِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ).

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (2/ 345)؛ حيث قال:"وكان عطاء، والنخعي، والأوزاعي يكرهون الصلاة على الجنائز في وقت تكره الصلاة فيها".

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 523) عن ابن عمر، قال يوم وضعت جنازة رافع بن خديج ببقيع الغرقد:"يريدون أن يصلوا، عليها بعد الصبح قبل أن تطلع الشمس" فصاح بالناس ابنُ عمر: "ألا تتقون اللَّه إنه لا يصلح لكم أن تصلوا على الجنائز بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا بعد العصر حتى تغيب الشمس؛ فانتهى الناس فلم يصلوا عليها حتى طلعت الشمس".

(2)

يُنظر: "بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 316 - 317)؛ حيث قال:"تكره الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وغروبها، ونصف النهار لما روينا من حديث عقبة بن عامر أنه قال: "ثلاث ساعات نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا" والمرأد من قوله: "أن نقبر فيها موتانا" الصلاة على الجنازة دون الدفن؛ إذ لا بأس بالدفن في هذه الأوقات فإن صلوا في أحد هذه الأوقات لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن صلاة الجنازة لا يتعين لأدائها وقت؛ ففي أي وقت صليت وقعت أداء لا قضاء، ومعنى الكراهة في هذه الأوقات يمنع جواز القضاء فيها دون الأداء". وانظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 85).

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 311)؛ حيث قال:" (و) صلاة (كسوف) واستسقاء وطواف (وتحية) وسنة وضوء (وسجدة شكر) وتلاوة كما ذكره في "المحرر"؛ لأن بعضها له سبب متقدم كركعتي الوضوء وتحية المسجد، وبعضها له سبب مقارن كركعتي الطواف وصلاة الجنازة وصلاة الاستسقاء والكسوف؛ ولأن نحو الكسوف والتحية معرض للفوات.

وانظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (1/ 385)؛ حيث قال: "والمشهور في المذهب أن =

ص: 3083

معلوم أن الشافعية انفردوا بهذه المسألة، وليس هذا فقط في صلاة الجنازة، وقد رجَّحنا مذهب الشافعية، ورجحه أيضًا المحققون من العلماء

(1)

: أن كل صلاة ذات سبب غير القرانة تُصلى في أي وقت؛ كتحية المسجد.

أما الصلوات المكتوبة فإنها تُؤدى في أي وقت من الأوقات؛ لأن النص ورد بذلك، قال عليه الصلاة والسلام:"مَن نام عن صلاةٍ أو نسِيها فلْيُصلِّها متى ذكَرها، فإنه لا كفارة لها إلا ذلك"

(2)

.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

=الكراهة فيها للتنزيه (إلا لسبب) غير متأخر متقدمًا كالجنازة والفائتة وسجدة التلاوة والشكر، أو مقارنًا ككسوف واستسقاء وإعادة صلاة جماعة ومتيمم، وأشار إلى بعض أمثلة ذلك بقوله (كفائتة) ولو نافلة تقضى لخبر:"فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها". وانظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (3/ 48).

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 452)؛ حيث قال:"و (لا) يجوز الصلاة على جنازة (في الأوقات الثلاثة) الباقية؛ لحديث عقبة بن عامر وتقدم وذكره للصلاة مقرونًا بالدفن يدل على إرادة صلاة الجنازة، ولأنها صلاة من غير الخمس أشبهت النوافل (إلا أن يخاف عليها) فتجوز مطلقًا للضرورة". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 82).

(1)

رواية عن الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (2/ 82)؛ حيث قال: "وقال أبو الخطاب، عن أحمد، رواية أخرى: إن الصلاة على الجنازة تجوز في جميع أوقات النهي. وهذا مذهب الشافعي؛ لأنها صلاة تباح بعد الصبح والعصر، فأبيحت في سائر الأوقات، كالفرائض.

وهو اختيار ابن تيمية: يُنظر: "مجموع الفتاوى"(23/ 191 وما بعدها)؛ حيث قال: "وأما سائر ذوات الأسباب: مثل تحية المسجد. . . ومثل الصلاة على الجنازة في الأوقات الثلاثة؛ فاختلف كلامه فيها والمشهور عنه النهي وهو اختيار كثير من أصحابه. . . والرواية الثانية: جواز جميع ذوات الأسباب وهي اختيار أبي الخطاب وهذا مذهب الشافعي وهو الراجح في هذا الباب لوجوه. . . ".

(2)

أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684) ولفظه: عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ".

ص: 3084

‌(الفَصْلُ الرَّابِعُ فِي مَوَاضِعِ الصَّلَاة

وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي المَسْجِدِ، فَأَجَازَهَا العُلَمَاءُ، وَكَرِهَهَا بَعْضُهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

، وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ)

(2)

.

كره الحنفية والمالكية صلاة الجنازة في المسجد على تفصيلٍ في مذهبهم، وأجازها الشافعية

(3)

والحنابلة

(4)

دون كراهة.

(1)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 224 - 225)؛ حيث قال: " (قوله: وقيل: تنزيهًا) رجحه المحقق ابن الهمام وأطال؛ ووافقه تلميذه العلامة ابن أمير حاج، وخالفه تلميذه الثاني الحافظ الزيني قاسم في فتواه برسالة خاصة، فرجح القول الأول لإطلاق المنع في قول محمد في "موطئه": لا يصلى على جنازة في مسجد. وقال الإمام الطحاوي: النهي عنها وكراهيتها قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أيضًا وأطال. . . (قوله: في مسجد جماعة)؛ أي: المسجد الجامع، ومسجد المحلة قهستاني". وانظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 242).

(2)

يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير (1/ 569)؛ حيث قال:" (و) كره (الصلاة عليها فيه)؛ أي: في المسجد ولو كانت هي خارجة".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 50)؛ حيث قال:" (وتجوز) بلا كراهة، بل يستحب كما في المجموع (الصلاة عليه)؛ أي: الميت (في المسجد) إن لم يخش تلويثه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه على سهل وسهيل ابني بيضاء؛ فالصلاة عليه في المسجد أفضل لذلك؛ ولأنه أشرف. قال في "زيادة الروضة": وأما حديث: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له"؛ فضعيف صرح بضعفه أحمد وابن المنذر والبيهقي، وأيضًا الرواية المشهورة: "فلا شيء عليه" أما إذا خيف منه تلويث المسجد فلا يجوز إدخاله.

(4)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 125)؛ حيث قال:" (وتباح الصلاة عليه) أي: الميت (في مسجد، إن أمن تلويثه) قال الآجري: السنة أن يصلى عليه فيه، لقول عائشة: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء في المسجد". رواه مسلم، وصلى على أبي بكر وعمر، فيه رواه سعيد، ولأنها صلاة فلم تكره فيه كسائر الصلوات. (وإلا) أي: وإن لم يؤمن تلويث المسجد (حرم) أن يصلى على الميت فيه، خشية تنجيسه".

ص: 3085

* قوله: (وَقَدْ رُوِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ

(1)

).

يعني: أنه قد رُوي نصٌّ عن الإمام مالك أنه قال بكراهتها.

* قوله: (وَتَحْقِيقُهُ: إِذَا كَانَتِ الجَنَازَةُ خَارِجَ المَسْجِدِ وَالنَّاسُ فِي المَسْجِدِ).

إذا كانت الجنازة خارج المسجد، ووُجد أُناس يصلون في داخل المسجد، فصلوا عليها، جازت الصلاة

(2)

.

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ، فَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهَا أَمَرَتْ أَنْ يُمَرَّ عَلَيْهَا بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي المَسْجِدِ حِينَ مَاتَ لِتَدْعُوَ لَهُ)

(3)

.

المؤلف ذكر رواية مالك ولم يأتِ برواية مسلم

(4)

. وقد ذكرنا الاثنتين معًا: رواية مالك التي جاء في أولها: "طلب عائشة أن يُمر عليها بجنازةِ سعد بن أبي وقاص"، ورواية مسلم بدأت لما أنكر الناس:"ما أسرع ما نسي الناس"

(5)

.

(1)

يُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (1/ 254)؛ حيث قال:"قال مالك: أكره أن توضع الجنازة في المسجد، فإن وضعت قرب المسجد للصلاة عليها فلا بأس أن يصلي من المسجد عليها بصلاة الإمام الذي يصلي عليها إذا ضاق خارج المسجد بأهله".

(2)

يُنظر: "الشرح الصغير"، للدردير (1/ 569)؛ حيث قال:" (و) كره (الصلاة عليها فيه)؛ أي: في المسجد ولو كانت هي خارجة".

(3)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 229)(22) عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم "أنها أمرت أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد، حين مات، لتدعو له. فأنكر ذلك الناس عليها. فقالت عائشة: ما أسرع الناس ما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد". وصحح الألباني في "التعليقات الحسان"(3054).

(4)

أخرجه مسلم (973) عن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير: "أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد".

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 3086

وسعد بن أبي وقاص لا يخفى على أحد، فهو أحد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو خال النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، وأحد المبشرين بالجنة

(2)

، وأول من رمى في سبيل اللَّه بسهم

(3)

، ولم يفدِ النبيُّ عليه الصلاة والسلام أحدًا بأبويه إلا سعدًا، فقال له يوم أحد:"ارم سعد، فداك أبي وأمي! "

(4)

، وهو من أبلى بلاءً حسنًا في الإسلام، فرضي اللَّه عنه وعن بقية أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ:"مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ، مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَهْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلَّا فِي المَسْجِدِ"

(5)

).

على سُهيل بن بيضاء هذا هو المعروف

(6)

. وهم إخوة ثلاثة: سَهل وسُهيل وصفوان، والذي ورد في الحديث عنه هو سُهيل. وفي بعض الروايات:"على سُهيلٍ وأخيه"

(7)

.

(1)

أخرجه الترمذي (3752) عن جابر بن عبد اللَّه، قال: أقبل سعد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا خالي فليرني امرؤ خاله". وصححه الألباني في "المشكاة"(6127).

(2)

أخرجه الترمذي (3747) عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". وصححه الألباني في "المشكاة"(6110).

(3)

أخرجه البخاري (6453)، ومسلم (2966/ 12) عن سعد، قال:"إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل اللَّه، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة، وهذا السمر، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة، ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، خبت إذن وضل سعيي! ".

(4)

أخرجه البخاري (2905)، ومسلم (2411) عن علي قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفدي رجلًا بعد سعد سمعته يقول: "ارم فداك أبي وأمي".

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

يُنظر ترجمته في: "الإصابة في تمييز الصحابة"، لابن حجر (3/ 162).

(7)

أخرجه مسلم (973/ 101).

ص: 3087

* قوله: (وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ").

هذه رواية أبي داود

(1)

، وعند ابن ماجه

(2)

: "فليس له شيء"، وكلا الروايتين تتفقان في المعنى، فما معنى أن لا شيء له؟

قد يكون معناه: لا شيء له من الأجر؛ لأنه جاء في الأحاديث أن: "من صلّى على جنازة فله قيراط، ومن تبع الجنازة حتى توضع فله قيراطان"

(3)

.

وأجاب أهل العلم عن هذا الحديث بأنه ضعيف، وتأوله بعضهم بأنه لا شيء له: أي لا شيء عليه، كما في قول اللَّه تعالى:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]؛ أي: فعليها

(4)

. فكذلك من صلّى على جنازةٍ في المسجد فلا شيء له: أي فلا شيء عليه

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود (3191)، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه ابن ماجه (1517)، وصححه الألباني. انظر:"السلسلة الصحيحة" للألباني (2351).

(3)

أخرجه مسلم (945).

(4)

قوله: {فَسَلَامٌ لَكَ} ؛ أي: عليك. انظر: "الكشف والبيان"، للثعلبي (6/ 85).

(5)

يُنظر: "شرح النووي على مسلم"(7/ 40)؛ حيث قال: "وأجابوا عن حديث "سنن أبي داود" بأجوبة:

أحدها: أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به. قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة وهو ضعيف.

والثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من "سنن أبي داود": "ومن صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه". ولا حجة لهم حينئذ فيه.

الثالث: أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه قال: "فلا شيء له" لوجب تأويله على فلا شيء عليه ليجمع بين الروايتين وبين هذا الحديث وحديث سهيل بن بيضاء، وقد جاء له بمعنى عليه كقوله تعالى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} .

الرابع: أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه".

ص: 3088

وإذا كان لا شيء عليه فالصلاة على الجنازة في المسجد جائزة إذن، ولا تختلف عن الصلاة خارجه.

* قوله: (وَحَدِيثُ عَائِشَةَ ثَابِتٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ ثَابِتٍ، أَوْ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى ثُبُوتِهِ).

للمصنف رحمه الله مصطلح اضطرد استعماله، وقد أشرنا إليه في بداية دراسة هذا الكتاب، هو أنه إذا قال: حديث ثابت: فيعني به ما كان في "الصحيحين" أو في أحدهما، وهذا ثابتٌ في "صحيح مسلم". إذن هو سائرٌ على قاعدة المؤلف التي رسمها في بداية هذا الكتاب.

* قوله: (لَكِنَّ إِنْكَارَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِهَارِ العَمَلِ بِخِلَافِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ).

لكن يُعترض على المؤلف بأنه قد صُلِّي على أبي بكر

(1)

وعلى عمر

(2)

رضي الله عنهما في المسجد ولم يُنكر ذلك أحد، وكان ذلك بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان من بين الذين صلَّوْا أبو هريرة

(3)

، وهو الذي روى

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 526). عن هشام بن عروة قال: "رأى أبي الناس يخرجون من المسجد ليصلوا على جنازة، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ ما صلي على أبي بكر إلا في المسجد". والحديث صحيح. يُنظر: "نصب الراية"، للزيلعي (2/ 277).

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 86) عن نافع، عن ابن عمر:"أن عمر رضي الله عنه صلي عليه في المسجد وصلى عليه صهيب". قال الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 277): "أخرج عن عبيد اللَّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه صلي عليه في المسجد، وصلى عليه صهيب، انتهى. قال النووي في "الخلاصة": "سنده صحيح".

(3)

قال البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(5/ 320) في إثبات صلاة أبي هريرة الجنازة على أبي بكر وعمر في المسجد: "ولو كان عند أبي هريرة نسخ ما روته عائشة لذكره يوم صلى على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في المسجد، أو يوم صلى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد، أو ذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر".

ص: 3089

هذا الحديث ولم ينكر ذلك. ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم إذا كان عند أحدهم علمٌ لا يخفيه، وإنما يُظهره ويفشيه.

* قوله: (وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ بُرُوزُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُصَلَّى لِصَلَاتِهِ عَلَى النَّجَاشِيِّ).

وهو ثابت في "الصحيحين"

(1)

، وقد سبق ذكره في حكم الصلاة على الغائب

(2)

، وبروزه: يعني: خروجه عليه الصلاة والسلام من المسجد وصلاته على النجاشي خارجه.

(1)

أخرجه البخاري (1245)، ومسلم (951) عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه خرج إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربعًا".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (1/ 312)؛ حيث قال:"وعلى هذا قال أصحابنا: لا يصلى على ميت غائب، وقال الشافعي: يصلى عليه استدلالًا بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهو غائب، ولا حجة له فيه لما بينَّا على أنه روي أن الأرض طويت له، ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره، ثم ما ذكره غير سديد؛ لأن الميت إن كان في جانب المشرق فإن استقبل القبلة في الصلاة عليه كان الميت خلفه، وإن استقبل الميت كان مصليًا لغير القبلة وكل ذلك لا يجوز".

ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 427)؛ حيث قال: " (قوله: ولا يصلى على غائب)؛ أي: يكره، وأما صلاته عليه الصلاة والسلام وهو بالمدينة على النجاشي لما بلغه موته بالحبشة فذاك من خصوصياته أو أن صلاته لم تكن على غائب لرفعه له صلى الله عليه وسلم حتى رآه فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 27)؛ حيث قال:" (ويصلى على الغائب عن البلد) وإن قربت المسافة ولم يكن في جهة القبلة خلافًا لأبي حنيفة ومالك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر الناس وهو بالمدينة بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه وهو بالحبشة. رواه الشيخان. وذلك في رجب سنة تسع. قال ابن القطان: لكنها لا تسقط الفرض عن الحاضرين. قال الزركشي: ووجهه أن فيه ازدراء وتهاونًا بالميت، لكن الأقرب السقوط لحصول الفرض، وظاهره أن محله إذا علم الحاضرون ولا بد أن يعلم أو يظن أنه قد غسل وإلا لم تصح".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 121)؛ حيث قال:" (ويصلي إمام) أعظم (وغيره على غائب عن البلد، ولو كان دون مسافة قصر، أو) كان (في غير جهة القبلة) أي: قبلة المصلي (بالنية إلى شهر) كالصلاة على القبر، لكن يكون الشهر هنا من موته. . . ".

ص: 3090

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا"

(1)

فأي مكان صُلِّي فيه عدا الأماكن السبعة التي مُنع أو كُرهت الصلاة فيها فإنه يُصلَّى فيها.

* قوله: (وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ سَبَبَ المَنْعِ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ مَيِّتَ بَنِي آدَمَ مَيْتَةٌ وفِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ المَيْتَةِ شَرْعِيٌّ، وَلَا يَثْبُتُ لِابْنِ آدمَ حُكْمُ المَيْتَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ).

وهذا كلامٌ ضعيف جدًّا؛ لأن المسلم لا ينجُس

(2)

، كما جاء في الحديث الصحيح؛ إلى جانب أنه لا دليل شرعيٌّ على كون ميت ابن آدم له حكم الميتة، فميت ابن آدم ليس بنجس

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521).

(2)

جزء من حديث أخرجه البخاري (283)، ومسلم (371).

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار"، للموصلي (1/ 15)؛ حيث قال:"كالآدمي الميت إذا وقع في الماء ينجسه؛ لأنه تنجس بالموت. وإن وقع بعد الغسل فكذلك إن كان كافرًا، وإن كان مسلمًا لا ينجسه؛ لأنه لما حكم بجواز الصلاة على المسلم حكم بطهارته ولا كذلك الكافر فافترقا".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 53 - 54)؛ حيث قال:" (أو) كان (آدميًّا) ضعيف (والأظهر) عند ابن رشد وغيره كاللخمي والمازري وعياض وغيرهم وهو المعتمد الذي تجب به الفتوى (طهارته) ولو كافرًا على التحقيق، (و) النجس (ما أبين)؛ أي: انفصل حقيقة أو حكمًا بأن تعلق بيسير لحم أو جلد بحيث لا يعود لهيئته (من) حيوان نجس الميتة (حي وميت) الواو بمعنى أو فالمنفصل من الآدمي مطلقًا طاهر على المعتمد".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 231)؛ حيث قال:"أما الآدمي فإنه لا ينجس بالموت على الأظهر لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وقضية التكريم ألا يحكم بنجاسته بالموت وسواء المسلم وغيره. وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فالمراد به نجاسة الاعتقاد أو اجتنابهم كالنجس لا نجاسة الأبدان".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 193)؛ حيث قال:" (ولا ينجس الآدمي ولا طرفه، ولا أجزاؤه) كلحمه وعظمه وعصبه (ولا مشيمته) بوزن فعيلة - كيس الولد (ولو كافرًا بموته) لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم لا ينجس" متفق عليه من حديث أبي هريرة".

ص: 3091

* قوله: (وَكَرِهَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةَ عَلَى الجَنَائِزِ فِي المَقَابِرِ)

(1)

.

هذه مسألة مهمة، وبنبغي أن يُفرَّق بين أمرين:

- بين أن تُصلِّي على الجنازة في المقبرة.

- وبين أن تُتَّخذ المقبرة مكانًا للصلاة.

فالمسألتان مختلفتان، والأمر خطير، ويقع فيه كثير من المسلمين.

أما الصلاة على الجنازة في المقبرة: فقد سبق الكلام في هذه

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 90)؛ حيث قال:"وإن دفن الميت ولم يصل عليه صلى على قبره)؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على قبر امرأة من الأنصار (ويصلى عليه قبل أن يفسخ) والمعتبر في معرفة ذلك أكبر الرأي هو الصحيح لاختلاف الحال والزمان والمكان".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير (1/ 427)؛ حيث قال:" (ولا يصلى على قبر)؛ أي: يكره على الأوجه (إلا أن يدفن بغيرها)؛ أي: بغير صلاة فيصلى على القبر وجوبًا، ولا يخرج إن خيف عليه التغير وإلا أخرج على المعتمد، ومحل الصلاة على القبر ما لم يطل حتى يظن فناؤه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 28)؛ حيث قال: " (وتصح بعده)؛ أي: الدفن للاتباع لخبر الصحيحين بشرط ألا يتقدم على القبر. . . ويسقط الفرض بالصلاة على القبر على الصحيح، وإلى متى يصلى عليه؟ فيه أوجه:

أحدها: أبدًا، فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة فمن بعدهم إلى اليوم. . .

ثانيها: إلى ثلاثة أيام دون ما بعدها، وبه قال أبو حنيفة.

ثالثها: إلى شهر وبه قال أحمد.

رابعها: ما بقي منه شيء في القبر فإن انمحقت أجزاؤه لم يصل عليه، وإن شك في الانمحاق فالأصل البقاء.

خامسها: يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه يوم موته".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (1/ 890)؛ حيث قال:" (ولمن فاتته) صلاة الجنازة لعذر أو غيره الصلاة استحبابًا (ولو جماعة قبل دفن) الميت (وبعده، فيصلي عليه)؛ أي: الميت (بقبره)؛ أي: على قبره، جاعلًا له (بين يديه) كالإمام، لحديث أبي هريرة: "أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابًّا. . . ". قال أحمد: ومن يشك في الصلاة على القبر؟ روي عن النبى صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان. (إلى شهر من دفنه، لا) من (موته) ".

ص: 3092

المسألة وتفصيل القول فيها، وسبق ذكر المرأة التي طلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يُخبروه إذا ماتت، فأُخرجت جنازتها ليلًا، فلم يُوقظوا رسول اللَّه تأدبًا معه عليه الصلاة والسلام وخشية إيذائه؛ فلما أصبح أخبروه بالذي كان من شأنها، فأنكر عليهم وقال:"ألم أقل لكم آذنوني؟ " فاعتذروا له بأنهم كرهوا أن يوقظوه ويخرجوه ليلًا. فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى صف بالناس على قبرها

(1)

.

فالحديث صحيح وثابت، ولقد استدل به من أجاز بناء المساجد على المقابر، وكذلك قد استدل بعمومِ حديث:"جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا"

(2)

.

إذن ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى على جنازة في المقبرة

(3)

، لكن العلماء فصَّلوا القول -كما مر ذكره-.

فمنهم من قال: لا يُصلِّي على من لم يُدرك الصلاة عليه في المقبرة إلا الولي. وهو مذهب الحنفية

(4)

كما سبق ذكره.

(1)

أخرجه النسائي (1969) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال: اشتكت امرأة بالعوالي مسكينة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسألهم عنها، وقال:"إن ماتت فلا تدفنوها حتى أصلي عليها"، فتوفيت، فجاؤوا بها إلى المدينة بعد العتمة، فوجدوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد نام، فكرهوا أن يوقظوه، فصلوا عليها ودفنوها ببقيع الغرقد، فلما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاؤوا فسألهم عنها، فقالوا: قد دفنت يا رسول اللَّه، وقد جئناك فوجدناك نائمًا فكرهنا أن نوقظك، قال:"فانطلقوا"، فانطلق يمشي ومشوا معه حتى أروه قبرها، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصفوا وراءه، فصلى عليها وكبر أربعًا. وصححه الألباني.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم.

(4)

يُنظر: "الدر المختار"، للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(2/ 222 - 223)، حيث قال:" (فإن صلى غيره)؛ أي: الولي (ممن ليس له حق التقديم) على الولي (ولم يتابعه) الولي (أعاد الولي) ولو على قبره إن شاء لأجل حقه لا لإسقاط الفرض؛ ولذا قلنا: ليس لمن صلى عليها أن يعيد مع الولي لأن تكرارها غير مشروع".

ص: 3093

ومنهم: من أجاز ذلك مطلقًا لكن قيدوه في يوم أو في ثلاثة

(1)

وبعضهم قال: أكثره شهر

(2)

؛ فلا مانع لمن فاتته الصلاة على الجنازة أن يُصلي في المقبرة.

لكن فرقٌ أن يُصلى على جنازة في المسجد قد قُبرت أو لم تُقبر بعد، وبين أن تُتَّخذ المقبرة مسجدًا يُصلَّى فيه

(3)

.

كيف ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد قال: "إنَّ من كانَ من قبلَكم كانوا يتَّخذونَ القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتَّخِذوا القبورَ مساجدَ فإنِّي أنْهاكم عن ذلِكَ"

(4)

. ثم قالت عائشة رضي الله عنها بعده: ولولا ذلك لأُبرز القبر، ولكنه خشي أن يُتخذ مسجدًا!

(5)

.

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لعن اللَّهُ اليهودَ والنصارى اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ"، ثم قالت عائشة رضي الله عنها: يحذرهم مثل الذي صنعوا

(6)

.

إذن؛ من أخطر الأمور أن يُبنى مكانٌ أو مسجد على مقبرة، أو أن

(1)

وهم الشافعية وقد تقدم.

(2)

وهم الحنابلة وقد تقدم.

(3)

يُنظر: "زاد المعاد"، لابن القيم (3/ 501)؛ حيث قال:"فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معًا لم يجز، ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز، ولا تصح الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجدًا أو أوقد عليه سراجًا؛ فهذا دين الإسلام الذي بعث اللَّه به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى".

(4)

جزء من حديث أخرجه مسلم (532) عن جندب البجلي: ". . . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".

(5)

الشارح رحمه الله أدخل حديثين في بعض، أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529) عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه:"لعن اللَّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا"، قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدًا.

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 3094

يُؤتى بقبرٍ فيوضع في المسجد، فلا يجوز أن تُتخذ المقابر مساجد

(1)

، ولا يجوز أن يُؤتى إلى موضعٍ فيه قبرٌ فيُبنى عليه مسجدٌ من المساجد، ولا يجوز أيضًا لأولئك الذين يترددون على المقابر فينطرحون بين القبور، ويتمرَّغون في ترابها، ويلجؤون إلى أصحابها، ويدَّعون أن عندهم من الصلاح والولاية ما يجعلهم واسطةً بينهم وبين اللَّه فيشفعون لهم، وهذا نوعٌ من الشرك، بل قد يصل الحال به إلى الشرك الأكبر المحبط للأعمال الموجب للخلود في النار إذا اعتقد الحيُّ بهذا الميت أنه ينفع ويضر.

ومعلوم أن الغلو في الأموات إنما أوقع أممًا قبلنا في الشرك، غلوا في الصالحين من موتاهم، حتى جعلوا لهم التصاوير والتماثيل، ثم انتهى بهم الأمر إلى أن عبدوهم من دون اللَّه.

فهؤلاء الذين يطوفون بالقبور، ويطلبون من أهلها الشفاعة، أو رفع الكرب، أو جلب النفع، أو دفع الضر، هم في الحقيقة جُهَّال؛ لأنه لا يُطلب النفع والضر إلا من الخالق المالك الذي لا ينازعه أحد في ملكه،

(1)

مذهب الحنفية الكراهة التحريمية، يُنظر:"كتاب الآثار"، للإمام محمد (2/ 190)؛ حيث قال:" (لا نرى أن يزداد على ما خرج من القبر، ونكره أن يجصص أو يطين أو يجعل عنده مسجدًا". ويُنظر: "النتف في الفتاوى للسغدي"(1/ 130).

مذهب المالكية، يُنظر:"الجامع لأحكام القرآن"، للقرطبي (10/ 380)؛ حيث قال:"قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد".

مذهب الشافعية، يُنظر:"الزواجر عن اقتراف الكبائر"، للهيتمي (1/ 144)، حيث قال:" (الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانًا والطواف بها واستلامها والصلاة إليها").

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 141)، حيث قال:" (و) يحرم (اتخاذ المسجد عليها) أي: القبور (وبينها لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن اللَّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد") متفق عليه. (وتتعين إزالتها) أي: المساجد، إذا وضعت على القبور، أو بينها (وفي كتاب "الهدي) النبوي" لابن قيم الجوزية (لو وضع المسجد والقبر معًا لم يجز ولم يصح الوقف ولا الصلاة) تغليبًا لجانب الحظر".

ص: 3095

القوي العزيز الذي لا يغالبه أحد على أمره، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهذا لا يكون إلا للَّه سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر: 40]؛ فهؤلاء الذين عُبدوا أو دُعوا من دون اللَّه لا قوة لهم، فلا هم خلقوا، ولا لهم ملك تام في السموات ولا في الأرض، بل ليس لهم ملك مشترك، فعلى أي شيء يعبدون ويسألون من دون اللَّه، بل قال اللَّه تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 191 - 195]؛ فحتى هذه الأشياء من دفع الضر عن أنفسهم وإجابة من يدعوهم، واستعمال آلاتهم من السمع والبصر لا يقدرون عليها، فكيف يتوجه لهم الناس بالعبادة؟! فالواقعون في هذه الأشياء على خطر عظيم جدًّا، فهم واقعون في الشرك الأكبر الموجب للخلود في النار إن مات عليه صاحبه ولم يتب منه، فنسأل اللَّه العافية.

أما ما يدعي البعض بأنهم يعلمون أنَّ مَن ينفع ويضر على الحقيقة هو اللَّه تبارك وتعالى، لكنهم يذهبون إلى هؤلاء الصالحين لمَا لهم من الجاه والصلاح والتُّقى وغير ذلك، فيطلبون منهم الشفاعة لهم عند اللَّه؛ فهذا أيضًا جهل، وهذا حق أُريد به باطل؛ وذريعة مفضية إلى الشرك الأكبر؛ لأن هذا إن كان صالحًا فصلاحه لنفسه، وهو لا يملك من أمره نفعًا ولا ضرًّا، ولا يملك لنفسه خيرًا ولا شرًّا إلا بما شاء اللَّه له، فكيف يملكه لغيره، وكيف يقدر على نفع غيره أو رفع الضرر عنه.

واللَّه سبحانه وتعالى يقول: " {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ

ص: 3096

الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة: 186]، ويُحذّر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يدعوا غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)} [الأحقاف: 5].

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [الفرقان: 3].

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].

إذن؛ ينبغي للمؤمن إذا ما نزلت به نازلة، أو حلَّ به أمر من الأمور أن يلجأ إلى اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يقول: أنا لي من السيئات ما ينوء بحملها الجبال، وهذا موجب لرد الدعاء.

فاللَّه سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعًا؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

ويقول سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].

فعلى المرء أن يتوب إلى اللَّه سبحانه وتعالى صادقًا في توبته، وأن يُقلع عما كان يفعله من المعاصي، وأن يندم على ما فات، وأن يعزِم على عدم العودة إلى معصية اللَّه سبحانه وتعالى، وحينئذٍ ينفتح أمامه باب التوبة والقبول.

وإن من سوء ظن العبد بربه أن يظن أنه لو اتجه إلى اللَّه بقلب صادق، وبنية خالصة، وتضرع إليه سبحانه وتعالى أنه لن يجيبه ولن يقبل دعاءه، بل عليه أن يعلم أن اللَّه سبحانه وتعالى ربما قد أجَّل إجابة الداعي لخير يعلمه سبحانه؛ وقد يكون رفع اللَّه عنه به بليَّة

(1)

لا يعلمها، وربما يدخره له في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم، كما جاء بذلك الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

البَلِيَّةُ: البَلاءُ. "معجم ديوان الأدب"، للفارابي (4/ 57).

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(11133) عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم =

ص: 3097

فغاية الكلام: أن يحذر المسلمون من إقامة المساجد على القبور لأنه أمر خطير وذريعة إلى الشرك باللَّه تبارك وتعالى، والرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد قال:"لا تجلِسوا على القبورِ ولا تصلُّوا إليها"

(1)

؛ فما بالك بمن يتخذ المقبرةَ مسجدًا تُقام فيه الصلاة! نسأل اللَّه السلامة والعافية.

* قوله: (لِلنَّهْيِ الوَارِدِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا).

المراد بالنهي الوارد فيها حديث: "جُعلت لي الأرض مسجدًا إلا المقبرة والحمَّام"

(2)

. وهو حديث فيه كلام، وفي بعض الأحاديث ذكرت سبع مواطن نُهي عن الصلاة فيها

(3)

.

* قوله: (وَأَجَازَهَا الأَكْثَرُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا"

(4)

).

هذا جزءٌ من حديث مذكور فيه خمسة أمور اختصر اللَّه سبحانه وتعالى بها نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهنَّ أحدٌ من الأنبياءِ قبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مسيرةَ شهرٍ، وجُعِلَت ليَ الأرضُ مسجدًا وطهورًا، فأيما رجلٍ من أمتي أدركَتْه الصلاةُ فلْيُصلِّ -وفي بعض الروايات: فإنها مسجد- وأُحِلَّت لي الغنائمُ ولم تحِلَّ لأحدٍ قبلي، وأُعطيتُ الشفاعةَ، وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قومِه خاصَّةً وبُعِثتُ

= يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه اللَّه بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذا نكثر، قال:"اللَّه أكثر". وجود إسناده الأرناؤوط.

(1)

أخرجه مسلم (972) عن أبي مرثد الغنوي.

(2)

أخرجه الترمذي (317) وصححه الألباني في "المشكاة"(737).

(3)

أخرجه الترمذي (346) عن ابن عمر: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت اللَّه". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(287).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 3098

إلى الناسِ كافة"

(1)

، ومبعثه إلى الناس كافة مصداق قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79]، وقوله:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]؛ فمحمد بن عبد اللَّه قد أرسله اللَّه سبحانه وتعالى إلى الناس كافة، بل أرسله تعالى إلى الثقلين: الإنس والجن، {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ} [الأحقاف: 29]، الآيات.

إذن؛ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو خاتِم الرسل، وشريعته خاتِمة الشرائع؛ فلا نبي بعده عليه الصلاة والسلام، وشريعته هي أعظم الشرائع، وأجلها، وأشملها، وهي باقية إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها.

وكانت شرائع الأنبياء السابقين خاصة بأممهم؛ أما شريعة النبي عليه الصلاة والسلام فهي لعموم الناس جميعًا وباقية ليوم القيامة ولن يبطل العمل بها، حتى عيسى ابن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فإنه سيحكم بهذه الشريعة

(2)

التي نجد مع الأسف أن كثيرًا من أهلها قد انصرفوا عنها، واستبدلوها بقوانين من وضع البشر، وضعوها من تلقاء أفكارهم السقيمة، وأنفسهم الضعيفة يتخللها الخطأ، ويعتريها النقص والضعف، وتفشو فيه الرذائل والقبائح.

أما هذه الشريعة التي أنزلها اللَّه سبحانه وتعالى العليم بخلقه، العليم بما يُصلح شؤونهم، وما تستقيم به أمورهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، هذه الشريعة التي لو وقف المسلمون في كل مكانٍ عندها لَعادت إليهم العِزة، والسعادة، وَلَعاد لهم مجدُهم الذي كان لهم زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي زمن القرون المُفضَّلة.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(1)

أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521).

(2)

كأن الشارح يُشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (2222)، ومسلم (155) عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، وبقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد".

ص: 3099

(الفَصْلُ الخَامِسُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ)

سبقت الإشارة إلى أنه يُشترط في صلاة الجنازة ما يُشترط في الصلاة المكتوبة، عدا دخول الوقت؛ فليس لصلاة الجنازة وقت محدد تُصلى فيه كما هو معلوم، وكذا سبق ذكر أنه قد اختُلف في أدائها في الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها.

* قوله: (وَاتَّفَقَ الأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ مِنْ شرْطِهَا الطَّهَارَةَ)

(1)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية الشلبي على تبيين الحقائق"(1/ 3)؛ حيث قال: "والوضوء ثلاثة أنواع: فرض على المحدث للصلاة ولو جنازة أو نفلًا".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 125)؛ حيث قال:" (ومنع حدث) أصغر وكذا أكبر وسيأتي؛ أي: الوصف القائم بالشخص ثلاثة أمور (صلاة) بجميع أنواعها ومنها سجود التلاوة".

وفي حاشية الدسوقي (1/ 125): " (قوله: ومنها سجود التلاوة)؛ أي: وكذا الصلاة على الجنازة فيحرم فعلهما مع وجود الحدث المذكور".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (1/ 149)؛ حيث قال:" (الصلاة) بأنواعها بالإجماع وحديث "الصحيحين": "لا يقبل اللَّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". والقبول يقال لحصول الثواب ولوقوع الفعل صحيحًا، وهو المراد هنا بقرينة الإجماع؛ فالمعنى: لا تصح صلاة إلا بوضوء، ومنها صلاة الجنازة لكن فيها خلاف للشعبي وابن جرير الطبري، وفي معناها سجدتا التلاوة والشكر وخطبة الجمعة، أما عند العذر فلا تحرم بل قد تجب كأن فقد الماء والتراب وضاق الوقت، فالمراد بالحدث هنا المنع المترتب على ما ينتهي به الوضوء".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 77)؛ حيث قال:" (ويحرم بحدث) أصغر أو أكبر مع قدرة على طهارة (صلاة) لحديث ابن عمر مرفوعًا: "لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول". رواه الجماعة إلا البخاري، وسواء الفرض أو النفل وسجود التلاوة والشكر وصلاة الجنازة".

ص: 3100

ومن خالف في هذا فقد شذ؛ وقد نُقل هذا عن الشعبي

(1)

وحكاه بعضهم عن ابن جرير

(2)

.

* قوله: (كَمَا اتَّفَقَ جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهَا القِبْلَةَ)

(3)

.

ما دامت الجنازة صلاة فيجب أن يُتجه فيها إلى القبلة؛ لأن استقبال القبلة من شرائط الصلاة.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ لَهَا إِذَا خِيفَ فَوَاتُهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي لَهَا إِذَا خَافَ الفَوَاتَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(4)

وَسُفْيَانُ وَالأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ

(5)

. وَقَالَ مَالِكٌ

(6)

وَالشَّافِعِيُّ

(7)

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (2/ 357)؛ حيث قال:"يصلى عليها على غير طهارة ليس فيها ركوع ولا سجود. هذا قول الشعبي".

(2)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (1/ 281)؛ حيث قال:"وعن ابن جريج الطبري: أن الصلاة على الميت دعاء لا يفتقر إلى طهارة".

(3)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 187)، حيث قال:"ولا خلاف أنه لا يصلي على الجنازة إلا إلى القبلة".

(4)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(1/ 241)؛ حيث قال: " (قوله وجاز لخوف فوت صلاة جنازة)؛ أي: ولو كان الماء قريبًا. . . (قوله: أي: كل تكبيراتها) فإن كان يرجو أن يدرك البعض لا يتيمم؛ لأنه يمكنه أداء الباقي وحده بحر عن "البدائع"".

(5)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (2/ 357)؛ حيث قال:"واختلفوا في التيمم للصلاة على الجنازة إذا خاف فواتها، فكان الشعبي، وعطاء، وسالم، والنخعي، وعكرمة، والزهري، وسعد بن إبراهيم، ويحيى الأنصاري، وربيعة، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي يقولون: يتيمم ويصلى عليها".

(6)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 148)؛ حيث قال: "وأما لو كان الماء موجودًا وخاف ذلك الحاضر الصحيح بالاشتغال بالوضوء فوات الصلاة على الجنازة؛ فالمشهور أنه لا يتيمم لها. وقال ابن وهب: إن صحبها على طهارة وانتقضت تيمم وإلا فلا".

(7)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (1/ 369)؛ حيث قال: "على أن عبارته أولت بأنها في حاضر أي أو مسافر واجد للماء خاف لو توضأ فاتته صلاة الجنازة فهذا لا يتيمم =

ص: 3101

وَأَحْمَدُ

(1)

: لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بِتَيَمُّمٍ).

معلوم أن الصلاة يلزم لها التطهر ورفع الحدث -سواء في ذلك الحدثان الأصغر والأكبر-، فهو شرط من شروط صحة الصلاة كما سلف ذكره في موضعه لغير ما دليل، منها قوله عليه الصلاة والسلام:"لا يقبَلُ اللَّهُ صلاةً بغيرِ طُهورٍ ولا صدَقةً مِن غُلولٍ"

(2)

.

والأصل أن رفع الحدث إنما يكون بالماء، فإذا عدم الماء يُنتقل إلى بديله وهو التيمم، فالماء أصل والتيمم بدل، وإذا عدم الأصل ينتقل إلى البدل، إلا أن هناك مَن ينازع في كون التيمم بديلًا عن الماء؛ إذ يرون بينهما فرقًا، وهم الظاهرية

(3)

، فهم يرون أن التراب لا ينظف مثل الماء، بل يقذر ويلوث.

فالمسألة هاهنا تختلف صورتها عن صورة التيمم المعروفة؛ فالتيمم أن يعدم الإنسان الماء ولا يستطيع التحصل عليه، وحضرته الصلاة فيتمم ويصلي.

أما صورة هذه المسألة: إنسان خشي أن تفوته الجنازة، بحيث أنه لو

= عندنا، خلافًا لأبي حنيفة أما إذا كان ثم من يحصل به الفرض فليس له التيمم لفعلها؛ لأنه لا ضرورة به إليه ولا فرق في عدم بطلان الصلاة السابقة برؤية الماء بين الفرض والنفل". وانظر:"الحاوي الكبير"، للماوردي (1/ 281).

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 94)؛ حيث قال:" (ولا يتيمم) مع الماء (لخوف فوت جنازة) بالوضوء (ولا) لخوف فوت وقت (فرض) إن توضأ لمفهوم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] (إلا هنا)؛ أي: فيما إذا علم المسافر الماء أو دله عليه ثقة قريبًا وخاف بقصده فوت الوقت".

(2)

أخرجه مسلم (224).

(3)

يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (1/ 371)؛ حيث قال:"وأما قولهم: إن التيمم بدل من الوضوء، فيقال لهم: فكان ماذا؟ ومن أين وجب أن يكون البدل على صفة المبدل منه؟ وإن كان هذا فأنتم أول مخالف لهذا الحكم الذي قضيتم أنه حق، فأسقطتم في التيمم الرأس والرجلين، وهما فرضان في الوضوء وأسقطتم جميع الجسد في التيمم للجنابة وهو فرض في الغسل".

ص: 3102

قام يتوضأ أو ذهب في طلب الماء لفاتته الجنازة، فهل يتيمم؟ فالمسألتان مختلفتان، وينبغي التنبه لهذا.

فإذا كان سبب ترك التطهر هو خشية فوات وقت الصلاة على الجنازة؛ فهذه هي المسألة التي ساقها المؤلف، وهي مما اختلف فيه العلماء:

فالحنفية

(1)

يقولون: يتيمم ويصلي.

وجمهور العلماء يقولون

(2)

: بل ينتظر حتى يتوضأ ثم يصلي على الجنازة.

أما لو وُجد مانع يمنعه من الماء؛ كأن يكون الماء باردًا، أو يحول بينه وبينه حائل: كعدو يتربص به، أو سبع أو نحوه، أو كان يلحقه ضرر من استعمال الماء، فيتيمم باتفاق.

فالمسائل أحيانًا قد تتداخل وتتشابه؛ فينبغي على طالب العلم أن يحرر المسألة قبل الشروع في بحثها، ويعرف الفروق التي تكون بين المتشابهات من المسائل، ونحو ذلك.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ المَفْرُوضَةِ، فَمَنْ شَبَّهَهَا بِهَا أَجَازَ التَّيَمُّمَ -أَعْنِي: مَنْ شَبَّهَ ذَهَابَ الوَقْتِ بِفَوَاتِ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ- وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهَا بِهَا، لَمْ يُجِزِ التَّيَمُّمَ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَةِ، أَوْ مِنْ سُنَنِ الكِفَايَةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَشَذَّ قَوْمٌ، فَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّي عَلَى الجَنَازَةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ

(3)

).

(1)

تقدم قولهم.

(2)

تقدم قولهم.

(3)

تقدم قوله.

ص: 3103

وسبقت الإشارة إلى أنه منسوب لابن جرير

(1)

، وأنه قول ضعيف مردود.

* قوله: (وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَتَنَاوَلُ صلَاةَ الجَنَازَةِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الدُّعَاءِ، إِذْ كَانَ لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ، وَلَا سُجُودٌ).

وجهة الذين قالوا بأن الطهارة لا تشترط للجنازة: أنها ليست بصلاة؛ إذ كل ما فيها إنما هو فى دعاء، وهذا غير صحيح؛ لأن صلاة الجنازة -كما هو معلوم- لا تقتصر على الدعاء فقط، وإنما فيها ما في الصلاة من أركان وواجبات، ففيها قيام، وتكبير، وقراءة، وتسليمٌ من الصلاة؛ فقد اشتملت على جملةٍ من أحكام الصلاة، وعليه فهي صلاة.

واللَّه سبحانه وتعالى يقول عن صلاة الجنازة: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]، فسماها اللَّه تعالى في كتابه صلاة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"صلوا على صاحبكم"

(2)

وقال: "مَن صلَّى على جِنازةٍ فله قِيراطٌ"

(3)

، والنصوص في ذلك كثيرة جدًّا، فهي صلاة إذن ولها ما للصلاة من أحكام.

واللَّه سبحانه وتعالى يقول في شأن الصلاة: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].

وفي سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]؛ فما دامت صلاة الجنازة من الصلوات المشروعة فلا تصح بغير طهارة شأن سائر الصلوات.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(1)

تقدم.

(2)

أخرجه البخاري (2295).

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 3104

(البَابُ السَّادسُ فِي الدَّفْنِ)

ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى آخر ما يتعلق بأحكام الجنائز، وهي مسألة الدفن.

فهي آخر ما يجري على الميت من الأشياء، فإنه يُغسَّل، ثم يُكفَّن، ويُصلَّى عليه، ثم يُحمَل ويُدفن.

والدفن ثابتٌ في هذه الشريعة؛ ثابت بإجماع المسلمين؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم دفن أصحابه، والمسلمون فعلوا ذلك، ولا يزالون.

والمؤلف ذكر دليلين على ذلك، وهما حُجَّة في هذه المسألة.

* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الدَّفْنِ)

(1)

.

هذا أولهما: الإجماع، فهي مسألة مُجمعٌ عليها.

* قوله: (وَالأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات: 25 - 26]).

{الْأَرْضَ كِفَاتًا} ؛ أي: تُجعل فيها الأموات، فالأحياء يعيشون عليها، والأموات يدخلون فيها إلى أن يرث اللَّه الأرض ومَن عليها، ثم يأذن بجمعهم للقيام بين يديه تبارك وتعالى.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 188):"وأجمعوا على أن دفن الميت واجب، لازم لا يسع تركه مع الإمكان، ومن قام به سقط فرض ذلك عن الغير".

ص: 3105

* قوله: (وَقَوْلُه: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]).

والآية من سورة المائدة في ذكر قصة ابني آدم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} إلى أن قال: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 27 - 31]؛ أي: يفحص في الأرض يدله كيف يواري جثمان أخيه القتيل.

فانظر رحمك اللَّه! طوعت له نفسه قتل أخيه بغيًا وحسدًا بعد أن أغواه الشيطان فقتل أخاه، الذي كان يعتضد به ويتقوى؛ أخاه الذي كان يأنس به من الوحشة، ويستعين به على أموره، ويتسلى به في حياته، خسر كل هذا في لحظة أطاع فيها نفسه الأمارة بالسوء، وإغواء الشيطان الرجيم، ولم يخش اللَّه تعالى في عاقبة فعله، فأخوه إنما امتنع عن بسط يديه إليه بالأذى خوفًا من اللَّه تعالى، أما هو فلم يراع هذا المقام، وغلبت عليه نفسه، ودفعه حسده على أخيه فقتله، فأصبح من النادمين، ولكن لات حين مندم.

ثم وقع في حيرة ماذا يفعل في جثمان أخيه، فأرسل اللَّه سبحانه وتعالى إليه غرابًا، فصار يبحث في الأرض ليدفن الغراب، قال تعالى:{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} ، فطفق يفعل كفعل الغراب ووارى سوءة أخيه.

فينبغي على المرء المسلم أن يتقي اللَّه تعالى ويعتصم به، ولا يفسح للشيطان مجالًا يدخل إليه منه ويستولي على نفسه ويقودها إلى المهالك، وينبغي أن يتحرز من خطواته ومداخله والثغرات التي ينفذ إليه منها، خاصة في حال الغضب؛ فإنها من أكثر الأحوال التي يستولي فيها الشيطان على الإنسان، ويوجهه إلى السوء ويؤزه

(1)

على كل شر.

(1)

أزه به يؤزه أزًّا: أغراه وهيجه وأزه: حثه. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم"، لابن سيده (9/ 69).

ص: 3106

لذلك لما جاء رجل يستوصي النبي صلى الله عليه وسلم وصية جامعة للخير، قال له عليه الصلاة والسلام:"لا تَغضَبْ" والرجل يستوصيه مرارًا وهو يقول: "لا تَغضَبْ"

(1)

، جملة واحدة لم يزد عليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المرء إذا غضب واستولى عليه غضبه فإنه يذهب عقله، وربما وقع فيما يهلكه، أو يتكلم بما يفسد عليه حياته، أو يضر عزيزًا عليه، أو يردي نفسه في مهلكة لا نجاة منها، ولا ينفعه بعدها ندم ولا أسف، ولا تجدي معذرة ولا استعتاب.

ففي هذه الحال اتبع ابن آدم نفسه الأمارة، وسمع لغواية الشيطان حتى أوقعه في خطيئة مهلكة، وهي القتل، وليس ككل قتل، بل قتل أخاه، فكان ذنبًا أبشع وخطيئة أفظع، واللَّه تعالى يقول:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93].

وكذلك دأب الشيطان دومًا، يسد عليه طرائق الخير ويقعد له عليها يصرفه عنها ويحرفه عن الصراط المستقيم، فتراه يسعى إلى أن يفسد على الإنسان أعماله، ويُكتر التشويش على العبد في عبادته، فيوسوس له في صلاته.

ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا شَكَّ أحدُكُم في صلاتِهِ فلم يَدرِ كَمِ صلَّى أثلاثًا أمْ أربعًا؟ فليطرَحِ الشَّكَّ وليبنِ على ما استيقنَ؛ فإن كان صلَّاها خَمسًا شفَعنَ لَه صلاتَه، وإن كَانَ صلَّاها أربع" -هذا في الرباعية- "كانتَا تَرغيمًا للشَّيطان"

(2)

. أي: دحرًا، وإذلالًا، وكيدًا له.

وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن دومًا؛ فإن الشيطان عدوه، فعليه دائمًا أن يغلق دونه الأبوِاب ويقطع عليه السبل، ويسد عليه المداخل، مستعينًا باللَّه عليه، مستعيذًا باللَّه منه، ومن يعتصم باللَّه فقد هدي إلى صراط مستقيم.

(1)

أخرجه البخاري (6116).

(2)

أخرجه مسلم (571).

ص: 3107

* قوله: (وَكَرِهَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

تَجْصِيصَ القُبُورِ).

هذه من المسائل التي لها تعلق مباشر بصحة المعتقد؛ فهي تدرس فيما يعرف بعلم العقيدة، وتوحيد اللَّه سبحانه هو أصل العلوم وأفضلها، فما تعلمت العبيد شيئًا أفضل من التوحيد؛ ولذلك عندما جاء جبريل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجلس بين يديه، ووضع كفيه على ركبتيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، قال:"الإسلامُ: أن تشهدَ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ"، فبدأ أول ما بدأ بالشهادتين، ثم ثنَّى فقال: أخبرني عن الإيمان، قال:"أن تؤمن باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". رواه مسلم

(3)

.

هذا هو التوحيد؛ فلا ينفع عمل إنسان إذا كان توحيده فاسدًا.

يقول اللَّه عز وجل في شأن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]؛ أي: صارت أعمالهم كلها ضائعة لا قيمة لها؛ فالتوحيد هو الأصل الذي ينبغي أن تُبنى عليه بقية الأمور، ومنها: العبادات كالصلاة، والزكاة، والصوم والحج وغيرها، فينبغي أن يكون صحيحًا، وأي خلل في هذا الأصل يُوجِد نقصًا في سائر العبادات.

ولا شك أن التقصير في أمر العقيدة يختلف باختلاف الأحوال؛ فمن أشرك مع اللَّه غيره فقد كفر، ولكن قد يحصل من الإنسان أن يرتكب بعض المعاصي التي لا تُخرجه عن الدين، لكنها تكون قادحةً في إيمانه؛ ولذلك يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزَّاني حينَ يزني وهوَ مؤمِنٌ، ولا يسرقُ السَّارقُ حينَ يسرقُ وهوَ مؤمنٌ". رواه مسلم

(4)

.

(1)

يُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (1/ 263)؛ حيث قال:"وقال مالك: أكره تجصيص القبور والبناء عليها وهذه الحجارة التي يبنى عليها".

(2)

يُنظر: "الأم"، للشافعي (1/ 316)؛ حيث قال:"ولا يجصص فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء، وليس الموت موضع واحد منهما، ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة".

(3)

أخرجه مسلم (8).

(4)

أخرجه مسلم (57).

ص: 3108

يقول العلماء: لا يُنزع عنه الإيمان نزعًا كاملًا، ولكنه يكون بمثابة غيمة تُظلِّل، فإذا ما ترك الذنب عاد إليه الإيمان

(1)

.

والإيمان يزيد وينقص، كما أخبر اللَّه سبحانه وتعالى بذلك في كتابه العزيز في سورة الأنفال، يقول اللَّه سبحانه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} من صفاتهم: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 1 - 4].

فمسألة تجصيص

(2)

القبور والبناء عليها من المسائل المرتبطة بعلم العقيدة.

وتجصيص القبور لا يجوز؛ لأن في ذلك تزيينًا لها

(3)

، والميت رجل قد ودَّع الدنيا، وأفضى إلى ما عمل، والتزيين إنما يكون في أمور الدنيا، فلا ينبغي أن تُزيَّن القبور؛ لأن الميت إذا وضع في قبره ليس في حاجة لأنْ تزين قبره، بل هو في حاجة إلى أن تدعو له، وتسأل اللَّه له الرحمة والمغفرة، وتسأل اللَّه سبحانه وتعالى له التثبيت في قبره، ولقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا وقف عند القبور أوصى أصحابه أن يدعوا للميت، وأن يستغفروا له، وأن يسألوا اللَّه سبحانه وتعالى له التثبيت، ويقول:"إنه الآن يُسأل"

(4)

.

(1)

يُنظر: "شرح النووي على مسلم"، للنووي (2/ 41)؛ حيث قال:"فالقول الصحيح الذي قاله المحققون: أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره. . . وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: "من قال لا إله إلا اللَّه دخل الجنة وإن زنى وإن سرق".

(2)

التجصيص: بناؤها بالجص وهي النورة البيضاء. انظر: "مشارق الأنوار"، للقاضي عياض (1/ 158).

(3)

قال عميرة في "حاشيته": "وحكمة النهي التزيين. أقول: وإضاعة المال لغير غرض شرعي". انظر: "حاشية قليوبي وعميرة"(1/ 411).

(4)

للحديث الذي أخرجه أبو داود (3221) عن عثمان بن عفان، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم، وسلوا له بالتثبيت؛ فإنه الآن يسأل". وصححه الألباني في "المشكاة"(133).

ص: 3109

فمن الآداب التي ينبغي أن تراعى مع الأموات ألا تجصص قبورهم، ولا يبنى عليها، ولا يجلس عليها، وقد ثبت في "صحيح مسلم"

(1)

عن جابر قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه".

وقد جاء الحديث بروايات متعددة، لا تُجصَّص القبور، ولا يُبنى عليها، ولا يُقعد عليها.

وفي بعض الروايات: النهي عن الكتابة عليها، لكن ليس في صحيح مسلم، وإنما عند النسائي

(2)

وغيره

(3)

.

وبناءً على هذا فليس مالك وحده الذي كره تجصيص القبور، وإنما عامة العلماء كرهوا ذلك

(4)

؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك،

(1)

أخرجه مسلم (970).

(2)

أخرجه النسائي (2027) عن جابر قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر، أو يزاد عليه، أو يجصص أو يكتب عليه".

(3)

أخرجه الترمذي (1052)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (757).

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 237)؛ حيث قال: " (قوله: ولا يجصص)؛ أي: لا يطلى بالجص -بالفتح ويكسر- "قاموس" (قوله: ولا يرفع عليه بناء)؛ أي: يحرم لو للزينة، ويكره لو للإحكام بعد الدفن، وأما قبله فليس بقبر إمداد. وفي "الأحكام" عن "جامع الفتاوى": وقيل: لا يكره البناء إذا كان الميت من المشايخ والعلماء. . . هذا في غير المقابر المسبلة كما لا يخفى (قوله: وقيل: لا بأس به. . . إلخ) المناسب ذكره عقب قوله: ولا يطين. . . أن تطيين القبور مكروه والمختار أنه لا يكره. اهـ. . . وعن أبي حنيفة: يكره أن يبني عليه بناء من بيت أو قبة أو نحو ذلك".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 424)؛ حيث قال: " (قوله: وتطيين قبر أو تبييضه) أكثر عباراتهم في تطيينه من فوق ونقل ابن عاشر عن شيخه أنه يشمل تطيينه ظاهرًا وباطنًا وعلة الكراهة ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا طين القبر لم يسمع صاحبه. . . "".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 54)؛ حيث قال:" (ويكره تجصيص القبر)؛ أي: تبييضه بالجص، وهو الجبس وقيل: الجير، والمراد هنا هما أو أحدهما (والبناء) عليه كقبة أو بيت للنهي عنهما في "صحيح مسلم"، وخرج بتجصيصه تطييبه، فإنه لا بأس به كما نص عليه". =

ص: 3110

ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن أمر إلا والخير في تركه، ولا يأمر بشيء إلا والخير في فعله؛ ولذلك يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إذا نَهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوهُ وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منْهُ ما استطعتُم"

(1)

.

فإذا نهانا رسول اللَّه عن شيء ينبغي علينا أن نقول كما قال اللَّه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

إذن فكل أمر قد ابتُدع في دين اللَّه عز وجل لا ينبغي أن نعمل به، وإذا تحيَّرنا في أمر من الأمور، أو ضاقت علينا المسائل، أو وُجِد من العلماء من يقول بالجواز، فلنرجع إلى ما كان عليه الصدر الأول، إلى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلى تلاميذ مدرسته صلى الله عليه وسلم، إلى الذين جمعوا بين العلم والعمل، سنجد أنهم لم يجصِّصوا القبور ولم يبنوا عليها، ولم يكونوا يطوفون حول القبور، ولا يطلبون الشفاعة من أهلها.

بل كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مدفونًا بين ظهرانيهم ومع ذلك لم يكونوا يطلبون منه الشفاعة، كانوا يستسقون به في حياته، فلما مات استسقوْا بعمِّه العباس بن عبد المطلب

(2)

؛ لأنه حيٌّ يملك الدعاء، فإذا كان هذا في شأن

= مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 140)؛ حيث قال:" (ويكره المبيت عنده)؛ أي: القبر (وتجصيصه وتزويقه، وتخليقه وتقبيله والطواف به وتبخيره وكتابة الرقاع إليه، ودسها في الأنقاب والاستشفاء بالتربة من الأسقام) لأن ذلك كله من البدع".

مذهب أهل الظاهر، يُنظر:"المحلى"، لابن حزم (3/ 356)؛ حيث قال:"لا يحل أن يبنى القبر، ولا أن يجصص، ولا أن يزاد على ترابه شيء، ويهدم كل ذلك".

(1)

أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) عن أبي هريرة.

(2)

معنى حديث أخرجه البخاري (1010) عن أنس بن مالك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون".

ص: 3111

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي زكَّاه اللَّه سبحانه وتعالى، وبيَّن سبحانه وتعالى فضله، فما بالكم بغيره من الخلق؟!

فإذا كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا أمرًا من تلكمُ الأمور، فلا ينبغي أن نفعل غير فعلهم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا باتباعهم فقال:"عليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المَهْدِيين، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ". رواه ابن ماجه

(1)

.

ويقول الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا"

(2)

.

فهذه الأمور التي أحدثت بين المسلمين، من عاداتٍ وتقاليد، وبدع وخرافات ومنكرات وشرك، إنما أدخلها مَن يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ ليُفسدوا على المؤمنين عقيدتهم؛ لأن أعداء الإسلام يعلمون أنهم لا يستطيعون أن يقفوا في وجه الأمة الإسلامية ما دامت متمسكةً بكتاب اللَّه عز وجل، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن المسلمين تقع سُلطتهم عندما يخرجون عن كتاب اللَّه؛ فهم يبدؤون أولًا في بذر بذرة الخلاف بينهم.

ولعلكم تتذكرون ما وقع أيام غزو التتار في عاصمة الخلافة الإسلامية، كان الخلاف بين المسلمين قائمًا على أشُدِّه، وأعداؤهم

(1)

أخرجه ابن ماجه (42)، وصححه الألباني في "المشكاة"(165).

(2)

أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 947) عن ابن مسعود: "من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا. . . ". وضعفه الألباني في "مشكاة المصابيح"(193)، واستشهد به في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"(6/ 309).

وأخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 305) عن ابن عمر بلفظ: "من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا. . . ".

ص: 3112

يسوِّرون بغداد، وانتهى الأمر إلى ما انتهى إليه؛ فلما ذاقوا كأس الموت، وأدركوا أنهم قصَّروا في جنب اللَّه، ووُجد من العلماء من دعاهم إلى طريق الحق، وبيَّن لهم طريق الرشاد، وعادوا إلى دين اللَّه، فعاد لهم النصر والمجد، وأصبحت لهم السُّلطة والمكانة، وصار أعداؤهم الذين أذاقوهم كأس الموت ذاقوه بشكلٍ أمرَّ مما أذاقوهم إياه، وأعاد اللَّه للمسلمين دولتهم وشوكتهم وقوتهم.

وهكذا كلما تمسك المسلمون بكتاب اللَّه، وسنة رسوله؛ وعملوا بشريعته عز وجل، لا شك أن النصر سيكون معهم، قال اللَّه عز وجل:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7].

وقال عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

* قوله: (وَكرِهَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

تَجْصِيصَ القُبُورِ).

وكذلك أحمد

(3)

رحمه الله كَرِه ذلك.

* قوله: (وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة

(4)

).

لا شكَّ أن المؤمن له حُرمة، فإذا كان حيًّا فإنك لا تجلس عليه، وحُرمة أمواتنا كحرمة أحيائنا، وكسر عظم الميت ككسر عظم الحي

(5)

؛ ولذلك لا ينبغي أن يُجلس على القبور.

لكن من العلماء من علَّل جواز الجلوس على المقبرة بأن الجلوس

(1)

تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

(5)

معنى حديث أخرجه أبو داود (3207) عن عائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كسر عظم الميت ككسره حيًّا". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(763).

ص: 3113

المنهي عنه هو الجلوس لقضاء الحاجة من بول أو غائط

(1)

، والصحيح هو المنع مطلقًا

(2)

؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم

(3)

وغيره

(4)

: "لَأَنْ يجلسَ أحدُكم على جمرةٍ فتُحرقَ ثيابَه، فتخلُصَ إلى جلدِه، خيرٌ له من أن يجلسَ على قبرٍ".

وانظر -رعاك اللَّه-! لو أن إنسانًا يجلس على قطعة من نار، فتُحرق ثيابه، فإذا انتهت ثيابُهُ وصلت إلى جلده، يقينًا أنه لن يتحمل هذا الألم؛ إذن جلوسك على جمرةٍ تخرق ثيابك، فتصمل إلى جلدك فتُحرقه، هي أهون من أن تجلس على قبر مؤمن؛ لأن المؤمن له حُرمة.

وتكميلًا لما ذكرناه سابقًا: نشير إلى ما يفعله بعض المؤمنين -هداهم اللَّه- من التمسُّح ببعض الجُدُر والحجارة عند قبور من يعدونهم من الصالحين، وربما تكون قبورًا خيالية غير صحيحة، لا يُعرف من المدفون فيها، وهذا كله غير جائزٍ.

ولذلك ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يعبد الأصنام في الجاهلية، وقف عند الحجر الأسود قائلًا:"واللَّه إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتك"

(5)

.

إذن؛ تقبيل الحجر الأسود توقيفٌ وتشريعٌ؛ لأنه جاء عن

(1)

يُنظر: "المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (2/ 24)، حيث قال:"فتأول مالك رحمه الله هذا على أن النهي عن الجلوس على القبور إنما تناول الجلوس عليها لقضاء الحاجة".

(2)

يُنظر: "المفهم"، لأبي العباس القرطبي (8/ 102)؛ حيث قال:"اختلف في معناه: فمنهم من حمله على ظاهره من الجلوس، ورأى أن القبر يحترم كما يحترم المسلم المدفون فيه، فيعامل بالأدب، وبالتسليم عليه، وبغير ذلك، ومنهم من تأوَّله على أنه كناية عن إلقاء الحدث في القبور، وهو تأويل مالك، ولا شك في أن التخلي على القبور وبينها ممنوع، إما بهذا الحديث، وأما بغيره؛ لحديث الملاعن الثلاث، فإنه مجلس الزائر".

(3)

أخرجه مسلم (971).

(4)

أخرجه أبو داود (3228)، والنسائي (2044)، وابن ماجه (1566).

(5)

أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270).

ص: 3114

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا؛ فنحن عندما نقبل الحجر نكون مقتدين برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكننا عندما نتمسح بقبور الأموات، أو بالحجارة التي بُنيت عليها، أو بالقباب، أو يذهب البعض إلى المشاهد التي أُحدثت في الإسلام، هذه كلها خروج عن دين اللَّه سبحانه وتعالى، وقد وضع لنا الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا قاعدة فقال:"مَن أحدَث في أمرِنا ما ليسَ فيهِ فهوَ ردٌّ". رواه البخاري ومسلم

(1)

. "من عمل عملًا ليس عليْهِ أمرُنا فهو ردٌّ". رواه مسلم

(2)

.

فكل عمل يخرج عن هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعمَّا كان عليه أصحابه فهو مردودٌ على صاحبه، لا يُقبل منه صرفًا ولا عدلًا.

* قوله: (وَكَذَلِكَ كَرِهَ قَوْمٌ القُعُودَ عَلَيْهَا، وَقَوْمٌ أَجَازُوا ذَلِكَ).

الذين كرهوا القعود على المقبرة هم الأئمة الثلاثة

(3)

، والذين أجازوا

(1)

أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).

(2)

أخرجه مسلم (1718/ 18).

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 259)؛ حيث قال:"وكره أبو حنيفة أن يبنى على القبر أو يوطأ عليه، أو يجلس عليه، أو ينام عليه، أو يقضى عليه حاجة الإنسان من بول أو غائط، أو يعلم بعلامة، أو يصلى إليه، أو يصلى بين القبور". مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 40 - 41)؛ حيث قال:" (ولا يجلس على القبر) المحترم ولا يتكأ عليه ولا يستند إليه (ولا يوطأ) عليه إلا لضرورة كألا يصل إلى ميته. . . إلا بوطئه لصحة النهي عن ذلك، والمشهور في ذلك الكراهة وهو المجزوم به في "الروضة" وأصلها. وأما ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي اللَّه تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" ففسر فيه الجلوس بالحدث وهو حرام بالإجماع. . . والمعتمد الكراهة. وأما غير المحترم كقبر حربي ومرتد وزنديق فلا يكره ذلك، وإذا مضت مدة يتيقن أنه لم يبق من الميت في القبر شيء فلا بأس بالانتفاع به".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 140)؛ حيث قال:" (و) يكره (الجلوس) عليه لما روى أبو مرثد الغنوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". رواه مسلم. وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن =

ص: 3115

ذلك هم المالكية

(1)

.

* قوله: (وَتَأَوَّلُوا النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ القُعُودُ عَلَيْهَا لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ)

(2)

.

الجلوس على القبر ليس كفرًا، وليست معصية كبيرة، لكنه مكروه، وفسَّره العلماء بأنه إهانة لأخيك المسلم الميِّت، لكن ينبغي أن يُعلمَ أنَّ الرسول لا ينهانا عن أمر سواء كان محرَّمًا أو مكروهًا إلا وفي تركه خير لنا، ولا يأمرنا بفعل أمرٍ إلا وفيه خير لنا، فلنحاول قدر استطاعتنا أن نعمل ما أمرنا به، وأرشدنا إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

* قوله: (وَالآثَارُ الوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ: مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَجْصِيصِ القُبُورِ).

هذا حديث جابر هو الذي في مسلم

(3)

، والمؤلف جاء بلفظ آخر.

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهانا أن نُجصِّصَ القبر؛ لأن تجصيص القبر زينةٌ له، وفيه إبرازٌ وإظهارٌ له، وقد نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور، وأن نجلس عليها، ونهانا أن نبني عليها، أو أن نقيم عليها القباب، أو أن نزخرفها،

= بجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر مسلم". رواه مسلم".

(1)

يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 253)؛ حيث قال:"الجلوس على القبر جائز عندنا. قال المازري في "شرح التلقين": السؤال الثالث هل يجلس على القبر؟ (والجواب) أن يقال عندنا: الجلوس على القبر جائز، وكره الشافعي أن يجلس عليه، أو يطأه، أو يتكئ عليه. . . ونحن نتأول النهي على أنه عن الجلوس لقضاء الحاجة كذلك قال ابن حبيب: فسره مالك قال: ولا بأس بالمشي على القبر إذا عفا فأما وهو مسنم والطريق دونه فلا أحب ذلك؛ لأن في ذلك تكسير تسنيمه وإباحته طريقًا. انتهى".

(2)

وهم المالكية قد تقدم نقل قولهم بالتفصيل.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 3116

أو أن نقيم عندها الأعياد، أو أن نطوف حولها، أو أن نتقرَّبَ لأهلها، فعلينا أن نسمع ونطيع.

وهذه الأعمال المنهي عنها تختلف في رتبتها، فبعضها شركٌ أكبر، وبعضها شركٌ أصغر، وبعضها معصيةٌ من المعاصي، وبعضها مكروه، فعلينا أن نجتنب ذلك.

وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحلالُ بَيِّنٌ، والحرامُ بَيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مُشتَبِهاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس، فمنْ اتَّقَى الشبهَاتِ استَبرَأَ لدينِهِ وعِرضِهِ، ومن وقعَ في الشبهَاتِ وقعَ في الحرامِ؛ كالراعِي يرعَى حولَ الحِمَى يوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فيهِ، أَلَا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللَّهِ محَارِمُهُ" ثم قال: "ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ ألا وهِيَ القَلبُ"

(1)

. رواه مسلم. وفي بعض الروايات: "مُشَبَّهات"

(2)

.

فالمهم هو صلاح قلب المؤمن، فإذا صلح قلب المؤمن انقاد لأوامر اللَّه، وابتعد عن نواهيه، وأما إذا كان في قلبه شيء من دخن، أو دخلته وساوس الشيطان، أو دخلته الريبة والشك، فهذا يوقعه في المعاصي، وعليه أن يسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يُطهِّر قلبه من كل دنس، وأن يدلَّه على طريق الخير، وليلجأ إلى اللَّه وحده؛ فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي يزيل الغموم، وهو الذي يدفع عنه المصائب والآلام، وهو الذي يعلو به درجات عالية في الدنيا وفي الآخرة.

* قوله: (وَالكِتَابَةِ عَلَيْهَا، وَالجُلُوسِ عَلَيْهَا، وَالبِنَاءِ عَلَيْهَا).

النهي عن الكتابة على القبور لم يرد في الرواية التي وردت في

(1)

أخرجه مسلم (1599).

(2)

أخرجه البخاري (52).

ص: 3117

"صحيح مسلم"

(1)

، ولذلك اختلف العلماء في جواز الكتابة من عدمها

(2)

.

فذهب بعضهم: إلى جواز الكتابة قائلين: إن الكتابة قد اشتهرت في العصور الإسلامية فعلًا

(3)

.

لكننا نقول: الرواية صحَّت، وما دامت صحت الرواية فالصحيح عدم جواز الكتابة، لكن يجوز أن توضع علامة على القبر حتى يهتدي إلى هذا القبر

(4)

إذا أراد أحد زيارته، ولا شكَّ أن زيارة القبور مشروعة؛ فرِسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"كنتُ نهَيْتُكم عن زيارةِ القبورِ ألا فزورُوها فإنها تُذَكِّرُ الآخرةَ"

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 237 - 238)؛ حيث قال: " (قوله لا بأس بالكتابة. . . إلخ)؛ لأن النهي عنها وإن صح فقد وجد الإجماع العملي بها، فقد أخرج الحاكم النهي عنها من طرق، ثم قال:

فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. . . فإن الكتابة طريق إلى تعرف القبر بها، نعم يظهر أن محل هذا الإجماع العملي على الرخصة فيها ما إذا كانت الحاجة داعية إليه في الجملة. . . حتى لا يذهب الأثر ولا يمتهن فلا بأس به. فأما الكتابة بغير عذر فلا". اهـ. حتى إنه يكره كتابة شيء عليه من القرآن أو الشعر أو إطراء مدح له ونحو ذلك.

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 425)؛ حيث قال:"وإن بوهي به حرم، وظاهره أن النقش مكروه ولو قرآنًا، وينبغي الحرمة لأنه يؤدي إلى امتهانه كذا ذكروا ومثله نقش القرآن وأسماء اللَّه في الجدران".

مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين"، للنووي (2/ 136)؛ حيث قال:"ويكره تجصيص القبر، والكتابة، والبناء عليه، ولو بني عليه هدم إن كانت المقبرة مسبلة، وإن كان القبر في ملكه، فلا".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 140)؛ حيث قال:" (و) تكره (الكتابة عليه) لما تقدم من حديث جابر".

(3)

وهو مذهب الحنفية وقد تقدم.

(4)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 138)؛ حيث قال:" (يستحب رفع القبر) عن الاْرض (قدر شبر) ليعرف أنه قبر، فيتوقى ويترحم على صاحبه".

(5)

أخرجه أحمد في "مسنده"(23005)، وصححه الأرناؤوط. وأصله في "صحيح مسلم"(1977).

ص: 3118

فالقبور لا تُزار ليطاف بها، ولا ليُدعى أهلها، وإنما تُزار ليُدعى لأصحابها، وتُزار أيضًا لتذكير الأحياء بالآخرة؛ لأن الحي إذا علم أن مصيره سيكون كمصير هؤلاء الأموات؛ فحينئذٍ يراجع نفسه، فليس هناك إنسان بعد اللَّه أعلم من الإنسان بنفسه؛ فهو الذي يعرف الخطأ الذي ارتكبه، والسيئات، ما ارتكبه في حق نفسه، وما ارتكبه في حق عباد اللَّه، فهو الذي يستطيع أن يُقلع عن السيئات، وهو الذي يعرف عيوب نفسه فيُصلحها، فيتوب، ويُنيب إلى اللَّه، ويرجع إليه سبحانه وتعالى.

فالمقبرة مدرسة وموعظة، هذه المقبرة التي تزورها وترى فيها الأموات كان رسول اللَّه نهى عنها، ثم أمر بزيارتها، ورخَّص في ذلك؛ لأنها دافعٌ لك أن تتذكَّر الآخرة، وإذا تذكَّرت الموت حينئذٍ يقل في عينك كل كبير، ويكثر كل قليل؛ لأنك تُدرك أنك مهما جمعت من المال، ومهما أُعطيت من المناصب في هذه الدنيا، ومهما بلغت من شهرة، فإن مصيرك أنك تُدفن في هذا التراب كما دُفن غيرك من الأموات الذين ذهبتَ تزورهم، وتترحَّم عليهم، وتقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، يرحم اللَّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية.

* قوله: (وَمِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: "رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ، فَقَالَ: انْزِلْ عَنِ القَبْرِ، لَا تُؤْذِي صَاحِبَ القَبْرِ، وَلَا يُؤْذِيكَ")

(1)

.

المعروف هو حديث عمار بن حزم

(2)

، وربما هذا حديث آخر، ومهما يكن فالحديث فيه مقال.

(1)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 515) عن عمرو بن حزم، قال: رآني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على قبر فقال: "انزل عن القبر، لا تؤذ صاحب القبر فلا يؤذيك".

والحديث ضعيف فيه ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ. انظر:"إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة"، للبوصيري (2/ 514).

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(38) عن عمارة بن حزم، قال: رآني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم =

ص: 3119

* قوله: (وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ القُعُودَ عَلَى القَبْرِ بِمَا رُوِيَ عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الجُلُوسِ عَلَى القُبُورِ لِحَدَثٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ"

(1)

، قَالُوا: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَلَسَ عَلَى قَبْرٍ يَبُولُ أَوْ يَتَغَوَّطُ، فَكَأَنَّمَا جَلَسَ عَلَى جَمْرَةٍ من نَارٍ"

(2)

، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ

(3)

وَأَبُو حَنِيفَةَ

(4)

وَالشَّافِعِيُّ

(5)

).

هذا الكلام متعلق بما مضى، لكن المسألة سبق أن فصَّلناها، وبيَّنا أنَّ الصحيح في ذلك أنه يُكره الجلوس على القبور مطلقًا، وأن النهي عن الجلوس ليس لقضاء الحاجة فقط، وقد ذكرنا من الأدلة على ذلك حديث جابرٍ وهو في صحيح مسلم، والذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لأن يجلسَ أحدُكم على جمرةٍ فتُحرقَ ثيابَه، فتخلُصَ إلى جلدِه، خيرٌ له من أن يجلسَ على قبرٍ"

(6)

، وأعتقد أن هذا الحديث كافٍ في هذا الأمر، وهو عامٌّ يتناول أي حالة من حالات الجلوس.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

= جالسًا على قبر فقال: "انزل من القبر لا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك" وقال الأرناؤوط: "حديث صحيح دون قوله: "ولا يؤذيك" فقد تفرد بها ابن لهيعة -وهو عبد اللَّه- وهو سيئ الحفظ، وباقي رجال الإسناد ثقات".

(1)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 517) عن أبي أمامة: "أن زيد بن ثابت قال: هلم يا بن أخي أخبرك، إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور لحدث غائط أو بول". قال الحافظ في "فتح الباري"(3/ 224): "ورجال إسناده ثقات".

(2)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 517)، وضعفه إسناده الحافظ في "فتح الباري"(3/ 224).

(3)

تقدم قوله.

(4)

تقدم قوله.

(5)

تقدم قوله.

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 3120

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى اللَّه على محمد وآله وسلم تسليمًا

‌(كِتَابُ الزَّكَاةِ

وَالكَلَامُ المُحِيطُ بِهَذِهِ العِبَادَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ وُجُوبِهَا يَنْحَصِرُ فِي خَمْسِ جُمَلٍ، الجُمْلَةُ الأُولَى: فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ. الثَّالِثَةُ: فِي مَعْرِفَةِ كَمْ تَجِبُ، وَمِنْ كَمْ تَجِبُ. الرَّابِعَةُ: فِي مَعْرِفَةِ مَتَى تَجِبُ، وَمَتَى لَا تَجِبُ. الْخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ لِمَنْ تَجِبُ، وَكَمْ تَجِبُ، فَأَمَّا مَعْرِفَةُ وُجُوبِهَا فَمَعْلُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.

‌الْجُمْلَةُ الْأُولَى

وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَنَّهَا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ بَالِغٍ عَاقِلٍ

(1)

).

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 258 - 259)؛ حيث قال: " (قوله: عقل وبلوغ) فلا تجب على مجنون وصبي لأنها عبادة محضة وليسا مخاطبين بها، وإيجاب النفقات والغرامات لكونها من حقوق العباد والعشر، وصدقة =

ص: 3121

اتفق العلماء على أن الزكاة تجب على كل مسلم حرٍّ بالغ عاقل، وأول هذه الشروط هو الإسلام، وضد الإسلام الكفر، وسمِّي الكافرُ كافرًا

= الفطر لأن فيهما معنى المؤنة، ولا خلاف أنه في المجنون الأصلي يعتبر ابتداء الحول من وقت إفاقته كوقت بلوغه. . . وإسلام) فلا زكاة على عافر لعدم خطابه بالفروع سوإء كان أصليًّا أو مرتدًّا فلو أسلم المرتد لا يخاطب بشيء من العبادات أيام ردته ثم كما شرط للوجوب شرط لبقاء الزكاة عندنا، حتى لو ارتد بعد وجوبها سقط كما في الموت "بحر" عن "المعراج" (قوله: وحرية) فلا تجب على عبد ولو مكاتبًا أو مستسعًى؛ لأن العبد لا ملك له، والمكاتب ونحوه وإن ملك إلا أن ملكه ليس تامًّا".

مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص 67 - 68)؛ حيث قال: "فأما زكاة المال فشروط وجوبها ستة:

(الشرط الأول): الإسلام فلا زكاة على كافر بإجماع. . .

(الشرط الثاني): الحرية فلا تجب في المذهب على عبد ولا على من فيه بقية رق ولا على سيده. . .

(الشرط الثالث): كون المال مما تجب فيه الزكاة وهو ثلاثة أصناف العين والحرث والماشية. . .

(الشرط الرابع): كونه نصابًا أو قيمة نصاب.

(الشرط الخامس): حلول الحول في العين والطيب في الحرث ومجيء الساعي مع الحول في الماشية.

(الشرط السادس): عدم الدين يشترط في زكاة العين خاصة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 121 - 123)؛ حيث قال:" (شرط وجوب زكاة المال) بأنواعه السابقة وهي الحيوان والنبات والنقدان والمعدن والركاز والتجارة على مالكه (الإسلام). . . (والحرية) فلا تجب على رقيق ولو مدبرًا".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 168 - 170)؛ حيث قال:" (ولا تجب) الزكاة فيما تقدم من الأموال (إلا بشروط خمسة: الإسلام والحرية فلا تجب) الزكاة (بمعنى الأداء). . . (ولا) تجب الزكاة على (عبد لأنه لا يملك بتمليك) من سيد أو غيره (ولا غيره)؛ أي: غير تمليك، فلا مال له، وكذا الأمة (وزكاة ما بيده)؛ أي: الرقيق غير المكاتب (على سيده، ولو مدبرًا، أو أم ولد) لأنه ملك السيد (ولا) تجب الزكاة (على مكاتب لنقص ملكه) فهو ضعيف لا يحتمل المواساة. . . الثالث من شروط الزكاة: (ملك نصاب) للنصوص ولا فرق بين بهيمة الأنعام وغيرها".

ص: 3122

لأنه ستر إيمانه وغطاه، وضل عن الصراط المستقيم، أما المسلم فهو الذي أسلم دينه وأمره كله للَّه سبحانه وتعالى قال عز وجل:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

وهنا مسألة نحتاج أن ننبه عليها وهي: إذا كانت الزكاة واجبة على كل مسلم، فكيف نوفق بين هذا وبين وبين قول جمهور الأصوليين: الكفار مخاطبون بفروع الشريعة

(1)

؟

لا تناقض بين القولين، فالأصوليون لا يقصدون بقولهم: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة هو أن الزكاة تجب على الكافر، وإنما قصدهم من ذلك أن الكافر يأثم بتركه للزكاة، وإن لم تكن واجبة عليه، كما أنه أيضًا يأثم بترك أصل الدين.

وبتفصيل أكثر وأدق بيانًا نقول: الأصل في كل إنسان خلقه اللَّه سبحانه وتعالى وفطره على الفطرة الصحيحة أن يكون مسلمًا، قال تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

ولذلك جاء في الحديث الصحيح: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"

(2)

، ولم يقل: أو يسلمانه؛ لأن الأصل فيه أن يكون مسلمًا.

وفي قصة الجارية التي سألها: "أين اللَّه؟ "، قالت: في السماء، قال:"أعتقها فإنها مؤمنة"

(3)

.

(1)

هذه المسألة فيها خلاف طويل بين أهل العلم يتلخص في مذاهب:

الأول: أنهم مخاطبون بفروع الإسلام.

والثاني: لا يخاطبون منها بغير النواهي.

والثالث: التفريق بين النواهي والأوامر.

انظر: "المنخول"، للغزالي (ص: 88 وما بعدها)، و"روضة الناظر"، لابن قدامة (1/ 160 وما بعدها)، و"شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (1/ 500 وما بعدها).

(2)

أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

(3)

أخرجه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي، قال:

وكانت لي جارية =

ص: 3123

وحتى فرعون الذي بلغ القوة والقسوة والجبروت مبلغًا كبيرًا، وادعى الألوهية بقوله:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقال:{. . . يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37] عندما رجع إلى فطرته قال: {. . . يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37]، لم يقل: احفر لي في الأرض، هو لا شك يدرك في دخيلة نفسه أن اللَّه موجود، وأنه في السماء قال عز وجل:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} [فاطر: 10]؛ ولذلك لما لحق بموسى وقومه وأدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90]، لكن لا ينفعه ذلك، فقال اللَّه:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92].

جُمْلة القول في قول الأصوليين: الكفار مخاطبون بفروع الشريعة: أي: أنهم يعاقبون عقابًا زائدًا على تركهم لفروع الشريعة، زيادة على عقابهم لترك الإيمان

(1)

، لا أن الزكاة تجب في حقهم؛ ولذلك يقول اللَّه سبحانه وتعالى في شأنهم:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 42 - 48]

(2)

.

= ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قلت: يا رسول اللَّه، أفلا أعتقها؟ قال:"ائتني بها" فأتيته بها، فقال لها:"أين اللَّه؟ " قالت: في السماء، قال:"من أنا؟ " قالت: أنت رسول اللَّه، قال:"أعتقها، فإنها مؤمنة".

(1)

يُنظر: "شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (1/ 503)؛ حيث قال:"والفائدة -أي: فائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام-: كثرة عقابهم في الآخرة، لا المطالبة بفعل الفروع في الدنيا، ولا قضاء ما فات منها".

(2)

يُنظر: "شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (1/ 504)، حيث قال:"من فوائد القول بأنهم مخاطبون بالفروع: تيسير الإسلام على الكافر، والترغيب فيه، والحكم بتخفيف العذاب عنه بفعل الخير وترك الشر إذا علم أنه مخاطب بها أو بفعلها".

ص: 3124

فتجب الزكاة على الحر، وسيفصل المؤلف القول في هذه الكلمة لاحقًا.

كذلك تجب الزكاة على البالغ، وضد البالغ الذي لم يبلغ، والإنسان يبدأ طفلًا ثم صبيًّا فيافعًا فشابًّا، ثم يتقدم به العمر فيكون شيخًا كهلًا. . . إلى آخره.

* قوله: (مَالِكٍ للنِصَابِ مِلْكًا تَامًّا).

من الشروط التي تجب في المزكي:

- أن يملك نصابًا تؤدى الزكاة فيه.

- وأن يكون هذا الملك ملكًا تامًّا؛ أي: ألا يكون عليه دين يستغرق جميع ماله.

- وألا يكون له مال لكنه في ذمة إنسان آخر.

والمسألة هذه فيها تفصيل: قد يكون الدين عند مليٍّ

(1)

، وقد يكون عند غير ملي، وإذا بقي الدين سنوات عند إنسان واستلمته هل تزكيه عن عام واحد أو عن كل السنوات

(2)

؟ هذا كله مسائل فيها خلاف سنبينه، وإن لم يعرض له المؤلف فسننبه عليه -إن شاء اللَّه-؛ لأن عامَّة الناس في حاجة إليه.

*‌

‌ فائدة:

هناك مصطلح يأخذ به العلماء فيقولون: كلمة (مِلك) و (مُلك)، إذا كنت تتحدث عن مُلك اللَّه سبحانه وتعالى فقل (المُلك) بضم الميم: قال عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، وإذا كنت تتكلم عن البشر فقل (المِلك): بكسر الميم، يقال: مِلك فلان.

(1)

المليء: الغني الذي عنده ما يؤدي. انظر: "العين" للخليل (8/ 347).

(2)

سيأتي الكلام عليها بالتفصيل.

ص: 3125

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا عَلَى اليَتِيمِ).

اليتيم

(1)

هو: الصغير الذي مات أبوه ولم يبلغ، فكل إنسان مات أبوه ولم يبلغ الحلم فإنه يُسمَّى يتيمًا، وهي كلمة مشتقة من اليتم؛ أي: الانفراد؛ لأنه أصبح منفردًا.

لكن لا ننسى أن الإنسان إذا مات أبوه أو مات والداه؛ فاللَّه سبحانه وتعالى لا يضيِّعه قال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

وكما جاء في الحديث: "الناس عيال اللَّه"

(2)

.

فاللَّه عز وجل هو الذي خلق هذا الصغير، وهو الذي قبض روح والده، وهو سبحانه وتعالى الذي سيتولى أمره وسييسر له أسباب الخير.

وربما لو أن كل واحد منا أراد أن يجري دراسة يسيرة على بعض أفراد المجتمع لوجد أن كثيرًا من الذين نبغوا في حياتهم وتقدموا في أمورهم أنهم كانوا أيتامًا؛ لأن أولئك عصرتهم الدنيا، فتجده عصاميًّا من أول حياته، لكن الذي يعيش بين والديه ربما يتعود على الدَّلال؛ لأنه يعيش بين أبوين يوفران له كل أسباب العيش، وكل أسباب الراحة والطمأنينة، لكن هذا تعصره الحياة عصرًا فيصبح رجلًا شديدًا.

ولذلك نجد فرقًا بين إنسان يجمع المال عن شقاء وتعب، وبين إنسان يأتيه المال عفوًا، تجد هذا يحافظ عليه ويحرص عليه.

ولذلك ليس السفيه

(3)

فقط هو الصغير، بل هناك من الكبار من

(1)

اليتم في الناس: فقد الصبي أباه قبل البلوغ، وفي الدواب: فقد الأم. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (5/ 291).

(2)

أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(9/ 521) عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخلق كلهم عيال اللَّه، فأحب الخلق إلى اللَّه أنفعهم لعياله". وضعفه الألباني في "المشكاة"(4998).

(3)

السفيه: القليل العقل الضعيف التمييز. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"، للأزهري (ص 153).

ص: 3126

يحجر عليه، يقول اللَّه تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]. إذن قد يحجر على كبير لأنه يقصر في هذا الأمر، وقد تجد من الصغار ما يفوق الكبير في عقله وفي تصرفه وفي حكمته، لكن هذا ليس على إطلاقه، فهذه هبة من اللَّه سبحانه وتعالى، فكم من صغير ترى فيه النجابة

(1)

والحكمة والعقل، وقد تجد إنسانًا كبيرًا ولا تجد فيه عقلًا، فليست المسألة بالأجسام ولا بالسن، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه

(2)

، ممن يهبه اللَّه سبحانه وتعالى قلبًا واعيًا مدركًا ولسانًا ناطقًا ويهبه اللَّه تعالى الحكمة، فلا يكون سنه سببًا في القصور به، ومن حرمه اللَّه من ذلك لا يكون تقدم سنه سببًا في علوه وتقدمه على غيره.

* قوله: (وَالمَجْنُونِ

(3)

وَالعَبِيدِ

(4)

وَأَهْلِ الذِّمَّةِ

(5)

وَالنَّاقِصِ المِلْكِ).

اختلف العلماء في وجوب الزكاة على اليتيم والمجنون والمكاتب وفي العبيد، وكذلك في أهل الذمة، وغير ذلك من المسائل التي سيذكرها المؤلف.

* قوله: (مِثْلِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَهُ دَيْنٌ)

(6)

.

الناقص الملك: هو الذي له دينٌ عند إنسان، أو عنده مال وعليه

(1)

النجابة: مصدر النجيب من الرجال، وهو الكريم ذو الحسب إذا خرج خروج أبيه في الكرم. انظر:"العين"، للخليل (6/ 152).

(2)

قيل لهما الأصغران لصغر حجمهما، ويجوز أن يسميا الأصغرين ذهابًا إلى أنهما أكبر ما في الإنسان معنى وفضلًا. انظر:"مجمع الأمثال"، للميداني (2/ 294).

(3)

سيأتي.

(4)

سيأتي.

(5)

سيأتي.

(6)

سيأتي.

ص: 3127

دين يستغرق جميع ماله، أو يستغرق الدين جزءًا من ماله فينزل به عما تجب فيه الزكاة؛ أي: لا يصل إلى حد المال الذي تجب فيه الزكاة وهو النصاب.

* قوله: (وَمِثَالِ المَالِ المُحَبَّسِ الأَصْلِ).

كذلك قد يكون عنده مال موقوف على أناسٍ، فهذا المال المحبَّسُ الأصول فيه كلام للعلماء وسيأتي تفصيله.

* قوله: (فَأَمَّا الصِّغَارُ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَر وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ

(1)

مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَالِكٌ

(2)

وَالشَّافِعِيُّ

(3)

وَالثَّوْرِيُّ

(4)

وَأَحْمَدُ

(5)

. . . .

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 58)؛ حيث قال:"روينا هذا القول عن عمر، وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عمر، وجابر، وعائشة".

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 455)؛ حيث قال:" (وإن) كان كل من الدراهم والدنانير (لطفل أو مجنون)؛ لأن الخطاب بها من باب خطاب الوضع والعبرة بمذهب الوصي في الوجوب وعدمه لا بمذهب أبيه ولا بمذهب الطفل".

وفي "حاشية الدسوقي": " (قوله من باب خطاب الوضع)؛ أي: وهو يتعلق بالطفل والمجنون وغيرهما ولصدق الولي في إخراجها إذا ادعى عليه الولد أو المجنون بنقص المال بعد ذلك بلا يمين إن لم يتهم وإلا فبيمين (قوله والعبرة بمذهب الوصي)؛ أي: لأن الصرف منوط به".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 123)؛ حيث قال:" (وتجب في مال الصبي والمجنون) لشمول الحديث السابق لهما، وبالقياس على زكاة المعشرات وزكاة الفطر؛ فإن الخصم قد وافق عليهما، ولم يصح في إسقاط الزكاة ولا في تأخر إخراجها إلى البلوغ شيء".

(4)

سيأتي.

(5)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 169)؛ حيث قال:" (وتجب) الزكاة (في مال الصبي والمجنون) وهو قول علي وابن عمر وجابر بن عبد اللَّه وعائشة والحسن بن علي، حكاه عنهم ابن المنذر. . . ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. . . ". ولفظة "الأغنياء" تشمل الصغير والمجنون كما شملتهم لفظة الفقراء".

ص: 3128

وَإِسْحَاقُ

(1)

وَأَبُو ثَوْرٍ

(2)

وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِي مَالِ اليَتِيمِ صَدَقَة أَصْلًا، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ

(3)

مِنَ التَّابِعِينَ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ مَا تُخْرِجُ الأَرْضُ وَبَيْنَ مَا لَا تُخْرِجُهُ، فَقَالُوا: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيمَا تُخْرِجُهُ الأَرْضُ)

(4)

.

في العادة أن الفقهاء يبحثون موضوع الصغير والمجنون في مسألة واحدة؛ لأن الحكم بالنسبة لهما متحد في هذه المسألة، لكن المؤلف هنا خالف كثيرًا مما ينهجه الفقهاء ففرَّق بينهم.

والكلام هنا في مال كل منهما: لو كان للصغير مال تجب فيه الزكاة، أو كان للمجنون مالٌ وصل إلى النصاب أو تجاوزه، فهل تجب الزكاة في مال كل منهما أو لا تجب؟ هذا هو الذي يريد أن يعرض له المؤلف، لكنه فرَّق بينهما، وما كان ينبغي أن يفرِّق؛ لأن هذا يعدُّ من باب التكرار.

(1)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه"، للكوسج (3/ 1130)؛ حيث قال:"وفي كل مال اليتيم زكاة".

(2)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 59)؛ حيث قال:"وبه قال ربيعة، ومالك، والثوري، والحسن بن صالح، وعبد اللَّه بن الحسن، وابن عيينة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور".

(3)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 59)؛ حيث قال:"وقال النخعي. . . والحسن البصري، وسعيد بن جبير، ليس في مال اليتيم زكاة".

(4)

وهم الأحناف، يُنظر:"الجوهرة النيرة على مختصر القدوري"، للحدادي (1/ 114)، وفيه قال:" (قوله وليس على صبي ولا مجنون ولا مكاتب زكاة)، وإنما لم تجب على الصبي لأنه غير مخاطب بأداء العبادة؛ ولهذا لا تجب عليه البدنية كالصلاة والصوم والجهاد ولا ما يشوبها المال كالحج بخلاف العشر فإنه مؤنة الأرض".

وهو قول الثوري والأوزاعي. قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(3/ 156): "وقال سفيان الثوري: لا زكاة في مال يتيم ولا صغير إلا فيما تخرج أرضه من حب أو تمر، وهو قول جمهور أهل العراق وإليه ذهب الأوزاعي، إلا أن الأوزاعي والثوري قالا: إذا بلغ اليتيم فادفع إليه ماله وأعلمه بما وجب عليه للَّه فإن شاء زكى وإن شاء ترك".

ص: 3129

‌أقوال العلماء في وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون:

المذهب الأول: جمهور العلماء وهم مالك والشافعي وأحمد قالوا: تجب الزكاة في مال كل من الصغير والمجنون كغيرها.

المذهب الثاني: يرى أبو حنيفة

(1)

رحمه الله وبعض التابعين كإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، والحسن البصري رحمهم الله: أن الزكاة لا تجب في مال الصغير والمجنون إلا بالنسبة لما تخرج أرضهما من زروع أو ثمار، فتجب مثلًا في الحب والشعير، وكذلك في التمر والعنب، ولم يوجب الزكاة عليهما فيما عدا ذلك.

*‌

‌ فائدة:

هؤلاء الثلاثة كلهم من التابعين، فإبراهيم النخعي: هو شيخ حماد بن أبي سليمان، وحماد شيخ أبي حنيفة، وسعيد بن جبير أحد التابعين، وقد قتل في سبيل اللَّه عز وجل على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي، والحسن البصري هو التابعي المشهور.

المذهب الثالث: يرى فريق من العلماء: أن الزكاة لا تجب في أموالهم مطلقًا.

المذهب الرابع: يرون بأن الزكاة لا تجب عليهما في حالة الجنون والصغر، ولكن وليَّ الصغير يُحصي ما عليه من زكوات، فإذا كبر أخبره بأن عليه كذا وكذا من الزكاة، فإن شاء زكى وإن شاء بخل

(2)

.

ويستدلون على ذلك بأثرٍ جاء عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:

(1)

تقدم.

(2)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (5/ 330)؛ حيث قال:"فإن لم يخرج الولي الزكاة وجب على الصبي والمجنون بعد البلوغ والإفاقة إخراج زكاة ما مضى باتفاق الأصحاب؛ لأن الحق توجه إلى مالهما لكن الولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إليهما".

ص: 3130

"من ولي مال يتيم فليحص زكاته، فإذا ما بلغ فعليه أن يخبره، فإن شاء زكى وإن شاء بخل"

(1)

.

لكن هذا الأثر فيه ضعف من جانبين:

الأول: أنه من رواية ليث بن أبي سَليمْ أو سُليم وهو ضعيف.

الثاني: أنه منقطع، وبذلك لا يصح الاحتجاج به.

* قوله: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكاةٌ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ المَاشِيَةِ وَالنَّاضِّ وَالعُرُوضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ).

"الماشية" هي: الإبل والبقر والغنم.

"والناضّ

(2)

" المراد به: النقدان بعد تحوُّلِهما من متاع، فبعد أن يباع المتاع ويصفى وتستخرج قيمته يُسمَّى ناضًّا، هذا مصطلح فقهي.

و"العروض"

(3)

: هي التجارة المعروفة كالتجارة في السيارات والأدوات الكهربائية والمنزلية والفرش والبسط والأقمشة وغيرها، كل هذه الأشياء التي تباع وتشترى تسمَّى بعروض التجارة، وزكاتها أنها تقوم في آخر العام فتخرج زكاتها نقدًا.

فأبو حنيفة خالف الجمهور في هذه المسألة، فأوجب في مالهما

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 181) عن ابن مسعود قال: "من ولي مال يتيم فليحص عليه السنين، فإذا دفع إليه ماله أخبره بما فيه من الزكاة، فإن شاء زكى وإن شاء ترك". قال البيهقي: "وهذا أثر ضعيف، فإن مجاهدًا لم يلق ابن مسعود؛ فهو منقطع، وليث بن أبي سليم ضعيف عند أهل الحديث".

(2)

الناض من المال: ما كان نقدًا وهو ضد العرض. . . وأهل الحجاز يسمون الدنانير والدراهم النض والناض. قال أبو عبيد: وإنما يسمونه ناضًّا إذا تحول عينًا بعد أن كان متاعًا. انظر: "الزاهر"، للأزهري (ص 109)، و"الصحاح"، للجوهري (3/ 1107).

(3)

العروض: ما كان من مال غير نقد. انظر: "المطلع على ألفاظ المقنع"، للبعلي (ص 173).

ص: 3131

الزكاة فيما تخرجه أرضهما، وما عدا ذلك فلا زكاة فيه.

* قوله: (وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ النَّاضِّ، فَقَالُوا: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي النَّاضِّ).

نقل هذا القول عن ابن شبرمة

(1)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ أَوْ لَا إِيجَابِهَا: هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، هَلْ هِيَ عِبَادَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ؟ أَمْ هِيَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْفُقَرَاءِ عَلَى الأَغْنِيَاءِ؟

(2)

).

المؤلف لم يستوعب أدلة العلماء في هذه المسألة، وإنما حاول أن يعلل الأقوال، ولم يفصل القول، لذلك سنفصل القول في هذه المسألة:

‌أولًا: أدلة الجمهور:

- الدليل الأول: عموم الأدلة في الكتاب والسنة التي تدل على وجوب الزكاة في مالهما: فاللَّه تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5].

وقوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 59)؛ حيث قال:"وقد روينا عن ابن شبرمة أنه قال: لا أزكي مال اليتيم الذهب والفضة، ولكن البقر، والإبل، والغنم، وما ظهر من مال زكيته وما غاب عني لم أطلبه".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر الروضة"، للطوفي (1/ 182 - 183)؛ حيث قال:"مأخذ الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون: هو تردد الزكاة بين كونها عبادة فلا تجب عليهما لعدم تكليفهما، كالصلاة، أو مؤنة مالية فتجب في مالهما، كنفقة الأقارب والزوجات. حتى لو أخرجت بغير نية من المالك أو نائبه، لم تقع الموقع، وإذا أخذها الإمام قهرًا من الممتنع منها، أجزأت ظاهرًا لا باطنًا، بمعنى أنه لا يرجع بها ثانيًا، لا بمعنى براءة عهدته مع اللَّه تعالى. وأما شائبة النفقة المالية، فمن جهة أن اللَّه سبحانه وتعالى جعل مصرفها للفقراء والمساكين وغيرهما من الأصناف، فكأنه أوجب على الأغنياء نفقة الفقراء بقرابة الإسلام، فلله سبحانه وتعالى في الزكاة حكمتان ظاهرتان".

ص: 3132

قالوا: فعموم هذه الأدلة المطلقة تدل على وجوب الزكاة في مالهما.

- الدليل الثاني: استدلوا بحديث: "من ولي يتيمًا له مال فليتجر له"؛ أي: فليتجر بماله "ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"

(1)

، هذا الدليل عليه اعتراض من الحنفية وغيرهم؛ لأنه من رواية المثنى بن الصباح وهو ضعيف.

- الدليل الثالث: استدلوا بحديث مرسل من طريق يوسف بن ماهَكَ، أخرجه الشافعي في مسنده وكذلك أيضًا البيهقي، جاء من طرق صحيحة تؤيد هذا الحديث: أن رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ابتغُوا في مَال اليتيم -أو: في مَال اليتامى- لا تُذْهِبها أو لا تَسْتأْصِلها الزكاة"

(2)

.

- الدليل الرابع: روي عن كثير من الصحابة كعمر وعلي وعبد اللَّه بن عمر وجابر وعائشة وغير هؤلاء، القول بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون

(3)

.

‌ثانيًا: أدلة الذين يقولون بأن الزكاة لا تجب مطلقًا، أو الذين يقولون بأنها فقط لا تجب إلا فيما تخرجه الأرض:

- الدليل الأول: استدلوا من الكتاب بقول اللَّه سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].

قالوا: والمجنون والصغير ليسا من أهل التطهير؛ لأنه لا ذنب لهما، فكيف يطهر إنسان لم يذنب؛ والتكليف مرفوعٌ عنهما.

- الدليل الثاني: الحديث الصحيح الذي روي عن طريق علي بن أبي

(1)

أخرجه الترمذي (641)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2179).

(2)

أخرجه الشافعي في "مسنده"(ص 92)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 179). والحديث ضعيف، قال ابن الملقن:"وهذا مرسل؛ لأن يوسف تابعي، ومع إرساله فعبد المجيد هذا فيه مقال". انظر: "البدر المنير"(5/ 469).

(3)

تقدم.

ص: 3133

طالب

(1)

رضي الله عنه، وجاء أيضًا عن طريق عائشة

(2)

وعن غيرهما، وهو حديث:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ"؛ فذكر من الثلاثة الصغير حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق.

قالوا: فإيجاب الزكاة عليهما خلاف ما أخبر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن القلم قد رفع عنهما، وإيجاب الزكاة إنما هي وضع للقلم عليهما، وذلك خلاف ما أخبر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

- الدليل الثالث: من المعقول: قالوا: إن الزكاة عبادة محضة، وما دامت عبادةً محضةً، فلا ينبغي أن يطالب بها صغير ولا مجنون؛ لأنهما غير مكلفين، فكيف يطالبان بعبادة محضة.

كذلك قاسوا الزكاة على الحج، فقالوا: الزكاة فيها عبادة مالية، والحج عبادة تجمع بين العبادة البدنية والمالية، ولا يجب الحج على صغير ولا على مجنون

(3)

، فكذلك الزكاة.

‌أجوبة الجمهور على الأدلة السابقة:

- الرد على الدليل الأول: أما الاستدلال بقول اللَّه سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. قالوا: ليس التطهير شرطًا، وإنما هذا غالب، فلا يلزم أن يكون التطهير واردًا في كل من زكَّى، وإن كان أيضًا واردًا بالنسبة للمجنون والصغير؛ لأن أموالهم كغيرهما تحتاج

(1)

أخرجه أبو داود (4403) عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل".

(2)

أخرجه أبو داود (4398) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر". وصححه الألباني في "إوراء الغليل"(297).

(3)

سيأتي الكلام على شرائط وجوب الحج عند قول المصنف: "معرفة وجوب الحج وشروطه".

ص: 3134

إلى تطهير؛ لأن التطهير لا يقتصر على ذات المزكِّي، وإنما يشمله ويشمل ماله، والقصد بتطهير المزكي هو أن ترتفع نفسه عن الشح والبخل حتى يبذل المال الذي فيه مواساة للفقراء، وكذلك فيه تطهير للمال حتى لا تصيبه جائحه

(1)

، ولا ينزل به ضرر من الاضرار؛ لأن المقصود من الزكاة -كما هو معلوم- أنها مواساة للفقراء

(2)

، وشكر من الغني للَّه سبحانه وتعالى أن منحه هذا المال.

خلاصة قولهم: قالوا: {تُطَهِّرُهُمْ} ، هنا لا يلزم أن يكون التطهير شرطًا، فقد يكون بعض المزكين التطهير ليس شرطًا في حقه كالحال بالنسبة للمجنون والصغير، لكنها أيضًا تطهير لماله.

- الرد على الدليل الثاني: أما بالنسبة لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة"، قالوا: إن الإثم مرفوع عن الصبي والمجنون، والزكاة لا تجب عليهما، وإنما تجب في أموالهم، وعلى هذا فلا نرى تعارضًا بين ما ذهبنا إليه وبين الحديث، والذي يقوم بأداء هذه الزكاة هو ولي اليتيم وولي المجنون.

- الرد على الدليل الثالث: قالوا: بالنسبة للقياس على الحج، فهو قياس مع الفارق؛ لأن المال ليس ركنًا في الحج، أما الزكاة فالمال ركن فيها؛ لأن الزكاة عبادة فيها حقان؛ حق للَّه سبحانه وتعالى وهو أداء المال استجابة للَّه سبحانه وتعالى ونزولًا عند أمره، وفيها حق للفقراء والمساكين؛ لأن فيها مواساة لهم ورفعًا لفقرهم.

(1)

الجائحة: هي الشدة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة. انظر: "الصحاح"، للجوهري (1/ 360).

(2)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (2/ 267)؛ حيث قال:"المغلَّب عند الشافعي رضي الله عنه في الزكاة معنى المواساة ومعنى العبادة تبع له، ومعنى هذا أنها مؤنة مالية وجبت للفقراء على الأغنياء فجانب الفقراء وهم المعطَوْن هم المقصود بالذات سدًّا لخلتهم، وجانب الأغنياء مغلوب. وقال أبو حنيفة رحمه الله: المغلب فيها معنى العبادة والمواساة تبع، وجانب الأغنياء غالب، وهو المقصود بالذات رياضة للنفس، لئلا تطغى بالمال وتجرها كثرته إلى ما لا ينبغي".

ص: 3135

وأما المؤلف فإنه قال: بعضهم قال: عبادة، وبعضهم قال: غير عبادة.

وهذا تقصير من المؤلف سننبه عليه.

الخلاصة: ومن هنا ننتهي إلى أن القول الذي نرى أنه الراجح والصواب في هذه المسألة، هو ما أخذ به جماهير الفقهاء من إيجاب الزكاة على الصغير والمجنون في أموالهما، وعلى من ولي أمر مال يتيم عليه أن يتقي اللَّه سبحانه وتعالى وأن يحرص على هذا المال، وليحافظ عليه كما لو كان مالًا له أو لابنه.

وقد تكلم الفقهاء عن مسألة أكل الوصي من مال يتيم:

بعض العلماء: لا يرى الأكل منه مطلقًا

(1)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الاختيار لتعليل المختار"، للموصلي (5/ 69)؛ حيث قال:"وللوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا كان محتاجًا، ويركب دابته إذا ذهب في حاجته، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ". وانظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(6/ 713).

مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (6/ 399)؛ حيث قال:"ذهب مالك وأصحابه إلى أنه يجوز للفقير المحتاج أن يأكل من مال اليتيم بقدر اشتغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه، وإلا فلا يسوغ له أن يأكل منه إلا ما لا ثمن له ولا قدر لقيمته، مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه، ومثل الفاكهة من حائطه، ومن أهل العلم من أجاز له أن يأكل منه على وجه السلف، ومنهم من أجاز له أن يأكل منه ويكتسي بقدر حاجته وما تدعو إليه الضرورة، وليس عليه رد ذلك، وأما الغني: فإن لم يكن له فيه خدمة ولا عمل سوى أن يتفقده ويشرف عليه فليس له أن يأكل منه إلا ما لا قدر له ولا بال، مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (3/ 156)؛ حيث قال:"ولا أجرة للولي ولا نفقة في مال محجوره، فإن كان فقيرًا وشغل بسببه عن الاكتساب أخذ الأقل من الأجرة والنفقة بالمعروف. . . وكالأكل غيره من بقية المؤن، وإنما خص بالذكر؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، وله أن يستقل بالأخذ من غير مراجعة الحاكم ولو نقص أجر الأب أو الجد أو الأم إذا كانت وصية عن نفقته وكان كل منهم ففيرًا تممها من مال محجوره؛ لأنها إذا وجبت بلا عمل فمعه أولى، وإذا أخذ لفقره ثم أيسر لا يجب عليه رد البدل على الأظهر في زيادة "الروضة"، هذا كله في الولي غير الحاكم". =

ص: 3136

وبعضهم يقول: يأكل إن احتاج. .

وبعضهم يقول: يأكل إن احتاج وأن يرده.

والصحيح: جواز الأكل منه مقابل رعايته له، ومحافظته على ماله، وعليه أن يسعى في تنميته ولا يتركه حتى تأكله الزكاة.

* قوله: (فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عِبَادَةٌ اشْتَرَطَ فِيهَا البُلُوغَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ فِي أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي ذَلِكَ بُلُوغًا مِنْ غَيْرِهِ).

اختلف العلماء في الزكاة في كونها عبادة محضة؛ أي: خالصة للَّه سبحانه وتعالى ليس فيها حق للإنسان، أم هي عبادة غير محضة؛ أي: فيها حق للَّه سبحانه وتعالى وفيها حق للإنسان.

الصحيح من أقوال العلماء: أن الزكاة عبادة غير محضة؛ لأن فيها حقًّا للإنسان؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 24، 25]. والمراد بذلك الزكاة.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا تُخْرِجُهُ الأَرْضُ أَوْ لَا تُخْرِجُهُ، وَبَيْنَ الخَفِيِّ وَالظَّاهِرِ).

المال الخفي: هما النقدان -الذهب والفضة- أو ما يعرف بالعين، وسميت بذلك لأن الإنسان قد يخفي الدراهم والدنانير، ولا يظهرها

= مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 179)؛ حيث قال:"ولولي" صغير ومجنون (وسفيه)(غير حاكم وأمينه)؛ أي: الحاكم (الأكل لحاجة من مال موليه) لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]"، ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف" وأمينه لا يأكلان شيئًا لاستغنائهما بما لهما في بيت المال، فيأكل من يباح له الأكل (الأقل من أجرة مثله أو كفايته) ".

ص: 3137

للناس، وكذلك عروض التجارة، وسميت بذلك: لأنها وإن رؤيت لا يُدرَى كم قيمتها.

وأما المال الظاهر: فهو يكون في الماشية؛ والزروع والثمار؛ لأن الفقراء يرونها وينظرون إليها.

* قوله: (فَلَا أَعْلَمُ لَهُ مُسْتَنَدًا فِي هَذَا الوَقْتِ).

قوله هذا غير مسلَّمٍ به؛ لأن العلماء فرَّقوا بين المال الظاهر والخفي، ويعلِّلون ذلك بقولَهم: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة يخرصون مال التمر

(1)

وغيره، ويأخذون زكاة الماشية، ولم يُعرف أنه كان يرسل السعاة ليسألوا الناس عما عندهم من المال، وإنما المسلم واجبه أن يؤدي زكاة ماله.

* قوله: (وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ الأَكثَرَ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَى جَمِيعِهِمْ إِلَّا مَا رَوَتْ طَائِفَةٌ مِنْ تَضْعِيفِ الزَّكَاةِ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ).

اختلف العلماء في وجوب الزكاة على أهل الذمّة: يرى جمهور العلماء

(2)

أنه لا تجب عليهم الزكاة.

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 4)؛ حيث قال:"لا تجب على الكافر في حق أحكام الآخرة عندنا؛ لأنها عبادة والكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات هو الصحيح من مذهب أصحابنا خلافًا للشافعي وهي من مسائل أصول الفقه. وأما في حق أحكام الدنيا فلا خلاف في أنها لا تجب على الكافر الأصلي حتى لا يخاطب بالأداء بعد الإسلام كالصوم والصلاة".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 473)؛ حيث قال: "قوله: إجزاء؛ أي صحة قوله: فسبعة في الجملة، إنما أتى بقوله في الجملة للإشارة إلى أن عد الإسلام من شروط الوجوب مبني على عدم خطاب الكفار بفروع الشريعة، والأصح خطابهم بها فيكون الإسلام شرط صحة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع شرح المهذب"، للنووي (5/ 328)؛ حيث قال: =

ص: 3138

* قوله: (أَعْنِي: أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ مِثْلَا مَا يُؤْخَذُ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ الشَّافِعِيُّ

(1)

وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

وَأَحْمَدُ

(3)

وَالثَّوْرِيُّ

(4)

).

بنو تغلب هم قبيلة من قبائل العرب من بني وائل ربيعة نزار، دخلوا

= "واتفق أصحابنا مع نصوص الشافعي رحمه الله على أنه لا تجب الزكاة على الكافر الأصلي حربيّا كان أو ذميًّا؛ فلا يطالب بها في كفره، وإن أسلم لم يطالب بها في مدة الكفر". انظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 121).

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 168)؛ حيث قال:" (فلا تجب) الزكاة (بمعنى الأداء) أي: بمعنى أنه لا يجب عليه أداء الزكاة حال كفر لا بمعنى أنه لا يعاقب عليها، لما تقدم أن الكفار يعاقبون على سائر فروع الإسلام، كالتوحيد (على كل كافر) أي: فرد من أفراد الكفار على اختلاف أنواعهم".

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (8/ 96)؛ حيث قال:" (ولو) (قال قوم) عرب أو عجم (نؤدي الجزية باسم صدقة لا جزية؛ فللإمام إجابتهم إذا رأى) ذلك (ويضعف عليهم الزكاة) اقتداء بفعل عمر رضي الله عنه مع مَن تنصر من العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو تغلب وتنوخ وبهراء".

(2)

يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (2/ 405)؛ حيث قال:" (ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة)؛ لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم (ويؤخذ من نسائهم ولا يؤخذ من صبيانهم)؛ لأن الصلح وقع على الصدقة المضاعفة والصدقة تجب عليهن دون الصبيان فكذا المضاعف".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (3/ 119)؛ حيث قال:" (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب) بن وائل من العرب من ولد ربيعة بن نذار، فإنهم انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا: نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال: لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم وردهم، وضعف عليهم الزكاة".

(4)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 250)؛ حيث قال: "وممن ذهب إلى تضعيف الصدقة على بني تغلب دون جزية الثوري".

ص: 3139

في النصرانية

(1)

، فأرسل إليهم عمر رضي الله عنه يطلب منهم الجزية، فقالوا: ندفع لكم ما يدفعه أمثالنا، فقال عمر: لا نأخذ الزكاة من مشرك، فانحازوا إلى الروم، فأشار بعض أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه أن يرد أولئك الأقوام لأن لهم شوكة وقوة، فاقتنع عمر رضي الله عنه بذلك فردهم، وضعَّف الزكاة عليهم

(2)

؛ أي: فجعلها جزية ضعَّفها عليهم.

من هذه المسألة تفرعت مسألة أُخرى لم يذكرها المؤلف: اختلف العلماء في جواز أن يبيع المسلم أرضه أو يؤجرها لذميٍّ

(3)

: بعض العلماء يكره ذلك وبعضهم يُجيز ذلك.

(1)

يُنظر: "فتوح البلدان"، للبَلَاذُري (ص 181 - 182)؛ حيث روى بسنده إلى السفاح الشيباني:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يأخذ الجزية من نصارى بني تغلب فانطلقوا هاربين ولحقت طائفة منهم ببعد من الأرض، فقال النعمان بن زرعة أو زرعة بن النعمان: أنشدك اللَّه في بني تغلب فإنهم قوم من العرب نائفون من الجزية وهم قوم شديدة نكايتهم فلا يغن عدوك عليك بهم فأرسل عمر في طلبهم فردهم وأضعف عليهم الصدقة".

(2)

يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 178)؛ حيث قال:"وبنو تغلب قوم من النصارى من العرب كانوا بقرب الروم فلما أراد عمر رضي الله عنه أن يوظف عليهم الجزية أبوا وقالوا: نحن من العرب نأنف من أداء الجزية فإن وظفت علينا الجزية لحقنا بأعدائك من الروم، وإن رأيت أن تأخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض وتضعفه علينا فعلنا ذلك فشاور عمر رضي الله عنه الصحابة في ذلك وكان الذي يسعى بينه وبينهم كردوس التغلبي، فقال: يا أمير المؤمنين، صالِحْهم، فإنك إن تناجزهم لم تطقهم فصالحهم عمر رضي الله عنه على أن يأخذ منهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين، ولم يتعرض لهذا الصلح بعده عثمان".

(3)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (4/ 176)؛ حيث قال: "وأما كون العاقد طائعًا جادًّا عامدًا فليس بشرط لانعقاد هذا العقد ولا لنفاذه عندنا لكنه من شرائط الصحة كما في بيعَ العين، وإسلامه ليس بشرط أصلًا فتجوز الإجارة والاستئجار من المسلم، والذمي، والحربي المستأمن؛ لأن هذا من عقود المعاوضات فيملكه المسلم، والكافر جميعًا كالبياعات، غير أن الذمي إن استأجر دارًا من مسلم في المصر فأراد أن يتخذها مصلى للعامة ويضرب فيها بالناقوس له ذلك، ولرب الدار وعامة المسلمين أن يمنعوه من ذلك على طريق الحسبة لما فيه من إحداث شعائر لهم وفيه تهاون بالمسلمين، واستخفاف بهم كما يمنع من =

ص: 3140

لكنْ إن تحقَّقت فيها الزكاة، فأكثر العلماء لا يرى فيها زكاة، وقاسوا ذلك على الماشية.

وبعضهم يرى: أن تضعَّف عليه الزكاة مقابل الجزية، فإذا كان في الأرض عشر يؤخذ عشران: الخمس، وإذا كان نصف عشر يؤخذ العشر. . . وهكذا.

* قوله: (وَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ، وَإِنَّمَا صَارَ هَؤُلَاءِ لِهَذَا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ فِعْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ بِهِمْ كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ تَوْقِيفٌ)

(1)

.

يقصد المؤلف رحمه الله أنه لم يقف لمالكٍ رحمه الله على قول في هذه

= إحداث ذلك في دار نفسه في أمصار المسلمين".

مذهب المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل"، للمواق (7/ 549)؛ حيث قال:" (أو دار لتتخذ كنيسة كبيعها لذلك وتصدق بالكراء وبفضلة الثمن على الأرجح) من "المدونة" قال مالك: لا يعجبني أن يبيع الرجل داره أو يكريها ممن يتخذها كنيسة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"البيان في مذهب الإمام الشافعي"، للعمراني (7/ 290)؛ حيث قال:"فإن استأجر بيتًا ليتخذه بيت نارٍ، أو كنيسة، أو ليبيع فيه الخمر. . . لم تصح الإجارة".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (2/ 250)؛ حيث قال:"ولا تصح إجارة (دار لتعمل كنيسة) أو بيعة أو صومعة راهب (أو بيت نار) لتعبد المجوس (أو لبيع خمر) أو القمار ونحوه، سواء شرط ذلك في العقد أو علم بقرينة؛ لأنه فعل محرم فلم تجز الإجارة عليه كإجارة عبده للفجور به، وإن استأجر ذمي من مسلم دارًا وأراد بيع الخمر بها فله منعه؛ لأنه محرم".

(1)

مذهب المالكية، ينظر:"كفاية الطالب الرباني"، للشاذلي (1/ 491 - 492)؛ حيث قال:" (و) تؤخذ (من نصارى العرب) عبد الوهاب: والعجم وبنو تغلب وغيرهم في ذلك سواء لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. . . ولأن الشرك قد شملهم فلا اعتبار بأنسابهم".

قال العدوي في "حاشيته": "وقوله: العرب والعجم إلخ قصد بذلك التعميم رد المخالف فقد قيل: إنها لا تؤخذ من العرب وليس إلا القتل أو الإسلام لرده بقوله: والعرب والعجم في ذلك سواء". وانظر: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (4/ 127).

ص: 3141

المسألة، لكن من المعلوم أن المالكية لهم آراء في هذه المسألة، بعضها يتفق مع آراء الأئمة الثلاثة.

* قوله: (وَلَكِنَّ الأُصُولَ تُعَارِضُهُ).

الأصول: أن الزكاة إنما تجب بمقادير معينة، وقد ضعف عمر على بني تغلب الزكاة، وهذا اجتهاد من عمر رضي الله عنه فقد رأى أن المصلحة تقتضي هذا، وقد استشار الصحابة وعمل بمشورة من أشار عليه بذلك.

* قوله: (وَأَمَّا العَبِيدُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِيهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ، فَقَوْمٌ قَالُوا: لَا زَكَاةَ فِي أَمْوَالِهِمْ أَصْلًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ

(1)

مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَالِكٍ

(2)

وَأَحْمَدَ

(3)

وَأَبِي عُبَيْدٍ

(4)

مِنَ الفُقَهَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ زَكَاةُ مَالِ العَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(5)

-فِيمَا حَكَاهُ

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذأهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 59)؛ حيث قال:"ليس عليه فيه شيء ولا على مولاه، هذا قول ابن عمر وجابر".

(2)

يُنظر: "المدونة"، لابن القاسم (1/ 307)؛ حيث قال:"وقال مالك: ليس في أموال العبد زكاة لا على السيد ولا على العبد". وانظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي"(1/ 431).

(3)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 168)؛ حيث قال:" (ولا) تجب الزكاة على (عبد لأنه لا يملك بتمليك) من سيد أو غيره (ولا غيره)؛ أي: غير تمليك، فلا مال له، وكذا الأمة (وزكاة ما بيده)؛ أي: الرقيق غير المكاتب (على سيده، ولو مدبرًا، أو أم ولد) لأنه ملك السيد".

(4)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (3/ 59)؛ حيث قال:"وقال آخرون: ليس عليه فيه شيء ولا على مولاه. . . وأبو عبيد".

(5)

يُنظر: "حاشية الشرواني على تحفة المحتاج"(3/ 328)؛ حيث قال: " (فلا زكاة. . . إلخ) عبارة "النهاية": فلا تجب على الرقيق ولو مدبرًا ومستولدة ومعلق العتق بصفة لعدم ملكه. اهـ. زاد "المغني": وعلى القديم يملك بتمليك سيده ملكًا ضعيفًا، ومع ذلك لا زكاة عليه ولا على سيده في الأصح، وإن قلنا: يملك بتمليك غير سيده فلا زكاة عليه أيضًا لضعف ملكه كما مر ولا على سيده؛ لأنه ليس له". وانظر: "حاشيتا قليوبي وعميرة"(2/ 49).

ص: 3142

ابْنُ المُنْذِرِ

(1)

- وَالثَّوْرِيُّ

(2)

وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(3)

، وَأَوْجَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى عَلَى العَبْدِ فِي مَالِهِ الزَّكَاةَ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ

(4)

مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ

(5)

مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ الفُقَهَاءِ

(6)

، وَأَهْلُ الظَّاهِر

(7)

وَبَعْضُهُمْ).

يظهر لي أن المؤلف خلط مسألتين في مسألة واحدة:

* المسألة الأولى: هل تجب الزكاة على المملوك أو لا؟

جماهير العلماء: أنها لا تجب على المملوك؛ لأن ملكه ناقص، فهو مملوك لسيده فكيف يملك؟

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 59)؛ حيث قال:"كان سفيان الثوري، والشافعي، وإسحاق يقولان: زكاة مال العبد على مولاه وهو مذهب أصحاب الرأي".

(2)

يُنظر: "الإشراف"، لابن المنذر (3/ 59)؛ حيث قال:"كان سفيان الثوري، والشافعي، وإسحاق يقولان: زكاة مال العبد على مولاه".

(3)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 259)، حيث قال:" (قوله: وحرية) فلا تجب على عبد، ولو مكاتبًا أو مستسعًى؛ لأن العبد لا ملك له، والمكاتب ونحوه وإن ملك إلا أن ملكه ليس تامًّا نهر".

(4)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 60)؛ حيث قال:"وأوجبت طائفة: على العبد الزكاة،. . . وروى ذلك عن ابن عمر".

وروي: عنه أيضًا القول بعدم الزكاة: أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 482) عن ابن عمر، قال:"ليس في مال العبد زكاة".

(5)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 60)، حيث قال:"وأوجبت طائفة: على العبد الزكاة، روينا هذا القول عن عطاء".

وروي عنه أيضًا القول بعدم الزكاة: أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6/ 483)، عن عطاء، قال:"ليس على العبد زكاة".

(6)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (603)؛ حيث قال:"وأوجبت طائفة: على العبد الزكاة. . . وبه قال أبو ثور".

(7)

يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (4/ 3)؛ حيث قال:"والزكاة فرض على الرجال والنساء الأحرار منهم والحرائر والعبيد، والإماء، والكبار والصغار، والعقلاء، والمجانين من المسلمين، ولا تؤخذ من كافر".

ص: 3143

ونقل عن أبي ثور: أنه يرى وجوب الزكاة.

* المسألة الأخرى: اختلف العلماء إذا ملَّكه سيده مالًا.

مذهب الجمهور: لا تجب الزكاة على المملوك أصلًا؛ لأنه مال والمال لا يَمْلِكُ المالَ؛ ولأن ملكه ناقص فلا ينبغي أن يكون من أهل الزكاة؛ لأن الزكاة شرعت مواساةً للفقراء، وهو ليس ممن يواسي الفقراء، بل هو بحاجة إلى أن يواسَى.

مذهب أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد في رواية والثوري وابن المنذر: يرى هؤلاء العلماء أن زكاة المال الذي ملَّكه السيد للعبد على السيد وليس على العبد؛ لأن السيد هو الذي يملك المال في الحقيقة.

وبعضهم قال: الزكاة تجب على العبد، وهذا قول ضعيف.

والأصل: أن ما بيده من المال إنما هو مالٌ لسيده؛ لأن العبد وما يملك ملكٌ لسيده.

* قوله: (وَجُمْهُورُ مَنْ قَالَ لَا زَكاةَ فِي مَالِ العَبْدِ هُمْ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي مَالِ المُكَاتَبِ حَتَّى يَعْتِقَ

(1)

. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: فِي مَالِ

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 299)؛ حيث قال:" (وليس على المكاتب زكاة؛ لأنه ليس بمالك من كل وجه) ش: لأنه مالك يدًا لا رقبة؛ لأن رقبة للمولى م: (لوجود المنافي وهو الرق) ش: المنافي هو كونه مالكًا من كل وجه وهو الرق؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم بالحديث على ما يأتي في بابه. م: (ولهذا) ش: أي ولكونه غير مالك من كل وجه م: (لم يكن من أهل أن يعتق عبده) ش: لأن ملكه ناقص وهو يمنع وجوب الزكاة".

مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 230)؛ حيث قال: " (أو رق ولو مكاتبًا)؛ يعني: أنه يلزمه أن يخرج زكاة الفطرة عن عبيده وإمائه ولا فرق بين القن ومن فيه شائبة: كالمدبر وأم الولد والمعتق إلى أجل، وكذلك المكاتب على المشهور؛ لأنه إذا عجز رجع رقًّا لسيده، ولا بين الذكور والإناث للقنية أو للتجارة كانت قيمتهم نصابًا أو دونه أصحاء أو مرضى أو زمنَى أو ذوي شائبة، وخص المكاتب بالذكر للخلاف فيه قال فيها: ولا زكاة على عبيد العبيد؛ أي: لا يزكي عنهم سيدهم؛ لأن ملكه غير مستقر، ولا سيد سيدهم؛ لأنهم ليسوا عبيدًا له =

ص: 3144

المُكَاتَبِ زَكَاةٌ

(1)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي زَكَاةِ مَالِ العَبْدِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي: هَلْ يَمْلِكُ العَبْدُ مِلْكًا تَامًّا أَوْ غَيْرَ تَامٍّ؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِلْكًا تَامًّا، وَأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ المَالِكُ إِذْ كَان لَا يَخْلُو مَالٌ مِنْ مَالِكٍ قَالَ: الزَّكَاةُ عَلَى السَّيِّدِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ مِلْكًا تَامًّا لَا السَّيِّدُ).

دليل جمهور العلماء على أن العبد لا زكاة عليه في ماله: أن المكاتب لا زكاة عليه في ماله حتى يعتق.

والمكاتب

(2)

هو: الرقيق الذي جرى بينه وبين سيده عقد أو اتفاق أن يدفع له مالًا نجومًا؛ أي: أقساطًا، فيحصل على الحرية، ومن الأمور الواضحات والقواعد المسلمات أن الإسلام دين يحض على العتق ويرغب فيه، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعتق عبدًا أعتق اللَّه به كُلَّ عضو من أعضائه يوم القيامة

(3)

.

= وإنما يملكهم بالانتزاع ولا يلزمهم أن يخرجوا عن أنفسهم؛ لأن نفقتهم على سيدهم".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 126 - 127)؛ حيث قال:" (دون المكاتب) فلا تلزمه لضعف ملكه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 388)؛ حيث قال:"ولا تجب زكاة على (رقيق) ولو قيل: يملك بالتمليك (ولو) كان (مكاتبًا) لحديث جابر بن عبد اللَّه مرفوعًا: "ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق").

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 60)؛ حيث قال:"وقال أبو ثور: في مال المكاتب الزكاة كما تجب في مال الحر".

(2)

المكاتب: العبد يكاثب على نفسه بثمنه، فإذا سعى وأداه عتق. انظر:"الصحاح"، للجوهري (1/ 209).

(3)

أخرجه البخاري (6715) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أعتق رقبة مسلمة، أعتق اللَّه بكل عضو منه عضوًا من النار، حتى فرجه بفرجه".

ومسلم (1509/ 22) عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من أعتق رقبة، أعتق اللَّه بكل عضو منها عضوًا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه".

ص: 3145

هذا المكاتب قد عرفنا معناه، وهناك المدبَّر

(1)

، والقن

(2)

، والمبعَّض

(3)

.

أما المدبَّر: فهو الذي يعلق سيده حريته على موته.

والقن: هو المملوك ملكًا تامًّا.

وأما المبعَّضُ: فهو الذي بعضه حر وبعضه مملوك، وهو في أبواب الزكاة يعامل معاملة الحر؛ لأنه إذا ملك مالًا يعامل من جانب الحرية؛ لأن فيه مصلحة للفقراء.

وقد اختلف العلماء في وجوب الزكاة في مال المكاتب:

جمهور العلماء

(4)

رحمهم الله: يرون أن المكاتب لا زكاة عليه؛ لأن ملكه للمال ضعيف، فقد يعجز عن تسديد ما عليه فيعود مرة أُخرى مملوكًا ملكًا تامًّا؛ ولأنه ليس أهلًا لأن يواسي غيره، فهو بحاجة إلى المال، فكيف يدفع الزكاة إلى غيره.

مذهب أبي حنيفة

(5)

رحمه الله: أنه يجب عليه العشر في أرضه؛ أي: فيما تخرجه الأرض، ويستدل بحديث:"وفيما سقت السماء العشر"

(6)

.

(1)

المدبر: المعتق عن دبر أي بعد الموت. انظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 64).

(2)

القن من العبيد: الذي ملك هو وأبواه. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"، للمُطَرِّزِيِّ (ص 395).

(3)

المبعض: إطلاق المبعض على العبد الذي أعتق بعضه وبقي بعضه الآخر رقيقًا. انظر: "معجم لغة الفقهاء"، لمحمد رواس قلعجي وزميله (ص 31).

(4)

تقدم بالتفصيل.

(5)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 255)؛ حيث قال:"ملك الأرض ليس بشرط للوجوب لوجوبه في الأرض الموقوفة، ويجب في أرض المأذون والمكاتب ويجب على المؤجر عنده وعندهما على المستأجر كالمستعير، ويسقط عن المؤجر بهلاكه قبل الحصاد لا بعده، وفي المزارعة على قولهما فالعشر عليهما بالحصة".

وفي "الأصل" المعروف بـ "المبسوط"، للشيباني (2/ 142) قال:"قلت أرأيت المكاتب هل في أرضه العشر قال: نعم".

(6)

أخرجه البخاري (1483) عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم =

ص: 3146

وسبب تكرير أبي حنيفة للعشر في عدة مسائل: أن العشر عنده إنما هو مؤونة الأرض؛ أي: يؤخذ مقابل استخدام هذه الأرض.

وعند الجمهور: إنما يجب العشر زكاة للزرع؛ فيقولون: لو كان العشر يجب بالنسبة للأرض لكان إيجابه على الأرض لا على الزراعة، ثم لو كان إيجابه على الأرض لما كان تقديره بالنسبة للزرع؛ لأن الذي يُخرص هو الزرع، وليس في الأرض الإخراص، كذلك لو كان العشر واجبًا على الأرض لوجب أيضًا على الذمي.

* قوله: (إِذْ كَانَتْ يَدُ العَبْدِ هِيَ الَّتِي عَلَيْهِ لَا يَدُ السَّيِّدِ، وَلَا العَبْدُ أَيْضًا، لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ، قَالَ: لَا زَكاةَ فِي مَالِهِ أَصْلًا).

اليد الموضوعة: هي اليد المباشرة التي تباشر المال وتتصرف به؛ فمن رأى من العلماء أن اليد التي تتصرف في هذا المال هي يد المملوك، قال: إنَّ الزكاة تجب عليه، ومن رأى أنه وإن كانت يد العبد موضوعةً على المال، كما لو جعله السيد يقود دوابه ويتصرف فيها ويبيع ويشتري، فليس معنى هذا أنها أصبحت ملكًا له.

* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ اليَدَ عَلَى المَالِ تُوجِبُ الزَّكاةَ فِيهِ لِمَكَانِ تَصَرُّفِهَا فِيهِ تَشْبِيهًا بِتَصَرُّفِ يَدِ الحُرِّ، قَالَ: الزَّكَاةُ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الخِطَابَ العَامَّ يَتَنَاوَلُ الأَحْرَارَ وَالعَبِيدَ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالمُكَلَّفِ لِتَصَرُّفِ اليَدِ فِي المَالِ).

الخطاب العام كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة: 71].

وقوله عليه الصلاة والسلام: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا

= قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر".

ص: 3147

إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. . . "

(1)

. هذه الأدلة وغيرها كثير أدلة مطلقة، فهي توجب الزكاة.

قال العلماء: إطلاق الأدلة يدخل فيها الصغير والمجنون والمكاتب والعبد وغير هؤلاء، وعندما نرجع إلى القواعد التي وضعها الأصوليون يرون الراجح أن الخطابات المطلقة يدخل فيها المكاتب والعبد والصغير وغير هؤلاء.

* قوله: (وَأَمَّا المَالِكُونَ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ الدُّيُونُ الَّتِي تَسْتَغْرِقُ أَمْوَالَهُمْ، أَوْ تَسْتَغْرِقُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَبِأَيْدِيهِمْ أَمْوَالٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ).

هذه مسألة أخرى: وفي نظري أيضًا أن المؤلف لم يبحثها كسابقتها بحثًا دقيقًا.

إذا كان إنسان عنده مال، لكن عليه دين يقابل هذا المال كليًّا، أو يقابل بعضه؛ بحيث لو أدى هذا الدين لم بيق عنده مال، أو لبقي عنده مال لا تجب فيه الزكاة لقِلَّته.

هذه المسألة فيها تفصيل، فقد فرق العلماء بين المال الباطن والمال الظاهر، المال الباطن يقصدون به الأثمان؛ أي: الذهب والفضة، وكذلك عروض التجارة، وسميت بذلك لأنها خفية لا يعرف حقيقتها إلا صاحبها، فلا يستطيع إنسان أن يعرف ما عند زيدٍ من المال إلا إذا أطلعه عليه، أما المال الظاهر: فهو المال المشاهد الذي يراه الفقير، كالماشية والزروع والثمار فإنَّ الفقير يشاهدها عند صاحبها ويعرف مقدارها.

جمهور العلماء: على أن المال الخفي لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه مال

(1)

أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

ص: 3148

غير مشاهد

(1)

.

‌أدلة الجمهور:

- أولها: أثر عثمان رضي الله عنه؛ فإنه كان يخاطب الناس قائلًا: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، حتى تخرجوا زكاة أموالكم"

(2)

،

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 224)؛ حيث قال:" (قوله: إذا مر على العاشر بمال. . . إلخ) مفهوم شرطه لو اعتبر اسم المال على ظاهره إذا لم يمر بمال لا يأخذ منه العاشر، وليس كذلك فإنه يأخذ من الأموال الظاهرة، وإن لم يمر بها فوجب تقييده بالباطن فيتقيد به مفهوم شرطه: أي إذا يمر عليه بمال باطن لا يأخذ منه فيصدق".

مذهب المالكية، يُنظر:"المنتقى شرح الموطأ"، للباجي (2/ 113)؛ حيث قال:"وقوله: فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم يريد أو العين، وإن كان الدين لا تؤخذ زكاته إلا أنه قد يجب إخراج الزكاة منه إذا كان عنده عرض يفي بدينه؛ فيكون حينئذ الذي يجب عليه الدين يؤدي مالًا لولا بقاء الدين عليه لم يتركه؛ فكان يأمرهم بذلك رفقًا بهم وإشفاقًا عليهم، وإن كانت من الأموال الظاهرة وهي الماشية فكان يأمرهم أن يؤدوا منها ما عليهم من الدين من جنسها أو من غير جنسها ببيعها وأداء دينهم لئلا تؤخذ منهم صدقاتها وهي ما يباع بعد الصدقة لأداء الدين، واللَّه أعلم وأحكم".

مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 132)؛ حيث قال:" (ولا يمنع الدين وجوبها) حالًّا كان أو مؤجلًا من جنس المال أم لا للَّه تعالى كزكاة وكفارة ونذر أو لغيره، وإن استغرق دينه النصاب (في أظهر الأقوال) لإطلاق الأدلة، ولأن ماله لا يتعين صرفه إلى الدين، والثاني يمنع كما يمنع وجوب الحج (والثالث: يمنع في المال الباطن وهو النقد)؛ أي: الذهب والفضة وإن لم يكن مضروبًا والركاز".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 175)؛ حيث قال:" (فيمنع) الدين (وجوبها) أي: الزكاة (في قدره حالًّا كان الدين أو مؤجلًا في الأموال الباطنة كالأثمان وقيم عروض التجارة والمعدن و) الأموال (الظاهرة كالمواشي والحبوب والثمار) لقول عثمان: "هذا شهر زكاتكم؛ فمن كان عليه دين فليقضه وليزك ما بقي"".

(2)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 253)(17) عن عثمان بن عفان كان يقول: "هذا شهر زكاتكم؛ فمن كان عليه دين فليؤد دينه، حتى تحصل أموالكم فتؤدون منه الزكاة". وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(789).

ص: 3149

وفي بعض الروايات: "حتى تخلص أموالكم للزكاة"

(1)

.

- الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام في الزكاة: "أمرت أن آخذ صدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم"

(2)

. وجاء في حديث معاذ في بعثه إلى اليمن قال: "وأخبرهم أن اللَّه قد افترض عليهم زكاة أو صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"

(3)

.

فالزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد في فقراء المسلمين، وهذا الذي عنده مال وعليه دين يستغرق جميع ماله ليس من الأغنياء، بل هو يحتاج إلى المواساة، فكيف يواسي غيره.

- الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"

(4)

، و"لا" نافية للجنس، و"صدقة" نكرة في سياق النهي أو النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم

(5)

، "إلا عن ظهر غنى"، وهذا غير غني.

(1)

أخرجه البيهقي في "الكبرى"(4/ 249) عن عثمان قال: "هذا شهر زكاتكم؛ فمن كان منكم عليه دين فليقض دينه حتى تخلص أموالكم فتؤدوا منها الزكاة".

(2)

هذا الحديث مذكور بالمعنى، ذكره النووي في "المجموع"(6/ 228)، وابن قدامة في "المغني"(3/ 67).

قال النووي تعليقًا: "هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم"".

(3)

أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19).

(4)

أخرجه البخاري (1426) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول".

واللفظ الذي أشار إليه الشارح أخرجه أحمد في "المسند"(7155) عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول". وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

(5)

يُنظر: "روضة الناظر"، لابن قدامة (2/ 13)؛ حيث قال:"النكرة في سياق النفي كقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} ". وانظر: "الإحكام في أصول الأحكام"، للآمدي (2/ 205).

ص: 3150

- الدليل الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"

(1)

.

فالإنسان الذي عليه دينٌ عليه أن يسدِّد ما عليه من حقوق الناس أولًا، إذا سدَّدها أخرج زكاة ماله إن بقي مال يبلغ النصاب.

الخلاصة: جمهور العلماء

(2)

يرون التفريق بين من عنده مال تجب فيه الزكاة، وعليه دين يستغرقه كله، أو يستغرق جُلَّه؛ بحيث ما تبقَّى لا تجب فيه الزكاة.

ويقصد بقوله: "المالكون"؛ أي: الذين يملكون شيئًا من المال،

(1)

نفس الحديث السابق.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 255)؛ حيث قال:"وإن كان ماله أكثر من الدين زكى الفاضل إذا بلغ نصابًا لفراغه عن الدين، وإن كان له نصب يصرف الدين إلى أيسرها قضاء".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(1/ 486)؛ حيث قال: " (ولا يسقط الدين زكاة حب ولا تمر ولا ماشية) وكذلك لا يسقط زكاة معدن ولا ركاز، مثل أن يكون عنده شيء من هذه المذكورات وعليه دين يستغرق ما عنده فتجب عليه الزكاة ولا يسقطها".

مذهب الشافعية، يُنظر:"المهذب في فقة الإمام الشافعي"، للشيرازي (1/ 264)؛ حيث قال:"إن كان له ماشية أو غيرها من أموال الزكاة وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال على النصاب ففيه قولان: قال في القديم: لا تجب الزكاة فيه لأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما أخذه الحاكم بحق الغرماء فيه وقال في الجديد: تجب فيه الزكاة لأن الزكاة تتعلق بالعين والدين يتعلق بالذمة فلا يمنع أحدهما الآخر كالدين وأرش الجناية".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 175)؛ حيث قال:" (ولا زكاة في مال من عليه دين يستغرق النصاب)؟ سواء حجر عليه للفلس أو لا (أو) عليه دين (ينقصه) أي: النصاب (ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب، أو) يجد (ما) يقضي به الدين غير النصاب، لكنه (لا يستغني عنه) كمسكنه وكتب علم يحتاجها وثيابه وخادمه فلا زكاة عليه (ولو كان الدين من غير جنس المال) المزكى (حتى دين خراج، و) حتى (أرش جناية عبيد التجارة، و) حتى (ما استدانه لمؤنة حصاد وجذاذ ودياس) ينبغي حمل ذلك على ما أستدانه لذلك قبل وجوب الزكاة في الزرع والثمر وإلا فلا".

ص: 3151

ولا يشترط في هذا المال أن يكون نقدًا أو غير نقد، فقد يكون ذهبًا أو فضة، أو ريالات أو دولارات، أو غير ذلك من العملات التي يستخدمها الناس في هذا الزمان، وربما تكون عروض تجارة كالتجارة في السيارات والمعدات الكهربائية والآلات، وهذه كلها تدخل في عروض التجارة، ما دام الناس يعدونها للتجارة.

قيد المؤلف الديون بقوله: "التي تستغرق أموالهم"، لو قدر أن إنسانًا عنده عشرة آلاف ريال وعليه دين لا يزيد عن خمسة آلاف؛ فإنه يخرج الدين ثم بعد ذلك يزكِّي.

أما الكلام هنا فيمن عنده مال يستغرقه الدين؛ أي: يقابله تمامًا، أو يقابل ما تجب فيه الزكاة، بحيث إذا أخذ الدين وصُفِّي أصبح ما عنده لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه لم يبلغ النصاب.

"حبًّا كان أو غيره"، يقصد بالحب ما تنبته الأرض؛ لأنه كثر خلاف الحنفية حول قضية الأرض التي تنبت فهم يرون أن العشر واجب فيها لمؤونة الأرض.

* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ، حَبًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى تُخْرَجَ مِنْهُ الدُّيُونُ، فَإِنْ بَقِيَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ زُكِّيَ وَإِلَّا فَلَا، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ المُبَارَكِ وَجَمَاعَةٌ).

فالمال إذا كان حبًّا أو غير حبٍّ لا زكاة فيه حتى تخرج منه الديون؛ فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زُكِّيَ، وإن لم يبق منه شيء فلا زكاة فيه.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(1)

: الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ زَكاةَ الحُبُوبِ، وَيَمْنَعُ مَا سِوَاهَا).

(1)

يُنظر: "الأصل"، للشيباني (2/ 134)، حيث قال: "قلت: أرأيت الحنطة والحلبة والشعير والتين والزيتون والزبيب والذرة والسمسم والأرز وجميع الحبوب فعليه العشر إذا كان في أرض العشر؟ قال: نعم. قلت: أرأيت الرجل يكون عليه الدين =

ص: 3152

خالف الحنفية الجمهور في مسألة الحبوب؛ فهم يرون أن الحبوب تختلف عن غيرها؛ لأن الزكاة فيها إنما هي مؤنة الأرض.

* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: الدَّيْنُ يَمْنَعُ زَكَاةَ النَّاضِّ فَقَطْ)

(1)

.

المراد بالناض

(2)

: النقدان إذا تحوَّلا عن متاع، كالذي يعرف في المضاربة

(3)

: رأس المال عندما يصفى ويحول إلى نقود يُسمَّى نض المال، وأما الذهب والفضة فإنه يُسمَّى نقدين، وقد يُسمَّى تبرًا وهو الذهب المسبوك.

ومالك رحمه الله يمنع زكاة الناض؛ لأنه يعتبره من الأموال الباطنة، وهو يوافق مذهب الجمهور في هذه المسألة.

كلام المؤلف أدخل بعضه مع بعض، فلم يفرق بين أن يكون ظاهرًا وبين أن يكون باطنًا.

* قوله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُرُوضٌ فِيهَا وَفَاءٌ مِنْ دَيْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ).

إذا كانت عنده عروض توفي دينه، فإنه حينئذ يزكي ما عنده من

= يحيط بقيمة أرضه هل عليه عشر فيما خرج من أرضه؟ قال: نعم". وفي "الجوهرة النيرة"، للحدادي (1/ 114)، "قال الصيرفي رحمه الله: وأجمعوا أن الدين لا يمنع وجوب العشر".

(1)

زكاة الناض هنا المقصود بها زكاة العين.

قال الفاكهاني: "والعين: المال الناض". "رياض الأفهام"(5/ 569).

قال القاضي عبد الوهاب في "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"(1/ 407): "الدَّين يمنع الزكاة عن العين، ولا يمنعها عن الماشية والحبوب والحرث، دليلنا ما روي عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كان للرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه"".

(2)

تقدم تعريفه.

(3)

المضاربة: معاقدة دفع النقد إلى من يعمل فيه على أن ربحه بينهما على ما شَرَطَا. انظر: "طلبة الطلبة"، للنسفي (ص 148).

ص: 3153

الناضِّ، فلو أن إنسانًا عنده مبلغ من النقود، وعليه ديون تستغرق هذا المبلغ، لكن عنده عروض تجارة تساوي الدين؛ فإن هذا مقابل هذا ويزكي ما عنده من الناض.

هذا هو مراد المؤلف، وهو الذي يُشير فيه إلى مذهب المالكية.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ بِمُقَابِلِ القَوْلِ الأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ زَكَاةً أَصْلًا).

ذهب الشافعي

(1)

رحمه الله في الجديد: إلى أن الدين لا يمنع الزكاة أصلًا.

والشافعي رحمه الله له مذهبان: مذهبه القديم، وهو الذي أسسه في العراق لأنه أقام في العراق فترة طويلة تعلم فيها وأصبح عالمًا من العلماء، ثم أصبح إمامًا من الأئمة وطوف في عدة بلاد، ذهب إلى المدينة وأقام بمكة فترة، وألقى دروسًا في بيت اللَّه الحرام، وذهب إلى اليمن وإلى غير ذلك، لكنه في النهاية ألقى عصا التسيار

(2)

في مصر، ولما ذهب إلى مصر أسس مذهبه الجديد، التقى بعد ذلك بالليث وبتلاميذه، ووقف على مسائل جديدة، فأسس مذهبه الجديد، وهو في كثير من مسائله يخالف مذهبه القديم.

لكن ليس معنى هذا أن كل ما دوَّنه الشافعي في مذهبه الجديد هو

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 125)؛ حيث قال:" (ولا يمنع الدين وجوبها) سواء كان حالًّا أم لا، من جنس المال أم لا، للَّه تعالى كالزكاة والكفارة والنذر أم لا (في أظهر الأقوال) لإطلاق الأدلة الموجبة للزكاة؛ ولأنه مالك للنصاب نافذ التصرف فيه. والثاني: يمنع كما يمنع وجوب الحج. (والثالث: يمنع في المال الباطن، وهو النقد) ولو عبر بالذهب والفضة ليشمل غير المضروب كان أولى". وانظر: "روضة الطالبين"، للنووي (2/ 197).

(2)

ألقى عصا التَّسْيار: كلمة تقال للرجل إِذا أقام. انظر: "شمس العلوم"، للحميري (2/ 976).

ص: 3154

الصواب

(1)

، بل هناك مسائل في مذهبه القديم هي أصح من الجديد، والشافعية نبهوا على ذلك وبينوه.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ: هَلِ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ أَوْ حَقٌّ مُرَتَّبٌ فِي المَالِ لِلْمَسَاكِينِ؟)

(2)

.

تنقسم الحقوق إلى ثلاثة أقسام:

- حق خالص للَّه سبحانه وتعالى لا يجوز لأحد أن يشرك فيه معه غيره، كالعبادات التي لا يجوز أن يشرك مع اللَّه فيها غيره، كالشهادتين والصلاة والصيام.

- وهناك حقوق خاصة بالمخلوقين، كحق الإنسان في التصرف في ماله.

- وهناك حقوق مشتركة، كما نجد ذلك في الحدود: فالقصاص فيه حق للَّه وحق للإنسان الذي اعتدي عليه، كذلك حد القذف، وحد السرقة. . . إلى غير ذلك من الأمور، وهذه القاعدة يعبر عنها الفقهاء بقاعدة الحقوق.

(1)

قال ابن الصلاح: "وكل مسألة فيها قولان، قديم وجديد، فالجديد أصح وعليه الفتوى إلا في نحو عشرين مسألة أو أكثر يفتي فيها على القديم على خلاف في ذلك بين أئمة الأصحاب في أكثرها، وذلك مفرق في مصنفاتهم". انظر: "أدب المفتي والمستفتي"، لابن الصلاح (ص 128 - 129).

لكن الغالب أن الجديد هو الأصح وهو المعمول به.

قال النووي في "المجموع"(1/ 66): "كل مسألة فيها قولان للشافعي رحمه الله قديم وجديد، فالجديد هو الصحيح وعليه العمل".

وقال أيضًا في "المجموع"(1/ 68): "ليس للمفتي ولا للعامي المنتسب إلى مذهب الشافعي رحمه الله في مسألةِ القولين أو الوجهين أن يعمل بما شاء منهما بغير نظر بل عليه في القولين العمل بآخرهما".

بل حرَّم الشافعي على الناس رواية القديم، فقد نقل الزركشي قوله:"ليس في حلٍّ من روى عني القديم". انظر: "البحر المحيط"، للزركشي (8/ 357).

(2)

تقدم الكلام عليها.

ص: 3155

فالزكاة فيها حق للَّه سبحانه وتعالى؛ لأنها عبادة تعبَّد اللَّه المؤمنين بأن يؤدوها، وحق للفقراء قال تعالى:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 24، 25]؛ فهي من هذا الجانب حق للمستحقين من الأصناف الثمانية.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا حَقٌّ لَهُمْ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى حَقِّ المَسَاكِينِ، وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ مَالُ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَا الَّذِي المَالُ بِيَدِهِ، وَمَنْ قَالَ هِيَ عِبَادَةٌ قَالَ: تَجِبُ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ مَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، وَعَلَامَتُهُ المُقْتَضِيَةُ الوُجُوبَ عَلَى المُكَلَّفِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ هُنَالِكَ حَقَّانِ: حَقٌّ للَّه، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى).

الذين يقولون بوجوب الزكاة فيمن عليه دين، لا يقولون بقول المؤلف، وإنما هم يقولون: هذا إنسان يملك نصابًا من المال، وهو مطالب بالزكاة، والزكاة واجبة في هذا المال؛ فيجب عليه أن يخرجها، لا فرق بين أن يكون عليه دين أو لم يكن عليه دين.

واختلف العلماء في ارتباط الزكاة بالذمة أو بالعين

(1)

:

(1)

مذهب الحنفية والمالكية والشافعي في مذهبه الجديد: الزكاة تجب في العين دون الذمة. وقال الحنابلة: تجب الزكاة في الذمة بحلول الحول، وإن تلف المال فرط أو لم يفرط، وإذا حال الحول على مال ولم يؤد زكاته، وجب أداؤها لما مضى.

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار"، للحصكفي (ص 130)؛ حيث قال:" (و) لا في (هالك بعد وجوبها) ومنع الساعي في الأصح لتعلقها بالعين لا بالذمة، وإن هلك بعضه سقط حظه، ويصرف الهالك إلى العفو أولًا، ثم إلى نصاب يليه، ثم وثم (بخلاف المستهلك) ".

مذهب المالكية، يُنظر:"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 67)؛ حيث قال: " (الشرط الثالث) كون المال مما تجب فيه الزكاة وهو ثلاثة أصناف العين والحرث والماشية". مذهب الشافعية، يُنظر:"المهذب في فقة الإمام الشافعي"، للشيرازي (1/ 268)؛ =

ص: 3156

فعلى القول بأنها بالذمة لهم في المسألة كلام، وعلى القول: بأنها مرتبطة بالعين، فهي تزول بزوال العين وتبقى ببقائها، وهذا سيأتي فيمن ضاعت زكاته أو فرط فيها، هل يضمن أو لا يضمن.

إذن التعليل هنا: إنسان وجبت عليه الزكاة في مال هو في يده، له أن يتصرف فيه فتجب عليه، كحال من ليس عليه دين.

* قوله: (وَالأَشْبَهُ بِغَرَضِ الشَّرْعِ إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَنِ المِدْيَان

(1)

).

المراد بالمديان

(2)

الذي يستدين، وإذا تتبعنا قواعد الشريعة والأسس

= حيث قال: "هل تجب الزكاة في العين أو في الذمة؟ فيه قولان: قال في القديم: تجب في الذمة والعين مرتهنة بها، ووجهه: أنها لو كانت واجبة في العين لم يجز أن يعطى حق الفقراء من غيرها كحق المضارب والشريك وقال في الجديد: تجب في العين. وهو الصحيح؛ لأنه حق يتعلق بالمال فيسقط بهلاكه فيتعلق بعينه كحق المضارب. فإن قلنا: إنها تجب في العين وعنده نصاب وجبت فيه الزكاة فلم تؤد حتى حال عليه حول آخر لم تجب في الحول الثاني زكاة؛ لأن الفقراء ملكوا من النصاب قدر الفرض فلا تجب في الحول الثاني زكاة لأن الباقي دون النصاب وإن قلنا تجب في الذمة وجب في الحول الثاني وفي كل حول لأن النصاب باق على ملكه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"المغني"، لابن قدامة (2/ 506)، حيث قال:" (والزكاة تجب في الذمة بحلول الحول وان تلف المال، فرط أو لم يفرط) هذه المسألة تشتمل على أحكام ثلاثة: أحدها: أن الزكاة تجب في الذمة. وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي؛ لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن واجبة فيه، كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه، لامتنع تصرف المالك فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، أو ظهر شيء من أحكام ثبوته فيه، ولسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط، كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني. والثانية، أنها تجب في العين".

(1)

يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"، للبراذعي (1/ 423)؛ حيث قال:"ويسقط زكاته مهر امرأته، وزكاة فرط فيها من حرث أو ماشية أو عين، وكذلك إن كان عليه إجارة أجراء عملوا له قبل الحول [أو كراء إبل وجب عليه قبل الحول] فإنه يسقطها كما يسقط الدين".

(2)

المديان: الكثير الدين الذي علته الديون، وهو مفعال من الدين للمبالغة. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (2/ 150).

ص: 3157

التي تسير عليها، سنجد أن المدين إنسان تراكمت عليه الديون وتكاثرت عليه الهموم، فهو بحاجة إلى الرأفة، والتخفيف عليه، وإيجاب الزكاة عليه فيه تحميل وحرج.

* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهَا: "صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ"

(1)

، وَالمَدِينُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ).

فالإنسان الذي عنده مال وعليه دين يستغرقه جميع المال، أو يستغرق ما تجب فيه الزكاة، هذا لا يُسمَّى غنيًّا، والرسول عليه الصلاة والسلام قال:"تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم"

(2)

، والزكاة مواساة شرعت مواساة للفقراء، وهذا في حاجة للمواساة.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الحُبُوبِ وَغَيْرِ الحُبُوبِ، وَبَيْنَ النَّاضِّ وَغَيْرِ النَّاضِّ، فَلَا أَعْلَمُ لَهُ شُبْهَةً بَيِّنَةً).

يذكر المؤلف أن هناك فريقًا من العلماء فرَّق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وبين غير الناضِّ، وذكر أنه لا يعلم دليلًا لما ذهبوا إليه، ولكننا نقول: بل لهذا الفريق وجهة نظر.

فقد قالوا: إن الأموال الباطنة لا ترى، وأما الأموال الظاهرة كالمواشي والحب فإنها ترى، والأموال الظاهرة قلوب الفقراء متعلقة بها، لأن أعينهم تنظر إليها فتتوق أنفسهم وأفئدتهم إليها.

ويقولون أيضًا: نحن نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يرسل السعاة ليخرصوا الحبوب والثمار، وليأخذوا الزكاة من الماشية، فأرسل عبدَ اللَّه بنَ رواحة إلى اليهود ليخرص عليهم

(3)

، وكذلك فعل خلفاؤه من بعده: أبو

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود (1606) عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد اللَّه بن رواحة إلى يهود فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(805).

ص: 3158

بكر وعمر وعثمان وعلي، وكذلك فعل الخلفاء من بعدهم، ولم يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه كانوا يرسلون السعاة ليأخذوا الأموال النقدية، أو عروض التجارة من الناس، وإنما هذا أمر واجبٌ يتعين على المسلم أن يؤديه من تلقاء نفسه؛ لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام، ولا يحق للمسلم أن يخفي هذا الركن.

* قوله: (وَقَدْ كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ"

(1)

).

‌فائدةٌ:

أبو عبيد هو الإمام المعروف صاحب كتاب "الأموال"، وهو كتاب عظيم اشتمل على جملة من الأحاديث والآثار، يُرجَع إليه كثيرًا فيما يتعلق بأحكام الخراج والزكاة، وفي كثير من الأحكام التي تتعلق بالأموال.

هذه مسألة أُخرى أشار إليها المؤلف: اختلف العلماء

(2)

إذا جاء

(1)

الذي وقفت عليه من كلام أبي عبيد أنه أسقط الزكاة على من كان عليه دينًا يحيط بماله دون اعتبار علمه من عدمه؛ فقال في "الأموال"(ص 612): "إذا كان الدين صحيحًا قد علم أنه على رب الأرض، فإنه لا صدقة عليه فيها، ولكنها تسقط عنه لدينه، كما قال ابن عمر، وطاوس، وعطاء، ومكحول، ومع قولهم أيضًا: إنه موافق لاتباع السنة، ألا ترى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما سن أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء، فترد في الفقراء؟ وهذا الذي عليه دين يحيط بماله، ولا مال له، وهو من أهل الصدقة، فكيف تؤخذ منه الصدقة، وهو من أهلها؟ أم كيف يجوز أن يكون غنيًّا فقيرًا في حال واحدة؟ ومع هذا إنه من الغارمين -أحد الأصناف الثمانية- فقد استوجبها من جهتين".

(2)

يُنظر في مذهب الأحناف: "مجمع الأنهر"، لشيخي زاده (1/ 209، 210)، وفيه قال: " (ويقبل قول من أنكر) من التجار الذين يمرون عليه (تمام الحول)، ولو حكمًا كما في المستفاد وسط الحول (أو الفراغ من الدين)؛ أي: أنكر فراغ الذمة من الدين المطالب من العبد. . . (أو ادعى الأداء بنفسه إلى الفقراء في المصر)؛ لأن الأدأء كان مفوضًا إليه فيه وولاية الأخذ بالمرور لدخوله تحت الحماية وإنما قال في المصر؛ لأنه لو ادعى الدفع إليهم بعد الخروج من المصر لا يقبل (في غير =

ص: 3159

الساعي إلى إنسانٍ فطلب منه زكاة ماله فقال: ليس لديَّ مالٌ، هذه العروض التي عندي هي لغيري.

بعضهم يقول: إن لم يعرف عليه كذب يُصدّق.

وبعضهم يقول: لا يصدق.

= السوائم)؛ لأن حق الأخذ في السوائم للإمام في المصر وغيره، ثم إذا لم يجز الإمام دفعه يضمن عندنا. قيل: الزكاة هو الأول والثاني سياسة. وقيل: هو الثاني والأول ينقلب نفلًا هو الصحيح (أو) ادعى (الأداء إلى عاشر آخر إن وجد عاشر آخر) في تلك السنة أو نصب آخر في غير هذا المحل قيد به لظهور كذبه إذا لم يعلم وجود عاشر آخر؛ لأن الأمين يصدق بما أخبر إلا بما هو كذب بيقين (مع يمينه) ".

ويُنظر في مذهب المالكية: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 270، 271)، وفيه قال:"قال في "المدونة": ومن نزل به الساعي فقال له: إنما أفدت غنمي منذ شهر صدق ما لم يظهر كذبه، قال مالك: ولا يحلف، وقد أخطأ من يحلف الناس من السعاة، وقال محمد: يحلف، قال في "الذخيرة": قال عبد الوهاب: المعروف بالديانة لا يطالب ولا يحلف، والمعروف بمنع الزكاة يطالب بها ولا يحلف، والمجهول الحال في الزكاة، ولو عرف بالفسق يحلف وفيه خلاف، وذكر ابن رشد في تحليف من ادعى ما يسقط الزكاة ثلاثة أقوال: ثالثها يحلف المتهم وتأول بعضهم أن الثالث تفسير. قال: وهذا التأويل صحيح فيمن ظهر له مال وادعى ما يسقط الزكاة، وأما من لم يظهر له مال وادعى عليه الساعي أنه عين ماله فإن كان لا يتهم لم يحلف باتفاق، وإن كان ممن يتهم فقولان، انتهى". من أول سماع ابن القاسم من زكاة الماشية.

يُنظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 234)، وفيه قال:" (فلو ادعى) المالك (النتاج بعد الحول) أو نحو البيع أثناءه أو غير ذلك من مسقطات الزكاة وخالفه الساعي واحتمل قول كل (صدق) المالك؛ لأن الأصل عدم الوجوب مع أن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن (فإن اتهم) من الساعي مثلًا (حلف) ندبًا فإن أبى ترك، ولا يحلف ساع، ولا مستحق".

يُنظر في مذهب الحنابلة: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 23)، وفيه قال:(وإن ادعى) مالك نصاب نقص منه أو باع ونحوه (عدم)؛ أي: الفرار، (وثم) بفتح المثلثة (قرينة) فرار، ككونه شحيحًا، أو تخاصم مع الساعي، أو الفقراء (عمل بها)؛ أي: القرينة، ورد قوله، لدلالتها على كذبه، (وإلا) يكن ثم قرينة (قبل قوله) في عدم الفرار؛ لأنه الأصل".

ص: 3160

والأصل أنه يصدق في هذه؛ لأن هذه عبادة ينبغي للإنسان أن يصدق فيها؛ لأن هذا أمر بينه وبين اللَّه.

* قوله: (وَهَذَا لَيْسَ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ الزَّكاةَ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ لِمَنْ يَقُولُ: يُصَدَّقُ فِي الدَّيْنِ كَمَا يُصَدَّقُ فِي المَالِ).

هذه القضية لم يعرض لها المؤلف، وقد نكون في حاجة إليها في أمور حياتنا، إذا كان إنسان عليه كفارة أو نذرٌ، وعنده مال تجب فيه الزكاة.

بعض العلماء

(1)

يقولون: تقدم النذور والكفارات؛ لأن هذه حق للَّه،

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 302)؛ حيث قال:" (حتى لا يمنع دين النذر والكفارة) ش: لأنه لا مطالب له من جهة العباد، وكذا صدقة الفطر ووجوب الحج، وهدي المتعة والأضحية. وفي "الجامع": دين النذر لا يمنع، ومتى استحق من جهة الزكاة بطل النذر فيه، بيانه: له مائتا درهم نذر أن يتصدق بمائة منها وحال الحول سقط النذر بقدر درهمين ونصف؛ لأن في كل مائة استحق لجهة الزكاة درهمان ونصف، ويتصدق للنذر بسبعة وتسعين ونصف، ولو تصدق بمائة منها للنذر يقع درهمان ونصف عن الزكاة؛ لأنه متعين بتعيين اللَّه، فلا تبطل بتعيينه ولو نذر بمائة مطلقة لزمته؛ لأن محل المنذور به الذمة، فلو تصدق بمائة منها للنذر يقع درهمان ونصف للزكاة، ويتصدق بمثلها عن النذر لأنه ينقص به النصاب".

مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 505)؛ حيث قال:"لو كان الدين الذي عليه من ديون الزكاة وهو يستغرق ما بيده فهل يحج به ويؤخر دين الزكاة أو يصرف ذلك في الزكاة ويسقط عنه دين الحج؟ لم أر فيه نصًّا والظاهر أنه يجب عليه أن يؤدي دين الزكاة ويسقط عنه الحج؛ لأنه واجب أداؤه على الفور اتفاقًا وإجماعًا والمتفق عليه أو المجمع عليه مقدم على المختلف فيه، ولأن دين الزكاة يسقط الزكاة الحاضرة على المشهور، ولا شك أن الزكاة الحاضرة مقدمة على الحج فيقدم دين الزكاة على الحج من باب أولى، أما لو كان عليه دين كفارات أو هدايا فالظاهر أن الحج مقدم على ذلك؛ لأن هذه على التراخي والراجح في الحج أنه على الفور وأن لها بدلًا وهو الصيام فيرجع إليه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 126)؛ حيث قال: " (لو اجتمع زكاة ودين آدمي في تركة) بأن مات قبل أدائها وضاقت التركة عنها (قدمت)؛ أي: الزكاة وإن كانت زكاة فطر على الدين، وإن تعلق بالعين قبل الموت كالمرهون =

ص: 3161

وفي الحديث: "ودين اللَّه أحق أن يقضى"

(1)

.

وبعضهم يقول: الزكاوات واجبة ومتعينة، وثبوتها أقوى من ثبوت هذه؛ فينبغي أن تقدم عليها، والذي يظهر لي في هذه الحالة أن الزكاة تقدم على النذور وعلى الكفارات.

* قوله: (وَأَمَّا المَالُ الَّذِي هُوَ فِي الذِّمَّةِ -أَعْنِي: ذِمَّةَ الغَيْرِ- وَلَيْسَ هُوَ بِيَدِ المَالِكِ وَهُوَ الدَّيْنُ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، فَقَوْمٌ قَالُوا: لَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ قُبِضَ).

إذا كان لرجل دينٌ على آخر، فإما أن يكون المَدين مليئًا أو غير مليءٍ، والمليء هو: المعترف بالدين القادر على سداده، اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

قال بعضهم: يزكيه وهو في يد غيره؛ لأن صاحبه قادر على أخذه في أي لحظة، فكأنه في يده، وهذا -فيما أذكر- هو مذهب الشافعي أو قول له

(2)

.

= تقديمًا لدين اللَّه، لخبر "الصحيحين":"فدين اللَّه أحق بالقضاء"؛ ولأن مصرفها أيضًا إلى الآدميين، فقدمت لاجتماع الأمرين فيها والخلاف جار في اجتماع حق اللَّه تعالى مطلقًا مع الدين، فيدخل في ذلك الحج وجزاء الصيد والكفارة والنذر كما صرح به في المجموع. نعم الجزية ودين الآدمي يستويان على الأصح مع أن الجزية حق للَّه تعالى (وفي قول) يقدم (الدين)؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المضايقة لافتقارهم واحتياجهم".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 18)؛ حيث قال:" (ولو) كان الدين (كفارة ونحوه) كنذر، (أو) كان (خراجًا) عن الأرض، (أو) كان (زكاة غنم عن إبل)؛ لأنه دين، يجب قضاؤه فمنع كدين الآدمي، وفي الحديث: "دين اللَّه أحق أن يقضى"". وانظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 70).

(1)

أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال:"نعم"، قال:"فدين اللَّه أحق أن يقضى".

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 125)؛ حيث قال: " (وإن تيسر) أخذه بأن كان =

ص: 3162

وبعضهم قال: يزكيه إذا قبضه، وهذا مذهب الحنابلة والحنفية

(1)

.

والذين يقولون: يزكيه إذا قبضه، اختلفت أقوالهم:

- فبعضهم قال: يزكيه على الأعوام السابقة، فلو قدر أنك أقرضت أخاك دينًا وبقي عنده ثلاث سنوات، فإنك إذا تسلمته تقضي الزكاة عن ثلاثة أعوام.

- وبعضهم يقول: تقضي عن حولٍ واحدٍ، وهذا هو مذهب مالك، ونقل عن بعض التابعين

(2)

.

- وبعضهم يقول: لا زكاة فيه، وقد نقل هذا عن الصحابيين: عبد اللَّه بن عمر وعائشة رضي الله عنهما وقول عكرمة

(3)

.

* ودليل الذين قالوا: لا زكاة فيه؛ قالوا: مال لأنه لا نماء له؛ فالإنسان مطالب بأن ينمي ماله حتى لا تأكلها الصدقات، وهذا مال مجمَّد في يد الغير.

* ودليل الذين قالوا: تجب الزكاة فى كل ما مضى: لأنك عندما تسلمت هذا المال أصبح مالك، كما لو كان عندك وتحتقظ به، فيلزمك أن تزكيه عن الأعوام السابقة.

= على مليء مقر حاضر باذل أو جاحد وبه بينة أو يعلمه القاضي، وقلنا: يقضي بعلمه (وجبت تزكيته في الحال)؛ لأنه مقدور على قبضه فهو كالمودع، وكلامه يفهم أنه يخرج في الحال وإن لم يقبضه، وهو المعتمد المنصوص في "المختصر"، وقيل: لا حتى يقبضه فيزكيه لما مضى، ولو أمكنه الظفر بأخذ دينه من مال الجاحد حيث لا بينة من غير خوف ولا ضرر لم يجب الإخراج في الحال كما هو المتبادر من كلام الشيخين وغيرهما، وإن كان قضية كلام ابن كِجٍّ والدارمي تزكيته في الحال".

(1)

سيأتي.

(2)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 71)؛ حيث قال:"روي عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني وأبي الزناد: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة".

(3)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 71)؛ حيث قال:"وقال عكرمة ليس في الدين زكاة. وروي ذلك عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم؛ لأنه غير نام، فلم تجب زكاته، كعروض القنية".

ص: 3163

* ودليل الذين قالوا: يزكيه عن عام واحد، قالوا: لأن هذا المال ليس فيه نماء، فإذا ما رجع إليه زكاه عن آخر عام مر به، على اختلاف بينهم في ذلك.

* قوله: (حَتَّى يَسْتَكْمِلَ شَرْطَ الزَّكَاةِ عِنْدَ القَابِضِ لَهُ - وَهُوَ الحَوْلُ).

تجب الزكاة بشرطين متفق عليهما، وشرط واحد مختلف فيه.

أما الشرطان المتفق عليهما:

أولًا: ملك النصاب.

الثاني: أن يمضي حول، فلا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، وهذا فيما يكون يكون فيه الحول كالنقدين وعروض التجارة والماشية، أما الزروع والثمار فلا يشترط حَوَلان الحول، وإنما تجب زكاتها عند اشتداد الحب، وعند بدوِّ صلاح الثمر.

الثالث: وهذا قال به بعض العلماء، وبعضهم لا يراه شرطًا: أن يتمكن من الإخراج.

قالوا: هذه عبادة فينبغي أن يتمكن من الإخراج، فالصلاة واجبة، لكن الحائض لا تصلي؛ لأن الصلاة سقطت عنها، والصيام كذلك واجب عليها ولا تؤديه وهي حائض؛ ولذلك ذكرت عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في الحائض:"تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة"

(1)

؛ لأن الصلاة تتكرر معها، وفي ذلك مشقة، وهذا من التخفيف الذي جاءت به هذه الشريعة، لكن الصوم يأتي مرة في العام فيجب على المرأة أن تقضيه.

(1)

أخرجه مسلم (335) عن معاذة، قالت:"سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة. فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة".

ص: 3164

وهذا الشرط سيأتي له أثر في مسائل سنتطرق لذكرها، فيمن وجبت عليه الزكاة، وحال عليه الحول، وتمكن من الإخراج، ولم يخرج الزكاة: بعض العلماء يفرق بين قدرته على التمكن من عدمها، وبعضهم يطلق ذلك.

* قوله: (وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ

(1)

، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ

(2)

، أَوْ هُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ).

يجب أن يستقبل به حولًا جديدًا، لو فرضنا أن إنسانًا له عند شخص ألف ريال، في اليوم الذي يقبض فيه المال، يبدأ يعدُّ الحول.

وقول الشافعي في هذه المسألة ليس كما ذكر المؤلف، وربما ذكر المؤلف بعضًا منه، فالشافعية لهم تفصيل كبير في هذه المسألة.

فهم يقولون: الأموال أنواع:

الأول: مال ليس بلازم، كمال المكاتب، وهذا لا تجب فيه الزكاة.

الثاني: مال لازم، لكن لا تجب فيه الزكاة، وهي السائمة.

الثالث: أما بالنسبة للأثمان وعروض التجارة، فمذهب الشافعية فيها

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 130 - 131)؛ حيث قال:" (والدين إن كان ماشية) لا للتجارة كأن أقرضه أربعين شاة أو أسلم إليه فيها ومضى عليه حول قبل قبضه (أو) كان (غير لازم كمال كتابة فلا زكاة فيه)؛ لأن السوم في الأولى شرط وما في الذمة لا يتصف بالسوم، ولأنها إنما تجب في مال تام والماشية في الذمة لا تنمو، بخلاف الدراهم فإن سبب وجوبها فيها كونها معدة للصرف، ولا فرق في ذلك بين النقد وما في الذمة، وما اعترض به الرافعي التعليل من جواز ثبوت لحم راعية في الذمة فحيث جاز ذلك جاز أن يثبت فيها راعية رد بأنه إذا التزمه أمكن تحصيله من الخارج، والكلام في أن السوم لا يتصور ثبوته في الذمة وإنما يتصور في الخارج ومثل الماشية المعشر في الذمة فلا زكاة فيه؛ لأن شرطها الزهو في ملكه ولم يوجد".

(2)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (3/ 309)؛ حيث قال:"ومن الفقهاء الليث بن سعد".

ص: 3165

أنها تجب فيها الزكاة، ولذلك المؤلف لم يكن جازمًا: هل هو مذهب الشافعي أو هو مفهوم مذهبه.

الخلاصة: الشافعية لهم ثلاثة أقوال فيها تفصيل، والذي يقول المؤلف ينطبق -كما قلنا- على الأثمان وعروض التجارة.

* قوله: (وَقَوْمٌ قَالُوا: إِذَا قَبَضَهُ، زَكَّاهُ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ).

وهذا هو مذهب الحنابلة

(1)

وبعض العلماء

(2)

.

* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ

(3)

: يُزَكِّيهِ لِحَوْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ المِدْيَانِ سِنِينَ، إِذَا كَانَ أَصْلُهُ عَنْ عِوَضٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ مِثْلِ المِيرَاثِ، فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِ الحَوْلَ، وَفِي المَذْهَبِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ).

وهذا قول مالك، وجمع من العلماء من معاصريه وممن سبقوه.

* قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ الْمُحْبَسَةِ الْأُصُولِ).

الثمار المحبوسة الأصول يقصد بها المؤلف: "الموقوفة"، فهو يريد أن يتكلم عن الوقف، فهذه أشجارٌ أصولها موقوفةٌ، أشجار عنبٍ، أو

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 173)، حيث قال:" (وتجب) الزكاة (أيضًا في دين على غير مليء) وهو المعسر (و) دين (على مماطل وفي) دين (مؤجل، و) في (مجحود ببينة أو لا) لصحة الحوالة به والإبراء منه، فيزكي ذلك إذا قبضه، لما مضى من السنين. رواه أبو عبيدة عن علي وابن عباس للعموم كسائر ماله".

(2)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء"، لابن المنذر (3/ 85)؛ حيث قال:"وقالت طائفة: يزكيه إذا قبضه لما مضى عليه من السنين، هذا قول الثوري، وأحمد، وأبي ثور".

(3)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير و"حاشية الدسوقي" (1/ 468)؛ حيث قال:"وإنما يزكى الدين المقبوض بشروطه (لسنة) فقط ولو أقام عند المدين سنين".

ص: 3166

نخيلٍ، كما قد يكون الموقوف دورًا، أو عمائرَ؛ موقوفة على مدارسَ، أو قناطرَ، أو مساجدَ، أو مساكينَ، أو أناسٍ معينين، وهذه المسألة فيها كلام جيدٌ وقفت عليه وهو للحنابلة، والشافعية.

فمن أدقِّ المذاهب في هذا مذهب الإمامين الشافعي وأحمد؛ لأنهما فرَّقا بين الأمرين؛ فقسَّما الأموال المحبوسة الأصول -أعني الموقوفة- إلى قسمين:

‌القسمُ الأوَّل: أموالٌ موقوفةٌ على جهاتٍ معينةٍ:

كالأموال التي توقف على المساجد؛ بناءً وترميمًا وصيانةً ومحافظةً عليها، أو الأموالُ التي توقف على المدارس في بنائها وتشييدها، وفي الإنفاق على طلابها وفي القيام بشؤونها، وكذلك الأموال التي توقفُ على شقِّ الطرقاتِ، وعلى القناطرِ، وحفر الآبارِ، وكذلك أيضًا الأموالُ التي توقفُ على إقامة العمائر والمساكن التي يسكن فيها الأيتام والعجزة والمحتاجون، ومثلها الأموالُ التي توقفُ على الفقراءِ والمساكين، فهذه كلها معدودةٌ في هذين المذهبين جهاتٌ عامةٌ؛ لأنَّ مصلحتها عامةٌ لا تقتصر على إنسانٍ بعينهِ.

‌القسمُ الثَّاني: أن توقفَ على إنسانٍ أو أناسٍ معينين.

ففرَّق أصحاب المذهبين بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا: إنَّ الأموال التي توقف على جهاتٍ عامةٍ لا زكاة فيها؛ لأن هذه نفعها ظاهرٌ، مال أُوقف لتبنى به المساجد، أو لتبنى به المدارسُ، لتشقَّ به الطرق، لتقام به المستشفياتُ، ليعالج به المرضى، لتبنى به المدارسُ، والمساكنُ التي يقيم فيها طلَّاب العلم من المحتاجين أو من الفقراء، وقفًا على الفقراء والمساكين، هذا لا زكاةَ فيه، لكن إذا أُوقفت أموالٌ على زيدٍ من الناس، أو زيدٍ وبكرٍ، فهذه ينبغي أن تزكَّى.

وبعض أهل العلم لم يفصِّل هذا التفصيل، وفي نظري أنَّ هذا هو الرأي الذي يلتقي مع روح الشريعة الإسلامية؛ كما في الحجر على مال السفيهِ؛ لما في ذلك من إرجاعه إلى الحقِّ، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذنَّ على يدي الظالمِ،

ص: 3167

ولتأطرنَّه على الحق أطرًا، ولتقصرنَّه على الحقِّ قصرًا"

(1)

؛ ليوقف عند الطريق السوي، فهذه هي الشريعة الإسلامية، ولو أراد الإنسان أن يتكلم عن كل جزئيةٍ فيها لوجد فيها الكثير من الأسرار، فهي شريعةٌ خالدةٌ باقيةٌ ما بقيَ الليل والنهار، وما طرق العالم منذ أن قام حتى يرث اللَّه الأرض ومن عليها مثل هذه الشريعة الكاملة الشاملة، التي تعالجُ مشكلاتِ الناس بالقسطاس المستقيم، هذه هي شريعة اللَّه التي عدل عنها طائفةٌ من المؤمنين، واستبدلوها بغيرها، ولو أنهم وقفوا عند هذه الشريعة لحلَّت بهم السعادة، وعاد لهم مجدهم وعزتهم، ولزال وارتفعَ عنهم ما هم فيه من ذلةٍ وتسلط للأعداء عليهم، لكنهم -مع الأسف- خرجوا عنها إلى غيرها، فاستبدلوا شريعة اللَّه بقانون البشر، وشتان بين هذا وذاك.

* قوله: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ الْمَحْبُوسَةِ الْأُصُولِ، وَفِي زَكاةِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ).

يقصد الثمار التي لها أصولٌ، النخل -كما هو معلومٌ- لها أصولٌ، فهي تحبس وتوقف، والقصد هناب (المحبوسة الأصول): الموقوفة، فأصلها موقوفٌ، لكنَّ ريعها يستفاد به، فهذا هو مراد المؤلف، ولذلك فإنه سيتكلم عنها أنها أضعف من الأموال غير المحبسَّة الأصول بالنسبة للاستفادة بها، ولذلك سنبيِّن عندما نأتي إلى أبواب الوقف - كلام العلماء: هل يجوز بيع الوقف أو لا يجوز؟

والصحيح أنه لا يباعُ، ولا يوهبُ، ولا يورثُ، وكذلك: هل الوقف ينقلُ؟ والصحيح أنه ينقل عند وجود الضرورةِ والحاجة الملحَّةِ.

هذه أيضًا مسألةٌ جديدةٌ دخل فيها المؤلِّف، وهي ما إذا زرعت أرضٌ يملكها شخصٌ، وآخر استأجرها ليزرعها، هل على المستأجر أم على المالكِ؟

(1)

أخرجه أبو داود (4336)، وضعَّف إسناده الأرناؤوط.

ص: 3168

* قوله: (وَفِي زَكَاةِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى مَنْ تَجِبُ زَكَاةُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، هَلْ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ صَاحِبِ الزَّرْعِ؟).

أرض يملكها شخصٌ، فاستأجرها شخصٌ آخر، فزرعها هذا الشخص زرعًا تجب فيه الزكاة، غرس فيها نخلًا -مثلًا-، أو عنبًا، أو شيئًا من البقوليَّات التي تجب فيها الزكاة، ولا أريد أن أسبق إلى الكلام عن زكاة الحبوب، لكن هناك أشياءُ تجب فيها الزكاة، وأشياءُ لا تجب فيها الزكاةُ؛ كالخضراواتِ والفواكهِ.

فعندما تغرس هذه الأرض، ويخرج فيها ما تجب فيه الزكاة، كثمرٍ بدا صلاحه، وحبٍّ اشتد، ووجبت فيه الزكاة، فهل يؤدي الزكاةَ صاحبُ الزَّرع، أو يؤديها صاحب الأرض؟

فيها خلافٌ، فجماهير العلماء يرون أنَّ الزكاة إنما تجب على الزارع الذي زرع الأرض؛ لأنَّ الزكاة مرتبطةٌ بالزراعة، وأبو حنيفة يرى أنَّ الزكاة تجب في الأرض، وقد قلتُ من قبل: إنَّ لأبي حنيفة أصلًا يعتمد عليه في هذا الباب، هذا الأصل هو أنَّ الزكاة مؤنة الأرض، وليست مؤنة للزراعة، والجمهور يرون أنها مؤنةٌ للزراعة وليست للأرض، ومن هنا وقع الخلاف بينهم.

لكن يبقى هنا سؤالٌ: لماذا قالى الجمهور كذا وقال أبو حنيفة كذا؟

أبو حنيفة له أصلٌ، يرى دائمًا أن الأصل في زكاة الثمار والحبوب إنما هو الأرض؛ ويقيس ذلك على أرض الخراج وعلى غيره. . .، فهناك كلامٌ كثيرٌ للحنفية في المسألة.

لكن الجمهور يقولون: إنَّ الزكاة مرتبطةٌ بالزرع؛ لأنَّ الذي يقدَّر هو الزرع، فدل ذلك على أنَّ الزكاة تجب فيه، ولأنه لو لم تكن الزكاة واجبةً في الزرع لوجبت في الأرض زُرعت أو لم تزرع؛ لأننا إذا قلنا: إنَّ الزكاة هي مؤنة الأرض، فلماذا لا نأخذها عن الأرض وهي غير مزروعةٍ؟

كيف نقول بأنها مؤنة الأرض ولا نأخذها من الأرض غيرِ المزروعةِ؟

ص: 3169

ويقول جمهور الفقهاء: لو كانت -كما ياتول الحنفية- هي مؤنة الأرض، لانتقلت من باب الزكاةِ إلى باب الفيءِ؛ لأنها أصبحت أموالًا تؤخذ على الأرض، فتنتقل إلى باب الفيء الذي يؤخذ على الأراضي.

ومعلومٌ أنَّ الأراضي التي يستولي عليها المسلمون أنواعٌ، فهناك من الأراضي ما فتح عنوةً؛ كأرض مكة، وهناك ما أخذه المسلمون صلحًا كبعض الأراضي، ومنها أيضًا ما أوقف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعضها، ومنها ما وزَّعها بين المؤمنين، وقد وجد ذلك مجتمعًا في أرض خيبر، ومن هنا فإنَّ عمر رضي الله عنه لم يقسم أرض السواد بين المؤمنين، وعمر رضي الله عنه قد وهبه اللَّه سبحانه وتعالى حصافة عقلٍ ورجاحةً في فكرٍ، وكان عميقًا في كل أموره، ومعلومٌ أنَّ ثمة آياتٍ من القرآن نزلت مؤيدةً لرأي عمر، فكم من آراء طرحها عمر فجاء القرآن مؤيدًا له فيما قال؛ كالصلاة عند المقام، وكذلك بالنسبة لأسرى بدر، والحجاب، والمسائل في ذلك متعددةٌ.

فعمر رضي الله عنه عندما جاء بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبعد أبي بكرٍ، اتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وفتحت أرض السَّواد في العراق، ففكَّر عمر رضي الله عنه في هذه المسألة، لو أنَّ هذه الأراضي قسمت بين المؤمنين، فماذا سيبقى لمن يأتي من بعدهم، ظلَّ عمر يفكِّر، وخالفه بعض الصحابة، وانتهى به الأمر إلى أن قرأ الآيات:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 17] وهي آيات طويلةٌ، إلى أن قال:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، فاعتبر عمر أنَّ هذه الآية سندٌ له، ولا يعتبر ما فعله عمر رضي الله عنه مخالفًا لما سنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فهذا فعلٌ يفعله الإمام إذا رأى المصلحة، وقد وافق عمر رضي الله عنه كثيرٌ من الصحابة، كعليٍّ وغيره من أكابر الصحابة، ولقد عرضت هذه المسألة، لما لها من علاقةٍ بهذا الموضوع الذي نحن الآن بصدد الحديث عنه.

وخلاصة القول في مسألتنا هذه أن لو كانت أرض تزرع، فاستأجرها إنسانٌ فزرعها، فالجمهور -وفيهم الأئمة الثلاثة- على أنَّ الزكاة على

ص: 3170

الزرع، فالذي يؤديها إنما هو زارعها، إذا وجبت في المال الزكاة، وأبو حنيفة يرى أنَّ الزكاة هي مؤنة الأرض، وهذا أصلٌ أصَّله في مذهبه، وقد خالفه بعض أصحابه في ذلك، فانضموا إلى جمهور العلماء.

* قوله: (وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ إِذَا انْتَقَلَتْ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ أَهْلُ الْعُشْرِ).

أرض الخراج: هي مثل أرض السواد التي تركها عمر رضي الله عنه في أيدي أهلها، وضرب عليهم الخراج، ليؤخذ منهم الخراج.

أرض الخراج إذا تحولت إلى المسلمين هل فيها زكاة أو لا؟ هذه مسألة أيضًا عرض لها المؤلِّف.

* قوله: (وَفِي الْأَرْضِ الْعُشْرِ وَهِيَ أَرْضُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا انْتَقَلَتْ إِلَى الْخَرَاجِ).

كذلك الأرض التي فيها عشر لو تحولت أرض خراجٍ، فهذه يضرب عليها الخراج أو تبقى فيها الزكاة، أو لا خراج ولا زكاة؟ هو الآن يقدم لنا عناوين المسائل.

* قوله: (-أَعْنِي: أَهْلَ الذِّمَّةِ-، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهَا أَمْلَاكٌ نَاقِصَةٌ).

أملاكٌ ناقصةٌ: هذه أموالٌ للمسلمين وضعت في أيدي هؤلاء، وضرب عليهم الخراج، ليست أموالًا تامةً؛ لأنَّ ثمة فرقًا بين هذه، وبين مال في يديك، فأنت تتصرف فيه غاية التصرف، لكن هذه أموالٌ تجد الأوقاف عليها؛ كناظرٍ مسؤول عنها، كتصرف الولي في مال اليتيم، فتصرفه فيه ليس ملكًا له، لكنه يتصرف فيه فيما يتعلَّق بالمصلحة، فلو حاف وظلم رفع الأمر إلى القاضي؛ لأنَّ الوليَّ قد وضع أمينًا على هذا المال؛ لأنَّ السلطان وليُّ من لا ولي له، فلو ولي إنسانٌ مال يتيمٍ، فحاف فيه وظلم وتعدَّى وتجاوز، فحينئذٍ يوقفه القاضي عند حده، ويضع بديلًا

ص: 3171

عنه، للقاضي أن يشرف عليه بنفسه، أو أن يضعَ من يشرف عليه.

تلك الأموال ليست كاملةً؛ لأنه ليس لمن هي بأيديهم أو من ينتفعون بها، التصرف الكامل فيها. . .

* قوله: (أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ زَكَاةُ الثِّمَارِ الْمُحَبَّسَةُ الْأُصُولِ: فَإِنَّ مَالِكًا

(1)

، وَالشَّافِعِيَّ

(2)

كَانَا يُوجِبَانِ فِيهَا الزَّكاةَ، وَكَانَ مَكْحُولٌ وَطَاوُسٌ يَقُولَانِ

(3)

: لَا زَكَاةَ فِيهَا).

المحبَّسة الأصول هي التي وُقفت، والوقف -كما هو معلومٌ- أمر مشروعٌ، وقصد المؤلف هنا في هذه المسألة: إذا أُوقفت أصول شيءٍ، وكان له ريعٌ فكيف يُستفاد بهذا الريعُ

(4)

؟ هذا الريع الذي يُستفاد منه هل تجب فيه الزكاة؟

في هذه المسألة أقوالٌ عدَّة كما سبق، لكن القول الذي رجَّحناه وانتهينا إليه، وقلنا إنه الأقرب لروح هذه الشريعة وإلى يُسرها، وإلى

(1)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (2/ 333)؛ حيث قال: "وأما ما تجب الزكاة في غلته ولا تجب في عينه وذلك حوائط النخل والأعناب: فإن كانت موقوفةً على غير معينين مثل المساكين في بني زهرة أو بني تميمٍ فلا خلاف أنَّ ثمرتها مزكاةٌ على ملك المحبس، وأنَّ الزكاة تجب في ثمرتها إذا بلغت جملتها ما تجب فيه الزكاة، وكذلك إن أثمرت في حياة المحبس وله حوائطٌ لم يحبسها فاجتمع في جميع ذلك ما تجب فيه الزكاة، واختلف إن كانت محبسةً على غير معينين، فقال ابن القاسم في المدونة: إنها أيضًا مزكاةٌ على ملك المحبس وفي كتاب ابن المواز: إنها مزكاةٌ على ملك المحبس عليهم فمن بلغت حصته منهم ما تجب فيه الزكاة زكَّى عليه، ومن لم تبلغ حصته منهم ما تجب فيه الزكاة لم تجب عليه زكاة".

(2)

نبه الشيخ على عدم صحَّة ذلك عنه ولا أصحابه رحمهم الله.

(3)

يُنظر: "الوقوف والترجل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل" للخلال (1/ 73)؛ حيث قال: "مكحول وطاوس: ليس في الأوقاف صدقةٌ".

(4)

الرِّيع: فضل كل شيءٍ على أصله، وهو الزيادة في السهام، يقال: هي أرضٌ كثيرة الريع؛ أي: كثيرة الإتاء من الثمر وغيره. انظر: "العين" للخليل (2/ 243)، "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 199).

ص: 3172

سماحتها، وإلى عدالتها، هو ما أَخَذ به الشافعية والحنابلة، من أنها إذا كانت على جهةٍ عامةٍ فلا زكاة فيها؛ كأنْ تكون موقوفةً على مساجد، أو على قناطر، أو على أيتامٍ، أو على مدارسَ، أو على مساكين، أو غير ذلك من الأصناف التي ذكرناها آنفًا، فهذه لا زكاة فيها، أما إنْ كانت موقوفةً على معيّنٍ؛ كشخصٍ من الناس أو أشخاص، فإنها تجب فيها الزكاة، وهذا هو الأولى.

* قوله: (وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُحَبَّسَةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ).

لقد صحَّحتُ ما في الكتاب من وهمٍ، وقلتُ إنَّ ما نسبه المؤلف إلى الشافعية غير صحيحٍ، وإنما مذهبهم هو الأخير

(1)

، وهم والحنابلة

(2)

في ذلك سواءٌ، وهو الذي أشرتُ إليه قبل قليلٍ.

* قوله: (فَأَوْجَبُوا فِيهَا الصَّدَقَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبُوا فِيهَا الصَّدَقَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى الْمَسَاكِينِ).

ليس مراد المؤلِّف بالصدقة هنا صدقة التطوع، وإنما المراد بها: الزكاة، والزكاة أيضًا تُسمى صدقةً، كما في قول اللَّه سبحانه وتعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60]، إلى آخر الآيات، فالزكاة صدقةٌ؛ لأنَّ القصد أن يتصدَّق بها على الفقراء والمساكين، والصدقة نوعان:

- صدقةٌ مفروضةٌ واجبةٌ، ركنٌ، وهي الزكاة.

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 123)؛ حيث قال: "لا زكاة في الموقوف على جهةٍ عامةٍ، وتجب في الموقوف على معينٍ".

(2)

يُنظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 170)؛ حيث قال: " (ولا) زكاةَ (في السائمة وغيرها الموقوفة على غير معينٍ، كالمساكين أو على مسجدٍ ورباطٍ ونحوهما) كمدرسةٍ، لعدم ملكهم لها"، وانظر:"الفروع" لابن مفلحٍ (3/ 464).

ص: 3173

- وصدقةُ تطوعٍ، وهذه غير واجبةٍ، لكنها من الأعمال الطيبة المشروعة التي حضّت عليها هذه الشريعة، ورغّبت فيها، وطالبت بالإسراع والمبادرة إلى الإنفاق في هذا السبيل، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرةٌ عرضنا لبعضها أثناء حديثنا عمّا يتعلق بالزكاة.

* قوله: (وَلَا مَعْنَى لِمَنْ أَوْجَبَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي ذَلِكَ شَيْئَانِ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا:).

انظر إلى عبارات المؤلف، مما يُعجبني في المؤلف أنه لا يتعصب لمذهبه، فمعلومٌ أنه ينتسب إلى مذهب المالكية، لكنَّ ذلك لا يؤثر عليه، فهو بهذا يُرجّح الرأي الذي ذهبنا إليه، وتعليله وجيهٌ بلا شك، وهذا هو شأن طالب العلم الذي يريد الحق، ويبتغي الوصول إليه من أقرب طريقٍ وأهدى سبيلٍ، ولا شك أنَّ الحقَّ في ذلك ما وافق كتاب اللَّه عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالقول الذي يؤيده الكتاب، وتعضِّده سنةُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نقدّمه على كل قولٍ، وليس معنى أن نأخذ بقول عالمٍ من العلماء، أو بأقوال بعض العلماء دون بعضهم - أن هذا نقصٌ في الآخرين، لكن هؤلاء وُفّقوا إلى الصواب في هذه المسألة، اجتهدوا فيها، ونحن نرى فيما يظهر لنا أنها أقرب إلى الكتاب والسنة فنأخذ بها، وقد تأتي مسائل أخرى يكون رأي الطائفة الأخرى المرجوحة هو الصواب فيها، فنكون معهم فيها، وهكذا.

* قوله: (أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِلْكٌ نَاقِصٌ).

هي مِلك ناقصٌ؛ لأن أصولها مُحبَّسة، وهناك فرقٌ بين الوقف الذي وُقف أصله؛ كعمارةٍ توقف على جهةٍ معينةٍ، أو على جهةٍ عامَّة، فيستفاد بها في سكنها، وفي ريعها، لكن هذا الوقف لا يُباع، ولا يوهبُ، وبين مالٍ تملكه ملكًا تامًّا تتصرف فيه بيعًا وشراءً وهبةً، وغير ذلك، فهو مِلكٌ ناقصٌ؛ لأنَّ المِلك إنما هو مُتعلقٌ بالمنافع، ومن هنا يُفرّق العلماء بين البيع وبين الإجارة؛ فالإجارة إنما هي مِلكٌ للمنافع، والبيع إنما هو مِلكٌ للعين؛ فأنت عندما تستأجر دارًا، تملك منفعتها مدةً

ص: 3174

معينةً، هي ذلك الوقت الذي استأجرتها فيه؛ سنة أو أكثر أو أقل، وعندما تستأجر دكانًا لمدة عامٍ فأنت ملكتَ منافعه لمدة عامٍ، لكن لو اشتريت هذا الدكان فأنت تملك أصله، وكذلك أيضًا تستفيد بمنافعه؛ بأن تُقيمه حانوتًا لك فتبيع فيه وتشتري، أو تُؤجّره على غيرك، إلى غير ذلك من الوسائل المباحة.

* قوله: (وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا عَلَى قَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ مِنَ الصِّنْفِ الَّذِينَ تُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ).

وأيضًا النوع الآخر أنها على أقوامٍ غير معيَّنين من الأصناف الثمانية الذين تُصرف إليهم الصدقات؛ فهؤلاء تُصرف إليهم الصدقات، فكيف يُطالب بإخراج زكاة مثل هذا النوع؟ هذا هو مراد المؤلف.

* قوله: (الَّذِينَ تُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، لَا مِنَ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ).

مراد المؤلف أنَّ هؤلاء الذين سيستفيدون من هذا الوقف هم أُناسٌ بحاجةٍ إلى الصدقة، وليسوا أُناسًا يتصدقون على غيرهم، فهم فقراء وليسوا أغنياء، وبكل هذا يريد المؤلف أن يؤيد الرأي الأخير، رأي الذين يقولون بالتفريق بين أن تكون موقوفةً على جهةٍ عامةٍ، أو جهةٍ معينةٍ.

وقد تكلمنا فيما مضى عن عناية الشريعة أكثر بما يتعلق بمصلحة العامة، وقلنا: مصلحة المجتمع مُقدّمةٌ على مصلحة الفرد، وضربنا أمثلةً على ذلك فيما يتعلق بالقصاص، والحدود، وبكثيرٍ من الأحكام.

* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ عَلَى مَنْ تَجِبُ زَكَاةُ مَا تُخْرِجُهُ).

إذا جئتَ إلى إنسانٍ يملك أرضًا صالحةً للزراعة، ومعلومٌ أنه ليست كل الأراضي صالحة للزراعة؛ فمن الأراضي ما تجد أنها أرض مُنبتةٌ صالحةٌ، وبعض الأراضي ليست بصالحةٍ للزراعة، فإذا ما استأجر إنسان

ص: 3175

قطعة أرضٍ من إنسانٍ يملكها، ودفع إليه أجرتها، ثم بعد ذلك زرعها حَبًّا، ونخلًا، وغير ذلك، فإنَّ الزكاة تجب فيها.

لكن على من تجب الزكاة؟

جمهور العلماء يرون أنها تجب في الزرع؛ أي: على المستأجر.

وأبو حنيفة يرى أنها على مالك الأرض.

وسبب الخلاف: أنَّ جمهور العلماء يقولون إنَّ الزكاة مرتبطةٌ ومتعلقةٌ بهذا الزرع، أو هذه الثمار.

وأبو حنيفة يقول: إنَّ الزكاة إنما هي مؤنة الأرض؛ سواءٌ قلنا هي أرضٌ عُشريّة: أي يؤخذ فيها العُشر، أو نصف العشر، فهو يرى أنَّ الزكاة مؤنة، تُؤخذ مؤنةً للأرض، وليس الأمر كذلك، ونحن قد ضعّفنا قول الحنفية، وبيّنا أنَّ القول الراجح هو قول جمهور العلماء، وقد ضربنا عدة أمثلة، أو ذكرنا عدة أقيسةٍ يترجّح بها مذهب جمهور العلماء، منها أنه لو كانت الزكاة على الأرض ما فُرّق بين أرض مزروعةٍ وبين غيرها، وَلَقيل إنَّ ما يُحصل عليه من هذه إنما يُصرف في البيع وليس في الزكاة، وهناك عدة تعليلاتٍ ذكرناها.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ

(1)

، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

).

وأحمد

(3)

.

(1)

يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص 427)؛ حيث قال: "إذا استأجر أرضًا فزرعها، فالزكاة على صاحب الزرع دون صاحب الأرض".

(2)

يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 229)؛ حيث قال: "إذا اكترى أرضًا من أرض العشر أو الخراج؛ فعليه فيما أَخرجَت الصدقة".

(3)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 421)؛ حيث قال: " (و) الزكاة في خارج من أرضٍ مؤجرةٍ على (مستأجر) أرضٍ (دون مالك) ها؛ لأنها زكاة مال فكانت على مالكه كالسائمة".

ص: 3176

* قوله: (وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَبُو ثَوْرٍ

(1)

وَجَمَاعَةٌ

(2)

، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(3)

: الزَّكَاةُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْعُشْرُ حَقُّ الْأَرْضِ أَوْ حَقُّ الزَّرْعِ أَوْ حَقُّ مَجْمُوعِهِمَا؟ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ حَقٌّ لِمَجْمُوعِهِمَا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَقُّ مَجْمُوعِهِمَا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ حَقٌّ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا هُوَ أَوْلَى أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الِاتِّفَاقُ، وَهُوَ كَوْنُ الزَّرْعِ وَالْأَرْضِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لِلشَّيْءِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ وَهُوَ الْحَبُّ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لِلشَّيْءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْأَرْضُ).

هو حق مجموعهما على اختلاف الأرض، لكن على هذا الوضع لا، لا أوافق المؤلف، نعم هو حقُّ مجموعهما، على أنه قد يؤخذ على الأرض، وقد يؤخذ على الزرع، لا على وجه الجمع بينهما.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ إِذَا انْتَقَلَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ هَلْ فِيهَا عُشْرٌ مَعَ الْخَرَاجِ أَمْ لَيْسَ فِيهَا عُشْرٌ؟ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ -أَعْنِي: الزَّكَاةَ-

(4)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

يُنظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 36)؛ حيث قال: "فقالت طائفةٌ: الزكاة على مالك الزرع المستأجر دون رب الأرض، هذا قول مالكٍ، والثوري، وشريكٍ، وابن المبارك، وأبي ثور".

(2)

منهم: شريك؛ كما ذكره ابن المنذر في: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 36).

(3)

يُنظر: "المبسوط" للسرخسي (3/ 5)؛ حيث قال: "رجلٌ استأجر أرضًا من أرض العشر وزرعها قال: عشر ما خرج منها على رب الأرض بالغًا ما بلغ سواءٌ كان أقل من الأجر أو أكثر في قول أبي حنيفة".

(4)

يُنظر للمالكية: "المدونة" لابن القاسم (1/ 381)؛ حيث قال: "قلت: أرأيت إن استأجرت أرضًا من أرض الخراج، أعلي من العشور شيءٌ وهل فيما أخرجت الأرض من عشرٍ؟ قال: قال مالكٌ: نعم فيها العشر على المتكاري الزارع". =

ص: 3177

وَأَصْحَابُهُ

(1)

: لَيْسَ فِيهَا عُشْرٌ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ -كَمَا قُلْنَا-: هَلِ الزَّكَاةُ حَقُّ الْأَرْضِ، أَوْ حَقُّ الْحَبِّ؟).

هذه امتدادٌ للمسألة التي سبقتها، والخلاف بين أبي حنيفة وبين الجمهور في هذه المسائل متعلقٌ بهذه المؤنة؛ هل هي في مقابل الأرض أو الزرع؟

* قوله: (فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ حَقُّ الْأَرْضِ لَمْ يَجْتَمِعْ فِيهَا حَقَّانِ: وَهُمَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ، وَإِنْ قُلْنَا: الزَّكَاةُ حَقُّ الْحَبِّ كَانَ الْخَرَاجُ حَقَّ الْأَرْضِ، وَالزَّكَاةُ حَقَّ الْحَبِّ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا الْخِلَافُ فِيهَا لِأَنَّهَا ملكٌ نَاقِصٌ كَمَا قُلْنَا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ أَرْضِ الْخَرَاجِ).

وهي مِلكٌ ناقصٌ أيضًا؛ لأنها موقوفةٌ، أرض الخراج إنما هي موقوفة -وأظن أن هذا كله شُرح-، وتكلّمتُ عن عمر رضي الله عنه عندما تكلم في أرض الخراج، وحصل خلافٌ بين الصحابة، واستدلَّ بالآيات، وقلنا: سيأتي لهذا تفصيل أكثر -إن شاء اللَّه-.

* قوله: (وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ أَرْضِ الْخَرَاجِ).

هذه مسألة مهمة جدًّا، هل يجوز للمسلم أن يبيع أرضه إلى ذمّيٍّ أو لا يجوز؟

= ينظر للشافعية: "المجموع" للنووي (5/ 534)؛ حيث قال: "وإن كان على الأرض خراجٌ وجب الخراج في وقته، ويجب العشر في وقته، ولا يمنع وجوب أحدهما وجوب الآخر لأنَّ الخراج يجب للأرض والعشر يجب للزرع، فلا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر وزكاة التجارة".

يُنظر للحنابلة: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 219)؛ حيث قال: " (ويجتمع العشر والخراج في كل أرضٍ خراجيةٍ) نص عليه؛ لعموم الأخبار".

(1)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (4/ 192)؛ حيث قال: " (ولا يؤخذ العشر من الخارج من أرض الخراج) لأنهما لا يجتمعان".

ص: 3178

من العلماء من كره ذلك، ومنهم من قال: يَحرم ذلك، ومنهم من لم يرَ بأسًا في ذلك

(1)

، وأكثر العلماء تحفظًا هو الإمام مالك، ولا شك أنَّ الإمام مالكًا رحمه الله وجهته ظاهرةٌ في هذا؛ لأنَّ هذا من باب الإعانةِ لهم، ومن باب تقويتهم، فهو لا يرى أن تُؤجّر لهم الأرض أو أن تُباع لهم، وإنما ينبغي دائمًا أن يكونوا دون غيرهم؛ حتى يكون ذلك دافعًا لهم إلى الدخول في الإسلام، فينبغي ألا تكون لهم الرفعة على المؤمنين، وألا يكونوا مساوين لهم.

* قوله: (وَأَمَّا إِذَا انْتَقَلَتْ أَرْضُ الْعُشْرِ إِلَى الذِّمِّيِّ يَزْرَعُهَا: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ

(2)

عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَقَالَ النُّعْمَانُ

(3)

: إِذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ أَرْضَ عُشْرٍ تَحَوَّلَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ).

هنا عدل المؤلف عن منهجه السابق؛ فهو كثيرًا ما يقول: أبو حنيفة، وهنا قال: النعمان، وهو يقصد به أيضًا أبا حنيفة.

* قوله: (فَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْعُشْرَ هُوَ حَقُّ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ هُوَ حَقُّ أَرْضِ الذِّمِّيِّينَ، لَكِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إِذَا انْتَقَلَتْ

(1)

هو ظاهر مذهب الأحناف؛ يُنظر للأحناف: "شرح كنز الدقائق" للزيلعي (1/ 294)؛ حيث قال: "يجب الخراج إن اشترى ذمي غير تغلبي أرضًا عشريةً من مسلمٍ وهذا عند أبي حنيفة".

(2)

وهم المالكية والشافعية والحنابلة؛

يُنظر للمالكية: "مواهب الجليل"(2/ 278)؛ حيث قال: "لو باع المسلم أرضًا لا خراج عليها لذميٍّ فلا خراج على الذمي ولا عشر عند مالكٍ".

يُنظر للشافعية: "الأم" للشافعي (4/ 14)، حيث قال:"وإن كان ذميًّا فزرع أرض الخراج فلا عشر عليه".

يُنظر للحنابلة: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 422)؛ حيث قال: " (ولا عشر عليهم) أي: أهل الذمة إذا اشتروا الأرض العشرية أو الخراجية أو استأجروهما ونحوه لأنه زكاة وقربة، وليسوا أهلها".

(3)

يُنظر: "شرح كنز الدقائق" للزيلعي (1/ 294): "يجب الخراج إن اشترى ذميٌّ غير تغلبي أرضًا عشريةً من مسلمٍ وهذا عند أبي حنيفة".

ص: 3179

أَرْضُ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَعُودَ أَرْضَ عُشْرٍ، كَمَا أَنَّ عِنْدَهُ إِذَا انْتَقَلَتْ أَرْضُ الْعُشْرِ إِلَى الذِّمِّيِّ عَادَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْمَالِكِ مَسَائِلُ أَلْيَقُ الْمَوَاضِعِ بِذِكْرِهَا هَذَا الْبَابُ).

يتعلق بالمالك؛ أي: الذي عنده مالٌ؛ سواءٌ كان من النقدين، أو من الماشية، أو من الحبوب والثمار، هناك أمورٌ تتعلق به؛ لأنه هو الذي يُخرج الزكاة، وهي مسائل يليق ذكرها في هذا الباب؛ فهي تتعلق بما أشرتُ إليه من قبل فيما إذا تلف مال الزكاة أو بعضه.

* قوله: (أَحَدُهَا: إِذَا أَخْرَجَ الْمَرْءُ الزَّكَاةَ فَضَاعَتْ).

إنسانٌ أخرج الزكاة ثم ضاعت، وضعها في مكانٍ معينٍ ثم ضاعتْ، فما الحكم هنا؟ هذه فيها أقوال متعددةٌ، وخلافٌ مشهورٌ بين العلماء، بعضهم يرى أنه لا شيء عليه؛ لأنه رجل أدّى ما عليه، أخرج الزكاة فوضعها في مكانٍ، فأراد أن يُسلّمها فضاعت، أو سلّمها إلى جهةٍ لتوصلها فضاعت، فلم تصل إلى أيدي مستحقيها.

وبعض أهل العلم يرى أنه لا شيء عليه في ذلك؛ يقولون: هو أدّى الواجب. وبعضهم يقول: لا، بل يلزمه أن يؤدي عوضًا عنها.

وبعضهم يُفرّق بين أن يُفرّط أو لا يُفرّط، وبين أن يتمكَّن أو لا يتمكن.

* قوله: (وَالثَّانِيَةُ: إِذَا أَمْكَنَ إِخْرَاجُهَا فَهَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ).

مراد المؤلِّف: إذا أمكن إخراجها فلم يُخرجها فهلك المال، لو أمكن إخراجها وأخرجها انتهى الأمر، لكن أمكن إخراجها، فلم يبادر في إخراجها، فتلف المال، فما الحكم هنا؟

ص: 3180

* قوله: (وَالثَّالِثَةُ: إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ).

الثالثة: مات إنسانٌ حال عليه الحول، لكن اخترمته المنيّة قبل أن يؤدي زكاة ماله، فما الحكم هنا؟ هل ينتقل الحكم إلى الورثة؟ وإذا انتقل فكيف يُخرج؟ هل يُخرج من أصل المال؟ أو من الثُلث الذي يوصِي به؟ وإن قلنا: من الثُلث فكيف يُخرج؟ هذه كله فيه كلامٌ للعلماء.

* قوله: (وَالرَّابِعَةُ: إِذَا بَاعَ الزَّرْعَ أَوِ الثَّمَرَ وَقَدْ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى مَنِ الزَّكَاةُ؟).

كذلك إذا وجبت الزكاة في زرعٍ، فباعه صاحبه ولم يُخرج الزكاة، فالزكاة متعيّنةٌ هنا، فهل بيعُ الزرعِ قبل إخراج الزكاة يُفسد البيع أو لا يُفسده؟

إن قلنا: لا يُفسده فمَن المُلزَم بأداء الزكاة؟ أهو البائع الذي لزمته؛ لأنها وجبت عليه، وهذه الأموال في ذمته؟ أو أنها تكون على المُشترِي؟ ولو قيل على المشتري فهل يُسلّمها ويرجع على البائع؟ هذا كله فيه كلامٌ أيضًا معروفٌ، ومشهورٌ في الفقه، نحن الآن نقرأ المقدِّمات ونسردها، ولما ندخل فيها بعد.

* قوله: (وَكذَلِكَ إِذَا وَهَبَهُ).

كذلك أيضًا إذا وهبه، وهذا يسميه الفقهاء نوعًا آخر، وعادة الفقهاء -وبخاصةٍ أصحاب الكتب المشهورة- أنهم يتوسعون في العنوان، فيقولون: إذا استفاد مالًا؛ لأنَّ المال المُستفاد ليس هبةً فقط، قد يكون -كما قلنا- بشراءٍ، وقد يكون جاءه عن طريق وقفٍ بأن وُقف عليه شيءٌ، أو على أُناسٍ فجاءه نصيبه، وقد يكون ورث مالًا، وقد يكون أيضًا أُهدي إليه -كما ذكر المؤلف-، فالأسباب كثيرةٌ، والوسائل متعددةٌ.

لماذا يتعمَّق الفقهاء رحمهم الله في مثل هذه المسائل؟

المؤلف هنا دخل في مسائل جزئية؛ فهو أحيانًا يخرم القاعدة التي

ص: 3181

سار عليها، ويقول إنه يتكلم عن الكليات، ولا شك أنَّ هذه المسائل الأربعة التي أدرجها لا تُعد في أمهات المسائل، وإنما في متوسطها أو في فروعها، لكنه ذكرها؛ لأنها ذات علاقةٍ، ويُحتاج إليها، فجعلها من هذا المنطلق بمثابة مسائلَ كليةٍ تتفرع عنها مسائل أخرى.

* قوله: (فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى - وَهِيَ إِذَا أَخْرَجَ الزَّكَاةَ فَضَاعَتْ).

إنسانٌ أخرج الزكاة من ماله فضاعت، فهل الحكمة في إخراج الزكاة أن يُخرجها الإنسان من حوزته وتبرأ ذمته بذلك الإخراج؟ أو أنَّ المطلوب أن يوصلها إلى أيدي مستحقيها؟ هذا هو سبب الخلاف هنا؛ فمن العلماء من يقول: ما دام أخرجها وضاعت برئت ذمته، وفريقٌ آخر من العلماء يقول: لا، لا تبرأ ذمته إلا أن يضعها في أيدي مستحقيها، أو في أيدٍ أمينةٍ تُوصلها إلى مستحقيها.

ثم بعد ذلك يتكلمون: هل هناك فرقٌ بين أن يكون الإخراج بعد الوجوب مباشرةً، وبين أن يتأخر في ذلك، فيتمكن من الإخراج ولا يُخرِج إلا بعد وقتٍ؟ ففي هذا الوقت الذي تساهل فيه ضاعت الزكاة، وهل هناك فرقٌ بين إنسانٍ فرّط وبين إنسانٍ لم يُفرّط؟ إنسانٌ وضع الزكاة في حرزٍ أمينٍ وحافظ عليها، بحيث لا يُوصل إليها إلا بصعوبةٍ، ومع ذلك وُصل إليها، هذا لا يعد مُفرّطًا، لكن إنسانٌ وضعها في مكانٍ يطرقه الناس ربما يوصل إليها هذا يعد مُفرّطًا، أو أعطاها، أو سلّمها لإنسانٍ غير أمينٍ، أو إنسانٍ لا يعرفه وليس مأمونًا عليها، فهذا مُفرّطٌ، هذه وقع فيها خلافٌ بين العلماء.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: تُجْزِئ عَنْهُ، وَقَوْمٌ قَالُوا

(1)

: هُوَ لَهَا ضَامِنٌ حَتَّى يَضَعَهَا مَوْضِعَهَا).

(1)

هو مذهب الأحناف: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 270)، حيث قال:"فلو ضاعت لا تسقط عنه الزكاة ولو مات كانت ميراثًا عنه، بخلاف ما إذا ضاعت في يد الساعي؛ لأن يده كيد الفقراء". =

ص: 3182

هذا القول الثاني هو روايةٌ للحنابلة

(1)

.

* قوله: (وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَهَا بَعْدَ أَنْ أَمْكَنَهُ إِخْرَاجُهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَهَا أَوَّلَ زَمَانِ الْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ).

وهو أيضًا قولٌ للحنابلة، وهي أقوالٌ أيضًا للعلماء.

* قوله: (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ أَيَّامٍ مِنَ الْإِمْكَانِ وَالْوُجُوبِ ضَمِنَ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي أَوَّلِ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ لَمْ يَضْمَنْ).

مذهب الحنابلة في الرواية الأُخرى والشافعية متقاربٌ، لكنَّ الشافعية قيّدوا ذلك بالتفريط، فرّط أو لم يُفرّط، فقالوا: إن فرّط ضمنَ وإن لم يُفرّط فلا، والحنابلة قيّدوا ذلك بالإمكانِ وعدمه، فإن أمكنه إخراجها ولم يُخرجها ضمنَ، وإن لم يتمكَّن من إخراجها لسببٍ ومانعٍ من الموانع فلا يضمن.

"بعد أيامٍ"؛ لأنَّ الزكاة على الفور، وهذا لم يُخرجها فورًا، فتأخر فيها بعد أن تمكَّن من إخراجها.

لكن هنا يرد سؤالٌ: هل للإنسان إذا ما وجبت الزكاة في ماله أن يؤخّرها بعض الوقت بحثًا عن أُناسٍ هم أليق بها وأحوج إليها؟

قد يكون الإنسان يعرف فقراء، لكن يريد أن يتحرى ويبحث عن أُناسٍ لا يسألون الناس إلحافًا، فهل له ذلك؟

= الحنابلة وجماعة: يُنظر: "الشرح الكبير على المقنع"(7/ 142)، حيث قال:"فإن أخرج الزكاة، فضاعت قبل دفعها إلى الفقير، لم تسقط عنه. وهذا قول الزهري، وحماد، والثوري، وأبي عبيد".

(1)

بل الظاهر أنَّ هذا هو المذهب، يُنظر:"مسائل الإمام أحمد وإسحاق"(3/ 1132)؛ حيث قال: "قلت: إذا أخرج زكاة ماله، ثم سرقت أو ضاعت؟ قال: يستأنف".

وهو مذهب الظاهرية؛ انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 71)؛ حيث قال: "لو أخرج الزكاة وعزلها ليدفعها إلى المصدق أو إلى أهل الصدقات فضاعت الزكاة كلها أو بعضها فعليه إعادتها كلها ولا بد".

ص: 3183

قال العلماء: له ذلك شريطةَ ألا يتأخَّر في هذا الأمر؛ لأن التأخر في الزكاة قد يؤدي إلى ضياعها وإلى تلفها، فينبغي أن يبادر فيه، لكن إن كان واثقًا أنه إذا بحث سيجد أُناسًا هم أشد من الذين بين يديه، فله أيضًا أن يسأل عنهم.

* قوله: (وَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي أَوَّلِ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ لَمْ يَضْمَنْ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ

(1)

، وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنْ فَرَّطَ ضَمِنَ، وَإِن لَمْ يُفَرِّطْ زَكَّى مَا بَقِيَ).

وهذا هو مذهب الشافعيِّ.

* قوله: (وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ

(2)

).

أبو ثورٍ -كما هو معلومٌ- ينسبه البعض إلى الشافعية، لكنه له آراء مستقلةٌ قد ينفرد بها عن الأئمة -كما مرَّ بنا من قبل-، وربما يخالف مذهب الشافعية، فهو من الأئمة، ومن العلماء الذين لهم آراء مستقلةٌ لا بتقيدون بالمذهب، هذا على القول بأنه من رجال مذهب الشافعية.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَعُدُّ الذَّاهِبَ مِنَ الْجَمِيعِ وَيَبْقَى الْمَسَاكِينُ وَرَبُّ الْمَالِ شَرِيكَيْنِ فِي الْبَاقِي بِقَدْرِ حَظِّهِمَا مِنْ حَظِّ رَبِّ الْمَالِ).

ما دام ضاع هذا الشيء فينبغي أن يكون هناك عدالةٌ، وهذه العدالة تقتضي المشاركة؛ فكلٌّ يأخذ بقدر حقه؛ فإذا كان المال مثلًا قد نزل عن نصاب الزكاة أخذ المساكينُ النسبةَ المحدَّدة من الأصل فيما لو كان

(1)

يُنظر: "المدونة"(1/ 305)؛ حيث فيها: "قلت: فإن حال الحول وهي عنده ففرَّط في زكاتها حتى ضاعت؟ قال: عليه الزكاة وإن كان لم يفرط فلا زكاة عليه فيها. قلت: وهذا قول مالكٍ؛ قال: نعم".

(2)

يُنظر: "مختصر المزني"(8/ 140)؛ حيث قال: "ولو ضاعت منه التي أخرجها من غير تفريطٍ رجع إلى ما بقي من ماله، فإن كان في مثله الزكاة زكَّاه وإلا فلا شيءَ عليه".

ص: 3184

نصابًا، إذًا يكونان شريكين فيه، كالحال بالنسبة للشريكين لو ضاع المال الذي بيد أحدهما لا يذهب حق الآخر في المال الآخر ما لم يُفرّط، فهذا أيضًا رأيٌ وله تعليله كما رأينا.

ونحن نقول: إنَّ الإنسان إذا وجبت عليه الزكاة، فلم يُفرّط في إخراجها، وإنما حصل أمرٌ من الأمور الخارجة عن إرادته، فإنه في هذه الحالة لا يضمن، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، لكن أن يُفرّط الإنسان أو أن يتأخَّر، فإنه يتحمل نتيجة فعله، لكن ألا يحصل منه تفريطٌ، وألا يتأخر في أداء الزكاة، ولم يُقصّر في إيصالها إلى أهلها، فهذا يقتضي عموم هذه الشريعة وأصولها ألا يتحمل مثل تلك النتيجة.

* قوله: (مِثْلُ الشَّرِيكَيْنِ يَذْهَبُ بَعْضُ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَيَبْقَيَان شَرِيكَيْنِ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ فِي الْبَاقِي).

لا بقدر حظِّهما من المال، -رب المال هذه أظنها زائدة-، يبقى نصيبهما بقدر حظهما من المال، فالعبارة فيها تعقيبٌ، ويبدو لي أنها زائدةٌ، وأنها داخلةٌ من الطباعة.

* قوله: (فَيَتَحَصَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ).

وهذا ليس على إطلاقه، فلو أنَّ شريكين يشتركان في مالٍ، وذهب المال الذي في يدي أحدهما فإنَّ مال الآخر يبقى، فقد يذهب بالمال فيضعه في فلاةٍ، ويتركه في مكانٍ تكثر فيه الذئاب ويدعه، هذا مُفرّط، فالقصد هنا من حيث الجملة لا التفصيل، وهذه المسألة ستأتي إن شاء اللَّه.

* قوله: (قَوْلٌ: إِنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِإِطْلَاقٍ).

"قولٌ: أنه لا يضمن بإطلاق": ما دام قد أخرجها برئت ذمته ولا شيء عليه، وهذا هو أضعف الأقوال.

ص: 3185

* قوله: (وَقَوْلٌ: إِنَّهُ يَضْمَنُ بِإِطْلَاقٍ).

وقول: "يضمن بإطلاق"، وهذا أيضًا فيه تشددٌ.

* قوله: (وَقَوْلٌ: إِنْ فَرَّطَ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ لَمْ يَضْمَنْ).

هذا -في نظري- هو أعدل الأقوال وأقربها.

* قوله: (وَقَوْلٌ: إِنْ فَرَّطَ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ زَكَّى مَا بَقِيَ).

وهذا قريبٌ من السابق؛ لأنَّ فيه مراعاة لحال الفقراء.

* قوله: (وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الْبَاقِي

(1)

).

* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ تَمَكُّنِ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ).

مراد المؤلف هنا: إذا تلِف بعض المال، والمال إذا تلف كله أو بعضه قبل وجوب الزكاة فلا شيءَ فيه، لكن هذا المال تلف كلَّه أو بعضه بعد وجوب الزكاة، فهل يضمن صاحبه أو لا؟

الأقوال -فيما أذكر في ذلك- أربعةٌ، وهي على صلةٍ بالمسألة الأولى:

- الرواية الأولى عند الحنابلة -وهي مشهورةٌ-: أنه يضمن على كل حالٍ.

- الروايةُ الثانية: التفريق بين أن يتمكَّن أو لا يتمكَّن؛ فإن تمكَّن ولم يُخرج فهو ضامنٌ، وإن لم يتمكَّن فلا ضمان عليه، لا يضمن المُتلَف.

- الرواية الثالثة: ومن العلماء من فرّق -وهم الحنفية- فقال: لا ضمان عليه إلا أن يطلبها منه الإمامُ فيمنعها، يعني يتوقف في إخراجها، في هذه الحالة يلزمه.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير على المقنع"(7/ 143)، حيث قال:"ولنا، أنه حقٌّ متعينٌ على رب المال، تلف قبل وصوله إلى مستحقه، فلم يبرأ منه بذلك، كدينِ الآدمي".

ص: 3186

القول الرابع: وبعض العلماء قال: لا ضمان عليه إلى أن يأتيه المصدّق: أي الذي يأخذ الصدقات.

هذه هي الأقوال الأربعة في هذه المسألة، وهي شبيهةٌ بالمسألة السابقة.

* قوله: (فَقَوْمٌ قَالُوا: يُزَكي مَا بَقِيَ، وَقَوْمٌ قَالُوا: حَالُ الْمَسَاكِين وَحَالُ رَبِّ الْمَالِ حَالُ الشَّرِيكَيْنِ يَضِيعُ بَعْضُ مَالِهِمَا).

المؤلف هنا لم يبحثها؛ اكتفاءً بما ذكره فيما سبق، لكن -كما قلت-:

- من العلماء من قال: هو ضامن مطلقًا، وهذا هو مشهور مذهب أحمد.

- القول الثاني: التفريق بين أن يتمكن أو لا يتمكن، فيضمن إن تمكن فلم يُخرج، ولا يضمن إن لم يتمكن، وهذا أيضًا هو مذهب الشافعي.

- القول الثالث: هو مذهب أبي حنيفة: لا تلزمه زكاة؛ بمعنى لا يضمن، تسقط عنه الزكاة في هذه الحالة، إلا أن يطلبها الإمام فيمنعها، يعني: يمتنع عن أدائها؛ ففي هذه الحالة يلزمه لو ضاع؛ لأنه بذلك قصّر، طُلبت منه الزكاة فأبى أن يدفعها فضاعت، فيكون ضامنًا لها.

- الرابع: تقييد ذلك بالماشية، وهذا هو مذهب المالكية.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ الزَّكَاةِ بِالدُّيُونِ أَعْنِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحَقُّ فِيهَا بِالذِّمَّةِ لَا بِعَيْنِ الْمَالِ-).

الديون أنواعٌ، ديْنٌ قد يكون من كذا، وديْنٌ يكون من كذا، ومعلوم أنَّ الديْن يتعلق بذمة المدِين، ولا يتعلق بالعين نفسها، لكن حق الموكّل يتعلق بالعين دائمًا، والوكيل وغيره من الذين سماهم المؤلف: الأمناء،

ص: 3187

أي: الذين تُوكل إليهم الأمور، ويوكّلون فيها، فهؤلاء دائمًا يتعلق الحق فيهما بالعينِ، وفرن بين أن يتعلق الحقُّ بالذمة، وبين أن يتعلَّق بالعين، لأنَّ الذي يتعلق بالذمة لا يسقط بتلفه وزواله، إلا على التعليلات التي ذكرنا.

وأما ما تعلق بالعين فإنه يسقط بذهاب العينِ، إلا أن يُوجد تفريطٌ، كما لو وكّل إنسانٌ على مال أيتام فضيّع بعضه، فإنه لا يضمن إذا كان أمينًا على هذا المال، لكن لو فرّطً يضمن؛ لأنَّ هذا فيه ضررٌ على اليتيم، وهكذا.

هذا هو الذي يريد المؤلف أن يبحثه، وهو الذي جعله سبب الخلاف، وأسّس المسائل متفرعةً عنه.

* قوله: (أَوْ تَشْبِيهُهَا بِالْحُقُوقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَالِ لَا بِذِمَّةِ الَّذِي يَدُهُ عَلَى الْمَالِ كَالْأُمَنَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَمَنْ شَبَّهَ مَالِكِي الزَّكَاةِ بِالْأُمَنَاءِ قَالَ: إِذَا أُخْرِجَ فَهَلَكَ الْمُخْرَجُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ).

لأن الحق متعلقٌ بالعين، والعين قد ذهبت وزالت، فذهب الحقُّ تبعًا لذهابها، هذا هو مراد المؤلِّف.

* قوله: (وَمَنْ شَبَّهَهُمْ بِالْغُرَمَاءِ قَالَ: يَضْمَنُونَ).

الغرماء: أصحاب الديون، فحقوقهم لا تتعلق بالعين، فلو أنَّ المدين اشترى مثلًا سلعةً من السلع فتلفت، هل نقول إن حق المدِين قد ذهب؟ أو أنَّ صاحب الدين قد سقط حقه؟ لا، هو متعلقٌ بذمة هذا الإنسان، إلا أن يعفو ويتجاوز، هذا أمر طيبٌ، وقد رغّبت فيه الشريعة، لكننا نقرّر حكمًا شرعيًّا، فلا شك -كما ذكر المؤلف- أنَّ الصورتين مختلفتان، ففرقٌ بين ما يتعلق بالذمة، فيدور معها، وبين ما هو متعلقٌ بالمال: وهو ما يُعرف بالتعلق بالعين، فيدور معها وجودًا وعدمًا، يوجد بوجود العين، ويذهب بذهابها.

ص: 3188

* قوله: (وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّفْرِيطِ وَلَا تَفْرِيطٍ أَلْحَقَهُمْ بِالْأُمَنَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، إِذْ كَانَ الْأَمِينُ يَضْمَنُ إِذَا فَرَّطَ).

لا شك أنَّ الإنسان إذا أُمِن على أمرٍ وُكِّل فيه، وقصر فيه تقصيرًا واضحًا، فإنه يضمن في هذه الحالة.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ زَكَّى مَا بَقِيَ فَإِنَّهُ شَبَّهَ مَنْ هِلَك بَعْضُ مَالِهِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ بِمَنْ ذَهَبَ بَعْضُ مَالِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ).

يعني: أحيانًا يذهب المال قبل وجوب الزكاة؛ فإذا ما جاء وقت الوجوب يكون المال قد نقص عن النصاب فلا تجب، فيريد أن يشبه ما ذهب بعد وجوب الزكاة بما ذهب قبله، فلما كان ذهاب بعض المال قبل الزكاة يمنع وجوب الزكاة، فكذلك أيضًا ينبغي أن يكون ما يذهب بعدها.

* قوله: (كَمَا أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يُزَكي الْمَوْجُودَ فَقَطْ، كَذَلِكَ هَذَا إِنَّمَا يُزَكِّي الْمَوْجُودَ مِنْ مَالِهِ فَقَطْ).

لا شك أنَّ الذين قالوا من الفقهاء بأنَّ ما بقي تكون الزكاة فيه مهما قلَّ، حتى قال بعضهم: ولو عشرة دراهمٍ؛ فإنه يُعطي الفقير منها بنسبته، فهؤلاء العلماء إنما قصدوا من ذلك التخفيف، فلا ينبغي أن يتحملَ الفقيرُ الضررَ، وإنما ينبغي أن يكونا شريكيْن؛ المالِك، ومستحقِّ الزكاة.

* قوله: (وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هُوَ تَرَدُّدُ شِبْهِ الْمَالِكِ بَيْنَ الْغَرِيمِ وَالْأَمِينِ وَالشَّرِيكِ وَمَنْ هَلَكَ بَعْضُ مَالِهِ قَبْلَ الْوُجُوبِ).

بين الغريم: الذي هو صاحب الديْن، والأمين: الذي يكون أمينًا على أمرٍ من الأمور؛ كالأمين على اليتيم، والوكيل، وكذلك أيضًا المضارِب الذي يشتغل في مال المضاربَة، وهناك أمثلة كثير جدًّا، إن شاء اللَّه نتحدث عنها تفصيلًا في أحكام البيوع.

ص: 3189

* قوله: (وَأَمَّا إِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِخْرَاجِ فَلَمْ يُخْرِجْ حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِيمَا أَحْسَبُ أَنَّهُ ضَامِنٌ إِلَّا فِي الْمَاشِيَةِ عِنْدَ مَنْ رَأَى أَنَّ وُجُوبَهَا إِنَّمَا يَتِمُّ بِشَرْطِ خُرُوجِ السَّاعِي مَعَ الْحَوْلِ).

هذه إشارةٌ إلى مذهب مالكٍ؛ يعني هو يريد أن يقول: العلماء شِبه متفقين على أنه إذا حصل تقصيرٌ فإنه يضمن، إلا فيما يتعلق بالماشية التي تتطلب أن يخرج المصدّق: أي: الذي يتسلم الصدقة، وهو الذي يُرسله الإمام ليتسلم الصدقة، فلا يعد مفرطًا ما لم يذهب لا يعتبر مفرّطًا؛ لأنه ينتظر مجيئه وهو لم يأتِ بعد؛ فلا يكون ضامنًا.

* قوله: (وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ).

نعم، وهو كما قال.

* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ -وَهِيَ إِذَا مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ-).

هذه مسألة مهمةٌ، وينبغي للإنسان دائمًا أن يتحرى في هذا الأمر، ولا يتساهل؛ لأنَّ الإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يقطع بأن يعيش ولو لحظاتٍ في هذه الحياة، فأمر الموت إنما هو بيد اللَّه سبحانه وتعالى، فقد تجد إنسانًا مريضًا متعبًا يعيش سنين كثيرة، وقد تجد إنسانًا في غاية الصحة وفي غاية النشاط، وتخترمه المنية بين عشيةٍ وضحاها.

فلا ينبغي للإنسان أن يقصِّر في حقٍّ من حقوق اللَّه سبحانه وتعالى، سواء كان ذلك الحق متعلقًا بالأوامر التي يجب أداؤها، أو كان متعلقًا بالنواهي التي ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها؛ فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا نهيتكم عن أمرٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم"، فينبغي للمسلم إذا ما حلت زكاة ماله، أن يبادر في ذلك؛ حتى لا يترك ذلك لغيره.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

ص: 3190

وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنْ أَوْصَى بِهَا أُخْرِجَتْ عَنْهُ مِنَ الثُّلُثِ).

فإذا ما مات هذا الإنسان وقد وجبت الزكاة في ماله، فما الحكم في ذلك؟ هل يخرج من أصل ماله وهذا هو الظاهر؟ أو أنَّ المال أصبح ملكًا لغيره ومرتبطًا بهم، وهو ليس له من هذا المال إلا ما يتعلق بوصيةٍ يوصيها، وليس له أن يزيد على الثلث؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"الثلث والثلثُ كثيرٌ"، في قصة عبد الرحمن بن عوف:"إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعَهَم عالةً يتكفَّفون الناس".

إذًا للإنسان أن يوصي بالثلث، لكن قد لا يوصي وتكون عليه ديونٌ، فإنها تسدَّد أول ما تسدد من التركة.

* قوله: (وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: يَبْدَأُ بِهَا إِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ).

كذلك ما يتعلق بالأكفان التي يحتاج إليها الميت، وقد سبق أن عرضنا لهذا في أحكام الجنائز.

هذا إذا مات الإنسان ولم يخرج زكاته.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَبْدَأُ بِهَا، وَعَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ).

هذه آخر المسائل الفروع التي بعدها سينتقل إلى حكم من منع الزكاة.

إذا باع إنسانٌ ماله، كأن باع مزرعته بعد أن وجبت الزكاة فيما فيها من حبوبٍ وثمار، فما الحكم هنا؟ هل يصحُّ البيع أو لا؟

بعض العلماء يقول: إنَّ البيع فاسدٌ؛ لأنه تصرف في أمرٍ لغيره حقٌّ فيه، فلا يجوز له، هذا واحدٌ، فإن وقع البيع فإنه يفسد.

ص: 3191

وبعض أهل العلم يقول: لا، بل ينفذ البيع، وعلى البائع أن يدفع زكاة المال؛ لأنها مرتبطةٌ به.

هل لمن اشترى هذا المال أن يدفع الزكاة ويعود عليه؟ فيه عدةُ أقوال.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَالِ يُبَاعُ بَعْدَ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِيهِ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَأْخُذُ الْمُصَّدِّقُ الزَّكَاةَ).

لكن الأصل أنه لا ينبغي للإنسان أن يبيع مالًا وجبت فيه الزكاة، إلا أن يخرجها قبل ذلك، فيخرج الزكاة ثم يبيع، هذا هو الأصل الذي ينبغي أن يفعله المسلم.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَأْخُذُ الْمُصَّدِّقُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَالِ نَفْسِهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهِ عَلَى الْبَائِعِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ

(1)

).

يأخذها من المال ثم يرجع المشتري على البائع، هذا رأيٌ.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

، وَقَالَ

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 230)؛ حيث قال: "وإن باع بعدما طابت الثمرة فالزكاة على البائع والبيع مفسوخٌ إلا أن يبيع تسعة أعشار الثمرة إن كانت تسقى بعينٍ أو كانت بعلًا وتسعة أعشارها ونصف عشرها إن كانت تسقى بغربٍ، وهو قول أبي ثورٍ".

(2)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 329)؛ حيث قال: "قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو اشتراها قبل بدُوِّ صلاحها على أن يجدها أخذ بجدها، فإن بدا صلاحها فسخ البيع لأنه لا يجوز أن تقطع فيمنع الزكاة، ولا يجبر رب النخل على تركها وقد اشترط قطعها، ولو رضيا الترك فالزكاة على المشتري، ولو رضي البائع الترك وأبى المشتري ففيها قولان. أحدهما: أن يجبر على الترك، والثاني أن يفسخ لأنهما اشترطا القطع ثم بطل بوجوب الزكاة (قال المزني) فأشبه هذين القولين بقوله أن يفسخ البيع قياسًا على فسخ المسألة قبلها".

ص: 3192

أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِنْفَاذِ الْبَيْعِ وَرَدِّهِ، وَالْعُشْرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الثَّمَرَةِ أَوْ مِنَ الْحَبِّ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَقَالَ مَالِكٌ

(2)

: الزَّكَاةُ عَلَى الْبَائِعِ

(3)

).

وبه قال مالكٌ وأحمد.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ:).

وهذا -كما نرى- واضحٌ بالنسبة للمسألة: الزكاة على البائع؛ فهو المسؤول عنها، زكاةٌ وجبت عليه في مالٍ وهو في ملكه، فليس له أن يفرَّ منها، عليه أن يدفع الزكاة ويبقى البيع نافذًا.

* قوله: (تَشْبِيهُ بَيْعِ مَالِ الزَّكَاةِ بِتَفْوِيتِهِ وَإِتْلَافِ عَيْنِهِ، فَمِنْ شَبَّهَهُ بِذَلِكَ قَالَ: الزَّكَاةُ مُتَرَتِّبَةٌ فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ وَالْمُفَوِّتِ. وَمَنْ قَالَ: الْبَيْعُ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ لعَيْنِ الْمَالِ وَلَا تَفْوِيتٍ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَاعَ مَا لَيْسَ لَهُ، قَالَ: الزَّكَاةُ فِي عَيْنِ الْمَالِ، ثُمَّ هَلِ الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ أَوْ غَيْرُ مَفْسُوخٍ نَظَرٌ آخَرُ

(1)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 278)؛ حيث قال: " (ومن باع ماشيةً بعد وجوب الصدقة فيها، والمصدق قائمٌ: كان المصدق بالخيار: إن شاء أخذ البائع حتى يؤدي صدقتها، وإن شاء أخذها مما في يدي المشتري) ".

(2)

يُنظر: "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين" لابن بزيزة (1/ 479)؛ حيث قال: "إذا باع الثمرة بعد وجوب الزكاة عليه، وقبل إخراجها فهل يرجع المصدق على المشتري إن وجد الثمرة بعينها أو يتبع البائع، ولا شيء على المشتري، فيه قولان. قال ابن القاسم: يرجع المصدق على المشتري؛ لأنَّ الزكاة متعلقةٌ بالعين، فلم يرجع المشتري على البائع إذا أيسر. وقال أشهب: يتبع المصدق للبائع ولا شيءَ له على المشتري؛ لأنَّ الوجوب متعلقٌ بالبائع".

(3)

وقال أحمد: كما في "الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 263): "قال أحمد: وَجبتْ على كلِّ واحدٍ منهما فيما باعَ إذا كان قد حالَ عليه الحولُ، وكذلك إذا كانت عَطِبَتْ، وقد حَالَ عليها الحولُ، قبلَ مجيء المصدق، وكذلك لو كانتْ عنده مائتا درهمٍ فحالَ عليها الحولُ فسُرِقَ بعضها أو كلُّها، كان عليها الزَّكاةُ؛ لوجوبِ الحولِ".

ص: 3193

يُذْكَرُ فِي بَابِ الْبُيُوعِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ اخْتِلَافُهُمْ فِي زَكَاةِ الْمَالِ الْمَوْهُوبِ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْتَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَذْهَبِ، لَمْ نَرَ أَنْ نتَعَرَّضَ لَهُ إِذْ كَانَ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِغَرَضِنَا مَعَ أَنَّهُ يَعْسُرُ فِيهَا إِعْطَاءُ أَسْبَابِ تِلْكَ الْفُرُوقِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُهَا اسْتِحْسَانِيَّةٌ، مِثْلُ تَفْصِيلِهِمُ الدُّيُونَ الَّتِي تُزَكَّى مِنَ الَّتِي لَا تُزَكَّى، وَالدُّيُونَ الْمُسْقِطَةَ لِلزَّكَاةِ مِنَ الَّتِي لَا تُسْقِطُهَا. فَهَذَا مَا رَأَيْنَا أَنْ نَذْكُرَهُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ مَنْ تجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَشُرُوطُ الْمِلْكِ الَّتِي تجِبُ بِهِ، وَأَحْكَامُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَحْكَامِهِ حُكْمٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ: مَاذَا حُكْمُ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَلَمْ يَجْحَدْ وَجُوبَهَا؟ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ

(1)

رضي الله عنه إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ، وَبِذَلِكَ حَكَمَ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ مِنَ الْعَرَبِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَاتَلَهُمْ وَسَبَى ذُرِّيَّتَهُمْ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه وَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ اسْتُرِقَّ مِنْهُمْ، وَبِقَوْلِ عُمَرَ قَالَ الْجُمْهُورُ

(2)

،

(1)

أخرج البخاري (7284)، ومسلمٌ (20): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَب، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْم: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوا: لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقَهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَذونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ:"فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ".

(2)

يُنظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 3)؛ حيث قال: "ومما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أنَّ أهل الردة كانوا صنفين صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: "وكفر من كفر من العرب"، وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما: أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرةٌ لنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم مدعيةٌ النبوة لغيره، فقاتلهم أبو بكرٍ رضي الله عنه حتى قتل اللَّه مسيلمة باليمامة، والعنسي بصنعاء، وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم، والطائفة الأُخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة =

ص: 3194

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= إلى غيرهما من جماع أمر الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، فلم يكن يُسجد للَّه سبحانه على بسيط الأرض إلّا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بالبحرين في قرية يقال لها جُوَاثا، ففي ذلك يقول الأعور الثرينى يفتخر بذلك:

والمسجد الثالث الشرقي كان لنا

والمنبران وفصل القول في الخطب

أيامَ لا منبر في الناس نعرفه

إلّا بطيبة والمحجوج ذي الحجب

وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم من الأزد محصورين بجواثا إلى أن فتح اللَّه على المسلمين اليمامة فقال بعضهم: وهو رجل من بني بكر بن كلاب يستنجد أبا بكرٍ:

ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولًا

وفتيان المدينة أجمعينا

فهل لكم إلى قومٍ كرامٍ

قعودٍ في جواثا محصرينا

كأنَّ دماءهم في كل فجٍّ

دماء البدن يغشي الناظرينا

توكلنا على الرحمن إنا

وجدنا النصر للمتوكلينا

والصنف الآخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب آدائها إلى الإمام، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغيٍ، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصًا لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما، وأرخ مبدأ قتال أهل البغي بأيام علي بن أبي طالبٍ إذ كانوا متفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل شركٍ، وفي ذلك دليلٌ على تصويب رأي عليٍّ رضي الله عنه في قتال أهل البغي وأنه إجماع من الصحابة كلهم، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلّا أنَّ رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه، فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرَّقها فيهم، وقال في شعرٍ له:

فقلت لقومي هذه صدقاتكم

مصررة. . . أخلافها لم تجرد

سأجعل نفسي دون ما تتقونه

وأرهنكم يومًا بما قلته يدي

وقال بعض شعرائهم ممن سلك هذه الطريقة في منع الزكاة يحرِّض قومه ويأمرهم على قتال من طالبهم بها:

أطعنا رسول اللَّهِ ما دام بيننا

فيا عجبًا ما بال ملك أبي بكرٍ

وإنَّ الذي سألوكم فمنعتم

لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر

سنمنعهم ما دام فينا بقيةٌ

كرامًا على العراء في ساعة العسر

قلت: وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه، فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله =

ص: 3195

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ

(1)

إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ مَنَعَ فَرِيضَةً مِنَ الْفَرَائِضِ وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ وُجُوبَهَا. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ اسْمُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ يَنْطَلِقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ دُونَ الْعَمَلِ فَقَطْ، أَوْ مِنْ شَرْطِهِ وُجُودُ الْعَمَلِ مَعَهُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ وُجُودَ الْعَمَلِ مَعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَلْفِظْ بِالشَّهَادَةِ إِذَا صدَّقَ بِهَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْجُمْهُورُ -وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ- عَلَى أَنَّهُ).

هناك من يلبس الأمور؛ هناك من يطلق أهل السنة، ويقصد بهم الأشاعرة أحيانًا، لكن من هم أهل السنة؟ أهل السنة هم الذين أشار إليهم الإمام الشافعي، وهم الذين قالوا إنَّ الإيمان قولٌ، وعملٌ، ونيةٌ، وهذا أجمع عليه أصحاب رسول اللَّه، إذن لا خلاف في المسألة بين أصحاب رسول اللَّه، ولا بين التابعين لهم بإحسانٍ، ولا بين تابعيهم ممن عرفوا الحق، لكن -كما هو معلومٌ- دخلت علومٌ على الأمة الإسلامية، ووُجد من أعداء الإسلام من دخلوا في صفوف المسلمين، فدسوا السُّم -كما

= إلّا اللَّه فمن قال لا إله إلّا اللَّه فقد عصم نفسه وماله". وكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقًا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكرٍ: إنَّ الزكاة حق المال يرد أنَّ القضية التي قد تضمنت عصمة دمٍ ومالٍ معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يجب بأحدهما والآخر معدومٌ، ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها، فكان في ذلك من قوله دليلٌ على أنَّ قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من رأي الصحابة، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه، فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم، ومن أبي بكر بالقياس، ودل ذلك على أنَّ العموم يخص بالقياس، وأن جميع ما يتضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرطٍ واستثناء مراعى فيه ومعتبرٌ صحته به، فلما استقرَّ عمر رضي الله عنه صحة رأي أبي بكرٍ رضي الله عنه وبان له صوابه تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: فلما رأيت أنَّ اللَّه قد شرح صدر أبي بكرٍ عرفت أنه الحق، يُشير إلى انشراح صدره بالحجة التى أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصًّا ودلالةً".

(1)

هذا مذهب الخوارج، يُنظر:"المعلم بفوائد مسلم" للمازري (1/ 289)؛ حيث قال: "وقالت الخوارج: تضره المعصية ويكفر بها".

ص: 3196

يقولون- في العسل، وخلطوا على بعض المؤمنين، ويسّر اللَّه سبحانه وتعالى لهذه الأمة من وقفوا ينافحون عن هذا الدين؛ فأفنوْا أعمارهم في خدمة الدين، وفي مقدمة ذلك خدمة هذه العقيدة الإسلامية الصافية التي تُلقّيت من كتاب اللَّه عز وجل، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأُخذت من مشكاة النبوة صافيةً نقيةً بيضاء، أخذها أصحاب محمد بن عبد اللَّه، فنقلوها إلى التابعين الذين نقلوها إلى من جاء بعدهم.

أما أن توجد فرقٌ مخالفةٌ لدين اللَّه، وتأتي ببعض البدع وتشك، فإن اللَّه سبحانه وتعالى قد يسّر من المؤمنين، من العلماء العاملين، من وقفوا في وجوه هؤلاء، وبيّنوا الحقَّ، وتحملوا المشاقَّ والنصب في سبيل ذلك، لكن لم تلنْ قناعتهم، ولم تُفلّ صخرتهم، بل بقوا سدًّا منيعًا في وجه هؤلاء الأعداء، الذين أرادوا أن ينالوا من هذه العقيدة الإسلامية الطاهرة النقية، ومعلومٌ ما قد حصل في القول فيما يتعلق بالقدر، وبخلق القرآن، ومعلومٌ كم من العلماء الأعلام الذين كان يُشار إليهم بالبنان، وكانوا كالنجوم يهتدي بهم عامة المؤمنين في عصرهم وعلومهم نُقلت بعد عصرهم، كم نالهم من الأذى؟!!

فمنهم من ضُرب بالسياط، ومنهم من قُيّد بالحديد، ومنهم من أُلقي في غيابت السجن، لكنه ظل واقفًا، صابرًا، محتسبًا للَّه سبحانه وتعالى، لم يبالِ بما ناله من مشقةٍ، ولا بما وقع عليه من أذى، ولا بما صُبَّ عليه من غضبٍ، ما دام ذلك في سبيل عقيدة التوحيد، وفي سبيل الدفاع عن دين اللَّه، ومرت عصورٌ وأيامٌ وأشهرٌ وسِنون، وبعضهم يتقلّب من عذابٍ إلى عذابٍ، ويؤذَى، ويُلقى في غيابات السجون، وكما قلنا: يُضرب، ويُغمى عليه، ثم يصحو مع كبر سنه، وقد ظلوا صابرين محتسبين؛ لأنهم يدركون تمامًا أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى ينصر الحق؛ لأنَّ الباطل مهما علا فإنَّ الحق سيعلو عليه؛ لأنَّ الحق يعلو ولا يُعلى عليه، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]، هذه سنة اللَّه في خلقه؛ فمهما كان للباطل من صوْلةٍ، ومهما كانت له من جوْلةٍ، فأيامه قصيرةٌ، والحق بلا شك يعود قويًّا، وهكذا وجدنا أنه بعد مرور فترةٍ من الزمن يسّر اللَّه خليفةً من

ص: 3197

الخلفاء، فوقف في وجه المبتدعين، وناصر أهل الحق؛ أصحاب العقيدة الطاهرة النقية، نصرهم على أعدائهم، ومكّنهم، ومع ذلك وجدنا أن أولئك وقفوا محتسبين.

أولئك العلماء -كما هو معلومٌ- ابتُلوا بالضراء فصبروا، أُنزلت بهم أنواع العذاب فما تراجعوا، ثم بعد ذلك فُتحت عليهم الدنيا، فلم تخدعهم الدنيا ولم تجذبهم شهواتها، والشيطان قد يعجز عنك أيها المؤمن عن أن يشغلك عن طريق إيمانك، لا يستطيع أن يستغلك عن طريق ضراء نزلت بك؛ لأنَّ المؤمن إذا نزلت به ضراء فقال:({إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ})[البقرة: 156]، وربما لا يستطيع أن يستغلك عن طريق السراء؛ لأنك ستشكر المُنعم، وهو اللَّه سبحانه وتعالى، وتحمده على هذه النعم التي تأتيك تترى، لكنه يأتيك من طريقٍ خفيٍّ، ما دمت وقفت تلك المواقف العظيمة، وما دمتَ قد انتصرت فيها، وما دام غيرك قد ضعف، فإنه يبدأ في بثِّ العجب في نفس الإنسان، والإنسان ضعيف، فربما ينفُذ من هذا المنفذ الخفيِّ، فيبدأ الغرورُ يتردَّد في نفس الإنسان، فيأخذه العجب، وربما الكبرياء، فيبدأ ينازع اللَّه سبحانه وتعالى ردائه.

الإمام أحمد رحمه الله لم تثنه الضراء عما كان عليه، ولم تصرفه السراء بعد أن زالت عنه الغُمة، ولم يرَ العجب في نفسه، بل كان رحمه الله يحمل على رأسه، ويشتغل ويعمل بنفسه؛ ليأكل من قوت يده، ولكنه لم ينصرف إلى زهرةِ الدنيا، وليس معنى هذا الكلام أنَّ الإنسان يزهد في الدنيا، يريد أنه يغفل عنها، لا، ولكن قصدنا من هذا أنه لا ينبغي للإنسان أن ينصرف إلى الدنيا وينسى الآخرة، ({وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}) [الإسراء: 19]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18]؛ فرِزق الإنسان في هذه الحياة سيأخذه ويتحصل عليه، لكن على المؤمن دائمًا أن يتوكل على اللَّه، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لَو أنكُم توكلْتُم علَى اللَّهِ حقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تغدُو خِمَاصًا وتَروحُ بِطَانًا" مسند أحمد.

ص: 3198

إذًا إمامنا الإمام الشافعي رحمه الله ذكّرنا بأن الإيمان قولٌ وعملٌ ونيةٌ، وبيّن لنا -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى ورحم غيره من العلماء العاملين-، وأيضًا من سبقونا من هذه الأمة رحمهم الله سبحانه وتعالى جميعًا، ممن آمنوا باللَّه ربًّا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولًا، وبالإسلام دينًا-، فهو قد بيَّن رحمه الله في هذا القول الذي أشرتُ إليه قول الحق، وبيّن أن هذا هو قول أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم القيامة.

وهذا هو الطريق السوي الذي ينبغي أن يسلكه المؤمن، وأنبّه إلى أمر يسيرٍ، وهو أنه: لا شك أنَّ الإنسان في هذه الحياة ربما يقع في بعض الأخطاء، قد يكون بعضنا عاش في بلدٍ ما، أو في مكانٍ ما، فلُبّست عليه الحقائق، وربما ينشأ الإنسان كما قيل:

وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوّده أبوه

وربما يقضي إنسان مرحلةً من حياته يدرس العقيدة، وربما يكون درس هذه العقيدة على طريق غير مستقيمٍ، في طريق معوجٍّ، وهذه العقيدة نحن نُدرك أنه من الصعب أن تنقل إنسانًا عنها بأن تقول له هذا خطأٌ، لا، ولكن لكي تنقل إنسانًا من خطأ في عقيدة إلى عقيدة الحق لا بد أن تُبيّن له الصواب، وأن تأخذه بالتدريج خطوةً خطوةً، كما كان العلماء السابقون يفعلون ذلك؛ تُبيّن له أن هذه العقيدة فيها كذا وكدا، وأن الخطأ في كذا وكذا؛ لأنَّ اللَّه -تعالى- يقول كذا؛ ولأنَّ رسوله صلى الله عليه وسلم يقول كذا.

ثم أختم التعليق على هذه المسألة بأنَّ السعيد كل السعاد كل السعادة، والتقي كل التقوى، والفائز في هذه الدنيا وفي الآخرة هو من لقي اللَّه سبحانه وتعالى بعقيدةٍ صافيةٍ نقيةٍ، أخذها من كتاب اللَّه عز وجل، ومن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا حُجة لأحدٍ بأن يقول: اختلطت الأمور، واضطربت الخطوب، وأصبحت الأمور غير واضحةٍ، لا حجة لأحدٍ يقول شيئًا من ذلك.

فالأمر واضحٌ؛ لأنك إذا أخذت الحكم وأيدته بقال اللَّه -تعالى-،

ص: 3199

قال رسوله، فالقول: قال اللَّه، قال رسوله، لا ما يردِّده الغواة على الملأ؛ فالحق ما في كتاب اللَّه عز وجل، وما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سار عليه سلف هذه الأمة الذين قدّموا أنفسهم رخيصةً في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى، وباعوا أرواحهم للَّه سبحانه وتعالى، فسينالون الجزاء الكبير، والثواب العظيم من اللَّه سبحانه وتعالى في يومِ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلبٍ سليم.

* قوله: (وَالْجُمْهُورُ -وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ- عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يُشْتَرَطُ فِيهِ -أَعْنِي: فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ الَّذِي ضِدُّهُ الْكُفْرُ مِنَ الْأَعْمَالِ- إِلَّا التَّلَفُّظُ بِالشَّهَادَةِ فَقَطْ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُونَ بِي"

(1)

).

أعتقد أننا أخذنا حيزًا كبيرًا من الكلام في بيان هذه الحقيقة، ولا يُظن بهذا أنه خروجٌ عن الموضوع الذي نحن بصدد معالجته في هذا الموطن، فإنه لُبه، ونحن نحتاج إلى مثل هذه المسألة أكثر من أن ندرس عشرة أو عشرين أو مائة مسألة فرعية؛ لأنَّ هذا أصلٌ نبني عليه ديننا وجميع أعمالنا؛ فإذا ما صفّينا عقيدتنا، فإنَّ الأمور بعد ذلك تبقى وتظل -بحمد اللَّه- مُيسّرةً وسهلةً، فلا مانع أن نقف.

وهذا هو واجب طالب العلم، والمدرس، والداعية، أنه إذا مرَّت به مسألةٌ من المسائل، ولا سيما ما يتعلق بعقيدة التوحيد، أن يُجلّي الحق فيها، وأن يقف عندها، وأن يبيّنها، والحق بلا شك هو ضالة المؤمن.

* قوله: (فَاشْتَرَطَ مَعَ الْعِلْمِ الْقَوْلَ، وَهُوَ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَمَنْ

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري (25)، ومسلمٌ (22): عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ".

ص: 3200

شَبَّهَ سَائِرَ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ بِالْقَوْلِ قَالَ: جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ).

الحقيقة أنَّ الخلاف في هذه المسألة ليس كما ذكر المؤلف، وإنما الأمر كما ذكرتُ قبل في المقدمة، فسبب الخلاف عند من يقول بأنه لا يُورّث ولا يُصلّى عليه، وهذه روايةٌ رُويت عن الإمام أحمد، ودليل هؤلاء العلماء ما حصل من أبي بكرٍ رضي الله عنه، وكذلك ما حصل من توقف الصحابة رضي الله عنهم؛ فأبو بكرٍ أراد قتالهم، وعمر وبعض الصحابة توقَّفوا ثم رجعوا، فالذين يقولون بالكفر قالوا: أبو بكرٍ رضي الله عنه وقف وأصرَّ على قتال مانعي الزكاة، وقال: أن تشهدوا أنَّ قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة. لا شك أنَّ مراده: الشهادة الظاهرة، وإلا فإنَّ هذه أمورٌ -كما هو معلوم- لا يعلمها إلا اللَّه سبحانه وتعالى، لكن الأمر كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يُوشِك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار"، قيل: بمَ يا رسول اللَّه؟ قال: "بالثناء الحسنِ والثناء السيئِ".

وقد مرَّت جنازتان، أُثني على الأولى منهما خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجبت"، وذُكرت الثانية بِشرّ، فقال:"وجبت"، فبيّن الرسول أن هذه وجبت لها الجنة، وهذه وجبت لها النار، هذه وجبت لها الجنة؛ لأن المؤمنين شهدوا لصاحبها بالخير والإحسان والفضل، وتلك شهدوا عليها بالشر، وبمحاربة دين اللَّه.

وقد قال أبو بكرٍ رضي الله عنه: قتلانا في الجنة؛ لأنهم امتطوا سيوفهم، وجردوها ونادحوا عن دين اللَّه سبحانه وتعالى، وقاتلوا عن دين اللَّه سبحانه وتعالى، باعوا أنفسهم رخيصة في سبيل اللَّه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]، فمن قُتل في مثل هذه المعارك شهيدًا في سبيل اللَّه، سيجد جزاء الشهداء عند اللَّه سبحانه وتعالى، قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]؛ فهم شهداء، وأما الذين يقاتلون ضد دين اللَّه فإن مصيرهم إلى النار وبئس المصير.

ص: 3201

إذًا أخذ بعض العلماء من هذا -وهم قلةٌ- أنهم في النار، إذًا هم كفار، وقلنا إن هناك احتمالات:

1 -

هؤلاء فيهم من ارتد عن دين اللَّه -كما هو معلومٌ-، وفيهم من ادّعى النبوة، وفيهم من منع الزكاة.

2 -

أن الذين امتنعوا عن الزكاة جحدوها، وأنهم إذن ارتدوا عن دين اللَّه.

فثمة احتمالاتٌ متعددةٌ، ولذلك فإنَّ جماهير العلماء لم يحكموا بالكفر، لكن قالوا: ارتكبوا معصيةً عظيمةً وخطيرةً، ويُخشى عليهم، وهم تحت مشيئة اللَّه سبحانه وتعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

ولا يُشكل أيضًا على بعض القراء سبب التفريق بين الصلاة وبين الزكاة، أو لماذا فرّق بعض العلماء؟ لقد مرَّ بنا أنَّ هناك إجماعًا على أنَّ من أنكر وجوب الصلاة فهو كافرٌ، واختلفوا فيمن اعترف بوجوب الصلاة لكنه تكاسل عن أدائها، اختلفوا في حكمه، فأكثر العلماء قالوا بأنه ليس بكافرٍ، ثم اختلفوا في عقوبته، وبعضهم قال: بأنه كافرٌ، والذين قالوا من أهل العلم بأنه كافرٌ حجتهم قويةٌ؛ لأنهم استندوا إلى نصوص صحيحةٍ، وهي أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كقوله عليه الصلاة والسلام:"العَهدُ الذي بَينَنا وبَينَهُم الصلاةُ، فمن تَرَكها فَقَد كَفَرَ" سنن الترمذي.

إذًا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على من ترك الصلاة بأنه كافرٌ، وقال في الحديث الآخر أيضًا:"ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة"، إذًا هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حكم عليه، وهنا لم يرد نصٌّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحكم على تارك الزكاة بأنه كافرٌ، والأدلة في ذلك عامةٌ، والأصل في ذلك ألا يُكفّر.

هذا هو الذي ننتهي إليه في هذه المسألة، وهو أبين مما ذكره المؤلف في الكتاب، وأما أنه ربط الأمر بالعقيدة فهذا من الأمور التي ذكرها فيما يتعلق بمباحث العقيدة، وهو خطأٌ، وتعليلاته غير مُسلّمةٍ، وقد

ص: 3202

أخطأ حقيقة في توجيه الآراء، وفي الاستدلال عليها في نظري واللَّه أعلم.

* قوله: (وَمَنْ شَبَّهَ الْقَوْلَ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ قَالَ: التَّصدِيقُ فَقَطْ هُوَ شَرْطُ الْإِيمَانِ).

لأنَّ بعضهم يقول: الإيمان تصديقٌ وعلمٌ، يعني تُصدّق بقلبك وتعلم ذلك، لكن لا يلزم أن تنطق باللسان، ولا أن تعمل بالجوارح، وبعضهم يقول: نطق باللسان يكفي، هذا اللسان يدل على ما عند الإنسان، ليس هناك داعٍ أن يعتقد الإنسان، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً، إذا صلُحَتْ صلُحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ" صحيح مسلم، فإذا فسد القلب فسدت الأعمال، ولا يلزم من فساد الأعمال أن يكون القلب فاسدًا في كل شيءٍ، إنما القلب إذا فسد، فسدَ ما يترتب عليه من أمور، بل إنك إذا آمنت، وإذا صدّقت بقلبك واعتقدت فذلك من لوازم الإيمان، وهذا ما أخذ به بعض العلماء، قالوا: يلزم، فمن لوازم الإيمان بقلبك أن تنطق بلسانك؛ لتعبّر عما في قلبك، وأن تعمل بذلك، هذا من لوازم الإيمان، يعني: الإيمان بالقلب له لوازئم، من لوازمه: أن تنطق بالشهادتين، بالإيمان، وأن تعمل بمقتضاهما.

ولذلك أبو بكرٍ رضي الله عنه قال لما ذكّره عمر بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أليس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وبقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقه"، قال أبو بكر رضي الله عنه: ومن حقه إيتاء الزكاة، واللَّه لأُقاتلنَّ من فرّق بين الصلاة والزكاة.

فأبو بكر فهم أن من حق الشهادتين: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، هذا من لوازمهما، إذن من اللوازم التي تلزم الإنسان كي يكون مؤمنًا، أن ينطق بلسانه، وأن يعمل بجوارحه.

ص: 3203

* قوله: (وَبِهِ يَكُونُ حُكْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- حُكْمَ الْمُؤْمِنِ، وَالْقَوْلَانِ شَاذَّانِ، وَاسْتِثْنَاءُ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ).

والحق هو ما ذكرناه، وقد مرَّ ما ذكرت عن الإمام الشافعي، فينبغي لطلاب العلم وخاصة المهتمين، أن يقفوا على مثل ذلك؛ لأنني أرى أن أقول لهم إنني أحفظه منذ زمنٍ ليس بقريبٍ، لكنني متأكدٌ أنه ذكره في كتاب الصلاة، وفي باب النية في الصلاة، وما ذكرته عنه ليس هو نصُّ كلامه، وهو كلامٌ يُكتب بماء الذهب، وهو إن لم يكن نص كلامه فهو قد قاله معنى، وأنا متيقنٌ أنه قال: أجمع الصحابة والتابعون ومن أدركناهم أن الإيمان: قولٌ وعملٌ ونيةٌ، لا يُجزئ أحدهما عن الآخر، وهذه مهمةٌ، يعني: لا يكفي وجود أحدها عن الآخر، لا بدَّ من وجود الثلاثة بعضهم مع بعضٍ.

[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَعْرِفَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاةُ مِنَ الْأَمْوَالِ]

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْأَمْوَالِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا مِنْهَا عَلَى أَشْيَاءَ وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ. وَأَمَّا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَصِنْفَانِ مِنَ الْمَعْدِن: الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ اللَّتَيْنِ لَيْسَتَا بِحُلِيٍّ

(1)

).

إذًا زكاة المعادن -كما هو معلومٌ- تجمع أشياء عدة، فهناك من

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 197)، حيث قال:"ولا خلاف أنَّ الزكاة في الحلي إذا كان لا يراد به زينة النساء. وأجمعوا على أنه إذا كان في الدراهم أو في الدنانير أو في الحلي خلط من نحاسٍ أو غيره إلا أنَّ فيها من الفضة والذهب النصاب أنَّ الزكاة فيه واجبةٌ".

ص: 3204

يفصل النقدين عنها، ومن العلماء من يُدخلها ضمن زكاة المعادن، وهي بلا شك داخلةٌ في المُسمَّى، لكنَّ المعادن تشمل الركاز وتشمل النقدين، وتشمل غير ذلك أيضًا، والنقدان -كما هو معلومٌ- لا خلاف في زكاتهما، ولا فيما يَحِل محلهما من الأوراق المعروفة التي حلّت في زمننا هذا محل الذهب والفضة.

* قوله: (وَثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مِنَ الْحَيَوَانِ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ

(1)

).

كذلك هذه الحيوانات الثلاثة التي تُعرَف ببهيمة الأنعام أيضًا مما تجب فيها الزكاة لكنها مُقيدةٌ بأن تكون من السائمة، أما غير السائمة فلا زكاة فيها.

* قوله: (وَصِنْفَانِ مِنَ الْحُبُوبِ: الْحِنْطَة وَالشَّعِيرُ).

الحنطة والشعير، ويُدخِل الفقهاء أشياء كثيرةً أيضًا، وليست هي الحنطة والشعير فحسب، وهذه سنتكلم عنها تفصيلًا إن شاء اللَّه في موضعها، هل يدخل في ذلك الحمص، وكذلك الفول، وما أشبه ذلك من الحبوب؛ أو أنها مقصورةٌ على ذلك؟ هل يدخل فيها الدّخَن، وكذلك أيضًا الذرة، وكذلك السمسم؟ هذه كلها أنواعٌ يتبعها العلماء بأصنافٍ من الحبوب.

* قوله: (وَصِنْفَانِ مِنَ الثَّمَرِ: التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ

(2)

).

كذلك التمر والزبيب، وهناك خلافٌ في زكاة العسل، وخلاف يسيرٌ في زكاة الزيتون، وكل هذه -إن شاء اللَّه- سيعرض لها المؤلف، وسنبينها -إن شاء اللَّه- تفصيلًا.

(1)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 45)؛ حيث قال: "وأجمعوا على وجوب الصدقة في: الإبل، والبقر، والغنم".

(2)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 45)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أنَّ الصدقة واجبةٌ في: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب".

ص: 3205

* قوله: (وَفِي الزَّيْتِ خِلَافٌ شَاذٌّ).

إذًا هو تَكلَّم عن الزيت الذي هو الزيتون، هل فيه زكاة أو لا؟

* قوله: (وَالذين اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الذَّهَبِ هو الْحُلِيُّ فَقَطْ).

اختلف العلماء في زكاة الحُلي، ولا شك أنَّ هذه مسألة فيها تفصيلٌ؛ لأنه يُقصَد بالحُلي ما يُتحلَّى به، وليس شرطًا أن يكون فقط مما تختص به المرأة؛ لأن الإنسان ربما حلى سيفه، وربما حلَّى خاتمه، والمرأة أيضًا يُباح لها من الذهب أن تلبس ما جرت العادة بلبسه، يعني: يباح للنساء لبس الذهب والفضة مما جرت العادة بلبسه.

هذا أمرٌ ليس محل خلافٍ عند العلماء، هناك أيضًا أشياء يجوز استعمالها، وهي محرمة وهي من الذهب، كما لو أنَّ إنسانًا جُرِحَ أنفه هل يجوز له أن يُصنع له أنف من ذهب فيقيمة مقامه؟ لأنه ورد أنَّ رجلًا قُطِع أنفه فأقام مكانه أنفًا من ورِقٍ، فتعفَّن عليه فرخّصَ له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفًا من ذهب.

كذلك أيضًا قد تتساقط أسنان الإنسان، فيحتاج أن يربط بعضها ببعضٍ؛ أي: يوصلها بشريطٍ من ذهب، وقد يحتاج أيضًا إلى أن يقيم أسنانًا من ذهبٍ، فهل ذلك جائز؟

كذلك يجوز للرجال أن يلبسوا خواتم الفضة، ولا يجوز لهم أن يلبسوا خاتمًا من ذهبٍ؛ لأنَّ خاتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان من الورِق؛ أي: من الفضة، وأما الذهب فلا يجوز للمسلم أن يفعل ذلك، وقد وصفه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنه جمرةٌ، وأمَرَ من لبس خاتمًا من ذهبٍ أن يُلقيه، هناك أيضًا أشياء تتعلق بهذا الموضوع يتكلم عنها العلماء، أما المرأة فيجوز لها أن تلبسن السِّوار، وأن تلبس الخلخال، وأن تلبس القلادةَ، وأن تلبس القرطَ، ومن ذلك ما تلبسه في رأسها، أو تضعه على يديها أو رجليها كل ذلك مما جرت العادة بلبسه، فإنه جائزٌ.

لكن ينبغي دائمًا أن يُتجنب موضع الخُيلاء، وليس للمسلم أن يتخذ

ص: 3206

أواني من ذهبٍ، ولا من فضةٍ، وليس له أن يأكل وأن يشرب فيها؛ لأنَّ هذه ليست من صفات المؤمنين، وقد تكلمنا عن ذلك فيما يتعلق بأواني الذهب والفضة عندما كنا نتحدَّث في أحكام الطهارة، في باب الآنية.

نعود لمسألتنا الآن: ما حكم زكاة الحَلْي أو الحُلِي؟ لأن الحَلي تُجمع على حُلي.

هي في الحقيقة مسألةٌ من المسائل الكبرى التي اختلف فيها الفقهاء، والحكم هنا جديرٌ بالعناية والاهتمام؛ لأنَّ من العلماء من يرى أن لا زكاة في الحُلي، ومنهم من يرى وجوب الزكاة فيه، فالأمران مختلفان، ففرقةٌ وطائفة ترى وجوب زكاة الحُلي، وأخرى ترى أن لا زكاة فيها، ومن يرى من العلماء أنَّ زكاة الحُلي واجبةٌ يعتبر أنَّ من لا يؤدي زكاتها قد ارتكب ذنبًا كبيرًا، وفرّطَ في حكم شرعيٍّ، ومن يرى أن لا زكاة فيها، فلأنها أُعدَّت للُّبسِ المعتاد وللحاجة؛ ولأنها أصلًا لم توضع للنماء، عادةً الذي يُزكى أنه يُقصَد به النماء، فالماشية التي يُزكيها الإنسان؛ من إبل أو بقرٍ أو غَنَمِ إنما تُزكَّى؛ لأنها سائمةٌ وقُصِد بها النماء، لكن لو كانت عوامل تؤدي أعَمالًا، فهذه لا زكاة فيها، إذن أي صنفٍ من الأصناف التي يقول العلماء: لا زكاة فيها، لو اتُّخِذَت للتجارة، فإنَّ الزكاة تجب فيها، كما سيأتي بعد قليلٍ بالنسبة للخيل.

إذًا العلماء اختلفوا في هذه المسألة، فأكثرهم، بل جمهور الفقهاء يرون أنه لا زكاة في الحُلي؛ أي: أن زكاة الحُلي غير واجبةٍ، هذا هو رأي أكثر الفقهاء، ونُقِل أيضًا هذا الرأي عن خمسةٍ من الصحابة، عبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وأنس بن مالكٍ، وعائشة، وأسماء رضي الله عنهم، ولذلك نُقِل عن الإمام أحمد أنه قال: خمسةٌ من الصحابة لا يرون وجوب زكاة الحُلي، ويرون أنَّ إعارتها زكاتها، وخالفهم فريقٌ آخر من العلماء فقالوا بوجوب زكاة الحُلي، حتى وإن كان مُعدًّا للاستعمال وللعرية، فإن ذلك لا يُعفي صاحبه من وجوب خروج زكاته، وهذا قال به من فقهاء الأئمة أبو حنيفة، وهي أيضًا روايةٌ ليست ظاهرةً في

ص: 3207

مذهب الإمام أحمد، وهي أيضًا قولٌ في مذهب الشافعي، وهذا القول الذي أخذ به أبو حنيفة قال به جماعة من أكابر الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، وعبد اللَّه بن مسعودٍ، وعبد اللَّه بن عباسٍ، وكذلك عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وقال به جَمعٌ ليس بقليلٍ من التابعين؛ كسعيد بن المُسَيّب، وسعيد بن جُبيرٍ، وابن سيرين، وكذلك أيضًا الزُّهري، ومن الفقهاء أيضًا الثوري، وغير هؤلاء كثيرٌ.

لكنَّ الظاهر من مذهب أحمد، وكذلك من مذهب الشافعي، أنهم مع الجمهور، أنه لا زكاة فيها.

‌لماذا اختلف العلماء في هذه المسألة؟

لأنه عندما ننظر في أدلة الفريقين نظرةَ فقيهٍ مُدقِّقٍ يريد أن يصل إلى الحق ولا يريد سواه، ويريد أن يكون ترجيحه مبنيًّا على الدليل، نرى أنَّ الأرجح فيما يظهر لنا هو ما أخذ به الحنفية ومن معهم؛ لعدة أدلة، وإن كان المؤلف لم يستوف الأدلة، وهي:

الدليل الأول: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: (أتت امرأة -في بعض الروايات: من اليمن- إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنةٌ لها، وفي يدها مسكتان من ذهب غليظٍ -أي سواران من ذهب غليظٍ- فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟ "، قَالَتْ: لا، قَالَ:"أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارينِ مِنْ نَارٍ؟ " قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا، فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: هُمَا للَّهِ وَلِرَسُولِهِ.

فانظر كيف كان يستجيب المؤمنون رجالًا ونساءً إلى توجيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكيف كانوا ينزلون عند حكمه، خلعتهما مباشرةً وقالت: هما للَّه ولرسوله، ولما ورد النهي في تحريم الخمر قام المسلمون فألقوا أسقيتهم وما عندهم، وسألت في الطريق، وقالوا: انتهينا، انتهينا.

ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51].

ص: 3208

فهذه امرأةٌ جاءت من اليمن وافدةً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، تريد أن تستفيد علمًا وخيرًا، فلاحظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهكذا شأن الداعية أيضًا والموجه، إذا رأى أخاه المسلم وقع في خطأٍ، فلا ينبغي له أن يتركه دون أن يرشده، فإن من دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله، من دلَّ على هدى كان له مثل أجر من فعله، لا ينقص من أجورهم شيئًا، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى في يد ابنة هذه المرأة سوارين فسألها:"أتعطين زكاة ذلك؟ "، قالت: لا، فخوفها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أترضين أن تطوقين بهما بسوارين من نار يوم القيامة"، لا شك قالت: لا، فخلعتهما وألقتهما.

وكذلك نجد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما خطب النساء في العيد وقال: "تصدقنَ فإنكنَّ حطب جهنم"، كُنّ يأخذن ما في أيديهن ويلقينة، فهذه سرعة في الاستجابة إلى أحكام اللَّه سبحانه وتعالى، فنأخذ من ذلك مثالًا ونموذجًا طيبًا مما كان عليه الصدر الأول في سرعة نزولهم واستجابتهم للَّه سبحانه وتعالى، ولأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث الآنف ذكره اختلف فيه من حيث السند، فبعضهم يضعفه؛ لأنه يقول: هذا من روايةِ ابن لحي، وأيضًا من رواية المثنى بن الصبّاح، وقالوا: إن الإمام الترمذي أخرج الحديث في جامعه وحكم عليه بالضعف.

ونحن لو وقفنا عند هذا الحد لقلنا: هو ضعيفٌ، لكنَّ المشتغل بالحديث دائمًا والمشتغل بالفقه، لا يقف عند هذا الحد، وإنما ينبغي أن يتتبع سند الحديث، وأن يعرف الطرُق التي ورد فيها، هل كل طريقٍ جاء فيه هو عن طريق ابن لحى أو المثنى، لا، وإنما رواه أبو داود من طريقٍ آخر، ومن هنا نقول: إن الحديث الذي جاء في مُسند أبي داود إنما هو حديث حسنٌ يحتج به، وبذلك تبطل دعوى الذين قالوا من أهل العلم بأن هذا حديث ضعيفٌ لا يحتج به.

‌ما هو وجه الدلالة من هذا الحديث؟

هذا الحديث نصه نصٌّ صريحٌ في وجوب زكاة الحلي؛ لأنَّ هذه

ص: 3209

امرأةٌ دخلت ومعها بنت في يديها سواران من ذهب، وهذا هو الحلي، فكانت متحليةً بهما، وأيضًا جاء الحكم صريحًا، سألها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يُبين لها الحُكم إلا بعد السؤال "أتؤدين الزكاة؟ " قالت:"لا"، فالرسول صلى الله عليه وسلم بدلًا من أن يقول لها (زكي) عَرَض عليها أمرًا أشد خطورة، ألا وهو "أيسُرُّك أن يُسَورك اللَّه بهما سوارين من نار؟ "، هذا فيه تخويفٌ، فهي حينئذٍ ارتعدت، فأخذت ما في يدي الفتاة فطرحته بين يدي رسول اللَّه، وقالت: هما للَّه ولرسوله؛ أي: في سبيل اللَّه، فتنازلت عنهما، فهذا دليلٌ صريحٌ على وجوب زكاة الحُلي، وهذا هو أول دليل.

الدليل الثاني: حديث أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت ألبس أوضاحًا من ذهبٍ، فقلت: يا رسول اللَّه، أكنزٌ هو؟ فقال:"ما بلغ أن تؤدَّى زكاته فزكي، فليس بكنزٍ".

(أوضاحًا) جمع وضح، وهو صِنف من الحَلي.

انظر كيف كان الصحابة يُعنَون بهذا الأمر؟!، وفي هذا إشارةٌ إلى قول اللَّه -تعالى-:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة: 34 - 35].

قالت: "أكنزٌ هو؟ "، وانظر إلى توجيه النَّبي صلى الله عليه وسلم الذي أُعطي جوامع الكلم، فلقد أعطاها عباراتٍ مختصرةً موجزةً تدل على الحكم وزيادة تأكيده، فقال رسول النه صلى الله عليه وسلم:"ما بلغ أن تؤدَّى زكاته فزكي، فليس بكنزٍ".

فيه الزكاة، فأُديت زكاته فليس بكنز، ومفهومه أن ما بلغ أن يُزَكى فلم يُزكَّ فهو كَنزٌ، فيدخل في قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} .

إذًا هذا ذهبٌ تلبسه زوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم سَلَمَة، وتسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لتتأكد من الحكم، ولتعرف هل ما تلبسه جائز اللبس دون أن يُزكَّى أو لا بد من زكاته، فبيّنَ لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ما بلغ أن يُزكى

ص: 3210

فزكي -انظر كيف عقّبَ بعد ذلك بكلمة فيها الفاء- "ما بلغ أن يُزكى" يعني ما بلغ النصاب فليس بكنز، أيضًا هذا دليل صريحٌ ورد في المسألة نفسها التي وقع فيها الخلاف، وهذا حديث حسنٌ أو صحيحٌ، إذن هذا دليل آخر يُضاف إلى الدليل الأول.

الدليل الثالث: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرأى في يدي فتخاتٍ من ورِقٍ، فقال:"ما هذا يا عائشة؟ " فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول اللَّه، قال:"أتؤدين زكاتهن؟ " قالت: لا -أو ما شاء اللَّه- قال: "هو حسبك من النار".

حسبك من النار أي: يكفيك أن تؤدي زكاة هذه، فإن كانت مما تُزكى فأديتِ زكاتها فإنها ستكون حاجزًا يُباعد بينك وبين النار، أما إذا كان الإنسان عنده شيءٌ مما تجب فيه الزكاة فلم يؤد زكاته فهو مُعرَّضٌ للعقوبة، ومن العقوبة التي يُعرَّض لها أن يُعذَّب بالنار.

هذا حديثٌ صحيحٌ، وهذا كما نرى يوضع إلى جانب عموم الأدلة الأخرى، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:"في الرقة ربع العُشر"، وقال:"ليس فيما دون خمسِ أواقٍ صدقةٌ"، هذا دليلٌ على النفي، وهذا عامٌّ، قالوا: يشمل ما كان مسبوكًا من الذهب وما ليس مسبوكًا.

لا شك أنَّ الذين قالوا من أهل العلم بعدم الوجوب قالوا إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "في الرقة رُبع العُشر"، قالوا في الرقة: يُقصَد بها المضروبُ من الدراهم، وهذا هو المعروف.

الفريق الآخر: يقولون بوجوب الزكاة، ويقولون في حديث:"ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة":

هذا دليلٌ على أن المُراد بذلك ما يوزن بالنقدين، ولم يُقصد بذلك الحُلي، لكننا نقول: هذه الأدلة الثلاثة التي أوردناها نصوصٌ في هذه المسألة، لو وُجد منها واحدٌ فقط وكان صحيحًا، لكان كافيًا في الحكم في هذه المسألة، أما عُمدة الذين يقولون بأنه لا زكاة في الحُلي، فهو حديث:"لا زكاة في الحُلي"، لكنه حديث ضعيفٌ.

ص: 3211

وهناك تعليلاتٌ يستدل بها أصحاب ذلك القول، منها أنهم يقولون: إن الزكاة إنما شُرعَت في النماء لا في الأموال، وهذه ليس فيها نماءٌ؛ لأنّ المرأة عندما تصنع لها حَلْيًا تلبسه عند العادة، أو تُعيره إلى غيرها، فإن هذا لا نماءَ فيه، فلو سُلِّطَت عليه الزكاة فإنه سينتهي به الأمر إلى أن ينتهي، يعني: لو أُخِذت منه الزكاة في كل عامٍ، فإنَّ هذا الحُلي سينتهي، ولا يبقى للمرأة ما تتزين به، وقاسوا ذلك على ما يلبسه الإنسان من ثيابٍ، فيقولون: هل هناك زكاةٌ فيما يلبسه الإنسان من عباءةٍ وثيابٍ وعِمَامة وغيرها؟

الجواب: لا، كذلك أيضًا العوامل من البهائم، يعني: التي تعمل؛ كالإبل والبقر التي يستخدمها الإنسان في السواقي، وفي حمل الحطب عليها، وفي غير ذلك، هل فيها زكاةٌ؟ لا، إذن هذه مثلها، فهذه حليةٌ اتخذتها امرأةٌ للتحلي بها، وتتزين بها لزوجها وعند الحاجة فكيف تجىب فيها الزكاة؟!

لكننا نقول: هكذا حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد جاء، من هنا ننتهي -بإيجازٍ- إلى أنَّ الراجح في هذه المسألة -فيما نرى- هو رأي القائلين بوجوب زكاة الحُلي.

يختلف العلماء بعد ذلك أيضًا، هل تُخرَج الزكاة من الحُلي عن طريق الوزن أو القيمة؟

بعضهم يقولون: إنها مرتبطةٌ بالوزن، حتى وإن كانت القيمة أكثر، وبعضهم يقول: يجوز بالأمرين معًا، وبعضهم يقول: تُخرَج بالقيمة؛ لأنه قد يكون الوزن أربعين أوقية، لكنها تنقص عن مائتي درهمٍ، وقد تكون ثلاث مائة درهمٍ، ولا تصل وزنًا إلى أربعين أوقية، فقد يختلف الوزن عن القيمة، فأيهما المُعتبر؟

أكثر الفقهاء يعتبرون الوزن وليس القيمة، هذه فائدةٌ عرضتها؛ لأنَّ المؤلف لم يذكرها.

ص: 3212

* قوله: (وَالذين اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الذَّهَبِ هو الْحُلِيُّ فَقَطْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ: مَالِكٌ

(1)

، وَاللَّيْثُ

(2)

، وَالشَّافِعِيُّ

(3)

إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ إِذَا أُرِيدَ لِلزِّينَةِ وَاللِّبَاسِ).

هذا مذهب مالكٍ والليث والشافعي وأحمد أيضًا في أظهر قوليه، وهو أيضًا -كما قلنا- مرويٌّ عن خمسةٍ من الصحابة، ذكرناهم، وربما ذكرهم المؤلِّف.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ

(4)

: فِيهِ الزَّكَاةُ).

وقلنا إنها أيضًا روايةٌ في مذهب أحمد وإن لم تكن الظاهرة، وهي أيضًا قولٌ في مذهب الشافعي.

لكن هناك كلمةٌ أريد أن أعلِّق عليها، الآن -كما نرى- اختلفت أقوال العلماء في هذه المسألة، ففريقٌ يرى وجوب الزكاة، وهم قِلةٌ من العلماء، وفريقٌ يرى عدم وجوبها، وهم الكثرة من الفقهاء، فهل الكثرة معتبرةٌ؟

لا، ينبغي أن يكون المؤمن وطالب العلم، دائمًا منتهيًا إلى ما يؤيده

(1)

يُنظر: "المدونة"(1/ 305)؛ حيث فيها: "وقال مالكٌ في كل حلي هو للنساء اتخذته للبس. فلا زكاة عليهنَّ فيه، قال فقلنا لمالكٍ: فلو أنَّ امرأةً اتخذت حليًّا تكريه فتكتسب عليه الدراهم مثل الجيب وما أشبهه تكريه للعرائس لذلك عملته؟ فقال: لا زكاة فيه".

(2)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (4/ 185)؛ حيث قال: "وقال الليث: ما كان من حليٍّ يلبس ويعار فلا زكاة فيه، وما كان من حليٍّ اتخذ ليحرز من الزكاة ففيه الزكاة".

(3)

يُنظر: "الأم" للشافعي (2/ 44)؛ حيث قال: " (قال الربيع) قد استخار اللَّه عز وجل فيه أخبرنا الشافعي وليس في الحلي زكاة".

(4)

"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 313)؛ حيث قال: " (والزكاة واجبةٌ في الذهب والفضة كيفما وجدا، من حلي وغيره) ".

ص: 3213

الدليل، يعني: ينبغي أن يكون القول الراجح عنده هو ما يؤيده الدليل، ما صحَّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما أنزله اللَّه -تعالى-.

وأيضًا نجد أنَّ مذهب القائلين بوجوب الزكاة هو الأحوط لدين المرء، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، كل أمرٍ تشكُّ فيه، تجاوزه إلى أمرٍ لا تشك فيه، يعني كل قضية من القضايا تتحير فيها وتتردد هل هذه حلالٌ أو حرامٌ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"الحلال بيّن والحرام بيّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات لا يُعلمهن كثيرٌ من الناس".

لكن لا نقول في هذه المسائل إنها أمورٌ مُحرمةٌ، لا، لكن نقول اختلفت فيها وجهات النظر، فنحن نرى ما يقويه الدليل، وإن قَلّ عدد القائلين به، ليس شرطًا أن يكون رأيًا للأكثرية، أيضًا هذا القول هو الأحوط؛ لأنَّ المرأة إذا أدَّت زكاة حُليها فإنها بذلك تكون مطمئنة النفس، ومُطمئنةً أيضًا على دينها.

لكنها لو لم تُزك الحُلي وزكاتها واجبةٌ، فإنها تكون قد وقعت في أمرٍ منهي عنه وارتكبت محظورًا، فهذا أمرٌ لا بدَّ أن يَقع فيه المؤمن لأجل شيءٍ يتعلق بحطام الدنيا وزخارفها، وهذا الحُلي أصلًا إنما وضع للزينة.

ومعلوم أن هُناك ضرورياتٍ، وهناك حاجياتٌ، وهناك كمالياتٌ، فهناك الضروريات كالأكل الذي يتقوت به الإنسان، والماء الذي يشربه الإنسان لا يستغني عنه، وهناك كمالياتٌ يحتاج إليها الإنسان، كأن يكون لديه ثوبٌ واحدٌ، فيحتاج إلى ثوبِ آخر، ويحتاج لغترةٍ أخرى، وهكذا.

وهناك أمورٌ ليست ضرورياتٍ ولا حاجيات، أولًا الضروريات هذه لا بد منها، والحاجيات ما يحتاج الإنسان إليه، ثم الكماليات هي الأشياء الزائدة على ما يحتاجه الإنسان، فهذه إن وجدَت فهي نعمة من نِعم اللَّه سبحانه وتعالى، واللَّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وإذا لم يفعل فلا.

ص: 3214

وقد جاء في الحديث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "البذاذة من الإيمان" ما هي البذاذة؟ هي أن يكون الإنسان رثَّ الثياب، لكن ليس معناه أن تكون ثيابه وسخةً عفنةً، لا، تكون ثيابه نظيفةً ويهتم بها، لكن لا داعي أن تكون ثيابه غالية الثمن، يعني أن تكون ثيابًا بسيطة.

ونحن نرى نماذج من العلماء الزُهّاد ما كانوا يلبسون إلا الثياب المتواضعة، فهل نقص من قدرهم؟! لا، وإنما رفع من قدرهم، فالإنسان بقيمته، كلما قويت صلة الإنسان بربه فإنه ترتفع قيمته عند الناس، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من طلب رضا اللَّه في سخط الناس رضي اللَّه عليه، وأرضى عنه الناس".

فأنت إذا طلبت رضا اللَّه سبحانه وتعالى، وصدقت في قولك وفي فعلك، فإنَّ اللَّه سبحانه وتعالى سيحبب الناس إليك، وهذا أمرٌ مُشاهدٌ.

ولو أنَّ كل واحدٍ منا نظر إلى الذين استقاموا في هذه الحياة، وزهدوا في الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، واتجهوا إلى اللَّه سبحانه وتعالى، فأخلصوا في أقوالهم وفي أفعالهم وخدموا مجتمعاتهم الإسلامية، لرأى أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى قد ألقى محبة هؤلاء في قلوب الناس، حتى في قلوب العصاة، يعني إذا وجدت إنسانًا مُخلصًا صادقًا، قد تجد بعض المنحرفين عندما يذكر، يثنون عليه؛ لأنهم لا يجدون مقدحًا، ولا مسلكًا ينفذون منه وإنما سيرته عطرةٌ، فإنهم يذكرونه بما يُشاهد؛ لأنه إنسان اتجه إلى اللَّه -تعالى-، وهكذا.

إذًا هذا الحُليُّ من النِّعَم التي يُنعم اللَّه بها سبحانه وتعالى، وقلنا: للإنسان أن يُحلي سيفه، وأن يلبس خاتمًا من فضةٍ، والمعتبر في ذلك الخاتم من الفضة، ولكن لا يجوز له أن يلبس خاتمًا من ذهب؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حرّم خاتم الذهب، وأمر بطرحه، وأجاز أن يُلبَس خاتم الفضة، ولبسه عليه الصلاة والسلام، وكان من ورِقٍ، والأحاديث في ذلك كثيرةٌ جدًّا ومعروفةٌ.

ص: 3215

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدَّدُ شَبَهِهِ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَبَيْنَ التِّبْرِ وَالْفِضَّةِ).

يعني: تردُّد شبهه -أي: الحَلي أو الحُلي- بين العروض في التجارة؛ أي: المُعدَّة للتجارة، وبين تبر الذهب.

* قوله: (وَبَيْنَ التِّبْرِ وَالْفِضَّةِ اللَّتَيْنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا الْمُعَامَلَةُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ).

وبين التبر والفضة، يعني بين الذهب والفضة، والمقصود منهما هو المعاملة.

* قوله: (فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْعُرُوضِ الَّتِي الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمَنَافِعُ أَوَّلًا قَالَ: لَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ).

وهنا لا يقصد المؤلف مُطلَق عروض التجارة؛ فعروض التجارة التي تُعد للتجارة إنما فيها الزكاة، لكنه يقصد أمورًا من العروض؛ كالثياب التي يلبسها الإنسان ويقتنيها، وقد تتعدَّد، وكذلك ما عنده أيضًا من إبلٍ وبقرٍ عاملةٍ يستفيد منها، فهذه لا زكاة فيها، هذه يقيسون عليها.

* قوله: (وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالتِّبْرِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي الْمَقْصُودُ فيهَا الْمُعَامَلَةُ بِهَا أَوَّلًا قَالَ: فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلاخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ).

إذًا المؤلف يريد أن يجعل سبب الاختلاف هو تردد زكاة الحُلي بين تشبيهها بالعروض غير المُعدة للتجارة، وإنما المُعدة للاستعمال؛ من حيوانٍ أو ملابس وثيابٍ، وبين ترددها بين النقدين، بين شبهها للذهب والفضة من جانبٍ؛ لأنها من ذهبٍ أو فضةٍ، وبين شبهها بعروض التجارة، وإنما للاستفادة، فلم تُعد للنماء.

ص: 3216

* قوله: (وَلِاخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ).

عاد المؤلف مرةً أُخرى ليُبين أنَّ من أسباب الخلاف الأدلة، وكان ينبغي أن يُقدِّم الدليل على العقل؛ لأنه -كما هو معلومٌ- يُقَسِّم العلماء الأدلة إلى قسمين؛ أدلة نقليةٌ، وهي: الأدلة التي في كتاب اللَّه عز وجل، وفي سُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يُلحق بذلك إجمالًا، وهناك أدلة عقليةٌ التي هي القياس؛ لأنها تقوم على الأصل.

لكن ليس القصد من كون الأدلة العقلية هي القياس المبني على العقل، أن القياس ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ القياس إلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكم؛ لعلةٍ تجمع بينهما، فلا بد من وجود رابطٍ بين الأصل وبين الفرع، بين الفرع الذي تلحقه بالأصل، وبين الأصل الذي أصبح مقيسًا عليه، لا بد من وجود عِلةٍ رابطةٍ، هذه العلة هي السبب الذي جعل الأصولي يُلحق الفرع بالأصل، كأن يُلحق الأرز بالقمح؛ لعِلة الكيل والوزن والطعم والاقتيات؛ لأنَّ الأرز ما كان معروفًا، لكن المواصفات الموجودة في القمح موجودةٌ فيه، فهل نقول: الأصل ما يصدق فيه الربا؟ لا، بل يصدق فيه الربا، إذن نلحقه به، وربما يكون المقيس أقوى من المقيس عليه، وهذا ما يُعرف بمفهوم موافقة الأولى، وهناك مفهوم موافقة موافق، وهناك مفهوم مخالفةٍ، ومفهوم المخالفة سيأتي في حديث:"في سائمة الغنم الزكاة".

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ"

(1)

).

(1)

يُنظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 144)؛ حيث قال: "وَالَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُ فُقَهَائِنَا مَرْفُوعًا: لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ، لَا أَصْلَ لَهُ إِنَّمَا يُرْوَى، عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوع، وَالَّذِي يُرْوَى عَنْ عَافِيَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، مَرْفوعًا، بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَعَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ مَجْهُولٌ، فَمَنِ احْتَجَّ بِهِ مَرْفُوعًا كَانَ مُغَرَّرًا بِدِينِهِ، دَاخِلًا فِيمَا نَعِيبُ بِهِ الْمُخَالِفِينَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَةِ الْكَذَّابِينَ، وَاللَّهُ يَعْصِمُنَا مِنْ أَمْثَالِهِ".

ص: 3217

هذا قلنا إنه حديثٌ ضعيفٌ، ولذلك ردَّه العلماء الذين قالوا بوجوب زكاة الحلي.

* قوله: (وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا").

في بعض الروايات أنَّ هذه المرأة قدِمَت من اليمن.

وكان السلف رضي الله عنهم ربما يركب الواحد منهم المسافات إن تيسرت له النفقة، ويسير إلى مسافاتٍ على قدميه إن ضاقت به النفقة، يبحث عن فتوى في مسألةٍ، أو يبحث عن حديثٍ من أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولقد رأينا من الصحابة من ركب، ومن امتطى دابته، وقطع المسافات الطوال، يصل كلال الليل بكلال النهار إلى الشام؛ ليأخذ حديثًا بلغه أنَّ أحد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلقاه عنه، وهكذا كان السلف رضي الله عنهم.

* قوله: (وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسْكٌ مِنْ ذَهَبٍ).

وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتان مِنْ ذَهَبٍ، هذا الذي ورد في الحديث للذي يعرف الروايات.

* قوله: (فَقَالَ لَهَا: أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟).

وفي بعض الروايات: "أتعطين زكاة هذه؟ ".

* قوله: (قَالَتْ: لَا، قَالَ:"أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارينِ مِنْ نَارٍ؟ فَخَلَعَتْهُمَا وَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَلرَسُولِهِ"

(1)

. وَالْأَثَرَان ضَعِيفَانِ).

هذا غير صحيحٍ، هذا الكلام الذي يقوله المؤلف قد قاله غيره، لكنَّ

(1)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(2270)، وحسَّنه الألباني في:"صحيح وضعيف سنن النسائي"(2479).

ص: 3218

الضعيف في الحقيقة هو ما في الترمذي، وهذا الحديث أخرجه أيضًا غير الترمذي فقد أخرجه أبو داود وغيره، يعني روي في عدة كتب أحاديث، ولكن رواية أبي داود صحيحة، فالحديث حسنٌ صالحٌ للاحتجاج به، إذن الأول ضعيفٌ، والثاني غير ضعيفٍ، الأول لا حجة فيه؛ لأنه ضعيفٌ، والثاني حجةٌ؛ لأنه حسنٌ.

* قوله: (وَبِخَاصَّةٍ حَدِيثُ جَابِرٍ).

انظر، هذا استدراكٌ من المؤلف وإن لم يكن كافيًا، لكنه طيبٌ؛ لأنه قال: الحديثان ضعيفان، أخذ برأي العامة، لكنه قال: وبخاصةٍ الحديث الأول، لكن الثاني ليس بضعيفٍ، فهو يختلف عن الأول، والذين حققوا في ذلك من أهل العلم، وتتبعوا سند الحديث وطرقه، ومنهم الإمام النووي، ومعلومٌ أنَّ الإمام النووي خالف في ذلك مذهبه.

وأقوى الأدلة إن أردت أن تستدل بها لقول عالمٍ أن تأتي عليه بقول من خالف مذهبه، فلو أنك قرأت مثلًا في كتاب "المجموع" لوجدت أنَّ المؤلف النووي رحمه الله ركَّز على الجانب الآخر يعني على مذهب الحنفية، وكأنه ضرب صفحًا عن مذهب الشافعية، حتى لم يُعن بأدلتهم، لما أخذ صاحب "المهذب" الذي هو يشرحه يذكر الأدلة، لم يذكر هو هذه الأدلة، وإنما أشار إلى بعضها، بينما تجده اعتنى بالأدلة الأُخرى وتكلم عن هذا الحديث، وبيّن أيضًا أنه هذا الحديث حسنٌ، وغيره تكلم فيه، ومن الذين صححوا هذا الحديث من أهل العلم المعاصرين الشيخ الألباني أيضًا وغيره من العلماء، فحكموا عليه بأنه حسنٌ.

* قوله: (وَلِكَوْنِ السَّبَبِ الأَمْلَكِ لِاخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِلِّبَاسِ بَيْنَ التِّبْرِ وَالْفِضَّةِ اللَّذَيْنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا أَوَّلًا الْمُعَامَلَةُ لَا الِانْتِفَاعُ، وَبَيْنَ الْعُرُوضِ التي الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنَ التِّبْرِ وَالْفِضَّةِ).

كما قلنا أولئك يُعلِّلون ويقولون: إن الزكاة إنما تجب فيما فيه نماءٌ،

ص: 3219

أما الشيء الذي لا ينمو فلا تجب فيه زكاة؛ لأنَّ الزكاة شُرعت لما فيه نماء.

* قوله: (أَعْنِي: الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا الْمُعَامَلَةَ، وَأَعْنِي بِالْمُعَامَلَةِ: كَوْنَهَا ثَمَنًا، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ

(1)

فِي الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِلْكِرَاءِ:).

قد تكون امرأةٌ عندها حلُي تؤجره، كما يحدث الآن من الناس تأجير السيارة أو دابةٍ أو عمارةٍ أو غيرها، وربما يؤجر رقيقًا، فهذه الأجرة التي يُحصل عليها من الحُلي أتزكى؟

* قوله: (فَمَرَّةً شَبَّهَهُ بِالْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ مِنَ اللِّبَاسِ، وَمَرَّةً شَبَّهَهُ بِالتِّبْرِ الْمُتَّخَذِ لِلْمُعَامَلَةِ).

نحن لا شك رجحنا وجوب الزكاة في أصله، فمن باب أولى أنَّ ما أُعِدَّ للكراء فيه الزكاة، لكن الحُلي لو كان للتجارة فلا خلاف بين العلماء في وجوب زكاته.

يعني الحلي لو كان للتجارة وجبت فيه الزكاة، ولا خلاف عليه، أي شيءٍ من الأصناف لو وِضع للتجارة يعني عروض التجارة فأصبح يُباع فيه ويُشترى، فإنه يدخل في الأموال الزكوية.

* قوله: ((وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانِ): فَمِنْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِي نَوْعِهِ، وَمِنْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِي صِنْفِهِ).

إذًا ما اختلفوا فيه نوعان: شيءٌ اختلفوا في نوعه، وشيءٌ اختلفوا في صنفه، نريد أن نعرف ما هو الذي اختلفوا في نوعه، وما هو الذي اختلفوا في صنفه.

(1)

يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس" لابن الجلَّاب (1/ 146)؛ حيث قال: "وعنه في حلي الكراء روايتان؛ إحداهما: وجوب الزكاة فيه، والأخرى: سقوطها عنه، وتجب الزكاة في الأواني الفضة والذهب والورق واقتناؤها حرامٌ".

ص: 3220

* قوله: (أَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِي نَوْعِهِ: فَالْخَيْلُ).

والحيوانات أنواعٌ -كما هو معلومٌ-؛ إبلٌ وبقرٌ وغنمٌ، ثم من الحيوانات الخيل، والخيل يدخلونها في الدواب، والإبل والبقر والغنم تُعرَف ببهيمة الأنعام، وهذه لها خصائصُ لا توجد في الخيل ولا في غيرها؛ فهذه -كما هو معلومٌ- إلى جانب الاستفادة بها كالاستفادة من الخيل، فإنها تُذبح هَديًا، وكذلك تُذبح أضحيةً، ولها خصائصُ ومزايا لا يشركها فيها غيرها.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الْجُمْهُورَ

(1)

عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْخَيْلِ).

على أن لا زكاة في الخيل، هنا سنعكس القضية، انظر، نحن في المسألة السابقة رجَّحنا مذهب أبي حنيفة، لكن هنا سيترجح عندنا مذهب الجمهور؛ لأنَّ الأدلة معهم، وهكذا طالب العلم المنصف في دراسته، ينبغي أن يكون كذلك، ينبغي أن يكون هدفه وغايته ما كان الدليل يعضده ويؤيده.

* قوله: (فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

إِلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً، وَقَصَدَ بِهَا النَّسْلَ، أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ).

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 407)؛ حيث قال: "لا زكاة في الخيل خلافًا لأبي حنيفة في إيجابه الزكاة في إناثه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"الأم" للشافعي (2/ 28)؛ حيث قال: " (قال الشافعي)؛ فلا زكاة في خيلٍ بنفسها ولا في شيء في الماشية عدا الإبل، والبقر، والغنم".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 388)؛ حيث قال: "فلا تجب في غير ذلك من خيلٍ ورقيقٍ وغيرهما لحديث: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" وحديث: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقةٌ" متفقٌ عليهما. وما روي عن عمر: "أنه كان يأخذ من الرأس عشرةٌ، ومن الفرس عشرةٌ، ومن البرذون خمسةٌ" فشيء تبرعوا به وعوضهم منه رزق عبيدهم، كذلك رواه أحمد".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 280)؛ حيث قال: "قال أبو جعفرٍ: =

ص: 3221

سائمة يعني غير معلوفةٍ، ومنطلقة ترعى في الصحاري، فلا يعلفها صاحبها، ولا ينفق عليها؛ لأنَّ صاحب الماشية أو غيرها لو علفها ربما تكون النفقة عليها تكلفه أكثر من قيمتها، لكنه مقابل الخدمة تجد أنه يعلفها، لكن السائمة لا ينفق عليها شيئًا وهو يستفيد بها، إذن مقابل هذا تُزكى، فالخيل السائمة يرى أبو حنيفة -كما ذكر المؤلف- أن فيها زكاة، وجمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة وغيرهم- يقولون: لا زكاة في الخيل، وأبو حنيفة عندما قال إن الخيل فيها زكاةٌ استدل بحديث:"في سائمة الخيل الزكاة، في كل فرسٍ دينار" أو "في الخيل السائمة في كل فرسٍ دينار" يعني كل فرسٍ فيه دينارٌ.

وبعض أهل العلم يقول: فيها رُبع العشر، فالشاهد هنا أنَّ أبا حنيفة يرى أن في الخيل زكاةً، وأن دليله في ذلك هذا الحديث:"في سائمة الخيل الزكاة، في كل فرسٍ دينارٌ"، وأما جمهور العلماء فلهم عدة أدلة في الصحيحين وفي غيرهما، ومن تلك الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام:"ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة"، والقصد بالصدقة هنا الزكاة، (ليس)، و (ليس) -كما هو معلوم- من أخوات كان، وهي وإن كانت فعلًا جامدًا ماضيًا، فهي نافيةٌ أيضًا تتضمن معنى النفي، فليس على المسلم في فرسه ولا في غلامه صدقة.

وفي الحديث الآخر: "ليس على الرجل في فرسه ولا عبده صدقة"، وهذان الحديثان جاءا بلفظين متفقٍ عليهما، والحديث الأول الذي استدل به أبو حنيفة مختلفٌ عليه، وصاحباه أيضًا خالفاه في هذه المسألة، وحديث علي رضي الله عنه عند الترمذي وغيره، حديثٌ صحيحٌ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"عفوت لكم عن صدقة الرقيق والخيل".

= (وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يوجب الزكاة في الخيل السائمة إذا حال عليها الحول، وهي كذلك إذا كانت ذكورًا وإناثًا، يلتمس نسلها مع ذلك، فيكون المصدق بالخيار: إن شاء أخذ منه لكل فرس دينارًا، وإن شاء قومها، ثم زكاها كما تزكى الدراهم.

وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في الخيل صدقةٌ على حالٍ) ".

ص: 3222

إذًا لا زكاة فيه، فليس على المسلم أو الرجل في غلامه أو فرسه صدقةٌ، ليس على الرجل في عبده وفرسه صدقة، "عفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق"، هذه كلها نصوصٌ صحيحةٌ، دليلٌ على أنه لا زكاة فيها، ثم إنَّ الخيل تختلف عن غيرها فيما تجب فيه الزكاة، فأنت ترى أنَّ الحمير ليس فيها زكاة، وكذلك البغال، وهذه الخيل لا زكاة فيها فهي وإن سامت، فهذا ليس دليلًا على زكاتها.

* قوله: (فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

إِلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً، وَقَصَدَ بِهَا النَّسْلَ، أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ -أَعْنِي: إِذَا كَانَتْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا-).

هذا القول الذي ذكره المؤلف مقيدٌ في مذهب أبي حنيفة، ما دام المؤلف فصَّل، فنحن يجب أن نبيِّن، يعني: مذهب أبي حنيفة يختلف عن مذهب صاحبيه، فصاحباه -على ما أذكر- مع الجمهور، لكن أبا حنيفة كان يرى أنَّ الخيل إذا اجتمع فيها ذكورٌ وإناثٌ، أن فيها الزكاة.

أما لو كانت ذكورًا فقط أو إناثًا فقط، فعنده روايتان في المسألة، روايةٌ فيها الزكاة وروايةٌ ليس فيها الزكاة، أفصل أكثر: أبو حنيفة يرى أنَّ سائمة الخيل إن كانت، أو اجتمع فيها الذكور والإناث معًا في وقتٍ واحدٍ، ففيها الزكاة.

أما لو كان الموجود عند صاحبها فقط إناثًا، فعنده روايتان؛ روايةٌ توجب فيها الزكاة وروايةٌ لا توجب فيها الزكاة، أو كان الذي عنده ذكورًا، فكذلك روايتان؛ روايةٌ توجب فيها الزكاة، وروايةٌ لا توجب فيها الزكاة.

(1)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 280)؛ حيث قال: "قال أبو جعفر: (وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يوجب الزكاة في الخيل السائمة إذا حال عليها الحول، وهي كذلك إذا كانت ذكورًا وإناثًا، يلتمس نسلها مع ذلك، فيكون المصدق بالخيار: إن شاء أخذ منه لكل فرس دينارًا، وإن شاء قوَّمها، ثم زكاها كما تزكى الدراهم.

وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في الخيل صدقةٌ على حالٍ) ".

ص: 3223

إذًا ليس مذهب أبي حنيفة على إطلاقه، ونحن كثيرًا ما نقول: المذهب الحنفي، أو: مذهب أبي حنيفة، وإن كنا نقصد بذلك الإمام، لكن كثيرًا ما نجد أن صاحبيه أو أحدهما يخالف الإمام، يعني: ربما يقول الإمام أبو حنيفة قولًا فيوافقه أبو يوسف، ويخالفهما محمد بن الحسن، وربما يقول أبو يوسف قولًا ويخالفه الإمام ومحمد، وربما ينفرد محمد بقولٍ ويخالفه الإمام أبو يوسف، وهكذا، وهذه أمورٌ نبه عليها الحنفية، وذكروا شواهد وأمثلةً عليها، وهذا حقيقة ليس في مذهب أبي حنيفة، ففي كل المذاهب قد تجد من أصحاب الإمام من يخالفه، فقد يقول الإمام بقولٍ، وتجد بعض أصحابه يتبين له قوة دليل هذا القول فيخالف إمامه؛ لأنه يرى أنَّ الدليل مع الطرف الآخر أقوى مما أخذ به إمامه، فقد يكون إمامه لم يقف على الدليل؛ لأنَّ إمامه ليس محيطًا بالعلم، وربما وقف على الدليل ولم يصح عنده، بل صحَّ عند غيره من طريقٍ آخر.

كما رأيتم في الحديث الذي مرّ بنا وهو حديث عمرو بن شعيب، لم يصح عند الترمذي ولكنه صحَّ عند أبي داود، ونحن هنا لا نقتصر على كتابٍ من كتب الحديث ولا على طريقٍ من الطرق التي ورد فيها الحديث، وإنما يجمع الطرق، وأحيانًا قد تكون الطرق فيها ضعفٌ، لكنها إذا جمعت يقوي بعضها بعضًا، ويصبح الحديث صالحًا للاحتجاج به، قد يأتي الحديث بعدة رواياتٍ، وبطرق متعددةٍ، وكل طريقٍ لا يسلم من مقالٍ، فإذا جمعت هذه الطرق وتتبعت وجمعت في مكانٍ واحدٍ، صار بعضها يقوي بعضًا فصار هذا الحديث صالحًا للاحتجاج به، ولذلك أمثلة كثيرةٌ معروفة في كتب الحديث وفي كتمب الفقه، ولكنها أبين وأظهر في كتب الحديث.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلَّفْظِ، وَمَا يُظَنُّ مِنْ مُعَارَضَةِ اللَّفْظِ لِلَّفْظِ فِيهَا، أَمَّا اللَّفْظُ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا في

ص: 3224

فَرَسِهِ صَدَقَةٌ"

(1)

، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي عَارَضَ هَذَا العُمُومَ: فَهُوَ أَنَّ الْخَيْلَ السَّائِمَةَ حَيَوَانٌ مَقْصُودٌ بِهِ النَّمَاءُ وَالنَّسْلُ، فَأَشْبَهَ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِذَلِكَ العُمُومِ فَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ ذَكرَ الْخَيْلَ:"وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا"

(2)

).

لكننا نقول إن الصفات الموجودة في الإبل، والبقر، والغنم، ليست كلها موجودة في الخيل، فالمعروف أن للإبل، والبقر، والغنم، فوائد متعددة، ولها خصائص تنفرد عنها وذكرنا من ذلك أن تقدر في الهدي وفي الأضاحي بخلاف الخيل، إذن لها مزايا، فهي تختلف عن الخيل في صفات عدة.

* قوله: (ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى "أَنَّ حَقَّ اللَّهِ" هُوَ الزَّكَاةُ، وَذَلِكَ فِي السَّائِمَةِ مِنْهَا.

قَالَ الْقَاضِي:).

القاضي هو ابن رشد، وهذا يتكرر كثيرًا.

* قوله: (وَأَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مُجْمَلًا أَحْرَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا).

نعم، وأنا مع المؤلف، يعني أن الكلام الذي أورده هنا مجمل، والأحاديث التي أتى بها الجمهور خاصة، يعني: نص في المسألة، فينبغي أن تُقدَّم.

* قوله: (فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي الزَّكَاةِ، وَخَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَاحبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ

(3)

).

(1)

أخرجه البخاري (1463)، ومسلم (982).

(2)

أخرجه البخاري (2371)، في حديثٍ طويلٍ.

(3)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 280)، حيث قال:" (وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في الخيل صدقة على حال) ".

ص: 3225

معلوم أن هناك خلافًا في أكل لحوم الخيل، وليس هذا محله، إنما ستأتي -إن شاء اللَّه- في الأطعمة، فهناك من يرى من العلماء جواز أكلها، لكن بالنسبة للإبل، والبقر، والغنم، فهذه مجمع عليها، ولكن ورد أيضًا في "صحيح البخاري" أنه ذُبح فرس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا نريد أن ندرس هذه المسألة، لكنني أقول: لا شك أن الأقوى هو جواز أكل لحوم الخيل، لكن المسألة فيها خلاف.

* قوله: (وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ

(1)

رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهَا الصَّدَقَةَ، فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ بِاخْتِيَارٍ مِنْهُمْ).

هذه حقيقةً مسألة مهمة، المؤلف مر عليها مرور الكرام، وهذه من القضايا التي نُعنى بها، هذه القضية التي أشار إليها المؤلف، ومعلوم أن كتاب "بداية المجتهد" ليس كتابًا مفصلًا، وإنما هو كتاب -كما كررنا وقلنا- كتاب يُعنى بالكليات لا بالجزئيات، يُعنى بأمهات المسائل لا بفروعها، فله منهج سار عليه، ولا نعتبر ذلك تقصيرًا، لكن فيه حقيقةً من الفوائد ومن الأسرار، الأشياء الكثيرة، فهو يعطي إشارات قيمة تنبّه من يدرّس هذا الكتاب، وقد يغفل عن أمر من الأمور فيتذكره، فيشير وشبه.

* قوله: (وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهَا الصَّدَقَةَ).

يقول: صح عن عمر، وهو كما قال المؤلف، صح عن عمر

(1)

أخرج مالك في "الموطإ"(1/ 277): عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَالُوا لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ: خُذْ مِنْ خَيْلِنَا وَرَقِيقِنَا صَدَقَةً. فَأَبَى ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَبَى عُمَرُ، ثُمَّ كَلَّمُوهُ أَيْضًا، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ:"إِنْ أَحَبُّوا فَخُذْهَا مِنْهُمْ، وَارْدُدْهَا عَلَيْهِمْ، وَارْزُقْ رَقِيقَهُمْ" قَالَ مَالِكٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ رحمه الله: وَارْدُدْهَا عَلَيْهِمْ يَقُولُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.

ص: 3226

عند أحمد وعند غيره من أصحاب كتب الحديث، فصح عن عمر أنه كان يأخذ منها، هذا أيضًا ليس على الإطلاق، هذا ينبغي أن يبيّن، يعني لا ينبغي أن يمر عليه مرور الكرام، القضية أنه جاء أقوام من الشام إلى عمر رضي الله عنه، وهم جاؤوا يشكرون اللَّه سبحانه وتعالى على ما أنعم عليهم؛ لأنهم حصلوا على خيلٍ وعلى رقيق، يعني أنعم اللَّه سبحانه وتعالى عليهم بأن وهبهم خيلًا ورقيقًا، والخيل هي التي نتكلم عنها، والرقيق: هم المملوكون-، فعرضوا على عمر رضي الله عنه أن يقدموا زكاة الخيل، فقال عمر رضي الله عنه وهو المُلهم: لا آخذها، إنما أفعل كما فعل صاحباي، يعني محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رضي الله عنه.

إذن عمر رضي الله عنه توقف في هذه المسألة، قال: لا أفعل إلا كما فعل صاحباي، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو بكر، وهما لم يأخذا زكاة الخيل، لم يُنقل من طريقٍ صحيح أنهما أخذا شيئًا في زكاة الخيل، هذا فيما أعلم أنا.

إذن عمر توقف؛ لأنه قيّد الأمر بأنه لا يفعل ما لم يفعله صاحباه، لو كانت زكاة الخيل واجبة لما توقف عمر؛ لأن الزكاة واجبة، وأخذها حقٌّ للمسلمين؛ فكان يجب على عمر رضي الله عنه أن يأخذها فيدفعها في مصارفها، يعني يدفعها في الأمور التي وُزّعت وأُعدت لها.

إذن عمر قال: لا أفعل إلا كما فعل صاحباي، توقف فلم يأخذ الزكاة، فلو كانت زكاة الخيل واجبة لما توقف عمر رضي الله عنه، ولما جاز له أن يتوقف؛ لأنها زكاة، والزكاة واجبة، ولا يجوز لإمام المسلمين ألا يأخذ زكاةً تجب على الأغنياء فتُرد إلى الفقراء.

دليلٌ آخر: أن عمر رضي الله عنه قد استشار الصحابة رضي الله عنهم، فأشار عليه علي بن أبي طالب بأن لا مانع أن يأخذها، على ألا تكون جزيةً لمن جاء بعده، يعني أشار عليه ما دام أولئك جاؤوا بها، فلا يرى عليٌّ رضي الله عنه ما يمنع من أن يأخذها على ألا تكون جزيةً يأخذها من يأتي بعده.

انظر إلى فقه علي رضي الله عنه، كأن عليًّا رضي الله عنه يقول: هؤلاء أُناس جاؤوا

ص: 3227

يقدمون مالًا طابت به أنفسهم، أرادوا أن يقدموه شكرًا للَّه سبحانه وتعالى على ما أنعم عليهم مما وهبهم وأعطاهم ومنحهم، فينبغي أن تأخذ ذلك، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك حكمًا شرعيًّا مقررًا، ولا ينبغي أن يُفهم أن هذا الذي تأخذه يجعله من يأتي بعدك جزيةً.

وهذا فيه دليلٌ على أن أخذها ليس بواجب، وأن عليًّا رضي الله عنه قال: حتى لا يعدها من يأتي بعدك جزيةً، على أنه لم يفهم الصحابة رضي الله عنهم أن في الخيل زكاةً، هذه من الأدلة أيضًا التي نتلمّسها فيما فعله عمرُ رضي الله عنه، ونحن وجدنا عدة أدلة نستنتجها مما حصل في هذا الأثر، فهم تبرعوا.

دليلٌ آخر يُضاف إلى ذلك: أن عمر رضي الله عنه عندما أقدم على أخذها منهم كان ينفق على عبيدهم، إذن هذه مقابل هذه، وتلك مقابل تلك، إذن عمر أخذ منهم هذا الذي جادت به أنفسهم، وتبرعوا به، لكنه مقابل ذلك كان ينفق على عبيد أولئك الرجال الذين جاؤوا، فأرادوا أن يقدموا شيئًا من أموالهم.

وبهذا نتبين عن طريق هذا العرض، والمناقشة، والتعليل، والبيان، أنه ليس فيما فعله عمر رضي الله عنه ما يدل على وجوب زكاة الخيل، بل الفقيه الحصيف يدرك أن ما فعله عمر دليل على عدم وجوبها، وبهذا يكون ما احتج به الفريق الثاني مما فعله عمر رضي الله عنه حُجّةً عليهم وليس حُجّة لهم؛ لأن عمر رضي الله عنه توقف، وربط توقفه بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لم يفعلاه، واستشار الصحابة، ولو كانت الزكاة واجبة لما احتاج أن يستشيرهم في أمرٍ معلوم، ولمَّا استشارهم أيضًا أشار عليه عليّ رضي الله عنه، وقيّد ذلك بألا يُعتبر جزيةً؛ فلم يكن للزكاة بينهم حديث في ذلك وكان عمر رضي الله عنه ينفق على عبيدهم.

* قوله: (وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِي صِنْفِهِ: فَهِيَ السَّائِمَةُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ السَّائِمَةِ مِنْهَا).

المؤلف هنا بدأ الحديث عما يتعلق بالسائمة؛ أي: في سائمة بهيمة

ص: 3228

الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم، ولم تكن بداية حديثه تفصيلًا هنا فيما سيتكلم عنه، لكنه أوردها عندما قسّم ما تجب فيه الزكاة إلى قسمين، فتكلم عن النوع، ثم الآن يتكلم عن الصنف إجماعًا، لكنه سيعود بعد ذلك ليتحدث عن زكاة الإبل والبقر والغنم تفصيلًا.

ومراده هنا أن يُبيّن أن ما تجب فيه الزكاة من الإبل والبقر والغنم إنما هو السائمة ومعنى السائمة: الراعية، أي التي تركها صاحبها ترعى في المراعي، والقصد من ذلك غير المعلوفة، فقد ترعى في أماكن مباحة، والقصد أن صاحبها لم ينفق عليها، كذلك أيضًا يدخل فيما لا تجب فيه الزكاة، العوامل؛ كالبقر التي تُستعمل في الحرث، وكذلك الإبل التي تُستعمل في النضح؛ أي: في حمل الماء، إلى غير ذلك مما تُستخدم فيه هذه الحيوانات. ومعنى سائمة مِن سامت تسوم، إذا رعت. ومن ذلك قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10]: أي ترعوْن.

إذًا المراد بالسائمة هنا: إنما هي التي ترعى، والسائمة هنا تُخرج المعلوفة. إذًا معنى هذا أن السائمة خلاف المعلوفة من حيث الحكم؛ فإذا كان عند إنسان إبلٌ، أو بقر أو غنم سائمة، فإنه تجب فيها الزكاة -وسيأتي بيان ذلك مفصلًا في موضعه-. أما إن كانت معلوفةً: أي يقوم صاحبها على الإنفاق عليها فإنها لا تجب فيها الزكاة، وكذلك أيضًا إذا كان هذا الحيوان سائمًا، إذا كان هذا الحيوان من بهيمة الأنعام عوامل: أي يستخدمها صاحبها في أعمالٍ؛ كأن يحمل عليها حطبًا، أو كذلك يسقي عليها، أو يحمل عليها بضاعته، أو يتنقل عليها في شؤونه؛ ففي هذه الحالة لا زكاة فيها. هذا هو مراد المؤلف، وهو المعروف أيضًا وهو ما سيأتي الحديث عنه في الأحاديث.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ سَائِمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ سَائِمَةٍ).

هذا قول قلة من العلماء، ومنهم الإمام مالك رحمه الله، وهؤلاء أخذوا بعموم الأدلة؛ كحديث (في أربعين شاةٍ شاة)، وكذلك ما يتعلق في

ص: 3229

الإبل في سائمة الإبل (فى كل خمسين شاة)، فقالوا: هذه أحاديث مطلقة فينبغي أن تعم كل نوع من أنواع بهيمة الأنعام، ولا يرى فرقًا بين أن تكون سائمة راعية، وبين أن تكون من العوامل أو المعلوفة. وخالفهم في ذلك جماهير العلماء ومنهم الأئمة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ فقالوا: إن الزكاة تجب في السائمة دون غيرها.

* قوله: (وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ

(1)

، وَمَالِكٌ

(2)

).

والليث كما هو معلوم هو إمام مصر قبل الشافعي، وهو الإمام المشهور الذي دارت بينه وبين الإمام مالك رسائل، وله رسالته المشهورة التي وجهها إلى الإمام مالك، والتي أيضًا أرسل الإمام مالك أيضًا رسالةً إليه.

* قوله: (وَقَالَ سَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ

(3)

: لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مِنْ هَذِهِ الأَنْوَاع).

سائر فقهاء الأمصار منهم الأئمة الثلاثة المعروفون، الأئمة الأربعة عدا مالك.

(1)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (4/ 144)؛ حيث قال: "قال مالك، والليث، وبعض أصحابنا: تزكى السوائم، والمعلوفة، والمتخذة للركوب، وللحرث وغير ذلك، من الإبل، والبقر، والغنم".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 148)؛ حيث قال: "لا خلاف أن الزكاة تجب في السائمة وهي التي ترعى إذا توفرت فيها الشروط واختلف في المعلوفة في الحول، أو بعضه والعاملة في حرث، أو حمل ونحوهما فمذهبنا وجوب الزكاة فيهما أيضًا خلافًا لأبي حنيفة والشافعي".

(3)

مذهب الأحناف، يُنظر:"شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 275)؛ حيث قال: "ولا تجب صدقات المواشي إلا في السائمة".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مختصر المزني"(8/ 141)؛ حيث قال: " (قال الشافعي): يروى عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في سائمة الغنم زكاة" وإذا كان هذا ثابتًا فلا زكاة في غير سائمة".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"الهداية على مذهب الإمام أحمد" للكلوذاني (ص: 124)؛ حيث قال: "ولا تجب الزكاة إلا في السائمة".

ص: 3230

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمُطْلَقِ لِلْمُقَيّدِ).

المؤلف دائمًا بعد أن يعرض الأقوال يذكر أسباب الخلاف، فهل سبب الخلاف -كما ذكر المؤلف- هو معارضة المطلق للمقيد؟ ويقصد بالمطلق: الأحاديث التي تحدثت عن الزكاة دون أن تقيدها بسائمة، دون أن يرد فيها هذا الوصف الكاشف الذي هو سائمة؛ فمن رأى أن أغلب الأحاديث المطلقة عمّم الزكاة، ومن رأى أن لهذا القيد معنى، وأنه مقصود، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نطق به رتّب وترتب عليه حكم من الأحكام.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمُطْلَقِ لِلْمُقَيّدِ، وَمُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ).

قصده بالمطلق: هو الأدلة التي تأتي مطلقةً، التي يدخل تحتها كل ما يندرج من أحكام، والمقيد: هو ما يُمثّل جزءًا من ذلك المطلق، لا شك أن المطلق أعمُّ؛ لأنه يشمل أحكامًا عامة، والمقيد قيّد هذا المطلق؛ فأيهما أولى؛ أن يؤخذ بالمطلق أو أن يؤخذ بالمقيد؟ لا شك أن المشهور هو أن القيد معتبر، وأن التقييد مقدم على الإطلاق، وخالف في ذلك ابن حزم، وهي مسألة أصولية معروفة.

* قوله: (أَمَّا الْمُطْلَقُ: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ"

(1)

).

في أربعين شاةً شاةٌ، هذا مطلق، إذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيّن أنه فى أربعين شاةً شاة، هكذا لم يذكر وصفًا يقيده به.

* قوله: (وَأَمَّا الْمُقَيّدُ: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ"

(2)

).

(1)

أخرجه أبو داود (1568)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح.

(2)

قال البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(6/ 87): أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو =

ص: 3231

هذا حقيقة عبارة يذكرها الفقهاء في عامة كتبهم، أخذوها من الحديث، والمؤلف لم يأتِ بنص واحد من الأحاديث فيما أعلم، فأنا لا أعرف أن هذا لفظ حديث، ولكن هذا دائمًا يُكثر من ذكره الأصوليون؛ فيذكرون دائمًا عندما يتكلمون عن دليل الخطاب: أي الذي يُعرف بمفهوم المخالفة، يذكرون هذه العبارة، فيقولون: لحديث: "في الغنم السائمة زكاة"، لكن الحديث الذي ورد في البخاري وفي غيره يختلف لفظه عن هذا؛ فالذي في البخاري:"وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة"، وفي رواية أبي داود:"وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة"، هذا هو الأصل، وكذلك ورد "في كل سائمة الإبل"، هذا الذي ورد في الأحاديث، وأما عدا الذي ذكره المؤلف فليس نص حديث، وإنما هو يؤدي معنى الأحاديث.

* قوله: (فَمَنْ غَلَّبَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ).

المطلق هو الحديث الذي أورده (في أربعينَ شاةً شاة)، وكذلك:(في خمسٍ من الإبل صدقة)، والأحاديث المطلقة كثيرة في هذا الباب، وستأتي إن شاء اللَّه في مواضعها في زكاة النقدين، وكذلك في موضوعها الخاص، ألا وهو: زكاة بهيمة الأنعام.

* قوله: (فَمَنْ غَلَّبَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَالَ: الزَّكَاةُ فِي السَّائِمَةِ وَغَيْرِ السَّائِمَةِ).

قصده من (غلّب المطلق على المقيد) أي: قدّم المطلق على المقيد حكمًا؛ أي: أنه أخذ بالمطلق ولم يعمل بالمقيد، قال: لأن المطلق يشتمل على زيادة حكم؛ فما دام يشتمل على زيادة حكم فينبغي أن يكون

= الْعَبَّاسِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:"فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا"، وَإِذَا كَانَ هَذَا يَثْبُتُ، فَلَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مِنْ شَيءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ".

ص: 3232

هو المعمول به، لكننا نقول إن القيد معروف في أدلة كتاب اللَّه عز وجل، وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فكم من الآيات جاءت مطلقة فقُيدّت، وكذلك كثير من الأحاديث وردت مطلقةً فقُيّدت، وجاءت آياتٌ عامة، وأحاديث عامة، فجاء أيضًا ما يخصصها.

* قوله: (وَمَنْ غَلَّبَ الْمُقَيَّدَ قَالَ: الزَّكَاةُ فِي السَّائِمَةِ مِنْهَا فَقَطْ).

إذن من غلّب المقيد؛ أي: من أخذ بالمقيد فإنه يقول إن الزكاة إنما تجب في بهيمة الأنعام السائمة، وهذا هو الرأي الصحيح.

* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مِنْ سَبَبِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مُعَارَضَةَ دَلِيلِ الْخِطَابِ لِلْعُمُومِ).

يريد المؤلف أن يقول: ويمكن أن يقال بأن هناك سببًا آخر للخلاف، ما هو هذا السبب؟

* قوله: (إِنَّ مِنْ سَبَبِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مُعَارَضَةَ دَلِيلِ الْخِطَابِ لِلْعُمُومِ).

دليل الخطاب هو الذي يُعرف بمفهوم المخالفة، وهذا من أصرح أدلته في سائمة الغنم، إذن هذا الحديث له منطوقٌ وله مفهوم؛ فمنطوقه، أي: الذي نطق به النص أن في الغنم السائمة زكاة، ومفهومه المخالف الذي يعبر عنه المؤلف كثيرًا بدليل الخطاب؛ أي: ما يُفهم من دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة، يدل على أن غير السائمة لا زكاة فيها.

لكن العلماء لم يستدلوا بهذا لضعفه؛ لأن دليل الخطاب له عدة تقسيمات؛ بعضها مُسلّم، وبعضها غير مُسلّم، وهي محل نزاع بين العلماء، لكننا نحن عندما نستدل نقول: هناك أدلة قيدت، وهناك أدلة أطلقت، ونحن نأخذ بالمقيد؛ لأنه معتبر، وقد ورد فيها أحاديث صحيحة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يذكر السائمة إلا لفائدة، هذه الفائدة أن السائمة هي التي تختص بوجوب إخراج الزكاة فيها.

ص: 3233

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ" يَقْتَضِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ، وَعُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فِي كل أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ" يَقْتَضِي أَنَّ السَّائِمَةَ فِي هَذَا بِمَنْزِلَة غَيْرِ السَّائِمَةِ، لَكِنَّ العُمُومَ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ، كَمَا أَنَّ تَغْلِيبَ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ أَشْهَرُ مِنْ تَغْلِيبِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ).

تغليب المطلق على المقيد هو رأي ابن حزم صاحب كتاب "المحلى" المعروف، وهو حقيقةً من الكتب القيمة في الفقه الإسلامي؛ لأن مؤلفه عُني بأحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيندر أن يذكر حكمًا إلا ومعه دليل، لكن يؤخذ عليه رحمه الله وعفا عنا وعنه- أن عباراته قوية، وربما كان فيها تحامل على العلماء، وربما كان فيها أيضًا قسوة على بعض العلماء الأعلام، الذين أجمع العلماء على تزكيتهم، وفضلهم، ومواقفهم العظيمة في خدمة الإسلام.

هذا حقيقةً مما جعل طلاب العلم أو بعضهم ينشر عنه، ولذلك هذا الكتاب لا يقرأ فيه إلا إنسان قد تمكن من معرفة الفقه، وأدرك حقيقة الأمر؛ لأن مؤلفه لديه بلاغة، أو ربما يستدل ببعض الأمور، وربما يقع الإنسان في بعض الأمور التي يذكرها، فله مثلًا مسائل شاذة، يعني هو يرى مثلًا أن الإنسان إذا صلى في البيت ركعتي الفجر فلا بد أن يستلقي، أن ينام قليلًا، ولو لم يفعل ذلك لا يصح منه، وهذا حقيقةً رأي شاذ، وفي الكتاب آراء كثيرة شاذة، لكن الكتاب لا شك أنه قيم، وفيه ثروة فقهية عظيمة، وثروة حديثية، وهو أيضًا إلى جانب الاستدلال يُعنى بسند الحديث، لكن من يريد أن يقرأ في هذا الكتاب وفي أمثاله، ينبغي أن يكون على علمٍ به، وكما قيل: قبل الرماء تُملأ الكنائن؛ فالإنسان يعرف اتجاه الكتاب، وغايته، ومنهجه، ثم بعد ذلك يمكن أن يقرأ فيه.

ص: 3234

* قوله: (وَذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ

(1)

إِلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْضِي عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَأَنَّ فِي الْغَنَمِ سَائِمَة وَغَيْرِ سَائِمَةٍ الزَّكَاةَ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِبِلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ"

(2)

. وَأَنَّ الْبَقَرَ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا أَثَرٌ وَجَبَ أَنْ يُتَمَسَّكَ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي السَّائِمَةِ مِنْهَا فَقَطْ، فَتَكُونُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَقْرِ وَغَيْرِهَا قَوْلًا ثَالِثًا).

هذا في الحقيقة قول غير مُسلّم، ولا شك أن الحق -فيما يظهر لنا وهو الواضح كما دلت الأدلة- مع جماهير العلماء الذين قصروا وجوب الزكاة في هذه الحيوانات على سائمتها.

ونحن منذ أن بدأنا في الزكاة، ونحن نجد أنه كثيرًا ما يمر بنا كلمة النماء، والأصل أنه إنما فُرضت الزكاة في أي أمرٍ من الأمور؛ سواءٌ كان هذا الذي فُرضت فيه الزكاة نقدًا؛ من ذهبٍ، أو فضة، أو كان أيضًا من بهيمة الأنعام، أو كان مما يخرج من الأرض، فإن الشريعة راعت فيه النماء؛ لأن الإنسان عندما يريد أن يعمل عملًا من الأعمال؛ فالإنسان الذي يغرس الغرس ويبذر البذر، إنما هو يريد أن تنبت مزرعته، وهو يريد أن يستفيد منها؛ ليأكل هو، وليبيع ما زاد من ذلك، وهو أيضًا يريد الكسب في ذلك في الغالب، كذلك الذي يترك ماشيته ترعى في البراري وفي الصحراء، يتتبع مواقع القطر، وكذلك العشب والكلأ، إنما هو يريد

(1)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (4/ 142)؛ حيث قال: "ثُمَّ لَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ تَصْحِيحِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ مُوهِمِينَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرَأْيِهِمْ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ إلَّا فِي السَّائِمَةِ؟ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ، وَخِلَافِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَللسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم دُونَ أَنْ يَتَعَلَّقُوا بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ، إلَّا عَنْ إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ -وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".

(2)

أخرجه البخاري (1405)، ومسلم (979).

ص: 3235

التجارة أيضًا، إذن هو يسعى إلى نمائها وإلى الربح فيها، فهذا مقصوده، وغير السائمة لا يظهر فيها هذا المعنى، فمثلًا إنسان عنده إبل يُخرج الماء بها من البئر، أو ليحمل عليها الماء من بئرٍ آخر، أو ليسقي، أو ليحمل عليها بضاعته أو نحو ذلك، فهذه حقيقة لم يُقصد بها النماء، وما قُصد به النماء وهو مُراعى، فإنه تجب فيه الزكاة، وهذا ظاهرٌ في السائمة دون غير السائمة.

* قوله: (وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهَا: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ" فَهُوَ أَنَّ السَّائِمَةَ هِيَ الَّتِي الْمَقْصُودُ مِنْهَا النَّمَاءُ وَالرِّبْحُ).

عاد المؤلف فذكر هذا، وهذه فعلًا يُقصد بها النماء والربح؛ لأن الإنسان إذا نشر ماشيته، ومعلوم أن كثيرًا من الناس وخصوصًا البادية الذين يتنقلون من مكان إلى مكان، فتجدهم رُحَّلًا من موضع إلى موضع يتتبَّعون الأماكن التي فيها المطر والكلأ؛ حتى يشربوا وتشرب أنعامهم، وكذلك ترعى أنعامهم ودوابُّهم، فهم يسعون في ذلك إلى تسمين هذه الغنم، وتوالدها وتكاثرها، فقصدهم بذلك النماء، وكذلك يقصدون أيضًا الربح، لكن الذي يستخدم هذا الحيوان فإنه يعلفه، وربما يكون ما يُنفق عليه من علف يفوق ما يستفيده منه، فهو يُنفق عليه مقابل الاستفادة من خدمته، لكنه إذا كان يعيش في المراعي فإنه لا يُنفق عليه شيئًا، وإنما يأكل من الكلأ، ويشرب من الماء الذي يجده في الغالب.

* قوله: (وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِيهَا أَكْثَرُ ذَلِكَ، وَالزَّكاةُ إِنَّمَا هِيَ فَضَلَاتُ الْأَمْوَالِ، وَالْفَضَلَاتُ إِنَّمَا تُوجَدُ أَكْثَرَ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ السَّائِمَةِ).

يقصد المؤلف رحمه الله بـ "الفضلة" الزائد؛ أي: المال الزائد على النِّصاب، فما دام قد بلغ النصاب؛ فإنه تجب فيه الزكاة، والمعنى: ما زاد عن حاجة الإنسان، بأن توفَّر عنده شيء من المال أو الماشية، فإذا وصلت إلى الحد بشروط الزكاة، فإن الزكاة تُؤدَّى في ذلك.

ص: 3236

* قوله: (وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِيه الْحَوْلُ؛ فَمَنْ خَصَّصَ بِهَذَا الْقِيَاسِ ذَلِكَ الْعُمُومَ لَمْ يُوجِبِ الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ).

لأن اشتراط الحول فيه مراعاة أيضًا لحال أصحاب هذه الأموال؛ لأن هذه المدَّة التى حدَّدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا شكَّ أن فيها مصلحةً لصاحب هذا المال، فالشريعة قد راعت جانبين؛ جانب المزكِّي، وجانب الذي يأخذ الزكاة.

* قوله: (وَمَنْ لَمْ يُخَصِّصْ ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّ الْعُمُومَ أَقْوَى؛ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا. فَهَذَا هُوَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ).

قبل فترة ظهرت دعوة في مكانٍ ما في بلد إسلامي تطالب بأن ما قُرِّر في الزكاة غير كافٍ، وأنه ينبغي أن تُرفَع الزكاة؛ لأن الأموال قد كثُرت وتنوعت، وأُنشئت المصانع الكبيرة، وكذلك أيضًا المزارع التي تُنتج الألبان والأجبان وغير ذلك، ونسِيَ هؤلاء أن الدولة الإسلامية مرَّت بفترات بلغت فيها غايةَ مُناها، وأَوْجَ مجْدِها، ومرَّت أيضًا بفترات أُخرى دبَّ إليها فيها الضعفُ، ومع ذلك لم نجدْ أحدًا من العلماء قال بزيادة الزكاة؛ لأنَّ هذه أمورٌ قدَّرها اللَّهُ سبحانه وتعالى، وقدَّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فهي شرعٌ توقيفي ليس لأحد أن يزيد فيها، كما أنه ليس لأحدٍ أن يُنقِصَها.

ولا شكَّ أن مَن قال هذه القولة، هبَّ العلماء في بلده الذي كان فيه، فأنكروا عليه ذلك، وأبطلوا مقالته وأخمدوها، وهي دعوة قديمة.

* قوله: (وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانِ زَكَاةٌ إِلَّا الْعَسَلُ).

شرع المؤلف في مسألة أخرى، ومعلومٌ أن العسلَ نِعمة من نِعَم اللَّه سبحانه وتعالى، وهو طيبة من الطيبات؛ ففيه غذاء وشفاء للناس، وهو كذلك بمنزلة فاكهة من ألذِّ الفواكه؛ فالإنسان يتغدَّى به، وكذلك يستشفي به،

ص: 3237

وكذلك أيضًا يتفكَّه به؛ ولذلك نجد أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى ذكره في موضعين، بل إنه يوجد في القرآن سورةٌ باسم سورة النحل، يقول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [النحل: 68 - 69].

فهذه نعمة من نِعم اللَّه سبحانه وتعالى التي لا تُعدُّ حصرًا، قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]؛ فلو أن إنسانًا وقف طيلة حياته -مهما تقدَّم به العمر وطال- يعد نِعَم اللَّه سبحانه وتعالى حتى في نفسه ما استطاع؛ فنعم اللَّه على عباده كثيرة، ولا شكَّ أن هذه النِّعم تقتضي الشكر.

ومن نِعَم اللَّه سبحانه وتعالى أن يسَّر هذا الحيوان الصغير الذي يخرج منه هذا السائل العظيم الكريم، الذي جعله اللَّه سبحانه وتعالى شفاءً للأبدان وغذاءً للأبدان، وجعل فيه فوائد عظيمة جدًّا.

والسؤال هل في هذا الذي يخرج من الحيوان زكاة؟ فنجد أن اللَّبن يخرج من الحيوان ولا زكاة فيه، فلماذا اختلف العلماء هنا ولم يختلفوا في زكاة اللبن؟ هل هناك فرق بينهما؟

ولو ألقينا نظرة فاحصةً ودقيقةً لوجدنا أن اللَّبن يخرج من حيوان يُزكَّى أصلُه، وهذا لا يُزكَّى أصلُه، فهذا فرقٌ سريعٌ نذكره.

نأتي إلى الحكم الشرعي: هل في العسل زكاة أو لا؟

اختلف العلماء في ذلك وانقسموا إلى فريقين؛ فريق منهم يرى أن في العسل زكاةً، وفريقٌ منهم يرى أن العسل لا زكاة فيه، والذين قالوا بأن العسلَ لا زكاة فيه: هم المالكية والشافعية، والذين قالوا بوجوب زكاته: هم الحنفية والحنابلة، ولعلَّ من الملاحظ دائمًا أنه لا يوجد إمامٌ يتفق مع إمام دائمًا؛ فليس هناك اتفاقٌ بين الأئمة على أن توافقني وأوافقك؛ لأنهم يريدون الوصول إلى الحقِّ، ويريدون أن يأخذوا الحكم من دليله؛ فالمالكية والشافعية يقولون: لا زكاة في العسل، والحنفية والحنابلة يقولون: تجب الزكاة في العسل، ولا شكَّ أن سبب الخلاف في ذلك إنما

ص: 3238

هو ورود الأدلة، وهذه الأدلة التي اختلف العلماء بسببها هي أحاديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفوا فيها؛ لأن هذه الأحاديث صحَّ بعضها عند جماعة، ولم تصحَّ عند جماعةٍ أخرى؛ فالذين رأوا أن في هذه الأحاديث -مع تعددها وكثرتها- أحاديثَ لا تقلُّ عن درجة الحسن، وأن مُرسلَها إذا عُضد بمسندها؛ فإنه يرتفع إلى درجة الاستدلال به، وفريق يرى أن هذه الأحاديث كلَّها ضعيفةٌ، وأن الإجماع قد قام على خلاف ذلك، ونحن لا نريد أن نستقصي الأدلَّة؛ فأكثر الأدلة التي وردت في زكاة العسل أدلةٌ ضعيفة، لكن نذكر دليلين نرى أن سند كلِّ واحدٍ منهما حسن، واحدٌ سنده حسنٌ بمتابعته؛ يعني: عن طريق سند لا يحتاج إلى تقوية، والآخر سنده يكون حسنًا بالشواهد؛ أي: إذا أُخذت له شواهد، وأول هذين الحديثين حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، قال:(جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم هلال أحد بني مُتعة، ومعه عُشور نَحلِه).

أي: جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعشور نحله، (وكان سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم). يعني: قبل ذلك، (أن يحمي له واديًا يُعرف)؛ أي: يُسمى هذا الوادي (سَلَبَة، وكان) هذا السائل، هذا الرجل؛ أي: هلال أحَد بني مُتعة قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي له واديًا يُسمَّى: سلبة، (فحماه له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلمَّا آلت الخلافة إلى عمر رضي الله عنه)؛ أي: لمَّا كان زمن عمر رضي الله عنه، وأصبح الخليفة (كتب إليه معاوية بن وهب يسأله عن هذا الأمر، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إنْ أتى لك بما كان يعطي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من عشور نحلِه، فاحم له سلبة)، يعني: هذا المكان الذي اسمه سلبة (وإن لم يفعلْ؛ فإنما هو ذبابُ غيثٍ يأكله من يشاء).

وهذا حديث أخرجه أبو داود في سُننه، وإسناده حسَن، فهو صالحٌ للاحتجاج به، وبيان هذا الحديث أن رجلًا اسمه هلال، جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعشور نحْلِه؛ أي: بما يجب في النَّحْل وهو العُشر، فأعطاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكنه قبل ذلك كان قد طلب من رسول اللَّه-صلى الله عليه وسلم أن يحمي له ذلك المكان، فكان يدفع زكاة ذلك النَّحل فيأتي به بين يدي رسول اللَّه، فلمَّا آلت الخلافة إلى عمر رضي الله عنه بعد رسول اللَّه وأبي بكر، كتب إليه عامله

ص: 3239

معاوية بن وهب يسأله عن حكم ذلك؛ هل يحمي له ذلك؟ فأقرَّه عمر، أو طلب منه أن يحمي له ذلك على أن يدفع صدقة نحْلِه كما كان يدفعها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (إن أتاك بعشور نحْلِه كما كان يأتي بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاحمِ له سلبة، وإن لم يكن فإنما هو ذباب).

هذا حيوان طائر يأكله مَن يشاء، فمن وجد هذا العسل فهو أحقُّ به.

الشاهد: أن هذا الحديث فيه دلالة على أن العسل أُخرج في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي زمن عمر رضي الله عنه. وفي حديث عمرو بن شعيب أيضًا عن أبيه عن جدِّه، وقد أخرجه أيضًا ابن ماجه وغيره:"أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ في العسل العُشر"، وهذا الحديث الثاني حسنٌ بالشواهد؛ أي: إذا ضُمَّت له الشواهد الأُخرى يرتفع إلى درجة الاستدلال به. إذًا هذان حديثان صالحان للاستدلال بهما، فبذلك يكونان حُجَّة للقائلين بوجوب زكاة العسل.

نأتي بعد ذلك إلى القائلين -من أهل العلم- بعدم وجوب زكاة العسل، وهم المالكية والشافعية، يقولون: لم يصحَّ في ذلك حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك قالوا: لم يقم إجماعٌ على وجوب إخراج زكاة العسل.

إذن لا حديث صحيح ولا إجماع، فلا زكاة في العسل، ثمَّ يستدلون من جانب القياس، فيقولون: هذا سائلٌ يَخْرج من حيوان، فلم تجب فيه الزكاة، قياسًا على اللبن الخارج من الحيوان، إذن ألحقوا حيوانًا بحيوان بجامعِ السيلان في كلٍّ؛ هذا سائل خرج من حيوان، وذاك سائلٌ خرج من حيوان، فلمَّا كان اللَّبن لا تجب فيه الزكاة، فكذلك أيضًا العسل لا تجب فيه الزكاة.

ومعلوم: أن القياس هو إلحاق فرعٍ بأصل في حكمٍ؛ لِعلة تجمع بينهما، فالعلة هي السيلان في كلٍّ، وأنه خروجٌ من حيوان، وقد ردَّ الفريق الأول ذلك، فقالوا: هذا قياس مع الفارق؛ لأن القياس على الحيوان

ص: 3240

الذي قستم عليه يختلف عن حال الحيوان المقيس؛ فالمقيس لا تجب الزكاة في أصله، وهذا تجب الزكاة في أصله، فبطل القياس في هذه الحال، ونحن نرى أن هناك أدلَّة، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، لكن منها المنقطع، ومنها الضعيف، ومنها المتروك، وأحسن ما في ذلك هو ما أوردناه، وهذا الذي أوردناه كافٍ وصالح للاحتجاج به في زكاة العسل.

هل كلُّ عسل يُزكَّى؟ وهل هناك مقدار معيَّن تجب فيه الزكاة؟

الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الحَبِّ والثمر: "ليسَ فيما دون خمسة أوسق صدقة"، والوَسْقُ: سِتُّون صاعًا، إذن يكون ثلاثمائة صاع، يعني: ما تجب فيه الزكاة ثلاثمائة صاع، والصاع يساوي خمسة أرطال وثُلُثًا بالرَّطل البغدادي؛ فيكون في ألفٍ وستمائة رَطل، وهذا سنأتي -إن شاء اللَّه- إلى بيانه في محلِّه، لكن هذه مقدمة.

إذن قد اختلفَ العلماء؛ فأبو حنيفةَ يرى أنَّ الزكاة تجب في العسل مطلقًا، قليلًا كان أو كثيرًا، لكنه قيَّد وجوب زكاة العسل بشرط ألَّا يكون في أرض خراجية، فقال:"إن كان في أرض خراجية فلا زكاة فيه حتى لا يجتمع على الأرض زكاتان"، يعني: لا يجتمع على الأرض خراجٌ وزكاة، يعني: لا يوضع على الأرض أمران: خراج وزكاة، وهذا هو محلُّ الخلاف بينه وبين الإمام أحمد، وصاحباه مع الإمام أحمد، أمَّا فيما عدا ذلك فهو مع الإمام أحمد.

أما الإمام أحمد فلم يُفرِّق بين أرض عشرية وبين أرضٍ خراجية وغيرها، ما دام العسل قد وُجِدَ، سواء كان في جبل أو في سهل أو في أيِّ مكان، فإنه تجب فيه الزكاة، ولا تفصيل في ذلك.

يرى أبو حنيفة أنَّ الزكاة تجب في العسل؛ قليلًا كان أو كثيرًا، واختلف صاحباه في ذلك؛ فأبو يوسف يقول:"تجب الزكاة في العسل إذا بلغ خمسة أوسق"، ومحمد مرةً قال:"خمسة أفراق"، ومرة قال:"عشرة"، والإمام أحمد قال:"في عشرة أفراق"، والفَرَقُ يساوي ستة عشر رطلًا، أي: في مائة وستين رطلًا.

ص: 3241

من هذا نتبيَّن أن العلماء الذين قالوا بوجوب زكاة العسل اختلفوا أيضًا فيما تجب فيه الزكاة؛ فبعضهم قال: تجب في قليله وكثيره، وبعضهم فصَّل القول في ذلك، فقال: تجب الزكاة فيه إذا بلغ خمسة أوسق، وبعضهم قال دون ذلك.

ويهمنا هنا أن القول الراجح في هذه المسألة هو وجوب الزكاة في العسل، وهناك تعليل يذكره مَن قال من أهل العلم بوجوب زكاة العسل، ويشبِّهونه بالخارج من الأرض؛ فيقولون: هذا قد خَرَج من حيوان، وما خرج من الأرض من ثمرٍ وحبٍّ تجب فيه الزكاة، والحبُّ والثمر المشقة في إخراجهما أشدُّ؛ أي: الكُلفة فيهما أكبر من الكلفة في إخراج العسل؛ فالعسل تضع له منحلة، وترتِّبُ له أمورًا وتتابعها؛ فمشقتها محدودة، لكنَّ الحبَّ تحتاج معه إلى أن تحرث الأرض، وتنظفها، وتتعهَّدها بالسَّقي والرعاية والمتابعة، وبعد ذلك ما خرج منها من زرع فإنك أيضًا تحصده، وتقطف الثمر، ثم تنقِّيه وتنظِّفه، إلى آخر ذلك.

إذن المشقَّة فيما يخرج من الأرض أكبر من المشقة في إخراج العسل، فإذا كان الخارج من الأرض تجب فيه الزكاة -مع ما فيه من مشقة-، فأولى أن تجب فيما يخرج من النحل.

* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْجُمْهُورُ

(1)

عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فيه).

اختلفوا في العسل خاصَّة؛ لورود تلك الأدلَّة السابقة الذكر.

(1)

هو مذهب المالكية، يُنظر:"الذخيرة" للقرافي (3/ 75)؛ حيث قال: "ولا يختلف المذهب في عدم الزكاة في العسل".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 284)؛ حيث قال: "واختلف قوله في العسل فقال في القديم: يحتمل أن يجب فيه ووجهه ما روي أن بني شبابة بطنًا من فهم كانوا يؤدُّون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نحل كان عندهم العشر من عشر قرب قربة، وقال في الجديد: لا تجب؛ لأنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض".

ص: 3242

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ

(1)

: "فِيهِ الزَّكَاةُ").

سمَّى المؤلِّف أولئك القوم الجمهور، نعم، وهم أكثر لو تتبَّعنا الفقهاء، لكن عندما ننظر إلى الأئمة الأربعة نجدهم منقسمين إلى قسمين؛ مالك والشافعي في جانب، وأبو حنيفة وأحمد في جانب، فبين الأئمة الأربعة توازن في الآراء، لكن الذين قالوا بعدم الوجوب أكثر، يعني: عندما ننظر إلى مَن هم خارج المذاهب الأربعة.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ).

من المآخذ التي تؤخَذ على هذا الكتاب -ونحن عندما نقول: مآخذ، لا نُغمِض ما فيه من حسنات وفوائد كثيرة- هو أنه يقصِّر في جانب الحديث؛ فهو هنا لم يورد إلا الحديث الضعيف في هذا، أو لم يورد إلا حديثًا من الأحاديث الضعيفة.

* قوله: (وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فِي كُلِّ عَشْرَةِ أَزِقٍّ زِقٌّ" خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ

(2)

).

المراد بالزِّقِّ: الوعاء من الجلد، وهو نوع من القِرب الصغيرة، ونوع من الأسقية، يعني: وعاء من الجلد معروف يستخدمه الذين يشتغلون بالعسل فيضعون العسل فيه.

(1)

هو مذهب الأحناف، يُنظر:"التجريد" للقدوري (3/ 1286)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: يجب في العسل إذا كان في أرض العشر، العشر".

ومذهب الحنابلة: "كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي (2/ 220)؛ حيث قال: "وفي العسل العشر قال الأثرم: سئل أبو عبد اللَّه: أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة؟ قال نعم، أذهب إلى أن في العسل زكاة: العشر، قد أخذ عمر منهم الزكاة".

(2)

أخرجه الترمذي (629)، وصححه الألباني.

ص: 3243

ولا يفوتني هنا أن أنبِّه إلى أن الحديث الأول الذي قلنا: إنه حسن، ورد في بعض رواياته:"في كلِّ عشر قِرَبٍ قِرْبةٌ"، يعني: إذا كانت عَشر قِرَب، والفقهاء يقدِّرون القِربة بمائة رَطلٍ، إذن هذا اختلاف في تقدير النِّصاب؛ فبعضهم يرى أن الواجب ليس العشر، يعني: الرأي المشهور هو أن الواجب هو العشر، هذا هو الرأي في إخراج الزكاة عند مَن يُوجِب زكاة العسل، وبعضهم -وهذا رأي ليس براجح- يرى أنَّ في كلِّ عشر قِرَب قِرْبةٌ.

هذا الحديث الذي ذكره المؤلف ضعيف، ولا يصلح أن يكون حجَّة.

* قوله: (وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ النَّبَاتِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا).

تكلَّم المؤلف قبل صفحات وربما قبل أبواب عمَّا تجب فيه الزكاة في النقدين، وكذلك ما يخرج من الأرض، وكما ذكر المؤلِّف هناك أمور أربعة مجمَعٌ عليها؛ فتجب الزكاة فيما يخرج من الأرض؛ في الحبوب من حنطة وشعير، وهذا أمر مجمَعٌ عليه، وفي الثِّمار أيضًا؛ في التمر والزبيب (الذي هو العنب)؛ لأن الزكاة تخرج -كما هو معلوم- إذا جفَّ، ولذلك يشترطون في زكاة ما يخرج من الأرض أن يُكال وأن يُدَّخَر، وبعضهم يضيف إليه أن ييبس، فلا يكون رُطبًا.

فما يخرج من الأرض فيه أصناف أربعة هي محلُّ إجماع بين العلماء، لا خلاف بينهم فيها، ومن العلماء مَن وقف عند هذا الحدِّ فقال: لا تجب الزكاة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب.

وهذا حقيقةً -كما ترى- وُقوف عند ظاهر النصوص، وإلا فنحن حقيقةً لا نرى فرقًا الآن بين القمح والأرز، بل ربَّما أقبل الناس على الأرز وأصبح هو من المأكولات المقدَّمة على القمح، ويستخدم أكثر منه، وكذلك أيضًا نجد السد (وهو نوع من الشعير)، وكذلك الذرة؛ فهذه كلها

ص: 3244

أنواع من الحبوب، وهناك من أنواع القطنيات، ولا أقصد بالقطنيات القطن، وإنما هي أنواع من النبات تسمَّى قطنيات من باب قَطَن بالمكان، أي: أقام به؛ لأنها تقيم في المكان، مثل الحِمَّص، والفول، والعدس، وبعض العلماء يضيف إليها أشياء أُخرى من البذور وغيرها، فهناك تفصيلات، بل إن من العلماء مَن يرى أنَّ كُلَّ ما تُخْرجُه الأرض -كما سيذكر المؤلف- فيه الزكاة.

* قوله: (فَهُوَ جِنْسُ النَّباتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ).

لا يرى هؤلاء أنَّ الأرز فيه زكاة، ولا كذلك أيضًا الأصناف الكثيرة التي تتفرَّع أو تدخل تحت مسمى الحبوب، وما أكثر أنواع الحبوب في عصرنا الحاضر، ونحن نعلم أن شريعة اللَّه سبحانه وتعالى لا تقف. . .، هذه الشريعة المحمدية شريعة جاءت لتشمل جميع حاجات الناس، تسير معهم في كلِّ زمان ومكان، إلى أن يرث اللَّه الأرض ومَن عليها، فهي تستوعب كلَّ مشكلة تقع أو حادثة تجِدُّ، ففي هذه الشريعة الحلُّ لكلِّ مشكلة والجواب عن كلِّ معضلة، مهما تعددت المسائل وتنوعت الوقائع، فلا تعجز هذه الشريعة عن الإجابة عنها، وإن حصل تقصير فهو من المنتسبين إليها، وليس من هذه الشريعة؛ لأن الشريعةَ شاملةٌ كاملة خالدة لا يتطرق إليها نقص ولا عيب ولا خلل.

* قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ الزَّكَاةَ إِلَّا فِي تِلْكَ الْأَرْبَعِ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ

(1)

).

ابن أبي ليلى من التابعين، وسفيان الثوري من الفقهاء ممن عاصروا الأئمَّة، أو بعض الأئمة الأربعة.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 227)؛ حيث قال: "وقالت طائفة لا زكاة في غيرها، روي ذلك عن الحسن وابن سيرين والشعبي، وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى وسفيان الثوري والحسن بن صالح وبن المبارك ويحيى بن آدم وإليه ذهب أبو عبيد".

ص: 3245

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: "الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّخَرِ الْمُقْتَاتِ مِنَ النَّبَاتِ"

(1)

).

انظر، عندما تجد الحديث في أبواب الرِّبا يذكر الفقهاء: يُكال ويُدَّخر، وهل العلَّة في إلحاق هذا بهذا الكيل أم الاقتيات أم الادِّخار؟

الجواب: أمَّا ما كان يكال؛ فالحبوب التي ذكرنا كلها تكال، وكلها تدخر، وبعض أهل العلم يضيف شرطًا ثالثًا، يقول: تيبس، ولذلك يقولون: الفواكه لا زكاة فيها، نعم، قد تجفف الآن عن طريق إحداث بعض الأمور، لكن الأصل في الفاكهة أنك إذا تركتها فإنها تتعفن والخضروات أيضًا لا تجب فيها الزكاة، لكن الحبوب تتركها فتجف، والتمر يجف، فيحافظ على ماهيته وفائدته.

* قوله: (وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ

(2)

، وَالشَّافِعِيِّ

(3)

).

وكذلك أحمد، لكن أحمد توسَّع أكثر من الإمامين مالك والشافعي؛ فأدخل في ذلك البذور، يعني: عند أحمد وفي مذهب الحنابلة يُدخِلون في ذلك أيضًا أنواع القطنيات، (التي هي من: قطن في المكان)، فيُدخِلون في ذلك الفول، والترمس، والحمص والفاصوليا ونحو ذلك، ويُدخِلون في

(1)

وهو مذهب أحمد، يُنظر:"الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه"(7/ 223)؛ حيث قال: "قال عبد اللَّه: سألت أبي عن الزكاة فيما تجب؟ فقال: تجب الزكاة في: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة والسلت، وكل شيء يقوم مقام هذِه حتى يدخر، ويحوي فيه القفيز، فيقوم مقام هذِه مثل اللوبيا والعدس والتين والسماسم والقطنية والرز، وكل شيء يدخر فيقوم مقام هذِه الأربعة: التمر والحنطة والزبيب والشعير".

(2)

يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 409)؛ حيث قال: "وما أنبتته الأرض من الأقوات وما يجري مجراها من الثمار والحبوب المأكولة المدخرة، ففيه زكاة ولا زكاة فيما أنبتته من غير المأكول لا فيما لا يقتات ويدخر من المأكولات كالفواكه والبقول وما يجري مجراها".

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 238)؛ حيث قال: "مذهب الشافعي أن الزكاة واجبة فيما زرعه الآدميون قوتًا مدخرًا".

ص: 3246

ذلك أيضًا بعض البذور كالكمون ونحوه، فيتوسَّعون في هذا، لكنهم -مع الإمامين- لا يوجبان الزكاة في الفواكه، ولا الخضروات.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: "الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مَا عَدَا الْحَشِيشَ وَالْحَطَبَ وَالْقَصَبَ").

"الحشيش" هو النبط المعروف، وهو الحطب، وهو الذي يستخرج من الأشجار.

* قوله: (وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

).

إذن أبو حنيفة توسَّع؛ لأنه يستدلُّ بحديث: "فيما سقت السماء العُشر"، يقول: فحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مطلق، فكلُّ ما سقته السماء فأنبت؛ فإنه يجب فيه العُشر، وهذا الذي يَنبُت قد يكون حبًّا، وقد يكون ثمرًا، وقد يكون أيضًا فاكهة، وقد يكون بذرًا من البذور، إلا أصنافًا لا زكاة فيها؛ لأن الناس يحتاجون إليها (الناس شركاء في ثلاثة؛ في الماء والكلأ والملح)؛ فالناس شركاء في الماء، ولذلك حذَّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الثلاثة الذين لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ رجل على ماء في فلاة فمنعه رجلًا يستحقُّه، أو منعه ابن السبيل، كذلك الملح المشترك، وكذلك الكلأ، لا كما كان يدَّعي الذين نادوا بالاشتراكية فترة من الزمن واستدلُّوا بهذا الحديث.

وها هي الاشتراكية قد انهارت؛ لأنها خرجت عن منهج اللَّه، وتعارضت مع ما جاء في كتاب اللَّه عز وجل قال تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)} [الزخرف: 33]، وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي

(1)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 287)؛ حيث قال: "قال أبو جعفر: كان أبو حنيفة يقول: في قليل الثمار والزروع، وفي كثيرها الصدقة، فإن كانت مما سقته السماء أو سقي فتحًا: فالعشر، وإن سقي بدالية أو سانية: فنصف العشر، إلا الحطب والقصب والحشيش، فعنه لا شيء في ذلك".

ص: 3247

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32].

فاللَّه هو الذي خلق الخلق، وجعل فيهم الغني والفقير، وقد يكون من الخير لهذا الإنسان أن يكون فقيرًا؛ لأنه عندما يكون فقيرًا يشكر اللَّه سبحانه وتعالى ويعرف نعمه، ويحسن ظنه باللَّه سبحانه وتعالى، ويتعلق به رجاؤه، ويسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يعوِّضه عن هذه الدنيا بدار الآخرة، فهي حقيقة دار القرار، وهي التي فيها الفوز وفيها الفلاح.

ومن الناس مَن لو أُفقِر لجزع وخرج عن حدود اللَّه، وربما صدرت منه كلمات تضرُّه، فاللَّه سبحانه وتعالى يعطيه الغنى؛ فليس الغنى دليلًا على صلاح المرء، وليس الفقر فى ليلًا على صلاح المرء، ولو كانت الدنيا تساوي عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شَربة ماء.

والرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار أن يكون عبدًا رسولًا، وأثنى اللَّه عليه بقوله:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، ولو دخلنا في هذه المسألة لطال بنا المقام، لكنَّ الفقر والغنى ابتلاء واختبار من اللَّه سبحانه وتعالى لعباده، فإذا أعطى اللَّه سبحانه وتعالى الإنسان الغنى، فشكر هذه النعمة وأدى ما عليه من حقوق، وأحسن أيضًا؛ فسيجد جزاء ذلك، وكذلك أيضًا الفقير إذا ما صبر واحتسب وآمن بأن هذا هو نصيبه من هذه الحياة، وأن هذا هو رزقه الذي كتبه اللَّه له في هذه الدنيا فآمن بقلبه ولسانه وصدقت ذلك جوارحه، فإنه أيضًا سيثاب على صبره واحتسابه، وعلى حسن ظنه باللَّه سبحانه وتعالى أنه سيعوضه على أن كان فقيرًا في هذه الحياة، فإنه من أوَّل مَن يدخل الجنة، وذلك إذا ما عرف حكمة اللَّه سبحانه وتعالى وحاول أن يدرك نعم اللَّه سبحانه وتعالى عليه.

* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: إِمَّا بَيْنَ مَنْ قَصَرَ الزَّكَاةَ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَبَيْنَ مَنْ عَدَّاهَا إِلَى الْمُدَّخَرِ الْمُقْتَاتِ، فَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعَلُّقِ الزَّكاةِ بِهَذهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ).

نحن نورد الأدلَّة أولًا، ثم بعد ذلك نَدْخل في تفصيل المسألة؛

ص: 3248

فحديث: "فيما سقت السماء العشر" قد جاء في المتفق عليه، "فيما سقت السماء والعيون وما كان عثريًّا العشر".

(ما سقت السماء)؛ أي: ما سقاه المطر، و (العيون) هي التي تنبع بالماء، (وما كان عثريًّا) هذا موجود في بلاد الحجاز، هو ما كان مثل البطيخ يوضع في مكان فيخرج دون سقي؛ لأن عروقه قريبة من الماء، فعروقه تمتدُّ فتصل إلى رطوبة، أو إلى شيء من الماء فتَنبُت، فهذا لا كلفة فيه، فهو يلحق بما سقت السماء، وبما سقته العيون.

لكن ما سُقِي بالنضح فيه نصف العشر؛ أي: الذي يسقيه الإنسان، فهذا فيه نصف العشر.

وكلُّ هذا -إن شاء اللَّه- سنتكلم عنه تفصيلًا في موضعه؛ فهذه مقدمات جاء بها المؤلف.

والرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "خذ الحبَّ من الحبِّ"، إذن هذا نصٌّ على الحبِّ، وفي حديث آخر:"ليس في حبٍّ ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق". فالذين قالوا بأن الزكاة تقتصر على الحبِّ مطلقًا استدلُّوا بحديث: "خذ الحبَّ من الحبِّ"، وهذا قد أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.

الحديث الثاني في "الصحيحين" أو في أحدهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"ليس في حبٍّ ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق"، فنصَّ على الحبِّ، فهذا تنازع فيه القائلون من العلماء بالحبِّ؛ فبعضهم اقتصر على ما كان موضع إجماع، فقال: لا نتجاوز الأربع، وبعضهم قال: لا، كلُّ ما يشمله اسم حب فيدخل فيه، وما يشمله اسم ثمر فيدخل فيه، فندخل في ذلك أيضًا الزيتون إلى جانب العنب، وكذلك التمر وما يشبه ذلك. ومن هنا -كما سيأتي- اختلف المالكية في وجوب زكاة التين من عدم وجوبه.

و"المدَّخر": يصلح لأن تدَّخره، وقد كان الناس فيما مضى يبنون بناءً

ص: 3249

معروفًا مغطًّى، ثم يكنِزُون فيه التمر، والآن يضعونه في أكياس نايلون كبيرة، فقد تغيرت الأحوال والنعم كثرت بحمد اللَّه، والوسائل قد تيسَّرت، لكن التَّمر يكنز، وكذلك القمح، والشعير، وكذلك العنب يجفف فيصير زبيبًا فيُدَّخر.

والزيتون كذلك يدخَّر، لكن الزيتون رطب، وسيأتي الكلام عنه، فلا نسبق الكلام قبل محله.

* قوله: (هَلْ هُوَ لِعَيْنِهَا أَوْ لِعِلَّةٍ فِيهَا -وَهِيَ الِاقْتِيَاتُ-: فَمَنْ قَالَ لِعَيْنِهَا قَصَرَ هَلْ هُوَ لِعَيْنِهَا أَوْ لِعِلَّةٍ فِيهَا -وَهِيَ الِاقْتِيَاتُ-: فَمَنْ قَالَ لِعَيْنِهَا قَصَرَ الْوُجُوبَ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَالَ لِعِلَّةِ الِاقْتِيَاتِ عَدَّى الْوُجُوبَ لِجَمِيعِ الْمُقْتَاتِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ مَنْ قَصَرَ الْوُجُوبَ عَلَى الْمُقْتَاتِ وَبَيْنَ مَنْ عَدَّاهُ إِلَى جَمِيعِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ إِلَّا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالْقَصَبِ هُوَ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ. أَمَّا اللَّفْظُ الَّذِي يَقْتَضِي العُمُومَ فَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ"

(1)

. وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141] الْآيَةَ. إِلَى قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا سَدُّ الْخَلَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا فِيمَا هُوَ قُوتٌ، فَمَنْ خَصَّصَ الْعُمُومَ بِهَذَا الْقِيَاسِ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ مِمَّا عَدَا الْمُقْتَاتِ، وَمَنْ غَلَّبَ الْعُمُومَ أَوْجَبَهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الْإِجْمَاعُ، وَالَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى الْمُقْتَاتِ اخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا، هَلْ هِيَ مُقْتَاتَةٌ أَمْ لَيْسَتْ بِمُقْتَاتَةٍ؟ وَهَلْ يُقَاسُ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَوْ لَيْسَ يُقَاسُ؟ مِثْلُ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّيْتُونِ،

(1)

أخرجه البخاري (1483).

ص: 3250

فَإِنَّ مَالِكًا

(1)

ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ

(2)

فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ بِمِصْرَ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هُوَ قُوتٌ أَمْ لَيْسَ بِقُوتٍ؟ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي التِّينِ أَوْ

(1)

يُنظر: "المدونة"(1/ 379)؛ حيث فيها: "قال ابن القاسم: وقال مالك بن أنس: والزيتون لا يخرص ويؤمن عليه أهله كما يؤمنون على الحبِّ، فإذا بلغ ما رفعوا منه خمسة أوسق لكل إنسان منهم أخذ من زيته، فإن كان زيتونًا لا يكون فيه زيت وليس فيه زيت مثل زيتون مصر ففي ثمنه على حساب ما فسرت لك في النخل والكرم. قلت: فإن كان هذا الزيتون مما يكون فيه الزيت فباع الزيتون قبل أن يعصر؟ قال: يؤخذ من صاحبه زيت مثل عشر ما كان يخرج منه من الزيت أو نصف العشر يأتي به، كذلك إن باع نخله رطبًا إذا كان نخلًا يكون تمرًا أو كرمه عنبًا إذا كان كرمه يكون زبيبًا، فعليه أن يأتي بزكاة ذلك تمرًا أو زبيبًا. قال: وهذا إذا كان نخلًا أو عنبًا أو زيتونًا يكون زبيبًا وتمرًا وزيتًا، فأما ما لا يكون زبيبًا ولا تمرًا ولا زيتًا فإنما عليه عشر ثمنه أو نصف عشر ثمنه إذا بلغ خمسة أوسق، وهذا مخالف للذي يكون تمرًا أو زبيبًا أو زيتًا".

(2)

يُنظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 235)؛ حيث قال: "فأما الزيتون فله في إيجاب زكاته قولان؛ أحدهما: وهو قوله في القديم فيه الزكاة، وبه قال مالك لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. فاقتضى أن يكون الأمر بإتيان الحق راجعًا إلى جميع المذكور من قبل. وروي عن عمر-رضي الله عنه أنه كتب إلى عامله بالشام أن يأخذ زكاة الزيتون. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الزيتون العشر، ولا مخالف لهما في الصحابة فكان إجماعًا، ولأن عادة أهل بلاده جارية بادِّخاره واقتنائه كالشام وغيرها مما يكثر نبات الزيتون بها؛ فجرى مجرى التمر والزبيب، فاقتضى أن تجب فيه الزكاة. والقول الثاني: نص عليه في الجديد وهو الصحيح. وبه قال ابن أبي ليلى والحسن بن أبي صالح لا زكاة فيه، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بعث معاذا إلى اليمن قال له: "لا تأخذ العشر إلا من أربعة الحنطة، والشعير، والنخل، والعنب"؛ فأثبت الزكاة في الأربعة ونفاها فيما عدا ذلك، ولأنه قد كان موجودًا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما افتتحه من مخاليف اليمن وأطراف الشام، فلم ينقل أنه أخذ زكاة شيء منه، ولو وجبت زكاته لنقلت عنه قولًا وفعلًا كما نقلت زكاة النخل والكرم قولًا وفعلًا، ولأنه وإن كثر من بلاده فإنه لا يقتات منفردًا كالتمر والزبيب، وإنما يؤكل أدمًا".

ص: 3251

لَا إِيجَابِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الثِّمَارِ دُونَ الْخُضَرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ

(1)

لِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141] الْآيَةَ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الثِّمَارِ وَالزَّيْتُونَ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ إِلَّا وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التِّجَارَةُ

(2)

، وَاخْتَلَفُوا فِي إيجاب الزَّكَاة فِيمَا اتُّخِذَ مِنْهَا لِلتِّجَارَةِ، فَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ

(3)

، وَمَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ

(4)

. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ

(1)

يُنظر: "الجامع لمسائل المدونة"(4/ 158)؛ حيث قال: "قال أبو محمد: ولم يأت أن النبي صلى الله عليه وسلم-ولا الخلفاء أخذوا من الخضر زكاة واتصل العمل بذلك فكانت الفواكه مثلها؛ إذ ليس ذلك من أصل المعايش المقتاتة، وهذا قول مالك وأصحابه ومن اتبعهم إلا ابن حبيب؛ فإنه قال في الثمار التي لها أصول في الزكاة مدخره أو غير مدخره".

(2)

هذا مفهوم النصوص التي نقلناها، ولم أرَ من قد نصَّ عليه.

(3)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 48)؛ حيث قال: "وأجمعوا على أن في العروض التي تدار للتجارة الزكاة إذا حال عليها الحول".

(4)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 44)؛ حيث قال: "وقد صحَّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على أن لا زكاة في عروض التجارة، وهو أنه قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". وأنه أسقط الزكاة عما دون الأربعين من الغنم، وعمَّا دون خمسة أوسق من التمر والحبِّ؛ فمن أوجب زكاة في عروض التجارة فإنه يوجبها في كل ما نفي عنه عليه السلام الزكاة مما ذكرنا. وصحَّ عنه عليه السلام "ليس على المسلم في: عبده، ولا فرسه، صدقة إلا صدقة الفطر" وأنه عليه السلام قال:"قد عفوت عن صدقة الخيل". وأنه عليه السلام ذكر حق اللَّه تعالى في: الإبل، والبقر، والغنم، والكنز فسُئِل عن الخيل، فقال:"الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر". فسئل عن الحمير فقال: "ما أنزل عليَّ فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7] ". فمن أوجب الزكاة في عروض التجارة فإنه يوجبها في الخيل، والحمير، والعبيد، وقد قطع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن لا زكاة في شيء منها إلا صدقة الفطر في الرقيق؛ فلو كانت في عروض التجارة، أو في شيء مما ذكر عليه السلام =

ص: 3252

فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِالْقِيَاسِ، وَاخْتِلَافَهُمْ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ"

(1)

. وفيمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: "أَدِّ زَكَاةَ الْبُرِّ". وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْجُمْهُورُ: فَهُوَ أَنَّ الْعُرُوضَ الْمُتَّخَذَةَ لِلتِّجَارَةِ مَالٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّنْمِيَةُ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَاسَ الثلاثة الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ باتِّفَاقٍ -أَعْنِي: الْحَرْثَ وَالْمَاشِيَةَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ-. وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ

(2)

أَنَّ زَكَاةَ الْعُرُوضِ ثَابِتَةٌ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -أَعْنِي: إِذَا نُقِلَ عَنْ وَاحِدٍ قَوْلٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ-، وَفِيهِ ضَعْفٌ).

يعني مراد المؤلف: هذه الأمور الأربعة والأصناف الأربعة التي هي الحنطة والشعير والزبيب وكذلك التمر، هل وجوب الزكاة فيها لعينها؟ أي: يجب في عين هذه الأشياء، أو لوجود علَّة قائمة بها وهي الاقتيات، فإن قلنا: لعينها فلا اجتهاد، وإن قلنا: لعلَّة قائمة بها. . .

= زكاة إذا كان لتجارة: لبيَّن ذلك بلا شك؛ فإذ لم يبيِّنه عليه السلام فلا زكاة فيها أصلًا. وقد صح الإجماع المتيقن على أن حكم كل عرض كحكم الخيل، والحمير، والرقيق، وما دون النصاب من الماشية، والعين".

(1)

أخرجه أبو داود (1562)، وقال الأرناؤوط:"إسناده ضعيف. جعفر بن سعد بن سمرة ضعيف، وخُبيب بن سليمان وأبوه مجهولان". وقال الذهبي في "الميزان"(1/ 408): "وهذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم. ومع ذلك فقد حسَّن إسناده ابن عبد البر في "الاستذكار"!! ".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 336)؛ حيث قال: "قال أبو جعفر: (وفي عروض التجارة الزكاة)؛ وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لحماس بن عمرو: أين زكاة مالك. قال: إن مالي الجعاب، والأدم. قال: قومها، وأد زكاتها. وروي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أيضًا زكاة".

ص: 3253

[الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي مَعْرِفَةُ نصابِ الزكاة]

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ

وَأَمَّا مَعْرِفَةُ النِّصَابِ فِي وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِن هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي فِيهِ تَجِبُ الزَّكاةُ فِيمَا لَهُ مِنْهَا نِصَابٌ، وَمَعْرِفَةُ الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ -أَعْنِي: فِي عَيْنِهِ وَقَدْرِهِ- فَإِنَّا نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فِي جِنْسٍ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهَا عِنْدَ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَلْنَجْعَلِ هذا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. الثَّانِي: فِي الْإِبِلِ. الثَّالِثُ: فِي الْغَنَمِ. الرَّابعُ: فِي الْبَقَرِ. الْخَامِسُ: فِي النَّبَاتِ. السَّادِسُ: فِي الْعُرُوضِ).

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

‌(الفَصْلُ الأَوَّلُ: في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ

أَمَّا الْمِقْدَارُ الَّذِي تجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْفِضَّةِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ خَمْسُ أَوَاقٍ

(1)

).

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 207)؛ حيث قال: "وثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمس (أواق) من الورق صدقة"، وأجمع أهل العلم على القول بهذا الحديث".

ص: 3254

خمس أواق، وكلُّ أوقية تساوي أربعين درهمًا؛ فإذا ضُربت في خمسة بلغت: مائتي درهم، وقد جاءت أحاديث عدَّة، منها ما بُيِّنَ فيها أن الزكاة في الفضة لا تجب إلا في خمس أواق، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ"، في الرّقة: ربع العُشر، وفي بعضها جاء التنصيص على مائتي درهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس في أقلِّ من عشرين دينارًا، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة". ولا شكَّ أن زكاة أو نصاب الفضةِ ليس فيها خلاف بين العلماء كما سيأتي؛ لأنه قد وردت أحاديث صحيحة في ذلك، وإنما الخلاف في تحديد نصاب الذهب؛ ففيه بعض الخلاف اليسير -كما سيأتي إن شاء اللَّه-.

* قوله: (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام الثَّابِتُ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ"

(1)

).

لقد وضع المؤلِّف مصطلحًا في مقدمة كتابه، يقول: إذا قلتُ: الحديث المشهور أو الثابت، فأعني به ما ثبت في "الصحيحين" أو أحدهما، وهذا حديثٌ متفق عليه:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ"، والمقصود بالصدقة هنا: الزكاة، وفي بعض الروايات جاء:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ"؛ أي: من الفِضَّة.

* قوله: (مَا عَدَا الْمَعْدِنَ مِنَ الْفِضَّةِ).

زكاة المعادن سيأتي الكلام عنها -إن شاء اللَّه-، وإنما حديثنا هنا عن الفضة الخالصة؛ سواءٌ كانت مضروبة، وهي الدراهم، أو غير مضروبة، وهي الفضةُ الخالصة.

* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ مِنْهُ).

أولًا: بالنسبة لنصاب الفضَّة فالوارد في الحديث أنها خمس أواق، وفي أحاديث أنها مائتا درهم، هذا فيما مضى، وقد تكلَّمنا عن الدرهم في

(1)

أخرجه البخاري (1405).

ص: 3255

عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكيف كانوا يتعاملون في هذا المجتمع، وما طرأ عليهم من تطور في أيَّام الدولة الأموية، عندما ضُرب الدرهم في زمن عبد الملك بن مروان، عندما جمع بين الدرهمين الكبير والصغير، فسوَّى بينهما، فجعلهما درهمين متساويين، كلُّ درهم يبلغ ستة دوانيق.

ولا شكَّ أن ما يهمُّ الطلاب هو أن يعرفوا مقدار الزكاة في وقتنا الحاضر، ولذلك قُدِّرت بعد تجارب أنه في كلِّ ستةٍ وخمسين ريالًا سعوديًّا تجب الزكاة، لكن ليس الكلام هنا عن الريالات السعودية التي هي الورق، وإنما الكلام عن الفضة؛ أي: في كل ستةٍ وخمسين ريالًا سعوديًّا من الفضة، يعني: مَن ملك ستةً وخمسين ريالًا من الفضة، فإنه تجب عليه الزكاة. أما كم تبلغ من الورِق؟ فهذا يرجع إلى السوق، فعلى الإنسان أن يتأكد من ذلك، وأن يسأل أهل الخبرة الذين يشتغلون بهذه الأمور، ولتنظر كم من الريالات الورِق يعادل؟ هل هي أربعمائة، هل هي خمسمائة، هل هي أكثر، هل هي أقل؟

ففي هذه الحالة إذا ملك الإنسان نصابًا يساوي ستةً وخمسين ريالًا من الفضة؛ فإن الزكاة تجب عليه، ومنهم من قدَّره بمائةٍ وأربعين مثقالًا، ولا ينبغي أن نوازن بين زكاة النقديْن؛ فنجد أنه بالنسبة للذهب تجب الزكاة في عشرين مثقالًا، في عشرين دينارًا، نجد هنا أنها تجب في ستةٍ وخمسين ريالًا سعوديًّا.

والدرهم فيما مضى نسبه العلماء إلى المثقال، سبعة إلى عشرة، ومعنى هذا أن مائتي درهم تساوي مائةً وأربعين مثقالًا؛ لأنها تبلغ 70%؛ فسبعون وسبعون إذا جمعناهما بلغت مائةً وأربعين مثقالًا.

ولا شكَّ أن هذا يتغير بتغير النقدين، وليس هذا خاصًّا بنوع من العملة؛ فيدخل في ذلك الريال السعودي، والدرهم، وكذلك الدولار، وسائر المعاملات التي يُتعامل بها، لكن إذا أراد الإنسان أن يُقدِّر واحدًا منها، فإنه يردُّ ذلك إلى المعروف شرعًا، ولا شكَّ أن المثاقيل هي أقرب ما يُقدَّر به، ولا شكَّ أن من العلماء من دقَّق في هذه المسألة وبحثها،

ص: 3256

وانتهى إلى الأمر الذي أشرنا إليه، وقد قلت فيما مضى: إنه صدر كتابٌ منذ فترة طويلة في رسالة ماجستير في جامعة الأزهر، عُني فيه مؤلفه بمثل هذه الأمور؛ يعني بما تجب فيه الزكاة، وكذلك في الأطوال، وفي المسافات التي تُقصر فيها الصلاة، والمسافة التي يجوز أو لا يجوز للمرأة أن تسافر فيها، كذلك أيضًا المقاييس التي تُستعمل، هذه كلها حقيقةً تكلَّم عنها وفصَّل القول فيها.

وهو بلا شكَّ من أجود الكتب التي أُلِّفت في هذا الزمان؛ لأنه دار حول كثير من المسائل، وكل طالب أو مدرس يشتغل بعلم الفقه فيما يتعلق بالمقادير أو المقاييس أو المسافات، عندما يمرُّ بمثل هذه الأحكام يحتاج إلى مثل هذا الكتاب، وإلى غيره.

* قوله: (وَفِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهِ).

جاء في الحديث: "الميزان ميزان مكَّة والمكيال مكيال المدينة"، ومكيال المدينة: هو المكيال الذي كان معروفًا في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أدركه العلماء، ومنهم الإمام مالك.

وأما الميزان؛ فإن مكَّة عُرفت بالوزن، ولذلك جاء في الحديث:"الميزان ميزان مكَّة"، وهذا قد أومأنا إليه من قبلُ، عندما تكلمنا عن الدينار والدرهم، وأنهم ما كانوا في الجاهلية ولا عندما بُعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتعاملون بذلك نقدًا، وإنما عن طريق الوزن، يعني: كانوا يتعاملون بهما وزنًا، قيل: لأنها لم تكن متساوية؛ فهناك درهمٌ كبير، وهناك درهمٌ صغير، ثقيل، خفيف، إلى غير ذلك.

وبينَّا أن تلك الدراهم لم تكن مصنوعةً عندهم، أو مسبوكةً، وإنما كانت تأتيهم من بلاد الروم، ومن بلاد فارس، وكانوا يتعاملون بها، ومعلوم أنَّ أهلَ مكَّة ممن اشتغلوا بالتجارة، واشتهروا بذلك وعُرفوا، ولهم رحلاتٌ معروفة، بل إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما شبَّ عن الطوق، سافر مع عمِّه، وكان صغيرًا، -وأظنه كان في سن الثالثة عشرة- سافر مع عمِّه أبي طالب إلى بلاد الشام، ثمَّ بعد ذلك سافر في تجارة -وهي

ص: 3257

المعروفة بالمضاربة- لخديجة بنت خويلد، التي أصبحت زوجته الأولى بعد ذلك.

فهذه معاملات كانت معروفة، لكنها اختلفت في وقتنا الحاضر، وبحمد اللَّه وُجِد من اشتغل بهذا الموضوع، وحقّق الأمر فيه وبيَّنه، وما على الإنسان إذا أراد أن يتأكد إلا أن يرجع إلى أحد الصوَّاغ الثقات، ويسأله عن مثل هذه الأمور، وبحول اللَّه سيعرف ما يجب عليه أن يُزكِّيه.

* قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ هُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ).

هذا أيضًا لا خلاف فيه، ربع العشر، وهو ما يُعرف الآن باثنين ونصف المائة؛ فلو قُدِّر أن إنسانًا عنده مائتا ريالٍ سعودي من الفضة، يُخرج منها ريالين ونصفًا، هذا يُعرف بربع العُشر؛ لأن عُشر المائة عشرة، وربع العُشر اثنان ونصف، إذن هذا مقدار ما يُخرج.

وهذا قدرٌ يسير، ليس فيه إرهاقٌ ولا تشديدٌ على المُزكِّي، وقد عرفنا عن طريق تلك الأدلَّة، وأقوال العلماء التي مرت بنا، أن الشريعة الإسلامية تحضُّ على الاشتغال بالمال، والمتاجرة فيه، وعدم تركه مكنوزًا؛ حتى لا تأكله الصدقات، وإنما ينبغي للإنسان أن يتاجرَ فيه، وأن يحاول أن ينمي هذا المال، وأن يضرب في الأرض، يعني: يسافر هنا وهناك، ولذلك قسَّم العلماء الذين يشتغلون بالتجارة إلى مدير -أي: الذي يُدوِّر ماله-، وذكروا قسمًا آخر هو الذي يُوقف ماله ولا يشتغل به، إنما هو يتحيَّن الفرص؛ يعني: يأتي بمالٍ فيكنزه، يبقيه عنده، فإذا ما ارتفعت الأسعار أو تحرك السوق، فإنه حينئذٍ يعرضه، وهناك مدير يدير أمواله يومًا بعد يوم؛ كالذين يشتغلون في التجارات المستمرة.

ومن هذا نتبيَّن أن الواجب في الذهب والفضة إنما هو ربع العُشر، زاد المال أو قلَّ؛ فإذا ما بلغ نصابًا أخرج الإنسان رُبع العُشر، ولا يختلف، فلو كان عنده مليون فإنه يُخرج خمسةً وعشرين ألفًا؛ لأن عُشر المليون مائة ألف، وربعها خمسةٌ وعشرون ألفًا، وهكذا، والأمر ميسور.

ص: 3258

وتثور الإشكالات ربما، وتأتي المسائل الدقيقة فيمن يشتغلون بأنواعٍ من التجارة؛ كأصحاب العمائر والسيارات والمصانع وغيرها، فهناك مسائل كثيرة وبخاصَّة في زمننا هذا فقد جدَّت وتنوعت؛ فهي حقيقةً تحتاج من المسلم أن يتحرى في ذلك، وأن يعرف ما يجب وما لا يجب؛ حتى لا يُقصِّر في حقِّ اللَّه سبحانه وتعالى، وفي حقوق الذين تجب لهم الزكاة، وربَّما مثل هذه المسائل تأتي الإجابة عليها في مناسبات تجرُّنا إلى الكلام عنها.

* قوله: (أَعْنِي: فِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ مَعًا - مَا لَمْ يَكُونَا خَرَجَا مِنْ مَعْدِنٍ).

لأنهما إذا خرجا من معدن؛ فإن الأمر يختلف، بمعنى: أنها لا تكون صافية، وهنا يتكلَّم العلماء أيضًا عن الذهب والفضة المغشوشين، والمختلطين بغيرهما، فما معنى هذا؟ هل يُقدِّر الإنسان أو يصفِّيه؟

لا شكَّ أن الأولى تصفيته، وفي قصَّة القلادة التي جاءت في "صحيح مسلم"، والتي أراد رجل أن يشتريها، فمنعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك يجرُّ إلى الرِّبا، وقد جاء في بعض الروايات أنه بعد أن أخرج ما فيها من خرز، وصُفّي ما فيها، تبيَّن أنه أكثر من القدر الذي ستُشترى به، ومن هنا نجد أن الشريعة الإسلامية تحرص دائمًا على ألَّا يقع المسلم في أمرٍ محظور، وإنما هي تنبِّهُه، وإنما حُرِّم الربا لما فيه من الظلم، ولما فيه من استغلال الآخرين، ولما فيه من التعدِّي على حقوقهم، واللَّه أحل البيع؛ لما فيه من المصلحةَ المتبادَلة، ولأن الناس يحتاجون إليه ولا يستغنون عنه، قال تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، مع أن الرِّبا نوعٌ من البيع، لكنه نوعٌ محرَّم، وذاك هو الأصل الذي أحلَّه اللَّه سبحانه وتعالى.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعَ خَمْسَةٍ).

سيتكلم المؤلف هنا عن مسائل خمس داخلة في هذا الباب، والباب هنا إنما هو ما يتعلَّق بزكاتي الذهب والفضة، هل الذهب والفضة شيء واحد أو لا؟ لو قُدِّر أن إنسانًا عنده جزءٌ من نصاب من فضَّة، وجزء آخر

ص: 3259

من نصاب من ذهب، فلو ضمَّهما إلى بعض بلغت النصاب، فهل يجب عليه أن يضمهما، ويخرج الزكاة؛ لأنه إذا ضمهما إلى بعض بلغا النصاب أو ربما أكثر، كذلك لو نقص قليلًا؛ يعني: لو نقص نصاب الذهب أو الفضة قليلًا فهل تجب على الإنسان الزكاة أو لا تجب؟ لو زاد نصاب الذهب أو نصاب الفضة، وهو ما يُعرف بالأوقاص: أي الأجزاء، هل تجب الزكاة فيما زاد، أو لا تجب بالنسبة للدراهم حتى تبلغ أربعين درهمًا؟ هذا كلُّه اختلف فيه العلماء، والعلماء عندما اختلفوا في مثل هذه المسائل فإن قصدهم هو التحري والوصول إلى الحقِّ من أقرب طريقٍ وأهداه؛ فلم تكن غايتهم الخلاف؛ وإنما أرادوا أن يحرروا المسائل، وأن يدقِّقوا فيها؛ علَّهم يصلون أو يقربون إلى ما أراده اللَّه سبحانه وتعالى في معرفة أحكام هذه المسائل.

* قوله: (أَحَدُهَا: فِي نِصَابِ الذَّهَبِ).

في نصاب الذهب، ولم يقل هنا: اختلفوا في نصاب الفضة؛ لأن نصاب الفضة مُجمعٌ عليه، وقد وردت في ذلك أحاديث في "الصحيحين" وفي غيرهما؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس فيما دون خمسِ أواقٍ صدقة"، إذن قطعت جهيزة قول كلِّ خطيب؛ فهذا حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وغيره من الأحاديث الصحيحة قد نصَّت على أن زكاة الفضة هي مائتا درهم؛ أي: تجب الزكاة في مائتي درهم؛ فإذا ما ملك الإنسان هذا القدر -وهو ما قلنا إنه يعادله ستةٌ وخمسون ريالًا فضةً من الريال السعودي- فإن الزكاة تجب عليه.

لكن لو كان أقلَّ من ذلك بقليل، وأراد أن يتبرع فهذا أمر راجعٌ إليه؛ لأنه كما جاء في الحديث الصحيح:"في الرقة ربع العُشر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء"، هذا حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسنعود لهذا الحديث؛ "فإن لم يكن"، يعني: عنده "إلا تسعين ومائة"، يعني: لم تبلغ مائتي درهم؛ فليس فيها زكاة، فليس عليه فيها شيء إلا أن يشاء، والإنسان له أن يتصدَّق، والصدقة أبوابها مفتوحة، ومعلوم أن "الصدقَة تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِىُء الماءُ النارَ" صححه الألباني.

ص: 3260

* قوله: (الثَّانِي: هَلْ فِيهِمَا أَوْقَاصٌ أَمْ لَا؟).

يعني: ما زاد على مائتي درهم، وعلى عشرين مثقالًا: هل يجب إخراج الزكاة فيه، أو لا؟ يجب إلا إذا وصل إلى قدرٍ معيَّن؟ مثلًا في عشرين دينارًا إلى أن تصل إلى أربعين، في مائتي درهم إلى أن تزيد عشرين درهمًا، أو أنه يجب أن يُخرج عن كلِّ زيادة بقدرِ ربع العُشر؟

* قوله: (أَعْنِي: هَلْ فَوْقَ النِّصَابِ قَدْرٌ لَا تَزِيدُ الزَّكَاةُ بِزِيَادَتِهِ؟).

فسّر المؤلف ذلك؛ هل لما زاد على النصاب قدرٌ تُخرَح فيه الزكاة، أو أن هذا الوقص: يعني الذي يأتي بين الواجبين هل هو معفوٌّ عنه؟

* قوله: (وَالثَّالِثُ: هَلْ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ).

كما قلنا: هل تُضَمُّ الفضة إلى الذهب، أو الذهب إلى الفضة؟

المعروف بالنسبة لعروض التجارة إذا قُوّمت تُضَمُّ إلى أحدهما، لكن هل يُضمُّ الذهب إلى الفضة أو لا يُضمُّ؟

بعض العلماء قال: يُضم وتُخرج الزكاة، وبعضهم قال: لا يُضم؛ لأن هذه أجناس؛ هذا جنس وهذا جنس وان اتَّحدا في المنفعة؛ كالحال بالنسبة للماشية؛ فلا تُضم الغنم إلى الإبل، ولا الإبل إلى البقر، ولا البقر إلى الغنم، وكذلك هاهنا، والمسألة فيها خلاف، وهناك مَن يستدلُّ بأدلة، وهناك أيضًا من يستدلُّ بأدلةٍ أخرى، ولكلٍّ وجهةٌ هو يأخذ بها في هذا المقام.

* قوله: (فَيُعَدَّانِ كَصِنْفٍ وَاحِدٍ؟).

ثم يختلف العلماء، بل حصل اضطراب، هل هو التقدير بالأجزاء، أو أن التقدير إنما هو بغير الأجزاء: يعني بالقيمة؟ وهل يُنظر إلى صرفهما أو لا يُنظر؟ أو أن الأصل أيضًا في ذلك هو الدراهم؛ لأنها محلّ إجماع؟ هذه كلها أيضًا اختلف فيها العلماء في حالتي الضم.

ص: 3261

* قوله: (-أَعْنِي: عِنْدَ إِقَامَةِ النِّصَابِ-، أَمْ هُمَا صِنْفَان مُخْتَلِفَانِ؟).

يعني: مثلًا لو أن إنسانًا عنده مائةُ درهم وعشرة دنانير، ومعلوم: أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا، وفي مائتي درهم، عنده نصف زكاة الدراهم (مائة درهم)، وعنده نصف زكاة الذهب (عشرةُ دينارات)، فهل العشرةُ دينارات ننظر فيها إلى القيمة؟ إن نظرنا إلى القيمة فقد تكون العشرة زائدة على المائة درهم، وفي هذه الحالة يُزكّي، وقد تنقص عنها فلا يُزكّي، فهل العبرة بالأجزاء أو القيمة؟ بعضهم قال: بالأجزاء - وهذا سنفصله إن شاء اللَّه.

* قوله: (وَالرَّابِعُ: هَلْ مِنْ شَرْطِ النِّصَابِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ وَاحِدًا لَا اثْنَيْنِ؟ الْخَامِسُ: فِي اعْتِبَارِ نِصَابِ الْمَعْدِنِ وَحَوْلِهِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ).

هذه ما تُعرف بالخُلطة؛ يعني: خلط مالينِ، اثنان اشتركا في مال، والعلماء يضعون شروطًا دقيقةً، والخُلطة قد تكون في الماشية؛ يعني: يشتركان في الماشية؛ في إبل أو بقر أو غنم، وقد يشتركان أيضًا في عروض التجارة؛ فيبيعان ويشتريان، هل هناك شرطٌ فيما يتعلق بالتجارة؟ هل يكون هناك صندوقٌ واحدٌ يجمع مالهما؟ وبالنسبة للماشية: هل لا بد أن يكون هناك مكانٌ للمراح، يعني: تجتمع فيه الماشية، وأن تشربا من موضعٍ واحد، ولهما راعٍ واحد وهكذا أو لا؟

بعض العلماء يضع قيودًا، ولا شكَّ من حيثُ الجملة أن المذهبين (الشافعي والحنبلي) شبه متفقين في هذا، والمالكي والحنفي متقاربان.

* قوله: (أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى).

عاد المؤلِّف بعد أن أجمل ببعض البسط، وهي المسائل الخمس السالف ذكرها، فأولها:

ص: 3262

* قوله: (وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ).

اختلفوا في نصاب الذهب، ونصاب الذهب وردت فيه أحاديث، ومنها الحديث الذي ذكره -حديث عمارة-، ومنها أيضًا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ليس في أقلَّ من عشرينَ مثقالًا من الذهب، ولا في أقلَّ من مائتَي درهمٍ من الفضة" في بعض الروايات، وفي بعضَها:"من مائتي درهم صدقة"، لكن هذا الحديث فيه كلام.

أيضًا جاء عن عائشة وعبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الزكاة من كلِّ عشرين دينارًا نصف دينار، وكان يأخذ عليه الصلاة والسلام من مائتي درهم خمسة دراهم، فهذه وردت فيها أحاديث وآثار، لكن الأحاديث التي وردت في نصاب الذهب مختَلف فيها صحةً وضعفًا، وأكثر العلماء يضعِّفها، ومن هنا ورد الخلاف، ومع ذلك كان هناك اتفاق بين العلماء، ولم يخالف في هذه المسألة إلا الحسن بن أبي الحسن البصري -كما سيذكر المؤلف ذلك-. وأما جماهير العلماء وفيهم الأئمة الأربعة، فلا خلاف بينهم؛ لأن زكاة الذهب إنما تجب في عشرين دينارًا.

* قوله: (فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا وَزْنًا).

في عشرين دينارًا وزنًا، نعم.

* قوله: (كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ).

يعني: كما أنها تجب في مائتي درهم، كذلك تجب أيضًا في عشرين دينارًا، يعني: عند جماهير العلماء لا فرق بين وجوبها في مائتي درهم، وبين وجوبها في عشرين دينارًا؛ فعندهم الحال متساوية، وإن قيل في الأحاديث ما قيل، فإنهم يرون أن هذه المسألة يُستدلُّ لها بهذه الأحاديث المتعددة.

ص: 3263

* قوله: (هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ وَأَحْمَدَ).

وأحمد وأصحابه وكافة العلماء.

* قوله: (وَجَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ

(1)

. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ

(2)

مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ: "لَيْسَ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا").

لأنه جاء في بعض الروايات: "وفي أريعين دينارًا دينارٌ"، وهذا لا يدلُّ على أن القدر أو النصاب لا يجب إلا في الأربعين، ولكنه جاء في بعض الروايات أن الأربعين فيها دينار، والعشرين فيها نصف دينار، فهذا لم يكن حقيقةً حدًّا أدنى لوجوب الزكاة، وإنما الحدُّ الأدنى الذي تجب فيه الزكاة: هو عشرون دينارًا.

* قوله: (حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا، فَفِيهَا رُبُعُ عُشْرِهَا دِينَارٌ وَاحِدٌ).

يعني: ربما تكون وجهة هذا القول أو يُعلّل له بأن العشرين مُختلَف

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 206)؛ حيث قال: "وأجمع أهل العلم على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالًا وقيمتها مائتا درهم أن الزكاة تجب فيها، إلا ما اختلف فيه عن الحسن البصري".

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 137)؛ حيث قال: "وقالت طائفة ليس في الذهب شيء حتى يبلغ أربعين دينارًا سواء ساوى ما دون الأربعين منها مائتي درهم أم لم تساو فإذا بلغت أربعين دينارًا ساوى ما دون الأربعين منها ففيها ربع عشرها دينار واحد ثم ما زاد فبحساب ذلك، هذا قول الحسن البصري ورواية عن الثوري، وبه قال أكثر أصحاب داود بن علي، قال أبو عمر الأربعون دينارًا من الذهب لا خلاف بين علماء المسلمين في إيجاب الزكاة فيها، وذلك سنة وإجماع لا يراعي أحد من العلماء فيه قيمة، وإنما يراعون وزنها في نفسها، وإنما الاختلاف فيما دونها، وأما قول مالك في المائتي درهم فإن كانت تجوز بجواز الوازنة رأيت فيها الزكاة، وإن نقصت إذا كان النقصان يسيرًا فقد خالفه الشافعي في ذلك فقال: إذا نقصت شيئًا معلومًا وإن قل لم يجب فيها زكاة، وبمعنى قول الشافعي قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأحمد وجمهور الفقهاء".

ص: 3264

فيها، والأربعين مُجمَع عليها؛ فيؤخذ بمحلِّ الإجماع، لكن الخلاف في العشرين ليس خلافًا معتبرًا، وإنما القول بوجوب الزكاة في عشرين دينارًا هو القول المعتبر.

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ

(1)

: "لَيْسَ فِي الذَّهَبِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَتِهَا").

يعني: لو أن إنسانًا عنده عشرون دينارًا فذهب ليصرفها، فوجدنا أن صرفها يعادل مائتي درهم، ففي هذه الحالة تجب فيها الزكاة، فلو كانت أقلَّ من ذلك وهي عشرون دينارًا فلا زكاة فيها، هذا قول بعض التابعين؛ كعطاء وطاووس والزُهري، وسليمان بن حرب أيضًا، وغير هؤلاء.

وهؤلاء ذهبوا إلى هذا المذهب؛ لأنهم قالوا: إن المعتبر في ذلك هو نصاب الفضَّة؛ لأنه مجمَع عليه، وقد وردت الأحاديث الصحيحة فيه، فنرد نصاب الذهب إليه؛ فإذا ما ملك إنسانٌ عشرين دينارًا، وكان صرفُها (يعني: لو أراد أن يصرفها فوصلت مائتي درهم أو زادت على ذلك) ففي هذه الحالة تجب الزكاة، فإن كانت أقلَّ فلا زكاة فيها؛ لأن العبرة إنما هي بزكاة الفضة التي هي مائتا درهم؛ لأنها هي المجمَع عليها والمتفق عليها، والتي جاء التنصيص عليها في أحاديث صحيحة.

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 137)؛ حيث قال: "وقال آخرون ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفها مائتي درهم فإذا بلغ صرفها مائتي درهم ففيها ربع العشر ولو كان وزنها أقل من عشرين دينارًا وكانت عشرين دينارًا إدارية ولم يبلغ صرفها مائتي درهم لم تجب فيها زكاة حتى تبلغ أربعين دينارًا، فإذا بلغت أربعين دينارًا ففيها دينار، ولا يراعى فيها العرف ولا القيمة إذا بلغت أربعين دينارًا، هذا قول الزهري، وقد رواه يونس عنه في الحديث المذكور عن سالم وعبد اللَّه ابني عبد اللَّه بن عمر في نسخة كتاب الزكاة إلا أن أهل العلم يقولون إن ذلك من قول ابن شهاب ورأيه قالوا وكثيرًا كان يدخل رأيه في الحديث، قال أبو عمر الصحيح عن ابن شهاب أنه من رأيه كذلك ذكره عنه معمر وغيره، وهو قول عطاء وطاوس وبه قال أيوب السختياني وسليمان بن حرب، وقد روي عن ابن شهاب خلاف ذلك".

ص: 3265

والخلاصة: إذا صرفها أخذ فيها مائتي درهم، ولو عرضها فقيمتها تساوي مائتي درهم، فهي في كلتا الحالين سواءٌ كان صرفها يبلغ مائتين أو قيمتها تساوي مائتين، فهي بذلك بلغت مائتي درهم؛ فوجبت الزكاة فيها؛ لأنها وصلت وبلغت نصاب الفضة، فتجب الزكاة فيها؛ لأنها وصلت إلى القدر الذي تجب فيه الزكاة في نصاب الفضة، فكأنهم اعتبروا أن الفضَّة أصل بالنسبة لإخراج الزكاة، واعتبروا أن الذهب فرع عنها، وقالوا: لأن هذه وردت فيها نصوص، وأُجمع عليها، وتلك وردت فيها أحاديث ضعيفة، فوقع الخلاف فيها، فندع موضع الخلاف إلى محلِّ الإجماع والاتِّفاق.

* قوله: (فَإِذَا بَلَغَتْ فَفِيهَا رُبُعُ عُشْرِهَا، كَانَ وَزْنُ ذَلِكَ مِنَ الذَّهَبِ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، هَذَا فِيمَا كَانَ مِنْهَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِهَا نَفْسه لَا بِالدَّرَاهِمِ لَا صَرْفًا وَلَا قِيمَةً).

إذا بلغت أربعين دينارًا زال الإشكال؛ لأن هذا موضع مجمع عليه، فلا خلاف فيه؛ فليس محلًّا للنقاش ولا الجدال، ولم ينازع فيه أحد؛ لأنهم في هذه الحالة ينضم أيضًا إليهم الحسن البصري، ويرتفع الإشكال، ويزول الخلاف، وأيضًا ارتفع النصاب إلى هذا القدر فزال الإشكال.

ولو نظرنا لرأينا المسألة ليست فقط بالتقدير؛ لأننا لو جئنا لنقدِّر الأمر، كأن قلنا: إن الواجب في الفضَّة مائتا درهم، فأنا لا أستطيع أن أحددها بالدراهم، فنردها إلى الريالات السعودية ستة وخمسين ريالًا، لكن عندما نريد أن نُخرج نصاب الذهب كم هي؟ أحد عشر جنيهًا وثلاثة أسباع الجنيهات، هذه أكثر بكثير من نصاب الفضة، ومعلوم أن الجنيه فيما مضى قبل فترة طويلة كان يساوي أربعين ريالًا، والآن اللَّه أعلم كم يساوي، لقد ارتفع كثيرًا، فليست القضية قضية مخالفة، يعني: هذا أكثر أو أقل؛ لأنه لا مناسبة عند الموازنة.

ص: 3266

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي نِصَابِ الْفِضَّةِ).

مراد المؤلف: أنه لم يصحَّ، ولم يأتِ من طُرق صحيحة، مع أنه ورد من عدَّة طرق، الحديث الذي سيذكره، وحديث عمرو بن شعيب، وكذلك ما جاء عن ابن عمر وعائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كلِّ عشرين دينارًا، وكان يأخذ أيضًا من كلِّ مائتي درهم ربع العشر، يعني: أنا قلت ربع العشر وإلا هي نصف دينار هناك، وهنا أيضًا خمسة دراهم.

* قوله: (وَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ).

أيضًا هذا نُقل، قضية إخراج الزكاة في عشرين دينارًا، هذا صحَّ موقوفًا على عليّ رضي الله عنه، وأيضًا عن ابن عمر رضي الله عنه، ولذلك بعض العلماء يقول: صحَّ ذلك عن عليِّ بن أبي طالب، وعن عبد اللَّه بن عمر، ولا نعلم لهما مخالفًا من الصحابة؛ فيكون إجماعًا.

ومعلوم: أنه قبل قليل قد تعرَّض المؤلِّف لمثل هذه المسألة، وقال: إنه أحيانًا يقال: إن هذا قول صحابي، ولا يُعرف له مخالفٌ من الصحابة؛ فيكون إجماعًا، وعنده أن هذا التعليل أو التوجيه ليس مسلَّمًا به، والعلماء الذين قالوا بما قاله الصحابي في موضعٍ اجتمع فيه الصحابة، -كما في مسائل مرَّت في صلاة الجنازة وفي غيرها-، إذا قال هذا والصحابة موجودون ولم يعارض أحدٌ؛ فيعتبر ذلك محلّ اتفاق وإجماع، لكن لو قاله في موضعٍ ليس فيه أحد منهم فربما يرد الاعتراض الذي ذكره المؤلف، لكن عندما يقوم الخليفة فيخطب على المنبر، ولم يجد معارضًا من الصحابة، فهذا يكون اتفاقًا، وأحيانًا نجد أنه يقوم الصحابي فيتكلَّم بأمر ما فيعارَض من بقية الصحابة، وقد يوجَد منهم المخالف والموافق، وقد حصل مثل ذلك في موقف عمر رضي الله عنه في قضية أرض السواد -سواد العراق- عندما أراد أن يوقفها؛ أن يجعلها في أيدي أهلها ويأخذ منهم الخراج، فمن الصحابة مَن عارض في ذلك وطالب بقسمتها.

ص: 3267

ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين في أرض خيبر، وظلَّ عمر وقتًا من الزمن حتى اهتدى إلى الآيات المعروفة في ذلك:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]؛ فإذا كان الموجودون سيأخذون؛ فالذين يأتون من بعدهم ويدعون لهؤلاء ماذا سيجدون؟

سيجدون أن الأرض قد مُلكت، ووجهة عمر رضي الله عنه وافقه فيها جمع من أكابر الصحابة، بل أكثر الصحابة، وانتهى الأمر إلى أن فعل ذلك عمر، وكان ما انتهى إليه عمر فيه خيرًا ومصلحةً.

* قوله: (أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "هَاتُوا زَكَاةَ الذَّهَبِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ"

(1)

).

(1)

يُنظر: "الهداية في تخريج أحاديث البداية" للغماري (5/ 40)؛ حيث قال: "رواه عبد الرّزاق عن الحسن بن عمارة، وابن عبد البَرّ مطوّلًا كما هنا، والحسن بن عمارة ضعيف جدًا. قال ابن عبد البَرّ: لم يثبت عن النّبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذّهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات، لكن روى الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم والحارث عن عليّ فذكره. وكذا رواه أبو حنيفة. ولو صحّ عنه لم يكن فيه حجّة؛ لأنّ الحسن بن عمارة متروك. قلتُ: ولم يتابعه أحدٌ من أصحاب أبي إسحاق على ذكره بهذا السّياق مطوّلًا مع كثرة مَن رواه عنه، بل ولا على ذكر الذّهب فيه إلّا جرير بن حازم وأبو بكر بن عياش؛ فأمّا جرير فرواه أبو داود عن سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم وسمّى آخر، عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النّبي صلى الله عليه وسلم بالحديث وفيه: "وليس عليك شيء في الذّهب حتّى تكون لك عشرون دينارًا فإِذا كانت لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك". قال: فلا أدري أعليٌّ يقول: "فبحساب ذلك" أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم"، إلّا أنه معلولٌ فإِنّ جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق، بل سمعه من الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق كما رواه حفّاظ أصحاب ابن وهب عنه كسُحْنون وحرملة ويونس وبحر بن نصر وغيرهم، وقد ذكره البيهقي كذلك من رواية بحر بن نصر عن ابن وهب عن جرير بن حازم والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة. وأمّا أبو بكر بن عيّاش فرواه أبو عبيد في الأموال عنه عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن عليّ موقوفًا قال: "في كلّ عشرين دينارًا نصف دينار، وفي كل أربعين دينارًا دينارٌ، وفي كلّ مائتي درهم خمسة دراهم".

ص: 3268

يعني: من كلِّ عشرين دينارًا نصف دينار، هذا هو الذي نقول عنه ربع العشر؛ لأن عشر العشرين ديناران، وربعهما نصف دينار، فهذا هو ربع العشر، فهذا في كلِّ الأحاديث لو جئت تطبِّقه لوجدت أنه ربع العشر، ومن هنا وقع الإجماع على أن الواجب في زكاة النقديْن هو ربع العشر.

* قوله: (فَلَيْسَ عِنْدَ الأَكْثَرِ مِمَّا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لِانْفِرَادِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ بِهِ. فَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ هَذَا الْحَدِيثُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْأَرْبَعِينَ).

كثير من العلماء لم يصححوا هذا الحديث، وبعضهم يرى أن حديث عمرو بن شعيب، وما نُقل أيضًا عن طريق ابن عمر وعائشة في ذلك، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارًا نصف دينار، ومن كلِّ مائتي درهم خمسة دراهم يرون أيضًا أنه يؤيد هذا، وما نُقل أيضًا وما وُقف على عليّ وكذلك ابن عمر، فهم يرون أنه مقوٍّ لذلك، ثم هذا أمر اشتهر، ربما سيتعرض المؤلِّف لهذا أو غيره، وهذه مسألة تلقاها العلماء بالقبول ولم يقعْ فيها خلاف؛ فلو كان هناك أمورٌ حصلت في زمن رسول اللَّه مخالفة لذلك لنُقلت إلينا، لكنها لم تُنقل؛ فدلَّ ذلك على أن زكاة الذهب كزكاة الفِضة.

* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ).

اعتمد مالكٌ على العمل؛ لأن مالكًا رحمه الله كان إمام دار الهجرة، إمام المدينة، وهو من تلاميذ التابعين؛ لأنه من تابعي التابعين؛ فقد التقى بالتابعين؛ كالزهري وأمثاله، وتلقى عنهم وأخذ عنهم، ودارسهم، واستفاد منهم، ودارس العلماء الآخرين، وأدرك العمل على ذلك في وقته، ولم يكن ذلك محلّ خلاف، ولذلك جاء العمل هنا مؤيّدًا لتلك الآثار التي وردت، ولقول جماهير العلماء في هذه المسألة.

ص: 3269

* قوله: (وَلِذَلِكَ قَالَ فِي "الْمُوَطَّأ"

(1)

: "السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ").

إذن قول مالك واضح في هذه المسألة، ولا يفوتني أن أقول: كل الأئمة الأربعة، بل كافة العلماء الكبار؛ كالثوري، والليث، والأوزاعي وغيرهم متفقون مع هؤلاء، وقد جاء العمل مؤيِّدًا لهذه الآثار التي كانت محلَّ خلاف.

* قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا الزَّكَاةَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ تَبَعًا لِلدَّرَاهِمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَا عِنْدَهُمْ منْ جِنْسٍ وَاحِدٍ جَعَلُوا الْفِضَّةَ هِيَ الْأَصْلُ؛ إِذْ كَانَ النَّصُّ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا، وَجَعَلُوا الذَّهَبَ تَابِعًا لَهَا فِي الْقِيمَةِ لَا فِي الْوَزْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا دُونَ مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ، وَلما قِيلَ أَيْضًا: إِنَّ الرِّقَةَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ).

الرّقة هذه: "في الرقة ربع العشر"، الرقة يقول فيها العلماء: هي الدراهم المضروبة، لكن هناك تفسير من التفسيرات أنها تشمل الذهب أيضًا، ولو شملت الذهب لزال الإشكال في هذه المسألة.

* قوله: (قِيلَ أَيْضًا: إِنَّ الرِّقَةَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الآثَارِ:"لَيْسَ فِيهَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الرِّقَةِ صَدَقَةٌ"

(2)

).

فالرقة هنا: إنما هي الورِق كما جاء في الروايات الأخرى، وهي الدراهم المضروبة؛ يعني: التي أصبحت نقودًا يُتعامل بها، وليست المسكوكة.

(1)

يُنظر: "موطأ الإمام مالك"(1/ 246)؛ حيث قال: "السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا. كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمِ".

(2)

يُنظر: "الهداية في تخريج أحاديث البداية" للغماري (5/ 39)؛ حيث قَال: "لم أره بهذا اللفظ في هذا الحديث، ولكن جاء ذكر الرّقة في أحاديث أُخرى كحديث: "وفي الرِّقةِ رُبُع العُشْر".

ص: 3270

إذن ننتهي من هذا إلى أن هذا الخلاف في هذه المسألة إنما هو خلاف ضعيف، ولا يُعتدُّ به في الحقيقة، ونتبين كما أن نصاب الفضة مائتا درهم، كذلك نصاب الذهب عشرون مثقالًا؛ أي: عشرون دينارًا، فمَن مَلَك عشرين دينارًا وجب عليه أن يُخرج زكاتها ربع العشر، وهو نصف دينار كما جاء في بعض الأحاديث

* قوله: (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ فِيهَا).

انتقل المؤلف إلى مسألة أُخرى، ولم يعرض ما قبلها؛ أي: لم يعرض ما هو أقل أوَّلًا، يبدو لأنه لا يعلم.

يعني: لو نقص النصاب عن مائتي درهم، وعن عشرين مثقالًا، هل تجب الزكاة؟

الجواب: لا؛ لأنه كما في الحديث الصحيح الذي ذكرته قبل قليل، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"في الرقة ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء، إلا أن يشاء ربها"، صاحبها، "إلا أن يشاء" يعني: رب هذه الدراهم، فإن أخرجها متبرعًا فله ذلك.

لكن العلماء تكلموا، لو نقصت جزءًا من المثقال، فهل يخرج؟ بعض العلماء قال: يخرج، وبعضهم قال: لا يخرج، وبعضهم قدَّر ذلك بثلث مثقال، وبعضهم قدَّر ذلك بأقلَّ، وغير ذلك، والأقوال متعددة، لكننا نقول: النصُّ واضح في ذلك، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ"، فالرسول صلى الله عليه وسلم نبَّه على ما هو دون، ولم يتكلَّمْ عن الأكثر (ليس فيما دون)، معنى هذا أنه: وإن قَلَّت يسيرًا فلا يجب، لكن إذا كان الإنسان عنده نفس عالية، ويريد فعل الخير، ويريد أيضًا أن يطمئن، وأن يتقرَّب إلى اللَّه سبحانه وتعالى فهذا أمر طيب، سواء كانت زكاةً أو غير زكاة.

يقول اللَّه سبحانه وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، ولا شكَّ أن من

ص: 3271

أحبِّ ما يحبه الإنسان في هذه الحياة، إنما هو ماله؛ فالإنسان يحبه، وابن آدم "لو أعطي واديين من ذهب، لطلب الثالث، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب" أو "جوف ابن آدم" في رواية، لكن مع ذلك من يهبه اللَّه سبحانه وتعالى نفسًا أبيةً، ويكون هو أيضًا سخيًّا، ويحب فعل الخير، فهذا تجده كالريح ينفق المال، ومع ذلك كلَّما أنفق زاده اللَّه؛ فالنفقة في سبيل اللَّه لا تضيع المال؛ فليست تبذيرًا، إنما التبذير أن يضيِّعَ الإنسان ماله فيما لا ينفع، وأن يسرف في أمور لا تنفعه، أو ربما يصرف ماله فيما يضرُّه في معاصي اللَّه سبحانه وتعالى، حتى وإن كانت من الأمور التي يتصور أنها من العبادات التي يقيمها؛ من مناسك، واجتماعات كالتي يفعلها بعض الفرق؛ كالمتصوفة وغيرهم ممن يقومون بمثل هذا.

هذه حقيقةً أموالٌ تضيع، فما يفعله الإنسان مما هو غير مشروع، وما يصرفه من أموال في غير محلِّها، كلُّ هذا يكون تبذيرًا، أمَّا أن يصرف الإنسان المال في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى، وينفقه، ولو أنفق كُلَّ ما عنده، فاللَّه سبحانه وتعالى سيخلفها عليه.

* قوله: (فَإِنَّ الْجُمْهُورَ

(1)

قَالُوا: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَزْن فَفِيهِ بِحِسَابِ ذَلِكَ).

(1)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 136)؛ حيث قال: "واختلفوا في العشرين دينارًا إذا لم تبلغ قيمتها مائتي درهم وفيما تساوي من الذهب وإن يكن وزنه عشرين دينارًا، فالذي عليه جمهور العلماء أن الذهب تجب فيه الزكاة إذا بلغ وزنه عشرين دينارًا وجبت فيه زكاة نصف دينار مضروبًا كان أو غير مضروب إلا الحُليّ المتخذ للنساء فله حكم عند العلماء يأتي في بابه إن شاء اللَّه، وما عدا الحلي من الذهب فالزكاة واجبة فيه عند جمهور العلماء إذا كان وزنه عشرين دينارًا يجب فيه ربع عشره بمرور الحول وسواء ساوى مائتي درهم كيلًا أم لم يساو وما زاد على العشرين مثقالًا فبحسابه ذلك بالقليل والكثير وما نقص من عشرين دينارًا فلا زكاة فيه سواء كانت مائتي درهم أو أكثر والمراعاة فيه وزنه في نفسه من غير قيمته، فهذا مذهب مالك والشافعي وأصحابهما والليث بن سعد والثوري في أكثر الروايات عنه وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد، واختلف في ذلك عن الأوزاعي، وهو قول علي بن =

ص: 3272

(فَفِيهِ بِحِسَابِ ذَلِكَ) هو ربع العشر، كلُّ ما زاد يخرج حسابه.

هنا أيضًا قضية تشبه هذه كثيرًا، يرد السؤال عنها: الآن الذين يشتركون في الأسهم، فيضعونها مثلًا في شركات أو في غيرها، فيحول عليها الحول، ومعها ربح، فكيف يزكيها؟ يُقَوَّم هذا المال، ويخرج زكاته، مع ما حصل فيه من ربح، ولا ينتظر في الربح حتى يحول عليه الحول -كما يتصور البعض-، وتجد الإنسان مثلًا يتسلَّم راتبًا متعددًا فيتركه، فإذا جاء في وقت معين، قدر المال من أوَّل شهر.

لا، هذه الأموال التي تتكرر ينبغي أن يخرجها الإنسان، بأن يقدر زكاة كلِّ شهر، فيسجل ما عنده، ثم بعدَ ذلك يخرج عن هذا المبلغ الذي بلغ النصاب.

لكن لو قُدِّر أن إنسانًا عنده مال؛ صاحب مرتب شهري، توفَّر عنده في الشهر الأول عشرة آلاف، والثاني عشرين ألفًا مثلًا، وهكذا، لكن قبل أن يحول عليه الحول صرفها في حاجاته، فهذا لا تجب عليه زكاة.

لكن عكس ذلك: إنسان مثلًا جمع مالًا -وهذا يقع فيه بعض الناس- يقول: أنا جمعت عشرين أو خمسين، أو مائة ألف، هذه أنا جمعتها وأبقيتها لأجل أن أتزوج بها، وحال عليها الحول، يتصور أنه ما دام جمع هذا المال ليتزوج به، أو ليصرفه في أمر ما، لا تجب فيه الزكاة، بل تجب فيه الزكاة؛ لأن هذا مال تجب فيه الزكاة.

إذا كان عند رجل أرض عرضها للتجارة، يقومها ويزكيها، لكن

= أبي طالب وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق منهم عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن سيرين، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد إلا أن أبا حنيفة في جماعة من أهل العراق في العين ذكروا أوقاصًا كالماشية فقالوا: لا شيء فيما زاد على العشرين مثقالًا حتى تبلغ أربعة مثاقيل، ولا فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ أربعين درهمًا؛ فيكون فيها ستة دراهم، ويكون في الأربعة مثاقيل اثنا عشر قيراطًا، وهو قول إبراهيم النخعي على اختلاف عنه في ذلك؛ لأنه قد روي عنه وما زاد على المائتي درهم فبالحساب".

ص: 3273

الأرض التي تركها ونسيها، فهذه لا يزكيها، وإنما بعد ذلك يزكي المال إذا حال عليه الحول.

عنده عمارة، لا يزكيها، وإنما يزكي أجرتها، إلا إذا كانت هذه العمارة معدَّة للبيع، فإنها تعتبر من عروض التجارة. . . وهكذا.

فلنفرق بين ما يعدُّ للتجارة، وما لم يعدَّ لها.

الآن نجد اللؤلؤ والمرجان لا زكاة فيهما، لكن لو أعددتهما للتجارة وجبت فيهما الزكاة.

رجحنا -فيما مضى- أن لا زكاة في الخيل، لكن لو أعددتها للتجارة، وأصبحت سلعة تباع وتشترى، فهذه عروض تجارة، فنقوِّمها في آخر العام ونزكيها،. .. وهكذا، فلننتبه لهذا، فعروض التجارة دائمًا تُقوَّم وتزكى، فإذا قُدِّرت بمبلغ كذا، نخرجه نقدًا، نخرج فيها ربع العشر من قيمة هذه العروض، ولا ننظر إلى وقت الشراء، بل ننظر إلى قيمتها الحالية، لا تقول: أنا اشتريتها بمبلغ أقلّ، فأزكيها على الشراء، لا، بل تزكيها على القيمة الحاضرة.

* قوله: (أَعْنِي: رُبُعَ الْعُشْرِ - وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَكْثَرُهُمُ أهل الْعِرَاق:).

المؤلف الآن يذكر الآراء، يعني تقريبًا يأتي بأكابر العلماء في هذه المسألة، فلا داعي أن نضيف.

وعندما يقول: أكثرهم العراق، فهو يقصد في المقدمة: الحنفية وأمثالهم؛ سواء كانوا من مشايخهم أو من تلاميذهم.

* قوله: (لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَإِذَا بَلَغَتْهَا كَانَ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِهَا وَذَلِكَ دِرْهَمٌ).

مذهب الحنفية هنا ومن معهم أنهم قالوا: (حتى تبلغ الزيادة أربعين

ص: 3274

درهمًا)، وأخذوا هذا من حديث:"وفي أربعين درهمًا درهم"، ومفهومٌ هذا أن ما دون الأربعين لا شيء فيه، أما بقية العلماء فيقولون: لا، (وما زاد فبحساب ذلك)، جاء في بعض الأحاديث:"وما زاد فبحساب ذلك"، بعد أن ذكر نصاب الذهب والفضة في حديث، والحديث أيضًا فيه كلام، لكن هذه الزيادة تلقَّاها العلماء بالقبول وعملوا بها.

"وما زاد فبحساب ذلك"، ودليل الحنفية حتى من الأحاديث المتكلم فيها، "وفي أربعين درهمًا درهم"، هنا أيضًا دليل الجمهور، "وما زاد فبحساب ذلك" في حديثٍ طويل، والمؤلف هنا لم يذكر دليل الجمهور في هذه المسألة.

* قوله: (وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا).

المؤلف هنا كما ترى فرق بين أبي حنيفة وزفر.

ومعلومٌ أن أبا حنيفة له أصحاب، منهم أبو يوسف، ومنهم محمد بن الحسن، وهذان أشهر المشهورين في مذهب الإمام أبي حنيفة، اشتهرا وعرفا عند الناس، وزفر أيضًا من أكابر العلماء في المذهب، ومن أصحاب الإمام أبي حنيفة؛ وعندما تدرس كتب الحنفية، تجد مواضع اتفاق يتفق فيها الأربعة، ومواضع ينفرد فيها الإمام، وقد يخالفه زفر، أو محمد بن الحسن، أو أبو يوسف، وقد يتَّفق الثلاثة، وقد ينفرد أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وكذا، فزفر من أصحاب أبي حنيفة.

يبقى سؤال: لماذا ما قال: (أبو حنيفة) وسكت؟

لأن زُفر ليس دائمًا مع الإمام أبي حنيفة، كأبي يوسف، ومحمد، فهما مع الأدلة، وهكذا شأن طالب العلم، طالب الفقه، فهو دائمًا ينبغي أن يُعنى بالدليل، يعني: كون الإمام رأى رأيًا، ورأى أن غيره يخالفه، فلا مانع أن يأخذ بهذا الرأي الذي يخالف رأي إمامه، وزفر هنا وافق الإمام في هذه المسألة.

ص: 3275

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ).

عاد مرةً أُخرى إلى حديث الحسن بن عمارة، وسيأتيه بمطول من الكلام، وقد سبق أن تحدث عنه.

نعم، هو كما قال، لكن قلت من قبل: له شواهد في حديث عمرو بن شعيب وغيره، فبعض العلماء يجمعها ويراها صالحة، وهو كما قال الإمام مالك: ما اشتهر، عندما استدل به في المسألة الأولى.

* قوله: (وَمُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ لَهُ، وَتَرَدُّدُهُمَا بَيْنَ أَصْلَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهِيَ: الْمَاشِيَةُ وَالْحُبُوبُ).

انتبه لهذه القضية؛ هذه من المسائل الدقيقة في هذا الكتاب، وهذا الكتاب قد نراه بسيطًا، والكثيرون يرون فيه صعوبةً، وصعوبة هذا الكتاب أنه كتاب مؤَلف منذ القدم، ومؤلفه -كما هو معلوم أيضًا- ممن اشتهروا بالفلسفة والمنطق، فربما تأتي بعض عباراتهم فيها قوة، ولكن مَن يدرس هذا الكتاب ويدقِّق فيه، ومن عنده اطلاع، لا يرى صعوبة في عبارات هذا الكتاب.

ودليل الخطاب يتكرر معنا كثيرًا، والمؤلِّف لا يسميه إلا دليل الخطاب، وربما عرف أكثر بمفهوم (المخالفة)، ومرَّ بنا الدليل الذي دائمًا يضرب به الفقهاء المثل:"في الغنم السائمة الزكاة"، ولذلك جاء به المؤلف على أنه دليل "في الغنم السائمة الزكاة"، وهو (في الغنم في سائمتها الزكاة)، وكذلك ورد في الإبل.

وهذه العبارة أخذوها من الحديث؛ فصار الأصوليون يضربون بها المثل، ويجعلونها مقياسًا.

(في الغنم السائمة الزكاة)، هذا له منطوق ومفهوم، فمنطوقه: أن السائمة فيها زكاة، ومفهومه: أن المعلوفة لا زكاة فيها، ويلحق بالمعلوفة

ص: 3276

أيضًا العاملة؛ هذ، فمفهوم المخالفة: ما يأتي على عكس الظاهر، فهناك منطوق ومفهوم، والمفهوم يعتبر مفهوم موافقة، وهذا لا خلاف فيه.

كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} فالضرب أيضًا مفهوم، لكنه مفهوم موافقة، بل هو أولى من المنصوص عليه في الآية، فإذا كان لا يجوز للولد أن يتأفف فى وجه والديه، بل لا يقول لهما (أفّ)، ولا يُظهِر لهما التضجر والجزع؛ لأن تضجر الولد وتألمه يؤلم والديه؛ لأنهما يتأثران لأثره، يفرحان بفرحه، ويتألمان لألمه، فلا يقول عندهما: أفّ، ولا يُظهِر الضَّجر أمامهما، فما بالك إذا تأفف في وجوههما، أو خاصمهما، أو تجرأ عليهما، كما نرى في هذا الزمان، يرفع الولد صوته على أبيه، وعلى أمِّه -نسأل اللَّه العافية-، وربما تجاوز ذلك إلى أن يطلق لسانه في سبابهما، وفي شتمهما، وما بالك بمَن يضربهما؟

إذن هنا مفهوم الموافقة يسمَّى (مفهوم الأولى)؛ لأن مفهوم الموافقة فيه مفهوم أولى، الذي هو كالضرب؛ ومفهوم مساوٍ، ومفهوم أدنى، ثم يأتي مفهوم المخالفة الذي يسميه المؤلف هنا بدليل الخطاب؛ أي: الذي يفهم من فحوى الخطاب ودليله.

* قوله: (أَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ).

هذا الحديث جاء مطولًا كما هنا، وجاء في حديث آخر من طريق عليّ أيضًا عند الترمذي -وهو صحيح-:"قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"، هذا حديث صحيح، لكن هذه الزيادات، وهذا الحديث الطويل هو الذي فيه الخلاف، أمَّا أوله في أحاديث أُخرى فهو صحيح.

يعني: ليس كلُّ ما في الحديث ضعيف، لا؛ ففي العبارات الأولى:"هاتوا صدقة"، "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"، هذه مرت في أحاديث متفق عليها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم في عبده

ص: 3277

وغلامه صدقة"، وفي حديث آخر: "ليس على الرجل في فرسه ولا في عبده صدقة"، فالأول: "ليس على المسلم في فرسه ولا في غلامه صدقة"، وهذا: "ليس على الرجل في فرسه ولا في عبده صدقة"؛ ذاك متفق عليه، وأيضًا: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"، عند الترمذي، جاء من طريق عليّ، وهو صحيح، لكن الكلام في هذا الحديث المطول بهذه الرواية.

* قوله: (فَهَاتُوا مِنَ الرِّقَةِ رُبُعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ).

هذا أمر تشهد له بقية الأدلة، (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ).

* قوله: (وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ).

وهذا هو محلُّ الخلاف، فهنا لو كان الحديث صحيحًا لكان حجَّة وزال الخلاف، وأصبحت المسألة إجماعًا، لكن لمَّا كانت صدقة الفضة، أو نصاب زكاة الفضة فيه أحاديث صحيحة، لم يقع فيه خلاف، لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث الضعيف، لكن نصاب الذهب لم يرد إلا في هذا الحديث وأمثاله، ووقع الخلاف فيه، فلننتبه إلى ذلك.

* قوله: (وَلَيْسَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَيْءٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ).

أيضًا هنا أشار إلى الحول؛ لأن الحول مشروط في زكاة النقدين، من شروطها أن يحول عليه الحول، وهذا أيضًا فيه تيسير على الناس، ليس فيه إرهاق للغني، ولا فيه هضم لحق الفقير.

* قوله: (فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ).

وهذا دليل الحنفية: "ففي أربعين درهمًا درهم"، معنى هذا أن ما دون الأربعين، ما بين المائتين والأربعين، لا شيء فيه، لكن غيرهم من العلماء استدلّوا -كما قلت قبل- بقوله صلى الله عليه وسلم:"وما زاد فبحساب ذلك"، وهذا نص في المسألة.

ص: 3278

* قوله: (وَفِي كُلِّ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ تَزِيدُ عَلَى الْعِشْرِينَ دِينَارًا دِرْهَم حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا).

(وفي كل أربعة دنانير) درهم، ليس دينارًا؛ ربما يتشوش البعض فيقول: كيف؟ معلوم أن الدينار عشرة دراهم، فمعنى هذا: أن الأربعة دنانير هي أربعون درهمًا، وعشرها (أربعة)، وربعها (واحد)، إذن هذا ينطبق عليه، فلننتبه لهذا.

* قوله: (فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ نِصْفُ دِينَارٍ وَدِرْهَمٌ

(1)

).

نصف دينار للعشرين، ودرهم للأربعة، فلينتبه إلى هذا مَن يعرفون الحساب، وهذا أمر سهل عندهم.

* قوله: (وَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ الْمُعَارِضِ لَهُ، فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ"

(2)

).

مفهومه: أن ما زاد على خمس أواق ففيه الصدقة.

* قوله: (وَمَفْهُومُهُ أَنَّ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الصَّدَقَةَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ).

والذي استدل به الجمهور هو (وما زاد على ذلك فبحسابه).

(1)

يُنظر: "الهداية في تخريج أحاديث البداية" للغماري (5/ 40)؛ حيث قال: "رواه عبد الرّزاق عن الحسن بن عمارة، وابن عبد البَرّ مطوّلًا كما هنا، والحسن بن عمارة ضعيف جدًّا. قال ابن عبد البَرّ: لم يثبت عن النّبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذّهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات، لكن روى الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم والحارث عن عليّ فذكره. وكذا رواه أبو حنيفة. ولو صحّ عنه لم يكن فيه حجّة؛ لأنّ الحسن بن عمارة متروك. قلتُ: ولم يتابعه أحدٌ من أصحاب أبي إسحاق على ذكره بهذا السّياق مطوَّلًا مع كثرة مَن رواه عنه، بل ولا على ذكر الذّهب فيه إلّا جرير بن حازم وأبو بكر بن عياش".

(2)

سبق تخريجه.

ص: 3279

* قوله: (وَأَمَّا تَرَدُّدُهُمَا بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْمَاشِيَةُ وَالْحُبُوبُ: فَإِنَّ النَّصَّ عَلَى الْأَوْقَاصِ وَرَدَ فِي الْمَاشِيَةِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا أَوَقَاصَ فِي الْحُبُوبِ).

المقصود بالوقص: ما بين الفريضتين، يعني: ما بين فريضة وفريضة يسمَّى (وقصًا)، فالماشية ورد النص فيها، بالنسبة للحبوب لا أوقاص، والعلماء متفقون فيها، لكن ما عدا ذلك فيه خلاف.

* قوله: (فَمَنْ شَبَّهَ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ بِالْمَاشِيَةِ قَالَ: فِيهِمَا الْأَوْقَاصُ، وَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالْحُبُوبِ قَالَ: لَا وَقْصَ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: - وَهِيَ ضَمُّ الذَّهَبِ إِلَى الْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ).

هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، يعني: لو كان عند إنسان قدر من الذهب، ومقدار من الفضة لا يساوي كلُّ واحد منهما على انفراده نصابًا؛ فهل يُضمُّ الذهب إلى الفضة، أو الفضة إلى الذهب، فيكْمُل بمجموعهما نصاب، أو لا؟

من العلماء من قال بالضمِّ، ومنهم مَن منع ذلك:

- والذين قالوا من أهل العلم بالضمِّ قالوا بذلك؛ لأنهم يرون أنهما يلتقيان في كونهما قِيَمًا للمبيعات، وأروش للجنايات وللمتلفات، فكلٌّ منهما يؤدي ما يؤديه الآخر، كذلك فيما يتعلق أيضًا بالمَهر، وما يتعلق بالجزية، وغيرهما، فكلٌّ منهما يؤدي ما يؤديه الآخر، فيلتقيان في المنافع، لكنهما جنسان؛ هذا ذهب، وهذا فضة.

- ولمَّا كانت الماشية أجناسًا، ولا يُضمُّ بعضها إلى بعض، قال الفريق الآخر: لا يضم أحدهما إلى الآخر.

- لكن أكثر الفقهاء يرون أن الضمَّ وارد في ذلك؛ لكون الغاية منهما متحققةً، يعني: الموجودة في الذهب موجودة أيضًا في الفضة، والعكس كذلك؛ لأن المنفعة -وهي المرادة- متحققة في كل واحد منهما.

ص: 3280

* قوله: (فَإِنَّ عِنْدَ مَالِكٍ

(1)

، وَأَبِي حَنِيفَةَ

(2)

، وَجَمَاعَةٍ

(3)

أَنَّهَا تُضَمُّ الدَّرَاهِمُ إِلَى الدَّنَانِيرِ).

وهذا أيضًا هو المشهور في مذهب أحمد.

* قوله: (فَإِذَا كَمُلَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا نِصَابٌ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ).

أما بالنسبة لعروض التجارة فإنها إذا قُدِّرت، تضم إلى كل واحد منها، لكن الكلام هنا في ضم الذهب إلى الفضة، أو الفضة إلى الذهب.

* قوله: (وَقال الشَّافِعِيُّ

(4)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(5)

، وَدَاوُدُ:"لَا يُضَمُّ ذَهَبٌ إِلَى فِضَّةٍ وَلَا فِضَّةٌ إِلَى ذَهَبٍ"

(6)

. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ فِيها الزَّكاةُ لِعَيْنِهِ أَمْ لِسَبَبٍ يَعُمُّهُمَا).

يعني: هل الزكاة تجب في الذهب؛ لكونه ذهبًا، وتجب في

(1)

يُنظر: "شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب (1/ 373)؛ حيث قال: "ووجه الجمع بينهما أن يعدل المثقال بعشرة دراهم؛ فإذا كانت مائة درهم وعشرة دنانير ضمهما، وإن كانت معه مائة درهم وتسعة دنانير تساوي مائة لم يضمهما. هذا قول أصحابنا".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر الطحاوي" للجصاص (2/ 309)؛ حيث قال: " (ويضم الذهب إلى الفضة، ويكمل النصاب منهما بالقيمة في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: يضمان بالأجزاء) ".

(3)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"(6/ 18)؛ حيث قال: "قال ابن المنذر وقال الحسن وقتادة والأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وسائر أصحاب الرأي يضم أحدهما إلى الآخر".

(4)

يُنظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (3/ 285)؛ حيث قال: "ولا يضم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب، بل يعتبر نصاب كل واحدٍ منهما بنفسه".

(5)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"(6/ 18)؛ حيث قال: "حكاه ابن المنذر عن ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وشريك وأحمد وأبي ثور وأبي عبيد".

(6)

وفي مذهب أحمد روايات؛ يُنظر: "الهداية على مذهب الإمام أحمد"(ص: 136)؛ حيث قال: "ولا يُضَم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: يُضَم، ويكون ضمه بالأجزاء لا بالقيمة، وقيل: يكون ضمه بما هو أحظ للفقراء من الأجزاء أو القيمة".

ص: 3281

الفضة، لكونها فضةً؟ أو أن المراد من ذلك يختلف عن هذا؟

المنفعة متحققة في كلِّ واحد منهما؛ فهناك قاسم مشترك بينهما وهو المنفعة، فمَن نظر إلى المنفعة -هذا تعبير المؤلف- قال:(يضم بعضهما إلى بعض)؛ لأن هذا يؤدي ما يؤديه هذا، وهذا ينوب عن هذا.

- ومَن قال: لا، فإنه رأى أن كلَّ واحد منهما مقصود لعينه، ولذلك لا ضم؛ فنحن لا نجد أن الماشية يُضم بعضها إلى بعض، فلا يُضم غنم إلى بقر، ولا بقر إلى إبل، إذن هنا لا ينبغي أن يحصل ضم.

* قوله: (أَمْ لِسَبَبٍ يَعُمُّهُمَا، وَهُوَ كَوْنُهُمَا كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ رُؤُوسَ الْأَمْوَالِ وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ؟).

لا شكَّ أن الذهب والفضة هي رؤوس الأموال، بهما يباع ويشترى، بهما يتوصل الإنسان إلى غاياته، وقد أشرنا إلى أن الإنسان في أوَّلِ أمره كان يستخدم المقايضة، كان الناس يتبادلون السلع عن طريق المقايضة، ثم تطور ذلك بعد أن هدى اللَّه سبحانه وتعالى الإنسان إلى النقدين، فبدؤوا يتعاملون بهما، فهي كما -قال المؤلف-: قيم المبيعات وكذلك المتلفات، وهي رؤوس الأموال، وهي أروش الجنايات، تستخدم في ذلك، وهي أيضًا مَهر للزواج، وكذلك تؤخذ في الجزية، وفي غير ذلك من الأحكام الكثيرة المنتشرة في أبواب الفقه.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ عَيْنُهُ -وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ النِّصَابُ فِيهِمَا-، قَالَ: هُمَا جِنْسَانِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الثَّانِي كَالْحَالِ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ).

وجهة الذين قالوا من العلماء بعدم الضم "ليس فيما دون خمس أواق صدقة"، قالوا: معنى هذا الحديث أنه إذا نقص نصاب الفضة عن مائتي درهم فلا زكاة فيه، ولو كان الذهب يُضم لنبَّه على ذلك؛ لأن الحاجة تقتضي بيان ذلك؛ لكنه لم يبين؛ فدلَّ على أنَّ لكل واحد منهما أصلًا مستقلًّا بذاته فيما يتعلق بوجوب الزكاة فيه إذا بلغ النصاب.

ص: 3282

* قوله: (وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِمَا هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْجَامِعُ الَّذِي قُلْنَاهُ، أَوْجَبَ ضَمَّ بَعْضِهِمَا إِلَى بَعْضٍ).

لا شكَّ أن الأحكام معللة، يعني: أن أحكام الشريعة الإسلامية كثيرًا ما نجد أنها تقترن عللُها بها، ولذلك عندما جاء الفقهاء من بعد الأئمة، ومن بعد تلاميذهم، وأرادوا أن يجمعوا فقه أئمتهم، احتاجوا إلى أن يضعوا وأن يعرفوا أصول كل إمام؛ لأنه لكي تعرف المنهج والطريق الذي سلكه هذا الإمام، لا بد أن تعرف أصوله التي كان يخرِّج عليها، فأخذوا يبحثون عن علل الأحكام حتى وقفوا عليها، فبدؤوا يخرِّجون على أقوال الأئمة، ثم بعد ذلك أخذوا يستدلون عليها، إلى أن توسَّع الفقه الإسلامي.

إذن العلة ظاهرة في النقدين بلا شكٍّ؛ وكما ذكر المؤلف، وكما ذكرنا أيضًا إضافة إلى ذلك، والمقصود منهما معنى المنفعة، فالذي يشتري بدينار أو بدرهم، إنما هو يشتري ليستفيد، والذي يبيع ليأخذ دينارًا أو درهمًا، هو أيضًا يبيع ليستفيد، فيحصل على النقدين؛ إذن الفائدة متبادلة في هذا، فهي متحققة بلا شك، إذن العلة فيهما ظاهرة، وهي المنفعة، وليست المنفعة مقصورةً على شيء واحد؛ لأن الناس يتعاملون بهما، ويتبادلون بهما في شراء السلع، وفي بيعها، وفي كونهما قيمًا للمتلفات، ورؤوس الأموال، وأروش الجنايات، إلى غير ذلك من الأحكام التي تتعلق بهما.

* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَظْهَرُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ حَيْثُ تَخْتَلِفُ الْأَسْمَاءُ، وَتَخْتَلِفُ الْمَوْجُودَاتُ أَنْفُسُهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوهِمُ اتِّحَادُهُمَا اتِّفَاقَ الْمَنَافِعِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ مَالِكٌ رحمه الله فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي بَابِ الرِّبَا).

يريد أن يقول: إن مالكًا رحمه الله اعتمد في وسيلة الضمِّ على اتِّحاد المنافع؛ فالمنفعة الموجودة في الفضة هي المنفعة الموجودة في الذهب،

ص: 3283

فلمَّا اتحدت المنفعة فيهما، كان ذلك وسيلةً وسببًا في ضم أحدهما إلى الآخر؛ لتكميل النصاب، على ما أراد المؤلف.

وليس هذا برأي المالكية حقيقةً، بل هو رأي كلّ الأئمة أو الفقهاء الذين يقولون بضمِّ أحدهما إلى الآخر، وهذا هو التعليل الذي يأخذ به بقية الفقهاء.

* قوله: (وَالَّذِينَ أَجَازُوا ضَمَّهُمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الضَّمِّ

(1)

: فَرَأَى مَالِكٌ ضَمَّهُمَا بِصَرْفٍ مَحْدُودٍ).

وما كيفية الضم؟ يعني: هل هي بصرفها عن طريق الأجزاء؟

يعني: لو كان عند إنسان عشرة دينارات، ومائة درهم، عشرة دينارات هي نصف النصاب، ومائة درهم كذلك، فيضم بعضهما إلى بعض، فحينئذٍ تجب الزكاة، فهل يكون الأمر هكذا أو أننا ننظر إلى القيمة؟

قد تكون قيمة العشرة دينارات أقل من مائة درهم، وقد يكون العكس، فهل لهذا تأثير أو لا؟ هل ننظر إلى أن هذا يعني عشرة مثاقيل؟ وهذا مائة درهم، ونكتفي ولا ننظر، فنستخدم الأجزاء فقط؟ أو الصرف كما ذكر المؤلف عن الإمام مالك بمعنى: أننا ننظر إلى قيمتها؛ فإن كانت قيمة العشرة دنانير والمائة درهم تصل إلى المائتي درهم التي ليست محل خلاف، وإنما هو إجماع -كما عرفنا- تخرج الزكاة، وإن نقصت فلا؟

(1)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"(6/ 18)؛ حيث قال: "واختلفوا في كيفية الضم فقال الأوزاعي: يخرج ربع عشر كل واحد فإذا كانت مائة درهم وعشرة دنانير أخرج ربع عشر كل واحد منهما، وقال الثوري: يضم القليل إلى الكثير ونقل العبدري عن أبي حنيفة أنه يضم الذهب إلى الفضة بالقيمة، فإذا كانت له مائة درهم وله ذهب قيمته مائة درهم وجبت الزكاة قال: وقال مالك وأبو يوسف وأحمد، يضم أحدهما إلى الآخر بالأجزاء، فإذا كان معه مائة درهم وعشرة دنانير أو خمسون درهمًا وخمسة عشر دينارًا ضم أحدهما إلى الآخر، ولو كان له مائة درهم وخمسة دنانير قيمتها مائة درهم فلا ضَمَّ".

ص: 3284

ويظهر لي -واللَّه أعلم- أن الأولى هو الضمُّ بالأجزاء، بمعنى: أنه إذا اجتمع عدد من الدنانير تكملها أعداد من الدراهم، فإن الزكاة تخرج في هذه الحالة إذا بلغت نصابًا، هذا أيسرها في نظري وأقربها.

* قوله: (وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْزِلَ الدِّينَارَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَدِيمًا، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِمَا الزَّكَاةُ عِنْدَهُ).

هنا أمر أريد أن أنبِّه عليه، كثيرًا ما تجد في مصطلحات بعض الفقهاء، ولا سيما (المتأخرين)، ولا نعني بالمتأخرين (المعاصرين)، وإنما الذين سبقوهم، كالذين كانوا في القرن العاشر وما بعده، كثيرًا ما يتكلمون عن الدينار الشرعي، والدينار العرفي، والدرهم الشرعي، والدرهم العرفي، فما المراد بهما؟

يقصدون بالدينار وبالدرهم الشرعي: الذي كان معمولًا به في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب في عهد عبد الملك بن مروان، وموجود دراهم ضربت عام ثماني وسبعين من الهجرة وقبل ذلك وبعده، وحتى في الدولة العباسية بعد ذلك.

والدرهم العرفي: هو الذي تعارف الناس على استعماله، وليس مقصودًا لمعرفة الحكم الشرعي، ولذلك نجد الذين عنوا بهذا الأمر يوازنون بينهما، فتجد أحيانًا الدرهم الشرعي يزيد، وأحيانًا ينقم، وأحيانًا العرفي يزيد، والمقصود بالدرهم العرفي ما تعارف الناس على التعامل به، ومعلوم أن العرف معتبر في أحكام الشريعة، وهناك قاعدة فقهية معروفة:

(العادة محكمة)، و (ما رآه المسلمون حسنًا) في أثر عبد اللَّه بن مسعود (فهو حسن، وما رأوه سيئًا، فهو عند اللَّه سيئ).

فالعادة محكمة، لكنها لا تحكم في الأحكام الشرعية، وإنما قد تحكم في بعض الأحكام، كما في عادات النساء، وفي الحيض، وفي الاستحاضة، فإن العادة هنا معتبرة، كذلك هي في بعض المقاييس معتبرة،

ص: 3285

لكن العادة لا تطغى على العبادات التي لا تدخل فيها العادات؛ فلننتبه لهذا.

وعند مالك العشرة دنانير ننزلها منزلة العشرة دنانير في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتكون نصف النصاب، ومائة درهم كذلك ننزلها منزلة المائة درهم التي كانت في أول الأمر، فيكون المجموع حينئذ مائتي درهم، فتجب فيه الزكاة ربع العشر، يعني: اثنين ونصفًا بالمائة.

* قوله: (وَجَازَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْوَاحِدِ عَنِ الْآخَرِ).

ويجوز أن يخرج الزكاة بعد الخلط؛ إما من الذهب أو من الفضة.

* قوله: (وَقَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ آخَرُونَ: تُضَمُّ بِالْقِيمَةِ فِي وَقْتِ الزَّكَاةِ).

يعني: تُقدَّر قيمتها وتضم، وبعضهم قال بالأجزاء كما سبق.

* قوله: (فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَثَلًا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةُ مَثَاقِيلَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِمَا الزَّكَاةُ).

انظر، المثاقيل هنا لم تصل إلى النصف، هي تسعة، لكنها توازي مائة درهم، ولما كان الدرهم مجمعًا عليه، فعندنا تسعة مثاقيل، لو صرفت بلغت مائة درهم، وهناك مائة أُخرى موجودة، فبمجموعهما تصل إلى نصاب الزكاة، وهو مائتا درهم، فتجب الزكاة في هذا القدر.

* قوله: (وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ تُسَاوِي أَحَدَ عَشَرَ مِثْقَالًا وَتسْعَةَ مَثَاقِيلَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا فِيهِمَا الزَّكَاةُ).

هنا في الحالة الأُخرى عكس الأولى؛ يعني: الدرهم أعلى من الدينار، فمائة درهم تساوي مائة وعشرة عند المقارنة؛ أي: أحد عشر مثقالًا؛ فمائة درهم تساوي: أحد عشر مثقالًا، وعندنا تسعة مثاقيل، فنضم ونقول: أحد عشر مضافة إلى تسعة تساوي عشرين مثقالًا، يعني دينارًا، فتجب الزكاة التي هي ربع العشر.

ص: 3286

* قوله: (وَمِمَّنْ قَالَ بهَذَا الْقَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ الثَّوْرِيُّ إِلَّا أَنَّهُ يُرَاعِي الْأَحْوَطَ لِلْمَسَاكِينِ فِي الضَّمِّ - أَعْنِي: الْقِيمَةَ أَوِ الصَّرْفَ الْمَحْدُودَ).

يعني: الفقير هو الأولى، يعني: في نظر أصحاب هذا الرأي: الفقير هو الأكثر حاجة والأشد؛ فينبغي دائمًا أن يُراعى جانبه، لكن ليس معنى هذا أن يغفل جانب المزكي؛ فالشريعة الإسلامية بنيت على العدل، فهي تعطي كل إنسان حقه، فإذا راعت جانب الفقير، وحضت على الرحمة به والعطف عليه، فإنها أيضًا لا تهضم الأغنياء، ولذلك جاء في حديث معاذ:"وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم ".

ومراد المؤلف أنه: إذا كانت القيمة أولى فى حقِّ الفقير، فنستخدمها، وإن كان الضم أولى فنأخذ به، يعني: ما كان أيسر وأنفع للمسكين المستحق للزكاة، فينبغي أن نأخذ به، وهذا تعليل جيِّد ومقبول.

* قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُضَمُّ الْأَقَلُّ إِلَى الْأَكْثَرِ، وَلَا يُضَمُّ الْأَكْثَرُ إِلَى الْأَقَلِّ).

وهذا القول ليس مشهورًا.

* قوله: (وَقَالَ آخَرُونَ: تُضَمُّ الدَّنَانِير بِقِيمَتِهَا أَبَدًا كَانَتِ الدَّنَانِيرُ أَقَلَّ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ أَكْثَرَ).

يعني: لو قدر أن الدنانير عشرة تضم بقيمتها الأصلية، فإنها تبقى على حالتها.

* قوله: (وَلَا تُضَمُّ الدَّرَاهِمُ إِلَى الدَّنَانِيرِ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ أَصْلٌ وَالدَّنَانِير فَرْعٌ).

لماذا كانت الدراهم أصلًا، والدنانير فرعًا؟

لأن السُّنة الصحيحة جاءت بتحديد نصاب الفضة دون خلاف، ووقع

ص: 3287

الخلاف في تصحيح الأحاديث التي جاءت فيما يتعلق بالدنانير -أي بالذهب-، فاعتبر ذلك أصلًا، وهذا فرعًا.

* قوله: (إِذْ كَانَ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدَّنَانِيرِ حَدِيثٌ وَلَا إِجْمَاعٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ).

أوردنا بعضًا من الأحاديث التي وردت في ذلك، وكلها لا تخلو من مقال، فمن العلماء من صححها، ومنهم من أبقاها ضعيفةً فلم يحتج بها، ولا شكَّ أنها لا ترقى إلى الأحاديث التي وردت فيما يتعلق بالفضة؛ لأن ما ورد في الفضة أحاديث متفق عليها.

* قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ أَحَدِهِمَا ضَمَّ إِلَيْهِ قَلِيلَ الْآخَرِ وَكَثِيرَهُ).

هذه مسألة أُخرى أيضًا، يعني: إذا كان عنده من كلِّ واحد منهما ما يبلغ نصابًا، أو يبلغ نصابًا في أحدهما ولا يبلغ في الآخر، فهل يضم؟ هذه مسألة أخرى، والخلاف فيها أقل.

* قوله: (وَلَمْ يَرَ الضَّمَّ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابٌ بَلْ فِي مَجْمُوعِهِمَا. وَسَبَبُ هَذَا الِارْتبَاكِ مَا رَامُوهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوا مِنْ شَيْئَيْنِ نِصَابُهُمَا مُخْتَلفٌ فِي الْوَزْنِ نِصَابًا وَاحِدًا، وَهَذَا كُلُّهُ لَا مَعْنَى لَهُ).

كأن المؤلف هنا يعنى بعدم الضمِّ؛ لأنه يقول: الذي أوقعهم في هذا الارتباك -ونحن لا نراه ارتباكًا-، وإنما هي تعليلات وجيهة، مقبولة من الفقهاء، قصدوا فيها أن يصلوا إلى غاية، هذه الغاية هي أن الدينار والدرهم متفقان من حيث الغاية، ألا وهي أنهما فيهما نفع للفقراء، إذن لا مانع من الضم، لكن كونهما يختلفان في بعض الأمور لا يعتبر اغترابًا، يعني: هذه التعليلات التي ذكرها الفقهاء واختلفوا: هل الاعتبار بالصرف أو بالجزء أو بالقيمة؟ وهل الأصل هو الدرهم، وبالنسبة للدينار يبقى على ما كان؟

ص: 3288

هذه التعليلات، وهذه الآراء والاختلافات، اعتبرها المؤلف اغترابًا؛ لأنهم أرادوا أن يضيفوا شيئًا إلى شيء، فترتب عليه ذلك.

* قوله: (وَلَعَلَّ مَنْ رَامَ ضَمَّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ).

معنى (رام): قصد.

* قوله: (فَقَدْ أَحْدَثَ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ حَيْثُ لَا حُكْمَ).

هو لم يُحدِث في الحقيقة، وإنما هي أحكام بنيت على علل وأصول وأسس؛ فلا يعتبر هذا إحداثًا.

* قوله: (لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِنِصَابٍ لَيْسَ هُوَ بِنِصَابِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَيَسْتَحِيلُ فِي عَادَةِ التَّكْلِيفِ وَالْأَمْرِ بِالْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُحْتَمَلَةِ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ، فَيَسْكُتُ عَنْهُ الشَّارعُ حَتَّى يَكُونَ سُكُوتُهُ سَبَبًا).

يريد المؤلف أن يقول: لماذا نتكلف هذا التكلف ونسعى في موضوع الضمِّ ولم يرد فيه نص؟ ولو كان الضمِ واردًا، لبيَّنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ لأنه أنزلت عليه هذه الشريعة ليبينها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلمَّا لم يرد نصٌّ في الضم فلماذا نقول به؟ هذا هو مراد المؤلف.

العلماء عندما قالوا بذلك، اعتبروا هناك جامعًا بينهما؛ لأن كلًّا منهما يُسمَّى نقدًا، ويعرفان بالنقدين، وكلاهما عملة يتعامل بها، والغاية منهما واحدة، والنفع فيهما متحقق، وكل واحد منهما يحلّ محلَّ الآخر في البيوع، وفي غيرها من الأشياء الكثيرة التي ذكرناها.

* قوله: (لِأَنْ يَعْرِضَ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ مَا مِقْدَارُهُ هَذَا الْمِقْدَارُ، وَالشَّارعُ إِنَّمَا بُعِثَ صلى الله عليه وسلم لِرَفْعِ الِاخْتِلَافِ).

ص: 3289

المؤلف يريد أن يقول: هذا التعليل بالضم لا أصل له من كتاب ولا سُنَّة، فلماذا يتكلم كثير من الفقهاء وهم أكثرهم عن القول بالضم؟ لماذا لا نبقى على الأصل؟

ونحن لا نرى تكلفًا فيما رآه المؤلف تكلفًا؛ لأن النقدين كل واحد منهما ينوب عن الآخر ويمثله، فليس كما ذكر المؤلف.

([الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ])[مسألة الخلطة بين الشريكين]

* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنَّ عِنْدَ مَالِكٍ

(1)

، وَأَبِي حَنِيفَةَ

(2)

أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لَيْسَ يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا زَكَاةٌ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابٌ).

هذه المسألة مهمَّة جدًّا، والمؤلف جاء بها مجملة، وهي التي تعرف بمسألة الخلطة.

ومسألة الخلطة يقسمها الفقهاء الذين يعنون بمسائل الفقه تفصيلًا إلى قسمين:

- الخلطة في الأعيان.

- الخلطة في الأوصاف.

(1)

يُنظر: "الكافي في ففه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 316)؛ حيث قال: "وقيل: لا تجب عليهما زكاة حتى يكون لكل منهما نصاب وهو قول مالك".

(2)

يُنظر: "التجريد" للقدوري (3/ 1200)؛ حيث قال: "قال أصحابنا: الخلطة لا تأثير لها في إيجاب الزكاة، فيعتبر كل واحد من الخليطين على حياله فيوجب عليه عند الشركة ما يوجب عليه حال الانفراد".

ص: 3290

قد يشكل قوله: (في الأعيان)، وقوله:(في الأوصاف):

والقصد هنا أنَّ الخلطة: هو ضمُّ مال أحد الرجلين إلى الآخر، فيكونا كالمال الواحد، هذا الضمُّ قد يكون من أصله مضمومًا، وهذا ما يعرف (بالخلطة بالأعيان)، كالمال الذي يورث، وكذلك الذي يأتي عن طريق الهبة، أو عن طريق شراء، أو عن طريق ميراث؛ فما يحصل عليه اثنان أو أكثر عن طريق ميراث، أو عن طريق هبة، أو عن طريق شراء، في ماشية أو في غيرها، يعتبر خلطة في الأعيان؛ أي: اشتراك في العين، على أن يكون لكلِّ واحد منهما نصيب مشاع، قد يكون نصيب كل واحد منهما مساويًا للآخر، وقد يكون أقل منه، يعني: قد يكون أحدهما أكثر، المهم أن الاختلاط حاصل.

وأما "الخلطة في الأوصاف":

فهي أن يكون لكلِّ واحد مال متميز عن صاحبه؛ كأن يكون لهذا غنم ولهذا غنم، لهذا مثلًا عشر من البقر، ولهذا عشرون من البقر، فيضمانها معًا؛ ليسا مشتركين فيها، لكنها خلطة، مع تميز كلِّ واحد منهما عن الآخر؛ أي: أن كُلَّ واحد منهما مستقلٌّ بملك نصيبه، لكن الخلطة هنا إنما جاءت في الأوصاف، فإن كانت مثلًا في الماشية، فإنها تكون في المسرح، يعني في المرعى، يختلطان في المرعى، فيجيء إنسان مثلًا بشويهاته، فيجعلها مع آخر، فينبغي لكي تكون الخلطة في الماشية صحيحة، أن يكون المرعى واحدًا، والمرعى هو المكان الذي تسرح فيه الماشية، وأن يكون المراح أيضًا -وهو المبيت الذي تبيت فيه هذه الماشية- واحدًا، ويكون المحلب واحدًا؛ أي: المكان الذي تحلب فيه الماشية، ويضاف إلى ذلك أن يكون الفحل واحدًا؛ أي: الفحل الذي يطرقها يكون واحدًا، لا يكون لهذه فحل خاص، ولهذه فحل خاص، وأن يكون مشربها واحدًا، يعني: الحوض الذي تشرب منه هذه وهذه.

إذن يوحَّد المبيت، وكذلك المسرح، وكذلك المحلب، وكذلك المشرب، وكذلك أيضًا الفحل الذي يطرقها، وبعض أهل العلم يضيف

ص: 3291

الراعي، ما دام المرعى واحدًا، فينبغي أن يكون الراعي كذلك، وقد جاء في بعض الأحاديث النص على الفحل الذي يطرقها، وكذلك الحوض، الذي هو مكان الشرب، والراعي يعبِّر أيضًا عن المرعى.

هذا فيما يتعلق بخلطة الأوصاف، هل الخلطة هذه خاصة بالماشية أو تتجاوزها إلى غيرها؟ هذا كله فيه خلاف:

- فمن العلماء مَن قال: لا خلطة أصلًا؛ إلا إذا كان ما عند كل واحد منهما يبلغ نصابًا، فإذا ما كان عند هذا مثلًا ثلاثون من البقر، وعند هذا ثلاثون من البقر، فلا مانع؛ عند هذا أربعون من الغنم، وعند هذا أربعون أو أكثر، فلا مانع؛ لكن أن يكون نصيب كل واحد منهما دون النصاب، فلا خلطة.

- ومن أهل العلم مَن قال: الخلطة جائزة ومعتبرة؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع يين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع؛ خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية".

هذا الحديث يبيِّن أنه ليس للإنسان أن يأتي فيفرِّقَ بين مجتمع، أو يجمع بين مفترق؛ ليفرَّ من الصدقة، (وما كان من الخليطين)، وهذا هو المراد هنا (فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية)؛ لأنه قد يكون هذا نصيبه أقل، وهذا أكثر، فيأتي المزكي المصدق فيأخذ الواجب، فهذا يرجع على صاحبه؟ لأنه أُخذ منه أكثر مما أُخذ من الآخر.

هذا بالنسبة للماشية، فبعض العلماء لا يرى الخلطة في الماشية إلا إذا بلغ مال كلِّ واحد منهما نصابًا؛ ومنهم مَن يقول: وإن لم يبلغ، لكنَّه خصَّ ذلك بالماشية، ومنهم من توسَّع في ذلك فقال: تجوز الخلطة أيضًا في النقدين، وتجوز في عروض التجارة، وفي الزروع، وفي الثمار؛ لكنهم قالوا بالنسبة للنقدين: ينبغي أن يكون الصندوق الذي يجمع فيه المال واحدًا؛ وأن تكون عروض التجارة تجمع في مخزن واحد، ففي هذه الحالة تجوز، وبالنسبة للماشية -كما ذكرنا- أن تتوفَّر الأوصاف الخمسة.

والذين توسَّعوا من العلماء في هذه المسألة أكثر من غيرهم هم

ص: 3292

الشافعية، فنجد أن المالكية والحنفية لا يرون الخلطة، إلا إذا بلغ ما عند كل واحد منهما نصابًا.

والحنابلة -في المشهور عنهم- يرون الخلطة في الماشية فقط، والشافعية يوافقون الحنابلة في الخلطة في الماشية قولًا واحدًا؛ وأصحُّ القولين عندهم: جوازها في أموال التجارة، وفي النقدين، وفي الزروع، وفي الثمار.

هذا ما ورد في هذه المسألة، ومن هنا نجد أن الذين قالوا من العلماء بجواز الاختلاط استدلُّوا بالحديث الذي أوردناه قبل قليل، الذي فيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق؛ خشية الصدقة، وما كلان من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" قالوا: وهذا حديث صحيح، وهو نصٌّ في هذه المسألة، فينبغي أن يُعمل به، وهذا يدلُّ على أن الخلطة جائزة، وليست واجبة، وهذا دليل جوازها.

- والذين قالوا من أهل العلم: لا يختلط، قالوا: إنما يجب على كلِّ إنسان أن يزكِّي ماله، ولا يخلط ماله بغيره؛ لأنَّ كُلَّ إنسان ماله متميز، ولذلك جاء في الحديث:"ليس فيما دون خمس أواق صدقة" هذا عامٌّ يشمل كل أنواع الزكاة "في أربعين شاةً"، فمعنى هذا أنه ما دون ذلك لا زكاة فيه؛ فلا يضمُّ هذا إلى هذا، لكن لو بلغ نصيب كل منهما القدر الذي تجب فيه الزكاة، فلا مانع من الضمِّ.

ولا يفهم من هذا أن القصد بالشريكين هما الشريكان في مال، وإنما القصد هو مال الخلطة، لكن المال هنا قد يكون مشتركًا فعلًا، وهذا في شركة الأعيان؛ أي: الخلطة بالأعيان التي ذكرنا، كالمال الذي يورث، أو الذي يكون عن هبة، أو عن بيع، أو نحو ذلك.

أما خلط المالين بعضهما مع بعض، مع تميز كل واحد منهما وانفراده بملكه، فهذه الخلطة هي خلطة وصف؛ أي: خلطة أوصاف، وليست خلطة أعيان؛ فلننتبه للفرق بين المسألتين.

ص: 3293

* قوله: (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ

(1)

أَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ حُكْمُهُ حُكْيُم مَالِ رَجُلٍ وَاحِدٍ).

وعند الشافعي وأحمد، لكن عند التفصيل لا يلتقي الأئمة في هذا، حتى أبو حنيفة له تفصيل يختلف عن مالك، لكن لا نريد أن ندخل في التفصيل، لكن من حيث الجملة: مالك وأبو حنيفة متفقان على الأصل، وهو أنه لا تخرج زكاة من مالين مشتركين؛ أي: خلطة، ما لم يبلغ نصيب كلِّ واحد منهما القدر الذي تجب فيه الزكاة.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: الْإِجْمَاعُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ"

(2)

).

نعم، قالوا: هذا نسلمه، وهذا ذكرته من قبل، لكن قالوا: نحن عندما نأتي إلى الحديث الآخر: "لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق؛ خشية الصدقة، وما كان من الخليطين" أو "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" قالوا: إذا جئنا نطبق آخر الحديث، لا نجد أنه ينطبق إلا على الخلطة في الأوصاف، فهي التي ينطبق عليها هذا؛ لأنه بهذه الحالة يرجع كلُّ واحد منهما إلى الآخر، أما لو كان عند إنسان مال وقسمه إلى قسمين، فإنه مطالب بأن يضمَّ المالين بعضهما إلى بعض، وليس له أن يقسمه؛ فرارًا من الصدقة كما جاء في الحديث:"لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق؛ خشية الصدقة"؛ فليس القصد هنا إذن هو مال الشخص الواحد الذي يفرقه، وإنما المراد هنا مال لشخصين اجتمعا، فهو المراد في قوله:"فإنهما يتراجعان فيما بينهما".

(1)

يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 278)؛ حيث قال: "للخلطة تأثير في إيجاب الزكاة وهو أن يجعل مال الرجلين والجماعة كمال الرجل الواحد فيجب فيه ما يجب في مال الرجل الواحد".

(2)

سبق تخريجه.

ص: 3294

ومع ذلك يتكلَّم الفقهاء أيضًا فيما إذا كان للإنسان مال في بلد، وله مال في مكان آخر:

فبعض الفقهاء يرى أنه إذا كانت المسافة كمسافة القصر أو دون القصر فإنه يجمع المالان وتخرج الزكاة، وإذا كانت بعيدةً فلا، والمسألة فيها خلاف، لكن المسألة التي معنا تختلف، وهي مسألة الخليطين، وقد ورد فيها النصُّ.

لكن قد يسأل سائل فيقول: ما معنى أن يشتركا في المحلب، وفي المشرب، وفي المرعى، وفي الراعي، وكذلك في طرق الفحل؛ أي: الفحل الذي يطرقهما معًا؟ من أين جيء بهذه الشروط؟

قلت: ورد في حديث ذكر الحوض الذي يشرب فيه، وكذلك ذكر الفحل، وأيضًا ذكر الراعي، وقالوا: ذكر الراعي يستلزم المرعى؛ أي: توحيد المرعى، وبقية الشروط تضاف؛ لأنه إذا كان الحوض واحدًا، فمعنى هذا أن يتفق الشرب أيضًا، فينبغي أن يكون المبيت واحدًا، وهو الذي يعرف عند الفقهاء بـ (المراح)، المكان الذي تبيت فيه الماشية، كذلك أيضًا المحلب ينبغي أن يكون واحدًا؛ فإذا اتَّحدا في الحوض، وكذلك في المرعى، فينبغي أن يكون مكان الحلب واحدًا، وهذه الشروط قالوا: إنها من باب العدالة، يعني: لا ينبغي أن يميز نصيب هذا على نصيب هذا، ولا نصيب هذا على نصيب ذاك؛ وإنما ينبغي أن يتحدا في كلِّ شيء.

- الشافعية -وإن وافقهم الحنابلة في رواية غير قويَّة- بالنسبة أيضًا للخلطة في النقدين وفي أموال التجارة، اشترطوا اتحاد الصندوق الذي يوضع فيه المال، وكذلك أيضًا اشترطوا المخزن الذي توضع فيه البضائع، فإذا كان صاحب تجارة، فينبغي أن يكون المكان الذي توضع فيه البضائع واحدًا؛ لتحصل العدالة بين الأمرين.

- أكثر الفقهاء لا يرون أن الخلطة جائزة في غير الماشية، قالوا: لأنها في الماشية واضحة ومتحققة؛ وفي غيرها لا.

ص: 3295

* قوله: (فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أنه يَخُصُّةُ هَذَا الْحُكْمُ كَانَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَالِكٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَفْهُومُ اشْتِرَاطِ النِّصَابِ إِنَّمَا هُوَ الرِّفْقُ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ المَالِكُ وَاحِدًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-).

قيل: لكن هذا الذي ذكره المؤلف ما جاءنا بالحديث الآخر، والفريق الآخر الذي قال بالخلطة، قال: حديثنا نص، وهذا مفهوم، فنقدم ما هو نص:"وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بالسوية"؛ لأن المصدق قد يأتي يأخذ الزكاة، فيأخذ من مال القليل، إذن لا بدَّ أن يتراجعا بالسوية، فلا ينبغي إذا أُخذ من مال هذا أن يتحمله، ويذهب الآخر سليمًا، لا، وإنما القصد أن المال يُضم.

قد يسأل سائل فيقول: ما فائدة الضم؟ يعني: إذا كانت الزكاة ستخرج فما فائدة الضم؟

الجواب: لأنه إذا اتحدا كانت كلها تحت راع واحد، فهذا فيه توفير، وإذا كان المحلب واحدًا، ومكان المبيت واحدًا، ومكان الشرب واحدًا، والفحل واحدًا، فهذا فيه توفير من عدة جوانب، فيُختار مكان واحد لتبيت فيه، ومكان واحد لتشرب فيه، وراعٍ واحد ليرعى به أيضًا؛ فهذا فيه توفير للاثنين، وفيه مصلحة، ولا نقول إن الحكمة من الخلطة منتفية، بل الفائدة متحققة، والقصد بذلك التوفير، أفضل من أن يكون لهذا راع، ولهذا راع، ويكون لهذا مكان للمبيت، ولهذا مكان للمبيت، ولهذا مكان للشرب، وللآخر مكان للشرب، ولهذا أيضًا فحل، ولذاك فحل؛ فيكتفي بشيء واحد لكلِّ واحد منهما، فيحصل التوفير في ذلك.

* قوله: (وَالشَّافِعِيُّ كَأَنَّهُ شَبَّهَ الشَّرِكَةَ بِالْخُلْطَةِ، وَلَكِنَّ تَأْثِيرَ الْخُلْطَةِ فِي الزَّكَاةِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ).

أصل الكلام هنا إنما هو في الخلطة، يعني: الخلطة بين شيئين.

ص: 3296

([الْمَسْأَلَةٌ الخَامِسَةٌ])[اختلافهم في اعتبار النصاب في المعدن]

* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ - وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي الْمَعْدِنِ).

هذه المسألة مهمَّة، ونحن عندما تكلمنا عن زكاة النقدين؛ الذهب والفضة، لم نفصل القول فيها؛ لأن أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة أربعة، فهناك المعادن وهي (ما يُخرج من الأرض)، وهناك أيضًا الحبوب والثمار، أو الزروع والثمار بتعبير آخر، وهناك السائمة، يعني: بهيمة الأنعام بشرط أن تكون سائمةً، وهناك عروض التجارة.

هذه أنواع أربعة إذا بلغ كلُّ واحد منها نصابًا وجبت فيه الزكاة، يعني: لكلِّ واحد منها نصاب معين؛ فالنقدان لهما نصاب، وكذلك ما يُخرج من الأرض من زروع وثمار، وكذلك أيضًا عروض التجارة تقوم ويخرج ربع العشر من قيمتها؛ وهكذا الحال بالنسبة للمعادن؛ فالمعادن أشمل من كلمة ذهب وفضة؛ لأنه عندما يطلق المعدن يتوسع الأمر في ذلك، فالمؤلف بدأ في زكاة النقدين، ثم عاد فبين المسائل المتعلقة بالمعادن.

والمعادن جمع معدن، يقال: عدن يعدن بالمكان إذا أقام به، فالمقصود بالمعادن: وجودها في مكان معين كأنها مقيمة فيه؛ ومن هنا سميت الجنة جنة عدن؛ لأنها دار إقامة وخلود، "يا أهل الجنة خلود ولا موت"، فالذي يدخل جنة نعيم -ونسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن نكون جميعًا من أهلها- فإنه سيبقى فيها خالدًا، ولا يموت فيها.

فـ "عدن" يعني: المكان المقيم، والمعادن كما يعرفها العلماء: ما خرج من الأرض مما يُخلق فيها من غير جنسها.

ص: 3297

والآن نوضح هذه العبارة: هذه المعادن كالذهب، وكذلك الفضة، والحديد، والنحاس، والصفر، والرصاص، والنفط (الآن)، والكبريت، والعقيق، وهي أنواع كثيرة جدًّا، وقد تنوعت في عصرنا هذا، وأصبحت معروفة أكثر من ذي قبل، وإن كان كثير منها أيضًا معروفًا فيما مضى؛ وتكلَّم الفقهاء حتى عن النفط، وعن الكبريت، وقسموا هذه المعادن إلى سائلة وغير سائلة، لكن المعادن كثيرة.

فأصل هذه المعادن ما يخرج من الأرض؛ سواء كان ذهبًا، أو فضةً، أو حديدًا، أو نحاسًا، أو رصاصًا، أو غير ذلك مما يُخلق فيها.

وقد جاء في حديث أنه سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الركاز، فقال:"الركاز ما كان من الذهب والفضة"، قيل: ما الركاز؟ قال: "الذهب والفضة مخلوقان في الأرض يوم خلق اللَّه السموات والأرض"، وهذا الحديث فيه كلام لبعض العلماء، وجاء في حديث آخر متفق عليه:"وفي الركاز الخمس".

هل الركاز ما وجد بعد الكفار من دفن الجاهلية؟ هذا فيه خلاف بين الجمهور وبين الحنفية، لكن المراد هنا ما يخرج من الأرض مما يُخلق فيها، يعني: ليس داخلًا فيها، وإنما هو موجود في الأرض، لكنه ليس من جنسها، فقيده العلماء، فبعضهم قال: من غيرها، وبعضهم دقق أكثر فقال: من غير جنسها، فالذهب ليس من جنس التراب، والحديد ليس من جنس الحجارة، إذن هي مختلفة، فهذا هو المعدن، فالمعدن إذا أطلق فهو أشمل من الذهب والفضة، فما تكلمنا عنه فيما مضى هو الذهب والفضة، وزكاتهما معروفة.

يبقى بعد ذلك وهو: هل هناك زكاة في بقية المعادن أو لا زكاة فيها؟

لو أن إنسانًا استخرج حديدًا أو نحاسًا، أو صُفرًا، أو رصاصًا، أو عقيقًا، أو غير ذلك من الأشياء المتعلقة بالمعدن، هل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟ اختلف العلماء في ذلك:

ص: 3298

فمنهم من قال: زكاة المعادن مقصورة على نوعين؛ الذهب والفضة فقط.

ومنهم من قال: تجب الزكاة في النقدين في (الذهب والفضة)، وفي ما ينطبع أيضًا من المعادن.

ومعنى ينطبع، يعني: ما يمكن صياغته، فأنت تأتي بقطعة حديد، فتصوغ منها سيفًا، وتأتي بقطعة نحاس، فتصوغ منها آلة من الآلات، فمعنى ينطبع: يُصاغ أو يعمل، وهذا هو مذهب الحنفية، دون دخول في التفصيل.

ومالك والشافعي يريان أن زكاة المعادن مقصورة على نوعين؛ الذهب والفضة؛ أي: أن الزكاة لا تجب إلا فى الذهب وفى الفضة؛ وعند الحنابلة تجب الزكاة في كلِّ أنواع المعادن.

والحنفية فصلوا القول في ذلك، فوافقوا الحنابلة في كثير مما قالوا، لكنهم قيدوا ما عدا الذهب والفضة بأن يكون منطبعًا، وبذلك تكون الأقوال ثلاثة:

- أضيقها قول المالكية والشافعية، وهو أن الزكاة لا تجب إلا في الذهب والفضة.

- أوسعها مذهب الحنابلة في المشهور عنهم: أن الزكاة تجب في كلِّ معدن مما يخرج من الأرض من غير جنسها.

- الحنفية وافقوا الحنابلة لكنهم قيَّدوا ما عدا الذهب والفضة بما ينطبع منها؛ أي: ما يصاغ؛ أي: أن يكون صالحًا أن يصاغ منه غيره.

هذا من حيث الجملة، فلماذا اختلف الفقهاء في هذه المسألة؟

المؤلف في الحقيقة لم يوفِّ المسألة حقَّها، ولم يبيِّنها، فلننظر إلى ما فيه، ولنحاول أيضًا أن نبيِّن، أو أن نضيف إلى ما ذكرنا.

ثم هذه المسألة بعد ذلك يختلف العلماء فيها: هل هذه أيضًا تسمى

ص: 3299

زكاةً إذا وجدت أو فَيْئًا؟ يعني: هل هي تدخل في مصارف الزكاة، أو في مصارف الفَيْء، ومتى تجب؟ هل مجرد أن يجدها الإنسان يخرج زكاتها كالركاز؟ وهل هذه المعادن تضم إلى الركاز مطلقًا أو أنها منفصلة؟

الحنفية يرون أنها جزء من الركاز، والحنابلة يخالفونهم ويفرقون بينهما، فالمسألة فيها خلاف مشهور ومتنوع.

* قوله: (وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ-: فَإِنَّ مَالِكًا

(1)

وَالشَّافِعِيَّ

(2)

رَاعَيَا النِّصَابَ فِي الْمَعْدِنِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَشْتَرِطِ الحَوْلَ

(3)

، وَاشْتَرَطَهُ الشَّافِعِيُّ

(4)

).

المؤلف هنا دخل في مسألة أخرى، يعني: الأئمة كلُّهم متَّفقون على أنه يجب في النقدين (ربع العشر)، لكن هل يشترط الحول أو لا يشترط؟

أكثر العلماء اشترطوا الحول، وبعضهم لم يشترط الحول، لكن بالنسبة لغير الذهب والفضة هل يشترط الحول؟ هذا هو الذي يجب أن نتكلم فيه.

(1)

يُنظر: "التهذيب في اختصار المدونة"(1/ 435)؛ حيث قال: "ولا زكاة فيما يخرج من المعدن من ذهب أو فضة حتى يبلغ وزنه ما تجب فيه الزكاة فيزكيه".

(2)

يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 298)؛ حيث قال: "إذا استخرج حر مسلم من معدن في موات أوفي أرض يملكها نصابًا من الذهب أو الفضة وجب عليه الزكاة".

(3)

يُنظر: "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس" لابن الجلاب (1/ 142)؛ حيث قال: "وفي معادن الذهب والورق الزكاة إذأ بلغ ذلك نصابًا، وكان نيله متصلًا؛ فيزكي عند أخذه ولا ينتظر به حولًا بعده".

(4)

يُنظر: "المهذب في فقة الإمام الشافعي" للشيرازي (1/ 298)؛ حيث قال: "ويجب حق المعدن بالوجود ولا يعتبر فيه الحول في أظهر القولين؛ لأن الحول يراد لتكامل النماء وبالوجود يصل إلى النماء فلو يعتبر فيه الحول كالعشر، وقال في البويطي: لا يجب حتى يحول عليه الحول؛ لأنه زكاة في مال تتكرر فيه الزكاة فاعتبر فيها الحول كسائر الزكوات".

ص: 3300

حصل خلاف بين العلماء في هذا أيضًا، فبعضهم اشترط الحول، وبعضهم لم يشترط الحول، والذين قالوا بعدم اشتراط الحول، قالوا: إن هذا بمثابة الركاز؛ فالإنسان عندما يجد دخلًا يحصل عليه، لا يحتاج لأن يحول عليه الحول، وقاسوا ذلك على الزروع والثمار، فهي لا تحتاج إلى حول، قالوا: وهذه أيضًا لا يلحق الإنسان بها مشقة ولا عناء، فهو أخرجها من الأرض، فهو بمجرد أن يقف عليها تجب فيها الزكاة.

ومن قالوا: لا زكاة فيها هناك فإن ثمَّة أدلَّة يستدلون بها، فالذين قالوا مثلًا هي ركاز يستدلون بحديث:"ما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس" فالحنفية يرون أن ما يوجد من المعادن من غير الذهب والفضة فيه الخمس.

والحنابلة يرون أنه يجب فيه ربع العشر، فهم يرونه زكاةً، وأولئك يرونه من الفيء.

كذلك اشترط الحنابلة الحول بالنسبة للذهب والفضة كما هو معلوم.

فإذا كان قصده الحول بالنسبة للنقدين فنَعم، وإلا فلا، وإذا كان يقصد حولان الحول بالنسبة لبقية المعادن، فالحنابلة لا يشترطون أيضًا فيها حولًا.

* قوله: (عَلَى مَا سَنَقُولُ بَعْدُ فِي الْجُمْلَةِ الرَّابِعَةِ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمَا إِنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا يُخْرَجُ مِنْهُ هُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ).

يعني: ما يُخرج منهما هو ربع العشر، لكنه -يعني: المعدن الذي يخرج من الأرض عند المالكية والشافعية- خصوه بالنقدين، فما يخرج من الأرض من نقدين من ذهب أو فضة، يجب فيه ربع العشر، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة، لكنَّهم لا يوافقون الحنفية والحنابلة فيما يتعلق ببقية المعادن.

ص: 3301

* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَرَ فِيهِ نِصَابًا وَلَا حَوْلًا، وَقَالَ: "الْوَاجِبُ هُوَ الْخُمُسُ").

لأن أبا حنيفة اعتبره من الركاز، وقد أوردت فيما سبق دليلين، والحنابلة قالوا: يجب فيه ربع العشر، وصفته أنه زكاة، وليس ركازًا، ولا من الفيء، وإنما هو قدر من المال، يعني: قدرًا من المعادن استخرجه الإنسان، فتجب فيه الزكاة.

ولذلك نجد أن الحنابلة يقولون: لو أن إنسانا غنم شيئًا من المعادن، ألا تجب عليه فيها الزكاة؟ فيُقال: نعم، فيقولون: ما الفرق بين ما يغنمه الإنسان فتجب فيه الزكاة، وبين ما يخرجه من الأرض فيُقال: لا تجب فيه الزكاة؟ لا نرى بينهما فرقًا.

يعني: لو أن إنسانًا غَنِم معدنًا من المعادن غير النقدين، قالوا: تجب فيه الزكاة، فكذلك هنا تجب فيه الزكاة.

وهذا الكلام فيما لم يعد للتجارة، أمَّا إذا أعدَّ الحديد وغيره للتجارة فأيَّ نوع أعدَّ للتجارة فإن الزكاة تجب فيه، وهذا أمر معروف، وكلامنا الآن عن وجوب الزكاة في أصله فيما لا يعدُّ للتجارة، كما لو حفر إنسان في منطقة ما فوجد فيها حديدًا، أو وجد فيها رصاصًا، أو غير ذلك، وبلغت قيمته النصاب، ففي هذه الحالة عند بعض العلماء يزكى، وعند بعضهم لا يزكى؛ أيضًا نجد أن العلماء في هذه المناسبة يختلفون فيما يُخرج من البحر، يعني: ما يخرج من البحر قد تكون له أثمان، وأثمانه قد تكون مرتفعةً وغاليةً؛ كاللؤلؤ والمرجان، وكذلك العطبة، فهل تجب فيه زكاة؟ أو لا تجب فيه زكاة؟

أكثر العلماء -جماهير العلماء- يرون أنه لا زكاة فيما يخرج من البحر من أيِّ نوع كان، وبعض العلماء يوجب الزكاة في اللؤلؤ والمرجان والعطبة، والذين يقولون من أهل العلم بأنه لا زكاة في ذلك يستدلون بحديث:"ليس في العنبر زكاة"، والعنبر ما يُخرج من البحر.

ص: 3302

والذين يوجبون الزكاة من العلماء يستدلُّون بما أُثر عن عبد اللَّه بن عباس في ذلك "إن في العنبر الزكاة"، وأيضًا نُقل عن عبد اللَّه بن عباس أنه "لا زكاة في العنبر"، ونقل عن عمر ابن عبد العزيز أنه لا زكاة فيه، ونقل أنه أخذ الخمس.

"ليس في العنبر زكاة"، هذا جاء عن عبد اللَّه بن عباس، ومعنى هذا: أنه ليس فيه زكاة.

وهناك مَن قال من أهل العلم: فيه الزكاة؛ لأن عمر بن عبد العزيز أخذ الخمس فيه، مع أنه صح عن عمر بن عبد العزيز أنه قال:"لا زكاة في العنبر".

فالذين قالوا من أهل العلم بوجوب الزكاة فيه، قالوا: هو مقيس على ما هو في البَرِّ، والذين قالوا: لا زكاة فيه، قالو: لأن هذا شيء لفظه البحر، فلم تلحق الإنسان مشقة فيه، فلا يزكى؛ ففرقوا بين ما هو في البر وما هو في البحر، أمَّا ما يخرجه الإنسان من المعادن، فإنه تلحقه مشقة كبيرة في إخراجه، ففرقوا بينهما.

* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ: هَلِ اسْمُ الرِّكَازِ يَتَنَاوَلُ الْمَعْدِنَ أَمْ لَا يَتَنَاوَلُهُ؟).

هذا يرجع إلى تعريف الركاز، هل هو ما وجد من دفن المشركين؟ أو هل الركاز يشمل أكثر من ذلك، فيشمل كُلَّ ما أُخرِج من الأرض؟

الحنفية يقولون: هو شامل، فكلُّ ما أُخرِج من الأرض يدخل في الركاز، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال:"وفي الركاز الخمس" جاء في رواية أنه سئل عن الركاز فقال: "الذهب والفضة مخلوقان في الأرض، عندما خلق اللَّه السموات والأرض". لكن هذا الحديث فيه كلام للعلماء، ولو صحَّ هذا الحديث لكان صريحًا في هذا المقام.

هل الركاز ما وُجِد من دفن الجاهلية؟ يعني: ما وجد من أقوام مشركين؟ أو هو كل ما يوجد في الأرض مما يخرج منها؟

ص: 3303

الحنفيه يرون أنَّ كلَّ ما يخرج من الأرض من معادن فهو ركاز؛ وغيرهم يخالفهم في ذلك.

* قوله: (لِأَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ"

(1)

).

نقول إنَّ الركاز نوع من المعدن، ولا يشمل كل أنواع المعادن؛ لأن الركاز شيء مدفون، أما ذاك فموجود أصلًا في الأرض، ومتخلق فيها، وقد يكون هذا الركاز هو أصلًا مخرج من الأرض لكنَّه دفن فيها، أما ذاك فغير مدفون، بل يستخرج منها، ففرق بينهما؛ هذا وجد مدفونًا، وذاك استخرج من الأرض أصلًا.

* قوله: (وَرَوَى أَشْهَبُ

(2)

عَنْ مَالِكٍ).

(1)

أخرجه البخاري (1499)، ومسلم (1710).

(2)

يُنظر: "المدونة"(1/ 337)؛ حيث فيها: "قلت: أرأيت معادن الذهب والفضة أيؤخذ منها الزكاة؟ فقال: قال مالك: نعم. قال: وقال مالك في المعادن: ما نيل منها بعمل ففيه الزكاة، فقيل له: فالندرة توجد في المعادن من غير كبير عمل؟ قال: أرى فيها الخمس، فقيل له: إنه قد تكلف فيها عمل؟ قال: ودفن الجاهلية يتكلف فيه عمل؛ فإذا كان العمل خفيفًا ثم وجد هذا الذي وصفت لك من الندرة وهي القطعة التي تندر من الذهب والفضة، فإني أرى فيها الخمس ولا أرى فيها الزكاة. قال: وقال مالك: وما نيل من المعدن بعمل يتكلف فيه، وكانت فيه المؤنة حتى أصاب مثل الذي وصفت لك من الندرة فإنما فيه الزكاة. قال: وقال مالك: ما نيل من المعدن مما لا يتكلف فيه عمل أو تكلف فيه عمل يسير فأصيب فيه مثل هذه الندرة، ففيه الخمس وما تكلف فيه العمل والمؤنة والطلب ففيه الزكاة. قال أشهب، وقال في المعدن: يوجد فيه الذهب النابت لا عمل فيه، فقال لي: كلما كان من المعادن ففيها الزكاة، إلا ما لم يتكلف فيها من المؤنة ففيها الخمس، فكذلك ما وجد فيه من الذهب نابتًا لا عمل فيه يكون ركازًا ففيه الخمس. قلت: أرأيت المعادن تظهر في أرض العرب؟ فقال: ما زالت المعادن تظهر في أرض العرب ويعمل فيها الناس. وتكون زكاتها للسلطان، وقد ظهرت معادن كثيرة بعد الإسلام فما رأيت ذلك عند مالك يختلف وما كان منها في الجاهلية، قال: ولو اختلف ذلك عند مالك في أرض العرب أو عند أحد منهم لعلمنا ذلك من قوله إن شاء اللَّه، وما شأن ما ظهر =

ص: 3304

أشهب من أصحاب الإمام مالك.

* قوله: (أَنَّ الْمَعْدِنَ الَّذِي يُوجَدُ بِغَيْرِ عَمَلٍ أَنَّهُ رِكَازٌ وَفِيهِ الْخُمسُ).

هذا أيضًا تعليل جيِّد، وقصده هنا أن المعدن الذي يوجد بغير عناء، فيوجد مدفونًا، فهذا فيه الخمس؛ لأنه لا عناء فيه، أما أن يستخرج المعدن من الأرض، وتلحق الإنسان مشقة في استخراجه وفي تصفيته، فهذا في الحقيقة يختلف عما يوجد صافيًا نقيًّا مهيَّأً مدفونًا.

* قوله: (فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَهُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا).

يعني: ما يدل عليه اللفظ.

قال المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى-:

‌(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي نِصَابِ

(1)

الْإِبِلِ وَالْوَاجِبِ فِيهِ).

(وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةً)

(2)

.

= في الجاهلية وما ظهر في الإسلام إلا شأن واحدة. قال: وبلغني عن مالك، أنه سئل عن معادن البربر التي ظهرت في أرضهم؟ فقال: أرى ذلك للسلطان يليها ويقطع بها لمن يليها ويأخذ منها الزكاة".

(1)

النصاب من المال: القدر الذي تجب فيه الزكاة إذا بلغه، نحو مائتي درهم، وخمس من الإبل. انظر:"الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" للجوهري (1/ 225).

(2)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 45)، وانظر:"الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 203).

ص: 3305

ودليل هذا الإجماع سنة رسول صلى الله عليه وسلم التي منها حديث: " (ليس فيما دون خمس ذود

(1)

من الإبل صدقة)

(2)

"، والذود يطلق ويراد به: ما بين الثلاثة إلى الخمسة؛ والمراد هنا (الخمس)، وجاء في حديث الصدقة الذي في صحيح البخاري

(3)

وغيره

(4)

: " (في كل خمس شاة) "، وجاء في بعض تفاصيل الحديث:" (وليس فيما دون ذلك شيءُ) "

(5)

.

فالإجماع -استنادًا إلى هذه الأحاديث الصحيحة- قائمٌ على أنه لا زكاة فيما دون خمسٍ من الإبل؛ ولكن لو أراد صاحب الإبل أن يتصدق بشيءٍ فإنَّ له ذلك.

* قوله: (إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ).

إذا جئنا إلى عمدة الأحكام المتعلقة بزكاة الإبل وهي -كما ذكر المؤلف- مجمع عليها من حيث الوصول، إلا أن هناك خلافًا في مسائل جزئية تتخللها؛ فحديث الصدقة الذي جاء هو الكتاب الذي أرسله أبو بكر إلى أنس بن مالك رضي الله عنهما عندما وجهه إلى البحرين، وجاء فيه:

"بسم اللَّه الرحمن الرحيم"

(6)

وكل كلام لا يبدأ فيه بحمد اللَّه

(7)

، وفي روايات أخرى: بـ (بسم اللَّه)

(8)

، فهو أبتر ممحوق البوكة، وهذا

(1)

الذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها، والكثير أذواد. انظر:"الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" للجوهري (2/ 471)، و"العين" للخليل بن أحمد (8/ 55).

(2)

أخرجه البخاري (1459)، ومسلم (980).

(3)

صحيح البخاري (1454).

(4)

كموطأ مالك (23).

(5)

قال المتقي الهندي في "كنز العمال"(6/ 558 رقم 16929): رواه ابن جرير وصحَّحه.

(6)

أخرجه البخاري (1454).

(7)

أخرجه أبو داود (4840) وضعَّفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود.

(8)

أخرجه عبد القادر الرهاوي في "الأربعين"، وقال السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (1/ 12): =

ص: 3306

الكتاب بدئ فيه بـ "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" وكثيرًا ما نجد كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكتب خلفائه والأئمة وغيرهم

(1)

، تبدأ فيها بـ "الحمد للَّه" أو بـ "بسم اللَّه الرحمن الرحيم".

وبعد البسملة جاء في الكتاب:

"هذه فريضة الصدقة، التي فرضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر اللَّه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فمن سألها على وجهها من المسلمين فليعطها؛ ومن سأل فوقها فلا يعط" أو "لم يعط".

هذه هي فريضة الصدقة، والمراد بالفريضة: الفريضة المقدرة، والمراد بالصدقة: الزكاة المفروضة التي فرضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين أي: قدرها، وهي مبينة في هذا الكتاب، ومعنى (من سألها) أي: من طُلبت منه الزكاة من المسلمين على وجهها دون أن يكون في ذلك تعدٍّ أو ظلم فليس على الإنسان إلا أن يستجيب؛ لأنَّ المؤمنين إذا

= رواه مبشر بن إسماعيل عن الأوزاعي عن الزهري وقال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم أقطع" وذلك فيما أنبأناه الحافظ الكبير شيخنا أبو الحجاج القضاعي قال: أخبرنا أبو عبد اللَّه أحمد بن حمدان بن شبيب الحراني سماعا عليه أخبرنا عبد القادر بن عبد اللَّه الحافظ قال: حدثنا محمد ابن حمزة بن محمد القرشي بدمشق أخبرنا هبة اللَّه بن أحمد بن محمد الأكفاني أخبرنا أحمد بن علي الحافظ أخبرنا محمد بن علي بن مخلد الوراق ومحمد بن عبد العزيز بن جعفر البردعي قالا: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران حدثنا محمد ابن صالح البصري بها حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي حدثنا مبشر بن إسماعيل عن الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم فهو أقطع".

(1)

مثل كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لهرقل، حيث أخرج الترمذي في سننه (2717) عن ابن عباس، أنه أخبره أن أبا سفيان بن حرب، أخبره أنَّ هرقل أرسل إليه في نفر من قريش، وكانوا تجارًا بالشام فأتوه فذكر الحديث قال: ثم دعا بكتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقرئ، فإذا فيه "بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد عبد اللَّه ورسوله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد"، وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن الترمذي".

ص: 3307

دعوا إلى اللَّه ورسوله قالوا سمعنا وأطعنا، أمَّا "من سأل فوقها فلا يعط"؛ أي: لا يدفع ما زاد على النصاب ثم قال بعد ذلك: " (في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة) ". وهذا نصٌّ، ثم شرع بعد هذا يبيِّن بقية الأنصبة.

والإبل التي تجب فيها الزكاة، هي الإبل السائمة

(1)

كما أشرنا في مقدمة كتاب الزكاة، والسائمة مشتقٌّ من سامت - تسوم إذا رعت، فالسائمة إذن هي: الراعية، أما إذا كانت الإبل معلوفة، أو ناضحة

(2)

تعمل لصاحبها، فيستخدمها في السقيا أو غير ذلك، فهذه لا زكاة فيها، إلا أن يعدها للتجارة؛ فإنْ أعدها للتجارة فتجب فيها زكاة التجارة المعروفة، وخالف الإمام مالك

(3)

في هذا فرأى وجوب الزكاة في السائمة وغير السائمة؛ أي: يرى الزكاة في المعلوفة والناضحة أيضًا.

والخلاف في هذا القيد -الوصف-: (في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون) وهو نصٌّ بلا شك، ولكنَّ العلماء اختلفوا في كون هذا الوصف (سائمة) مرادًا أو غير مراد.

فذهب جمهور العلماء

(4)

إلى أنه مراد، وورد مثل ذلك في الغنم:

(1)

الإِبِل السَّائِمَة، أَي الراعية، وسامَ الرجل ماشيتَه يسومها سَوْمًا، إِذا رعاها، فالماشية سَائِمَة وَالرجل مُسِيم" انظر:"جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 862).

(2)

الإبل الناضحة: هي التي يستقى عليها، والناضح: البعير يستقى عليه، والأنثى ناضحة وسانية. والنضاح: الذي ينضح على البعير؛ أي: يسوق السانية ويسقي نخلًا، وهذه نخل تنضح؛ أي: تسقى. انظر: "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" للجوهري (1/ 411).

(3)

يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 592) حيث قال: "أو كانت عاملة في حرثٍ أو حمل فتجب فيها، أو كانت معلوفة، ولو في جميع العام فتجب فيها كما لو كانت سائمة".

(4)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 181) حيث قال: "ليس في أقل من أربعين من الغنم السائمة صدقة". =

ص: 3308

" (في سائمة الغنم الزكاة)

(1)

" فألحق البقر بها؛ لأنه لم يرد نص في كونها سائمة أو غير سائمة؛ ولكنَّ المعروف والمشهور أنَّ التي تسوم وترعى في الخارج أكثر، إنما هي الإبل والغنم، فجاء النص فيها.

إذًا الإبل السائمة هي التي تجب فيها الزكاة؛ فإذا بلغت خمسًا، ففيها شاة؛ فإذا بلغت عشرًا، ففيها شاتان؛ إلى خمس عشرة ففيها ثلاث شياة؛ إلى عشرين، أربع شياه؛ إلى أربع وعشرين؛ فإذا بلغت خمسًا وعشرين، تغير الفرض، وأخذ من نوعها، وهذا من لطف اللَّه سبحانه وتعالى بعباده، وتخفيفه على أصحاب الأموال؛ لأنه لو أخذ من الإبل الخمس واحدة من نوعها نقصت وتضرر صاحبها، بخلاف لو أخذ من خمس وعشرين واحدة من نوعها؛ فالشريعة لا تلقي شططًا

(2)

على المالك، ولا على الفقير، بل

= ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب في شرح روض الطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 354) حيث قال: "الشرط الخامس السوم؛ لما مرَّ في خبر أنسٍ من التقييد بسائمة الغنم وقيس بها الإبل والبقر".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" للرحيباني (2/ 29) حيث قال: "وخرج بالسائمة المعلوفة، فلا زكاة فيها".

(1)

أخرجه البخاري (1454)، وقال ابن الملقن في "البدر المنير" (5/ 459):"هذا الحديث صحيح" رواه البخاري بمعناه، ولفظه:"وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة. . . " الحديث بطوله كما سلف في الباب قبله من حديث أنس رضي الله عنه. وقد ذكره الرافعي إثر هذا من هذه الطريق. ورواه أبو داود بلفظ: "في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة". وفي حديث عمرو بن حزم: "في كل أربعين شاة سائمة شاة". رواه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، وغيره، وسيأتي بطوله في الديات إن شاء اللَّه تعالى.

قال ابن الصلاح في كلامه على "الوسيط": (هذا الحديث -يعني باللفظ الذي ذكره المصنف- موجود معناه في صحيح البخاري، وأحسب أنَّ قول الفقهاء والأصوليين: "في سائمة الغنم الزكاة" أختصار منهم للمفصل في لفظ الحديث من مقادير الزكاة المختلفة باختلاف النصب).

(2)

الشطط: مجاوزة القدر في كل شيء، يقال: أعطيته ثمنًا لا وكسًا ولا شططًا، وأشط الرجل إشطاطًا " أي: جار في قضيته. انظر: "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي (6/ 212).

ص: 3309

تراعي الجانبين فتؤتي كل ذي حقٍّ حقه، فراعت المالك في القليل فأمرته بالشاة والشاتين وبالأربع شياه، كما راعت الفقير والمسكين حين كثرت الإبل وبلغت خمسًا وعشرين فأعطته بنت مخاض

(1)

وهي التي بلغت من الإبل سنة ودخلت في الثانية، وسميت (بنت مخاض)؛ لأنَّ أمها حامل؛ فالمخاض في الغالب هو الحمل، قال تعالى:{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 23].

ذلك أنَّ الشريعة قامت على أصولٍ وأسس في مقدمتها العدالة التي منها مراعاة حق الغني والفقير، فلم ترهق الغني أكثر مما يستطيع؛ ولم تضيِّع حق الفقير، فجاءت الشريعة وسطًا، وجاءت هذه الأمة وسطا، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. فهي شريعة كاملةٌ تامةٌ من لدن حكيم عليم، وهي باقية إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها.

* قوله: (فَإِذَا كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ).

إذا صارت الإبل خمسًا وعشرين، فبنت مخاض؛ وهي التي أكملت سنة ودخلت في الثانية؛ وسميت بنت مخاض، نسبة إلى أمها الحامل.

* قوله: (فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ

(2)

ذَكَرٌ).

وهذا قد ورد أيضًا في حديث الصدقة؛ أي: إن لم توجد بنت مخاض، فيؤخذ بدلًا عنها ابن لبون ذكر.

(1)

يُقال للفصيل إذا لقحت أمه: ابن مخاض، والأنثى: بنت مخاض، وجمعها: بنات مخاض. لا يثنى مخاض ولا يجمع؛ لأنهم إنما يريدون أنها مضافة إلى هذه السن الواحدة. وتدخله الألف واللام للتعريف، فيقال: ابن المخاض، وبنت المخاض. انظر:"المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (5/ 51).

(2)

سمي ابن لبون لأنَّ أمه كانت أرضعته السنة الأولى، ثم كانت من المخاض السنة الثانية، ثم وضعت في الثالثة فصار لها ابن، فهي لبون، وهو ابن لبون، والأنثى ابنة لبون. فلا يزال كذلك السنة الثالثة كلها. انظر:"غريب الحديث" للقاسم بن سلام (3/ 71).

ص: 3310

* قوله: (فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونِ).

وبنت لبون: هي التي أكملت سنتين ودخلت في الثالثة، ومن آثار دقَّة هذه الشريعة وحكمتها هنا، هذه المراعاة المتناهية في التقدير:

- ففي الخمس شاة تدرجًا إلى أربع وعشرين.

- وفي خمس وعشرين: انتقل الفرض إلى النوع فكان أكبر من الأول بنت مخاض لها سنة ودخلت في الثانية، وإن لم توجد فابن لبون ذكر.

- وفي ست وثلاثين: انتقل الفرض إلى ما هو أكبر من الثاني بنت لبون، لها سنتان، ودخلت في الثالثة.

وسميت بنت لبون: لأنَّ أمها قد وضعت حملها وأصبحت مرضعة فلها لبن؛ هذا معنى (بنت لبون).

- وفي ست وأربعين: ينتقل إلى أكبر فيكون فيها حِقَّة

(1)

وهي التي دخلت في الرابعة.

- وفي واحد ستين: جذعة

(2)

وهي: التي دخلت في الخامسة، وهكذا. . . .

(1)

الحِق من أولاد الإبل: الذي بلغ أن يرُكب ويُحمل عليه ويُضرب، عني أن يضرب: الناقة بين الإحقاق والاستحقاق. وقيل: إذأ بلغت أمه أوان الحمل من العام المقبل فهو حق، بين الحقة وقيل: إذا بلغ هو وأخته أن يحمل عليهما فهو حق، وقيل: الحق: الذي استكمل ثلاث السنين ودخل في الرابعة. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (2/ 475).

(2)

الجذع قبل الثني، والجمع جذعان وجذاع، والأنثى جذعة، والجمع جذعات. تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللإبل في السنة الخامسة: أجذع. والجذع: اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط. انظر: "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" للجوهري (3/ 1194).

ص: 3311

* قوله: (فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونِ ذَكَرٌ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ إِلَى سِتِّينَ).

فإلى خمس وأربعين يبقى الحال كما كان بنت لبون؛ فإذا وصلت إلى ست وأربعين، انتقلنا إلى فرض آخر، فيجب فيها حقة؛ وهي التي أكملت ثلاث سنوات، ودخلت في الرابعة، وسميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل

(1)

.

* قوله: (فَإِذَا كَانَتْ وَاحِدًا وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ).

والجذعة: هي التي بلغت أربع سنوات ودخلت في الخامسة، وسميت بذلك لأنها أصبحت تجذع أسنانها؛ أي: في أسنانها جذع.

يقول الفقهاء

(2)

: وله أن يخرج ثنية

(3)

بدلًا عنها، وهي: التي أكملت خمس سنين، ودخلت في السادسة.

(1)

طرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا: ضربها. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (6/ 270).

(2)

مذهب الشافعية، يُنظر:"الغرر البهية" لزكريا الأنصاري (2/ 130) حيث قال: "فيها جذعة وهي ما تمَّ لها أربع سنين وسميت بذلك؛ لأنها جذعت مقدم أسنانها؛ أي: أسقطته وهي غاية أسنان الزكاة، ولو أخرج بدلها أو بدل الحقة ما يخرج عن نصاب فوق ذلك كبنتي لبون أو حقتين فالأصح في الروضة الإجزاء"، وقال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج (2/ 63):"والأصح وفي الروضة الصحيح أنه مخير بينهما؛ أي: الجذعة والثنية".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 186 - 187) حيث قال: "وتجزئ عنها ثنية لها خمس سنين بلا جبران سميت بذلك: لأنها ألقت ثنيتها"، وأنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 32).

(3)

الثنية من الغنم: هو ما دخل في السنة الثالثة، ومن البقر كذلك، ومن الإبل في السادسة، والذكر ثنى، وعلى مذهب أحمد بن حنبل: ما دخل من المعز في الثانية، ومن البقر في الثالثة. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 226).

ص: 3312

* قوله: (فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ).

فإذا كانت ستًا وسبعين ففيها بنتا لبون؛ لأن العدد بدأ يتضاعف، وكلما زاد العدد، زاد الفرض.

* قوله: (فَإِذَا كَانَتْ وَاحِدًا وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ).

ففيها حقتان لتضاعف العدد؛ وهاتان الحقتان تستمران إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة على هذا العدد -بأن كان مائةً وواحدًا وعشرين- فقد وقع خلاف

(1)

بين أهل العلم في كونه ينتقل إلى ثلاث بنات لبون أو ينتظر حتى يبلغ العدد إلى ثلاثين ومائة فيكون فيها حقة وبنتا لبون.

* قوله: (لِثُبُوتِ هَذَا كُلِّهِ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ).

وهو الكتاب الذي أشرنا إليه في بداية حديثنا، وورد أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتبه، ونفذه أبو بكر رضي الله عنه عندما بعث به إلى أنس بن مالك رضي الله عنه عندما بعثه إلى البحرين.

وورد أيضًا أنَّ لهذا الكتاب نسخة عند أهل عمر، وأنَّ الزهري تلقاها مشافهة عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهم أجمعين

(2)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 174) حيث قال: "إذا زادت على مائة وعشرين تستأنف الفريضة، فيكون في الخمس شاة مع الحقتين، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض".

ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(1/ 594) حيث قال: "وفي مائة وإحدى وعشرين إلى تسع وعشرين: إما حقتان، أو ثلاث بنات لبون الخيار في ذلك للساعي لا لرب المال عند وجود الأمرين أو فقدهما".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الغرر البهية في شرح البهجة الوردية"(2/ 130) حيث قال: " (عشرون مع واحدة بعد المائة فيها ثلاث للبون").

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 32) حيث قال: "وفي إحدى وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون".

(2)

أخرجه أبو داود (1568)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود.

ص: 3313

* قوله: (لِثُبُوتِ هَذَا كُلِّهِ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ).

وكتاب الصدقة صحيح فهو موجود في صحيح البخاري

(1)

، وعند أصحاب السنن

(2)

، وعند أحمد

(3)

، وعند غير هؤلاء

(4)

، وهو كتاب طويلٌ.

* قوله: (الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَمِلَ بِهِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَر، وَاخْتَلَفُوا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ).

وزكاة الإبل من خمس إلى مائة وعشرين محلُّ إجماع بين العلماء

(5)

(فإذا بلغت عشرين ومائة، ثم زادت واحدة)، هنا يبدأ الخلاف، فهناك خلاف بين العلماء في مسائل جزئية قليلة في زكاة الإبل، ذكر المؤلف أهمها:

* قوله: (مِنْهَا: فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ).

أي: من مواضع الخلاف في زكاة الإبل ما زادت على مائة وعشرين.

* قوله: (وَمِنْهَا: إِذَا عَدِمَ السِّنَّ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ السِّنُّ الَّذِي فَوْقَهُ أَوِ الَّذِي تَحْتَهُ مَا حُكْمُهُ؟).

انعدام السن الواجبة، كأن وجب على الإنسان أن يخرج بنت مخاض، فلم تكن عنده، ولكن عنده بنت لبون، وهي أغلى بلا شك؛

(1)

صحيح البخاري (1454).

(2)

أخرجه أبو داود (1568)، والترمذي (621)، والنسائي (2447)، وابن ماجه (1798).

(3)

مسند أحمد (4632).

(4)

أخرجه الحاكم (1443)، والدارمي (1666).

(5)

يُنظر: "مراتب الإجماع"(ص: 36) حيث قال: "واتفقوا على أنَّ في عشر من الإبل شاتين، وفي خمسة عشر كذلك ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي ست وثلاثين بنت لبون، وفي ست وأربعين حقة، وفي إحدى وستين جذعة، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين".

ص: 3314

لأنها ذات سنتين، وتلك لها سنة واحدة، أو يكون العكس فيكون وجب عليه بنت لبون ولكن عنده بنت مخاض، ففي الحالة الأولى يتضرر الغني، وفي الحالة الثانية يتضرر الفقير.

* قوله: (وَمِنْهَا: هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي صِغَارِ الْإِبِلِ؟ وَإنْ وَجَبَتْ فَمَا الْوَاجِبُ؟ وَعِنْدَهُ السِّنُّ الَّذِي فَوْقَهُ أَوِ الَّذِي تَحْتَهُ مَا حُكْمُهُ؟).

صغار الإبل، ورد في زكاتها خلاف أيضًا، فرأى وجوبها مطلقًا، ورأى آخرون عدم وجوبها، في حين ذهب آخرون إلى التفصيل.

يقول المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى-:

(فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأولَى - وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا زَادَ علَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ).

ما زاد على مائة وعشرين وقع الخلاف في عدة مسائل، فرأى بعض العلماء

(1)

أنها إذا زادت واحدة يجب فيها ثلاث بنات لبون، ويرى آخرون: إلا أن تصل إلى مائة وثلاثين فيكون فيها ابنة لبون وحقة.

وهناك من يرى أنَّ الفرض يستأنف، إذا بلغت مائة وعشرين وزادت واحدة أي: نعود للأول كما كان، وهذا هو مذهب أبي حنيفة

(2)

، ونُقِلَ عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه

(3)

.

(1)

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 63) حيث قال: "في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"الغرر البهية" لزكريا الأنصاري (2/ 130) حيث قال: "عشرون مع واحدة بعد المائة فيها ثلاث للبون"، وانظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 186).

(2)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 278) حيث قال: "وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، كذا كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ثم تستأنف الفريضة عندنا فيؤخذ في كل خمس شاة مع الحقتين".

(3)

يُنظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 377) وفيه: "عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنه =

ص: 3315

* قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا

(1)

قَالَ: إِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَاحِدَة، فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حِقَّتَيْنِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ).

فالإمام مالك خيّر الذي يُرسَل من قِبَلِ الوالي بين أمرين، إما أنْ يأخذ ثلاث بنات لبون، أو يأخذ حِقَّةً وبنتي لبون.

* قوله: (إِنْ شَاءَ أَخَذَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حِقَّتَيْنِ).

وهذه رواية عند الحنابلة

(2)

أيضًا أي: أنها إذا زادت عن المائة والعشرين واحدة يأخذ ثلاث بنات لبون، ولهم رواية أخرى

(3)

يتفقون فيها مع الشافعية إلى أن تصل مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، وهي إحدى الروايتين عن مالكٍ

(4)

.

= قال في فرائض الإبل: "إذا زادت على تسعين، ففيها حقتان إلى عشرين ومائة. فإذا بلغت العشرين ومائة، استقبلت الفريضة بالغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين، ففرائض الإبل، فإذا كثرت الإبل، ففي كل خمسين حقة". وروي ذلك أيضًا عن علي، يُنظر:"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 361) وفيه: "عن علي، قال: "إذا زادت على عشرين ومائة يستقبل بها الفريضة".

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 434) حيث قال: "وفي مائة وإحدى وعشرين إلى تسع وعشرين حقتان أو ثلاث بنات لبون الخيار للساعي إن وجدا أو فقدا، وتعين أحدهما إن وجد منفردًا للرفق".

(2)

يُنظر: "الغرر البهية" لزكريا الأنصاري (2/ 130) حيث قال: "عشرون مع واحدة بعد المائة فيها ثلاث للبون"، وانظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 186).

(3)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 52) حيث قال: "قوله: إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور، وقطع به كثير منهم: أنَّ الفرض يتغير بزيادة واحدة على عشرين ومائة، وعنه لا يتغير الفرض حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حق وبنتا لبون، اختاره أبو بكر عبد العزيز في كتاب الخلاف، وأبو بكر الآجري، فعليها: وجوب الحقتين إلى تسعة وعشرين ومائة".

(4)

يُنظر: "المدونة" لمالك (1/ 352) حيث قال: "إذا كانت الإبل ثلاثين ومائة ففيها حقة وابنتا لبون".

ص: 3316

* قوله: (وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حِقَّتَيْنِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ).

ولا خلاف بين الشافعية

(1)

والمالكية في البالغ ثلاثين ومائة التي ففيها حقة وابنتا لبون.

* قوله: (وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حِقَّتَيْنِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ).

لماذا يكون فيها حقة؟ لأنَّ الحقة عن خمسين، وابنتا لبون عن ثمانين، فإذا أضفت خمسين إلى ثمانين بلغت مائة وثلاثين، وفي هذا التقسيم دقة، وستسير الأنصبة على هذا النسق، عدا الحنفية الذين خالفوا في ذلك.

* قوله: (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِهِ، بلْ يَأْخُذُ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَمَانِينَ وَمِائَةً فَتَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ)

(2)

.

(3)

.

وَابْنُ الْقَاسِمِ هو من أشهر أصحاب مالك، وله اليد الطولى في مدونة الإمام مالك، فما لم يجب عنه الإمام مالك من المسائل كان ابن القاسم هو المجيب.

(1)

يُنظر: "الغرر البهية" لزكريا الأنصاري (2/ 130) حيث قال: "فواجب مائة وثلاثين بنتا لبون وحقة".

(2)

يُنظر: "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 340) حيث قال: "وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون".

(3)

يُنظر: "المدونة" لمالك (1/ 351) حيث قال: "ففي ثلاثين ومائة يتفق قول ابن شهاب ومالك ويختلفان فيما بين إحدى وعشرين ومائة إلى تسعة وعشرين ومائة؛ لأنَّ مالكًا يجعل المصدق مخيرًا إن شاء أخذ حقتين وإن شاء أخذ ثلاث بنات لبون وابن شهاب كان يقول: ليس المصدق مخيرًا ولكنه يأخذ ثلاث بنات لبون؛ لأنَّ فريضة الحقتين قد انقطعت. قال ابن القاسم: ورأي على قول ابن شهاب".

ص: 3317

وثلاث بنات لبون هذا عند المائة وواحد عشرين هو قول الحنابلة

(1)

، إلى أن تبلغ ثَلاثين وَمِائَةً.

وأما الرواية الأُخرى عن الإمام أحمد

(2)

فأكثر الفقهاء قالوا بهذا القول إلى أن تصل مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون.

* قوله: (وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُون مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: بَلْ يَأْخُذُ السَّاعِي حِقَّتَيْنِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ)

(3)

.

عبد الملك بن الماجشون هو من العلماء المشهورين في مذهب الإمام مالك.

* قوله: (وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: - أَبُو حَنِيفَةَ

(4)

وَأَصْحَابُهُ

(5)

وَالثَّوْرِيُّ)

(6)

.

(1)

يُنظر: "الغرر البهية" لزكريا الأنصاري (2/ 130) حيث قال: "عشرون مع واحدة بعد المائة فيها ثلاث للبون"، وانظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 186).

(2)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 402) حيث قال: "وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون".

(3)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (17/ 341) حيث قال: "والمغيرة وابن الماجشون يقولان: ليس فيهما إلا حقتين حتى تبلغ ثلاثين ومائة فيكون حقة وابنتا لبون".

(4)

يُنظر: "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 174) حيث قال: "إذا زادت على مائة وعشرين تستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة مع الحقتين".

(5)

يُنظر: "الأصل المعروف بالمبسوط" للشيباني (2/ 2) حيث قال: "قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد. . . فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا فليس في الزيادة شيء فإذا كانت خمسًا وعشرين ومائة ففي الخمس شاة".

(6)

يُنظر: "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب" للمنبجي (1/ 343) حيث قال: "قال إبراهيم النخعي: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة ردت إلى أول الفرض، فهذا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه من أكبر الصحابة وأعلمهم، ومن التابعين إبراهيم النخعي وسفيان الثوري يذهبون إلى ما ذهبنا إليه، وهم أهل علم وحديث كثير"، وانظر:"البناية شرح الهداية" للعيني (3/ 322).

ص: 3318

إذا أُطلِق الكوفيون فيأتي في مقدمتهم إبراهيم النخعي شيخ الإمام أبي حنيفة وكذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه.

* قوله: (إِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ عَادَتِ الْفَرِيضَةُ عَلَى أَوَّلهَا - وَمَعْنَى عَوْدهَا: أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ خَمْسِة ذود شَاةٌ).

نقول: إنَّ في الخمس بعد العشرين شاة، وفي الثلاثين شاتين، وفي الخمس والثلاثين ثلاث شياه، وفي الأربعين أربع شياه، إلى خمس وأربعين بنت مخاض، فإذا وصلت خمسين حينئذ فيها ثلاث حقق.

* قوله: (وَمَعْنَى عَوْدهَا: أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ خَمْسِة ذود شَاةٌ).

الذود: هو ما بين ثلاث إلى عشر، لكنَّ المقصود هنا بالنسبة للإبل هي الخمس.

* قوله: (فَإِذَا كَانَتِ الْإِبِلُ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ كَانَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاةٌ).

إذا كانت الإبل مائة وعشرين فزكاتها حقتان، أما إذا كانت مائة وخمسًا وعشرين وبطريقة الاستئناف أو العود على الأول فزكاتها حقتان وشاة، كما ورد في الأول.

على أنه ينبغي أن تكون الأوصاف المطلوبة في الإبل مطلوبة كذلك في ما يؤخذ من الشياة، بحيث تكون الشاة سمينةً كبيرة سليمةً كريمةً.

وقد أشار بعض أهل العلم

(1)

إلى أنَّ كلمة "الشاة" مقصودة بمعنى لو

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 173) حيث قال: "واعلم أنَّ الواجب في الإبل هو الإناث أو قيمتها".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل" للحجاوي (1/ 249) حيث قال: "فإن كانت الشاة من الضأن اعتبر أن يكون لها ستة أشهر فأكثر، وإن كانت من المعز فسنة فأكثر وتكون أنثى فلا يجزئ الذكر".

ص: 3319

أخرج من غيرها كالضأن لا يجزئ بينما، رأى بعض العلماء

(1)

بإجزاء غيرها معلِّلين أنَّ الشاة ذكرت للأغلبية، والقائلون بأنها مقصودة يقولون: إنها تلد ففيها ما ليس في الذكر.

* قوله: (الْحِقَّتَان لِلْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَالشَّاةُ: لِلْخَمْسِ-، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ).

هذا أيضًا لا يتبادر إلى الذهن أنَّ الحنفية ومن معهم قالوا ذلك تشهيًا ولم يستدلوا بدليل، لكن الموازنة بين دليلين، بين الحديث الذي أخذ به الجمهور وهو كتاب أبي بكر لأنس وهو في صحيح البخاري وغيره، وبين الحديث الآخر الذي اختلِف في صحته.

* قوله: (فَإِذَا كَانَتْ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّتَان وَثَلَاثُ شِيَاهٍ إِلَى أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، فَفِيهَا حِقَّتَان وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَان وَابْنَةُ مَخَاضٍ - الْحِقَّتَانِ: لِلْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ).

الحقتان على المائة والعشرين، فإذا فصلنا الخمسة وعشرين عن مائة وخمس وأربعين بقيت خمسة وعشرين وحدها ومائة وعشرون وحدها فكأنها الأولى التي وجبت فيها بنت مخاض، هذا هو قول هؤلاء.

* قوله: (وَابْنَةُ الْمَخَاضِ: لِلْخَمْسِ وَعِشْرِينَ - كَمَا كَانَتْ فِي الْفَرْضِ الْأَوَّلِ إِلَى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ).

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 594) حيث قال: "أما الإبل ففي كل خمس، منها ضائنة: أي: شاة من الضأن خلاف المعز، وتاؤه للوحدة لا للتأنيث فيشمل الذكر والأنثى".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" للرملي (3/ 48) حيث قال: "وهل الشاة المخرجة عن الإبل أصل أو بدل ظاهر كلام بعضهم الثاني والأصح الأول، كما في المخرجة عن الغنم، والأصح أنه يجزي الذكر؛ أي: الجذع من الضأن أو الأنثى من المعز".

ص: 3320

لا شكَّ أنَّ مذهب الجمهور أقوى وأيسر؛ لأن الحديث

(1)

نصَّ بعد أن وصل إلى مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، وقد يلتقي الفرضان معًا كما لو بلغت مائتين، فهو بالخيار بين أن يُخرج أربع حقق، وله أن يُخرج خمس بنات لبون؛ لأنَّ خمسًا في أربعين مائتين، وأربعة في خمسين مائتين، وهذا من التيسير.

* قوله: (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْخَمْسِينَ وَمِائَةٍ اسْتُقْبِلَ بِهَا الْفَرِيضَةُ الْأُولَى إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ، فَيَكُونُ فِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ).

أي: عاد واستأنف وهكذا، هذا هو مذهب هؤلاء، وهذا المذهب قد يكون فيه شيء من عدم الوضوح أو الصعوبة، لكنَّ مذهب الجمهور واضحٌ جدًّا، حدَّد لنا بعد المائة وعشرين في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حِقَّة، وهذا فيه يُسر وسهولة، وأيضًا يُفهم من غير تكلفٍ ومشقةٍ.

* قوله: (ثُمَّ يُسْتَقْبَلُ بِهَا الْفَرِيضَةُ، وَأَمَّا عَدَا الْكُوفِيِّينَ

(2)

مِنَ

الْفُقَهَاءِ

(3)

: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَالثَّلَاثِينَ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ).

(1)

أخرجه البخاري (1454).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 277) حيث قال: "وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، كذا كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، ثم تستأنف الفريضة عندنا، فيؤخذ في كل خمس شاة مع الحقتين ثم في كل مائة وخمس وأربعين بنت مخاض وحقتان، ثم في كل مائة وخمسين ثلاث حقاق، ثم تستأنف الفريضة بعد المائة والخمسين".

(3)

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(1/ 594) حيث قال: "ثم إنْ زادت على المائة والتسعة والعشرين في كل عشر يتغير الواجب فيجب في كل أربعين: بنت لبون. وفي كل خمسين حقة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 339) حيث قال: "ثم يستمر ذلك إلى مائة وثلاثين فيتغير الواجب في كل عشر ففي كل أربعين بنت =

ص: 3321

ويمكن أن يكون فيها خمس بنات لبون؛ لأنه على أساس أنه في كل أربعين بنت لبون.

"يستقبل بها الفريضة" يعني: يعود بها كما كانت، وهذا لا خلاف فيه، ويقصد بـ "وأما ما عدا الكوفيين" مالكًا والشافعي وأحمد، بل هو مذهب عامة العلماء.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي عَوْدَةِ الْفَرْضِ أَوْ لَا عَوْدَتِهِ، اختِلَافُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ).

عاد المؤلف رحمه الله ليُبين الخلاف، وانفراد الحنفية عن جمهور العلماء فقالوا باستئناف الفريضة بعد أن تتجاوز المائة والعشرين، وبعد أن تتجاوز المائة والخمسين، ولا شكَّ أنه مبني على دليل.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ).

وهو كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى أنسٍ عندما بعثه إلى البحرين، ونسخة منه كانت محفوظةً عند آل عمر بن الخطاب.

* قوله: (أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "فَمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ")

(1)

.

هذا نصٌّ ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح لا يتطرق إليه أي احتمال.

= لبون وفي كل خمسين حقة ففي مائة وثلاثين بنتا لبون وحقة وفي مائة وأربعين بنت لبون وحقتان وعلى هذا".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 402) حيث قال: "ثم تستقر الفريضة إذا زادت الإبل على إحدى وعشرين ومائة في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، للأخبار ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون".

(1)

سبق تخريجه.

ص: 3322

* قوله: (وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ كَتَبَ كتَابَ الصَّدَقَةِ وَفِيهِ: "إِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اسْتَوْفَتِ الْفَرِيضَةُ").

فإن الرواية لا تروى إلا مرسلة خرجها أبو داود في المراسيل قال: ورجاله ثقات، قال: وأخرجها إسحاق ابن راهويه في مسنده، والطحاوي في شرح معاني الآثار، وابن حزم في المُحلى، والبيهقي في السنن الكبرى

(1)

، لكنه ليس في منزلة الحديث الآخر فهو حديث مرسل.

"استؤنفت" يعني: تعود من الأول، وهذا الذي يقول به الحنفية ومن معهم، فالحنفية تمسكوا بنصٍّ، لكنَّ الحديث الأول حديث صحيح لا يحتاج أن نناقشه؛ لأنه يكفي أنه في صحيح البخاري.

والذي ذكره المؤلف ذكره أبو داود في المراسيل

(2)

، وذكره الطحاوي في معاني الآثار

(3)

. . . . .

(1)

يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 177) وفيه: "عن سالم، عن أبيه قال: كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض فكان فيه. فذكر الحديث في صدقة الإبل وصدقة الغنم وقال: "ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق مخافة الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" ورويناه في حديث عمرو بن حزم".

(2)

يُنظر: "المراسيل" لأبي داود (ص: 128) حيث قال: "عن حماد قلت لقيس بن سعدت خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم فأعطاني كتابًا أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لجده، فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل فقص الحديث إلى: "أن يبلغ عشرين ومائة فإذا كانت أكثر من ذلك فعد في كل خمسين حقة وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة من الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذود شاة ليس فيها ذكر ولا هرمة ولا ذات عوار من الغنم"".

(3)

يُنظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 373) وفيه: "عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إلى المدينة، يلتمس كتاب =

ص: 3323

وفي مشكل الآثار

(1)

، وذكره ابن حزم في المُحلَّى

(2)

، إذًا هو مُرسَل فلا يمكن أن نأتي بحديث مُرسَل فنقارن به حديثًا آخر أو كتابًا كتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونفذه أبو بكر، لا شكَّ أنَّ الأول يُقدَّم على ذلك من حيث

= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم في الصدقات، وكتاب عمر. فوجد عند آل عمرو بن حزم، كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم في الصدقات. ووجد عند آل عمر كتاب عمر في الصدقات، مثل كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنسخا. فحدثني عمرو، أنه طلب آل محمد بن عبد الرحمن أن ينسخه ما في ذينك الكتابين، فينسخ له ما في هذا الكتاب فكان مما في ذلك الكتاب "أن الإبل إذا زادت على تسعين واحدة، ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى أن يبلغ عشرين ومائة. فإذا بلغت الإبل عشرين ومائة، فليس فيما زاد منها دون العشر شيء. فإذا بلغت ثلاثين ومائة، ففيها بنتا لبون وحقة، إلى أن تبلغ أربعين ومائة. فإذا كانت أربعين ومائة، ففيها حقتان، وابنة لبون، إلى أن تبلغ خمسين ومائة. فاذا كانت خمسين ومائة، ففيها ثلاث حقاق، ثم أجرى الفريضة كذلك، حتى يبلغ ثلاثمائة. فإذا بلغت ثلثمائة، ففيها من كل خمسين حقة، ومن كل أربعين، بنت لبون".

(1)

يُنظر: "شرح مشكل الآثار" للطحاوي (15/ 20) وفيه: "عن ابن شهاب، قال: هذه نسخة كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي كتب في الصدقة، وهي عند آل عمر رضي الله عنه أقرأنيها سالم بن عبد اللَّه بن عمر فوعيتها على وجهها، وهي التي نسخ عمر بن عبد العزيز من سالم وعبد اللَّه ابني عبد اللَّه عمر حين مر على المدينة، وأمر عماله العمل بها فكان فيها. . . ".

(2)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (4/ 139) وفيه: "عن أنس بن مالك، سمعه منه عن أبي بكر الصديق سمعه منه، عن النبي صلى الله عليه وسلم عن اللَّه تعالى هكذا نصًا ومن طريق الزهري عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه؟ حدثنا عبد اللَّه بن ربيع قال: ثنا عمر بن عبد الملك ثنا ابن بكر ثنا أبو داود السجستاني عن عبد اللَّه بن محمد النفيلي ثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه قال: "كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان فيه:"في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين ابنة مخاض، إلى خمس وثلاثين فإذا زادت واحدة، ففيها بنت لبون: إلى خمس وأربعين. فإذا زادت واحدة ففيها حقة، إلى ستين، فإذا زادت واحدة ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون، إلى تسعين: فإذا زادت واحدة ففيها حقتان، إلى عشرين ومائة فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون؟ ".

ص: 3324

الصحة، والأرجح هو مذهب جمهور العلماء، وهو أيسر على الناس وأوضح وأقرب إلى الأذهان.

* قوله: (فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ إِذْ هُوَ أَثْبَتَ).

هو أثبت لأنَّ المؤلف له منهج خَططه لنفسه قال: الحديث الثابت يعني به ما في الصحيحين أو في إحداهما، وهذا في صحيح البخاري.

إذًا هو حديث ثابت، وهو أيضًا في السُنَن وعند أحمد وغيره.

* قوله: (وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ هَذَا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ

(1)

وَابْنِ مَسْعُودٍ)

(2)

.

يعني قوَّوا ذلك من قول علي وابن مسعود ونسب إلى بعض التابعين

(3)

.

* قوله: (قَالُوا: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا إِلَّا تَوْقِيفًا إِذْ كَانَ مِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالْقِيَاسِ).

قصده هذا الأثر المرسل الذي ذكره أبو داود في مراسيله.

* قوله: (وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَالشَّافِعِيِّ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ إِلَى الثَلَاثِينَ).

سبب الخلاف بين الجمهور وبين الحنفية ومن معهم: هو وجود

(1)

يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 155) وفيه: "عن علي، رضي الله عنه في الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فبحساب ذلك يستأنف بها الفرائض".

(2)

يُنظر: "شرح معاني الآثار"(4/ 377) وفيه: "عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في فرائض الإبل: "إذا زادت على تسعين، ففيها حقتان إلى عشرين ومائة. فإذا بلغت العشرين ومائة، استقبلت الفريضة بالغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين، ففرائض الإبل. فإذا كثرت الإبل، ففي كل خمسين حقة"".

(3)

كالنخعي، يُنظر:"شرح معاني الآثار"(4/ 377) حيث قال: "وقد روي ذلك أيضًا، عن إبراهيم النخعي رحمه الله"، وانظر:"السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 155).

ص: 3325

حديثين أحدهما في البخاري وفي غيره، والآخر حديث مُرسل تمت الإشارة إليه، فقلنا أنَّ الأولى تقديم مذهب الجمهور لقوة دليلهم.

والآن نعود للخلاف بين الجمهور؛ لأنَّ الحنابلة عندهم إذا بلغت مائة وعشرين فزادت واحدة، في رواية فيها ثلاث بنات لبون، وفي الرواية الأُخرى إلى أن تصل مائة وثلاثين ففيها حقة وبنت لبون، وبذلك يلتقوا مع إحدى الروايتين عند المالكية وهو مذهب الشافعية.

* قوله: (فَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُمْ حِسَابُ الْأَرْبَعِيناتِ وَلَا الْخَمْسِيناتِ).

لأنه إلى مائة وعشرين زادت واحدة، فاعتبار هذا الواحد هو عدم الاستقامة؛ لأننا نقول هنا ثلاث بنات لبون لكن زاد العدد.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَا بَيْنَ الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ إِلَى أَنْ يَسْتَقِيمَ الْحِسَابُ وَقْصٌ)

(1)

.

يعني: إلى مائة وثلاثين هنا يستقيم الحساب فتُخرِج حقة وبنتي لبون، فكل بنت لبون عن أربعين ثمانون وتلك عن خمسين مائة، إذًا استقام الحساب، وهذا الكسر الذي بين الفريضتين يُسمَّى وقصًا.

* قوله: (قَالَ: لَيْسَ فِيمَا زَادَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ حَتَّى يَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ

(2)

: فَإِنَّمَا ذَهَبَا إِلَى أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ: "أَنَّهَا إِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً

(1)

وقص الواو والقاف والصاد: كلمة تدل على كسر شيء. منه الوقص. . . ويقال لما بين الفريضتين: وقص. يُنظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (6/ 133).

(2)

يُنظر: "منح الجليل" لعليش (2/ 5) حيث قال: "وقال ابن القاسم: يتعين ثلاث بنات لبون".

ص: 3326

فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ")

(1)

.

ولذلك نجد الحنابلة لهم رواية في هذا، ورواية أُخرى في هذا

(2)

.

* قوله: (فَسَبَبُ اخْتِلَافِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ

(3)

وَابْنِ الْقَاسِمِ؛ هُوَ مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْأَثَرِ الثَّابِتِ لِلتَّفْسِيرِ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ).

المؤلِّف خالف منهجه السابق فدخل في تفصيلات مذهب مالكٍ، فصار يذكر بعض أصحاب مالك.

* قوله: (فابْن الْمَاجِشُونِ رَجَّحَ ظَاهِرَ الْأَثَرِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ وَالشَّافِعِيُّ حَمَلَا الْمُجْمَلَ عَلَى الْمُفَصَّلِ الْمُفَسِّرِ، وَأَمَّا تَخْيِيرُ مَالِكٍ السَّاعِي، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَثَرَيْنِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-).

يعني: الإمام مالك أراد أن يجمع بين القولين، وهما روايتان للإمام أحمد.

* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ - وَهُوَ إِذَا عَدِمَ السِّنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ، وَعِنْدَهُ السِّنُّ الَّذِي فَوْقَ هَذَا السِّنِّ أَوْ تَحْتَهُ).

(1)

أخرجه أبو داود (1570) وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود".

(2)

يُنظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 52) حيث قال: "قوله: إلى عشرين ومائة؛ فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور، وقطع به كثير منهم: أن الفرض يتغير بزيادة واحدة على عشرين ومائة، وعنه لا يتغير الفرض حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حق وبنتا لبون".

(3)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (17/ 341) حيث قال: "فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقة وبنتا لبون، وليس بين أهل العلم اختلاف في زكاة الإبل إلا في هذا الموضع، وهو إذا زادت الإبل على عشرين ومائة واحدًا، فابن شهاب يقول فيها ثلاث بنات لبون على ما في حديثه، ومالك يرى الساعي مخيرًا بين أن يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون، والمغيرة وابن الماجشون يقولان ليس فيهما إلا حقتين حتى تبلغ ثلاثين ومائة فيكون حقة وابنتا لبون، وروى ذلك أشهب عن مالك".

ص: 3327

يعني: لو أنَّ إنسانًا الواجب عليه بنت لبون فلم تكن عنده، وعنده بنت مخاض، وهي أقل، فما الذي سيدفعه لآخذ الزكاة؟ ولو كان العكس الواجب عليه بنت لبون وعنده حقة، إذًا تُدفع له الزيادة، فما الذي تُدفَع في هذه الحالة؟

* قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا

(1)

قَالَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ ذَلِكَ السِّنِّ).

يقول مالك: يكلف شراء السن الواجب، وليس له أن يدفع النقص، أو أن يُدفَع له الزائد، وخالف في ذلك الجمهور فقالوا: قد يكون ما عنده أعلى فيُعطَى الفرق، وقد يكون أدنى فَيُعطي الفرق.

الآن خالف مالك الجمهور

(2)

، هنا الجمهور يرون أنه يُدفَع الفرق إما له أو عليه.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يُعْطِي السِّنَّ الَّذِي عِنْدَهُ وَزِيَادَةَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، إِنْ كَانَ السِّنُّ الَّذِي عِنْدَهُ أَحَطَّ أَوْ شَاتَيْنِ).

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 432) حيث قال: "ولا يلزم من وجوب الزكاة في النتاج الأخذ منه بل يكلف ربها شراء ما يجزئ".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 173) حيث قال: "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تؤخذ منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب في شرح روض الطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 344) حيث قال: "ومن وجب عليه سن من الإبل كبنت لبون، ولم يكن عنده فله الصعود إلى الأعلى بدرجة ويأخذ جبرانًا، وله الهبوط إلى الأسفل بدرجة ويعطيه؛ أي: الجبران".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 403) حيث قال: "فإن عدم ما؛ أي: سن يليه؛ أي: الواجب من مال مزكى بأن وجبت عليه جذعة فعدمها والحقة، انتقل إلى ما بعده وهو بنت اللبون في المثال، فإن عدمه أي: ما يليه وهو بنت اللبون فيه أيضًا انتقل إلى ثالث، وهو بنت المخاض فيخرجها عن جذعة مع العدم، ويخرج معها ثلاث جبرانات بشرط كون ذلك المخرج مع جبران فأكثر في ملكه".

ص: 3328

الآن العشرون درهمًا لا تساوي شيئًا فهو يدفع شاتين.

* قوله: (وَإِنْ كَانَ أَعْلَى دَفَعَ إِلَيْهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ).

وإن كان الذي عنده أعلى من الواجب، فنفس الذي يأخذ الصدقة يدفع له الفرق، وهو رسول الإمام الذي يأخذ الصدقة؛ لأنه "لا ضرر ولا ضرار"

(1)

، فلو أخذ منه الأعلى تضرر، لكن لا مانع أن يدفع هو الأعلى إذا طابت نفسه بذلك، ومما يدل على أن للإنسان أن يدفع الأعلى إذا طابت نفسه بذلك قصة أبي بن كعب، عندما أرسله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليأخذ الصدقة، فَمَرَّ بصاحب إبل ليأخذ الصدقة، فأخبره أنَّ الذي وجب عليه هو بنت مخاض، فأخبره الرجل بأنه لا يوجد بين إبله ذات لبن ولا ظهر، فاختار له إبلًا سمينًا جدًّا ودفعه له، فتوقف أبي بن كعب رضي الله عنه، وطلب من الرجل أن يذهب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال له: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ليس ببعيدٍ عنك فاذهب إليه، فذهبا معًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقصَّ الرجل على الرسول صلى الله عليه وسلم قصة ما دار بينه وبينه فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ ما وجب عليه هي بنت مخاض، وهي التي ذكرها له أبي بن كعب، لكنه طابت نفسه ورضيت أن يدفع ما قدمه هو، وكان البعير سمينًا من أجود ما عنده، فقدمه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالخير والبركة

(2)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2340)، وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن ابن ماجه".

(2)

أخرجه أبي داود (أبي داود (2/ 104) وفيه: "عن أبي بن كعب، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا، فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أد ابنة مخاض، فإنها صدقتك، فقال: ذاك ما لا لبن فيه، ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة، فخذها، فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أومر به، وهذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه، فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته، قال: فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا نبي اللَّه، أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، وايم اللَّه ما قام في مالي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي، فزعم أن ما علي فيه ابنة =

ص: 3329

وهذا فيه فائدة أن أُبيًّا الذي قال فيه رسول اللَّه: (أقرؤكم أبي)

(1)

لمَّا لم يعرف الحكم توقَّف.

فإذا جادت نفس الرجل بما هو أعلى، فلا مانع، لكننا إن أردنا أن نطبق حكمًا فلا يُلزم الإنسان بأكثر مما يجب عليه، وليس له أن يُقَصر فيما وجب عليه، بل يؤدي الواجب ولا يُكلَّف فوق طاقته.

ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذ إلى اليمن: "وإياك وكرائم أموالهم"

(2)

.

* قوله: (وَهَذَا ثَابِتٌ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْمُنَازَعَةِ فِيهِ).

أحسَن المؤلف بقوله: "وهذا ثابت في كتاب الصدقة"، ومن مزايا هذا الكتاب أنَّ مؤلفه مع أنه مالكي المذهب، غير أنه لا يتعصب لمذهبه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم، ونحق نعرف أنَّ المؤلف عليه مآخذ

(3)

في أمور أُخرى نسأل اللَّه أن يعفو عنا وعنه، لكن في أمور الفقه نجده منصفًا فهو مالكي ويردُّ على مالك.

= مخاض، وذلك ما لا لبن فيه، ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى علي، وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول اللَّه خذها، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك اللَّه فيه، وقبلناه منك"، قال: فها هي ذه يا رسول اللَّه، قد جئتك بها فخذها، قال: فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقبضها، ودعا له في ماله بالبركة".

(1)

سنن الترمذي (3790) وصححه الألباني فى "السلسلة الصحيحة"(1224).

(2)

أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19).

(3)

لعل المقصود هو ما عُرِف عن ابن رشد رحمه الله من اهتمام بالفلسفة وترجمة كتبهم، وله مؤلفات وترجمات كثيرة في الفلسفة ككتاب جوامع كتب أرسطوطاليس، وشرح كتاب النفس، وكتاب في المنطق، وكتاب تلخيص الإلاهيات لنيقولاوس، وكتاب تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو، ولخص كتاب (المزاج) لجالينيوس، وكان ذلك سبب المحنة التي تعرض لها حيث تعرض لمحنة بسبب شرحه لكتاب الحيوان لأرسطوطاليس. انظر:"تاريخ الإسلام" للذهبي (12/ 1060)، وسير أعلام النبلاء له أيضًا (21/ 309).

ص: 3330

فيقول: لماذا نسلك هذا المسلك وننحى هذا المنحى، وكتاب الصدقة منقول إلينا بسندٍ صحيح، نراه ونقرؤه في صحيح البخاري وفي غيره، فينبغي أن نأخذ به.

* قوله: (وَلَعَلَّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ).

وهذه صفة حسنةٌ أُخرى تُسَجَّل للمؤلف، وهكذا طالب العلم عندما يقف لاجتهاد لإمام خالف فيه الدليل، أو ظهر له أنه خالف الدليل، ولا شك أن الإمام لم يكن الإمام قصد الخلاف ولا تعمده، بل الإمام مالك كانت تضرب إليه الإبل من مشارق الدنيا ومغاربها، ومواقفه في الدفاع عن كتاب اللَّه، وعن سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعن العقيدة الإسلامية الصافية معروفة، وقد تخرج على يديه جيل من العلماء يأتي في مقدمتهم الإمام الشافعي

(1)

.

فالإمام مالك اجتهد في هذه المسألة، والمؤلف بيّن أن الحق مع غيره؛ لأن حديث الصدقة، في صحيح البخاري وهو واضح جلي، فينبغي الأخذ به، ومالك لم يأخذ به لعله لم يبلغه، أو أنه بلغه واجتهد أيضًا في أمر آخر.

وهكذا دائمًا طالب العلم ينبغي أن ينزل العلماء منزلتهم فلا يتجرأ عليهم بقول، وإنما ينصفهم في هذا المقام.

دراسة الفقه ملكة تقوي الإنسان: ولذلك نجد أن دراسة الفقه ينتقل الإنسان فيها من مكان إلى مكان، وهذا الخلاف الذي نراه ليس كما يظن البعض أنه خلاف يُشتت الأذهان ويفرقها، أو كثرة الآراء قد تغير طالب العلم، بالعكس هي تنمي ملكة دارس الفقه وتقويها فتشحذ ذهنه فيتعود

(1)

قال ابن حبان في ترجمة الإمام مالك في كتاب "الثقات"(7/ 459): "وبه تخرَّج الشافعي رحمه الله وإياه ينص ومذهبه كان ينتحل حيث كان بالعراق قديمًا قبل دخوله مصر".

ص: 3331

على دراسة المسائل وعرض أدلتها ومناقشتها والترجيح، وعندما يتعود على هذا الأمر يُصبح أمرًا ميسورًا سهلًا عنده، لكن إذا تعود أن يأخذ الأمور ببساطة فيصعب عليه أن يتعمق في دراسة الفقه.

ولذلك نجد أنَّ العلماء شغلوا أنفسهم بدراسة كتاب اللَّه عز وجل وسُنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعمقٍ فاستخرجوا الأحكام منهما، وجاء الذين من بعدهم فخرجوا وهكذا، فاجتمعت عندنا هذه الثروة العظيمة، وهذا الكنز الكبير الذي يشتمل على كثير من المجلَّدات.

* قوله: (وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ).

وأحمد أيضًا وهذا هو مذهب جمهور العلماء.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ عَلَى أَصْلِهِ فِي إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ)

(1)

.

وهذا قول غير مُسَلم به؛ لأنَّ النص قد ورد في ذلك.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يُعْطِي السِّنَّ الَّذِي عِنْدَهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ).

والراجح عندنا: هو ما أخذ به الجمهور ومنهم الشافعية

(2)

والحنابلة

(3)

.

(1)

يُنظر: "منحة السلوك في شرح تحفة الملوك" للرازي (ص: 231) حيث قال: "ويجوز دفع القيمة في الزكاة والفطر والكفارة والعشر والخراج والنذر".

(2)

يُنظر: "تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي" للهيتمي (3/ 220) حيث قال: "ومن لزمه بنت مخاض فعدمها وابن لبون في ماله وأمكنه تحصيلهما وعنده بنت لبون دفعها إن شاء وأخذ شاتين بصفة الإجزاء إلا إن رضي، ولو بذكر واحد؛ لأن الحق له أو عشرين درهمًا".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي (2/ 188) حيث قال: "وإن كان الفرضان؛ أي: الحقاق وبنات اللبون في المائتين ونحوهما معدومين أو معيبين فله العدول عنها مع الجبران".

ص: 3332

* قوله:

‌(وَأَمَّا المَسْأَلَةُ والثَّالِثَةُ

وَهِيَ هَلْ تَجِبُ فِي صِغَارِ الْإِبِلِ، وَإِنْ وَجَبَتْ فَمَاذَا يُكَلَّفُ؟).

هذه المسألة تتعلق بصغار الإبل، والإبل فيها الصغير والكبير، والصغير ليس خاصًّا بالإبل، وسيأتي ربما يَعرِض له المؤلف أيضًا بالبقر ففيها العجل، وكذلك الغنم ففيها السخال التي هي حب.

والصِّغَار أحوالها تختلف، قد توجد الصِّغَار مع الكبار، وقد توجد منفردة.

فهذه كلها مسائل تكلم فيها العلماء؛ فمنهم من أطلق ومنهم من عَمَّم، وسبب الخلاف: أنه وردت أحاديث لم يُصححها بعض العلماء، فاجتهدوا فيما يتعلق بهذه المسألة.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ).

أبو حنيفة

(1)

له عدة روايات منها: أنها تجب فيها الزكاة.

والقول الآخر على خلاف ذلك: لا تجب فيها الزكاة.

* قوله: (وَقَوْمٌ قَالُوا: لَا تَجِبُ).

وهذه رواية لأبي حنيفة ونُقِل عن مالك

(2)

وعن بعض التابعين منهم:

(1)

يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (2/ 186) حيث قال: "وليس في الفصلان والحملان والعجاجيل صدقة عند أبي حنيفة إلا أن يكون معها كبار، وهذا آخر أقواله وهو قول محمد، وكان يقول أولًا يجب فيها ما يجب في المسان".

(2)

يُنظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" للقاضي عبد الوهاب (ص: 396) حيث قال: "وإذا كانت الإبل فصلانًا أو البقر عجاجيل، أو الغنم سخالًا، لم يجز للساعي أخذ واحدة منها، وكلف ربها أن يأتي بالسن الوسط الجائز أخذه في الزكاة".

ص: 3333

كالحسن البصري، وإبراهيم النَّخعي

(1)

، والإمام الشَعبي

(2)

وهو من التابعين، وعن داود الظاهري إمام الظاهرية

(3)

.

وعند المالكية

(4)

يرون: أنها تُضَم الصِّغَار إلى أمهاتها الكِبار، وإذا وجِدَت أمهاتها وَجبت الزكاة في الكل.

وعند الشافعية

(5)

يرون: أنها تُضَم إلى أمهاتها، لكنهم يشترطون أن تكون متولدة من النصاب وأن تكون قبل أن تحول عليها الحول.

ومذهب الحنابلة

(6)

قريب من ذلك، ولا شك أنه هو أقرب المذاهب في نظرنا.

(1)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (3/ 354) حيث قال: "وحكى العبدري عن الحسن البصري رحمه الله والنخعي أن السخال لا تضم إلى الأمهات، بل حولها من وقتها لولادتها، وقال الشعبي وداود: لا زكاة في السخال، ولا ينعقد عليها الحول".

(2)

يُنظر: "الأموال" لابن زنجويه (2/ 819) وفيه: "عن الشعبي، قال: ليس على الفصال حتى تكون بنات مخاض صدقة، ولا على السخال ولا على البقر، حتى يجذعن".

(3)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"(5/ 374) حيث قال: "وقال الشعبي وداود لا زكاة في السخال تابعة ولا مستقلة ولا ينعقد عليها حول".

(4)

يُنظر: "حاشية الصاوي"(1/ 591) حيث قال: "وإن بنتاج: أي هذا إذا كان كمال النصاب بنفسه، بل وإن كان بنتاج بل وإن صار كله نتاجًا خلافًا لداود الظاهري القائل: إن النتاج لا يزكى. ولا يلزم من وجوب الزكاة في النتاج الأخذ منه، بل يكلف ربها شراء ما يجزئ. ووجوب الزكاة في النتاج ولو كان من غير صنف الأصل؛ كما لو نتجت الإبل أو البقر غنما، وتزكى على حول الأمهات زكاة نوعها إن كان فيها نصاب. فإذا ماتت الأمهات كلها زكى النتاج على حول الأمهات حيث كان فيه نصاب، وكذا إذا مات بعض الأمهات وكان في الباقي منها مع النتاج نصاب، زكى الجميع لحول الأمهات".

(5)

يُنظر: "الغرر البهية في شرح البهجة الوردية" لزكريا الأنصاري (2/ 137) حيث قال: "وصورة إخراج الصغير أن يمضي على أربعين ملكها من صغار المعز أو صغار البقر حول أو تنتج ماشيته، ثم تموت، فإن حول نتاجها يبنى على حولها".

(6)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 394) حيث قال: "وحول صغار من إبل أو بقر أو غنم من حين ملك كحول كبار لعموم نحو حديث: "في خمس من الإبل شاة" ولأنها تعد مع غيرها فتعد منفردة كالأمهات".

ص: 3334

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَتَنَاوَلُ اسْمُ الْجِنْسِ الصِّغَارَ أَوْ لَا يَتَنَاوَلُهُ؟).

الإبل: اسم جنس، فهل يدخل فيه الصغير والكبير؟ أو أن هذا يقتصر على الكبير فقط؟

على القول أنه يقتصر على الكبير، يحتاج إلى ما يُحدِّد ذلك ويُخصِّصه.

* قوله: (وَالَّذِينَ قَالُوا: لَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ هُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ).

هذا رأي لأبي حنيفة في رواية لا تجب عنه، لكن له رواية تجب، ورواية ثالثة له ولصاحبيه

(1)

فيها تفصيل أيضًا؛ لأنَّ هناك من العلماء من يرى: أنه إذا وُجدَت عنده كِبار تجب فيها الزكاة فكانت الصِّغَار زائدة عن

(1)

يُنظر: "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" للكاساني (2/ 31) حيث قال: "ومنها السن وهو أن تكون كلها مسان أو بعضها فإن كان كلها صغارًا فصلانًا أو حملانًا أو عجاجيل فلا زكاة فيها وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وكان أبو حنيفة يقول أولًا: يجب فيها ما يجب في الكبار وبه أخذ زفر ومالك ثم رجع وقال: يجب فيها واحدة منها وبه أخذ أبو يوسف والشافعي، ثم رجع وقال: لا يجب فيها شيء واستقر عليه وبه أخذ محمد. واختلفت الرواية في أبي يوسف في زكاة الفصلان، في رواية قال: لا زكاة فيها حتى تبلغ عددًا لو كانت كبارًا تجب فيها واحدة منها وهو خمسة وعشرون وفي رواية قال: في الخمس خمس فصيل، وفي العشر خمس فصيل، وفي خمسة عشر ثلاثة أخماس فصيل، وفي عشرين أربعة أخماس فصيل، وفي خمس وعشرين واحدة منها، وفي رواية قال: في الخمس ينظر إلى قيمة شاة وسط وإلى قيمة خمس فصيل فيجب أقلهما، وفي العشر ينظر إلى قيمة شاتين وإلى قيمة خمسي فصيل فيجب أقلهما، وفي خمسة عشر ينظر إلى قيمة ثلاث شياه وإلى قيمة ثلاثة أخماس فصيل فيجب أقلهما، وفي عشرين ينظر إلى قيمة أربعة شياه وإلى قيمة أربعة أخماس فصيل فيجب أقلهما، وفي خمس وعشرين يجب واحدة منها، وعلى رواياته كلها قال: لا تجب في الزيادة على خمس وعشرين شيء حتى تبلغ العدد الذي لو كانت كبارًا يجب فيها اثنان وهو ستة وسبعون، ثم لا يجب فيها شيء حتى تبلغ العدد الذي لو كانت كبارًا يجب فيها ثلاثة وهو خمسة وأربعون".

ص: 3335

النصاب فحينئذ تجب فيها الزكاة، لكن إن كانت الكبار دون ذلك فلا يُكَمّل بها النصاب.

* قوله: (وَقَدِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام).

أي: الذي يأخذ الصدقة.

وهذا الحديث أخرجه أصحاب السُّنَن منهم أبي داود

(1)

والنسائي

(2)

وابن ماجه

(3)

، وأخرجه الإمام أحمد

(4)

، والدارقطني

(5)

والبيهقي

(6)

وغير هؤلاء

(7)

.

* قوله: (فَأَتَيْتُهُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ).

وفي بعض الروايات: (لا تأخذْ من راضع لبنٍ)

(8)

بصيغة النهي.

* قوله: (وَلَا أَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا نُفَرِّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ).

خشية الصدقة، يعني: ليَفِرَّ من الصدقة أو لتقليل الصدقة، فليس له ذلك؛ لأنَّ هذا فرضٌ متعينٌ عليه، فواجبه أن يؤدي الفرض فيلقى اللَّه سبحانه وتعالى بنفس طيبة ولا ذنب عليه، لكن أن يترك الفريضة فلا.

وقد مرّتْ أحاديث كثيرة فيما يتعلق بأولئك الذين يُقصِّرون في أداء

(1)

أخرجه أبو داود (1580)، وحسنه الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود".

(2)

أخرجه النسائي (2457)، وقال الألباني في "صحيح وضعيف سنن النسائي": حسن صحيح.

(3)

أخرجه ابن ماجه (1801) وحسنه الألباني في "صحيح وضعيف سنن ابن ماجه".

(4)

أخرجه أحمد (1883) وحسنه شعيب الأرناؤوط.

(5)

أخرجه الدارقطني في "سننه"(2/ 495).

(6)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 170).

(7)

كالدارمي في "سننه"(2/ 1014 رقم 1670).

(8)

أخرجه أبو داود (1579)، وحسنه الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود".

ص: 3336

الزكاة فيمنعونها ويفرقون فيها، أو الذين يحتالون بحيَل تجعلهم لا يُخرجون الزكاة.

* قوله: (قَالَ: وَأَتَاهُ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ كَوْمَاءَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا).

أي: ناقة لها سنام عظيم، وكلما كان السنام عظيمًا كان هذا دليلًا على عِظمها، كقصة أبي بن كعب عندما ذهب ليأخذ فمرّ برجل فلم يجد بنت مخاض فقدم له ناقةً عظيمة سمينة فتوقف

(1)

.

هكذا وجدنا صحابيًا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ العلم من مشكاة النبوة، عاش مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كغيره من الصحابة وحكم عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنه أقرأ القوم، فقال صلى الله عليه وسلم:(أقضاكم علي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأقرأكم أبي)

(2)

.

فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهد له، ولما تردد ذات مرة في قراءة آية التبست عليه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشر وهو قدوة لنا، فقال:"أين أُبيّ ألم يكن في القوم"

(3)

يريد أن يفتح عليه، فلم يسأل إلا عن أبي، وأبي بن كعب أبى أن يفتى في المسألة من غير علم وهو صحابي جليل، ما رأى أن يأخذ من الرجل مع أنه رأى أن ما سيعطيه الرجل هو أعظم، قال له:(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قريب منك فاذهب إليه فأخبره بحالك) فرافقه فأخبر رسول اللَّه، فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّ الرجل جادت نفسه أخذ منه، ودعا له بالخير وبالبركة.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(12/ 126)، وقال ابن حجر في "المطالب العالية" (3/ 754):

"وذكره البوصيري (الإتحاف 1/ 166 أ)، كتاب الإمامة، باب الفتح على الإِمام، وعزاه للحارث بن أبي أسامة، وقال: هذا إسناد حسن، قيس مختلف فيه وباقي رجال الإسناد ثقات".

ص: 3337

نأخذ من هذا أنَّ طالب العلم إذا سُئِل عن مسألة من المسائل حتى وإن كان عالمًا فلا يمكن أن يدعي أي إنسان أنه أحاط بالحلم، فإذا كان إمام دار الهجرة الإمام مالك يُفتَى في مسائل فيقوله في كثير منها: لا أدري، والعلماء يقولون: لا أدري نصف العلم، فما هو الأفضل أن تقول: لا أدري، أو أن تُفتي عن جهل فتفتي غيرك في أمر من الأمور، ربما يكون ارتكابه محرمًا، فتكون قد أوقعت هذا المسكين في حرام، أو قد يكون واجبًا فأفتيته بعدم وجوبه فتسببت في أنه ترك واجبًا من الواجبات وما أكثر ما يحصل ذلك، فيجب على طالب العلم أنْ يتورع وأن يخشى اللَّه، قال صلى الله عليه وسلم:"أجرأكم على الفُتية أجرأكم على النار"

(1)

.

ولا يجوز لطالب العلم غير المُتمكن أو المتمكن أن يجاوب ما لم يكن متيقنًا من الجواب، ولكن ليقل: لا أدري، أو انتظر سأبحث في المسألة، أنا متردد فيها احتاج أن أتأكد، والذي يظهر لي أن الجواب كذا، لكنني غير متأكد منه أو عليك أن تتأكد من غيري.

لكن أن يأتي الإنسان فيخشى أن يُقال فلان مدرس ولا يجيب، فيجيب! هذا خطأ، ليس قصورًا في طالب العلم أن يقول: لا أدري، قد تجد طالبًا من الطلاب الصغار يعرف مسائل محددة أكثر من شيخه لأنه قد يكون قرأها قريبًا ومارسها ودرسها ومرت به وهذا ربما مرّت عن ذهنه.

وأحيانًا الإنسان يسأل عن مسألة تعزب عن ذهنه، فإذا ما أخذ يفكر تعود إليه، فيطلب من هذا ألا يتعجل الإنسان في الإجابة، بل عليه أن يستجمع، وأن يتذكر ويطلب من اللَّه سبحانه وتعالى العون.

ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم كل واحد منهم، والسلف كذلك يحيل كل واحد منهم إلى الآخر في الفُتيا، ليس في الفُتية أنك إذا سُئلت أفتيت

(1)

أخرجه الدارمي (1/ 258 رقم 159) وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1814).

ص: 3338

ويقال أفتى فلان، لا، إنما كان كل واحد منهم يُحيل إلى الآخر، ورأيت شيخًا من أعلم مشايخنا الذي درست عليه كان يَفر من الفتوى وهو يعلم الجواب.

* قوله: (وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِيهَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِم، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَأْخُذُ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَقْيَسُ، وَبِنَحْوِ هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتَلَفُوا فِي صِغَارِ الْبَقَرِ وَسِخَالِ الْغَنَمِ).

وجاء في ذلك حديث بالنسبة للغنم: "ليس في السخال زكاة"

(1)

، وكذلك الحديث العام الذي أشار إليه المؤلف:(لا تأخذ من راضع لبن) أو (لا آخذ من راضع لبنٍ)، وحديث السخال فيه كلام للعلماء.

ولا شكَّ أنَّ الأولى في نظرنا هو أن تُضَم إلى أمهاتها، فإذا بلغت النصاب فإنها تُزكى، ولا تزكي مُنفردة.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

[الْفَصلُ الثَّالِثُ فِي نِصَابِ الْبَقَرِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذلِكَ]

* قوله: (جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً)

(2)

.

(1)

أخرجه ابن زنجويه في "الأموال"(2/ 819) وفيه: "عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، قال: ليس على الفصال حتى تكون بنات مخاض صدقة، ولا على السخال ولا على البقر، حتى يجذعن".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (2/ 178) حيث قال: "ليس في أقل من ثلاثين من البقر السائمة صدقة".

ص: 3339

المؤلف دخل مباشرة في بيان الأنصبة، فهناك نِصَاب، وهناك قدرٌ واجب، فنِصَاب البقر يبدأ بثلاثين، وزكاة البقر ثبتت في السنَّة وذكرنا حديثًا في ذلك، ومثله أيضًا حديث معاذ:(قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة، جذعًا أو جذعة، ومن كل أربعين مُسِنة)

(1)

وسيأتي الكلام عن هذا الحديث من حيث درجته، وكلام العلماء فيه إجمالًا لا تفصيلًا.

وهذا الذي بدأ به المؤلِّف إنما هو مذهب جمهور العلماء، فجماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة، يرون: أنَّ الزكاة لا تجب في البقر إلا إذا بلغت ثلاثين، أما قبل ذلك فلا شيء فيها، فإذا بلغ ما يملكه المُسلم من البقر ثلاثين وجب عليه أن يُخرج تبيعًا، وهذا مما انفردت به زكاة البقر، والتبيع

(2)

: هو الذي له سَنَة ودخل في الثانية، وسُمي تبيعًا؛ لأنه يتبع أمَّه لأنه لا يزال صغيرًا فهو بحاجة إليها، فنجد أنه يسير في خطاها، ثم في الأربعين مُسنة: وهي التي بلغت سنتين ودخلت في الثالثة؛ وسُميت بذلك لأنَّ أسنانها بدأت في الظهور، وهناك عدة أقوال يَعرِض لها المؤلف.

= ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 435) حيث قال: "البقر يجب في كل ثلاثين منها تبيع ذكر والأنثى أفضل ذو سنتين؛ أي: ودخل في الثالثة وفي كل أربعين بقرة مسنة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 222) حيث قال: "ولا شيء في البقر حتى تبلغ ثلاثين ففيها تبيع، وهو ابن سنة كاملة؛ لأنه يتبع أمه في المسرح وتجزئ تبيعة بالأولى ثم في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 340) حيث قال: "وأول نصاب البقر ثلاثون وفيها تبيع، وهو ما له سنة كاملة، سمي تبيعًا؛ لأنه يتبع أمه وقيل لأن قرنه يتبع أذنه ويجزئ عنه تبيعة بل أولى للأنوثة وفي الأربعين مسنة".

(1)

أخرجه أبو داود (1576) وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود".

(2)

التبيع: ولد البقرة أول سنة. وبقرة متبع: معها ولدها. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 179).

ص: 3340

* قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي كُلِّ عِشْرِينَ مِنَ الْبَقَرِ شَاةٌ إِلَى ثَلَاثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ).

المؤلِّف لم يذكر صاحب القول وإنما هو سماه طائفة، وهذا معروف أنه للإمام شهر بن حوشب هو الذي قال بذلك، ونَقَل بسَنَدِه عنه ابن أبي شيبة في مُصَنَّفِه

(1)

، قال: في العشر شاة وفي العشرين شاتان وفي الثلاثين تبيع، وبذلك يكون قد انفرد عن جمهور العلماء بهذا القول.

* قوله: (وَقِيلَ: إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بَقَرَتَانِ، إِذَا جَاوَزَتْ ذَلِكَ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ).

يُشير إلى قول الزُّهري

(2)

، وسعيد بن المُسيب

(3)

، فمن العلماء من يرى أنَّ زكاة البقر كزكاة الإبل، وقد مرَّ فيما مضى أنه يجب في خمسٍ من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، فهؤلاء يقولون: بأنَّ زكاة البقر كزكاة الإبل، لا تختلف عنها، لكنه بالنسبة للإبل يُنظَر للسِّنِّ، أما

(1)

يُنظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 433) وفيه: "عن شهر بن حوشب، قال: في كل عشرة من البقر شاة، وفي كل عشرين شاتان، وفي كل ثلاثين تبيع".

(2)

يُنظر: "مصنف عبد الرزاق الصنعاني"(4/ 24) وفيه: "قال الزهري: فإذا كانت خمسًا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت على خمسة وسبعين ففيها بقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على مائة وعشرين ففي كل أربعين بقرة بقرة، إن ذلك كان تخفيفًا لأهل اليمن، ثم كان هذا بعد ذلك لا يروى".

(3)

يُنظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (4/ 90) وفيه: "عن سعيد بن المسيب، وأبي قلابة وآخر قالوا: صدقات البقر كنحو صدقات الإبل، في كل خمس شاة، وفي كل عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بقرة مسنة إلى خمس وسبعين، فإن زادت فبقرتان مسنتان إلى عشرين ومائة، فإذ زادت ففي كل أربعين بقرة بقرة مسنة".

ص: 3341

بالنسبة للبقر فلا اعتبار بالسن، فلا يُقال بنت مخاض، ولا يقال حقة، ولا بنت لبون، وإنما يُقتصر بأنَّ في الخمس شاة وهكذا.

ووجهة هؤلاء الذين قالوا بهذا القول: أنَّ البقر لا تختلف عن الإبل قياسًا على ما يحصل في الهَدي، فإنَّ البقرة تكفي عن سبعٍ كالحال بالبدنة، فهي تساويها في هذا الحكم، وقالوا: إنَّ في كتاب عُمَر رضي الله عنه الذي كتبه في الزكاة، فيه: أن زكاة البقر كزكاة الإبل

(1)

، وقالوا: إن ذلك نُقِل عن جابر بن عبد اللَّه

(2)

.

وقالوا: ولأنَّ ذلك قد نُقِلَ عن الزُهري، والزهري من أعرف الناس بالحديث وقد لَقِيَ بعض أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

أما جمهور العلماء فإنهم يقولون في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي أربعين مُسِنة إلى ستين ففيها تبيعان، وفي السبعين تبيع ومُسِنة، وفي الثمانين مسنتان، وفي التسعين ثلاث أتبعة، وفي المائة مسنة وتبيعان، وهكذا، إلى أنْ يأتي الأمر إلى أنه في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، ويستدلون على ما ذهبوا إليه - من أنَّ نصاب البقر يبدأ بالثلاثين، وأن الواجب بداية تبيع أو تبيعة، بحديث مسروق عن معاذ قال:(بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا، أو تبيعة، وفي بعض الروايات: جذعٌ، أو جذعة ومن أربعين مسنة)

(3)

.

قالوا: فهذا نص ثابت فينبغي الوقوف عنده.

ويشهد له أيضًا حديث عمرو بن حزم أو الكتاب الذي كتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم "أنَّ في كل ثلاثين بقرة تبيعًا، وفي كل

(1)

سبق تخريجه.

(2)

يُنظر: "مصنف عبد الرزاق الصنعاني"(4/ 24) وفيه: "عن جابر بن عبد اللَّه: في كل خمس من البقر شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي كل عشرين أربع شياه".

(3)

سبق تخريجه.

ص: 3342

أربعين بقرةً بقرةٌ يعني مُسِنة"

(1)

.

الذين يقدحون في حديث معاذ يقولون: بأنَّ مسروقًا لم يلق معاذًا

(2)

، وبهذا يكون الحديث منقطعًا؛ لأنه لم يسمع منه.

وجمهور العلماء يقولون: أنه جاء عن طرق أُخرى عن حُميد وطاوس

(3)

، واختلفوا أيضًا في سماع طاوس

(4)

، لكننا نجد أنَّ أكابر العلماء كالإمام الشافعي يتكلم في ذلك، وبيَن أن ما عند مسروق علم معاذ، وأنه التقى بكثير من أصحابه وما حدث بذلك إلا بعلمه به، والحديث له عدة شواهد، وقد صحَّحه جمعٌ من العلماء منهم الحاكم

(5)

والدارقطني

(6)

(1)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(14/ 501 رقم 6559)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 167) وفيه:"عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل أليمن قال فيه: "وفي كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة". وقال الألباني في "التعليقات الحسان" (9/ 278): صحيح لغيره.

(2)

قال ابن حجر في "تهذيب التهذيب"(10/ 111): "حكى عبد الحق عن ابن عبد البر أنه قال: لم يلق مسروق معاذًا. قلت: فعلى هذا يكون حديثه عنه مرسلًا، لكن تعقَّب ذلك ابن القطان على عبد الحق فإنه لم يجد ذلك في كلام ابن عبد البر، بل الموجود في كلامه أن الحديث الذي من رواية مسروق عن معاذ متصل".

(3)

أخرجه مالك في "الموطأ"(681) وفيه: "عن طاوس اليماني، أن معاذ بن جبل الأنصاري أخذ من ثلاثين بقرة، تبيعًا، ومن أربعين بقرة، مسنة، وأتي بما دون ذلك، فأبى أن يأخذ منه شيئًا، وقال: لم أسمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا، حتى أقدم فأسأله، فتوفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ بن جبل".

(4)

يُنظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص: 99) حيث قال: "قال علي ابن المديني: لم يسمع طاوس من معاذ بن جبل شيئًا"، وانظر:"جامع التحصيل" للعلائي (ص 201).

(5)

يُنظر: "المستدرك على الصحيحين" للحاكم (1/ 555) حيث قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".

(6)

يُنظر: "علل الدارقطني"(6/ 81) حيث قال: "يرويه الحكم بن عتيبة، واختلف عنه؛ فرواه يحيى بن أبي أنيسة، عن الحكم، واختلف عنه أيضًا، فقال المحاربي: عن يحيى بن أبي أنيسة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم. وخالفه نوح بن دراج، فرواه عن يحيى بن أبي أنيسة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار مرسلًا. والمرسل أصح".

ص: 3343

وابن حبان

(1)

وابن عبد البر

(2)

، وغير هؤلاء

(3)

.

ولا شكَّ في نظرنا أنَّ الأصوب في ذلك والأرجح هو مذهب جمهور العلماء، وهو: أنَّ الزكاة لا تجب إلا في الثلاثين، ولو كانت تجب قبل ذلك لبيّن ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما بيّن ذلك أيضًا في زكاة الإبل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام مأمور ومُطَالبٌ بالبيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإن في الكتاب الذي كتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وختمه ومات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يُنفَذ ويُرسَلَ إلى عماله، وأرسله أبو بكر رضي الله عنه إلى أنس رضي الله عنه، وقضى به عمر رضي الله عنه وعمِل به الصحابة، وقد بيّن فيه أنصبة الإبل وكذلك الغنم، فلما كان الأمر كذلك ظهر لنا أنَّ مذهب الجمهور هو الأرجح في هذه المسألة.

* قوله: (وَهَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ).

وكذلك أيضًا عن الزهري، وعن غيره من العلماء، لكن اشتهر هذا القول عن الإمامين.

* قوله: (وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالسِتِّينَ:

(1)

"صحيح ابن حبان"(1/ 245) وصححه شعيب الأرناؤوط.

(2)

يُنظر: "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" لابن عبد البر (2/ 130) حيث قال: "وهو حديث صحيح".

(3)

كأبي الحسن ابن القطان، يُنظر:"بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام"(2/ 574) حيث قال: "وقد روي هذا الخبر عن معاذ، بإسناد متصل صحيح ثابت". وابن دقيق العيد، يُنظر:"الإلمام بأحاديث الأحكام"(1/ 307) حيث قال: "وأخرجه الحاكم في المستدرك ولم يقل: أو تبيع وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. قلت: إن كان مسروق سمع من معاذ فالأمر كما قال". قلت: وقد سمع مسروق من معاذ حيث تعقب ابن القطان ما حكاه عبد الحق عن ابن عبد البر، حيث قال: لم يلق مسروق معاذًا، فقال ابن القطان: لم أجد كلام ابن عبد البر، بل الموجود في كلامه أن الحديث الذي من رواية مسروق عن معاذ متصل. انظر:"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 111).

ص: 3344

فَذَهَبَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

وَأَحْمَدُ

(3)

وَالثَّوْرِيُّ

(4)

وَجَمَاعَةٌ

(5)

أَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَبْلُغَ السِّتِّينَ).

هذه مسألة أُخرى تُعتَبر من مسائل الجزئيات وهي حكم الأوقاص

(1)

يُنظر: "حاشية الصاوي"(1/ 597) حيث قال: "وأما البقر: ففي كل ثلاث تبيع ما أوفى: سنتين ودخل في الثالثة، وفي كل أربعين بقرة: مسنة أنثى كملت ثلاثًا ودخلت في السنة الرابعة إلى تسع وخمسين، وفي الستين: تبيعان".

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 70) حيث قال: "ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة لها سنتان ودخلت في الثالثة، سميت بذلك لتكامل أسنانها. والأصل في ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن معاذ رضي اللَّه تعالى عنه قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعًا. وصححه الحاكم وغيره ولا جبران في زكاة البقر والغنم لعدم ورود ذلك، ففي ستين تبيعان".

(3)

يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 340) حيث قال: "وفي الأربعين مسنة، وتسمى ثنية، وهي ما لها سنتان كاملتان، روى الترمذي وغيره عن معاذ قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعًا. وصححه الحاكم وغيره، وسميت مسنة لتكامل أسنانها، وفي ستين بقرة تبيعان".

(4)

يُنظر: "مصنف عبد الرزاق الصنعاني"(4/ 24) وفيه: "عن الثوري، عن يونس قال: "في ثلاثين تبيعة، وفي كل أربعين مسنة، وليس فيما بين الأربعين، والستين شيء"".

(5)

كالحكم وحماد، يُنظر:"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 364) وفيه: "عن شعبة، قال: سألت الحكم، وحمادًا، قلت: إن كانت خمسين بقرة فقال: الحكم: فيها مسنة". وسليمان بن موسى، يُنظر:"مصنف عبد الرزاق الصنعاني"(4/ 24) وفيه: "عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: "ليس فيما دون الثلاثين بقرة شيء، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها بقرة مسنة، وفيما فوق ذلك من البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة"". وانظر:"السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 166) وفيه: "عن ابن عباس قال: لما بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعًا أو تبيعة جذعًا أو جذعة ومن كل أربعين بقرة بقرة مسنة، فقالوا: فالأوقاص؟ قال: فقال: ما أمرني فيها بشيء وسأسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه فلما قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سأله عن الأوقاص فقال: "ليس فيها شيء" وقال المسعودي: والأوقاص ما دون الثلاثين وما بين الأربعين إلى الستين".

ص: 3345

وهي: ما بين الأربعين والخمسين، وما بين الخمسين والستين، وما بين الستين والسبعين، وما بين السبعين والثمانين، وهذه تُعرَف عند الفقهاء بالأوقاص وهي: ما بين الفرضين.

وفي حديث معاذ -الذي مرّ- لم يَعرض لذلك، وإنما بيّن أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة، ولم يعرض لما بينهما، وجاء أيضًا في رواية من روايات معاذ أنه عُرِض عليه ما بين الوقصين فامتنع عن ذلك فقال: حتى أسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما جاء وجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد مات

(1)

، ومن هنا نشأ خلاف بين العلماء.

وجاء في مُسنَد الإمام أحمد

(2)

في رواية: أن معاذًا أدرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنه سأله عن ذلك، وبيّن له أنه لا زكاة فيما بين الأنصبة.

1 -

وعلى هذا فجمهور العلماء ومنهم الأئمة مالك والشافعي

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 166) وفيه: "عن طاوس، أن معاذ بن جبل أتى بوقص البقر فقال: لم يأمرني فيه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء. قال الشافعي: والوقص ما لم يبلغ الفريضة".

(2)

أخرجه أحمد (22083) وفيه: "عن يحيى بن الحكم، أن معاذًا قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصدق أهل اليمن وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعًا. قال هارون: والتبيع: الجذع أو الجذعة، ومن كل أربعين مسنة قال: فعرضوا علي أن آخذ من الأربعين، قال هارون: ما بين الأربعين، والخمسين، وبين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين فأبيت ذاك، وقلت لهم حتى أسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقدمت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، "فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعًا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة والمائة مسنتين وتبيعًا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع. قال: وأمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا آخذ فيما بين ذلك، وقال هارون: فيما بين ذلك شيئًا، إلا أن يبلغ مسنة أو جذعًا وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها"". وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد ابن سلمة، فمن رجال مسلم.

ص: 3346

وأحمد، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة يرون: أن ما بين الفروض لا زكاة فيه.

2 -

وأبو حنيفة تعددت الرواية عنه

(1)

واضطرب فله ثلاثة أقوال: رواية يتفق فيها مع الجمهور الذي أخذ بها الصاحبان

(2)

.

والرواية الثانية: أنها إذا زادت عن الأربعين ففيها مُسنة وربع العشر، يعني: تُجَزَّأ المُسنة إلى أربعين جزءًا، فيجب عليه في كل بقرة واحد على أربعين.

والرواية الثالثة: أنها لا تجب إلا إذا وصلت خمسين، فإذا وصلت خمسين ففيها مُسنة وربع مسنة

(3)

.

لكن القوله الأول الذي ذكرناه يلتقي مع مذهب الجمهور، ولما كان مذهب الجمهور هو الأرجح، فينبغي أن يؤخذ بهذه الرواية، وهي أيضًا التي أخذ بها الصاحبان.

(1)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(2/ 279) حيث قال: "وفي أربعين مسن ذو سنتين أو مسنة، وفيما زاد على الأربعين بحسابه في ظاهر الرواية عن الإمام. وعنه: لا شيء فيما زاد إلى ستين ففيها ضعف ما في ثلاثين، وهو قولهما والثلاثة، وعليه الفتوى".

(2)

يُنظر: "الأصل المعروف بالمبسوط" للشيباني (2/ 61) حيث قال: "فما زاد على الأربعين فإن الزيادة بحساب ذلك في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد أما نحن فنرى ألا يؤخذ مما زاد على الأربعين شيء حتى تبلغ البقر ستين فإذا كانت ستين ففيها تبيعان".

(3)

"النتف في الفتاوى" للسغدي (1/ 175) حيث قال: "وليس في الخمسين شيء في قول أبي يوسف ومحمد وفي قول أبي حنيفة فيها مسنة وأيضًا عنه فإنه قال إذا بلغ أربعين ففيها مسنة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين فإذا بلغت خمسين ففيها مسنة وربع أو ثلث تبيع ثم ليس في الزيادة شيء حتى تبلغ ستين ففيها تبيعان، وأيضًا عنه قال ليس في الزيادة على الأربعين شيء حتى تبلغ خمسين فإذا بلغت خمسين ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع ثم ليس في الزيادة على الستين شيء حتى تبلغ سبعين". وانظر: "المبسوط" للسرخسي (2/ 187).

ص: 3347

* قوله: (فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ إِلَى سَبْعِينَ، فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ إِلَى ثَمَانِينَ، فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ إِلَى تِسْعِينَ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ إِلَى مِائَةٍ، فَفِيهَا تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٍ ثُمَّ هَكَذَا مَا زَادَ، فَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ).

زكاة البقر من أبسط أنواع الزكوات؛ لأنها واضحة وسهلة، ولذلك مباحثها في كتب الفقه ليست موسعة كزكاة الإبل وزكاة الغنم.

التبيع ذكر فيُجمع على أتبعة، والتبيع أنثى تُجمَع على تِباع، وزكاة البقر قد انفردت في وجود الذكر فيها، وهناك في الإبل بنت مخاض، ثم ابن لبون، ثم بعد ذلك بنت مخاض، فإن لم يكن بنت لبون، هذا إن لم تكن بنت مخاض، لكن هنا ذكر تبيعًا أو تبيعة فسوَّى بينهما، هنا يذكر الفقهاء على أنها من خصائص زكاة البقر.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي النِّصَابِ: أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ).

ليس مراد المؤلف هنا أنَّ حديث معاذ ليس متفقًا على صحته، هذه العبارة يريدها على نوعين، أحيانًا يقول: ليس متفقًا على صحته؛ أي: أنه لم يتفق عليه الشيخان، وأحيانًا يقول: ليس متفقًا على صحته يعني: أن الحديث مختلف فيه صحيح أو ضعيف، وهذا هو المُراد.

يريد المؤلف أن هذا الحديث اختلف فيه صحة وضعفًا، فمن العلماء -وهم الجمهور- من يأخذ به ويصححه، ومنهم من يضعفه، أو يورد عليه مآخذكما أشرنا إلى شيءٍ من ذلك.

* قوله: (وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ).

أولًا: هذا غير مُسَلَّم؛ لأنه ليس معنى أن الحديث لم يخرجاه الشيخان أنه غير صحيح، فهناك آلاف الأحاديث صحت، وبعضها على شرط الشيخين، ولم يخرجا في الصحيحين.

ص: 3348

فلا يلزم أن تكون كل السنة جمعت في الصحيحين، فكل إمام له شروط في التصحيح، فالبخاري له شروط، وشروطه فاقت شروط مسلم، ولذلك لا يُخرّج في كتابه إلا ما انطبقت عليه شروطه.

لكنْ لا يلزم من هذا أنَّ البخاري لم تفته أحاديث، فقد فاتته أحاديث، وقد استدرك عليه الحاكم وغيره، وإن كان غالب ما استدركه الحاكم غير وارد، لكن وجدت أحاديث على شرط البخاري ليست في صحيحه، وأيضًا الإمام مسلم له شروط في تصحيح الأحاديث.

ولذلك قالوا:

تشاجر قوم في البخاري ومسلم

لدي وقالوا أي ذين تقدم

فقلت لقد فاق البخاري صحة

كما فاق في حسن الصناعة مسلم

فصناعة مسلم في ترتيبه للأحاديث وتنسيقه وفي التبويب يختلف عن البخاري، أما البخاري كما قال العلماء: شروطه أقوى وفقهه في تراجمه، فكم من الأحاديث التي لا تنطبق عليها شروطه، نجد أنه يعنون لها ويضعها عنوانًا لباب، وقد تجد أنَّ هذا العنوان حديث صحيح في صحيح مسلم، أو في السُّنن، أو عند أحمد، فهو لا يغفل هذه الأحاديث في كثير من الأحيان، وإنما يجعلها ترجمة لباب أو عنوانًا له فيذكر الحديث، وتجد أن الشُّراح وبخاصة ابن حجر ينبه على ذلك ويتكلم عنه، ويبين أن هذا حديث في مكان آخر.

إذًا ظهر لنا أنه لا يلزم مما ذكر المؤلف أنَّ كل حديث صحيح يلزم إخراجه، فكم من الأحاديث التي صحت وليست في الصحيحين.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْوَقْصِ فِي الْبَقَرِ: أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ هَذَا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْأَوْقَاصِ وَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام).

معاذ رضي الله عنه عاد بعد موت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن في الحديث المشهور: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ-:

ص: 3349

"إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ. وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ")

(1)

.

فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أوصاه ونبهه، وهكذا إذا أراد الوالي، أو المسؤول أن يرسل داعية في مجال الدعوة، أو في مهمة فإنه يوصيه بتقوى اللَّه سبحانه وتعالى ويرسم له الطريق السوي الذي يسير فيه، والذي يجعل الناس يتقبلون دعوته، ويقبلون عليها، ويرغبون فيها، ولأنه لما كان سيذهب إلى أهل كتاب، ولديهم علم، وهم أهل جدل ونقاش، بيّن له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل معهم، وهكذا كل داعية ينبغي في سبيل دعوته أن يكون سائرًا على منهج قويمٍ، وصراطٍ مستقيم، لا عوج فيه ولا انحراف.

* قوله: (فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ قَدْ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم).

وفي مسند أحمد

(2)

أنه أدركه وأخذ عنه، وهذا الذي ذكره المؤلف موجود في موطأ الإمام مالك، وعند البيهقي رحمهم الله وعند غيرهم.

* قوله: (فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ طَلَبَ حُكْمَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ).

نحن نقول جاء في الحديث التنصيص على ما تجب فيه زكاة الإبل، وسُكِت عن الباقي، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيّن أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى سكت عن أشياء رحمة بعباده

(3)

فلا يسأل عنها، فإذا ما دامت الفرائض قد بُينت وسُكِت عنها،

(1)

أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه الدارقطني (5/ 325) وقال الألباني في "غاية المرام في تخريج أحاديث =

ص: 3350

ونُصَّ على أنها غير واجبة في زكاة الإبل، وفي زكاة الغنم فلا نفرد البقر.

وهؤلاء عكسوا، فقالوا: لما جاء التنصيص عليها في زكاتي الإبل والغنم، وأنها لا يجب فيها شيء اقتضى ذلك المفهوم أنَّ السكوت عن الأوقاص في زكاة البقر دليل على أنها تنفرد بحكم مستقل، وهذا غير صحيح؛ لأنَّ هذه الأوقاص لو كانت تجب لاشتهر ذلك بين الصحابة رضي الله عنهم وأيضًا لفعل ذلك معاذ، رضي الله عنه لكنه توقف في ذلك، والرسول أرشده إلى ما يجب أن يأخذه من الناس مما يجب عليه.

* قوله: (فَمَنْ قَاسَهَا عَلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لَمْ يَرَ فِي الْأَوْقَاصِ شَيْئًا).

لأن تلك لا يجب في أوقاصها شيء، وهذا هو الصحيح.

* قوله: (وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَوْقَاصِ الزَّكَاةُ إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ فِي الْبَقْرِ وَقْصٌ إِذْ لَا دَلِيلَ هُنَالِكَ مِنْ إِجْمَاعٍ وَلَا غَيْرِهِ).

نفس الفوائد الموجودة فيها موجودة في الأُخرى وإن اختلفت، فالإبل كما هو معلوم سخرها اللَّه سبحانه وتعالى ليركبها الإنسان، وليحمل عليها، ولينتقل فيها من بلد إلى بلد، وليستفيد بلحمها وبجلدها وبغير ذلك من الفوائد الكثيرة، كذلك البقر لها فوائد كثيرة، فنحن نجد أننا نستفيد من درها أي: لبنها، واللبن يستفاد منه فيخرج منه الزبدة والقشدة والجبن وغير ذلك، وكذلك نستفيد من نسلها فهي تتوالد، وهذا التوالد يستفاد منه، كذلك يستفاد منها في تسخيرها في حرث الأرض وفي استخراج الماء، فلها فوائد عظيمة.

ودعوى أنها اختصت عن غيرها بأنها لم تجب، فبعض العلماء يقول: لم يُنص، أو لم يرد تفصيل في زكاتها؛ لأنها لا تختلف عن الإبل، فلما كانت أوقاص الإبل لا تجب فيها زكاة، فكذلك البقر أيضًا.

= الحلال والحرام" (ص: 17): "رواه الدارقطني وحسنه النووي وهو ضعيف"، وحسنه في "تحقيق الإيمان لابن تيمية" (ص 44).

ص: 3351

[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي نِصَابِ الْغَنَمِ وقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ]

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (وَأَجْمَعُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ)

(1)

.

الذي تجب فيه الزكاة هي السائمة، سواء كانت إبلًا أو بقرًا أو غنمًا.

أما المعلوفة أو العاملة التي تعمل في حقل أو غيره، فهذه لا زكاة فيها، عند الجمهور، وخالف في ذلك مالك، ولا شكَّ أنَّ الأدلة على خلاف مذهب مالك

(2)

.

ولو أن صاحبها علفها قليلًا لا تسقط فيها الزكاة.

بعض العلماء قال: المقصود أنْ تسوم في غالب العام.

بقيت جزئيات نريد أن ننبه عليها؛ لأن المؤلف لا يأتي إلا بأمهات المسائل.

هنا مسألة مهمة في نظري، ولا أراها من جزئيات المسائل، لكن ربما المؤلف رأى أن الاسم يشملها، وهي الجواميس

(3)

، وهي تأخذ حكم

(1)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 45) حيث قال: "وأجمعوا على أن في أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين"، وانظر:"مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 36).

(2)

يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 592) حيث قال: "أو كانت عاملة في حرث أو حمل فتجب فيها، أو كانت معلوفة، ولو في جميع العام فتجب فيها كما لو كانت سائمة".

(3)

الجاموس: نوع من البقر، دخيل، وهو بالعجمية: كواميش. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (7/ 283).

ص: 3352

البقر في الزكاة، وهذا محل اتفاق بين العلماء، وابن المنذر قد حكى الاتفاق على ذلك

(1)

.

كذلك أيضًا بالنسبة للمعز والضأن حكمهما واحد أيضًا بالنسبة لوجوب الزكاة، وإن اختلفتا في القدر.

كذلك أيضًا البخاتي في الإبل تأخذ حكم الزكاة.

يبقى هناك مسائل يثيرها بعض العلماء:

منها: لو تولدت بقرة أهلي، من بقرة وحشي وبقرة أهلي.

فمن العلماء من أوجب الزكاة فيها مطلقًا، ومنهم من منعها مطلقًا، ومنهم من فصل فقال: إن كانت الأم أهلية وجبت الزكاة، وإلا فلا

(2)

.

والذي يظهر لنا: أنَّ الزكاة لا تظهر في مثل هذه الحالة.

وهذا الكلام يقال أيضًا في الإبل وفي الغنم، حتى إنَّ بعض الذين

(1)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 45) حيث قال: "وأجمعوا على أن حكم الجواميس حكم البقر".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 280) حيث قال: "نصاب البقر والجاموس، ولو متوالدًا من وحش وأهلية بخلاف عكسه، ووحشي بقر وغنم".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 432) حيث قال: "لا منها ومن الوحش؛ أي: مطلقًا هذا هو المشهور، وقيل بالزكاة مطلقًا وقيل إن كانت الأم وحشية فلا زكاة وإلا فالزكاة".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الغرر البهية في شرح البهجة الوردية" لزكريا الأنصاري (2/ 153) حيث قال: "ولا لزومَا للزكاة في غير ما قلناه من أول الباب إلى هنا، فلا تلزم في غير النعم كالخيل والرقيق والمتولد بين النعم وغيرها بل أو بين الأهلي والوحشي منها".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 387) حيث قال: "وسائمة بقر الوحش وغنمه؛ لشمول اسم البقر والغنم لهما، والمتولد بين ذلك؛ أي: الأهلي والوحشي والسائم وغيره كالمتولد بين الظباء والغنم، وبين السائمة والمعلوفة تغليبًا للوجوب".

ص: 3353

يقولون بأنه إذا وجد أهلي وغيره تجب الزكاة، يقولون: إن غنم مكة في أصلها كانت متولدة بين الغنم والظباء، وهذا يحتاج إلى دليل قوي، لكننا نقول: الأمر غير واضح.

دليل وجوب زكاة سائمة الغنم: السنة والإجماع.

وأما السنة: فقد ورد في الكتاب الذي كتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونفذه أبو بكر بعد وفاة رسول اللَّه عندما بعثه إلى أنس في البحرين في: "وفي سائمة الغنم في أربعين شاة شاة"، إلى أن بين بعد ذلك: (إلى أن تصل مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة ففي كل مائة شاة للَّه"

(1)

، هذا سيأتي تفصيله.

إذًا هذا حديث صحيح وتلقته الأمة بالقبول، وعمل به أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونفذه أبو بكر رضي الله عنه وقضى به، وكذلك فعل عمر رضي الله عنه أيضًا قضى به وعمل به، وعمل بذلك الصحابة رضي الله عنهم.

كذلك أيضًا الإجماع: أجمع العلماء على أنَّ الزكاة تجب في سائمة الغنم وفق الأنصبة، والواجبات التي ورد تحديدها في كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي نفذه أبو بكر وأرسله إلى أنس في البحرين.

الخلاصة: إذًا الزكاة إنما تقوم على أمرين؛ الأمر الأول: وجود نص في ذلك، والأمر الآخر: هو التوقيف.

فالعبادات توقيفية، لا يزاد فيها ولا ينقص.

إذًا زكاة الغنم -كزكاة الإبل- ووجوب الزكاة في سائمتها، إذا بلغت أربعين تجب فيها شاة لوجود أدلة في ذلك، منها في سائمة الغنم:(في أربعين شاة شاة)، وكذلك إجماع العلماء على وجوب الزكاة فيها.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 3354

* قوله: (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْن).

هنا فارق كبير، كلما تجاوز الحد خفف، يجب في أربعين شاة، إلى مائة وعشرين.

يعني: الذي عنده أربعون شاة يخرج شاة واحدة، والذي عنده مائة وعشرون يخرج شاة واحدة. فإذا ما انضم وزاد على العشرين بعد المائة شاة، حينئذ يخرج شاتين. ثم يستمر الأمر إلى المائتين، وفي مائتين وواحد ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة، فإذا وصلت أربعمائة حينئذ وجبت أربع شياه، وهناك من يخالف في ذلك كما سيأتي.

* قوله: (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَثَلَاثُ شِيَاهٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ).

لا شكَّ أنَّ هذه عبادات توقيفية، ولا مجال للنظر أو الاجتهاد فيها، فينبغي للمسلم أن يقف عندها ولا يتجاوزها، فهذا هو حكم اللَّه وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يعمل به.

* قوله: (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلاثِمِائَةِ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ).

هذا هو مذهب جمهور العلماء

(1)

، هذا الذي يحكيه المؤلف.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير" لابن الهمام (2/ 181) حيث قال: "فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه".

ومذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي"(1/ 597) حيث قال: "وأما الغنم؛ ففي أربعين منها جذعة أو جذع ذو سنة ودخل في الثانية، إلى مائة وعشرين. وفي مائة وإحدى وعشرين: شاتان جذعتان أو جذعان إلى مائتين وفي مائتين وشاة: ثلاث من الشياه، كذلك إلى ثلاثمائة وتسعة وتسعين".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر (3/ 222) حيث قال: "ولا شيء في الغنم حتى تبلغ أربعين فشاة جذعة ضأن أو ثنية معز، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان وفي مائتين وواحدة ثلاث من الشياه وفي أربعمائة أربع ثم في كل مائة شاة".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 340) حيث قال: "وأول نصاب الغنم أربعون، وفيها شاة وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه".

ص: 3355

* قوله: (وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ)

(1)

.

الحسن بن صالح: هو إمام من أئمة الفقه معروف، له رأي في ذلك، يرى أنها إذا وصلت ثلاثمائة وزادت شاة ففيها شاة، فيكون في ثلاثمائة وشاة أربع شياه، وفي الأربعمائة خمس شياه، فهو يخالف الجمهور في هذه الزيادة.

* قوله: (فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتِ الْغَنَمُ ثَلَاثَمِائَةِ شَاةٍ وَشَاةً وَاحِدَةً أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَ شِيَاهٍ، وَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ وَشَاةً فَفِيهَا خَمْسُ شِيَاهٍ، وَرُوِيَ قَوْلُهُ هَذَا عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ).

المقصود بـ (منصور) هنا هو منصور بن المعتمر، بـ (إبراهيم) هو إبراهيم النخعي.

وإبراهيم إذا أطلق في اصطلاح الفقهاء فإنه ينصرف إلى إبراهيم بن يزيد النخعي الإمام المعروف، شيخ حماد بن سليمان الذي هو شيخ أبي حنيفة.

فإذا أردت أن تعرف من هو منصور، فاعرف من هم الرواة عن إبراهيم النخعي.

منصور بن المعتمر أحد التلاميذ والرواة عن إبراهيم النخعي.

وهذا القول يحكيه منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي من قوله

(2)

.

(1)

يُنظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (3/ 331) حيث قال: "وقال النخعي رحمه الله والحسن بن صالح رحمه الله: إن زادت الغنم على ثلاثمائة واحدة وجب فيها أربع شياه إلى أربعمائة".

(2)

يُنظر: "الذخيرة" للقرافي (3/ 95) حيث قال: "وقال النخعي: إذأ بلغت ثلاثمائة ففيها أربع شياه إلى أربعمائة ففيها خمس شياه".

ص: 3356

* قوله: (وَالْآثَارُ الثَّابِتَةُ الْمَرْفُوعَةُ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَعْزَ تُضَمُّ مَعَ الْغَنَمِ

(1)

، وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ مِنْ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ، فَقَالَ مَالِكٌ

(2)

: يَأْخُذُ مِنَ الْأَكْثَرِ عَدَدًا، فَإِنِ اسْتَوَتْ خَيَّرَ السَّاعِيَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلِ السَّاعِي يُخَيَّرُ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَصْنَاف

(3)

. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(4)

: يَأْخُذُ الْوَسَطَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: تَعَدُّ عَلَيْهِمُ السَّخْلَةَ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي وَلَا نَأْخُذُهَا، وَلَا نَأْخُذُ الْأَكُولَةَ وَلَا الرُّبَّى وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ).

وهذا الذي قاله المؤلف هو الصواب.

الجمهور يقولون: في أربعين شاة إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت واحدة -يعني: بلغت إحدى وعشرين ومائة- ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا بلغت مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، ثم في كل مائة شاة، يعني: إلى أربعمئة ففيها أربع شياه.

خالفهم آخرون: فأوجبوا بعد الثلاثمائة شاة، فيكون التي بعد الثلاثمائة هي الرابعة، وعند الأربعمائة هي الخامسة، فيحصل فرق بينهم وبين الجمهور بأن يزيد هؤلاء شاة بعد الثلاثمائة.

(1)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 45) حيث قال: "وأجمعوا على أن الضأن والمعز يجمعان في الصدقة".

(2)

يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 598) حيث قال: "وضم ضأن لمعز وخير الساعي إن وجبت ذات واحدة في صنفين وتساويا".

(3)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 281) حيث قال: "لأن النصاب إذا كان ضأنا يؤخذ الواجب من الضأن ولو معزًا فمن المعز، ولو منهما فمن الغالب، ولو سواء فمن أيهما شاء".

(4)

يُنظر: "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" للخطيب الشربيني (2/ 72) حيث قال: "إن اختلف كضأن ومعز ففي قول يؤخذ من الأكثر فإن استويا فالأغبط، والأظهر أنه يخرج ما شاء مقسطًا عليهما بالقيمة، فإذا كان ثلاثون عنزًا وعشر نعجات أخذ عنزًا أو نعجة بقيمة ثلاثة أرباع عنز وربع نعجة".

ص: 3357

وقول جمهور العلماء هو الصواب؛ لأن هذا هو الموجود في الآثار التي وردت في كتاب الصدقة، الذي أرسله أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى أنس بن مالك رضي الله عنه عندما أرسله إلى البحرين، فإن فيه هذه التقديرات، وقد جاءت نصًّا في ذلك الكتاب الذي ذكرنا.

والعلماء يستنبطون وما يستخرجون من أحكام من هذه الشريعة؛ لأنها شريعة اللَّه الخالدة التي اختارها اللَّه سبحانه وتعالى لعباده لتبقى إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، حتى عيسى ابن مريم إذا نزل في آخر الزمان فإنه سيحكم في هذه الشريعة.

وينبغي للمسلم دائمًا ألا يقرأ أحكام الشريعة مجردة، اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أمرنا أن نتدبره، وقال عز وجل:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، ولا شكَّ أنَّ المؤمن عندما يتدبر كتاب اللَّه عز وجل ويكرر قراءته فإنه يزداد حلاوةً، وفي كل وقت من الأوقات تظهر له من الحكم والأسرار ما لم يظهر له قبل ذلك.

ولذلك نجد أنَّ الإمام العظيم الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه في أخريات حياته سجن، وفي آخرها منع من كل شيء، وذكر أنه فتح اللَّه عليه في أشياء، وأن مما فتح اللَّه عليه سبحانه وتعالى أنه وقت على أشياء في كتاب اللَّه عز وجل لم يصل إليها قبل ذلك، فالعلوم في كل وقت من الأوقات تأتي لنا بجديد، ونجد أن كتاب اللَّه عز وجل قد أشار إلى ذلك.

كذلك هذه العلوم التي تدرس، نجد أن هذه الشريعة لها أصل وفروع، فأصلها كتاب اللَّه عز وجل وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، هذا أصل الثابت.

ثم تجد أن هذا الأصل له فروع: هذه الأغصان، وهذه الأغصان إنما تتغذى من هذا الأصل، فهذه العلوم التي تدرس من حديث وتفسير وفقه، أو من علوم الحديث ومن علوم التفسير، إنما هي في الأصل استمدت من كتاب اللَّه عز وجل إما نصًّا منطوقًا وإما مفهومًا مخالفًا، وإما أخذت من مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.

ومن بين هذه العلوم: علم الفقه، هذا الكنز العظيم الذي خلفه لنا

ص: 3358

العلماء، وهذا الفقه إنما هو يتكلم عن بقية أركان الإسلام الخمسة، فترون أن أعظم وأهم هذه الأركان الخمسة التي وردت في حديث جبريل وفي غيره، كحديث ابن عمر:"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأنَّ محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"

(1)

.

ومن هنا نجد أنَّ بعض الفقهاء يقدم كتابه بمقدمة عن العقيدة؛ لأنها هي الأصل، هذه العقيدة التي ظل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينافح ويدعو إليها في مكة ثلاثة عشر عامًا، حارب الشرك والأنداد، ومسه من الأذى هو وأصحابه ما اللَّه به عليم، وأذن لهم بالهجرة إلى الحبشة، ثم بعد ذلك فتح اللَّه عليه فأتى إلى المدينة الطيبة.

نعود مرة أُخرى ونقول: حبذا لو أنَّ المسلمين في كل مكان تعمقوا في دراسة فقه الزكاة، وأدركوا لبها وغاصوا في عمقها، لوجدوا أنَّ فيها الحل لكثير من مشكلات هذا العصر، ففيها الحل لمشكلة الفقر.

هذه المشكلة التي تتكلم عنها كثير من المجتمعات، وعدد من المجتمعات استغل بعض أصحاب الفكر الهدام والمقاصد السيئة فرأوا عدم وجود عدل بين المجتمعات، فهناك طبقات عالية ودون ذلك، فهم يريدوا أن يكون الناس كلهم سويًّا، وهم بذلك يريدون أن يخالفوا حكم اللَّه، ونسوا أن اللَّه سبحانه وتعالى هو القائل:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]، ومع ذلك نجد أن اللَّه سبحانه وتعالى أوجب الزكاة وحض على الصدقات، قال تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وقال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].

هذه الزكاة التي انفردت بها هذه الشريعة الإسلامية الخالدة، عندما

(1)

أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

ص: 3359

تطبق تجد أن الفقر يختفي من المجتمعات، وإن وجد فهو قليل، فلو أن الأغنياء جادت أنفسهم بأداء هذه الزكاة، لكان -واللَّه- ذلك كما أشار إلى ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ حفظًا لأموالهم وصيانة لها.

فأداء الزكاة إلى جانب كونه فرضًا من فروض الإسلام، طاعة للَّه سبحانه وتعالى، واللَّه -تعالى- يقول:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

واللَّه -تعالى- هو الذي أوجب الزكاة، والذي حدد فرائضها وبينها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه -تعالى- يقول:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].

واللَّه سبحانه وتعالى لا يأمر إلا بمعروف ولا ينهى إلا عن منكر، لا يأمر إلا بما فيه خير للناس، ولا ينهاهم إلا عما فيه فسادهم وانحراف أمورهم وعدم استقامتها.

ليحذر الإخوة الذين وهبهم اللَّه سبحانه وتعالى مالًا، فيجب عليهم أن يشكروه ويتذكروا ما حصل لقارون، قال تعالى:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، قال في النهاية:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]، فخسف اللَّه به وبداره الأرض:{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 82، 83].

فالغني إذا أدى زكاته أطاع اللَّه سبحانه وتعالى، وهو عندما ينزل عند حكم اللَّه سبحانه وتعالى لا يريد علوًّا في الأرض، وإنما هو استجاب لربه ولحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيجد العاقبة الطيبة في الآخرة.

ص: 3360

هذه الزكاة ستحفظ لك مالك؛ لأنك أديت حق اللَّه سبحانه وتعالى، أطعت ربك، وما دمت قد أطعت ربك فاللَّه سبحانه وتعالى سيتولى حفظ مالك، سيصونه لك، سيجعل هذه الزكاة بمثابة سياج يطوقه ويحفظه من كل سوء.

كذلك هذا المال الذي تزكيه يحفظه اللَّه لك، نفسك تعودها على البذل؛ لأنك إذا أديت هذه الزكاة وإن كانت واجبة تعودت على البذل والسخاء، والجود، وزالت عنك صفة الشح والبخل، وصفة الشح والبخل إنما هما ذميمتان، والكرم والجود إنما هي من الصفات الحميدة التي أثنت الشريعة الإسلامية على أصحابها، والرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان أجود من الريح.

كذلك فيها حفظ لنفسك أيها المؤمن، تبقى نفسك إلى جانب ذلك مطمئنة؛ لأنك إذا أديت ما وجب عليك تجد أن نفسك مرتاحة، وإذا أردت أن تعرف حقيقة الأمر فانظر إلى نفسك: متى ما أتيت إلى صلاة الفجر بخشوع وبذل وانقياد وأدركت الفريضة مع الجماعة، وبين وقت تتخلف فيها عن الجماعة، انظر إلى حالك في ذلك اليوم، ستجد أنك في ذلك اليوم الذي حافظت على الصلاة فيه وأديتها في وقتها ومع جماعة مطمئن النفس مرتاح الفؤاد منشرح الصدر، وتجد أن ذلك بالعكس عندما لو حصل تقصير، ولقد أدرك الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم جميعًا ذلك.

كذلك أيها المسلم، ألست تريد أن تعيش في مجتمع متآلف متحاب تسوده الأخوة، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"

(1)

.

وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن "المومن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586).

(2)

أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585).

ص: 3361

فإذا أحسست بحال أخيك الفقير، فقدمت له أمرًا واجبًا عليك بنفسٍ راضية وبنفس مرتاحة، فهذا سيبث في نفسه أيضًا الود والمحبة لك، وسيجعله يحس بأنه يعيش في مجتمع تنتشر فيه الرحمة ويخيم عليه الود وتطوقه السعادة، مجتمع هذا حاله يحصل فيه تعاون بين الغني والفقير، بين القوي والضعيف، بين الكبير والصغير، هذا هو المجتمع الذي نشره الإسلام.

واللَّه سبحانه وتعالى هو الذي قسم الناس إلى أصناف: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)} [الزخرف: 33]. وله في ذلك حكمة، فربما لو أغنى هذا الفقير لكان الغنى ضررًا له، وربما لو أفقر هذا الغني لكان هذا الفقر سببًا في ضجره وجزعه وعدم صبره، وربما لو أغني هذا الفقير لتمادى وتجاوز وطغى كما كان من حال قارون.

فاللَّه -تعالى- هو الذي يعطي المال، ولا يدري الإنسان، قد يكون هذا المال سببًا في ضرر المرء، فإن أعطيت المال فأديت حق اللَّه فيه وتصدقت، وهذا المال عارية مستردة، فإنك ستجد ذلك محفوظًا ومدونًا لك في صحائفك يوم القيامة، وأنت من أشد الناس إليها، وأنت في وقت أشد ما تكون للحسنة الواحدة. وإن استخدم الإنسان ماله في معاصي اللَّه سبحانه وتعالى فإنه أيضًا سيجد ذلك في كتاب:{لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8].

* قوله: (وَنَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ).

الجذعة: هي التي لها سنة، والثنية: هي التي لها سنتان.

والجذعة التي تؤخذ من الضأن وهو: ما له ستة أشهر، والثنية من المعز: هو ما له سنة.

ص: 3362

* قوله: (وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ خِيَارِ الْمَالِ وَوَسَطِهِ)

لأن هذه الجذعة تساوي الثنية، وبالنسبة للضأن جودته أكثر من جودة المعز.

* قوله: (وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ وَلَا هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوارٍ)

(1)

.

التيس أجاب العلماء عنه بجوابين: إما أن يكون هذا الفحل خصص على الغنم، فلا ينبغي أن يؤخذ فيكون في ذلك ضرر على صاحبه، أو لأنَّ لحمه أقل من لحم غيره من الضأن، ففيه ضعف ودناءة.

فلا يؤخذ التيس لدناءة لحمه، فمن هنا مراعاة حال صاحب المال، الشريعة الإسلامية كفتان متوازيتان فلم تغفل جانب الفقير، فلا يعطى تيسًا؛ لأن التيس لحمه ليس كلحم الضأن فيه دناءة، إنما يؤخذ غير التيس.

كذلك (ولا هرمة)، لا يأتي صاحب المال إلى شاة هرمة كبيرة تساقطت أسنانها ثم تؤخذ فتعطى للفقراء؛ لأن هذا فيه ضرر على الفقراء، وفي الحديث "لا ضرر ولا ضرار"

(2)

، فكما أنَّ الشريعة أيها الغني لم تظلمك حقك ولم تغمطك

(3)

إياه ولم تتجاوز ما وجب عليك، عليك كذلك أيضًا أن تؤدي للفقير حقه مستوفى، فلا تقدم له تيسًا، ولا شاة هرمة تجاوز بها السن فتساقطت أسنانها فساء لحمها.

(ولا ذات عوار)؛ أي: التي فيها عيب؛ لأن ذات العيب فيها نقص، والنقص غير مطلوب في هذا.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 196) حيث قال: "واتفقوا على أنه لا يجب أن يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عيب ولا فحل الغنم ولا كريمة المال".

(2)

سبق تخريجه.

(3)

الغمط: الاستهانة والاستحقار، وهو مثل الغمص. وغمط النعمة والعافية، بالكسر، يغمطها غمطا: لم يشكرها. يُنظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 364).

ص: 3363

الخلاصة: فينبغي أن المصدِّق أي: الذي يختاره الإمام أو الوالي ليأخذ زكاة الماشية إبلًا كانت أو بقرًا أو غنمًا، عليه أن يكون عادلًا في ذلك؛ لأن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة

(1)

، ولذلك تجدون أنَّ في السبعة الذين يظلهم اللَّه ظله يوم لا ظل إلا ظله، بدأهم بإمام عادل

(2)

.

وهذه الأصناف لا تؤخذ؛ لأنها غير مناسبة في أن تؤدى في هذه العبادة.

* قوله: (لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ).

كتاب الصدقة هو الذي كتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونفذه أبو بكر بعد مماته عليه الصلاة والسلام، فعمل به حينما أرسله إلى البحرين، وكذلك عمل به عمر رضي الله عنه، وبقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو كتاب صحيح معروف ومشهور، واشتمل على جملة كبيرة من أحكام الزكاة تتعلق بزكاة الإبل والبقر والغنم والنقدين.

* قوله: (إِلَّا أَنْ يَرَى الْمُصَدِّقُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْر لِلْمَسَاكِينِ)

قد يرى المصدق أن في التيس مصلحة للمساكين، فربما يأخذه.

(1)

هو حديث أخرجه مسلم (1827) وفيه: "عن عمرو بن أوس، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال ابن نمير: وأبو بكر: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث زهير: قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند اللَّه على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"".

(2)

أخرجه البخاري (6806)، ومسلم (1031) وفي البخاري:"عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "سبعة يظلهم اللَّه يوم القيامة في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللَّه، ورجل ذكر اللَّه في خلاء ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق في المسجد، ورجلان تحابَّا في اللَّه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، قال: إني أخاف اللَّه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه"".

ص: 3364

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمْيَاءِ وَذَاتِ الْعِلَّةِ هَلْ تُعَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَمْ لَا؟ فَرَأَى مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

أَنْ تُعَدَّ).

وهذا هو مذهب جماهير العلماء، والمصلحة في ذلك تعود إلى الفقراء.

قد يكون الموجود لا يصل إلي النصاب فإذا عدت بلغ النصاب، لكن لا ينبغي للمسلم أن يخرج ما فيه عيب وإنما يختار الطيب، فكما أنه لا يؤخذ من المزكي الربى ولا الآكلة؛ أي: الشاة التي تركها الإنسان فيبيته فيشرب هو وأولاده من لبنها، أوالتي تربي ولدها؛ لانَّ في هذا حيفًا على دافع الصدقة، كذلك هو لا ينبغي أيضًا أن يقصر فيقدم ما فيه عيب.

* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لا تُعَدُّ)

(3)

.

ووجهته: أن هذه فيها عيب، فلا تدخل في الطيب، فينبغي ألا يعتد بها

(4)

.

(1)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 435) حيث قال: "ولزم الوسط؛ أي: أن الأنعام كانت من نوع أو من نوعين إذا كان فيها الوسط فلا إشكال في أخذه فإن لم يكن فيها وسط بأن كانت كلها خيارًا أو شرارًا فإن الساعي لا يأخذ منها شيئًا ويلزم ربها الوسط ما لم يتطوع المالك بدفع الخيار ومحل إلزامه بالوسط عند عدم التطوع بالخيار إلا أن يرى الساعي أخذ المعيبة أحظ للفقراء فله أخذها".

(2)

يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 224) حيث قال: "ولا تؤخذ مريضة، ولا معيبة بما يرد به المبيع عطف عام على خاص للنهي عن ذلك رواه البخاري إلا من مثلها؛ أي: المراض أو المعيبات؛ لأن المستحقين شركاؤه، ولو كان البعض أردأ من بعض أخرج الوسط في العيب، ولا يلزمه الخيار جمعًا بين الحقين".

(3)

يُنظر: "فتح القدير" لابن الهمام (2/ 195) حيث قال: "وهذه الأدلة تقتضي أن لا يجب في الأخذ من العجاف التي ليس فيها وسط اعتبار أعلاها وأفضلها".

(4)

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 405) حيث قال: "وتؤخذ مريضة من نصاب كله مراض وتكون وسطًا في القيمة؛ لأن الزكاة وجبت مواساة وتكليف الصحيحة عن المراض إخلال بها".

ص: 3365

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ مُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْأَصِحَّاءَ وَالْمَرْضَى أَمْ لَا يَتَنَاوَلُهُمَا؟).

لا شكَّ أنَّ الاسم عند الإطلاق يشمل الكل، وهذا ما يتفق مع مذهب الجمهور.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي نَسْلِ الأُمَّهَاتِ هَلْ تُعَدُّ مَعَ الْأُمَّهَاتِ فيَكْمُلُ النِّصَابُ بِهَا إِذَا لَمْ تَبْلُغُ نِصَابًا؟).

يعني: السخال التي تكون مع الغنم الكبيرة التي حال عليها الحول ووصلت القدر الذي تجب فيه الزكاة، بأن كانت مثلًا من المعز مضى لها سنة، ومن الضأن ستة أشهر، من الضأن جذعة، ومن المعز ثنية، فإذا بلغ ذلك فتسمى كبيرة، لكنَّ السخال الصغار، نقل عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"نعدها عليهم ولا نأخذها منهم"، ومن هنا وقع الخلاف في هذه المسألة:

فبعض العلماء: يرى أنها تعد وتعتبر في النصاب، وتخرج أيضًا فيها الزكاة.

وبعضهم قال: يكمل بها النصاب لكنها لا تخرج.

وبعضهم قال: إن كانت الأمهات قد بلغت نصابًا اعتد بها وإلا لا.

وهذا هو أرجحها في النظر، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وهذا هو القريب من قول عمر رضي الله عنه:"نعدها عليهم ولا نأخذها".

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: يُعْتَدُّ بِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

(1)

يُنظر: "حاشية الصاوي"(1/ 591) حيث قال: "وإن بنتاج؛ أي هذا إذا كان كمال النصاب بنفسه، بل وإن كان بنتاج بل وإن صار كله نتاجًا".

(2)

يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 345) حيث قال: "أو كانت نعمه في سن لا فرض فيه أخذ الساعي صغيرًا وقد يستبعد تصويره فإن من شرط الزكاة الحول وبعده يبلغ حد الإجزاء ولتصور بأن تماوتت وفي نسخة تموت وفي نسخة تتماوت =

ص: 3366

وَأَبُو حَنِيفَةَ

(1)

وَأَبُو ثَوْرٍ

(2)

: لَا يُعْتَدُّ بِالسِّخَالِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: احْتِمَالُ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه إِذْ أَمَرَ أَنْ تُعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسِّخَالِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ

(3)

، فَإِنَّ قَوْمًا فَهِمُوا مِنْ هَذَا إِذَا كَانَتْ نِصابًا، وَقَوْمٌ فَهِمُوا هَذَا مُطْلَقًا، وَأَحْسَبُ أَنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ

(4)

لَا يُوجِبُونَ فِي السِّخَالِ شَيْئًا، وَلَا يَعُدُّونَ بِهِ لَوْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ).

= الأمهات وقد تم حولها والنتاج صغارًا أو ملك نصابًا من صغار المعز وتم لها حول والأشهر في غير الآدميات الأمات بحذف الهاء وفي الآدميات الأمهات بإثباتها فيؤخذ من ست وثلاثين بعيرًا فصيل فوق المأخوذ من خمس وعشرين ويؤخذ في الأنسب بما قدمه من ست وأربعين بعيرًا فصيل فوق المأخوذ من ست وثلاثين وعلى هذا فقس".

(1)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(2/ 280) حيث قال: "ولا في حمل بفتحتين ولد الشاة وفصيل ولد الناقة وعجول بوزن سنور: ولد البقرة؛ وصورته أن يموت كل الكبار ويتم الحول على أولادها الصغار إلا تبعًا لكبير ولو واحدًا، ويجب ذلك الواحد ولو ناقصًا".

(2)

يُنظر: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي" للزيلعي (1/ 266) حيث قال: "ولا في الحملان والفصلان قوله: وهذا عند أبي حنيفة؛ أي: وهو آخر أقواله كما سيأتي. اهـ. قوله: وكان أبو حنيفة أولا يقول إلخ من الجذع والثنية. اهـ. قوله: وبه أخذ مالك وزفر؛ أي وأبو عبيد وأبو ثور وأبو بكر من الحنابلة".

(3)

يُنظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 172) حيث قال: "عن بشر بن عاصم، عن أبيه، عن جده، قال: استعملني عمر رضي الله عنه على صدقات قومي فاعتددت عليهم بالبهم فاشتكوا ذلك وقالوا: إن كنت تعدها من الغنم فخذ منها صدقتك، قال: فاعتددنا عليهم بها ثم لقيت عمر رضي الله عنه فقلت: إن قومي استنكروا علي أن اعتددت عليهم بالبهم وقالوا: إن كنت تراها من الغنم فخذ منها صدقتك، فقال عمر رضي الله عنه: اعتد على قومك يا سفيان بالبهم وإن جاء بها الراعي يحملها في يده، وقل لقومك: إنا ندع لهم الماخض والربى وشاة اللحم وفحل الغنم ونأخذ الجذع والثني وذلك وسط بيننا وبينكم في المال".

(4)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 430) حيث قال: "خلافا لداود الظاهري القائل إن النتاج لا يزكى ولا يلزم من وجوب الزكاة في النتاج الأخذ منه بل يكلف ربها شراء ما يجزئ".

ص: 3367

مالك أوسع المذاهب في هذه المسألة، يرى أنه يعتد بها وتخرج، أما الشافعية والحنابلة

(1)

فيقولون: يعتد بها إذا أكملت الأمهات التي حال عليها الحول نصابًا، فإن لم تكن فلا يعتد بها، وإنما يكمل بها النصاب عند الحنابلة، لكنها لا تخرج أيضًا عندهم.

* قوله: (وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْخُلْطَةِ

(2)

تَأْثِيرًا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الزَّكَاةِ).

الخلطة: هي أن يجعل مال الرجلين كمال رجل واحد.

وعمدة ذلك هو حديث: "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية". يعني: لو قدر أنَّ المصدق الذي يأخذ الزكاة الذي أرسله الوالي أو الإمام، لو أخذ من حق هذا يرجع على صاحبه بالسوية، ليس هناك شطط ولا ظلم ولا تعدي.

وسيأتي اختلاف العلماء في تفسير: (لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع).

والخلطة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: خلطة أعيان، وتعرف بخلطة الاشتراك أو خلطة الشيوع.

القسم الثاني: خلطة أوصاف، وتعرف أيضًا بخلطة الجوار.

القسم الأول: خلطة الأعيان: هي خلطة مال مشترك بين اثنين، كمال ورثاه، أو عن طريق البيع، أو عن طريق الهبة، أو الوصية، أو غير

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 394) حيث قال: "وحول صغار من إبل أو بقر أو غنم من حين ملك كحول كبار لعموم نحو حديث: "في خمس من الإبل شاة" ولأنها تعد مع غيرها فتعد منفردة كالأمات".

(2)

الخلطة: اجتماع نصابي نوع نعم مالكين فأكثر فيما يوجب تزكيتهما على ملك واحد. يُنظر: "شرح حدود ابن عرفة"(ص: 77).

ص: 3368

ذلك، المهم أن هذا المال انتقل إلى هؤلاء عن طريق مباح، فأصبح ملكًا لهما، هذه تعرف بخلطة الأعيان؛ لأنَّ كل واحد منهم يملك جزءًا أو أجزاء من هذه العين، لكن هذا الذي يملكه مشاع، ليس متميزًا، ولا محددًا، فسميت خلطة شيوع أو مشاعة؛ لأنَّ ما يملكه كل واحد من هؤلاء لا يعرفه بعينه، فليس متميزًا، فحقه مشترك مع غيره، وشيوع لأن حق كل واحد منهم أو منهما مشاع في هذا القدر من المال.

وتسمى بالأموال المشتركة؛ لأنهم يشتركون في المال سواء، وهذه ليس فيها خلاف؛ لأن المال يزكى زكاة المال الواحد.

القسم الثاني: خلطة الأوصاف، يعني: يكون لكل واحد من الخليطين أو الخلطاء نصيب مقدر معروف متميز عن غيره، كأنْ توجد أربعون شاة يملك زيد منها عشرين ويملك عمر منها عشرين، فهذا له عشرون وهذا له عشرون. ومال هذا متميز ومال هذا متميز.

وسميت خلطة جوار؛ لأن مال كل واحد منهما جاور الآخر في مراحه: أي في المكان الذي تبيت فيه، وفي المرعى: المكان الذي ترعى فيه وهو المسرح، وفي المحلب: المكان الذي تحلب فيه، وكذلك في المشرب: المكان الذي تشرب فيه، وكذلك أيضًا في الفحل فهو واحد.

فمتى ما توفرت هذه الشروط، حينئذ تصبح هذه الخلطة خلطة صحيحة، لكن فيها تفصيلٌ.

وقد اختلف فيها العلماء:

1 -

فالحنفية

(1)

: لا يرون هذه الخلطة مطلقًا، فيقولون: إن كان نصيب كل واحد منهما دون نصاب فلا يجب عليه زكاة؛ لأنَّ الزكاة تجب إذا ملك الإنسان نصابًا، وكذلك إن كان كل واحد منهما ملك نصابًا، فمثلًا: لو أنَّ اثنين ملكا أربعين شاة، فهذه الأربعون فيها زكاة، لكن عند

(1)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(2/ 304) حيث قال: "ولا تجب الزكاة عندنا في نصاب مشترك من سائمة ومال تجارة وإن صحت الخلطة فيه".

ص: 3369

أبي حنيفة لا زكاة فيها؛ لأنَّ كل واحد منهما يملك عشرين وهي لا تبلغ نصابًا، فلا تجب الزكاة؛ لأن الزكاة تجب فيما بلغ النصاب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(في أربعين شاة شاة)

(1)

. ولو كان كل واحد منهما يبلغ ثمانين فعلى القول بالخلطة تخرج فيها زكاة واحدة، أبو حنيفة يقول: لا، تفصل ويخرج فيها شاتان كل واحد منهما تلزمه شاة.

2 -

الشافعية

(2)

والحنابلة

(3)

يقولون بالخلطة، بالشروط التي ذكرناها.

3 -

ومالك

(4)

يرى جواز الخلطة، لكنْ بشرط أن يكون ما يملكه كل واحد من الخليطين قد بلغ نصابًا، أما إذا كان دون نصاب فليست بخلطة.

* قوله: (وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ، هَلْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي قَدْرِ النِّصَابِ أَمْ لَا؟).

مالك

(5)

يرى لها تأثيرًا، والشافعي

(6)

وأحمد

(7)

يريان أنَّ المال لو

(1)

سبق تخريجه.

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 74) حيث قال: "ولو اشترك أهل الزكاة كاثنين في ماشية من جنس بإرث أو شراء أو غيره، وهي نصاب أو أقل ولأحدهما نصاب فأكثر وداما على ذلك زكيا كرجل واحد".

(3)

يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 347) حيث قال: "والخلطة في الماشية قد توجب زكاة لا تجب".

(4)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 439، 440) حيث قال: "ولها شروط ستة أشار لأولها بقوله: إن نويت الخلطة أي نواها كل واحد منهما أو منهم لا واحد فقط وفي الحقيقة الشرط عدم نية الفرار ولثانيها وثالثها بقوله وكل حر مسلم فإن فقدا أو أحدهما فلا عبرة بالخلطة وزكى محصل الشروط زكاة انفراد ولرابعها بقوله ملك نصابًا وخالط به أو ببعضه".

(5)

يُنظر: "حاشية الصاوي"(1/ 602) حيث قال: "وكل منهما أو منهم تجب عليه الزكاة".

(6)

يُنظر: "أسنى المطالب"(1/ 347) حيث قال: "والخلطة في الماشية قد توجب زكاة لا تجب".

(7)

يُنظر: "مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 49) حيث قال: "ولا شيء على خلطائه لعدم ملك واحد منهم النصاب ولا أثر لخلطة فيما دون النصاب".

ص: 3370

اجتمع فصار نصابًا -وإن كان عند الانفراد لا يبلغ نصابًا- فإنَّ الزكاة في هذه الحال تجب.

* قوله: (وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَرَوْا لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا، لَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَلَا فِي قَدْرِ النِّصَابِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَكْثَرَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخُلَطَاءَ يُزَكُّونَ زَكَاةَ الْمَالِكِ الْوَاحِدِ).

وأحمد أيضًا معهم.

مثال ذلك: لو قدر أنَّ اثنين عند أحدهما عشرون شاة والآخر مثلها، يخرجان معًا شاة واحدة، ولو قدر أنَّ ثلاثة أشخاص عند كل واحد منهم أربعون شاة، وتوفرت فيهم شروط الخلطة، فإنهم يخرجون شاةً واحدة في الزكاة، لكن لو فرق مالهم، فيخرج كل واحد منهم شاة، فتكون ثلاث شياة.

إذًا هنا كانت المصلحة للخلطاء، ولو فرق الأربعون لكانت للخلطاء.

وأحيانًا يكون جمع المال في مصلحة الفقير، والفائدة تعود بالخليطين بالنفع؛ لأنهما إن كانا اثنين سيوفران أشياء كثيرة:

1 -

سيكون الراعي واحدًا بدل أن يكون لكل واحد منهم راع.

2 -

والمسرح الذي ترعى فيه هذه الماشية واحد.

3 -

والمحلب الذي تحلب فيه واحد.

4 -

والمكان الذي يخصص للمبيت واحد.

5 -

والمشرب واحد.

فكأن في ذلك نوعًا من التعاون، وفيه مصلحة، ولا يتعارض مع هذه الشريعة، والشريعة أجازت ذلك وأباحته.

ص: 3371

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا؛ فِي نِصَابِ الْخُلَطَاءِ هَلْ يُعَدُّ نِصَابَ مَالِكٍ وَاحِدٍ، سَوَاءً كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؟ أَمْ إِنَّمَا يُزَكُّونَ زَكَاةَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ؟ وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ الْخُلْطَةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ).

الآن دخل المؤلف في الخلاف بين مالك وبين الشافعية والحنابلة.

لكن ينبغي ألا تتخذ الخلطة حيلة في الجمع ولا في التفريق.

قد يكون مثلًا شخصان اجتمعا في ماشية بلغت أربعين، فإذا حال الحول عليهما وجاء الساعي، فرقا ذلك، وأخذ كل منهما نصيبًا، وقالا: الزكاة لا تجب، فهذا كان فرارًا من الزكاة الواجبة واحتيالًا، فهذا محرم لا يجوز، وإنما يجبا عليهما أن يتقيا اللَّه، وأن يخرجا شاة واحدة، ثم بعد ذلك يتراجعان فيما بينهما.

العكس كذلك: لا يجوز للساعي الذي يسعى في جمع الصدقة أن يأتي إلى اثنين كل واحد منهما ماله عشرون، فيقول: ضما المال مع بعض، ويأخذ منهما الزكاة. كما أنه لا يجوز التفريق، كذلك لا يجوز الجمع، فالخلطة ينبغي أن تكون عن تراض، وأن تتوفر فيها الشروط التي أشرنا إليها.

* قوله: (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ أَوَّلًا فِي هَلْ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرٌ فِي النِّصَابِ وَفِي الْوَاجِبِ أَوْ لَيْسَ لَهَا تَأْثِير).

قصد المؤلف بـ (النصاب) يعني الحد الذي تجب فيه الزكاة وهو أربعون شاة، وفي الواجب القدر المخرج في أربعين شاة شاة وهذا يكرره كثيرًا.

* قوله: (فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ

ص: 3372

الصَّدَقَةِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ")

(1)

.

الفقهاء يقولون: التفريق قد يكون من صاحبي الملك، وقد يكون من الساعي على الصدقة.

مثال ذلك: لو كان اثنان اختلطا في ماشية فبلغا أربعين شاة، فلما حال عليها الحول، وأدركا أنَّ الساعي قد وصل ليأخذ، ففصل كل واحد منهما نصيبه وقال: لا تجب علينا الزكاة. هذا تفريق من المالكين.

قد يكون التفريق من الساعي، مثلًا: لو كانوا ثلاثة، يملك كل واحد منهم أربعين شاة، فإنها تبلغ مائة وعشرين، فليس للساعي أن يأتي فيفرق هذا المال، فيقول: مال كل منكم أربعون فينبغي أن تفصل وتأخذ ثلاث شياه، فما دامت شروط الخلطة متوفرة فلا يأخذ شاة واحدة، نصيب كل واحد منهم ثلث شاة.

فالشريعة راعت جانبي الفقير والمزكي، وهذا هو منهج الشريعة، هي شريعة قامت على العدل، وقد تكلمنا عن ذلك كثيرًا.

* قوله: (وَمَا كانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَان بِالسَّوِيَّةِ).

يعني: لو أخذ من غنم هذا يرجع الآخر إليه بحقه.

* قوله: (فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْزَلَ مَفْهُومَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اعْتِقَادِهِ).

أعتقد أنني وضحت المسألة قبل أن نستوفي كلام المؤلف، فهي أصبحت واضحة؛ لأن المؤلف جاء بها إجمالًا.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 3373

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ رَأَوْا لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا مَا فِي النِّصَابِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ أَوْ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فَقَطْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَان بِالسَّوِيَّةِ"

(1)

وَقَوْلَهُ: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ"، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْخَلِيطَيْنِ كَمِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ هَذَا الْأَثَرَ مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:"لَيْس فِيمَا دُونَ خمسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ")

(2)

.

الـ (ذود) هو: من الثلاث إلى العشر، والمقصود هنا الخمس؛ لأنَّ الزكاة تجب في خمس من الإبل.

* قوله: (إِمَّا فِي الزَّكاةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ -أَعْنِي: فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ- وَإِمَّا فِي الزَّكَاةِ وَالنِّصَابِ مَعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ).

لأن مالكًا -كما مر بنا سابقًا- يشترط أن يكون لكل واحد من الخليطين نصاب.

أما الشافعي وأحمد فلا يشترطان ذلك، فإذا خلط المال فبلغ نصابًا وجبت فيه الزكاة.

ولا يشترط أيضًا أن يتساويا، قد يكون واحد منهما نصيبه تسع وثلاثون شاة، والآخر نصيبه شاة واحدة، تسمى خلطة أيضًا. لا يشترط التساوي ولا التقارب في ذلك.

لكن الذي يشترط هو ألا يظلم أحدهما، فإذا أخذ من هذا رجع إلى صاحبه، فيكون النصاب واحد الأربعين، هذا عليه تسعة وثلاثون جزءًا وهذا عليه جزء واحد.

(1)

أخرجه البخاري (1451).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 3374

* قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَقُولُوا بِالْخُلْطَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الشَّرِيكَيْنِ قَدْ يُقَالُ لَهُمَا خَلِيطَانِ).

الحنفية الذين لا يرون الخلطة يفسرون معنى الخلطة بالاشتراك؛ أي: أنَّ الخليط هنا إنما هو الشريك.

فخرجوا عن موضوع الخلطة، وهذا يختلف عما دل عليه الحديث، فظاهر الحديث الدلالة على أن الخلطة مقصودة، وأنه ليس المقصود الشريكين.

أما الشريكان فلا يحتاج الأمر، يعني: جماعة اشتركوا في مالٍ فمعروف أنَّ هذا المال المشترك تجب فيه الزكاة كمال رجل واحد، كما

في خلطة الأعيان التي تعرف بخلطة الاشتراك أو خلطة الشيوع.

* قوله: (وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ" إِنَّمَا هُوَ نَهْيٌ لِلسُّعَاةِ أَنْ يُقَسَّمَ مِلْكُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ قِسْمَةً تُوجِبُ عَلَيْهِ كثْرَةَ الصَّدَقَةِ مِثْلُ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً فَيُقَسِّمُ عَلَيْهِ إِلَى أَرْبَعِينَ ثَلَاثَ شياه، أَوْ يَجْمَعُ مِلْكَ رَجُلٍ وَاحِدٍ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ آخَرَ حَيْثُ يُوجِبُ الْجَمْعُ كَثْرَةَ الصَّدَقَةِ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِوَجَبَ أَنْ لَا تُخَصَّصَ بِهِ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا - أَعْنِي: أَنَّ النِّصَابَ وَالْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الزَّكاةِ يُعْتَبَرُ بِمِلْكِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ).

مثال ذلك: ثلاثة اختلطوا في مائة وعشرين، يملك كل واحد منهم أربعين شاة، في الخلطة لا يجب إلا شاة واحدة، ولو وزع المال لوجب على كل واحد منهم شاة.

* قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِالْخُلْطَةِ، فَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ الْخُلْطَةِ هُوَ أَظْهَرُ فِي الْخُلْطَةِ نَفْسِهَا مِنْهُ فِي الشَّرِكَةِ).

ص: 3375

جمهور الفقهاء يقولون: إنَّ الخلطة إذا أطلقت، وبخاصة في هذا الحديث، تنطلق إلى الخلطة التي تم الحديث عنها وليست إلى الاشتراك.

* قوله: (وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كذَلِكَ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِيهِمَا: "إِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَان بِالسَّوِيَّةِ" مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمَا حُكْمُهُ حُكْمُ رَجُلٍ وَاحِدٍ).

لأنَّ الشريكين لا يقال: يتراجعان بالسوية، فمال مشترك معروف.

لكن يقال هذا في الخلطاء الذي تميز مال كل واحد منهما عن الآخر؛ لأن الخلطة اشتراك اثنين في مال واحد أو أكثر، فصار بمثابة مال رجل واحد، هذه هي الخلطة.

إنما الاشتراك: معروف أن كل واحد منهما لا يحتاج إلى أن يقال: يتراجعان بالسوية.

* قوله: (وَأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "أَنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ لَيْسَا بِشَرِيكَيْنِ، لِأَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَيْنَهُمَا تَرَاجُعٌ إِذِ الْمَأْخُوذُ هُوَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ النِّصَابَ قَالَ: الْخَلِيطَان إِنَّمَا يُزَكيَان زَكَاةَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابٌ).

هذا هو بيان مذهب مالك.

* قوله: (وَمَنْ جَعَلَ حُكْمَ النِّصَابِ تَابِعًا لِحُكْمِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ قَالَ: نِصَابُهُمَا نِصَابُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَمَا أَنَّ زَكَاتَهُمَا زَكَاةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْزَلَ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ" عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ).

وهذا مذهب الشافعي وأحمد.

ص: 3376

* قوله: (فَأَمَّا مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ" أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ، فَتَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهِمَا ثَلَاث شِيَاهٍ، فَإِذَا افْتَرَقَا كَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ" أَنْ يَكُونَ النَّفَرُ الثَّلَاثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً، فَإِذَا جَمَعُوهَا كَانَ عَلَيْهِمْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ مُتَّجِه نَحْوَ الْخُلَطَاءِ الَّذِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ).

مالك فسَّر الحديث بالتفسير الذي فهمه، وتفسير الشافعي وأحمد قريب منه.

* قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ" أَنْ يَكُونَ رَجُلَانِ لَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً، فَإِذَا فَرَّقَا غَنَمَهُمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا فِيهَا زَكَاةٌ، إِذْ كَانَ نِصَابُ الْخُلَطَاءِ عِنْدَهُ نِصَابَ مِلْك رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ).

لأنَّ هذا فيه إضرار بالمساكين الفقراء، والشافعى وأحمد، قولهما متفق في هذه المسألة.

* قوله: (وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْخُلْطَةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا هِيَ الْخُلْطَةُ الْمُؤَثِّرَةُ بِالزَّكَاةِ).

الآن عاد المؤلف ليختم المسألة ببيان الشروط التي يشترط أن تكون في الخليطين فأكثر، وهي الأمور الخمس التي ذكرناها: الاشتراك في المبيت، يعني المكان الذي تبيت فيه الماشية، وفي المحلب وفي المشرب وفي الرعي أو المرعى. وقد ورد بعض ذلك في حديث، وإن كان الحديث فيه مقال.

ص: 3377

* قوله: (فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ

(1)

قَالَ: إِنَّ مِنْ شَرْطِ الْخُلْطَةِ أَنْ تَخْتَلِطَ مَاشِيَتُهُمَا وَتُرَاحَا لِوَاحِدٍ وَتُحْلَبَا لِوَاحِدٍ).

يكون المكان الذي يستريحان فيه؛ أي: الذي نسميه المبيت.

* قوله: (وَتُحْلَبَا لِوَاحِدٍ).

يعني: ويكون المحلب واحدًا.

* قوله: (وَتُسَرَّحَا لِوَاحِدٍ).

الذي هو مكان الرعي الذي تسرح فيه الماشية واحد.

* قوله: (وَتُسْقَيَا مَعًا).

ويكون مكان الشرب أيضًا واحد.

* قوله: (وَتَكُونَ فَحَوْلُهُمَا مُخْتَلِطَةً وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بِالْجُمْلَةِ بين الخلطة وَالشَّرِكَةِ وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ).

ويكون الفحل واحدًا.

* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ

(2)

: فَالْخَلِيطَانِ عِنْدَهُ مَا اشْتَرَكَا فِي الدَّلْوِ

(1)

يُنظر: "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 348) حيث قال: "وتختص خلطة الجوار بشروط اتحاد المراح بضم الميم أي مأواها ليلًا كما مر والمسرح؛ أي: الموضع الذي تجتمع فيه ثم تساق إلى المرعى والمشرب؛ أي: موضع شربها ويعبر عنه بالمشرع والمرعى؛ أي: المرتع الذي ترعى فيه ويشترط أيضًا اتحاد الممر بينه وبين المسرح والمكان الذي توقف فيه عند إرادة سقيها والذي تنحى إليه ليشرب غيرها والآنية التي تسقى فيها والدلو والراعي ومكان الحلب".

(2)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 439) حيث قال: "ولها شروط ستة أشار لأولها بقوله: إن نويت الخلطة أي نواها كل واحد منهما أو منهم لا واحد فقط وفي الحقيقة الشرط عدم نية الفرار ولثانيها وثالثها بقوله وكل حر مسلم فإن فقدا أو أحدهما فلا عبرة =

ص: 3378

وَالْحَوْضِ وَالْمُرَاحِ وَالرَّاعِيِ وَالْفَحْلِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ

(1)

فِي مُرَاعَاةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَوْ جَمِيعِهَا).

يريد المؤلف أن يبين أنَّ هذه الأوصاف التي ذكرت عن مالك ليست محل تسليم واتفاق بين أصحابه، أما بالنسبة للشافعية والحنابلة فهذه الخمسة عندهم متفق عليها، وقد نصَّ عليها الإمامان: الشافعي وأحمد.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اشْتِرَاكُ اسْمِ الْخُلْطَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرَ قَوْمٌ تَأْثِيرَ الْخُلْطَةِ فِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيِّ)

(2)

.

= بالخلطة وزكى محصل الشروط زكاة انفراد ولرابعها بقوله: ملك نصابًا وخالط به أو ببعضه ولخامسها بقوله: بحول أي ملكًا مصاحبًا لمرور الحول من يوم ملكه أو زكاه فلو حال على ماشية أحدهما دون الآخر ولم تؤثر الخلطة ولا يشترط مرور الحول من يوم الاختلاط بل يكفي اختلاطهما في الأثناء ما لم يقرب جدًّا كشهر ولسادسها بقوله واجتمعا؛ أي: المالكان بملك للذات أو منفعة بإجارة أو إباحة للناس كنهر ومراح ومبيت بأرض موات أو بإعارة ولو لفحل يضرب في الجميع أو لمنفعة راع تبرع لهما بها في الأكثر وهو ثلاثة أو أكثر من خمسة أشياء ماء مباح أو مملوك لهما أو لأحدهما ولا يمنع الآخر كما مر ومراح؛ بالفتح المحل الذي تقيل فيه أو تجتمع فيه ثم تساق منه للمبيت وأما المحل الذي تبيت فيه فبالضم ومبيت ولو تعدد إن احتاجت له وراع لجميعها أو لكل ماشية راع وتعاونا ولو لم يحتج لهما بإذنهما وإلا لم يصح عده من الأكثر وفحل يضرب في الجميع إن كانت من صنف واحد برفق".

(1)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 439) حيث قال: "ولو لم يحتج لهما؛ أي: لقلة الماشية على المعتمد خلافًا للباجي حيث قال لا بد من اشتراط الاحتياج في تعدد الراعي وهو الذي صححه في التوضيح ولم يذكر المواق غيره لكن اعترض ابن عرفة كلام الباجي بأنه خلاف ظاهر نقل الشيخ عن ابن حبيب وابن القاسم من الاكتفاء بالتعاون في تعدد الراعي كثرت الغنم أو قلَّت".

(2)

يُنظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 153) حيث قال: "فاختلف الناس في تأويل هذا الخبر؟ فقالت طائفة: إذا تخالط اثنان فأكثر في إبل، أو في بقر، أو في غنم، فإنهم تؤخذ من ماشيتهم، الزكاة كما كانت تؤخذ لو كانت لواحد، والخلطة عندهم أن تجتمع الماشية في: الراعي، والمراح، والمسرح، والمسقى، ومواضع الحلب: عامًا كاملًا متصلًا وإلا فليست خلطة، وسواء كانت ماشيتهم مشاعة لا تتميز، أو متميزة، وزاد بعضهم: الدلو، والفحل قال أبو محمد: وهذا القول مملوء من الخطأ".

ص: 3379

ابن حزم هذا صاحب المحلى المعروف، له آراء ينفرد بها، ومذهب الظاهر معروف.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

‌(الفَصْلُ الخَامِسُ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحُبُوبِ: أَمَّا مَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ فَالْعُشْرُ، وَأَمَّا مَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ، فَنِصْفُ الْعُشْرِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

سينتقل المؤلف الآن إلى باب آخر أو إلى نوعٍ ثالثٍ من الأنواع أو الأصناف التي تجب فيها الزكاة؛ فقد تم الحديث فيما مضى عن زكاة النقديْن، وبهيمة الأنعام، وننتقل الآن إلى ما تُخرجه الأرض.

لكن حديث المؤلف هنا فيما يتعلق بما تُخرجه الأرض ليس على إطلاقه، إذًا في الحبوب والثمار؛ فبعض الفقهاء يقولون:

فيما تخرجه الأرض؛ لأنَّ ما تُخرجه الأرض ليس حبوبًا فقط؛ لأنه قد يكون مما تُخرجه الأرض من الحبوب، مما يُقتات ويُدَّخر، وقد يكون أيضًا من المعادن. والمراد هنا بما تُخرجه الأرض: مما يُنبته الآدميون: أي مما يضعونه بذرًا في الأرض أو يغرسونه.

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (1/ 210) حيث قال: "وثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سن "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر"، وبجملة هذا القول قال جل أهل العلم".

ص: 3380

والمقصود بذلك نوعان: الحبوب والثمار.

وهذا الباب -الذي هو باب زكاة الحبوب والثمار- هذا دليله: الكتاب والسنة والإجماع.

الدليل من الكتاب: فقول اللَّه سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267].

أي: أدّوا زكاة مما أخرجنا لكم من الأرض؛ من حبوبٍ وثمار، حسبما جاءت بذلك سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

والإنفاق هنا المقصود به الزكاة الواجبة فيما تُخرجه الأرض مما يُنبته الآدميون، بدليل قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].

إذًا المقصود بالإنفاق هنا: هو إخراج الزكاة. هذا الدليل الأول من الكتاب.

الدليل الثاني من الكتاب: فهو قول اللَّه سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].

فمحل الشاهد هو قوله -تعالى-: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .

وفسّر ذلك ابن عباسٍ رضي الله عنهما بأنَّ "الحقَّ" هنا إنما هي الزكاة المفروضة

(1)

، وفسّرها مرةً أُخرى بأنَّ المقصود بها العُشر، ومرةً ثالثةً نصف العُشر

(2)

، وكلها إنما هي في الزكاة المفروضة.

(1)

يُنظر: "تفسير الطبري"(12/ 158) وفيه: "عن ابن عباس، عن أبيه، في قوله:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: الزكاة.

(2)

يُنظر: "تفسير الطبري"(12/ 158) وفيه: "عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، قال: العشر ونصف العشر".

ص: 3381

أما سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فالأحاديث فيها كثيرة، ومنها:

أ- الحديث الأول: وهو حديث متفق عليه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"ليس فيما دون خمسةِ أوسقٍ صدقة"، وفي رواية:" (ليس فيما دون خمسة أوساق من تمرٍ أو حبٍّ صدقة"

(1)

، وفي روايةٍ لمسلم

(2)

: "ليس في حبٍّ ولا تمرٍ صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق".

2 -

الحديث الثاني: ومن السنَّة أيضًا مما يدل على وجوب إخراج زكاة هذا النوع من أصناف الزكاة، قوله عليه الصلاة والسلام:(فيما سقت السماء والعيون العُشر، وفيما سُقى بالنضح نصف العُشر)

(3)

.

3 -

والحديث الثالث: وهو أيضًا حديثٌ صحيح، قوله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت الأنهار والغيث -يعني المطر- العُشر، وفيما سُقي بِالسَّانِيَةِ

(4)

نصف العُشر)، والمقصود بالسَّانِيَةِ: البعير الذي يُستخرج عليه الماء من البئر، والذين قضوا فترة طوَيلةً في هذه الحياة أدركوا ذلك.

إذًا جاء التفريق هنا بين ما نبت من المطر، وبين ما يقوم بالسقي؛ لأنَّ ما يُزرع فينزل المطر، أو تمر به الأنهار، هذا لا يلحق صاحبه عناء ولا مشقة، أقصى ما يكلفه أنه يوجّه الماء إن كان من نهر.

أما صاحب السانية: فهو يحتاج إلى أن يحفر البئر؛ فكم يُمضي من الوقت، وكم يصرف من الماء، وهذه البئر تحتاج إلى معدات، وتحتاج إلى القيام عليها، ومنها ما يتعطل فيحتاج إلى أن يُبدّلها، وما يحتاج إلى إصلاح فيُصلحه، ثم يحتاج إلى عناء، ويحتاج إلى عامل، إلى غير ذلك.

وحتى في وقتنا الآن في المكائن التي توازيها فيها مشقة يُحفر لها

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم (979).

(3)

أخرجه أبو داود (1597) وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود".

(4)

السانية: الناضحة، وهي الناقة التي يستقى عليها. يُنظر:"الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" للجوهري (6/ 2384).

ص: 3382

فيها هذه المواسير التي توضع في الأرض، وبعد مرور زمن تتآكل، كذلك فيها أسياخ تُعلق بها وربما تتآكل، هذه كلها يُنفق عليها الإنسان، لكن هذا ماءٌ ينزل من السماء، فمؤونته سهلة وميسورة؛ فلما راعت الشريعة هذا الجهد فالإنسان لا يتكلف كثيرًا يُخرج العُشر، وآخر تلحقه مشقة وعناء، ويدفع ماله وجَهده فهو في هذه الحالة يُقلَّل عليه في الزكاة.

ومن هنا لو أنَّنا دقّقنا النطر في حكمٍ من أحكام هذه الشريعة، وأمعنا النظر وتعمقنا فيه لوجدنا أسرار هذه الشريعة تتبين في كل حكمٍ من الأحكام؛ لأن هذا من عند اللَّه سبحانه وتعالى، قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي خلق هذا الإنسان، وسخر له ما في هذا الكون، اللَّه سبحانه وتعالى أنزله في هذه الدنيا، خلقه لأمرٍ عظيم؛ ليقوم بعبادة اللَّه سبحانه وتعالى؛ وليقوم بعمارة هذه الأرض، قال تعالى:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30].

فاللَّه -تعالى- خلق هذا الإنسان، ويسّر له كل أسباب المعيشة التي تعينه على أن يكون مطيعًا للَّه سبحانه وتعالى، بيّن له سبحانه وتعالى طريق الخير ورغّبه فيه، وبيّن له طريق الشر وحذّره منه، قال تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 3]، واللَّه -تعالى- بيّن له طريق السعادة، وأمره أن يسلك هذا الطريق السوّي، ووعده بذلك جنةً عرضها السموات والأرض، وحذره من سلوك طريق الغواية، ومن الإشتراك به سبحانه وتعالى، ومن ارتكاب المعاصي، وواعده وتوعّده على ذلك بجهنم وبئس المصير.

فلا شكَّ أنَّ السعيد من سلك طريق السعادة، وأنَّ الشقي من سلك طريق الغواية والشقاء.

وأسباب الخير -بحمد اللَّه- ميسّرة، وطرقه واضحة، وطريق اللَّه مستقيم، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، هذا هو طريق الحق وطريق الرشاد.

ص: 3383

(وَأَمَّا النِّصَابُ

(1)

: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا

(2)

فِي وُجُوبِهِ فِي هَذَا الجِنْسِ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ).

الزكاة تجب في الحبوب والثمار إجمالًا، لكن لو دخلنا في التفصيل لوجدنا أنَّ من الحبوب والثمار ما أجمع على وجوب الزكاة فيه وهي أربعة: الحنطة، والشعير من الحبوب، والتمر والزبيب من الثمار

(3)

.

لكن نقتصر على هذه الأربعة لأنها جاءت في النصوص أو كل ما يمكن أن يُقتات أو أن يُدَّخر وهو صالح لليُبس تجب فيه الزكاة هذا فيه كلامٌ للعلماء؛ فمن العلماء من توسّع في ذلك فأوجب الزكاة في كل ما تُخرجه الأرض، ولم يَستثنِ من ذلك إلا الحطب والحشيش والقصب، ومنهم من توسّع لكن دون ذلك، ومنهم من وقف عند هذه الأمور الأربعة.

هذه سيأتي الكلام عنها إن شاء اللَّه.

الشريعة الإسلامية دائمًا تراعي جانب الاثنين، ولذلك وصّى

(1)

النصاب من المال: القدر الذي تجب فيه الزكاة إذا بلغه، نحو: مائتي درهم، وخمس من الإِبِلِ. انظر:"الصحاح"، للجوهري (1/ 225).

(2)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار"، لابن عابدين (2/ 326)؛ حيث قال:"وتجب في مسقي سماء؛ أي: مطر وسيح كنهر بلا شرط نصاب".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(1/ 608)؛ حيث قال: "وفي خمسة أوسق؛ أي: بشرط أن تكون في ملك واحد، فلو خرج من الزرع المشترك ستة عشر وسقًا على أربعة فلا زكاة عليهم لعدم كمال النصاب لكلٍّ".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 70)؛ حيث قال:"وإنما المراد أن يكون جنس ما يزرعونه حتى لو سقط الحب من يد مالكه عند حمل الغلة، أو وقعت العصافير على السنابل فتناثر الحب ونبت وجبت الزكاة إذا بلغ نصابًا بلا خلاف، اتفق عليه الأصحاب".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (1/ 259)، حيث قال:"ويعتبر لوجوبها شرطان؛ أحدهما: أن يبلغ نصابًا قدره بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعًا".

(3)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 45) حيث قال: "وأجمعوا على أن الصدقة واجبة في: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب".

ص: 3384

الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يخرصون؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا، وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ")

(1)

.

لأن هذا المال قد يهب منه صاحبه نخلةً لأخٍ له أو لصديق، وهناك المار الذي يأكل من هذه الحيطان، وهناك الطير الذي يقف على هذه الأشجار وعلى هذه الثمار فيأكل، وأيضًا صاحب المال وأهله يحتاجون إلى الأكل، فالشريعة لم تُغفل جانب هؤلاء.

والزكاة تجب عند جمهور العلماء

(2)

إذا بلغت النصاب، والنصاب هو خمسة أوسق

(3)

.

والوسق: ستون صاعًا

(4)

، إذًا خمسة في ستين تساوي ثلاثمائة صاع.

والصاع يساوي أربعةَ أمداد

(5)

، والمدّ يساوي رطلًا وثُلثًا، فإذا

(1)

أخرجه أبو داود (1605)، وضعفه الألباني في "صحيح وضعيف سنن أبي داود".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 326) حيث قال: "بشرط أن يبلغ خمسة أوسق إن كان مما يوسق".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 447) حيث قال: "وفي خمسة أوسق؛ أي: بشرط أن يكون في ملك واحد فلو خرج من الزرع المشترك ثمانية أوسق وقسمت بين الشريكين فلا زكاة فيها".

ومذهب الشافعية: "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" لزكريا الأنصاري (1/ 368) حيث قال: "ونصابها؛ أي المعشرات بعد تصفية الحبوب من تبن وقشر لا يؤكل معها غالبًا وغيرهما وجفاف الثمار إن أتى منها تمر وزبيب خمسة أوسق".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" للرحيباني (2/ 57) حيث قال: "وإنما تجب الزكاة فيما تجب فيه بشرطين؛ أحدهما: أن يبلغ نصيب كل واحد من شريكين: أو شركاء في مكيل مدخر نصابًا للخبر وقدره؛ أي: النصاب بعد تصفية حب من قشره وتبنه، وبعد جفاف ثمر وجفاف ورق خمسة أوسق".

(3)

الوسق: حمل يعني ستين صاعًا. يُنظر: "العين"(5/ 191).

(4)

الصاع الذي يكال به وهو أربعة أمداد والجمع أصوع. يُنظر: "مختار الصحاح"(ص: 180).

(5)

المُدُّ: بالضم مكيال يسع فيه رطلان عند العراقيين ورطل وثُلُثٌ عند الحجازيين. يُنظر: "التعريفات الفقهية" للجرجاني (ص: 199).

ص: 3385

ضربناها مجتمعةً وجدنا أنَّ زكاة الحبوب والثمار تجب إذا بلغت ألفًا وستمائة رطلٍ بالعراقي، وبالنسبة للمُدّ فجمهور العلماء يقولون: إنه رطل وثلث؛ لأنَّ الزكاة تجب في ألف وستمائة رطلٍ؛ لأنه مثلًا خمسة أوسق، والوسق ستون صاعًا، ثلاثمائة صاع فاضربها في خمسة وثلث فتبلغ ألفًا وستمائة، هذا معروف.

لكنَّ قضية الأرطال مختلَفٌ فيها؛ لأنَّ العلماء انقسموا في ذلك إلى أقسامٍ أربعة:

1 -

فمنهم من يقول: إنَّ زكاة الحبوب والثمار لا يُشترط لها نصاب.

2 -

ومنهم من يقول: إنَّ الصاع أربعةُ أمداد، والمُدّ رطلٌ وثلث.

3 -

ومنهم من يقول: الصاعُ أربعةُ أمداد، وكل مُدّ يساوي رطلين، فإذًا الصاع ثمانية أمداد.

4 -

ومن العلماء من يفصّل القول في ذلك، فيقول: فرقٌ بين الصاع في باب الطهارة، وبين الصاع في أحكام زكاة الحبوب والثمار، فالصاع الذي يبلغ أربعةَ أمداد: وهي ثمانيةُ أرطال، إنما هو الذي يُذكر في أبواب الطهارة، والذي يبلغ خمسةَ أرطالٍ وثلث إنما هو هذا الذي في كتاب زكاة الحبوب والثمار.

وأرادوا من ذلك أن يجمعوا بين ما ورد في ذلك. وإذا أمكن الجمع فهو أولى.

لكننا نقول مقدمةً: إنَّ الظاهر في ذلك والراجح عندنا، وهو عند جماهير العلماء: أنَّ الصاع يساوي أربعةَ أمداد، وأنَّ المُد رطلٌ وثلث، هذا هو القول الراجح الصحيح الظاهر لنا في هذه المسألة.

يأتي بعد ذلك كيفية التقدير: فالعلماء أيضًا تكلموا وقالوا: هي أربع حفنات بالأيدي المتوسطة، فلا نأتي إلى رجلٍ مثلًا يداه ضخمتان فنقول أربع حفنات، ولا إلى إنسانٍ مثلًا يده صغيرة، وإنما نأتي بالمتوسط، وهذه تقارب ما بين اثنين كيلو ونصف إلى ثلاثة، فلو اقتُصر على اثنين كيلو

ص: 3386

ونصف على أن هذا هو المُدّ فهذا كاف، ولو وصّلها الإنسان إلى ثلاثة فهذا أحوطُ له.

* قوله: (فَصَارَ الجُمْهُورُ إِلَى إِيجَابِ النِّصَابِ فِيهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَالوَسْقُ: سِتُّونَ صَاعًا

(1)

بِإِجْمَاعٍ)

(2)

.

وورد في ذلك حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والوسق ستون صاعًا"

(3)

لكن هذا الحديث ضعيف، ولذلك قال العلماء: الإجماع قائمٌ على ذلك، مع أنَّ هذا الحديث الإجماع يوافقه؛ فلا إشكال في هذه المسألة.

* قوله: (وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ

(4)

بِمُدِّ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

وهو المعتبر، وهو الذي أدركه الإمام مالك.

وقد اختلف العلماء في تحديد الصاع:

فمنهم من قال: الصاع أربعةُ أمداد، والمُدُّ يساوي رطلين

(5)

؛ إذن يكون الصاع ثمانية أمداد.

(1)

الصاع: هو مكيال يسع أربعة أمداد. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (3/ 60).

(2)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (5/ 457)؛ حيث قال:"نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن الوسق ستون صاعًا".

(3)

وهو ما أخرجه ابن ماجه (1832) عن أبي سعيد، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الوسق ستون صاعًا". وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه".

(4)

المد: "حفنتان بالكفين هما قوت الحافن غداء وعشاء، كفافًا لا اقتدارً أ ولا إسرافًا". انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف"، للمناوي (ص 301).

(5)

وهو مذهب الحنفية. يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 365)؛ حيث قال: "اعلم أن الصاع أربعة أمداد والمد رطلان".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(2/ 654)؛ حيث قال: "لأن الصاع أربعة أمداد".

ص: 3387

القول الثاني: أن الصاع يساوي مُدَّيْن، والمُد يساوي رطلًا وثلثًا

(1)

؛ إذن يكون الصاع خمسة أرطال وثلثًا بالبغدادي؛ أي: بالعراقي؛ لأن هذا هو المعروف، وهذا تقريبي لكنه قريبٌ من التحديد.

* وسبب الخلاف هنا: أن من العلماء من جاء بقولٍ متوسط فقال: إن الصاع الذي ورد بأنه يبلغ ثمانية أمداد هو (الصاع) في أحكام الطهارة، وأما الصاع في (الزكاة) فهو خمسةُ أرطالٍ وثُلث، هذا توسط فيه بعض العلماء ليجمعوا بين الأقوال.

* قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مُدَّهُ رِطْلٌ وَثُلُثٌ وَزِيَادَةٌ يَسِيرَةٌ بِالبَغْدَادِيِّ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ

(2)

حِينَ نَاظَرَهُ مَالِكٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ العِرَاقِ لِشَهَادَةِ أَهْلِ المَدِينَةِ بِذَلِكَ).

أهل العراق هم الذين نُقل عنهم، أو نُقل عن -أبي حنيفة

(3)

- أن الصاع يساوي ثمانية أمداد، فلما قدم أبو يوسف صاحب أبي حنيفة والتقى بالإمام مالك -إمام دار الهجرة-، وناقشه في موضوع وجوب الزكاة وفي القدر، وبيَّن له الإمام مالك رحمه الله أن الصاع المعروف في المدينة إنما هو يساوي خمسة أرطال وثلثًا، فرجع أبو يوسف إلى هذا القول

(4)

؛ لأن الأمر لا يحتاج إلى نقاش، تبيَّن له الحق فرجع.

(1)

وهو مذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 245)؛ حيث قال:"والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث وقدرت بالبغدادي".

ولمذهب الحنابلة يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 414)؛ حيث قال:"لأن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي".

(2)

يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (3/ 90)؛ حيث قال:"وهو ثمانية أرطال في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللَّه تعالى وهو قول أبي يوسف -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى- الأول ثم رجع فقال: خمسة أرطال وثلث رطل. . . ".

(3)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(1/ 158)؛ حيث قال: "وهو ثمانية أرطال؛ أي: بالبغدادي، وهي صاع عراقي، وهو أربعة أمداد، كل مد رطلان، وبه أخذ أبو حنيفة".

(4)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 286) عن الحسين بن الوليد، قال: "قدم =

ص: 3388

وقد رجع أبو يوسف؛ لأن مالكًا ناظره بأمرٍ مشهود مُسلّم به، هذا هو صاع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يزال يُعمل به، فما كان لأبي يوسف إلا أن يرجع، وهكذا شأن العلماء العاملين، لم يقف أبو يوسف عند رأي أبي حنيفة ويقول: هذا رأيي ورأي صاحبي أبي حنيفة، رأى أنَّ الحق مع الإمام مالك فرجع إلى قوله، قال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فمتى ما تبين للمؤمن الحق فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الحق.

ولذلك في الكتاب العظيم الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى عندما ولّاه القضاء: "لا يمنع أن تقضي قضاءًا ليوم، فيتبيّن لك الحق في خلافه أن ترجع إلى الحق"

(1)

.

فعمر رضي الله عنه يحثه على ذلك، وهذا هو منهج الشريعة الإسلامية. إذًا إذا

= علينا أبو يوسف من الحج، فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم همني، تفحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع، فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ فقالوا: نأتيك بالحجة غدًا، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار، مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه أو أهل بيته أن هذا صاع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظرت فإذا هي سواء، قال: فعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيت أمرًا قويًّا، فقد تركت قول أبي حنيفة في الصاع، وأخذت بقول أهل المدينة. قال الحسين: فحججت من عامي ذلك فلقيت مالك بن أنس، فسألته عن الصاع، فقال: صاعنا هذا صاع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: كم رطلًا هو؟ قال: إن المكيال لا يرطل، هو هذا. قال الحسين: فلقيت عبد اللَّه بن زيد بن أسلم، فقال: حدثني أبي عن جدي أن هذا صاع عمر رضي الله عنه".

(1)

يُنظر: "سنن الدارقطني"(5/ 367)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 253) حيث قال:"ولا يمنعك من قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه لرأيك، وهديت فيه لرشدك، أن تراجع الحق؛ لأن الحق قديم، لا يبطل الحق شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".

ص: 3389

تبين للإنسان أن الحق مع غيره رجع، ولذلك كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ما ناظرتُ أحدًا وتمنيت أن أنتصر عليه، إذا كان الحق معه، وإنما كنت أتمنى أن يُظهر اللَّه الحق على يدي أو يديه

(1)

.

فالشافعي رحمه الله ما كان ينتصر لنفسه، ولا يريد أن يُقال بأنَّ الشافعي غلب خصمه أو مخالفه أو معارضه، وإنما كان يريد من النقاش ومن الحوار هو أن يصلا معًا إلى الحق؛ فإنْ كان الحق مع مخالفه أخذ به، وإن كان معه فيجب على المخالف أن يرجع إليه؛ هذا هو الشأن.

ولذلك لما تقرأ سيرة أولئك العلماء الأعلام تجد أنَّ كل واحدٍ منهم يُزكّي الآخر؛ فالإمام أحمد يصف الشافعي بأنه بمثابة الشمس للإنسان وكالصحة للبدن

(2)

.

والشافعي يصف الإمام أحمد بأنَّه ما ترك في بغداد أعلم منه

(3)

، هذا هو شأن العلماء، ويأخذ بيد إسحاق بن راهويه، ويقول: تعالَ اسمع إلى هذا -إلى هذا المذهب-، وهو كان يُلقي دروسه في مكة، فالعلماء قصدهم الوصول إلى الحق.

وهكذا لا ينبغي للمسلم مهما كان أنْ يأخذه التعصب، أو لأنه درس المذهب الفلاني أن يقف عنده ويقول: فلان أعلم مني، لا؛ لأن هذه لو قلنا بها لقلنا: التابعون أعلم والصحابة أعلم، لكن مرجعُنا في ذلك هو:

(1)

يُنظر: "صحيح ابن حبان"(5/ 499)، و"حلية الأولياء"(9/ 118).

(2)

يُنظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (10/ 45) حيث قال: "قال محمد بن هارون الزنجاني: حدثنا عبد اللَّه بن أحمد، قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال: يا بني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف، أو منهما عوض".

(3)

يُنظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 64) حيث قال: "وكان إمام المحدثين، صنف كتابه المسند، وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره، وقيل: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، وكان من أصحاب الإمام الشافعي -رضي اللَّه تعالى عنهما- وخواصه، ولم يزل مصاحبه إلى أن ارتحل الشافعي إلى مصر، وقال في حقه: خرجت من بغداد وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل".

ص: 3390

قول اللَّه -تعالى-، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ اللَّه -تعالى- يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، والرد إلى اللَّه إنما هو ردٌ إلى كتابه، والرد إلى الرسول إليه عليه الصلاة والسلام في زمن حياته وبعد مماته نرد ذلك إلى سنته الصحيحة عليه الصلاة والسلام.

وهذا هو شأن العلماء؛ وهو أن الإنسان إذا تبيَّن له الحق يعود إليه.

* قوله: (وَكانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ فِي المُدِّ: رِطْلَانِ، وَفِي الصَّاعِ: إِنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي الحُبُوبِ وَالثِّمَارِ نِصَابٌ)

(1)

.

عاد المؤلف مرةً أُخرى ليعيد المسألة التي تكلمنا عنها؛ وهي هل هناك نصابٌ محددٌ في الحبوب والثمار أم لا؟

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ العُمُومِ لِلْخُصُوصِ. أَمَّا العُمُومُ: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ

(2)

").

مسألة العموم والخصوص

(3)

: من المسائل المهمة في علم الأصول،

(1)

يُنظر؛ "رد المحتار"، لابن عابدين (2/ 326)؛ حيث قال:"وتجب في مسقي سماء؛ أي: مطر وسيح كنهر بلا شرط نصاب".

(2)

أخرجه البخاري (1483)، ومسلم (981) بلفظ:"فيما سقت الأنهار، والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية نصف العشر".

(3)

يُنظر: "المستصفى"، للغزالي (ص 224)، حيث قال:"اعلم أن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني والأفعال، والعام: عبارة عن اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدًا مثل: الرجال والمشركين، ومن دخل الدار فأعطه درهمًا. . . وأعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقًا كقولك: زيد، وهذا الرجل، وإما عام مطلقًا كالمذكور والمعلوم؛ إذ لا يخرج منه موجود ولا معدوم، وإما عام بالإضافة كلفظ المؤمنين، فإنه عام بالإضافة إلى آحاد المؤمنين خاص بالإضافة إلى جملتهم؛ إذ يتناولهم دون المشركين، فكأنه يُسمَّى عامًّا من حيث شموله لما شمله خاصًّا من حيث اقتصاره على ما شمله وقصوره عما لم يشمله".

ص: 3391

والعموم والخصوص موجودٌ في كتاب اللَّه عز وجل، وفي سنة رسول اللَّه وهو من الأدلة المتفق عليها؛ فاللَّه سبحانه وتعالى يقول:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فهل كل ميتة حرام؟ جاء تخصيصُ ذلك بحديث:"أُحلَّت لنا ميتتان ودمان"

(1)

. . . وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا.

إذن؛ حديث: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ"

(2)

هذا حديث مطلق عام، وحديث:"ليس فيما دون خمسةِ أوسق صدقة"

(3)

هذا خاص، فأيهما يُقدَّم هنا؟ هل نخص العام بهذا الخاص أو نأخذ بالعموم؟

جماهير العلماء دائمًا يقدمون الخاص

(4)

؛ لأن الخاص إنما اقتصر على بعض العمومات التي وردت في العام، فجاء هذا الحديث الثاني فخص الحديث الأول، فبيَّن أن الزكاة في الحبوب والثمار إنما تجب إذا بلغت خمسةَ أوسق.

فلماذا كان قوله عليه الصلاة والسلام: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ"

(5)

عامًّا؟

لأن هذا الحديث فقط بيَّن أن ما سقت السماء فيه العُشر، وما سُقي

(1)

أخرجه ابن ماجه (3314)، وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن ابن ماجه"(3314).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (979).

(4)

يُنظر: "شرح الكوكب المنير"، لابن النجار (3/ 382)؛ حيث قال:"إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص، قدم الخاص مطلقًا؛ أي: سواء كانا مقترنين، مثل: ما لو قال في كلام متواصل: اقتلوا الكفار ولا تقتلوا اليهود، أو يقول: زكوا البقر، ولا تزكوا العوامل، أو كانا غير مقترنين، سواء كان الخاص متقدمًا أو متأخرًا، وهذا هو الصحيح؛ لأن في تقديم الخاص عملًا بكليهما، بخلاف العكس، فكان أولى".

(5)

سبق تخريجه.

ص: 3392

بالنضح

(1)

فيه نصف العُشر، ولم يبيِّن قدرًا محددًا، فهذا يشمل الكثير والقليل؛ أي: هذا جاء مطلقًا عامًّا، وجاء الحديث الآخر فخصَّص ذلك.

* قوله: (أَمَّا الخُصُوصُ، فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ").

انظروا إلى جوامع كلمه

(2)

صلى الله عليه وسلم؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دائمًا يأتي بجوامع الكلم؛ يأتي بالكلام الموجز الذي يحمل المعاني الكثيرة، وهذه واحدةٌ من المزايا والخصائص التي خصَّ اللَّه بها نبيه صلى الله عليه وسلم التي في حديث:"نُصرت بالرعب. . . "

(3)

، وفيها:"وأُعطيتُ جوامعَ الكَلِمِ".

فالرسول هنا صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة"

(4)

معنى هذا: أن الخمسة أوسق فما فوق إذا كانت الخمسة أوسق تجب فيها الزكاة فمن باب أولى أن يكون ما زاد على ذلك، لكنه بيَّن ما لا تجب فيه الزكاة: وهو ما دون الخمسة أوسق، "ليس فيما دون خمسةِ أوسقٍ صدقة لا، أما إذا بلغت زكاة الحبوب أو الثمار ثلاثمائة صاع أو زادت على ذلك فإن الزكاة تجب فيها بحسب القدر الواجب؛ إما العُشر أو نصف العُشر.

* قوله: (وَالحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ).

لأن كل واحدٍ منهما متفقٌ عليه، فلا مجال هنا بأن يقال: هذا يُقدَّم على هذا. هذه ناحية.

والناحية الأُخرى في نظر الجمهور وفي نظرنا: أنه لا معارضة بين

(1)

النضح: أن يستسقى له من ماء البئر أو من النهر بسانيه من الإبل أو البقر. انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"، للأزهري (ص 107)، "تاج العروس"، للزبيدي (7/ 181).

(2)

يتكلم بجوامع الكلم؛ أي: كان كلامه قليل الألفاظ كثير المعاني. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي، و"النهاية"، لابن الأثير (1/ 295).

(3)

أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521).

(4)

سبق تخريجه.

ص: 3393

الحديثين؛ ذاك حديثٌ ورد لسبب، وهذا حديثٌ ورد لسبب آخر.

فالأول: جاء ليبيِّن لنا القدر الذي تجب فيه الزكاة.

والثاني: جاء ليبيِّن لنا الحد الذي إذا وصل إليه هذا القدر من الحبوب والثمار وجبت الزكاة.

إذن؛ ذاك في بيانِ الواجب، وهذا في بيان النصاب.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ الخُصُوصَ يُبْنَى عَلَى العُمُومِ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ النِّصَابِ، وَهُوَ المَشْهُورُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ العُمُومَ وَالخُصُوصَ مُتَعَارِضَانِ إِذَا جُهِلَ المُتَقَدِّمُ فِيهِمَا وَالمُتَأَخِّرُ، إِذْ كَانَ قَدْ يُنْسَخُ الخُصُوصُ بِالعُمُومِ عِنْدَهُ، وَيُنْسَخُ العُمُومُ بِالخُصُوصِ، إِذْ كُلُّ مَا وَجَبَ العَمَلُ بِهِ، جَازَ نَسْخُهُ).

هذا الكلام إنما هو لابن حزم

(1)

، قد كرره المؤلف مرات في هذا الكتاب، وهذا حقيقة اتجاهٌ ضعيف، إنما القول الصحيح: أن الخاص يُخَص العام

(2)

.

* قوله: (وَالنَّسْخُ قَدْ يَكُونُ لِلْبَعْضِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْكُلِّ. وَمَنْ رَجَّحَ العُمُومَ قَالَ: لَا نِصَابَ، وَلَكِنْ حَمْلُ الجُمْهُورِ عِنْدِي الخُصُوصَ عَلَى

(1)

يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (4/ 23 - 31)؛ حيث قال:"وليس إلا قول من قال بإيجاب الزكاة في كل ما أنبتته الأرض؛ على عموم الخبر الثابت: "فيما سقت السماء العشر" أو قولنا، وهو لا زكاة إلا فيما أوجبها فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باسمه، على ما صح عنه عليه السلام من أنه قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق من حب ولا تمر صدقة". وأما من أسقط من ذلك الخبر ما يقتضيه عمومه، وزاد في هذا الخبر ما ليس فيه فلم يتعلقوا بقرآن ولا بسنة صحيحة، ولا برواية ضعيفة، بل خالفوا كل ذلك؛ لأنهم إن راعوا القوت فقد أسقطوا الزكاة عن كثير من الأقوات، وأوجبوه فيما ليس قوتًا: كالزيت والحمص. . . وغير ذلك مما لا يتقوت إلا لضرورة مجاعة".

(2)

يُنظر: "تشنيف المسامع بجمع الجوامع"، للزركشي (2/ 807)؛ حيث قال:"والأكثرون أن الخاص يكون مخصصًا للعام".

ص: 3394

العُمُومِ هُوَ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الخُصُوصِ عَلَى العُمُومِ فِي الجُزْءِ الَّذِي تَعَارَضَا فِيهِ؛ فَإِنَّ العُمُومَ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَالخُصُوصَ فِيهِ نَصٌّ).

ليس هناك تعارضٌ بين الحديثين: فالأول جاء لبيان حكم، والآخر جاء لبيان حكمٍ آخر:

فالأول: بيَّن لنا أن الحبوب أو الثمار التي تُسقى بماء المطرِ يجب فيها العُشر، وأن ما يُسقى بالنواضح، فإن فيه نصف العشر، إذن بيَّن لنا القدر الذي تجب فيه الزكاة.

أما الآخر: بيَّن لنا متى تجب الزكاة في هذه الأنواع عندما تبلغ ما حدده الحديث.

* قوله: (فَتَأَمَّلْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ السَّبَبُ الَّذِي صَيَّرَ الجُمْهُورَ إِلَى أَنْ يَكُونَ الخُصُوصُ مُتَّصِلًا بِالعُمُومِ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَاحْتِجَاجُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النِّصَابِ بِهَذَا العُمُومِ فِيهِ ضَعْفٌ؛ فَإِنَّ الحَدِيثَ إِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَبْيِينِ القَدْرِ الوَاجِبِ مِنْهُ).

احتجاج أبي حنيفة بدليل العام هو احتجاجٌ ضعيف؛ لأن الحديث ورد في بيان القدر الواجب وليس فيما يتعلق بالنصاب أو غيره؛ فلا تعارض بينه وبين الآخر.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي النِّصَابِ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ).

انتهى المؤلف إلى أن النصاب هو الراجح، وما دامت هذا الأنواع تجب فيها الزكاة، وأن لها نصابًا محددًا فهناك مسائل تتعلق بالنصاب اختلف فيها العلماء، هي تُعتبر بمثابة أصول هذا الباب التي ذكرها المؤلف.

ص: 3395

* قوله: (المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي ضَمِّ الحُبُوبِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي النِّصَابِ).

هل يُضم الحبوبُ بعضها إلى بعض؟

الحبوب أنواع متعددة: فهناك الحنطة، وهناك الشعير، وهناك الذرة، وهناك الدُّخُن

(1)

، وهناك أيضًا ما يُعرف بالقطنيات التي عادةً تُطبخ وهي ذات حبوب؛ كالحِمِّص، والبازلاء، والفول، والعَدَس، وبعضها يدخل في ذلك كالأرز، واللوبيا وغير ذلك.

فهل يُضم بعضها إلى بعض أم لا؟ أم هل الضم يقتصر على الحبوب؟ أو أن بعضها يُضم إلى بعض؟ وبالنسبة للقطنيات يُضم بعضها إلى بعض؟ أو أن الضم ممنوع مطلقًا؟ هذه كلها فيها أقوال للعلماء.

* قوله: (الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ تَقْدِيرِ النِّصَابِ فِي العِنَبِ وَالتَّمْرِ بِالخَرْصِ).

عرفنا أن ما سقت السماء فيه العُشر، وما سُقي بالنضح فيه نصف العشُر، فهل يجوز أن تُقدَّر الزكاة بالخرص؟ الخرص -كما تعلمون- ليس أمرًا قطعيًّا، وإنما هو أمرٌ مظنون، فهل يجوز أن تُخرص الثمار، وكذلك أيضًا الحبوب، ويكون ذلك حكمًا مستقرًّا ومسلمًا أم لا؟ هذه المسألة فيها خلاف أيضًا.

* قوله: (الثَّالِثَةُ: هَلْ يُحْسَبُ عَلَى الرَّجُلِ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ قَبْلَ الحَصادِ وَالجَذَاذِ فِي النِّصَابِ أَمْ لَا؟).

أي: هل يجوز لصاحب الزرع أو الحب أو مالك الثمار أو الحبوب أن يأكل من مزرعته بعد الاستواء قبل أن يأتي الخارص فيخرصها ويحدد

(1)

الدخن -بالضم-: حب الجاورس، أو حب أصغر منه أملس جدًّا بارد يابس حابس للطبع، كما ذكره الأطباء. انظر:"تاج العروس"، للزبيدي (43/ 512).

ص: 3396

له شيئًا، وما تجب فيه الزكاة أم لا يجوز له؟ هذه أيضًا مسألة فيها خلاف بين العلماء، وسنأتي عليها بالتفصيل -إن شاء اللَّه-.

* قوله: (أَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصِّنْفَ الوَاحِدَ مِنَ الحُبُوبِ وَالثَّمَرِ يُجْمَعُ جِيِّدُهُ إِلَى رَدِيئِهِ)

(1)

.

قد يُفهم من كلام المؤلف: الجمع بين شطري المسألة؛ أي: أن كليهما مجمعٌ عليها، والصحيح أن الشطر الأول مجمعٌ عليه، أما الثاني فلا؛ فلننتبه لذلك!

والصنف الواحد: كأن تكون عندنا حنطة فيها جيد وفيها رديء، فنضم بعضها إلى بعض، وليس المراد بالضم أن نخلطها فنأتي بالرديء فنفرغه على الجيد، لا، ولكن المعنى أن نأتي بالجيد وبالرديء، فنقدَّر أن الجيد يبلغ مائتي صاع، وأن الرديء يبلغ مائة صاع؛ إذن وصل المجموع ثلاثمائة صاع، فوجبت فيه الزكاة، هنا إن كان يُسقى بالسماء: العُشر، وإن كان بالثانية -أي: بالنضح-: فنصف العُشر، ثم نخرج الثلثين من الجيد وثلثًا من الرديء. هذا هو المراد.

هذه مسألة مجمعٌ عليها: أن نضم الرديء إلى الجيد في الصنف الواحد.

كذلك لو كان شعيرًا، أو كان سُلتًا

(2)

: وهو نوع من الشعير، وبعضهم يقول: شعير لا قشرة له، هذه أيضًا وأمثالها الأجناس المتفق

(1)

يُنظر: "المجموع"، للنووي (5/ 507)؛ حيث قال:"ويضم أنواع التمر بعضها إلى بعض وإن اختلفت أنواعه في الجودة والرداءة واللون وغير ذلك، وكذا يضم أنواع الزبيب بعضها إلى بعض وأنواع الحنطة بعضها إلى بعض وكذا أنواع باقي الحبوب ولا خلاف في شيء من هذا".

(2)

السلت: ضرب من الشعير أبيض لا قشر له. وقيل: هو نوع من الحنطة، والأول أصح؛ لأن البيضاء الحنطة. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (2/ 388).

ص: 3397

عليها؛ أي: الصنف الواحد؛ حنطة مع حنطة، شعيرٌ مع شعير، سُلت مع سُلت، أرز مع أرز، وهكذا يُضم بعضها إلى بعض، لكنه لا يُفرغ بعضها على بعض، ثم تؤخذ الزكاة بحسب النسبة، هذا مجمعٌ عليه كما ذكر المؤلف.

قول: (وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ عَنْ جَمِيعِهِ بِحَسَبِ قَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَعْنِي: مِنَ الجَيِّدِ والرَّدِيءِ).

أي: يؤخذ من هذا ما يتعلق بالقدر، ومن هذا ما يتعلق بالقدر، كما ذكر المثال في ذلك.

* قوله: (فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ أَصْنَافًا، أُخِذَ مِنْ وَسَطِهِ).

قد يُفهم من عبارة المؤلف: أن هذه الجزئية مجمعٌ عليها، كأنه يقول: فإن كان الثمر أصنافًا فقد أجمعوا على أنه يؤخذ من وسطه، وهذا غير صحيح، هذا هو قول الإمامين: مالك

(1)

والشافعي

(2)

.

أما أكثر العلماء

(3)

وإن خالف مالكٌ والشافعي لا يقولون بذلك، وإنما يقولون: يؤخذ من كل شيءٍ بحسبه؛ يعني: يُقدَّر.

وبعضهم يقول: إن الفقراء بالنسبة للزكاة مع الأغنياء كالشركاء؛ فكما يُراعى جانب الفقير يُراعى جانب الغني أيضًا، فكما أن هذه أصنافٌ متعددة

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 455)؛ حيث قال: "وإلا بأن كان أكثر من نوعين فمن أوسطها".

(2)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 249)؛ حيث قال:"فإن عسر التقسيط لكثرة الأنواع أخرج الوسط لا أعلاها، ولا أدناها رعاية للجانبين".

(3)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 287)؛ حيث قال: "له نخيل تمر برني ودقل. قال الإمام: يؤخذ من كل نخلة حصتها من التمر".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (1/ 264)؛ حيث قال:"ويأخذ العشر من كل نوع على حدته بحصته ولو شق لكثرة الأنواع واختلافها".

ص: 3398

فلا يمكن أن تُجعل بمثابة صنفٍ واحد كالمثال الأول المُجمع عليه، لكنه يؤخذ من كل شيءٍ بقدره.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمِّ القَطَانِيِّ

(1)

بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ).

القطاني أو القطنيات هذه ليس المراد بها القطن الذي تُصنع منه الملابس وغيرها، وإنما المقصود بالقطنيةِ هنا: التي تقطن المكان وتستقر به، وسُميت قطنية؛ قيل: لأنها تقطن بالمكان؛ أي: تستقر به. ويقصد بالقطنية هنا: هي الحبوب التي تُطبخ عادةً مثل: اللوبيا، وكذلك الحمص، والعدس، والفول، وأمثال ذلك من هذه الأجناس وهي أنواعٌ متعددةٌ جدًّا، فهل يُضم بعضها إلى بعض كالحال بالنسبة للقمح؟

بعض العلماء يقول: إن الحبوب يُضم بعضها إلى بعض، والقطنيات يُضم بعضها إلى بعض، لكن لا تُضم الحبوب إلى القطنيات، ولا القطنيات إلى الحبوب.

وبعضهم: يمنع الضم مطلقًا.

وأكثر المذاهب تشددًا في ذلك: هم الشافعية

(2)

.

ومذهب أحمد: فيه عدة روايات

(3)

.

(1)

القطاني: هي اسم جامع للحبوب التي تطبخ، وذلك مثل العدس والباقلاء واللوبياء والحمص والأرز والسمسم، وليس القمح والشعير من القطاني، والقطن معروف. انظر:"المصباح المنير"، للفيومي (2/ 509).

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 74)؛ حيث قال:"ولا يكمل في النصاب جنس بجنس".

(3)

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 59)؛ حيث قال:"ولا يضم جنس من زرع أو ثمر إلى جنس آخر في تكميل نصاب كقمح وشعير فلا يضم أحدهما إلى الآخر، ولو قطنيات كباقلاء وعدس وترمس".

وانظر: "الإنصاف"، للمرداوي (3/ 96 - 97).

ص: 3399

واحدةٌ: يتفق فيها مع الإمام مالك

(1)

.

وثانيها: يتفق فيها مع الإمام الشافعي

(2)

.

* قوله: (وَفي ضَمِّ الحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ).

مذهب أحمد فيه رواية له: أنه لا يُضم شيء إلى شيء

(3)

، وفيه أن الحبوب كلها تُضم بعضها إلى بعض

(4)

، وفيه أنه تُضم الحنطة إلى الشعير وإلى السُّلت

(5)

، والسلت: هو نوعٌ من الشعير يقولون له قشرة رقيقة، ويشبه الشعير لكن فيه قشرةٌ رقية ليس كالشعير.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: القِطْنِيَّةُ كُلُّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ).

معنى هذا: يُضم بعضها إلى بعض.

* قوله: (الحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ أَيْضًا).

كذلك الحنطة والشعير والسُّلت شيء واحد؛ لأنها حبوب.

(1)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 449)؛ حيث قال: "وتضم القطاني كأصناف التمر والزبيب لأنها جنس واحد في الزكاة؛ فإذا اجتمع من جميعها خمسة أوسق زكاه وأخرج من كلٍّ بحسبه، ويجزئ إخراج الأعلى منها أو المساوي عن الأدنى أو المساوي لا الأدنى عن الأعلى".

(2)

يُنظر: "الإنصاف"، للمرداوي (3/ 97)، حيث قال:"وعنه أن الحبوب يضم بعضها إلى بعض رواها صالح، وأبو الحارث، والميموني، وصححها القاضي وغيره، واختارها أبو بكر. قاله المصنف قال إسحاق بن هانئ: رجع أبو عبد اللَّه عن عدم الضم، وقال: يضم، وهو أحوط، قال القاضي: وظاهره الرجوع عن منع الضم".

(3)

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 59)؛ حيث قال:"ولا يضم جنس من زرع أو ثمر إلى جنس آخر في تكميل نصاب كقمح وشعير فلا يضم أحدهما إلى الآخر، ولو قطنيات كباقلاء وعدس وترمس".

(4)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 32)؛ حيث قال:"إن الحبوب كلها تضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب".

(5)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 31)؛ حيث قال:"وتضم الحنطة إلى الشعير، وتزكى إذا كانت خمسة أوسق، وكذلك القطنيات".

ص: 3400

فالإمام مالك عنده: القطنيات شيء واحد، يجوز ضم بعضها إلى بعض، والحبوب كذلك يجوز ضم بعضها إلى بعض، وهي رواية للإمام أحمد.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ

(1)

وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: القَطَانِيُّ كُلُّهَا أَصْنَافٌ كثِيرَةٌ بِحَسَبِ أَسْمَائِهَا، وَلَا يُضَمُّ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَى غَيْرِهِ فِي حِسَابِ النِّصَابِ).

هذه رواية ثالثة عند أحمد؛ فله رواية مع الإمام مالك، وله رواية أُخرى يقتصر الجمع فيها في المذهب على الحنطة مع الشعير والسُلت.

* قوله: (وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالحِنْطَةُ عِنْدَهُمْ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ لَا يُضَمُّ وَاحِدٌ مِنْهَا إِلَى الآخَرِ لِتَكْمِيلِ النِّصَابِ).

على كلٍّ؛ هذه الأشياء إذا ضُمت فيها مصلحةٌ للفقير؛ لأنه ربما يكون القدر الموجود من الحنطة لا يبلغ نصابًا؛ فإذا ما ضُم إليه الشعير، والضم القصد بذلك: هو أن تُضم إليه في الكيل وليس القصد أنه يُخلط معه ليفسده.

فهذه الثلاثة قد تُضم ثم بعد ذلك يؤخذ من كل صنفٍ بحسبه، ثم تُضم بعضها إلى بعض، ولا تؤخذ الزكاة من الحنطة؛ لأنها أحسنها وأجودها؛ إنما يؤخذ من كل واحدٍ بحسبه العُشر.

* قوله: (وَسَبَبُ الخِلَافِ: هَلِ المُرَاعَاةُ فِي الصِّنْفِ الوَاحِدِ هُوَ اتِّفَاقُ المَنَافِعِ أَوِ اتِّفَاقُ الأَسْمَاءِ؟ فَمَنْ قَالَ: اتِّفَاقُ الأَسْمَاءِ، قَالَ: كُلَّمَا اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا، فَهِيَ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ قَالَ: اتِّفَاقُ المَنَافِعِ، قَالَ:

(1)

يُنظر: "فتح القدير"، لابن الهمام (2/ 242)؛ حيث قال:"ولو كان الخارج نوعين كلٌّ أقل من خمسة أوسق لا يضم".

ص: 3401

كُلَّمَا اتَّفَقَتْ مَنَافِعُهَا، فَهِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرُومُ أَنْ يُقَرِّرَ قَاعِدَتَهُ بِاسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ).

أراد المؤلف هنا: أن يتلمَّس العِلة في ذلك؛ فإن كان المقصود هي المنفعة فلا ينبغي أن يختلف حنطةٌ عن شعير، عن سُلت، وكذلك الحال في القطنيات، وإذا كانت الأسماء لها تأثير فلا ينبغي أن تُضم حنطةٌ إلى شعير؛ لأن الحنطة تُسمى حنطة أو قمحًا، وذاك يُسمى: شعيرًا، وهذا يُسمَّى سُلتًا، وهذا حِمِّصًا، وهذا مثلًا فول، وهذا عدس، وهذا لوبيا، إذن الأسماء فرَّقت بينها؛ فما دامت الأسماء فرَّقت بينها فينبغي أن نُفرِّق بين هذه الحبوب.

فقد نجد مسألتين يختلف الاسم بينهما، ونجد أن الحكم واحدًا، وقد نجد اسمين متفقين ويختلف حكمهما.

* قوله: (أَعْنِي: أَنَّ أَحَدَهُمَا يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِهِ بِالأَشْيَاءِ الَّتِي اعْتَبَرَ فِيهَا الشَّرْعُ الأَسْمَاءَ، وَالآخَرُ بِالأَشْيَاءِ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِيهَا المَنَافِعَ).

لا شك أنه عندما تُضم هذه الأشياء بعضها إلى بحض فهي في مصلحة الفقير، فإذا ضُمت هذه الأشياء وبخاصة إذا كانت دون النصاب، فإذا ما ضُم بعضها إلى بعض ارتفعت؛ فكان في ذلك مصلحة للفقير الذي يُمضي عامه ويتطلع إلى هذه الحبوب، وإلى هذه الثمار متى يأتي وقت الجذاذ، ومتى يأتي وقت الحصاد؛ حتى يأخذ شيئًا من هذه الحبوب، أو يأخذ نصيبه من هذه الحبوب ومن هذه الثمار؛ لأن نفسه معلقةٌ بها.

* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةُ الشَّرْعِ لِلأَسْمَاءِ فِي الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ شَهَادَتِهِ لِلْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ مَوْجُودًا فِي الشَّرْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

لكننا في هذا المقام دائمًا ننظر إلى الأصلح؛ والأصلح وهو الجانب الذي ينبغي أن يُغلَّب في هذا المقام: ألا وهو جانب الفقير.

ص: 3402

* قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ تَقْدِيرُ النِّصَابِ بِالخَرْصِ

(1)

، وَاعْتِبَارُهُ بِهِ دُونَ الكَيْلِ).

الخرص هو: التخمين والظن؛ قالوا: خرص فلان شيئًا: بمعنى قدَّره ظنًّا وتخمينًا.

والعلماء مختلفون فيها؛ فجمهور العلماء يقولون: بأن الخرص ثابت، وقد جاء ذلك في سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

والحنفية يعارضون في هذا المقام، ويقولون: إن الأدلة التي وردت في ذلك إنما هي أدلةٌ ضعيفة.

ثم يقوَّي الحنفية ما ذهبوا إليه بالتعليل التالي: يقولون: إن الخرص إنما هو ظنٌّ وتخمين؛ والظن والتخمين لا ينبغي أن يُقرَّر عن طريقهما حكم، وإنما الخرص ليكون ذلك رادعًا للأُجْرَاء؛ أي: الحراس الذين يشتغلون، يأتي الخارص فيخرص الثمار عند بُدُوِّ صلاحها حتى لا يُتصرف فيها من الذين يشتغلون في المزارع، فربما تقوم خيانة فيسطون عليها فيأخذوها. قالوا: فقُصد من الخرص من ذلك: إنما هو عدم التعدِّي، وإلا الخرص ظن وتخمين، والظن لا يغني من الحق شيئًا.

أما جمهور العلماء: فإنهم يقولون بالخرص، وقد استدلوا بذلك بعدة أدلة؛ استوفى أكثرها المؤلف، ولم يذكر حديثًا في ذلك، وهو حديث صحيح في قصة المرأة التي كانت تقيم في وادي القرى؛ فإن الرسول خرص عليها حديقتها

(2)

. وهذا حديثٌ صحيحٌ باتفاق.

أورد المؤلف عدة أدلة منها:

- حديث: "إذا خرَصْتُم فدعوا الثُّلثَ فإن لم تدَعوا الثُّلثَ فدعوا

(1)

خرص النخل إذا حزر ما عليها من الرطب تمرًا ومن العنب زبيبًا، فهو من الخرص: الظن؛ لأن الحزر إنما هو تقدير بظن. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (2/ 22).

(2)

أخرجه البخاري (1481)، ومسلم (1392).

ص: 3403

الرُّبعَ"

(1)

، ولا شك أن في هذا الحديث مع الاختلاف فيه من حيث الصحة والضعف، وإن كنا نرى أنه حديث صالح للاحتجاج به، له دلالة؛ لأنك تجد أن الشريعة راعت حالة المالك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث آخر:"خففوا في الخرص"

(2)

، وقال:"إذا خرَصْتُم فدعوا الثُّلثَ فإن لم تدَعوا الثُّلثَ فدعوا الرُّبعَ".

ولهذا يقول بعض العلماء

(3)

: لو أن خارصًا خرص فلم يدع لرب المِلكِ شيئًا فإن له أن يأكل إلى الثلثِ أو إلى الربع.

إذن "إذا خرصتم فدعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع"؛ لأن الإنسان قد يهب شيئًا من مزرعته إلى أخِ له، وهذا أيضًا تمر به السابلة الذين يمرون فيطرقون هذه الحديقة والمزرعة فيأكلون منها، وأيضًا هو يحتاج إلى أن يأكل هو وأولاده، والطير أيضًا يأكل منها، والرياح تهز الأشجار فيتساقط شيءٌ منها، ثم تأتي الزكاة فتأخذ.

فالشريعة راعت هذا الجانب؛ فقررت أنه يُترك شيءٌ من ذلك.

أما دعوى: أن الخرص تخمين -كما يقول الحنفية أو بعض الحنفية- إنه تخمينٌ وظن، والتخمين والظن لا ينبغي أن يُرتَّب عليه حكم من الأحكام.

(1)

أخرجه أبو داود (1605)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(281).

(2)

أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(6/ 472)، وقال ابن القيم في "حاشيته على السنن" (9/ 200):"وفيه ابن لهيعة".

وهو في شرح معاني الآثار للطحاوي (4/ 33) بلفظ: " خففوا في الصدقات"، وقال العيني في "نخب الأفكار" (11/ 521):"والحديث المذكور مرسل، وإسناده صحيح، وهو حجة عندنا على ما عُرف في موضعه".

(3)

مثل الكلوذاني في "الهداية على مذهب الإمام أحمد"(ص 135)؛ حيث قال: "ويجب على الخارص أن يترك لرب المال الثلث أو الربع، فإن لم يفعل جاز لرب المال أن يأكل بقدر ذلك ولا يحتسب عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فدعوا الثلث أو الربع؛ فإن في المال العرية والأكلة والوصية"".

ص: 3404

فالجواب: بأن هذا اجتهاد، يجتهد فيه الخارص الذي يُرسله، لكن هذا الاجتهاد ينبغي أن يصحبه معرفةٌ بالخارص، فليس كل إنسان يصلح أن يكون خارصًا، وإنما يُختار لذلك الإنسان العارف المدرك لذلك، ثم ليس القصد بالخرص أن يأتي الإنسان إلى النخل فيُقدِّر واحدًا أو عشرًا ثم يمشي، بل هو يمر بكل نخلة فيما يتعلق بالأجناس المتفقة فيقدِّر ما فيها؛ فإن اختلفت الأجناس فإنه يقدِّر كل جنسٍ على حدة.

إذن؛ الخرص إنما هو اجتهاد؛ ولذلك يقول جمهور العلماء

(1)

: هذا الاجتهاد مبنيٌّ على معايير ومقادير، هذه المعايير وهذه المقادير هي الخبرةُ التي اكتسبها الخارص، فإنه إذا وقف عند هذه -يعني أصحاب الخبرة- قد يأتي الإنسان منهم فيقف الإنسان عند كومة النخل أو شعير فيقدرها، تجد أنه لا يأتي إلا فرق يسير وهذا متجاوز عنه؛ إذن هذا بخبرته ومعرفته وكياسته إذا وقف عند هذه النخلة فقدَّرها لا تجد إلا فرقًا يسيرًا إن وُجد الفرق؛ فهناك خبرة.

إذن يقول جمهور العلماء: هذا الاجتهاد قام على معايير دقيقة، أو قريبة من الدقة، وقام أيضًا على تقديراتٍ معتبرة شرعًا؛ فهذا جائز كالحال بالنسبة لقيم المتلفات؛ فقيم المتلفات هذه مسألةٌ متفقٌ عليها، ويوافق عليها الحنفية، وهي لا تأتي طبقًا لما قُدِّر، قد يحصل فيها أيضًا اختلافٌ في التقدير، ومع ذلك الشرع اعتبرها.

ونعلم بأن الشرع تجاوز عن بعض الأحكام -كما سيأتي بالنسبة

(1)

لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 454)؛ حيث قال: "وكفى الخارص الواحد إن كان عدلًا عارفًا؛ لأنه حاكم فلا يتعدد".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج في شرح المنهاج"، للهيتمي (3/ 258)؛ حيث قال:"العلم بالخرص؛ أي: لأنه اجتهاد والجاهل بالشيء ليس من أهل الاجتهاد".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"أسنى المطالب في شرح روض الطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 373)؛ حيث قال:"لأن الخرص ينشأ عن اجتهاد فكان كالحاكم".

ص: 3405

للخرص نفسه، وكما سيتكلم المؤلف-؛ لأنه يأتي الخارص فيخرص الرطب، والزكاةُ تُخرج بعد ذلك؛ إذن هنا فيه نسيئة، تأخير، والذي سيُخرج غير النوع الموجود على النخل؛ لأن الموجود إنما هو رُطب، وهو يُخرج الزكاة تمرًا. كذلك أيضًا يخرص العنب وهو هذا الثمر في أشجاره، ويُخرج من ذلك زبيبًا بعد أن يجف؛ فهنا فيه تأخير، وفيه مفاضلة، ومع ذلك نجد أن الشريعة جاوزت عن هذه القضايا التي قد ورد فيها النهي عنها كما سيذكر ذلك المؤلف إن شاء اللَّه.

* قوله: (فَإِنَّ جُمْهُورَ العُلَمَاءِ

(1)

عَلَى إِجَازَةِ الخَرْصِ فِي النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ حِينَ يَبْدُو صَلَاحُهَا لِضَرُورَةِ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِهَا رُطَبًا. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا خَرْصَ إِلَّا فِي النَّخِيلِ فَقَطْ)

(2)

.

يعني: يأتي فيخرص، فيترك النخل، عُرف الآن القدر الذي تجب فيه الزكاة، أو القدر الواجب في الزكاة، وأهلها يأكلون منه رطبًا ليتمتعوا بها.

(1)

لمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 452)؛ حيث قال: "ولما كان الخرص -بالفتح- وهو الحزر إنما يدخل في الثمر والعنب دون غيرهما أفاد المؤلف ذلك بصيغة الحصر مع بيان وقته مشيرًا للعلة في ذلك بقوله: (وإنما يخرص التمر) بمثناة (والعنب) ".

وانظر: "حاشية الصاوي"(1/ 617).

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"الغرر البهية في شرح البهجة الوردية"، لزكريا الأنصاري (2/ 151)، حيث قال:"يندب الخرص لكل الشجر".

وانظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 256).

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (1/ 263)؛ حيث قال:"ويسن أن يبعث الإمام ساعيًا خارصًا إذا بدا صلاح الثمر".

وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 421).

(2)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (11/ 72)، حيث قال:"ووافقنا على إلحاق العنب بالرطب المالكية وبعض الحنابلة، وخالف في ذلك الليث بن سعد وأحمد بن حنبل وداود الظاهري".

ص: 3406

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ

(1)

: الخَرْصُ بَاطِلٌ، وَعَلَى رَبِّ المَالِ أَنْ يُؤَدِّيَ عُشْرَ مَا تَحَصَّلَ يَدُهُ، زَادَ الخَرْصُ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ).

قالوا: بأن الخرص باطل؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على اليقين، أما الخرص فيه تخمينٌ وظن، وهذا التخمين والظن لا ينبغي أن يترتب عليه حكم من الأحكام، ولا أن يتقرر حكمٌ من أحكام هذه الشريعة.

وعلى هذا إذا سُئل الحنفية لماذا جاء الخرص؟ قالوا: الخرص الذي ورد في ذلك قُصد به النماء وردع الأجراء؛ أي: الذين يشتغلون في المزارع؛ لأنه ربما لو لم يأتِ الخارص فيخرص عليهم ربما يتصرفون بشيءٍ من الثمار والحبوب، فيخفونها، فجاء الخارص ليقدر ذلك تقريبًا، لكن لا ينبغي أن يترتب عليه حكم.

والخرص ليس واجبًا وإنما هو جائز، وإنما الخلاف في جوازه؛ هل يترتب عليه حكمٌ أم لا؟

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ الخَرْصِ: مُعَارَضَةُ الأُصُولِ لِلْأَثَرِ الوَارِدِ فِي ذَلِكَ؛ أَمَّا الأَثَرُ الوَارِدُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الجُمْهُورُ).

إذن ورد في ذلك عدة آثار

(2)

، والمؤلف يتجاوز فيُطلق على الحديث الأثر وهذا جائز.

(1)

يُنظر: "فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 245)؛ حيث قال:"قال الإمام: يجب عليه عشر ما أكل أو أطعم، ومحمد يحتسب به في تكميل الأوسق؛ يعني: إذا بلغ المأكول مع ما بقي خمسة أوسق يجب العشر في الباقي لا في التألف، وأما أبو يوسف فلا يعتبر الذاهب بل يعتبر في الباقي خمسة أوسق إلا أن يأخذ المالك من المتلف ضمان ما أتلفه فيخرج عشره وعشر ما بقي".

(2)

يُنظر: "النكت على كتاب ابن الصلاح"، لابن حجر (1/ 513)؛ حيث قال:"والأثر في الأصل العلامة والبقية والرواية، ونقل النووي عن أهل الحديث أنهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف معًا، ويؤيده تسمية أبي جعفر الطبري كتابه "تهذيب =

ص: 3407

* قوله: (فَهُوَ مَا رُوِيَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرْسِلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وَغَيْرَهُ إِلَى خَيْبَرَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ")

(1)

.

الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُرسل عبد اللَّه بن رواحة، وجاء هذا في عدة روايات من حديث عائشة وغيرها إلى يهود خيبر، واتفق معهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يترك ما بأيديهم من المزارع على أن يقوموا بزرعها، والقيام عليها مقابل النصف.

وهذه مسألة ينازع فيها الحنفية

(2)

، وبقولون: إن هذا الخرص لم يكن للمسلمين، وإنما كان لغير المسلمين، إذن الخرص هنا لا لأجل الزكاة؛ وإنما لأخذ القدر الذي هو النصف؛ ولذلك كان عبد اللَّه بن رواحة يُخيِّرهم بين ما يقسم.

* قوله: (وَأَمَّا الأُصُولُ الَّتِي تُعَارِضُهُ: فَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ المُزَابَنَةِ

(3)

= الآثار" وهو مقصور على المرفوعات، وإنما يورد فيه الموقوفات تبعًا، وأما كتاب "شرح معاني الآثار" للطحاوي فمشتمل على المرفوع والموقوف أيضًا، واللَّه تعالى الموفق".

(1)

أخرجه أبو داود (1606)، وقال الألباني في "ضعيف أبي داود":(282): "إسناده ضعيف؛ لجهالة المُخْبِرِ". وقال الألباني في "إرواء الغليل"(805): "وله شاهد من حديث جابر قال: "أفاء اللَّه عز وجل خيبر على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فأمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما كانوا وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد اللَّه بن رواحة فخرصها عليهم. . . أخرجه البيهقى وأحمد".

(2)

يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (23/ 7)؛ حيث قال:"وفي هذا الحديث بيان أن ما جرى بين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبينهم كان على طريقة الصلح، وقد يجوز من الإمام المعاملة بين بيت المال وبين الكفار على طريق الصلح، ما لا يجوز مثله فيما بين المسلمين؛ فيضعف من هذا الوجه استدلالهم بمعاملة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معهم، وفيه دليل هداية ابن رواحة رضي الله عنه في باب الخرص؛ فإنهم كانوا أهل نخل، وقد علموا أنه أصاب في الخرص حين رغبوا في أخذ ذلك".

(3)

المزابنة: هي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه. انظر:"النهاية"، لابن الأثير (2/ 294).

ص: 3408

المَنْهِيِّ عَنْهَا - وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالثَّمَرِ كَيْلًا).

المزابنة هي: أن تبيع الثمر في رؤوس النخل فيما يقابله تمرًا.

* قوله: (وَلِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً).

لأنه رطب، وتأخذ بعد ذلك ما يقابله تمرًا؛ فاختلف النوع؛ هذا رطب وهذا تمر، وتأخذه متأخرًا.

* قوله: (فَيَدْخُلُهُ المَنْعُ مِنَ التَّفَاضُلِ، وَمِنَ النَّسِيئَةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أُصُولِ الرِّبَا).

لكن هذا استثنته الشريعة الإسلامية، وكثيرٌ من الأحكام نجد أن الشريعة الإسلامية تجاوزت عنها للمصلحة؛ فالشريعةُ الإسلامية قد تجيز الحكم ضرورةً، وقد تجيزه للحاجة، وكما جاء في الحديث:"لا ضررَ ولا ضرارَ"

(1)

، ووضع العلماء القاعدة المعروفة:"الضرر يُزال"

(2)

، ووضعوا القاعدة الأخرى:"الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة عامةً كانت أو خاصة"

(3)

، وهذه حاجة فراعتها الشريعة الإسلامية.

والشريعة ما جاءت لتضيق على الناس، وإنما جاءت لتيسر عليهم، وهذا من التيسير الذي جاءت به هذه الشريعة، وإلا لا ينطبق على الأصول؛ لأنك تدفع إلى إنسانٍ مالًا مقدَّمًا، ثم يعطيك بعد ذلك ما يقابله، كذلك أيضًا تستأجر دارًا فتدفع الأجرة وأنت لا تستوفي منفعتها إلا بعد عامٍ أو بعد أشهر حسب الاتفاق، ومع ذلك دفعت الأجرة مقدمًا. هذه أمورٌ تجاوزت عنها الشريعة الإسلامية؛ بمعنى يسَّرت فيها.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2340)، وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن ابن ماجه".

(2)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، لابن نجيم (1/ 72)؛ حيث قال:"القاعدة الخامسة: الضرر يزال، أصلها قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"".

(3)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، لابن نجيم (1/ 78)؛ حيث قال:"السادسة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة؛ ولهذا: جوزت الإجارة على خلاف القياس للحاجة".

ص: 3409

* قوله: (فَلَمَّا رَأَى الكُوفِيُّونَ هَذَا مَعَ أَنَّ الخَرْصَ الَّذِي كانَ يُخْرَصُ عَلَى أَهلِ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ لِلزَّكَاةِ؛ إِذْ كَانُوا لَيْسُوا بِأَهْلِ زَكَاةٍ، قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَخْمِينًا لِيُعْلَمَ مَا بِأَيْدِي كُلِّ قَوْمٍ مِنَ الثِّمَارِ. قَالَ القَاضِي: أَمَّا بِحَسَبِ خَبَرِ مَالِكٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي القِسْمَةِ).

القاضي: هو ابن رشد صاحب كتاب "بداية المجتهد"، نفسه المؤلف، يُلقِّب نفسه بالقاضي.

قال: "خبر مالك" الذي هو حديث عبد اللَّه بن رواحة الآتي، وهو قد رُوي عند مالك

(1)

، وعند غيره

(2)

.

* قوله: (لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الخَرْصِ قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي، أَعْنِي: فِي قِسْمَةِ الثِّمَارِ لَا فِي قِسْمَةِ الحَبِّ. وَأَمَّا بِحَسَبِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(3)

: فَإِنَّمَا الخَرْصُ لمَوْضِعِ النَّصِيبِ الوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالحَدِيثُ هُوَ: أَنَّهَا قَالَتْ وَهِيَ تَذْكرُ شَأْنَ خَيْبَرَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ"، وَخَرْصُ الثِّمَارِ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ).

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يُرسل عبد اللَّه بن رواحة فيخرص عليهم الثمار، يقسمها، ثم بعد ذلك يأخذ النصف ويترك لهم الشطر الآخر.

* قوله: (وَكَيْفَمَا كَانَ، فَالخَرْصُ مُسْتَثْنًى مِنْ تِلْكَ الأُصُولِ).

وهو كما ذكر المؤلف.

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 703)(1).

(2)

كأبي داود (3410)، وابن ماجه (1820).

(3)

أخرجه أبو داود (3413)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود".

ص: 3410

* قوله: (هَذَا إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كانَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام حُكْمًا مِنْهُ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الحُكْمَ لَوْ ثَبَتَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَيْسَ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا عَامًّا عَلَى المُسْلِمِينَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنه خرص حديقة امرأة"

(1)

.

ومن أصرح الأدلة في ذلك: حديث عتَّاب بن أَسيد: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر أن يُخرص العنب كما يُخرص النخل، فتؤخذ زكاته زبيبًا كما تؤخذ زكاةُ النخلِ تمرًا"

(2)

. هذا فيه خلاف؛ لأنه من رواية سعيد بن المسيب؛ وسعيد بن المسيب إنما هو من التابعين لم يسمع من عتاب بن أسيد

(3)

.

"يُخرص العنب"، وفي بعض الروايات:"الكَرْم"

(4)

: وهو العنب،

(1)

أخرجه البخاري (1481)، ومسلم (1392)، ولفظ البخاري:"عن أبي حميد الساعدي، قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "اخرصوا"، وخرص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، فقال لها: "أحصي ما يخرج منها" فلما أتينا تبوك قال: "أما إنها ستهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد، ومن كان معه بعير فليعقله" فعقلناها، وهبت ريح شديدة، فقام رجل فألقته بجبل طيئ، وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، وكساه بردًا وكتب له ببحرهم، فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: "كم جاء حديقتك" قالت: عشرة أوسق، خرص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني متعجل إلى المدينة، فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل"".

(2)

أخرجه أبو داود (1603)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(280).

(3)

قال ابن عبد البر في "الاستيعاب"(3/ 1024): "وحدث عنه -أي: عتاب بن أسيد- سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، ولم يسمعا منه".

وقال ابن قانع في "معجم الصحابة"(2/ 270): "لم يدرك سعيدُ بن المسيب عتابَ بن أسيد".

(4)

أخرجه ابن حبان (8/ 74) عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الكرم يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبًا كما تؤدى زكاة النخل تمرًا". وقال الأرناؤوط: رجاله ثقات لكنه منقطع.

ص: 3411

وقضية تسمية العنب بالكَرْم فيه كلامٌ معروف، وتكلم عنه العلماء

(1)

؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه أن الكَرْم هو المسلم

(2)

، وكذلك أن قلب المؤمن هو الكرْم، والعلماء قد أجابوا بأجوبة جمعوا فيها بين الأحاديث، وليس هذا هو مقامها؛ لكن الذي يهمنا هنا وهو ما يرتبط بدرسنا: هو ما يتعلق بحديث عتاب:

فالجمهور: أخذوا بهذا الحديث، واعتبروه حُجَّة إلى جانبِ الأدلة الأخرى؛ أي: ليس هذا هو الحديث فقط الذي ورد في الخرص، وإنما ورد فيه غيره؛ كحديث:"إذا خرَصْتُم فدعوا الثُّلثَ فإن لم تدَعوا الثُّلثَ فدعوا الرُّبعَ"

(3)

، وقصة الرجل الذي جاء يشكو أبا حثمة إلى رسول صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه زاد عليه في الخرص، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يرد الرجل، وإنما سأل أبا حثمة فبيَّن له أنه ترك له كذا وكذا، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم العدل- بيَّن له أن أبا حثمة قد أنصفه، وأنه زاده أيضًا -كما سيأتي في الحديث ونعلق عليه إن شاء اللَّه-.

(1)

يُنظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (10/ 132) وفيه:"الكرم: صفة محمودة، والكريم من صفات اللَّه جل ذكره، ومن آمن باللَّه فهو كريم، والكرم: مصدر يقام مقام الموصوف. فيقال: رجل كرم. ورجلان كرم، ورجال كرم، وامرأة كرم، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث؛ لأن معنى قولك: رجل كرم؛ أي: ذو كرم. ولذلك أقيم مقام المنعوت فخفف، والكرم سمي كرمًا لأنه وصف بكرم شجرته وثمرته، وقيل: كرم بسكون الراء لأنه خفف عن لفظة كرم لما كثر في الكلام. . . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميته بهذا الاسم لأنه يُعتصر منه المسكر المنهي عن شربه وأنه يغير عقل شاربه، ويوقع بين شَرْبه العداوة والبغضاء. فقال: الرجل المسلم أحق بهذه الصفة من هذه الشجرة التي يؤدي ما يعتصر من ثمرها إلى الأخلاق الذميمة اللئيمة. قال أبو بكر: يُسمَّى الكرم كرمًا لأن الخمر المتخذ منه يحث على السخاء والكرم ويأمر بمكارم الأخلاق فاشتقوا له اسمًا من الكرم للكرم الذي يتولد منه فكره النبي -صلى اللَّه عليه وآله- أن يُسمَّى أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم، وجعل المرء المؤمن أولى بهذا الاسم الحسن".

(2)

أخرجه البخاري (6183)، ومسلم (2247)، ولفظ مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسموا العنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم".

(3)

سبق تخريجه.

ص: 3412

* قوله: (وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ لَكَانَ جَوَازُ الخَرْصِ بَيِّنًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَحَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ هُوَ أَنَّهُ قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَخْرُصَ العِنَبَ، وَآخُذَ زَكَاتَهُ زَبِيبًا، كَمَا تُؤْخَذُ زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا"

(1)

، وَحَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ طُعِنَ فِيهِ، لِأَنَّ رَاوِيه عَنْهُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِزْ دَاوُدُ

(2)

خَرْصَ العِنَبِ).

لم يسمع منه؛ لأنه ما أدركه، تُوفي قبل أن يولد هذا، ولكن -كما تعلمون- سعيد بن المسيب ثقة.

* قوله: (وَاخْتَلَفَ مَنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الزَّيْتُون فِي جَوَازِ خَرْصِهِ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي قِيَاسِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّخْلِ وَالعِنَبِ).

مسألة الزيتون: سبق أن مرت؛ في أوائل كتاب الزكاة، تعرّض لها المؤلف، وتكلمنا عنها، وبعض العلماء لا يرى فيها وجوب الزكاة.

* أولًا عند من يقول: بأن الزكاة تجب في الزيتون لا تجب خرصًا، وإنما يجب فيه العُشر، كالحال بالنسبة للحبوب والثمار العشر أو نصف العُشر.

* لكن المالكية

(3)

يرون: وجوب الزكاة في الزيتون، وهي أيضًا رواية مشهورة للإمام أحمد

(4)

، والشافعية

(5)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

يُنظر: "المجموع شرح المهذب"(11/ 72)، حيث قال:"وخالف في ذلك الليث بن سعد وأحمد بن حنبل وداود الظاهري".

(3)

يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 453)؛ حيث قال: "فالزيتون ونحوه لا يخرص ويقدر جفافه".

(4)

يُنظر: "الفروع"، لابن مفلح (2/ 434)؛ حيث قال:"ولا يخرص غير النخل والكرم".

(5)

يُنظر: "الغرر البهية"، لزكريا الأنصاري (2/ 150 - 152)؛ حيث قال:"وخرج بالثمر الحب لاستتاره؛ ولأنه لا يؤكل غالبًا رطبًا بخلاف الثمر".

ص: 3413

إلا الشافعي في مذهبه القديم

(1)

، والمعمول به هو المذهب الجديد.

لكن العلماء يفرِّعون على هذه مسائل في: ما الذي يؤخذ من الزيتون؟ هل تؤخذ الزكاة من الحب أم من الزيت؟ الزكاة تؤخذ من زيت الزيتون، لكن قد لا يكون للزيتونِ زيتًا، فما الذي يؤخذ؟ بعض العلماء قال: تؤخذ الزكاة من حبه، وبعضهم قال: من قيمته؛ أي: تُستخرج القيمة فتُزكَّى.

* قوله: (وَالمُخْرَجُ عِنْدَ الجَمِيعِ مِنَ النَّخْلِ فِي الزَّكَاةِ هُوَ التَّمْرُ لَا الرُّطَبُ).

الذي يُخرج إنما هو التمر؛ ولذلك نجد أن العلماء بعضهم يقول: كل ما يُكال ويُدَّخر ويُقتات فيه زكاة؛ لكن ليس كل ما يُكال تجب فيه الزكاة.

فمثلًا: تجد شرط الكيل يُذكر أحيانًا عند الحنابلة

(2)

، لكن ليس ذلك على الإطلاق؛ فمثلًا: ورق السدر لا تجب فيها الزكاة مع أنها تُكال.

إذن، ما يُدَّخر ويُقتات؛ يعني: ما يصلح أن يكون قوتًا ويُدَّخر: بمعنى أنه ييبس، فإذا جف لا يتعفَّن، وإنما يبقى كالحال بالعنب يكون زبيبًا، وكذلك أيضًا بالنسبة للحب، وكذلك أيضًا الرطب يكون تمرًا، وهكذا، وكذلك الأشياء الذي تُجفف؛ كالعدس والفول وغير ذلك.

* قوله: (وَكَذَلِكَ الزَّبِببُ مِنَ العِنَبِ لَا العِنَبُ نَفْسُهُ).

يريد أن يقول: لا تُخرج الزكاة من الرطب، ولا من العنب؛ وإنما الزكاة تجب في التمر، وفي الزبيب.

(1)

يُنظر: "حاشية البجيرمي على المنهج"(2/ 18 - 20)؛ حيث قال: "وخرج بالقوت غيره كخوخ ومشمش وتين وجوز ولوز وتفاح وزيتون وسمسم وزعفران، وبالاختيار ما يقتات ضرورة كحب حنظل وغاسول وترمس فلا تجب الزكاة في شيء منها".

(2)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 257)؛ حيث قال:"تجب الزكاة في كل مكيل مدخر".

ص: 3414

* قوله: (وَكَذَلِكَ عِنْدَ القَائِلِينَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزَّيْتُونِ هُوَ الزَّيْتُ لَا الحَبُّ قِيَاسًا عَلَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. وَقَالَ مَالِكٌ

(1)

فِي العِنَبِ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ، وَالزَّيْتُونِ الَّذِي لَا يُعْتَصَرُ: أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حَبًّا).

أي: العنب الذي لا يكون له زبيب؛ يؤخذ منه حبًّا، وبعض العلماء قال: القيمة.

(وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنَّ مَالِكًا

(2)

وَأَبَا حَنِيفَةَ

(3)

قَالَا: يُحْسَبُ عَلَى الرَّجُلِ مَا أَكَلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ قَبْلَ الحَصَادِ فِي النِّصَابِ).

بالنسبة لهذه المسألة: هل يجوز للإنسان أن يأكل من الثمر ومن الحبوب إذا أثمرت الثمار واشتد الحب أم لا يجوز له ذلك؟ أو ينتظر حتى يأتي الخارص فيخرص ثم يبين القدر الذي يتركه له من ذلك فيأكل منه؟

هذه المسألة فيها خلاف:

لأن الشافعية

(4)

: يتشددون في هذه المسألة ويقولون: لا يجوز

(1)

يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"، للخلوتي (1/ 610)؛ حيث قال:"وأما الزيتون فلا بد من الإخراج من زيته إن كان له زيت. فإن لم يكن له زيت -كزيتون مصر- فهو داخل في قوله: "ونصف عشر ثمن ما"؛ أي: زيتون لا زيت له إن باعه، وإلا أخرج نصف عشر قيمته يوم طيبه، فقوله: "ثمن" عطف على الحب. ونصف عشر ثمن ما لا يجف من عنب ورطب كعنب مصر ورطبها إن بيع وإلا فنصف عشر القيمة يوم طيبه".

(2)

يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"، للخلوتي (1/ 615)؛ حيث قال:"فيحسب من الخمسة أوسق فأكثر ما أكله".

(3)

يُنظر: "الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 331)؛ حيث قال "يضمن عشر ما أكل وأطعم".

(4)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 260، 261)، حيث قال:"فحرم التصرف مطلقًا، وبهذا يعلم ضعف إفتاء غير واحد بأن للمالك قبل التضمين الأكل إذا نوى أنه يخرج الجاف؛ لأن حق المستحقين شائع في كل ثمرة فكيف يجوز أكله بنية غرم بدله"، وانظر:"نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 78).

ص: 3415

للإنسان أن يأكل من الثمر أو من الحب بعد الاشتداد وبدو الصلاح. ويقولون: إن فعل ذلك فإنه يُغرم، ثم يفرقون بين أن يكون عالمًا بالتحريم بمعنى أنه لا يجوز أن يأكل منه، وبين ألَّا يعلم الحكم، فقالوا: إن كان عالمًا بالتحريم فإنه يُغرم ويُعزر، وإن كان جاهلًا بالحكم فإن عليه غرامة ولا يُعزر.

أما الذي ذكره المؤلف: فهو مذهب (أحمد)

(1)

، وليس هو مذهب الشافعي إلا إن قصد المذهب القديم وهو قول في مذهب الشافعي، وقالوا: إنه المذهب القديم وبعض الشافعية في رواية ضعيفة نسبوها إليه، لكن مذهب الشافعي الذي نص عليه المحققون عند الشافعي هو ما ذكرته، وليس له أن يأكل فإن أكل فإنه يُغرم وإن كان عالمًا بعدم الجواز يُعزر أيضًا.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

: لَا يُحْسَبُ علَيْهِ، وَيَتْرُكُ الخَارِصُ لِرَبِّ المَالِ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ).

هذا هو مذهب أحمد وليس مذهب الشافعي، أما هذا فهو قوله في القديم؛ فلو قيده بالقديم لم يكن مخطئًا، ومذهب الشافعي هنا يحتاج إلى تحرير في هذه المسألة، فالشافعية لا يرون ذلك، يرون أنه لا يجوز للمالكِ أن يأكل شيئًا فإن أكل فإنه يغرم ذلك، وإن كان عالمًا بالمنع فإنه يُعزر؛ لأنه تعدى فأكل محرمًا.

وهناك رواية ذكرها الماوردي: أنه نُقل عن الشافعي قوله: "يترك الخارص للمالك نخلًا"

(3)

. وفي قول آخر: أنه يترك له الثلث والربع

(4)

؛

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 420)؛ حيث قال:"قال أحمد في رواية عبد اللَّه: لا بأس أن يأكل الرجل من غلته بقدر ما يأكل هو وعياله ولا يحتسب عليه".

(2)

سبق.

(3)

يُنظر: "حاشية البجيرمي على شرح المنهج"(2/ 26)؛ حيث قال: "وأفاد ذكر كل أنه لا يترك للمالك شيئًا خلافًا لقول قديم: إنه يبقي له نخلة أو نخلات يأكلها أهله".

(4)

يُنظر: "حاشية البجيرمي على شرح المنهج"(2/ 26)؛ حيث قال: "وما صح من =

ص: 3416

لكن مذهب الشافعية المحقق هو الذي ذكرته لكم، وهو المعتبر.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مَا يُعَارِضُ الآثَارَ فِي ذَلِكَ مِنَ الكِتَابِ وَالقِيَاسِ، أَمَّا السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ: فَمَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا حَثْمَةَ خَارِصًا، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا حَثْمَةَ قَدْ زَادَ عَلَيَّ. . .)

(1)

.

هذا رجل جاء يشكو إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أن رسوله الذي أرسله صلى الله عليه وسلم ليخرص نخل هذا الرجل رأى أنه قد تجاوز الحد فزاد عليه، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم ينهر الرجل وإنما تركه فسأل أبا حثمة عن ذلك.

* قوله: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ زِدْتَ عَلَيْهِ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ تَرَكْتُ لَهُ قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ، وَمَا يُطْعِمُهُ المَسَاكِينَ، وَمَا تُسْقِطُهُ الرِّيحُ، فَقَالَ: "قَدْ زَادَكَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْصَفَكَ").

انظروا إلى الحكم الدقيق من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي أن يكون نبراسًا

(2)

وقدوة لنا؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]، جاءه رجل يشكو إليه ذلك الخارصَ الذي أرسله صلى الله عليه وسلم وهو السائل، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكذِّب الرجل ولم يصدقه فيما قال، وإنما بنى كلامه على الأصل، فلما جاء رسوله الذي أرسله بيَّن له أن هذا الرجل يزعم أنه قد ظلمه، وأنه قد تجاوز الحد في ذلك فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصدِر الحكم عن بينة؛ فأخبره بأنه لم يزد عليه وإنما ترك له ما يأكل أهله، وترك له العرية، وترك له ما

= قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع". حمله الشافعي رضي الله عنه وتبعه الأئمة على تركهم له ذلك من الزكاة ليفرقه بنفسه على فقراء أقاربه وجيرانه لطمعهم في ذلك منه لا على ترك بعض الأشجار من غير خرص؛ جمعًا بينه وبين الأدلة الطالبة لإخراج زكاة التمر والزبيب".

(1)

أخرجه الدارقطني في "السنن"(3/ 53)، وقال المباركفوري:"وفيه محمد بن صدقة وهو ضعيف". انظر: "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"(6/ 157).

(2)

النبراس، بالكسر: المصباح. انظر: "تاج العروس"، للزبيدي (16/ 531).

ص: 3417

يحتاج إليه السائل، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقد أنصفك

(1)

وزادك".

إذن؛ هذا السائل الذي جاء إليك ليخرص لم يتجاوز الحد ولم يظلمك في حكمه، وإنما أعطاك حقك وتجاوز؛ أي: تسامح معك.

وهكذا أيُّ حكم من الأحكام لا ينبغي أن يصدره المسلم على أخٍ له دون أن يعلم حقيقة الأمر.

ولنفرض: أنه جاء إلى إنسان رجل فقال: فلان فعل كذا وكذا، لا ينبغي أن تأخذ كلامه مسلمًا مهما كان هذا الرجل صادقًا ومعروفًا بين الناس حتى تسمع أيضًا إلى خصمه وإلى الشخص الآخر فترى الحقيقة؛ ولذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو الذي ينزل عليه الوحي بيَّن أنه يأتيه الرجلان؛ فربما يكون أحدهما ألحن بحجته من الآخر فيقضي على نحو مما أسمع لكنه بيَّن بقوله:"فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار فليأخذها أو فليدعها! "

(2)

.

"ولما جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول فلان: فقأ عيني؛ فيقول: لا أحكم لك، لا أدري لعلك فقأت عينيه"

(3)

.

إذن؛ الحكم دائمًا إنما يصدر بعد أن تستجمع الأدلة.

وهكذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما جاءه الشاكي لم يكذبه، لكنه لم يأخذ قوله مسلَّمًا حتى سمع من الآخر، فحينئذٍ بين الرسول صلى الله عليه وسلم الحق في ذلك، وأن

(1)

يقال: أنصفت الرجل إنصافًا عاملته بالعدل والقسط، والاسم النَّصَفة بفتحتين؛ لأنك أعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك، وتناصف القوم أنصف بعضهم بعضًا. انظر:"المصباح المنير في غريب الشرح الكبير"، للفيومي (2/ 608).

(2)

أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713).

(3)

أخرجه ابن حزم في "المحلى"(8/ 436) عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: "أتى عمر بن الخطاب رجل قد فقئت عينه فقال له عمر: تحضر خصمك فقال له: يا أمير المؤمنين، أما بك من الغضب إلا ما أرى فقال له عمر: فلعلك قد فقأت عيني خصمك معًا، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معًا، فقال عمر: إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء".

ص: 3418

الساعي لم يظلم الرجل فقال: "إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ زِدْتَ عَلَيْهِ" فأخبره ما فعله فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما ظلمه وإنما أعطاه حقه وزاد على ذلك.

* قوله: (وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا خَرَصْتُمْ، فَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِن لمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ، فَدَعُوا الرُّبُعَ").

هذه أيضًا من حكم هذه الشريعة العظيمة: "إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ"

(1)

؛ ولذلك قال بعض العلماء

(2)

ممن يرون الترك خلافًا للشافعية: لو جاء الخارص فخرص جميع النخل أو جميع أشجار العنب؛ فإن للمالك أن يأكل إلى حد الربع أو الثلث.

لماذا حض الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا: "إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ"؟

لأن هذا البستان فيه حقوق متعددة، فالرجل بحاجة هو وأهله أن يأكلوا، وربما يأتيه صديق له فيعريه نخلة من النخيل أو أكثر فيتمتع بها، وربما يطرقه الضيوف، والضيف -كما تعلمون- له حق، والطير له حق، والإنسان الذي يمر به أيضًا له حق، وهذه الرياح التي تهز الأشجار فتسقط شيئًا منها تذهب عليه شيئًا ثم تأتي الزكاة بعد ذلك، فهذه الشريعة العظيمة نجد أنها دائمًا تُراعي حقوق الناس؛ فهي لا تُرهق

(3)

الغني ولا تهضم

(4)

حق الفقير، بل هي دائمًا دين وسط كما أن هذه الأمة هي أمة وسط.

وجاء في بعض الروايات: "إذا خرصتم فخذوا"

(5)

؛ أي: خذوا

(1)

سبق تخريجه.

(2)

تقدم.

(3)

الرهق اسم من الإرهاق، وهو: أن يحمل عليه ما لا يطيقه. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (5/ 259).

(4)

الهضم مثل الهشم ومنه: هضم حقه: نقصه، وتقول للغريم: هضمت لك من حقي طائفة؛ أي: تركتها لك وكسرتها من حقي. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"، للمطرزي (ص 505).

(5)

أخرجه أبو داود (1605)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(281).

ص: 3419

نصيب الزكاة، ثم قال:"فَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ".

* قوله: (وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَفِّفُوا فِي الخَرْصِ، فَإِنَّ المَالَ العَرِيَّةُ

(1)

وَالآكِلَةُ

(2)

وَالوَصِيَّةُ

(3)

وَالعَامِلُ وَالنَّوَائِبُ

(4)

وَمَا وَجَبَ فِي التَّمْرِ مِنَ الحَقِّ"

(5)

).

"العَرِيَّةُ": وهي النخلة التي يهديها إنسان لآخر في مزرعته يتمتع فيها أثناء العام؛ أي: يأكل طلعها.

"وَالآكِلَةُ": وهم أصحاب هذه المزرعة من القائم عليها، وأهله، وأبناؤه الذين يأكلون منها.

"وَالوَصِيَّةُ": كأن يوصي صاحب هذه المزرعة بشيء منها لغيره.

"وَالعَامِلُ": وهم الذين يشتغلون في هذه المزارع، وفي بعض الروايات "الوطية"

(6)

الذين يمرون وهم السائلين الذين يمرون فيأكلون

(7)

.

(1)

العرية: هي النخلة يعريها؛ أي: يؤتيها صاحبها غيره ليأكل من ثمرها، فعلية بمعنى مفعولة، والجمع عرايا. انظر:"التوقيف على مهمات التعاريف"، للمناوي (ص 240).

(2)

الآكلة: الراعية يُقال: كثرت الَاكلة في بلاد بني فلان. انظر: "تاج العروس"، للزبيدي (28/ 12).

(3)

الوَصِيَّةُ والتقَدُّمُ إلى صاحبك بشيء. انظر: "العين"، للخليل (1/ 102).

(4)

النوائب: جمع نائبة، وهي ما ينوب الإنسان: أي ينزل به من المهمات والحوادث. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (5/ 123).

(5)

أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(6/ 472)، وقال الأرناؤوط:"في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف". انظر: "هامش مسند الإمام أحمد"(24/ 486).

(6)

الوطية: جمعها الوطايا، وهي تجري مجرى العرية، وسميت وطية لأن صاحبها وطأها لنفسه أو لأهله. انظر:"غريب الحديث"، للخطابي (1/ 431).

(7)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 208) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "خففوا على الناس في الخرص فإن فيه العرية والوطية والأكلة، قال الوليد: قلت لأبي عمرو: وما العرية؟ قال: النخلة والنخلتان والثلاث يمنحها الرجلُ الرجلَ من أهل الحاجة، قلت: فما الأكلة؟ قال: أهل المال يأكلون منه رطبًا فلا يخرص ذلك ويوضع من خرصه، قال: قلت: فما الوطية؟ قال: من يغشاهم ويزورهم".

ص: 3420

"وَالنَّوَائِبُ": والنوائب رياح تأتي وأمطار. . . إلى غير ذلك؛ فهذه الجوائح التي تنزل في المزارع يحدث فيها نقص وربما تفنيها.

"وَمَا وَجَبَ فِي التَّمْرِ مِنَ الحَقِّ": وهذا ما يعرف بالنسبة للنوائب يسميه القانونيين بـ (نظرية الظروف الطارئة) ويقولون: بعضهم يدعي أن الشريعة الإسلامية ليست فيها نظريات، وهذا كلام غير صحيح؛ فإن ما يُعرف بالجوائح قد اشتهر في الشريعة الإسلامية ما يُعرف بالجائحة والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"بم يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق"

(1)

؛ فهذه الجوائح هي التي يسمونها بـ (نظرية الظروف الطارئة)، والإسلام دائمًا أسبق إلى مثل هذه الأحكام.

* قوله: (وَأَمَّا الكِتَابُ

(2)

المُعَارِضُ لِهَذِهِ الآثَارِ وَالقِيَاسُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]).

الآية أطلقت: فأباحت للمُلَّاك أن يأكلوا وأن عليهم مقابل ذلك أن يؤدوا الزكاة عندما يأتي وقت الحصاد أو وقت الجذاذ.

* قوله: (وَأَمَّا القِيَاسُ: فَلِأَنَّهُ مَالٌ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالوَاجِب مِنْهُ فِي هَذِهِ الأَجْنَاسِ الثَّلاثَةِ الَّتِي الزَّكاةُ مُخْرَجَةٌ مِنْ أَعْيَانِهَا).

إذن؛ المؤلف يريد أن يقول بعد أن عرض عدة مسائل وانتهينا من دراستها ومن بيان ما يحتاج إلى بيان، بيَّن أن ما مر إنما هو فيما يتعلق بالأعيان، وأن الزكاة تُؤدى من العين، وقد عرفنا عندما درسنا زكاة الإبل، وأنه في الخمس شاة وفي العشر شاتان. . . إلى آخره، وفي خمس وعشرين بنت مخاض. . . إلى آخره، وفي البقر في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي الغنم في أربعين شاةٌ إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة

(1)

أخرجه البخاري (2198)، ومسلم (1554).

(2)

أي: النص من القرآن الكريم.

ص: 3421

ففيها شاتان. . . هذا كله مر بنا وهذا أخذ من الأعيان

(1)

.

سينتقل المؤلف إلى مسألة أُخرى تتعلق بـ: هل يجوز أن تُخرج القيمة بدل العين أم لا؟

* قوله: (لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الأَعْيَانِ أَنْفُسِهَا أَنَّهَا مُجْزِئَةٌ)

(2)

.

المقصود بعين الشيء: ذاته؛ أي: نفسه، فعين هذا الكتاب ذاته، وعين هذه البقرة هي ذاتها، وهكذا الجبل ونحو ذلك؛ فعين الشيء ذاته.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَجُوزُ فِيهَا أَنْ يُخْرِجَ بَدَلَ العَيْنِ القِيمَةَ أَوْ لَا يَجُوزُ؟).

هذا من مزايا هذا الكتاب وهو -حقيقة- فيه عمق؛ فقد مهد المؤلف لهذه المسألة بعد أن تكلم عن عدة مسائل بيَّن أنها كلها تنخرط

(3)

في سلك واحد، وأن الكلام فيها والحكم يتعلق بالإخراج من العين، وهنا أراد أن يبين هل يجوز أن تخرج الزكاة قيمةً بدل العين بمعنى هل تُباع هذه العين وتزكى قيمتها أو لا؟

هذا لا خلاف فيه في عروض التجارة

(4)

؛ تُقوم وتخرج الزكاة من

(1)

سبق.

(2)

يُنظر: "المحلى"، لابن حزم (4/ 208)؛ حيث قال:"لا خلاف بين الأمة كلها في أن صاحب المال إن أحب أن يؤدي الزكاة من نفس المال الذي وجبت فيه الزكاة -لا من غيره- كان ذلك له، ولم يكلف الزكاة من سواه".

(3)

تنخرط: الخاء والراء والطاء أصل واحد منقاس مطرد، وهو مضي الشيء وانسلاله. انظر:"مقاييس اللغة"، لابن فارس (2/ 169).

(4)

العروض: جمع عرض بسكون الراء، وما كان من مال غير نقد، وما عدا العقار، والحيوان، والمكيل، والموزون. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع"، للبعلي (ص 173).

ص: 3422

النقدين؛ لكن الكلام فيما عدا ذلك؛ فكلام المؤلف ليس خاصًّا بزكاة العروض، وإنما هو عام.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ القِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ بَدَلَ المَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ).

وأحمد

(3)

كذلك، وهو مذهب جماهير العلماء؛ أي: الأئمة الثلاثة كلهم يرون: أنه لا يجوز أن تُخرج القيم بدل العين، فلا يجوز أن يُخرج بدل الشاة قيمتها ولا بدل بنت مخاض قيمتها. . . وهكذا.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(4)

: يَجُوزُ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى المَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ).

ومع ذلك قال أبو حنيفة بالجواز؛ فإنه لا يقيد ذلك في حالة العجز عن إخراج العين، وإنما يكون ذلك جائزًا مطلقًا، فلو أن إنسانًا قدر على أن يخرج العين فله كذلك أيضًا أن يخرج القيمة، وخالفه الجمهور في ذلك.

وجط الخلاف في ذلك:

- يستدل أبو حنيفة ومن معه: بحديث أورده البخاري تعليقًا

(5)

بصيغة

(1)

يُنظر: "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"، للخلوتي (1/ 668)؛ حيث قال:"أو دفع عرضًا عنها بقيمته لم يجزئه".

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 123)؛ حيث قال:"فلا تجزئ القيمة بالاتفاق؛ أي: من مذهبنا".

(3)

ينظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 281)؛ حيث قال:"ولا يجزئ غير هذه الأصناف الخمسة مع قدرته على تحصيلها ولا القيمة".

(4)

ينظر: "فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 190)؛ حيث قال:"وهذا يبتني على أن أخذ القيمة في باب الزكاة جائز عندنا".

(5)

أخرجه البخاري (2/ 116) وفيه: "وقال طاوس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: "ائتوني بعرض ثياب خميص -أو لبيس- في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة"".

ص: 3423

الجزم، وهذا الحديث يتعلق بقصة معاذ عندما أرسله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن؛ فإن معاذًا عرض على أولئك الأقوام أن يعطوه بدل الشعير والذرة ثيابًا؛ أي: عرضًا من عروض التجارة؛ فبيَّن أن ذلك أهون عليهم وأنه خير لأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ومعاذ أرسله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأخذ الزكاة ولغيرها؛ لأن معاذًا ذهب إلى اليمن داعيًا وموجهًا، ولما طلب أن يأخذ الزكاة إذ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم"

(1)

، وأيضًا يأخذ منهم ما يتعلق بالجزية كما جاء في الحديث:"من كل حالم دينار"

(2)

وورد أيضًا أنه يأخذ البدل.

فهذا الأثر يقول الحنفية: فيه دلالة على أنه يجوز للساعي أن يأخذ القيمة بدل العين؛ لأن معاذًا عرض على أولئك الأقوام أن يعطوه بدل الشعير والذرة ثيابًا وأن ذلك أهون عليهم؛ لأنه أيسر لهم وفي نفس الوقت أيضًا خير لأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأنهم بحاجة إليه.

وقالوا أيضًا: أنتم تقولون في عروض التجارة وتوافقوننا بأنها تقوَّم وتخرج القيمة وهي نوع من أنواع الزكاة فلماذا منعتم ذلك في سائر الزكوات؟

أما جمهور العلماء يقولون: إن الزكاة قربة للَّه سبحانه وتعالى وهي حق من حقوقه، فلا يجوز الانتقال مما فرضه اللَّه تعالى إلى غيره، وتعلمون أن الحقوق أنواع:

- فهناك حق للَّه خاص به سبحانه وتعالى ألا وهو العبادة له وحده.

- وحق يخص المخلوق في تصرفه في ملكه الخاص.

(1)

أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19).

(2)

أخرجه أبو داود (1576)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".

ص: 3424

- وحق مشترك كما نرى ذلك في بعض الحدود وغيرها، فالإنسان الذي يُعتدى عليه بالقذف هناك حقان، حق للَّه وحق للمخلوق، وكذلك السرقة إقامة الحق فيه حق لمن سرق منه، وكذلك حق للَّه سبحانه وتعالى؛ لأن السارق تعدى على حدود اللَّه سبحانه وتعالى وانتهك حرماته.

فالحنفية استدلوا به، والجمهور يقولون: هذا حق للَّه تعالى وقربة له، فما دام هذا حقًّا للَّه سبحانه وتعالى وقربة فلا يجوز أن يُنتقل مما شرعه اللَّه تعالى في شريعته إلى غيره، وقد مر أن في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتين، وأن في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون. . . إلى آخره، وما ورد وأن في البقر في ثلاثين تبيع أو تبيعة وعرفنا ما مر في زكاة الغنم. فهذا إخراج من العين.

وقالوا أيضًا: هذه أمور توقيفية، حق للَّه سبحانه وتعالى، قربة له، لا يجوز أن ينتقل من هذا الأصل إلى غيره إلا بدليل.

ثم قاسوا ذلك على الأضحية فقالوا للحنفية: أنتم توافقوننا بأنه لا يجوز للمضحي أن يخرج قيمة الشاة وإنما يضحي بالشاة؛ إذن ما الفرق بين هذا وهذا؟ وتوافقوننا في الكفارات؛ إذن كذلك هنا.

وأجابوا عن الأثر الذي استدل به الحنفية: بأن ذلك إنما هو فيما يتعلق بالجزية، وليس ذلك في الزكاة بدليل أن معاذًا رضي الله عنه كان ممن لا يرى أن الزكاة تنقل من بلد إلى بلد آخر إلا في حالة عدم وجود من يستحقها في ذلك البلد.

هذه المسألة خرجتُ عما ذكر المؤلف فيها؛ لأنه في نظري لم يستوفه.

إذن؛ الخلاف بين الجمهور وبين الحنفية هو أن الحنفية استدلوا -كما رأيتم- بالأثر وبالقياس، والجمهور استدلوا بالأدلة التي ورد فيها إخراج العين ولم تخرج القيمة وبالقياس على الأضحية.

ص: 3425

والراجح: ولا شك وهو الأقرب إلى روح الشريعة هو ما أخذه الجمهور وهو أحوط في هذه المسألة؛ يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

(1)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ أَوْ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمَسَاكِينِ؟).

قوله: "هَلِ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ أَوْ حَقٌّ" لا خلاف في أن الزكاة عبادة؛ لكن هل هي عبادة معلَّلة أم غير معللة؟ لا شك أن الزكاة عبادة معللة؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى هو الذي تولى بيان مصارفها؛ أي: الذين تُصرف فيهم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] إلى آخر الآية؛ فهي عبادة، لكنها عبادة فيها حق للَّه سبحانه وتعالى وحق للمساكين، وهي قربة، فينبغي أن نقف فيما ورد به الشرع فيما يتعلق بها، وليس الأمر كما ذكر المؤلف أهي عبادة أم غير عبادة، فلا يقول أحد بأن الزكاة ليست بعبادة؛ لأن الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي التي تلي الصلاة؛ أي: الفرع الثاني من فروع هذه الشريعة.

* قوله: (فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عِبَادَةٌ، قَالَ: إِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الأَعْيَان لَمْ يَجُزْ).

أما إن أراد هل هي عبادة محضة أو غير ذلك: فربما يلتمس له، وعبادة محضة بمعنى أنها خالصة للَّه سبحانه وتعالى ليس فيها حق لغيره فربما نتأول كلام المؤلف على ذلك، وكان ينبغي أن تقيد بـ (محضة)، نقول: إنها عبادة فيها حق للمخلوق، وهي عبادة للَّه.

ولذلك مما يدل على أنها عبادة وأنها محل اتفاق وهذا أمر

(1)

جزء من حديث أخرجه الترمذي (2518) عن الحسن بن علي، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"(12).

ص: 3426

لا خلاف فيه أصلًا، ولا أظن المؤلف يقصد ذلك وإنما ربما فيه تقصير في العبارة أو ربما له تأول يتأوله؛ إذ يشترط العلماء فيها النية، فمن يريد أن يزكي يشترط النية

(1)

، إلا في حالة يقول العلماء: يجوز إذا أخذها الإمام منه قسرًا؛ أي: إذا أخذت منه بالقوة

(2)

، وتعلم أنه مر في تاريخ الإسلام فِرق ظهرت وكانت لها سلطة فأخذت الزكوات وغيرها بقوة فلا يستطيع صاحب المال أن يمنعها، وأجاز العلماء ذلك، ورأوا أنها كافية؛ فعندما تؤخذ منه بالقوة يقول العلماء: تسقط عنه النية، لكن أن يخرجها برغبة منه فالنية شرط فيها؛ لأنها عبادة من العبادات، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"

(3)

.

والزكاة أيضًا صدقة: والصدقة إما صدقة مفروضة، وهي هذه الزكاة، وإما صدقة مفروضة أخرى، وهي زكاة الفطر، وإما صدقة سنة ومستحبة ألا وهي الزكاة غير الواجبة، فالذي يميز هذه العبادات هي النية، كما تكلمنا هنا في مباحث الطهارة وفي مباحث الصلاة بأنه إنما شُرعت النية لتمييز العبادات عن العادات ولتمييز العبادات بعضها عن بعض فنميز الفرض عن غير الفرض.

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 169)؛ حيث قال:"ولا يجوز أداء الزكاة إلا بنية".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 500)؛ حيث قال: "ووجب على المزكي نيتها؛ أي: نية الزكاة عند عزلها أو دفعها".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 358 - 359)؛ حيث قال:"في النية وهي ركن على قياس ما فى الصلاة وغيرها فقوله: تشتر؛ أي: تجب كما عبر به الأصل: نية زكاة المال".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 447 - 448)؛ حيث قال:"ويشترط لإخراجها؛ أي: الزكاة نية".

(2)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 478 - 479)؛ حيث قال:"وإن أخذها الإمام منه قهرًا أجزأت من غير نية".

(3)

أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).

ص: 3427

* قوله: (لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِ الجِهَةِ المَأْمُورِ بِهَا، فَهِيَ فَاسِدَةٌ).

لعل المؤلف يريد أن يقول: عبادة أو غير عبادة: إن العين ورد التنصيص عليها، وهذا دليل على أنها قربة، فهي عبادة.

فمن يقول: بأنها قربة خالصة؛ يقول: لا يجوز أن تخرج القيمة.

ومن يقول: ننظر إلى حق المساكين فيها؛ فالحق هنا مشترك؛ فلذلك نقول: تجوز القيمة، وقد يكون الأصلح للفقير إنما هي القيمة، وهذا الكلام سيتكرر أيضًا في زكاة الفطر.

* قوله: (وَمَنْ قَالَ: هِيَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ القِيمَةِ وَالعَيْنِ عِنْدَهُ).

يريد أن يورد مناقشة اعتراض، أو تسليم فيه اعتراض.

* قوله: (وَقَدْ قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: لنَا أَنْ نَقُولَ -وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ: إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا عَلَّقَ الحَقَّ بِالعَيْنِ تَصْدُرُ مِنْهُ لِتَشْرِيَكِ الفُقَرَاءِ مَعَ الأَغْنِيَاءِ فِي أَعْيَانِ الأَمْوَالِ).

يقولون: لو سلمنا -أيها الحنفية- بقولكم: إنها حق للمساكين، ومعروف أن الزكاة هي حق للمساكين وقلنا: هي جمعت بين الحقين، لكن الشارع علَّق الحكم بالعين ولم يعلقه بالقيمة؛ لأن هذه قربة من القرب جاءت بها الشريعة، فليس لنا أن ننتقل إلى غيرها إلا بدليل، ولا دليل في هذه المسألة فنبقى على الأصل.

فأنت لو أعطيته قيمة الشاة لا يكون عنده شاة، لكن أنت تملك شياهًا فأعط الفقير شاة؛ فتكونون قد تساويتم في أن كلًّا منكم يملك شيئًا منه، لكن أنت تملك الكثير وهذا يملك القليل، لكن المهم أنكم قد تساويتم في ذلك.

ص: 3428

فالشافعية: لاحظوا في ذلك ملحظًا جيدًا: وهو تنزيل الفقراء منزلة الشركاء بالنسبة للأغنياء في الزكاة؛ فإذا نزَّلناهم منزلة الشركاء يأخذون من نفس العين لا من نفس القيمة.

* قوله: (وَالحَنَفِيَّةُ

(1)

تَقُولُ: إِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ أَعْيَانُ الأَمْوَالِ تَسْهِيلًا عَلَى أَرْبَابِ الأَمْوَالِ).

يقول الحنفية: خُصت الأعين، حتى يُقصد بذلك التيسير على الملاك بدل أن يذهب ويبيع أشياء ثم يخرج القيمة؛ فهو يعطيه من هذه الشياه فهذا فيه تيسير على الأغنياء.

* قوله: (لِأَنَّ كُلَّ ذِي مَالٍ إِنَّمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ الإِخْرَاجُ مِنْ نَوْعِ المَالِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي بَعْضِ الأَثَرِ: أَنَّهُ جَعَلَ فِي الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الحُلَلِ حُلَلًا

(2)

عَلَى مَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الحُدُودِ).

سيأتي الكلام في ذلك كما تكلم المؤلف: لكن نحن الآن نعيش مع أمور وردت فيها نصوص، وهي أمور قُصد بها التقرب إلى اللَّه سبحانه وتعالى فينبغي أن نقف إلا أن يرد نص صريح فننتقل بعد ذلك إلى ما يقول الحنفية، لكن لا دليل صريح في ذلك، فما أوردوه يحتمل التأويل وقد أجاب عنه الجمهور.

(1)

يُنظر: "المبسوط"، للسرخسي (2/ 157)؛ حيث قال:"لأن صاحب الشرع اعتبر التيسير على أرباب الأموال، وإنما يتحقق ذلك إذا كان الخيار لصاحب المال".

(2)

أخرجه أبو داود (4542) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:"كانت قيمة الدية على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، قال: فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رحمه الله، فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية". وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود".

ص: 3429

[الفَصْلُ السَّادِسُ فِي نِصَابِ العُرُوضِ]

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (وَالنِّصَابُ فِي العُرُوضِ عَلَى مَذْهَبِ القَائِلِينَ بِذَلِكَ

(1)

إِنَّمَا هُوَ فِيمَا اتُّخِذَ مِنْهَا لِلْبَيْعِ خَاصَّةً).

انتقل المؤلف إلى فصلٍ آخر يتعلق بعروض التجارة وهو مرتبط

وعروض التجارة: جمع عرْض -بتسكين الراء-، والعروض هو: ما يُعرض من السلع ومن المتاع للمشتري إظهارًا له إن أراد شراءه.

فأنت عندما تمر بحانوت

(2)

من الحوانيت، أو متجر من المتاجر أو دكان من الدكاكين، أو مؤسسة من المؤسسات ترى أن البضائع معروضة فيها، هذه البضائع قالوا عنها معروضة؛ لأن القصد منها أن يراها الزبائن؛ يمر بها المشتري فيشترون منها؛ إذن عروض التجارة سميت عُروضًا بضم العين؛ لأنها تُعرض للتجارة بغية إظهارها لمن يريد أن يشتري منها.

وعروض التجارة أمرها واسع، وقد مر بنا مسائل تزكى أو لا تزكى؛ فما مر بنا ما يتعلق ببعض ما يُستخرج من البحر ورأينا أن العلماء لا يرون الزكاة فيه

(3)

، ورأينا كذلك أن جمهور العلماء لا يرون زكاة الخيل

(4)

. . .

(1)

لأن من العلماء من لا يرى وجوب زكاة عروض التجارة، وهو الإمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في رواية عنه. يُنظر:"الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 331)؛ حيث قال:"ولا زكاة في أعوأض (العروض) ومثلها الكتب والحديد وسائر أنواع الحيوانات التي لا زكاة في أعيانها".

(2)

الحانوت: دكان البائع. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (1/ 158).

(3)

سبق.

(4)

سبق.

ص: 3430

وغير ذلك، لكن هذه الأمور وغيرها إذا ما اتخذت عُروضًا للتجارة فإنها تُزكى زكاة عروض التجارة.

وزكاة عروض التجارة إذا حال عليها الحول تُقَوَّم هذه السلع الموجودة من أي نوع كان، سواءٌ كان هذا المكان فيه أدوات منزلية، أو مكان لبيع البز

(1)

، أو مكالن لبيع أدوات السباكة، وكذلك السيارات، أو بيع الثلاجات، أو غيرها. . . هذه كلها التي أعدت للتجارة تُقوَّم في آخر العام وتزكَّى.

لكن عروض التجارة يزُكى ما أعد للتجارة، لكن ما يدخره الإنسان، وما يحتاج إليه من ملابسه، ومن فرش منزله، وأدواته المنزلية، وسيارته التي يركبها، أو دابته التي يركبها، أو حيوانه الذي يعمل عليه، هذه لا زكاة فيها؛ وإنما الزكاة فيما أعد منها للتجارة.

كذلك صاحب المتجر لو جئت إلى صاحب المتجر تجد أنه ربما يشتمل على بعض الأدوات الكهربية، والأدوات الحاسبة، وتجد فيه الرفوف والدواليب، وأشياء كثيرة، هذه أشياء ثابتة لا تزكى؛ فهذه مما يحتاج إليه هذا المكان، وإنما الذي يُزكى هي هذه الأموال التي تدار فيبيع فيها ويشتري.

وسيأتي الكلام أيضًا عن أن الذين يبيعون ويشترون على نوعين:

- فهناك نوعٌ من التجار يُسمَّى بالمدير.

وهو الذي يدير أعماله فهو من الإدارة ليس معنى مدير أنه يكون رئيسًا عليها، بل القصد بذلك أن هذه الأموال تُدار في التجارة فيبيع ويشتري طوال العام، كالبقالات التي نراها، وكما ذكرنا قبل قليل الأماكن التي أعدت مثلًا للأدوات المنزلية، أو للأساس، أو لغير ذلك.

(1)

البز: ضرب من الثياب. انظر: "العين"، للخليل (7/ 353).

ص: 3431

- وهناك أيضًا نوع من التجار يعرف بالمحتكر

(1)

.

وهو الذي يحفظ هذه البضائع إلى أن يأتي وقت ترتفع فيه، فربما يشتري بضائع فيضعها في مخزن أو في مستودع لأنه لا يرى أن الوقت مناسب لبيعها؛ وإنما يتحين الفرص وهذا يعرف بالتاجر المتربص

(2)

، أو المحتكر؛ يعني: المتربص الذي ينتظر الوقت الذي يناسبه ليبيع فيه. . . هذا كله سيتعرض المؤلف للكلام فيه، لكن كلامه فيه نوع من الإجمال والتداخل.

لماذا قال: "عَلَى مَذْهَبِ القَائِلِينَ بِذَلِكَ"؟ فهل هناك من العلماء من لا يرى وجوب الزكاة في العروض؟

الجواب: نعم. وهي رواية للإمام مالك

(3)

، وهذا مما ينبغي أن ننتبه له؛ فقد يمر بكم ربما بعد قليل ما ترونه خلطًا وتناقضًا من المؤلف، والواقع أنه ليس تناقضًا من المؤلف، وإنما هو يحتاج إلى وقفة ودقة لندرك ما أراده المؤلف.

* قوله: (عَلَى مَا يُقَدَّرُ قَبْلُ).

أي: ما يدخر للبيع، أما ما عندك في بيتك من ملابسك وألحفة وفرش وأدوات منزلية وثلاجات وغسالات تستخدمها وسيارة هذه لا زكاة فيها، فهذه معدة للاستعمال لا للتجارة، وكذلك ما عندك من خدم، لو عند الإنسان مماليك يستخدمهم فرق بين أن تكون للتجارة وبين أن تكون لغير التجارة.

(1)

الاحتكار: جمع الطعام ونحوه مما يؤكل واحتباسه انتظار وقت الغلاء به. انظر: "لسان العرب"، لابن منظور (4/ 208)، والمحتكر هو من يقوم بذلك.

(2)

التربص: طول الانتظار، يكون قصير المدة وطويلها، ومن ثمَّ يُسمَّى المتربص بالطعام وغيره متربصًا؛ لأنه يطيل الانتظار لزيادة الربح. انظر، "الفروق اللغوية"، للعسكري (ص 76).

(3)

يُنظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 331)؛ حيث قال:"ولا زكاة في أعواض (العروض) ومثلها الكتب والحديد وسائر أنواع الحيوانات التي لا زكاة في أعيانها".

ص: 3432

* قوله: (وَالنِّصَابُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ هُوَ النِّصَابُ فِي العَيْنِ).

كثير من طلاب العلم يرون الزكاة من المسائل الدقيقة، وهي حقيقة أهم ما فيها أن تضبط أصولها؛ فإذا عرفت أصولها تبين لك أن الأمر ليس فيه صعوبة، لكن القضية أننا أصبحنا لا نحاول أن نمعن

(1)

أفكارنا، وأن نتعمق في دراسة المسائل؛ وإنما بدأنا نحب أن نقرأ المسائل على ما نحن نعيشه اليوم تقريبًا، مسائل يسيرة نضعها في المذكرات، نفر من الكتب القديمة التي فيها عمق وفيها أساليب قوية، وفيها حقيقةً غوص في المعاني؛ فأصبحنا نرى هذه صعبة، والحقيقة أنها ليست بصعبة.

ويقصد بالعين هنا: الذهب والفضة؛ بمعنى: أن هذه العروض تُقوَّم وإذا ما قُومت عُرفت قيمتها ذهبًا وفضة فأُخرجت زكاتها إما ذهبًا أو فضة، وتعلمون الآن أن الأوراق النقدية أحلت محل الذهب والفضة.

* قوله: (إِذْ كَانَتْ هَذِهِ هِيَ قِيَمُ المُتْلَفَاتِ وَرُؤُوسُ الأَمْوَالِ).

هذه قضية وأراد خلالها أن يعيدنا إلى قضية سابقة، كأنه يريد أن يقول: ربما سائل يسأل فيقول: لماذا عروض التجارة تخرجون الزكاة من قيمتها لا من نفس العين؟ أي: تخرجون ذلك من العين التي هي الذهب والفضة لا العين التي هي السلعة الموجودة التي هي رأس مال.

قال: لأن هذه العين التي هي الذهب والفضة هي رؤوس الأموال وهي أيضًا قيم متلفات، فتعلمون أن الناس في هذه الحياة إنما يتنافسون للحصول على الذهب والفضة، لكنهم يختلفون في مسالكهم.

- فهناك من يوفقه اللَّه سبحانه وتعالى إلى الخير، ولا يردع أن يبذل كل جهده في جمع المال، لكن يجمعه من طريق حلال ويؤدي ما أوجب اللَّه سبحانه وتعالى عليه من حقوق ويتصدق من هذا المال؛ فيكون ذلك قربة يتقرب بها إلى اللَّه سبحانه وتعالى فيجد ثمرة ذلك في الدنيا وثوابه في الآخرة.

(1)

أمعن في الطلب إذا بالغ في الاستقصاء. انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (2/ 576).

ص: 3433

- وآخر يسلك طرقًا ملتوية؛ لا يهمه أن يجمع المال من أي مكان ومن أي طريقٍ كان وفي أي حالةٍ من الأحوال، المهم أن يجمع الذهب والفضة؛ سواء جمعه بطريقٍ حرام أو بطريق حلال، وربما قد يجمعه من حلال لكنه لا يؤدي ما وجب عليه فيه من زكاة، ولا يؤدي نفقة من تلزمه نفقاتهم، وربما يتعالى ويتعاظم بهذا المال، فيكون وبالًا عليه وخسارة؛ قد يظن أنه قد تنعم به في هذه الحياة الدنيا، لكنه سيجد ذلك حسرةً وندامة يوم القيامة، وقد مر بنا قول اللَّه تعالى:{. . . وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة: 34، 35].

إذن في هذا المال الذهب والفضة تنافس المتنافسون وتسابق المتسابقون وضرب الناس في الأرض بحثًا عن جمع هذا المال، هذا يسافر وهذا يعمل، لكن من وفقه اللَّه إلى جمع المال فيكون فيمن قال فيهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو قيل له:"ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويتصدقون بفضول أموالهم"

(1)

فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.

وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا! لكن أن يكون المال سببًا في ضلال الإنسان وفي انشغاله عن طاعة اللَّه فهذا لا شك أن المال لا يكون خيرًا له.

* وقوله: (وَكَذَلِكَ الحَوْلُ فِي العُرُوضِ عِنْدَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي العُرُوضِ).

(1)

أخرجه البخاري (843)، ومسلم (595) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون. . . " الحديث.

ص: 3434

الحول ليس محل إجماع بين العلماء؛ فالأئمة الأربعة

(1)

عدا الشافعية في رواية

(2)

يشترطون الحول، والحول مُشترط عند عامة العلماء، فمر بنا الإجماع لكن سيأتي الكلام في زكاة المال، وهو الذي فيه الخلاف كما سيذكره المؤلف؛ فهذا ليس محل اتفاق بين العلماء، أما ما عداه فيشترط فيما يشترط في زكاة النقدين وكذلك الماشية.

لكن هناك أشياء لا يشترط فيها الحول كما مر بنا فيما تخرجه الأرض من الحبوب والزروع، ومن الحبوب والثمار، فترون الزروع وكذلك الثمار لا يشترط له الحول لأنْ تجب فيها الزكاة؛ ففي الثمار إذا بدا، صلاحها وفي الحبوب إذا اشتدت.

وهناك مسائل يختلف فيها العلماء هل يشترط فيها حول أو لا؟ لكن عروض التجارة يشترط فيها على الرأي الصحيح الحول.

* قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا

(3)

قَالَ: إِذَا بَاعَ العُرُوضَ، زَكَّاهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ كَالحَالِ فِي الدَّيْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَ فِي التَّاجِرِ).

يرى الإمام مالك: أنه إذا باع العروض زكاها بحولٍ واحد، وهذا تقديمٌ لخلاف ربما يعرض له المؤَلف عن مالك، فلو قُدر أنه ما زكى العروض سنوات عند مالك يزكيها سنة واحدة، وعند الجمهور يزكيها لكل

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار وحاشية ابن عابدين"(2/ 302)؛ حيث قال: "وشرط كمال النصاب ولو سائمة في طرفي الحول في الابتداء للانعقاد وفي الانتهاء للوجوب فلا يضر نقصانه بينهما".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرخ الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 472)؛ حيث قال: "فيستقبل بثمن كل حولًا من قبضه".

ولمذهب الشافعية في القول الموافق لقول الجمهور، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 292)؛ حيث قال:"شرط زكاة التجارة الحول والنصاب".

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (2/ 106)؛ حيث قال:"بل متى بلغت قيمة العرض نصابًا وجبت الزكاة".

(3)

يُنظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 332)؛ حيث قال:"لو باع العروض بعد التقويم فزاد ثمنها على قيمتها فلا زكاة عليه في الزيادة".

ص: 3435

عام، وهذا سيأتي أيضًا في الدين

(1)

.

"كالحال في الدين"؛ أي: قياسًا على الدين؛ لأن الإمام مالكًا يرى أن مَن كان له دين عند مدين وبقي عنده فترة فهل الدين تجب فيه الزكاة أم لا؟ إذا كان إنسانٌ له مبلغٌ أزال به آخر؛ يعني: هو دين عند آخر وهو يبلغ النصاب وحال عليه الحول فهل يزكى أم لا؟

تكلمنا عن هذه المسألة، وقسمنا الأموال إلى قسمين: أموال ظاهرة، وأموال غير ظاهرة

(2)

وبيَّنا أن الأموال الظاهرة كالماشية، وأن غير الظاهرة كالنقدين؛ لأن النقدين لا ترى كم عند زيد، لكن الماشية تراها بعينك وتعدها، هذه سبق أن تكلمنا عنها.

والدين رأينا الخلاف فيه

(3)

:

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(2/ 266)، حيث قال:"ودين كان جحده المديون سنين ولا بينة له عليه ثم صارت له بأن أقر بعدها عند قوم وقيده في مصرف الخانية بما إذا حلف عليه عند القاضي، أما قبله فتجب لما مضى".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الدسوقي"(1/ 466 - 468)؛ حيث قال: "وإنما يزكى دين ومحط الحصر قوله الآتي لسنة من أصله".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (2/ 332 - 333)؛ حيث قال:"ولا يجب دفعها؛ أي: الزكاة حتى يتمكن من المال بأن يكون له به بينة أو يعلمه القاضي أو يقدر هو على خلاصه ولا حائل ومن عليه الدين موسرًا به أو يعود إليه فحينئذ يزكي للأحوال الماضية".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"(1/ 389 - 391)، حيث قال:"فلا تسقط زكاته فيزكي الدين إذا قبض أو عوض عنه أو أحال به أو عليه أو أبرأ منه لما مضى من السنين".

(2)

الأموال الباطنة كالذهب والفضة والعروض، ولا يمنعها في الأموال الظاهرة، وهي المواشي والزروع والثمار والمعادن. انظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 300).

(3)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 164)؛ حيث قال:"ومن له على آخر دين فجحده سنين ثم قامت له بينة لم يزكه لما مضى".

لمذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"، للخلوتي (1/ 632)؛ حيث قال:"ويزكى الدين بعد قبضه لسنة فقط، وإن أقام عند المدين أعوامًا".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (2/ 332 - 333)؛ حيث قال: =

ص: 3436

- فمنهم: مَن لا يرى أن في الدين شيئًا، وهذا رأي ضعيف.

- ومنهم: مَن يفرق بين أن يكون هذا الدين الذي له عند آخر مقابلَ دين عليه أم لا.

لكن الكلام هنا في الدين إذا كان عند مدين وأراد قبضه فأقبضه إياه: هل تجب فيه الزكاة؟

فمالك يخالف الجمهور ويرى أنه يزكى لعام واحد، والجمهور يرون: أنه يزكى عن الأعوام الفائتة.

* قوله: (الَّذِي تُضْبَطُ لَهُ أَوْقَاتُ شِرَاءِ عُرُوضِهِ).

التاجر الذي تُضبط له أوقات عروضه: هو الذي نسميه بـ (المتربص)، يشتري بضاعة بمبلغ معين فيضعها في مستودعه، هذا عرف بضاعته وقيمتها، وينتظر الوقت المناسب لبيع هذه السلع، وربما تكون السلع من الأقمشة ما يناسب بيعه في الشتاء كالأقمشة الشتوية كالصوف، وبعضها يناسب بيعها في الصيف، وهناك تجد بضائع تباع في الربيع، وتجد في موسم الحج هناك بضائع يحصل عليها؛ إذن هذا يتربص الوقت المناسب لبيع هذه السلع وبسعرٍ مناسبٍ يربح فيه؛ لأنه اشتراها ليربح؛ فهذا تنضبط تجارته، أما الذي لا تنضبط تجارته فسيأتي الكلام عليه.

* قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ لَهُمْ وَقْتُ مَا يَبِيعُونَهُ وَلَا يَشْتَرُونَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُخَصُّونَ بِاسْمِ المُدِيرِ).

هذا حاله لا ينضبط؛ لأنه لو أن إنسانًا عنده بِقالة ترون أن البضائع

= "ولا يجب دفعها؛ أي: الزكاة حتى يتمكن من المال بأن يكون له به بينة أو يعلمه القاضي أو يقدر هو على خلاصه ولا حائل ومن عليه الدين موسرًا به أو يعود إليه فحينئذ يزكي للأحوال الماضية".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 390 - 391)؛ حيث قال: "فيزكي الدين إذا قبض أو عوض عنه أو أحال به أو عليه أو أبرأ منه لما مضى من السنين".

ص: 3437

ترددت عليه، هذه يبيعها وهذه يشتريها وهذه تخرج من مكانه، وهذه تدخل وهكذا، ومن يشتغل بالأقمشة وغيرها كذلك.

إذن؛ بضائع ترد وبضائع تذهب، هذا يُسمَّى بـ (المدير)؛ لأن أعماله تدار لا تتوقف، وذاك سمي (متربصًا)؛ لأنه يتحين الفرص وبعضهم يسميه (محتكرًا)؛ أي: منتظرًا للوقت المناسب يبيع فيه بضائعه؛ ففرق بين هذا وذاك عند مالك بالنسبة للزكاة ولا فرق بينهما عند الجمهور كما سيأتي.

* قوله: (فَحُكْمُ هَؤُلَاءِ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا حَالَ عَلَيْهِمُ الحَوْلُ مِنْ يَوْمِ ابْتِدَاءِ تِجَارَتِهِمْ أَنْ يُقَوَّمَ مَا بِيَدِهِ مِنَ العُرُوضِ).

نفرض: لو أن إنسانًا فتح متجرًا من المتاجر بمائة ألف، فصار يبيع ويشتري، فإذا جاء آخر العام يُقوِّم هذه السلعة المعروضة ومعه أيضًا ما نضَّ في يده، من النقدين اللذين ينتقلان إلى النقدين من متاع، تبيع المتاع بذهب أو فضة، ونحن الآن عندنا هنا بالدراهم؛ إذن هذا يُسمَّى مال نض؛ نض المال؛ أي: أنك حولته من سلعة إلى نقد هذا هو النض؛ فعنده مال نض وقوم هذه السلعة؛ هذا هو مراد المالكية في ذلك؛ فيجمع هذا مع هذا فيخرج زكاة الكل.

* قوله: (ثُمَّ يَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا بِيَدِهِ مِنَ العَيْنِ، وَمَا لَهُ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي يُرْتَجَى قَبْضُهُ).

ونعلم أن أصحاب المحلات بعضهم يبيع بالدين؛ فليس كل الناس لديهم عملة سائلة؛ أي: ليس جميع الناس دائمًا معهم أموال، فتجد الموظف ربما ينتهي راتبه قبل نهاية الشهر فهو أيضًا يأتي إلى هذا فيُسجل عليه في سجله؛ إذن له دين على أشخاص، وبعض الناس ربما يتأخر مدة، فهناك سلعًا باعها وقبض ثمنها نقدًا، فهي موجودة عنده نقد هذا المال في يده، وسلع لا تزال موجودة في محله، وسلعٌ باعها لكنها ديون عند آخرين فيجمع هذه الثلاثة؛ فإذا ما اجتمعت كلها أخرج زكاتها.

ص: 3438

* قوله: (إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ).

فلو كان مثلًا له دين عشرة آلاف وعليه دين يساويه فهذا يقابل هذا، مع أن بعض العلماء يرى أنه يزكي، لكن الصحيح أنه لا يزكي؛ لأن له دينًا وعليه ما يقابله.

* قوله: (وَذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي دَيْنِ غَيْرِ المُدِيرِ).

مالك يفرق بين المدير وبين المتربص.

* قوله: (فَإِذَا بَلَغَ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصَابًا، أَدَّى زَكَاتَهُ، وَسَوَاءٌ نَضَّ لَهُ فِي عَامِهِ شَيْءٌ مِنَ العَيْنِ، أَوْ لَمْ يَنِضَّ).

أي: سواء باع من هذه السلع فأصبح في يده نقد أو لم يكن.

* قوله: (بَلَغَ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا).

ومن هنا يحصل الخلاف بين مالك وبين الجمهور: وهو الذي ربما يظهر للبعض ويتوارى له أن المؤلف خلط في ذلك فأخطأ في نسبة مذهب الجمهور، إما أن عبارته فيها سقط، أو أنه أغلق العبارة؛ لكن قصد المؤلف معروف وهذا سيأتي إن شاء اللَّه.

* قوله: (وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ المَاجِشُونِ

(1)

عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى ابْنُ القَاسِمِ

(2)

عَنْهُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاضٌّ، وَكَانَ يَتَّجِرُ بِالعُرُوضِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي العُرُوضِ شَيْءٌ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ فِيهِ النِّصَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ).

(1)

يُنظر: "الكافي في فقه أهل المدينة"، لابن عبد البر (1/ 298)؛ حيث قال:"وقد روى ابن الماجشون ومطرف عن مالك في المدير: أنه يقوم كل عام ويزكي نض له شيء من العين أو لم ينض على ظاهر قول عمر في قصة حماس".

(2)

يُنظر: "التبصرة"، للخمي (2/ 894)؛ حيث قال:"قال ابن القاسم: ولو كان له عرضٌ فبار عليه؛ زكَّاه للسَّنَة الثانية، والديْن والعرض في هذا سواء".

ص: 3439

ابن الماجشون من أصحاب مالك وأيضًا ابن القاسم وهو الذي كان يروي عن مالك إما مسجلًا أو مدونًا المدونة فهو صح كما هو معلوم، وابن القاسم يسأل الإمام مالكًا وأحيانًا عندما يجد الإمام مالكًا يتوقف يجيب هو، فتجد بأن "المدونة" تجمع بين أقوال مالك وابن القاسم.

* قوله: (وَقَالَ المُزَنِيُّ: زَكَاةُ العُرُوضِ تَكُونُ مِنْ أَعْيَانِهَا لَا مِنْ أَثْمَانِهَا).

فالمزني يرى أنَّه إذا كان صاحب بَزٍّ

(1)

، ونُسمِّيه صاحبَ (القماش) يقوَّم ما عنده ثم يُخرج ما عنده، إذا كان مثلًا إنسان عنده مفصلة يخرج ملابس مفصلة وهكذا؛ إذن هو لا يرى أنها تخرج من الثمن وإنما تخرج من العين.

* قوله: (وَقَالَ الجُمْهُورُ؛ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ

(2)

وَغَيْرُهُمْ: المُدِيرُ وَغَيْرُ المُدِيرِ حُكْمُهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ مَنِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ، فَحَالَ عَلَيْهِ الحَوْلُ، قَوَّمَهُ وَزَكَّاهُ).

المؤلف ذكر الإمام أحمد هنا، وهذا ربما أشكل على بعض الناس، فهو أحيانًا يذكر وأحيانًا لا يذكر، وابن رشد ليس كما يُقال أو يدعي البعض أنه لا يرى أن أحمدَ فقيهًا وإنما يراه محدثًا، يقال عن بعض العلماء -كابن عبد البر والطبري- أنهم لا يرونه فقيهًا، وليس معنى أنهم لا يرونه فقيهًا يرون أن الحديث غلب عليه، وهذا كلام كله غير صحيح، فابن رشد ينقل من كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر، فإن وجده ذكر أحمد ذكره

(1)

البَزُّ: ضَرْبٌ من الثّياب. انظر: "العين"(7/ 353).

(2)

يُنظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 382)؛ حيث قال:"أجمع أهل العلم على وجوب الزكاة في العروض، ورويناه عن ابن عمر وابن عباس والفقهاء السبعة: ابن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عقبة وسليمان بن يسار، وطاوس والحسن البصري وإبراهيم النخعي والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم".

ص: 3440

وإلا فلا، وهذا الكتاب كان مفقودًا والحمد للَّه قد وُجد جزء منه قبل فترة ثم وجد كاملًا وطبع وهو بين أيدينا محقق.

فالجمهور خالفوا مالكًا في رواية أخرى: فهم لا يفرقون بين التاجرين سواء كان هذا التاجر متربصًا -وهو الذي يحفظ بضاعته إلى أن يأتي وقت البيع-، أو الذي يدير بضاعته فيبيع بيعًا مستمرًّا وهو المدير، حكمهم واحد في إخراج الزكاة، وأنهما متى ما كان عندهما من العُرُوض بعد التقويم يساوي النصاب وقد حال عليه الحول؛ فإنه يزكي سواءٌ قد وضع هذا في متجره وأغلق عليه؛ لأنه عندما اشترى هذه البضائع وهو المتربص يريد بها التجارة، فالنية قائمة وما اشتراها ليستخدمها أصلًا نوى أنها للتجارة فهو تاجر، فمتى ما حال عليها الحول يزكيها سواء باع فيها واشترى أم لم يبع.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يُزَكِّي ثَمَنَهُ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ لَا قِيمَتَهُ).

هذا كلام ذكره المؤلف لم ينسبه إلى أحد، ولعله نقله عن أهل الظاهر فيما يظهر.

انتبهوا! هنا ترون الآن ظاهر كلامه التناقض فانتبهوا لهذا، وأنا لا أراه تناقضًا.

* قوله: (وَإِنَّمَا لَمْ يُوجِبِ الجُمْهُورُ عَلَى المُدِيرِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الحَوْلَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي عَيْنِ المَالِ، لَا فِي نَوْعِهِ).

في إيجاب الزكاة، لا فرق بينهم فلماذا فرق هنا؟ قصد المؤلف هنا رحمه الله أن الجمهور لا يرون على المدير شيئًا إذا لم تكن عُرُوضه التي عنده لم تبلغ نصابًا فهم يخالفون مالكًا في ذلك؛ إذ عين المال لم يبلغ نصابًا، فكيف نوجبه عليه؟! فما عنده لم يصل إلى حد النصاب فلا زكاة عليه، وعين المال الذي عنده لا يبلغ نصابًا.

فالجمهور: يشترطون النصاب في العين؛ أي: في عين هذه السلعة الموجودة عنده وعين هذه السلعة الموجودة عنده لم تصل إلى حد النصاب

ص: 3441

فلا زكاة عليه، أما مالك فيرى عليه الزكاة كما رأيتم سابقًا في إحدى الروايتين عليه، وبهذا يزول الإشكال الذي قد يظهر لنا فيه تعارض بين المذهبين وبين القولين للجمهور.

* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ فَشَبَّهَ النَّوْعَ هَاهُنَا بِالعَيْنِ؛ لِئَلَّا تَسْقُطَ الزَّكَاةُ رَأْسًا عَنِ المُدِيرِ)

(1)

.

مالك يشبه النوع بالعين، والعين هي ذات الشيء، والنوع هو ما يشتمل على أصناف، فهذه البضاعة شبهها بالعين، فكأنه لما شبه النوع بالعين قال: لا نفرق بينهم.

والجمهور قال: نحن نربط ذلك بالعين والعين هنا غير وافية، فلا يجب عليه.

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، لابن الهمام (2/ 218)؛ حيث قال:"الزكاة واجبة في عروض التجارة كائنة ما كانت إذا بلغت قيمتها نصابًا من الورق أو الذهب. . . ولأنها معدة للاستنماء بإعداد العبد فأشبه المعد بإعداد الشرع، وتشترط نية التجارة ليثبت الإعداد، قال: (يقومها بما هو أنفع للمساكين) احتياطًا لحق الفقراء".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 476)؛ حيث قال: "وإن اجتمع عند شخص إدارة في عرض واحتكار في آخر وتساوَيَا أو احتكر الأكثر وأدار الأقل فكل على حكمه فيهما يزكي المدار كل عام والمحتكر بعد بيعه على ما تقدم، وإلا إن أدار الأكثر فالجميع للإدارة ويبطل حكم الاحتكار".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب في شرح روض الطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 381)؛ حيث قال:"ومتى ملك عرضًا بمعاوضة بقصد التجارة وهي تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح تهيأ للزكاة؛ أي: لوجوبها بعد مضي حولها المنعقد من حينئذ سواء اشتراه بنقد أو عرض قنية".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 435)؛ حيث قال:"وتقوم عروض تجارة إذا تم الحول بالأحظ للمساكين؛ يعني: أهل الزكاة من ذهب أو فضة، كأن تبلغ قيمتها نصابًا بأحدهما دون الآخر، فتقوَّم به لا بما اشتريت به من حيث ذلك؛ لأنه تقويم مال تجارة للزكاة، فكان بالأحظ لأهلها، كما لو اشتراها بعرض قنية وفي البلد نقدان متساويان غلبة، وبلغت نصابًا بإحداهما دون الآخر".

ص: 3442

* قوله: (وَهَذَا هُوَ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا زَائِدًا أَشْبَهُ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ شَرْعًا مُسْتَنْبَطًا مِنْ شَرْعٍ ثَابِتٍ).

راعى الإمام مالك رحمه الله الذي يعرف عندنا في أصول الفقه بـ (المصالح المرسلة)، ونعلم أن الأدلة الشرعية أنواع يأتي في مقدمتها الكتاب فالسنة، فهذه أدلة مجمع عليها ولا فوقها أدلة، فكتاب اللَّه عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو المهيمن على كل شيء، وهو قطب

(1)

هذه الشريعة التي تدور عليه، وما صح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من هذه السنة التي جاءت بيانًا وتفصيلًا لكتاب اللَّه عز وجل كما بيَّن اللَّه سبحانه وتعالى ذلك في كتابه، ثم يأتي بعد ذلك الإجماع وكذلك القياس، وأقوال الصحابة، وكذلك ما يعرف بالمصالح المرسلة.

والمصالح المرسلة

(2)

هي: مسائل اجتهادية؛ أي: يجتهد فيها المجتهد فيرى من المصلحة أن يقرر هذا الحكم.

مثال ذلك: ترون الآن عندنا نظام المرور، هذه الإشارات الموضوعة وتقيُّد الناس بها، ألا ترون فيها مصلحة؟! ربما لو ترك الناس أصحاب السيارات لحدثت مشاكل، وربما تحصل الآن مشاكل مع وجود هذه الضوابط فما بالكم إذا لم توجد؟! فلا نقول بأن هذه خالفت الشريعة وإنما هي مصالح؛ لأن فيها مصلحة للناس.

وسميت مصالح مرسلة؛ لأنها أطلقت من غير قيد، وكذلك كثير من الأنظمة التي اتخذت الآن ليس في المرور وحدها، بل أنظمة كثيرة جدًّا.

فالمالكية يتوسعون أكثر من غيرهم في باب المصالح المرسلة، فمالكٌ يرى أننا نوجب الزكاة على هذا المدير؛ لأن بضاعته تتحرك وما

(1)

يقال: فلان قطب بني فلان؛ أي: سيدهم الذي يدور عليه أمرهم. انظر: "الصحاح"، للجوهري (1/ 204).

(2)

المصالح المرسلة هي: حكم لا يشهد له أصل من الشرع اعتبارًا وإلغاء. انظر: "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب"(3/ 286).

ص: 3443

يبقى في يديه شيء لمصلحة الفقراء؛ فرأى هذا من باب المصلحة، لكن المؤلف رحمه الله نقد إمامه، وهو مالكي ومع ذلك نقد هذا الرأي في مذهب إمامه؛ لأن الإنصاف يقتضي ذلك.

لا ينبغي أن يأخذني تعصبي مثلًا لأنني أنتسب إلى مذهب أحمد فأقول: هذا هو الحق في كل شيء ولا أرى الحق في غيره، ولا لأنني مالكي أقول الحق في مذهب مالك، قد يكون الحق اليوم هنا واليوم هنا في هذه المسألة، لكن لا يُقال بأن فلانًا قد عُصم من الخطأ، ولكن يقال: كل هؤلاء اجتهدوا وقصدوا الصواب وتحروا فيه، وبذلوا ذوب قلوبهم وأفنوا حياتهم في سبيل الوصول إلى الحق، وهم بحمد اللَّه أصابوا في كثير من الأمور وأخطاؤهم نادرة وهم مجتهدون، من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد وهم مأجورون على كلا الاحتمالين، إنما الذي يأثم ويصيبه الوزر هو الذي يرى الحق وشملك غيره، والذي يرى الحق في هذا الدليل ويأخذ بغيره تعصبًا أو اتباعًا لهواه، واللَّه تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، حاشى داود نبي اللَّه أن يتبع الهوى، لكن هذه دروس يلقيها اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه لتستفيد منها الأمم ومنها هذه الأمة.

إذن؛ الهوى أخطر ما يهدد الإنسان؛ فإذا اتبع الإنسان هواه أراد أن يجعل كل باطلٍ حقًّا، ويكون ما يتفق مع هواه هو الحق، بل قد يكون هذا الهوى في العقيدة كما في أصحاب الأهواء فكم حرفوا في عقيدة التوحيد؟ وكم بدَّلوا؟ وكم وضعوا من أحاديث؟ كل ذلك لأنها تتفق مع أهوائهم، أشركوا باللَّه سبحانه وتعالى وخرجوا عن الطريق السوي؛ لأن ما جاء في هذه العقيدة يتعارض مع أفكارهم ومع أهوائهم؛ فالهوى زيغٌ يُخرج الإنسان عن طريق الرشاد إلى طريق الغواية والضلال؛ فالمؤلف نقد المذهب وهو ينتسب إليه؛ لأنه رأى أن مذهب الجمهور هو الحق في هذه المسألة وأن التفريق هنا غير وارد.

ص: 3444

يريد أن يقول المؤلف: وإن قلتم أنها مصلحة مرسلة لكنها مردودة؛ فقد يكون قولكم بأن هذا شرع مستنبط لأنه يتفق مع المصالح المرسلة، والمصلحة لكي تكون صحيحة لا بد أن تستند إلى دليل شرعي بمعنى ألا تتعارض مع أصول الكتاب والسنة؛ فنحن نرى أن هذه قد تعارضت لأنها أشبه أن تكون أمرًا جديدًا من أن تكون مصلحة مرسلة ملتقية مع الكتاب والسنة.

* قوله: (وَمِثْلُ هَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ بِالقِيَاسِ المُرْسَلِ

(1)

، وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ إِلَّا مَا يُعْقَلُ مِنَ المَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهِ، وَمَالِكٌ رحمه الله يَعْتَبِرُ المَصَالِحَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أُصُولٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا).

أو بالمصالح المرسلة، وهذا أشمل، ومعنى مرسل؛ أي: أرسل دون قيد، فقياس مرسل؛ أي: لم يقيد، وهناك قياس العلة

(2)

، وقياس الشبه

(3)

لكن هذا قياس أُرسل فلم نضع فيه القيود؛ لأننا تعريف القياس: إلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكمٍ لعلة تجمع بينهما

(4)

، فهذه المصالح إذا رأينا فيها مصَلحةٌ عامة لا تتعارض مع روح الشريعة ولا مع لُب الشريعة الإسلامية ولا مع أصول هذه الشريعة فنقرها.

(1)

هو من معاني المصالح المرسلة.

(2)

قياس العلة: "هو أن يرد الفرع إلى الأصل بالبينة التي علق الحكم عليها في الشرع، وقد يكون ذلك معنى يظهر وجه الحكمة فيه للمجتهد كالفساد الذي في الخمر وما فيها من الصد عن ذكر اللَّه عز وجل وعن الصلاة، وقد يكون معنى استأثر اللَّه عز وجل بيانه فيه بوجه الحكمة كالطعم في تحريم الربا والكيل". انظر: "اللمع في أصول الفقه"، للشيرازي (ص 99).

(3)

قياس الشبه: هو أن تحمل فرعًا على الأصل بضرب من الشبه، وذلك مثل أن يتردد الفرع بين أصلين يشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الآخر في وصفين فيرد إلى أشبه الأصلين به. انظر:"اللمع في أصول الفقه"، للشيرازي (ص 100).

(4)

القياس: هو رد الفرع إلى الأصل بعلة تجمعهما في الحكم. انظر: "الورقات"، للجويني (ص 26).

ص: 3445

فالإمام مالك يعتبر المصالح وإن لم يعتمد على أصول يستند عليها.

بعبارة أخرى: كأن المؤلف يقول: الإمام مالك توسع في المصالح المرسلة أكثر من غيرها، فهناك من أخذ بالمصالح المرسلة لكنهم قيدوها بقيود، والمالكية توسعوا فيها ما دام لم يرد نص واضح يتعارض معها، فهو يرى أن المالكية في هذا المقام وفي غيره توسعوا فتوسُّعهم هذا أوقعهم في بعض الأخطاء، ومنها هذا المأخذ الذي أخذه المؤلف عليه. وبهذا يتبين أن المؤلف مع الجمهور في هذه المسألة.

ورأي المؤلف هو الصواب في هذا وإن لم يصرح بأنه مع الجمهور، لكن نقده لمذهب المالكية دليلٌ على أنه يأخذ بخلافه، وهو كما تعلمون ما سلك مسلك الترجيح إلا في أوائل مسالك الكتاب، وإنما أراد أن يترك ذلك لطالب العلم؛ لأن طالب العلم إذا جاء إلى كتاب فوجد أن كل مسألة فيه مرجحة، تعود على هذا وكسِل في هذا الأمر وبرد ذهنه وفترت عزائمه لأنه وجد غيره خدمًا، لكن إذا لم يجد الترجيح فإنه سيأخذ بأسباب الخلاف، وما يرد عليه من اعتراض ومناقشات ثم ينتهي بعد ذلك إلى ما يظهر له من الحق.

إذن؛ المؤلف أعمل فكره وذهنه وجمع حواسَّه ودقق في دراسة المسائل فوصل إلى نتائج، وهذا هو تحريك الذهن، فالإنسان -كما أشرنا قبل قليل- إذا عود نفسه على أن يقرأ في مسائل دقيقة ويتمرس

(1)

فيها تصبح سهلة عليه إذا مر بما يشبهها، لكن إذا عودت نفسي على أنني أقرأ الأمور البسيطة وإذا وجدت مسائل تحتاج مني إلى وقفات، وإلى إمعان نظر، وإلى دقة، والى رجوع، وقد تحتاج إلى أن أرجع إلى كتب اللغة، وإلى كتب الأصول، وإلى غير ذلك؛ يحجم الإنسان عن هذه المسائل، لكن هذه المسألة إذا عودت نفسك عليها تمرست فيها، وهذا هو الحال

(1)

التمرس شدة الالتواء والعلوق وتمرس بالشيء ضربه. انظر: "المحكم والمحيط الأعظم"، لابن سيده (8/ 495).

ص: 3446

في القواعد الفقهية نجد أنها من المسائل الصعبة لكن إذا تمرس الإنسان في دراسة القواعد الفقهية وبدأ يطبق الفروع عليها سهلت أمامه ولانت أمامه أيضًا كما لانت أمام العلماء الذين اشتغلوا فيها وعنوا بها.

[الجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي وَقْتِ الزَّكَاةِ]

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (وَأَمَّا وَقْتُ الزَّكَاةِ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الفُقَهَاءِ

(1)

يَشْتَرِطُونَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالمَاشِيَةِ الحَوْلَ؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ)

(2)

.

عُرف ذلك في عروض التجارة وربما أنه لم يذكرها؛ لأنها في النهاية تعود إلى أن تُقدر بالنقدين؛ لأن الإنسان إذا كانت عنده عروض تجارة

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 155)؛ حيث قال:"ولا بد من الحول لأنه لا بد من مدة يتحقق فيها النماء".

ولمذهب المالكية، ئنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 431)؛ حيث قال: "واعلم أن الحول شرط بلا خلاف".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج في شرح المنهاج"، للهيتمي (3/ 282)؛ حيث قال:"وشرط زكاة النقد الحول".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى"، للرحيباني (2/ 4)؛ حيث قال:"بوقت مخصوص، هو: تمام الحول في الماشية والأثمان وعروض التجارة".

(2)

يُنظر: "الموطأ"(1/ 245) رقم (4) وفيه: "عن محمد بن عقبة مولى الزبير: أنه سأل القاسم بن محمد عن مكاتب له قاطعه بمال عظيم، هل عليه فيه زكاة؟ فقال القاسم: إن أبا بكر الصديق لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول".

ويُنظر: "مسند أحمد"(1265) وفيه: "عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: ليس فى مال زكاة حتى يحول عليه الحول".

وقال البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 160): "والاعتماد في ذلك على الآثار الصحيحة فيه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن عمر وغيرهم رضي الله عنهم".

ص: 3447

وحال عليها الحول تُقدر بالنقدين، أو ربما ترك المؤلف ذلك ليتكلم عنه مستقبلًا لكنها داخلة في ذلك.

لماذا قال المؤلف: (لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة) مع أنه ورد في ذلك حديث؟ ثم هل ورد ذلك فعلًا عن الخلفاء الأربعة؟

المشهور في ذلك والمعروف: أن ذلك ثبت عن أبي بكرٍ، وعن عثمان، وعن علي من الخلفاء الأربعة، ولعله أطلق الأربعة بالنسبة للغالب، وربما أنه وقف على رأي عمر ولم نقف عليه، لكن المعروف الذي روى ذلك بعدة أسانيد هو البيهقي

(1)

فإنه روى هذا عن هؤلاء الثلاثة.

فالمؤلف حكى اتفاق الخلفاء على هذه المسألة من اشتراط الحول، ولم يورد ولم يجعل عمدة ذلك الحديث، مع أن الحديث ينبغي أن يكون أصلًا بأن الحديث ورد من عدة طرق، وهو:"لا زكاةَ في مالٍ حتى يحولَ عليه الحولُ"

(2)

. لكن الحديث ضعيف في جميع طرقه؛ ولذلك ذكر المؤلف اتفاق الخلفاء على هذه المسألة، هذه واحدة.

* قوله: (وَلِانْتِشَارِهِ فِي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم).

ولم يُعرف في ذلك خلاف إلا ما نقله المؤلف عن الصحابيين عبد اللَّه بن عباس

(3)

، ومعاوية

(4)

، ويُضاف إليهما عبد اللَّه بن مسعود

(5)

لكن

(1)

يُنظر: "السنن الكبرى"، للبيهقي (4/ 160).

(2)

أخرجه أبو داود (1573)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1405).

(3)

يُنظر: "الأموال"، لابن زنجويه (3/ 921) وفيه:"عن عكرمة، عن ابن عباس، في الذي يستفيد المال قال: يزكيه حين يستفيده".

(4)

يُنظر: "السنن الكبرى"، للبيهقي (4/ 184) وفيه:"عن ابن شهاب قال: "أول من أخذ من الأعطية الزكاة معاوية" قال الشافعي: والعطاء فائدة ولا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول".

(5)

يُنظر: "الأموال"، لابن زنجويه (3/ 916) وفيه:"عن هبيرة بن يريم، عن عبد اللَّه: "أنه كان يعطي العطاء في زبل ويأخذ زكاته"".

ص: 3448

أولئك قالوا: إذا ملك نصابًا فإنه يؤدي زكاته في الحال؛ فإذا ما حال عليه الحول زكاه زكاة أخرى؛ لا أنهم ينفون الحول لكنهم يرون أنه إذا ملك نصابًا يزكيه وبعد أن يحول عليه الحول يزكيه.

هذا الخلاف كما ذكر المؤلف أو ذكر غيره كان في الصدر الأول ثم انقرض؛ فأجمع العلماء بعد ذلك على هذه المسألة، فنجد أن فقهاء المدينة السبعة متفقون

(1)

، ثم جاء بعد ذلك وفد الفقهاء منهم الأئمة الأربعة فكانت المسألة مجمعًا عليه وزال الخلاف بحمد اللَّه.

والحاجة تقتضي ذلك؛ لأنه كما هو معلوم بمرور الحول تكون هناك فرصة للتاجر بأن ينمي زكاته؛ ولذلك سترودن بعض مسائل الخلاف في زكاة الدين، ووجهة بعض الذين لا يقولون بالزكاة لأنه مال موقوف لا ينمى بخلاف المال الذي بيد الإنسان فإنه ينميه، وتكون له فوائد وأرباح فهو يختلف عن مالٍ موقوف ثابت.

* قوله: (وَلانْتِشَارِ العَمَلِ بِهِ، وَلِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْتِشَارِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ).

وقد ورد الحديث في ذلك وله عدة طرق لكنها لا تخلو من مقالة، والمسألة مُجمع عليها كما ذكر المؤلف.

* قوله: (وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ"

(2)

).

ومن حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا

(3)

.

(1)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (4/ 290 - 294)؛ حيث قال:"الزكاة واجبة في أموال التجارة في كل عام. هذا مذهبنا. . . والفقهاء السبعة".

(2)

أخرجه الترمذي (631)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".

(3)

أخرجه ابن ماجه (1792)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".

ص: 3449

و"لا" نافية للجنس و"زكاة" نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم

(1)

؛ أي: أيُّ مال لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، يُستثنى من ذلك ما وردت فيه النصوص؛ وهي زكاة الخارج من الأرض ونقصد به الزروع والثمار، أما ما عدا ذلك من المعادن فسيأتي الكلام فيه، وقد عرفنا من المعادن النقدين، بل إن زكاة المعادن مرت بنا وتكلمنا عنها تفصيلًا لكن يبدو أن المؤلف سيعيدها.

* قوله: (وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ).

يقصد بفقهاء الأمصار: الأئمة الأربعة.

* قوله: (وَلَيْسَ فِيهِ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ خِلَافٌ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ).

ويُضاف إليهم أيضًا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

* قوله: (وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ).

يقصد المؤلف دائمًا بالحديث الثابت وفق مصطلحه ما اتفق عليه الشيخان، أو ما رواه أحدهما، ولا يلزم أن الحديث إذا لم يكن في "الصحيحين" أو في أحدهما أنه ليس بصحيح، فكم من الأحاديث الكثيرة ما هو صحيح ومنها ما هو حسن وليس في "الصحيحين".

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا البَابِ فِي مَسَائِلَ ثَمَانِيَةٍ مَشْهُورَةٍ).

هناك ثمان مسائل اختلف فيها الفقهاء، بعضها سبق أن حصل الكلام عليها، وبعضها ذكرها المؤلف، وبعضها جديدة، لكن قد يُستغنى ببعضها

(1)

يُنظر: "إرشاد الفحول"، للشوكاني (1/ 308)، حيث قال:"النكرة في سياق النفي نحو: "لم أر رجلًا"، وذلك يعم لضرورة صحة الكلام، وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع بصيغته. فالعموم فيه من القرينة فلهذا لم يختلفوا فيه".

انظر لتمام الفائدة: "روضة الناظر"، لابن قدامة (2/ 13 وما بعدها).

ص: 3450

عن بعض؛ كما نرى أنه أفرد للربح مسألة وللفوائد مسألة وبعض الفقهاء يجمع بين النوعين.

* قوله: (إحْدَاهَا: هَلْ يُشْتَرَطُ الحَوْلُ فِي المَعْدِنِ

(1)

إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الوَاجِبَ فِيهِ رُبُعُ العُشْرِ؟).

هذا يتعلق بزكاة المال، وهذه المسألة مرَّت في أوائل كتاب الزكاة، وتكلمنا عنها تفصيلًا، ويُقصد بالمعادن: جمع معدن، وسُمي معدنًا لأنه يستقر؛ ولذلك سميت الجنة بجنة عدن لأنها جنة خلودٍ وبقاءٍ واسحقرار، كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23، 24].

وقال سبحانه وتعالى في سورة فاطر: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 33 - 35].

ولا شك أنها غاية كل مؤمن وأن اللَّه سبحانه وتعالى أعدها للذين اتقوا في هذه الحياة الدنيا بعمل الصالحات قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54 - 55]، نسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أولئك.

وزكاة المعادن كما يعرفها الفقهاء

(2)

هي: ما يُخرج من الأرض مما يُخلق فيها من غير جنسها مما له قيمة.

(1)

معدن الذهب والفضة: "سمي معدنًا لإنبات اللَّه جل وعز فيه جوهرهما وإثباته إياه في الأرض حتى عدن؛ أي: ثبت فيها. المعدن: هو المكان الذي يثبت فيه الناس ولا يتحولون عنه شتاء ولا صيفًا". انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (2/ 129).

(2)

زكاة المعادن: "هو زكاة الجوهر المستخرج من مكان خلقه اللَّه تعالى فيه ويُسمَّى به مكانُه أيضًا لإقامة ما خلقه اللَّه فيه تقول: عدن بالمكان يعدن إذ أقام فيه". انظر: "أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 385).

ص: 3451

وما يخرج من الأرض: الذهب والفضة والحديد والنُّحاس والقصدير

(1)

والقار

(2)

والبترول والزئبق وأمثال ذلك كثير جدًّا، وأنواع كثيرة تُستخرج من الأرض لكن هي من نوع الأرض التي خلقت فيها، وهي تختلف عنها؛ لأن الأرض تراب وحجارة، وقيَّد ما يخرج منها بالقيمة.

وهذه المعادن التي تُخرج من الأرض تنقسم إلى قسمين:

1 -

النقدان (الذهب والفضة).

ولا بد أن تُصفى؛ فإن الذهب قبل ذلك يُسمَّى تبرًا، ثم بعد ذلك يُضرب فيدخل في ذلك فتسمى نقودًا.

2 -

وهناك المعادن الأخرى.

وكلام المؤلف هنا إنما هو فيما عدا الذهب والفضة، فالذهب والفضة قد عرفناهما وأنهما أصل الأموال، وأنهما رؤوس الأموال وقيم المتلفات كما مر بنا، وأنها تزُكى وأن زكاتها ربع العشر، لكن يبقى الآن ما يتعلق بالمعادن عمومًا، مما له قيمة وبشرط أن يبلغ نصابًا، فهل يُشترط فيه الحول أم لا؟

يُشترط فيه الحول؛ لأجل ذلك ذكر المؤلف هذا بهذه المناسبة وأعاد الكلام عنها.

* قوله: (الثَّانِيَةُ: فِي اعْتِبَارِ حَوْلِ رِبْحِ المَالِ. الثَّالِثَةُ: حَوْلُ الفَوَائِدِ الوَارِدَةِ عَلَى مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. الرَّابِعَةُ: فِي اعْتِبَارِ حَوْلِ الدَّيْنِ

(1)

القصدير: عنصر فلزي فضي اللون له قابلية عالية للبسط يمكن معها طرقه إلى أوراق رقيقة جدًّا تستخدم لتغليف كثير من المواد الغذائية ويصهر مع الرصاص ليكون أشابة اللحام. انظر: "المعجم الوسيط"(2/ 738)، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 620).

(2)

القار: "هو صعد يذاب فيستخرج منه القار، وهو شيء أسود يطلى به السفن يمنع الماء أن يدخل، وكذا الإبل عند الجرب". انظر: "تاج العروس"، للزبيدي (13/ 499).

ص: 3452

إِذَا قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ. الخَامِسَةُ: فِي اعْتِبَارِ حَوْلِ العُرُوضِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ. السَّادِسَةُ: فِي حَوْلِ فَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ).

العُروض سبق أنه ينبغي أنه يُدخله زكاة في المسألة الماضية؛ لكنه أفرده وبعد ذلك سيقول: سبق وقد مرت هذه المسألة.

* قوله: (السَّابِعَةُ: فِي حَوْلِ نَسْلِ الغَنَمِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا تُضَمُّ إِلَى الأُمَّهَاتِ؛ إِمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ الأُمَّهَاتُ نِصَابًا، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ).

ونسل الغنم سبق أن تكلمنا عنه.

* قوله: (وَالثَّامِنَةُ: فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الزَّكاةِ قَبْلَ الحَوْلِ).

أي: هل يجوز أن تُقدم الزكاة قبل وقت وجوبها قبل انقضاء الحول؟ وهذه مسألة معروفة، وقد ورد فيها حديث، والمؤلف لم يعرض الحديث الوارد في ذلك.

(أَمَّا المَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ المَعْدِنُ).

بدأ بالمعدن الذي أشرنا إلى الحديث عنه، وقد ذكر ذلك مقتضبًا موجزًا، وهذه المسألة سبق أن مرت في أوائل كتاب الزكاة، وتكلمنا عنها لكنها تحتاج إلى توضيح وتصحيح بعض الأشياء.

* قوله: (فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ

(1)

رَاعَى فِيهِ الحَوْلَ مَعَ النِّصَابِ).

ليس هو مذهب الشافعي، فالمشهور مذهب الشافعي مع الجمهور،

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للخطيب الشربيني (2/ 101)؛ حيث قال:"ويشترط لوجوب الزكاة فيه النصاب؛ لأن ما دونه لا يحتمل المواساة كما في سائر الأموال الزكوية لا الحول على المذهب فيهما، وقطع به؛ لأن الحول إنما يعتبر لأجل تكامل النماء، والمستخرج من المعدن نماء في نفسه فأشبه الثمار والزروع".

ص: 3453

وإنما هذا هو مذهب إسحاق بن راهويه

(1)

وابن المنذر

(2)

، لكنها لها رواية في مذهب الشافعي

(3)

، والرواية المشهورة هي مع جمهور العلماء الذين سيذكرهم بعد قليل؛ فكان ينبغي أن يذكر رأيهم معهم.

* قوله: (وَأَمَّا مَالِكٌ

(4)

، فَرَاعَى فِيهِ النِّصَابَ دُونَ الحَوْلِ).

مالك وأبو حنيفة

(5)

وأحمد

(6)

والشافعي في المشهور عنهم يراعون النصاب ولا يراعون الحول؛ لأن العلماء يقولون بالنسبة لاشتراط الحول:

(1)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (3/ 339)؛ حيث قال:"ومن أصحابنا من خرج ما رواه المزني قولًا ثابتًا واعتبر فيه الحول، وهو مذهب المزني وإسحاق بن راهويه".

(2)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 55)؛ حيث قال:"وقال إسحاق، وابن المنذر: لا شيء في المعدن حتى يحول عليه الحول".

(3)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (4/ 363)؛ حيث قال:"ومن أصحابنا من خرج ما رواه المزني قولًا ثانيًا، واعتبر فيه الحول".

(4)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 456 - 458)؛ حيث قال: "وأشار لشرط وجوبها في العين بقوله: (إن تم الملك) وهو مركب من أمرين: الملك وتمامه؛ فلا زكاة على غاصب وملتقط لعدم الملك، ولا على عبد ومدين لعدم تمامه، (و) تم (حول غير المعدن) والركاز، وأما هما فالزكاة بالوجود في الركاز وبإخراجه أو تصفيته في المعدن".

(5)

يُنظر: "فتح القدير"، لابن الهمام (2/ 232 - 235)؛ حيث قال:"معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو صفر وجد في أرض خراج أو عشر ففيه الخمس عندنا وقال الشافعي: لا شيء عليه فيه؛ لأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد، إلا إذا كان المستخرج ذهبًا أو فضة فيجب فيه الزكاة، ولا يشترط الحول في قول؛ لأنه نماء كله والحول للتنمية".

(6)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 266)، حيث قال:"فمن استخرج من أهل الزكاة من معدن في أرض مملوكة له أو مباحة أو مملوكة لغيره إن كان جاريًا ولو من دار - نصاب ذهب أو فضة أو ما يبلغ قيمة أحدهما من غيره بعد سبكه وتصفيته: منطبعًا كان كصفر ورصاص وحديد أو غير منطبع كياقوت وعقيق وبنفش وزبرجد وموميا نورة وبشم وزاج وفيروزج وبلور وسبح وكحل ومغرة وكبريت وزفت وزئبق وزجاج وملح وقار وسندروس ونفط وغيره مما يُسمَّى معدنًا: ففيه الزكاة في الحال".

ص: 3454

إنما يُشترط الحول لتكميل النَّماء، ويُشترط الحول في تلك الأموال التي تحتاج إلى أن تُنمى، أما الأموال التي تأتي كاملة دفعة واحدة كما نرى ذلك في الحبوب والثمار، وكذلك هنا بالنسبة للمعادن؛ فإنها تُستخرج فهي لا تحتاج إلى أن تنمى؛ وإنما تخرج كاملة فتزكى فلا تحتاج إلى حول.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ شَبَهِهِ بَيْنَ مَا تُخْرِجُهُ الأَرْضُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَبَيْنَ التِّبْرِ وَالفِضَّةِ المُقْتَنيَيْنِ).

التردد بين أن يُلحق بما يخرج من الأرض وبين التبر والفضة وبين إلحاقه بالنقدين؛ أي: هل نلحق ذلك بالذهب وبالفضة، أم نلحق ذلك بالحبوب والثمار؟

الحبوب والثمار: بذرات تُوضع في الأرض فتحتاج إلى سقي وإلى رعاية وإلى اهتمام، ثم بعد ذلك بتوفيق اللَّه سبحانه وتعالى تصبح تلك البذرة حبة وتصبح تلك الغرسة ثمرًا؛ فهذه هي زكاة الحبوب؛ فزكاة الحبوب والثمار تخرج من الأرض، فهل نلحق بها المعدن بجامع أن كلًّا منهما مخرَج من الأرض؛ فنلحق ذلك بالذهب والفضة بعد أن صُفي ونُقي وأصبح خارجًا؟ هذا ما يريد أن يتكلم عنه.

* قوله: (فَمَنْ شَبَّهَهُ بِمَا تُخْرِجُهُ الأَرْضُ لَمْ يَعْتَبَرِ الحَوْلَ فِيهِ).

أي: من شبَّهه بزكاة الحبوب والثمار لم يشترط فيه حولًا؛ لأن تلك لا يُشترط فيها الحول وإنما تجب الزكاة فيها إذا اشتد الحب وإذا استوى؛ أي: أصبح الثمر صالحًا.

* قوله: (وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالتِّبْرِ وَالفِضَّةِ المُقْتَنَيَيْنِ، أَوْجَبَ الحَوْلَ، وَتَشْبِيهُهُ بِالتِّبْرِ وَالفِضَّةِ أَبْيَنُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

أي: الذهب والفضة اللذَينِ لم يُضربا نقودًا فإنه اشترط فيهما الحول؛ لأن الذهب والفضة يُشترط فيهما الحول.

ص: 3455

هذا هو رأي المؤلف

(1)

، لكن هناك تعليل يذكره الفقهاء الآخرون وهو مشهور إذ يقولون: تشبيهه بالخارج من الأرض أولى؛ لأن تشبيهه بالتبر -كما ذكر المؤلف- أو بالذهب والفضة فيه بُعد؛ لأن تلك الأموال إنما تُنمى وهذا؛ أي: المعدن الذي استخرج جملة من الأرض خرج كاملًا فلا يحتاج إلى أن يُنمى، فلا يمكن أن نلحقه بالذهب والفضة، فالمؤلف قيَّد التِّبر والفضة بالمقتنيين؛ أي: مدخرين وهو الذي يُشتمل فيها في التجارة.

* قوله: (المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا اعْتِبَارُ حَوْلِ رِبْحِ المَالِ).

أتى المؤلف بمسائل متشابهة وسيذكر مسألةً فيها الربح؛ أي: بضائع يشتغل فيها الإنسان فتربح، ويتكلم عن الفوائد أيضًا فهذا الربح هو الفائدة.

ويقصد المؤلف بالربح: أي: غير الفائدة؛ أي: عند إنسان مالٌ فربح مالًا آخر.

ويقصد بالفوائد: هي الفوائد التي ترد إليك من غير جنس هذا المال.

فننتبه لهذا؛ لأنه ربما يقف الإنسان عند المسألة التالية فيقول: هذه مكررة؛ مع العلم أن بعض الفقهاء يجمع بينهما في مسألة؛ لكنه يفصل هذا عن هذا عند الكلام عنهما، فهناك ربحٌ وهناك فوائد.

ويُقصد بالربح: هو ربح هذا المال؛ أي: ماشية تربح، وبضاعة تربح.

ويقصد بالفوائد: ما يرد إلى هذا النصاب أو نُصُبٍ أُخرى متنوعة من غير جنس هذا المال الذي عنده؛ فعنده سائمة إذا ولدت هذه السائمة تعتبر من الجنس، وكذلك أيضًا ترد عليه بضائع أُخرى كأن يأتيه مال من هبة أو ميراث أو غير ذلك، فهذه أموالٌ مُستفادة دخلت عليه فما حكم هذه وما حكم هذه. . . هذه كلها سيتكلم عنها المؤلف ونحاول -إن شاء اللَّه- أن نزيد عليها.

(1)

هو ابن رشد.

ص: 3456

* قوله: (فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَرَأَى الشَّافِعِيُّ

(1)

أَنَّ حَوْلَهُ يُعْتَبَرُ مِنْ يَوْمِ اسْتُفِيدَ، سَوَاءٌ كَانَ الأَصْلُ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ).

ربح المال هل له حول أو لا؟ المسألة فيها خلاف وفيها تفصيل عند العلماء.

فقد يكون هناك نصاب وحال عليه الحول؛ تجب عليه الزكاة فإذا ربحت إليه مالًا جديدًا؛ فهل تزكي هذا مع الأصل أم أنك تنتظر حتى يحول الحول على هذا الربح فتزكيه؟

قال الشافعية: إنه لا ينبغي أن يُلحق بالأصل، وإنما ينبغي أن يفصل عنه؛ فإذا ما حال الحول على الأصل يزكى ثم بعد ذلك يأتي ما يتعلق بالربح.

فينبغي أن يكون من الوقت الذي استفيد؛ فلو قُدر أن إنسانًا عنده مبلغٌ من المال تجب فيه الزكاة، ثم أثناء العام جاءت أرباحٌ دخلت على هذا المال فإذا ما تم الحول هل نُلحق الربح بأصله فنزكيهما معًا أم لا؟ فالإمام الشافعي يقول: إن زكاة الربح تبدأ من حين استفيد؛ أي: من هنا نبدأ ونعد له العدة ونقدر له الزكاة.

* قوله: (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ

(2)

أَنَّهُ كَتَبَ أَلَّا يُعَرَّضَ لِأَرْبَاحِ التِّجَارَةِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الحَوْلُ).

فإذا ربحتَ مالًا على مذهب الإمام الشافعي، وقد مضى على أصلك زمن فحال عليه الحول فلا ينبغي أن يزُكى الربح مع الأصل؛ لأنه ينبغي

(1)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 233، 234)؛ حيث قال: "ولا يضم المملوك بشراء أو غيره في الحول؛ لأنه لم يتم له حول والنتاج إنما خرج عنه للنص عليه".

(2)

يُنظر: "المصنف"، لعبد الرزاق (4/ 79) وفيه: عن معمر، عن أيوب قال:"كتب عمر بن عبد العزيز: لا يؤخذ من الأرباح صدقة إذا كان أصل المال قد زكي حتى يحول عليه الحول".

ص: 3457

أن تستقبل وقتًا جديدًا بالنسبة للربح فيبدأ الحول أو تبدأ مدة العد للحول من الوقت الذي استفدت فيه هذا الربح، فإذا ما حال الحول حينئذٍ تجب الزكاة، هذا هو مذهب الإمام الشافعي، وهو كما ذكر المؤلف منقولٌ عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: حَوْلُ الرِّبْحِ هُوَ حَوْلُ الأَصْلِ).

ما دام هذا أصلًا وهذا فرعًا فينبغي أن نلحقه به، ولم يفصل مالك بين أن يكون من جنسه أو من غير جنسه -كما هو الحال بالنسبة لمذهب الحنابلة

(2)

-، فيرى مالك أن الربح يتبع الأصل فيزكى معه.

وسيأتي أيضًا قول أبي حنيفة

(3)

ويلتقي معه أحمد في بعض أجزاء قوله ويفارقه في بعضه؛ لأن أحمد يقيد ذلك وأبو حنيفة ومَن معه يوسعون القول في هذه المسألة.

* قوله: (أَيْ: إِذَا كَمُلَ لِلْأُصُولِ حَوْلٌ، زَكَّى الرِّبْحَ مَعَهُ).

فإذا كان عند إنسان نصاب من الزكاة ثم بعد مرور زمن رَبِح هذا المال؛ فهذا الربح يعتبره الإمام مالك تابعًا لأصله فيُزكى معه، ولا يحتاج

(1)

يُنظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 461 - 462)؛ حيث قال: "وضم الربح لأصله معناه: أن من عنده نصاب من العين فاتجر فيه فربح أو دون نصاب منها فاتجر فيه فربح وصار بربحه نصابًا فإنه يزكي الأصل والربح لتمام حول من يوم ملك الأصل، كالنتاج على المشهور، لا من يوم الشراء ولا من يوم الربح".

(2)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"(1/ 410)؛ حيث قال: "ومن ملك نصابًا ثم ملك آخر لا يتغير به الفرض كأربعين شاة ملكها في المحرم ثم ملك أربعين في صفر فعليه زكاة الأول فقط إذا تم حوله؛ لأن الجميع ملك واحد فلم يزد الواجب على شاة كما لو اتفق الحولان، وإن تغير به؛ أي: بما ملكه ثانيًا الفرض، كمائة ملكها في صفر بعد ملكه أربعين في المحرم زكاه أي النصاب الثاني وهو المائة إذا تم حوله".

(3)

يُنظر: "فتح القدير"، لابن الهمام (2/ 195 - 197)؛ حيث قال:"ومن كان له نصاب فاستفاد في أثناء الحول من جنسه ضمه إليه وزكاه به".

ص: 3458

أن يَستأنف له وقتًا جديدًا فهو تابع للأصل، وما دام تابعًا لذاك الأصل فينبغي أن يزكى معه.

وطفل قُدر أنه يملك عشرة آلاف ثم بعد ذلك ربح خمسة آلاف فإذا ما تم حول الأصل يزكي خمسة عشرة ألفًا عند الإمام مالك، وعند الشافعي يزكي عشرة آلاف وينتظر مرور الحول على الخمسة.

* قوله: (سَوَاءٌ كَانَ الأَصْلُ نِصَابًا، أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ).

ولا فرق عند الإمام مالك بين أن يكون الأصل نصابًا أو غير نصاب؛ لأنه قد جاء الربح فضُم إليه فنقله إن كان أقل من نصاب إلى أن أصبح نصابًا وقد تم حول الأصل وهذا فرع عنه فينبغي أن يزُكى الكل؛ لأنه ما دام اعتبر الربح فرعًا عن الأصل الذي هو أصل المال فلا فرق عنده بين أن يكون الأصل في بدايته بلغ نصابًا أو لم يبلغ.

لكن ليس معنى هذا أن يفهم البعض أنه لو قُدر أن المال الذي عنده أقل من نصاب فإذا ما حال الحول يزكى عند مالك، ومالك يرى أن هذا الربح نقله من كونه دون نصاب إلى أن أصبح نصابًا، حينئذٍ تجب فيه الزكاة؛ لأنه اعتبره جزءًا منه.

* قوله: (إِذَا بَلَغَ الأَصْلُ مَعَ رِبْحِهِ نِصَابًا).

فصلها المؤلف وبيَّنها بيانًا شافيًا؛ فليس هناك فرق بين أن يكون الأصل نصابًا أو غير نصاب، المهم أنه عند حَوَلان الحول يكون الأصل مع ربحه قد بلغ نصابًا فتجب زكاته، وهذه رواية في مذهب مالك

(1)

.

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (3/ 153 - 154)؛ حيث قال:"من كانت عنده عشرة دنانير فتجر بها فصارت بربحها عشرين دينارًا قبل الحول بيوم فيزكيها لتمام الحول؛ لأن ربح المال منه وحوله حول أصله كان الأصل نصابًا أم لا كولادة الماشية".

ص: 3459

* قوله: (قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الفُقَهَاءِ إِلَّا أَصْحَابُهُ).

قال أبو عبيد القاسم بن سلام صاحب كتاب "الأموال": "هذا قول انفرد به الإمام مالك فلم يوافقه أحد من الفقهاء المشهورين، وإنما أخذ بقوله أصحابه"

(1)

.

وليس حقيقةً كل أصحابه، بل وُجد من خالف في المذهب المالكي، وتعلمون أن أئمة المذاهب لا يتقيدون بقول الإمام في أي مذهبٍ من المذاهب متى ظهر لأحدهم أن القول في مذهب آخر أرجح من قوله، وهذا هو الحق الذي كثيرًا ما تكلمنا عنه.

* قوله: (وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ المَالِ الحَائِلُ عَلَيْهِ الحَوْلُ نِصابًا أَوْ لَا يَكُونُ).

هنا انتقل إلى قول ثالث:

1 -

يرى الإمام الشافعي رحمه الله

(2)

: أن من كان عنده نصاب ثم ربح هذا النصاب مالًا؛ فلا ينبغي أن يُزكى الربح مع النصاب بمجرد حولان الحول على الأصل بل يُستأنف الحول بالنسبة للربح فيُعد له.

(1)

يُنظر: "الأموال"، للقاسم بن سلام (ص 507)؛ حيث قال:"فإذا كان المال ليس بنصاب ولا أصل، ولكنه أقل من ذلك مما لا تجب في مثله الزكاة، كرجل ملك في أول الحول خمسة دنانير، أو أربعًا من الإبل؛ فإن مالك بن أنس قال فيها: إن كان تجر في تلك الدنانير الخمسة، فنمت حتى حال الحول عليها، وهي عشرون فصاعدًا، أو نتجت الإبل الأربع، فصارت خمسًا، أو أكثر من ذلك، فإن الزكاة واجبة في جميعها. قال أبو عبيد: فذهب مالك إلى أن ربح المال إنما هو راجع إلى أصله، وأن الأولاد من أمهاتها، فجعلها لاحقة بها".

(2)

يُنظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 233 - 234)؛ حيث قال:"ولا يضم المملوك بشراء أو غيره في الحول؛ لأنه لم يتم له حول والنتاج إنما خرج عنه للنص عليه".

ص: 3460

2 -

ويرى مالكٌ

(1)

العكس من ذلك: وهو أنه إذا وُجد عند إنسان مال ثم ربح هذا المال فحال الحول على الأصل فإنه يُزكى سواءٌ كان الأصل عندنا بدأ وجوده عنده حولًا أو ليس حولًا ما دام أنه قد بلغ بهذا الربح نصابًا.

3 -

الرأي الثالث: يتشعب إلى شعبتين: فهناك من يطلق، وهناك من يقيد، وهذا كما سيأتي هو مذهب الحنفية

(2)

والحنابلة

(3)

على تفصيلٍ في ذلك، ومعهم غيرهم من الفقهاء، وأكثر العلماء الذين يقولون بذلك.

ولا نطيل التفصيل في ذلك؛ لأن هذه مسائل لا يُقام عليها أدلة؛ وإنما تحتاج إلى بيان لتُعرف.

وبهذا يُفارق هذا القول قول مالك، ومالك ما اشترط أن يكون الأصل نصابًا ما دام الربح قد أتمه، وهؤلاء يقولون: نحن نخالف مالكًا، فلا بد من أن يكون الأصل الذي بدأ الحول منه نصابًا.

* قوله: (فَقَالُوا: إِنْ كَانَ نِصَابًا، زَكَّى الرِّبْحَ مَعَ رَأْسِ مَالِهِ).

من هنا يأتي الفرق بين الحنفية والحنابلة:

فالحنفية: يطلقون ذلك إذا كان الأصل نصابًا وجاءه ربحٌ من هذا المال؛ فإنه يُزكي الكل بشرط أن يكون الأصل نصابًا.

لكن الحنابلة: يقيدون ذلك بشرط أن يكون النماء من جنسه؛ أي: أن يكون هذا الربح من جنس المال، كأن تكون سائمة تلد، ونتاج السائمة هو المقصود عند الحنابلة؛ لأن هذا الربح جامعٌ للملك فينبغي كذلك أن يكون الحولُ تابعًا له، فمتى ما كان هذا النماء من جنس الأصل فحينئذٍ

(1)

سبقت الإشارة إلى هذه المسألة.

(2)

سبقت الإشارة إلى هذه المسألة.

(3)

سبقت الإشارة إلى هذه المسألة.

ص: 3461

يُزكى هذا الربح الذي هو النماء مع الأصل؛ لأن هذا النماء تابعٌ للأصل في الملك فيتبعه في الحول، لكن لو كان من غير جنسه فلا، والحنفية لا يضعون هذا القيد.

فالحنابلة مذهبهم فيه قيد، إذ يقولون: نحن نوافق الحنفية لكن بشرط أن يكون هذا الربح من نماء، وأن يكون هذا النماء من جنس الأصل، فمتى ما كان من جنسه كان تابعًا له في الملك؛ فهذه الشاة التي ولدت تتبع أمها، وهذه الناقة التي ولدت فما ولدته يتبع أيضًا أمها.

إذن؛ هذا نماء من جنس أصله؛ فمتى إذا كان النماء من جنس الأصل؛ فيكون تابعًا له في الملك، وما دام قد تبعه في الملك فيلزم أن يتبعه في الحول، فحينئذٍ يزكيان معًا، أما إن كان من غير جنسه فلا، وبذلك يلتقون مع (المالكية) في هذه الجزئية في الرواية الأُخرى في مذهب مالك التي لم يعرض لها المؤلف.

* قوله: (وَإِنْ لَمْ يَكُ نِصَابًا، لَمْ يُزَكِّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْلِ: الأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ)

(1)

.

وأحمد

(2)

معهم بالقيد الذي ذُكر لكم بشرط أن يكون الربح من جنس الأصل؛ أي: يكون هذا النماء من جنس الأصل كالنتاج التي تنتجه

(1)

يُنظر: "فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 221)؛ حيث قال:"إنما يضم المستفاد قبل الوجوب، فلو أخر الأداء فاستفاد بعد الحول لا يضمه عند الأداء".

وانظر: "رد المحتار"، لابن عابدين (2/ 302).

(2)

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 20 - 25)؛ حيث قال:"ويتبع ربح تجارة وهي التصرف بالبيع والشراء للربح، وهو الفضل عن رأس المال الأصل؛ أي: رأس المال في حوله إن كان الأصل نصابًا؛ لأنه في معنى النتاج، وما عدا النتاج والربح من المستفاد ولو من جنس ما يملكه لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، وليضم إلى نصاب بيده من جنسه، أو ما في حكمه، وإلا يكن الأصل نصابًا فحول الجميع؛ أي: الأمهات والنتاج، أو رأس المال وربحه من حين كمل النصاب".

ص: 3462

سائمة -بهيمة الأنعام-؛ لأن التبع حصل في الملك فيكون في الحول أيضًا.

فأرجو أن تكون المسألة قد ظهرت؛ لأن المسألة كنت أرى كثيرًا أشكل عليهم، وقد أراها واضحة لكن أنا بينتُ فيها أكثر لتتضح، وحتى مع هذا البيان نعرف الفرق بينها وبين المسألة القادمة.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ الرِّبْحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ المَالِ المُسْتَفَادِ، أَوْ حُكْمَ الأَصْلِ).

هذه من المزايا التي يمتاز بها هذا الكتاب: أنه عندما يأتي ليبين سبب الخلاف نجد أنه يتعمق في هذا الأمر، ما سبب الخلاف؟ وهل سبب الخلاف هو كون هذا النماء تابعًا للأصل؟ فهل حكمه حكم المال المستفاد؟ فحينئذٍ نقول: لا يزكى مع الأصل كما سيأتي في المسألة القادمة، أو حكمه حكم الأصل فيُزكى معه؟ على اختلاف بين العلماء كما رأيتم الحنفية وممن معهم قالوا: إذا كان الأصل نصابًا فإن الربح يُزكى معه ولا فرق بين أن يكون من جنسه أو من غير جنسه، لكن الحنابلة اشترطوا أن يكون النماء من جنس الأصل وإلا فلا، وبذلك وافقوا الحنفية في جزء من قولهم فيما يتعلق بالنماء، وخالفوهم إذا لم يكن من جنسه؛ فوافقوا المالكية في الرواية الأُخرى التي لم يعرض لها المؤلف.

* قوله: (فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالمَالِ المُسْتَفَادِ ابْتِدَاءً، قَالَ: يُسْتَقْبَلُ بِهِ الحَوْلُ).

أي: إذا كنت تملك مالًا، ثم وردت عليك عدة أنصبة كمال من ميراث أو من هبة، أو من كسب في بيعٍ من البيوع فتكونت عنده مجموعة من الأنصبة فهل هذه تُخلط معًا؟ لا، فكل نصاب من هذه الأنصبة نستقبله وقتًا إلا لو جاءت في وقت واحد، أما أن تأتي في أوقات متفرقة فلا؛ إذن هل نعامل هذا الربح معاملة المال المُستفاد الذي يرد إليك من غير ربحٍ أم يعامله معاملة الأصل الذي عنده؟ فالذين يقولون يُعامل معاملة

ص: 3463

الأصل، يقولون بالزكاة ومن قاسوه على المال المستفاد قالوا: لا يُزكى.

* قوله: (وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالأَصْلِ، وَهُوَ رَأْسُ المَالِ، قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ رَأْسِ المَالِ).

أي: بلغ نصابًا على مذهب الحنفية والحنابلة وقد عرف التفصيل آنفًا.

* قوله: (إِلَّا أَنَّ مِنْ شُرُوطِ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ المَالِ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ نِصَابًا).

عبارات المؤلف ربما تجد أن فيها صعوبة، وإلا أرى فيها وضوحًا.

"إلا أن من شروط هذا التشبيه": وهو إلحاق فرع بأصل.

"أن يكون رأس المال قد وجبت فيه الزكاة": ووجوب الزكاة: أن يكون عندما ابتدأ فيه الحول أن يكون نصابًا؛ لأنه يعد الحول إذا كان المال الذي بيده قد بلغ نصابًا، وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة والشافعية، على اختلاف بينهم أن يزكى الربح أو لا يزكى.

"وذلك لا يكون إلا إذا كان نصابًا": أما إذا لم يكن نصابًا فلا، وذلك عند الحنفية والحنابلة والمالكية كما سبق.

* قوله: (وَلِذَلِكَ يَضْعُفُ قِيَاسُ الرِّبْحِ عَلَى الأَصْلِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ).

يضعف لأن مالكًا لا يشترط أن يكون الأصل نصابًا، فالغاية عنده أنه عندما يقول: يحول الحول يكون بيده نصاب سواءٌ بدأ بنصاب أو أقل، هذا المال الذي كان بيدك وحال عليه الحول، وإن بدأ هنا النصاب ما دام قد لحق به مالٌ آخر ربحته وانضم إليه آخر فإذا ما تم العام يكون بيدك نصاب فحينئذٍ تزكي؛ فهذه مسألة أُخرى ضعف فيها ابن رشد مذهب مالك، كمسألة سبقت.

ص: 3464

* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ مَالِكٌ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ هُوَ تَشْبِيهُ رِبْحِ المَالِ بِنَسْلِ الغَنَمِ، لَكِنَّ نَسْلَ الغَنَمِ مُخْتَلَفٌ أَيْضًا فِيهِ).

على فرض أنهم قاسوا فكيف تقيس على أمر مختلف فيه؟! فإذا أردت أن تقيس على قضية فقس على قضية مسلَّمة أما أن تقيس على قضية مختلف فيها فلا.

* قوله: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِ الجُمْهُورِ)

(1)

.

وهذا الذي أشرت إليه فقد جاء به المؤلف، ومذهب الجمهور يلتقي مع تعليل الحنابلة الذي أشرت إليه وهو: أنه إذا كان الأصل نصابًا وكان الربح من جنس ذلك النصاب إنما من جنسه كان تبعًا للأصل في الملك فتبعه في الحول، هذه هي الرواية الأخرى.

إذن؛ أشار إليها المؤلف فلم يغفلها؛ لأن الحنفية والحنابلة من حيث الجملة مذهبهم واحد، لكن عند التفصيل يختلفون؛ لأن مذهب الحنفية فيه توسُّع مطلق، ومذهب الحنابلة قيدوه بأن يكون من جنسه، فكان مذهب الحنابلة أضيق من مذهب الحنفية، والمالكية في رواية أُخرى يلتقون مع الحنابلة في هذا القيد.

[المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]

عندما بدأت الدولة العثمانية تختلط بدول أوروبا، وأصبحت هناك تجارة، وكان التعامل بالقوانين أرادت الدولة في ذاك الوقت أن تضع نظامًا شرعيًّا، فوكلت ذلك إلى الذين اشتغلوا بالقوانين فلم يستطيعوا، ثم

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (3/ 153 - 154)؛ حيث قال:"إذا حال الحول على نصاب عنده فلم يخرج زكاته حتى ابتاع به سلعة فباعها بربح فإنه يزكي المال الأول ولا يزكي الربح لأن الربح لم يحل عليه الحول ولا يكون تابعًا لأصله".

ص: 3465

اختارت نخبة من العلماء فوضعوا "مجلة الأحكام العدلية"، فاستفادوا من المذاهب اللأخرى.

وتعلمون أن من العلماء الذين يُعنون بهذه المسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه قَل أن يدرس مسألة إلا ويُحررها، وينتهي فيها إلى رأي موفق، وما نقول: بأن الرجل معصوم، لكن الرجل يبذل كل ما يستطيع، ويستحضر أدلته في هذه المسائل فينتهي فيها إلى أمرٍ رشيد.

فمثلًا: قانون الأحوال الشخصية الذي يعرف في الفقه بنظام الأسرة، وأحكام النكاح، وقانون الأحوال الشخصية في مصر استمدت كثيرًا منه من رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في أقواله.

إذن؛ نجد عندما يُراد وضع أسس ضابطة يُرجع إليها ويُخرج فيها عن المذهب الذي يقيد به كما كان الحال بالنسبة لمجلة الأحكام العدلية تقيدها بمذهب أبي حنيفة.

* قوله: (وَأَمَّا المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ حَوْلُ الفَوَائِدِ).

قد يسأل سائل ويقول: أليس الربح هو الفوائد؟

الجواب: لا، يُقصد بالربح ربح المال. ويُقصد بالفوائد أموال وردت إليك، ليست من جنس المال الذي عندك.

* قوله: (فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا

(1)

عَلَى أَنَّ المَالَ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَاسْتُفِيدَ إِلَيْهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ رِبْحِهِ يَكْمُلُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا نِصَابٌ).

أما لو كان أقل من النِّصاب، واستفيد إليه مال من ربحه، فالذي

(1)

يُنظر: "الإقناع في مسائل الإجماع"، لابن القطان (1/ 214)؛ حيث قال:"ومن كان عنده من الدنانير والدراهم أقل من نصاب، فإنه لا خلاف أنه يضم إليها ما يستفيد حتى يكمل النصاب، فإذا كمل له نصاب استقبل به من يوم كمال النصاب بيده حولًا، هذا ما لا خلاف فيه".

ص: 3466

يرى أنه يُزكي إذا حل مالك؛ فهذا احتراز من مذهب مالك، وليس من مذهب الجمهور، فمذهب مالك على هذا يُزكى وهذه هي الدِّقة.

* قوله: (أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِ الحَوْلَ مِنْ يَوْمِ كَمُلَ).

ربح الفوائد: هذه جزئية مجمعٌ عليها، فمثلًا: إنسانٌ عنده مال، ولكن هذا المال لا يبلغ نِصابًا فاستفاد إليه مالًا آخر حتى ولو كان هذا المال عِدة أنصبة متتالية، فإن هذا المال لا يُزكى، وإنما يُعتبر وقته من وقت ملك النِصاب.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا إِذَا اسْتَفَادَ مَالًا، وَعِنْدَهُ نِصَابُ مَالٍ آخَرَ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الحَوْلُ).

واختلفوا إذا استفاد منه مالًا: فلو أن إنسانًا ملك نِصابًا، ثم ورث مالًا يبلغ نِصابًا، كأن أهدي إليه مال يبلغ نِصابًا، أو كسب مالًا يبلغ نِصابًا فتعددت عنده الأنصبة، فهل نقول: يضمها جميعه، ويُزكيها؟ أو أنه يضع وقتًا لكل واحد منها؟

لو جاءته دُفعةً واحدة فهذا لا خلاف فيه، بخلاف لو أتته متفرقة؛ فلو ملك مالًا يبلغ نِصابًا، ثم استفاد إليه مالًا أو أكثر يبلغ نِصابًا فما الحكم في ذلك؟ فهذه المسألة تختلف عن المسألة الأخرى، فذاك ربحٌ ربحت، وهذا مالٌ ورد عليه.

* قوله: (فَقَال مَالِكٌ

(1)

: يُزَكِّي المُسْتَفَادَ إِنْ كَانَ نِصَابًا لِحَوْلِهِ، وَلَا يُضَمُّ إِلَى المَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ).

هنا تغير مذهب مالك في هذه المسألة، ومن هنا نرى أن هذه غير تلك، فهناك من يُخطئ في فهم هذا الكتاب فيقول: المؤلف كرر المسألة! بل هذه مسألة تختلف عنها، وشتان بينهما.

(1)

يُنظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 462 - 463) حيث قال: "واستقبل حولًا بفائدة، وهي التي تجددت لا عن مال".

ص: 3467

ومن هنا مذهب الإمام مالك: هو لو أن إنسانًا ملك مالًا يبلغ نِصابًا، ثم استفاد مالًا آخر، فإذا حال الحول على المال الذي عنده وبلغ نِصابًا لا يُزكي معه الآخر؛ لأن هذا مال مستفاد، ولم يكن ذلك ربحًا للمال. وهذا هو مذهب أحمد

(1)

.

* قوله: (وَبِهَذَا القَوْلِ فِي الفَوَائِدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ

(4)

: الفَوَائِدُ كُلُّهَا تُزَكَّى بِحَوْلِ الأَصْلِ إِذَا كَانَ الأَصْلُ نِصَابًا، وَكَذَلِكَ الرِّبْحُ عِنْدَهُمْ).

فالحنفية: لا يفرقون بين المال المستفاد وبين الربح ما دام أصل المال قد بلغ نِصابًا وربِحَ ذلك المال أو استفاد إليه مالًا آخر فإنه يُزكي، وبذلك ينفردون عن غيرهم من الأئمة.

تختلف هذه المسألة عن السابقة: فهذا إنسان يملك نِصابًا فاستفاد مالًا آخر يبلغ نِصابًا، فإذا ما حال الحول على الأصل الذي عنده فهل يُزكي هذا المال المستفاد معه؟ أي هل يُعتبر تابعًا له، أم لا؟

يرى مالك: أن المال يُزكى، وإن لم يبلغ الأصل نِصابًا.

أما الحنفية والحنابلة: فقد قيدوا ذلك بأن يبلغ الأصل نِصابًا، لكن الحنابلة أضافوا شرطًا -ذكرناه فيما مضى- هو النماء أن يكون هذا الربح

(1)

يُنظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 394 - 397)؛ حيث قال:"وما عدا النتاج والربح من المستفاد ولو من جنس ما يملكه لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول".

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 92 - 94)؛ حيث قال:"ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه".

(3)

يُنظر: "فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 195 - 197)؛ حيث قال:"ومن كان له نصاب فاستفاد في أثناء الحول من جنسه ضمه إليه وزكاه به".

(4)

يُنظر: "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب"، للخزرجي المنبجي (1/ 358)؛ حيث قال:"وقد روي نحو مذهبنا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن الحسن البصري رحمه الله، وبه يقول سفيان الثوري".

ص: 3468

من جنس المال الأصلي فيشتركان في الملك، فيترتب عليه الاشتراك في الحول.

فهنا مالٌ استفيد إليه مالٌ آخر، فلا يُزكى المستفاد مع الأصل إذا حال عليه الحول، وقد عرفنا أن ذلك مذهب مالك، وأحمد، والشافعي، وعند أبي حنيفة يُزكى؛ إذن لا يرى الحنفية فرقًا بين ما يربحه المال، وبين ما يستفيده المالك.

(وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ المَالِ الوَارِدِ عَلَيْهِ؟ أَمْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَالٍ لَمْ يَرِدْ عَلَى مَالٍ آخَرَ؟).

- فإن قلنا: حكمه حكم المال الوارد عليه؛ فنزكيه معه.

- وإن قلنا: حكمه حكم مالٍ آخر لم يرد عليه؛ فلا نزكيه، فكيف نزكيه مع أنه يختلف عن هذا المال الذي ورد عليه؟

(فَمَنْ قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ مَالٍ لَمْ يَرِدْ عَلَى مَالٍ آخَرَ -أَعْنِي مَالًا فِيهِ زَكَاةٌ- قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي الفَائِدَةِ).

وهذا هو مذهب الجمهور.

* قوله: (وَمَنْ جَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ الوَارِدِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَالٌ وَاحِدٌ، قَالَ: إِذَا كَانَ الوَارِدُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِكَوْنِهِ نِصَابًا، اعْتَبَرَ حَوْلَهُ بِحَوْلِ المَالِ الوَارِدِ عَلَيْهِ).

هذا يشهد لأي القولين؟ هل يشهد للذين يقولون: بأن المستفاد يُزكى مع الأصل؛ أي: مع المال الذي عنده؛ أي: ما نعتبره أصلًا هنا، أو لا؟ لا شك أنه يشهد برأي الجمهور وهو: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول؛ فكيف تُزكي مالًا أو توجب على إنسان أن يزكي مالًا لم يحل عليه الحول؟

ص: 3469

* قوله: (وَعُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ"، يَقْتَضِي أَلَّا يُضَافَ مَالٌ إِلَى مَالٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ).

ولا دليل هنا فنبقى على الأصل.

* قوله: (وَكَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اعْتَمَدَ فِي هَذَا قِيَاسَ النَّاضِّ

(1)

عَلَى المَاشِيَةِ).

النَّاضُّ: وهو ما يُحصل عليه من بيع الأمتعة؛ أي: النقد الذي تحصل عليه من بيع المتاع.

* قوله: (وَمِنْ أَصْلِهِ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ فِي هَذَا البَابِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الحَوْلِ أَنْ يُوجَدَ المَالُ نِصَابًا فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، بَلْ أَنْ يُوجَدَ نِصَابًا فِي طَرَفَيْهِ فَقَطْ، وَبَعْضًا مِنْهُ فِي كلِّهِ، فَعِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَالٌ فِي أَوَّلِ الحَوْلِ نِصَابًا، ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُهُ، فَصَارَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا فِي آخِرِ الحَوْلِ صَارَ بِهِ نِصَابًا أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ).

وهذه هي وجهة الحنفية، وتعليلهم الأقوى.

أما عند الشافعية والحنابلة: يشترطون أنه إذا وجد عند إنسان نِصاب؛ فإنه يشترط أن يستمر إلى نهاية الحول، فإن ذهب شيءٌ منه فنقص يُعتبر منقطعًا فيستأنف الحول.

ومالكٌ: يعتبر النهاية؛ فلو طرأ عليه نقصٌ في أوله أو وسطه فهذا لا يؤثر المهم أنه عند النهاية يبلغ حولًا.

أما أبو حنيفة يعتبر الطرفين فيقول: فلو كان هناك نِصاب، ثم طرأ

(1)

الناض: "النون والضاد أصلان صحيحان أحدهما يدل على تيسير الشيء وظهوره، والثاني على جنس من الحركة. وأما الناض من المال فيقال: هو ما له مادة وبقاء، ويقال: بل هو ما كان عينًا. وإلى هذا يذهب الفقهاء في الناض". انظر: "مقاييس اللغة"، لابن فارس (5/ 357).

ص: 3470

عليه نقصٌ، أو هلك بعضه في أثناء العام، ثم جاء آخر العام فبلغ نِصابًا فإنه تجب زكاته؛ لسلامة الطرفين، ووجود الخلل في الوسط لا تأثير له؛ لأنه يعتمد في التقدير البداية والنهاية، أما الوسط فهذا يصعب رفضه. هذا هو تعليل الحنفية وهو الذي أشار إليه المؤلف ثانيًا.

* قوله: (وَهَذَا عِنْدَهُ مَوْجُودٌ فِي هَذَا المَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الحَوْلَ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ مَالٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، بَلْ زَادَ، وَلَكِنْ أُلْفِيَ فِي طَرَفَيِ الحَوْلِ نِصَابًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الحَوْلَ الَّذِي اشْتُرِطَ فِي المَالِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ لَا بِرِبْحٍ وَلَا بِفَائِدَةٍ، وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ إِذْ كَانَ المَقْصُودُ بِالحَوْلِ هُوَ كَوْنُ المَالِ فَضْلَةً مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا بَقِيَ حَوْلًا عِنْدَ المَالِكِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ، فَلَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ فِيهِ الزَّكَاةَ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا هِيَ فُضُولُ الأَمْوَالِ).

إن الزكاة إنما هي في فضول الأموال؛ أي: فيما زاد.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الحَوْلِ فِي المَالِ إِنَّمَا سَبَبُهُ النَّمَاءُ).

وهؤلاء هم الجمهور

(1)

.

(1)

لمذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 155)؛ حيث قال:"ولا بد من الحول لأنه لا بد من مدة يتحقق فيها النماء".

ولمذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 473)؛ حيث قال: "فإذا أقامت أحوالًا ثم بيعت لم يحصل فيها النماء إلا مرة واحدة فلا تجب الزكاة إلا مرة واحدة".

ولمذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 353)؛ حيث قال:"المعنى في اشتراط الحول أن يحصل النماء والنتاج نماء عظيمًا".

ولمذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"(1/ 394)؛ حيث قال: "الشرط الخامس لوجوب زكاة في أثمان وماشية وعروض تجارة: مضي حول على نصاب تام لحديث: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". رفقًا بالمالك، وليتكامل النماء فيواسي منه".

ص: 3471

* قوله: (فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: تُضَمُّ الفَوَائِدُ فَضْلًا عَنِ الأَرْبَاحِ إِلَى الأُصُولِ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ النِّصَابُ فِي طَرَفَي الحَوْلِ، مَاشِيَةٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكاةُ، ثُمَّ بَاعَهَا وَأَبْدَلَهَا فِي آخِرِ الْحَوْلِ بِمَاشِيَةٍ مِنْ نَوْعِهَا أَنَّهَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكاةُ، فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ أَيْضًا طَرَفَي الْحَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَخَذَ أَيْضًا مَا اعْتَمَدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي فَائِدَةِ النَّاضِّ الْقِيَاسَ عَلَى فَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ).

هذا هو تعليل المؤلف.

لكن نحن يظهر لنا أن مذهب الجمهور هو الأرجح؛ لأنه -كما ذكرنا مِرارًا، وكما هو معلوم في الشريعة الإسلامية- مراعاة الجانبين، فهي تراعي جانب الفقير ولا تغفل أيضًا حق المالك، وكذلك المال الذي يجب أن يُزكى ينبغي أن يكون النِّصاب متوفرًا فيه، أما أن يطرأ عليه خللٌ فينقص فهذا ما استوفى العام، ولا يطلق عليه بأنه قد مضى عليه حول وهو نِصاب، وإنما طرأ عليه النقص فوجد فيه خللٌ وهذا الخلل يتطلب أن يُستأنف باعتبار الحول.

* قوله: (وَلِذَلِكَ رَأَى مَالِكٌ: أَنَّ مَنْ كانَ عِنْدَهُ فِي أَوَّلِ الحَوْلِ مَاشِيَةٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكاةُ ثُمَّ بَاعَهَا وَأَبْدَلَهَا فِي آخِرِ الحَوْلِ بِمَاشِيَةٍ مِنْ نَوْعِهَا أَنَّهَا تجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ)

(1)

.

هذه مسائل أُخرى تكلم عنها العلماء؛ فلو أن إنسانًا كانت عنده ماشية، ثم باعها فأبدلها بماشية أخرى؛ فإنها تجب فيها الزكاة.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 438 - 439)؛ حيث قال: "كنصاب قنية من الماشية أبدله بنصاب عين أو ماشية من نوعها ولو لاستهلاك فإنه يبني على حول أصلها وهو المبدلة فيهما".

ص: 3472

* قوله: (فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ أَيْضًا طَرَفَي الحَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَخَذَ أَيْضًا مَا اعْتَمَدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي فَائِدَةِ النَّاضِّ القِيَاسَ عَلَى فَائِدَةِ المَاشِيَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ)

(1)

.

وعلى هذا؛ فلقد وافق المالكية مذهب الأحناف فيما ذهبوا إليه من اعتبار الطرفين، ولا عبرة بالنقص في أثناء الحول.

* قوله:

[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعةُ]

(وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ اعْتِبَارُ حَوْلِ الدَّيْنِ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ).

مراد المؤلف رحمه الله بعبارة (حَوْلِ الدَّيْنِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ):

يُفهَم من هذا أن هناك مَن لا يرى أن فيه زكاةً. فقد عرَفْنا أن هذا مذهبٌ لـ:

(1)

الشافعية في القديم

(2)

.

(1)

يُنظر: "فتح القدير"، للكمال بن الهمام (2/ 220)؛ حيث قال:"وإذا كان النصاب كاملًا في طرفي الحول فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة".

(2)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (3/ 130 - 131) حيث قال: " (والدَّين إن كان ماشية)، لا للتجارة، كأن أقْرضَه أربعين شاةً، أو أَسْلم إليه فيها ومضى عليه حولٌ قبل قبضه، (أو) كان (غيرَ لازم كمال كتابة فلا زكاة فيه)؛ لأن السَّومَ في الأولى شرط، وما في الذمة لا يتصف بالسَّومِ، ولأنها إنما تجب في مال تامٍّ، والماشية في الذِّمة لا تنمو، بخلاف الدراهم، فإن سبب وجوبها فيها كونها معدّةً للصَّرف، ولا فرق في ذلك بين النقد وما في الذمة، وما اعترض به الرافعي التعليل من جواز =

ص: 3473

(2)

وهو المنسوب لعائشةَ رضي الله عنها.

(3)

وإلى عكرمةَ.

(4)

وإلى غير هؤلاء.

(5)

وبعضهم نَسَبه إلى عبدِ اللَّه بنِ عمرَ

(1)

. فهؤلاء جميعًا لا يَرَون فيه زكاةً.

وعليه: فالقَيدُ الذي ذكرَه المؤلفُ رحمه الله وهو اعْتِبَارُ حَوْلِ الدَّيْنِ- هو فقط على قولِ مَن يقول: فيه زكاةٌ.

* قوله: (فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ مَا كَانَ دَيْنًا يُزَكِّيهِ لِعِدَّةِ ذَلِكَ).

مراد المؤلف رحمه الله بعبارة (لِعِدَّةِ ذَلِكَ)، يعني: مهما مَكَثَ من السِّنين، فإنه يُزكَّى عن تلك السِّنين.

* قوله: (إِنْ كَانَ حَوْلًا فَحَوْلٌ. وَإِنْ كَانَ أَحْوَالًا فَأَحْوَالٌ، أَعْنِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَوْلًا، تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ أَحْوَالًا وَجَبَتَ فِيهِ الزَّكَاةُ لِعِدَّةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ).

هذا القولُ لم يَنسِبْه المؤلف رحمه الله إلى قائل.

مع أنه قول الإمامين؛ أبي حنيفةَ

(2)

،. . . . . .

= ثبوت لحم راعية في الذمة، فحيث جاز ذلك جاز أن يثبت فيها راعية رد بأنه إذا التزمه أمكن تحصيله من الخارج، والكلام في أن السَّوم لا يتصور ثبوته في الذمة، وإنما يتصور في الخارج. ومثلُ الماشية المعشر في الذِّمة فلا زكاة فيه؛ لأن شرطها الزَّهو في ملكه ولم يوجد".

(1)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 71) حيث قال:"وقال عكرمة ليس في الدَّين زكاة. وروي ذلك عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم؛ لأنه غير نامٍ، فلم تجب زكاته، كعروض القنية. وروي عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني وأبي الزناد: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة".

(2)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 266، 227) " (قوله مليء): فعيل =

ص: 3474

وأحمد

(1)

. ونضيف هنا بأن الإمامين اشترطا ما يلي:

الشرط الأول: أن يكون هذا الدَّينُ الذي له عند شخص قد بلغ نِصابًا، كما هو معلوم.

وهذا مُشترَطٌ في جميع أموال الزكاة التي يُشترط فيها النِّصابُ.

الشرط الثاني: أن تكون زكاتُه له بعد قَبْضه، لا أثناءَ وجوده عند المَدِين.

وهذا القول قال به الشافعيةُ في القديم، ونُسِب أيضًا لبعض الصحابة، ولبعض التابعين، كما سبق.

* قوله: (وَقَوْمٌ قَالُوا: يُزَكِّيهِ لِعَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ أَقَامَ الدَّيْنَ أَحْوَالًا عِنْدَ الَّذِي عِنْدَهُ الدَّيْنُ).

هذا مذهب الإِمَامِ مالك

(2)

. وقال به أيضًا:

(1)

سعيدُ بن المُسيَّب من التابعين.

= بمعنى: فاعل وهو الغنيُّ. وفي المحيط عن المنتقى عن محمدة لو كان له دَين على والٍ وهو مقر به إلا أنه لا يعطيه، وقد طالبه بباب الخليفة فلم يعطه فلا زكاة فيه، ولو هرب غريمُه وهو يقدر على طلبه أو التوكيل بذلك فعليه الزكاة، وإن لم يقدر على ذلك فلا زكاة عليه. اهـ. (قوله أو على مُعسِر) الأصوب إسقاط على؛ لأنه عطف على مليء، نعت لمقر أيضًا لا مقابلَ له؛ لأنه لو كان غير مقرٍّ فهو المسألة المتقدمة. والأخصر قول الدرر على مقر ولو معسرًا. (قوله أي محكوم بإفلاسه) أفاد أن قوله: مفلَّس مشدد اللام، وقيد به؛ لأنه محل الخلاف؛ لأن الحكم به لا يصح عند أبي حنيفة، فكان وجوده كعدمه فهو معسر ومر حكمه، ولو لم يفلِّسه القاضي وجبت الزكاة بالاتفاق كما في العناية وغيرها؛ لأن المال غاد ورائح".

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 173) حيث قال:" (وتجب) الزكاة (أيضًا في دَين على غير مليءٍ)، وهو المعسر. (و) دَين (على مماطل وفي) دَينٍ (مؤجَّل، و) في (مجحودٍ ببينة أو لا)؛ لصحة الحوالة به والإبراء منه، فيزكِّي ذلك إذا قبضه لما مضى من السنين". رواه أبو عبيدة عن علي وابن عباس؛ للعموم كسائر ماله.

(2)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 468) حيث قال:"وإنما يزكَّى الدَّينُ المقبوض بشروطه (لسنة) فقط، ولو أقام عند المدين سنين".

ص: 3475

(2)

وهو أيضًا مَرْويٌّ عن عطاءِ بن أبي رباح.

(3)

وعن عطاء الخُرَساني

(1)

.

* قوله: (وَقَوْمٌ قَالُوا: يُسْتَقْبَلُ بِهِ الْحَوْلُ).

وهذا هو الذي أشَرْنا إليه سابقًا بأنه قول الشافعي في القديم، وليس الجديد

(2)

.

وهو أيضًا ما نقل عن عائشة

(3)

رضي الله عنها، وعن عِكرمةَ

(4)

.

* قوله: ([وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُسْتَقْبَلُ بالدَّيْنِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ قُبِضَ، فَلَمْ يَقُلْ بِإِيجَابِ الزَّكاةِ فِي الدَّيْنِ]

(5)

. وَمَنْ قَالَ: فِيهِ الزَّكاةُ بِعَدَدِ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَقَامَ، فَمَصِيرًا إِلَى تَشْبِيهِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ الْحَاضِرِ).

المالُ الحاضِر يُزكَّى، كما هو معلوم.

ولو أن إنسانًا فوَّت عامًا دون أن يُخرِج زكاته، فإنها لا تَسقط عنه، ويلزمُه أن يؤدِّيها.

(1)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (3/ 71) حيث قال:"وروي عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني وأبي الزناد: يزكِّيه إذا قبضه لسنة واحدة".

(2)

أما مذهبه في الجديد، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 125) حيث قال:(وإن تيسر) أخذه بأن كان على مليء مقر حاضر باذل أو جاحد وبه بينة أو يعلمه القاضي، وقلنا: يقضي بعلمه. (وجبت تزكيته في الحال)؛ لأنه مقدور على قبضه فهو كالمودَع، وكلامه يفهم أنه يخرج في الحال وإن لم يقبضه، وهو المعتمد المنصوص في المختصر. وقيل: لا حتى يقبضه فيزكيه لما مضى، ولو أمكنه الظفر بأخذ دَينه من مال الجاحد حيث لا بينة من غير خوف ولا ضرر لم يجب الإخراج في الحال، كما هو المتبادر من كلام الشيخين وغيرهما، وإن كان قضية كلام ابن كج والدارمي تزكيته في الحال.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

(5)

الجملة بين المعقوفين: سقطت من هذا الملف، واستدركتها من مطبوعة دار المعرفة للبداية؛ فليحرر ذلك.

ص: 3476

فكذلك أيضًا المال الذي عند المَدِين.

* قوله: (وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الزَّكاةُ فِيهِ لِحَوْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ أَقَامَ أَحْوَالًا، فَلَا أَعْرِفُ لَهُ مُسْتَنَدًا فِي وَقْتِي هَذَا).

كذلك أيضًا نحن نرى العلماء يسرُدون هذا القول، ولا ينسبونه لأحد. لكن يبدو أن الملاحظة فيه هي التيسير، فهذا مالٌ ليس فيه نَماء، فمن باب التيسير يُقتصَر على عامٍ واحد. فلعله لوحِظ في ذلك جانبُ المصلحة التي يراعيها المالِكيَّة كما عرَفتم.

وكما مرت بنا في مسائلَ كثيرة، فإنهم كثيرًا ما يُعْنَوْنَ بالمسائل ذاتِ العَلاقة بالمصالح المُرْسَلَة

(1)

.

* قوله: (لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مَا دَامَ دَيْنًا أَنْ يَقُولَ: إِنْ فِيهِ زَكاةً، أَوْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ).

المؤلف رحمه الله وهو مالكي المذهب- يردُّ على المالكية.

وسبق أن رأيناه في عِدَّة مسائل ينقُد مذهبهم.

وهذا يدل -كلما قلنا سابقًا- على أن لا تعصُّبَ عنده.

فهو هنا يضعهم بين أمرين:

الأمر الأول: إما أن يقولوا بأن هذا المال لا زكاةَ فيه؛ لأنه لا نماءَ له.

الأمر الثاني: أو يقولوا بإخراج زكاته عن كل الأعوام.

ولكن: ما الدليل على القَصْرِ على زكاةٍ واحدة؟

والجواب: لعلهم راعوا جانب المصلحة؛ فهذا مالٌ لا نماءَ له، فأرادوا تحقيقَ أمرين:

(1)

المصالح المرسلة هي: "حكم لا يَشهَد له أصل من الشرع اعتبارً وإلغاءً". انظر: "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب"(3/ 286).

ص: 3477

الأمر الأول: ألا يُضيعوا حقَّ الفقراء والمساكين في هذا المال.

الأمر الثاني: ألا يُرهِقوا الغنيَّ المالكَ. فتوسَّطوا في ذلك، وقالوا: يُزكَّى عامًا واحدًا فقط.

* قوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ، فَلَا كَلَامَ، بَلْ يُسْتَأْنَفُ بِهِ).

المؤلف رحمه الله يريد أن يقول: إن قلتم: لا زكاة في هذا المال، بل يُستأنف به العامَ الجديد، فلا نقاشَ؛ لأن هذا المالَ لا نماءَ فيه.

* قوله: (وَإِنْ كَانَ فِيهِ زَكَاةٌ: فَلَا يَخْلُو أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا الْحَوْلُ، أَوْ لَا يُشْتَرَطَ ذَلِكَ، فَإِنِ اشْتَرَطْنَا: وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ عَدَدُ الْأَحْوَالِ).

المؤلف رحمه الله يريد أن يقول: إن قلتم يُزكَّى هذا المال، فلا بد من اشتراط حول، كما رأينا الإجماعَ على ذلك، وورد به الحديث الذي تُكُلِّم في صحته.

لكن إذا اشترطتم الحَولَ: فلماذا تقيدوه بحَول واحد؟

هذا ما يريد أن ينتهي إليه المؤلف رحمه الله.

* قوله: (إِلَّا أَنْ يَقُولَ: كُلَّمَا انْقَضَى حَوْلٌ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهِ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَقُّ اللَّازِمُ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ).

المؤلف رحمه الله يريد أن يتلمَّس لهم حجَّة على قولهم هذا، فيقول: إلا أن يُقال: عندما ينتهي حَوْلٌ، ولم يُسلَّم هذا المال إلى صاحبه فنقول: سقطت زكاته. فإذا جاء عامٌ آخرُ، ولم يؤدِّ المَدين هذا الدَّين لصاحب الحق فتسقط زكاته أيضًا عن هذا العام.

فإذا سلَّمه مثلًا في العام الثالث، فيُزكَّى عن هذا العام وحدَه، ولا يُزكَّى عن العامَين الأول والثاني؛ لأنه قد سقطت زكاتهما؛ لعدم تسلُّمِه مالَه أصلًا.

فهذا هو تعليل المؤلف وجوابه عن هذا القول.

ص: 3478

وظاهر من هذا أنهم قد راعوا المصلحة، فهذا المال توقف وتعطلت منافعه، فما أرادوا أن يضيعوا حق الفقير فيه، ولا أرادوا أيضًا أن يرهقوا كاهِلَ الغَنيِّ، فتوسطوا؛ فقالوا هذا القول.

* قوله: (فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِشَرْطَيْنِ: حُضُورِ عَيْنِ الْمَالِ، وَحُلُولِ الْحَوْلِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَقُّ الْعَامِ الْأَخِيرِ).

الزكاة تجب بشرطين:

الشرط الأول: حُضورُ الْمَالِ؛ أي: وجوده وقد بلغ نِصابًا.

والمقصود بالحضور هنا: أن يُستلَم؛ أي: يُقبَض من المَدِين.

الشرط الثاني: مرور حول -أي: عام هجري- على هذا المال بعد قَبْضه.

* قوله: (وَهَذَا يُشَبِّهُهُ مَالِكٌ بِالْعُرُوضِ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِيهَا زَكاةٌ، إِلَّا إِذَا بَاعَهَا - وَإِنْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ أَحْوَالًا كَثِيرَةً).

لعلكم تذكرون أن الإمام مالكًا

(1)

رحمه الله خالف جمهور الفقهاء

(2)

في

(1)

في رواية له. يُنظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 331) حيث قال:"ولا زكاة في أعواض (العروض) ومثلها الكتب والحديد وسائر أنواع الحيوانات التي لا زكاة في أعيانها".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، لابن الهمام (2/ 218) حيث قال:"الزكاة واجبة في عروض التجارة كائنة ما كانت إذا بلغت قيمتها نصابًا من الورق أو الذهب. . . ولأنها معدة للاستنماء بإعداد العبد فأشبه المعد بإعداد الشرع، وتشترط نية التجارة ليثبت الإعداد. قال (يقومها بما هو أنفع للمساكين)؛ احتياطًا لحق الفقراء".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 476) حيث قال: "وإن اجتمع عند شخص إدارة في عرض واحتكار في آخر وتساويا، أو احتكر الأكثر وأدار الأقل، فكلٌّ على حُكْمه فيهما، يزكِّي المدار كل عام والمحتكر بعد بيعه على ما تقدم، وإلا إن أدار الأكثر فالجميع للإدارة ويبطل حكم الاحتكار".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 381) حيث قال: =

ص: 3479

هذه المسألة، فهو يرى أن عُروض التجارة

(1)

لا تجب فيها الزكاة إلا إذا بِيعت.

وجمهور العلماء يرون أنها تُقوَّم في كل عام، وتُزكَّى.

وهذا قد أخذناه في مطلع مباحث عُروض التجارة، عندما تكلمنا عن ذلك، وأورد ذلك أيضًا المؤلف.

ورأينا أن التجار ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: تاجر متربِّص

(2)

، يتحيَّن الفرصة لبيع بضاعته.

القسم الثاني: تاجر مُدير؛ لأنه يحرك بضاعته فيبيع ويشتري فيها.

فالإمام مالك يرى أن عروض التجارة كالدَّين تمامًا لا تجب فيها الزكاة إلا إذا بيعت. فكما أن الدَّين لا زكاة فيه إلا إذا قُبض كذلك عُروض التجارة لا زكاةَ فيها إلا إذا بيعت.

أما جمهور العلماء

(3)

فيقولون: لا، بل إذا مضى على عروض

= "ومتى ملك عرْضًا بمعاوضة بقصد التجارة وهي تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح تهيَّأ للزكاة؛ أي: لوجوبها بعد مضي حولها المنعقد من حينئذ، سواء اشتراه بنقد أو عرض قُنْية".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 435) حيث قال:"وتقوَّم عروض تجارة إذا تم الحَول بالأحظ للمساكين، يعني: أهل الزكاة من ذهب أو فضة، كأن تبلغ قيمتها نصابًا بأحدهما دون الآخر، فتقوَّم به لا بما اشتريت به من حيث ذلك؛ لأنه تقويم مال تجارة للزكاة، فكان بالأحظ لأهلها، كما لو اشتراها بعرض قنية وفي البلد نقدان متساولان غلبة، وبلغت نصابًا بإحداهما دون الآخر".

(1)

العُروض: جمع عرْض بسكون الراء، وما كان من مال غير نقد، وما عدا العقار، والحيوان، والمكيل، والموزون. انظر:"المطلع على ألفاظ المقنع"، للبعلي (ص: 173).

(2)

التربص: طول الانتظار، يكون قصير المدة وطويلها، ومن ثم يُسمَّى المتربص بالطعام وغيره متربصًا؛ لأنه يطيل الانتظار لزيادة الربح. انظر "الفروق اللغوية" للعسكري (ص: 76).

(3)

تقدم.

ص: 3480

التجارة عامٌ فإنها تُقوَّم، وتُخرَجُ زكاتها؛ من النقدين، رُبع العُشْر، كما يُزكَّى النقدان؛ الذهب والفضة.

وقد أشرنا إلى مسألة لم يَعْرِض لها المؤلف.

وهي أن بعض العلماء يشترط أيضًا أن تُخرَج الزكاة من عُروض التجارة مما فيه مصلحة للمساكين؛ فإن كان الأصلح للمساكين إخراجَها من الذهب يُخرِجه، وان كان الأصلح لهم إخراجَها من الفضة أُخرِجت فضة

(1)

.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 384، 385) حيث قال. " (يقومها بما هو أنفع للمساكين؛ احتياطًا لحق الفقراء). ش: أي يقوم العروض التي للتجارة بالذي هو أنفع للفقراء، وهو أن يقوِّمها بأنفع النقدين، وبه قال أحمد؛ لأن المال في يد المالك في زمان طويل وهو المنتفع فلا بد من اعتبار منفعة للفقراء عند التقويم، ولا بد أن يقوَّم بما يبلغه نصابًا حتى إذا قوِّمت بالدراهم تبلغ نصابًا، وإذا قوِّمت الذهب لا تبلغ نصابًا تقوَّم بالدراهم، وبالعكس كذلك. . . . (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه بالتقويم بما هو أنفع للمساكين م: (رواية عن أبي حنيفة رحمه الله. ش: في التقويم أربعة أقوال؛ أحدهما: هذا المذكور عن أبي حنيفة وكذا ذكر في "الأمالي " يقومها بأنفع النقدين للفقراء، وفي "التحفة " و"القنية": يقومها بأوفر القيمتين وأنظرهما وأكثرهما زكاة".

مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 323) "وإذا قلنا بالتقويم فيقوم ما يباع بالذهب وما يباع غالبًا بالفضة بالفضة؛ لأنها قيم الاستهلاك فإذا كانت تباع بهما واستويا بالنسبة إلى الزكاة يخير وإلا فمن قال:"الأصل في الزكاة الفضة" قوم بها، وإن قلنا: إنهما أصلان فيعتبر الأفضل للمساكين؛ لأن التقويم لحقهم، انتهى. وقال في الشامل: وقوم بالذهب ما يباع به غالبًا، كورق وخير فيما يباع بهما".

مذهب الشافعية، يُنظر:"روضة الطالبين"، للنووي (2/ 274 - 276) "فرع فيما يقوم به مال التجارة لرأس المال أحوال؛ أحدها: أن يكون نقدًا نصابًا، بأن يشتري عرضًا بمائتي درهم، أو عشرين دينارًا، فيقوَّم في آخر الحول به، فإن بلغ به نصابًا زكّاه، وإلا فلا. وإن كان الثاني غالب نقد البلد، ولو قوّم به لبلغ نصابًا، حتى لو اشترى بمائتي درهم عرْضًا، فباعه بعشرين دينارًا وقصد التجارة مستمر، فتم الحول والدنانير في يده، ولا تبلغ قيمتها مائتي درهم، فلا زكاة. هذا هو المذهب المشهور. وعن صاحب "التقريب" حكاية قول: أن التقويم أبدًا يكون بغالب نقد البلد، ومنه =

ص: 3481

وهؤلاء أيضًا يراعون السائد في السوق، يعني: أيهما الذي يُتعامَل به في السوق؛ أهي الفضة، أو الذهب؟

فالذي درَج التعامل به هو الذي تُخرَج به الزكاة.

أما إذا استوت العملتان في ذلك فلا فرق بين أن يُخرجها ذهبًا، أو فِضة.

* قوله: (وَفِيهِ: شَبَهٌ مَا بِالْمَاشِيَةِ الَّتِي لَا يَأْتِي السَّاعِي).

يذكر المؤلف رحمه الله أن هذه المسألة تشبه الْمَاشيَة الَّتِي لَا يَأْتِي السَّاعِي أَعْوَامًا إِلَيْهَا.

فهو يُشير إلى مسألة الخَرْصِ

(1)

التي مرت بنا

(2)

.

= يخرج الواجب، سواء كان رأس المال نقدًا أم غيره، وحكى الروياني هذا عن ابن الحداد. الحال الثاني: أن يكون نقدًا دون النصاب، فوجهان؛ أصحهما: يقوم بذلك النقد، والثاني: بغالب نقد البلد كالعرض. . . . ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 241) حيث قال: " (بالأحظ لأهل الزكاة وجوبًا من عين)؛ أي: ذهب (أو وَرِق. قال الجوهري: الوَرِق الدراهم المضروبة، وفيه أربع لغات: ورق كوتد، وورق كفلس، وورق كقلم، ورقة كعدة سواء كان) الأحظّ لأهل الزكاة من نقد البلد، وهو الأولى؛ لأنه أنفع للآخذ. (أوْ لا)؛ أي: أو من غير نقد البلد؛ لأن التقويم لحظِّ أهل الزكاة فتقوم بالأحظ لهم، وسواء بلغت قيمتها -أي: العروض- (بكل منهما) -أي: العين والورِق- نصابَا، (أو) بلغت نصابًا (بأحدهما) دون الآخر. (ولا يعتبر ما اشتريت به من عين أو ورق، لا قدْرًا ولا جِنسًا). روي عن عمر؛ لأن في تقويمها بما اشتريت به إبطالًا للتقويم بالأنفع".

(1)

خرَص النخل إذا حزَر ما عليها من الرطب تمرًا ومن العنب زبيبًا، فهو من الخرْص: الظن؛ لأن الحزر إنما هو تقدير بظن. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير (2/ 22).

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال ابن الهمام (2/ 245) حيث قال: "قال الإمام: يجب عليه عشر ما أكل أو أطعم، ومحمد يحتسب به في تكميل الأوسق، يعني: إذا بلغ المأكول مع ما بقي خمسة أوسق يجب العشر في الباقي لا في التألف. وأما أبو يوسف فلا يعتبر الذاهب، بل يعتبر في الباقي خمسة أوسق إلا أن =

ص: 3482

فالساعي هو الذي يأخذ الصدقة -أي: الزكاة- من أصحاب الأموال، ومن أصحاب الماشية، ومن أصحاب الحبوب، والثمار.

فهل بتأخُّر الساعي سنةً أو سنتين عن أصحاب الأموال تسقط زكاةُ أموالهم التي بلغت ثمارُها، أو حبوبُها، أو ماشيتُها نِصابًا؟ أو لا تسقط الزكاة عنهم؟

نقول: هذا حقٌّ أوجبه اللَّه عز وجل على الغنيِّ؛ فلا يسقط بعدم وجود الساعي.

وسيعرض المؤلف أيضًا لمسألة مهمة وهي: ربط إخراج الزكاة بالإمام. فهل يلزم أن تُسلَّم الزكاة للإمام -على أن هذا هو الأصل- أو لا يلزم ذلك؟

وكذلك مسألة: لو أُخِذت منه الزكاة قهرًا؛ فهل يُعتبر مؤدِّيًا لها، أو لا؟

لأنه -كما أشرت فيما مضى- وُجِد في بعض العصور الإسلامية فِرقٌ خرجت على المسلمين، واستولت على بعض بلادهم، فأخذوا مثل هذه الزكاة؛ فهل نقول: إن الذي أُخذت منه الزكاة قَسرًا وقهرًا يُطالَب بها مرة أخرى، أو لا؟

= يأخذ المالك من المتلف ضمان ما أتلفه فيخرج عشره وعشر ما بقي".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 452): حيث قال: "ولما كان الخرص بالفتح وهو الحزر إنما يدخل في الثمر والعنب دون غيرهما أفاد المؤلف ذلك بصيغة الحصر مع بيان وقته مشيرًا للعلة في ذلك بقوله: وإنما يخرص التمر بمثناة والعنب". وانظر "حاشية الصاوي"(1/ 617).

ومذهب الشافعية، يُنظر:"الغرر البهية في شرح البهجة الوردية"، لزكريا الأنصاري (2/ 151) حيث قال:"يندب الخرص لكل الشجر". وانظر: "تحفة المحتاج"، للهيتمي (3/ 256).

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع"، للحجاوي (1/ 263) حيث قال:"ويسن أن يبعث الإمام ساعيًا خارصًا إذا بدا صلاح الثمر". وانظر: "شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 421).

ص: 3483

والجواب: أن الزكاة قد سقطت عنه على الرأي الصحيح.

* قوله: (أَعْوَامًا إِلَيْهَا).

يعني المؤلف رحمه الله بذلك أنه لو وُجد إنسان عنده ماشية، وقد حال عليها الحولُ، ووجبت فيها الزكاةُ، ولكن لم يأتِ الساعي إليه هذا العام، وتكرر ذلك كله في العام الذي يليه، تم جاء الساعي في العام الثالث، فهل نقول لصاحب الإبل والبقر والغنم: لا زكاةَ عليك في الأعوام السابقة؛ لأن الساعي لم يأتِ؟

وبعبارة أخرى: هل عدم وجود الساعي يُسقِط فرض الزكاة في العامَين الأولين؟

الجواب: لا يُسقطها.

* قوله: (ثُمَّ يَأْتِي، فَيَجِدُهَا قَدِ انْقَضَتْ: فَإِنَّهُ يُزَكِّي).

هذا عند من يرى أنها لا تُسلَّم إلى الساعي.

بخلاف من ينظر إلى أنها واجبة، وبجب إخراجها كالخرص

(1)

، بحيث إذا لم يأتِ الخارص فيلزم صاحب المال أن يخرص الثمر أو الحَبَّ ويترك لنفسه الثلث أو الربع، وهذا أمر بينه وبين اللَّه، فَإِنَّهُ يُزَكِّي.

* قوله: (عَلَى مَذْهَبِ مَالَكٍ: الَّذِي وُجِدَ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ).

وبهذا يتبين أن الإمام مالكً رحمه الله راعَى جانب اليسر والتخفيف على الناس، وعدم إلحاق المشقة بهم. فالزكاة لم تُفرَض على الأغنياء لتكون تشديدًا عليهم، وإنما فُرِضت تطهيرًا لأموالهم، وتزكيةً لنفوسهم. وفيها إعزاز للفقراء، ورفعٌ لأحوالهم، وسدٌّ للخَلّة التي تنشأ عن الفقر، والمسكنة.

(1)

تقدم تعريفه.

ص: 3484

* قوله: (فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ؛ إِذْ كَانَ مَجِيءُ السَّاعِي شَرْطًا عِنْدَهُ فِي إِخْرَاجِهَا، مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ سَقَطَ عَنْهُ حَقُّ ذَلِكَ الْحَوْلِ الْحَاضِرِ، وَحُوسِبَ بِهِ فِي الْأَعْوَامِ السَّالِفَةِ، كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، إِذَا كَانَتْ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ).

المؤلف رحمه الله لم يفصِّل هذه المسألة؛ وإنما ذكرها عرضًا. وهذا رأي الإمام مالك

(1)

.

أما غيره من الفقهاء

(2)

فيرون عدم سقوط الزكاة بتأخُّر الساعي.

* قوله: (وَهُوَ شَيْءٌ يَجْرِي عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ مَالِكٌ فِيهِ الْعَمَلَ).

يصرح المؤلف رحمه الله هنا بأن هذا المسلك الذي سلكه الإمام مالك ومن وافقه من المالكية لا يجري على نَسقِ القياس.

(1)

يُنظر: "مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 275) حيث قال:"وإذا أتى الساعي بعد غيبته سنين فقال له رجل معه ألف شاة: إنما أخذتها مني منذ سنة أو سنتين فهو مصدق بغير يمين ويزكيه لما قال. انتهى. يعني: يزكيه على ما يجده لما قال من السنين، وقول المصنف "وصدق"، يعني: أن صاحب الماشية مصدَّق في الوقت الذي كملت فيه نصابًا. نقله في التوضيح عن الباجي".

(2)

مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع"، للنووي (6/ 166)"لو طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وجب التسليم إليه بلا خلاف بذلًا للطاعة، فإن امتنعوا قاتلهم الإمام، وإن كانوا مجيبين إلى إخراجها بأنفسهم؛ لأن في منعهم افتياتًا على الإمام، فإن لم يطلب الإمام ولم يأت الساعي، وقلنا: يجب دفعها إلى الامام أخَّرها رب المال، ما دام يرجو مجيء الساعي، فإذا أيس منه فرَّقها بنفسه. نص عليه الشافعي".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 255):" (لا يجوز تأخيره)، أي تأخير إخراج زكاة المال (عن وقت وجوبها، مع إمكانه فيجب إخراجها على الفور،. . . (إلا أن يخاف) من وجبت عليه الزكاة، (ضررًا) فيجوز له تأخيرها نص عليه؛ لحديث: "لا ضرر ولا ضرار". (كرجوع ساع) عليه إذا أخرجها هو بنفسه، مع غيبة الساعي (أو خوفه على نفسه أو ماله ونحوه)؛ لما في ذلك من الضرر".

ص: 3485

وإنما اعتمدوا في ذلك على عملٍ وجدوه فعملوا على ضوئه. فالقياس

(1)

يُسعف جمهور العلماء هنا دون المالكية؛ لأننا بين أمرين:

الأمر الأول: إما أن نقول بوجوب الزكاة فيلزم أن نعمم ذلك على جميع الأحوال.

الأمر الثاني: وإما أن نقول بعدم وجوب الزكاة فلا مفرَّ من أن نستقبل بالمال عامًا جديدًا، وحينئذٍ لا زكاةَ فيما مضى من أعوام.

* قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَرَاهُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَجِيءُ السَّاعِي شَرْطًا عِنْدَهُ فِي الْوُجُوبِ).

قد وافق الإمامُ أحمد

(2)

الإِمَامَ الشافعي

(3)

في هذه المسألة، وأعتقد أيضًا أن الحنفية

(4)

معهما.

* قوله: (وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ مَالِهِ، إِلَّا بِأَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ، فَعُدِمَ الْإِمَامُ، أَوْ عُدِمَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ - إِنْ كانَ مِمَّنْ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي ذَلِكَ).

هذا الرأي: فيه تشديد على الناس، ونتعرض هنا لاشتراط الإمام العادل، فنقول: كأنَّ هذا ممن يريد أن يوجد إمام عادل بصفات متعددة. ولا شك أن العدل قد وُجد -بحمد اللَّه- في بعض أئمة المسلمين.

والعدل قد يختلف فيه الناس:

(1)

فهناك من يرى أن هذا عدْل في أحكامه، ومنهجه.

(1)

القياس: هو رد الفرع إلى الأصل بعلة تجمعهما في الحكم. انظر: "الورقات"، للجويني (ص: 26).

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

ص: 3486

(2)

وقد يأتي إنسان انحرف عن الطريق السوي، وتنكَّب طريق الغواية، وتبعَ فرقةً من الفرق فيرى أن هذا الإمام ليس عادلًا.

فنقول: هذا الأخير ليس مقياسًا.

ولو قُدِّر أن الإمام فاسق فإنه يُطاع في هذه الأمور. ودليل ذلك:

‌أولًا: من الكتاب:

أن اللَّه عز وجل يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

‌ثانيًا: من السنة:

أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى طاعة أولي الأمر، وذلك في أحاديث كثيرة، وحض الإنسان على ذلك، حتى وإن ضُرب، أو أُخذ ماله فعليه أن يسمع، ويطيع

(1)

.

أما وجود مثل هذه الأمور فهذه قد تؤدي إلى الخلاف أكثر، مما قد تؤدي إلى الوفاق.

فلا يلزم تحقق عدل الإمام لتدفع له الزكاة، وإنما المهم أن يأخذ الزكاة ويصرفها في مصارفها.

ومصارف الزكاة تولى اللَّه عز وجل بيانَها بنفسه -كما سيأتي ذلك- ولم يترك ذلك لنبيٍّ، ولا لغيره.

فقد حدد اللَّه تعالى مَن تُصرف لهم الزكاة ونص على أنهم ثمانية -

(1)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (1847) وغيره، عن حذيفة بن اليمان: قلت: يا رسول اللَّه، إنا كنا بشر، فجاء اللَّه بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال:"نعم". قلت: هل ورأء ذلك الشر خير؟ قال: "نعم". قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: "نعم". قلت: كيف؟ قال: "يكون بعدي أئمةٌ لا يهتدون بهداي، ولا يستنُّون بسنَّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس". قال: قلت: كيف أصنع يا رسول اللَّه، إن أدركت ذلك؟ قال:"تسمعُ وتطيعُ للأمير، وإن ضَرب ظهرَك، وأخذَ مالك، فاسمعْ وأَطِعْ".

ص: 3487

وسيأتي الكلام عنهم في باب مستقل في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: 60].

فهؤلاء هم الذين تدفع إليهم الزكاة على خلاف بين العلماء في بعض تعريفات بعضهم.

وفي المؤلفة قلوبهم خلاف لأهل العلم أيضًا، كما سيأتي، وكذا لهم خلاف في كلٍّ من الغارِم، وابن السبيل، كما سيأتي.

* قوله: (أَنَّهُ إِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ، وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ).

خطورة فقد الإمام، لا شك في أنه لو عاش الناس يومًا بلا إمام لحصل فساد عظيم.

فاللَّه عز وجل عندما أنزل آدم عليه السلام قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. فاللَّه عز وجل خَلق الخلْق لعبادته، ولعمارة هذا الكون.

لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم

وَلا سَراةَ إِذا جُهَّالُهُم سادُوا

(1)

وعليه: فلا بد من وجود حاكم لما يلي:

(1)

ليقودَ الناس، ويوجههم.

(2)

وليأخذ على يدي الظالم فيأطره على الحق أطرًا، ويأخذ منه حق الضعيف.

وقد رأينا ذلك في:

(1)

خطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(1)

ينسب للأفوه الأودي. انظر: "العقد الفريد"، لابن عبد ربه (1/ 11).

ص: 3488

(2)

وكذا في خطبة أبي بكر رضي الله عنه عندما تولى بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فخلو الزمان -ولو كان يسيرًا- من إمام للمسلمين يُوجِدُ بلا شك فسادًا عريضًا. فوجود أئمة للمسلمين أمرٌ لازم ومتعين.

وهذا ما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقد أقام أولى دولة في الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم المسؤول الأول عنها.

ولما توفِّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التَقى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه:

(1)

والذي قال اللَّه عز وجل عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40].

(2)

والذي اختاره صلى الله عليه وسلم وقدَّمه في الصلاة

(1)

. فقالوا: كيف يختارك رسول اللَّه لأمر دينِنا، ولا نختارك لأمر دنيانا؟! ثم يرشِّح أبو بكر عمرَ رضي الله عنه بعده للخلافة

(2)

. ولقد أصاب رضي الله عنه في ذلك، ثم جعلها عمر رضي الله عنه شُورى من بعده

(3)

. وهكذا مرَّ هذا النسق في البلاد الإسلامية.

(1)

لعل المصنف يُشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (421) عن سهل بن سعد الساعدي: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف؛ ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم. قال: فصلى أبو بكر فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فثخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك. فرفع أبو بكر يديه فحمد اللَّه عز وجل على ما أمره به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم انصرف فقال:"يا أبا بكر، ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ " قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ مَن نابه شيء في صلاته فليسبِّحْ، فإنه إذا سبَّح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء".

(2)

يُنظر: "تاريخ الطبري "(3/ 428)، "البداية والنهاية"، لابن كثير (9/ 574).

(3)

يُنظر: "البداية والنهاية"، لابن كثير (10/ 208) حيث قال: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر، وهم: عثمان بن عفان، =

ص: 3489

وسيأتي -إن شاء اللَّه تعالى- الكلام عن الحاكم تفصيلًا، وسنعرف هناك في مباحثه حقوق الحاكم، وحقوق الرعية إلى غير ذلك مما يتعلق بهذه المسائل.

أما المسألة التي أشار إليها المؤلف رحمه الله هنا وهي عدل الإمام، فهذه فقضية لا يمكن أن تقومها فئة من الناس، وإنما إذا وُجد إمام فإنه يُطاع حتى ولو كان فاسقًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"اسمَعُوا وأطيعوا، وإنْ تَأمَّر عليكم عبدٌ حبَشيٌّ، كأنَّ رأسَه زَبيبةٌ"

(1)

.

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا خلْفَ من قال: لا إله إلا اللَّه، وعلى من قال: لا إله إلا اللَّه"

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: "الصلاةُ واجبة عليكم خلفَ كلِّ إمام -برًّا كان أو فاجرًا- والجهاد واجب عليكم خلف كل إمام - برًّا كان، أو فاجرًا"

(3)

.

فما ذكره المؤلف هنا ذكره عرضًا لا مُسلَّمًا، ولو دخلنا في تفصيل ذلك لطال بنا المقام.

= وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد اللَّه، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم. وتحرج أن يجعلها إلى واحد من هؤلاء على التعيين، وقال: لا أتحمل أمركم حيًّا وميتًّا، وإن يرد اللَّه بكم خيرً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم".

(1)

أخرجه البخاري (693) عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل حبشي، كأن رأسه زبيبة".

(2)

أخرجه الدارقطني (2/ 401)(1761) عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صلوا على من قال: لا إله إلا اللَّه، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا اللَّه". وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(2/ 305).

(3)

رواه أبو داود (2533) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير - برًّا كان أو فاجرًا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم -برًّا كان أو فاجرًا- وإن عمل الكبائر. والصلاة واجبة على كل مسلم -برًّا كان أو فاجرًا- وإن عمل الكبائر". وضعفه الألباني في المشكاة (1125).

ص: 3490

* قوله: (وَمَالِكٌ

(1)

: تَنْقَسِمُ عِنْدَهُ الدُّيُونِ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ - أَعْنِي: أَنَّ مِنَ الدُّيُونِ عِنْدَهُ مَا يُزَكى لِعَامٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، مِثْلُ دُيُونِ التِّجَارَةِ).

يقصد المؤلف رحمه الله أنه مِثْلُ ديون عُروض التجارة، وكذلك الدَّين الذي رأينا.

* قوله: (وَمِنْهَا: مَا يُسْتَقْبَلُ بِهَا الْحَوْلُ، مِثْلُ: دُيُونِ الْمَوَارِيثِ).

توضيح المراد بديون المواريث:

يعني إذا ورث أناسٌ ميراثًا ما؛ فالإمام مالك يرى بأنهم يُزكون عما مضى، وأما غيره من الأئمة؛ فمنهم من وافقه على ذلك، ومنهم من خالفه.

مثال: لو كان عند إنسانٍ مال فمضى جزء من الحَول، ثم مات هذا الشخص فهل تسقط الزكاة فيه؟

وبعبارة أخرى: هل يُستأنَف به الحول باعتبار أنه انتقل إلى غير المالك الأول بالإرث؟

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (3/ 168) حيث قال:"زكاة الديون (وإنما يزكى دَين إن كان أصله عينًا بيده أو عرض تجارة). ابن شاس: كل دين ثبت في ذمة ولم يخرج إليها من يد من هو له، ولا بدل عنه، فلا زكاة فيه على الإطلاق حتى يحول عليه الحول بعد قبضه، وإن خرج هو أو بدل عنه ليس بعرض قُنية عن يد المالك إلى ذمته فلا يزكيه ما دام في تلك المدة حتى يقبضه بعد عام أو أعوام ما لم يكن مديرًا. وقد استوفى ابن رشد الكلام. . . . فجعل. . الديون أربعة: دَين من فائدة، ودَين من غصب، ودَين من قرض، ودَين من تجارة. فأما الدَّين من الفائدة فإنه أربعة أقسام؛ القسم الأول: أن يكون من ميراث أو عطية أو أرش جناية أو مهر امرأة أو ثمن خلع، وما أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه حالًّا كان أو مؤجّلًا حتى يقبضر ويحول الحول عليه من بعد القبض، ولا دَين على صاحبه يسقط عنه الزكاة، وإن ترك قبضه؛ فرارًا من الزكاة لم نوجب عليه ذلك الزكاة فيه".

ص: 3491

* قوله: (وَالثَّالِثُ: دَيْنُ الْمُدِيرِ، وَتَحْصِيلُ قَوْلِهِ فِي الدُّيُونِ: لَيْسَ بِغَرَضِنَا).

دَيْنُ الْمُدِيرِ: مر بنا الكلام عنه في أوائل عروض التجارة

(1)

.

قوله: [الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَة]:

تعليق يسير على هذه الْمَسْأَلَة الخَامِسَة:

نقول -قبل أن نبدأ في هذه المسألة-: إن الدَّين أمره عظيم. فمن ساعد أخاه المسلم في إقراضه مالًا فلا شك أنه سيجد ثواب ذلك عند اللَّه عز وجل؛ لأن هذا من تخفيف الكربات، ومن التيسير على الناس.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، لابن الهمام (2/ 218) حيث قال:"الزكاة واجبة في عروض التجارة كائنة ما كانت إذا بلغت قيمتها نصابًا من الورق أو الذهب. . . ولأنها معدة للاستنماء بإعداد العبد فأشبه المعد بإعداد الشرع، وتشترط نية التجارة ليثبت الإعداد، قال (يقومها بما هو أنفع للمساكين)؛ احتياطًا لحق الفقراء".

ومذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي"(1/ 476) حيث قال: "وإن اجتمع عند شخص إدارة في عرض واحتكار في آخر وتساويا، أو احتكر الأكثر وأدار الأقل، فكلٌّ على حكمه فيهما؛ يزكي المدار كل عام والمحتكر بعد بيعه على ما تقدم، وإلا إن أدار الأكثر فالجميع للإدارة ويبطل حكم الاحتكار". ومذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، لزكريا الأنصاري (1/ 381) حيث قال:"ومتى ملك عرْضًا بمعاوضة بقصد التجارة وهي تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح تهيأ للزكاة؛ أي: لوجوبها بعد مضي حولها المنعقد من حينئذ سواء اشتراه بنقد أو عرض قنية".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 435) حيث قال:"وتقوم عروض تجارة إذا تم الحول بالأحظ للمساكين، يعني: أهل الزكاة من ذهب أو فضة، كأن تبلغ قيمتها نصابًا بأحدهما دون الآخر، فتقوم به لا بما اشتريت به من حيث ذلك؛ لأنه تقويم مال تجارة للزكاة، فكان بالأحظ لأهلها، كما لو اشتراها بعرض قُنية وفي البلد نقدان متساويان غلبة، وبلغت نصابًا بإحداهما دون الآخر".

ص: 3492

وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ومَن فرَّجَ عن مسلم كُرْبةً من كُرَب الدنيا، فرَّجَ اللَّه عنه كُربةً من كُربِ يوم القيامة"

(1)

.

وأما الدَّائن الذي أخذ حقَّ غيره فيجب عليه إذا وَجد ما يوفي حق الغير أن يرده إلى صاحبه؛ لأن الدَّين من أخطر الأمور.

وقد حصل فيه تساهلٌ في زماننا هذا من كثير من المسلمين؛ لكونهم وجدوا إخوانهم قد تسامحوا معهم وأعانوهم وأقرضوهم الأموال، حتى أصبح صاحب المال لا يستطيع أن يصل إلى حقه!

وقد حذَّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المُماطلة، فقال صلى الله عليه وسلم:"مَطْلُ الغنِيِّ ظُلْمٌ"

(2)

. وبيَّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الشهيدَ يُغفَر له كلُّ شيء، إلا مَن عليه دَينٌ

(3)

. ولم يَستَثْنِ إلا شهيدَ البحر، فإن اللَّه عز وجل يُرضي غريمَ ذلك المَدِين حتى يَرضى

(4)

.

وعليه: فالدَّين ليس الأمر اليسير. وعلى كلٍّ: فنعود للتعليق على مسألتنا فنقول: اختلف العلماء في إخراج زكاة الدَّين

(5)

:

(1)

أخرجه البخاري (2442) ومسلم (2580) عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، أخبره: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج اللَّه عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن سترَ مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة".

(2)

أخرجه البخاري (2287) ومسلم (1564).

(3)

أخرجه مسلم (1886) عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"يُغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين".

(4)

أخرجه ابن ماجه (2778) عن أبي أمامة يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "شهيد البحر مثلُ شهيدَي البرِّ، والمائد في البحر كالمتشحِّط في دمه في البر، وما بين الموجَتَين كقاطع الدنيا في طاعة اللَّه، وإن اللَّه عز وجل وكَّل ملَكَ الموت بقبض الأرواح إلا شهيدَ البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البرِّ الذنوبُ كلها، إلا الدَّين، ولشهيد البحر الذنوب والدَّين". وضعفه الألباني في إرواء الغليل (1195).

(5)

مذهب الحنفية، يُنظر:"فتح القدير"، للكمال ابن الهمام (2/ 164) حيث قال:"ومن له على آخر دَين فجحده سنين ثم قامت له بينة لم يزكه لما مضى".

مذهب المالكية، يُنظر:"حاشية الصاوي على الشرح الصغير"، للخلوتي (1/ 632) =

ص: 3493

(1)

فمنهم من قال: أن مَن قَبضَ الدَّين يُزكِّي عن جميع الأعوام.

(2)

ومنهم من قال: يُزكِّي لعام واحد.

(3)

ومنهم من قال: يُستقبَل به عامٌ جديد.

ونحن -في نظرنا- لو أردنا أن نربط بين ذلك، وبين رُوح الشريعة لوجدنا أن أيسر هذه المذاهب، وأقربها إلى الصواب هو القول الثالث. وهذا القول الأخير نُسِب إلى أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها وإلى عِكرمةَ، وأَخذ به الشافعي.

وأما سبب استقبال عام جديد بهذا المال؛ فلأنه مال موقوف لا نماءَ فيه. وإذا كنا نراعي أحوال الفقراء في كثير من الأمور، ونسعى لأن يكون الحظ في جانبهم فينبغي أيضًا ألا نغفل الجانب الآخر ألا وهم المُلَّاك، وأصحابُ الحق، فهذا ما يظهر لي، واللَّه أعلم.

* قوله: (الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَهِيَ: حَوْلُ الْعُرُوضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ الْقَوْلِ: فِي نِصَابِ الْعُرُوضِ).

مسألة الْعُرُوضِ هي عروض التجارة، وهي بضم العَين. وقد سبق الكلام عنها، وعرفنا الخلاف فيها بين مالك، وبين غيره من الفقهاء؛ فالإمام مالك يرى بأنها لا تُزكَّى إلا إذا بيعت. والجمهور يرون أنها تُقوَّم في آخر العام إذا حال عليها الحول، وبلغت نِصابًا، ثم تُزكَّى

(1)

.

= حيث قال: "ويزكَّى الدين بعد قبضه لسنة فقط، وإن أقام عند المدين أعوامًا".

ومذهب الشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج"، للهيتمي (2/ 332 - 333) حيث قال:"ولا يجب دفعها؛ أي: الزكاة حتى يتمكن من المال بأن يكون له به بينة أو يعلمه القاضي أو يقدر هو على خلاصه ولا حائل. ومن عليه الدين موسرًا به أو يعود إليه فحينئذ يزكي للأحوال الماضية".

ومذهب الحنابلة، يُنظر:"شرح منتهى الإرادات"، للبهوتي (1/ 390، 391) حيث قال: "فيزكِّي الدين إذا قبض أو عوض عنه أو أحال به أو عليه أو أبرأ منه لما مضى من السنين".

(1)

تقدم.

ص: 3494

* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَهِيَ: فَوَائِدُ الْمَاشِيَةِ).

عاد المؤلف رحمه الله مرة أُخرى إلى الفوائد، وكنا قد تكلمنا عن الرِّبْح، وعن الفوائد، ونَزيد الأمر توضيحا هنا فنقول: المقصود بالربح: هو نَماء المال، سواء كانت ماشية، أو عُروض تجارة، أو غيرها، فهو ما يحصل من نماء هذا المال.

والمقصود بالفوائد: هي المال الذي يُردُّ إليك من طرق أُخرى غير المال الذي بيدك. فإذا استفدت إلى جانب المال الذي بيدك مالًا آخر غيره، فهو المراد بالفوائد.

مثال توضيحي:

كما ذكرتُ لكم أنه لو كان عند إنسان مال يبلغ نِصابًا، فمات له إنسان يرثه فورث منه نِصابًا، ثم أَهْدى إليه قريب أيضًا مالًا يبلغ نِصابًا، فقد حصل له نصابان آخران غير النصاب الأول.

وقد تكلمنا عن هذا، وبيَّنا أنه لا يُضم بعضها إلى بعض.

* قوله: (فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ

(1)

فِيهَا).

الماشية -كما نعلم- تتوالد، وعليه: فإن لها فوائد، وهذا التوالد فيه

(1)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 148) حيث قال:"وضمت الفائدة له وإن قبل حوله بيوم. لا لأقل (ش): الضمير في الموضعين عائد على النصاب، يريد: أن من كان له ماشية ثم أفاد ماشية أخرى، فإن الثانية تضم إلى الأولى، ولو حصل استفادته لها قبل كمال حول الأولى بلحظة إذا كانت الأولى نصابًا وتزكَّى على حول الأولى، وإن كانت أقل من النصاب فلا تضم الثانية لها يريد ويستقبل بهما من يوم حصول الثانية، إلا إن حصلت الفائدة بولادة الأمهات فحولها حولهن وإن كنَّ أقل من نصاب اتفافًا. ثم إن ضم الفائدة للنصاب مقيد بما إذا كانت من جنسه، أما لو كانت بخلاف جنسه، كإبل وغنم لكان كل مال على حوله اتفاقًا، كما قاله في توضيحه. فإذا كان عنده أربعون من الغنم فدخل عليها الحول، ثم قبل مجيء الساعي ملك خمسًا من الإبل، استقبل بها حولًا من يومئذ. وكلام المؤلف في فائدة الماشية بخلاف فائدة العين، فإنها لا تضم لما قبلها، ولو نصابًا، بل تبقى على حولها".

ص: 3495

ربح؛ لأن الماشية قليلة، ثم لا تلبث أن تتوالد شيئًا فشيئًا، حتى تكثر فتصير قطيعًا من الغنم، أو من البقر، أو من الإبل. فهي بتكاثرها تكون قد حصلت هذه الفوائد، وهذا نسميه نماءً.

* قوله: (خِلَافُ مَذْهَبِهِ فِي فَوَائِدِ النَّاضِّ).

النَّاضُّ

(1)

مرَّ بنا كثيرًا، وهو المال الذي تَحصل عليه من متاع.

مثال توضيحي:

لو كانت عندك عروض تجارة، وبِعتَها، وحصلت على نقد من هذه العُروض، فإننا نسمي هذا ناضًّا؛ لأنه نضَّ بعد أن كان متاعًا؛ أي: أصبح نقدًا.

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ يَبْنِي الْفَائِدَةَ عَلَى الْأَصْلِ).

قد خالف الإمام مالك هنا رأيه في الرِّبح، الذي مرَّ بنا هناك. وهنا بالنسبة للماشية فإنه يبني الفائدة أو النَّماء على الأصل، فيربط بين ما نَمَا، وبين الأصل الموجود. فقول الإمام مالك ليس على نَسقٍ واحد.

بخلاف الإمامين؛ أبي حنيفة، وأحمد فقولهما متناسق في هذه المسائل.

وكذا الإمام الشافعي

(2)

أيضًا: فلو أخذنا أَحدَ أقواله لكان مع الإمامين؛ أبي حنيفة، وأحمد.

(1)

النَّاضُّ: النون والضاد أصلان صحيحان، أحدهما يدل على تيسير الشيء وظهوره، والثاني على جنس من الحركة. وأما الناض من المال فيقال: هو ما له مادة وبقاء، ويقال بل هو ما كان عينًا. وإلى هذا يذهب الفقهاء في الناض. انظر:"مقاييس اللغة"، لابن فارس (5/ 357).

(2)

"روضة الطالبين"، للنووي (2/ 269) حيث قال: "ربح مال التجارة ضربان: حاصل من غير نضوض المال، وحاصل مع نضوضه. فالأول: مضموم إلى الأصل في الحول، كالنتاج. قال إمام الحرمين: حكى الأئمة القطع بذلك. لكن من يعتبر النصاب في جميع الحول قد لا يسلم وجوب الزكاة في الربح في آخر الحول، ومقتضاه أن يقول: ظهور الربح في أثنائه كنضوضه، وسيأتي الخلاف في الضرب =

ص: 3496

لكن الشافعية يفصلون تفصيلًا كثيرًا.

* قوله: (إِذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا).

سبب بناء الإمام مالك الفائِدَةَ عَلَى الأَصْل، أن أصل هذا النماء هو الأصل الموجود عنده، فهذا النماء إنما خرج من هذا الأصل، فهو مرتبط به، فيُعطى حكمُه.

* قوله: (كَمَا يَفْعَلُ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

فِي فَائِدَةِ الدَّرَاهِمِ، وَفِي: فَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ).

قد وافق الإمامُ أحمد الإِمَامَ أبا حنيفة أيضًا فِي فَائِدَةِ الدَّرَاهِمِ وَفِي فَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ، كما عرفنا في النماء.

* قوله: (فَأَبُو حَنِيفَةَ مَذْهَبُهُ فِي الْفَوَائِدِ حُكْمٌ وَاحِدٌ).

بالإضافة لكون مَذْهب أبي حَنِيفَةَ فِى الفوائِدِ حُكْمًا وَاحِدًا، فإن فيه تيسيرًا وتقريبًا أيضًا.

* قوله: (أَعْنِي أَنَّهَا تُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ -إِذَا كَانَتْ نِصَابًا- كَانَتْ فَائِدةَ غَنَمٍ، أَوْ فَائِدةَ نَاضٍّ، وَالْأَرْبَاحُ عِنْدَهُ وَالنَّسْلُ كَالْفَوَائِدِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَالرِّبْحُ، وَالنَّسْلُ عِنْدَهُ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ فَوَائِدِ النَّاضِّ، وَفَوَائِدِ الْمَاشِيَةِ

(2)

).

مراد المؤلف رحمه الله بذلك:

أنه لا فرقَ بين النَّاضِّ، وبين فوائد الماشية، فكلها تربط بأصلها وتُزكَّى.

= الثاني، إن شاء اللَّه تعالى. قال الإمام: وهذا لا بد منه، والمذهب الصحيح: ما سبق".

(1)

يُنظر: "فتح القدير"، للكمال ابن الهمام (2/ 220) حيث قال:"وإذا كان النصاب كاملًا في طرفي الحول فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة".

(2)

يُنظر: "الفواكه الدواني"، للنفراوي (1/ 332)"والفرق بين فائدة العين وفائدة الماشية أن زكاة الماشية موكولة للساعي فلو لم تضم لخرج الساعي في كل زمن وفيه مشقة عليه، بخلاف زكاة العين، فإنها موكولة لأربابها".

ص: 3497

فإذا كان الأصل نِصابًا زُكِّيَت هذه تبعًا للنِصاب، وانتهى الأمر.

* قوله: (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَالْأَرْبَاحُ وَالْفَوَائِدُ عِنْدَهُ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، بِاعْتِبَارِ حَوْلِهِمَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَفَوَائِدُ الْمَاشِيَةِ، وَنَسْلُهَا وَاحِدٌ، باعْتِبَارِ حَوْلِهِمَا بِالْأَصْلِ، إِذَا كَانَ نِصَابًا. فَهَذَا هُوَ حَصِيلُ مَذَاهِبِ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ الثَّلاثَةِ).

هذا بالنسبة للفوائد عند الإمام الشافعي. أما غير الفوائد ففيه تفصيل في المذهب، وهو أيضًا مذهب الإمام أحمد بالنسبة للفوائد، وهو بذلك يلتقي أيضًا مع أبي حنيفة، لكن في جزئية، وليس في كل المسائل.

* قوله: (وَكأَنَّهُ إِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْمَاشِيَةِ وَالنَّاضِّ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ، وإِلَّا فَالْقِيَاسُ فِيهِمَا وَاحِدٌ، أَعْنِي: أَنَّ الرِّبْحَ شَبِيهٌ بِالنَّسْلِ، وَالْفَائِدَةَ بِالْفَائِدَةِ).

توضيح قول المؤلف رحمه الله: (اتِّبَاعًا لِعُمَرَ):

نقول: الذي نُقل عن عمر رضي الله عنه مُحتمَل؛ لأنه قال: "في السِّخَال نعدُّها عليهم، ولا نأخذها"

(1)

.

فالإمام مالك فهم من هذا الأثر ما فَهم وأخذ به. وأما الجمهور فقد فهموا فهمًا آخر لعبارة: "نعدُّها عليهم"، فإنها تحتمل أمرين:

الأمر الأول: أن يكون عدُّها بمعنى: إكمال نِصاب الأصل بها.

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 172) عن بشر بن عاصم، عن أبيه، عن جده، قال:"استعملني عمر رضي الله عنه على صدقات قومي فاعتددت عليهم بالبهم فاشتكوا ذلك، وقالوا: إن كنت تعدها من الغنم فخذ منها صدقتك، قال: فاعتددنا عليهم بها ثم لقيت عمر رضي الله عنه فقلت: إن قومي استنكروا عليَّ أن اعتددت عليهم بالبهم، وقالوا: إن كنت تراها من الغنم فخذ منها صدقتك، فقال عمر رضي الله عنه: اعتد على قومك يا سفيان بالبهم، وإن جاء بها الراعي يحملها في يده، وقل لقومك: إنا ندع لهم الماخض والرُّبَّى وشاة اللحم وفحل الغنم، ونأخذ الجذَعَ والثَّني وذلك وسط بيننا وبينكم في المال".

ص: 3498

الأمر الثاني: أن يكون عدُّها مرتبطًا بشرط؛ وهو أن يكون الأصل قد بلغ نِصابًا.

وقد مرت بنا هذه المسألة أيضًا.

* قوله: (وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا هُوَ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَعُدَّ عَلَيْهِمْ بِالسِّخَالِ، وَلَا يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي بَابِ النِّصَابِ).

تصحيح عبارة ضمن كلام المؤلف رحمه الله:

أظن أن صواب هذه العبارة (أَنْ يَعُدَّ عَلَيْهِم بِالسِّخَالِ): أن يُعتدَّ عَلَيْهِمْ بِالسِّخَالِ؛ حتى تكون مستقيمة؛ لأنه قال: نعدُّها عليهم.

ومراد عمر رضي الله عنه بذلك: أننا سنحسبها في النِّصاب، لكننا لن نأخذها في القدر الواجب في الزكاة؛ لأنها ناقصة.

* قوله: [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ]:

(وَهِيَ: اعْتِبَارُ حَوْلِ نَسْلِ الْغَنَمِ).

مسألة اعْتِبَار حَوْلِ نَسْلِ الْغَنَمِ مرت الإشارة إلى هذه المسألة أيضًا.

* قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: حَوْلُ النَّسْلِ هُوَ حَوْلُ الْأُمَّهَاتِ)

(1)

.

مراده بقوله: (حَوْلُ النَّسْلِ هُوَ حَوْلُ الْأُمَّهَاتِ): هو أن حَول نسل الغنم -يعني: السِّخَال- التي تتوالد عنها، أو التي تتوالد أيضًا من الإبل، أو من البقر، فيكون حولُها هو حول أمهاتها.

(1)

يُنظر: "الفواكه الدواني"(1/ 332)" (وكذلك)، أي: مثل ربح المال، (حول نسل الأنعام) هو (حول الأمهات) ولو كانت الأمهات أقل من نصاب، فمن كان عنده ثلاث من الإبل فولدت ما يكمل النصاب، أو كان عنده عشرون من الضأن فولدت تمام النصاب وجبت الزكاة بعد تمام حول الأمهات؛ لأن نسل الحيوان. كربح المال يضم لأصله، وظاهره ولو كان النسل من غير نوع الأمهات، فلو نتجت الإبل غنمًا أو البقر إبلًا نصابًا لكان حول النسل حول الأمهات، لكن يراعى النصاب من كل نوع على حدته، وأما بالنسبة لتكميل النصاب فلا بد أن يكون النسل من نوع الأصل، فلا تضم الإبل للبقر ولا عكسه".

ص: 3499

* قوله: (نِصَابًا، أَوْ لَمْ تَكُنْ).

مِن هنا يأتي الفرق، فالأمر لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: إذا بلغت الأمهات نِصابًا.

الحالة الثانية: إذا لم تبلغ الأمهات نِصابًا. فهنا يحصل الخلاف بين الإمام مالك وبين الجمهور.

* قوله: (كَمَا قَالَ فِي رِبْحِ النَّاضِّ).

قول الإمام مالك فِي رِبْحِ النَّاضِّ. عرفنا قوله -كما مر بنا- في ربح الناض، والذي هو ربح التجارة، وذلك أنه لا يُشترط عنده أن يكون الأصل نِصابًا.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

، وَأَبُو ثَوْرٍ

(3)

: لَا يَكُونُ حَوْلُ النَّسْلِ حَوْلَ الْأُمَّهَاتِ).

(1)

يُنظر: "أسنى المطالب"، للأنصاري (1/ 353) حيث قال: " (فيزكي لحول الأمهات وإن لم يبق منها شيء) لموت أو غيره.

(والنتاج نصاب)؛ لأن الولد إذا تبع الأم في الحكم لم ينقطع الحكم بموتها، كالأضحية. والأصل في زكاته أمرُ عمر رضي الله عنه ساعيه بأن يعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يديه".

(2)

يُنظر: "البحر الرائق"، لابن نجيم (2/ 234) حيث قال:" (ولا في الحُملان والفصلان والعجاجيل): الحملان بضم الحاء، وفي الديوان بكسرها، جمع حَمَل -بفتحتين- ولد الشاة. والفصلان: جمع فصيل، ولد الناقة قبل أن يصير ابن مخاض. والعجاجيل: جمع عجول، بمعنى: عجل، ولد البقرة. وعدم الوجوب في الصغار من السوائم قولهما. وقال أبو يوسف: تجب واحدة منها. وفي المحيط تكلموا في صورة المسألة فإنها مشكلة؛ لأن الزكاة لا تجب بدون مُضيِّ الحول، وبعد الحول لم تبق صغارًا، قيل: إن صورتها أن الحول هل ينعقد على هذه الصغار بأن ملكها في أول الحول، ثم تم الحول عليها: هل تجب الزكاة فيها، وإن لم تبق صغارًا. وقيل صورتها إذا كانت لها أمهات فمضت ستة أشهر فولدت أولادًا ثم ماتت الأمهات، وبقيت الأولاد ثم تم الحول عليه".

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 192) حيث قال:"وقول أبي ثور في ذلك كله كقول الشافعي".

ص: 3500

قد وافق الإمام أحمد

(1)

هؤلاء في هذه المسألة. وعليه: فالأئمة الثلاثة متفقون فيها، بخلاف الإمام مالك.

* قوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا).

بيان هذا الشرط:

يعني: إذا كانت الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا، فحينئذ يكون حَوْلُ النَّسْلِ حَوْلَ الْأُمَّهَاتِ.

وإلا فلا، كالحال بالنسبة للربح هناك.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ بِعَيْنِهِ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي رِبْحِ الْمَالِ).

مرَّ بنا الخلاف هناك، ومنه يتضح: أن سَبَب اخْتِلَافِهِمْ في المسألتين واحد؛ ولذا فإن من العلماء من يربط بين هذه المسألة، فيجمعها في زمرة واحدة، بدل أن يُجزِّئها؛ لأن توزيع هذه المسائل مع التقاء بعضها في الحكم قد يُشتت الذهن. ولكن بجَمْعها معًا تقرَّب المسائل، ويَسهُل فهمها.

هذه المسألة لو نقلت إلى الأرباح، أو أُجِّلت تلك إلى هنا لكان الكلام فيهما واحد، ويُجزَّأ إلى جزأين، وهذا ما يفعله بعض الفقهاء.

* قوله: [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ]:

هذه الْمَسْأَلَةُ هي آخر المسائل التي عدها المؤلف رحمه الله.

(1)

يُنظر: "مطالب أولي النهى"، للرحيباني (2/ 21) حيث قال:(ويتبعه نتاج) -بكسر النون- (سائمة): الأصل في حوله إن كان نصابًا؛ لقول عمر: "اعتد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم". رواه مالك. ولقول عليٍّ: "عد عليهم الصغار والكبار. ولا يعرف لهما مخالف، ولأن السائمة يختلف وقت ولادتها، فإفراد كلٍّ بحَول يشق؛ فجعلت تبعًا لأمهاتها، كما تتبعها بالملك". وانظر: "الروض المربع"، للبهوتي (ص: 196).

ص: 3501

* قوله: (وَهِيَ جَوَازُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ).

هل يجوز للتاجر الغني الذي يملك نصابًا من الزكاة أن يُعجِّل زكاته؟ ثم هل هناك فائدة؟

أولًا: هذا الذي يريد أن يُعجِّل زكاته ينبغي أن يكون عنده نصاب.

وجماهير العلماء

(1)

يرون أن ذلك جائز. وأما الإمام مالك

(2)

فقد مَنَعَ ذلك.

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 274):" (ولو عجل ذو نصاب لسنين أو لنصب صح)، وقال مالك: لا يصح؛ لأن السبب هو المال النامي بكونه حوليًّا، فلا يجوز التقديم على الحول كما لا يجوز التقديم على أصل النصاب؛ ولأن الأداء إسقاط للواجب عن ذمته، ولا إسقاط قبل الوجوب فصار كأداء الصلاة قبل الوقت. . . ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاةَ عامين. ولأن السبب هو المال النامي فالمال أصل والنماء وصف له فجاز بعد وجود أصله، كالتكفير بعد الجرح قبل السراية، بخلاف ما إذا قدم قبل أن يملك نصابًا؛ لأن السبب لم يوجد ثم المقدم يقع زكاة إذا تم الحول والنصاب كامل".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 132) حيث قال:" (ويجوز) تعجيلها في المال الحولي (قبل) تمام (الحول) فيما انعقد حوله. . . . (ولا تعجل لعامين في الأصح) ولا لأكثر كما فهم بالأولى؛ لأن زكاة غير الأول لم ينعقد حوله، والتعجيل قبل انعقاد الحول لا يجوز كالتعجيل قبل كمال النصاب في الزكاة العينية، فإن عجَّل لعامين فأكثر أجزأه عن الأول دون غيره؛ لما مر، وقضية ذلك الإجزاء عنه مطلقًا". وانظر: "أسنى المطالب"، للأنصاري (1/ 361).

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 265)" (ويجوز تعجيل الزكاة)؛ لحديث عليٍّ: أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك. روأه أحمد وأبو داود. . .، ولأنه حق مالي أُجِّل للرفق، فجاز تعجيله قبل أجله، كالدين. قال الأثرم: هو مثل الكفارة قبل الحنث فيصير من تقديم الحكم بعد وجود سببه وقبل وجود شرطه. (وتركه)؛ أي: التعجيل (أفضل)؛ خروجًا عن الخلاف. قال في الفروع: ويتوجه احتمال يعتبر المصلحة (لحولين فأقل فقط)، اقتصارًا على ما ورد. . . (بعد كمال النصاب، لا قبله)؛ لأنه سببها، فلم يجز تقديمها عليه، كالتكفير قبل الحلف. قاله في "المغني" بغير خلاف نعلم".

(2)

يُنظر: "مواهب الجليل" للحطاب (2/ 360) حيث قال: " (أو قدمت في عين وماشية) ش: يعني أن زكاة العين والماشية إذا قدمت قبل الحول فإنها تجزئ، وهذا هو =

ص: 3502

وقد اتضح لنا كثرة خلاف الإمام مالك مع الجمهور في هذه المسائل؛ فالأئمة الثلاثة آراؤهم متقاربة في هذه المسائل.

فالجمهور يرون أنه لا مانع من تعجيل الزكاة؛ لأن العباس بن عبد المطلب عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يرخِّصَ له في تعجيلِ صدَقته.

وفي رواية: في تعجيل زكاة ماله. فرخَّص له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث أخرجه أبو داود

(1)

، والترمذي

(2)

، وابن ماجه

(3)

، والبيهقي

(4)

، والدارقطني

(5)

، والإمام أحمد في المسند

(6)

، وغير هؤلاء

= المشهور إذا قدمت قبل الحول بيسير، وقال أشهب: لا تجزئ قبل محلها كالصلاة، ورواه عن مالك، نقله ابن رشد، قال في "التوضيح" ورواه ابن وهب، قال ابن يونس: وهو الأقرب وغيره استحسان، قال في "البيان": وحمل ابن نافع قول مالك عليه، وهو رأى أنها لا تجزئ قبل محلها بيوم واحد ولا بساعة واحدة وهو ضامن لها حتى يخرجها بعد محلها. انتهى من أول رسم من سماع أشهب، والمشهور هو مذهب المدونة. وقال ابن رشد في الرسم المذكور: إنه الأظهر، قال في كتاب الزكاة الأول من المدونة: ولا ينبغي إخراج زكاة شيء من عين أو حرث أو ماشية قبل وجوبه إلا أن يكون قبل الحول بيسير فيجزئه ولا يجزئه فيما بعد. قال أبو الحسن: قوله هنا: لا ينبغي هنا، بمعنى: لا يجوز، ثم قال: وقوله: إلا أن يكون قبل الحول، راجع إلى ما يشترط فيه العين والماشية".

وفي "الذخيرة"، للقرافي (3/ 137) قال:"الحالة الثانية: تعجيل الزكاة، وفي الكتاب لا ينبغي إخراج زكاة عين ولا ماشية قبل الحول إلا بيسير، فإن عجل زكاة ماشيته لعامين لم يجزه".

(1)

أخرجه أبو داود (1624) عن علي: أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك. قال مرة: فأذن له في ذلك. قال أبو داود: روى هذا الحديث هشيم، عن منصور بن زاذان، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث هشيم أصح.

(2)

أخرجه الترمذي (678).

(3)

أخرجه ابن ماجه (1795).

(4)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 186).

(5)

أخرجه الدارقطني (3/ 31)(2008).

(6)

أخرجه أحمد (822).

ص: 3503

الكثير

(1)

، وإسناده حسن

(2)

.

فهذا الحديث -كما يقول الأصوليون- نصٌّ في المدعى. وقد اشترط الجمهور لجواز تعجيل الزكاة قبل وقتها أن يكون المعجِّل قد ملكَ نصابَه.

أما عند الحنفية

(3)

-كما عرفتم- فلا بد من توفر طرفين: وهو أن يكون النصاب قد وُجد في أول المُدَّة، وفي آخرها أيضًا. ولا مانع أن يحصل نقصٌ في وسط المدة.

وأما الحنابلة

(4)

والشافعية

(5)

فيرون أن النصاب لا بد أن يكون ساريًا كاملًا في كل العام. فلماذا يخالف المالكية في هذه المسألة، وقد ورد نصٌّ فيها؟!

لقد استدلوا بحديثٍ أيضًا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا زكاةَ في مالٍ، حتى يَحُولَ عليه الحَوْلُ"

(6)

.

وقد رواه البيهقي في السنن الكبرى

(7)

.

فالزكاة تجب في المال إذا حال عليه الحولُ. ومفهوم

(8)

هذا أن المال إذا لم يَحُلْ عليه الحول فلا تجب الزكاة فيه.

(1)

أخرجه الدارمي (1676) وابن الجارود في المنتقى (ص: 98).

(2)

حسنه الألباني في (إرواء الغليل)(857)، وصحيح أبي داود - الأم (1436).

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

(5)

تقدم.

(6)

أخرجه ابن ماجه (1792) وصححه الألباني في إرواء الغليل (787).

(7)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 160)(7274) وقال: "وكذلك رواه أبو معاوية وهريم بن سفيان وأبو كدينة عن حارثة مرفوعًا. ورواه الثوري عن حارثة موقوفًا على عائشة. وحارثة لا يحتج بخبره. والاعتماد في ذلك على الآثار الصحيحة فيه عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن عمر وغيرهم رضي الله عنهم".

(8)

المفهوم: هو ما دل اللفظ عليه لا في محل النطق. مثل تحريم الضرب، فإن قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. يدل عليه، لكن لا في محل النطق. انظر:"بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب"(2/ 430).

ص: 3504

ومع القول بعدم وجوب الزكاة فيه إذا لم يَحُلْ عليه الحول: فهل يجوز إخراجها؟ ذهب الجمهور إلى جواز إخراجها، وأجابوا عن الحديث الذي استدل به الإمام مالك بأنه على فرض التسليم بصحته، ففيه: أنه لا تجب الزكاة في المال إلا إذا حال عليه الحول، لكن ليس فيه دلالة على أنه لا تُعجَّل زكاته، وإنما يدل فقط على وجوب الزكاة بعد حلول الحول، فإذا ما أراد إنسانٌ تقديم زكاته كما فعل العباس فلا مانع.

ففي قصة عمر رضي الله عنه عندما سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: منع فلانٌ، وفلان. قال:"أما العباس فهي عليَّ ومثلُها"

(1)

. فالعباس رضي الله عنه قدَّمها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فظُنَّ أنه لم يُخرجها، فهذا نصٌّ في هذه المسألة.

* قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا

(2)

مَنَعَ ذَلِكَ، وَجَوَّزَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

، وَالشَّافِعِيُّ

(4)

).

جوَّزه الأئمة؛ أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد

(5)

أيضًا. وهذا مذهب الجمهور.

* قوله: (وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ هِيَ عِبَادَةٌ، أَوْ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمَسَاكِينِ؟ فَمَنْ قَالَ: عِبَادَةٌ)

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (1468) ومسلم (983) عن أبي هريرة، قال: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب فقال صلى الله عليه وسلم:"ما ينقم ابنُ جميل إلا أنه كان فقيرًا، فأغناه اللَّه ورسوله، وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل اللَّه، وأما العباس بن عبد المطلب، فعم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقةٌ ومثلُها معها".

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

(5)

تقدم.

(6)

قال الدكتور يوسف القرضاوي: والحق أن الزكاة تحمل المعنيين، ولكن بعض الفقهاء، كالشافعي وأحمد في المشهور عنه، وبعض المالكية، وكذلك الظاهرية غلبوا =

ص: 3505

كرر المؤلف -عفا اللَّه عنا وعنه- هذه العبارة: (هَلْ هِيَ عِبَادَةٌ، أَوْ حَقٌّ؟!) والواقع أنه لا خلاف في أنها عبادة. لكن: هل هي عبادةٌ مؤقتة، أو لا؟

فالمؤلف يقيسها على الصلاة، والصلاة لا يمكن أن تُقدم على وقتها؛ لأن اللَّه عز وجل يقول:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].

فقوله: {مَّوْقُوتًا} : أي مفروضة في الأوقات.

وفي الحديث: أنه لما صلَّى جبريل عليه السلام برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين؛ صلى به صلاة الظهر عندما زالت الشمس، وفي اليوم الثاني صلاها عندما صار ظلُّ كل شيء مثله. وصلى به العصر في اليوم الأول عندما صار ظلُّ كل شيءٍ مثله، وفي الثاني عند المِثْلين. وصلى به المغرب عندما غربت الشمس. وصلى به العشاء بعد أن غاب الشفق الأحمر. وصلى به الفجر بعد أن طلع. ثم قال جبريل عليه السلام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: الوقت ما بين هذين

(1)

.

= معنى العبادة والقربة في الزكاة، فحتموا على المالك إخراج العين التي جاء بها النص، ولم يجوزوا له إخراج القيمة. وغلب أبو حنيفة وأصحابة وآخرون من الأئمة الجانب الآخر: أنها حق مالي قصد به سد خلة الفقراء، فجوزوا إخراج القيمة. انظر:"فقه الزكاة"، للقرضاوي (2/ 289) ط. موسسة الرسالة. "البحر الرائق"، لابن نجيم (4/ 119) و"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 353).

(1)

أخرجه الترمذي (149) عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمَّني جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين كاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر، وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلي جبريل، فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين". وصححه الألباني في المشكاة (583).

ص: 3506

وفي الحديث الصحيح يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلُ وقتُ صلاة، حتى يخرجَ وقتُ الأخرى"

(1)

.

وعليه: فالصلوات محددٌ أوقاتها، لا يجوز لمسلمٍ أن يؤدي صلاةً في غير وقتها، إلا ما استُثْنِي من ذلك، كما جاء في الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاةٍ أو نسيها، فليُصلِّها متى ذكرها؛ فإنه لا كفارةَ لها إلا ذلك"

(2)

.

وهناك حالة أخرى: كمن يجوز له الجمع بين الصلاتين، فله أن يُقدِّم العصر إلى وقت الظهر، والعشاء إلى وقت المغرب، أو يؤخِّر الظهر إلى وقت العصر، والمغرب إلى وقت العشاء.

وكذلك أهل الأعذار: فلو أن امرأةً حائضًا أو نُفَساءَ طَهُرت قبل المغرب، فإنها تؤدي الصلاتين، فتصلي الظهر في وقت العصر.

وبناءً على ما سبق، فإن الصلاة أوقاتها محددة. وأما الزكاة: فلها حول، يعني: أن بعض أنواع الزكاة يُشترط فيها الحول، وهذا الحول قُدِّر لمصلحة المُزكِّي، ولمصلحة آخذِ الزكاة.

لكن التوقيت فيها ليس توقيتًا مرتبطًا بالصحة وعدمها في بعض الأمور، ففيه توسعة. كذلك صوم رمضان هو ظرفٌ مضيَّق، فلا يجوز للإنسان أن يصوم في رمضان غير رمضان، وإنما يتعيَّن عليه أن يصوم رمضان.

إذًا فالصورة مختلفة، وليست المسألة كما قال المؤلف:"عبادة، أو غير عبادة"، بل الصواب أن نقول بدل ذلك: هل هي عبادةٌ مؤقتةٌ بزمن لا يجوز أن تُقدَّم عليها، أو لا؟ فالصلاة لا يجوز أن نقدمها عن وقتها، أو

(1)

لم أقف عليه.

(2)

أخرجه البخاري (597) ومسلم (684). عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من نسي صلاةً فليصلِّ إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ".

ص: 3507

أن نؤخرها، إلا لمن سبق ذِكرُه، كأهل الأعذار، وفي حالة الجمع بين الصلاتين. . . إلخ.

أما الزكاة فقد حصلت من سيد البشر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وممن أخذَها مِن عمه العباس رضي الله عنه

(1)

، وهو من الأغنياء في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وعندما خطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطبته المشهورة في الحج قال: "وإنَّ أولَ ربًا أضعُه إنما هو ربا العباس"

(2)

. فهنا وُجد الدليل على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ الزكاة من عمه العباس رضي الله عنه معجَّلةً قبل وقتها.

* قوله: (وَشَبَّهَهَا بِالصَّلَاةِ، لَمْ يُجِزْ إِخْرَاجَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ).

نحن نقول: هذا تشبيهٌ مع الفارق؛ لأن الصلاة لا يجوز أن تؤدَّى في غير وقتها؛ إلا فيما ورد النص باستثنائه، كما سبق. أما الزكاة فقد ثبت أن أُدِّيت قبل حلول الحول، والحول إنما اشتُرط في الإيجاب، لا في الجواز. ولننظر إلى المصلحة العامة:

فلو فرضنا أن الإمام احتاج إلى مصارف الزكاة - وقد مرت بالدولة الإسلامية ظرفٌ من الظروف، واحتاج الإمام إلى أن تُقدَّم له زكاة هذا المال معجَّلةً؛ لينفقَها في بعض المصارف: فلماذا نمنع ذلك؟!

فقد ينزل بالناس قحط مثلًا، ويحتاج الفقراء والمساكين إلى الزكاة قبل وقتها.

وقد يحتاج الإمام الزكاة قبل وقتها؛ ليجهِّز الغزاة والمجاهدين. وقد يخلو بيت مال المسلمين قبل وقت جمع الزكاة من مال، أو يقلُّ المال فيه عن حاجة الناس.

الشاهد: أنه قد تظهر أي حاجة تستدعي تقديم الزكاة قبل وقتها: فلماذا نُضيِّق واسعًا لو منعنا ذلك؟!

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم (1218) عن جابر، وفيه:". . . . وأول ربا أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله".

ص: 3508

* قوله: (وَمَنْ شَبَّهَهَا بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْمُؤَجَّلَةِ أَجَازَ إِخْرَاجَهَا قَبْلَ الْأَجَلِ عَلَى جِهَةِ التَّطَوُّعِ).

هذا القول في الحقيقة هو الأَولى والأيسر، وهو -في نظرنا- الأقربُ لرُوح الشريعة، وهو الذي أخذ به جماهير العلماء، ولا شك أنهم ما أخذوا به عَفْوًا، وإنما عن روَّية وتمعُّنٍ، وإدراكٍ منهم للمصلحة.

والمصلحة تقتضي -وبلا شك- القولَ بجواز تقديم الزكاة، فقد تمر أوقات بالمسلمين يحتاجون فيها إلى تقديم الزكاة، كما أشرنا إلى ذلك بالأمثلة.

* قوله: (وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ

(1)

لِرَأْيهِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ

(2)

).

نقول: احتج الإمام الشافعي، وغيره أيضًا كالإمام أبي حنيفة

(3)

والإمام أحمد

(4)

.

فقد احتجوا بحديث عليٍّ رضي الله عنه الذي ذكرناه سابقًا: أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُرخِّص له في تقديم صدقة ماله، فرخَّص له في ذلك

(5)

.

(1)

يُنظر: "الأم"، للشافعي (2/ 23) حيث قال:"قد يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ندري أيثبت، أم لا؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف صدقة مال العباس قبل أن تحل".

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

يُنظر: "البناية شرح الهداية"، للعيني (3/ 363، 364) حيث قال: "ولنا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاة سنتين، وهو ما روى الترمذي، وأبو داود، عن علي رضي الله عنه: أن العباس رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول مسارعة إلى الخير، فأذن له في ذلك. وقال السغناقي: ولنا ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه استسلف من العباس صدقة العامين".

(4)

"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 265) حيث قال:" (ويجوز تعجيل الزكاة)؛ لحديث علي: أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخَّص له في ذلك. رواه أحمد وأبو داود، وقد تكلم في إسناده، وذكر أبو داود أنه روي عن الحسن بن مسلم مرسلًا وأنه أصح".

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 3509

* قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ صَدَقَةَ الْعَبَّاسِ قَبْلَ مَحَلِّهَا

(1)

).

قد فاتنا سابقًا ما ورد في بعض الروايات: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ

(2)

. وهذا يدل: على أنه قد احتيج إلى ذلك. وهذا أيضًا يؤكد المعنى الذي أشرنا إليه، وهو أن الوالي قد يحتاج إلى الزكاة قبل وقتها، فيطلبها من الأغنياء مقدَّمَةً؛ لأنه قد تمر بالدولة حاجة، ولو لم يأخذ الزكاة مقدمة؛ لفاتت بذلك مصلحة.

[الْجُمْلَةُ الْخَامِسَةُ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ الصَّدَقَةُ]

[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمُ الزَّكَاةُ]

[والكلام في هذا الباب في ثلاثة فصول: الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمُ الزَّكَاةُ]

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (الجملة الخامسة: فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ الصَّدَقَةُ).

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 187) عن علي رضي الله عنه فذكر قصة في بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه ساعيًا ومنع العباس صدقته، وأنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما صنع العباس فقال:"أما علمتَ يا عمر أنّ عمَّ الرجل صِنْوُ أبيه، إنا كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين". وقد أورد هذه الطرق الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(3/ 333 - 334)"وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق".

ص: 3510

هذه المسائل التي سيعرضها المؤلف رحمه الله مهمة جدًّا.

فاللَّه عز وجل في كتابه العزيز تولى قسمة المواريث؛ فجُلُّ مسائل تقسيم التركات إنما جاءت في كتاب اللَّه عز وجل، ومن يقرأ سورة النساء الكبرى يجد ذلك مفصلًّا فيها. كذلك نجد أيضًا أن اللَّه عز وجل حدَّد الذين تُصرف فيهم الزكاة؛ أي: الذين يُعطون الزكاة، وتُسلَّم لهم؛ أي: الذين يحق لهم أن يأخذوا من الزكاة، وذلك في قول اللَّه عز وجل:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60]. وسيأتي بيان من هم هؤلاء. ثم قال تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60]. فهل هم من المسلمين فقط، أو يدخل في ذلك أيضًا غير المسلمين؟ وهل لا يزال هذا الحكم قائمًا بعد زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ أو أنه لما قويت شوكة المسلمين، وقامت دولتهم على ساقَيها واشتد عودها أصبح لا حاجة لأن يُعطى المؤلفة؟

وبعبارة أخرى: هل هذا حكمٌ ثابتٌ أنزله اللَّه عز وجل في كتابه، ومات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يُنسخ ولم يُبدّل؛ فيبقى؟ أو أنهم لا يُعطَوْن؟

ثم قال تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} . فهل هم المكاتَبون؟ أو أن الآية تشمل غيرهم؟ ثم قال تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} . والغارم: هو من يغرَم دَيْنًا؛ ليُصلِح ذات البَيْنِ. ولا تخفى أهمية الصلح ومكانته في هذه الشريعة الإسلامية، ومع أن الكذب -كما نعلم- من الكبائر، إلا أنه من المواضع الثلاثة التي يجوز أن يكذب فيه المرء هي عندما يريد أن يُصلح بين متخاصمَين. ثم قال تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وهم: الغزاة. ثم قال تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} . وهو المسافر الذي هو بحاجةٍ إلى المال.

ولا شك أن هذه القسمة عادلة؛ وذلك لأن اللَّه عز وجل مدبِّر هذا الكون، ويعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين.

فكان هو عز وجل الذي قسّم هذه الصدقات، وهو عز وجل الذي بيّن من تجب لهم الصدقات، فلا يجوز لأحدٍ أن يغير أو أن يبدل في حكم اللَّه عز وجل، فلا يُقبل في ذلك حكم بشرٍ مهما كان؛ لأن هذا حكم اللَّه؛ وقد قال اللَّه عز وجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

ص: 3511

* قوله: (وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: الْأَوَّلُ: فِي عَدَدِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمْ).

الأصناف: ثمانية بيّنهم اللَّه عز وجل في كتابه؛ فلا يحتاج الأمر إلى اجتهاد.

* قوله: (الثَّانِي: فِي صِفَتِهِمُ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ).

مثال يوضح المراد بصِفَتِهِم: حد الفقر، وبيان من هم الفقراء؟

* قوله: (الثَّالِثُ: كَمْ يَجِبُ لَهُمْ؟).

فهل هناك قدرٌ معين لكل منهم، أو لا؟ بمعنى: هل لا بد أن نوزعها على الثمانية؛ فكل واحدٍ يأخذ نصيبه؟ أو يجوز أن تُعطى لصنفٍ واحد منهم فقط؟ سنرى أن الذي سيخالف الجمهور في هذه المسألة هو الإمام الشافعي، وليس الإمام مالك. وننبه أن خلاف العلماء دائمًا يُبنى على دليل، أو على وجهة نظر.

* قوله: (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي عَدَدِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمُ الزَّكَاةُ).

الفصل الأول في عدد الأصناف:

هم كما جاء في الآيه الكريمة التي أشرنا إليها سابقًا؛ وهي قول اللَّه عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]. فهم ثمانية؛ قد بيّنهم اللَّه عز وجل. فمن هو الفقير؟ ومن هو المسكين؟ وهل الفقير هو المسكين؟ أو أن المسكين يختلف عن الفقير؟

(1)

وإذا قلنا: إنهما مختلفان، فأيهما أكثر حاجة؟ وهل هما من الأسماء التي إذا اجتمعت

(1)

الفقير: الذي لا شيء له. والمسكين: الذي له بعض ما يكفيه. انظر: "النهاية"، لابن الأثير (3/ 462). و"الفروق اللغوية"، للعسكري (ص: 177)

ص: 3512

اختلفت

(1)

، وإذا ما جاء أحدها اكتُفي به عن الآخر؟

وقد مر بنا مصطلح الإيمان والإسلام، وقد عرفنا أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

فكذلك هنا المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ لأن اللَّه عز وجل لا يذكر صنفين لغير حكمة، فهذا القرآن كما اشتمل على الأحكام فهو مشتملٌ أيضًا على الحِكم، والمعاني، والأسرار، والبلاغة.

وعليه: فالفقراء غير المساكين. وقد اختلف الفقهاء أيضًا في أيهم أشدهم حاجة؛ الفقير، أو المسكين؟ فنبدأ بالفقير؛ فقد بدأ اللَّه عز وجل به. وهنا نسأل: هل لهذه البداية مغزى؟ فالآية الكريمة عندما افتتحت بذكر هؤلاء الثمانية بدأت أول ما بدأت بالفقراء، والمعروف لكل مَن درس لغة العرب وتتبعها أن من عادتهم أنهم إذا كان الأمر ذا أهميةٍ فإنهم يقدِّمونه، فالعرب لا تقدِّم أمرًا من الأمور عبثًا، وإنما لغايةٍ وسببٍ من الأسباب، وهذه الغاية تتمثل في أهمية هذا الأمر، والعناية به.

وهذا القرآن -كما نعلم- نزل بلسانٍ عربي مبين، وقد أنزله اللَّه عز وجل بلغة العرب، وهو يخاطب العرب، وآيات القرآن فيها أدلة كثيرة تؤكد ذلك وتؤيده.

وعليه: فقد ذهب الشافعية

(2)

والحنابلة

(3)

إلى أن الفقير أشد حاجةً من المسكين.

(1)

يُنظر: "غذاء الألباب"، للسفاريني (2/ 524)"واعلم أن الفقير يطلق على المسكين، والمسكين يطلق على الفقير، فهما كالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وليسا سواء باتفاق". وانظر: "المجموع"، للنووي (6/ 197).

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 176) "تنبيه: قد علم من ذلك أن المسكين أحسن حالًا من الفقير خلافًا لمن عكس، واحتجوا له بقوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79]. حيث سمي مالكيها مساكين، فدل على أن المسكين من يملك شيئًا يقع موقعًا من كفايته، وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا". مع أنه كان يتعوذ من الفقر".

(3)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 271) حيث قال: " (أحدهم)؛ أي: الأصناف =

ص: 3513

وحجتهم في ذلك: أن اللَّه عز وجل ابتدأ به، والعرب -كما أشرنا- لا تقدّم عادةً الشيء إلا لأهميته.

وقالوا: وجدنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استعاذ من عدة أمور، كما في الحديث المتفق عليه، ومما استعاذ منه الفقر

(1)

.

ولا يخفى أن الفقر له أضرار جمة، لكنه لو قُدّر أن إنسانًا ابتُلي به فعليه أن يصبر وأن يحتسب، وهذا هو أمر المؤمن: "إن أصابته ضرَّاءُ

= الثمانية: (الفقراء) بدأ بهم؛ اتباعًا للنص، ولشدة حاجتهم (وهم أسوأ حالًا من المساكين)؛ لبداءة اللَّه بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم. . . . ولا يجوز أن يسأل شدة الحاجة ويستعيذ من حالة أصلح منها، ولأن الفقير مشتق من فقر الظهر، فقيل: فقير بمعنى: مفعول أي مفقور: وهو الذي نزعت فقرة ظهره، فانقطع صلبه".

وذهب الحنفية والمالكية إلى أن المسكين أشد حاجة من الفقير، وأحتجوا بأن اللَّه تعالى قال:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 16].

مذهب الحنفية، يُنظر:"يُنظر: "حاشية ابن عابدين" (رد المحتار)(2/ 339)(قوله: من لا شيء له)، فيحتاج إلى المسألة لقوته وما يواري بدنه، ويحل له ذلك بخلاف الأول يحل صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرًا فتح. (قوله: على المذهب) من أنه أسوأ حالًا من الفقير. وقيل: على العكس والأول أصح بحر وهو قول عامة السلف إسماعيل. وأفهم بالعطف أنهما صنفان وهو قول الإمام. وقال: الثاني صنف وأحد وأثر الخلاف يظهر فيما إذا أوصى بثلث ماله لزيد والفقراء والمساكين، أو وقف كذلك كان لزيد الثلث ولكل صنف ثلث عنده. وقال الثاني: لزيد النصف ولهما النصف، وتمامه في النهر. (قوله لقوله تعالى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 16].

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 492) حيث قال:" (ومصرفها)؛ أي: محل صرفها؛ أي: الذي تصرف إليه (فقير) لا يملك قوت عامه (ومسكين، وهو أحوج) من الفقير؛ لكونه الذي لا يملك شيئًا بالكلية (وصدقَا) في دعواهما الفقر والمسكنة".

(1)

أخرجه أبو داود (1544) عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم، أو أظلم". وقال الألباني في صحيح أبي داود - الأم (5/ 269) إسناده جيد، وصححه ابن حبان، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

ص: 3514

صبر، فكان خيرًا له"

(1)

، كما جاء في الحديث. ولا شك أن الفقر من الضراء، فإن أُصِبت بالفقر، ورضيت بقضاء اللَّه وبقدره، وعلمت بأن اللَّه عز وجل هو الذي قدَّر لك هذا الأمر، وأنك لم تُقصِّر في طلب المعيشة، وفي البحث عن سبل الرزق والوصول إليه، بل قُدِّر لك أن تكون فقيرًا فارْضَ بما قدَّره اللَّه لك؛ ليجازيك اللَّه عز وجل على صبرك.

* قوله: (فَأَمَّا عَدَدُهُمْ: فَهُمُ الثَّمَانِيَةُ، الَّذِينَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ).

عدد الأصناف: قد عدّهم اللَّه عز وجل وبيّنهم في كتابه؛ فلا يُزاد عليهم.

ونعلم أن لفظة "إِنَّمَا" هي من أدوات حصر، فقد حصرهم اللَّه عز وجل في هذه الأصناف الثمانية.

والسؤال: هل يجوز أن تُعطَى الزكاة لغير هؤلاء، كأن تُبنى بها المساجد، والقناطر، والمدارس، وغير ذلك من الأمور؟ أو أن ذلك خاصٌّ بهذه الثمانية؟

الجواب: بل تُقصر الزكاة على هؤلاء الثمانية فقط؛ لأن اللَّه عز وجل بيَّن أمرهم، ولم يترك بيان ذلك لغيره عز وجل.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنَ الْعَدَدِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ).

الحقيقة: أنه لم يكن الخلاف في مسألتين فقط، وإنما في مسائل كثيرة.

ولكن المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى يُعنى -كما نعلم- بأمهات المسائل، ويقتصر على أظهرها وأقربها من منطوق النص، أو مفهومه.

* قوله: (إِحْدَاهُمَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ جَمِيعُ الصَّدَقَةِ، إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ؟).

يعني المؤلف رحمه الله بذلك أنه: هل يجوز أن يُقتصر في الزكاة على

(1)

أخرجه مسلم (2999) عن صهيب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له".

ص: 3515

صنفٍ واحد؛ كأن تُعطى للفقراء وحدهم؟ أو للمساكين وحدهم؟ أو للغارمين وحدهم؟ أو للمؤلفة قلوبهم وحدهم؟ أو لابن السبيل وحده إلى غير ذلك؟ أو أنه لا بد من تجزئتها؛ فيأخذ كل صنف من هذه الأصناف الثمانية نصيبًا منها، وقدْرًا محددًا؟

* قوله: (أَمْ هُمْ شُرَكَاءُ فِي الصَّدَقَةِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُمْ صِنْفٌ، دُونَ صِنْفٍ؟).

نعلم أن الآية الكريمة وزَّعت الزكاة، فجعلتها في مصارف ثمانية. فهل ندفع الزكاة لهؤلاء الثمانية جميعًا؛ أخذًا بظاهر النص، وامتناعًا عن تجاوزه؟ أو أنه يجوز لنا أن نصرفها في صنف واحد فقط، دون بقية الأصناف؟ وهل يجوز أيضًا أن تُصرف في فردٍ من أفراد هذا الصنف؟

بمعنى: إذا قلنا: يجوز أن تُصرف جميعها للفقواء وحدهم، فهل يجوز أن تُدفع إلى فقيرٍ واحد؟ شريطة ألا يصل إلى الحد الذي يكون به غنيًّا؛ لأن المراد من إعطائه أن يصل إلى حد الكفاية والكفاية، كما سيأتي الكلام عنها: هل هي لمدة عام؟ أو على الدوام؟ أو حتى يجد ما يكفيه؟

* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ

(1)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(2)

).

(1)

يُنظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 220)"وأما عموم الأصناف الثمانية المذكورة في الآية فلا يجب أن يعمها عند وجودها، خلافًا للشافعية، ولا يندب أيضًا فيجوز دفع جميعها الصنف واحد مع إمكان تعميمهم، ولو العامل إذا أتى بالشيء اليسير الذي لا يساوي تعبه، ولشخص واحد من صنف عند مالك وأبي حنيفة؛ لأن اللام في قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]. الآية لبيان المصرف والاستحقاق؛ أي: إنما الصدقات مستحقة للفقراء إلخ. ولا يلزم من الاستحقاق الإعطاء بالفعل لا للملك، أما إن لم يوجد إلا صنف واحد أو شخص منه أجزأ الإعطاء له إجماعًا. وأوجب الشافعي تعميم الأصناف إذا وجدوا، ولا يجب تعميم آحادهم إجماعًا. لعدم الإمكان، واستحب أصبغ مذهب الشافعي قال: لئلَّا يندرس العلم باستحقاقهم، ولما فيه من الجمع بين المصالح من سد الخَلَّة والغزو ووفاء الدين وغير ذلك، ولما يوجبه من دعاء الجميع ومصادقة ولي فيه. . . ".

(2)

"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 546)"ولو صرف إلى واحد من هؤلاء الأصناف يجوز عند أصحابنا".

ص: 3516

نقول: بل ذهب الأئمة؛ مالكٌ، وأبو حنيفة، وأحمد

(1)

، وجماهير العلماء إلى أنه يجوز أن تُصرف في صنفٍ واحد.

* قوله: (إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ؛ إِذَا رَأَى ذَلِكَ، بِحَسَبِ الْحَاجَةِ).

هذا القول هو قول جماهير العلماء -كما رأينا- ولم يُخالف في هذه المسألة إلا الإمام الشافعي.

وحجة الجمهور في ذلك:

قد استدل الجمهور على قولهم هذا بأدلة، وليست فقط -كما قال المؤلف رحمه الله متعلقة بالمعنى فحسب، وإنما قد استدلوا بنص حديث جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فقد جاء في حديث معاذ رضي الله عنه المتفق عليه، عندما أرسله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وقال له:"إنك ستأتي قومًا أهلَ كتاب؛ فليكن أولَّ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا اللَّه".

ثم بعد ذلك قال: "فإن هم أطاعوك -بعد أن ذكر الصلاة- فأَعْلِمهم أن اللَّه قد افترض عليهم صدقةً، تُؤخذ من أغنيائهم، فتُرد في فقرائهم"

(2)

.

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 287)"ولا يجب الاستيعاب، كما لو فرقها الساعي ولا) يجب (التعداد من كل صنف)؛ أي: لا يجب أن يعطي من كل صنف ثلاثة فأكثر، (كالعامل) على الزكاة لا يجب تعدده. (فلو اقتصر) رب المال في دفع الزكاة (على صنف منها)؛ أي: من الأصناف الثمانية (أو) اقتصر على (واحد منه أجزأه) ذلك، نص عليه وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس؛ لقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] الآية. ولحديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لليمن؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم لقبيصة: "أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها". وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر، ولو وجب الاستيعاب لم يجز صرفها إلى واحد؛ ولما فيه من العسر، وهو منفي شرعًا، والآية إنما سيقت لبيان من تصرف إليه، لا لتعميمهم، وكالوصية لجماعة لا يمكن حصرهم".

(2)

أخرجه البخاري (1496) ومسلم (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم =

ص: 3517

ونعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المُبيِّن لما أُجمِل في كتاب اللَّه عز وجل والموضِّح لذلك، وقد قال هنا لمعاذ رضي الله عنه:"فأَخْبِرهم أن اللَّه قد افترض عليهم صدقة، تُؤخَذ من أغنيائهم فتُرد في فقرائهم".

فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرسل رسوله معاذًا رضي الله عنه في مهمة، وهذه المهمة تتعلق بأركان الإسلام، والمقام مقام بيان، ولو كان لا يجوز قصر صرف الزكاة على صنفٍ واحد فقط، لبيَّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك لمعاذ رضي الله عنه؛ ولأَمَره أن يصرفَها في الفقراء شريطة ألَّا يجد غيرهم.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "تؤخَذ من أغنيائهم، فتُرد في فقرائهم": نصٌّ يتعلق بهذه المسألة، وقد اقتصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه على الفقراء وحدهم.

ولو نظرنا إلى فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسنجد أنه مرةً أعطى الفقراء، ومرةً أعطى المؤلَّفة قلوبهم، وأعطى غير هؤلاء. فكما أن السنة القولية التي جاءت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تدل على جواز الاقتصار على صنف واحد، فكذلك السنة الفعلية التي جاءت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تدل أيضًا على جواز ذلك.

فجماهير العلماء يرون أن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية بيَّنت ما في الآية؛ فقالوا: إن المراد من قول اللَّه عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] إلى آخر الآية. إنما المراد من ذلك والمفهوم: هو أن هذه الزكاة لا تُصرف لغير هؤلاء، بل تكون في هذه المصارف، ولا يُتجاوز بها إلى غيرها، وليس معنى الآية أنه لا يجوز أن تُصرف في صنفٍ، أو أكثر.

= لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين اللَّه حجاب".

ص: 3518

وأما الإمام الشافعي فقد أخذ بظاهر الآية، وبحديث زياد بن الحارث الصدائي -كما سيأتي- وهو حديثٌ مُتكلَّمٌ فيه.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ بَلْ يُقَسِّمُ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى).

قد يسأل سائل فيقول: أليس إخراج الزكاة للأصناف الثمانية حالة وجودها أولى من قصرها على صنف واحد؟

والجواب: نعم، ذلك أولى، فلا شك أننا لو أعطيناهم جميعًا نكون قد خرجنا من خلاف العلماء في هذه المسألة، والخروج من الخلاف مستحب

(2)

.

وننبه هنا إلى أمر مهم: وهو أن جمهور العلماء لم يقولوا: لا يجوز أن تُوزَّع الزكاة على الأصناف الثمانية، بل أجازوا قصر إخراجها في صنف واحد، وفَرْق بين الأمرين.

فالأصل أن تُوزَّع الزكاة على الأصناف كلها لو توفرت، ثم في الموجود من هذه الأصناف.

مثال توضيحي:

العامل الذي يجمع الزكاة جعله اللَّه من الأصناف المستحقة لأخذ الزكاة، فهو يأخذها مقابل عمله، لكن قد يكون هذا العامل الذي يوزِّع

(1)

يُنظر: "نهاية المحتاج"، للرملي (6/ 164)" (يجب) (استيعاب الأصناف) الثمانية بالزكاة ولو زكاة الفطر، وإن اختار جمع جواز دفعها لثلاثة فقراء أو مساكين، وآخرون جوازه لواحد، وأطال بعضهم في الانتصار له، بل نقل الروياني عن الأئمة الثلاثة وآخرين جواز دفع زكاة المال أيضًا إلى ثلاثة من أهل السهمان. قال: وهو الاختيار؛ لتعذر العمل بمذهبنا، ولو كان الشافعي حيًّا لأفتى به". وانظر: "أسنى المطالب"، للأنصاري (1/ 402).

(2)

يُنظر: "الأشباه والنظائر"، للسيوطي (ص: 136) قال: "القاعدة الثانية عشرة: الخروج من الخلاف مستحب".

ص: 3519

الصدقة هو الإمام، فلا يأخذها؛ لإغناء اللَّه إياه عن ذلك. وقد يكون صاحب الزكاة هو من يقوم بنفسه بجمعها وإخراجها، فلا يأخذ زكاة مقابل ذلك. ففي هاتين الحالتين لا نجد عاملًا نعطيه الزكاة، فتصبح الأصناف سبعة بدل ثمانية.

مثال آخر:

المؤلَّفة قلوبهم قد لا تكون هناك حاجة لإعطائهم؛ فلا يُعطَوْن، وإنما نعطي بقية الأصناف.

فجمهور العلماء لم يمانعوا من إعطاء الأصناف الثمانية جميعها لو وجدت، ولا من إعطاء ما وجد منها، ومع ذلك أجاوزا قصرها على صنف واحد.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي الْقِسْمَةَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يُؤْثَرَ بِهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ؛ إِذْ كانَ الْمَقْصُودُ بِهِ سَدَّ الْخَلَّةِ).

مراد المؤلف رحمه الله بذلك:

أن من مقاصد الزكاة وأهدافها: سد الخَلَّة

(1)

-بفتح الخاء- يعني النقص الذي يكون عند الفقير.

أما الخُلَّة -بضم الخاء- فهي الصداقة

(2)

، ولا نريدها هنا.

فالإنسان الذي يوجد عنده عجزٌ، فلا يستطيع أن يُنفق على نفسه ولا على أولاده، فإنه يستحق الأخذ من الزكاة؛ لسد هذا العجز. وينبغي ألا يفهم البعض من قول العلماء في الفقير مثلًا بأنه هو الذي لا مال له، أو

(1)

الخَلة -بفتح الخاء واللام-: الفقر والحاجة، والخُلة -بضم الخاء-: ما خلا من النبت انظر: "المصباح المنير"، للفيومي (ص 181).

(2)

الخُلَّة: الصَّداقة. انظر: "الغريب المصنف"، لأبي عبيد (1/ 388).

ص: 3520

ليس له كسب، أو الذي يجد مالًا لا يقع موقعه من كفايته، أو من لا يجد خمسين درهمًا أنه الذي لا شيء عنده بتاتًا! كلَّا، بل المراد أنه المحتاج.

فالفقير قد يسكن بيتًا، وبه أثاث، وقد تكون عنده دابة أو سيارة في الوقت الحاضر ولكنه مضطرٌّ إليها، ولا يستغني عنها، ومع ذلك فهو فقير محتاج؛ فيعطى من الزكاة لسد حاجاته الضرورية الأُخرى المتبقية والتي يعجر عن تحصيلها.

مثال: قد يكون هناك طالب علم عنده مجموعة كبيرة من الكتب -ولكنه محتاج إليها- ومع ذلك ليس عنده ما يكفيه لنفقته، أو لنفقه أولاده؛ فهل نمنع هذا من الزكاة؟! كلَّا.

فليس معنى الفقير هو ألا يجد الإنسان شيئًا أصلًا، بل القصد هنا أن يكون مُحتاجًا.

* قوله: (فَكَأَنَّ تَعْدِيدَهُمْ فِي الْآيَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا وَرَدَ لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ -أَعْنِي: أَهْلَ الصَّدَقَاتِ- لَا تَشْرِيكِهِمْ فِي الصَّدَقَةِ. فَالأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى).

سبق أن ذكرنا في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الزكاة: "تُؤخَذ من أغنيائهم، فتُرد في فقرائهم".

فها هو قد اقتصر على أول صنف من الأصناف الثمانية، وهذا دليلٌ على الجواز، خاصة أنه قد لا توجد هذه الأصناف كلها، فقد يكون أصحاب صنف ليسوا بحاجة للزكاة.

ونشير هنا إلى أن العامل على الزكاة لا يُشترط أن يكون فقيرًا ليأخذ من الزكاة، فهو إنما يأخذها مقابل عملِه، فلا يُنظر إلى كونه غنيًّا أو غير غني، وإن خالف بعض العلماء في ذلك. لكن الأَولى أن يوزِّعها الإنسان على الأصناف الثمانية كلها، فهذا ما يتفق مع نص الآية.

ص: 3521

* قوله: (وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

، عَنِ الصُّدَائِيِّ).

هذا الحديث رواه أبو داود، وابن ماجه

(2)

، وأحمد

(3)

، وغير هؤلاء

(4)

. وهو من رواية زياد بن الحارث الصُّدائي، لكن في سند هذا الحديث (عبدُ الرحمن بن زيادٍ الأفريقي)، وهو مُتكلَّم فيه

(5)

، كما نعلم، فقد يَهِمُ، مع أنه صالحٌ صاحب خير وتُقًى.

ولذلك اختُلف فيما يرويه صحةً وضعفًا، فكثيرٌ من العلماء يرى أن رواياتِه ضعيفة لا يُعتَمد عليها. وعلى كلِّ حال، فحديث الصُّدائي هذا -كما سيذكره المؤلف- هو شاهدٌ في ظاهره أيضًا لمذهب الشافعي.

* قوله: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

المؤلف رحمه الله جاء بالجزء الأخير من هذا الحديث فقط. وإليك نص الحديث -كما جاء في رواية زياد بن الحارث الصُّدائي- حيث قال: أمَّرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على قومي، فطلبتُ منه أن يعطيَني من الصدقة، فأعطاني. فهذا أول الحديث وقد أغفله المؤلف رحمه الله. وأما تكملته فهو

(1)

أخرجه أبو داود (1630) عن زياد بن الحارث الصدائي، قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبايعته، فذكر حديثًا طويلًا، قال: فأتاه رجل، فقال: أعطني من الصدقة. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه تعالى لم يرضَ بحُكم نبيٍّ ولا غيره في الصدقات، حتى حَكمَ فيها هو، فجزَّأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الاْجزاء أعطيتُك حقك".

وقال الألباني في "ضعيف أبي داود" - الأم (2/ 124): إسناده ضعيف؛ لسوء حفظ عبد الرحمن بن زياد، وهو: الأفريقي، وبه أعله المنذري.

(2)

لم أقف عليه.

(3)

لم أقف عليه.

(4)

أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 57).

(5)

قال الذهبى في "المغني في الضعفاء"(2/ 380): "مشهور جليل، ضعفه ابن معين والنسائي، وقال الدارقطني: ليس بالقوي، ووهاه أحمد".

ص: 3522

قوله: فجاء رجل، فقال: يا رسول اللَّه، أعطني من الصدقة. . . الحديث.

* قوله: ("إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ، وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ؛ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ").

لا شك أنه لا ينبغي لغني أن يسأل من الزكاة؛ ففي الحديث: أن رجلين جاءا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حجَّةِ الوداع، وهو يُقسِّم الصدقة، فطلبا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُعطيَهما. فصوَّب صلى الله عليه وسلم نظرَه فيهما، ثم وضعَه -يعني: خَفَضه- فرآهما جَلْدَين -يعني: قَوِيَّيْن- ثم قال: "إن شئتم أعطيتُكما، لكنه لا حظَّ فيها لغنيٍّ، ولا لقويٍّ مكتسِب"

(1)

. فالغني: لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة شيئًا. وقد يكون الإنسان ليس غنيًّا، ولا مال عنده، لكنه صاحب صنعة، كأن يشتغِل في مصنع، أو يكون نجارًا، أو حدَّادًا، أو قائد سيارة، المهم يعمل في عملٍ من الأعمال، أو في حرفةٍ من الحِرَف؛ فإنه في هذه الحالة يحصل على ما يُنفق به على نفسه، وعلى أولاده، ومَن تلزمه مؤونتهم ونفقتهم. فمثل هذا لا يُقال بأنه فقير؛ لأن الإنسان الذي يستطيع أن يعمل ويكسب فإنه يُعتبر غنيًّا حقيقة، فليس له أن يأخذ من الصدقة.

ولذلك لما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القوة في الرجلين، كما جاء في الحديث:"رجلين جلدين"، يعني: قويين، فنظر فيهما، يعني: صوَّبهما بنظره، ينظر، ثم خفض بصره صلى الله عليه وسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إن شئتُما أعطيتُكما": فتكونان حينئذٍ مسؤولين أمام اللَّه عز وجل بأَخْذِكما صدقةً لا تجوز لكما.

(1)

أخرجه أبو داود (1633) عن عبيد اللَّه بن عدي بن الخيار، قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه، فرآنا جلدين، فقال:"إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب" وقال الألباني في "إرواء الغليل"(876).

ص: 3523

فهذا منه صلى الله عليه وسلم تَبْيِين للحكم في هذه المسألة؛ حيث قال لهما: "إن شئتُما أعطيتكما، وإن شئتُما لم أُعطِكما -وسكت- لكنه لا حظَّ فيها لغنيٍّ، ولا قويٍّ مكتسِب".

وهما قويان يستطيعان العمل في أي عملٍ من الأعمال والكسب ولو بالاحتطاب؛ فنبههما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا.

وهذا هو الذي يبنغي أن يكون عليه كل إنسانٍ، داعية أو غيره، أن يبيِّن الحكم في وقته للناس.

* قوله: (وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهَلِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ حَقُّهُمْ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ، أَمْ لَا؟).

المؤلفة قلوبهم ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكونوا من المسلمين.

القسم الثاني: أن يكونوا من غير المسلمين.

المراد بالمؤلفة قلوبهم: هم الذي يُعطَوْن من الزكاة؛ تأليفًا لهم للدخول في الإسلام، أو لاتِّقاء شرورهم

(1)

. فهذا الذي يُعطى -كما قلنا- لا يخلو أن يكون مؤمنًا، أو كافرًا؛ فإن كان كافرًا، فيُعطى لأحد سببين:

السبب الأول: ترغيبًا له وحضًّا له على الدخول في الإسلام؛ فيكون هذا رجاء خيرِه ونفعِه للإسلام والمسلمين؛ أو ليدافعَ عن الإسلام والمسلمين.

السبب الثاني: وإما أن يُعطى ليُتقَّى شرَّه ويُدفَع ضرره عن الإسلام والمسلمين.

(1)

المؤلفة قلوبهم: قوم من أشراف العرب كان صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات بعضهم؛ دفعًا لأذاه عن المسلمين، وبعضهم طمعًا في إسلامه، وبعضهم تثبيتًا لقرب عهد بالإسلام. فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه منعهم ذلك، وقال: انقطعت الآن الرشا؛ لكثرة المسلمين. انظر: "المغرب في ترتيب المعرب"، للمطرزي (ص: 27).

ص: 3524

وإن كان من نريد تأليف قلبه من المسلمين، فإن هؤلاء قد تكون لهم قوةٌ وشوكةٌ في قومهم، فيُعطَون من الزكاة؛ ليكون حافزًا لهم وترغيبًا لهم في الثبات على الإسلام، وليقتدي بهم نظراؤهم بالدخول في الإسلام والثبات عليه، فلقد ورد في الحديث: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعطى الزبرقان بن بدرٍ، وأعطى عدِيَّ بنَ حاتمٍ

(1)

. وهما مسلمان؛ وذلك لمكانتهما وشوكتهما في قومهم، فأراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتأثر بهما غيرُهما من رؤساء القبائل، لعل ذلك ألن يكون دافعًا وحافزًا لهم للدخول في الإسلام.

وقد جاء في الحديث: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما أعطى صفوانَ بن أُميَّة، قال: واللَّه لقد كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم أبغضَ مَن على وجه هذه الأرض إليَّ! فما زال يمنَحُني حتى صار أحبَّ الناسِ إليَّ!

(2)

.

فالناس صنفان:

الصنف الأول: منهم من تُؤثر فيه الكلمة الطيبة؛ حيث تنفذ إلى قلبه، وتسكن في سُوَيْدائه، فيتأثر بالنصيحة والموعظة، ويُقبل على الخير.

الصنف الثاني: ومنهم من لا تُجْدي معه الكلمة الطيبة نفعًا؛ لما فيه غلظة وقسوة، فلا يُلينه إلا المال، فهذا المال يتألف الإمام به قلوب هؤلاء؛ فلذا أُعطوا من الزكاة؛ لما يُرجى من إعطائهم الخير للإسلام ودفاعهم عنه، أو لدفع شرهم عن المسلمين، أو اتقاء لأذاهم.

وقد كان من سياسة معاوية رضي الله عنه: أنه كان إذا رأى إنسانًا يأمر بقطع لسانه

(3)

. يعني: بالعطايا.

(1)

قال الألباني في "إرواء الغليل"(866): لم أقف على إسناده.

(2)

أخرجه مسلم (2313) عن ابن شهاب، قال: غزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح؛ فتح مكة، ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحنين، فنصر اللَّه دينه والمسلمين، وأعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ صفوان بن أمية مائةً من النعم، ثم مائة، ثم مائة. قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب، أن صفوان قال: واللَّه، لقد أعطاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.

(3)

لم أقف عليه.

ص: 3525

كذلك من يُعطَى من المؤلفة قلوبهم، وهم من المسلمين -كما قلنا- فلذلك لأنه قد تكودن لهم مكانة وهَيْمَنة وعزَّة ومجد في أقوامهم فيُعطَوْن؛ ليتأثر بهم غيرهم من أقوامهم، ويسلك مسلكهم بالدخول في الإسلام والذود عنه. وقد يوجد من المؤمنين من هو ضعيف الإيمان فيُعطى؛ ليقوَى إيمانه.

وقد جاء في الحديث: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أعطى أمثال هؤلاء؛ حيث أعطى أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه، وأعطى عيينةَ بن حصن، وأعطى الأقرعَ، وأعطى غير هؤلاء

(1)

.

ونعرض الآن للمسألة التي ذكرها المؤلف رحمه الله هنا، وهي: هلِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ حَقُّهُمْ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ، أو أنه قد انتهى؟

نعلم أن الإسلام أول ما بدأ كان أهله ضعفاء، ثم لا زال الإيمان يقوى، حتى انتشر - بحمد للَّه فعمَّ جزيرة العرب، ثم بعد ذلك امتد شرقًا وغربًا، وجنوبًا وشمالًا، وأخذ الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجًا.

فحال المسلمين الأوائل في مكة لا يخفى على أحد، ونعلم ما حصل لهم من حرب من أعداء الإسلام، وما كان يحل بهم من أذًى وقرح ونصب من المشركين، إلى أن أَذِن اللَّه عز وجل بالهجرة إلى المدينة.

فأسس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أول دولةٍ إسلامية، في هذه البلدة الطاهرة؛ طيبة الطيبة، فبدأت دولة الإسلام تقوى شوكتها، ويشتد عودها، وأخذ دين اللَّه ينتشر، وأخذ المسلمون يفتحون البلاد، وينشرون دين اللَّه في كل مكان، فقويت شوكةُ هذه الدولة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ثم أخذت تقوى أيضًا شيئًا

(1)

أخرجه مسلم (1060) عن عن رافع بن خديج، قال: أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك. فقال عباس بن مرداس:

أتجعل نهبي ونهب العبيد

بين عيينة والأقرع

فما كان بدر ولا حابس

يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تخفض اليوم لا يرفع

قال: فأتم له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مائة".

ص: 3526

فشيئًا في عهد الخلفاء الراشدين، وهكذا مرت العصور، إلى أن وصلت غايةَ مجدها وأَوْجها في أوائل الدولة العباسية، كما نعلم؛ فقد امتد نطاقها، ودخلت بلاد الأندلس ضِمن رقعة الدولة الإسلامية، وأصبح نداء (اللَّه أكبر) يُسمع في كل مكان، وفي كل بقعةٍ من بقاع الأرض، بالفعل هذا حصل.

وانتشر نور الإيمان في كل مكان، والإيمان -كما هو معلوم- يسري بين الناس؛ لأنه دين الفطرة، ولأنه الدين الحق، فإن كل من عرف هذا الإسلام على حقيقته فلا شك أنه - إن لم يكن مكابرًا معاندًا، سيتأثر به، ويدخل فيه.

حتى إن المشركين -مع ما كانوا عليه من وقوفٍ في وجه الإسلام، ومن عناد، ومن حقدٍ على الإسلام- كانوا يتسللون لِوَاذًا فيأتون؛ ليسمعوا القرآن يُتلى من أبي بكرٍ

(1)

، ومن غيره في مكة

(2)

.

(1)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه (3/ 98) عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:"لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا ياتينا فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرًا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ولصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصلِّ، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا. قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة، ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدًا بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن. . . . . ".

(2)

كأنه يُشير إلى ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (1/ 315) "عن محمد بن مسلم بن =

ص: 3527

والسؤال: هل نقول -بعد أن ظهر الإسلام، وقوي المسلمون-: لا حاجة لإعطاء صنف المؤلفة قلوبهم من الزكاة؛ فقد قويت الدولة الإسلامية، وانقطع هذا الأمر أو لا؟

نقول: إن العلماء الذين تكلموا في هذه المسألة، سواءٌ كان الإمام أبو حنيفة، أو الإمام مالك، أو الإمام الشافعي، أو الإمام أحمد، كلهم كانوا في وقت قوة الدولة الإسلامية وعزتها. فهل الإسلام بقي في كل مراحله على حالته الأولى؟ لا، بل لقد مر الإسلام بنكبات؛ إما:

(1)

من أبنائه الذين خرجوا فرقًا وشيعًا وأحزابًا؛ فأخذوا يضربون في جسم الأمة الإسلامية، حتى تركوا آثارًا سيئة.

(2)

أو من أعداء الإسلام الذين جاؤوا من كل حدبٍ وصوب.

فنحن نجد أن الإسلام يقوى ويضعف، ثم تعود قوته، كما رأينا في عهد صلاح الدين، ثم بعد ذلك دبَّ الضعف، وجاء أيضًا -كما نعلم- التتار وحصل منهم ما حصل، ثم عادت للمسلمين قوتهم عندما عادوا إلى كتاب اللَّه عز وجل، وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونبذوا ما بينهم من خلاف، وحاربوا ما كان مُنتشرًا بينهم من معاصي، فنصرهم اللَّه عز وجل، وعادت لهم العزة، والمجد، فأصبحوا مرةً أُخرى سادة العالم وقادته، وهكذا.

= شهاب الزهري أنه حدث: أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسًا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود: فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا".

ص: 3528

فالإسلام ودولته لم يبقيا على حالٍ واحد: فهل المؤلفة قلوبهم يُعطَوْن من الزكاة في كل حال؟ أو في حال دون حال؟

لقد أُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا نُعطِي على الإسلام شيئًا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

(1)

.

ونُقل عن الإمام مالكٍ أنه قال: لا يُعطَى المؤلَّفة اليوم

(2)

.

أما الإمام أحمد فقد انفرد من بين الأئمة الأربعة، فقال: يُعطى المؤلفة قلوبهم

(3)

.

نعود مرةً أُخرى لنناقش هذه المسألة مناقشة علمية، ثم نحاول أن نطبق ذلك على عصرنا الحاضر، وكلنا -بحمد اللَّه- يعلم الآن ما يواجهه المسلمون في كثيرٍ من البلاد. نحن في هذه البلاد - كما نرى نعيش في أمن، وفي أمان، وفي رغد، وفي خير، فالإنسان يخرج إلى بيت اللَّه لا يسأل، ويدعو إلى الخير، وإلى الصلاح.

(1)

قال الحافظ في "التمييز"(5/ 2141): "هذا الأثر لا يعرف. وقد ذكره الغزالي في "الوسيط" وزاد: إنا لا نعطي على الإسلام شيئًا. وذكره أيضًا صاحب "المهذب" وعزاه النووي إلى تخريج البيهقي، وليس فيه إلا قصة الأقرع وعيينة مع أبي بكر وعمر، حين سألا أبا بكر أن يقطع لهما، وفيه تخريق عمر الصحيفة، وقوله لهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن اللَّه قد أعز الإسلام فاذهبا".

(2)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (2/ 359) حيث قال: "اختلف: هل يعود ذلك السهم إن احتيج إليه، أم لا يعود؟ فرأى مالك: أنه لا يعود. . . ".

(3)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 294) حيث قال:"المؤلفة قلوبهم وحكمهم باق وهم رؤساء قومهم؛ من كافر يرجى إسلامه، أو كف شره، ومسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره، أو نصحه في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين، أو كف شر، كالخوارج ونحوهم، أو قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخوف ويهدد، كقوم في طرف بلاد الإسلام إذا أعطوا من الزكاة جبوها منه. ويقبل قوله في ضعف إسلامه لا أنه مطاع في قومه إلا ببينة، ولا يحل للمؤلف المسلم ما يأخذه إن أعطي ليكف شره، كالهدية للعامل وإلا حل".

ص: 3529

وربما بعض من لم يسافر لا يُدرك ما يدور في كثير من البلاد الإسلامية، وما يحل بالمسلمين.

ونأتي إلى حكم إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة الآن:

فنقول: لقد قال اللَّه عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60].

فاللَّه عز وجل ذكَرَ المؤلفة قلوبهم ضمن هذه الأصناف الثمانية، ولم يرد نصٌّ ينسخ هذه الآية، لا في كتاب اللَّه عز وجل، ولا في سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بل إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد التقى بالرفيق الأعلى، ولم يُنقل عنه نصٌّ ينسخ ذلك. ولا يخفى أن دعوى النسخ تحتاج إلى دليلٍ وإثبات، وهنا في هذه المسألة: لا دليل على ذلك، ودعوة أن العلة قد زالت فليس هذا على الإطلاق، بل إننا نقول: لا يُعطَى المؤلفة قلوبهم إذا لم نكن بحاجة إليهم، لكننا نُعطيهم إذا كنا بحاجة إلى أن يدخل أُناس في الإسلام، أو لنتقي شرهم، أو لندفع أذاهم عن المؤمنين.

فالقول الحق في نظري هنا هو أن حكم المؤلفة قلوبهم باقٍ إلى يوم القيامة، وأن هذا حكمٌ لم يُنسخ؛ لأن النسخ يحتاج إلى دليل، ولا دليل على نسخه؛ ولذلك لما ذكر ذلك للإمام الزهري

(1)

-ونعلم أنه من أئمة الحديث وجهابذته- قال: لم يَرِد ما يمنع إعطاءَ المؤلفة قلوبهم.

وهذا هو رأي الإمام أحمد

(2)

أيضًا، وهو قول في مذهب الإمام الشافعي كذلك

(3)

، وقال به أئمة في مذهب الإمام

(1)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 497) "قال الزهري: لا أعلم شيئًا نسخ حكم المؤلفة".

(2)

تقدم قوله.

(3)

وهو المذهب "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 178) حيث قال: " (والمؤلفة): جمع مؤلف من التألف، وهو جمع القلوب، وهو (من أسلم ونيته ضعيفة)، فيتألف ليقوى إيمانه ويألف المسلمين، ويقبل قوله في ضعف النية بلا يمين. (أو) من أسلم ونيته في الإسلام قوية، ولكن (له شرف) في قومه (يتوقع بإعطائه إسلام غيره) من نظائره =

ص: 3530

مالك

(1)

. فلو راجعنا مذهب الإمام مالك لوجدنا من قال بهذا القول، كالإمام ابن حبيب

(2)

، وغيره أيضًا من أئمة المالكية.

وننبه هنا: إلى أن هذا القول في المذهب الشافعي ليس بضعيف، وإن كان القول المصحَّح عندهم هو الموافق لقول الإمامين؛ أبي حنيفة

(3)

، ومالك

(4)

.

وعليه: فهذا القول موجودٌ في كل المذاهب، وبالنظر إلى حال المسلمين الآن، نجد أن الإسلام يُحارَب في كل مكانٍ من قِبَل أعدائه، بل إنه يوجد ممن ينتسب إلى الإسلام من له مواقف يحارب بها الإسلام. ونجد ما يُعرف الآن بالتنصير، وما يُعرف بالتبشير، وقد أُقيمت لهذا المدارسُ، والمراكز، ودُفعت الأموال، وأُعطيت الإغراءات من أموال،

= ولا يصدق في شرفه إلا ببينة (والمذهب: أنهم يعطون من الزكاة)؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60]. إذ لو لم نعط هذين الصنفين من الزكاة لم نجد للآية محملًا. والقول الثاني: لا يعطون؛ لأن اللَّه تعالى قد أعز الإسلام وأغنى عن التأليف بالمال. والثالث: يعطون من خمس الخمس؛ لأنه مرصد للمصالح، وهذا منها".

(1)

سيأتي.

(2)

يُنظر: "التاج والإكليل"، للمواق (3/ 231) حيث قال:"الصحيح أن حكم المؤلفة قلوبهم باق. . . . وعزا ابن عرفة القول الأول لابن حبيب".

(3)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 342)" (قوله وسكت عن المؤلفة قلوبهم) كانوا ثلاثة أقسام: قسم كفار كان صلى الله عليه وسلم يعطيهم؛ ليتألفهم على الإسلام. وقسم كان يعطيهم ليدفع شرهم. وقسم أسلموا وفيهم ضعف في الإسلام، فكان يتألفهم؛ ليثبتوا وكان ذلك حكمًا مشروعًا ثابتًا بالنص، فلا حاجة إلى الجواب عما يقال: كيف يجوز صرفها إلى الكفار؟ بأنه كان من جهاد الفقراء في ذلك الوقت أو من الجهاد؛ لأنه تارةً بالسنان وتارةً بالإحسان أفاده في الفتح. (قوله: لسقوطهم)؛ أي: في خلافة الصديق لما منعهم عمر رضي الله عنه وانعقد عليه إجماع الصحابة، نعم على القول بأنه لا إجماع إلا عن مستند يجب علمهم بدليل أفاد نسخ ذلك قبل وفاته صلى الله عليه وسلم أو تقييد الحكم بحياته أو كونه حكمًا ملغيًّا بانتهاء علته، وقد اتفق بعد وفاته وتمامه في الفتح لكن لا يجب علمنا نحن بدليل الإجماع كما هو مقرر في محله".

(4)

تقدم.

ص: 3531

وعلاج؛ وغير ذلك؛ واستُغلت قضية الفقر أيضًا؛ ووجدنا أن أموالًا طائلة رُصدت لأجل ذلك.

والسؤال: أليس في إعطاء هؤلاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة خير للإسلام؛ ليمثل هؤلاء سدًّا منيعًا ويقفوا في وجه أولئك الذين يحاولون أن يحرفوا هؤلاء عن الطريق السويِّ؛ ويلقون بهم في أحضان الكفر؟

ثم أليس إعطاؤهم من الزكاة هو حصنًا متينًا لأولئك الذين تُوجَّه إليهم سهام أعداء الإسلام عن طريق التعرض للإسلام بزعم أن الإسلام لم يعالج مشاكلهم؛ ولم يغنهم من فقرهم؛ زاعمين لهم أنهم لو دخلوا في الدين الفلاني؛ أو انضموا إلى كذا؛ لكان في ذلك نصرًا لهم؛ ورفعًا لمعنوياتهم؛ إلى غير ذلك مما هو معروف؟

فكثيرة هي البلاد الإسلامية التي عمل التنصير فيها؛ ففي أفريقيا؛ وفي غيرها نماذج كثيرة موجودة.

نقول: بل نعطيهم لأجل دفع كل هذا؛ ولا مانع من أن يُعطى الضعفاء من المسلمين؛ ليتمكن الإسلام في قلوبهم؛ ولا مانع أيضًا من أن يُعطى من لهم قوة وشوكة؛ تمكينًا وترغيبًا وإعانةً لهم للبقاء على الإسلام والثبات عليه ونشره بين الناس؛ وربما يكون ذلك جذبًا لمن لم يسلموا؛ لعلّهم أن يدخلوا في الإسلام.

فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أعطى المؤلفة قلوبهم، واستهواهم فدخلوا في الإسلام، وأعطى أيضًا من دخل في الإسلام ممن لم يستقر الإيمان في قلبه غاية الاستقرار.

وقد قال اللَّه عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].

فنحن بذلك نقتدي برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ وبما فَعَله، فقد أعطى المؤلفة قلوبهم على اختلاف أنواعهم.

فلا مانع أيضًا أن يُعطَى المؤلفة قلوبهم من المسلمين ومن غيرهم من

ص: 3532

أموال الزكاة -إن لم يعطوا من الصدقات غير الواجبة- إن وُجدوا في أي عصرٍ، وفي أي وقت، وفي أي مكان.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: لَا مُؤَلَّفَةَ الْيَوْمَ)

(1)

.

الإمام مالكٌ لما قال هذا القول: (لا مؤلفة اليوم) فإنما قصد عصره الذي عاش فيه. ونحن نعلم أن الإمام مالكًا عاش في عصر أبي جعفر المنصور، ومكث بعد ذلك إلى عصر الرشيد، وهو الوقت الذي وصل فيه الأمر إلى أن الرشيد كان ينظر إلى السحابة ويقول: أنَّى كنتِ فسوف يأتيني خراجُكِ!

(2)

.

فالإمام مالكٌ عاش في وقتٍ كان الإسلام في أَوْج مجده وقوته وعزته.

فلذا حُقَّ له أن يقول: لا مؤلفة اليوم. فالقوة وقته كانت للإسلام وللمسلمين: فكيف يُعطى الكفار عبر إخراج الزكاة للمؤلفة قلوبهم؟ فما كان المسلمون في وقته بحاجة لأن يعطوا غيرهم من الكفار.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(3)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(4)

: بَلْ حَقُّ الْمُؤَلَّفَةِ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ؛ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ).

هذه المسألة تحتاج في الحقيقة إلى تحليل، وقد عرضها المؤلف رحمه الله كما رأينا.

ولذا فإننا نعرض أقوال الأئمة فيها على هذا النحو التالي:

(1)

الإمام أبو حنيفة

(5)

: يرى قولًا واحدًا؛ وهو أن المؤلفة قلوبهم لا يُعطون من الزكاة مطلقًا.

(1)

تقدم قوله.

(2)

لم أقف عليها من قول هارون الرشيد.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

(5)

تقدم.

ص: 3533

(2)

والإمام أحمد

(1)

: وجدنا في مذهبه قولًا واحدًا؛ وهو أنهم يعطون مطلقًا.

فهذان القولان من الإمامين؛ أبي حنيفة وأحمد متقابلان.

(3)

وأما الإمام مالك: فقد قَالَ -كما حكى المؤلف رحمه الله: لَا مُؤَلَّفَةَ الْيَوْمَ.

(2)

لكنَّ عددًا من أصحابه يرون أنهم يُعطون.

(4)

وأما الإمام الشافعي: فله في ذلك قولان

(3)

:

القول الأقوى: أنهم لا يُعطَون.

والقول الآخر: أنهم يُعطَون. وهو أيضًا قولٌ لبعض الشافعية.

فقول الإمام أحمد: لم ينفرد به في الحقيقة، وإنما هو قولٌ لكثيرٍ من العلماء داخل المذاهب الأربعة، وخارجها.

* قوله: (وَهُمُ الَّذِينَ يَتَأَلَّفُهُمُ الْإِمَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ).

هناك أمر فاتنا ذكره فيما يتعلق بإعطاء الزكاة لصنف واحد من الأصناف الثمانية.

فقد أُثر عن حذيفة وعن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: تُصرَف في صنفٍ واحد

(4)

.

وهذا القول قد صح عنهما، ولم يُنقل مخالف لهما من الصحابة؛ فهذا دليلٌ قوي بالنسبة لهذه المسألة السابقة.

(1)

تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

يُنظر: "المجموع"، للنووي (6/ 186) "قال ابن المنذر وغيره: وروي هذا عن حذيفة وابن عباس. قال أبو حنيفة: وله صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف".

ص: 3534

فالإمام أبو حنيفة لا يرى إعطاء المؤلفة مطلقًا؛ إما لأن الحكم منسوخ، أو لأن علته قد زالت.

وللرد على ذلك نقول:

(1)

أما حجته الأولى: فلا نسلم بها؛ لأن النسخ -كما علمنا- يحتاج إلى دليل، ولا دليل هنا؛ فلا نسخ إذًا.

(2)

أما حجته الثانية: فالقاعدة الفقهية المعروفة -وهي أن الحكم يزول بزوال علته وجودًا وعدمًا

(1)

- ليست مُسلَّمة، ولا تنطبق عند التطبيق على كل الأحكام، بل على بعضها فقط.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟).

نقول: دعوى التخصيص تحتاج إلى دليل، ولا دليل يدل على أن ذلك خاصٌّ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ولو كان الأمر يخصه لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا حكم اللَّه وشرعه، وشرع اللَّه يجب أن يُبيَّن، فقد قال اللَّه عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وقال اللَّه عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم-أيضًا: {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]. فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد بيَّن ما في آية أصناف الزكاة، وطبَّقه تطبيقًا عمليًّا، وما يصدر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو حكمٌ عام، وما يخصه فلا بد أن يأتي دليلٌ يخصه.

* قوله: (أَوْ عَامٌّ لَهُ، وَلِسَائِرِ الْأُمَّةِ؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَامٌّ)

(2)

.

نحن نقول: هو بالفعل عام، كما قال المؤلف رحمه الله. وهذا في

(1)

انظر لشرح هذه القاعدة "موسوعة القواعد الفقهية"، لمحمد آل بورنو (12/ 26).

(2)

يُنظر: "الحاوي الكبير"، للماوردي (8/ 498) حيث قال:" (ولو قال) قائل كان هذا السهم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان له أن يضع سهمه حيث يرى فقد فعل هذا مرة وأعطى من سهمه بخيبر رجالًا من المهاجرين والأنصار؛ لأنه ماله يضعه حيث رأى، ولا يعطى أحد اليوم على هذا المعنى من الغنيمة، ولم يبلغنا أن أحدًا من خلفائه أعطى أحدًا بعده. ولو قيل: ليس للمؤلفة في قسم الغنيمة سهم مع أهل السهمان، كان مذهبًا، واللَّه أعلم".

ص: 3535

الحقيقة مسلكٌ جيد من المؤلف رحمه الله. ويعجبني منه أنه لا يتحيَّز لمذهبٍ، ولا يتعصب في أي مسألة من المسائل، وهذا هو شأن طالب العلم أينما كان، وفي أي وقت، وفي كل مكان.

* قوله: (وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؟ أَعْنِي: فِي حَالِ الضَّعْفِ، لَا فِي حَالِ الْقُوَّةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْمُؤَلَّفَةِ الْآنَ؛ لِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا: الْتِفَاتٌ مِنْهُ إِلَى الْمَصَالِحِ).

وهذا الفهم من المؤلف رحمه الله جيد. فالأئمة؛ أبو حنيفة ومالك والشافعي

(1)

لما ذهبوا إلى أنه لا حاجة لإعطاء المؤلفة قلوبهم، فلأن ذلك -كما قلنا- كان في وقت قوة الإسلام وهيمنة دولته وغلبتها.

وأما الإمام أحمد

(2)

: فمع أنه عاش في وقمت قوة الدولة الإسلامية -أيام الدولة العباسية- إلا أنه رأى جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم؛ لأنه لم يجد ما ينسخ ذلك، أو يُغيِّر حكمه.

[الفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَات أهل الزكاة الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا الصَّدَقَةَ]

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(1)

تقدم قوله.

(2)

تقدم قوله.

ص: 3536

(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الصِّفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي صَرْفَهَا إِلَيْهِمْ).

السؤال هنا: هل لأهل الزكاة صفات معينة متى ما توفرت فيهم صرفت لهم؟ أو يعطَون من الزكاة مطلقًا في كل الأحوال؟ وهذا يتطلب أن نعرف: من هو الفقير؟ ومن هو المسكين؟ ومن هم المؤلفة قلوبهم؟ وقد تكلمنا عن هؤلاء؛ لأن المؤلف رحمه الله قدَّم ذكرهم.

* قوله: (وَأَمَّا صِفَاتُهُمُ الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا الصَّدَقَةَ، وَيَمْنَعُونَ مِنْهَا بِأَضْدَادِهَا؛ فَأَحَدُهَا: الْفَقْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْغِنَى).

معنى الفقر: هو ضد الغِنى. وقد قال اللَّه عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60].

فالغني -والذي هو ضد الفقير- لا يأخذ من الزكاة. فهل الغني هو من يملك نِصابًا -يعني: مائتي درهم، أو ما يقابلها- لأنه بهذا تجب عليه الزكاة، كما عرفنا؟

فالذي يملك أربعين شاة قد لا تكفيه هذه الشِياة لقُوتِه، وربما لا يجد ما يأكله! فهل نعتبر هذا غنيًّا؛ لأنه ملك النِّصاب ولا نربط ذلك بالحاجة؟ أو نقول: هو محتاج؟ وعليه: فالغني: هو الذي يجد كفايته. والفقير: هو الذي لا يجد ما يكفيه، ويكفي من هم تحت مؤنته.

* قوله: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]).

هذا نصٌّ من اللَّه عز وجل.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَنِيِّ الَّذِي تَجُوزُ لَهُ الصَّدَقَةُ مِنَ الَّذِي لَا تَجُوزُ؟ وَمَا مِقْدَارُ الْغِنَى الْمُحَرِّمِ لِلصَّدَقَةِ؟

ص: 3537

فَأَمَّا الْغَنِيُّ الَّذِي لَا تَجُوزُ لَهُ الصَّدَقَةُ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ

(1)

عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ لِلْأَغْنِيَاءِ بِأَجْمَعِهِمْ، إِلَّا لِلْخَمْسِ الَّذِينَ نَصَّ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فِي قَوْلِهِ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

(2)

).

أما الغازي: فسيأتي الكلام في تفسيره. وأشهر معانيه: ما جاء بعده؛ وهو قوله: "فِي سَبِيلِ اللَّهِ".

* قوله: (أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا).

(1)

مذهب الحنفية، يُنظر:"بدائع الصنائع"، للكاساني (2/ 47) حيث قال:"وكما لا يجوز صرف الزكاة إلى الغني لا يجوز صرف جميع الصدقات المفروضة والواجبة إليه، كالعشور والكفارات والنذور وصدقة الفطر؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغنيٍّ". ولأن الصدقة مال تمكن فيه الخبث؛ لكونه غسالة الناس؛ لحصول الطهارة لهم به من الذنوب، ولا يجوز الانتفاع بالخبيث إلا عند الحاجة والحاجة للفقير لا للغني".

مذهب المالكية، يُنظر:"مواهب الجليل"، للحطاب (2/ 347)"ولا تحل الزكاة لغني إلا لخمسة. . .، وأما غير الزكاة من التطوع فجائز للغني والفقير".

مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"(2/ 477) حيث قال: "لا مكفي بأب، أو زوج ويدخل) فيه (أرباب صنائع تكفيهم ولا مال لهم)، فيعطون من مال الوقف وإن لم يعطوا من الزكاة. قال السبكي: لأن الاستحقاق ثم بالحاجة لا بالفقر ولا حاجة بهم إلى الزكاة. وهنا باسم الفقر وهو موجود فيهم بدليل خبر: "لا حقَّ فيها -أي الزكاة- لغنيٍّ ولا لقوي يكتسب".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 285) حيث قال:(ولا يعطى أحد منهم)؛ أي: المذكورين من أصناف الزكاة (مع الغنى)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تحل الصدقة لغني ولا ذي مرة سوي". رواه أبو داود والترمذي من حديث عمرو بن العاص. والمرة: القوة والشدة، والسوي: المستوي الخلق التام الأعضاء. (إلا أربعة العامل) قال في الشرح والمبدع: بغير خلاف نعلمه".

(2)

أخرجه مالك في الموطأ مرسلًا (1/ 268) عن عطاء بن يسار، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل اللَّه، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني".

ص: 3538

العامل: معروف، كما جاء في الآية الكريمة.

* قوله: (أَوْ لِغَارِمٍ).

علة أخذ الغَارِم من الزكاة: يأخذ منها؛ إما لإصلاح نفسه، أو لإصلاح غيره.

مثال على الحالتين:

فهو قد يتحمل دَينًا لحاجة نفسه، وقد يتحمل دَينًا لإصلاح ذات البين بين مُتَخاصمَين.

* قوله: (أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَازٌ مِسْكِينٌ).

لقد ترك المؤلف رحمه الله الخامس، فأسقطه، وهو:"أو لرجلٍ اشتراها بمالِه".

يعني: رجل وجد زكاة تُباع فاشتراها بماله. فهي لغازٍ في سبيل اللَّه، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجلٍ اشتراها بماله، أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَازٌ مِسْكِينٌ، فأعطاه من الصدقة، فأهدى الفقير للغني.

مسألة: لو أن إنسانا أعطى آخر من زكاته، فطبخ طعامًا، فأهدى للغني فلا مانع أن يأكل الغني من ذلك، فهذا الحديث يدل على جواز ذلك.

* قوله: (فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ").

هذا الحديث رواه أبو داود

(1)

، والترمذي

(2)

، وأحمد

(3)

، وابن ماجه

(4)

،

(1)

أخرجه أبو داود (1635) وقال النووي في "المجموع"(6/ 218): هذا الحديث حسن أو صحيح.

(2)

لم أقف عليه.

(3)

أخرجه أحمد (11538)

(4)

أخرجه ابن ماجه (1841).

ص: 3539

والبيهقي

(1)

، وغير هؤلاء

(2)

. وله عِدَّة طرق، وقد صححه جمعٌ من العلماء، ورأَوا أنه صالحٌ للاحتجاج به

(3)

.

وقد سمى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من يُعطَى من الزكاة وهو غني.

* قوله: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ).

ابن القاسم هذا: هو صاحب الإمام مالك، وهو إمام معروف.

* قوله: (أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِغَنِيٍّ أَصْلًا؛ مُجَاهِدًا كَانَ، أَوْ عَامِلًا)

(4)

.

هذا الكلام: غير مسلَّم في حقيقة الأمر؛ لأن العامل قد يكون غنيًّا، ومع ذلك يجوز أن يأخذ من الزكاة، وكذلك الغازي: قد يكون غنيًا، ومع ذلك يجوز أن يأخذ من الزكاة؛ وذلك لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سمى هؤلاء وأجاز إعطاءهم من الزكاة في قوله:"لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ، إِلَّا لِخَمْسَةٍ".

ثم بيَّنهم فقال: لِغَازٍ فِي يسَبِيلِ اللَّهِ، أو لِغَارِمٍ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أو لرجلٍ اشتراها بماله.

* قوله: (وَالَّذِينَ أَجَازُوهَا لِلْعَامِلِ -وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا- أَجَازُوهَا: لِلْقُضَاةِ).

العامل إنما يأخذ الزكاة مقابل عمله. والعاملون على الزكاة: هم

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 23).

(2)

أخرجه ابن الجارود في المنتقى (ص: 99)، وأبن خزيمة في صحيحه (4/ 69).

(3)

قال الأرناوؤط في حاشية المسند: حديث صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين لكن اختلف في وصله وإرساله، وصحح الموصول إبن خزيمة والحاكم والبيهقي وابن عبد البر والذهبي. وعلى فرض إرساله يتقوى بعمل الأئمة ويعتضد. ورجح المرسل الدارقطني وابن أبي حاتم.

(4)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 205) حيث قال:"وكان ابن القاسم يقول: لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل اللَّه، وإنما يجوز ذلك للفقير".

ص: 3540

السُّعاة الذين يذهبون لجمع الزكاة وأخذها، كمن يذهب للخَرْص، وقد مر بنا قريبًا ذِكره. ويدخل في ذلك أيضًا كاتب الزكاة الذي يرشد الساعي إلى مواضع الصدقة. ويدخل في ذلك أيضًا الذي يخدم أعمال الصدقة. ويدخل في ذلك أيضًا السائق الذي يحمل السُّعاة والكاتبين، ويحمل الزكاة. فكل هؤلاء الذي يعملون في مجال الزكاة يستحقون الأخذ منها؛ لدخولهم في مسمى العاملين عليها.

أما إذا كان هذا العامل أو الساعي يُعطى من بيت المال فلا يأخذ من الزكاة، وذلك إذا كان له راتب قد خصص له -كما نجد ذلك في عصرنا هذا- فلا يجوز لهم الأخذ من الزكاة في هذه الحالة. وسيأتي ذلك أيضًا بالنسبة لصنف (في سبيل اللَّه) فهذا الذي خرج يغزو في سبيل اللَّه إذا كان مسجلًا في ديوان الجند ويُعطَى راتبًا كما نرى وله مكافآت، فلا يحل له الأخذ من الزكاة في هذه الحالة. فالذي يحل له الأخذ من الزكاة هو من ليس له شيء في بيت المال.

* قوله: (وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ).

هذا القياس الذي ذكره المؤلف رحمه الله، وذكره غيره من العلماء قد لوحظت فيه المنفعة.

باعتبار أن القضاة قد حبسوا أنفسهم -كما هو معلوم- في خدمة الإسلام؛ ولفصل المنازعات بين الناس، وللقضاء بينهم، ولنشر العدل، ولإقامة الحق، ودرء الفساد، والحكم في الحدود وفي القصاص، وغير ذلك، فهم قد فرغوا أنفسهم لذلك. وكذلك أيضًا مَن يشتغلون بالعلم الشرعي، ومن يشتغل بالأذان، ونحو هذا. فهل يأخذ هؤلاء من الزكاة؟

نقول: كل من رصدت لهم أرزاق، أو مرتبات تكفيهم فلا يحل لهم الأخذ من الزكاة، ولا يعطون منها.

ص: 3541

* قوله: (مِمَّنِ الْمَنْفَعَةُ بِهِمْ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ).

أمثلة توضح مراد المؤلف رحمه الله بقوله: (مِمَّنِ الْمَنْفَعَةُ بِهِمْ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ):

يدخل في هؤلاء القضاة، والذين يشتغلون في الحِسْبة، والذين يشتغلون في خدمة الحجاج، وأمثال ذلك. فإذا لم يصرف لهؤلاء مرتب ينفقون منه على أنفسهم ويقتاتون منه ويكفيهم، فيجوز إعطاؤهم من الزكاة.

أما الأغنياء منهم غير المحتاجين، فلا يأخذون من الزكاة.

* قوله: (وَمَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فَقِيَاسُ ذَلِكَ عِنْدَهُ: هُوَ أَنْ لَا تَجُوزَ لِغَنِيِّ أَصْلًا. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ هَلِ الْعِلَّةُ فِي إِيجَابِ الصَّدَقَةِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ هُوَ الْحَاجَةُ فَقَطْ، أَوِ الْحَاجَةُ وَالْمَنْفَعَةُ الْعَامَّةُ؟ فَمَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ، قَالَ: الْحَاجَةُ فَقَطْ. وَمَنْ قَالَ: الْحَاجَةُ وَالْمَنْفَعَةُ العَامَّةُ تُوجِبُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ، اعْتَبَرَ الْمَنْفَعَةَ لِلْعَامِلِ، وَالْحَاجَةَ بِسَائِرِ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ).

هذا أيضًا تعليل جيد من المؤلف رحمه الله. فسبب الخلاف: هل العِلَّة هي الحاجة؟ فنقول: تقصر الزكاة على المحتاجين فقط؟ والعِلة هي الحاجة والمنفعة أيضًا؟ فقد لا يكون الإنسان محتاجًا، لكن فيه منفعة كبيرة للإسلام، وأهله: فهل نعطيه من الزكاة؟ هذا الذي يريد المؤلف رحمه الله توضيحه.

فمن وسع المقام، وجعل عِلَّة الإعطاء من الزكاة هي الحاجة والمنفعة أجاز إعطاء كليهما؛ صاحب الحاجة، ومن فيه منفعة. ومن ضيق وجعل عِلَّة الإعطاء من الزكاة هي الحاجة فقط قصر الإعطاء على صاحب الحاجة فقط، دون مَن فيه منفعة.

ص: 3542

* قولُه: (وَأَمَّا حَدُّ الْغِنَى الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الصَّدَقَةِ).

سؤال: ما هو حدُّ الغِنَى الذي يمنع عن الصدقة؟

هل ورد نصٌّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحدد لنا القَدْر الذي إذا وصل إليه الإنسان صار غنيًّا؟ وإذا كان دونه يكون فقيرًا؟ والجواب: لا شك أنه قد جاء في حديثٍ النصُّ على خَمسينَ دِرْهمًا

(1)

. وجاء أيضًا في حديث آخر النصُّ على أُوقِيَة

(2)

. والأوقِيَة: أربعون درهمًا

(3)

. فهل نقف عند هذين الأَثَرين مع اختلافهما؟ فالأول قيَّدها بخمسين، والثاني بأربعين. قالوا: بل ننظر إلى الحاجة.

* قوله: (فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ: هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ

(4)

).

يعني المؤلف رحمه الله بذلك أن أقل ما ينطلق عليه اسم الغِنَى يمنع من الصدقة؛ فإذا قلنا: فلان غنيٌّ، يلزم أن ينطلق عليه هذا الاسم، ويصح وصفُه بالغنى. وعليه: فلا يُعطى من الزكاة. أما من لا يصح أن يُسمَّى غنيًّا فيُعطى من الزكاة. هذه هي وجهة الإمام الشافعي، أو هذا قول في مذهبه.

(1)

أخرجه أبو داود (1626) عن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خموش، أو خدوش، أو كدوح في وجهه". فقال: يا رسول اللَّه، وما الغِنى؟، قال:"خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب". وصححه الألباني في المشكاة (1847)

(2)

أخرجه أبو داود (1628) عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة أوقية، فقد ألحف". فقلت: ناقتي الياقوتة هي خير من أوقية -قال هشام: خير من أربعين درهمًا- فرجعت، فلم أسأله شيئًا، زاد هشام في حديثه: وكانت الأوقية على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربعين درهمًا. وقال الألباني في صحيح أبي داود - الأم (5/ 331): إسناده حسن صحيح، وصححه ابن حبان.

(3)

الأوقية في الحديث: أربعون درهمًا. انظر: "الصحاح"، للجوهري (6/ 2527).

(4)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 176)، حيث قال:"وقد لا يملك إلا فأسًا وحبلًا وهو غني، والمعتبر في ذلك ما يليق بالحال بلا إسراف ولا تقتير".

ص: 3543

* قوله: (وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ

(1)

إِلَى أَنَّ الْغَنِيَّ هُوَ مَالِكُ النِّصَابِ).

أما الإمام أبو حنيفة فقد حدد الغَنِيَّ بأنه من يملك النِّصاب؛ وهو مائتي درهم أو قيمتها من الذهب.

فمن ملك مائتي درهم وجَبت عليه الزكاة، وإذا وجبت عليه الزكاة، فمعنى هذا أنه يُعطِي غيره، وقد أصبح هو غنيًّا؛ فلا تدفع إليه الزكاة. ويستدل لذلك بالحديث الذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الزكاة:"تُؤْخَذُ من أغْنِيَائِهِم، وتُرَدُّ على فقَرائِهِمْ"

(2)

. وقد بيَّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث أن مَن ملك مائتي درهم، أو عشرين مِثقالًا: فإن الزكاة واجبة عليه

(3)

.

فمعنى هذا: أن مالك النِّصاب غنيٌّ؛ فلا يجوز أن نعطيه من الزكاة.

* قوله: (لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَغْنِيَاءَ؛ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ لَهُ: "فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ"

(4)

).

فقد أطلق اسم الغنيِّ على كل من ملك نِصابًا، سواء أكان في أدنى حدٍّ، أم بلغت أمواله قدْرًا كبيرًا.

(1)

يُنظر: "تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 302) حيث قال:(وغني بملك نصاب)؛ أي: لا يدفع إلى غني بسبب ملك نصاب، وإنما قال: بملك نصاب؛ لأن الغنى على ثلاث مراتب؛ الأولى: ما يتعلق به وجوب الزكاة. والثانية: ما يتعلق به وجوب صدقة الفطر والأضحية، وهو أن يكون مالكًا لمقدار النصاب فاضلًا عن حوائجه الأصلية، وهو المراد هنا؛ لأن حرمان الزكاة يتعلق به. والثالثة: ما يحرم به السؤال، وهو أن يكون مالكًا لقوت يومه وما يستر به عورته عند عامة العلماء. وكذا الفقير القوي المكتسب يحرم عليه السؤال.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص: 501) عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة". وصححه الألباني في إرواء الغليل (815).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 3544

* قوله: (وَإِذَا كَانَ الْأَغْنِيَاءُ هُمْ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ النِّصَابِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفُقَرَاءُ ضِدَّهُمْ).

يريد الإمام أبو حنيفة

(1)

أن يقول: إن حد الغنى يبدأ بملك النِصاب، وهو مائتا درهم، أو ما يقابلها، فمن ملك مائتا درهم، أو أكثر فهو غني، ومن كان دون ذلك فليس بغني، بل يكون فقيرًا أو مسكينًا.

وسيأتي التفريق بين الفقير وبين المسكين، إن شاء اللَّه.

* قوله: (وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ).

هذا الكلام من المؤلف رحمه الله غريب في حقيقة الأمر؛ ولذلك رأينا أن المالكية لا يُعوِّلون كثيرًا على هذا الكتاب، ولا يرونه مرجعًا من أمهات مراجعهم المعروفة في مذهب الإمام مالك، فالمشهور في كتب المالكية أن الإمام مالكًا رحمه الله قيَّد ذلك بالحاجة

(2)

.

(1)

تقدم

(2)

يُنظر: "البيان والتحصيل"، لابن رشد الجد (2/ 361) حيث قال:"وسئل عن رجل له أربعون درهمًا، أو رأس، أو رأسان، أيعطَى من الصدقة؟ فقال مالك: إذا كان كثير العيال، فأراه أهلًا أن يعطاها في حاله وكثرة عياله. قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء. . . فأولى هذه المقادير التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة تحرم بوجودها بالاستعمال،. . . فالفقير من توضع فيه، والغني من تؤخذ منه، وهو من ملك المقدار الذي في حديث المزني. ويحتمل أن يكون، كأن اللَّه عز وجل أولًا قد حرم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الصدقة على من عنده قوت يومه، ثم نسخ ذلك؛ تخفيفًا عن عباده، فحرمها على من عنده أوقية من فضة، ثم نسخ ذلك تخفيفًا عنهم، فحرمها على من يملك خمسين درهمًا، ثم نسخ ذلك تخفيفًا عنهم، فحرمها على من يملك خمس أواقٍ، فكان حمل هذه الأحاديث على هذا، أولى من حملها على التعارض، فمن ملك من الذهب أو الفضة ما تجب فيه الزكاة؛ أو عدل ذلك سوى ما يحتاج إلى سكناه أو استخدامه، لم تحل له الزكاة -وإن كثر عياله- ومن تملك أقل من ذلك، لم تحرم عليه الصدقة -وإن لم يكن له عيال- إلا أن غيره ممن هو أحوج منه أحق وأولى".

وفي حاشية الدسوقي (1/ 493)(قوله: أي عدم كفاية بصنعة)؛ أي: وأما لو كان له صنعة يتعاطاها تكفيه وعياله وكانت غير كاسدة، فإنه لا يعطى شيئًا منها".

ص: 3545

فمن يملك ما يكفيه لحاجته فهو الغنيُّ، وعليه: فلا يُعطَى من الزكاة، ومن لا يملك ما يكفيه لحاجته فهو الفقير، وعليه: فيُعطى من الزكاة، وبعض الروايات قيدت ذلك في العام.

أما زَعْم المؤلف رحمه الله أن الإمام مالكًا لم يجعل لذلك حدًّا، فهذا يحتاج إلى تبين، ولعله قول في المذهب

(1)

، واللَّه أعلم.

* قوله: (إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ).

الواقع أن الإمام مالكًا حدد -كما بيَّنا- وقيد ذلك بالحاجة، فمن كانت له حاجة فيأخذ من الزكاة، ومن ليست له حاجة فلا يحل له الأخذ، فمن ملك ما يكفيه، فهذا لا يأخذ، ومن كان دون ذلك، فيأخذ.

وقد اختلف العلماء في قاعدة أن يجد ما يكفيه: فهل يلزم أن يجد ما يكفيه لعام واحد؟ أو يلزم أن يجد ما يكفيه على الدوام؟ هذا أيضًا محل خلاف بينهم:

(1)

فبعضهم يقول: يأخذ ما يكفيه لعام

(2)

.

(1)

لم أقف عليه.

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار"، للحصكفي وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)(2/ 347)، حيث قال:" (و) لا إلى (غني) يملك قدر نصاب فارغ عن. . . فيمن له حوانيت ودور للغلة، لكن غلتها لا تكفيه وعياله أنه فقير، ويحل له أخذ الصدقة عند محمد، وعند أبي يوسف: لا يحل. وكذا لو له كرم لا تكفيه غلته، ولو عنده طعام للقوت يساوي مائتي درهم، فإن كان كفاية شهر يحل أو كفاية سنة، قيل: لا تحل. وقيل: يحل؛ لأنه يستحق الصرف إلى الكفاية فيلحق بالعدم".

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير (1/ 494)، حيث قال:"وجاز دفعها لمالك نصاب أو أكثر، ولو كان له الخادم والدار التي تناسبه حيث كان لا يكفيه ما عنده لعامه لكثرة عياله، فيعطى منها ما يكمل به العام وهذا هو المشهور".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 272) حيث قال:" (فيأخذ تمام كفايته سنة) من الزكاة، (فلو كان في ملكه عروض للتجارة قيمتها ألف دينار، أو أكثر) من ذلك (لا يرد عليه ربحها)؛ أي: لا يحصل له منه (قدر كفايته) جاز له أخذ الزكاة".

ص: 3546

(2)

وبعضهم قال: يأخذ ما يكفيه على الدوام، كالشافعية

(1)

. فالشافعية دائمًا يقولون: يأخذ ما يكفيه على الدوام.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْغِنَى الْمَانِعُ).

لم يستوف المؤلف رحمه الله أقوال المذاهب في هذا الأمر، ولم يذكر مذهب الإمام أحمد

(2)

.

فالإمام أحمد يرى أن من ملك خمسين درهمًا فهو غنيٌّ، ومن كان دون ذلك فليس بغنيٍّ، وله أن يأخذ من الزكاة.

وقد جاء في مذهب الإمام مالك

(3)

-كما في رواية- بأن حد الغني الذي يجد ما يكفيه، وأن الفقير هو الذي لا يجد ما يكفيه؛ أي: الذي يجد شيئًا لا يقع موقعًا من كفايته، يعني يجد مالًا لكنه لا يقع موقعًا من كفايته.

* قوله: (هُوَ مَعْنًى شَرْعِيٌّ، أَمْ مَعْنًى لغَوِيٌّ؟).

يريد المؤلف رحمه الله أن يقول: هل هذا المَلْحَظ الذي لوحظ في الغنى شرعيٌّ، أو لغويٌّ؟

* قوله: (فَمَنْ قَالَ: مَعْنًى شَرْعِيٌّ

(4)

. قَالَ: وُجُوبُ النِّصَابِ

(5)

هُوَ الْغِنَى).

(1)

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 185)، حيث قال:" (ويعطى الفقير والمسكين) ". . . "يعطى كل منهما (كفاية العمر الغالب)؛ لأن به تحصل الكفاية على الدوام".

(2)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 291)"ومن ملك نقدًا ولو خمسين درهمًا فأكثر أو قيمتها من الذهب أو غيره ولو كثرت قيمته لا يقوم بكفايته ليس بغنى".

(3)

تقدم.

(4)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للدردير (1/ 430)، حيث قال:"وشرعًا القدر الذي إذا بلغه المال وجبت الزكاة فيه".

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار"، لابن عابدين (2/ 259)، حيث قال:"كتاب الزكاة". . . " (وسببه)؛ أي: سبب افتراضها (ملك نصاب حولي) ".

(5)

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للدردير (1/ 431)، حيث قال:" (قوله بملك)؛ أي: بسبب ملك للنصاب وبسبب حول؛ أي: مرور حول عليه".

ص: 3547

فمن قال: هو معنًى شرعيٌّ جعل حد الغني من ملك خمسين درهمًا

(1)

؛ لأن هذا المقدار الغني قد ورد فيه نصٌّ كما سبق في الحديث الذي رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، والدارقطني، والطحاوي، والحاكم، وغيرهم.

وبيَّنا أن له عِدَّة طرق، هو بمجموعها صالح للاحتجاج به، فهذا الحديث ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد صححه العلماء، فلأَجْلِه ذهب هؤلاء إلى أن معنى الغِنَى شرعي. ومع أن المؤلف سيذكر هذا الحديث فإنه ما ذكر هذا القول، وإنما أجَّل الكلام فيه. وقد جاء حدُّ الغِنى في أثرٍ آخر بأوقية وهي أربعين درهمًا

(2)

.

* قوله: (وَمَنْ قَالَ: مَعْنًى لُغَوِيٌّ. اعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ).

من اعتبر معنى الغنى شرعي قال: نقف عند حدود الشرع؛ فهو الذي حدَّد لنا نِصابًا، وبيَّن أن من ملكه تجب عليه الزكاة، ومفهوم ذلك أنه غني، وما دون ذلك المفهوم الشرعي، فليس بغني.

ولكن إذا جئنا إلى اللغة، ونظرنا إلى مصطلح الغنى لغويًّا؛ لنعرف من الذي يُسمَّى غنيًّا، الذي لا يُسمَّى غنيًّا: فهل الغني هو الذي يجد ما يكفيه؟ أو هو الذي يجد بعض ما يكفيه؟

إذًا فهناك تعليلات عِدَّة تتعلق بالمعنى اللغوي، وهذا هو مراد المؤلف رحمه الله بهذه العبارة.

* قوله: (فَمَنْ رَأَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ هُوَ مَحْدُودٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ شَخْصٍ جَعَلَ حَدَّهُ هَذَا. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ،

(1)

يُنظر: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 291)"ومن ملك نقدًا ولو خمسين درهمًا فأكثر أو قيمتها من الذهب أو غيره ولو كثرت قيمته لا يقوم بكفايته ليس بغنى".

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 3548

وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَاتِ، وَالْحَاجَاتِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْأَمْكِنَةِ، وَالْأَزْمِنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ).

ذكرنا فيما سبق أنه ليس القصد بالفقير هو الذي لا يجد شيئًا مطلقًا، كما يعرفه البعض، فقد قال بعضهم: الفقير هو الذي لا يجد شيئًا، أو لا مالَ له، فلفظة (لا) هنا نافية للجنس. وبعضهم يقول: الفقير هو من لا كَسْبَ له. وقال آخرون: الفقير هو الذي لا يجد موقِعًا لكفايته، ولا يكفيه ما معه، وأن المسكين: هو الذي يجد موقعًا من كفايته، لكن لا يكفي أيضًا، فالمسكين على هذا القول أحسن حالًا من الفقير

(1)

.

وقد اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين:

فبعضهم قال: إذا كان الفقير يحتاج في مصروفه المتوسط -دون سرفٍ ولا تبذير- إلى عشرة ريالاتٍ مثلًا، ولا يجد إلا ريالين أو ثلاثة، فهذا نسميه فقيرًا، وإن وجد خمسة أو ستة أو سبعة، فهذا نسميه مسكينًا. فالمسكين أحسن حالًا، عند من يرى أن الفقير أشدُّ فقرًا من المسكين. وقد عكس بعض العلماء ذلك، وضرب لذلك أمثلة.

* قوله: (وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، فِي حَدِيث الْغِنَى

(2)

الَّذِي يَمْنَعُ الصَّدَقَةَ).

هذا الحديث جاء في قصة الرجل الذي كان يمنع الصدقة

(3)

، فلما سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الغِنى، قال:"خمسين درهمًا". وهذا في قصة الرجل الذي يَسأل.

(1)

تقدم الفرق بينهما وانظر: "الفروق اللغوية"، للعسكري (ص: 177).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

هذا وهم من الشارح -عفا اللَّه عنه- ولا أدري هل هو منه -وهو الظاهر؛ فتتمة الكلام يؤكد ذلك- أو من الناسخ؟ فليحرر.

ص: 3549

وكذلك أيضًا في قصة الرجل الذي له مال، ولم يدفع الصدقة، فقد جاء في آخره: أن أحد الصحابة سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما الغِنى؟ قال: "خمسون درهمًا"

(1)

. فهذا نص عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيان من هو الغني: فهل نقف عنده؟ وقد جاء في حديث آخر تحديد مقدار الغِنَى بأنه أوقية

(2)

، وهي أربعون درهمًا، فهل هذا تحديد؟ أو بيان لحالة من حالات الفقر؟

وإنه -في واقع الأمر- عندما نلقي نظرة سريعة على أسرار هذه الشريعة وحِكَمها نجد أن الأقرب في ذلك هو مراعاة الحاجة، وهذا -كما ذكر المؤلف رحمه الله يختلف باختلاف الناس، واختلاف أحوالهم وقضاياهم، ولذلك نقول: الإنسان الذي عنده شيء من المال، ولا يكفيه لحاجته نسميه فقيرًا، ولو كان يملك خمسين درهمًا: فماذا تفعل له في هذا الزمن؟ فهي لا تكفيه، بل ربما لا تكفيه ليوم واحد، فقد يكون صاحب عيال، وعنده جمعٌ من الناس ينفق عليهم، وعليه مسؤولية مالية عظيمة، فهل تكفيه هذه الخمسون من الدراهم؟! وليس معنى هذا في الحقيقة أننا نرد حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على العين والرأس، وإنما الأحوال تختلف باختلاف الناس، وباختلاف الأزمنة، والأمكنة: فهل ما كان يصلح في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلح في وقتنا الآن؟ بالطبع لا. فقد تغيرت الأمور، وعظمت المسؤوليات، وتعددت وتنوعت وارتفعت الأسعار، فكان لا بد أن نلاحظ أحوال الناس، وحاجاتهم، فاقتضى هذا الأمر أن نقدر حد الغِنى بالحاجة، فقد نجد إنسانًا يملك خمسين درهمًا، وربما أكثر من ذلك، ولا تفيده شيئًا الآن، لكن لو وجد إنسان له دخل يوميٌّ؛ بأن يكون يعمل في مصنع، أو في حرفة؛ في حِدادة، أو في نجارة، أو في حياكة، أو غير ذلك، ويحصل من خلال ذلك على مالٍ يوميًّا يصل به إلى حد الكَفاف له ولأولاده، فهذا بلا شك ليس بفقير.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 3550

ونشير هنا إلى أنه قد وردت رواية عن الإمام أحمد تدل على هذا المعنى

(1)

. فالحنابلة لهم رواية يتفقون فيها مع المالكية؛ بأنه ينبغي أن يُقدَّر ذلك بالحاجة. فالغني: هو الذي يكون عنده ما يكفيه، والفقير: هو الذي لا يجد ما يكفيه. فالذي لا يجد ما يكفيه، نعطيه من الزكاة. والناس يختلفون باختلاف أحوالهم، وليس كل الناس على نسَقٍ واحد. ولا نكون بذلك قد عارضنا ما ورد في حد الغِنى من آثار؛ لكوننا أيضًا قد نظرنا إلى رُوح الشريعة، ومراعاتها لمصالح الناس. فهذه الشريعة شريعة خالدة، وضعت لتحل مشاكل الناس في كل زمان ومكان.

* قوله: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ مِلْكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا"

(2)

).

فالغِنى الذي يمنع الصدقة هو الذي أشرنا إليه فيما سبق، والمؤلف رحمه الله أشار إلى جزء من الحديث، ونص الحديث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ سَأَلَ النَّاسَ، وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ، أَوْ خُدُوشٌ، أَوْ كُدُوحٌ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ ثم سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما الغِنى؟ فقال: "خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ"

(3)

.

* قوله: (وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: "أَنَّهُ مِلْكُ أُوقِيَّةٍ". وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا).

هذه رواية الأربعين، وقد سبقت رواية الخمسين، وعليها فمن ملك خمسين درهمًا، فقد وصل إلى حد الغِنى، وبذلك قال الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه. ونقل ذلك عن الثوري، وعن النخعي، وعن بعض التابعين.

(1)

يُنظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 494) حيث قال: "الرواية الثانية، أن الغنى ما تحصل به الكفاية، فإذا لم يكن محتاجًا حرمت عليه الصدقة، وإن لم يملك شيئًا، وإن كان محتاجًا حلت له الصدقة، وإن ملك نصابًا، والأثمان وغيرها في هذا سواء.

وهذا اختيار أبي الخطاب وابن شهاب العكبري".

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 3551

* قوله: (وَأَحْسَبُ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا بِهَذِهِ الْآثَارِ فِي حَدِّ الْغِنَى).

هذا القول هو قول الإمام أحمد

(1)

-كما قلنا- وقال به أيضًا الثوري. وأظن أن المؤلف رحمه الله أشار إليه، وكذلك النخعي.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي صِفَةِ الْفَقِيرِ، وَالْمِسْكِينِ، وَالْفَصْلِ الَّذِي بَيْنَهُمَا).

يريد المؤلف رحمه الله أن يعرض لنا الفرق بين المسكين، وبين الفقير، أو هما بمعنى واحد.

فالآية الكريمة التي حددت الأصناف الثمانية التي تصرف فيها الزكاة قد ذكرت الفقير، والمسكين: فهل يجتمعان في وصف واحد؟ أو هما مختلفان؛ لتفريق الآية بينهما؟ فهل أحدهما في درجة، ويليه الآخر في درجة أخرى؟ وعلى القول بأنهما فى درجتين: فأيهما أشد حاجة؟ أهو الفقير الذي بدأ اللَّه به والمعروف من عادة العرب أنها لا تبدأ إلا بالأهم؟ أو هو المسكين؟ هذا ما سنتكلم عنه، إن شاء اللَّه.

* قوله: (فَقَالَ قَوْمٌ: الْفَقِيرُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ).

لقد قال اللَّه عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)} [البقرة: 273]. هذه الآية -كما هو معلوم- تتحدث عن

(1)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 493) "ونقل عن أحمد فيه روايتان؛ أظهرهما: أنه ملك خمسين درهمًا، أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام؛ من كسب، أو تجارة، أو عقار، أو نحو ذلك.

ولو ملك من العروض، أْو الحبوب أو السائمة، أو العقار، ما لا تحصل به الكفاية، لم يكن غنيَّا، وإن ملك نصابًا، هذا الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق".

وانظر لمعتمد المذهب: "الإقناع"، للحجاوي (1/ 291).

ص: 3552

المهاجرين، الذين هجروا أوطانهم، وديارهم، وأموالهم في سبيل اللَّه عز وجل وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة اللَّه عز وجل، وامتثالًا لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهم كذلك أيضًا وقفوا أنفسهم في الجهاد في سبيل اللَّه عز وجل، وفي الدفاع عن دين اللَّه، ولذلك قال اللَّه عز وجل:{لِلْفُقَرَاءِ} ؛ أي: إن هذه الصدقة المقصودة -وهي الزكاة- تعطَى {لِلْفُقَرَاءِ} .

و {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: أنهم وضعوا أنفسهم في الجهاد في سبيل اللَّه.

{لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: لا يستطيعون السفر؛ لأن الضرب في الأرض إنما هو السفر، بمعنى: أن الجهاد شغلهم عن أن يشتغلوا بالتجارة، فلا يضربون في الأرض؛ بُغْيةَ الوصول إلى المال، والحصول عليه. ومما يدل على أن الضرب في الأرض هو السفر:

1 -

قول اللَّه عز وجل في آية القصر: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]. فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: سافرتم.

2 -

وقول اللَّه عز وجل أيضًا: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. فالشاهد من آية سورة البقرة أن هؤلاء الفقراء الذين وضعوا أنفسهم في الجهاد في سبيل اللَّه تعالى قد انشغلوا بطاعة اللَّه عز وجل فلم تكن لديهم فرصة بأن يضربوا في الأرض، كغيرهم يبتغون الفضل من اللَّه عز وجل فيما يتعلق بأمور الدنيا، فهؤلاء يُعطَون من الزكاة.

{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} ، يعني: من ينظر إليهم، وهو لا يعرف أحوالهم، فإنه يظنهم أغنياء؛ لما يظهر عليهم من الصفات، وذلك لما يلي:

1 -

لأنهم يتعففون، ويترفعون عن المسألة.

2 -

ولو قُدِّر أنهم سألوا -عندما يضطرون إلى ذلك- فهم لا يُلحُّون في المسألة؛ ولذا قال اللَّه عز وجل: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، لما

ص: 3553

اتصفوا به من التعفف وعزة النفس، وعدم إظهار الحاجة للمخلوقين، وإنما يظهرون حاجتهم للَّه عز وجل وحده.

فهذا وصف للمهاجرين الذين تركوا أموالهم، وخرجوا ابتغاء مرضات اللَّه عز وجل مهاجرين في سبيله، فلا أموال لهم، فقد وصفهم اللَّه تعالى بالفقر حيث قال:{لِلْفُقَرَاءِ} . فهذه الآية الكريمة قد استدل بها من ذهب إلى أن صفة الفقر أشد من صفة المسكنة.

وهذا هو مذهب الإمام الشافعي، والإمام أحمد، كما هو معلوم.

فالشافعية

(1)

والحنابلة

(2)

قالوا: إن درجة الفقير أشد حاجة من درجة المسكين، وهي تسبقها.

وذلك لما يلي:

1 -

لأن اللَّه عز وجل بدأ بالفقراء في آية سورة التوبة وقدَّمهم على بقية الأصناف التي تصرف فيها الزكاة، والقرآن الكريم قد نزل بلغة العرب، فقد أنزله اللَّه عز وجل عربي مبين، فما بدأ اللَّه تعالى بالفقراء إلا لغاية، وحكمة وهو أنهم أشد الأصناف حاجة.

2 -

واستدلوا أيضًا بالآية الكريمة في سورة البقرة، والتي وصف اللَّه عز وجل فيها الفقراء بأنهم أحصروا في سبيل اللَّه. . إلخ، فهذا يدل على شدة حاجتهم، وأنهم أشد حاجة من غيرهم.

(1)

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 176)؛ حيث قال:"والفقير أسوأ حالًا منه، فإذا جاز صرفها إلى المسكين فالفقير أولى، ولا يجب الجمع بينهما".

(2)

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 271) حيث قال:" (أحدهم)، أي: الأصناف الثمانية (الفقراء) بدأ بهم؛ اتباعًا للنص، ولشدة حاجتهم. (وهم أسوأ حالًا من المساكين)؛ لبداءة اللَّه بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم. . . ولا يجوز أن يسأل شدة الحاجة ويستعيذ من حالة أصلح منها؛ ولأن الفقير مشتق من: فقر الظهر، فقيل: فقير بمعنى مفعول؛ أي: مفقور. وهو الذي نزعت فقرة ظهره، فانقطع صلبه". انظر: "الإنصاف"، للمرداوي (3/ 217).

ص: 3554

3 -

واستدلوا أيضًا بأن مصطلح الفقير مأخوذ من معنى "مفقور"، كأنه فَقَدَ فقْرةً من فَقَرات ظهره، فحلَّ به العجزُ، بخلاف المسكين.

4 -

واستدلوا أيضًا بأن الفقير لا يجد شيئًا أصلًا، وإن وجد شيئًا فهو قليل لا يكفيه، ولا يقوم بمؤنته، ومؤنة أولاده. قالوا: الفقير لا يخلو من حالات:

الحالة الأولى: ألا يجد مالًا أصلًا.

الحالة الثانية: ألا يكون له كسب، ولا عمل، ولا حرفة.

الحالة الثالثة: أن يجد شيئًا، ولكن لا يقع موقعًا من كفايته.

وسبق أن ذكرنا بأن بعض العلماء مثَّل لذلك؛ فقال: إذا كانت حاجته عشرة دراهم، ووجد درهمين، أو ثلاثة فهو فقير؛ لأن هذا قليل بالنسبة لحاجته، ولكن لو وجد نصف حاجته كخمسة دراهم، أو يزيد قليلًا هذا نسميه مسكينًا، وهو بذلك درجةً من الفقير، واستدلوا على ذلك بقول اللَّه: عز وجل {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]. قالوا: فاللَّه عز وجل ذكر المساكين وبيَّن أن لهم سفينة، والسفينة لا شك أنها تساوي قدْرًا من المال.

وذهب آخرون -ومنهم المالكية

(1)

، وإن كان في مذهبهم خلاف، والحنفية

(2)

- إلى أن المسكين أشد حاجةً من الفقير.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 492) حيث قال " (ومصرفها)؛ أي: محل صرفها؛ أي: الذي تصرف إليه (فقير) لا يملك قوت عامِه، (ومسكين، وهو أحوج) من الفقير؛ لكونه الذي لا يملك شيئًا بالكلية، (وصدقَا) في دعواهما الفقر والمسكنة".

(2)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 339)(قوله: من لا شيء له) فيحتاج إلى المسألة لقوته وما يواري بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول، يحل صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرًا فتح. (قوله: على المذهب) من أنه أسوأ حالًا من الفقير، وقيل على العكس والأول أصح بحر وهو قول عامة السلف إسماعيل. وأفهم بالعطف أنهما صنفان، وهو قول الإمام. وقال الثاني: صنف واحد =

ص: 3555

واستدلوا على ذلك بما يلي:

(1)

بقول اللَّه سبحانه وتعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 14 - 16].

حيث وصف اللَّه عز وجل المسكين بأنه وصل إلى حد، كأنه ألصق جلده بالتراب من الحاجة؛ لذا فهو أشد حاجة من الفقير.

وقد اختلف أهل اللغة أيضًا في الفرق بين الفقير والمسكين:

(1)

فبعض أهل اللغة يجعل المسكين أشد حاجة.

(2)

وبعضهم يجعل الفقير أشد.

ومهما يكن من أمر، فالفقير والمسكين قد عدَّهما اللَّه عز وجل من الأصناف التي تُدفع إليها الزكاة، فسواء قِيل بأنهما صنف واحد -وهي رواية في مذهب الشافعي

(1)

، ورواية في مذهب مالك

(2)

أيضًا- أو بأنهما مفترقان، لكن النهاية هما لفظان أو مصطلحان إذا اجتمعا افترقا. وإذا افترقا اجتمعا، كالحال بالنسبة للإسلام، والإيمان.

ففي حديث جبريل عليه السلام عندما جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى

= وأثر الخلاف يظهر فيما إذا أوصى بثلث ماله لزيد والفقراء والمساكين، أو وقف كذلك كان لزيد الثلث ولكل صنف ثلث عنده. وقال الثاني: لزيد النصف ولهما النصف، وتمامه في النهر (قوله لقوله تعالى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} ).

(1)

يُنظر: "المجموع"، للنووي (6/ 197) حيث قال:"وجميع الفروع السابقة لا فرق فيها بين الفقير والمسكين".

(2)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 209) حيث قال:"ولا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم. وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك في تأويل قول اللَّه عز وجل".

ص: 3556

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا". قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ. قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ". ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي:"يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ"

(1)

.

ففرَّق هنا بين الإسلام والإيمان. لكننا عندما نتتبع نصوص القرآن، والسنة نجد أن الإسلام ينوب عن الإيمان، وأن الإيمان ينوب عن الإسلام إذا افترقا.

ولا شك أن أعلى المراتب هو الإحسان؛ لأنه قال له في تعريفه: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ". أما الإيمان فيأتي في المرتبة الثانية، ويأتي الإسلام في المرتبة الأولى. فكذلك هنا مع الفقير، والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا

(2)

. والخلاف هنا بينهما قد لا تكون له ثمرة كبيرة. وإنما قد تظهر الثمرة أكثر في

(1)

أخرجه مسلم (8).

(2)

يُنظر: "غذاء الألباب"، للسفاريني (2/ 524)"واعلم أن الفقير يطلق على المسكين، والمسكين يطلق على الفقير، فهما كالإسلام والإيمان؛ إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وليسا سواء باتفاق". وانظر: "المجموع"، للنووي (6/ 197).

ص: 3557

حالة لو أوصى إنسانٌ للفقراء: فهل يدخل فيهم المساكين أو لا؟

ولو أوصى للمساكين: فهل يدخل في ذلك الفقراء أو لا؟ وأما عند السعة فهذا صنف تدفع له الزكاة، وذاك صنف تدفع له الزكاة أيضًا. وما حمل العلماء على هذا التحقيق، ودفعهم إلى هذا الاختلاف إلا بغية الوصول إلى بيان أحكام هذه الشريعة، فجزاهم اللَّه خيرًا.

* قوله: (وَبِهِ قَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ).

يفهم من قول هؤلاء بأن الفَقِير أَحْسَنُ حَالًا مِن المِسكِينِ، وأن المسكين أشد حاجة من الفقير؛ فالمسكين عند هؤلاء في الدرجة الأولى من العِوَز.

وننبه هنا على أن المالكية ليسوا كلهم متفقين على هذا القول.

* قوله: (وَقَالَ آخَرُونَ: الْمِسْكِينُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ

(1)

).

هذا حقيقةً ليس مذهب الإمام أبي حنيفة، فقد عكس المؤلف الأمر هنا؛ فالإمام أبو حنيفة مذهبه موافق لمذهب الإمام مالك، فكلاهما يرى أن الفقير أحسن حالًا من المسكين، وأهون منه، وأن المسكين أشد حاجة. وإنما هذا مذهب الإمام الشافعي، والإمام أحمد أيضًا، فكلاهما يرى أن الْمِسْكِين أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ. فالشافعية والحنابلة متفقان على هذا، إذا صرفنا النظر عن الخلاف داخل المذهبين.

* قوله: (وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ

(2)

).

أما الإمام الشافعي فهذا قوله المشهور، والمعمول به في مذهبه، وهو أيضًا قول الإمام أحمد.

(1)

وهم المؤلف -غفر اللَّه له- كما بين الشارح وقد تقدم ذكر مذهبهم وهم الشافعية والحنابلة.

(2)

وهو المذهب وقد تقدم.

ص: 3558

* قوله: (وَفِي قَوْلِهِ الثَّانِي)

(1)

.

الضمير هنا يرجع إلى الإمام الشافعي، وليس إلى الإمام أبي حنيفة، فهذا قول في المذهب الشافعي.

* قوله: (أَنَّهُمَا اسْمَانِ دَالَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ).

لكن ليس هذا القول هو المعروف والمعمول به في مذهب الإمام الشافعي، وإنما القول المعمول به والمعتد به، والذي أخذ به المتقدمون والمتأخرون من الشافعية فهو أن الفقير أشد حاجةً من المسكين

(2)

.

* قوله: (وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ)

(3)

.

يعني إلى هذا القول ذهب الإمام ابن القاسم؛ وهو من علماء المالكية. وبه نعلم أن في داخل المذهب المالكي خلافًا في الفرق بين الفقير والمسكين، وأن علماء المالكية لم يلتقوا عند قولٍ واحد.

فالإمام ابن القاسم يؤيد أن الفقير والمسكين شيء واحد، وأنهما في رتبة واحدة.

* قوله: (وَهَذَا النَّظَرُ هُوَ لُغَوِيٌّ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلَالَةٌ شَرْعِيَّةٌ).

لقد بينا -فيما سبق- الدلالات، والأدلة التي يستدل بها كل فريق، وللَّه الحمد.

* قوله: (وَالْأَشْبَهُ عِنْدَ اسْتِقْرَاءِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَا اسْمَيْنِ دَالَّيْنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، يَخْتَلِفُ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَا أَنَّ هَذَا

(1)

أنهما سواء لا فرق بينهما.

(2)

تقدم ذكره.

(3)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 209) حيث قال: "ولا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم.

وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك في تأويل قول اللَّه عز وجل".

ص: 3559

رَاتِبٌ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى قَدْرٍ غَيْرِ الْقَدْرِ الَّذِي الْآخَرُ رَاتِبٌ عَلَيْهِ).

يريد المؤلف أن يقول: إن الاختلاف في التسمية فقط، فإذا ذكرنا الفقير فيدخل المسكين ضِمْنة، وإذا ذكرنا المسكين فيدخل الفقير ضِمْنه أيضًا. فهذا الاختلاف إنما هو لغوي لا شرعي، وبين مصطلحين لغويين.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]).

بعد أن انتهى المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالفقراء، ومما يتعلق بالمساكين أيضًا -وسيعود مرة أخرى؛ ليتكلم عما يُعطَى كل واحد من أصحاب هذه الأصناف الثمانية- انتقل هنا إلى الحديث عن صنف "الرِّقاب". فمن هم هؤلاء؟ الجواب فيما يأتي من كلام المؤلف رحمه الله.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: هُمُ الْعَبِيدُ يُعْتِقُهُمُ الْإِمَامُ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ)

(1)

.

عرَّفهم الإمام مالك بقوله: هم العبيد -يعني المملوكين- يُعْتِقُهُمُ الْإِمَامُ من هذه الأموال المخصصة للزكاة، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وأما أكثر الفقهاء

(2)

فعرَّفوهم بأنهم المكاتَبون.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 496) حيث قال:" (ورقيق مؤمن ولو بعيب) كثير كزمن، (يعتق) منها بأن يشترى منها، ويكفي عتق ما ملكه بغير شراء منها على الراجح. (لا عقد حرية فيه)، كمكاتب ومدبر. فإن فعل لم يجزه. (وولاؤه)، أي: المعتق منها (للمسلمين)؛ لأن المال لهم. (وإن اشترطه) المزكِّي؛ أي: اشترط الولاء (له)؛ أي: لنفسه فشرطه باطل وعتقه عن الزكاة صحيح والولاء لهم، فهو مبالغة في كون الولاء لهم. ويحتمل أن يكون استئنافًا، وجوابه: قوله: لم يجزه الآتي، وعليه فالضمير البارز للعتق لا للولاء. واللام في له بمعنى: "عن"، بأن يقول: أنت حر عني، وولاؤك للمسلمين، فلا يجزئه العتق عن زكاته، ولكنه يمضي والولاء له؛ إذ الولاء لمن أعتق، ويكون قوله: (أو فكّ) بها (أسيرًا) معطوفًا على اشتراطه، وجوابهما قوله: (لم يجزه)، وعلى الاحتمال الأول يكون معمولًا لمقدر أي أو أن".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 341) حيث قال: =

ص: 3560

والمكاتب

(1)

-كما نعلم-: هو الذي يأتي إلى سيده، فيطلب منه أن يعتقه على نجوم، بمعنى: أن يوافق على عتقه على أن يدفع له قيمة عتقه، ويُقسِّط ذلك عليه أقساطًا، فهذا ما يُعرَف بالنُّجوم.

فالمكاتب: هو الذي يريد أن يعتقه سيده بمقابل. وقد حضت الشريعة الإسلامية -كما نعلم- على إعتاق الرقاب، ودفعت المسلمين إلى ذلك، حتى إن من أعتق شِقْصًا له في شخص فإن ذلك يَسْري إلى بقيته -إن كان

= "قوله: ومكاتب) هذا هو المعني بقوله تعالى: {وَفِى الرِّقَابِ} [التوبة: 60]. في قول أكثر أهل العلم، وهو المروي عن الحسن البصري أطلقه فعم مكاتب الغني أيضًا، وقيده الحدادي بالكبير، أما الصغير فلا يجوز، وفيه نظر؛ إذ صرحوا بأن المكاتب يملك المدفوع إليه، وهذا بإطلاقه يعم الصغير أيضًا نهر".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 178) حيث قال:" (والرقاب) وهم (المكاتبون) كتابة صحيحة فيدفع إليهم لا من زكاة سيدهم، ولو بغير إذنه ما يؤدون من النجوم في الكتابة، بأن عجزوا عن الوفاء ولو لم يحل النجم؛ لأن التعجيل متيسر في الحال، وربما يتعذر عليه الإعطاء عند المحل بخلاف غير العاجزين؛ لعدم حاجتهم، وإنما لم يشترط الحلول كما اشترط في الغارم؛ لأن الحاجة إلى الخلاص من الرق أهم، والغارم ينتظر له اليسار، فإن لم يوسر فلا حبس ولا ملازمة، وإنما لم يشتر بما يخصهم رقاب للعتق كما قيل به؛ لأن قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]. كقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]. وهناك يعطى المال للمجاهدين فيعطى للرقاب هنا. أما المكاتب كتابة فاسدة فلا يعطى؛ لأنها غير لازمة من جهة السيد، وكذا لا يعطى من كوتب بعضه".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 279) حيث قال:(الرقاب) للنص (وهم المكاتبون المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب) نص عليه؛ لعموم قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]. قال في المبدع: لا يختلف المذهب أنهم؛ أي: المكاتبون من الرقاب بدليل قوله: "أعتقت رقابي" فإنه يشمله، وفي قوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] الآية. إشعار به؛ ولأنه يملك المال على سيده، ويصرف إليه أرش جنايته، فكان له الأخذ منها إن لم يجد وفاء، كالغريم".

(1)

المكاتب: العبد يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا سعى وأداه عتق". انظر:"الصحاح"، للجوهري (1/ 209).

ص: 3561

ذا مال- كما جاء في الحديث الصحيح

(1)

.

فأصحاب الرقاب هم العبيد يعتقهم الإمام -على قول الإمام مالك- أو هم المكاتبون، على قول أكثر الفقهاء. فهؤلاء يدفع إليهم من مال الزكاة، ليسددوا النجوم، يعني: الأقساط التي عليهم.

والسؤال: هل دَفْع مال الزكاة إلى المكاتَب خاصٌّ بحالة عجزه عن التسديد؟ أو أنه على الإطلاق؟

نقول: هذه المسألة فيها كلام للفقهاء، والصحيح: أنه يُعانُ؛ لأن في ذلك تعجيلًا لعتقه؛ أي: لكامل عتقه؛ لأنه -كما نعلم- لو عجز المكاتَب عن أن يسدد ما عليه من نجوم، فإنه يعود مملوكًا.

فإذا دُفع إليه المال في هذه الحالة فإنه سيحرره في وقت أقصر، وهذا ما تَرُومه الشريعة الإسلامية، وتسعى إليه.

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

، وَأَبُو حَنِيفَةَ

(3)

: هُمُ الْمُكَاتَبُونَ).

وقال بذلك أيضًا الإمامُ أحمد

(4)

. وقد أجاز الحنابلة أن يشتري الإنسان بهذا المال عبيدًا فيعتقهم

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (2491) ومسلم (1501) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قُوِّم عليه فيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق".

(2)

تقدم قوله.

(3)

تقدم قوله.

(4)

تقدم قوله.

(5)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (6/ 478) حيث قال:"وقد روي عن أبي عبد اللَّه رحمه الله رواية أخرى: أنه يعتق منها. اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في جواز الإعتاق من الزكاة، فروي عنه جواز ذلك. وهو قول ابن عباس، والحسن، والزهري، ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد، والعنبري، وأبي ثور؛ لعموم قول اللَّه تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]. وهو متناول للقِنِّ، بل هو ظاهر فيه، فإن الرقبة إذا أطلقت انصرفت إليه، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]. وتقدير الآية: وفي إعتاق الرقاب. ولأنه إعتاق للرقبة؛ فجاز صرف الزكاة فيه، كدفعه في الكتابة".

ص: 3562

وقال ذلك أيضًا الإمام مالكًا

(1)

. ولكن الحنابلة خالفوا الإمام مالك، في تفسير أصحاب الرقاب.

* قوله: (وَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ -عِنْدَهُمُ-: الْمُسَافِرُ فِي طَاعَةٍ).

قفز المؤلف إلى صنف (ابن السبيل) فتكلم عليه قبل الكلام على صنف في (سبيل اللَّه). فمن هو ابن السبيل؟ قال بعضهم: هو المسافر. وقال آخرون: بل هو المجاهد.

وعلى فرض أن المراد بـ (ابن السبيل) هو المسافر: فهل يشترط في هذا المسافر الذي يعطَى من مال الزكاة أن يكون مستمرًا في سفره؟ بحيث لو انتهت نفقته، أو ضاعت عليه، أو سرقت منه، فصار لا يجد ما ينفق على نفسه؛ فهل ابن السبيل هذا الذي هو مستمر في سفره هو الذي يعطَى من مال الزكاة؟ أو الذي يعطى من مال الزكاة هو الذي يستأنف -يعني: يبدأ- سفرًا جديدًا؟ والجواب: هذا أيضًا محل خلاف بين العلماء:

(1)

بعضهم يقصره على الذي يكون في سفرٍ، فيلحقه النقص.

(2)

وبعضهم -كالشافعية

(2)

- يقول: لا فرق بين أن يبدأ سفره وهو

(1)

يُنظر: "القوانين الفقهية"، لابن جزي (ص: 75) حيث قال: "وأما الرقاب فالرقيق يشترى ويعتق ويكون ولاؤهم للمسلمين ويشترط فيهم الإسلام على المشهور".

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 181 - 182) حيث قال: (وابن السبيل)؛ أي: الطريق (منشئ سفر) مباح من محل الزكاة، سواء أكان بلده أو مقيمًا فيه (أو مجتاز) به في سفره واحدًا كان أو أكثر، ذكرًا أو غيره، سمي بذلك لملازمته السبيل وهي الطريق،. . . (وشرطه) في الإعطاء لا في التسمية. (الحاجة) بأن لا يجد ما يكفيه غير الصدقة، وإن كان له مال في مكان آخر أو كان كسوبا أو كان سفره لنزهة. (وعدم المعصية) بسفره، سواء أكان طاعة كسفر حج، وزيارة أو مباحًا كسفر تجارة، أو مكروها كسفر منفرد؛ لعموم الآية بخلاف سفر المعصية، لا يعطى فيه قبل التوبة، وألحق به الإمام السفر لا لقصد صحيح كسفر الهائم، ولو كان له مال غائب ووجد من يقرضه نقل في "المجموع" عن ابن كج: أنه يعطى وأقره وهو المعتمد. وقيل: لم يعط كما نص عليه في البويطي، ورد بأن النص ليس في الزكاة وإنما هو في الفيء.

ص: 3563

محتاج- كأن يسافر سفر طاعة، وبين أن يكون في سفرٍ، ويحصل له العجز عن النفقة.

* قوله: (يَنْفَدُ زَادُهُ).

قد عرفنا فيما مضى -عند كلامنا على ما يتعلق بقصر الصلاة- أن العلماء اختلفوا هناك في قصر الصلاة: هل هو خاص بسفر الطاعة، أو أن سفر المعصية يدخل أيضًا في ذلك؟

وبيَّنا أن جماهير العلماء

(1)

خصوا ذلك بسفر الطاعة؛ فقالوا: لا يجوز قصر الصلاة إلا لمن يسافر سفر طاعة، أما من يسافر سفر معصية فلا يحق له قصر الصلاة.

والخلاف هناك -كما سبق- بين الجمهور، وهم الأئمة الثلاثة، وبين أبي حنيفة

(2)

؛ فالإمام أبو حنيفة يقول: إنَّ قصر الصلاة جاء مطلقًا

(1)

مذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة"، لابن عبد البر (1/ 244) حيث قال:"ولا يقصر أحد صلاته حتى يكون سفره طاعة أو مباحًا، وتكون مسافته ثمانية وأربعين ميلًا فصاعا، برًّا كان أو بحرًا في سفر واحد، ذاهبًا أو راجعًا".

مذهب الشافعية، يُنظر:"أسنى المطالب"، للأنصاري (1/ 239) حيث قال:"لا يقصر إلا في سفر مباح، وقد أخذ في بيان مقابله فقال (المعصية بالسفر)، كهرب عبد من سيده، (لا فيه) كشرب خمر في سفر حج (تمنع الترخص)؛ لأنه للإعانة فلا يعالج بالمعاصي. (فإن سافر) أحد (بلا غرض صحيح)، كمجرد رؤية البلاد، (أو) سافر؛ (ليسرق) أو يزني، أو يقتل بريئًا، أو يتعب نفسه أو دابته بالركض بلا غرض، (أو هرب عبد) من سيده، (أو زوجة) من زوجها، (أو غريم موسر) من غريمه، أو نحوها (لم يترخص بقصر و) لا (جمع) ".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (1/ 505)، حيث قال:" (ولا) يترخص (في سفر مكروه)، كالسفر لفعل مكروه (وللنهي عنه ويترخص إن قصد مشهدًا أو قصد مسجدًا ولو غير المساجد الثلاثة أو قصد قبر نبي أو غيره)، كولي وحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، أي لا يطلب ذلك فليس نهيًا عن شدها لغيرها، خلافًا لبعضهم".

(2)

يُنظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي"، للمرغيناني (1/ 81) حيث قال: والعاصي والمطيع في سفرهما في الرخصة سواء. وقال الشافعي رحمه الله: سفر المعصية لا يفيد =

ص: 3564

في قول اللَّه عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} [النساء: 101].

وكذلك أيضًا الأحاديث الكثيرة التي وردت في ذلك جاءت مطلقة فتشمل كل سفر. أما جمهور العلماء فقالوا: إن لهذه الأحكام غايات، وحِكمًا، وأسرارًا، فلو رُخِّص للذي يسافر سفر معصية، وأُذِن له في قصر الصلاة، لكان في ذلك إعانة له على معصيته، وتسهيلًا له على ذلك، وهذا التسهيل قد يدفعه إلى الوصول إلى ارتكاب معصيته في وقت أسرع. وقد تكلم العلماء كذلك أيضًا عن حكم أكل المسافر المضطر للميتة: هل هو خاص بالمسافر سفر طاعة؟ أو يجوز لمن سافر سفر معصية أن يأكل منها إذا اضطر؟

فكثير من العلماء

(1)

قال: لا يجوز لمن سافر سفر معصية أن يأكل من الميتة ولو اضطر إليها.

= الرخصة؛ لأنها تثبت تخفيفًا فلا تتعلق بما يوجب التغليظ، ولنا إطلاق النصوص؛ ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره فصلح بتعلق الرخصة. واللَّه أعلم".

(1)

مذهب الحنابلة، يُنظر:"البناية شرح الهداية"(3/ 35)"والمطيع: هو الذي يخرج للحج، أو الجهاد: (والعاصي): هو الذي يخرج لقطع الطريق، أو الإباق: (في سفره في الرخصة سواء): وفي بعض النسخ في سفرهما. . .: (ولنا إطلاق النصوص): منها قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ".

مذهب المالكية، يُنظر:"الكافي في فقه أهل المدينة"(1/ 439) حيث قال: "ومن كان في سفر معصية واضطر إلى الميتة لم يأكلها حتى يفارق المعصية. وقد قيل: يأكلها إذا خشي ذهاب نفسه".

مذهب الشافعية، يُنظر:"المجموع"، للنووي (4/ 345) حيث قال:"ليس للعاصي بسفره أكل الميتة عند الضرورة. هذا هو المذهب وبه قطع جماهير الأصحاب؛ لأنه تخفيف فلا يستبيحه العاصي بسفره، وهو قادر على استباحته بالتوبة. وحكى إمام الحرمين وغيره وجهًا: أنه يجوز؛ لأنه إحياء نفس مشرفة على الهلاك، وأما المقيم العاصي إذا أضطر إلى الميتة فيباح له. هذا هو المذهب وبه قطع جمهور الأصحاب، وحكى البغوي وغيره وجهًا: أنها لا تباح له حتى يتوب". =

ص: 3565

وعللوا ذلك بأن هذه رخصة، وقد خُصَّت بالمطيعين للَّه عز وجل، لا حقَّ للعصاة في الترخص بها.

فإذا كان يخشى على نفسه، ويريد أن يُبقي على حياته -وهو ما تحافظ عليه هذه الشريعة الإسلامية- فعليه أن يتوب من معصيته أولًا. وإلا فإذا بقي في هذه الحالة -التي يرى فيها الموت رأي العين- على معصيته: فكيف يرخَّص له في أكل الميتة حالة الاضطرار، ويسهل له في هذا الأمر؟ وإنما عليه أن ينيب إلى اللَّه عز وجل، وأن يرجع إليه، وأن يقلعَ عن معصيته، وحينئذٍ يحق له أن يأكل من هذه الميتة ما يحتاج إلى أكله، مما يدفع به الرَّمَق، ويسد به حاجته، ويدفع به عن نفسه الموت.

على كل حال نقول: هل الأخذ من الزكاة خاص بالمسافر سفر طاعة؟ أو أنه عام في كل سفر؟

(1)

من العلماء من قال: هو خاص بالمسافر سفر طاعة، وكذا بمن سافر سفرًا مباحًا، كأن يكون في تجارة، فهذا يُعطى من الزكاة ما ينفق به على نفسه في سفره هذا.

(2)

وبعضهم قال: بل يجوز إعطاء المسافر سفر معصية من الزكاة.

* قوله: (فَلَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُهُ).

ولذلك سبق أن قيد المؤلف رحمه الله ذلك بسفر الطاعة؛ لأن هذا هو مذهب المالكية. وربما يكون هذا هو الذي وقف عليه. لكن لو انتقلت إلى مذهب الشافعية لوجدت إطلاقًا وقيدًا.

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع"، للبهوتي (6/ 197) حيث قال:" (وليس للمضطر في سفر المعصية، كقاطع الطريق و) القنِّ (الآبق الأكل من الميتة ونحوها) من المحرمات. قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173]. (إلا أن يتوب) من المعصية فيأكل من المحرم؛ لأنه صار بالتوبة من أهل الرخصة".

ص: 3566

* قوله: (وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ السَّبِيلِ جَارَ الصَّدَقَةِ).

بيان المراد بعبارة (جار الصدقة)، يعني: أن يكون في البلد الذي وجبت فيه الصدقة؛ أي: الزكاة.

وتخرج فيه. وهذا الحكم متعلق بمسألة أُخرى فرعيَّة، وهي: هل يجوز أن تُخرَج الزكاة عن البلد الذي وجبت فيه، فتنقل إلى بلد آخر، وتصرف فيه؟

أو أن هذا النقل مقيد بحالة عدم وجود من يأخذ هذه الزكاة في البلد الذي وجبت فيه؟

لو نظرنا إلى قصة معاذ رضي الله عنه، وأنا متردد: هل هو المراد؟ أو أبو موسى رضي الله عنه وإن كنت أرجح أنه معاذ، عندما أَرسل صدقته إلى عمر رضي الله عنه فأنكر عليه عمر، وقال: أرسلناك ساعيًا، لا جابيًا.

فقد أنكر عمر رضي الله عنه على هذا الصحابي إرساله الزكاة إلى المدينة، وبيَّن له أن هذا من فعل الجباية، وليست الزكاة جزية يأخذها فيرسلها إلى ولي الأمر، وإنما هي صدقة تُؤخَذ من الأغنياء، فترد في الفقراء، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث عن الزكاة:"تُؤخَذ من أغنيائهم، فتردُّ في فقرائهم". فرد معاذ أو أبو موسى رضي الله عنهما بأن قال لعمر رضي الله عنه: لم أجد من يأخذها في اليمن. فحينئذٍ استجاب له عمر رضي الله عنه

(1)

.

(1)

أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(ص: 710) عن عمرو بن شعيب أخبره: أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند، إذ بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، ثم قدم على عمر، فرده على ما كان عليه، فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابيًا ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك؛ لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحدًا يأخذه مني. فلما كان العام الثاني بعث إليه شطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل، فقال معاذ: ما وجدت أحدًا يأخذ مني شيئًا. وضعفه الألباني في "إرواء الغليل"(3/ 346).

ص: 3567

وعليه: فإذا لم يجد الساعي الذي يجمع الزكاة من يأخذها في البلد الذي وجبت فيه، فيجوز له أن ينقلها إلى غير هذا البلد. مع أن بعض العلماء لا يُجيز إخراجها، إلى بلد آخر غير الذي وجبت فيه، مطلقًا. وهي رواية معروفة مشهورة عند الحنابلة

(1)

، إلا إذا لم يجد من يأخذها؛ أي: الزكاة.

وأكثر العلماء

(2)

-وهم بقية الفقهاء- يجيزون نقلها إذا كانت هناك حاجة لنقلها عن البلد التي وجبت فيه.

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 263) حيث قال:" (ولا يجوز نقلها)؛ أي: الزكاة (عن بلدها إلى ما تقصر فيه الصلاة ولو) كان النقل (لرحم وشدة حاجة أو لاستيعاب الأصناف)، والساعي وغيره سواء، نص على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "أخبِرْهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم". متفق عليه.

وعن طاوس قال في كتاب معاذ: من خرج من مخلاف إلى مخلاف، فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته. رواه الأثرم. (فإن خالف وفعل)؛ أي: نقل الزكاة إلى بلد تقصر فيه الصلاة (أجزأه) المنقول؛ للعمومات؛ ولأنه دفع الحق إلى مستحقه فبرئ، كالدين والفطرة كزكاة المال".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"تبيين الحقائق"، للزيلعي (1/ 305) حيث قال:" (وكره نقلها إلى بلد آخر لغير قريب وأحوج)؛ أي: كره نقل الزكاة إلى بلد آخر لغير قريب ولغير كونهم أحوج، فإن نقلها إلى قرابته أو إلى قوم هم إليها أحوج من أهل بلده لا يكره. . . ولأن فيه رعاية حق الجوار فكان أولى. وأما عدم كراهية نقلها إلى أقاربه أو إلى قوم هم أحوج من أهل بلده. . . ولأن فيه صلة القريب أو زيادة دفع الحاجة فلا يكره. وإن نقله لغير ذلك يجوز مع الكراهية؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]. إلى غير ذلك من النصوص من غير قيد بالمكان. ثم المعتبر في الزكاة مكان المال حتى لو كان هو في بلد وماله في بلد أُخرى يفرق في موضع المال، وفي صدقة الفطر يعتبر مكانه لا مكان أولاده الصغار وعبيده في الصحيح. والفرق: أن الزكاة محلها المال، ولهذا تسقط بهلاكه. وصدقة الفطر في الذمة؛ ولهذا لا تسقط بهلاكهم. وقالوا: الأفضل في صرف الصدقة أن يصرفها إلى إخوته ثم أولادهم ثم أعمامه الفقراء ثم أخواله الفقراء ثم ذوي الأرحام ثم جيرانه ثم أهل سكنه ثم أهل مصره".

مذهب المالكية، يُنظر:"المعونة"، للقاضي عبد الوهاب (ص: 444) "إذا وجد =

ص: 3568

فهذا ما يتعلق بعبارة المؤلف رحمه الله (وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ السَّبِيلِ جَارَ الصَّدَقَةِ).

وقد قصد المؤلف رحمه الله بهؤلاء الشافعية

(1)

، فهم الذين وضعوا هذا القيد، حيث اشترطوا لإعطاء ابْن السَّبِيلِ من الزكاة أن يكون في البلد الذي وجبت فيه الزكاة؛ ليعطى منها.

* قوله: (وَأَمَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

السؤال: من هو المراد بصنف (في سبيل اللَّه)؟

(1)

فهل هو الغازي؟

(2)

أو هل هو المرابط؟

(3)

وهل يشمل الحجاج، والمعتمرين أيضًا؟

نقول: اختلف العلماء في ذلك:

(1)

فمنهم: من قصره على الغزاة؛ أي: المجاهدين الذين يقاتلون.

(2)

ومنهم: من توسع في ذلك؛ وقال: يشمل من يرابط على ثَغْرٍ من ثغور الإسلام؛ لأن المرابط على ثَغْرٍ من ثغور الإسلام إنما هو في

= المستحقون للزكاة في البلد الذي فيه المال والمالك لم يجز نقلها إلى غيره، إلا أنه إذا نقلها ودفعها إلى فقراء غير بلده مضى ذلك وأجزاه، وكذلك لو بلغ الإمام أن ببعض البلدان حاجة شديدة وقحطًا عظيمًا جاز له نقل شيء من الصدقة والمستحقة لغيره إليه" وانظر:"شرح مختصر خليل"، للخرشي (2/ 223).

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 191)" (والأظهر منع نقل الزكاة) من بلد الوجوب الذي فيه المستحقون إلى بلد آخر فيه مستحقوها، فتصرف إليهم. قالوا: لخبر الصحيحين: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم". ولامتداد أطماع أصناف كل بلدة إلى زكاة ما فيه من المال، والنقل يوحشهم. والثاني: الجواز؛ لإطلاق الآية، وليس في الحديث دلالة على عدم النقل، وإنما يدل على أنها لا تعطى لكافر كما مر، وقياسًا على نقل الوصية والكفارات والنذر".

(1)

تقدم.

ص: 3569

جهاد، فهو يذب عن الدولة الإسلامية، ويحمي حدودها، وبدافع عنها، ويتحمل المشقة في سبيل ذلك، فيعطى من مال الزكاة؛ لكونه في حكم الغازي.

(3)

وبعضهم توسع في ذلك أكثر، وقال: كذلك يشمل الحجاج، والمعتمرون أيضًا؛ فيجوز إعطاؤهم من الزكاة.

واستدلوا على ذلك بقصة أم معقل رضي الله عنها وذلك عندما أوقف زوجها رضي الله عنه بعيرًا في سبيل اللَّه، فمات، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الحج معه، وأخبرته أن زوجها وقف ذلك البعير -أي: تلك الناقة- على سبيل اللَّه، فأخبرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن الحج في سبيل اللَّه

(1)

.

فهذا الحديث حجة للحنابلة

(2)

الذين يرون أن صنف (في سبيل اللَّه) غير مختص بالغزاة، بل يشمل الحجاج، والمعتمرون أيضًا.

(4)

ومن العلماء من قال: يجوز إعطاء من يريد أن يحج، وكذلك من يريد أن يعتمر، من الزكاة، إذا كان محتاجًا لذلك، ولا يجد ما يحج، أو يعتمر به. وبهذا القول قال بعض السلف

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود (1989) عن أم معقل، قالت:"لما حج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل، فجعله أبو معقل في سبيل اللَّه، وأصابنا مرض وهلك أبو معقل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته، فقال: "يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي معنا؟ " قالت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل اللَّه. قال:"فهلَّا خرجت عليه، فإن الحج في سبيل اللَّه، فأما إذ فاتتك هذه الحجة معنا فاعتمري في رمضان فإنها كحجة". فكانت تقول: الحج حجة، والعمرة عمرة، وقد قال هذا لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أدري ألي خاصة؟ ". وصححه الألباني في صحيح أبي داود - الأم (1736).

(2)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (6/ 483) حيث قال:" (ويعطى أيضًا في الحج، وهو من سبيل اللَّه) ويروى هذا عن ابن عباس. وعن ابن عمر: الحج في سبيل اللَّه. وهو قول إسحاق؛ لما روي: أن رجلًا جعل ناقة له في سبيل اللَّه، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اركبيها، فإن الحج في سبيل اللَّه"".

(3)

ويروى هذا عن ابن عباس. وعن ابن عمر. انظر: "المغني"، لابن قدامة (6/ 483).

ص: 3570

وبمعنى آخر نقول: هل يجوز أن تدفع الزكاة لفقير فيحج بها؟ أو لفقير آخر وجبت عليه العمرة فيعتمر؟ والجواب: هذه مسألة خلافية بين العلماء، وسنعرض لها -إن شاء اللَّه تعالى- بالتفصيل عندما نبدأ في مناسك الحج.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

: سَبِيلُ اللَّهِ: مَوَاضِعُ الْجِهَادِ، وَالرِّبَاطِ. وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

.

وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ).

فقد عمم الإمام مالك هذا الصنف -كما نرى- ولم يخصه بالغزاة المقاتلين، وهذا فهم جيد منه، فالإنسان الذي يرابط على ثغرٍ من ثغور الدولة الإسلامية هو في سبيل اللَّه أيضًا.

(1)

يُنظر: "الشرح الكبير"، للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 497) حيث قال:" (ومجاهد)؛ أي: المتلبس به إن كان ممن يجب عليه؛ لكونه حرًّا مسلمًا ذكرًا بالغًا قادرًا. ولا بد أن يكون غير هاشمي ويدخل فيه المرابط. (وآلته)، كسيف ورمح تشترى منها. (ولو) كان المجاهد (غنيًّا) حين غزوه، (كجاسوس) يرسل للاطلاع على عورات العدو ويعلمنا بها فيعطى. ولو كافرًا (لا) تصرف الزكاة في (سور) حول البلد؛ ليتحفظ به من الكفار، (و) لا في عمل (مركب) يقاتل فيها العدو".

(2)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 343)"قوله: (وهو منقطع الغزاة)، أي: الذين عجزوا عن اللحوق بجيش الإسلام؛ لفقرهم بهلاك النفقة أو الدابة أو غيرهما، فتحل لهم الصدقة، وإن كانوا كاسبين؛ إذا الكسب يقعدهم عن الجهاد. قهستاني (قوله: وقيل الحاج)؛ أي: منقطع الحاج. . . . وهذا قول محمد. والأول قول أبي يوسف. اختاره المصنف تبعًا للكنز. قال في النهر: وفي غاية البيان أنه الأظهر. وفي الإسبيجابي: أنه الصحيح (قوله: وقيل: طلبة العلم) كذا في الظهيرية والمرغيناني، واستبعده السروجي بأن الآية نزلت وليس هناك قوم يقال: لهم طلبة علم. قال في الشرنبلالية: واستبعاده بعيد؛ لأن طلب العلم ليس إلا استفادة الأحكام وهل يبلغ طالب رتبة من لازم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتلقِّي الأحكام عنه، كأصحاب الصُّفَّة، فالتفسير بطالب العلم وجيه خصوصًا وقد قال في البدائع في سبيل اللَّه جميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة اللَّه وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا".

ص: 3571

* قوله: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(1)

: هُوَ الْغَازِي جَارُ الصَّدَقَةِ).

قد وافق الحنابلة

(2)

الشافعيةَ على أن المراد بصنف (في سَبِيل اللَّهِ) هُوَ الغَازِي، لكن انفرد الشافعية بقيد (جَار الصَّدَقَةِ). وقد أدخل الحنابلة في هذا الصنف أيضًا الحجاج، والمعتمرين، واستدلوا على شمول هذا الصنف لهما بما يلي:

(1)

بقصة أم معقل رضي الله عنها كما سبق بيانه.

(2)

وبحديث آخر نص فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن الحج يدخل في سبيل اللَّه، وذلك لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل على النساء من جهاد؟ قال: "عليهن جهادٌ لا قتال فيه، الحج"

(3)

.

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 181) حيث قال:" (وسبيل اللَّه تعال غزاة)، ذكور (لا فيء لهم)؛ أي: لا اسم لهم في ديوان المرتزقة، بل يتطوعون بالغزو حيث نشطوا له، وهم مشتغلون بالحرف والصنائع. (فيعطون) من الزكاة (مع الغنى)؛ لعموم الآية وإعانة لهم على الغزو، بخلاف من لهم الفيء، وهم المرتزقة الثابت أسماؤهم في الديوان، فلا يعطون من الزكاة، ولو عدم الفيء في الأظهر بل يجب على أغنياء المسلمين إعانتهم. . . . ولأنهم أخذوا بدل جهادهم من الفيء، فلو أخذوا من الزكاة أخذوا بدلين عن مبدل واحد، وذلك ممتنع، ولكل ضرب منهما أن ينتقل إلى الضرب الآخر، وإنما فسر سبيل اللَّه بالغزاة؛ لأن استعماله في الجهاد أغلب عرفًا وشرعًا. . . وإن كان سبيل اللَّه بالوضع هو الطريق الموصلة إليه، وهو أعم، ولعل اختصاصه بالجهاد؛ لأنه طريق إلى الشهادة الموصلة إلى اللَّه تعالى، فهو أحق بإطلاق سبيل اللَّه عليه".

(2)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 283) حيث قال:" (السابع: في سبيل اللَّه)؛ للنص (وهم الغزاة)؛ لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو،. . . . ولا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم إذا كانوا متطوعة. وهو المراد بقوله: (الذين لا حق لهم)، أي: لا شيء لهم مقدر (في الديوان)؛ لأن من له رزق راتب يكفيه فهو مستغن به، (فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم ولو مع غناهم)؛ لأنه مصلحة عامة. (ومتى ادعى أنه يريد الغزو قُبِل قوله)؛ لأن إرادته أمر خفي لا يعلم إلا منه. (ويدفع إليه دفعًا مراعًى) فإن صرفه في الغزو، وإلا رده (فيعطى) الغازي (ثمن السلاح و) ثمن (الفرس إن كان فارسًا وحمولته)؛ أي: ما يحمله من بعير ونحوه، (و) ثمن (درعه وسائر ما يحتاج إليه) من آلات، ونفقة ذهاب وإقامة بأرض العدو ورجوع إلى بلده".

(3)

أخرجه أحمد (24422) عن عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول اللَّه، ألا نخرج =

ص: 3572

وفي رواية: "الحج، والعمرة"

(1)

.

فهذا يدل على أن كلَا الحج، والعمرة جهاد؛ فمن يحج فهو في سبيل اللَّه عز وجل؛ لأنه يذهب إلى بيت اللَّه الحرام قاصدًا أداء هذا النسك، وهو أيضًا في سبيل اللَّه؛ لأنه في طاعة.

* قوله: (وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ جَارَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَنْقِيلُ الصَّدَقَةِ، مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ).

هذا الإيماء من الشافعية -والذي قد ذكرناه قبل قليل- إشارة إلى الاختلاف في هذه المسألة.

وهي: هل يجوز أن تخرج الصدقة من البلد الذي وجبت فيه إلى غيره؟ وذكرنا قصة عمر رضي الله عنه وحجَّةَ الذين منعوا إخراجها، واستدلالهم بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث:"تؤخذ من أغنيائهم، فتردُّ في فقرائهم".

وقد حصل خلاف بين العلماء -كما نعلم- فيما حدث من معاذ رضي الله عنه لما عرض على أهل اليمن أن يأخذ منهم الثياب بدل الذرة، والشعير، وقال لهم: هذا أهون عليكم وأنفع -أو خير- لأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقد أوَّله بعض العلماء على أن هذا من الجزية، وليس من الزكاة.

= نجاهد معكم، قال:"لا، جهادكنَّ الحج المبرور، هو لكُنَّ جهاد". وصححه الأرناؤوط.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2901) عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول اللَّه، على النساء جهاد؟ قال:"نعم، عليهن جهاد، لا قتال فيه، الحج والعمرة" وصححه الألباني في المكشاة (2534).

(2)

أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 116) وقال طاوس: قال معاذ لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص -أو لبيس- في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وقال الحافظ في "فتح الباري" (1/ 18): إسناده إلى طاوس صحيح، إلا أن طاوسًا لم يسمع من معاذ.

ص: 3573

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

‌الفصل الثالث [كم يجب لهم؟]

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ: قَدْرُ مَا يُعْطَى أهل الزكاة منها

كَمْ يَجِبُ لَهُمْ؟ وَأَمَّا قَدْرُ مَا يُعْطَى مِنْ ذَلِكَ).

لدينا -كما نعلم- أصناف ثمانية: فهل هناك قدر محدد يُعطى لكل واحد منهم؟ والجواب: لم يرد في الآية الكريمة -التي بينت هذه الأصناف- شيئًا من ذلك، بل قد أجملت الآية ذكرهم.

فهؤلاء الأصناف الذين تدفع إليهم الزكاة -أي: تصرف لهم الزكاة- حدث فيهم خلاف.

(1)

فقد رأينا فيما سبق أن المؤلفة قلوبهم فيهم خلاف لأهل العلم.

(2)

وكذلك الغارم -إذا كان عنده مال- اختلفوا: هل يأخذ، أو لا يأخذ؟

(3)

وكذلك أيضًا الغازي فيه خلاف.

(4)

وكذلك أيضًا العامل لا يأخذ إذا كان صاحب الزكاة هو الذي يقوم بتوزيعها بنفسه، أو إذا كان يقوم بذلك الإمام.

وعليه: فيكون الأصناف بذلك سبعة فقط. وقد مر بنا فيما سبق الحديث الذي ورد فيه: أن من سأل وله ما يغنيه. . . وفي آخره: أن

ص: 3574

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سُئل: ما الغِنى؟ قال: "خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ"

(1)

.

إذًا فهذا حد الغنى، لكن ليس معنى هذا أن هذا هو المقدار الذي يُعطى للإنسان. فهل ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نصًّا يدل على أن الفقير يعطَى قدرًا معيَّنا؟ والجواب: لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ذلك.

فنخلص إلى أنه ليس هناك حد لذلك.

* قوله: (أَمَّا الْغَارِمُ فَبِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ دَيْنُهُ فِي طَاعَةٍ).

الغارم هنا هو المدين. وهنا سؤال: قد يأخذ إنسان دَينًا لمصلحة نفسه، وتتجمع عليه الديون، ولا يستطيع أن يدفعها، أو ربما يستطيع أن يدفعها على نجوم -كما عرفنا في المكاتبة- فهذا يأخذ من الزكاة أو لا يأخذ؟ وقد يأخذ إنسان دَينًا لمصلحة غيره: فهذا يأخذ هذا من الزكاة؟ أو لا يأخذ؟

فالغارم له حالتان:

الحالة الأولى: أن يأخذ دَينًا لمصلحة غيره -أي: لإصلاح ذات البين، كما هو ما معروف فقهًا بذلك- إما بين قَبِيلتين، أو بين طائفتين، أو بين شخصين. وهذا عمل جيد، ولا شك أن الإصلاح مقصد من مقاصد هذه الشريعة:

(1)

فقد قال اللَّه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

(2)

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث: "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صُلْحًا حرَّم حلالًا، أو حلَّ حرامًا"

(2)

. فالصلح الذي يُتَوصل به إلى تحريم الحلال، أو إباحة الحرام غير جائز.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه الترمذي (1352) عن عمرو بن عوف المزني، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرَّم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا". وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1420).

ص: 3575

ونعلم أن الصلح هو أحد المواضع الثلاثة التي يجوز للمسلم أن يكذب فيها

(1)

؛ لأن فيه إصلاحًا بَيْنَ ذاتِ البَيْنِ.

فلو قُدِّر أن قبيلتين بينهما دماء قُتل منهم أحد، وربما تقوم الحرب على أشدها وتشتعل النار بينهم، ونعلم أن الحرب تمرُّ على الأخضر واليابس فتأكله، وندرك ما يترتب على ذلك من الأضرار! أو ربما يقع خلاف بين أسرة من الأسر، أو بين رجلين ويكون بينهما صداقة، فيدب بينهما الخلاف والنزاع، وهذا ليس غريبًا!

وربما لا يكونان بصديقين، ومع ذلك يحصل بينهما خلاف، يترتب عليه ضرر، ففي هذه الحالات: يأتي هذا الإنسان؛ ليطفِئَ تلك النار، وليخمِدَ هذه الفتنة، فيصلح ذات البَيْن، ويأخذ دَينًا، فألَا يستحق بذلك أن يُدفع له من مال الزكاة؟

لقد أقدم على هذا العمل قاصدًا الخير، حيث أراد بذلك أن يرفع إشكالًا، وأن يقيم مقام هذا الإشكال والنزاع الوِفاق والاتفاق، فهو -بلا شك- مُثاب على ذلك.

أولًا: من اللَّه عز وجل في الآخرة؛ لسببين:

السبب الأول: لأنه فَعَل فِعْلًا حسنًا، واللَّه عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملًا.

السبب الثاني: لأنه فَعل خيرًا، وقد قال اللَّه عز وجل:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

(1)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (2605)"عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته، أنها سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا وينمي خيرًا". قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها".

ص: 3576

وثانيًا: من ولي الأمر، فينبغي أن يُكافئه على هذا العمل، ولا أقلَّ من أن يرد له ما تحمَّله من أجل هذا الإصلاح، وأن يُعطى مقابل ما دفعه.

ومرتبة الإصلاح هذه مرتبة عالية، لا يقدم عليها إلا من وفقهم اللَّه عز وجل لمِثْل هذه المواقف الكريمة، وبحمد اللَّه تعالى لا يخلو زمن من الأزمان إلا ويوجد أمثال هؤلاء. وكل واحد منا لو قلب صفحات التاريخ، وقرأ أيضًا في هذه الشريعة لوجد نماذج كثيرة من هذه النوع، وهم في عصرنا الحاضر

أيضًا -بحمد اللَّه تعالى- حيث يوجد عدد منهم.

فكم من أناس يسعون في أفعال الخير، فتجد أن أحدهم يتحمل شيئًا؛ ليصلح بين جماعة من أفراد هذا المجتمع.

ونرى -بحمد اللَّه تعالى- الآن أيضًا أناسًا وقفوا أنفسهم لتسديد الديون، أو لجَمْعِها من الأغنياء؛ لتسديدها عن أولئك المعسرين، ويقومون بالإشراف على الجمعيات، ولا يريدون بذلك شهرةً، ولا مغنمًا، ولا مكسبًا، وإنما يمضون أوقاتًا طويلة في خدمة ذلك فلا شك أن هذه أعمال خيِّرة.

وأولئك أيضًا الذين يوفقهم اللَّه عز وجل فيقيمون أعمالًا جليلة، يخدمون بها طلاب العلم والمحتاجين، هؤلاء أيضًا ممن يعملون أعمالًا حسنة، يستحقون عليها الثناء من اللَّه عز وجل، والثناء من الناس؛ لأن "مَن لا يشكر الناسَ لا يشكر اللَّه"

(1)

. فهؤلاء الغارمون هم الذين تحمَّلوا ديونًا؛ ليصلحوا خلافًا وقع في المجتمع، وليسدوا خللًا وقع في بنيان هذه الأمة. فهم بذلك ينالون الثواب، وينبغي أن يعطوا من الزكاة.

الحالة الثانية: أن يأخذ دَينًا لإصلاح نفسه؛ أي: ذاته، فقد يكون هذا الغارم استدان هذا الدَّين؛ لينفق على أهله. فقد تكون له عائلة، ومِن

(1)

أخرجه الترمذي (1954) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (973).

ص: 3577

بين هذه العائلة أبوان كبيران يقوم على رعايتهما، ويقوم بالإنفاق عليهما، وربما تكون عنايته لوالديه ما حجزه من أن يضرب في الأرض ويسعى في طلب الرزق، يسعى أيضًا لتسديد ما عليه من ديون. وقد يكون له أطفال صِغار؛ فهو ينفق عليهم، وتكون له زوجة ينفق عليها. وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث:"إنك لن تنفقَ نفقة تبتغي بها وجهَ اللَّه إلا أُجرْتَ عليها، حتى اللقمة تضعُها فِي فِيِّ امرأتك"

(1)

. فاللَّه عز وجل يثيب المسلم على ذلك. وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمالُ بالنياتِ"

(2)

. فمن ينفق نفقة ينوي بها وجه اللَّه عز وجل، والدار الآخرة فهو بلا شك سيُثاب حتى على هذه الأعمال التي ليست قُرَبًا، كالبيع والشراء، وكذلك النكاح.

فمن يتزوج يريد بذلك أن يُعفَّ نفسه، وأن ينجب أولادًا يخدمون دِين اللَّه عز وجل والمجتمع، ويجاهدون في سبيل اللَّه عز وجل، ويبينون الحق، ويرفعون الظلام والضلال عن الناس، فهذا يُثاب على ذلك.

فهذا الرجل الذي استدان دَينًا:

(1)

فهو إما أن ينفق منه على أولاده، وآبائه، وإخوانه ومن يدخلون تحت عائلته ومسؤوليته، ويكون هو الذين يمونهم، ويستدين لذلك دَينًا، ويكون بحاجة إليه، وهو لا يسرف في النفقة، ولا يبالغ فيها، ولا يقصد من وراء ذلك شهرة ولا غيرها، ثم يعجز عن أداء هذا الدين، أو يستطيع أن يسدده بعد فترة ربما تكون طويلة.

(2)

وإما أن يصلح به بين متخاصِمَين. ففي هاتين الحالتين، يجوز أن يعطى من الزكاة ما يسد به دينه.

(1)

أخرجه البخاري (56) ومسلم (1628) عن سعد بن أبي وقاص، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجهَ اللَّه إلا أُجرْت عليها، حتى ما تجعل في فمِ امرأتك".

(2)

أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907).

ص: 3578

* قوله: (وَفِي غَيْرِ سَرَفٍ).

الذي يستدين لإصلاح نفسه، أو إصلاح ذات البين، فإنه يعطى من الزكاة ما يسد به دينه. أمَّا من يستدين؛ ليعصي اللَّه عز وجل، أو ليفسد في أرض اللَّه تعالى، فيأخذ الديون؛ ليرتكب بها ذلك:

(1)

فيوجد قول في المذاهب -لكنه قول ضعيف ولا يرجع إليه- أنه يعطى أيضًا من الزكاة

(1)

.

(2)

لكن القول الصحيح في ذلك أنه لا ينبغي أن يخفف عنه، بل هذا الذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث بأنه يُؤخذ على يدَيه؛ لأنه سفيهٌ، ويُأطر على الحق أطرًا

(2)

.

* قوله: (بَلْ فِي أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ).

قد نجد إنسانًا متوسط الحال، ومع ذلك يتكلف الكرم، فالكرم طيب، فقد بيَّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منزلة الكرم، وكان صلى الله عليه وسلم أجودَ من الريح

(3)

،

(1)

وهو قول القاضي أبو يعلى واختيار ابن عقيل. يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (6/ 480) حيث قال:"إن غرم في معصية، مثل أن يشتري خمرًا، أو يصرفه في زناء أو قمار أو غناء ونحوه، لم يدفع إليه قبل التوبة شيء؛ لأنه إعانة على المعصية، وإن تاب، فقال القاضي: يدفع إليه. واختاره ابن عقيل؛ لأن إبقاء الدين الذي في الذمة ليس من المعصية، بل يجب تفريغها، والإعانة على الواجب قربة لا معصية فأشبه من أتلف ماله في المعاصي حتى افتقر، فإنه يدفع إليه من سهم الفقراء".

(2)

أخرجه الترمذي (3047) عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي فنهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب اللَّه قلوب بعضهم على بعض ولعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ". قال: فجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان متكئًا فقال:"لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطرًا". وضعفه الألباني في المشكاة (5148).

(3)

أخرجه البخاري (6) ومسلم (2308) عن ابن عباس، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.

ص: 3579

وحضَّ على الكرم

(1)

، ورغَّب فيه، وهي صفة حميدة.

لكن لا ينبغي أن يتجاوز الإنسان الحد؛ فيذهب إلى درجة الرياء، حتى يقال عنه: فلان كريم، وكذا في الشجاعة، حتى يقال: فلان شجاع!

فإن من أول من تسعر بهم النار -كما نعلم- الذي يجاهد؛ ليقال: فلان شجاع. أو الذي يقرأ القرآن؛ ليقال: فلان يقرأ القرآن. وأمثال هؤلاء

(2)

. فلا ينبغي للإنسان أن يسر، وهذا الأمر لا شك أنه يُرجع فيه إلى العادة. مع أن الذي يكون عنده شيء من الإسراف لا يصل إلى درجة من يستدين لمعصية اللَّه عز وجل.

(1)

أخرجه البخاري (6019) ومسلم (48) عن أبي شريح العدوي، قال سمعت أذناي، وأبصرت عيناي، حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته". قال: وما جائزته يا رسول اللَّه؟ قال: "يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

(2)

أخرجه الترمذي (2382) وغيره، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّه تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد؛ ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل اللَّه، ورجل كثير المال، فيقول اللَّه للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول اللَّه له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول اللَّه: بل أردت أن يقال: إن فلانًا قارئ فقد قيل ذاك، ويؤتى بصاحب المال فيقول اللَّه له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول اللَّه له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول اللَّه تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل اللَّه، فيقول اللَّه له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول اللَّه تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول اللَّه: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذاك. ثم ضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: "يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق اللَّه تسعر بهم النار يوم القيامة". وصححه الألباني في صحيح الجامع (1713).

ص: 3580

* قوله: (وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ يُعْطَى مَا يَحْمِلُهُ).

ابن السبيل: هو إنسان مر بمكان ما، فانقطع، ونعلم أن الإنسان عُرضة في هذه الحياة -حتى في زمننا هذا- لمثل هذا، فقد يذهب الإنسان إلى بلد ما، وهو غريب فيها، فربما يفقد نفقته، أو تنتهي، وربما تسرق منه، فهذا كله محتمل.

وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمَثِلِ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسهر"

(1)

.

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم-أيضًا: "المؤمن للمؤمنِ كالبنيان، يشدُّ بعضُه بعضًا"

(2)

. فإن وجد ابن السبيل من يعطه متبرعًا، فبها ونِعْمَت، وجزى اللَّه خيرًا هذا المتبرع.

ولكن: لو وجد إنسانًا يقرضه: فهل يلزمه أن يأخذ القرض؟ أو يحل له أن يأخذ من هذا المتبرع؟

هذه المسألة: لم يعرضها المؤلف، وقد جاءت الآن في ذهني، وهي مهمة جدًا، وقد تكلم عنها الفقهاء؛ لأن ربما يمر أحدنا بمثل هذه الحاجة فيجد إنسانًا يقرضه فيقول له مثلًا: خذ مائة ريال، أو خمسمائة ريال، أو ألف ريال حسب الحاجة، ومتى ما يسر اللَّه عليك؛ فردَّها عليَّ. ولو قدر أنك عجزت عن ذلك فأنا أتنازل عن ذلك، وأسامحك فيه؛ حتى لا يعلَّق الدَّين في عنقك. فإن من أخطر ما يدعه الإنسان بعد حياته هو الدَّين.

فهل يلزمه -وهو في هذه الحالة- أن يأخذ القرض؟ أو يأخذ من الصدقة؟

(1)

أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) واللفظ له.

(2)

أخرجه البخاري (481) ومسلم (2585) عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، وشبك أصابعه.

ص: 3581

الصحيح: أنه يأخذ من الزكاة؛ لأن اللَّه عز وجل أباحها له، ونص عليه ضمن الأصناف الثمانية؛ حيث قال تعالى:{وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60].

ولم يقيد اللَّه عز وجل ذلك في كتابه، ولم يقيد ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فيبقى الأمر على الإطلاق. لكن إن وجد من يقرضه، وأراد أن يتعفف، وأن يترفع عن الزكاة -فالزكاة كما سماها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (أوساخ الناس) - فله في هذه الحالة أن يأخذ القرض بدل الزكاة. وفرْق بين الزكاة الواجبة، والصدقة الواجبة، وبين الصدقة المستحبة غير الواجبة.

والقرض كما يستفيد به من يأخذه، فإنه -كما نعلم- يُثاب صاحبه المقرض؛ ولذا قال اللَّه عز وجل:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].

* قوله: (إِلَى بَلَدِهِ).

فابن السبيل يعطى من الزكاة نفقة توصله إلى بلده. وقد يتفرع عن هذه المسألة مسألة الغازي إذا أعطي، وعاد إلى بلده وانتهى من الغزو. وهنا مسألة متعلقة بابن السبيل أيضًا وهي: إذا زاد شيء من الزكاة عن حاجته هل يرده؟ أو يأخذه ويتصرف فيه؟

وهذه المسألة فيها كلام للفقهاء، ولم يعرض لها المؤلف؛ لأنه يراها من جزئيات المسائل. والأولى له أن يرد ذلك لبيت المال؛ خروجًا من الخلاف، وها هو الأحوط له في دِينه؛ وذلك لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث:"دَع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك"

(1)

.

* قوله: (وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْمِلُهُ إِلَى مَغْزَاهُ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ ابْنَ السَّبِيلِ الْغَازِيَ).

هناك من العلماء من فسر ابن السبيل بأنه الغازي

(2)

، لكن الظاهر -كما هو معلوم- أنه المسافر.

(1)

أخرجه الترمذي (2518) وصححه الألباني في المشكاة (2773).

(2)

وهم الحنابلة وقد تقدم وانظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 283).

ص: 3582

وقد غاير اللَّه عز وجل بينهما بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]. ومما يؤكد أن صِنف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]. يراد به الغازي قول اللَّه عز وجل: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111]. وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4].

أما ابن السبيل فالمراد به هو المسافر الذي انقطع به الطريق، وانتهت نفقته، أو ماتت دابته، أو تعطلت سيارته في مكان ما.

فإذا وجدت أخاك المسلم قد تعطلت سيارته فعليك أن تقف له، وتسعفه في ذلك، وتعينه، وتحمله إلى أقرب مركز، أو إلى أقرب مكان فيأخذ حاجته، وترده، وإن لم ترده فجزاك اللَّه خيرًا أنك حملته معك، فأوصله إلى مكان ما يأمن به، ويأخذ حاجته، ويعود، فهذا أيضًا مما تعين به ابن السبيل.

وهذا يدخل في قول اللَّه عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُعْطَى الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ مِنَ الصَّدَقَةِ).

اختلف العلماء في ذلك:

(1)

فبعض العلماء قال: يُعطَى المسكين من الزكاة ما يغنيه؛ فإن كان صاحب صنعة، فتشترى له الآلة التي يعرف العمل بها وتعينه في صنعته، أو يعطى مبلغ من المال فيضرب في الأرض يتاجر فيه. وهذا القول هو مذهب الشافعية

(1)

، ومعهم أيضًا الحنابلة، لكنهم يختلفون معهم

(1)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 176) حيث قال: "المسكين من قدر على مال أو كسب) لائق به حلال، (يقع موقعًا من كفايته) لمطعمه ومشربه وملبسه وغيرها مما يحتاج إليه لنفسه ولمن تلزمه نفقته كما مر في الفقير، (ولا يكفيه) ذلك المال أو الكسب كمن يحتاج إلى عشرة ولا يجد إلا سبعة أو ثمانية، وسواء أكان ما يملكه =

ص: 3583

في جزئية؛ فالشافعية قالوا: يُعطى حتى ولو كان غنيًا. والحنابلة

(1)

قالوا: يُعطى إلى حدِّ الغِنى.

فهناك خلاف فرعي بين المذهبين، أما من حيث الجملة فالمذهبان متفقان؛ فكلاهما -من حيث الجملة- يرى أن يعطى هذا المسكين أو الفقير ما يحتاج إليه.

(2)

وبعضهم قال: يعطى المسكين من الزكاة مؤنته لمدة سنة. وهذا القول: هو مذهب المالكية

(2)

.

والفرق بين مذهبهم ومذهب الشافعية، أن الشافعية قالوا: يُعطى ما يغنيه ويكفيه مدة حياته.

ومتوسط الحياة عندهم: أربع -أو ثلاث- وستون سنة.

= نصابًا أم لا كما مر في الفقير. قال الغزالي في الإحياء: المسكين هو الذي لا يفي دخله بخرجه فقد يملك ألف دينار وهو مسكين، وقد لا يملك إلا فأسًا وحبلًا وهو غني، والمعتبر في ذلك ما يليق بالحال بلا إسراف ولا تقتير".

(1)

يُنظر: "كشاف القناع"، للبهوتي (2/ 272) حيث قال:" (المسكين: من يجد معظم الكفاية أو نصفها) من كسب أو غيره مفعيل: من السكون وهو الذي أسكنته الحاجة. (ومن ملك نقدًا ولو خمسين درهمًا فأكثر، أو قيمتها من الذهب أو غيره)، كالعروض (ولو كثرت قيمته، لا يقوم)، ذلك (بكفايته فليس بغني فيأخذ تمام كفايته سنة) من الزكاة (فلو كان في ملكه عروض للتجارة قيمتها ألف دينار، أو أكثر) من ذلك (لا يرد عليه ربحها)؛ أي: لا يحصل له منه (قدر كفايته) جاز له أخذ الزكاة، (أو) كان (له مواشٍ تبلغ نصابًا أو) له (زرع يبلغ خمسة أوسق، لا يقوم) ذلك (بجميع كفايته، جاز له أخذ الزكاة)، ولا يمنع ذلك وجوبها عليه".

(2)

"حاشية الدسوقي"(1/ 494) حيث قال: " (قوله وكفاية سنة)، يعني: أنه يجوز أن يدفع من الزكاة للفقير في مرة واحدة من عين أو حرث أو ماشية كفاية سنة من نفقة وكسوة وفي ح عن الذخيرة: أنه إن اتسع المال زيد العبد ومهر الزوجة. قال المسناوي وقيدوا السنة بأن يكون لا يدخل في بيته العام شيء. قال: وربما يؤخذ من هذا القيد أنه إذا كانت الزكاة لا تفرق كل عام أنه يأخذ أكثر من كفاية سنة، وهو الظاهر اهـ من (قوله: فلا يعطى أكثر من كفاية سنة)؛ أي: لأن وصف الفقر والمسكنة لم يبقيا حتى يأخذ بهما".

ص: 3584

* قوله: (فَلَمْ يَحُدَّ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ حَدًّا، وَصَرَفَهُ إِلَى الِاجْتِهَادِ)

(1)

.

هذا الكلام -في حقيقة الأمر- ليس بدقيق من المؤلف مع أنه مالكي المذهب! وإنما المشهور في مذهب المالكية أنه يجوز أن يعطى الفقير والمسكين من الزكاة ما يسد حاجته، وما يحتاج إليه في ذلك، وقد يصل ذلك إلى حد النِصاب عندهم، وقد لا يصل، فهم لا يشترطون ذلك.

بخلاف الحنفية، فأجازوا أن يعطى الفقير والمسكين من الزكاة، شريطة أن يصل إلى أول قدر النِّصاب ولا يتجاوزه.

* قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

(2)

؛ قَالَ: وَسَوَاءٌ كَانَ مَا يُعْطَى مِنْ ذَلِكَ نِصَابًا، أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ. وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

أَنْ يُعْطَى أَحَدٌ مِنَ الْمَسَاكِينِ مِقْدَارَ نِصَابٍ مِنَ الصَّدَقَةِ).

إن سبب كراهة الإمام أبي حنيفة إعطاء المسكين مقدار نِصاب؛ لأنه سيصير بذلك غنيًّا، فلا ينبغي أن يرفع إلى درجة الغِنى وذلك لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث:"صدقة تؤخذ من أغنيائهم؛ فترد في فقرائهم"

(4)

.

فإذا أعطي هذا القدر صار غنيًّا. لكن بقية الفقهاء قد نظروا نظرة أبعد؛ فأجازوا أن يعطى الفقير والمسكين من مال الزكاة؛ حتى يرفع عن نفسه الفقر والمسكنة، وإن وصل ذلك إلى حد النِّصاب، أو زاد عنه؛

(1)

تقدم.

(2)

تقدم قوله.

(3)

يُنظر: "حاشية ابن عابدين"(رد المحتار)(2/ 339) حيث قال: "والحاصل أن المراد هنا الفقير للمسكين لا للغني. (قوله: أي دون نصاب)؛ أي: نام فاضل عن الدَّين، فلو مديونًا فهو مصرف كما يأتي (قوله: مستغرق في الحاجة)، كدار السكنى وعبيد الخدمة وثياب البذلة وآلات الحرفة وكتب العلم للمحتاج إليها تدريسًا أو حفظًا أو تصحيحًا كما مر أول الزكاة".

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 3585

وذلك لأن القصد من ذلك هو رفع هذه الخَلَّة، وهذا النقص الذي حصل له؛ لأن من أسرار وحكم ومقاصد الزكاة سد خلة الفقراء، ورفع العجز عنهم.

* قوله: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يُعْطَى أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا)

(1)

.

هذه الرواية -كما نعلم- هي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد

(2)

. لكن الحنابلة يرون ذلك مع الكفاية؛ فالإمام أحمد لما سُئل عن شخصٍ له عيال -قد يكون في بيته عشرة من الأنفس مثلًا- فهل يُعطى هذا الرجل خمسين درهمًا؟ قال: لا، بل يعطى خمسين، وابنه خمسين، وهكذا

(3)

.

فمعنى هذا أنها زادت على النِّصاب؛ ولذا جاءت الرواية الأُخرى لتتفق أيضًا مع مفهوم هذه الرواية. فالقصد من ذلك هو رفع الحاجة. وهذا هو الأظهر، وهو الذي يتفق مع روح هذه الشريعة، فينبغي أن ينقل هذا الفقير والمسكين إلى أن يصبح عضوًا عاملًا.

فهذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من الفقر

(4)

. وليس الفقر ذِلَّة للإنسان، ولا ينقص من قدره، فهذا ابتلاء من اللَّه عز وجل، وتقسيم منه للرزق بين عباده. وفي الحديث يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"رُبَّ أشعثَ أغبرَ لو تمنَّى على اللَّه لأبرَّه"

(5)

.

(1)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 210) حيث قال:"وأما الثوري فذهب إلى أن الصدقة لا تحل لمن يملك خمسين درهمًا على حديث بن مسعود".

(2)

يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (2/ 493) "ونقل عن أحمد فيه روايتان؛ أظهرهما: أنه ملك خمسين درهمًا، أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام، من كسب، أو تجارة، أو عقار، أو نحو ذلك".

(3)

يُنظر: "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود"(ص: 118)"قال: سمعت أحمد يقول فيمن يعطى من الزكاة وله عيال، قال: يعطى كل واحد من عياله خمسين خمسين".

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

أخرجه الترمذي (3854) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كم مِن أشعثَ أغبر ذي طمرين لا يُؤبه له لو أقسم على اللَّه لأبرَّه، منهم البراء بن مالك". وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وحسنه الألباني في المشكاة (6248).

ص: 3586

فقد نجد فقيرًا، مسكينًا، رثَّ الثياب، ربما لو رفع يديه إلى السماء فقال: يا رب، يا رب. لاستجاب اللَّه عز وجل دعائه!

وربما نجد إنسانًا خزائنه مملوءة بالأموال، وله مظهر حسن، وجمال، وغير ذلك، ولا ينظر اللَّه إليه، فيرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب، يا رب. ولكن حاله -كما في الحديث- "مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟ "!

(1)

.

فهذه الأمور تخضع بشيء واحد؛ وهو التقوى، كما قال اللَّه عز وجل:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

* قوله: (وَقَالَ اللَّيْثُ: يُعْطَى مَا يَبْتَاعُ بِهِ خَادِمًا - إِذَا كَانَ ذَا عِيَالٍ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ كَثِيرَةً)

(2)

.

هذه -في حقيقة الأمر- تفصيلات عند بعض العلماء؛ فبعضهم يقول: لو احتاج إلى خادم فيعطى من الزكاة، ولو احتاج أيضًا لشراء مسكنٍ، فيعطى؛ ليستكف به، ويحفظ نفسه، وأولاده فيه.

* قوله: (وَكَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُعْطَى عَطِيَّةً، يَصِيرُ بِهَا مِنَ الْغِنَى فِي مَرْتَبَةِ مَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، فَوْقَ الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ:

(1)

أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن اللَّه طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن اللَّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] "، ثم ذكر الرجل "يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب لذلك؟ ".

(2)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 210) حيث قال:"وقال الليث: يعطى مقدار ما يبتاع به خادمّا إذا كان ذا عيال وكانت الزكاة كثيرة".

ص: 3587

صَارَ فِي أَوَّلِ مَرَاتِبِ الْغِنَى؛ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ

(1)

. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ؛ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْقَدْرِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كأَنَّهَا تُبْنَى عَلَى مَعْرِفَةِ أَوَّلِ مَرَاتِبِ الْغِنَى).

نفهم من تعبير المؤلف رحمه الله بقوله: (وَكَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُجْمِعُونَ) أنه ليس متأكدًا من هذا الإجماع؛ لأنه -كما حكيت لكم- فإن مذهب الشافعية أنهم يرون أنه يُعطى حتى ولو وصل إلى درجة الغِنى؛ فلا ينبغي أن يكون حد النِّصاب فاصلًا.

* قوله: (وَأَمَّا الْعَامِلُ عَلَيْهَا فَلَا خِلَافَ عِنْدِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بِقَدْرِ عَمَلِهِ)

(2)

.

(1)

يُنظر: "الاستذكار"، لابن عبد البر (3/ 211) حيث قال:"وكلهم يجيز لمن كان له ما يكنه من البيوت ويخدمه من العبيد لا يستغني عنه ولا فضل له من مال يتحرف به ويعرضه للاكتساب أن يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه، ولا يكون غنيًّا به فقف على هذا الأصل فإنه قد اجتمع عليه فقهاء الحجاز والعراق".

(2)

مذهب الحنفية، يُنظر:"الدر المختار"، للحصكفي (2/ 339) حيث قال:

(وعامل) يعم الساعي. والعاشر (فيعطى) ولو غنيًّا لا هاشميًّا؛ لأنه فرغ نفسه لهذا لعمل فيحتاج إلى الكفاية والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة، كابن السبيل بحر عن البدائع. وبهذا التعليل يقوى ما نسب للواقعات من أن طالب العلم يجوز له أخذ الزكاة ولو غنيًّا إذا فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته لعجزه عن الكسب والحاجة داعية إلى ما لا بد منه كذا ذكره المصنف (بقدر عمله).

مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير"، للشيخ الدردير (1/ 494 - 495) حيث قال:"أشار إلى الصنف الثالث، وهو العامل عليها بقوله (وجابٍ ومفرق)، وهو القاسم وكذا كاتب وحاشر، وهو الذي يجمع أرباب الأموال للأخذ منهم لا راع وحارس. . . (وإن) كان (غنيًّا)؛ لأنها أجرته فلا تنافي الغنى (وبدئ به)؛ أي: بالعامل ويدفع له جميعها إن كانت قدر عمله فأقل. . . (وأخذ) العامل (الفقير بوصفيه)؛ أي: وصف الفقر والعمل إن لم يغنه حظ العمل وكذا كل من جمع بين وصفين فأكثر".

مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"، للشربيني (4/ 177) " (والعامل) على الزكاة (ساع) وهو الذي يجبي الزكاة (وكاتب) يكتب ما أعطاه أرباب الصدقة من =

ص: 3588

العامل يأخذ بقدر عمله، فإن كان يأخذ أجرة من بيت المال، فلا يعطى من الزكاة، وكذلك الغازي فإذا كان هذا الجندي له راتب معين مسجل، فلا يعطى من الزكاة.

* قوله: (فَهَذَا مَا رَأَيْنَا أَنْ نُثْبِتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنْ تَذَكَّرْنَا شَيْئًا مِمَّا يُشَاكِلُ غَرَضَنَا: أَلْحَقْنَاهُ بِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى).

على كل حال فهذا الذي ذكره المؤلف فِي كتاب الزكاة هَذَا ليس كل المسائل التي وردت فيه. وقد بقيت مسألة مهمة، وقد جرت عادة الفقهاء -في الحقيقة- أن يعقدوا لها فصلًا خاصًّا بها، بعد الانتهاء من الصدقة المفروضة -وهي الزكاة- ألا وهي الصدقة المستحبة. ولكن المؤلف قد أعرض عن ذلك؛ لأنه سينتقل بعد الزكاة المفروضة، إلى زكاة الفطر مباشرة، وكان الأولى في مثل هذا أن يذكر الصدقة المستحبة، كما هو شأن الفقهاء. ولكون الحاجة إلى الكلام على هذه الصدقة ماسَّة؛ فإننا سنشير إلى جزئية يسيرة فقط متعلقة ذلك.

فهذه الصدقة غير الواجبة، بل هي مستحبة، ولو أننا تتبعنا

= المال ويكتب لهم براءة بالأداء وما يدفع للمستحقين (وقاسم) وحاسب وعريف، وهو كنقيب القبيلة، وجندي وهو المشد على الزكاة إن احتيج إليه (وحاشر) وهو اثنان؛ أحدهما: من (يجمع ذوي الأموال). والثاني: من يجمع ذوي السهمان لصدق اسم العامل على الجميع، لكن أشهرهم هو الذي يرسل إلى البلاد والباقون أعوان".

مذهب الحنابلة، يُنظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 274 - 275) حيث قال: " (العاملون عليها) للنص (كجاب) للزكاة (وكاتب) على الجابي (وقاسم) للزكاة بين مستحقيها (وحاشر)؛ أي: جامع (المواشي، وعدادها، وكيال، ووزان، وساع) يبعثه الإمام لأخذها (وراع وجمال، وحاسب وحافظ، ومن يحتاج إليه فيها)؛ أي: في الزكاة؛ لدخولهم في مسمى العامل (غير قاض ووال، ويأتي) لاستغنائهما بمالهما في بيت المال. . . (ولا) يشترط (فقره) إجماعًا لحديث أبي سعيد يرفعه: "لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة: لعامل، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم أو غاز في سبيل اللَّه أو مسكين تصدق عليه منها، فأهدى منها الغني". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال في الفروع: وظاهره لا تشترط ذكوريته وهذا متوجه".

ص: 3589

كتاب اللَّه عز وجل وأمعنَّا النظر فيه، لوجدنا آيات كثيرة جدًّا تتحدث عن الحض على الإنفاق، والترغيب فيه، والأخذ بأيدي المسلمين إلى أن يتسارعوا إلى ذلك.

ولو اقتصرنا على سورة البقرة وحدها، لوجدنا عددًا من الآيات تتحدث عن ذلك.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

ص: 3590

‌(كتاب زكاة الفطر

[بسم اللَّه الرحمن الرحيم]

والكلام في هذه الزكاة يتعلق بفصول خمسة:

أحدها: في معرفة حكمها.

والثاني: في معرفة من تجب عليه، وعمن تجب؟

والثالث: كم تجب عليه، ومماذا تجب عليه؟

والرابع: متى تجب عليه؟

والخامس: من تجوز له؟

‌الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا

فَأَمَّا زَكَاةُ الفِطْرِ، فَإِنَّ الجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ)

(1)

.

(1)

في مذهب الحنفية، يُنظر "مختصر القدوري" (ص 61) حيث قَالَ:"صَدَقةُ الفطر واجبةٌ".

قال السرخسي في وَجْه التفريق بينهما: "هي واجبة؛ لأن ثبوتَها بدليل موجب للعمل غير موجب علم اليقين، وهو خبر الواحد، وما يكون بهذه الصفة يكون واجبًا في =

ص: 3591

وأضيفت الزكاة إلى الفطر هنا؛ لأنها تعقب رمضان، فتجب بعد إفطار شهر رمضان المبارك؛ أي: بعد انتهائه، وسيأتي كلام العلماء في الوَقْت الَّذي تَجب فِيهِ، هَلْ تجب بطلوع فجر يوم العيد، أو بغُرُوب شمس ليلة العيد، ومتى تخرج؟ وما هو الوقت الأفضل في إخراجها؟ هذا كله سنتكلم عنه إن شاء اللَّه.

‌حكم زكاة الفطر:

زكاة الفطر فرضٌ على كل مسلم كما أشرنا، لا فرق بين كبير وصغير، ولا بين ذكرٍ وأنثى، ولا بين حرٍّ وعبدٍ، فإنها تلزم هؤلاء جميعًا، ودليل ذلك من السُّنة المطهرة ما جَاءَ من أحاديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من طَريق عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال:"فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زكَاة الفِطْرِ علَى الناس من رمضان صاعًا من تمرٍ، أو صَاعًا من شَعِيرٍ على كل حرٍّ أو عَبْدٍ، ذكرٍ أو أنثى"

(1)

.

وفي لفظٍ: "أو صغيرٍ أو كبيرٍ من المُسْلمين. . . "

(2)

.

= حق العمل، ولا يكون فرضًا حتى لا يكفر جاحده، إنما الفرض ما ثبت بدليل موجب للعلم". انظر:"المبسوط"(3/ 101).

وفي مذهب المالكية، يُنظر:"الشرح الكبير وحاشية الدسوقي" للشيخ الدردير (1/ 504) حيث قال: " (يجب) وجوبًا (ثابتًا) (بالسُّنَّة)، ففي "الموطإ" عن ابن عمر: فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر في رمضان على المسلمين".

وفي مذهب الشافعية، يُنظر:"نهاية المحتاج" للرملي (3/ 110) حيث قال: "والمشهور أنها وَجَبتْ كرمضان في السنة الثانية من الهجرة. قال وكيع بن الجراح: زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة يجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة".

وَفِي مَذْهب الحنابلة، يُنظر:"الإقناع" للحجاوي (1/ 278) حيث قال: "باب زكاة الفطر، وهي صدقة تجب بالفطر"، والفرض بمعنى الواجب عند جمهور العلماء عدا الحنفية.

(1)

أخرجه البخاري (1504)، ومسلم (984).

(2)

أخرجه البخاري (1503)، وفيه:". . . الصغير والكبير من المسلمين. . . "، ومسلم =

ص: 3592

فَقيَّدها: "من المسلمين"، وهذه اللفظة (من المسلمين) لَمْ ترد في جميع الروايات، لَكنَّها وَرَدتْ في بعض الروايات، ولها مفهوم سيأتي الكلام عنه.

إذًا، قَوْل عبد اللَّه بن عمر: فَرضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلك حديث ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: "فرضَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفطرِ طُهرةً للصَّائمِ منَ اللَّغوِ والرَّفثِ، وطعمةً للمساكينِ"

(1)

.

وشُرعَت -كما أشرنا سابقًا- لمواساة الفقراء والمساكين؛ لأنهم في ذلك اليوم يحتاجون إلى أن يكونوا في سعادةٍ كآحَاد إخوانهم الذين يجدون المال، فإذا ما دُفعَت لهم هذه الزكاة من قوت بلدهم، أو من غالبه، فإنهم كذلك يعيشون كما يعيش بقية إخوانهم الذين أعْطَاهم اللَّه سبحانه وتعالى المال، وحَضَّهم على أن يُنْفقوه في سبيله سبحانه.

* قوله: (وَذَهَبَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ العِرَاقِ)

(2)

.

وَالمَوْصوف بأنَّه من أصحاب مالكٍ هو ابن الماجشون

(3)

، وَوَافقه

= (984) وفيه: ". . . من المسلمين حر، أو عبد، أو رجل، أو امرأة، صغير أو كبير. . . ".

(1)

أخرجه أبو داود (1609)، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(1427).

(2)

يُنظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 265) حيث قال: "قال مالك: زكاة الفطر واجبة، قال: وبه قال أهل العلم كلهم إلا بعض أهل العراق".

(3)

لم أقف على مَنْ نَسَبه لابن الماجشون، والأكثرون أطلقوا ذلك من غير نسبة.

يُنظر: "شرح متن الرسالة" لابن ناجي التنوخي (2/ 431) حيث قال: "وزكاة الفطر سُنَّة فَرَضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . أراد الشيخ بقوله: "فرضها": قدَّرها، فلا تناقض في كلامه. وقول ابن عبد البَر: قول الشيخ أبي محمد: سنة فَرَضها رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تمريض للسُّنَّة ضعيف لما قد قدَّمناه، وما ذكر من أن حكمها السُّنَّة عزاه ابن عبد البَر لبعض أصحاب مَالِكٍ، وعزَاه ابن رشد لبعض أصحابنا، وذكره بَعْضهم عن مَالِكٍ".

وَاسْتَبْعدَه الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير"(1/ 504) حيث قال: "قوله: وحمل الفرض على التقدير، كَمَا هو قول مَنْ قال: "إن زكاة الفطر سنة"، وقوله =

ص: 3593

أيضًا ابن اللبان من الشافعية

(1)

، بَلْ إنَّ من العلماء مَنْ حكى الإجماع على فرضية زكاة الفطر، وممن حكى الإجماع ابن المنذر

(2)

، لكن الخلاف موجود، وهو يعتبر خلافًا ضعيفًا، وسيأتي أيضًا من يرى أنها منسوخة كما سيبين المؤلف.

* قوله: (وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ).

فقَوْلهم: "منسوخة بالزكاة"، أيْ: بفرض زكاة المال، وَسَبق أن تكلمنا عن زكاة المال، وأنها تجب في أنواع أربعة، وأن ثلاثة أنواع منها يُشْتَرط لها الحول عدا ما يتعلق بالحبوب والثمار، فإن الزَّكَاةَ تجب في الحَبِّ إذا اشتدَّ، وفي الثمر إذا بدَا صلاحه، أَيْ: إذا احمر، أو اصفر.

إذًا، إذَا بدا صلاحُهُ، أما بالنسبة لزكاة النقدين وعروض التجارة وبهيمة الأنعام، فإنها يُشْترط فيها حَوَلان الحول، ويُشْترط فيها كذلك أن تبلغ نِصَابًا، فهل هذا الشرط موجود في زكاة الفطر؟

زكاة الفطر على الرأي الصحيح لا يُشْترط لها نِصاب، إذًا الذين قالوا: بأنها منسوخة

(3)

هو إبراهيم بن عُلية، وكذلك أبو بكر الأصم

(4)

،

= بعيد أي: لأن "فرض" وإن كان في أصل اللغة بمعنى قدر لكل نقل في عرف الشرع إلى الوجوب، فيتعيَّن الحمل عليه".

(1)

يُنظر: "روضة الطالبين" للنووي (2/ 291) قال: "زكاة الفطر: هي واجبة. وقال ابن اللبان من أصحابنا: غير واجبة. قلت: قول ابن اللبان شاذ منكر، بل غلط صريح".

(2)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 47) حيث قال: "وأجمعوا على أن صدقة الفطر فرض"، ويُنظر:"الإشراف" لابن المنذر (3/ 61).

(3)

المراد بالنسخ هنا رفع الوجوب، وبقاؤه على الندب، ولذلك سوَّى النوويُّ بينهما وبين مَنْ قال بالنيَّة، حيث قال "المجموع" (6/ 104):"وحكى صاحب البيان وغيره عن ابن اللبان من أصحابنا أنها سنة وليست واجبة، قالوا: وهو قول الأصم وابن علية"، والفارق بينهما أن ممَّن قالوا بالسنية من أصحاب مالك وغيرهم مرادهم أن زكاة الفطر شُرعَت ابتداءً وحكمها الندب بخلاف ابن عُلَية والأصم، فمرادُهُم أنها أول ما شُرعَت كانت واجبةً، ثم نُسِخَ حكمها إلى الندب، واللَّه أعلم.

(4)

قَالَ الشَّوْكَانيُّ في "السيل الجرار"(ص 266): "وقَدْ نقل ابن المنذر وغيره الإجماع =

ص: 3594

وهذان دائمًا قولهما ضعيف لا يعتدُّ بِهِما في مسألة الإجماع والخلاف

(1)

، ولذَلكَ حكَى ابن المنذر الإجماعَ على أن زكاةَ الفطر واجبة

(2)

؛ لأنه ممَّن يرى أنَّه لا يُعْتد بخلاف هذين الرجلين

(3)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ).

ولا شكَّ أن الأحاديث والآثار الصحيحة نصت على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر كَمَا في حديث عبد اللَّه بن عمر

(4)

، وَفِي حديث عبد اللَّه بن عَبَّاس

(5)

رضي الله عنهما، وَكَذَلك أيضًا ما جَاءَ في حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ الذي ذكر فيه قال:"كنَّا نخرج زكاة الفطر على عَهْد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(6)

.

وَفِي رِوَايةٍ: وفينا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام

(7)

. وبعض العلماء فسره بالبُرِّ، وبعضهم

(8)

أطلق: صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمرٍ،

= على وجوب صدقة الفطر، قال في "الفتح": وفي نقل الإجماع نظر؛ لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الأصم قالا: إن وجوبها نسخ. انتهى. ولا يخفاك أنهما ليسا ممن يتكلم في النسخ"، ويُنظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 368).

(1)

يُنظر: "بحر المذهب" للروياني (7/ 141) حيث قال: "ورُوِيَ عن عبد الرحمن الأصم والقاشاني وإسماعيل ابن علية، وبَعْض المتكلمين. . . ولا اعتبار بخلافهم أيضًا؛ لأنهم لَيْسوا من أهل الصنعة"، وانظر:"المجموع" للنووي (6/ 104).

(2)

تقدم بيانه.

(3)

يُنظر: "المجموع" للنووي (6/ 104) حيث قال: "قال البيهقي: وقد أجمع العلماء على وُجُوب صدقة الفطر. . . وهذا يدلُّ على ضعف الرواية عن ابن علية والأصم، وإنْ كان الأصم لا يعتدُّ به في الإجماع".

(4)

سبق تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

(6)

أخرجه البخاري (1506)، ومسلم (985).

(7)

أخرجه مسلم (985).

(8)

ممَّن أطلق ذلك الحنفية، انظر:"البناية"، للعيني (3/ 495)، وفيه قال: "والطعام يُطْلق على كل ما مأكول، وهنا أريد به أشياء ليست الحنطة بدليل ما ساقه عند =

ص: 3595

أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقطٍ، أو صاعًا من زبيب

(1)

.

وَهُوَ أيضًا حديث متفق عليه كحديث عبد اللَّه بن عمر، ولابن عمر أيضًا حديث آخر جاء فيه أن رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَمَر بصدقة الفطر صَاعًا من تَمْرٍ، أَوْ صاعًا من شعيرٍ، وأمر أن تُؤدَّى قبل خروج النَّاس للصَّلاة

(2)

، ولذلك هو وقت فضيلتها كما سيأتي.

إذًا، الأَحَاديثُ الَّتي وَرَدتْ في ذَلكَ ليست على درجةٍ واحدةٍ، فالأَحَاديث الصحيحة الكثيرة المسلمة تدلُّ على وجوب زَكَاة الفطر، وقَدْ ورد في ذلك حَديثٌ سيشير إليه المؤلف يُفْهَم منه أن الناس كانوا يخرجون زكاة الفطر، فلمَّا نزل الأمر بوجوب الزكاة، لم يرد نهيٌ ولا أمرٌ بإخراجها، بمَعْنى أنه سكت عنها، وسنُنبِّه على ذلك عند الكَلام على الحديث إن شاء اللَّه.

= البخاريِّ عن أَبي سَعِيدٍ قال: "كنا نخرج في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من الطعام"، قال أبو سعيد رضي الله عنه:"وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر".

وَممن قيَّده بالبُرِّ المالكية والشافعية. انظر في مذهب المالكية: "الجامع لمسائل المدونة"، لابن يونس (4/ 337، 338)، وفيه قال:"فقيل: إن الطعام المذكور عني به البُر. قال ابن المواز: وكان الصحابة يسمون القمح الطعام".

وانظر في مذهب الشافعية: "تحفة المحتاج"، لابن حجر الهيتمي (3/ 321)، وفيه قال:"صاعًا من طعام؛ أي: بر".

وَفِي "حاشية الجمل على شرح المنهج"(2/ 273)، قال:" (فوله: من طعام)، أي: بر؛ لأن الطعامَ هو البُر في عُرْف أهل الحجاز".

وعند الحنابلة الوجهان، انظر:"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(2/ 534)، وفيه قال:"صاعًا من طعام"، والطعام قد يكون برًّا أو شعيرًا، أو ما دخل فيه الكيل، ويجاب بأنه قد جاء "صاعًا من بر" مكان "طعام"، فدل على أن المراد بالطعام البُر".

(1)

قَالَ ابن الجارود في "المنتقى"(2/ 187): "وقوله: صاعًا من طعام: والطعام في كلام العرب واقع على كل ما يتطعم، ولكنه في عُرْف الاستعمال واقع على قوت الناس من البُر".

(2)

أخرجه البخاري (1503).

ص: 3596

* قوله: (أَنَّهُ قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

وَالفَرض فيه معنى الحز والقطع، وفيه معنى القوة

(1)

، إذن أوجب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، وقَدْ رأينا أن الَّذين قَالُوا بفرضيَّتها منهم مَنْ قال: بأنها فرضٌ على مَعْنى الفرض، ومنهم مَنْ قال: بأنها وَاجبةٌ، وَجُمْهورُ العُلَماء -كَما أَشرنَا- لَا يُفرِّقون بين الفرض والواجب، ومنهم الأئمَّة الثَّلاثة

(2)

، والحنفيَّة هم الَّذين يُفرِّقون بينهما، ويخصُّون الفرضَ بما ثَبتَ بدليلٍ قطعيٍّ، والواجب ما ثبت بدليل ظني كأخبار الآحاد

(3)

.

* قوله: (. . . زَكَاةَ الفِطْرِ عَلَى النَّاسِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ).

إذًا، زكاة الفطر أشار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أنه تخرج صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، والتمر معروف، أَوْ مِنْ شَعِير، وهو أيضًا معروف، وفي أحاديث أُخرى أضاف الطعام، وفي بعضها بُرٌّ، وسيأتي الخلاف في البُرِّ أيضًا، هل يلزم أن يُخرج صاعًا كاملًا، أو أن البُرَّ له مِيزة ينفرد بها عن غيره؟ فيقتصر على نصف صاعٍ، وسنعرض -إِنْ شَاءَ اللَّه- لحديث أبي سعيد، ولقصة معاوية رضي الله عنهما حينما قدم معاوية المدينة

(4)

وكَلَّم الناس في ذلك عندما نصل إلى هذه المسألة.

(1)

"وأصل الفرض: القطع". يُنظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 432).

(2)

قال الشيرازي في "اللمع في أصول الفقه"(ص 23): "والواجب والفرض والمكتوبة واحدٌ، وهو ما يعلق العقاب بتَرْكه"، ويُنظر:"المستصفى" للغزالي (ص 53).

(3)

قال ابن الهمام في "فتح القدير"(10/ 414): "الفرض غير الواجب عندنا، إذ الفرض ما يثبت بدليلٍ قطعيٍّ، والواجب ما ثبت بدليل ظني".

(4)

أخرجه مسلم (985) من حديث أبي سعيدٍ الخدري، قال:"كنا نخرج إذ كان فينا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، عن كل صغيرٍ وكبيرٍ، حرٍّ أو مملوكٍ، صاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعيرٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من زبيب"، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا مُعَاوية بن أبي سفيان حاجًّا أو معتمرًا، فكلم الناس =

ص: 3597

وكذلك أيضًا ورد في الأقط، والأقط: النماء الذي من اللبن المخيض الذي يطبخ

(1)

، ثم يستخرج هذا الأقط، وهو معروفٌ أيضًا ويَكْثر عند أهل البادية، وأَصْبحَ الآن معروفًا منتشرًا في المُدُن، وَكَذلك الزبيب، والزبيب: الذي هو أصله العنب.

* قوله: (عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ المُسْلِمِينَ").

وَفِي رِوَايةٍ أُخرى للبخاريِّ: "وَعَلى الصغير والكبير"

(2)

.

إذًا، هَذَا نصٌّ بأنَّ زكاةَ الفطر فُرضَتْ على الصغير والكبير، وعلى الذكر والأنثى، وعلى الحر والعبد دون تفريقٍ، ثم قيد ذلك بقوله:"من المسلمين"، فهل لهذا القيد مدلول؟

نَعمْ، جمهور العلماء يتمسَّكون بذلك، ويقولون: إنَّ زكاة الفطر لا تَجب على الكافر

(3)

، وبعضهم لا يرى أنَّ هَذَا القيد ملزمٌ، كما سيأتي

= على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال:"إني أرى أن مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر"، فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيدٍ:"فأما أنا، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه، أبدًا ما عشت"، وهو عند البخاري (1508) مختصرًا.

(1)

"أقط": واحدة الأقط: أقطة، وهو يتخذ من اللبن المخيض، يطبخ ثم يترك حتى يمصل"، يُنظر: "العين" للفراهيدي (5/ 194)، و"تهذيب اللغة" للأزهري (9/ 189).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

مما يُشْترط لوجوب أدائها زكاة الفطر الإسلام، وهذا عند جمهور الفقهاء، وفي الصحيح من مذهب الشافعية أنه يجب على الكافر أن يؤديها عن أقاربه المسلمين، وعند الحنابلة لا تصح منه، لكن يُسْتثنى منه ما إذا هَلَّ شوال على عبد مسلم لكافر.

في مذهب الحنفية، يُنظر:"رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (2/ 359) حيث قال: "ولا تجب على الكافر".

وفي مذهب المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 230) حيث قال: "ومُقْتضى المذهب عدم وجوبها على الكفار".

وَفِي مذهب الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 112) حيث قال: "ولا فطرة على كافرٍ إلا في عبده وقريبه المسلم في الأصح". =

ص: 3598

أيضًا بأن هذا القيد لم يَرِدْ في جميع روايات نافعٍ عن ابن عمر، وكذلك أيضًا جاء أثر عبد اللَّه بن عمر أنه كان يخرج الزكاة عن عَبيدِهِ الكفار

(1)

.

* قوله: (وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي الوُجُوبَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُقَلِّدُ الصَّاحِبَ فِي فَهْمِ الوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ مِنْ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام إِذَا لَمْ يُعَدَّ لَنَا لَفْظَهُ).

وهَذِهِ العبارة أراها تُشْكل على كثير من المعلقين، فبعضهم يعلق ويرى هذه العبارة محيرةً، وأنها لا تفهم، وهي حقيقةً ليست محيرة؛ لأن القصد بالصاحب هنا هو صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمراد هنا أن ابن عمر قال: فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لم يقل مثلًا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فعندما نجد في حديث:"صوموا لرؤيتِهِ، وأفطروا لرؤيته"

(2)

، إلى غير ذلك كَمَا في حديث:"الطهور شطر الإيمان"

(3)

، "إنما بُعِثْتُ لأُتمِّم مكارم الأخلاق"

(4)

إلى آخره، فَكأنَّهم يَرَوْن أنَّ هذا من لفظ الصاحب أي: الصحابي، فالصحابي إذا أورد الحديث بالمعنى هكذا، هل يكون ذلك كما لو أورده بلفظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟

(5)

بمعنى آخر: هل يقتضي أن يكون الحكم واجبًا أو لا؟

= وَفِي مَذْهب الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى"(2/ 105) حيث قال: "فلا تلزم الفطرة كافرًا مان مسلمًا تلزمه؛ أي: ذلك المسلم مؤنة نفسه بخلاف مَنْ لا يمون نفسه، فلا تجب عليه، كعبدٍ مسلمٍ لكافرٍ، هلَّ عليه سوالٌ، فالأَظْهر وُجُوبُها على الكافر".

(1)

أخرجه الدارقطني (3/ 85)، عن ابن عمر:"أنه كان يخرج صدقة الفطر عن كل حرٍّ وعبدٍ، صغيرٍ وكبيرٍ، ذكرٍ وأنثى، كافرٍ ومسلمٍ حتى إنه كان ليخرج عن مكاتبيه من غلمانه"، وضعفه حيث قال:"عثمان هو الوقاصي متروك". وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (2/ 414).

(2)

أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1081) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

جزء من حديث أخرجه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

(4)

أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 323) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد في "المسند" (8952) بلفظ:". . . لأتمم صالح الأخلاق"، وَصحَّحه الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الصحيحة"(45).

(5)

اتفق العلماء على أن الواجب رواية الحديث بألفاظه كما هي، وعدم جواز رواية =

ص: 3599

الجواب: نعم؛ لأن عبد اللَّه بن عمر عندما قال: "فرض رسول اللَّه"، وكذلك أيضًا ابن عباس، وأيضًا كذلك أبو سعيد عندما قال:"كنا نخرجها على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، هؤلاء إنما فَهمُوا من ذَلكَ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَوْجَبها، وألزم الناس بها، وإلَّا لَوْ لم تكن واجبةً، لما قال:"فرض رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وبَعْضهم أشكل عليه هل هي يحد أو يعد، أو نحو ذلك، والصحيح أنها لم يحد؛ أي: لم ينقل لنا لفظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

والجواب في ذلك: أن هذا الحديث صريحٌ في فرضها، فهذا دليلٌ على أن ابن عمر نقل ما فهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكَذَلك نقل ابن عباس وغيرهما من الصحابة، وهذا صريحٌ في أنَّ زكاة الفطر واجبة.

* قوله: (وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثِ الأَعْرَابِيِّ المَشْهُورِ: "وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"

(1)

.

وهذا الحديث مرَّ بنا في الصلاة والحج، والذي جاء فيه الأعرابي

= الحديث بالمعنى إلا للعَالِم، ثم إنهم اختلفوا في جواز الرواية بالمعنى للعَالِم على قولين:

القول الأول: المنع مطلقًا.

القول الثاني: الجواز بشروط، وهو المختار، وعليه العمل.

انظر: "اختصار علوم الحديث"، لابن كثير (ص 141)، وفيه قال:"وأما روايته الحديث بالمعنى: فإن كان الرَّاوي غير عَالِمٍ ولا عارفٍ بما يحيل المعنى: فَلَا خلافَ أنه لا تجوز له روايته الحديث بهذه الصفة، وأما إذا كان عالمًا بذلك، بصيرًا بالألفاظ ومَدْلولاتها، وبالمُتَرادف من الألفاظ، ونحو ذلك، فقد جوز ذلك جمهور الناس سلفًا وخلفًا، وعليه العمل، كما هو المشاهد في الأحاديث الصحاح وغيرها، فإنَّ الواقعةَ تكون واحدةً، وتجيء بألفاظ متعددة، من وجوه مختلفة متباينة، ولما كان هذا قد يوقع في تغيير بعض الأحاديث، مَنَع من الرواية بالمعنى طائفة آخرون من المحدثين والفقهاء الأصوليين، وشددوا في ذلك آكد التشديد، وكان ينبغي أن يكون هذا هو الواقع، ولكن لم يتفق ذلك، واللَّه أعلم". وانظر: "شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/ 425 - 430).

(1)

أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11) من حديث طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه.

ص: 3600

من قِبَلِ نجد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسأله: ماذا أوجب اللَّه عليَّ من الإسلام؟ فأخبره عن الصلاة والزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطوَّعَ"، لما ذكر له الواجبات.

وفي بعض الروايات لم يذكر الحج

(1)

.

ويَقُولُ العلماء: إن الحج بعد لم يُفْرض يعني: كان سؤاله قبل ذلك

(2)

، إذًا هذا هو مراد المؤلف، وهو الإشارة إلى ذاك الحديث المتفق عليه.

* قوله: (فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الزَّكَاةِ المَفْرُوضَةِ، وَذَهَبَ الغَيْرُ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ).

وَذَهَبَ الغَيْرُ الَّذين قلنا لا يعتدُّ بخلافهم وهو إبراهيم بن عُلية وأبو بكر بن كيسان الأصم إلى أنها غير دَاخِلَةٍ

(3)

.

* قوله: (وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِهَا قَبْلَ نُزُولِ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيةُ الزَّكَاةِ، لَمْ نُؤْمَرْ بِهَا، وَلَمْ نُنْهَ عَنْهَا، وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ")

(4)

.

(1)

وهي رواية "الصحيحين" كما سبق، وأكثر الروايات الصحيحة لم يذكر فيها الحج، أما الروايات التي ذكر فيها الحج فمنها ما أخرجه أحمد في "مسنده"(2254)، عن عبد اللَّه بن عباس، أن ضمام بن ثعلبة أخا بني سعد بن بكر لما أَسْلَمَ، سأل رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن فرائض الإسلام من الصلاة وغيرها، فعد عليه الصلوات الخمس لم يزد عليهنَّ، ثم الزكاة، ثم صيام رمضان، ثم حج البيت، ثم أعلمه ما حرَّم اللَّه عليه، فلما فرغ قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أنك رسول اللَّه، وسأفعل ما أمرتني به، لا أزيد ولا أنقص. قال: ثم ولى، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إِنْ يَصْدق ذو العقيصتين، يَدْخل الجنَّة". وَحَسَّنه الأرناؤوط، وأخرج نحوه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق (2/ 573، 574).

(2)

"فتح الباري" لابن حجر (3/ 273) حيث قال: "والظاهر أنَّ ذلك كان في أول الأمر".

(3)

سبق قولهما.

(4)

سيأتي تخريجه.

ص: 3601

إذًا، قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: كنا نُؤْمر بها، أو نُخْرجها قبل نُزُول آية الزَّكاة؛ كالآيات الَّتي وَرَدتْ في إيجاب الزكاة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103]، فَقَال: لم نُؤْمر، ولم نُنْه، هذا الحديث أخرجه النسائي، وكذلك ابن ماجه والدارقطني، وغير هؤلاء

(1)

، وهذا الحديث اختلف فيه صحةً وضعفًا

(2)

، فهناك مَنْ يرى أن فيه راويًا مجهولًا، فيضعفه من طريقه، وبعضهم يرى أن هذا الراوي ليس مجهولًا، وأن هناك مَنْ وَثَّقَه.

نقول: على كلا الحالين لو سلَّمنا صحة الحديث، فهذا الحديث لا يَقْوى على معارضة الأحاديث الكثيرة التي هي أقوَى منه صحةً، وأصرح دلالةً.

الأمر الآخر: أن هذا الحديث يُحْمل على السكوت؛ أي: أن الأمر يترك على ما كان فهم، فكأنهم كانوا يعرفون أن زكاة الفطر واجبة، فنزل ما يتعلق بزكاة المال، فأمروا بها، أما زكاة الفطر فإنَّها قَد استقرت في أَذْهَانهم ونفذوها وطبقوها، وعرفوا حكمها، فلم يحتج إلى أن يكرر الحكم، ولَوْ كانت زكاة الفطر قد نُسخَتْ كما يدَّعي أولئك، لَبيَّن رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنَّ تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ورَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وظيفته البيان {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، فَرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يأمر، ولم ينه، فيَبْقى الحكم على أصلِهِ، ولا يلزم أنه إذا نزل أمرٌ في مسألةٍ أن يكون ذلك الأمر مغيرًا، أو ناسخًا، أو رافعًا لحكم مسألة أخرى.

(1)

أخرجه النسائي (2507)، وابن ماجه (1828)، وأبو داود الطيالسي (2/ 536)، ولم أقف عليه عند الدارقطني، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح النسائي"(2506).

(2)

اختلف في هذا الحديث صحةً وضعفًا، فَممَّن حكم بصحته الإمام الحاكم، يُنظر:"المستدرك"(1/ 568) حيث قال بعد تخريجه له: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وممن حكم عليه بالضعف ابن حجر يُنظر:"فتح الباري"(3/ 368) حيث قال: "في إسناده راوٍ مجهولٌ".

ص: 3602

نَخْلص من ذلك بأن زكاةَ الفطر فرضٌ، وأنها تجب على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، وسيأتي الكلام أيضًا في التفصيل في الصغير، فهناك فرقٌ بين الصغير الذي يملك مالًا، والَّذي لا يملك مالًا، وهَلْ إيجابها على الصَّغير مجمعٌ عليه أو فيه خلاف؟ وما يتعلق أيضًا بالعبد هل الزكاة تجب عليه؟ وإن قلنا بوجوبها عليه مطلقًا، فهل تجب على سيده؟ لأن هناك خلافًا في العبد أهو يملك أو لا يملك، هذا كله سنتكلم عنه -إن شاء اللَّه- بالتفصيل.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

‌الفَصْلُ الثَّانِي فِي مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَعَمَّنْ تَجِبُ

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ المُسْلِمِينَ مُخَاطَبُونَ بِهَا ذُكْرَانًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، صِغَارًا أَوْ كبَارًا، عَبِيدًا أَوْ أَحْرَارًا).

هذا مما نبَّهنا عليه، وهذا ممَّا نقله ابن المنذر، وأجمعوا على أن المسلمين مخاطبون بها

(1)

؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على الناس من رمضان، إلى أن قال في آخرها:"من المسلمين"

(2)

.

* قوله: (لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ المُتَقَدِّمِ).

الذي أشرنا إليه، والذي ورد فيه:"صاعًا من تمرٍ أو صاعًا من شعيرٍ"

(3)

.

(1)

تقدم ذكره.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 3603

* قوله: (إِلَّا مَا شَذَّ فِيهِ اللَّيثُ).

هَذَا من المؤلف رحمه الله حقيقةً؛ فلم يقل بذلك الليث، وإنما الذي قال بذلك - كما هو معروفٌ ونقل عنه مَنْ يوثق بنقله ثلاثة، وهُمْ: عطاء بن أبي رباح التابعي، والإمام الزهري، وربيعة شيخ الإمام مالك

(1)

، أما الليث بن سعد، فلا يُعْرف عنه أنه قال ذلك

(2)

.

* قوله: (فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ العَمُودِ زَكَاةُ الفِطْرِ).

مَنْ هم أهل العمود؟

هذه مِنَ الألفاظ التي قد تأتي في هذا الكتاب، فتحتاج إلى بيان.

أولًا "العمود": مفرد أعمدة وعمد، والمراد بأهل العمود هم أهل البادية، هل تجب الزكاة على أهل البادية أو لا تجب؟ وسموا أهل العمود؛ لأن بيوتهم تقوم على الأعمدة؛ أي: ينصبونها وتُقَام عليها، وُيعْرَفون بأهل الأخبية -جمع خِبَاءٍ- يعني: الناس الَّذين يسكنون في الأخبية، أَيْ: فِي الخيام التي تكون في الصحراء وهم البدو، فأهل البادية يُطْلق عليهم أهل العمود، واشتهر ذلك

(3)

.

وقد كان المؤلفون السابقون يعنون بمثل هذه الألفاظ، فهو بدلًا من

(1)

يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 330) حيث قال: "وأجمعوا أن الأعراب وأهل البادية في زكاة الفطر كأهل الحضر سواء إلا الليث بن سعيد، فإنه قال: ليسَ على أهل العمود أصحاب المظال والخصوص زكاة الفطر، وهذا مما انفرد به من بين هؤلاء الفقهاء إلا أنه قد رُوِيَ مثل قوله عن عطاء والزهري وربيعة"، ويُنظر:"فتح الباري" لابن حجر (3/ 371).

(2)

بل نسب غير واحد من أهل العلم هذا القول للإمام الليث بن سعد رحمه الله.

يُنْظَر: "التمهيد" لابن عبد البرِّ (14/ 330) حيث قال: "وأجمعوا أن الأعرابَ وأهلَ البادية في زكاة الفطر كأهل الحضر سواء إلا الليث"، ويُنظر:"فتح الباري" لابن حجر (3/ 371).

(3)

يُنظر: "التمهيد" لابن عبد البرِّ (18/ 195) حيث قال: "من أهل البادية؟ قال: أهل العمود".

ص: 3604

أن يقول: أهل البادية، يختار هذه اللفظة التي يكون فيها كناية، وهو يرى أن فيها بلاغةً أقوى من أن يقول: من أهل البادية، فيقول:"أهل العمود" كناية عن البادية.

إذًا، المراد بـ "أهل العمود"، هُمْ أهل البادية، وليس هذا -كما قلنا- هو قول الليث، وَإنَّما هو قول الثَّلاثة الَّذين أشرنا إليهم.

* قوله: (وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى أَهْلِ القُرَى، وَلَا حُجَّةَ لَهُ)

(1)

.

وَلَكن هَذَا قولٌ مردودٌ وغير مُسلَّمٍ؛ لأنه في حديث عبد اللَّه بن عمر قال: فَرَض رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم زكَاة الفطر على الناس من رمضان

(2)

.

وَفِي رِوَايةٍ: من رمضان على الناس صاعًا من تمرٍ أو صاعًا من شعيرٍ على كل حرٍّ أو عَبْدٍ، ذكرٍ أو أنثى

(3)

.

وَعند البخاريِّ: "وعلى الصغير والكبير من المسلمين"

(4)

، فأهل البادية يَدْخلون في عموم لفظ المسلمين، فيشملهم الحكم، فَتَجب عليهم كما تَجب على غيرهم

(5)

.

ولا ننسى أيضًا أنه ورد في حديث أبي سعيدٍ الخدري أيضًا المتفق عليه أنه ذكر: صاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، أو صاعًا من زَبِيبٍ أو صاعًا من أقط

(6)

، والأقط إنَّما هو ينتشر بين أهل البادية.

(1)

تقدم قوله.

(2)

كما عند مالك في "الموطأ". ت/ الأعظمي (2/ 403).

(3)

كما عند مسلم (984).

(4)

سبق تخريجه.

(5)

يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 218) حيث قال: "وأَجْمَعوا أن أهل البادية والأعراب في زكاة الفطر كأهل الحاضرة".

(6)

سبق تخريجه.

ص: 3605

إذًا، هَذَا رأيٌ ضعيفٌ لا يُلْتفت إليه، والرأي الصحيح إنما هو رأي جمهور العلماء الذين يوجبون زكاة الفطر على كل مسلمٍ

(1)

، سواء كان يَسْكن في البادية أو في القرية، أو كان أيضًا يسكن في المدن، أو كان يسكن في هِجْرةٍ من الهجر، حتى وإن كان يعيش في غير بلاد المسلمين، فإنَّ الزكاة تجب عليه ما دام مسلمًا.

* قوله: (وَمَا شَذَّ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا عَلَى اليَتِيمِ).

المراد بـ (اليتيم) هنا هو الصَّغير، يَعْني: تعلمون أن اليتيمَ في الأصل هو الذي مات والده ولم يبلغ، أمَّا مَنْ ماتت أمه ولم يبلغ، وَأَبوه موجودٌ حيٌّ، لا يُسمَّى يتيمًا؛ لأنَّ الإنسان ينتسب إلى والدِهِ

(2)

.

إذًا، مَنْ مات أبوه وهو صغير لم يبلغ الحلم، فإنه يُسمَّى يتيمًا، والمراد هنا ليس فقط اليتيم الذي مات أبوه، بل القصد هنا باليتيم الصغير، والذي يرى أن الزكاة لا تجب على الصغير هو محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة

(3)

، وقَدْ خالف في ذلك جماهير العلماء، بما فيهم إمامه أبو حنيفة، وأيضًا زميله أبو يوسف؛ لذلك يعتبر رأيه شاذًّا.

* قوله: (وَأَمَّا عَمَّنْ تَجِبُ؟ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى المَرْءِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّهَا زَكاةُ بَدَنٍ لَا زَكاةُ مَالٍ).

"تجب على المرء في نفسه"، وكما جاء فى حديث ابن عمر وغيره: فَرضَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الناس من رمضان، صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، على كل حرٍّ أو عبدٍ، ذكرٍ أو أنثى

(4)

.

(1)

وقد سبق بيان ذلك.

(2)

يُنظر: "كشف المشكل من الصحيحين" لابن الجوزي (1/ 373) حيث قال: "اليتيم: مَنْ مات أبوه وهو صغير"، ويُنظر:"عمدة القاري" للعيني (14/ 62).

(3)

يُنظر: "درر الحكام" لملا خسرو (1/ 194) حيث قال: "لا تجب فطرة الصغير عند محمد وزفر لاشتراطهما العقل والبلوغ"، ويُنظر:"رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (2/ 359، 360).

(4)

سبق تخريجه.

ص: 3606

وَفِي الرِّواية الأخرى: صغيرًا أو كبيرًا

(1)

.

إذن، نَقُول هنا بأنَّ زكاة الفطر فرضٌ على كل مسلمٍ، صغيرًا كان أو كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى، حرًّا كان أو عبدًا، فَيَجب علَى الإنسَان المكلف أن يخرج عن نفسه، وأن يخرج عن أولاده ممَّن تلزمه نفقته، أمَّا أولاده الكبار الذين أصبحوا رجالًا، وخرجوا وتزوجوا، وأصبحوا يملكون الأموال، فانتهى أمرهم.

إذن، تَجب نفقتُهُ على نفسه؛ ولذلك كان عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما يُخْرج زكاة الفطر عن أهله جميعهم؛ صغيرهم وكبيرهم، وحُرِّهم وعبدهم، كما كان يخرجها عن رقيقِهِ، وعن رقيق زوجاتِهِ

(2)

.

وَسَيأتِي الخلاف أيضًا: هل زكاة الفطر بالنِّسبة للزوجة تجب على زوجها أو أنها تلزمها بنفسها؟ فمذهب الجمهور أنها تجب على الزوج

(3)

؛ لأنه مسؤولٌ عنها، ومسؤولٌ عن الإنفاق عليها، فهي داخلةٌ في النفقات الواجبة عليها، فيلزمه إخراج الزكاة عنها، والحنفية يخالفون في ذلك

(4)

، وهذا سيأتي الكلام عنه إن شاء اللَّه.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرج عبد الرَّزَّاق في "مصنفه"(3/ 327)، عن نافعٍ قال:"كان ابن عُمَر يؤدِّي زكاة الفطر بالمدينة عن رقيقه الذين يعملون في أرضه، وعَنْ رقيق امرأته، وعن كل إنسانٍ يَعُوله".

(3)

عند الحنفية لَا تَجب على الزوج، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 272) حيث قال: "وخرجت الزوجة والولد الكبير لعدم الولاية"، ويُنظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 363).

أما المالكية، فتجب عندهم على الزوج، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 230) حيث قال: "ففطرة زوجته ولو حرة عليه لوجوب إنفاقه عليها".

وَكَذا الشافعيَّة، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (3/ 376) حيث قال: "فالزوج يخرج فطرةَ زوجته، معسرةً كانت الزوجة أو موسرةً".

وَالحنابلَةُ، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 439) حيث قال: "وتَلْزمه؛ أي: المسلم إذا فضل عنده عما تقدَّم، وَعَن فطرته عمَّن يمونه من مسلمٍ، كزوجةٍ وعبدٍ".

(4)

سبق ذكره.

ص: 3607

* قوله: (وَأَنَّهَا تَجِبُ فِي وَلَدِهِ الصِّغَارِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ).

بل بعض العلماء يرى أنها تجب عليه فى أولاده الصغار وَإِنْ كان لهم مالٌ

(1)

.

* قوله: (وَكَذَلِكَ فِي عَبِيدِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ).

أمَّا بالنسبة للعبيد، فهناك خلاف معروفٌ بين العلماء في العبد: هل هو يملك أو لا يملك؟

والعَبْدُ أنواعٌ: القن

(2)

، وهو كامل الرق، ثمَّ هناك المكاتب، وهناك المبعض

(3)

، فالمبعض هو الذي بعضُهُ حرٌّ وبعضه مملوك، والمكاتب هو الذي كاتب سيده على نجوم متعددة على أن يدفع له مالًا على أقساط مقابل حريته، فإن التزم واستطاع أن يسدد أصبح حرًّا، وإن لم يكن، فإنه في هذه الحالة يَعُودُ مملوكًا

(4)

.

ففي الحالة التي يكون فيها مكاتبًا، فهو متردد بين الحرية والملكية، بمعنى: أنَّ فيه جانبًا من الحُرِّيَّة؛ لأنه كاتبه سيده، فهو يسدد له نجومه، ومن جانب آخر: أنه لا يزال الرق موضوعًا عليه فملكه -على القول بأنه يملك- ناقص؛ لأن حرِّيته ناقصة.

هل العبد من حيث الجملة يملك المال أو لا يملك المال؟

(1)

منهم مُحمَّد بن الحسن، وسفيان الثوري، يُنظر:"مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (1/ 472) حيث قال: "وقال محمد والثوري وزفر: يؤدي الأب عنه من ماله نفسه"، ويُنظر:"تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 307).

(2)

"القن": الذي مُلِكَ هو وأبواه. يُنظر: "تهذيب اللغة"(10/ 150)، و"النهاية" لابن الأثير (4/ 116).

(3)

"المبعض": العبد الذي عتق بعضه. يُنظر: "معجم لغة الفقهاء"(ص 400).

(4)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 262) حيث قال: "المكاتب إذا عجز العبد يرجع على المعتق بقيمة نصيبه؛ لأنه عاد عبدًا له، والمعتق أتلفه".

ص: 3608

هذه مَسْألةٌ فيها خلافٌ بين العلماء: من العلماء مَنْ يرى أن العبد لا يملك شيئًا، ومنهم مَنْ يرى أنه يملك

(1)

، وسبب الخلاف في ذلك الحديث الصحيح، والذي جاء فيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ بَاع عبدًا له مال، فمالُهُ لسيِّده الذي بَاعه إلا أن يشترطه المبتاع"

(2)

؛ أي: المشتري، فإن اشْتَرطه المشتري، فَحِينَئذٍ يكون له. . . مَعْنى هذا أن الأصلَ أن مال العبد لسيِّده، وإذا كان مال العبد في الأصل لسيِّده، فمعنى ذلك أن العبدَ لا يملك

(3)

، حتى إنَّ العلماءَ يتكلَّمون فيما لو باع السيد عبده، وعليه ثيابٌ

(1)

اختلف الفقهاء في أهلية العبد للملك على أقوال، فذهب الحنفية إلى أنه لا يملك وإنْ ملكه سيده، وللشافعية قولان، الجديد على أنه لا يملك، والمالكية على أنه يملك وإنْ لم يملكه سيده، فإذا نزع سيده المال منه، كان له ذلك، والحنابلة على روايتين، المشهور على أنه لا يملك.

انظر في مَذْهب الحنفية: "التجريد"، للقدوري (5/ 2485) حيث قال:"قال أصحابنا: العبد لا يملك الأموال وإن ملكه مولاه"، وانظر:"رد المحتار" ابن عابدين (2/ 359).

وانظر في مذهب المالكية: "حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني"(2/ 235) حيث قال: "ومال العبد له إلا أن ينتزعه السيد". وانظر: "المقدمات الممهدات"(2/ 340).

وانظر في مذهب الشافعية: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 520) حيث قال:" (ولا يَمْلك العبد بتمليك سيده في الأظهر) الجديد؛ لأنه ليس أهلًا للملك؛ لأنه مملوكٌ، فأشبه البهيمة، والثاني وهو القديم: يملك".

وَانظر في مَذْهب الحنابلة: "الروايتين والوجهين"، لأبي يعلى الفراء (1/ 343) حيث قال:"في مِلْكِ العبد رِوَايَتَان، إحداهما: يملك، فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن ملكه ناقصٌ، ولا على سيِّده لعدم ملكه. والثانية: ألا يملك".

وانظر مشهور المذهب في: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 388، 389) حيث قال: " (ولا يملك رقيق غيره) أي: المكاتب (ولو ملك) من سيده أو غيره؛ لأنه مال، فلا يملك المال كالبهائم، فما جرى فيه صورة تمليكٍ من سيد لعبده، فزكاته على السيد؛ لأنه لم يخرج عن ملكه".

(2)

أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1543) وفيه:"ومن ابتاع عبدًا وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع".

(3)

كما سبق بيانه.

ص: 3609

غاليةٌ ذات قيمة، كمشلح له قيمة كبيرة، ونحو ذلك، فهل تدخل في البيع أو لا؟ بعضهم يرى أنها لا تدخل، وإنما يدخل في ذلك الثياب المعتادة التي تُبَاع معه، وهذا يتكلَّم عنه العلماء في القواعد الفقهية عندما يفرعون على قاعدة: أيملك العبد أو لا يملك؟

(1)

.

* قوله: (وَتَلْخِيصُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ).

فَالمُؤلِّف بما أنه مالكيٌّ يريد أن يلخص مذهب مالك، لكن مذهب مالك الذي سيُلخِّصه لنا المؤلف هو ذاته يتفق معه العلماء في شطرين، فبَعْضهم معه في الشطر الأول، وبعضهم معه في الشطر الثاني.

* قوله: (أَنَّهَا تَلْزَمُ الرَّجُلَ عَمَّنْ أَلْزَمَهُ الشَّرْعُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ).

وَهَذا هو القول الأول: أنها تَلْزم الرجل في حقِّ كل مَنْ وجبت نفقته عليه، فكما أنه يجب عليه أن ينفق على زوجته، ويجب عليه أن ينفق على أولاده الصغار، كذلك أيضًا تجب عليه زكاة الفطر عن الزوجة والأولاد الصغار أيضًا، وعن الرقيق أيضًا

(2)

؛ لأن نَفقتَهم واجبة عليه، ولذلك يتكلم العلماء فيما لو قصَّر إنسانٌ في الإنفاق على عبيده، بل يتكلَّمون أكثر من ذلك فيما لو امتنَعَ عن الإنفاق على ما عنده من دواب، أَيْ: حَيَوانات.

* قوله: (وَوَافَقَهُ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ).

"وَوَافَقَهُ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ"، في الشطر الأول وأحمد

(3)

.

(1)

يُنظر: "المنثور في القواعد الفقهية" للزركشي (3/ 226) حيث قال: "وإنما لم يملك العبد لضعف تلك القدرة فيه".

(2)

يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 264) حيث قال: "يؤديها عمَّن تلزمه نفقته من الأحرار والعبيد المسلمين".

(3)

الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (3/ 377) حيث قال: "وأما جهة الملك، فعلى المولى فطرة عبيده وإمائه، وأمهات أولاده إذا كانوا من أهل الطُّهرة".

والحنابلَة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 439) حيث قال: "المسلم إذا فضل عنده عما تفدم، وعن فطرته عمن يمونه من مسلمٍ؛ كزوجهٍ وعبدٍ، ولو لتجارةٍ".

ص: 3610

* قوله: (وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ تَلْزَمُ المَرْءَ نَفَقَتُهُ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَمَنْ لَيْسَ تَلْزَمُهُ).

يَعْني: الخلاف بين المذاهب الثلاثة في الجزئيات، أمَّا في الكليات فهم مُتَّفقون على أن كل مَنْ وجبت عليه نفقته، فإنه تجب عليه أيضًا إخراج زكاة الفطر عنهم.

* قوله: (وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الزَّوْجَةِ، وَقَالَ: تُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهَا)

(1)

.

لمَاذا خالف أبو حنيفة في الزوجة؟

أَوَّلًا: الأئمَّة رحمهم الله عندما يخالف أحدهم في مسألةٍ ما، لا يخالف تشهيًا، ولا ليقال بأن فلانًا خالف؛ لأنه أعلم؛ لا، وإنما يخالف أحدهم غيره إما لأن لدى الآخرين دليلًا أو أدلة لم تبلغ هذا الإمام، أو ربما أن هذه الأدلة بلغته ولم تصح عنده، أو ربما أنها بلغته وصحت عنده، ولكنه تأولها، أو ربما أنها بلغته وصحت عنده لكن عنده دليل آخر أو فهم لدليل آخر يرى أنه يعارض أصحاب القول الآخر

(2)

.

فَالجُمْهورُ هنا في كفة، وأبو حنيفة في كفة، فجمهور العلماء -وفيهم الأئمَّة: مالك والشافعي وأحمد- يَقُولُون: يجب على الزوج أن يخرج زكاة الفطر عن زوجتِهِ

(3)

، وأبو حنيفة يَرَى أنها لا تجب عليه

(4)

، وَسَببُ الخلاف هنا يدور في فَهْمه لحديث عبد اللَّه بن عمر؛ لأن حديث عبد اللَّه بن عمر فيه:"على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والصغير والكبير"

(5)

،

(1)

سبق ذكره.

(2)

يُنظر: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لابن تيمية (ص 9 - 33).

(3)

سبق ذكره.

(4)

سبق ذكره.

(5)

سبق تخريجه.

ص: 3611

والزوجة داخلة في الأنثى، فالجمهور فهموا فهمًا، وأبو حنيفة فهم فهمًا آخر، فالجمهور فهموا من "والأنثى" على أن الأنثى تجب عليها، لكن مَن الذي يُخْرجها عنها؟ الزوج هو الذي تجب عليه نفقتها، وأبو حنيفة فَهِمَ فهمًا آخر: أنه لما قال عَبْدُ اللَّه بن عمر: "على الذَّكر والأنثى"؛ أي: أنها تجب على الأنثى بنفسها، كَمَا أنها تجب على الذكر بنفسه.

إذًا، كل واحدٍ من أصحاب القولين وَجَّه الحديث، واعتبر أنه حجة له.

فَلْنعلَم أن تلكم الخلافات التي تقع بين الأئمة وبين غَيْرهم من العُلَماء العاملين المخلصين الذين وَقَفوا حياتهم خدمةً لهذه الشريعة، وخدمةً لكتاب اللَّه عز وجل، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو خلافٌ يَنْتهي إلى وِفَاقٍ، لأن مَردَّ الجميع هو كتاب اللَّه عز وجل، وسُنَّة رَسُوله صلى الله عليه وسلم، وهم يُدْركون غاية الإدراك، هم والأئمة الأعلام، والَّذين استنبطوا لنا كثيرًا من الأحكام من كتاب اللَّه عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يُدْركون معنى قول اللَّه تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، ولا شك أن الرد إلى اللَّه إنما هو الرَّدُّ إلى كتابه، والرد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما هو الرجوع إليه في وقت حياته، وإلى ما صحَّ من سنته عليه الصلاة والسلام بعد مماته، هذا هو المنهج الذي رسمه لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسار في ضوئه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَكَذلك اقْتدَى بهم التابعون الأئمة الأعلام، ثمَّ جاء بعدهم أئمة المذاهب وأمثالهم الذين جَعَلوا حياتهم وقفًا لخدمة هذا الدين، والوُصُول به إلى نفوس الناس صافيًا نقيًّا كما تَلقَّوه ممن قبلهم، وما فهموه من كتاب اللَّه عز وجل، ومن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ولَوْ أردنا أن نعرضَ أقوالهم، لَوَجدنا أنهم كلهم كان يُحَارب التعصُّب، فأبو حنيفة رحمه الله كان لما سُئِلَ عن مَسْألةٍ، فقيل: أهذا هو الحقُّ الذي لا شك فيه؟ قال: لا أدري، لعلَّه الباطل الذي لا شك فيه.

ص: 3612

وَكَانَ يقول: إذا جَاءَ الأمر عن اللَّه، فَعَلى العين والرأس، وإذا جاء عن رَسُول اللَّه، فعلى العين والرأس، وإذا اجتمع الصحابة على أمرٍ أخذنا به، وإذا اختلفوا تخيرنا من أقوالهم، وإذا جاء عن غيرهم فنحن رجالٌ وهم رجالٌ، يقصد عن التابعين

(1)

.

وكان الإمام مالك (إمام دار الهجرة) التي تضرب إليه أكباد الإبل من مشارق الأرض ومغاربها إمامًا، هذا الإمام الذي عاش فترة طويلة يعلم الناس في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يُبيِّن لهم ما جَاء في كتابه عز وجل، وَمَا ورد في سُنَّته صلى الله عليه وسلم، كان يقول للناس: ما منا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذا القبر، وَيُشِيرُ إلى قَبْر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

، لماذا لا يُرَدُّ على رسول اللَّه؟ لأنه لا {. . . يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 3 - 5]، أما غيره فيجتهد، فإن أصاب فله أَجْرَان، وإن أخطأ فلَه أجرٌ واحدٌ، كما بَيَّن ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله:"إذَا اجْتهَد الحَاكم فأصَاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ"

(3)

.

وكان الإمام الشافعي يقول: إذا صحَّ الحديث، فهو مذهبي

(4)

.

(1)

حكاه أبو شامة في "خطبة الكتاب المؤمل"(ص 133) حيث قال: "قال نعيم بن حمَّاد: سَمعتُ أبا عصمة يَقُول: سمعت أبا حنيفة يقول: ما جَاء عن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَعَلى الرأس والعينين، وما جَاءَ عن أصحابهِ اخْتَرنا، وما كان غير ذلك فنحن رجالٌ، وهم رجالٌ".

(2)

نسبةُ هذا إلى مَالِكٍ هو المشهور، وصححه عنه ابن عبد الهادي في "إرشاد السالك إلى مناقب مالك"(ص 402)، وقد رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2/ 925)، وابن حزم في "أصول الأحكام"(6/ 145، 179) من قول الحكم بن عُتَيبة ومجاهد، وأورده تقي الدين السبكي في "الفتاوى"(1/ 148) من قول ابن عباس رضي الله عنهما، ثم قال:"وأخذ هذه الكلمة من ابن عباسٍ مجاهدٌ، وأخذها منهما مالكٌ رضي الله عنه، واشتهرت عنه"، كما أفاده الأَلْبَانيُّ في "أصل صفة الصلاة"(1/ 27).

(3)

أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(4)

يُنظر: "شرح مسند الشافعي" للرافعي (1/ 19)، و"خلاصة الأحكام" للنووي (1/ 353).

ص: 3613

معنى هذا: أن الإمام الشافعي لو قال قولًا، ووجدنا أن هذا القول يخالفه حديث صحيح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنقول: إن هذا القول الذي يوافق حديث رسول اللَّه هو قول الإمام الشافعي؛ لأنه تَبَرأ عن كلِّ قَوْلٍ قاله يخالف قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وَكَانَ الإمام أحمد رحمه الله يَقُول: "لا تُقلِّدوني، ولا تُقلِّدوا مالكًا، ولا الأوزاعي، ولكن خذوا من حيث أخذوا"

(1)

.

لكن مَن الذي يأخُذُ من حيث أخذوا؟

هُوَ الذي لَدَيه القدرة، يعني: تَجمَّعت لديه أدلة الاجتهاد: معرفته بالكتاب والسُّنَّة، بالناسخ والمنسوخ، بالمطلق والمقيد، أيضًا بما يتعلق بالمسائل الضرورية في اللغة العربية، يعرف أيضًا بعض أهم مسائل مصطلح الحديث، وعلوم القرآن، وهذه هي التي نبَّه إليها الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه "الرسالة"

(2)

.

الخلاصة: أنَّ هذه الخلافات، وتشعُّب المسائل التي نراها في كتب الفقه، والتي ربما تضيق فيه صدور بعض طلاب العلم، هي في الحقيقة إنما وَصَلَ إليها العلماء نتيجة اجتهادٍ، ونتيجة حرصهم -رحمهم اللَّه تعالى جميعًا- علَى الوُصُول إلى الحق من أقرب طريقٍ وأداةٍ، فرحمهم اللَّه تعالى جميعًا.

* قوله: (وَخَالَفَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ فِي العَبْدِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَهُ، زَكَّى عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُزَكِّ عَنْهُ سَيِّدُهُ

(3)

، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ

(4)

).

(1)

ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين"(2/ 139).

(2)

لم أَقِفْ على هذا في كتاب "الرسالة".

(3)

يُنظر: "اختلاف العلماء" للمروزي (ص 452)، حيث قَالَ:"قَالَ أبو ثَوْرٍ: الزكاة في مال المملوك واجبة على المملوك لَا على سيده - إِنْ كان المملوك مسلمًا".

(4)

يُنظر: "المحلى بالآثار"(4/ 258) حيث قال: "والحقُّ من هذا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم =

ص: 3614

هَذَا الخلاف الذي ذَكَره عن أبي ثورٍ خالف فيه الجمهور

(1)

، وأهل الظاهر أيضًا وافقوه في ذلك، بل أهل الظاهر يتوسعون في ذلك، ويَرَون أكثر مما رأى.

* قوله: (وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى المَرْءِ فِي أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ - زَكَاةُ فِطْرٍ).

يريد المؤلف أن يقول: جمهور العلماء يَرَون أن الأب إذا كان عنده أولاد صغار يملكون مالًا، هذا المال قَدْ يكون ورثوه من أُمِّهم، أو تَكُون لهم أموالٌ جَاءَتهم عن طريق الهدايا ونحوها، فَالإنسَان يملك، قد يَمْلك وهو صغيرٌ، إما عن طريق الميراث، أَوْ عن طريق غيره، وقد يوجد من الصغار مَنْ عنده من الكياسة والدراية والفطنة ما يجعله يماكس في الأسواق، ويكسب مالًا، وربما يَكُون في سن السادسة أو السابعة، وقد تجد كبيرًا لا يُحْسن ذلك، كما في قصة الرجل الذي كان في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي يُخْدع في البيع

(2)

، ولذلك المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، نعم الغالب أن الكبير يدرك الأمور؛ لأنه نضج وأصبح رجلًا

= أوجبها على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، فمَنْ بعضه حر، وبعضه عبد، فليس حرًّا، ولا هو أيضًا عبد، ولا هو رقيق، فَسَقط بذلك عن أن يجب على مالكٍ بعضه عنه شيء، ولكنه ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، فوجبت عليه صدقة الفطر عن نفسه ولا بد بهذا النص، وهو قول أبي سليمان، وباللَّه تعالى التوفيق، وأما قولنا في المكاتب يؤدي بعض كتابته إنه يؤديها عن نفسه: فهو لأن بعضه حر، وبعضه مملوك كما ذكرنا؛ فإذ هو كذلك كما ذكرنا، فعليه إخراجها عن نفسه لما ذكرنا؟ ".

(1)

الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 271) حيث قال: "عن نفسه وطفله الفقير وعبده لخدمته ومدبره وأم ولده".

المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 264) حيث قال: "يؤديها عمَّن تلزمه نفقته من الأحرار والعبيد المسلمين".

الشافعية، يُنظر:"نهاية المطلب" للجويني (3/ 377): "فَعَلى المولى فطرة عبيده".

الحنابلة: يُنْظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 199) حيث قال: "فَيُؤَدِّي عَنْ عَبْدِهِ".

(2)

أخرجه البخاري (2117)، ومسلم (1533) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 3615

سويًّا، لكن تجد من الصغار مَنْ عنده من القدرة والخبرة والذكاء والفطنة ما يُؤهِّله لأن يبيع ويشتري ويكتسب.

وربما يأتيه هذا المال عن طريق هدية، أَوْ عن طريق تبَرع، أو عن طريق إرث، إلى غير ذلك، فهذا الذي له مال هل يلزم وليه أن يخرج عنه؟ وإن كان له مال محافظة على ماله، أو أنه يجب عليه في ماله؟

جمهور العلماء يرون أن مَنْ له مال، لا يجب على وليه، وبعضهم يرى أنه يلزم الولي أن يخرج عنه وإن كان عنده مال

(1)

.

* قوله: (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ).

فَهَذا وجهٌ في مذهب الشافعية وإنْ كان هو المشهور، لَكن يوجد وجة آخر، والوَجْه هو الذي يخرجه الأصحاب على الإمام. يعني: كل إمامٍ من الأئمة له قواعد وأسس وضعها لمذهبه، هذه القَوَاعدُ لمَّا اجتمعت مَسَائلُ الفقهاء، تَحرَّى الذين جَاؤوا بعد التَّلاميذ فَصَاروا يَبْحثون عن عِلَلِ الأحكام، ثمَّ بعد ذلك استطاعوا أن يسبروا تلكم الأحكام، وأن يَعْرفوا الأصول التي بنى عليها الأئمة آرَاءَهم، فَصَاروا يخرجون على هذه الأصول.

(1)

الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 272) حيث قال: "لأن الطفل الغني بملك نصاب تجب صدقة فطره في ماله".

المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 263) حيث قال: "زكاة الفطر تلزم الرجل عن نفسه وعمَّن تلزمه نفقته من المسلمين من ولدٍ صغيرٍ لا مال له".

الشافعية، يُنظر:"كفاية الأخيار" لأبي بكر الحصني (ص 187) حيث قال: "ومنها: لو كان للأب ابن بالغ، والوالد في نفقة أبيه، فوجد قوت الولد يوم العيد وليلته، لم تجب فطرته على الأب، وكذا الابن الصغير إذا كانت المسألة بحالها كالكبير".

الحنابلة، يُنظر:"مطالب أولي النهى" للرحيباني (2/ 106) حيث قال: "أو صغيرًا؛ لأنه تلزمه مؤنة نفسه لغناه بمالٍ أو كسبٍ".

ص: 3616

إذًا، هناك تخريجان في مذهب الشافعي:

الأوَّل: هو الذي ذكره المؤلف، وهو أشهر

(1)

.

والآخر: يرى أنها تجب أيضًا على الأب (الولى) وإنْ كان من هو تحت ولايته يملك مالًا

(2)

، وهو أيضًا مذهب أحمد

(3)

.

* قوله: (وَأَبُو حَنِيفَةَ

(4)

وَمَالِكٌ

(5)

، وَقَالَ الحَسَنُ: هِيَ عَلَى الأَبِ

(6)

).

* قوله: (الحسن) يُقْصد به الحسن البصري الإمام التابعي الجليل الزاهد.

* قوله: (وَإِنْ أَعْطَاهَا مِنْ مَالِ الِابْنِ، فَهُوَ ضَامِنٌ).

فالحسن البصري يرى أنه لو أخرجها الأب من مال الابن الذي يملك مالًا، فإنه يكون ضامنًا؛ لأنه هو والٍ على الابن، فينبغي أن يحافظ

(1)

سبق ذكره.

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 119) حيث قال: "ولو أخرج من ماله فطرة ولده الصغير الغني جاز".

(3)

في مَذْهب الحنابلة في وُجُوب زكاة الفطر في مال الصغير روايتان.

انظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 164) حيث قال: "وهي واجبةٌ على كلِّ مسلمٍ. . . هذا المذهب مطلقًا، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم. وقيل: يختص وجوب الفطرة بالمكلف بالصوم، وحكي وجه: لا تجب في مال صغير، والمنصوص خلافه".

والمَشْهور أن يخرج من ماله، وعليه فمَنْ كان لولده مال، فإنه يخرج زكاة الفطر منه. انظر:"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 247) حيث قال: "وتجب في مال صغيرٍ تلزمه مؤنة نفسه؛ لغناه بمالٍ أو كسبٍ، ويخرجها أبوه منه".

(4)

سبق بيانه.

(5)

تقدم ذكره.

(6)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 61) حيث قال: "قال الحسن: على الأب أن يؤدي عنهم من أمواله، وإن أدى ذلك عنهم من أموالهم، فهو ضامن".

ص: 3617

عليه، فكما أنَّ زكاة الأموال حُضَّ أولياء الأيتام ألا يتركوا أموالهم تأكلها الزكاة، وإنما حضوا على أن يضربوا لها في الأسواق، كذلك هنا وجهة هؤلاء أن الصغير إنما هو أمانةٌ في عنق والده، أو أمانةٌ في يد من وليٍّ عليه؛ لأنه قد يكون وليُّ أمره ليس والده؛ لأنه قد يكون يتيمًا، وهذا الوليُّ قَدْ يكون قريبًا، وقَدْ يكون وصيًّا وصَّاه، وقد يكون الولي هو القاضي أو أمين القاضي، وقَدْ يكون القاضي هو الَّذي وضعه وليًّا لذلك.

الخلاصة: أن وليَّ أمر الصغير عند أكثر العلماء إنما هو يخرج من ماله؛ لأنه يملك مالًا، والزكاة تجب على الصغير كما تجب على الكبير، والآخرون قالوا: لا، هي تَجب على الصغير، لكن المسؤول عنه يُخْرج عنه.

بقيت أيضًا الخادمة، فالآن جدَّت أمورٌ، فغالب البيوت تجد فيها خادمةً، تجد فيها سائقًا، تجد فيها أكثر من خادمة، فهؤلاء زكاة الفطر تجب على مَنْ؟ هل هي تجب على المسؤول عنه الذي استقدم هذا الشخص، أَوْ لم يستقدمه لكنه عاملٌ عنده كأن يكون في متجره أو في منزله، أو سائقًا أو عاملًا في مزرعته أو مصنعه، إلى آخره، فَزَكاة الفطر تجب عليه، لكن مَنْ يخرجها؟

يُخْرجها الخادم نفسه إلا أن يشترط ذلك على المسؤول عنه، أو أن يَتبَرع بها المسؤول عنه، فإن تبَرع بها، فَهو جائزٌ، أو إن اشترطها عليه فهو جائزٌ؛ لأن المؤمنين عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، فَالأصلُ أنَّ الإنسان يُخْرجها عن نفسه.

* قوله: (وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الزَّكَاةِ الغِنَى عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، وَلَا نِصَابٌ).

فَزَكاة الأموال تجب إذا بلغت نصابًا، والنصابُ بالنسبة للدراهم أن تبلغ مائتي درهم، وقلنا: إنها تُقدَّر في زمننا الحاضر بالريال السعودي، الفضة بستة وخمسين ريالًا، فمَنْ ملك ستةً وخمسين ريالًا من الفضة،

ص: 3618

وجبت عليه الزكاة، أو ملك عشرين مثقالًا (أي: عشرين دينارًا)، وَيَجب فيها ربع العشر، أَيْ: اثنان ونصف في المائة.

هل يُشْتَرط النصاب في زكاة الفطر؟

عند جماهير العلماء: لا يُشْترط فيها النصاب.

هل يُشْتَرط فيها الغنى؟

عند جماهير العلماء: لا يُشْترط فيها الغنى، فأيُّ إنسانٍ ملك قُوتَه، يعني: ما يقتات به؛ أي: ما يجده يأكله ليلة العيد ويوم العيد، ومَنْ هم تحت مسؤوليته، ما زاد عن ذلك يخرج زكاته

(1)

.

فَلَوْ أن إنسانًا عندما غربت الشمس ليلة العيد، كان يملك مثلًا صاعين، هنا يحتاج ليقتات هو ومَنْ عنده صاع في هذه الفترة، وهذا الصاع زائد عن قوتِهِ وقوت عيالِهِ، فيخرجه عن نفسه، فإن كان عنده صاع آخر، أخرجه عن الآخر، وهكذا.

إذًا، المهم هنا أن الإنسانَ يملك في يوم العيد وليلته ما يزيد عن قُوتِهِ وقوت عيالِهِ؛ أي: ما يقتاته هو ومَنْ هم تحت يده؛ أي: ما يحتاجون إليه في أَكْله، فما زاد عن ذلك يخرجه، وهو إذا أخرجه، فإن اللَّه سبحانه وتعالى سيتكفل بتعويضه عن ذلك إن شاء اللَّه؛ لأن النفقة لا تنقص المالَ، بل تزيده، ولذلك جاء في الحديث:"أنفق ننفق عليك"

(2)

.

(1)

المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 257) حيث قال: "قال ابن حبيب: إذا كان عنده فضل قوت يومه، أخرجها، يريد فضل عن قوته وقوت عياله".

والشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 312)، حيث قال في صفة مَنْ تلزمه صدقة الفطر:" (فمن لم يفضل عن قوته وقوت مَنْ في نفقته) من آدمي وحيوان (ليلة العيد ويومه شيء، فمعسر)، ومَنْ فضل عنه شيءٌ فموسر؛ لأن القوتَ لابد منه".

والحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 439) حيث قال: " (فضل عن قوته)؛ أي: مسلم يمون نفسه، والجملة صفة له (و) عن قوت (من تلزمه مؤنته يوم العيد وليلته بعد حاجتهما".

(2)

أخرجه البخاري (4684)، ومسلم (993) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 3619

وكُلَّما كان الإنسان مبسوط اليد، باذلًا للمعروف، منفقًا في سبيل اللَّه، وكلما كان حريصًا على أن تكون نفقته في السر أكثر من العلانية، فاللَّه سبحانه وتعالى لن يضيع أجره، سيحفظ له ذلك في ميزان حسناته، وسيبارك اللَّه سبحانه وتعالى له بمالِهِ الذي عنده.

واللَّه عز وجل وَعَد المنفقين في كتابه، فقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].

{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] في صدقة السر.

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} ، ولا يقف عند هذا الحد {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261].

إذًا، هذا هو شأن المُنْفقين في سبيل اللَّه، ولذلك يقول اللَّه في وَصْف عباده المؤمنين المتقين الذين يسارعون إلى فعل الخيرات:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133، 134].

* قوله: (وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الزَّكَاةِ الغِنَى عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، وَلَا نِصَابٌ).

جَماهيرُ العلماء وَمنهم الأئمة

(1)

عدا أبي حنيفة

(2)

لا يشترطون الغنى، فهو كَمَا ذكرنا، وهذا هو الرأي الصحيح: مَنْ ملك ما يزيد عن قوتِهِ وقوت عياله الذين تلزمه نفقتهم، فإنه يخرج زكاة الفطر.

(1)

سبق ذكره.

(2)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 271) حيث قال: "للحديث: "أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة"، والإغناء من غير الغنى لا يكون، والغنى الشرعي مقدر بالنصاب".

ص: 3620

* قوله: (بَلْ أَنْ تَكُونَ فَضْلًا عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ).

"فضلًا" يعني: زائدة.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ تَجُوزُ لَهُ الصَّدَقَةُ

(1)

).

وهذه مسألةٌ أخرى، قد يقال: لماذا خالف أبو حنيفة الجمهور؟

* قوله: (لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ أَنْ تَجُوزَ لَهُ، وَأَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ).

فلو قُدِّر أن إنسانًا عنده قليلٌ من القمح أو من التمر، هو ما مَلَك نصابًا؛ لأنه متى يملك الإنسان نصابًا؟ إذا ملك ثلاث مائة صاعٍ التي هي خمسة أوسق، والوسق: ستون صاعًا، فأبو حنيفة يَقُول: كيف نطالبه بإخراج الزكاة، ثمَّ في نفس الوقت نَدْفع له الزَّكاة من جَانِبٍ آخَرَ؟

نَقُولُ في الجَوَاب في ذَلكَ: نحن نُطَالبه بزكاة الفطر؛ لأن هذه زكاة عن بدنِهِ، وهي تطهير لبدنه، فلا يشترط فيها النصاب، وتلك زكاة لماله، فلا نطالبه إلا بما زاد عن النصاب إذا بلغت نصابًا؛ لأن الإنسان لو أخذ منه قبل أن يبلغ نصابًا لشقَّ عليه، ولذلك نحن نجد أن الشَّريعَة الإسلاميَّة -كما بينَّا ذلك عندما كنا نتكلم عن وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام، وكذلك في النقدين، وقلنا: إنها حددت بهذه المقادير لحِكْمةٍ- إنَّما هي تَشْتمل على حِكَمٍ وأسرارٍ؛ لأنها أنزلت من لدن حكيمٍ خبيرٍ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]؟ بلى؛ لأنَّه هَو الذي خلَق هذا الكونَ، هو الذي خَلَق هذه الخليقة، هو الَّذي خلق الإنسان وسَوَّاه في أحسن تقويمٍ، فَهُو الذي يعلم ما يصلح شؤون الناس، وما تَسْتقيم به أمورُهُم،

(1)

يُنظر: "التجريد" للقدوري (3/ 1402) حيث قال: "قال أصحابنا: لا تجب الفطرة على الفقير الذي يجوز له أخذها".

ص: 3621

وما فيه حياتهم واستقامتهم، حياة أبدانهم وحياة أرواحهم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

فإذا كانت الأبدان تحيا بالماء والطعام؛ لأن البدنَ لا يمكن أن يعيش بدون الماء، فَكَذلك الأرواح لا تعيش بدون الدِّين:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، فَالأَرْضُ التي يُزْرع فيها تحيا بالماء، والخليقة إنما تَحْيا أبدانها بالماء، كذلك أيضًا هذه الأرواح إنما تحيا بهذه الشريعة العظيمة، أما تِلْكم القوانين والشرائع التي من وضع الناس، ومن زُبَد أفكارهم، فهي آراء أناس يدخلها النقص والتعديل والتبديل، ولذلك تتغير، أما شريعة اللَّه فهي باقيةٌ خالدةٌ إلى أن تقوم الساعة؛ لأنها شريعة اللَّه علَّام الغيوب الذي جعلها خاتمة الشرائع:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

* قوله: (وَذَلِكَ بَيِّنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ لِمُكَلَّفٍ مُكَلَّفٍ فِي ذَاتِهِ فَقَطْ كَالحَالِ فِي سَائِرِ العِبَادَاتِ، بَلْ وَمِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ).

إذًا، مراد المؤلف هنا أن الأصلَ في المكلف ألَّا يكلَّف إلا بما يخصُّه، فَهَل الإنسان يكلف بالصلاة عن غيره؟ لا، كَذَلك أيضًا صيام رمضان يجب على الإنسان بنفسه، لكنَّه لا يجب عليه بغيره، لكن قضية أن يصوم عن إنسانٍ ميتٍ، أو يحجَّ عن إنسان ميت، فهذا أمر آخر، لكن يَجب على الإنسان في نفسه أن يحج عن نفسه، وأن يصوم عن نفسه، وأن يؤدي الصلاة عن نفسه، ولا يؤديها عن غيره، هذا هو الأصل.

إذًا، الإنْسَانُ في الأصل مكلفٌ أنه يؤدي العبادات عن نفسه، فكيف هنا يُؤدِّيها عن غيره؟ هذا هو الذي أشار إليه المؤلف، هَذَا هو الأصل، نَعمْ نقول هنا: يُؤدِّيها عن غيره؛ لأنَّ هذِهِ زَكاةُ أبدانٍ، وأنت مسؤولٌ عن هذه الأبدان التي وكل اللَّه سبحانه وتعالى إليك حفظها ورعايتها، وأرشدك إلى ذلك

ص: 3622

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: "كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيته"

(1)

، فأنتَ مسئولٌ عن هؤلاء، وأنت مسئولٌ عن إيجاب النفقة عليهم؛ لأنهم عيال اللَّه:"النَّاس عيال اللَّه"

(2)

، فأنتَ مسئولٌ عن رعاية هؤلاء الناس الَّذين تحت سلطتك، من هنا وَجَب على المكلف -زيادةً على ما يجب عليه نفسه- أن يخرج نفقة هؤلاء، هذا هو الذي يريد أن يُشير إليه المؤلف، أو الذي أومأ إليه.

* قوله: (وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ لِمُكَلَّفٍ مُكَلَّفٍ فِي ذَاتِهِ فَقَطْ؛ كَالحَالِ فِي سَائِرِ العِبَادَاتِ)

(3)

.

"لمُكلَّف" أكدها بـ "مكلف في ذاته"، والأصل أن الإنسان يكلف عن نفسه:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، لكن هنا أُضيفَت إليك تَكاليفُ أخرى، لماذا؟ لأن هؤلاء تحت سلطتك، وتحت رعايتك، وأنت المسؤول عنهم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6].

* قوله: (بَلْ وَمِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ لِإِيجَابِهَا عَلَى الصَّغِيرِ وَالعَبِيدِ).

لأنَّ زكاة الفطر تختلف عن غيرها، فالمعروف في العبادات أن الإنسانَ يُؤدِّيها عن نفسه، فهو يُصلَي عن نفسه، لا عن غيره، ويحج عن نفسه، لكن إِنْ حجَّ عن غيره، فليس ذلك بلازمٍ عليه، وكذلك أيضًا الحال في زكاة الأموال، لَكن في زكاة الفطر يختلف الأمر: فإن المكلف الذي يملك قُوتَه وقوتَ مَنْ هم تحت نفقته ليلة العيد ويومه، يلزمه أن يقدم الفطرة عن نفسه، وعمَّن هم تحت نفقته من رقيقٍ ونساءٍ وصغارٍ أيضًا،

(1)

أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه الطبراني في "الأوسط"(5/ 356)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 102)، وضَعَّفه الأَلْبَانيُّ في "السلسلة الضعيفة"(1900).

(3)

سبق ذكره.

ص: 3623

ممن لا مال لهم بالنسبة للصغار، أما الذين لهم مالٌ، ففيهم خلاف

(1)

.

من هنا نجد أن زكاة الفطر تختلف عن غيرها؛ لأن زكاةَ الفطر إنما هي تَطهيرٌ لبدن الإنسان؛ لأنها "طهرة للصائم"

(2)

بعد صيامه عن اللغو والرفث، "وطعمة للمساكين"

(3)

أَيْ: فيها مواساةٌ للمساكين في هذا اليوم الذي يَنْبغي أن يكونوا فيه سعداء؛ كغيرهم من القادرين.

* قوله: (فَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ عِلَّةَ الحُكْمِ الوِلَايَةُ، قَالَ: الوَلِيُّ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ عَنْ كُلِّ مَنْ يَلِيهِ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذِهِ النَّفَقَةِ قَالَ: المُنْفِقُ يَجِبُ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْ كُلِّ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ)

(4)

.

ما هي العلة؟ وما هو السبب في كونه يُزكِّي عن غيره؟ هل السبب هو كونه مسؤولًا عن مؤنة هؤلاء (أَيْ: عن نفقتهم)؟ أو لأنَّ له الولاية عليهم؛ أي: أن اللَّه سبحانه وتعالى جعل له الولاية عليهم؟

من هنا يختلف الأمر، فهناك مَنْ يقول بأن مَنْ تجب نفقتهم عليه يلزمه أن يؤدي عنه، ومَنْ نظر إلى الولاية أيضًا قال: إن العلة في ذلك هي الولاية.

* قوله: (عَنْ كُلِّ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ).

فالإنسان (أَيْ: المكلف) ينفق على زوجته، وَإنْ كان عنده أكثر من زوجةٍ، فتلزمه النفقة عليهن، والمنفق ينفق على قَدْر حاله:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، فإذا كان الإنسان غنيًّا، فينفق على قَدْر حاله، وإذا كان متوسطًا، فَكَذلك، وإذا كان دون ذلك، فحسب استطاعتِهِ:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، لَكن النَّفقة

(1)

سبق ذكره.

(2)

أخرجه أبو داود (1609)، وغيره، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(1427).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق ذكره.

ص: 3624

لازمة بالنسبة للزوجة، وبالنسبة للأولاد الصغار الذين لا مال لهم، وكذلك بالنسبة للأبوين اللَّذين يحتاج إلى الإنفاق عليهما.

* قوله: (وَإِنَّمَا عَرَضَ هَذَا الِاخْتِلَافُ؛ لِأَنَّهُ اتُّفِقَ فِي الصَّغِيرِ وَالعَبْدِ، وَهُمَا اللَّذَان نَبَّهَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ لَيْسَتْ مُعَلَّقَةً بِذَاتِ المُكَلَّفِ فَقَطْ).

وَمُرَادُهُ: أن الخلافَ قد عرضَ؛ لأنه جاء التنبيه على الصغير والمملوك، كَمَا في حديث عبد اللَّه بن عُمَر

(1)

، وأيضًا في رِوَاياتٍ أخرى: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ومثله أيضًا حديث أبي سعيدٍ

(2)

وابن عباس

(3)

، وغيرها من الأحاديث المتعددة التي وَرَدتْ في ذلك.

* قوله: (بَلْ وَمِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ إِنْ وُجِدَتِ الوَلَايَةُ فِيهَا وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ).

أي: أنَّ هذه الزكاةَ ليست قاصرةً على المكلف القادر الذي يملك قُوتَ نفسه، وقُوتَ عياله يوم العيد وليلته؛ لأن زكاة الفطر -كما نبهنا- تختلف عن الزَّكاة الواجبة، لا يُشْترط في المزكي أن يكون غنيًّا، ولا مالكًا للنصاب، ولا يُشْتَرط الحول فيها، وَمن هنا اختلفت عن زكاة المال.

* قوله: (فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ العِلَّةَ فِي ذَلِكَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ

(4)

، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ العِلَّةَ فِي ذَلِكَ الوِلَايَةُ

(5)

، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

يُنظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 506) حيث قال: "يجب الإخراج (عن كل مسلم يمونه) من مانه مونًا إذا احتمل مؤنته، وقام بكفايته، أَيْ: تَلْزمه نفقته".

(5)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 271) حيث قال: "يلي عليه ولاية كاملة مطلقة للحديث: "أدُّوا عمَّن تَمُونون".

ص: 3625

الزَّوْجَةِ

(1)

، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا:"أَدُّوا زَكَاةَ الفِطْرِ عَنْ كُلِّ مَنْ تَمُونُونَ"

(2)

).

"مَنْ تَمُونون"، يعني: مَنْ تلزمكم نفقته ومؤنته، وهذا جزء من حديث عبد اللَّه بن عمر

(3)

، وهو حديثٌ اختصرَه المؤلف، وجاء بمحل الشاهد فيه، وفيه قال: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر، ثم ذكر:"على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد ممن تمونون"

(4)

.

وَوَردَ موقوفًا أيضًا عَنْ عبد اللَّه بن عمر أنه كان يخرج صدقة الفطر عن جميع مَنْ يعولهم من صغيرٍ وكبيرٍ ممن تلزمه مؤنتهم

(5)

. هَذَا ووَرد أيضًا عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان يخرج زكاة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن يعول، وكان يخرج أيضًا الزكاة عن رقيقه، وعن رقيق نسائه

(6)

.

وَهَذَا حديثٌ مختلفٌ فيه صحةً وضعفًا، فمن العلماء مَنْ يصححه، ومنهم مَنْ يتكلم فيه، وله عدة طرق، وهو صالحٌ للاحتجاج به

(7)

.

* قوله: (وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ).

بمعنى أنه ليس في "الصحيحين"، أو ليس متفقًا على صحته، بل فيه كلام.

(1)

سبق ذكره.

(2)

أخرجه الدارقطني (3/ 67) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أمر رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن تمونون"، وحسنه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(835).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

أخرجه الدارقطني (673)، وحسَّنه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(3/ 320).

(7)

ضَعَّفه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 272) حيث قال: "إسناده غير قويٍّ"، وانظر:"البدر المنير"(5/ 621 - 624).

ص: 3626

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا مِنَ العَبِيدِ فِي مَسَائِلَ).

الآن سينتقل إلى الرقيق، فالعلماء قد اختلفوا، هل كل عبدٍ تجب زكاته على سيده؟

وَالعَبيدُ أنواع: فيهم القن والرق فيه كامل، وفيهم المكاتب، وفيهم المبعض، وهكذا، ثم هؤلاء العبيد منهم عبيد خاصون بخدمة سيدهم، وفيهم مَنْ هو معدٌّ للتجارة؛ أي: يعتبر مالكًا، والذي يعد للتجارة تجب فيه زكاة المال، فهل يضاف إلى ذلك أيضًا زكاة أُخرى التي هي زكاة البدن، وعلى القول بذلك، فَزَكاةُ العبد هَلْ تجب عليه أو على سيِّده؟ وزكاة المُكَاتب هل هي عليه أو على سيده؟ أو أن المكاتبَ لا تجب عليه زَكاةٌ أصلًا، هذا كلُّه سيعرض المؤلف لبَعْضه، وسنَتوسَّع فيه -إن شاء اللَّه- حسب الحاجة.

* قوله: (إِحْدَاهَا كَمَا قُلْنَا: وُجُوبُ زَكَاتِهِ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ أَوْ لَا يَمْلِكُ).

أَوَّلًا: فيما يتعلَّق بالعبد المملوك هل يملك أَوْ لا يملك؟ هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، بمعنى: هل يملك إذا ملكه سيده، أو هو وماله لسيده

(1)

؟

مفهوم هذا الحديث الصحيح والذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَاعَ عبدًا، فمالُهُ للَّذي بَاعَه إلا أن يَشْترطه المُبْتاع"

(2)

، أنَّ مال العبد لسيِّده الأصلي، وأنه إذا اشتراه إنسان وكان له مالٌ، فلا بُدَّ من أن يشترطَه، فإن سكت عنه، فإن الحكم يصدر بأن المَال للمال الأول.

إذًا، هذا يدلُّ على أنه لا يملك، فإذا كان لا يملك، فَتكون زكاة فطره على سيده

(3)

.

(1)

سبق ذكره.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (1/ 506) حيث قال: "يجب الإخراج عن كلِّ مسلمٍ يمونه. . . والرق".

ص: 3627

* قوله: (وَالثَّانِيَةُ: فِي العَبْدِ الكَافِرِ، هَلْ يُؤَدِّي عَنْهُ زَكَاتَهُ أَمْ لَا؟).

وَهَذه أيضًا مسألة أُخرى اختلفوا فيها: إذا ملك مسلمٌ عبدًا كافرًا، فهل تلزمه زكاته أو لا تلزمه؟ هذه أيضًا فيها خلاف.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ

(1)

وَالشَّافِعِيُّ

(2)

وَأَحْمَدُ

(3)

: لَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ فِي العَبْدِ الكَافِرِ زَكَاةٌ. وَقَالَ الكُوفِيُّونَ

(4)

: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي الزِّيَادَةِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:"مِنَ المُسْلِمِينَ").

إذًا، حَديث عبد اللَّه بن عُمَر الَّذي تكرَّر ذكرُهُ معنا، جاءَ فى آخِرِه بعد أن ذكر الحر والعبد، والذكر والأنثى -وَفِي رِوَايةٍ أيضًا: والصغير والكبير- قَالَ: "من المسلمين"

(5)

، فهل هذا القيد مقصود أو لا؟

هذا القَيْدُ لم يَرِدْ في جميع الروايات التي رواها نافع عن عبد اللَّه بن عمر، فإنَّ في بعض الروايات:"من المسلمين"، ولم تُذْكر هذه اللفظة في البعض الآخر، ومن هنا وقَع الخلاف.

الأَمْرُ الآخر: أنه وَرَد في حديث عبد اللَّه بن عباس الَّذي لم يورده

(1)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 230) حيث قال: "واحترز بالمسلم عمَّن يمونه من الكفار بسَبَبٍ من الأسباب: كزوجةٍ، أو أبٍ، أو ولدٍ، أو عبيد كفار".

(2)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 112) حيث قال: "وأما فطرة المرتد ومَنْ عليه مؤنته، فموقوفة على عوده إلى الإسلام، وكذا العبد المرتد ولو غربت الشمس ومَنْ تلزم الكافر نفقته مرتد لم تلزمه فطرته حتى يعود إلى الإسلام (إلا في عبده) أي: رقيقه المسلم ولو مستولدة (وقريبه المسلم)، فتجب عليه عنهما (في الأصح) ".

(3)

يُنظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 279) حيث قال: "ويسد مسلم عن عبده المسلم وَإِنْ كان للتجارة لا الكافر".

(4)

يُنظر: "التجريد" للقدوري (3/ 1385) حيث قال: "يجب على المولى أن يخرج الفطرة عن عبيده المسلمين والكفار".

(5)

سبق تخريجه.

ص: 3628

المؤلف هنا، وهو حديث حسن، والذي قال فيه: فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين

(1)

.

إذًا، هذا "فَرضَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم صَدَقة الفطر عن اللغو والرفث"، يَعْني: فيما لو صَدَر عن الصائم "وطُعْمة للمساكين"، إذًا هذا خصَّه بالصائم، والصَّائمُ إنما هو مسلمٌ.

* قوله: (فَإِنَّهُ قَدْ خُولِفَ فِيهَا نَافِعٌ بِكَوْنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا الَّذِي هُوَ رَاوِي الحَدِيثِ. . . .).

يعني: هذه الزيادة "من المسلمين"، يقول المؤلف: إنه "خولف فيها نافع"، يعني: خالف نافعًا غيرُهُ من الرواة، فلم يذكروا "من المسلمين" في رِوَايَتِهمْ عن عبد اللَّه بن عمر.

* قوله: (. . . مِنْ مَذْهَبِهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنِ العَبِيدِ الكُفَّارِ).

وَمِنَ المُخَالفة أيضًا أنَّ ابنَ عمر الذي رُوِيَ عنه هذا الحديث، من مذهبه أنه كان يُخْرج زكاة الفطر عن عبيد الكفار. . . هذا هو اعتراض المؤلف.

نقول: اعتراض المؤلِّف ليس في محله:

أوَّلًا: الذي روى عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان يُخْرج الزكاة عن عبيده الكفار إنما هو نافع، فهو الذي روى ذلك كما حكاه الدارقطني وغيره

(2)

.

الأَمْرُ الآخَر: قوله: إنَّ الرواة خالفوا نافعًا، أيضًا هذا محل اعتراض؛ لأنَّ الَّذين رووا عن نافع انقسموا إلى قسمين، بل إن بعضهم قال: إن مالكًا هو الذي اختصَّ بذكر "من المسلمين"، وأيضًا هذا غير

(1)

سبق تخريجه.

(2)

كما عند الدارقطني في "سننه"(3/ 67)، وكذلك عند مسلم (984).

ص: 3629

صحيحٍ؛ لأنه وجد عدد من الرُّواة الذين رَوَوا عن نَافِعٍ ذكروا كلمة "من المسلمين"، لكن كثيرًا من الرُّواة، بل إن بعضَ العلماء قال: إنه أكثر، لم يذكروا لفظة "من المسلمين"

(1)

، إذًا اعْتِرَاضُ المؤلف على نافعٍ اعتراض ليس في محله.

* قوله: (وَلِلْخِلَافِ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ: وَهُوَ كَوْنُ الزّكَاةِ الوَاجِبَةِ عَلَى السَّيِّدِ فِي العَبْدِ هَلْ هِيَ لِمَكَانِ أَنَّ العَبْدَ مُكَلَّفٌ أَوْ أَنَّهُ مَالٌ؟).

يَعْني: هَلْ إِيجَابُ الزَّكاة على السيد عن عبدِهِ لكون العبد مكلفًا، أو لأنه مَالٌ من الأموال؟ لأن العبدَ -كَمَا هو معلومٌ- تجب عليه الصلاة، ويجب عليه الصيام، وتسقط عنه صلاة الجمعة، لكن الصلاة لا تسقط عنه، وَهَكَذا أيضًا بالنسبة للحج يحتاج إلى سيده، والمسألة فيها خلافٌ، وهكذا كثيرٌ من الأحكام.

كَذَلك العبيد -كَمَا هو مَعلومٌ- خفف عنهم في بَعْض الأحكام، كالحَال بالنسبة للنِّساء، خُفِّف عنهنَّ أيضًا بعض الأحكام التي اختلفنَ فيها عن الرِّجال، والتي تُعْتبر مما اختصَّ بِهَا النِّساء.

* قوله: (فَمَنْ قَالَ: لِمَكَانِ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ اشْتَرَطَ الإِسْلَامَ، وَمَنْ قَالَ: لِمَكَانِ أَنَّهُ مَالٌ لَمْ يَشْتَرِطْهُ).

الحقيقة أنَّ سبب الخلاف البين الواضح:

أولًا: أن جمهور العلماء يقولون: إنه يلزم السيد أن يُخْرج زكاة عبده؛ لهذه اللفظة التي وردت: "من المسلمين"، فإنهم تَلقَّوها بالقبول.

ثَانيًا: حديث عبد اللَّه بن عبَّاس الذي أَشَرنا إليه، والَّذي قال فيه: فَرضَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم عن اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، فمَنْ أدَّاها قبل الصلاة، فَهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَنْ أدَّاها بعد الصلاة، فهي صدقةٌ من الصدقات.

(1)

كما عند مسلم (984).

ص: 3630

إذًا، هَذَا هو مذهب الجمهور، أخذوا بلفظة:"من المسلمين"، وقالوا: هذه ثبتت في "الصحيحين" من طرق مُسلَّمة، فهذا القيد له معنى، إذن نأخذ به "من المسلمين" بالنسبة للكافر.

أيضًا حديث عبد اللَّه بن عباس أيضًا أنه قال: فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . ثمَّ ذكر: "طُهْرةً للصائم من اللغو والرفث، وَطعمةً للمَسَاكين"، فكونه للصائم دليل على أنها تشرع في حقِّ المسلم. . . هذا فيما يتعلَّق بالنسبة للعبد الكافر، أما بالنِّسبة لغيره مطلقًا، فَأَيْضًا الجمهورُ يَرَون وجوبَ الزكاة أيضًا على السيد عن عبدِهِ مطلقًا

(1)

.

* قوله: (قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ العَبْدَ إِذَا أُعْتِقَ وَلَمْ يُخْرِجْ عَنْهُ مَوْلَاهُ زَكَاةَ الفِطْرِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا عَنْ نَفْسِهِ

(2)

بِخِلَافِ الكَفَّارَاتِ).

نعم، الكفارات تختلف؛ لأنها لازمةٌ له، أما صدقة الفطر فلا.

(1)

الحنفية، يُنظر:"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 271) حيث قال: " (قوله: عن نفسه وطفله الفقير وعبده لخدمته ومدبره وأم ولده لا عن زوجته وولده الكبير ومكاتبه أو عبده أو عبيد لهما) شروع في بيان السبب، وهو رأسه، وما كان في معناه ممن يمونه".

المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 263) حيث قال: "قال مالك: يؤديها الرجل عَنْ كل مَنْ يحكم عليه بنفقته من الأحرار والعبيد من المسلمين".

الشافعية، يُنظر:"مغني المحتاج"(2/ 114) حيث قال: "ومَنْ لزمه فطرته، لزمه فطرة مَنْ تلزمه نفقته، لكن لا يلزم المسلم فطرة العبد والقريب والزوجة الكفار". وانظر: "نهاية المطلب" للجويني (3/ 377).

الحنابلة: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 439) حيث قال: "وتلزمه أي: المسلم إذا فضل عنده عمَّا تقدم، وعَنْ فطرته، عمَّن يمونه من مسلم، كزوجةٍ وعبدٍ، ولو لتجارةٍ".

(2)

يُنظر: "الإقناع" لابن القطان (1/ 219) حيث قال: "وأَجْمَعوا أن العبدَ إذا أعتق قبل أن يؤدي سيده عن زكاة الفطر أنه لا يلزمه إخراجها عن نفسه إذا ملك مالًا بعد عتقِهِ".

ص: 3631

* قوله: (وَالثَّالِثَةُ: فِي المُكَاتَبِ).

"المُكاتَب" و"المكاتِب"، صحيحان.

مَنْ هُوَ المُكَاتب؟

هُوَ الَّذي كَاتَبه سيدُهُ على العتق شريطة أن يسدِّد ما عليه من أَقْسَاطٍ نجومًا، يعني: يتَّفق معه على العتق على أن يدفع له مالًا معينًا، يعني: مبالغ مقسطة، فمتى ما سدَّدها أصبح حرًّا، وفي هذه الحالة التي يكون فيها مكاتبًا هو بين الحرِّ والعبد، فملكه ناقص، يعني: حُرِّيته ناقصة؛ لأنه لو لم يسدد لعاد الرقُّ عليه مرةً أخرى

(1)

.

هَذَا هو سببُ الخلَاف فيه، فَالعُلَماءُ مختلفون في المكاتب: فبَعْضهم يرى أن المكاتبَ تجب زكاته على سيده، وبعضهم يرى أنها لا تجب.

* قوله: (فَإِنَّ مَالِكًا

(2)

وَأَبَا ثَوْرٍ

(3)

قَالَا: يُؤَدِّي عَنْهُ سَيِّدُهُ زَكَاةَ الفِطْرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ

(4)

وَأَبُو حَنِيفَةَ

(5)

وَأَحْمَدُ

(6)

: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ).

إذًا، مَالكٌ يَرَى أن السيدَ ملزمٌ بإخراج زكاة الفطر عن المكاتب؛ لأنَّ حريَّته ناقصة، هَذَا هو السبب. . . جُمْهورُ العُلَماء: الحنفية والشافعية

(1)

سبق ذكره.

(2)

يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 264) حيث قال: "نفقة المكاتب على نفسه وعلى السيد زكاة الفطر".

(3)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 64) حيث قال: "وقال أبو ثورٍ: عليه فيهم الزكاة".

(4)

يُنظر: "نهاية المطلب" للجويني (3/ 408) حيث قال: "وذكر ابن سريج قولًا مُخرَّجًا: إن المكاتب يلزمه إخراج الفطرة عن نفسه، ولم يشترط هذا القائل الملك التام فيما يخرجه، بناءً على ترتب الفطرة على النفقة".

(5)

يُنظر: "المختصر" للقدوري (ص 61) حيث قال: "ولا يخرج عن مكاتبه".

(6)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 439): "ولو كان مكاتبًا، فتلزمه فطرة نفسه كمؤنتها".

ص: 3632

والحنابلة، يقولون: لا يُخْرج عنه سيده. . . ثم يقع الخلاف بين الأئمة الثلاثة الذي لم يعرض له المؤلف، وكان ينبغي أن ننبه عليه.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ المَكَاتَبِ بَيْنَ الحُرِّ وَالعَبْدِ).

هنا قال: "لا زَكَاة عليه فيه"، لكن هل عليه زكاة أو لا؟ هنا يأتي الخلاف.

الحنابلة

(1)

يرون أن زكاتَه تجب عليه. وَالحنفية

(2)

والشافعية

(3)

يَرَون أن الزكاة تسقط عنه في هذه الحالة؛ لأن ملكه ناقص، هذه واحدة، وقياسًا على زكاة الأموال، فكَما أن زَكَاةَ الأموال لا تجب على العبد، فكذلك زَكَاة الفطر لا تجب عليه.

والحنابلة يوجبون عليه الزكاة

(4)

، ويستدلُّون بعدة أدلة، منها ما جاء في حديث عبد اللَّه بن عمر:"على الحر والعبد"

(5)

، فهو لا يزال داخلًا تحت كلمة العبد؛ لأنه لم يتحرر بعد، وهو أيضًا داخل تحت لفظة الذكر والأنثى؛ لأنها عامةٌ تشمله؛ لأنَّ المكاتبَ أيضًا لا يخلو من أن يكون ذكرًا أو أنثى.

(1)

يُنظر: "منتهى الإرادات"(1/ 496) حيث قال: "تجب على كل مسلم تلزمه مؤنة نفسه ولو مكاتبا فضل عن قوته".

(2)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (ص 140) حيث قال: "ولَا عن مُكَاتبه، ولا تجب عليه؛ لأن ما في يده لمولاه".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج"(2/ 113) للشربيني حيث قال: " (ولا) فطرة على (رقيق) لا عن نفسه، ولا عن غيره، أمَّا غير المكاتب كتابة صحيحة فلعدم ملكه، وأما المكاتب المذكور فلضعف ملكه، إِذْ لا يجب عليه زكاة ماله، ولا نفقة قريبه، ولا فطرة على سيده عنه؛ لاستقلاله بخلاف المكاتب كتابة فاسدة، فإن فطرته على سيده، وإنْ لم تجب عليه نفقته (وفي المكاتب) كتابة صحيحة (وجه) أنها تجب عليه فطرته".

(4)

سبق ذكره.

(5)

سبق تخريجه.

ص: 3633

ويقولون أيضًا: ولأن نفقتَه واجبة عليه، بخلاف العبد الآخر الذي ليس مكاتبًا، فَتَجب عليه أيضًا زكاة فطرٍ.

قالوا: وأما القياس، يعني: قياس زكاة الفطر على المال التي أخذ بها الشنافعية والحنفية، قالوا: هذا قياس مع الفارق؛ لأنَّ زكاة المال إنما يُشْترط فيها: الغنى (ملك النصاب)، والحول، وزكاة الفطر لا يُشْتَرط فيها شيءٌ من الأشياء، فَاخْتلَفت عنها.

ولا شكَّ أنَّ مذهبَ الحنابلة أقرب في نظري من غيره، وهو أيضًا أحوط بالنسبة للمكاتب أن يخرج زكاة ماله.

إذن، عَرَفنا من هذا أن العلماءَ بالنسبة للمكاتب انقسموا إلى قسمين: ففريق يرى أن زكاتَه على سيده (مالك ومَنْ معه)، والجمهور يرون أن زكاته لا تجب على سيده، وهم الأئمة الثلاثة

(1)

.

ثمَّ انْقَسموا إلى قسمين: فَالحنفية والشافعية يَقُولون: لا زكاة عليه أصلًا؛ لأن ملكَه غير تَامٍّ، فَيُقَاس على العبد؛ لأنَّ حريَّته ليست كَاملةً، وملكه للمال ليس ملكًا تامًّا، وقياسًا على زكاة المال فَكَما أن زَكَاة المَال لا تجب عليه، كذلك زكاة الفطر لا تجب عليه

(2)

.

وَالحنابلةُ يُوجِبُونَ زكاة الفطر عليه، كما أن نفقتَه واجبة عليه

(3)

.

وفرَّقوا أيضًا بين زكاة الفطر وبين زكاة المال؛ لأن زكاة المال لها شروطٌ لا تُشْترط في زكاة الفطر، أضف إلى ذلك عموم الأدلة التي أطلقت كلمة العبد والذكر والأنثى.

* قوله: (وَالرَّابِعَةُ: فِي عَبِيدِ التِّجَارَةِ).

إذن، قَسَّم المؤلف العبيد كغيره من الفقهاء إلى قسمين: عبيد قصد

(1)

سبق ذكره.

(2)

سبق ذكره.

(3)

سبق ذكره.

ص: 3634

بهم الخدمة؛ أي: الَّذين يخدمون سيدهم؛ أي: يشغلهم في خدمته كأن يشتغلوا في منزله، في مزرعته، في أعماله، في مصنعه، إلى غير ذلك من الأعمال، وهو يملكهم، فهؤلاء تجب زكاته عليهم اتفاقًا لا خلاف فيها

(1)

.

يبقى بعد ذلك عبيد التجارة الذين خصهم للتجارة، هل تجب زكاة فطرهم على السيد أو لا؟

بعض العلماء لم يوجب ذلك، وهم قلة، والجمهور أوجبوا ذلك، والَّذين لم يوجبوا ذلك -وهم الحنفية

(2)

- قالوا: لأننا لو أوجبنا عليهم زكاة الفطر، لَجَمعنا زكاتين في شخصٍ واحدٍ، يعني: يُزكَّى عن مالهم، ويُزكَّى عن أبدانهم، فاجتمعت زَكَاتان في شخصٍ واحدٍ، يعني في مالٍ واحدٍ. . . هكذا يَقُولُون.

أمَّا بالنسبة للجمهور

(3)

، فإنهم يقولون: إن الزكاة تجب عليهم؛ لأن الحديث لم يُفرِّق، فذكر العبيد، ولم يُفرِّق بين عبيد التجارة وغيرهم.

* قوله: (ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِمْ

(1)

يُنظر: "الإقناع" لابن المنذر (1/ 181) حيث قال: "أَجْمَع أهل العلم على أن على المرء صدقة الفطر إذا أَمْكَنه عن نفسه وعن أولاده الأطفال الذين لا أموال لهم، وإذا كان للطفل مال، أخرج عنه من ماله، وعلى المرء صدقة الفطر عن مماليكه؛ ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، مَنْ غاب منهم ومن حضر، علم موضعه أو لم يعلم به، كان المملوك رهنًا عند أحَدٍ أو لم يكن رهنًا".

(2)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 272) حيث قال: "وقيد العبد بكونه للخدمة؛ لأنه لو كان للتجارة، لا تجب صدفة فطره".

(3)

المالكية، يُنظر:"شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 230) حيث قال: "ولا بين الذكور والإناث للقنية أو للتجارة".

والشافعية، يُنظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 302) حيث قال: "وتجب فطرة عبيد التجارة مع زكاتها".

والحنابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 439) حيث قال: " (وتلزمه) أي: المسلم إذا فضل عنده عما تقدَّم وعن فطرته (عمن يمونه من مسلم) كزوجة وعبد، ولو لتجارة".

ص: 3635

زَكَاةَ الفِطْرِ

(1)

. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(2)

وَغَيْرُهُ

(3)

: لَيْسَ فِي عَبِيدِ التِّجَارَةِ صَدَقَةٌ، وَسَبَبُ الخِلَافِ: مُعَارَضَةُ القِيَاسِ لِلْعُمُومِ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ اسمِ العَبْدِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكاةِ فِي عَبِيدِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهِمْ).

يعني كلمة "العبد" التي وردت في الحديث: "على الحر والعبد"، لم تُفرِّق بين عبيد التجارة وبين غيرهم، فجمعت وأطلقت، ولو كان هناك فرق بائن لبينه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، لكنَّه لم يبين ذلك، فبقي الحكم على أصلِهِ، وهو عدَم التفريق بين النوعين.

* قوله: (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ هَذَا العُمُومَ مُخَصَّصٌ بِالقِيَاسِ، وَذَلِكَ هُوَ اجْتِمَاعُ زَكَاتَيْنِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ

(4)

).

يَعْني: وُجُودها في شخصٍ واحدٍ، أو في مالٍ واحدٍ لا يمنع؛ لأنَّ ذَلكَ لو كان ممنوعًا، لبيَّنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو قيده ما لم يكن للتجارة.

* قوله: (وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي عَبِيدِ العَبِيدِ).

يَعْني: عبيد العبيد، من يخرج زكاتهم؟ وهل تجب زكاتهم على العبد نفسه الذي يملكهم؟ هذه أيضًا مرتبطة بمسألة: هل يملك العبد أو لا يملك؟ لأنه إذا قيل بأن العبد يملك، يعني: يكون له عبيد وغير عبيد. وعلى القول بأنه لا يملك يكون هو وعبيده تبعًا لسيده، فهل تجب الزكاة على السيد؟

الجَوَابُ: نَعَمْ، على قول مَنْ يقول بأن العبد لا يملك، تجب الزكاة

(1)

سبق ذكره.

(2)

سبق ذكره.

(3)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 63) حيث قال: "وفي قول عطاء بن أبي رباح، والنخعي، والثوري، وأصحاب الرأي: ليس على السيد فيهم زكاة الفطر".

(4)

يُنظر: "رد المحتار" لابن عابدين (2/ 362) حيث قال: "قوله: "وعبده لخدمته"؛ احتراز عن عبد التجارة، فإنها لا تجب كَيْ لا يؤدي إلى الثنى. زيلعي: أي تعدد الوجوب المالي في مال واحد".

ص: 3636

على السيد؛ لأن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما كَمَا ذَكَرنا في الأثر- كان يُخْرج الزكاة عمَّن يعول من الصغار والكبار، وعن رقيقِهِ ورقيق زوجاتِهِ

(1)

، كذلك هنا أيضًا عن رقيق رقيقِهِ

(2)

.

* قوله: (وَفُرُوعُ هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ).

لا شك أن زكاة الفطر فيها مسائل متعددة، والمؤلف إنما عرض لأهمِّها.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(الفَصْلُ الثَّالِثُ مِمَّا تَجِبُ زَكَاةُ الفِطْرِ)

وَحَديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه ذكر لنا الأصناف، وحديث عبد اللَّه بن عمر

(3)

ذكر لنا صنفين، ذكر التمر والشعير، وَذكر أنَّ الزكاةَ تُخْرج صاعًا من الصنفين.

(1)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لمحمد بن رشد (2/ 510) حيث قال: "قال محمد بن رشد: نحو هذا لمالك في "مختصر ابن شعبان"، وفي "المبسوط"، و"المبسوطة"، وفي "العشرة" ليحيى عن ابن القاسم، أنه ليس على الزوج أن ينفق من خدم زوجته على أكثر من خادمٍ واحدةٍ، ولا يؤدي صدقة الفطر إلا عن التي ينفق عليها، ولو ارتفع قدرها ما عسى أن يرتفع ليس عليه أكثر من ذلك، وهو ظاهر ما في "المدونة"".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 230) حيث قال: "ولا زكاة على عَبيد العبيد؛ أي: لا يزكي عنهم سيدهم؛ لأن ملكه غير مستقرٍّ، ولا سيد سيدهم؛ لأنهم ليسوا عبيدًا له، وإنما يملكهم بالانتزاع، ولا يلزمهم أن يخرجوا عن أنفسهم؛ لأن نفقتهم على سيدهم".

(3)

سبق تخريجه.

ص: 3637

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ذكر لنا أصنافًا خمسةً كما جاء في حديثه، قال:"كنَّا نُخْرج زكاة الفطر"

(1)

وفي رواية: "وفينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: صاعًا من طعامٍ أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمرٍ أو صاعًا من أقطٍ أو صاعًا من زبيب"

(2)

، وفي بعض الرِّوايات قُدِّم الزبيب على الأقط

(3)

.

هذه أمورٌ خمسةٌ وَرَد النَّصُّ فيها، فهَلْ وُجُوبُ زكاة الفطر فيها لعينها أو لأنها أقوات معروفةٌ؟ ترتب على هذه المسألة خلافٌ بين العلماء، والآن هناك أقوات متعددة بعضها كان موجودًا في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن في المدينة، فهناك الذرة موجودة، كذلك الآن وُجِدَ الأرز، واشتهر وأصبح من أشهر القوت المعروف، بل أصبح الآن من أغلب قوت البلاد، أو في كثيرٍ من البلَاد.

إذًا، هل العلة هنا فِي أنَّ الزكاة تجب في هذه الأنواع نفسها؟ على القول بأنه لا يجوز العدول عنها إلا عند عدم وجودها، يعني: إذا لم يجد الإنسان برًّا أو تمرًا أو شعيرًا أو زبيبًا حِينَئذٍ ينتقل إلى غيره كالأرز والذرة، وكذلك أيضًا غيرها مما يدخل في الأقوات أيضًا، ويختلفون أيضًا في الدقيق، والخبزُ الخلافُ فيه أكثر، وان كان الدقيق هو من القمح.

هَذِهِ أُمُورٌ نصَّ عليها، فهل نقف عند مَوْرد النَّصِّ فلا نتجاوزه، فنقول: لا تُخْرج الزكاة إلا من هذه الأنواع الخمسة، أو أننا نأخذ بكلمة قوت؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يَشْرط في ذلك شرطًا، وإنما جاء في الأثر:"كنا نُخرج زكاة الفطر وفينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام"، بعضهم فسره بالقمح كما سيأتي، وذكر التمر والشعير والزبيب والأقط، ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم:"ولا يجوز من غير ذلك" أو قال: "يُقْتصر عليها"، إنما ذكر هذه الأقوات؛ لأنها هي المعروفة المشهورة عندهم، فهل معنى ذلك أن

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 3638

نقفَ عندها ولا نتجاوزها، أو نقول: لا، إن المقصود هنا غالب القوت أو ما يكون قوتًا للبلد، فَتُخرج الزكاة منه؟

قال بعض العلماء: إن المقصود بذلك القوت فإذا اشتهر قوت من الأقوات، أو ربما لم يشتهر، وإنما يَقْتاته الناس، ففي هذه الحالة تخرج الزكاة منه كما قلنا: من الأرز، وكذلك الذرة، والدُّخن، وأمثال ذلك من النباتات التي تدخل ضمن هذه الأشياء، كذلك السُّلت الذي يُلْحق بالشعير

(1)

.

* قوله: (وَأَمَّا مِمَّاذَا تَجِبُ، فَإِنَّ قَوْمًا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهَا تَجِبُ إِمَّا مِنَ البُرِّ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الشَّعِيرِ أَوِ الزَّبِيبِ أَوِ الأَقِطِ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ لِلَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَوْمٌ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الوَاجِبَ عَلَيْهِ هُوَ غَالِبُ قُوتِ البَلَدِ).

هنا مسألة أُخْرَى: هل هذه الخمسة أيضًا على الترتيب أَوْ على التخيير؟ بمعنى أن الإنسان مُخيَّر، يعني: لو اجتمعت هذه الأصناف الخمسة عند شخصِ، فكان عنده قمح، وعنده تمر، وعنده شعير، وعنده زبيب، وعنده أقط، هل يُخيَّر في الإخراج، أو يُقَال له مثلًا: ابدأ بالتمر؛ لأنه المشهور عند الحنابلة

(2)

، وهو أفضل، أو ابدأ بالبُر؛ لأنه الأفضل عند الشافعية

(3)

، يعني رتب كما جاء في الحديث، أو أن لك الخيار. . . هذه مسألة.

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 260) حيث قال: "تخرج من غالب عيش البلد من تسعة أشياء، وهي: القمح والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن والتمر والزبيب والأقط".

(2)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 443) حيث قال: "إن جماعة الصحابة كانوا يخرجون التمر، ولأنه قوت وحلاوة، وأقرب تناولًا، وأقل كلفةً (فزبيب)؛ لأن فيه قوتًا وحلاوةً وقلة كلفة، فهو أشبه بالتمر من البُر (فبُر)؛ لأنَّ القياس تقديمه على الكل، لكن ترك اقتدأء بالصحابة في التمر".

(3)

يُنظر: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 323) حيث قال: "فالأعلى البُر ثم =

ص: 3639

المسألة الأخرى: الانتقال إلى غير هذه الأصناف الخمسة، هل هو مُقيَّدٌ بعدَم وجودها، أَوْ يجوز أن ننتقل مثلًا إلى الأرز مع وجود هذه الخمسة؟ هذا كلُّه يَدْخل مبنى الخلاف.

* قوله: (أَوْ قُوتُ المُكَلَّفِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قُوتِ البَلَدِ).

وَهَذا في نظري هو الأقرب لروح الشريعة، فنحن عندما ننظر إلى شريعتنا الخالدة الغرة التي بُنيَت على أُسسٍ منها: العدالة، ومُرَاعاة مصالح الناس، ومُراعاة التيسير على الناس، لا شك أن في ملاحظة القوت فيه تيسيرًا على الناس، وأيضًا تطبيقٌ للركن الآخر من مقاصد هذه الشريعة: مُرَاعاة مصَالح الناس.

فَبَعْضُ الناس لو أعطيته الأقط ربما لا يأكله أو لا يعرفه؛ لأن هذا مُشْتهرٌ في البادية، حتى إنَّ بعض العلماء يرَى أن الأقط يختصُّ بالبادية، يقول: الأقطُ تُخْرجه البادية، لكن الصحيح أنه عامٌّ تُخرجه البادية وغيرها

(1)

.

والأقط هو هذا الذي يُخْرج من اللبن المخيض، ويُطْبخ هذا النوع من اللبن، ثم يُجفَّف، فيُخرج منه الأقط، وهو الآن أصبح معروفًا مشهورًا.

إذًا، مُرَاعاة قوت البلد مُرَاعاةٌ تلتقي مع روح الشريعة الإسلامية، ومع شُمُولها، ومع مقاصدها العظيمة؛ لأنك إذا راعيتَ قوت البلد،

= السلت ثم الشعير ثم الذرة ثم الأرز ثم الحمص ثم الماش ثم العدس ثم الفول ثم التمر ثم الزبيب ثم الأقط ثم اللبن ثم الجبن غير منزوع الزبد، ثم أجزأ كل من هذه لمَنْ هو قوته".

(1)

يُنظر: "المجموع" للنووي (6/ 131): "ثمَّ المذهب الذي قطع به الجماهير أنه لا فرقَ في إجزاء الأقط بين أهل البادية والحضر. وقال الماوردي: الخلاف في أهل البادية، وأما أهل الحضر فلا يُجْزئهم قولًا واحدًا، وَإِنْ كان قوتهم، وهذا الذي قاله شاذ فاسد مردود، وحديث أبي سعيد صريح في إبطاله وإن كان قد تأوله على أنه كان في البادية، وهذا تأويل باطل، واللَّه أعلم".

ص: 3640

فبعض الناس يُحبُّ الأرز، وربما لا يأكل غيره من هذه الأنواع، وبعض الناس تميل نفسُهُ إلى التمر، وبعض الناس أيضًا إلى الشعير، وبعضهم إلى الذرة، إلى الدُّخن، إلى غير ذلك، فلماذا نُضيِّق على الناس، والقصدُ من ذلك هو إخراج زَكَاةٍ من طعامٍ القصدُ فيها تطهير النفس، وأيضًا مُراعاة أحوال المساكين، ومواساتهم في هذه الأيام التي ينبغي أن يكونوا فيها سعداء.

* قوله: (وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَبْدُ الوَهَّابِ

(1)

عَنِ المَذْهَبِ).

قَصْده بالمَذْهب: مذهب مالكٍ

(2)

، وهو رأيٌ وجيهٌ ومقبولٌ.

* قوله: (وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِم: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ).

"صَاعًا من طَعَامٍ"، هذا اخْتُلِفَ فيه، بعضهم فسَّره بالبُرِّ، وإذا فسَّرناه بالبُرِّ، سيزول الإشكالَ عن مسألةٍ قادمةٍ، وهي: قضية هل يُكْتفى بإخراج مُدَّين يعني: نصف صاعٍ من القمح أو لا؟ لو فُسِّر الطعام بالقمح

(3)

، نقول: هذا نصٌّ في حديثٍ متفقٍ عليه، فينبغي أن نقف عنده، وسيأتي الخلاف فيِ هذه المسألة، وأنه وَرَدتْ أحَاديثُ فيها نصفُ صَاعٍ، وَوَرد فيها صاعٌ، نَتْرك ذلك لمحلِّه إنْ شاء اللَّه.

* قوله: (أَوْ صَاعًا مَنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ).

(1)

في "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 416) حيث قال: "الاعتبار بغالب قوت أهل البلد".

(2)

يُنْظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 260) حيث قال: "فإن كان عيشُهُ وعيش عياله من هذه الأصناف من غير الصنف الذي هو غالب عيش البلد، أخرج من الذي هو غالب عيش البلد".

(3)

يُنظر: "البيان والتحصيل" لمحمد بن رشد (2/ 499) حيث قال: "قالوا: وإن صح فيه ذكر الطعام، فيحتمل أن يكون أدوا صاعًا من قمح".

ص: 3641

وفي روايةٍ أخرى: "أو زبيب" أيضًا، وهي في "الصحيحين"

(1)

والمؤلف جاء بهذه الأمور الأربعة، وترك الزبيب.

* قوله: (فَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ التَّخْيِيرَ، قَالَ: أَيًّا أَخْرَجَ مِنْ هَذَا، أَجْزَأَ عَنْهُ).

إذًا، هَذه المَسْألةُ هل ذكرت هَذِهِ الخمسة على التخيير أو على الترتيب؟ الجواب: على التخيير

(2)

. انتهينا.

مَسْألةٌ أخرى: هل إخراج هذه الخمسة خاصٌّ بها، ولا يجوز أن يتعداها الإنسان إلى غيرها أو لا؟

هناك مَنْ يرى أنه لا يتعداها إلى غيرها إلا في حالة عدم وُجُودها، وبعضهم يلحظ كما رأيتم في مذهب المالكية قوت البلد

(3)

، وغالب قوت البلد، فالآن ترون أن غالبَ قوت الناس هنا إنما هو الأرز، هل نُغْفل الأرز ونقول: لا يُخْرج منه؛ لأنه ما كان معروفًا في ذاك الوقت؟

إذن نقول: نعم، تُخْرج زكاة الفطر من الأرز؛ لأنه من قوت البلد، بَلْ إن لم يكن أشهر قوت البلد.

(1)

أخرجه البخاري (1506)، ومسلم (985).

(2)

يُنظر: "نهاية المطلب" للجويني (3/ 417) حيث قال: "وأظهر معاني (أو) التخيير، وهذا غير سديد؛ فإن ما ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُورده مخيرًا، وإنما أراد الإشارة إلى معظم الأجناس في أحوالٍ مختلفةٍ"، ويُنظر:"بحر المذهب" للروياني (3/ 220).

(3)

يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 260) حيث قال: "قال مالك: إنها تخرج من غالب عيش البلد من تسعة أشياء، وهي: القمح والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن والتمر والزبيب والأقط، فإن كان عيشه وعيش عياله من هذه الأصناف من غير الصنف الذي هو غالب عيش البلد، أخرج من الذي هو غالب عيش البلد".

ص: 3642

* قوله: (وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ اخْتِلَافَ المُخْرَجِ لَيْسَ سَبَبُهُ الإِبَاحَةَ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ اعْتِبَارُ قُوتِ المُخْرِجِ أَوْ قُوتُ غَالِبِ البَلَدِ قَالَ بِالقَوْلِ الثَّانِي).

يعني: هناك مُلَاحظة المخرَج الذي هو القوت، والمُخرِج الذي يُخْرج الزكاة، فالمُخرَج نُلَاحظ فيه الأقوات، وقوت المُخرِج الإنسان الذي يعيش، فمثلًا يشتهر عندنا القمح، وكذلك الأرز، ويأتي بعدها ربما في مناطق الدُّخن والشعير والذرة، لكن أشهر شيءٍ تجده في كل بلد، في كل قرية، في كل هجرة، عند البادية والحاضرة: الأرز، ويأتي بعده أيضًا القمح.

إذًا، هذا مُشتهرٌ هنا، فهل نُلاحظ قوت المُخرِج الشخص أو المُخرَج يعني: الذي يُخْرج من هذه الأصناف؟

إذًا، هَذِهِ المَسْألة نَميل فيها إلى قول الَّذين يَقُولون بإخراج ما كان من قوت البلد، وإنْ لم يكن من هذه الخمسة، وهذا هو الظاهر، ونحن أيضًا عندما نتعمق في هذه المسألة، ونُدقق النظر فيها، ونحاول أن نطبقها على أصول وقواعد هذه الشريعة، نَرَى أنها تَلْتقي معها تمامًا؛ لأن هذه الشريعة عندما شرعت الأحكام إنما شرعتها لعلل ولأسباب، ومن بين هذه الأسباب والعلل: تلكم الأصول التي قامت عليها هذه الشريعة: مُرَاعاة مصالح الناس، والتيسير عليهم، وفي ذلك تيسيرٌ ومُرَاعاةٌ لمَصَالحهم.

إذًا، نَحْن بهذا لم نخرج عن روح الشريعة ولُبِّها، ولا عن مَقَاصدها، ولا عن أهدافها الحكيمة العظيمة

(1)

.

* قوله: (وَأَمَّا كَمْ يَجِبُ؟ فَإِنَّ العُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَدَّى فِي زَكَاةِ الفِطْرِ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ

(2)

).

(1)

يُنظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي (1/ 181) حيث قال: "إن الشرع وضع أسبابًا تقتضي أحكامًا تترتب عليها، تحقيقًا للعدل في خلقه، ولمُرَاعاة مصالحهم تَفضُّلًا منه".

(2)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 48) حيث قال: "وأَجْمَعوا على أن الشعير والتمر لا يجزئ من كل واحدٍ منهما أقل من صاعٍ".

ص: 3643

إذًا، هناك تمرٌ، وهناك شعيرٌ، وهناك زبيبٌ، وهناك أقط، هذا يؤدى فيه صاع، بل إنَّ الزبيب فيه خلافٌ، بعضهم يرى أنه يؤدَّى فيه نصف صاع

(1)

، لكن الخلاف الأكبر والأشهر إنَّما هو في القمح، فبَعْض العلماء يرى أن القمحَ يُكْتفى فيه بمُدَّين أي: بنصف صاع، وما عداه يُخرج صاعٌ كامل.

* قوله: (لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ

(2)

).

وَجَاءَ ذلك في حديث أبي سَعِيدٍ أيضًا

(3)

، فذكر صَاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شَعِيرٍ.

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُؤَدَّى مِنَ القَمْحِ).

القَمحُ الَّذي هو البُرُّ، فبَعْضُ الناس يُسمِّيه بُرًّا، وهذا هو اسمه، وبعضهم يسمِّيه قمحًا، إذًا هذا كله يدخل في ذلك، وحِنطة أيضًا، وهي الحب الأحمر أو الأبيض.

والمؤلف حقيقةً لم يعرض لحديث أبي سعيد مُفصلًا، ولا للقصة التي وقعت في ذلك، وحديث أبي سعيد الذي أشار إليه المؤلف هو حديثٌ طويل جاء فيه أنه قال:"كُنا نُخْرِجُ زَكَاة الفطر وَفينا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من طَعَامٍ"، بعض العلماء فَسَّر الطعام بالبُر

(4)

، وسيأتي أنَّ هذَا هو مفهوم أبي سعيَدٍ راوي الحديث "صَاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من أقطٍ، أو صاعًا من زبيب، ولا نَزَال نُخْرِجُهُ"، يعني: لا نزال نُخرِج الصاع من البُرِّ "حتى قدم معاوية إلى

(1)

يُنظر: "الدر المختار" للحصكفي (2/ 364) حيث قال: "نصف صاع فاعل يجب من بر أو دقيقه أو سويقه أو زبيب وجعلاه كالتمر، وهو رواية عن الإمام، وصححه البهنسي وغيره"، ويُنظر:"فتح العزيز بشرح الوجيز" للرافعي (6/ 194).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

تقدمت.

ص: 3644

المدينة، فتكلم، فكان ممَّا كلم الناس فيه أنه يرى أن مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك"، ثم قال أبو سعيدٍ: "ولكن لا أزال أُخرجه"؛ أي: كما كنت أُخرِجه في عهد رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

انْظُرُوا حَديثَ أَبي سَعِيدٍ جاء مُفصلًا ومُبينًا، "كانوا يخرجون زكاة الفطر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعامِ"، وفُسِّر بالقمح "أو صَاعًا من شَعِيرٍ، أو صاعًا من تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا من زبِيبٍ، أو صاعًا من أقط"، قال:"ولا نَزَال نُخْرجها"؛ أي: ظلَّ الناس يخرجون (حتى قدم مُعَاوية المدينة)، هذه البلد التي نعيش فيها، (فكلَّم الناس، فكان مما تكلَّم فيه أنه يرى أن مُدَّين) يعني: نصف صاعٍ (أن مُدَّين من سمراء الشام)، يَعْني: من بُرِّ الشام (تعدل صاعًا من تَمْرٍ)، يعني: نصف صَاعٍ من البُرِّ يُسَاوي صَاعًا من التمر، قال:(فأَخَذ الناس بذلك)، يعني: أخذوا برأي معاوية رضي الله عنه، لكنَّه قيد الكلام، قال:(وأنا لا أزال أُخْرجه)، أي: لا أزال أُخْرج صاعًا من البُرِّ كما كنت أُخْرجه في زمن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

يُؤيِّده أيضًا حديث عبد اللَّه بن عمر المتفق عليه أنه قال: "أَمَرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر صاعًا من تمرٍ أو صاعًا من شعير"، قال:(فَعَدَل النَّاس عن ذلك إلى نصف صَاعٍ من بُرٍّ)

(1)

.

فقَوْله: "فَعَدَل النَّاس"، فِي حديث ابن عمر يدُلُّ على أن الناس هُمُ الَّذين عدلوا. . . وَحَديث أبي سَعِيدٍ يُبيِّن سببَ عدول الناس.

وتأتي أحاديث أُخرى فيها أن صاعًا من بُرٍّ يُخرج عن اثنين، وأن صاعًا من تمرٍ أو شعير عن واحد

(2)

كما سيأتي، لكن هذه الأحاديث فيها اختلافٌ في متنها وسندها، ولها طُرقٌ متعددة جدًّا كلها لا تخلو من مقال، وانتهى العلماء المحققون إلى أن هذه الأحاديث إنما جاءت بعد

(1)

أخرجه البخاري (1511)، ومسلم (984).

(2)

سيأتي تخريجه قريبًا.

ص: 3645

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي سَعِيدٍ إنما يتكلم عن زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

، ولا شكَّ أن ما أخذ به أبو سَعِيدٍ إنَّما هو أحوط في أقل ما يُقَال فيه، فالأَوْلَى بالمسلم والأحوط أن يُخْرج صاعًا من بُرٍّ، فإن لم يُخرِجْ، فليُخْرِجْ من تمرٍ أو شعيرٍ.

* قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ

(2)

وَالشَّافِعِيُّ

(3)

: لَا يُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ).

وَكَذَلك أَحْمَدُ أيضًا

(4)

.

* قوله: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُجْزِئُ مِنَ البُرِّ نِصْفُ صَاعٍ

(5)

. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الآثَارِ).

وَالحَنابلة يَرَوْن أن التمرَ أفضلُ من البُرِّ

(6)

، والشافعيَّة يَروْن أن البُرَّ أفضل

(7)

، فَتَرون أيضًا أن فيه مُفَاضلةً بين البُرِّ والتَّمر، ومن الناس مَنْ يميل إلى التمر، ومنهم مَنْ يميل إلى البُرِّ، لكن ربما لو خيرت كثيرًا من الناس لاختار الأرز.

(1)

منهم البيهقي، كما في "السنن الكبرى" (4/ 285) حيث قال:"أن تعديل مُدَّين من بُرٍّ وهو نصف صاع بصاع من شعير، وقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم".

(2)

يُنظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (2/ 228) حيث قال: "يجب على المكلف وجوبًا ثابتًا بالسُّنَّة صاع من جميع الأنواع".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج"، للشربيني (2/ 116، 117)، وفيه قال:" (وهي) أي: فطرة الواحد (صاع). . . والعبرة بالصاع النبوي إن وجد أو معياره، فإن فقد أخرج قدرًا يتيقن أنه لا ينقص عن الصاع". وانظر: "المجموع"، للنووي (6/ 142).

(4)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 442) حيث قال: "والواجب في فطرة (صاع بُرٍّ) أربعة أمداد بصاعه صلى الله عليه وسلم".

(5)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 273) حيث قال: "نصف صاع من بُرٍّ أو دقيقه أو سويقه".

(6)

سبق ذكره.

(7)

سبق ذكره.

ص: 3646

* قوله: (وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مَنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ"

(1)

).

وَالمُؤلِّف قَدْ أضَاف كلمة "زبيب" التي أسقطها في الرواية الأولى.

* قوله: (وَظَاهِر أَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّعَامِ القَمْحَ).

"وظاهره"؛ لأنه ليس نصًّا في القمح؛ لأنه لو كان نصًّا في القمح، لَبَقي الأمرُ مُسَلَّمًا؛ لأنَّ تلكَ الأَحَاديث لا تَقْوى معارضَته.

* قوله: (وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ بُرِّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ"، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ)

(2)

.

إذًا، هذا يُبيِّن أن الصَّاع من البُرِّ يكفي لاثنين، لكن هذا الحديث فيه كلامٌ، وإذا مرَّ بنا أشرنا إليه.

* قوله: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ).

يَعْني: عَنْ سعيد بن المسيب.

* قوله: ("كَانَتْ صَدَقَةُ الفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ"

(3)

).

(1)

سبق ذكره.

(2)

أخرجه أبو داود (1620)، وصححه الأَلْبَانيُّ في "صحيح أبي داود"(1434).

(3)

أخرجه أبو داود في "المراسيل"(ص 138)، وهو مرسل صحيح كما سيأتي.

ص: 3647

لكن هذا مُرسل، أرسله سعيد بن المسيب، وهو مُرْسلٌ صَحيحٌ كَمَا ذكر ذَلكَ ابن عبد الهادي

(1)

، لكن الحديث الأول الذي قال:"نصف صاعٍ""بَيْن اثنين من بُرٍّ"، هذا اختُلِفَ فيه سندًا ومتنًا، أما بالنسبة للسند، فقد رُوِيَ مُرسلًا، وجاء مُنْقطعًا، وفيه كلامٌ كثيرٌ في سنده، ولَا يَخْلو من مَقَالٍ

(2)

.

وَبالنِّسْبة للمتن، مرةً ورد "صاع"، ومرةً ورد "نصف صاع"، وإن كان الأكثر "نصف صَاعٍ"، لكنه وَرَد فيما لا يقل عن روايتين (صاع من بُرٍّ)، إذًا هذه التقت مِع حديث أبي سَعِيدٍ أيضًا، فالأَوْلَى أن يُؤْخذَ بها؛ ولذَلكَ أخذ الجمهور بذلكَ

(3)

.

* قوله: (فَمَنْ أَخَذَ بِهَذهِ الأَحَادِيثِ قَالَ: نِصْفُ صَاعٍ مِنَ البُرِّ، وَمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَقَاسَ البُرَّ فِي ذَلِكَ عَلَى الشَّعِيرِ، سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الوُجُوبِ).

وَالمَسْألةُ ليست في الحقيقة مسألةَ قياسٍ، وإنما فيها إخبارٌ عن أبي سعيدٍ بما كان في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "إذا كان فينا رسول اللَّه"، وفي روايةٍ:"على عهد رسول اللَّه"، وبيَّن أنهم كانوا يخرجون صاعًا من طعامٍ، وأيضًا أبو سعيد يقصد بالطعام القمح؛ لأنه عندما تكلم عن قضية معاوية أنه عندما قَدِمَ إلى المدينة وكلَّم الناس، وأنه كان مما تكلم فيه "أن مُدَّين من سمراء الشام" أي: من حِنطة الشام تعدل "صاعًا من تمرٍ"، قال:"فأخذ الناس بذلك"، لكنه لا يزال يُخرِجه كما كان يُخرجه في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فالأخذ بما نُقِلَ عن أبي سَعِيدٍ أَوْلَى؛ لأنه نسب ذلك إلى عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَمَا نُقِلَ عن معاوية وغيره إنما هو اجتهادٌ منه، وربما

(1)

يُنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (3/ 128) حيث قال: "وأمَّا حديث سعيد بن المسيِّب الذي رواه أبو داود فإسناده صحيحٌ كالشَّمس، لكنَّه مرسلٌ، ومرسل سعيد حجَةٌ".

(2)

انظر: "نصب الراية"(2/ 421 - 423).

(3)

سبق ذكره.

ص: 3648

أنه تمسَّك بهذه الأدلة، لكننا نقول: الأحوط هنا للمسلم أن يُخرِج صاعًا من حِنْطَةٍ لا نصف صاعٍ.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

‌(الفَصْلُ الرَّابِعُ مَتَّى تَجِبُ زَكَاةُ الفِطْرِ

وَأَمَّا مَتَى يَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الفِطْرِ؟).

هل يجوز إخراجها في أوَّل العام؟ يَعْني: تُقدَّم كالحال بالنسبة لزَكَاة الأموال، وتَعْلَمون أنَّ زكاةَ الأموال يجوز تَقْديمها عن وقت وُجُوبها، وحَصَل ذلك في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وقوله عن العباس: "عليَّ ومثلها"

(1)

، وكذلك أيضًا يجوز في أول رمضان أو في آخره قبل ليلة العيد بيومين يعني: اليوم الثامن والعشرين أو يوم التاسع والعشرين.

ولا شك أن أفضل وَقْتٍ تُخرج فيه هو ما قبل صلاة الفجر، يعني: ما بين صلاة الصبح إلى ما بعد صلاة الفجر، يعني: ما بين صَلَاتي الفجر وصلاة العيد، يعني: الأفضل أن يُخْرجها الإنسان قبل أن يذهبَ إلى صَلَاة العيد، هذَا هو أفضل أوقاتها كَمَا جَاء في حديث عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ وغيره أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم "فَرَض صدقةَ الفطر إلى أَنْ قال: فمَنْ أخرجها قبل الصلاة، فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَنْ أخرجها بعد الصلاة، فَهي صدقةٌ من الصدقات".

لَكن بعض العلماء تكلَّم في هذه المسألة، وقالوا: لو أخرجها بعد

(1)

أخرجه البخاري (1468)، ومسلم (983)، واللفظ له، من حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه.

ص: 3649

الصلاة ولَمْ يكن مُفرطًا، فإنها أيضًا مقبولةٌ إِنْ شَاء اللَّه، وتُعْتبر أيضًا زكاةً، ويُثاب على ذلك.

* قوله: (فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ"، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الوَقْتِ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ عَنْهُ: تَجِبُ بِطُلُوعِ الفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الفِطْرِ).

أَيْ: تَجب بدُخُول اليوم الأوَّل من أيام الفطر الذي هو يوم العيد، هذه هي الرِّواية عن مالك

(1)

.

* قوله: (وَرَوَى أَشْهَبُ أَنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمِ رَمَضَانَ

(2)

).

وَهَذا هو رأي جمهور العلماء، ومَعَه في هذا الشافعي

(3)

وأحمد

(4)

أيضًا، أنها تجب بغُرُوب الشمس، يعني: بغُرُوب شمس ليلة يوم العيد.

* قوله: (وَبِالأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(5)

، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ).

يعني: الرواية الأولى التي تجب بطلوع فجر يوم العيد، هذا هو رأي

(1)

يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 259) حيث قال: "روى ابن القاسم عن مالكٍ: لا تجب على مَنْ هو من أهلها إلا بطلوع الفجر. قال ابن رشد: وهذا هو الأظهر".

(2)

يُنظر: "التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 259): "روى أشهب عن مالك أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر".

(3)

يُنظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 111) حيث قال: " (تجب) زكاة الفطر (بأول لَيْلة العيد في الأظهر)؛ لأنها مضافة في الحديث إلى الفطر من رمضان". وانظر: "نهاية المطلب" للجويني (3/ 382).

(4)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (2/ 441) حيث قال: "ولا تجب فطرة إلا بدخول ليلة عيد الفطر؛ لأنها أضيفَتْ في الأخبار إلى الفطر".

(5)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 274) حيث قال: "صبح يوم الفطر، فمَنْ مات قبله أو أسلم أو ولد بعده، لا تجب".

ص: 3650

أبو حنيفة مع الرواية الأولى، والقول أنها تجب بغروب الشمس من ليلة العيد هو مذهب الجمهور

(1)

.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هِيَ عِبَادَة مُتَعَلِّقَة بِيَوْمِ العِيدِ، أَوْ بِخُرُوجِ شَهْرِ رَمَضَانَ؟).

لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "هي طُهرةٌ للصائم من اللغو والرفث، وطُعمةٌ للمساكين"

(2)

أي: مساواة لهم.

وفي حديث عبد اللَّه بن عمر: "من رمضان"

(3)

، فذكر أنها تجب بالفطر من رمضان.

* قوله: (لِأَنَّ لَيْلَةَ العِيدِ لَيْسَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي المَوْلُودِ يُولَدُ قَبْلَ الفَجْرِ مِنْ يَوْمِ العِيدِ وَبَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟).

يَعْني: عند مَنْ يقول: بأنَّه تجب بفجر يوم العيد، معنى ذلك أنَّ مَنْ يولد قبل ذلك، تجب عليه، أما مَنْ يولد بعده، فلا تجب عليه.

ومَنْ يقول: بغروب الشمس، فلَوْ وُلِدَ إنسانٌ بعده في نفس الليلة، تجب عليه الزكاة، يعني: يجب على وليِّه أن يُخرج عنه الزكاة.

وهناك من المسائل التي ذكر المؤلف أنها جزئياتٌ لم يعرض لها: الجنين الذي في بطن أمه هل تُخْرج زكاته؟ أكثر العلماء يرى أنها لا تجب

(4)

، ولكن بعضهم يستحبُّ ذلك

(5)

، ونُقِلَ ذلك عن عثمان رضي الله عنه أي:

(1)

سبق ذكره.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 47) حيث قال: "وأجمعوا على أَنْ لا زكاة على الجنين في بطن أمه، وانفرد ابن حنبل، فكان يحبه ولا يوجبه".

(5)

يُنظر: "دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 440) حيث قال: "وتُسَن الفطرة عن جنين لفعل عثمان".

ص: 3651

الجنين الذي في بطن أمه يُسْتحب أن تُخرجَ زكاة الفطر عنه. . . نُقِلَ ذلك عن عثمانَ رضي الله عنه

(1)

.

قال المصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(الفصلُ الخَامسُ لمَنْ تُصْرَفُ زَكاةُ الفِطْرِ)

لا شك أنها تُصْرف لمَنْ تُصْرف إليه من الزكاة، كَمَا قال اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فَهي تُصْرف للفقراء والمساكين، ويشملها كلمة زكاة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60]، ويُقْصد بالصدقة هنا الزكاة، وزكاة الفطر إنَّما هي صَدَقةٌ من الصدقات.

* قوله: (وَأَمَّا لِمَنْ تُصْرَفُ: فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ تُصْرَفُ لِفُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ

(2)

؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "أَغْنُوهُمْ عَنِ السُّؤَالِ فِي هَذَا اليَوْمِ"

(3)

).

هذا أيضًا جزءٌ من حديثٍ لعَبْد اللَّه بن عمر أخبر فيه أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم "أمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد"

(4)

، وقال أيضًا:"أَغْنُوهُم عن الطواف"، يَعْني: بدل "عن

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 432) من طريق حميد، أن عثمان كان يعطي صدقة الفطر عن الحبل.

(2)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 48) حيث قال: "وأجمعوا على أنه إن فرض صدقته في الأصناف التي ذكرها في سورة (التوبة) في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [الآية: 6]، أنه مؤد كما فرض عليه".

(3)

أخرجه الدارقطني (3/ 89)، وضعفه الأَلْبَانيُّ في "إرواء الغليل"(844).

(4)

سبق تخريجه.

ص: 3652

السؤال"، "أغنوهم عن الطواف"، والقصد بالطواف هنا السؤال؛ لأنه يطوف حول البُيُوت والأماكن، فيسأل الناس، ويَطْلب منهم أن يعطوه، وأن يُسَاعدوه، فهو طواف؛ لأنه يتجوَّل على الناس، ويدور عليهم، لكن الذي أعرفه في لفظ الحديث كلمة: "طواف"، وربما فيه لفظة: "عن السؤال".

* قوله: (وَاخْتَلَفُوا: هَلْ تَجُوزُ لِفُقَرَاءِ الذِّمَّةِ؟ وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ لَهُمْ

(1)

، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ لَهُمْ

(2)

).

يعني: فقراء الذمة الَّذين يعيشون مع المسلمين، هل يُعْطَون الزكاة؟ يقول الجمهور: لا، هذه خَاصةٌ بالمسلمين؛ لأنه وَرَد في حديث ابن عُمَر:"من المسلمين"، فتقيَّدوا بهذه اللفظة، وبعضهم يقول: نعم، تجوز لغيرهم.

* قوله: (وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ سَبَبُ جَوَازِهَا هُوَ الفَقْرُ فَقَطْ، أَوِ الفَقْرُ مَعَ الإِسْلَامِ مَعًا؟ فَمَنْ قَالَ: الفَقْرُ وَالإِسْلَامُ لَمْ يُجِزْهَا لِلذِّمِّيِّينَ. وَمَنْ قَالَ: الفَقْرُ فَقَطْ، أَجَازَهَا لَهُمْ، وَاشْتَرَطَ قَوْمٌ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ تَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا رُهْبَانًا).

من العلماء من اشترط أن يكونوا رهبانًا؛ أي: عُبَّادًا، نُقل هذا القول

(1)

المالكية، يُنظر:"التاج والإكليل" لأبي عبد اللَّه المواق (3/ 272) حيث قال: "قال مالك: لا يُعْطى منها أهل الذمة".

والشافعية، يُنْظر:"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (3/ 319) حيث قال: "يجب صرف زكاة الفطر إلى الأصناف الذين ذَكَرهم اللَّه تعالى". وانظر: "المجموع" للنووي (6/ 142).

وَالحَنَابلة، يُنظر:"دقائق أولي النهى" للبهوتي (1/ 463) حيث قال: "لا تجزئ زكاة إلى كافر غير مؤلف".

(2)

يُنظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 261) حيث قال: "صح دفع غير الزكاة إلى الذمي؛ واجبًا كان أو تطوعًا كصدقة الفطر والكفارات والمنذور".

ص: 3653

عن عمرو بن شرحبيل، وكذلك أيضًا عن عمرو بن ميمون، ولعلَّه أيضًا نُقِلَ عن غَيْرهم

(1)

أنَّهم قيدوا ذلك بأن يكون هذا عابدًا، بمعنى: مُتَفرغ للعبادة، وَإِنْ كانت هذه العبادة غير صَحِيحةٍ، لكنه غير مُشْتغلٍ، فَهو فِي حَاجَةٍ، وَعَلى هؤلاء أن يُسَاعدوه، أمَّا الحنفية فلم يُقيِّدوا ذلك، بَلْ أَطْلَقوه.

وَالَّذين قالوا: يُعْطى لهؤلاء، قالوا: وَالإسلامُ اشْتمَل على السَّماحة والتيسير، وهو يتعامل مع الآخرين من هذا المُنْطلق، وهذا الهَدف، فلا مانع أن يُعطوا أهل الذمة الذين ليس فيهم أذًى للمؤمنين، يُعْطَون من هذه الزكاة.

* قوله: (وَأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الأَمْوَالِ لَا تَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ"

(2)

).

هَذَا إجماعٌ من العلماء كما ذكرَ المؤلف بدليل ما جَاءَ فِي حديث معاذٍ عندما بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: "إنَّك سَتَأتي قومًا أهل كِتَابٍ، فَلْيكن أوَّل ما تَدْعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأنِّي رسول اللَّه"، ثم ذكر الصلاة، ثم قال:"فَإِنْ هم أطاعوك لذلك، فأَخْبرهم أن اللَّه قد افترض عليهم صَدقةً تؤخذ من أغنيائهم، فتُرد في فقرائهم"، وهو حَديثٌ متفقٌ عليه

(3)

.

* * *

(1)

يُنظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 81) حيث قال: "وقد روينا عن عمرو بن ميمون، وعمرو بن شرحبيل، ومُرَّة الهمذاني أنهم كانوا يعطون منها الرهبان".

(2)

يُنظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 48) حيث قال: "وأَجْمَعوا على أن الذمي لا يُعْطى من زكاة الأموال شيئًا".

(3)

أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19).

ص: 3654